زحر بن قيس فسرح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه إلى يزيد بن معاوية، وكان مع زحر أبو بردة بن عوف الأزدي، وطارق بن أبي ظبيان الأزدي، فخرجوا حتى قدموا بها الشام على يزيد.
فروى هشام عن الغاز بن ربيعة الجرشي من حمير قال: إنا لعند يزيد بن معاوية بدمشق إذ أقبل زحر بن قيس حتى دخل على يزيد بن معاوية، فقال له يزيد: ويلك! وما وراءك؟ وما عندك؟ فقال: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره، ورد علينا الحسين بن علي بن أبي طالب في ثمانية عشر من أهل بيته، وستين من شيعته، قال: فسرنا إليهم، فسألناهم أن يستلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله بن زياد، أو القتال، فاختاروا القتال على الاستسلام، فغدونا عليهم مع شروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحيةٍ، حتى إذا أخذت السيوف مآخذها من هام القوم جعلوا يهربون إلى غير وزرٍ، ويلوذون منا بالآكام والحفر
لواذاً كما لاذ الحمائم من صقر
فوالله يا أمير المؤمنين ما كانوا إلا جزر جزورٍ أو نومة قايل، حتى أتينا على آخرهم، فهاتيك أجسادهم مجزرة، وثيابهم مزملة، وخدودهم معفرة تصهرهم الشمس، وتسفي عليهم الريح، زوارهم العقبان والرخم بقفرٍ سبسب.
قال: فدمعت عين يزيد، وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن الله ابن سمية. أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه، ورحم الله الحسين. ولم يصله بشيء.
زرعة بن إبراهيم الدمشقي
حدث عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: قال عباس بن عبد المطلب: يا رسول الله، أسقيك نبيذ خاصة أو نبيذ عامة؟ قال: لا بل نبيذ عامة.(9/34)
وحدث زرعة عن خالد بن اللجلاج: أن عمر بن الخطاب صلى يوماً، فلما جلس في الركعتين الأوليين أطال الجلوس، فلما استقل قائماً نكص خلفه، وأخذ بيد رجلٍ من القوم، فقدمه مكانه، فلما خرج إلى العصر حكى الناس، فلما انصرف أخذ بجناح المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني توضأت للصلاة، فمررت بامرأةٍ من أهلي، فكان مني ومنها ما شاء الله أن يكون، فلما كنت في صلاتي وجدت بللاً، فخيرت نفسي بين أمرين: إما أن أستحي منكم وأجترىء على الله، وإما أن أستحي من الله وأجترىء عليكم، فكان أن أستحي من الله وأجترىء عليكم أحب إلي، فخرجت فتوضأت، وجددت صلاتي، فمن صنع كما صنعت فليصنع كما صنعت.
قال محمد بن الحجاج: خرجت أريد الساحل، فقال لي زرعة بن إبراهيم: إذا أتيت الأوزاعي فأقرئه السلام، وقل له: يقول لك زرعة: من علمك علمك الذي تحسنه؟ فأخبرته بذلك، فقال الأوزاعي: إذا لقيته أو رجعت إليه فأقرئه السلام، وقل له: صدقت، تعلمنا منك، فلما أحدثت تركنا علمك، يعني: يضع الحديث.
حدث الوليد بن مسلم بن سعيد بن عبد العزيز عن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر قال: ولى الوليد بن عبد الملك بن عبد العزيز المدينة، فأتاه أهلها فذكروا له أن بها يهودياً قد أفسد النساء على الرجال والرجال على النساء بسحره، فبعث إليه عمر بن عبد العزيز فنفاه عن المدينة، وكان يقال له: زرعة بن إبراهيم من أهل خيبر، فنفاه من المدينة إلى الشام. فأتى دمشق فنزل على جناح مولى الوليد بن عبد الملك، فكان في خدمته. ثم إن الوليد بن عبد الملك خرج إلى عين الجر متنزهاً، فخرج معه جناحٌ مولى الوليد ومعه زرعة بن إبراهيم.(9/35)
فبينا جناح ليلةً يسمر عند الوليد إذ قال: يا جناح، قد أرقني كثرة نقيق الضفادع في هذه الليلة في هذه البركة. فقال له جناحٌ: إن عندي يهودياً معه علم، يذكر أن معه اسم الله الأعظم، وأرجو أن يكون عنده في ذلك شيء. فرجع جناحٌ إلى رحله فقال له: يا زرعة، إن أمير المؤمنين شكا إلي كثرة نقيق هذه الضفادع، أفعندك فيها حيلة؟ قال: نعم. فأخذ أربع شقافٍ فكتب فيها كلاماً بالعبرانية، ثم ألقاها في أربع زواياها في كل زاويةٍ شقفة، فهدأ النقيق.
فأرسل الوليد إلى جناحٍ يسأله: ما هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ذلك اليهودي الذي عرفتك فعل كيت وكيت. فقال: قد أوحشني ذلك فلو نق منها عدادٌ، فقال جناحٌ لزرعة ذلك: فأخذ شقفةً، فيها كلاماً بالعبرانية، وألقاه في البركة، فنق منها عداد.
فكتب وكيل عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن عبد العزيز، وهو بالمدينة، يخبره بقصة الرجل الذي نفاه، وما كان من أمره، وقصته في الضفادع. فكتب عمر إلى الوليد: يا أمير المؤمنين، إن هذا اليهودي قد ضج منه أهل المدينة، وقد أفسد المدينة، ولا آمن أن يفسد الشام، فبعث إليه الوليد، فأخبره بكتاب عمر، وقرأه عليه، وهم بقتله، فقال له زرعة: فإني أتوب إلى الله من السحر، وأسلم على يدك. قال إسماعيل فصح عندنا إسلامه، ولم تصح عندنا توبته من السحر.
قال عطية بن قيس الكلابي: رافقني يهوديٌّ قدم من الحجاز من بيت المقدس إلى دمشق، فنزلنا ببيسان، فقال: ألا أريك شيئاً حسناً؟ فانحدر إلى النهر، فأخذ ضفدعاً، فجعل في عنقها شعرةً من ذنب فرسٍ، فحانت مني التفاتةٌ فإذا هي خنزير في عنقه حبل شريط، فدخل به بيسان، فباعه من بعض الأنباط بخمسة دراهم.
ثم ارتحلنا، فسرنا غير بعيد، فإذا الأنباط يتعادون في إثرنا، فقلت له: قد أقبل(9/36)
القوم! قال: فأقبل رجلٌ منهم جسيمٌ، فرفع يده فلكمه في أصل لحيه لكمةً صرعه عن الدابة، فإذا برأسه معلق بجلده من رقبته، وأوداجه تشخب دماً، فقلت: يا أعداء الله، قتلتم الرجل!
فمضى القوم يتعادون هاربين، فقال لي الرأس: انظر مروا؟ فقلت: نعم، ثم قال: انظر أمعنوا؟ فالتفت أنظر إليهم، فإذا هو جالسٌ ليس فيه قلبة. فسئل عطية بن قيسٍ عن هذا الرجل من هو؟ فقال: هو زرعة بن إبراهيم.
قيل: إن زرعة قتل يوم دخلت المسودة دمشق في رمضان سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
زرعة بن ثوب المقرائي
بضم الثاء وفتح الواو. قاضي دمشق في أيام الوليد بن عبد الملك.
حدث زرعة عن عبد الله بن عمر قال: سألت عبد الله بن عمر بن صيام الدهر فقال: كنا نعد أولئك فينا من السابقين. قال: وسألته عن صيام يومٍ وإفطار يوم فقال: لم يدع ذلك لصائم مصاماً. قال: وسألته عن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فقال: صام ذاك الدهر، وأفطره.
كان زرعة بن ثوب لا يأخذ على القضاء أجراً. وكان في خاتم زرعة بن ثوب: لكل عمل ثوابٌ.
روي عن الشيباني: أن الوليد بن عبد الملك استقضى رجلاً من أهل دمشق يقال له زرعة بن ثوب، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تفعل فإن ذلك ليس عندي، فأمر فأجلس للناس،(9/37)
فكلما دخل عليه سأله أن يعفيه، ثم بدا للوليد أن يبعث ابناً له على الصائفة، فدخل عليه زرعة، فقال له الوليد: كنت كثيراً ما تسألني أن أعفيك، وقد بدا لي أن أبعث ابناً لي على الصائفة، وأجعلك معه، وقال: حاجتك؟ قال: ما لي حاجةٌ إلا أن تعفيني مما أنا فيه.
فلما أدبر قال: ردوه علي، فقال: فإني أعطيك شيئاً فاقبله مني، فإني أقسم لك بالله إنه لمن صلب مالي، قد أمرت لك بمزرعةٍ ببقرها وخدمها وآلتها. قال: تنفذ قضائي فيها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن ثلثاً منها في سبيل الله، والثلث الثاني ليتامى فومي ومساكينهم، والثلث الثالث لرجلٍ يقوم عليها ويؤدي الحق فيها، وأنا أحب أن تأخذ مني ما أجريت علي من الرزق، فإنه في كوةٍ في البيت، فخذه فرده في بيت المال. قال: ولم ذاك؟ قال: لا أحب أن آخذ على ما علمتني الله أجراً.
زريق خصيٌّ كان ليزيد بن معاوية
قال زريق: لما هلك معاوية بعثني يزيد بن معاوية إلى الوليد بن عتبة، وهو أمير المدينة، وكتب إليه بموت معاوية، وأن يبعث إلى هؤلاء الرهط، ويأمرهم بالبيعة، قال: فقدمت المدينة ليلاً فقلت للحاجب: استأذن لي. فقال: قد دخل، ولا سبيل لي إليه، فقلت: إني جئت بأمرٍ. فدخل فأخبره، فأذن له وهو على سريره.
فلما قرأ كتاب يزيد بوفاة معاوية واستخلافه جزع من موت معاوية جزعاً شديدا، فجعل يقوم على رجليه، ثم يرمي بنفسه على فراشه.
ثم بعث إلى مروان، فجاء، فنعى له معاوية، وأخبره بما كتب إليه يزيد، فترحم مروان على معاوية وقال: ابعث إلى هؤلاء الرهط الساعة، فادعهم إلى البيعة، فإن بايعوا، وإلا فاضرب أعناقهم. قال: سبحان الله أقتل الحسين بن علي وابن الزبير؟ قال: هو ما أقوله لك.(9/38)
زر بن حبيش بن حباشة
ابن أوس بن بلال. ويقال هلال بن سعد بن حبال بن نصر بن غاضرة بن مالك بن دودان بن أسد ابن خزيمة، أبو مريم، ويقال: أبو مطرف الأسدي الكوفي مخضرم، وشهد خطبة عمر بالجابية.
قال أبو إسحاق الشيباني: سمعت زر بن حبيش يحدث عن ابن مسعود في هذه الآية: " قاب قوسين أو أدنى " أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى جبريل وله ست مئة جناحٍ.
وحدث زر عن صفوان، قال زر:
أتيته فقال لي: ما جاء بك؟ فقلت: ابتغاء العلم. قال: فقال: إنه ليس من امرىء مسلم يطلب العلم إلا تضع له الملائكة أجنحتها رضًى لما يفعل. فقلت: إنك امرؤ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنه حك في صدري من المسح على الخفين بعد الغائط والبول، فأخبرني بشيء إن كنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا إذا كنا سفراً أو مسافرين أن نمسح على خفافنا ثلاث ليالٍ وأيامهن، وأن لا نخلعها إلا من جنابة، لكن من غائط، أو نومٍ، أو بولٍ. قال: فقلت: هل سمعته يقول في الهوى؟ قال: فقال: نعم، كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة أو عمرة، فإذا أعرابي قد أقبل على راحلته حتى إذا كان في أخريات القوم جعل ينادي بصوتٍ جهوري له: يا محمد، يا محمد، قال: فقيل له: ويلك! اغضض من صوتك، فإنك قد أمرت بذلك. قال: والله لا أفعل. فإذا هو أعرابي جاف جلفٌ. قال: فلما سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته قال: هاؤم. قال: أرأيت رجلاً أحب قوماً ولما يلحق بهم؟ قال: فقال: ذاك مع من أحب. قال: فقال: إن قبل المغرب باباً مفتوحاً للتوبة، مسيرة عرضه سبعون سنةً، لا يزال مفتوحاً حتى تطلع(9/39)
الشمس من نحوه فإذا طلعت الشمس من نحوه فذلك حين " لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ".
وعن زر قال: خطب عمر بالشام، قال: فقام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقامي فيكم، فقال: استوصوا بأصحابي خيراً، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب، حتى يعجل الرجل بالشهادة من قبل أن يسألها، وباليمين قبل أن يسألها، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
كان زر بن حبيش شيخاً قديماً إلا أنه كان فيه بعض الحمل على علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
حدث زر بن حبيش عن عبد الله أنه قال في ليلة القدر: من يقم الحول يصبها، فانطلقت حتى قدمت على عثمان بن عفان، وأردت لقاء أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار.
قال عاصم: فحدثني أنه لزم أبي بن كعب وعبد الرحمن بن عوف، فزعم أنهما كانا يقومان حين تغرب الشمس، فيركعان ركعتين قبل المغرب، قال: فقلت لأبي، وكان فيه شراسة: اخفض لنا جناحك رحمك الله فإني إنما أتمتع منك تمتعاً. فقال: تريد ألا تدع آيةً في القرآن إلا سألتني عنها؟ قال: وكان لي صاحب صدقٍ فقلت: يا أبا المنذر، أخبرني عن ليلة القدر، فإن ابن مسعود يقول: من يقم الحول يصبها. فقال: والله لقد علم عبد الله أنها في رمضان، ولكنه عمى على الناس لكيلا يتكلوا، والله الذي أنزل الكتاب، على محمد إنها لفي رمضان، وإنها ليلة سبعٍ وعشرين.(9/40)
فقلت: يا أبا المنذر أنى علمت ذلك؟ قال: بالآية التي أنبأنا بها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعددنا وحفظنا، فوالله إنها لهي ما تشتثنى. قال: فقلت: وما الآية؟ قال: إنها تطلع ليس لها شعاع حتى ترتفع.
وكان عاصم ليلتئذٍ من السحر لا يطعم طعاماً، حتى إذا صلى الفجر صعد على الصومعة فنظر إلى الشمس حين تطلع لا شعاع لها حتى تبيض وترتفع.
قال عيسى بن طلحة الأسدي: سمعت زر بن حبيش من السحر يدعو: اللهم ارزقني طيبا، ً واستعملني صالحاً، فلبثت هوناً، ثم خرجت إلى حاجتي، ورجعت وهو يرددها.
قال عاصم: كان زرٌ من أعرب الناس، وكان عبد الله يسأله عن العربية.
وعن عاصم قال: أدركت أقواماً كانوا يتخذون هذا الليل جملا، يلبسون المعصفر، ويشربون نبيذ الجر لا يرون به بأساً، منهم زرٌ وأبو وائل.
قال الأعمش: أدركت أشياخنا: زراً وأبا وائل فكان منهم من عليٌّ أحب إليه من عثمان، ومنهم من عثمان أحب إليه من علي، وكانوا أشد شيءٍ تحابا، ً وأشد شيءٍ تواداً.
قال عاصم بن أبي النجود: كان أبو وائل عثمانياً، وكان زر بن حبيشٍ علوياً، وكان مصلاهما في مسجد واحد، ما رأيت واحداً منهما قط يكلم صاحبه في شيء مما هو عليه حتى ماتا، وكان أبو وائل معظماً لزر.(9/41)
قال عاصم: كان زر أكبر من أبي وائل، فكانا إذا جلسا جميعاً لم يحدث أبو وائل مع زر.
وعن عاصم قال:
مر رجلٌ من الأنصار على زر بن حبيش، وهو يؤذن: فقال: يا أبا مريم، قد كنت أكرمك عن ذا أو قال: عن الأذان فقال: إذاً لا أكلمك كلمةً حتى تلحق بالله عز وجل.
قال اسماعيل بن أبي خالد: رأيت زر بن حبيش، وقد أتى عليه عشرون ومئة سنة، وإن لحييه ليضطربان من الكبر.
قال أبو نعيم: مات زر بن حبيش الغاضري وله مئة وسبع وعشرون سنة. وقيل: مات قبل يوم الجماجم، وقيل: مات سنة إحدى وثمانين، وقيل: سنة اثنتين وثمانين، وقيل: سنة ثلاث وثمانين.
زفر بن الحارث بن عبد عمرو
ابن معاذ بن يزيد بن عمرو بن الصعق، واسمه خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر ابن هوازن، أبو الهذيل، ويقال: أبو عبد الله الكلابي.
سكن البصرة، وانتقل إلى الشام، وكان في جيش البصرة الذي خرج لإغاثة عثمان بن عفان في الحصر، وشهد وقعة صفين مع معاوية، وكان فيها أميراً على أهل قنسرين،(9/42)
وشهد وقعة مرج راهطٍ زبيرياً مع الضحاك بن قيس، ثم هرب، ولحق بقرقيسياء من أرض الجزيرة، فتحصن بها.
قال زفر بن الحارث: كنت رسول معاوية إلى عائشة بوقعة صفين، فلما قدمت عليها قالت: من قتل من الناس؟ قلت: عمار بن ياسر. قالت: ذاك رجل يتبعه الناس في دينه. قالت: ومن؟ قلت: هاشم الأعور. قالت: ذاك رجلٌ ما كادت أن تزد رايته. قال: ثم نمت عن صلاة العشاء، فأراد بعض أهلها أن يوقطني، فقالت: دعوه، فإنه رجل قد أدأب السير، ولا يضره أن يؤخر هذه الصلاة إلى ثلث الليل. أو نصف الليل.
ذكر البلاذري قال: وهرب زفر بن الحارث الكلابي يعني يوم المرج إلى قرقيسياء، وبها عياض، فمنعه من دخولها، فقال له زفر بن الحارث: أوثق لك بالطلاق والعتاق إذا أنا دخلت الحمام بها أن أخرج منها. فأذن، فدخلها، فلم يدخل الحمام، وأقام بها وأخرج عياضاً عنها، وتحصن بها، وثابت إليه قيسٌ، وأصيب يوم المرج ثلاثة بنين لزفر، وفيه يقول زفر من أبيات: من الطويل
لعمري لقد أبقت وقيعة راهطٍ ... لمروان صدعاً بيناً متنائيا
أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا(9/43)
أيذهب يومٌ واحدٌ إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
ولم تر مني نبوةٌ قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
وقد ينبت المرعى على دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
ذكر أنه مات في زمن عبد الملك بن مروان.
زفر بن عيلان بن زفر
ابن جبر بن مروان بن سيف بن يزيد بن شريح بن شقيق بن عامر أبو الحارث بن أبي الهيذام المازني.
حدث عن أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم بسنده عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاف على جميع نسائه في ليلةٍ في غسلٍ واحدٍ.
زفر بن وثيمة بن عثمان
ويقال: ابن أوس، ويقال: ابن مالك بن أوس بن الحدثان النصري دمشقي.
حدث عن المغيرة بن شعبة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى الضحاك بن سفيان أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته.
وحدث زفر بن وثيمة عن حكيم بن حزام قال: المساجد لا تنشد فيها الأشعار ولا تقام فيها الحدود، ولا يستقاد فيها.
وقد روي هذا الحديث عن حكيم بن حزام مرفوعاً، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تقام الحدود في المساجد، ولا يستقاد فيها.(9/44)
زفر مولى مسلمة بن عبد الملك
حكى عن فاطمة بنت عبد الملك، قال زفر: تناول الوليد بن عبد الملك يوماً عمر بن عبد العزيز، فرد عليه عمر: فغضب الوليد من ذلك غضباً شديداً، وأمر بعمر فعدل به إلى بيتٍ، فحبس فيه. قال زفر وكانت فاطمة أرضعتها أم زفر قال: قالت لي فاطمة: يا زفر، فمكث ثلاثاً لا يدخل عليه أحد. ثم أمر بإخراجه إن وجد حياً. قالت: فأدركناه وقد زالت رقبته شيئاً، فلم نزل نعالجه حتى صار إلى العافية. قالت: فقلت له يوماً: إنك قد عرفت الوليد وعجلته وخلقه، فلو داريته بعض المداراة.
قالت: فقال لي: أحدثك يا فاطمة حديثاً فاكتميه ما دمت حياً. قلت: نعم. قال: إنه لما حبسني أتاني تلك الليلة آتٍ في منامي، فقال لي: من الخفيف
ليس للعلم في الجهالة حظ ... إنما العلم طرفه الإغضاء
قال: فرفعت إلى القائل رأسي، فإذا هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فسلمت عليه، فقال لي: إن الوليد جاهلٌ بأمر الله، قليل الرعاية لحرمات الله، فلا تجمع بين ما وهب الله لك من العلم بأمر الله مع ما حرمه من ذلك، ليبين فضل نعمة الله عليك في العلم بأمر الله عز وجل على كثير من جهله بأمر الله أحرى وأجدر ألا يتركا جميعاً. قال عمر: فوالله يا فاطمة ما أكاد أغضب إلا كأني أنظر إلى عبيد الله بن عبد الله قائماً يخاطبني تلك المخاطبة.
زكريا بن حنا ويقال زكريا
ابن دان. ويقال: زكريا بن أدن بن مسلم بن صدوف. ينتهي نسبه إلى سليمان ابن داود عليه السلام، أبو يحيى النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم من بني إسرائيل، دخل البثنية من أعمال دمشق في طلب ابنه يحيى. وقيل: إنه كان بدمشق حين قتل ابنه يحيى.(9/45)
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان زكريا نجاراً.
قالوا: وكان زكريا بن دان أبو يحيى كان من أبناء الأنبياء الذين كانوا يكتبون الوحي ببيت المقدس، وكان عمران بن ماثان أبو مريم من أبناء ملوك بني إسرائيل من ولد سليمان.
قال ابن عباس: ولم يكن أحد من أبناء الأنبياء إلا ومن نسله أو جنسه محررٌ لبيت المقدس والمحرر الذي يكون حبيساً لبيت المقدس وكان زكريا تزوج أخت مريم بنت عمران، فهي أم يحيى.
وكانت مريم بنت عمران من بيت آل داود من سبط يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
قال مكحول: وكان زكريا وعمران تزوجا أختين، فكانت أم يحيى عند زكريا، وكانت أم مريم عند عمران، وكان الله تعالى أمسك عنها الولد حتى أيست وكانوا أهل البيت من الله بمكان.
وعن ابن عباس: في قوله عز وجل: " ذكر رحمة ربك " قال: ذكره الله منه برحمة عبده زكريا، حيث دعاه، فذلك قوله: " ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفياً " يعني: دعا ربه دعاءٌ خفياً في الليل، لا يسمع أحداً ويسمع أذنيه، فقال: " رب إني وهن " يعني: ضعف " العظم مني واشتعل الرأس شيباً " يعني: غلب البياض(9/46)
السواد " ولم أكن بدعائك رب شقيا ". أي: رب، إني لم أدعك قط فخيبتني فيما مضى، فتخيبني فيما بقي، فكما لم أشق بدعائي فيما مضى فكذلك لا أشقى فيما بقي، عودتني الإجابة من نفسك. " وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا " فلم يبق لي وارث، وخفت العصبة أن ترثني " فهب لي من لدنك وليا " يعني: من عندك ولداً " يرثني " يعني: يرث محرابي وعصاي ويونس القربان وقلمي الذي أكتب به الوحي " ويرث من آل يعقوب " النبوة " واجعله رب رضيا " يعني: مرضياً عندك.
قوله: " وكانت امرأتي عاقرا "، قال ابن عباس: خاف أنها لا تلد فقال: وامرأتي عاقرٌ، وأنت تفعل ما تشاء، فهب لي ولدا، ً فإذا وهبته فاجعله رب رضياً زاكياً بالعمل. فاستجاب الله له، وكانا قد دخلا في السن هو وامرأته.
فبينا هم قائم يصلي في المحراب، حيث يذبح القربان إذا هو برجل عليه البياض حياله وهو جبريل فقال: يا زكريا، إن الله يبشرك، وهو قوله: " إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى " واسم يحيى هو اسمٌ من أسماء الله اشتق من يا حي، سماه الله تعالى من فوق عرشه " لم نجعل له من قبل سمياً ".
قال ابن عباس: لم يجعل لزكريا من قبل يحيى ولداً نظيرها " هل تعلم له سمياً " يعني: هل تعلم له ولداً، ولم يكن لزكريا قبله ولدٌ، ولم يكن قبل يحيى أحدٌ يسمي يحيى.
قال: وكان اسمه حي، فلما وهب الله لسارة إسحاق، فكان اسمها يسارة، ويسارة من النساء التي لا تلد، وسارة من النساء الطالقة الرحم التي تلد، فسماها الله سارة، وحول الياء من يسارة إلى حي فسماه يحيى.
ثم قال: " مصدقاً بكلمةٍ " يعني بعيسى " من الله " وكان يحيى أول من صدق(9/47)
بعيسى، وهو ابن ثلاث سنين، وبين يحيى وعيسى ثلاث سنين، وهما ابنا خالةٍ. ثم قال تعالى: " وسيداً " يعني حليماً " وحصوراً " يعني: لا ماء له، ولا يحتاج إلى النساء.
قال مجاهد: " وهن العظم مني " شكا ذهاب أضراسه، وقال: " وقد بلغت من الكبر عتياً " قال: قحول العظم وقال ماده سناً قال: كان ابن بضع وسبعين سنة.
وقال مجاهد: " وسبح بالعشي والإبكار " قال: الإبكار: أول الفجر، والعشي: ميل الشمس إلى أن تغيب.
وقال الضحاك: " إلا رمزاً " قال: الرمز الإشارة.
قال محمد بن كعب القرظي:
لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا. قال الله تعالى: " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزا واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشي والإبكار ". ولو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص للذين يقاتلون في سبيل الله، قال الله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيراً ".
وقال عكرمة في قوله: " ثلاث ليالٍ سوياً " يقول سوياً من غير خرس.
وقال قتادة: " فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً " قال: أومأ إليهم أن صلوا بكرة وعشياً.(9/48)
وقال: في قوله تعالى: " وأصلحنا له زوجه " قال: كان في خلقها سوءٌ، وكان في لسانها طولٌ وهو البذاء، فأصلح الله تبارك وتعالى ذلك منها. وقال سعيد بن جبير: كانت لا تلد.
عن يزيد بن أبي منصور قال: دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس، فرأى المتعبدين قد لبسوا الشعر وبرانس الصوف، ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي، وسلكوا فيها السلاسل، وشدوها إلى حنايا بيت المقدس. فلما نظر إلى ذلك منهم هاله ذلك، ورجع إلى أبويه، فمر بصبيانٍ يلعبون، فقالوا: يا يحيى هلم فلنلعب. فقال: إني لم أخلق للعب. فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر، ففعلا، ثم رجع إلى بيت المقدس، فكان يخدمه نهاراً، ويسرح فيه ليلاً، حتى أتت عليه خمس عشرة حجة، فأتاه الخوف، فساح، ولزم أطراف الأرض وغيران الشعاب.
وخرج أبواه في طلبه، فوجداه حين نزلا من جبال البثنية على بحيرة الأردن، وأدركاه وقد قعد على شفير البحيرة ينقع قدميه في الماء، وقد كان العطش أن يذبحه، وهو يقول: وعزتك لا أشرب بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك. فسأله أبواه أن يأكل قرصاً كان معهما من شعير، ويشرب من ذلك الماء، ففعل، وكفر عن يمينه، ورده أبواه إلى بيت المقدس.
وكان إذا قام في صلاته يبكي حتى تبكي معه الشجر والمدر، ويبكي زكريا لبكائه حتى يغمى عليه، فلم يزل يبكي حتى حرقت دموعه لحم خديه، وبدت أضراسه، فقالت له أمه: يا يحيى، لو أذنت لي أن أتخذ لك لبداً أواري به أضراسك عن الناظرين. قال: أنت وذاك. فعمدت إلى قطعتي لبدٍ فألصقتهما على خديه، فكان إذا بكى استنقعت دموعه في القطعتين، فتقوم إليه أمه فتعصرهما بيديها، فكان إذا نظر إلى دموعه تجري على ذراعي أمه قال: اللهم هذه دموعي، وهذه أمي، وأنا عبدك، وأنت أرحم الراحمين.(9/49)
قال وهب بن منبه: إن زكريا هرب ودخل جوف شجرةٍ، فوضع على الشجرة المنشار، وقطع بنصفين، فلما بلغ المنشار على ظهره أن، فأوحى الله تعالى وتبارك: يا زكريا، إما أن تكف عن أنينك، أو أقلب الأرض ومن عليها. قال: فسكت حتى قطع بنصفين.
وعن ابن عباس قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به رأى زكريا في السماء، فسلم عليه، فقال له: يا أبا يحيى خبرني عن قتلك كيف كان، ولم قتلك بنو إسرائيل؟ قال: يا محمد، أخبرك أن يحيى كان خير أهل زمانه وكان أجملهم وأصبحهم وجها، ً وكان كما قال الله عز وجل: " سيداً وحصوراً "، وكان لا يحتاج إلى النساء، فهويته امرأة ملك بني إسرائيل، وكانت بغية، فأرسلت إليه، وعصمة الله، وامتنع يحيى وأبى عليها، وأجمعت على قتل يحيى، ولهم عيدٌ يجتمعون في كل عام، وكانت سنة الملك أن يوعد، ولا يخلف، ولا يكذب، قال: فخرج الملك إلى العيد، فقامت امرأته فشيعته، وكان بها معجباً، ولم تكن تفعله فيما مضى. فلما أن شيعته قال الملك: سليني، فما سألتني شيئاً إلا أعطيتك. قالت: أريد دم يحيى بن زكريا. قال لها: سليني غيره. قالت: هو ذاك قال: هو لك. قال: فبعثت جلاوزتها إلى يحيى، وهو في محرابه يصلي، وأنا إلى جانبه أصلي. قال: فذبح في طستٍ، وحمل رأسه ودمه إليها.
قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فما بلغ من صبرك؟ قال: ما انفتلت من صلاتي.
قال: فلما حمل رأسه إليها فوضع بين يديها، فلما أمسوا خسف الله بالملك وأهل بيته وحشمه، فلما أصبحوا قالت بنو إسرائيل: قد غضب إله زكريا لزكريا، فتعالوا حتى نغضب لملكنا فنقتل زكريا.
قال: فخرجوا في طلبي ليقتلوني، فجاءني النذير، فهربت منهم، وإبليس أمامهم،(9/50)
يدلهم علي، فلما أن تخوفت أن لا أعجزهم عرضت لي شجرةٌ، فنادتني فقالت: إلي إلي، وانصدعت لي، فدخلت فيها.
قال: وجاء إبليس حتى أخذ طرف ردائي، والتأمت الشجرة، وبقي طرف ردائي خارجاً من الشجرة. وجاءت بنو إسرائيل، فقال إبليس: أما رأيتموه دخل هذه الشجرة؟ هذا طرف ردائه، دخلها بسحره، فقالوا: نحرق هذه الشجرة. فقال إبليس: شقوه بالمنشار شقاً. قال: فشققت مع الشجرة بالمنشار.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا زكريا هل وجدت له مساً أو وجعاً؟ قال: لا، إنما وجدت تلك الشجرة، جعل الله تعالى روحي فيها.
وعن وهب: أن الذي انصدعت له الشجرة، ودخل فيها كان أشعياء قبل عيسى، وأن زكريا مات موتاً.
زكريا بن أحمد بن محمد
ابن إسماعيل أبو منصور الخراساني الجوزجاني الأبهري الواعظ قدم دمشق سنة خمسين واربع مئة.
حدث عن أبي الحسن زفر بن الحسين بن محمد الكباش البغدادي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " النظر إلى الوجه الحسن يجلو البصر، والنظر إلى الوجه القبيح يورث الكلح ".(9/51)
زكريا بن أحمد بن يحيى
ابن موسى خت بن عبد ربه بن سالم، أبو يحيى البلخي قاضي دمشق في خلافة المقتدر.
حدث عن أبي الزنباع روح بن الفرج المصري بسنده عن ابن عمر قال: كان من دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك.
توفي أبو يحيى البلخي في دمشق سنة ثلاثين وثلاث مئة.
زكريا بن منظور بن ثعلبة
ابن أبي مالك أبو يحيى القرظي المدني القاضي حليف الأنصار كان أعور.
روى عن أبي حازم بن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: القدرية مجوسٌ هذه الأمة، فإن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم.
وروى عن أبي حازم أيضاً عن سهل بن سعد قال: مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي الحليفة، فإذا هو بشاةٍ ميتة شائلةٍ برجلها، فقال: ترون هذه الشاة هينة على صاحبها؟ فو الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها ولو كانت الدنيا تزن جناح بعوضة عند الله ما سقى كافراً منها قطرة ماء أبداً.
سئل يحيى بن معين عن زكريا بن منظور فقال: ليس بشيء، وفي رواية: ليس بثقة، وكان طفيلياً.(9/52)
زكريا بن يحيى بن إياس
ابن سلمة بن حنظلة بن قرة، أبو عبد الرحمن السجزي، المعروف بخياط السنة سكن دمشق، وحدث بها.
روى عن سعيد بن كثير الأنصاري بسنده عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول: " لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً، ولا جاداً، فإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه.
وروى عنه أيضاً بسنده عن عبد الله بن عمروٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا يقبض انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمٌ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".
كان مولد زكريا السجزي سنة خمس وتسعين ومئة، وكانت وفاته سنة تسع وثمانين ومئتين، وكان عمره خمساً وتسعين سنة.
زكريا بن يحيى بن درست
أبو يحيى التستري سمع بدمشق.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة ".
زكريا بن يحيى بن يزيد الصيداوي
حدث عن عمران بن أبي عمران بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يعاد الوضوء من الرعاف السائل ".(9/53)
زكريا بن يحيى الحميري
الكندي الكوفي وفد على عمر بن عبد العزيز.
وحدث عنه قال: أقمنا عند عمر بن عبد العزيز بخناصرة أربعين يوماً. قال: فأتي برجلٍ قد نقش على خاتم الخلافة. فقال: ويح ما حملك على هذا؟ قال: الطمع والشيطان. فقال لجلسائه من قريش وأهل الشام: ما ترون في هذا؟ قالوا: الرأي فيه مستقيم، تقطع يده. قال: لكني أرى غير ذلك، هذا رجل هم بسرقة ولم يسرق. قال: فاستحلف أن لا يعود، وأمر بعض من عنده فعزره سوطين أو ثلاثة، وخلى سبيله.
زكريا بن يحيى أبو الهيثم
السقلي الهمداني حدث عن سعيد بن سليمان بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يهجر أحدكم أخاه فوق ثلاثة أيام يلتقيان فيصد هذا ويصد هذا ".
قال: هذا حديث غريب، والمحفوظ بمعناه بسند آخر، وفيه زيادة: وخيرهما الذي يبدأ بالسلام.
زنباع بن سلامة
ويقال ابن روح بن سلامة ابن حداد بن حديدة بن أمية بن امرىء القيس الجذامي والد روح بن زنباع.
من أهل فلسطين، قدم دمشق، وكانت له بها دار.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كان لزنباع عبد يسمى سندر أو ابن سندر فوجده يقبل جاريةً له، فأخذه فجبه، وجدع أذنيه وأنفه، فأتى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل إلى زنباع فقال: لا تحملوهم(9/54)
ما لا يطيقون، وأطعموهم مما تأكلون، واكسوهم مما تلبسون، وما كرهتم فبيعوا، وما رضيتم فأمسكوا، ولا تعذبوا خلق الله، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مثل به أو حرق بالنار فهو حر، وهو مولى الله ورسوله "، فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا رسول الله، أوص بي، فقال: أوصي بك كل مسلم ".
زنكل بن علي العقيلي الرقي
من صحابة عمر بن عبد العزيز.
حدث عن أيوب السختياي بسنده عن عمرو بن العاص قال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيع وسلفٍ، وعن شرطين في بيعٍ وعن بيع ما لم يملك، وعن ربح ما لم يضمن.
وعن زنكل بن علي قال: سألت أيوب السختياني فقلت: ما ترى فيمن يبايع ويقرض؟ قال: سمعت عمرو بن شعيب يذكر حديثاً يرفعه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سلف وبيع، وعن شرطين، وساق الحديث.
وعن زنكل بن علي السلمي عن أم الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث لا يتركهن العرب وهي بهم كفر: الاستسقاء بالأنواء، والطعن في النسب، والنوح.
وبسنده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كبر العبد سترت تكبيرته ما بين السماء والأرض من شيء.
قال أبو سعيد زنكل بن علي وزير لعمر بن عبد العزيز: قال حذيفة بن اليمان: يا طاعون خذني إليك ثلاث مرات قبل سفك دم حرام، وقبل جور في الحكم، وإمارة الصبيان، وكثرة الزبانية.
وعن زنكل بن علي عن محمد بن المنكدر قال: ما أسكر كثيره فقليله حرامٌ.(9/55)
زهدم بن الحارث
حكى عن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت عمر بن عبد العزيز، حين ولي الخلافة، خطبنا فقال: اللهم، إن كنت تعلم أني لم أسألكها في سر ولا علانيةٍ فسلمني منها.
زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام
ابن زهرة بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب أبو عقيل التيمي القرشي مدني سكن مصر.
حدث أبو عقيل عن جده قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال: أتحبني يا عمر؟ قال: لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال عمر: فأنت رسول الله أحب إلي من نفسي. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآن يا عمر.
وحدث أبو عقيل زهرة بن معبد عن جده عبد الله بن هشام: وكان أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، بايعه. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا صغير، ومسح رأسه، ودعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يضحي بالشاة الواحدة عن جميع أهله.
حدث زهرة أنه سمع عبد الله بن عمر: إذا انصرف من صلاة العشاء الآخرة يكبر رافعاً صوته حتى يدخل منزله.
قال زهرة بن معبد: لقيت عمر بن عبد العزيز فقال لي: أين تسكن يا أبا عقيل؟ قال: قلت: بمصر. فقال: أي مصر؟ قلت: بفسطاطها. قال: أين أنت من طيبة؟ فقلت: يا أمير المؤمنين(9/56)
طيبة المدينة! قال: ليس المدينة أردت، إنما أردت الاسكندرية، لولا ما أنا فيه لأحببت أن يكون منزلي بها، حتى يكون قبري بين ذينك المينائين.
وفي حديث آخر: أتسكن الخبيثة المنتنة وتذر الطيبة؟ قلت: أيته؟ قال: الاسكندرية، فإنك تجمع بها دنيا وآخرة، طيبة الموطأ، والذي نفس عمر بيده لوددت أن قبري يكون بها.
توفي أبو عقيل بالاسكندرية سنة سبع وعشرين ومئة، وقيل: سنة خمس وثلاثين ومئة، وقيل: هو الأصح.
قال الليث: كنا نعود أبا عقيل وهو شديد الوجع، ونحن خائفون عليه، فأتيناه غداةً من ذلك فقال: أريت الليلة عمر بن عبد العزيز، فقال لي: أين تسكن يا أبا عقيل؟ فقلت: الاسكندرية منذ عزمت علي، فقال: فأبشر بما يسرك في دنياك وآخرتك. مرتين، فقلت له: لله الحمد، أما أنت فقد بشرك بأن لك بقية عمرٍ، وبشرك بالجنة.
وزعموا أنه كان من الأبدال.
زهير بن الأقمر
ويقال عبد الله بن مالك أبو كثير الزبيدي الكوفي حدث أبو كثير عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، وإياكم والفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش، وإياكم والشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا. فقام رجل فقال: يا رسول الله، أي الإسلام أفضل؟ قال: أن يسلم المسلمون من لسانك ويدك، فقام رجل ذاك أو آخر فقال: يا رسول الله، أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك، والهجرة هجرتان: هجرة الحاضر(9/57)
والبادي، فهجرة البادي أن يجيب إذا دعي. ويطيع إذا أمر، والحاضر أعظمهما بليةً وأفضلهما أجراً.
وعن زهير بن الأقمر قال: لما قتل علي بن أبي طالب قام الحسن خطيباً، فقام شيخ من أزد شنوءة فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أحبني فليحب هذا الذي على المنبر فليبلغ الشاهد الغائب، ولولا عزمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما حدثت أحداً.
قال أبو كثير الزبيدي: قدمت على معاوية أو على يزيد بن معاوية، وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فحدثناه عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول: الصلوات كفارات لما بعدهن. قال: فحدثنا أن آدم خرجت به شأفة في إبهام رجله، ثم ارتفعت إلى أصل قدميه، ثم ارتفعت إلى ركبتيه، ثم ارتفعت إلى حقويه، ثم ارتفعت إلى أصل عنقه، فقام فصلى، فنزلت عن منكبيه، ثم صلى فنزلت إلى حقويه، ثم صلى فنزلت إلى ركبتيه ثم صلى فنزلت إلى قدميه ثم صلى فذهبت.
زهير بن جناب بن هبل
ابن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب ابن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الكلبي شاعرٌ جاهلي كان مع الحارث بن أبي شمر الجفني.
وجناب بالجيم وبعدها نون، وتحت الباء نقطة في اليمن ثم في بني كلب بنو جناب بن هبل، قبيلة عظيمة فيهم شرف، ومنهم بنو عليم بن جناب، ومن سادتهم زهير بن جناب وأخوه عدي بن جناب، وكان يحمق. وقيل: إن زهيراً عاش ثلاث مئة سنة، زهير سيد قضاعة شاعر فارس.(9/58)
سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائشة رضي الله عنها وهي تتمثل بقول زهير بن جناب الكلبي من الكامل
ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب ما جنى
يجزيك لو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشعر الذي كنت تمثلين به قالت: أنشدته إياه. قال: يا عائشة، إنه لا يشكر الله تعالى من لا يشكر الناس.
قالوا: ومن المعدودين من المعمرين من قضاعة زهير بن جناب، عاش أربع مئة سنة وعشرين سنة، وكان سيداً مطاعاً شريفاً في قومه، ويقال: كانت فيه عشر خصال لم يجتمعن في غيره من أهل زمانه: كان سيد قومه، وخطيبهم، وشاعرهم، ووافدهم إلى الملوك، وطبيبهم والطب في ذلك الزمان شرف وحازي قومه والحزاة الكهان، وكان فارس قومه، وله البيت فيهم، وله العدد منهم.
وقيل: إنه عاش حتى هرم، وغرض من الحياة، وذهب عقله، فلم يكن يخرج إلا ومعه بعض ولده. وإنه خرج ذات عشية إلى مال له، فنظر إليه فاتبعه بعض ولده، فقال له: ارجع إلى البيت قبل الليل، فإني أخاف أن يأكلك الذئب، فقال: قد كنت، وما أخشى بالذئب، فذهبت مثلاً. ويقال: إن قائل هذا خفاف بن ندبة.
وقيل: إن زهيراً عاش ثلاث مئة سنة وخمسين سنة، وكبر حتى خرف، وكان يتحدث بالعشي بين القلب يعني الآبار وكان إذا انصرف عند الليل شق عليه،(9/59)
فقالت امرأته لميس الأرأشية لابنها خداش بن زهير: اذهب إلى أبيك حين ينصرف، فخذ بيده، فقده. فخرج حتى انتهى إلى زهير فقال: ما جاء بك يا بني؟ فقال: كذا وكذا. قال: اذهب. فأبى، فانصرف تلك الليلة معه، ثم كان من الغد، فجاءه الغلام، فقال له: انصرف، فأبى، فسأل الغلام، فكتمه، فتوعده فأخبره الغلام الخبر، فأخذه فاحتضنه، فرجع به، ثم أتى أهله، فأقسم زهير بالله لا يذوق إلا الخمر، فمكث ثمانية أيام ثم مات.
وذكر ابن الكلبي:
أن زهير بن جناب أوقع بالعرب مئتي وقعة، وقيل خمس مئة وقعة، وهو ضعيف. وكان زهير على عهد كليب بن وائل، وكان قد أسر مهلهلاً، ولم يكن في العرب أنطق من زهير بن جناب ولا أوجه عند الملوك. وكان لشدة رأيه يسمى كاهناً.
قالوا: وشرب زهير الخمر صرفاً حتى مات، وشربها أبو براء عامر بن مالك بن جعفر صرفاً حتى مات، وشربها عمرو بن كلثوم التغلبي صرفاً حتى مات. قال: ولم يبلغنا أن أحداً فعل ذلك من العرب إلا هؤلاء.
وقال زهير بن جناب الكلبي لبنيه: يا بني، عليكم باصطناع المعروف واكتسابه، وتلذذوا بطيب نسيمه، وارضوا بمودات صدور الرجال من أيمانه، فرب رجل قد صفر من ماله فعاش به هو وعقبه من بعده.
وفي حديث آخر: يا بني، عليكم بالزهد في الدنيا تربحوا أبدانكم، ولا تعدوا استكثاراً من حرام مالاً، وتنكبوا كل حديث مشنوع، ولا تقبلوا من الأخبار إلا ما يجوز في الرأي.(9/60)
زهير بن قيس
أبو شداد البلوي المصري. وهو ممن لزم عمرو بن العاص في الفتنة، ودخل معه دمشق كما قيل، وقيل: إن له صحبه.
حدث عن علقمة بن رمثة البلوي قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص إلى البحرين، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، وخرجنا معه، فنعس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم استيقظ فقال: رحم الله عمراً. قال: فتذاكرنا كل إنسان اسمه عمرو، ثم نعس الثانية، ثم استيقظ فقال: رحم الله عمراً. قال: فتذاكرنا كل إنسان اسمه عمرو، ثم نعس الثالثة، ثم استيقظ، فقال: رحم الله عمراً، فقلنا: من عمرو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن العاص، قالوا: ما باله؟ قال: ذكرت أني كنت إذا ندبت الناس إلى الصدقة جاء من الصدقة فأجزل، فأقول له: من أين لك هذا يا عمرو؟ فيقول: من عند الله، وصدق عمرو إن لعمرو عند الله خيراً كثيراً. قال زهير: فلما كانت الفتنة قلت: أتبع هذا الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه ما قال، فلم أفارقه.
قتل زهير ببرقة، قتلته الروم سنة ست وسبعين.
زهير بن محمد بن يعقوب
أبو الخير الموصلي حدث بدمشق.
روى عن أبي عبد الله الحسين بن عمر بن أبي الأحوص الكوفي بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي ".
وحدث زهير أيضاً عن أبي يعلى محمد بن أحمد بن عبيد الأقطع السلمي الملطي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صام في كل شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب له عبادة سبع مئة سنة ".(9/61)
قال كل راوٍ لهذا الحديث من الحافظ إلى أنسٍ: صمت أذناي إن لم أكن سمعت فلاناً يقول هذا، واحدٌ بعد واحدٍ.
زهير بن محمد أبو منذر التميمي
ثم العنبري الخراساني المروزي الخرقي من أهل قرية من قرى مرو تسمى خرق. سكن مكة، وسكن الشام.
حدث زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر قال: قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرحمن حتى ختمها، فقال: ما لي أراكم سكوتاً! للجن كانوا أحسن رداً منكم، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة " فبأي آلاءٍ ربكما تكذبان " إلا قالوا: ولا بشيءٍ من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد.
وحدث زهير عن زيد بن أسلم عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مثل الناس كإبل مئة لا يوجد فيها راحلة.
زيادة الله بن عبد الله بن إبراهيم
ابن أحمد بن محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن سالم بن عقال أبو منصور بن أبي العباس التميمي صاحب القيروان قدم دمشق في سنة اثنتين وثلاث مئة مجتازاً إلى بغداد حين غلب على ملكه بإفريقية، ومنهم جماعة ملكوا إفريقية.
كان لزيادة الله غلام فحل صبي يدعى خطاب، وهو الذي اسمه في السكك، فسخط عليه وقيده بقيد من ذهب، فدخل يوماً من الأيام صاحبه على البريد، وهو عبد(9/62)
الله بن الصايغ، فلما رأى الغلام مقيداً تأخر قليلاً، وكتب بهذين البيتين إلى زيادة الله من البسيط:
يا أيها الملك الميمون طائره ... رفقاً فإن يد المعشوق فوق يدك
كم ذا التجلد والأحشاء راجفةٌ ... أعيذ قلبك أن يسطو على كبدك
فأطلق الغلام، ورضي عنه، ووصل عبد الله بن الصايغ بالقيد الذهب.
في كتاب الوزراء للصولي قال:
كان العباس بن الحسن يحب أن يرى المكتفي أنه فوق القاسم بن عبيد الله تدبيراً، فقال للمكتفي: إن ابن الأغلب في دنيا عظيمة، ونعم خطيرة، وأريد أن أكاتبه وأرغبه في الطاعة، وأخوفه المعصية. ففعل فأنجح الكتاب، ووجه ابن الأغلب برسول الله شيخٍ ومعه هدايا، ومئتا خادم، وخيل، وبر كثير، وطيب، ومن اللبود المغربية، ومئتان وعشرة آلاف درهم في كل درهم عشرة دراهم، وألف دينار في كل دينار عشرة دنانير، وكتب على الدراهم من وجهين، على كل وجه منها: من الكامل
يا سائراً نحو الخليفة قل له ... أن قد كفاك الله أمرك كله
بزيادة الله بن عبد الله سي ... ف الله من دون الخليفة سله
وفي الجانب الآخر:
ما ينبري لك بالشقاق منافقٌ ... إلا استباح حريمه وأذله
من لا يرى لك طاعة فالله قد ... أعماه عن سبل الهدى وأضله
ووجه إلى العباس بهدايا كثيرة جليلة، وعرفه أنه لم يزل وآباؤه قبله في طاعة الخلفاء.
توفي زيادة الله بالرملة في جمادى الأولى سنة أربع وثلاث مئة، ودفن بالرملة فساخ به قبره، فسقف عليه، وترك مكانه.(9/63)
زياد بن أسامة الحرمازي البصري
وفد على معاوية.
حدث جماعة، دخل حديث بعضهم في حديث الآخر: أن المغيرة بن شعبة قال لزياد، وهو بفارس وجهه إليه معاوية: أبا المغيرة، خذ لنفسك من هذا الرجل. قال: أشر علي، فإن المستشار مؤتمن. قال: أرى أن تنقل أصلك إلى أصله، وتصل حبلك بحبله، وتعير الناس منك أذناً صماء. قال: قلت ما لا يكون يا بن شعبة، مغرس في غير منبته، لا عرق يسقيه، ولا مدرة له تغذوه، وقد قال زهير: من الطويل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
ثم قدم زياد بن معاوية، فجرى بينهما الصلح، وضمن لمعاوية أربعة آلاف ألف فحملها إليه، وأبرأه معاوية من كل مالٍ أصابه، وشخص زياد إلى الكوفة، فكتب إليه معاوية يعرض له بالدعوة فأبى، ثم قدم عليه الشام، فأراده معاوية على الدعوة فقال زياد: كيف! وقد بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فحرامٌ عليه أن يراح رائحة الجنة، وقد ولدت على فراش عبيد؟ فقال معاوية: والله إنك لابن أبي سفيان، فنفر من ذلك زياد، فكف عنه معاوية، ثم عاوده فكلمه فيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا لا يصح إلا بشهادة قائمةٍ طاهرةٍ، وأمر واضح يثبت به النسب، فقال معاوية: إن من يقوم بهذا ويعلمه، ويشهد به غير واحد. قال: من يقول ذلك؟ قال: جويرية بنت أبي سفيان، فادخل عليها: فقد أخبرتني أنها سمعت أبا سفيان يقول: زياد ابني. فدخل عليها زياد، فقالت: يا أخي، أنت والله ابن أبي سفيان، أشهد على أبي لسمعته غير مرةٍ يقول: إن زياداً ابني. فرجع إلى معاوية فقال: أتزوج بني(9/64)
بناتك؟ قال: نعم. فادعاه سنة أربع وأربعين، فجمع معاوية أشراف الناس ووجوههم، وخطبهم، وقال: أنشد الله رجلاً كان عنده علم من زياد إلا قام به. فقام المنذر بن الزبير بن العوام، فشهد أنه سمع علي بن أبي طالب يقول: أشهد أن أبا سفيان أشهدني أن زياداً ابنه، وقام أبو مريم مالك بن ربيعة السلولي، وكان ممن شهد فتح الأبلة، فشهد أن أبا سفيان أقر أن زياداً ابنه، وشهد المستورد بن قدامة الباهلي، وابن أبي بصير الثقفي، وزيد بن نفيل الأزدي، ورجل من بني عمرو بن شيبان، وشعبة بن القلعم المازني، وزياد بن أسامة الحرمازي أن زياداً ابن أبي سفيان. وقام رجل من بني المصطلق فقال: أشهد أن أبا سفيان كان بيني وبين علي بن أبي طالب، وزياد يتكلم عند عمر بعذر أبي موسى، فقال أبو سفيان: والله إنه لابني، وإنه من نطفة أقررتها في رحم أمه سمية.
فلما شهد الشهود حمد الله معاوية، ثم قال: إنه من يرد الله رفع خسيسته وإثبات وطيدته يسبب له الأمور، ويجري له المقادير، على ما أحب الناس أو كرهوا، حتى يبلغ المنصب المشهور. وإن زياداً عبدٌ من عبيد الله، امتن الله عليه وعلينا معه بألفة رحمة، فوشجت العروق في منابتها، ومت برحمٍ غير منقطعةٍ، فالحمد لله الذي وصل ما قطع الناس، ولطف لما أجفوا، وحفظ ما ضيعوا. ثم تكلم زياد، فحمد الله وقال: هذا أمر لم أشهد أوله، ولم أدع آخره، وقد قال أمير المؤمنين ما قد سمعتم، وشهدت الشهود بما قد حضرتم، فأنا امرؤ رفع الله مني ما وضع الناس، وحفظ مني ما ضيعوا، فإن يك ما قالوا حقاً فالحمد لله على بلائه عندنا ونعمه علينا، وإن يك ما قالوا باطلاً فقد جعلت الرجال فيما بيني وبين الله عز وجل.(9/65)
زياد بن جارية التميمي
ويقال زيد والصواب زياد من أهل دمشق.
حدث مكحول قال: سئلت على النفل فلم يكن عندي علم، فسألت في العراق والحجاز فلم أجد فيها علماً، فارتفعت يوماً من هذا المسجد يعني مسجد دمشق فمررت بزياد بن جارية التميمي، وهو جالس بفناء داره، فقال: حدثني حبيب بن مسلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الثلث والربع، فسألت عن حبيبٍ قومه، فأخبروني أنه قد صحب.
وروي: أن زياد بن جارية التميمي دخل مسجد دمشق، وقد تأخرت صلاتهم الجمعة بالعصر، فقال: والله ما بعث الله نبياً بعد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمركم بهذه الصلاة. قال: فأخذ، فأدخل الخضراء، فقطع رأسه، وذلك في زمن الوليد بن عبد الملك.
زياد بن حبيب الجهني
كان من حرس عمر بن عبد العزيز.
حدث زياد: أن عمر بن عبد العزيز أمر من كان من الحرس إذا دخل عليه رجل من العجم أن يتحفظ منه الحرس الذي معه ألا يسجد لعمر بن عبد العزيز، فإن غفل الحرسي حتى يسجد نحاه من الحرس، ويقول: إنما السجود لله عز وجل.
وفي حديث آخر: إذا أدخل عليه رجل من أهل الذمة.(9/66)
وعن زياد بن حبيب قال: جاءت جارية لعمر بن عبد العزيز إلى قصاب وعليه جماعة، فقالت: ويحك روحني، فإن أمير المؤمنين صائمٌ، ومعها درهمٌ تشتري به لحماً.
زياد بن أبي حسان أبو عمار النبطي
من أهل البصرة.
حدث عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة، منها واحدةً صلاح أمره كله، وثنتان وسبعون درجاتٌ له يوم القيامة ".
وفي رواية أخرى: واحدة منهن يصلح الله له بها أمر دنياه وآخرته.
ويذكر عن شعبة أنه قال: كان زياد بن أبي حسان نصرانياً في حياة انس بن مالك. وكان شعبة يتكلم فيه.
زياد بن سليم ويقال ابن سليمان
ويقال ابن سلمى أبو أمامة العبدي المعروف بزياد الأعجم مولى عبد القيس ولقب بالأعجم لعجمةٍ كانت في لسانه. أدرك أبا موسى الأشعري، وعثمان بن أبي العاص، وشهد معهما فتح إصطخر.
حدث أبو بركة الأشجعي قال: حضرت امرأة من بني نمير الوفاة، فقيل لها: أوصي. فقالت: نعم، خبروني من القائل: من الوافر
لعمرك ما رماح بني نميرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار(9/67)
فقيل لها: زياد الأعجم، قالت: فأشهدكم أن له ثلث مالي. قال: فحمل له من ثلثها أربعة آلاف درهم.
دخل زياد الأعجم على عبد الله بن جعفر، فسأله في خمس دياتٍ، فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس ديات أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر ديات فأعطاه، فأنشأ يقول: من الوافر
سألناه الجزيل فما تلكا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
كان المغيرة بن المهلب أبرع ولده، وأوفاهم، وأعفهم، وأسخاهم، فلما مات رثاه زياد الأعجم بقصيدته تلك: من الكامل
مات المغيرة بعد طول تعرضٍ ... للموت بين أسنةٍ وصفائح
قال ابن عائشة: سمعت أبي يقول: إنه أنشدها يزيد بن المهلب، فلما انتهى إلى قوله:
وإذا مررت بقبره فاعقر به ... أدم الهجان وكل طرفٍ سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دمٍ وذبائح
فقال له يزيد: هل عقرت؟ قال: لا. قال: وما منعك؟ قال: كنت على بنت الهمارة يريد الحمارة قال: أما والله لو فعلت ما أصبح في آل المهلب صاهل إلا على مذودك.
قال محمد بن عباد المهلبي: قال المأمون: أي قصيدةٍ أرثى؟ قلت: أمير المؤمنين أعلم. قال لي: القصيدة التي قالها زياد الأعجم(9/68)
في المغيرة بن المهلب. ثم قال: أتحفظها؟ قلت: نعم. قال: فخذها علي. فأنشدنيها إلى آخرها، وترك منها بيتاً. قلت: يا أمير المؤمنين، تركت منها بيتاً. قال: ما هو؟ قلت: من الكامل
هلا أتاك وفوقه بزاته ... يغشى الأسنة فوق نهد قارح
قال: هاه هاه يتهدد المنية ألا أتته ذلك الوقت، هذا أجود بيتٍ فيها. ثم استعادنيه حتى حفظه.
وعن الأصمعي قال: لقد بلي هؤلاء القوم من زياد الأعجم بثلاثة لم يمتحن بها أحد من نظرائهم. يعني الأشاقر بطن من الأزد فمن ذلك قوله فيهم: من البسيط
قالوا الأشاقر تهجوهم فقلت لهم ... ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
قومٌ من الحسب الزاكي بمنزلةٍ ... كالود بالقاع لا أصلٌ ولا ورق
لا يكثرون وإن طال الزمان بهم ... ولو يبول عليهم ثعلبٌ غرقوا
زياد بن صخر أبو صخر المري
حدث عن أبي الدرداء قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كانت ليلة ريح كان مفزعه إلى المسجد حتى تسكن الريح، وإذا حدث في السماء حدثٌ من كسوف شمسٍ أو قمر كان مفزعه إلى الصلاة حتى ينجلي.(9/69)
زياد بن عبيد الله بن عبد الله
واسمه عبد الحجر بن عبد المدان واسمه عمرو بن الديان واسمه يزيد بن قطن ابن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب ينتهي نسبه إلى قحطان الحارثي، وفد على مروان بن محمد.
حدث زياد بن عبيد الله الحارثي وكان أميراً على المدينة في أيام المنصور قال: خرجت وافداً إلى مروان بن محمد في جماعة ليس فيهم يماني غيري، فلما كنا ببابه دفعنا إلى ابن هبيرة، وهو على شرطه وما وراء بابه، فتقدم الوفد رجلاً رجلاً، كلهم يخطب ويطنب في أمير المؤمنين وابن هبيرة، فجعل يبحثهم عن أنسابهم، فكرهت ذلك، فقلت: إن عرفني زادني عنده شراً، وكرهت أن أتكلم، فلطيت، فجعلت أتأخر رجاء أن يمل كلامهم فيمسك، حتى لم يبق غيري، ثم تقدمت فتكلمت بدون كلامهم، وإني لقادر على الكلام، فقال: ممن أنت؟ قلت: من أهل اليمن. قال: من أيها؟ قلت: من مذحج. قال: إنك لتطمح بنفسك، اختصر. قلت: من بني الحارث بن كعب. قال: يا أخا بني الحارث إن الناس ليزعمون أن أبا اليمن قردٌ، فما تقول في ذلك؟ قلت: وما أقول، أصلحك الله؟ إن الحجة في هذا لغير مشكلة. فاستوى قاعداً وقال: وما حجتك في ذلك؟ قلت: ننظر إلى القرد أبا من يكنى، فإن كان يكنى أبا اليمن فهو أبوهم، وإن كان يكنى أبا قيس فهو أبو من كني به. فنكس، ونكت بظفره في الأرض، وجعلت اليمانية تعض على شفاهها تظن أن قد هويت، والقيسية تكاد تزدردني، ودخل بها الحاجب على أمير المؤمنين، ثم رجع، فقام ابن هبيرة فدخل ثم لم يلبث أن خرج، فقال: الحارثي، فدخلت ومروان يضحك، فقال: إنه عنك وعن ابن هبيرة. فقلت: قال كذا فقلت كذا. فقال: وايم الله لقد حججته، أوليس أمير المؤمنين الذي يقول: من الطويل
تمسك أبا قيسٍ بفضل عنانها ... فليس عليها إن هلكت ضمان
فلم أر قرداً قبلها سبقت به ... جياد أمير المؤمنين أتان
قال زياد: فخرجت، واتبعني ابن هبيرة، فوضع يده بين منكبي، وقال: والله يا أخا بني الحارث ما كان كلامي إياك إلا هفوة، وإن كنت لأربأ بنفسي عن ذلك، ولقد(9/70)
سرني إذ لقنت علي الحجة ليكون ذلك لي أدباً فيما أستقبل. وأنا لك بحيث تحب، فاجعل منزلك علي. ففعلت، فأكرمني، وأحسن منزلتي.
قال ابن دريد: البيتان ليزيد بن معاوية، وذلك أنه حمل قرداً على أتانٍ وحشيةٍ فسبق بينها وبين الخيل.
كان زياد بن عبيد الله الحارثي خال أبي العباس أمير المؤمنين والياً لأبي العباس على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناس من أهل مكة، وكانت لزياد بن عبيد الله صحفة يخص بها فيها مضيرة من لحم جديٍ، فأتي بها، فأمر الغلام أن يضعها بين يدي أشعب، وهو لا يدري أنها المضيرة، فأكلها أشعب حتى أتى على ما فيها، فاستبطأ زياد بن عبيد الله المضيرة، فقال: يا غلام الصحفة التي كنت تأتيني بها؟! قال: أتيتك بها أصلحك الله، فأمرتني أن أضعها بين يدي أبي العلاء. قال: هنأ الله أبا العلاء. فلما رفعت المائدة قال: يا أبا العلاء وذلك في استقبال شهر رمضان قد حضر هذا الشهر المبارك، وقد رققت لأهل السجن لما هم فيه من الضر ثم لا نهجام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أصيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم بالليل. وكان أشعث حافظاً، فقال: أو غير ذلك، أصلح الله الأمير؟ قال: ما هو؟ قال: أعطي الله عهداً ألا آكل مضيرة جدي أبداً.
دخل أبو حمزة الربعي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب على زياد بن عبيد الله الحارثي، وهو والي المدينة، فقال: أصلح الله الأمير، بلغني أن أمير المؤمنين المنصور وجه إليك بمالٍ تقسمه على القواعد، والعميان، والأيتام. قال: قد كان ذلك، فتقول ماذا؟ قال: تكتبني في القواعد. قال: إنما القواعد اللائي قعدن عن الأزواج، وأنت رجل! قال: فاكتبني في العميان. قال: أما هذا فنعم، اكتبه يا غلام، فقد قال الله عز وجل: " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ". وأنا أشهد أن أبا حمزة أعمى. قال: واكتب بني في الأيتام. قال: اكتبهم يا غلام، فمن كان أبو حمزة أباه فهو يتيم. قال: فأخذ في العميان، وأخذ بنوه في الأيتام.(9/71)
زياد بن عبيد وهو الذي ادعاه معاوية
فعرف بزياد بن أبي سفيان أبو المغيرة. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وأسلم في عهد أبي بكر، واستكتبه أبو موسى الأشعري في إمرته على البصرة، وولاه معاوية الكوفة والبصرة، وهو أول من جمع له المصران: الكوفة والبصرة. وقدم دمشق. قيل: إنه ولد عام هاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة، وقيل: إنه ولد هو والمختار بن أبي عبيد سنة إحدى من الهجرة، ومات في رمضان سنة ثلاث وخمسين.
عن الشعبي قال: أتي زياد في رجل توفي وترك عمته وخالته، فقال: هل تدرون كيف قضى عمر فيها؟ قالوا: لا. فقال: والله إني لأعلم الناس بقضاء عمر فيها، جعل العمة بمنزلة الأخ، والخالة بمنزلة الأخت، فأعطى العمة الثلثين، والخالة الثلث.
حدث جماعة من الرواة قالوا:
لما رجع أبو موسى عن أصبهان بعد دخول الجنود الكور، وقد هزم الربيع أهل بيروذ، وجمع السبي والأموال، فغدا على ستين غلاماً من أبناء الدهاقين تنقاهم وعزلهم، وبعث بالفتح إلى عمر، ووفد وفداً، فجاءه رجلٌ من عنزة فقال: اكتبني في الوفد. فقال: قد كتبنا من هو أحق منك. فانطلق مغاضباً مراغماً، وكتب أبو موسى إلى عمر أن رجلاً من عنزة يقال له: ضبة بن محصن كان من أمره، وقص قصته. فلما قدم الكتاب والفتح والوفد على عمر قدم العنزي، فأتى عمر فسلم عليه فقال: من أنت؟ فأخبره، فقال: لا مرحباً، ولا أهلاً. قال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل. فاختلف(9/72)
إليه ثلاثاً يقول له هذا، ويرد عليه هذا، حتى إذا كان اليوم الرابع، فدخل عليه، فقال: ما نقمت على أميرك؟ قال: تنقى ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه، وله جارية تدعى عقيلة تغدى جفنةً وتعشى جفنة، وليس منا رجل يقدر على ذلك، وله قفيزان، وله خاتمان، وفوض إلى زياد بن أبي سفيان وكان زياد يلي أمور البصرة وأجاز الحطيئة بألف. فكتب عمر كلماً، قال: وبعث إلى أبي موسى، فلما قدم حجبة أياماً، ثم دعا به ودعا ضبة بن محصن، ودفع إليه الكتاب، فقال: اقرأ ما كتب، فقرأ: أخذ ستين غلاما لنفسه، فقال أبو موسى: دللت عليهم، وكان لهم فداء ففديتهم، فأخذته فقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت، فقال: له قفيزان. فقال أبو موسى: قفيز لأهلي أقوتهم به وقفيز في أيديهم للمسلمين يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: والله ما كذب ولا كذبت. فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى، فلم يعتذر، وعلم أن ضبة قد صدقه. قال: وزياد يلي أمور الناس ولا يعرف هذا ما يلي؟ فقال: وجدت له نبلاً ورأياً فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بألف. قال: سددت فمه بما لي أن يشتمني، قال: قد فعلت ما فعلت. فرده عمر وقال: إذا قدمت فأرسل إلي زياداً وعقيلة. ففعل، فقدمت عليه عقيلة قبل زياد، وقدم زياد، فأقام بالباب، فخرج عمر وزياد بالباب قائمٌ وعليه ثياب بياض كتان، فقال: ما هذه الثياب؟ فأخبره، فقال: كم أثمانها؟ فأخبره بشيء يسير فصدقه، فقال له: كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: ما صنعت في أول عطاء خرج لك؟ قال: اشتريت به والدتي فأعتقتها، واشتريت بالثاني ربيبي عبيداً، فأعتقته. قال: وفقت. وسأله عن الفرائض والسنن والقرآن فوجده فقيهاً، فرده وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة، وقال عمر: ألا إن ضبة بن محصن العنزي غضب على أبي موسى في الحق أن أصابه، فارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى(9/73)
النار، وكان الحطيئة لقيه فأجازه من غزاة بيروذ، وكان أبو موسى قد ابتدأ غزاتهم وحصارهم حتى فلهم، ثم جازهم، ووكل بهم الربيع، ثم رجع إليهم بعد الفتح فولى القاسم.
كان زياد كاتباً للمغيرة بن شعبة، وكتب لعتبة بن غزوان، ثم كتب لأبي موسى الأشعري، وكتب لأبي عامر، وكتب لابن عباس.
كان زياد بن عبيد كاتباً لابن عباس على البصرة، فقال الشاعر فيه: من الوافر
قد انطقت الدراهم بعد عيٍّ ... رجالاً طالما كانوا سكوتا
فما عادوا على جارٍ بخيرٍ ... ولا رفعوا لمكرمةٍ بيوتا
كذاك المال يجبر كل عبءٍ ... ويترك كل ذي حسبٍ صموتا
قال الشعبي وغيره: أقام علي رضي الله عنه بعد وقعة الجمل بالبصرة خمسين ليلة، ثم أقبل إلى الكوفة واستخلف عبد الله بن عباس على البصرة، قال: فلم يزل ابن عباس على البصرة حتى سار إلى صفين، واستخلف أبا الأسود الدؤلي على الصلاة بالبصرة، واستخلف زياداً على الخراج وبيت المال والديوان وقد كان استكتبه قبل ذلك، فلم يزالا على البصرة حتى قدم من صفين.
وفي حديث:
أنه لما أمر ابن عباس على البصرة، وولى زياداً الخراج وبيت المال أقر ابن عباس أن يسمع منه، وكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنةٍ كانت من الناس فقال: إن كنت تعلم أنك على الحق، وأن من خالفك على الباطل أشرت عليك بما ينبغي، وإن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي لك. فقال له: إني على الحق، وإنهم على الباطل. فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك، ومن ترك أمرك فكان أعز للإسلام أن تضرب عنقه وأصلح له فاضرب عنقه. فلما ولي رأيت ما صنع، وعلمت أن قد اجتهد لي رأيه.(9/74)
قال الهجيع بن قيسٍ: كتب زياد إلى الحسن والحسين وعبد الله بن عباس يعتذر إليهم في شأن حجر وأصحابه، فأما الحسن فقرأ كتابه وسكت، وأما الحسين فأخذ كتابه فمزقه ولم يقرأه، وأما ابن عباس فقرأ كتابه وجعل يقول: كذب كذب، ثم أنشأ يحدث قال: إني لما كنت بالبصرة كبر الناس بي تكبيرةً، ثم كبروا الثانية، ثم كبروا بي الثالثة، فدخل علي زياد فقال: هل أنت مطيعي يستقم لك الناس؟ قلت: ماذا؟ قال: أرسل إلى فلان وفلان وفلان ناس من الأشراف تضرب أعناقهم يستقم لك الناس. فعلمت أنه إنما صنع بحجر وأصحابه مثل ما أشار به علي.
قال عوانة: كانت سمية لدهقان زيدورد بكسكر، وكانت مدينة وهي اليوم قرية فاشتكى الدهقان، وخاف أن يكون بطنه قد استسقى، فدعا الحارث بن كلدة الثقفي، وقد كان قدم على كسرى، فعالج الحارث الدهقان فبرأ، فوهب له سمية أم زياد، فولدت عند الحارث أبا بكرة، وهو مسروح، فلم يقر به ولم ينفه، وإنما سمي أبا بكرة لأنه نزل في بكرة مع مجلى العبيد من الطائف حين أمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيد ثقيف، ثم ولدت سمية نافعاً، فلم يقر بنافع. فلما نزل أبو بكر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال الحارث لنافع: إن أخاك مسروحاً عبد وأنت ابني، فأقر به يومئذ، وزوجها الحارث غلاماً له رومياً يقال له عبيد، فولدت زياداً على فراشه. وكان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمار يقال له أبو مريم السلولي، وكانت لأبي مريم بعد صحبةٌ، فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده: قد اشتدت بي العزوبة، فالتمس لي بغياً. فقال: هل لك في جارية الحارث بن كلدة سمية امرأة عبيد؟ قال: هاتها على طول ثدييها وذفر إبطيها. فجاء بها إليه، فوقع بها، فولدت زياداً، فادعاه معاوية، فقال يزيد بن مفرغ لزياد: من الوافر
تذكر هل بيثرب زيدوردٌ ... قرى آبائك النبط القحاح(9/75)
قال عوانة: لما توفي علي بن أبي طالب عليه السلام وزياد عامله على فارس، وبويع لمعاوية تحصن زياد في قلعة فسميت به فهي تدعى قلعة زياد إلى الساعة، فأرسل زياد من صالح معاوية على ألفي ألف درهم، وأقبل زياد من القلعة فلقيه مصقلة بن هبيرة وافداً إلى معاوية، فقال له زياد: متى عهدك بأمير المؤمنين؟ قال: عام أول، قال: كم أعطاك؟ قال عشرين ألفاً. قال: فهل لك أن أعطيك مثلها وتبلغه كلاماً؟ قال: نعم. قال: هل له إذا أتيته: أتاك زياد وقد أكل بر العراق وبحره فخدعك فصالحك على ألفي ألف درهم، والله ما أرى الذي يقال إلا حقاً، فإذا قال لك: ما يقال؟ فقل: يقال إنه ابن أبي سفيان.
فأبلغ مصقلة معاوية الكلام، فلما قال: إنه يقال إنه ابن أبي سفيان قال: أبى قائلها إلا إثماً، قال فادعاه معاوية، فما أعطى زياد مصقلة العشرين ألف درهم إلا بعد أن ادعاه.
قال أبو المهاجر القاضي: كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فتق، فبعث زياد بن أبيه إليه فرتق الفتق، وانصرف محموداً عند أصحابه مشكوراً عند أهل الناحية، ودخل على عمر، وعنده المهاجرون والأنصار، فخطب خطبة لم يسمع مثلها حسناً، فقال عمرو بن العاص: لله هذا الغلام، لو كان أبوه قرشياً لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان، وهو حاضر في المجلس: والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه. فقال علي: يا أبا سفيان، اسكت فإنك لتعلم أن عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشر. فأنشأ أبو سفيان. يقول: من الوافر
أما والله لولا خوف شخصٍ ... يرانا يا علي من الأعادي(9/76)
لأظهر أمره صخر بن حربٍ ... ولم يكن المقالة عن زياد
فقد طالت مجاملتي ثقيفاً ... وتركي عندهم عرضاً فؤادي
فلما قلد علي الخلافة قلد زياد بن أبيه فارس، فضبطها، وحمى قلاعها، وأباد الأعداء بناحيتها، وحمد أثره فيها. واتصل الخبر بمعاوية فساءه ذلك، وكتب إلى زياد: أما بعد فإن العش الذي ربيت فيه معلوم عندنا، فلا تدع أن تأوي كما تأوي الطير في أوكارها، ولولا ما الله أعلم به لقلت ما قاله العبد الصالح: " فلنأتينهم بجنودٍ لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " وكتب في آخر كتابه: من البسيط
لله در زيادٍ أيما رجلٍ ... لو كان يعلم ما يأتي ما يذر
تنسى أباك وقد خفت نعامته ... إذ يخطب الناس والوالي لنا عمر
فافخر بوالدك الأدنى ووالدنا ... إن ابن حربٍ له في قومه خطر
إن ابتهارك قوماً لا تناسبهم ... إلا بأمك عارٌ ليس يغتفر
فاترك ثقيفاً فإن الله باعدهم ... عن كل فضل به تعلو الورى مضر
فالرأي مطرف والعقل تجربةٌ ... فيها لصاحبها الإيراد والصدر
فلما ورد الكتاب على زياد قام في الناس فقال: العجب كل العجب من ابن أكلة الأكباد ورأس النفاق يخوفني بقصده إياي، وبيني وبينه ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار. أما والله لو أذن لي في لقائه لوجدني أجم مجساً ضروباً بالسيف.
واتصل الخبر بعلي رضي الله عنه، فكتب إلى زياد: أما بعد، وليتك الذي وليتك، وأنا أراك له أهلاً، وإنه قد كان من أبي سفيان فلته من أماني الباطل وكذب النفس لا توجب له ميراثاً، ولا تحل لك نسباً، وإن معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه، ومن عن يمينه ومن عن شماله فاحذر، ثم احذر، والسلام.
وعن أبي عثمان قال: لما ادعى زياد لقيت أبا بكرة، فقلت: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي(9/77)
وقاص يقول: سمعت أذناي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول: من ادعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام، فقال أبو بكرة: وأنا سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال مفضل بن مهلهل: كتب زياد إلى عائشة: من زياد بن أبي سفيان وهو يريد أن تكتب إليه ابن أبي سفيان فيحتج بذلك فكتبت إليه: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها زياد.
وعن محمد بن الحارث، رجل من قريش: أن مرة صاحب نهر مرة أتى عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وكان مولاهم، فسأله أن يكتب له إلى زياد في حاجة له، فكتب: من عبد الرحمن إلى زياد، ونسبه إلى غير أبي سفيان، فقال: لا أذهب بكتابك هذا فيضربني، قال: فأتى عائشة فكتبت له: من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان. فلما جاء بالكتاب قال له: إذا كان غد فجئني بكتابك. قال: وجمع الناس فقال: يا غلام اقرأه. قال: فقرأه: من عائشة أم المؤمنين إلى زياد بن أبي سفيان. قال: فقضى له حاجته.
كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذا كتب إلى عماله فذكر زياداً قال: إن زياداً صاحب البصرة، ولا ينسبه.
وعن سعيد بن المسيب قال: أول قضية ردت من قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانيةً قضاء فلانٍ في زياد.
وعنه قال: أول من رد قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعوة معاوية.
قال ابن أبي نجيح: أول حكم رد من حكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية الحكم في زياد.
قال عمرو بن بعجة: أول ذل دخل على العرب: قتل الحسين، وادعاء زياد.
قال عبد الملك بن عمير:
شهدت زياد بن أبي سفيان وقد صعد المنبر فسلم تسليماً خفياً، وانحرف انحرافاً بطياً،(9/78)
وخطب خطبة بتيراء والبتيراء: التي لا يصلى فيها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: إن أمير المؤمنين قد قال ما سمعتم، وشهدت الشهود بما قد علمتم، وإنما كنت امرأ حفظ الله مني ما ضيع الناس، ووصل مني ما قطعوه. إلا أنا قد سسنا وساسنا السائسون، وجربنا وجربنا المجربون، وولينا وولي علينا الوالون، وإنا وجدنا هذا الأمر لا يصلحه إلا شدة في غير عنف، ولين في غير ضعف، وايم الله إن لي فيكم صرعى، فليحذر كل رجل منكم أن يكون من صرعاي، فوالله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر حتى تلين لي قناتكم، وحتى يقول القائل: انج سعد فقد هلك سعيد. ألا رب فرحٍ بإمارتي لن تنفعه، ورب كارهٍ لها لن تضره، وقد كانت بيني وبين أقوام منكم دمنٌ وأحقاد، وقد جعلت ذلك خلف ظهري، وتحت قدمي، فلو بلغني عن أحدكم أن البغض لي قتله ما كشفت له قناعاً، ولا هتكت له ستراً، حتى يبدي صفحته، فإذا أبداها لم أقله عثرته، ألا ولا كذبة أكثر شاهداً عليها من كذبة إمامٍ على منبر، فإذا سمعتموها مني فاغتمزوها في، فإذا وعدتكم خيراً أو شراً فلم أف به فلا طاعة لي في رقابكم. ألا وأيما رجل منكم كان مكتبه خراسان فأجله سنتان، ثم هو أمير نفسه، وأيما رجل منكم كان مكتبه دون خراسان فأجله ستة أشهر ثم هو أمير نفسه، وأيما امرأةٍ احتاجت تأتينا نعطها عطاء زوجها ثم نقاصه به، وأيما عقال فقدتموه من مقامي هذا إلى خراسان فأنا له ضامن.
فقام إليه نعيم بن الأهتم المنقري فقال: أشهد لقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب. فقال: كذبت أيها الرجل، ذاك نبيٌّ الله داود عليه السلام. ثم قام إليه الأحنف بن قيس فقال: أيها الرجل، إنما الجواد بشده، والسيف بحده، والمرء بجده، وقد بلغك جدك ما ترى، وإنما الشكر بعد العطاء، والثناء بعد البلاء، ولسنا نثني عليك حتى نبتليك. فقال: صدقت.
ثم قام أبو بلال مرداس بن أدية فقال: أيها الرجل قد سمعت قولك: والله لآخذن البريء بالسقيم، والمطيع بالعاصي، والمقبل بالمدبر. ولعمري لقد خالفت ما حكم الله في(9/79)
كتابه إذ يقول: " ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى "، فقال: إيها عني، فوالله ما أجد السبيل إلى ما تريد أنت وأصحابك حتى أخوض الباطل خوضاً ثم نزل. فقام مرداس بن أدية وهو يقول: من البسيط
يا طالب الخير نهر الجور معترضٌ ... طول التهجد أو فتك بجبار
لا كنت إن لم أصم عن كل عاتبةٍ ... حتى يكون بريق الجور إفطاري
فقال له رجل: أصحابك يا أبا بلال شباب. فقال: شباب متكهلون في شبابهم، ثم قال: من الوافر
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهو سجود
فشرى وانجفل الناس معه، وكان قد ضيق الكوفة على زياد. وهذا الشعر يروى على غير هذه القافية أيضاً وهو: من الوافر
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا ... وأهل الأمن في الدنيا هجوع
قال الشعبي: دهاة العرب أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. فأما معاوية فللأناة والحلم، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة بن شعبة فللمبادهة، وأما زياد فللصغير والكبير.
وعن الشعبي قال: كان القضاة أربعة والدهاة أربعة، فأما القضاة فعمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأما الدهاة فمعاوية، وعمرو، والمغيرة، وزياد.(9/80)
قال قميصة بن جابر: صحبت عمر بن الخطاب، فما رأيت رجلاً أقرأ لكتاب الله تعالى ولا أفقه في دين الله منه، ولا أحسن مدارسةً منه. وصحبت طلحة بن عبيد الله، فما رأيت رجلاً أعطى الجزيل من مالٍ عن غير مسألةٍ منه، قيل: وكان يسمى الفياض. قال: وصحبت معاوية بن أبي سفيان، فما رأيت رجلاً أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناةً منه، وصحبت عمرو بن العاص، فما رأيت رجلاً أبين ظرفاً ولا أحلم جليساً منه، وصحبت زياداً، فما رأيت رجلاً أخصب نادياً، ولا أكرم جليساً، ولا أشبه سريرةً بعلانية منه، وصحبت المغيرة بن شعبة، فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها.
قال الشعبي:
ما رأيت أحداً يتكلم إلا أحببت أن يسكت مخافة أن ينقطع إلا زياداً فإنه لا يخرج من حسنٍ إلا إلى حسن.
قال الشعبي: ما رأيت أحداً أخطب من زياد.
قال أحمد بن صالح: زياد أمير البصرة تابعي، ولم يكن يتهم بالكذب قال الأصمعي: مكث زياد على العراق تسع سنين لم يضع لبنةً على لبنةٍ، ولم يغرس شجرةً.
قال أبو رجاء العطاردي: ولي زياد البصرة سنة خمس وأربعين، وكان زياد يصيف بالكوفة ويشتو بالبصرة، ومات زياد بالكوفة وهو على المصرين: البصرة والكوفة، وكان إذا غاب عن البصرة استخلف سمرة بن جندب. ومات سنة ثلاث وخمسين في رمضان قريباً من الكوفة.
قال أبو إسحاق: غزوت في زمن زياد ست غزوات أو سبع غزوات، ومات زياد قبل معاوية، وما(9/81)
رأيت قط خيراً من زمن زياد. فقال له رجل: ولا زمن عمر بن عبد العزيز؟ فقال: ما كان زمن زياد إلا عرساً.
قال الزهري سمعت رجلاً من أهل الري يقول: سمعت زياداً على المنبر يقول: إن أكذب الناس من قام على رأس مئة ألفٍ فكذبهم. إني والله لا أعدكم خيراً إلا أنجزته لكم، ولا شراً إلا أنجزته لكم، ولا أعاقبكم بذنب حتى أتقدم إليكم فيه، فاتقوا غضب السلطان، فإنه يغضبه ما يغضب الوليد، ويأخذ أخذ الأسد، وله ملك مؤجل، فإذا انقضت مدته كشفه الله عنكم.
قال يونس: كان زياد إذا ولى رجلاً عملاً قال له: خذ عهدك، وسر إلى عملك، واعلم أنك مصروف رأس سنتكن وأنك تصير إلى أربع خلال، فاختر لنفسك: إنا إن وجدناك أميناً ضعيفاً استبدلناك لضعفك، وسلمتك منا أمانتك، وإن وجدناك قوياً خائناً استهنا بقوتك، وأحسنا على خيانتك أدبك، وأوجعنا ظهرك، وثقلنا غرمك، وإن جمعت علينا الحرمين عليك المصرين، وإن وجدناك أميناً قوياً زدنا في عملك، ورفعنا ذكرك، وكثرنا مالك، وأوطأنا عقبك.
قال عجلان مولى زياد وكان حاجبه، قال: كان زياد إذا خرج من منزله مشيت أمامه إلى المسجد، فإذا دخل مشيت أمامه إلى مجلسه، فدخل مجلسه ذات يوم فإذا هو بهر في زاويةٍ، فذهبت أزجره فقال: دعه. فأرب ماله، ثم صلى الظهر، ثم عاد إلى مجلسه، كل ذلك يلاحظ الهر، فلما كان قبل غروب الشمس خرج جرذ، فوثب إليه فأخذه، فقال زياد: من كانت له حاجة فليواظب عليها مواظب الهر يظفر بها.
قال عجلان: قال لي زياد: أدخل علي ويحك رجلاً عاقلاً قال: قلت: لا أعرف من تعني: قال: لا يخفى العاقل في وجهه وقده. فخرجت، فإذا أنا برجل حسن الوجه، مديد(9/82)
القامة، فصيح اللسان. قلت: ادخل. فدخل، فقال زياد: يا هذا، إني قد أردت مشورتك في أمر، فما عندك؟ فقال: أنا حاقن، ولا رأي لحاقنٍ. قال: يا عجلان، أدخله المتوضأ، قال: ثم خرج فقال: ما عندك؟ فقال: إني جائع، ولا رأي لجائع. قال: يا عجلان، ائت بطعام، فأتي به. قال: فطعم فقال: سل عما بدا لك. فما سأله عن شيء إلا وجد عنده بعض ما يريد. فكتب إلى عماله: لا تنظروا في حوائج الناس وأحد منكم حاقن أو جائع.
قال أبو الحسن المدائني: لما ولي زياد العراق صعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد رأيت خلالاً ثلاثاً نبذت إليكم فيهن النصيحة: رأيت إعظام ذوي الشرف، وإجلال أهل العلم، وتوقير ذوي الأسنان. وإني أعاهد الله عهداً: لا يأتيني شريفٌ بوضيعٍ لم يعرف له حق شرفه إلا عاقبته، ولا يأتيني كهل بحدثٍ لم يعرف له حق فضل سنه على حداثته إلا عاقبته، ولا يأتيني عالم بجاهل لا حاه في علمه ليهجنه عليه إلا عاقبته، فإنما الناس بأشرافهم وعلمائهم وذوي أسنانهم.
قال زياد: ثلاثة لا يستخف بهم: عامل السلطان، والعالم، والصديق. فإنه من استخف بالسلطان أفسد دنياه، ومن استخف بالعالم أفسد دينه، ومن استخف بالصديق أفسد مروءته.
قال سفيان بن عيينة: قال زياد: ليس العاقل الذي يحتال للأمر إذا وقع فيه، ولكن العاقل الذي يحتال للأمر ألا يقع فيه.
قال أبو سفيان القرشي: قال زياد: إن مما يجب لله عز وجل على ذي النعمة بحق نعمته ألا يتوصل بها إلى معصيته.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قال رجل في مجلس يونس: قال عمر بن الخطاب ذات يوم: لئن بقيت لأمنعن فروج العربيات إلا من الأكفاء. فقال يونس: رحم الله عمر، لو أدرك تلاعب زياد وبنيه لساءه ذلك.(9/83)
قال زياد:
ما جلست مجلساً قط إلا تركت منه ما لو آخذته لكان لي، وترك بعض ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي.
قال زياد: أكرم الناس مجلساً من إذا أتى مجلساً عرف قدره فجلس مجلسه، وإذا ركب دابة حملها على ما يريد، ولا يدعها تحمله على ما تريد.
قال زياد: لو أن لي عشرة دراهم لا أملك غيرها ما تركت نائبةً يلزمني فيها حقٌّ، ولو أن لي مائة ألفٍ ولي بعير أجرب ما ضيعته لكثرة ما لي.
قال زياد لجلسائه: من أغبط الناس عيشاً؟ قالوا: الأمير وجلساؤه. فقال: ما صنعتم شيئاً، إن لأعواد المنبر هيبة، وإن لقرع لجام البريد لفزعة، ولكن أغبط الناس عندي رجلٌ له دار لا يجري عليه كراؤها، وله زوجة صالحة قد رضيته فهما راضيان بعيشهما، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإنه إن عرفنا وعرفناه أتعبنا ليله ونهاره، وأذهبنا دينه ودنياه.
كان الشافعي رحمه الله يقول: تعلموا النحو فإنه والله يزري بالرجل ألا يكون فصيحاً، ولقد بلغني أن رجلاً دخل على زياد بن أبيه فقال له: أصلح الله الأمير، إن أبينا هلك، وإن أخينا غصبنا على ما خلفه لنا. فقال له زياد: ما ضيعت من نفسك أكثر مما ضاع من مالك.
قال العتبي: قال زياد: ما من كلام إلا له عندي جواب، فمر به مجنون فقال له: أيسرك أنك من الحور العين؟ فتحير وبهت ثم قال: إن من السكوت جواباً، وإن جواب هذا الكلام السكوت.(9/84)
قال سلمة بن كهيل: أول من وطىء على سماح الإسلام زياد.
قال الحكم بن عوانة: وفد زياد إلى معاوية ومعه أشراف أهل العراق فرجز به ابن حنيق العبادي فقال:
قد علمت ضامرة الجياد ... أن الأمير بعده زياد
فلم يصل زياد إلى معاوية حتى أتاه الخبر، وما قاله ابن حنيق وإقرار زياد بذلك ومعاوية يربص لابنه ما يربص من الخلافة ثم أذن للناس، فأخذوا مجالسهم، ثم دخل زياد فلم يدعه إلى مجلس حتى قام له رجل من أهل العراق فجلس في مجلسه، فحمد الله معاوية وأثنى عليه، ثم قال: هذه الخلافة أمر من أمر الله، وقضاء من قضاء الله، وإنها لا تكون لمنافق، ولا لمن صلى خلف إمام منافق يعرض بزياد حتى عرف زياد وقام الناس، حتى إذا كان الليل أرسل معاوية إلى حضين بن المنذر الذهلي، فدعاه وأدناه حتى كان قريباً منه، ثم أجلسه، وألقيت تحته وسادة، ثم قال له معاوية: بلغني أن لك عقلاً ورأياً وعلماً بالأمور، فأخبرني: ما فرق ملأها؟ قال: قتل أمير المؤمنين عثمان. قال: ما صنعت شيئاً. قال: مسير علي إلى عائشة وطلحة والزبير، ومسير علي إليك وقتالكم بصفين والذي كان بينكم من سفك الدماء والاختلاف. قال: ما صنعت شيئاً. قال: فأخبرني يا أمير المؤمنين، فحمد الله معاوية ثم قال: إن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق. فدعا الناس إلى الإسلام، فعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتاب الله عز وجل حتى قبضه الله، وعصمه بالوحي، ثم استخلف المسلمون أبا بكر فكان أفضل من تعلم وتعلمون، فعمل أبو بكر بكتاب الله وسنة رسوله حتى قبضه الله إليه، ثم استخلف أبو بكر على المسلمين عمر، فعمل بكتاب الله وسنة رسوله وسنة أبي بكر، حتى أصاب عمر من قضاء الله ما أصابه، فخير بين ستة فجعلها شورى، ولم تجب إلا بجعلها بينهم، وكانوا خير من يعلم على الأرض، فلما جلسوا لها، وتنازعوها دعا كل رجل منهم إلى نفسه، فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها ويستخلف فأبى القوم وكان أزهدهم فيها فقلدوها إياه فاستخلف عثمان، فما زال كل رجل من أهل الشورى يطمع فيها، ويطمع له فيها أحباؤهم حتى وثبوا على(9/85)
عثمان فقتلوه، واختلفوا بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً. فهذا الذي سفك دماء هذه الأمة وشق عصاها وفرق ملأها.
حدث هشام بن محمد عن أبيه قال:
كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب، فلما قدم زياد الكوفة والياً عليها أخافه، وطلبه زياد، فأتى الحسن بن علي، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم، وأخذ ماله، وهدم داره، فكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن علي إلى زياد، أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله وعياله فحبستهم، فإذا أتاك كتابي هذا فابن له داره، واردد عليه عياله وماله، فإني قد أجرته، فشفعني فيه، فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة، أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة، وأنا سلطان وأنت سوقة، كتبت إلي في فاسق لا يؤويه إلا مثله وشر من ذلك توليه، إياك وإياك، وقد علمت أنك قد آويته إقامة منك على سوء الرأي، ورضًى منك بذلك. وايم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك ولحمك. وإن نلت بعضك غير رفيق بك ولا فزع عليك، فإن أحب لحمٍ إلي آكله للحم الذي أنت منه، فأسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا بحبه إياك.
فلما قرأ الحسن عليه السلام الكتاب تبسم، وكتب إلى معاوية يذكر له حال ابن سرح، وكتابه إلى زياد فيه، وإجابة زياد إياه، ولف كتابه في كتابه، وبعث به إلى معاوية، وكتب الحسن إلى زياد: من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية، وقرأ معاوية الكتاب ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أما بعد فإن الحسن بن علي بعث بكتابك إلي جواب(9/86)
كتابه إليك في ابن سرح، فأكثرت التعجب منك، وعلمت أن لك رأيين: أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سمية، فأما الذي من أبي سفيان فحلم وحزم، وأما رأيك من سمية فما يكون رأي مثلها، ومن ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه، وتعرض له بالفسق، ولعمري لأنت أولى بالفسق من الحسن، ولأبوك إذ كنت تنسب إلى عبيد أولى بالفسق من أبيه. وإن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك، وإن ذلك لم يضعك، وأما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك. فإذا قدم عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن سرح، وابن له داره، ولا تعرض له، واردد عليه ماله، فقد كتبت إلى الحسن أن يخبر صاحبه إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، ليس لك عليه سلطان بيد ولا لسان. وأما كتابك إلى الحسن باسمه ولا تنسبه إلى أبيه فإن الحسن ويلك من لا يرمى به الرجوان! أفإلى أمه وكلته! لا أم لك، هي فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وتلك أفخر له، إن كنت تعقل. وكتب في أسفل الكتاب: من الطويل
تدارك ما ضيعت من بعد خبرةٍ ... وأنت أريبٌ بالأمور خبير
أبا حسن يا بن الذي كان قبله ... إذا سار الموت حيث يسير
وهل يلد الرئبال إلا نظيره ... فذا حسنٌ شبهٌ له ونظير
ولكنه لو يوزن الحلم والحجى ... برأي لقالوا فاعلمن ثبير
جاء زياد بن أبي سفيان إلى معقل بن يسار فقيل له: هذا الأمير على الباب. فقال: لا يدخل علي أحد غير الأمير. فدخل، فألقيت له وسادة، فنظر إليه فقال: يا معقل، ألا تزودنا منك شيئاً؟ كان الله ينفعنا بأشياء نسمعها منك. فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليس من والٍ يلي أمةً قلت أو كثرت لم يعدل فيهم إلا كبه الله(9/87)
عز وجل في جهنم ". فاطرق ساعةً ثم قال: شيئاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو من وراء وراء؟ قال: بل سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أبي برزة الأسلمي: أنه دخل على زياد فقال: إن من شر الرعاء الحطمة. فقال له: اسكت فإنك من نخالة أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: يا للمسلمين! وهل كان لأصحاب محمد نخالة؟ بل كانوا لباباً، بل كانوا لباباً، والله لا أدخل عليك ما كان في الروح.
قال أبو معشر:
كان حجر بن عدي رجلاً من كندة، وكان عابداً لم يحدث قط إلا توضأ، ولم يهرق ماءً إلا توضأ، وما توضأ إلا صلى، وكان مع علي بن أبي طالب في زمانه، فلما قتل علي، وكانت الجماعة على معاوية اعتزل حجر وناسٌ من أصحابه وزياد معهم نحو أرض فارس، فقال بعضهم لبعض: ما تصنعون نحن وحدنا والجماعة على معاوية؟ أرسلوا رجلاً يأخذ لنا الأمان من معاوية. فاختاروا زياداً اختياراً فأرسلوه إلى معاوية، فأخذ لهم الأمان، وبايعوا على سنة الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العمل بطاعته. فأعجب معاوية عقل زيادٍ فقال: يا زياد، هل لك في شيء؟ أعترف أنك أخي، وأؤمرك على العراق. قال: نعم.
بلغ الحسن بن علي أن زياداً يتتبع شيعة علي بالبصرة فيقتلهم، فقال: اللهم لا تقتلن زيادا، وأمته حتف أنفه فإنه كان يقال: إن في القتل كفارة.
قال عبد الرحمن بن السائب: جمع زياد أهل الكوفة فملأ منهم المسجد والرحبة والقصر ليعرضهم على البراءة من علي(9/88)
رضي الله عنه. قال عبد الرحمن: فإني لمع نفرٍ من الأنصار، والناس في أمر عظيم، قال: فهومت تهويمةً، فرأيت شيئاً أقبل طويل العنق مثل عنق البعير، أهدب، أهدل، فقلت: ما أنت؟ قال: أنا النقاد ذو الرقبة، بعثت إلى صاحب هذا القصر. فاستيقظت فزعاً، فقلت لأصحابي: هل رأيتم ما رأيت؟ قالوا: لا. فأخبرتهم. قال: ويخرج علينا خارج من القصر فقال: إن الأمير يقول لكم: انصرفوا عني فإني عنكم مشغول. وإذا الطاعون قد ضربه، فأنشأ عبد الرحمن بن السائب يقول: من البسيط
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تناوله النقاد ذو الرقبه
فأثبت الشق منه ضربة ثبتت ... كما تناول ظلماً صاحب الرحبه
وفي رواية: فإذا الفالج قد ضربه.
حدث محمد بن إدريس الشافعي قال: أوصى زياد فقال: هذا ما أوصى به زياد بن أبي سفيان حيث أتاه من أمر الله ما ينتظر، ومن قدرته ما لا ينكر، أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة من عرف ربه، وخاف ذنبه، وأن محمداً عبده ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى أمير المؤمنين، وجماعة المسلمين بتقوى الله حق تقاته، ولا يموتن إلا وهم مسلمون، وأن يتعاهدوا كبير أمرهم وصغيره، فإن الثواب في الكبير على قدره في التحمل له، والصبر غير قليل في حاجتهم إليه وطاعتهم الله فيه، وإن جعل لعباده عقولاً عاقبهم بها على معصيته، وأثابهم على طاعته، والناس بين محسن بنعمة الله عليه ومسيء بخذلان الله إياه، ولله النعمة على المحسن، والحجة على المسيء، فما أحق من تمت نعمة الله عليه في نفسه، ورأى العبرة في غيره، بأن يضع الدنيا بحيث وضعها الله، فيعطي ما عليه منها، ولا يتكثر مما ليس له فيها، فإن الدنيا دار لا سبيل إلى بقائها، ولا بد من لقاء الله، فأحذركم الله الذي حذركم نفسه، وأوصيكم بتعجيل ما أخرت العجزة حتى صاروا إلى دار ليست لهم منها أوبةٌ، ولا يقدرون فيها على توبة، وأنا أستخلف الله عليكم، وأستخلفه منكم.(9/89)
وعن أبي كعب الجرموزي: أن زياداً لما قدم الكوفة قال: أي أهل الكوفة أعبد.؟ قيل: فلان الحميري. فأرسل إليه فأتاه فإذا سمت ونحو، فقال زياد: لو مال هذا مال أهل الكوفة معه، فقال له: إني بعثت إليك لخير. قال: إني إلى الخير لفقير. قال: بعثت إليك لأنولك وأعطيك على أن تلزم بيتك فلا تخرج؟ قال: سبحان الله! والله لصلاةٌ واحدة في جماعة أحب إلي من الدنيا كلها، ولزيادة أخٍ في الله، وعيادة مريض أحب إلي من الدنيا كلها، فليس إلى ذلك سبيل. قال: فاخرج فصل في جماعة، وزر إخوانك، وعد المريض، والزم شأنك. قال: سبحان الله! أرى معروفاً لا أقول فيه!؟ أرى منكراً لا أنهى عنه!؟ فوالله لمقام من ذلك واحدٌ أحب إلي من الدنيا كلها. قال: يا أبا المغيرة، فهو للسيف. قال: للسيف. فأمر به فضربت عنقه. قال جعفر أحد رواة الحديث: فقيل لزياد، وهو في الموت: أبشر. قال: كيف وأبو المغيرة بالطريق؟!
زياد بن عثمان بن زياد
المعروف بأبي سفيان البصري قال أبو عمرو بن المبارك: دخل زياد بن عثمان بن زياد على سليمان بن عبد الملك، وقد توفي ابنه أيوب، فقال: يا أمير المؤمنين، إن عبد الرحمن بن أبي بكرة كان يقول: من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب.
زياد بن عياض الأشعري
عن الشعبي قال:
شهدت عبداً بالأنبار فقال يعني عياضاً الأشعري: ما لي لا أراكم تقلسون؟ كانوا في زمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعلونه.(9/90)
التقليس: الجواري والصبيان على أفواه الطرق يلعبون بالطبل وغير ذلك.
قال الشعبي: مر عياض الأشعري بالأنبار فقال: ما لي لا أراهم يقلسون فإنه من السنة.
وعن قيس بن سعد بن عبادة قال: ما من شيء كان على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد رأيته إلا شيئاً واحداً أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقلس له يوم الفطر.
وعن زياد بن عياض قال: صلى بنا عمر بن الخطاب العشاء بالجابية فلم أسمعه قرأ فيها وفي الحديث طول.
وفي رواية أخرى: صلى بنا عمر بن الخطاب المغرب، فلم يقرأ بنا فيها، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنك لم تقرأ.
زياد بن مخراق أبو الحارث البصري
مولى مزينة.
حدث زياد بن مخراق عن عبد الله بن عمر قال: أرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن فقال: تياسرا، وتطاوعا، وبشرا، ولا تنفرا، قال: فقدما اليمن، فخطب الناس معاذ بن جبل، فحضهم على الإسلام، وأمرهم بالصدقة والقرآن، فقال: إذا فعلتم ذلك فسلوني أخبركم بأهل الجنة وأهل النار، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا، فقالوا لمعاذ: كيف أمرتنا إذا نحن تفقهنا، فقال: إذا ذكر أحدكم بخير فهو من أهل الجنية، وإذا ذكر بسوء أو بشر فهو من أهل النار.(9/91)
وحدث زياد بن مخراق عن معاوية بن قرة عن أبيه: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها، أو قال: إني لأرحم الشاة إن أذبحها. فقال: والشاة إن رحمتها رحمك الله.
كان زياد بن مخراق ثقة.
زياد بن معاوية بن ضباب
ابن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث ابن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر، أبو أمامة وقيل: أبو ثمامة، المعروف بالنابغة الذبياني أحد شعراء الجاهلية المشهورين، وفد على عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان عنده حين وفد عليه حسان بن ثابت، وامتدح عمراً بقصيدته التي أولها: من الطويل
كليني لهمٍ يا أميمة ناصب......................
وهي من مختارشعره، وهي التي يقول فيها:
رقاق النعال طيبٌ حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
وسمي النابغة بقوله: من الوافر
وحلت في بني القين بن جسرٍ ... فقد نبغت لنا منهم شؤون
قيل لحسان بن ثابت: من أشعر الناس؟ قال: أبو أمامة، يعني النابغة الذبياني.
قال أبو عمرو بن العلاء: كان أوس بن حجر فحل العرب، فلما نشأ النابغة طأطأ منه.(9/92)
ذكر يحيى بن مالك عند أبي عمرو بن العلاء النابغة وزهيراً، فقال أبو عمرو: ما كان زهير يصلح أن يكون أجيراً للنابغة.
قال ربعي بن حراش: وفدنا إلى عمر بن الخطاب فقال: من الذي يقول: من الطويل
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهب
فلست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
قالوا: النابغة. قال: فمن القائل: من البسيط
إلا سليمان إذ قال الإله له ... قم في البرية فازجرها عن الفند
قالوا: النابغة. قال: فمن القائل: من الوافر
أتيتك عارياً خلقاً ثيابي ... على وجل تظن بي الظنون
فألفيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوحٌ لا يخون
قالوا: النابغة. قال: فمن الذي يقول: من الوافر
ولست بذاخرٍ لغدٍ طعاماً ... حذار غدٍ لكل غدٍ طعام(9/93)
قلنا: النابغة. قال: النابغة أشعر شعرائكم وأعلم الناس بالشعر.
كان يقال: أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب، والنابغة إذا رهب قال حسان بن ثابت:
خرجت وافداً إلى النعمان بن المنذر، فلما قدمت بلاده لقيني رجل، فسألني عن وجهتي، وما أقدمني، فأخبرته، فأنزلني عليه، وإذا هو صانعٌ من أهل تلك البلاد فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من أهل الحجاز، قال: من أي الحجاز؟ قلت: من أهل يثرب. قال: كن خزرجياً. قلت: إني من بني الخزرج. قال كن نجارياً. قلت: إني من بني النجار. قال: كن حسان. قلت: أنا هو. قال: قد كنت أحب لقاءك، وأنا أصف لك أمر هذا الرجل، فليس أحد أخبر به مني، وما ينبغي أن تعرفه من أمره، ويكون عملك به فيه، إنك إذا لقيت حاجبه فانتسبت له، وذكرت مقدمك تركك شهراً لا يرد عليك شيئاً، ثم يقول لك: فيم تلقاه؟ من أنت زعمت؟ فتنتسب له فيعرفك، وما أقدمك، ثم يتركك ستاً، ثم يستأذن لك، فإذا دخلت على النعمان فستجد عنده قوماً يستنشدونك، فلا تنشد حتى يستنشدك هو، فإذا أنشدت ثم قطعت فسيستنشدك من عنده، ويقولون: أنشدنا. فلا تنشد حتى يستنشدك هو، فإذا فعلت ذلك فانظر ما ثوابه، وما يكون منه، فهذا ما ينبغي أن تعرفه من خبره، فيكون عملك عليه.
فلقيت الحاجب، فوجدت الذي وصف لي صحيحاً، ثم أدخلني على النعمان، فاستنشدني من عنده، فلم أنشد حتى استنشدني هو. فلما أنشدت أعجب بشعري هو والحضور، وقالوا: زدنا، وأنشدنا. فلم أجبهم حتى استزادني هو، فزدت، فأكرمني، وأجازني. وانصرفت إلى صاحبي، فأخبرته، فقال: لا يزال هكذا حتى يقدم أبو أمامة، يعني النابغة فإذا قدم فلا حظ لأحد فيه من الشعراء. قال حسان: فأقمت على بابه أياماً، ثم دخلت عليه ليلة العشاء، فأتي ببطيخ، فأكل منه جلساؤه، وامتلأ وجه واحدٍ منهم ببعض البطيخ، فضحك منه بطال على باب النعمان، فنظر إليه النعمان، فقال:(9/94)
أبجليسي!؟ احرقا صيلقيه بالشمعة، فأحرق صيلقاه، والصيلقان ناحيتا العنق. قال: وأقمت على ذلك أياماً في لطف منه وكرامة، فأتيته يوماً كانت ترد عليه فيه النعم السود، ولم يكن بأرض العرب بعير أسود إلا للنعمان، فإني لجالس إذ سمعت صوتاً من خلف قبته يقول: من الرجز
أنام أم يسمع رب القبه ... يا أوهب الناس لعنسٍ صلبه
ضرابةٍ بالمشفر الأدبه ... ذات نجاءٍ في يديها جذبه
الجذب: الطول. قال النعمان: أبو أمامة. أدخلوه. فلما دخل أنشده قصيدته البائية:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقصيدته العينية:
خطاطيف حجنٍ في حبالٍ متينةٍ ... تمد بها أيدٍ إليك نوازع
قال: فأمر له بألف بعير من الإبل السود فيها رعاؤها، ومظالها، وكلابها. قال فانصرفت، وما أدري أكنت له أحسد على جودة شعره أم على ما أصاب من جزيل عطيته.
قال: ثم عدت إلى صاحبي فأخبرته، فقال: ارحل، فلا شيء لك عنده بعد مقدمه. فرجعت إلى بلادي.
حدث زكريا مولى الشعبي: أن النابغة الذبياني قال للنعمان بن المنذر: من الوافر
تزال الأرض إما مت حقاً ... وتحيا ما حييت بها ثقيلا(9/95)
فقال النعمان: هذا بيت إن أنت لم تتبعه ما يوضح معناه فهو إلى الهجاء أقرب منه إلى المدح. فأراد ذلك النابغة، فعسر عليه، فقال: أجلني، فقال: قد أجلتك ثلاثاً. فإن أنت أتبعته ما يوضح معناه فلك مئةٌ من العصافير نجائب. وإلا فضربةٌ بالسيف أخذت منك ما أخذت. فأتى النابغة زهير بن أبي سلمى فأخبره الخبر، فقال زهير: اخرج بنا إلى البرية، فإن الشعر بريٌّ. فخرجا، وتبعهما ابن لزهير يقال له كعب، فقال: يا عم، اردفني. فصاح به أبوه، فقال: دع ابن أخي يكون معنا، فأردفه، فتحاولا البيت ملياً، فلم يأتهما ما يريدان، فقال كعب: يا عم، ما يمنعك أن تقول:
وذاك بأن حللت العز منها ... فتعمد جانبيها أن يميلا
قال النابغة: جاء بها ورب البيت، لسنا والله في شيء، قد جعلت لك يا بن أخي ما جعل لي. قال: وما جعل لك يا عم؟ قال: مئة من العصافير نجائب. قال: ما كنت لآخذ على شعري صفداً. فأتى بها النابغة النعمان، وأخذ منه مئة ناقة سوداء الحدقة.
دخل يزيد بن مزيد على الرشيد، فقال له: يا يزيد، من الذي يقول فيك: من البسيط
لا يعبق الطيب كفيه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل
قد عود الطير عاداتٍ وثقن بها ... فهن يتبعنه في كل مرتحل
قال: لا أدري يا أمير المؤمنين. قال: أفيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله؟ فانصرف خجلاً، فقال لحاجبه: من بالباب من الشعراء؟ فقال: مسلم بن الوليد. قال: ومنذ كم هو بالباب؟ قال: مذ زمان طويل، منعته من الوصول إليك لما عرفته من إضاقتك. قال: أدخله. فدخل فأنشده: من البسيط
أجررت حبل خليعٍ في الصبا عزل ... وقصرت همم العذال عن عذلي(9/96)
حتى ختمها، فقال الوكيل: بع ضيعتي الفلانية، وأعطه نصف ثمنها، واحتبس نصفا لنفقاتنا. فباعها بمئة ألف درهم، فأعطى مسلماً خمسين ألفاً، ورفع الخبر إلى الرشيد، فاستحضر يزيد وسأله، فأعلمه الخبر، فقال: قد أمرت لك بمئتي ألف درهم، استرجع الضيعة بمئة ألف، وتزيد الشاعر خمسين ألفاً، وتحبس خمسين ألفاً لنفسك.
قالوا: وسرق مسلم بن الوليد هذا المعنى من النابغة في قوله: من الطويل
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول غالب
لهن عليهم عادةٌ قد عرفنها ... إذا عرض الخطي فوق الكواثب
الكواثب: ما يقرب من منسج الفرس.
زياد بن معاوية بن يزيد
ابن عمر بن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، أبو خالد الأموي.
حدث زياد عن روح بن الهيثم الغساني بسنده: أن الوليد بن عبد الملك حين هدم الكنيسة التي كانت في مغارب المسجد وجدوا في حائطها الغربي حجراً فيه كتاب بالسرياني، فطلبوا من يقرؤه، فلم يجدوا أحداً يقرؤه، ثم أتاه رجل من اليهود فقال له: وهب بن منبه يقرأ كل كتاب. فبعث الوليد إلى وهب، فقدم إليه، فقرأه. فبكى بكاءً شديداً، فأتوا الوليد فقالوا: يا أمير المؤمنين، هو يبكي منذ قرأه، ثم جاءه، فقال له: يا وهب، ايش رأيت في الحجر؟ قال: رأيت فيه: ابن آدم لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طويل ما ترجو من أملك، فإنما تلقى ندمك إن زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وفارقك الحبيب، وودعك القريب، فلا أنت إلى أهلك بعائد، ولا في عملك بزائد، فاحتل ليوم القيامة قبل الحسرة والندامة.(9/97)
زياد بن ميسرة
وهو زياد بن أبي زياد المدني مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وفد على عمر بن عبد العزيز، وكانت له منه منزلة.
حدث زياد بن أبي زياد قال: انصرفت من الظهر أنا وعمر حين صلاها هشام بن إسماعيل بالناس إذ كان على المدينة إلى عمرو بن عبد الله بن أبي طلحة يعوده في شكوى له، قال: فما قعدنا، ما سألنا عنه إلا قياماً. قال: ثم انصرفنا، فدخلنا على أنس بن مالك في داره، وهي إلى جنب دار أبي طلحة، قال: فلما قعدنا أتته الجارية فقالت: الصلاة يا أبا حمزة. قال: قلنا: أي صلاةٍ رحمك الله. قال: العصر. قال: فقلنا لهما: صلينا الظهر الآن! قال: فقال: إنكم تركتم الصلاة حتى نسيتموها، أو قال: نسيتموها حتى تركتموها. إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بعثت والساعة كهاتين ومد إصبعية السبابة والوسطى. " وحدث زياد بن مولى ابن عياش عن ابن عياش: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قعد على قبر سعد بن معاذ، ثم استرجع، فقال: لو نجا أحدٌ من فتنة القبر أو ألمه أو ضمه لنجا سعد بن معاذ، لقد ضم ضمةً ثم روخي عنه.
أذن عمر بن عبد العزيز لزياد بن أبي زياد، والأمويين هناك ينتظرون الدخول عليه، قال هشام: أما رضي ابن عبد العزيز أن يصنع ما يصنع حتى أذن لعبد ابن عياش يتخطى رقابنا!؟ فقال الفرزدق: من هذا؟ قالوا: رجلٌ من أهل المدينة من القراء عبدٌ مملوك. فقال الفرزدق: من البسيط
يا أيها القارىء المقضي حاجته ... هذا زمانك إني قد خلا زمني
وفي رواية: يا أيها القاريء المرخي عمامته.(9/98)
كان زياد مولى ابن عياش قد أعانه الناس على فكاك رقبته، وأسرع الناس في ذلك، ففضل بعد الذي قوطع عليه مالٌ كثير، فرده زياد إلى من كان أعانه بالحصص، وكتبهم عنده، فلم يزل يدعو لهم حتى مات. وكان زياد معتزلاً يلبس الصوف، ولا يأكل اللحم، لا يكاد يجلس مع كل أحد، إنما هو أبداً يخلو وحده بعد العصر وبعد الصبح، وكان فيه لكنة.
قال مزاحم مولى عمر بن العزيز:
اشترين لعمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة للوليد، كساء خز بست مئة دينار أو بسبع مئة دينار، فجعل يجسه ويقول: إنه لخشن: فلما ولي الخلافة قال: إني لأجد البرد بالليل. فاشتريت له كساءً بعشرة دراهم، فلما أتيته به جعل يجسه ويقول: إنه للين. فضحكت، فقال: مم تضحك؟ فقلت: أما تذكر حين اشترين لك كساءً بست مئة دينار أو بسبع مئة دينار فجعلت تقول: إنه لخشن وتقول لهذا: إنه للين! فقال: يا مزاحم، والله لئن كان عيش سليمان بن عبد الملك وعيش زياد مولى ابن عياش واحداً: لأن أعيش في الدنيا بعيش سليمان أحب إلي، ولئن كان زياد مولى ابن عياش صبر في الدنيا على العيش الذي يعيشه لكي يطيب له العيش في الآخرة، فوالله لأن أصبر على مثل عيش زياد هذه الأيام القلائل ليطيب لي العيش في الآخرة في تلك الأيام الكثيرة أحب إلي.
قال زياد مولى ابن عياش: لو رأيتني وقد دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلةٍ شاتيةٍ، وفي بيته كانون، وعمر على كتابه، فجلست أصطلي على الكانون، فلما فرغ من كتابه مشى إلي عمر حتى جلس معي على الكانون، وهو خليفة، فقال: زياد بن أبي زياد، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: قص علي. قلت: يا أمير المؤمنين، لست بقاص. قال: فتكلم. قلت: زياد. قال: وما له؟ قال: لا ينفعه من دخل الجنة غداً إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار غدا إذا دخل الجنة. قال: صدقت والله، ما ينفعك من دخل الجنة إذا دخلت النار، ولا يضرك من دخل النار إذا أنت دخلت الجنة. قال: فلقد رأيت عمر يبكي حتى طفىء بعض ذلك الجمر الذي على الكانون.(9/99)
قال عمر بن عبد العزيز لعبد بني مخزوم: إني أخاف الله فيما دخلت فيه. فقال له: لست أخاف عليك أن تخاف، ولكني أخاف عليك ألا تخاف.
قال محمد بن المنكدر: إني خلفت زياد بن أبي زياد، وهو يخاصم نفسه في المسجد، يقول: اجلسي، أين تريدين، أين تذهبين؟ أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟ انظري ما فيه، تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان؟ قال: وكان يقول لنفسه: ما لك من الطعام، يا نفس، إلا هذا الخبز والزيت، وما لك من الثياب إلا هذين الثوبين، وما لك من النساء إلا هذه العجوز، أفتحبين أن تموتي؟ فقالت: أنا أصبر على هذا العيش.
قال إبراهيم الزهري: جلس إلي يوماً زياد مولى ابن عياش قال: يا عبد الله، قلت: وما تشاء؟ قال: ما هي إلا الجنة والنار. قلت: والله ما هي إلا الجنة والنار. قال: وما بينهما منزل تنزله العباد. قال: فوالله إن نفسي لنفس أضن بها عن النار، والصبر اليوم عن معاصي الله خير من الصبر على الأغلال.
قال زياد بن أبي زياد: أنا من أن أمنع الدعاء أخوف من أن أمنع الإجابة.
قال سفيان بن عيينة: قال زياد بن أبي زياد لمحمد بن المنكدر وصفوان بن سليم: الجد الجد، والحذر الحذر، فإن يكن الأمر على ما نرجوه كان ما عملتما فضلاً، وإلا لم تلوما إلا أنفسكما. قال سفيان، وقال عامر بن عبد الله: والله لأجهدن، ثم والله لأجهدن، فإن نجوت فبرحمة ربي، وإلا لم ألم إلا نفسي.(9/100)
زياد بن النضر أبو الأوبر
ويقال أبو عائشة. ويقال: أبو عمر الحارثي من أهل الكوفة، وفد على يزيد بن معاوية.
حدث زياد الحارثي عن أبي هريرة قال: قال له رجل: أنت الذي تنهى الناس عن صوم يوم الجمعة؟ قال: لا ورب هذه البنية أو هذه الحرمة ما أنا نهيت عنه، محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله.
وعن أبي الأوبر قال: قال أبو هريرة: ورب هذه البنية لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعلين حتى قضى صلاته.
قال زياد بن النضر الحارثي:
كنت صديقاً ليزيد بن معاوية قبل أن تفضي الخلافة إليه، فلما أفضت إليه أتيته فأكرمني، وأنزلني في الدار معه، فلما كان ذات يوم استحم ثم جاء يخطر في مشيته، عليه سبتية مضلعةٌ كأن جلده يقطر دماً، فما رأيت منظراً أحسن منه، فألقي له كرسي، فجلس عليه، ثم قال: يا أبا عمر قم فاستحم. ففكرت في نفسي وفي غضون جلدي فقلت: لا يراها مني أبداً، فقلت: يا أمير المؤمنين، إذا أفضت علي الماء أخذتني قشعريرة. فقال: لا عليك، يا جارية، اسقيني، قال: فأتته جارية حسناء في يدها إناء فيه شراب ما رأيت شراباً أحسن منه. قال: فشرب حتى أتى عليه، ثم قال: يا جارية، اسقي أبا عمر. قال: فقلت في نفسي: إنا لله إنا إليه راجعون، الخمر ورب الكعبة! قال: فقلت في نفسي: شربة وأتوب. قال: فجاءتني بالقدح، فشربت، فوالله ما سلسلت شراباً قط مثله. قال: فلما فرغت قال: أبا عمر، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: أتدري ما هذا الشراب؟ قلت: لا والله إلا أني لم أسلسل شراباً مثله. قال: هذا رمان حلوان، بعسل أصبهان، بزبيب الطائف، بسكر الأهواز، بماء بردى.(9/101)
حدث زياد بن النضر الحارثي قال: كنا على غدير لنا في الجاهلية، ومعنا رجل من الحي يقال له عمرو بن مالك، معه بنية له شابة، على ظهرها ذؤابة، فقال له أبوها: خذي هذه الصفحة وأتى الغدير فجيئينا بشيء من مائه. فانطلقت، فوافقها عليه جانٌّ، فاختطفها فذهب بها، فلما فقدناها نادى أبوها في الحي، فخرجنا على كل صعبٍ وذلول، وقصدنا كل شعبٍ ونقبٍ، فلم نجد لها أثراً، ومضت على ذلك السنون، حتى كان زمن عمر بن الخطاب، فإذا هي قد جاءت، وقد عفا شعرها وأظفارها، وتغيرت حالها، فقال لها أبوها: أي بنية! أين كنت!؟ وقام إليها يقبلها، ويشم ريحها، فقالت: يا أبه، أتذكر ليلة الغدير؟ قال: نعم. قالت: فإنه وافقني عليه جانٌّ، فاختطفني، فذهب بي، فلم أزل فيهم حتى إذا كان الآن غزا هو وأهله قوماً مشركين أو غزاهم قوم مشركون فجعل لله عليه نذراً إن هم ظفروا بعدوهم أن يعتقني، ويردني إلى أهلي، فظفروا، فحملني فأصبحت عندكم، وقد جعل بيني وبينه إمارة إن احتجت إليه أن أولول بصوتي، فإنه يحضرني.
قال: فأخذ أبوها من شعرها وأظفارها، وأصلح من شأنها، وزوجها رجلاً من أهله، فوقع بينها وبينه ذات يوم ما يقع بين المرأة وزوجها، فعيرها، وقال: يا مجنونة، والله إن نشأت إلا في الجن، فصاحت وولولوت بأعلى صوتها، فإذا هاتفٌ يهتف: يا معشر بني الحارث، اجتمعوا فكونوا حياً كراماً. فاجتمعنا، فقلنا: من أنت يرحمك الله، فأنا نسمع صوتاً ولا نرى شخصاً!؟ قال: أنا راب فلانةٍ، رغبتها في الجاهلية بحسبي، وصنتها في الإسلام بديني، ووالله إن نلت منها محرماً قط، واستغاثت في هذا الوقت، فحضرت، فسألتها عن أمرها، فزعمت أن زوجها عيرها بأن كانت فينا، ووالله لو كنت تقدمت إليه لفقأت عينه. قال: فقلنا: يا عبد الله، لك الحباء والجزء والمكافأة فقال: ذاك إليه يعني الزوج قال: فقامت إليه عجوز من الحي فقالت: أسألك عن شيء؟ قال: سلي. قالت: إن لي بنية عراساً أصابتها حضنة، فتمزق رأسها، وقد أخذتها حمى الربع، فهل لها من دواء؟ قال: نعم، اعمدي إلى باب الماء الطويل القوائم الذي يكون على أفواه الأنهار، فخذي منها واحدة، فاجعليه في سبعة ألوان عهنٍ من أصفرها وأحمرها وأخضرها(9/102)
وأسودها وأبيضها وأكحلها وأزرقها، ثم افتلي ذلك الصوف بأطراف أصابعك، ثم اعقديه على عضدها اليسرى. ففعلت أمها ذلك، فكأنما نشطت من عقال.
زياد أبو عبد الله من حرس عمر
ابن عبد العزيز. قال: إن لم يكن ابن حبيب فهو غيره.
حدث زياد أبو عبد الله المذكور قال:
بعث إلي عمر بن عبد العزيز ذات ليلة، فدخلت عليه، وعنده شمعة وتحته شاذكونة وسخة، لا أدري أوسخها أغلظ أو بؤولتها، بساطها من عباءة من مشاقة الصوف في ليلة قرة، وعليه كساء ابنجاني سمل، وعليه قلنسوة بيضاء مضربة غسيل قد تنحى قطنها في ناحيتها، فنظرت إلى جسده فكأني لم أر بين عظمه وجلده شيئاً من اللحم، قال ومال معبأ وكتاب مختوم فقال لي: خذ هذا المال، وخذ هذا الكتاب، فانطلق به إلى سالم بن وابصة، وكان على الرقة، فمره فليقسمه على فقراء المسلمين، ومره ألا يقسمه إلا على نهر جارٍ وسوق جامعة، فإني أخاف أن يعطشوا. قال: وكتب إلى ابن وابصة يأمره باشتراط ندب الناس بعضهم عن بعض لا يزدحموا فيصيبهم شيء. قال: فأخذته، ثم خرجت، ورجعت فقلت لغلامه: استأذن لي. فقال: قد دخل إلى أهله، وليس ههنا أحد يستأذن لك. قال: فقام على الباب، ثم قال: الرجل الذي خرج من عند أمير المؤمنين آنفاً يريد الدخول. قال: فسمعته يقول: ادخل. فإذا الشمعة قد رفعت، وإذا عنده سراج. قلت: قل من ولي من هذا إلا حضره المحق وغير المحق، فترى أن نستقصي حتى نوصله إلى أهله؟ أو نعطيه من حضرنا؟ وقد يحضر الغني والفقير؟ قال: فنكت بشيء في يده ملياً، ثم رفع رأسه، فقال: من مد إليك يده فأعطه. فلما خرجت(9/103)
قلت لغلامه: ما بال تلك الساعة شمعة، والساعة سراج؟ فقال: تلك الساعة كان في شيء من أمر المسلمين، فكانت عنده شمعة، والساعة قد صار إلى بيته فيكفيه سراج.
زيد بن أحمد بن علي
أبو العلاء الصوري الأصم سمع بدمشق.
روى عن عبد الوهاب بن الحسين البغدادي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ".
توفي أبو العلاء في رجب سنة أربع وستين وأربع مئة.
زيد بن أرطأة بن حذافة
ابن لوذان الفزاري أخو عدي بن أرطاة دمشقي.
حدث زياد بن أرطاة عن حبير بن نفي: أن عبد الله بن عمر رأى فتى وهو يصلي، قد أطال صلاته وأطنب فيها، فقال: من يعرف هذا؟ فقال رجل: أنا. فقال عبد الله بن عمر: لو كنت أعرفه لأمرته أن يطيل الركوع والسجود، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه وكلما ركع أو سجد تساقطت عنه.
وحدث عن جبير بن نفير أيضاً أنه سمع أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ابغوني الضعفاء، فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم.
وحدث زيد بن أرطاة عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من قال حين يصبح: لا إله إلا الله والله أكبر أعتق الله رقبته من النار.
قال سعد بن إبراهيم: حدثنا أخ لعدي بن أرطاة، كان أرضى عندي من عدي وأفضل، قال: حدثنا بعض أصحاب أبي الدرداء، حدثنا أبو الدرداء قال: عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال حديثاً ولا سمعت أن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون.(9/104)
زيد بن أقم بن زيد بن قيس
ابن النعمان بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث ابن الخزرج، أبو عمرو، ويقال: أبو عامر، ويقال: أبو سعد ويقال: أبو سعيد، ويقال: أبو أنيسة الأنصاري له صحبة، وسكن الكوفة.
قال أنس بن مالك: حزنت على من أصيب بالحرة من قومي، فكتب إلي زيد بن أرقم، وبلغه شدة حزني، فأخبرني أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار. وشك ابن الفضل أحد رواة الحديث في أبناء أبناء الأنصار، قال ابن الفضل: فسأل أنساً بعض من كان عنده عن زيد بن أرقم فقال: هو الذي يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا أوفى الله بإذنه.
قال ابن شهاب: وسمع رجلاً من المنافقين ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يقول: لئن كان هذا صادقاً لنحن شرٌّ من الحمير. فقال زيد بن أرقم: فقد والله صدق، ولأنت شر من الحمار. فرفع ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجحده القائل، فأنزل الله عز وجل على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يحلفون بالله ما قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا ". فكان ما أنزل الله عز وجل من هذه الآية تصديقاً لزيد بن أرقم.
قال يزيد بن حيان:
انطلقت أنا وحصين وعمرو بن مسلم إلى زيد بن أرقم في داره، فقال حصين: يا زيد، لقد لقيت خيراً كثيراً ولرأيت خيراً كثيراً: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، فحدثنا ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،(9/105)
وشهدت معه. قال: أي أخي، كبرت سني، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما حدثتكم فاقبلوه، وما لم أحدثكم فلا تكلفونيه، ثم قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: أولهما كتاب الله، فيه الهدى والنور فحث على كتاب الله ورغب فيه وأهل بيتي: أذكركم الله في أهل بيتي. فقال حصين: يا زيد، ومن أهل بيته؟ أليست نساؤه؟ قال: إن نساءه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده. فقال: من هم؟ قال: آل عباس، وآل علي، وآل عقيل، وآل جعفر. قال: كل هؤلاء يحرم الصدقة.
مات زيد بن أرقم بالكوفة أيام المختار سنة ست وستين، وقيل: مات سنة ثمان وستين وله عقب. وأول مشاهده المريسيع وقيل: ذو العشيرة، وشهد معه علي المشاهد، وغزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع عشرة غزوة.
قال عروة بن الزبير: رد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد نفراً من أصحابه استصغرهم، فلم يشهدوا القتال، منهم عبد الله بن عمرو بن الخطاب، وهو يومئذ ابن أربع عشرة سنة، وأسامة بن زيد، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوسٍ، ورجل من بني حارثة، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، ورافع. قال: فتطاول له رافعٌ فأذن له، فسار معهم، وخلف بقيتهم، فجعلهم حرساً للذراري والنسء بالمدينة.
وقال عبد الله بن جفر المخرمي: أول غزوة غزاها زيد بن أرقم: المريسيع وهو غلام صغير، ما غزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ثلاث غزوات أو أربعاً، وشهد مؤتة رديف عبد الله بن رواحة.(9/106)
حدث زيد بن أرقم: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل على زيد يعوده من مرض كان به، فقال: ليس عليك من مرضك هذا بأس، ولكنه كيف بك إذا عمرت بعدي، فعميت؟ قال: إذاً أحتسب، وأصبر. قال: إذاً تدخل الجنة بغير حساب، قال فعمي بعدما مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم رد الله عليه بصره، ثم مات. وفي حديث آخر بمعناه: لتلقين الله يوم القيامة وليس عليك ذنب.
وعن زيد بن أرقم قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومعنا ناس من العرب، وكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقوننا، ويسبق الأعرابي أصحابه فيملأ الحوض، ويجعل حوله حجارة، ويجعل عليها نطعاً حتى يجيء أصحابه. قال: فجاء رجل من الأنصار، فأرخى زمام ناقته لتشرب، فأبى أن يدعه، فانتزع حجراً ففاض الماء، فرفع الأعرابي خشبة فضرب بها رأس الأنصاري فشجه، فأتى عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وكان من أصحابه، فغضب عبد الله بن أبي، وقال: " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " يقول: من حوله من الأعراب، وكانوا يحضرون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند الطعام فقال عبد الله لأصحابه: إذا انفضوا من عند محمد فأتوا محمداً بالطعام، فليأكل هو ومن عنده، ثم قال لأصحابه: إذا رجعتم إلى المدينة فليخرج الأعز منها الأذل. قال زيد: وأنا رديف عمي. قال: فسمعت عبد الله، وكنا أخواله، فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحلف، وجحد. قال: فصدقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكذبني. قال: فجاء عمي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذبك، وكذبك المسلمون. قال فوقع علي من الهم ما لم يقع على أحد قط.
قال: فبينا أنا أسير مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر إذ خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني(9/107)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرك أذني، وضحك في وجهي. فما كان يسرني أن لي به الخلد أقيم في الدنيا. ثم إن أبا بكر لحقني قال: ما قال لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: قلت: ما قال لي شيئاً إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي. قال: أبشر. ولحقني عمر فقلت له قولي لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة المنافقون.
وفي حديث آخر بمعناه: فقرأها، ثم قال: إن الله صدقك. وفي رواية: صدقك يا زيد.
وعن زيد بن أرقم قال:
سمعت قوماً يقولون: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يك نبياً كنا أسعد به، وإن يكن ملكاً عشنا تحت جناحه، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فانتهوا إلى حجره، فجعلوا ينادون: يا محمد يا محمد. فأنزل الله عز وجل: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون " قال: فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأذني وقال: صدق الله قولك يا زيد.
قال أبو المنهال، رجل من كنانة: سألت البراء عن الصرف، فقال: سل زيد بن أرقم، فإنه خيرٌ مني وأعلم.
قال ابن أبي أوفى: كنا إذا أتينا زيد بن أرقم فنقول: حدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيقول: أنا قد كبرنا، ونسينا، والحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد.
زيد بن أسلم أبو أسامة
ويقال أبو عبد الله العدوي مولى عمر بن الخطاب، الفقيه المدني كان مع عمر بن عبد العزيز في خلافته، واستقدمه الوليد بن يزيد في جماعة من فقهاء المدينة مستفيتاً لهم في الطلاق قبل النكاح.(9/108)
حدث زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجد بني عمرو بن عوف، مسجد قباء، يصلي فيه، فدخلت عليه، وجاءت الأنصار يسلمون عليه ودخل معهم هيب، فسألت صهيباً: كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع إذا سلم عليه؟ قال: يشير بيده. قال سفيان: قلت لرجل يسأل زيداً: سمعته من عبد الله؟ وهبت أنا أن أسأله، فقال: يا أبا أسامة، سمعته من عبد الله بن عمر؟ قال: أما أنا فقد رأيته وكلمته.
وعن زيد بن أسلم عن عبيد بن جريج قال: قلت لابن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تحب هذه النعال السبتية، وتستحب هذه الحلوق، ولا تستلم من البيت إلا هذين الركنين. فقال: أما هذه النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبسها، ويتوضأ فيها، وأما الخلق فإنه كان أحب الطيب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم إلا هذين الركنين.
حدث عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم، وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وعن محمد بن المنكدر، وعن أبي الزناد في أمثالٍ لهم: خرجوا إلى الوليد، وكان أرسل إليهم يستفتيهم في شيء، فكانوا يجمعون بين الظهر والعصر إذا زالت الشمس.
قال أسلم: قال لي عبد الله بن عمر لما ولد زيد بن أسلم: ما سميت ابنك يا أبا خالد؟ قال: قلت: زيد. قال: بأي الزيدين، زيد بن حارثة أم زيد بن ثابت؟ قال: قلت: زيد بن حارثة، وكنيته بكنيته. قال: أصبت. وكانت كنيته أبو أسامة.
قال مالك بن أنس وغيره: كانت لزيد بن أسلم حلقة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ثقة كثير الحديث،(9/109)
ومات بالمدينة في خلافة أبي جعفر قبل خروج محمد بن عبد الله بسنتين، وخرج محمد بن عبد الله سنة خمس وأربعين ومئة.
قال محمد بن عبد الرحمن القرشي: كان علي بن حسين يجلس إلى زيد بن أسلم، ويتخطى مجالس قومه. فقال له نافع بن خبيز بن مطعم: تخطى مجالس قومك إلى عبد عمر بن الخطاب؟ فقال: إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه.
وكان زيد بن أسلم من أهل الفقه والعلم، عالم بتفسير القرآن، له كتابٌ فيه تفسير القرآن.
كان أبو حازم يقول: لا يريني الله يوم زيد، وقدمني بين يدي زيد بن أسلم، اللهم إنه لم يبق أحد أرضى لنفسي وديني غير ذلك. قال: فأتاه نعي زيد، فعقر فما قام، وما شهده فيمن شهده، وكان أبو حازم يقول: اللهم إنك تعلم أني أنظر إلى زيد، فأذكر بالنظر إليه القوة على عبادتك، فكيف بملاقاته ومحادثته؟ قال يعقوب بن عبد الله الأشج: اللهم غنك تعلم أنه ليس من الخلق أحد أمن علي من زيد بن أسلم، اللهم فزد في عمر زيد بن أعمار الناس، وابدأ بي وبأهل بيتي وبأعمارنا. فربما قال له زيد بن أسلم: أرأيت الذي طلبت من حياتي؟ لي أو لنفسك؟ قال: لنفسي. قال: فأي شيءٍ تمن علي في شيء طلبته لنفسك؟ حدث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال:
أضاق أبي زيد ضيقاً شديداً. فبعث بي إلى صديق له تمار، فقال لي: قل له: أبي يقرئك السلام، ويقول لك: قد أضقنا في هذه الأيام، فإن رأيت أن توجه إلينا بشيء. فأتيت التمار قد جاءه تمر، فسلمت عليه، فقال لي: ههنا. وقال: قم ههنا، وأدخل هذا التمر ههنا، وهذا التمر ههنا، فلما فرغنا قلت: والله لا قلت شيئاً: لا يقول: أعانني بشيء يريد أن يأخذ مني كراه، فقلت له: أتقول شيئاً؟ فقال: مكانك، فقدمت إليه مائدة له(9/110)
عليها طعم، فقال: كل. فأكلت، فلما أكلت قلت: والله لا قلت له شيئاً، لا يقول: أعانني بشيء، وقد أكل طعامي، وأخذ مني كراء، فقلت له: أتقول شيئاً؟ فقال: نعم، ادفع هذه الثلاثين ديناراً إلى أبيك، وقل له: فلان يقرئك السلام، ويقول لك: اشتريت حديقة فلان فجعلت لك فيها حصة، وتدفع هذه الثلاثين ديناراً إلى أبي حازم، فتقول له مثل ذلك، وتدفع هذه الثلاثين ديناراً إلى ابن المنكدر، وتقول له مثل ذلك. فبدأت بأبي، فأخبرته الخبر، فقال: الحمد لله! ادفع هذه العشرة دنانير إلى أبي حازم وهذه العشرة إلى محمد بن المنكدر. فقلت لكل واحد منهما مثلها، فقال: ردها، الحمد لله. ثم ذهبت إلى أبي حازم فدفعت إليه الدناينر وقلت له ما قال لي، فقال: اذهب بهذه العشرة دنانير إلى أبيك، وبهذه العشرة إلى ابن المنكدر. فقلت: لكل واحد منهما مثلها، فقال: الحمد لله. ثم أتيت ابن المنكدر فدفعت إليه الدنانير، وقلت له ما قال لي، فقال: اذهب بهذه العشرة دنانير إلى أبي حازم وهذه العشرة إلى أبيك، فقلت لكل واحد منهما مثلها، فقال: الحمد لله.
قال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله عز وجل، ولا كما قالت الملائكة، ولا كما قال النبيون، ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس، قال الله عز وجل: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " وقالت الملائكة: " سبحانك "، وقال شعيب النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم: " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا ". وقال أهل الجنة: " الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "، وقال أهل النار: " ربنا غلبت علينا شقوتنا "، وقال أخوهم إبليس: " رب بما أغويتني ".(9/111)
وقال زيد بن أسلم: القدر قدرة الله، فمن كذب بالقدر فقد جحد قدرة الله.
وقال زيد بن أسلم: خصلتان فيهما كمال أمرك: تصبح حين تصبح فلا تهم الله عز وجل بمعصيةٍ، وتمسي حين تمسي فلا تهم لله عز وجل بمعصية.
قال زيد بن أسلم: من يكرم الله بطاعته يكرمه الله بجنته، ومن يكرم الله تبارك وتعالى بترك معصيته يكرمه الله ألا يدخله النار.
وقال: استغن بالله عمن سواه، ولا يكونن أحد أغنى بالله منك، ولا يكن أحد أفقر إليه منك، ولا تشغلنك نعم الله على العباد عن نعمته عليك، ولا تشغلنك ذنوب العباد عن ذنوبك، ولا تقنط العباد من رحمة الله وترجوها أنت لنفسك.
كان زيد بن أسلم من الخاشعين، وكان يقول: يا بن آدم، أمرك ربك أن تكون كريماً وتدخل الجنة، ونهاك أن تكون لئيماً وتدخل النار.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: أي بني، وكيف تعجبك نفسك وأنت لا تشاء أن ترى من عباد الله من هو خير منك إلا رأيته؟ يا بني، لا تر أنك خير من أحد يقول لا إله إلا الله حتى تدخل الجنة ويدخل النار، فإذا دخلت الجنة ودخل النار تبين لك أنك خيرٌ منه.
كان زيد بن أسلم يقول: ابن آدم، اتق الله يحبك الناس وإن كرهوا.
وكان زيد بن أسلم يحدث من تلقاء نفسه، فإذا سكت قامن فلا يجترىء عليه إنسان.
كان زيد بن أسلم يقول: انظر من كان رضاه عنك في إحسانك إلى نفسك، وكان سخطه عليك في إساءتك إلى نفسك، فكيف تكون مكافأتك إياه.(9/112)
قال زيد بن أسلم: خلتا من أخبرك أن الكرم فيهما فكذبه: إكرامك نفسك بطاعة الله عز وجل، وإكرامك نفسك عن معاصي الله عز وجل.
قال حماد بن زيد: قدمت المدينة، وأهل المدينة يتكلمون في زيد بن أسلم، فقلت لعبيد الله: ما تقول في مولاكم هذا؟ قال: ما نعلم به بأساً إلا تفسير القرآن برأيه.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
ألا أحدثك حديثاً تسر به ويسر به صديقك؟ قال: قلت: بلى. قال: غزوت الاسكندرية، فأصابتني فيها شكاة شديدة، فأخذت قرطاساً ودواة لأن أكتب وصيتي، فوجدت في يدي وصباً شديداً، فقلت: لو أني استرحت قليلاً. قال: فجعلت القرطاس تحت رأسي والدواة تحت رجلي، ثم نمت، فرأيت في منامي كأن معي في البيت رجلاً مبيضاً، فقلت له: من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا ملك الموت. قال: فذكرت الجنة والنار، وما أعد الله عز وجل فيهما، فأدركتني رقة، فبكيت، فقال لي: أفلا أكتب لك براءةً من النار؟ فقلت: بلى، قال: فدفعت إليه القرطاس من تحت رأسي، والدواة من تحت رجلي، وأشهد وكتب حتى ملأ القرطاس، ثم دفعه إلي، فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، استغفر الله، استغفر الله، حتى ملأ القرطاس. فقلت: أي رحمك الله، أين براءتي من النار؟ قال: فقال لي: فأي براءة تريد أوثق من براءتك هذه؟ ثم استيقظت من نومي، فعمدت إلى القرطاس الذي جعلته تحت رأسي في اليقظة، فنظرت فيه فإذا فيه كتاب ملك الموت عليه السلام، الذي رأيته في المنام. فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، استغفر الله استغفر الله، حتى ملأ القرطاس.
قال عبد الرحمن بن زيد: قال رجل: رأيت الناس في أزقة ضيقة وغبار، ورأيت قصراً مرشوشاً حوله، لايقربه من الغبار قليل ولا كثير. فقلت: ما منع الناس أن يمروا في تلك الطريق؟ فقيل لي: ليست لهم. فقلت: لمن هي، فقالوا: لذلك الرجل الذي يصلي إلى جانب القبر. فقلت: من ذاك؟(9/113)
قيل: زيد بن أسلم. قلت: بأي شيء أعطي ذلك؟ قال: لأن الناس سلموا منه وسلم منهم.
قال عبد الرحمن بن زيد: جاء رجل من الأنصار إلى أبي فقال: يا أبا أسامة، إني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر خرجوا من هذا الباب فإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: انطلقوا بنا إلى زيد نجالسه ونسمع من حديثه. فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جلس إلى جنبك فأخذ بيدك. قال: فلم يكن بقاء أبي بعد هذا إلا قليلاً.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: رأيت أبي في المنام، وعليه قلنسوة طويلة، فقلت: يا أبه، ما فعل الله بك؟ قال: زينني بزينة العلم. قلت: فأين مالك بن أنس؟ فقال: مالكٌ فوق فوق، فلم يزل يقول: فوق، ويرفع رأسه حتى سقطت القلنسوة عن رأسه.
توفي زيد بن أسلم سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: سنة ست وثلاثين ومئة.
زيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد
ابن لوذان بن عمرو بن عبد بن عوف بن غنم بن مالك بن النجار أبو خارجة الأنصاري الخزرجي النجاري المدني الصحابي.
كان مع عمر بن الخطاب لما قدم الشام وخطب بالجابية عند خروجه لفتح بيت المقدس، وهو الذي تولى قسمة غنائم اليرموك.
حدث زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قام إلى الصلاة، قال: قلت: كم كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر قراءة خمسين آية.
وعن مكحول: أن عبادة بن الصامت دعا نبطياً يمسك له دابته عند بيت المقدس، فأبى، فضربه فشجه، فاستعدى عليه عمر بن الخطاب، فقال له: ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟ فقال: يا أمير(9/114)
المؤمنين، أمرته أن يمسك دابتي فأبى، وأنا رجل في حدة، فضربته. فقال: اجلس للقصاص. فقال زيد بن ثابت: أتقيد عبدك من أخيك؟ فترك عمر القود، وقضى عليه بالدية.
وزيد بن ثابت أمه النوار بنت مالك بن معاوية بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
وقيل: كانت كنية زيد بن ثابت أبو سعيد، وكان كاتب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم كان كاتب عمر بن الخطاب، وله القراءة والفرائض.
قال زيد بن ثابت: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأنا ابن إحدى عشرة سنة.
قال زيد بن ثابت: أتي بي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة، فقالوا: يا رسول الله، هذا غلام من بني النجار، وقد قرأ مما أنزل إليك سبع عشرة سورة. قال: فقرأت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعجبه ذلك، فقال: يا زيد، تعلم لي كتاب يهود، فإني والله ما آمن يهود على كتابي، قال: فتعلمته، فما مضى لي نصف شهر حتى حذقته، فكنت أكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كتب إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له.
وعن زيد بن ثابت قال: قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كل أحد، فهل تستطيع أن تعلم كتاب العبرانية أو قال السريانية؟ فقلت: نعم، قال: فتعلمتها في سبع عشرة ليلة.
قال زيد بن ثابت: كنت أكتب الوحي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقاً مثل الجمان، ثم سري عنه.
وعن البراء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ادع لي زيداً، وقل له: تجيء بالكتف والدواة أو اللوح والدواة فقل: اكتب: " لا يستوي القاعدون من المؤمنين ". أحسبه قال: والمجاهدون قال: فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، بعيني ضرر. فنزلت قبل أن يبرح: " غير أولي الضرر ".(9/115)
وعن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر الصديق: إن عمر أتاني فقال لي: إن القتل قد استحر بأهل اليمامة من قراء المسلمين، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن لا يوعى، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لهم: كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال عمر: هو والله خير. فلم يزل يراجعني بذلك حتى شرح الله بذلك صدري، فرأيت فيه الذي رأى عمر، فقال زيد بن ثابت، وعمر جالس عنده لا يتكلم: فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا تنهمك، وكنت تكتب الوحي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبع القرآن فاجمعه. قال زيد: فوالله لو كلفوني ثقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قال: فقلت: كيف تفعلون شيئاً لم يفعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر. قال: فكنت أتبع القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف، والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصار لم أجدهما مع أحدٍ غيره: " لقد جاءكم رسولٌ من أنفسك.. " فكانت الصحيفة التي جمعنا فيها القرآن عند أبي بكر حياته حتى توفاه الله، ثم عند عمر بن الخطاب حياته حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
قال ابن شهاب: ثم أخبرني أنس: أنه اجتمع لغزو أذربيجان وإرمينية أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن، فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة. قال: فركب حذيفة بن اليمان لما رأى اختلافهم في القرآن إلى عثمان بن عفان، فقال: إن الناس قد اختلفوا في القرآن حتى إني والله لأخشى أن يصيبهم ما أصاب اليهود والنصارى من الاختلاف. قال: ففزع لذلك عثمان بن عفان فزعاً شديدا، ً وأرسل إلى حفصة، فاستخرج الصحف التي كان أبو بكر أمر زيداً بجمعها، فنسخ منها المصاحف، فبعث بها إلى الآفاق، ثم لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن الصحف ليمزقها، وخشي أن يخالف بعض الكتاب بعضاً، فمنعته إياها. قال ابن شهاب: فحدثني سالم بن عبد الله قال: فلما توفيت حفصة أرسل إلي عبد الله بن عمر(9/116)
بعزيمةٍ ليرسلن بها. فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها عبد الله بن عمر إلى مروان، فغسلها، ومزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك اختلاف لما نسخ عثمان.
وعن أنس قال: جمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعةٌ كلهم من الأنصار، ومعاذ، وزيد بن ثابت، وأبو زيد رجل من الأنصار.
وعن عطية بن قيس الكلابي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب أن يقرأ غضاً أو غريضاً فليقرأه بقراءة زيد.
قال ابن سيرين: غلب زيد بن ثابت الناس بخصلتين: بالقرآن والفرائض.
وعن أبي محجن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أرأف الناس بهذه الأمة أبو بكر، وإن أقواها في أمر الله عمر، وإن أصدقها حياء عثمان، وإن أعلمها بفصل القضاء علي. وإن أقرأها أبي، وإن أفرضها زيد، وإن أعلمها بالناسخ والمنسوخ معاذ، وإن لكل أمة أميناً، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح.
وعن زيد بن ثابت قال: كانت وقعة بعاث وأنا ابن ست سنين، وكانت قبل هجرة رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس سنين، فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، وأنا ابن إحدى عشرة سنة، وأتي بي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: غلامٌ من الخزرج قد قرأ ست عشرة سورة، فلم أجز في بدر ولا أحد، وأجزت في الخندق.
قال محمد بن عمر:
كان زيد بن ثابت يكتب الكتابين جميعاً: كتاب العربية، وكتاب العبرانية. وأول مشهدٍ شهده زيد بن ثابت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق، وهو ابن خمس عشرة سنة، وكان ممن ينقل التراب يومئذ مع المسلمين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنه نعم الغلام، وغلبته عيناه يومئذ، فرقد، فجاء عمارة بن حزم فأخذ سلاحه، وهو لا يشعر، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رقاد، نمت حتى ذهب سلاحك، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من له علمٌ بسلاح(9/117)
هذا الغلام؟ فقال عمارة بن حزم: يا رسول الله، أنا أخذته. فرده، فنهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ أن يروع المؤمن، أو أن يؤخذ متاعه لاعباً جداً.
قال: وكانت راية بني مالك بن النجار في تبوك مع عمارة بن حزم، فأدركه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذها منه، فدفعها إلى زيد بن ثابت، فقال عمارة: يا رسول الله، بلغك عني شيءٌ؟ قال: لا ولكن القرآن يقدم، وكان زيد أكثر أخذاً منك للقرآن.
وفي حديث آخر بمعناه: والقرآن يقدم وإن كان عبداً أسود مجدعاً.
وعن أبي سعيد قال: لما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام خطباء الأنصار، فجعل بعضهم يقول: يا معشر المهاجرين، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا بعث رجلاً منكم قرنه برجل منا، فنحن نرى أن يلي هذا الأمر رجلان: رجل منكم، ورجل منا، فقام زيد بن ثابت فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من المهاجرين، وكنا أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يكون الإمام من المهاجرين، ونحن أنصاره كما كنا أنصار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال أبو بكر: جزاكم الله خيراً من حي يا معشر الأنصار، وثبت قائلكم، والله لو قلتم غير هذا ما صالحناكم.
قال مسروق: كان أصحاب الفتوى من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر، وابن مسعود، وزيد، وأبي بن كعب، وأبو موسى الأشعري.
قال الشعبي: القضاة أربعة، والدهاة أربعة، فأما القضاة فعمر، وعلي، وزيد، وابن مسعود، وأما الدهاة فمعاوية، وزياد، وعمرو، والمغيرة.
وقال مسروق: انتهى علم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ستة، فسمى عمر، وعلياً، وابن مسعود، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبا موسى.
وعن القاسم قال: كان عمر يستخلف زيد بن ثابت في كل سفر أو كل سفر يسافره وكان يفرق(9/118)
الناس في البلدان، ويوجهه في الأمور المهمة، ويطلب إليه الرجال المسمون، فيقال له: زيد بن ثابت. فيقول: لم يسقط علي مكان زيد، ولكن أهل البلد يحتاجون إلى زيد فيما يجدون عنده فيما يحدث لهم ما لا يجدون عند غيره.
قال سليم بن يسار: ما كان عمر وعثمان يقدمان على زيد بن ثابت أحداً في القضاء، والفتوى، والفرائض، والقراءة.
وقال عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: لما رد عبد الله بن الأرقم المفتاح استخزن عثمان زيد بن ثابت.
وعن خارجة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستخلف زيد بن ثابت إذا خرج إلى بعض أسفاره، فقلما رجع إلا أقطع زيداً حديقةً من نخل.
قال الشعبي: تنازع في جذاذ نخلٍ أبي بن كعب وعمر بن الخطاب، فبكى أبي، ثم قال: أفي سلطانك يا عمر؟ قال عمر: اجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين، قال أبي: زيد. قال: رضًى. فانطلقا حتى دخلا على زيد، فلما رأى زيد عمر تنحى عن فراشه، فقال له عمر: في بيته يؤتى الحكم. فعرف زيد أنهما جاءا ليتحاكما إليه، فقال عمر لأبي يقص. فقص، فقال له عمر: تذكر لعلك نسيت شيئاً فتذكر، ثم قص حتى قال: ما أذكر شيئاً. ثم قص عمر، فقال زيد: بينتك يا أبي. قال: ما لي بينة. قال: فأعف أمير المؤمنين من اليمين. فقال عمر: لا تعف أمير المؤمنين من اليمين إن رأيتها عليه.
زاد في حديث آخر بمعناه: ثم أقسم لا يدرك زيد بن ثابت القضاء حتى يكون عمر ورجل من عرض المسلمين عنده سواء.(9/119)
وعن نافع قال: استعمل عمر بن الخطاب زيد بن ثابت على القضاء، وفرض له رزقاً.
حدث سعيد بن عبد الرحمن بن رقيش قال: كان بنو عمرو بن عوف قد أجلبوا على عثمان، وكان زيد بن ثابت يذب عنه، فقال له قائل منهم: وما يمنعك؟ ما أقل والله من الخزرج من له من عضدان العجوة مالك! قال: فقال له زيد بن ثابت، اشتريت بمالي، وقطع لي إمامي عمر بن الخطاب، وقطع لي إمامي عثمان بن عفان.
فقال له ذلك الرجل: أعطاك عمر بن الخطاب عشرين ألف دينار؟ قال: لا، ولكن عمر كان يستخلفني على المدينة، فوالله ما رجع من مغيب قط إلا قطع لي حديقة من نخل.
ولما حصر عثمان أتاه زيد بن ثابت، فدخل عليه الدار، فقال له عثمان: أنت خارجٌ أنفع لي منك ههنا، فذب عني. فخرج، فكان يذب الناس، ويقول لهم فيه، حتى رجع لقوله أناس من الأنصار، وجعل يقول: يا للأنصار! كونوا أنصار الله مرتين انصروه، والله إن دمه لحرام. فجاء أبو حبة المازني مع ناس من الأنصار، فقال: ما يصلح لنا معك أمر، فكان بينهما كلام، ثم أخذ تلبيب زيد بن ثابت هو وأناسٌ معه، فمر به ناس من الأنصار، فلما رأوهم أرسلوه، وجعل رجل منهم يقول لأبي حبة: أتصنع هذا برجل له مات الليلة ما دريت ما ميراثك من أبيك؟! قال ابن شهاب: لو هلك عثمان وزيد في بعض الزمان لهلك علم الفرائض، لقد أتى على الناس زمان وما يعلمها غيرها.
وعن الحسين بن الفهم وبكير بن عبد الله الأشج قال: جل ما أخذ بن سعيد بن المسيب من القضاء ما يفتي به، وقال ابن الفهم: وما كان يفتي به عن زيد بن ثابت، وكان قل قضاء أو فتوى جليلةٌ ترد على ابن المسيب تحكى له عن(9/120)
بعض من هو غائب عن المدينة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم إلا قال: فأين زيد بن ثابت عن هذا؟ إن زيد بن ثابت أعلم الناس بما تقدمه من قضاء، وأبصرهم بما يرد عليه مما لم يسمع فيه بشيء، ثم يقول ابن المسيب: لا أعلم لزيد بن ثابت قولاً لا يعمل به، يجمع عليه في المشرق والمغرب، أو يعمل به أهل مصرٍ، وإنه ليأتينا عن غيره أحاديث وعلم ما رأيت أحداً من الناس يعمل بها، ولا من هو بين ظهرانيهم.
قال الزهري: لولا أن زيد بن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس.
قال ابن عباس: لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن زيد بن ثابت كان من الراسخين في العلم.
وعن عمار بن أبي عمار: أن زيد بن ثابت ركب يوماً، فأخذ ابن عباس بركابه، فقال: تنح يا بن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا. فقال زيد: أرني يدك. فأخرج يده فقبلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
قال ثابت بن عبيد: كان زيد بن ثابت من أفكه الناس في أهله، وأزمته عند القوم.
قال يحيى بن سعيد: لما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: مات خبر هذه الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفاً.
وعن سعيد بن المسيب قال: شهدت جنازة زيد بن ثابت، فلما دلي في قبره قال ابن عباس: من سره أن يعلم كيف ذهاب العلم فهكذا ذهاب العلم، والله لقد دفن اليوم علم كثير.(9/121)
قال عوف: بلغني أن ابن عباس قال لما دفن زيد بن ثابت: هكذا يذهب العلم وأشار إلى قبره يموت الرجل الذي يعلم الشيء لا يعلمه غيره فيذهب ما كان معه.
قال خارجة بن زيد: توفي أبي زيد قبل أن تصفر الشمس، فكان رأيي دفنه قبل أن أصبح، فجاءت الأنصار فقالت: لا يدفن إلا نهاراً يجتمع له الناس. فسمع مروان الأصوات، فأقبل يمشي حتى دخل علي فقال: عزيمةٌ مني أن يدفن حتى تصبح، فلما أصبحنا غسلناه ثلاثاً: الأول بالماء، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وكفناه في ثلاثة أثواب: أحدها برد كان كساه إياه معاوية، وصلينا عليه بعد طلوع الشمس، صلى عليه مروان بن الحكم، وأرسل مروا بجزرٍ فنحرت، وأطعمنا الناس. قال أبو الزناد: نزل نساء العوالي، وجاء نساء البلد من الأنصار، فجعل خارجة يذكرهن الله، ويقول: لا تبكين عليه. فقلن: لا نسمع كلامك في هذا، ولنبكين عليه ثلاثاً، فغلبنه، فبكين عليه ثلاثاً. قال: وأطعموا.
قال محمد بن عمر: ومات زيد بن ثابت بالمدينة سنة خمس وأربعين. وقيل: سنة خمس وخمسين، وقيل: سنة ثمان وأربعين، وقيل غير ذلك، وقال حسان بن ثابت: من الطويل
فمن للقوافي بعد حسان وابنه ... ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت
زيد بن حارثة بن شراحيل
ويقال: شرحبيل، بن كعب بن عبد العزى بن يزيد بن امرىء القيس بن عامر ابن النعمان بن عامر بن عبد ود سماه أبو بصنمه بن امرىء القيس ابن النعمان بن عمران بن عبد عوف بن كنانة بن عذرة بن زيد اللات ابن رفيدة بن وبرة بن كلب بن وبرة، ابو أسامة الكلبي حب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومولاه.(9/122)
حدث زيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بشر المشائين في الظلام إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة.
وعن زيد بن حارثة قال: خرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً حاراً من أيام مكة، وهو مردفي، إلى نصب من الأنصاب وقد ذبحنا له شاةً فأنضجناها. قال: فلقيه زيد بن عمرو بن نفيل، فحيا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا زيد! ما لي أرى قومك قد شنفوا لك؟ قال: والله يا محمد إن ذلك لبغير نائلة لي فيهم، ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالذي أبتغي، ثم خرجت حتى أقدم على أحبار خيبر، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به، فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت حتى أقدم على أحبار الشام، فوجدتهم يعبدون الله تعالى ويشركون به: فقلت: ما هذا بالدين الذي أبتغي، فخرجت، فقال لي شيخ منهم: إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخ بالجزيرة وقال ابن حمدان: بالحيرة قال: فخرجت حتى أقدم عليه، فلما رآني قال: ممن أنت؟ قلت: أنا من أهل بيت الله من أهل الشرط والفرط، فقال: إن الدين الذي تطلب قد ظهر ببلادك، قد بعث نبي طلع نجمه، وجمي من رأيتهم في ضلال، فلم أحس بشيء. قال: فقرب إليه السفرة، فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: شاة ذبحناها لنصب من هذه الأنصاب. قال:(9/123)
ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه. قال: وتفرقنا. قال زيد بن حارثة: فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيت، فطاف به وأنا معه بالصفا وكان عند الصفا والمروة صنمان من نحاس، أحدهما يقال له: إسافٌ، والآخر نائلة، وكان المشركون إذا طافوا بهما قالوا: تمسحوا بهما. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تمسحهما فإنهما رجس، فقلت في نفسي: لأمسهما حتى أنظر ما يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمستهما، فقال: يا زيد ألم تنه؟ ومات زيد بن عمرو بن نفيل وأنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد: إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وفي حديث آخر بمعناه: قال زيد: فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنماً حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب.
وزاد ابن سعد زيد الحب على ابن وبرة فقال: وبرة بن ثعلبة بن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة واسمه عمرو، وإنما سمي قضاعة لأنه انقضع عن قومه، ابن مالك بن عمرو بن مرة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وإلى قحطان جماع اليمن.
وأم زيد بن حارثة سعدى بنت ثعلبة بن عبد عامر بن أفلت بن سلسلة من بني معن من طيىء. فزارت سعدى أم زيد بن حارثة قومها، وزيد معها، فأغارت خيل لبني القين بن جسر في الجاهلية، فمروا على أبيات بني معن رهط أم زيد، فاحتملوا زيداً، وهو(9/124)
يومئذ غلام يفعة قد أوصف، فوافوا به سوق عطاظ، فعرضوه للبيع، فاشتراه منهم حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى لعمته خديجة بنت خويلد بأربع مئة درهم، فلما تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهبته له، فقبضه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان أبوه حارثة بن شراحيل حين فقده قال أبياتاً منها: من الطويل
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل
فو الله ما أدري وإن كنت سائلاً ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعةٌ ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرنيه الشمس عند طلوعها ... وتعرض ذكراه إذا قارب الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول ما حزني عليه وما وجل
سأعمل نص العيس في الأرض جاهداً ... ولا أسأم التطواف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي ... وكل امرىءٍ فانس وإن غره الأمل
وأوصي به قيساً وعمراً كليهما ... وأوصي يزيداً ثم من بعدهم جبل
يعني: جبلة بن حارثة أخا زيد، وكان أكبر من زيد، ويعني بيزيد: أخا زيد لأمه وهو يزيد بن كعب بن شراحيل. قال: فحج ناس من كلب، فرأوا زيداً، فعرفهم وعرفوه، فقال: أبلغوا أهلي هذه الأبيات فإني أعلم أنهم قد جزعوا علي، وقال: من الطويل
ألكني إلى قومي وإن كنت نائياً ... بأني قطين البيت عند المشاعر
فكفوا من الوحيد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرةٍ ... كرام معد كابراً بعد كابر
قال: فانطلق الكلبيون، فأعلموا أباه فقال: ابني ورب الكعبة. ووصفوا له(9/125)
موضعه، وعند من هو، فخرج حارثة وكعب ابنا شراحيل بفدائه، وقدما مكة، فسألا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل: هو في المسجد، فدخلا عليه، فقالا: يا بن عبد الله، يا بن عبد المطلب، يا بن هاشم، يا بن سيد قومه، أنتم أهل حرم الله وجيرانه، وعند بيته تفكون العاني، وتطعمون الأسير، جئناك في ابتياع عبدك، فامنن علينا، وأحسن إلينا في فدائه، فإنا سنرفع لك في الفداء، قال: ما هو؟ قالوا: زيد بن حارثة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فهلا غير ذاك؟ قالوا: ما هو؟ قال: أدعوه، فخيروه، فإن اختاركم فهو لكم بغير فداء، وإن اختارني فوالله ما أنا بالذي أختار على من اختارني أحداً. قالا: قد زدتنا على النصف وأحسنت. قال: فدعاه، فقال: هل تعرف هؤلاء؟ قال: نعم. قال: من هما؟ قال: هذا أبي، وهذا عمي. قال: فأنا من قد علمت، ورأيت صحبتي لك، فاخترني أو اخترهما. فقال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحداً. أنت مني بمكان الأب والعم. فقالا: ويحك يا زيد! أتختار العبودية على الحرية، وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك؟ قال: نعم، إني قد رأيت من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً أبداً. فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك أخرجه إلى الحجر فقال: يا من حضر، اشهدوا أن زيداً ابني أرثه ويرثني. فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما، فانصرفا، فدعي: زيد بن محمد، حتى جاء الله بالإسلام، وزوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت جحش بن رياب الأسدية، وأمها أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم، فطلقها زيد بعد ذلك، فتزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فتكلم المنافقون في ذلك، وطعنوا فيه، وقالوا: محمد يحرم نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه زيد، فأنزل الله عز وجل: " ما كان محمد أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين.. " إلى آخر الآية، وقال: " ادعوهم لآبائهم "، فدعي يومئذ زيد بن حارثة، ودعي الأدعياء إلى آبائهم، فدعي المقداد إلى عمرو، وكان يقال له قبل ذلك: المقداد بن الأسود، وكان الأسود بن عبد يغوث الزهري قد تبناه.
واستشهد زيد في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم مؤتة مع جعفر بن أبي طالب سنة سبع.(9/126)
وشهد زيد بدراً، وآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين حمزة.
وعن علي قال: أسلم زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أول ذكر أسلم وصلى بعد علي بن أبي طالب.
قال محمد بن إسحاق: وأظهر علي وزيد بن حارثة إسلامهما فكبر ذلك على قريش، وكان أول من اتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خديجة بنت خويلد زوجته، ثم كان أول ذكر آمن به علي، وهو يومئذ ابن عشر سنين، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو بكر الصديق عليهم السلام.
قالت زينب بنت جحش: خطبني عدة من قريش، فأرسلت أختي حمنة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستشيره، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين هي ممن يعلمها كتاب ربها عز وجل وسنة نبيها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: ومن هو يا رسول الله!؟ قال: زيد بن حارثة قالت: فغضبت حمة غضباً شديداً، وقالت: يا رسول الله! أتزوج ابنة عمتك مولاك؟! قالت: وجاءتني فأخبرتني، فغضبت أشد من غضبها، وقلت أشد من قولها، فأنزل الله عز وجل: " وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم " فأرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زوجني من شئت. فزوجني زيد بن حارثة، فأخذته بلساني، فشكاني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " أمسك عليك زوجك واتق الله ". فقال: أطلقها يا رسول الله. فطلقني، فلما انقضت عدتي لم أعلم إلا ورسول الله قد دخل علي وأنا مكشوفة الشعر، فلما رأيت ذلك علمت أنه من أمر السماء، فقلت: يا رسول الله! بلا خطبةٍ، ولا أشهاد؟ قال: الله عز وجل المزوج وجبريل الشاهد.
وعن الكلبي وشرقي بن قطامي وغيرهما قالوا:
أقبلت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مهاجرة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فخطبها الزبير بن العوام وزيد بن حارثة وعبد الرحمن بن عوف، وعمرو بن العاص،(9/127)
فاستشارت أخاها لأمها عثمان بن عفان، فأشار عليها أن تأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتته، فأشار عليها زيد بن حارثة، فتزوجته فولدت له زيد بن زيد، ورقية، فهلك زيد وهو صغير، وماتت رقية في حجر عثمان، وطلق زيد بن حارثة أم كلثوم وتزوج درة بنت أبي لهب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير بن العوام، ثم زوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم أيمن حاضنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومولاته، وجعل له الجنة، فولدت له أسامة فكان يكنى به.
وشهد زيد بدراً، وأحداً، واستخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المدينة حين خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المريسيع، وشهد الخندق، والحديبية، وخيبر، وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن جبلة أخي زيد قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لم يغز لم يعط سلاحه إلا علياً أو زيداً.
وعن أسامة بن زيد قال: اجتمع جعفر وعلي وزيد بن حارثة، فقال جعفر: أنا أحبكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال علي: أنا أحبكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال زيد: أنا أحبكم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: انطلقوا بنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نسأله. قال أسامة: فجاؤوا يستأذنونه، فقال: آخر فانظر من هؤلاء. فقلت: هذا جعفر، وعلي، وزيد ما أقول أبي قال: ائذن لهم، فدخلوا، فقالوا: يا رسول الله، من أحب إليك؟ " قال: فاطمة قالوا: نسألك عن الرجال. قال: أما أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي، وأشبه خلقي خلقك، وأنت مني وشجرتي. وأما أنت يا علي فحبيبي وأبو ولدي، وأنا منك، وأنت مني، وأما أنت يا زيد فمولاي ومني وإلي، وأحب القوم إلي. " وفي حديث آخر بمعناه: وأما أنت يا علي فختني وأبو ولدي.
وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال حين أمر أسامة بن زيد وبلغه أن الناس عابوا إمارته فطعنوا فيها، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس فقال: " ألا إنكم تعيبون أسامة وتطعنون في إمارته، وقد فعلتم(9/128)
ذلك بأبيه من قبل، وإن كان لخليقاً بالإمارة، وإن كان لأحب الناس إلي، فاستوصوا به خيراً، فإنه من خياركم ". قال سالم: ما سمعت عبد الله تحدث بهذا الحديث قط إلا قال: والله ما حاشا فاطمة.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: أتانا زيد بن حارثة، فقام إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجر أثوابه، فقبل وجهه، قالت عائشة: وكانت أم قرفة جهزت أربعين راكباً من ولدها وولد ولدها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقاتلوه، فأرسل إليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة فقتلهم، وقتل أم قرفة، وأرسل بدرعها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنصبه بالمدينة بين رمحين.
وعنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرياناً قط إلا مرة واحدة، جاء زيد بن حارثة من غزوة يستفتح، فسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صوته، فقام عرياناً يجر ثوبه، فقبله.
وعن عائشة قالت: ما بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة في جيش إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده استخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عمر: أن عمر فرض لأسامة بن زيد أكثر مما فرض لي يعني ابن عمر لنفسه قال: فقلت له في ذلك، فقال: إنه كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، وإن أباه أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبيك.
وعن ثابت بن الحجاج قال: لما نزلت هذه الآية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون " قال زيد بن حارثة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم، إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه،(9/129)
فتصدق بها للمساكين، فأقاموها للبيع، وكانت تعجب زيداً، فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أشتريها؟ فنهاه أن يشتريها.
وعن عمرو بن دينار قال:
لما نزلت هذه الآية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". جاء زيد بفرس له، فقال: تصدق بهذا يا رسول الله. فأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنه أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إنما أردت أن أتصدق به فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد قبلت صدقتك.
كانت مؤته في جمادى الأول سنة ثمان من الهجرة، وقتل زيد يومئذٍ وهو ابن خمسٍ وخمسين سنة.
ولما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام، وهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة، وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا!؟ فمضى قدماً حتى استشهد. فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: استغفروا له، وقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان، فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا، فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا!؟ ثم مضى قدماً حتى استشهد. فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا له، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استغفروا لأخيكم، فإنه شهيد، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة، ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد، ثم دخل الجنة معترضاً، فشق ذلك على الأنصار، فقيل: يا رسول الله ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد، فدخل الجنة، فسري عن قومه.(9/130)
وعن محمد بن عمر بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً دون ذلك، فقلت: ما كنت أظن أن زيداً دون جعفر، فأتاه جبريل فقال: إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفراً لقرابته منك.
وعن خالد بن سلمة المخزومي قال: لما جاء مصاب زيد وأصحابه أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منزله بعد ذلك، فلقيته ابنته، فلما رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجهشت في وجهه بالبكاء، فلما رآها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى حتى انتحب، فقيل: ما هذا يا رسول الله؟ قال: هذا شوق الحبيب إلى الحبيب.
وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني رفعت إلى الجنة، فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت يا جارية؟ قالت: لزيد بن حارثة، وإذا أنا بأنهار ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذةٍ للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، ورمانها كأنه الدلاء عظماً، وإذا بطائرها كأنه بختكم هذه، فقال عندها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
زيد بن الحسن بن علي
ابن أبي طالب العلوي الحسني والد الحسن بن زيد أمير المدينة. وفد على الوليد بن عبد الملك لخصومة وقعت بينه وبين أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية في ولاية صدقات علي بالمدينة.
قال محمد بن المهاجر قاضي اليمامة: سألت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى عن متعة النساء ويقول: هي حرام إلى يوم القيامة.
وحدث زيد بن أبيه الحسن بن علي بن أبي طالب: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا توضأ نضل موضع سجوده بماء حتى يسليه على موضع السجود.(9/131)
وعن زيد بن الحسن: أنه رأى ابن عباس تطيب بالمسك.
وعن أبي معشر قال:
كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته أنها إلى ذي الدين والفضل من أكابر ولده. قال: فانتهت صدقته في زمن الوليد بن عبد الملك إلى زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فنازعه فيها أبو هاشم عبد الله بن محمد فقال: أنت تعلم أني وإياك في النسب سواء إلى جدنا علي، وإن كانت فاطمة لم تلدني وولدتك، فإن هذه الصدقة لعلي، وليست لفاطمة، وأنا أفقه منك وأعلم بالكتاب والسنة، حتى طالت المنازعة بينهما، فخرج زيد من المدينة إلى الوليد بن عبد الملك، وهو بدمشق، فكبر عنده على أبي هاشم، وأعلمه أن له شيعة بالعراق يتخذونه إماماً، وأنه يدعو إلى نفسه حيث كان، فوقع ذلك في نفس الوليد، ووقر في صدره، وصدق زيداً فيما ذكر، وحمله منه على جهة النصيحة، وتزوج نفيسة ابنة زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكتب الوليد إلى عامله بالمدينة في إشخاص أبي هاشم إليه، وأنفذ بكتابه رسولاً قاصداً يأتي بأبي هاشم، فلما وصل إلى باب الوليد أمر بحبسه في السجن فمكث فيه مدة.
فوفد في أمره علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقدم على الوليد، فكان أول ما افتتح به كلامه حين دخل عليه أنه قال: يا أمير المؤمنين، ما بال آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان يتقربون بآبائهم فيكرمون ويحبون، وآل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقربون به فلا ينفعهم ذلك!؟ فيم حبست ابن عمي عبد الله بن محمد طول هذه المدة؟ قال: بقول ابن عمكما زيد بن الحسن، فإنه أخبرني أن عبد الله بن محمد ينتحل اسمي، ويدعو إلى نفسه، وأن له شيعة بالعراق، وقد اتخذوه إماماً. قال له علي بن الحسين: أو ما يمكن أن يكو بين ابني العم منازع ووحشة كما يكون بين الأقارب، فيكذب أحدهما على الآخر؟ وهذان كان بينهما كذا وكذا، فأخبره خبر صدقة علي بن أبي طالب وما جرى فيها، حتى زال عن قلب الوليد ما كان قد خامره، ثم قال له: فأنا أسألك بقرابتنا من نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خليت سبيله. فقال: قد فعلت. فخلى سبيله، وأمره أن يقيم بحضرته.
فأقام أبو هاشم بدمشق يحضر مجلس الوليد، ويكثر عنده ويسامره، حتى إذا كان(9/132)
ذات ليلة أقبل عليه الوليد فقال: يا أبا البنات، لقد أسرع الشيب إليك، فقال له أبو هاشم: أتعيرين بالبنات؟ فقد كان نبي الله شعيب أبا بنات، وكان نبي الله لوط أبا بنات، وكان محمد خير البرية صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أبا بنات، فأي عيب فيما عيرتني به؟ فغضب الوليد من قوله، وقال له: إنك رجل تحب المماراة، فارحل عن جواري. قال: نعم والله أرحل عنك، فما الشام لي بوطن، ولا أعرج فيها على شجن، ولقد طال فيها همي، وكثر فيها ديني، وما أنا لك بحامد، ولا إلى جوارك بعائد. ونهض، وقد أحفظ الوليد، فخرج عن دمشق متوجهاً إلى المدينة، فدس إليه إنساناً يبيع اللبن وفيه السم، وكان عبد الله يحب اللبن ويشتهيه، فلما سمعه ينادي على اللبن تاقت إليه نفسه، فاشتري له منه، فشربه فأوجعه بطنه، واشتد به الأمر، فأمر أصحابه فعدلوا به إلى الحميمة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فنزل عليه، فمرضه وأحسن إليه. فلما حضرته الوفاة أوصى إلى محمد بن علي ببيته وعلمه وأشيائه كلها، وأمر شيعته الكيسانية بالائتمام به فدفن.
وقيل إن الذي سم أبا هاشم سليمان بن عبد الملك، وسنذكر ذلك في ترجمته.
قال نجيح السندي: رأيت زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب يأتي الجمعة من ثمانية أميال.
زيد بن الحواري أبو الحواري
العمي البصري يقال إنه مولى زياد بن أبيه، وفد على سليمان بن عبد الملك، وشهد وفاته بمرج دابق، وكان قاضياً بهراة في ولاية قتيبة بن مسلم.
حدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ستر بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزع ثوبه أن يقول: بسم الله.
وحدث زيد العمي عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سألت ربي عز وجل فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحى الله إلي: يا محمد،(9/133)
إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم من السماء بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هدى.
وروى زيد العمي عن أبي الصديق الناجي، أراه عن أبيه سعيد الخدري: أن رجلاً ضرب على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شراب بنعلين أربعين.
قال علي بن مصعب:
سمي زيد العمي لأنه كلما سئل عن شيء قال: حتى أسأل عمي.
زيد بن سهل بن الأسود بن حرام
ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو طلحة الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقال: سهل بن زيد، والأول أصح سكن الشام، أنصاري نجاري.
قال ابن سعد: اسم النجار تيم الله، وإنما سمي النجار لأنه نجر وجه رجلٍ بالقدوم، فلذلك سمي النجار.
حدث أبو طلحة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة ".
وعن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة، ومعاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجراح يشربون بالشام الطلاء ما طبخ على الثلث، وذهب ثلثاه، وبقي ثلثه.(9/134)
شهد زيد بن سهل العقبة، وبدراً، وأحداً، والخندق، والمشاهد كلها مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوفي بالشام، وعاش بعد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين سنة يسرد الصوم.
وعن ثابت عن أنس قال: جاء أبو طلحة يخطب أم سليم فقالت: إنه لا ينبغي أن أتزوج مشركاً، أما تعلم يا أبا طلحة أن آلهتكم التي تعبدون ينحتها عبد بني فلان، وأنكم لو أشعلتم فيها ناراً لاحترقت؟ قال: فانصرف عنها، ووقع في قلبه من ذلك موقعاً، قال: وجعل لا يجيئه نوم. قال: فأتاها.
وفي حديث آخر بمعناه: فإن تسلم فذلك مهري ما أسألك غيره، فأسلم، فتزوجها. قال ثابت: فما سمعنا بمهرٍ قط كان أكرم من مهر أم سليم: الإسلام.
وكان مالك أبو أنس قال لامرأته أم أنس: أرى هذا الرجل يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرم الخمر، فانطلق حتى أتى الشام، فهلك هنالك مشركاً، فجاء أبو طلحة يخطب أم سليم، فكلمها في ذلك، فقالت: يا أبا طلحة، ما مثلك يرد، ولكنك امرؤ كافر، وأنا امرأة مسلمة، لا يصلح أن أتزوجك. فقال: ما ذاك دهرك. قالت: وما دهري؟ قال: الصفراء والبيضاء، قالت: فإني لا أريد صفراء ولا بيضاء، أريد منك الإسلام. قال: فمن لي بذلك؟ قالت: لك بذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فانطلق أبو طلحة يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في أصحابه، فلما رآه قال: جاءكم أبو طلحة غرة الإسلام بين عينيه. فجاء، فأخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قالت أم سليم، فتزوجها على ذلك، وكانت امرأة مليحة العينين، فيها صعر، فكانت معه حتى ولدت منه ولداً، وكان يحب أبو طلحة حباً شديداً، فمرض الصبي، وتضعضع أبو طلحة لمرضه، فانطلق أبو طلحة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات الصبي، فقالت أم سليم: لا ينعين إلى أبي طلحة أحدٌ ابنه حتى أكون أنا أنعاه له، وجاء أبو طلحة من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل عليها، فقال: كيف ابني؟ فقالت: يا أبا طلحة، ما كان منذ اشتكى أسكن منه الساعة(9/135)
قال: فلله الحمد. فأتته بعشائه، فأصاب منه، ثم قامت فتطيبت، وتعرضت له، فأصاب منها، فلما علمت أنه قد طعم، وأصاب منها قالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قوماً أعاروا قوماً عارية لهم فسألوهم إياها أكان لهم أن يمنعوهم؟ فقال: لا، قالت: فإن الله عز وجل كان أعارك ابنك عارية ثم قبضه إليه، فاحتسب ابنك، واصبر. فغضب ثم قال: تركتني حتى إذا وقعت بما وقعت به نعيت إلي ابني؟ ثم غدا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بارك الله لكما في غابر ليلتكما ". وفي رواية: فقال: والذي بعثني بالحق لقد قذف الله في رحمها ذكراً بصبرها على ولدها، فثمر حملها.
وكانت أم سليم تسافر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تخرج معه إذا خرج، وتدخل معه إذا دخل، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا ولدت أم سليم فائتوني بالصبي ". فأخذها الطلق ليلة قربهم من المدينة. قالت: اللهم إني كنت أدخل إذا دخل نبيك، وأخرج إذا خرج نبيك، وقد حضرنا هذا الأمر. فولدت غلاماً حين قدما المدينة، فقالت لابنها أنس: انطلق بالصبي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يسم إبلاً وغنماً، فلما نظر إليه قال لأنس: أولدت أم ملحان؟ قال: نعم. فألقى ما في يده، فتناول الصبي، فقال: ائتوني بتمرات عجوة، فأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التمر فجعل يحنك الصبي، وجعل الصبي يتلمظ، فقال: انظروا إلى حب الأنصار التمر، فحنكه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسماه عبد الله. قال ثابت: وكان يعد من خيار المسلمين.
وعن أنس قال: قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، فما منهم أحد إلا وهو يميد من النعاس تحت حجفته.
وعن أنس قال: لما كان يوم أحد انهزم ناسٌ من الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو طلحة بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مجوباً عليه بحجفةٍ له. قال: وكان أبو طلحة رجلاً رامياً شديد(9/136)
النزع، كسر يومئذ قوسين أو ثلاثة، قال: وكان الرجل يمر معه الجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة، قال: فيشرف نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إلى القوم، قال: فيقول أبو طلحة: يا نبي الله، بأبي أنت، لا تشرف، لا يصيبك سهم من سهام القوم، نحري دون نحرك، قال: فلقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لمشمرات أرى خدم سوقهما تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، وترجعان فتملانها ثم تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم، ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة إما مرتين وإما ثلاثاً من النعاس.
وعن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: صوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من فئةٍ. وكان إذا بقي مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جثا بين يديه وقال: نفسي لنفسك الفداء، ووجهي لوجهك الوقاء، وفي رواية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لصوت أبي طلحة في الجيش خيرٌ من ألف رجل.
وفي رواية: خير من أربعين رجلاً. وكان في كنانته خمسون سهماً، فنثرها بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جعل يصيح: يا رسول الله، نفسي دون نفسك، فلم يزل يرمي بها سهماً سهماً. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلع رأسه من خلف أبي طلحة بين رأسه ومنكبه ينظر إلى واقع النبل حتى فنيت نبله، وهو يقول: نحري دون نحرك، جعلني الله فداك. فإن كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأخذ العود من الأرض فيقول: ارم يا أبا طلحة، فيرمي به سهماً جيداً.
وكان الرماة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المذكور منهم: سعد بن أبي وقاص، والسائب بن عثمان بن مظعون، والمقداد بن عمرو، وزبد بن حارثة، وحاطب بن أبي بلتعة، وعتبة بن غزوان، وخراش بن الصمة، وقطبة بن عامر بن حديدة، وبشر بن البراء بن معرور، وأبو نائلة سلكان بن سلامة، وأبو طلحة، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وقتادة بن النعمان.(9/137)
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين: من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه، فجاء أبو طلحة بسلب أحدٍ وعشرين رجلاً.
وعن أنس بن مالك قال: رمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجمرة يوم النحر، ثم انصرف، ونحر البدن، ثم جاء والحلاق جالس فجلس ثم أخذ شقي شعره الأيمن بيده، فقال للحلاق: احلق، فحلق ذلك البشق، ثم قسمه بين من يليه من الناس الشعرة والشعرتين، ثم أخذ الشق الآخر فقال للحلاق: احلق، فحلق، ثم قال: ههنا أبو طلحة؟ فقام أبو طلحة، فدفعه إليه.
وفي حدي آخر بمعناه: فكان أول من قام فأخذ من شعره أبو طلحة، ثم قال الناس فأخذوا.
وعن أنس بن مالك قال:
كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً من نخلٍ، وكان أحب أمواله إليه بيرحا، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخلها، ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزل الله عز وجل هذه الآية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". قام أبو طلحة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل يقول: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون "، وإن أحب أموالي إلي بيرحا، فإنها صدقة الله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بخٍ، ذلك مالٌ رابحٌ، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن(9/138)
تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وعن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية: " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ". قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن ربنا يسألنا من أموالنا، فإني أشهدك أني قد جعلت أرضي التي بأريحا لله عز وجلن فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعلها في قرابتك، قال: فقسمها بين أبي بن كعب، وحسان بن ثابت.
وعن عبد الله بن أبي بكر: أن أبا طلحة كان يصلي في حائط له، فطار دبسي، فطفق يتردد يلتمس مخرجاً، فلم يجده لالتفاف النخل، فأعجبه ذلك، فأتبعه بصره ساعة، ثم رجع فإذا هو لا يدري كم صلى، فقال: لقد أصابتني في مالي هذا فتنةٌ، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر ذلك له، وقال: يا رسول الله، هو صدقةٌ، فضعه حيث أراك الله عز وجل.
وعن سعد أو سعيد بن عامر الجمحي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: يا أبا بكر تعال، ويا عمر تعال، إني أمرت أن أؤاخي بينكما بوحيٍ أنزل علي من السماء، فأنتما أخوان في الدنيا وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه، وليصافحه، فأخذ أبو بكر بيد عمر، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تكون قبله، وتموت قبله. يا زبير تعال، أمرت أن أؤاخي بينكما، فأنتما أخوان في الدنيا، وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه، وليصافحه، ففعلا، ثم قال لأبي عبيدة بن الجراح ولسالم مولى أبي حذيفة مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لأبي بن كعب ولابن مسعود مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لمعاذ ولثوبان مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لأبي طلحة ولبلال مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لأبي الدرداء وسلمان مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لسعد بن أبي وقاص وصهيب مثل ذلك ففعلا، ثم قال لأبي ذر ولهلال مولى المغيرة بن شعبة مثل ذلك، ففعلا، ثم قال لأبي أيوب الأنصاري ولعبد الله بن سالم مثل ذلك، ففعلا، ثم قال: يا أخي يا أسامة تعال، ويا أبا هند تعال حجاماً كان يحجم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي شرب من(9/139)
دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهما مثل ذلك ففعلا. قال: فالتفت عبد الرحمن بن عوف إلى عثمان بن عفان فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكنا، ما لنا لا يلتفت إلينا؟ نعوذ بالله من معتبته ومن موجدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالتفت إليهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والله ما الله لكما بماقتٍ، ولا رسوله عليكما بواحدٍ، وإنكما لتكرمان على الله وعلى رسوله وعلى ملائكته ولكني أردت أن أدعو بكما، نهاني الملك الذي نزل بهذا الأمر من عند الله، فقال: أخرهما فإنهما غنيان، وإنما أخرتكما لأموالكما، وكذلك يحاسب الناس يوم القيامة، يعجل حساب الفقير ويؤخر حساب الأغنياء، وهم في الحبس الشديد، وأنتما أخوان في الدنيا، وأخوان في الجنة، فليسلم كل واحد منكما على صاحبه ويصافحه. ثم قال لهما: أرضيتما؟ قالا: نعم، الحمد لله الذي لم يفضحنا. فقال لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا أزيدكما؟ قالا: بلى يا رسول الله. قال: فإنكما أخوان في هذه الدار وفي دار الجن كأخي الياس ومؤمن آل فرعون ياسين: إن الياس كان أحب الناس إلى مؤمن آل ياسين، فبعث الله عز وجل جبريل إلى الياس أن الله قد آخى بينك وبين عبده المقتول ظلماً، فأنا أشهد الله وأشهدكما أني قد واخيتكما جميعاً في هذه الدار وفي دار الآخرة، فأنتم خير الناس مأدبة العرب وموالي، وأمرت أن أؤاخي بين فاطمة بنت محمد وأم سليم، هنيئاً لأم سليم بلطفها برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمرت أن أؤاخي بين عائشة بنت أبي بكر وبين امرأة أبي أيوب، ألا جزى الله آل أبي طلحة وآل أبي أيوب، كما صلى على محمد وآل إبراهيم.
وعن أنس بن مالك: ذكر أن أبا طلحة كان يأتي أهله، فيدعو بغدائه، فيقال: لم يصبح عندنا غداءٌ، فيقول: إني صائم.
وعن أنس قال: كان أبو طلحة لا يكثر الصوم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مات كان لا يفطر إلا في سفر أو مرض.
وعن أنس قال: كان أبو طلحة لا يكاد يصوم على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل الغزو، فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أره مفطراً إلا يوم الأضحى ويوم الفطر.(9/140)
وفي حديث آخر مثله: فصام بعده أربعين سنة، لا يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر زاد في رواية: أو من مرض.
وعن أنس قال: مطرت السماء برداً، فقال لنا أبو طلحة، ونحن غلمان: ناولني يا أنس من ذلك البرد. فجعل يأكل وهو صائم، فقلت: ألست صائماً؟ قال: بلى، إن ذا ليس بطعام ولا شراب، وإنما هو بردٌ من السماء نطهر به بطوننا. قال: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، قال: خذ عن عمك.
وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية: " انفروا خفاقاً وثقالاً ". قال: أرى ربنا قد استنفرنا شيوخاً وشباناً، فقال لبنيه: جهزوني. فقالوا: قد غزوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان حتى ماتوا، فنحن نغزو عنك. فأبى، فركب البحر فمات فيه، فدفنوه في جزيرة بعد سابعة، ولم يضل منه شيءٌ.
وفي رواية: ولم يتغير.
وقيل: إنه ركب البحر غازياً، فأصابه البطن، فمات.
وقيل: إنه توفي بالشام، قيل: إنه مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة أربع وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة، وصلى عليه عثمان في آخر خلافته، وكان أبو طلحة رجلاً آدم مربوعاً لا يغير شيبه. وقيل: مات بالمدينة.
زيد بن سلام بن أبي سلام
ممطور الأسود الحبشي من أهل دمشق، ووقع إلى اليمامة.
حدث زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين سورة(9/141)
البقرة وسورة آل عمران: فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ".
كان زيد بن سلام ثقةً صدوقاً.
زيد بن صوحان بن حجر
ابن الحارث بن الهجرس بن صبرة بن حدرجان بن عساس بن ليث ينتهي نسبه إلى ربيعة بن نزار. أبو عائشة، ويقال: أبو سلمان ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو سليمان العبدي ويقال: أبو مسلم. أخو صعصعة بن صوحان.
له وفادة على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من جملة من سيره عثمان بن عفان من أهل الكوفة إلى دمشق.
حدث زيد بن صوحان عن أبي كعب أنه قال:
وجدت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مئة دينار، فذكرت له أمرها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عرفها حولاً، قال: فقلت له: أرأيت إن لم أجد صاحبها؟ قال: استنفقها، قال: ورد علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعريفها ثلاث مرات كلما راجعته فيها.
وعن زيد بن صوحان قال: قال عمر: ما يمنعكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس ألا تعربوا عليه؟ قالوا: نتقي لسانه. قال: ذلك أدنى ألا تكونوا شهداء.
وعن حميد بن هلالٍ قال: قام زيد بن صوحان إلى عثمان بن عفان فقال: يا أمير المؤمنين، ملت فمالت أمتك،(9/142)
اعتدل تعتدل أمتك، ثلاث مرات. قال: أسامعٌ مطيع أنت؟ قال: نعم. قال: الحق بالشام. قال: فخرج من فوره ذلك، فطلق امرأته، ثم لحق بحيث أمره، وكانوا يرون الطاعة عليهم حقاً.
وذكر البلاذري في كتاب جمل أنسب الأشراف قال: قالوا: ولما خرج المسيرون من قراء أهل الكوفة فاجتمعوا بدمشق نزلوا مع عمرو بن زرارة، فبرهم معاوية، وأكرمهم، ثم إنه جرى بينه وبين الأشتر قولٌ حتى تغالطا فيه، فحبسه معاوية، فقام عمرو بن زرارة فقال: لئن حبسته لتجدن من يمنعه. فأمر بحبس عمرو، فتكلم سائر القوم فقالوا: أحسن جوارنا يا معاوية، ثم سكتوا، فقال لهم معاوية: ما لكم لا تكلمون؟ فقال زيد بن صوحان: وما نصنع بالكلام؟ لئن كنا ظالمين فنحن نتوب إلى الله، وإن كنا مظلومين فإنا نسأل الله العافية. فقال معاوية: يا أبا عائشة، أنت رجل صدقٍ، وأذن له في اللحاق بالكوفة، وكتب إلى سعيد بن العاص: أما بعد. فإني قد أذنت لزيد بن صوحان في المصير إلى منزله بالكوفة لما رأيت من فضله وقصده وحسن هديه، فأحسن جواره، وكف الأذى عنه، وأقبل إليه بوجهك وودك، فإنه قد أعطاني موثقاً ألا ترى منه مكروهاً. فشكر زيدٌ معاوية، وسأله عند وداعه إخراج من حبس ففعل.
قال غيلان بن جرير: كان زيد بن صوحان مؤاخياً لسلمان، فاكتنى من حبه أبا سلمان.
قتل زيد بن صوحان يوم الجمل مع علي بن أبي طالب سنة ست وثلاثين.
وعن الحارث الأعور قال: كان ممن ذكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير، وهو زيد بن صوحان. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيكون بعدي رجل من التابعين وهو زيد الخير يسبقه بعض أعضائه إلى الجنة بعشرين سنة، فقطعت يده اليسرى بنهاوند، ثم عاش بعد ذلك عشرين سنة، ثم قتل،(9/143)
يوم الجمل بين يدي علي، وقال قبل أن يقتل: إني رأيت يداً خرجت من السماء تشير إلي أن تعال، وأنا لاحق بها يا أمير المؤمنين، فادفنوني في دمي: فإني مخاصمٌ القوم.
وحدث جماعة من الرواة قال: كانوا في مسير مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسوق بهم، فقال: زيد وما زيد! جندب، وما جندب! ثم قال: رجلان من أمتي أحدهما يسبقه بعض جسده إلى الجنة ثم يتبعه سائر جسده إلى الجنة، وأما الآخر فيفرق بين الحق والباطل، وجندب هو الذي قتل الساحر بالكوفة.
حدث هشام بن محمد: أن زيد بن صوحان أصيبت يده في بعض فتوح العراق، فتبسم والدماء تشخب، فقال له رجل من قومه: ما هذا موضع تبسم! فقال زيد: ألم حل يفوته ثواب الله عز وجل عليه، أفأردفه بألم الجزع الذي لا جدوى فيه، ولا دريكة لفائت معه؟ وفي تبسمي تعزية لبعض المؤتسين من المؤمنين. فقال الرجل: أنت أعلم بالله مني.
وعن إبراهيم قال: كان زيد بن صوحان يحدث، فقال أعرابي: إن حدثتك ليعجبني، وإن يدك لتريبني، فقال: أو ما تراها الشمال؟. فقال: والله ما أدري، اليمين يقطعون أم الشمال. فقال زيد: صدق الله: " الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ". فذكر الأعمش أن يد زيدٍ قطعت يوم نهاوند.
وعن الحكم بن عتيبة: أن زيد بن صوحان كان عند عمر، فقام إليه عمر، وهو يريد أن يركب دابته، فأمسك بركابه، ثم قال لمن حضره: هكذا فاصنعوا بزيد وإخوته وأصحابه.(9/144)
قال حميد بن هلال:
كان زيد بن صوحان يقوم الليل، ويصوم النهار، وإذا كانت ليلة الجمعة أحياها، وإن كان ليكرهها إذا جاءت مما يلقى فيها. فبلغ سلمان ما كان يصنع، فأتاه فقال: أين زيد؟ قالت امرأته: ليس ههنا. قال: فإني أقسم عليك لما صنعت طعاماً ولبست محاسن ثيابك. ثم بعث إلى زيد، قال: فجاء زيد، فقرب الطعام، فقال سلمان: كل يا زييد. قال: إني صائم. قال: كل يا زييد لا تنقص أو تبغض دينك، إن شر السير الحقحقة، إن لعينك عليك حقاً، وإن لبدنك عليك حقاً، وإن لزوجتك عليك حقاً، كل يا زييد. فأكل، وترك ما كان يصنع.
عمد زيد بن صوحان إلى رجال من أهل البصرة قد تفرغوا للعبادة، وليست لهم تجارات ولا غلات، فبنى لهم داراً ثم أسكنهم إياها، ثم أوصى بهم من أهله من يقوم في حاجتهم، ويتعاهدهم في مطعمهم ومشربهم وما يصلحهم، فبينما هم كذلك إذ جاءهم ذات يوم، وكان يتعاهدهم بالزيارة، فلم يجدهم، فسأل عنهم، فقيل: دعاهم ابن عامرٍ بن كريز، وكان على البصرة في عهد عثمان، فخرج مسرعاً حتى وجدهم بسدة ابن عامر، فدخل على ابن عامر قبلهم فقال: ما تريد بهؤلاء القوم؟ فقال: أريد أن أقربهم فيشفعوا فأشفعهم، ويسألوا فأعطيهم، ويشيروا علي فأقبل منهم. قال: كلا، والله لا أدعك تهيل عليهم من دنياك، وتشركهم في أمرك، وتذيقهم حلاوة ما أنت فيه حتى إذا انقطعت شرتك منهم تركتهم، فطاحوا بينك وبين ربهم.
قال سلمان لزيد بن صوحان: كيف أنت يا زيد إذا اقتتل القرآن والسلطان؟ قال: أكون مع القرآن. قال: نعم الزيد أنت إذاً، قال أبو قرة: إذاً أجلس في بيتي. فقال: لو كنت في أقصى تسعة أبيات لكنت مع أحد الفريقين. وكان أبو قرة يكره القتال.(9/145)
حدث جابر عن محمد بن علي ومحمد بن المطلب وزيد بن حسن قالوا: شهد مع علي بن أبي طالب في حربه من أصحاب بدر سبعون رجلاً، وشهد معه ممن بايع تحت الشجرة سبع مئة رجل فيما لا يحصى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد معه من التابعين ثلاثة بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد لهم بالجنة: أويس القرني، وزيد بن صوحان، وجندب الخير: فأما أويس القرني فقتل في الرجالة يوم صفين، وأما زيد بن صوحان فقتل يوم الجمل.
قال أبو معشر: حدثني الحي الذين مات فيهم زيد بن صوحان حين رفع من المعركة وهو جريح قال: قلنا له: أبشر أبا عائشة. فقال: أتقولون قادرين، أتيناهم في ديارهم وقتلنا أميرهم، وعثمان على الطريق! فيا ليتنا إذا ابتلينا صبرنا، ثم قال: شدوا علي إزاري، فإني مخاصم، وأفضوا بخدي إلى الأرض، وأسرعوا الانكفات عني.
وكان سيحان بن صوحان قتل يوم الجمل أيضاً، ودفن هو وزيد بن صوحان في قبر، وكان زيد بن صوحان أوصى أن يدفن معه مصفحه.
قال خالد بن الواشمة: لما فرغ من أصحاب الجمل نزلت عائشة منزلها دخلت عليها، فقلت: السلام عليك يا أم المؤمنين، فقالت: من هذا؟ فقلت: خالد بن الواشمة. قالت: ما فعل طلحة؟ قلت: أصيب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، يرحمه الله. قالت: ما فعل الزبير؟ قلت: أصيب. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، يرحمه الله. قلت: بل نحن لله وإنا إليه راجعون في زيد بن صوحان. قالت: وأصيب؟ قلت: نعم. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون يرحمه الله. فقلت: يا أم المؤمنين، ذكرت طلحة فقلت: يرحمه الله، وذكرت الزبير فقلت: يرحمه الله، وذكرت زيداً فقلت: يرحمه الله، وقد قتل بعضهم بعضاً! والله لا يجمعهم الله في الجنة أبداً. قالت: أو لا تدري أن رحمة الله واسعة وهو على كل شيء قدير. قال: فكانت أفضل مني.(9/146)
زيد بن عبد الله بن محمد
أبو الحسين التنوخي البلوطي كان يسكن بأكواخ بانياس، وقدم دمشق.
حدث بدمشق، عن أبي إسحاق إبراهيم بن مهدي بن حاتم البلوطي بسنده عن أبي هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نور الحكمة الجوع ورأس الدين ترك الدنيا، والقربة إلى الله حب المساكين والدنو منهم، والبعد عنهم قوي به على المعاصي الشبع، فلا تشبعوا بطونكم فيطفىء نور الحكمة من صدوركم، فإن الحكمة تسطع في القلب مثل السراج.
زيد بن عبد الله بن أبي مليكة
ابن عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي البصري
وفد على معاوية، قال: دخلت على معاوية وهو في مجلس له، فجاءت جارية رابعة فدخلت من باب وخرجت من باب آخر، فقال: يا زيد، إن هذه الجارية تعجبني، وأنا أشتهي أن أغشاها وأنا أمرق من فاختة، اقعد ههنا حتى أغشاها وأجيء، قال: فدخل وراءها، وجاءت الأخرى تميز حتى دخلت وراءه، فجاءت به قد لببته وهو يضحك، فجعل يقول: يعلين الكرام ويعليهن اللئام، يغلبن الكرام ويغلبهن اللئام.(9/147)
زيد بن عبد الرحمن بن زيد
ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، القرشي العدوي وفد على عبد الملك بن مروان. وأمه حجية بنت غريض.
حدث عن أمه حجية بنت غريض عن أمها عقيلة بنت عتبة بن الحارث عن أمها أم وبرة بنت الحارث، قالت: جئنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة، وهو نازل بالأبطح، وقد ضربت عليه قبةٌ حمراء، فبايعناه، واشترط علينا. قالت: فبينا نحن كذلك إذ أقبل سهيل بن عمرو أحد بني عامر بن لؤي كأنه جمل أورق، فلقيه خالد بن رباح أخو بلال بن رباح، وذلك بعدما طلعت الشمس، فقال: ما منعك أن تجعل الغدو على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا النفاق. والذي بعثه بالحق لولا شيء لضربت بهذا السيف فلجتك، وكان رجلاً أعلم. فانطلق سهيل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ألا ترى ما يقول لي هذا العبيد؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعه فعسى أن يكون خيراً منك، فالتمسه، فلا نجدة، وكانت هذه أشد عليه من الأولى.
قال زيد بن عبد الرحمن: وفدت مع أبان بن عثمان على عبد الملك بن مروان، وعنده ابن الحنفية، فدعا عبد الملك بسيف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتي به، ودعا بصيقل، فنظر إليه فقال: ما رأيت حديدةً قط أجود منها. قال عبد الملك: ولا والله ما رأى الناس مثل صاحبها، هب لي يا محمد هذا السيف. فقال محمد: أينا رأيت أحق به فليأخذه، قال عبد الملك: إن كان لك قرابة فلكل قرابة حق. قال: فأعطاه محمدٌ عبد الملك، وقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يعني الحجاج، وهو عنده قد آذاني، واستخف بحقي، ولو كانت خمسة دراهم أرسل إلي فيها. فقال عبد الملك: لا إمرة لك عليه. فلما ولى محمد قال عبد الملك للحجاج: أدركه فسل سخيمته، فأدركه، فقال: إن أمير المؤمنين قد أرسلني إليك لأسل سخيمتك، ولا مرحباً(9/148)
بشيء ساءك. فقال محمد: ويحك يا حجاج! اتق الله، واحذر الله، ما من صباح يصبحه العباد إلا لله في كل عبدٍ ثلاث مئة وستون لحظة، إن أخذ أخذ بقدرةٍ، وإن عفا عفا بحلم، فاحذر الله، فقال الحجاج: لا تسألني شيئاً إلا أعطيتكه. فقال له محمد: وتفعل؟ قال له الحجاج: نعم. قال: فإني أسألك صوم الدهر. قال: فذكر الحجاج ذلك لعبد الملك، فأرسل عبد الملك إلى رأس الجالوت، فذكر له الذي قال محمد، فقال: إن رجلاً منا ذكر حديثاً ما سمعناه إلا منه، وأخبره بقول محمد، فقال رأس الجالوت: ما خرجت هذه الكلمة إلا من بيت نبوة.
زيد بن علي بن الحسين
ابن علي بن أبي طالب أبو الحسين الهاشمي وفد على هشام بن عبد الملك فرأى منه جفوة، فكان ذلك سبب خروجه وطلبه للخلافة، وخرج بالكوفة.
حدث شعبة بن الحجاج أبو بسطام قال: سمعت سيد الهاشميين زيد بن علي بن الحسين بالمدينة في الروضة يقول: حدثني أخي محمد بن علي أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " سدوا الأبواب كلها إلا باب علي وأومأ بيده إلى باب علي.
وحدث زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال:
صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر ذات يوم بغلس، وكان مما يغلس ويسفر، فلما قضى الصلاة التفت إلينا فقال: أفيكم من رأى الليلة شيئاً؟ قلنا: لا يا رسول الله. قال: ولكني رأيت ملكين أتياني الليلة، فأخذا بضبعي، فانطلقا بي إلى السماء الدنيا، فمررت بملك وأمامه آدمي وبيده صخرة، فضرب بهامة الآدمي فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة جانباً، قلت: ما هذا؟ قالا لي: امضه. فمضيت فإذا أنا بملك وأمامه آدمي، وبيد الملك كلوب بن حديد، فيضعه في شدقه الأيمن فيشقه حتى ينتهي إلى أذنه، ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن. قال: قلت: ما هذا؟ قالا: امضه، فمضيت، فإذا أنا بنهر من دم يمور كمور المرجل، غلي فيه قوم عراة، على حافة النهر ملائكة بأيديهم مدرتان، كلما طلع طالع قذفوه بمدرةٍ، فتقع في فيه، وينتقل إلى أسفل ذلك النهر. قلت: ما هذا؟ قالا:(9/149)
امضه. فمضيت، فإذا أنا ببيت أسفله أضيق من أعلاه، فيه قوم عراة، توقد من تحتهم النار، أمسكت علي أنفي من نتن ما أجد من ريحهم. قلت من هؤلاء؟ قالا: امضه. فمضيت، فإذا أنا بتل أسود، عليه قوم مخبلين تنفخ النار في أدبارهم، فتخرج من أفواههم ومناخرهم وآذانهم وأعينهم، قلت: ما هذا؟ قالا لي: امضه. فمضيت، فإذا أنا بنر مطبقة موكل بها ملك، لا يخرج منها شيء إلا اتبعه حتى يعيده فيها. قلت: ما هذا؟ قالا لي: امضه. فمضيت، فإذا أنا بروضة، وإذا فيها شيخ جميل لا أجمل منه، وإذا حوله الولدان، وإذا شجرة ورقها كآذان الفيلة، فصعدت ما شاء الله من تلك الشجرة، وإذا أنا بمنازل لا أحسن منها من زمردة جوفاء، وزبرجدة خضراء، وياقوتة حمراء. قلت: ما هذا؟ قالا: امضه. فمضيت، فإذا أنا بنهر عليه جسران من ذهب وفضة، وعلى حافتي النهر منازل، لا منازل أحسن منها من زمردة جوفاء، وزبرجدة خضراء، وياقوتة حمراء، وفيه قدحان وأباريق تطرد. قلت: ما هذا؟ قالا لي: انزل. فنزلت فضربت بيدي إلى إناء منها فغرفت، ثم شربت: فإذا أحلى من عسل، وأشد بياضاً من اللبن، وألين من الزبد. فقالا لي: أما صاحب الصخرة الذي رأيت يضرب بها هامة الآدمي فيقع دماغه جانباً وتقع الصخرة في جانب فأولئك الذي كانوا ينامون عن صلاة العشاء الآخرة، ويصلون الصلوات لغير مواقيتها، يضربون بها حتى يصيروا إلى النار.
وأما صاحب الكلوب الذي رأيت ملكاً موكلاً بيده كلوب وحديد يشق به شدقه الأيمن حتى ينتهي إلى أذنه، ثم يأخذ في الأيسر فيلتئم الأيمن فأولئك الذين كانوا يمشون بين المؤمنين بالنميمة فيفسدون بينهم، فهم يعذبون بها حتى يصيروا إلى النار.
وأما ملائكة بأيديهم مدرتان من النار كلما طلع طالع قذفوه بمدرة فتقع في فيه فينتقل إلى أسفل ذلك النهر فأولئك أكلة الربا، يعذبون حتى يصيروا إلى النار.
وأما البيت الذي رأيت، أسفله أضيق من أعلاه، فيه قوم عراة تتوقد من تحتهم النار، أمسكت على أنفك من نتن ما تجد من ريحهم فأولئك الزناة، وذلك نتن فروجهم، يعذبون حتى يصيروا إلى النار.
وأما التل الأسود الذي رأيت عليه قوماً مخبلين تنفخ النار في أدبارهم فتخرج من(9/150)
أفواههم ومناخرهم وأعينهم وآذانهم، فأولئك الذين يعملون عمل قوم لوطٍ الفاعل والمفعول به، فهم يعذبون حتى يصيروا إلى النار.
وأما النار المطبقة التي رأيت ملكاً موكلاً بها كلما خرج منها شيء اتبعه حتى يعيده فيها، فتلك جهنم تفرق من بين أهل الجنة وأهل النار.
وأما الروضة التي رأيتها فتلك جنة المأوى.
وأما الشيخ الذي رأيت أول ومن حوله من الولدان فهو إبراهيم، وهم بنوه.
وأما الشجرة التي رأيت فطلعت إليها، فيها منازل لا منازل أحسن منها من زمردة جوفاء، وزبرجدة خضراء، وياقوتة حمراء، فتلك منازل أهل عليين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وأما النهر فهو نهرك الذي أعطاك الله الكوثر وهذه المنازل ولأهل بيتك.
قال: فنوديت من فوق: يا محمد يا محمد، سل تعطه، فارتعدت فرائصي، ورجف فؤادي، واضطرب كل عضو مني، ولم أستطع أن أجيب شيئاً، فأخذ أحد الملكين يده اليمنى فوضعها في يدي، وأخذ الآخر يده اليمنى فوضعها بين كتفي، فسكن ذلك مني. ثم نوديت من فوقي: يا محمد، سل تعطه. قال: قلت: اللهم إني أسألك أن تثبت شفاعتي، وأن تلحق بي أهل بيتي، وأن ألقاك ولا ذنب لي. قال: ثم ولى بي. ونزلت عليه هذه الآية: " إنا فتحاً لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " إلى قوله " صراطاً مستقيماً ". فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فكما أعطيت هذه كذلك أعطاها إن شاء الله عز وجل.
قال يونس بن أبي يعفور: قال الزهري: كنت على باب هشام بن عبد الملك، قال: فخرج من عنده زيد بن علي وهو يقول: والله ما كره قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله تعالى بالذل.
قيل إن زيد بن علي ولد سنة ثمان وسبعين.(9/151)
وعن حذيفة بن اليمان: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى، وقال: المظلوم من أهل بيتي سمي هذا، والمقتول في الله والمصلوب من أمتي سمي هذا، وأشار إلى زيد بن حارثة، ثم قال: ادن مني يا زيد، زادك الله حباً عندي، فإنك سمي الحبيب من ولدي زيد.
وعن جعفر: أنه ذكر زيداً فقال: رحم الله عمي، كان والله سيد الأولين، ما ترك فينا لدنيا ولا لآخرة مثله.
وعن عمرو بن القاسم قال: دخلت على جعفر بن محمد، وعنده أناسٌ من الرافضة، فقلت: إن هؤلاء يبرؤون من عمل زيد. قال: يبرؤون من عمي زيد؟ قلت: نعم. قال: برىء الله ممن يبرأ منه، كان والله أقرأنا لكتاب اله، وأفقهنا في دين الله، وأوصلنا للرحم، والله ما ترك فينا لدنيا ولا لآخرة مثله.
وعن زيد بن علي: في قوله عز وجل: " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". قال: إن من رضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يدخل أهل بيت بنيه الجنة.
وعن زيد بن علي: في قوله: " وسيجزي الله الشاكرين " قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إمام الشاكرين.
قال آدم بن عبد الله الخثعمي، وكان من أصحاب زيد بن علي، قال: سألت زيد بن علي عن قول الله عز وعلا: " والسابقون السابقون أولئك المقربون ". من هؤلاء؟ قال: أبو بكر وعمر. ثم قال: لا أنالني الله شفاعة جدي إن لم أوالهما.(9/152)
قال مطلب بن زياد: جاء رجل إلى زيد فقال: يا زيد، أنت الذي تزعم أن الله أراد أن يعصى؟ فقال له زيد: أعصي عنوة؟ فأقبل يحصر من بين يديه.
وعن زيد بن علي قال: انطلقت الخوارج فبرئت ممن دون أبي بكر وعمر، ولم يستطيعوا أن يقولوا فيهما شيئاً، وانطلقتم أنتم فطفرتم فوق ذلك، فبرئتم منهما، فمن بقي؟ فوالله ما بقي أحدٌ إلا برئتم منه! وعن زيد بن علي قال: البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان.
وعن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن علي بن الحسين بن علي: أما أنا فلو كنت مكان أبي بكر حكمت بمثل ما حكم به أبو بكر في فدك.
قال محمد بن سالم: كان عندنا زيد بن على مختفياً، فذكر أبو بكر وعمر، فجاء بعض الاعتراض، فقال زيد: مه يا محمد بن سالم! لو كنت حاضراً ما كنت تصنع؟ قال: أصنع كما كان يصنع علي. قال: فارض بما صنع علي.
قال زيد بن علي: الرافضة حربي وحرب أبي في الدنيا والآخرة، مزقت الرافضة علينا كما مزقت الخوارج على علي رضي الله عنه.
قال عيسى بن يونس: وسئل عن الرافضة والزيدية، فقال: أما الرافضة فأول ما ترفضت، جاؤوا إلى زيد بن علي حين خرج، فقالوا: تبرأ من أبي بكر وعمر حتى نكون معك. قال: بل أتولاهما وأبرأ ممن تبرأ منهما. قالوا: فإذاً نرفضك. فسميت الرافضة. قال: وأما الزيدية، فقالوا: نتولاهما ونبرأ ممن تبرأ منهما، فخرجوا مع زيد فسميت الزيدية.(9/153)
وعن الأصمعي قال: قال زيد بن علي لابنه: يا بني، إن الله عز وجل رضيني لك فحذرني فتنتك، ولم يرضك لي فأوصاك بي، إن خير الآباء من لم تدعه مودته إلى الإفراط، وخير الأولاد من لم يدعه التقصير إلى العقوق.
دخل زيد بن علي بن الحسين بن علي على هشام بن عبد الملك، وكان زيد لأم ولد، فقال له هشام: يا زيد، بلغني أن نفسك تسمو بك إلى الإمامة، والإمامة لا تصلح لأبناء الإماء. فقال له زيد: يا أمير المؤمنين، هذا إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام كان لأمة وقد صلحت له النبوة، وكان صادق الوعد وكان عند ربه مرضياً، والنبوة أكبر من الإمامة. فقال له هشام: يا زيد، إن الله لا يجمع النبوة والملك لأحد. فقال زيد: يا أمير المؤمنين، ما هكذا قال الله تبارك وتعالى: " أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً ".
ولكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي حين أخذ داود بن علي وزيد بن علي بمكة: من الخفيف
يأمن الظبي والحمام ولا يأ ... من آل النبي عند المقام
طبت بيتاً وطاب أهلك أهلاً ... أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليكم ... كلما قام قائمٌ بسلام
حفظوا خاتماً وجرد رداءٍ ... وأضاعوا قرابة الأرحام
ويقال: إن زيداً بينا هو على باب هشام في خصومة عبد الله بن حسن في الصدفة ورد كتاب يوسف بن عمر في زيد، وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن(9/154)
عمر بن علي بن أبي طالب، وأيوب بن سلمة، فحبس زيد، وبعث إلى أولئك، فقدم بهم، ثم حملهم إلى يوسف بن عمر بالكوفة، فاستحلفه ما عنده لخالد مالٌ، وخلا سبيله. حتى إذا كان بالقادسية لحقته الشيعة، فسألوه الرجوع معهم والخروج، ففعل، ثم تفرقوا عنه إلا نفر يسير، فنسبوا إلى الزيدية، ونسب من تفرق عنه إلى الرافضة.
قال عبد الله بن جعفر: دخل زيد بن علي على هشام بن عبد الملك، فرفع ديناً كثيراً وحوائج، فلم يقض له هشام حاجة، وتجهمه، وأسمعه كلاماً شديداً، قال عبد الله بن جعفر: فأخبرني سالم مولى هشام وحاجبه أن زيد بن علي خرج من عند هشام وهو يأخذ شاربه بيده ويفتله، ويقول: ما أحب الحياة أحدٌ قط إلا ذل، ثم مضى، فكان وجهه إلى الكوفة، فخرج بها، ويوسف بن عمر الثقفي عامٌل لهشام بن عبد الملك على العراق، فوجه إلى زيد بن علي من يقاتله، فاقتتلوا، وتفرق عن زيد من خرج معه، ثم قتل وصلب. قال سالم: فأخبرت هشاماً بعد ذلك بما قال زيد يوم خرج من عنده فقال: ثكلتك أمك، ألا كنت أخبرتني بذلك قبل اليوم، وما كان يرضيه، إنما كانت خمس مئة ألف، فكان ذلك أهون علينا مما صار إليه.
قال عبد الرحمن بن عبد الله الزهري: دخل زيد بن علي مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نصف النهار في يوم حار من باب السوق، فرأى سعد بن إبراهيم في جماعة من القرشيين قد حان قيامهم، فقاموا، فأشار إليهم، فقال لهم سعد بن إبراهيم: هذا زيد يشير إليكم فقوموا له. فجاءهم، فقال: أي قوم! أنتم أضعف من أهل الحرة؟ فقالوا: لا. فقال: فأنا أشهد أن يزيد ليس شراً من هشام بن عبد الملك، فما لكم؟ فقال سعد لأصحابه: مدة هذا قصيرة، فلم ينشب أن خرج فقتل.
ولما قدم زيد بن علي إلى الشام كان حسن الخلق، حلو اللسان، فبلغ ذلك هشام بن عبد الملك، فاشتد عليه، فشكا ذلك إلى مولى له، فقال له: ائذن للناس إذناً عاماً، واحجب زيداً، ثم ائذن له في آخر الناس، فإذا دخل عليك فسلم فلا ترد عليه، ولا تأمره(9/155)
بالجلوس، فإذا رأى أهل الشام هذا سقط من أعينهم. ففعل، فأذن للناس إذناً عاماً وحجب زيداً وأذن له في آخر الناس، فدخل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فلم يرد عليه، فقال: السلام عليك يا أحول، إذ لم تر نفسك أهلاً لهذا الاسم. فقال له هشام: أنت الطامع في الخلافة، وأمك أمةٌ! فقال: إن لكلامك جواباً، فإن شئت أجبت. قال: وما جوابك؟ قال: لو كان في أم الولد تقصير لما بعث الله إسماعيل نبياً وأم هاجر، فالخلافة أعظم أم النبوة؟ فأفحم هشام. فلم خرج قال لجلسائه: أنتم القائلون إن رجالات بني هاشم هلكت؟ والله ما هلك قوم هذا منهم. فرده وقال: يا زيد، ما كانت أمك تصنع بالزوج، ولها ابنٌ مثلك؟ قال: أرادت آخر مثلي. قال: ارفع لي حوائجك، فقال: أما وأنت الناظر في أمور المسلمين فلا حاجة لي. ثم قام فخرج، فأتبعه رسولاً وقال: اسمع ما يقول، فتبعه فسمعه يقول: من أحب الحياة ذل. ثم أنشأ يقول: من البسيط
مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا ... سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ... وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكم ... ولا نلومكم أن لا تحبونا
كل امرىءٍ مولعٌ في بغض صاحبه ... فنحمد الله نقلوكم وتقلونا
ثم حلف أن لا يلقى هشاماً ولا يسأله صفراء ولا بيضاء، فخرج في أربعة آلاف بالكوفة، فاحتال عليه بعض من كان يهوى هشاماً، فدخلوا عليه وقالوا: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: رحم الله أبا بكر وعمر صاحبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أين كنتم قبل اليوم؟ قالوا: ما نخرج معك، أو تتبرأ منهما. فقال: لا أفعل، هما إماما عدلٍ. فتفرقوا عنه، وبعث هشام إليه، فقتلوه، فقال الموكل بخشبته: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، وقد وقف على الخشبة، وقال: هكذا يصنعون بولدي من بعدي؟ يا بني، يا زيد، قتلوك قتلهم الله، صلبوك صلبهم الله. فخرج هذا في الناس، وكتب يوسف بن عمر إلى هشام أن عجل إلى العراق فقد فتنهم. فكتب إليه: أحرقه بالنار. فأحرقه، رحمة الله عليه.(9/156)
وقال ضمرة بن ربيعة: إنما كان سبب زيد بالعراق أن يوسف بن عمر سأل القسري وابنه عن ودائعهم، فقالوا: لنا عند داود بن علي وديعة وعند زيد بن علي وديعة. فكتب بذلك إلى هشام، فكتب هشام إلى صاحب المدينة في إشخاص زيد بن علي، وكتب إلى صاحب البلقاء في إشخاص داود بن علي إليه، فقدما على هشام، فأما داود بن علي فحلف لهشام أنه لا وديعة لهم عندي، فصدقه، وأذن له بالرجوع إلى أهله، وأما زيد بن علي فأبى أن يقبل منه، وأنكر أن يكون لهما عنده شيء، فقال: أقدم على يوسف، فقدم على يوسف، فجمع بينه وبين يزيد وخالد، فقال: إنما هو شيء تبردت به، ما لي عنده شيء، فصدقه، وأجازه يوسف، وخرج يريد المدينة، فلحقه رجال من الشيعة، فقالوا له: ارجع فإن لك عندنا الرجال والأموال، فرجع، وبلغ ذلك يوسف.
قال ضمرة: فسمعت مهلباً يقول: أمر يوسف بالصلاة جامعة، فمن لم يحضر المسجد فقد حلت عليه العقوبة. قال: فاجتمع الناس وقالوا: ننظر ما هذا الأمر، ثم نرجع. قال: فاجتمع الناس، فأمر بالأبواب فأخذ بها فبنى عليهم. قال: وأمر الخيل فجالت في أزقة الكوفة. قال: فمكث الناس ثلاثة أيام وثلاث ليال في المسجد، يؤتى الناس من منازلهم بالطعام، يتناوبهم الشرط والحرس. قال: فخرج زيد على تلك الحال، فلم يلبث أن ترتفع الشمس حتى قتل من يومه، لم يخرج معه إلا جميع، فأخذه رجل في بستان له، وصرف الماء عن الساقية، وحفر له تحت الساقية، ودفنه، وأجرى عليه الماء. قال: وغلام له سندي في بستان له ينظر، فذهب إلى يوسف، فأخبره، فبعث فاستخرجه، ثم صلبه. فمن يومئذ سميت الرافضة، أتوا إلى زيد فقالوا: سب أبا بكر وعمر نقم معك وننصرك، فأبى، فرفضوا ذلك، فسموا يومئذ: روافض. فالزيدية لا تستحل الصلاة خلف الشيعة.(9/157)
وعن القاسم بن معن قال: خرج أبو حصين وفي نسخة: أبو كثير وهو يضرب بغلة، وهو يقول: الحمد لله الذي سار بي تحت رايات الهدى.
وعن أم داود قالت: مر زيد بن علي بن الحسين على حمارٍ قد خولف بوجهه، على شيوخ كندة، فقاموا إليه يبكون. فقال: يا أخابث خليقة الله، أسلمتموني للقتل ثم تبكون علي.
وحدث معاوية بن الحارث عن جده أبي أمه أنه كان يقول: إن عندي لحديثاً لو أردت أن آكل به الدنيا لأكلتها ولكني لا يسألني الله عن حديث أرفعه إلى السلطان. قال أبي: فقلت: ما هو؟ قال: لما خرج زيد أتيت خالتي الغد فقلت لها: يا أمه، قد خرج زيد. فقالت: المسكين يقتل كما قتل آباؤه، فقلت لها: إنه خرج معه ذوو الحجا. فقالت: كنت عند أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتذاكروا الخلافة فقالت أم سلمة: كنت عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتذاكروا الخلافة بعده، فقالوا: ولد فاطمة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لن يصلوا إليها أبداً، ولكنها في ولد عمي صنو أبي حتى يسلموها إلى الدجال ".
وعن الوليد بن محمد الموقري قال:
كنا على باب الزهري إذ سمع جلبةً، فقال: ما هذا يا وليد؟ فنظرت فإذا رأس زيد يطاف به بيد اللعابين، فأخبرته فكبى الزهري، ثم قال: أهلك أهل هذا البيت العجلة. قلت: ويملكون؟ قال: نعم، حدثني علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة: أبشري، المهدي منك.
كان الحسين بن زيد بن علي يلقب: ذا الدمعة، وذلك لكثرة بكائه، فقيل له في ذلك فقال: وهل تركت النار والسهمان في مضحكاً؟ يريد السهمين اللذين أصابا زيد بن علي، ويحيى بن زيد وقتل بخراسان.(9/158)
قال جرير بن مغيرة: كنت أكثر الضحك، فما قطعه عني إلا قتل زيد بن علي.
قال صدقة بن بشير: سمعت حسين بن زيد يمزح مع جعفر بن محمد فيقول له: خذلت شيعتك أبي حتى قتل. فقال له جعفر: إن أباك اشتهى البطيخ بالسكر.
كان مقتل زيد بن علي في صفر سنة عشرين ومئة، وهو ابن اثنتين وأربعين سنة، وقيل: قتل في سنة اثنتين وعشرين ومئة: سنة ثلاث وعشرين، وقيل: سنة إحدى وعشرين ومئة، في صفر بالكوفة، وصلب في الكناس. قتله يوسف بن عمر، ثم أحرقه بالنار، فسمي زيد النار. وهرب يحيى بن زيد فلحق بخراسان. وقيل إن زيداً لم يزل مصلوباً إلى سنة ست وعشرين، ثم أنزل بعد أربع سنين من صلبه.
وعن الحسن بن محمد بن معاوية البجلي قال: كان زيد بن علي حيث صلب يوجه وجهه ناحية الفرات فيصيح، وقد دارت خشبته ناحية القبلة مراراً، وعمدت العنكبوت حتى نسجت على عورته، وقد كانوا صلبوه عرياناً.
قال جرير بن حازم: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متسانداً إلى خشبة زيد بن علي في المنام، وهو مصلوب، وهو يقول: هكذا تفعلون بولدي؟
زيد بن عمر بن الخطاب
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، القرشي العدوي وأمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب. وفد على معاوية بن أبي سفيان.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب أم كلثوم إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: إنها صغيرة. فقال عمر: زوجنيها يا أبا الحسن، فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصد أحد. فقال له علي: أنا أبعثها إليك، فإن رضيتها فقد زوجتكها. فبعثها إليه(9/159)
ببردٍ، وقال لها: قولي له: هذا البرد الذي قلت لك. فقالت ذلك لعمر، فقال: قولي له: قد رضيته رضي الله عنك، ووضع يده على ساقها فكشفها. فقالت له: أتفعل هذا!؟ لولا أنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم خرجت حتى جاءت أباها فأخبرته الخبر، وقالت: بعثتني إلى شيخ سوءٍ؟ فقال: مهلاً يا بنية، فإنه زوجك. فجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مجلس المهاجرين في الروضة، فكان يجلس فيه المهاجرون الأولون. فجلس إليهم فقال: زفئوني. فقالوا: بماذا يا أمير المؤمنين؟ قال: تزوجت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: كل نسبٍ وسببٍ وصهر منقطعٌ يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري، فكان لي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النسب والسبب وأردت أن أجمع إليه الصهر. فزفوه.
وقيل أن زيد بن عمر بن الخطاب ابن أم كلثوم بنت علي، توفي هو وأمه أم كلثوم في ساعة واحدة، وهو صغير لا يدرى أيهما مات أول.
وفد إلى معاوية بن أبي سفيان فأجلسه على السرير، وهو يومئذ من أجمل الناس وأشبههم، فبينا هو جالس قال له بسر بن أرطأة: يا بن أبي تراب. فقال له: إياي تعني؟ لا أم لك، أنا والله خير منك وأزكى وأطيب، فما زال الكلام بينهما حتى نزل زيد إليه فخنقه حتى صرعه وبرك على صدره. فنزل معاوية عن سريره فحجز بينهما، وسقطت عمامة زيد فقال زيد: والله يا معاوية ما شكرت الحسنى، ولا حفظت ما كان منا إليك، تسلط علي عبد بني عامر!؟ فقال معاوية: أما قولك يا بن أخي أني كفرت الحسنى فوالله ما استعملني أبوك إلا من حاجة إلي، وأما ما ذكرت من الشكر فوالله لقد وصلنا أرحامكم، وقضينا حقوقكم. وإنكم لفي منازلكم. فقال زيد: أنا ابن الخليفتين، والله لا تراني بعدها أبداً عائداً إليك، وإني لأعلم أن هذا لم يكن إلا عن رأيك. قال: وخرج زيد وقد تشعث رأسه، وسقطت عمامته، فدعا بإبله فارتحل، فأتاه آذن معاوية، فقال: إن أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول: عزمت عليك لما أتيتني، فإن أبيت أتيتك. قال زيد: لولا العزيمة ما أتيت.(9/160)
فلما رجع إليه أجلسه على سريره، وقبل بين عينيه، ثم أقبل عليه فقال: من نسي بلاء عمر فإني والله ما أنساه. لقد استعملني وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوافرون، وأنا يومئذ حديث السن، فأخذت بأدبه، واقتديت بهديه، واتبعت أثره، فوالله ما قويت على العامة إلا بمكاني كان منه. حاجتك يا بن أخي؟ قال الراوي: فوالله ما ترك له حاجةً، ولا لمن معه إلا قضاها، وأمر له بمئة ألف، وأمر لنا بأربعة آلاف أربعة آلاف، ونحن عشرون رجلاً، وقال: هذه لك عندي في كل عام.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: تزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أربعين ألف درهم. وروي مثل ذلك عن عطاء الخراساي أيضاً.
وكان السبب في قتل زيد بن عمر بن الخطاب أن حرباً وقعت فيما بين عدي بن كعب، فخرج عبد الله بن مطيع يطلع ما سببه، وبلغ ذلك عبد الله وسليمان ابني أبي جهم، فخرجا يرصدانه لرجعته، وأتى الخبر أخويهما فخرجوا إليهما، وتداعى الفريقان، وانصرف عبد الله بن مطيع مشياً، فالتقوا بالبقيع، فاقتتلوا، وتنوول ابن مطيع بعصا، فأدركت مؤخر السرج فكسرته، وأقبل زيد بن عمر ليحجز بينهم وبين بعضهم عن بعض، فخالطهم، فضربه رجل منهم في الظلمة، وهو لا يعرفه، على رأسه، فشجه، وصرع عن دابته، وتنادى القوم: زيد ... زيد، فتفرقوا، وأسقط في أيديهم، وأقبل عبد الله بن مطيع فلما رآه صريعاً نزل، فأكب عليه، وناداه: يا زيد، بأبي أنت وأمي، مرتين أو ثلاثاً، ثم أجابه فكبر ابن مطيع، وأخذه فحمله على بغلته حتى آداه إلى منزله، فدوي زيد من شجته حتى أقبل، وقيل: قد برأ، وكان يسأل عمر ضربه فلا يسميه، ثم إن الشجة انتقضت بزيد بن عمر، فلم يزل منها مريضاً، وأصابه بطن فهلك. رحمة الله عليه.
قال محمد بن الحسن المخزومي: لما استعز بزيد بن عمر جعل الحسين بن علي عليهما السلام يقول له: يا زيد، من ضربك؟ فيقول له عبد الله بن عمر: يا زيد، اتق الله فإنك كنت في اختلاط لا تعرف فيه من ضربك. قال: وكانت في زيد وأمه سنتان: ماتا في ساعة واحدة، لم(9/161)
يعرف أيهما مات قبل الآخر، فلم يورث كل واحد منهما من صاحبه، ووضعا معاً في موضع الجنائز، فأخرت أمه وقدم هو مما يلي الإمام، فجرت السنة في الرجل والمرأة بذلك بعد.
وقال الحسين بن علي لعبد الله بن عمر: تقدم فصل على أمك وأخيك. فتقدم فصلى عليهما.
وقيل: إن خالد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب هو الذي أصاب زيداً تلك الليلة برميةٍ ولا يعرفه.
وقيل: إن سعيد بن العاص صلى عليهما. والمحفوظ أن عبد الله بن عمر هو الذي صلى عليهما في إمارة سعيد بن العاص، وكبر أربعاً، وخلفه الحسن، والحسين، وابن الحنفية، وابن عباس، وغيرهم.
زيد بن عمر بن نفيل
ابن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب، القرشي العدوي.
الذي قال فيه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يبعث أمةً وحده. " كان يطلب دين إبراهيم عليه السلام، ويسأل عنه الأحبار والرهبان، ورأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي قبل أن يبعث وكان في تطوافه دخل الشام، وأتى البلقاء، وسأل الراهب الذي كان بميفعة من أرض البلقاء عن الحنيفية دين إبراهيم.
وكان زيد قد ترك عبادة الأوثان، وكان لا يأكل ما ذبح لغير الله، وكان يقول: يا معشر قريش، أرسل الله قطر السماء، وأنبت بقل الأرض، وخلق السائمة ورعت فيه، وتذبحونها لغير الله؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على دين إبراهيم غيري.
وكان الخطاب عم زيد وأخاه لأمه، وكان عمرو بن نفيل قد خلف على أم الخطاب بعد أبيه فولدت له زيد بن عمرو. وكان الخطاب عمه وأخاه لأمه، فكان يعاتبه على فراق دين قومه حتى آذاه، وخرج عنه إلى أعلى مكة، فنزل حراء مقابل مكة، ووكل به الخطاب شباباً من شباب قريش وسفهاء من سفهائهم فقال: لا تتركوه يدخل مكة.(9/162)
فكان لا يدخلها إلا سراً منهم، فإذا علموا بذلك آذنوا به الخطاب فأخرجوه وآذوه كراهية أن يفسد عليهم دينهم، وأن يتابعه أحد منهم على فراقهم.
قال محمد بن إسحاق:
وقد كان نفر من قريش: زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعثمان بن الحارث بن أسد، وعبيد الله بن جحش بن رياب، حضروا قريشاً عند وثنٍ لهم، كانوا يذبحون عنده لعيدٍ من أعيادهم، فلما اجتمعوا خلا بعض أولئك النفر إلى بعض، وقالوا: تصادقوا، وليكتم بعضكم على بعض. فقال قائلهم: تعلمن، والله ما قومكم على شيء، لقد أخطؤوا دين إبراهيم وخالفوه، ما وثن يعبد لا يضر ولا ينفع؟ فابتغوا لأنفسكم. فخرجوا يطلبون، ويسيرون في الأرض يلتمسون أهل كتاب من اليهود والنصارى، والملل كلها يتطلبون الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام.
وأما ورقة بن نوفل فتنصر واستحكم في النصرانية، واتبع الكتب من أهلها حتى علم علماً كثيراً من أهل الكتاب. ولم يكن منهم أعدل أمراً ولا أعدل شأناً من زيد بن عمرو، اعتزل الأوثان، وفارق الأديان من اليهود والنصارى والملل كلها إلا دين إبراهيم، يوحد الله، ويخلع من دونه، ولا يأكل ذبائح قومه، باداهم بالفراق لما هم فيه.
وفي حديث آخر: وكان أشدهم على زيدٍ الخطاب بن نفيل، وكان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال:
لبيك حقاً حقاً ... تعبداً ورقاً
البر أرجو لا الخال ... هل مهجرٌ كمن قال
عذت بما عاذ به إبراهيم ... مستقبل القبلة وهو قائم(9/163)
ثم يقول:
أنفي لك عانٍ راغم ... مهما تجشمني فإني جاشم
ثم يسجد.
ولما خالف زيد دين قومه قال له الخطاب بن نفيل: إني لأحسبك خالفة بني عدي، هل ترى أحداً يصنع من قومك ما تصنع؟! يقال: رجل خالفة أي مخالف، كثير الخلاف: كما قيل: راوية ولحانة ونسابة.
قال ابن إسحاق: وقد كان زيد بن عمرو بن نفيل قد أجمع على الخروج من مكة فيضرب في الأرض يطلب الحنيفية دين إبراهيم، وكانت امرأته صفية بنت الحضرمي كلما أبصرته قد نهض للخروج وأراده آذنت الخطاب بن نفيل. فخرج زيد إلى الشام يلتمس ويطلب في أهل الكتاب الأول دين إبراهيم، ويسأل عنه، ولم يزل في ذلك حتى أتى الموصل والجزيرة كلها، ثم أقبل حتى أتى الشام، فجال فيها حتى أتى راهباً ببيعة من أرض البلقاء، كان ينتهي إليه علم النصرانية فيما يزعمون، فسأله عن الحنيفية دين إبراهيم، فقال له الراهب: إنك لتسأل عن دين ما أنت بواجد من يحملك عليه اليوم، لقد درس من علمه، وذهب من كان يعرفه، ولكنه قد أظلك خروج نبي يبعث بأرضك التي خرجت منها بدين إبراهيم الحنيفية، فعليك ببلادك فإنه مبعوث الآن وهذا زمانه. وقد كان شام اليهودية والنصرانية فلم يرض شيئاً منهما.
فخرج سريعاً، حين قال الراهب ما قال: يريد مكة، حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه، فقال ورقة بن نوفل وقد كان اتبع مثل أثر زيد ولم يفعل في ذلك ما فعل زيد فبكى ورقة فقال: من الطويل
رشدت وأنعمت ابن عمروٍ وإنما ... تجنبت تنوراً من النار حاميا
بدينك رباً ليس رب كمثله ... وتركك أوثان الطواغي كما هيا(9/164)
وقد تدرك الإنسان رحمة ربه ... ولو كان تحت الأرض ستين واديا
وعن زيد بن عمرو بن نفيل: أنه كان يتأله في الجاهلية، فانطلق حتى أتى رجلاً من اليهود، فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك. فقال له اليهودي: لا أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من غضب الله. فقال: من غضب الله أفر، فانطلق حتى أتى نصرانياً، فقال له: أحب أن تدخلني معك في دينك. فقال: لست أدخلك في ديني حتى تبوء بنصيبك من الضلالة. فقال: من الضلالة أفر، قال له النصراني: فإني أدلك على دين إن اتبعته اهتديت. قال له: أي دين؟ قال: دين إبراهيم. قال: فقال: اللهم، إني أشهدك أني على دين إبراهيم، عليه أحيا، وعليه أموت. قال: فذكر شأنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هو أمةٌ وحده يوم القيامة.
قالوا: وجاء ابنه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك، فاستغفر له. قال: نعم، فإنه يبعث يوم القيامة أمةً وحده.
وعن حجير بن أبي إهاب قال:
رأيت زيد بن عمرو، وأنا عند صنم بوانة بعد ما رجع من الشام، وهو يراقب الشمس، فإذا زالت استقبل الكعبة فصلى ركعةً وسجدتين، ثم يقول: هذه قبلة إبراهيم وإسماعيل، لا أعبد حجراً، ولا أصلي له، ولا آكل ما ذبح له، ولا أستقسم بالأزلام، وأنا أصلي إلى هذا البيت حتى أموت. وكان يحج، فيقف بعرفة، وكان يلبي يقول: لبيك لا شريك لك، ولا ند لك، ثم يدفع من عرفة ماشياً وهو يقول: لبيك، متعبداً مرقوماً.
وعن عامر بن ربيعة قال: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: أنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أومن به وأصدقه، وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك مدةً(9/165)
فرأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك مانعته حتى لا يخفى عليك. قلت: هلم. قال: هو رجلٌ ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليله، وليست تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه منها، ويكرهون ما جاء به حتى يهاجر إلى يثرب فيظهر أمره، فإياك أن تخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم، فكان من أسأل من اليهود والنصارى، والمجوس يقولون: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون: لم يبق نبي غيره.
قال عامر بن ربيعة: فلما أسلمت أخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول زيد بن عمرو، وأقرأته منه السلام، فرد عليه السلام، وترحم عليه، وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: يا معشر قريش، ما منكم أحدٌ اليوم على دين إبراهيم عليه السلام غيري. قال: وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم، وكان يحيى الموءودة، يقول للرجل إذا أراد أن يقتل ابنته: لا تقتلها، ادفعها إلي أكفك مؤنتها، فإذا ترعرعت قال: إن شئت فخذها، وإن شئت فدعها.
وعن عمر وسعيد بن زيد: أنهما سألا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن زيد فقالا: استغفر له. قال: نعم، فاستغفروا له، فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده.
وفي حديث آخر: يبعث يوم القيامة أمة حده بيني وبين عيسى بن مريم عليهما السلام.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دخلت الجنة فرأيت لزيد بن عمرو دوحتين ".(9/166)
وعن أسماء بنة أبي بكر قالت: رأيت زيد بن عمرو بن نفيل شيخاً كبيراً مسنداً ظهره إلى الكعبة وهو يقول: ويحكم يا معاشر قريش! إياكم والربا: فإنه يورث الفقر.
ومن شعر زيد بن عمرو بن نفيل: من الوافر
أرب واحدٌ أم ألف ربٍّ ... أدين إذا تقسمت الأمور
عزلت اللات والعزى جميعاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
فلا العزى أدين ولا ابنتيها ... ولا صنمي بني عمروٍ أدير
ولا غنماً أدين وكان رباً ... لنا في الدهر إذ حلمي يسير
عجبت وفي الليالي معجباتٌ ... وفي الأيام يعرفها البصير
بأن الله قد أفنى رجالاً ... كثيراً كان شأنهم الفجور
وأبقى آخرين ببر قومٍ ... فيربل منهم الطفل الصغير
وبينا المرء يعثر ثاب يوماً ... كما يتروح الغصن النضير
وكان زيد بن عمرو بالشام، فلما بلغه خبر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل يريده، فقتله أهل ميفعة، موضع الشام.
وقيل: إن زيداً مات فدفن بأصل حراء.(9/167)
زيد بن مهلهل بن يزيد بن منهب
ابن عبد رضا بن المختلس بن ثوب بن كنانة بن مالك بن نابل بن اسودان وهو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيء بن أدد بن زيد بن يشجب ابن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ أبو مكنف الطائي ثم النبهاني، المعروف بزيد الخيل في الجاهلية.
وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، فسماه زيد الخير. وكان من فرسان العرب. قدم دمشق في الجاهلية خاطباً ماوية بنت حجر الغسانية.
لما قدم وفد طيء على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة عشر رجلاً، رأسهم وسيدهم زيد الخير، وهو زيد الخيل بن مهلهل من بني نبهان، وفيهم وزر بن جابر بن سدوس بن أصمع النبهاني، وقبيصة بن الأسود بن عامر من جرم طيء، ومالك بن عبد الله بن جبير من بني معن، وقعين بن خليف من جديلة، ورجل من بني بولان، فدخلوا المدينة، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد، فعقلوا رواحلهم بفناء المسجد، ثم دخلوا فدنوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، وأجازهم بخمس أواق فضة كل رجل منهم، وأعطى زيد الخيل اثنتي عشرة أوقية ونشأ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ذكر لي رجل من العرب إلا رأيته دون ما ذكر لي إلا ما كان من زيد فإنه لم يبلغ كل ما فيه ". وسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير، وقطع له فيداً وأرضين، فكتب له بذلك كتاباً. ورجع مع قومه، فلما كان بموضع يقال له الفردة مات هناك، فعمدت امرأته إلى كل ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب به فخرقته.
وفي رواية: فحرقته بالنار.
وزاد في حديث بعد قوله: وكتب له كتاباً: وكان من قول زيد يوم قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذي أيدنا بك، وعصم لنا ديننا بك، فما رأيت أخلاقاً أحسن من أخلاقٍ(9/168)
تدعو إليها، وقد كنت أعجب لعقولنا واتباعنا حجراً نعبده يسقط منا فنظل نطلبه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وزيادة أيضاً. يعني بذلك الإيمان أيضاً أكثر. فلما خرج زيد من عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمدينة وبيئة قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن ينج زيدٌ من أم ملدم. قال: فلما انتهى إلى بلدة بموضع يقال له: الفردة مات هناك. رحمه الله.
وعن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أقبل راكب حتى أناخ بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني أتيت من مسيرة تسع، أنضيت راحلتي، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري لأسألك عن خصلتين أسهرتاني. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما اسمك؟ قال: أنا زيد الخيل. قال له: بل أنت زيد الخير، فسل فرب معضلة قد سئل عنها، قال: أسألك عن علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت أحب الخير وأهله ومن يعمل به، فإن عملت به أيقنت بثوابه، وإن فاتني منه شيء حننت إليه. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذه علامة الله فيمن يريد، وعلامته فيمن لا يريد، ولو أرادك بالأخرى هيأك لها، ثم لا يبالي في أي وادٍ سلكت ". وفي رواية: هلكت.
قال الكلبي: كان يقال لبطن زيد الخيل الذي هو منه: بنو المختلس. وكان لزيد من الولد مكنف بن زيد الخيل، وبه كان يكنى، وقد أسلم وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد وكان له بلاء، وحريث بن زيد وكان فارساً، وقد صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد الردة مع خالد بن الوليد، وكان شاعراً، وعروة بن زيد شهد القادسية وقس الناطف ويوم مهران فأبلى وقال في ذلك شعراً. وكان زيد الخيل شاعراً.
في نسبه: نابل: بعد الألف باء معجمة بواحدة، وثوب: بفتح الثاء، وسكون الواو، وعبد رضا: بضم الراء.(9/169)
وعن أبي سعيد الخدري قال: كان المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة: علقمة بن علاثة الجعفري، والأقرع بن حابس الحنظلي، وزيد الخيل الطائي، وعنبسة بن بدر الفزاري. قال: فقدم علي بذهبة من اليمن بتربتها، فقسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينهم.
وعن أبي سعيد الخدري قال:
بعث علي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذهبة فيها تربتها فقسمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أربعة: بين الأقرع بن حابس الحنظلي أحد بني مجاشع، وبين عيينة بن حصن الفزاري، وبين علقمة بن علاثة العامري، وبين زيد الخيل الطائي، فقالت قريش والأنصار: أتقسم بين صناديد أهل نجد وتدعنا؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتألفهم، إذ أقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتىء الجبين، كث اللحية محلوق فقال: يا محمد، اتق الله. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يطيع الله إذا عصيته " قال: فسأل رجل من القوم قتله، وقال: حسبته خالد بن الوليد، فولى الرجل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من ضئضىء هذا قوماً يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد.
قيل: توفي زيد الخير سنة عشر.
زيد بن واقد أبو عمر
ويقال أبو عمرو الدمشقي حدث عن أبي سلام الأسود عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن حوضي كما بين عدن إلى عمان أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، عدد أوانيه أو أكاويبه كنجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، وأكثر الناس وروداً عليه فقراء المهاجرين، قلنا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الشعب رؤوساً، الدنس ثياباً، الذين لا ينكحون الممنعات، ولا تفتح عليهم أبواب السدد، الذين يعطون الحق الذي عليهم، ولا يعطون كل الذي لهم.(9/170)
وحدث زيد بن واقد عن رجل من أهل البصرة يقال له الحسن بن أبي الحسن قال: لقد أدركت أقواماً لو رأوا خياركم لقالوا: ما لهؤلاء عند الله من خلاق، ولو رأوا شراركم لقالوا: ما يؤمن هؤلاء بيوم الحساب.
كان الوضين بن عطاء، وابن جابر، والنعمان، وأبو وهب، وزيد بن واقد كلهم يتهمون بالقدر.
توفي زيد بن واقد سنة ثمان وثلاثين ومائة.
زيد بن يحيى بن عبيد
أبو عبد الله الخزاعي حدث زيد بن يحيى الدمشقي عن أبي معبد عن مكحول عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله، متى ندع الائتمار بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم مثلما ظهر في بني إسرائيل، إذا كانت الفاحشة في كباركم، والملك في صغاركم، والعلم في رذالكم.
توفي زيد بن يحيى بن عبيد في سنة سبع ومئتين.
زيد أبو خالد
حدث عن سليمان بن موسى قال: ثلاثة لا ينتصف بعضهم من بعض: حكيمٌ من أحمق، وشريفٌ من دانيء، وبرٌّ من فاجر.(9/171)
أسماء النساء على حرف الزاي
زجلة مولاة عاتكة بنت عبد الله
ابن معاوية. وقيل: مولاة عاتكة بنت يزيد بن معاوية حدثت زجلة مولاة معاوية قالت: أدركت يتامى كن في حجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحداهن تسمى كويسة، قالت: فخرجت معهن إلى بيت رجل وقد هلك لأعزي أهله، فلما أخرجت الجنازة وضعت رجلي أخرج من عتبة الباب، فأخذتني حتى أدخلتني البيت.
قلت: ولم يكن يتبع الجنازة امرأة إلا أن تكون نفساء أو مبطونة تخرج معها امرأةً من ثقاتها حين يضعونها في المصلى تدخل يدها تنظر هل خرج شيء، فلا يزال القوم جلوساً أو قياماً حتى إذا توارت المرأة قالوا للإمام: كبر.
وحدثت زجلة مولاة معاوية قالت: كنا مع أم الدرداء فأتاها هشام بن إسماعيل المخزومي فقال: يا أم الدرداء، ما أوثق خصالك في نفسك؟ قالت: الحب في الله عز وجل.
زرقاء بنت عدي بن مرة
الهمدانية الكوفية امرأةٌ فصيحةٌ، استقدمها معاوية فقدمت عليه.
سمر معاوية بن أبي سفيان ذات ليلة. فذكر كلاماً للزرقاء بنت عدي بن مرة من أهل الكوفة وكانت ممن يعين علياً يوم صفين فقال لأصحابه: أيكم يحفظ كلام الزرقاء بنت عدي؟ قال القوم: كلنا يحفظه. قال: فما تشيرون علي فيها؟ قالوا: نشير بقتلها.(9/172)
قال: بئس الذي أشرتم به، أيحسنن بمثلي أن يتحدث الناس أني قتلت امرأة بعد أن ملكت وصار الأمر إلي؟ ثم دعا كاتبه في الليل، فكتب إلى واليه بالكوفة أن أوفد علي الزرقاء بنت عدي مع ثقةٍ من محرمها وعدة من فرسان قومها ومهد لها وطاء ليناً، واسترها بستر خصيف. فلما ورد عليه الكتاب ركب إليها، فأقرأها إياها فقالت: أما أنا فغير زائغةٍ عن طاعة، وإن كان أمير المؤمنين جعل المشيئة إلي لم أرم من بلدي هذا، وإن كان حتم الأمير فالطاعة له أولى بي.
فحملها في عمارية، وجعل غشاءها خزأ أدكن مبطناً بقوهي، ثم أحسن صحبتها. فلما قدمت على معاوية قال لها: مرحباً وأهلاً، خير مقدمٍ قدمه وافدٌ، كيف حالك يا خالة، وكيف كان مسيرك؟ قالت: خير مسير، كأني كنت ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً له. قال: بذاك أمرتهم، هل تعلمين لم بعثت إليك؟ قالت: يا سبحان الله وأنى لي بعلم ما لم أعلم؟ وهل يعلم ما في القلوب إلا الذي خلقها. قال: بعثت إليك لأسألك هل أنت الراكبة الجمل الأحمر يوم صفين، وأنت بين الصفين توقدين الحرب وتحضين على القتال؟ فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، إنه قد مات الرأس وبتر الذنب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر. فقال لها: صدقت فهل تحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: والله ما أحفظه. قال: لكني أحفظه، لله أبوك، لقد سمعتك تقولين: أيها الناس، قد أصبحتم في فتنة غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها من فتنة عمياء صماء لا تسمع لقائلها، ولا تنقاد لسائقها. أيها الناس، إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا الكواكب تبصر في القمر، وإن البغل لا يسبق الفرس، ألا من استرشده أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه، إن الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار، فكأن قد اندمل شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فلا يعجلن أحد فيقول: كيف وأنى، ليقضي الله أمراً كان مفعولا. ألا إن خضاب النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، وللصبر في الأمور عواقب، إيهاً إلى(9/173)
الحرب قدماً غير ناكصين، وهذا يوم له ما بعده. ثم قال معاوية: يا زرقاء، لقد شركت علياً في كل ما فعل. قالت له الزرقاء: أحسن الله بشارتك يا أمير المؤمنين وأدام سلامتك، فمثلك بشر بخير وسر جليسه. فقال له: وقد سرك ذلك؟ قالت: نعم، والله لقد سرني قولك، فأنى لي بتصديق الفعل؟ فقال لها معاوية: لوفاؤكم له بعد موته أعجب إلي من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك. قالت: يا أمير المؤمنين، إني امرأة آليت ألا أسأل امرأ أعنت عليه شيئاً، فمثلك أعطى عن غير مسألة وجاد عن غير طلب، قال: صدقت. فأقطعها ضيعةً أغلتها في أول سنةٍ ستة عشر ألف درهم، وأحسن صفدها، وردها مكرمة.
زينب بنت الحسين بن علي
ابن أبي طالب قدمت دمشق مع عيال أبيها بعد قتله.
حدث حميد بن مسلم الأزدي قال: سماع أذني من الحسين وهو يقول: قتل الله قوماً قتلوك، يعني ابنه علي الأكبر بن الحسين، ما أجرأهم على انتهاك حرمة الرسول، على الدنيا بعدك الدبار. وكأني أرى امرأة خرجت كأنها شمس طالعة تنادي: يا أخاه فقيل: هي زينب بنت حسين وأكبت عليه، فجاء الحسين فأخذ بيدها وردها إلى الفسطاط.
زينب بنت سليمان بن علي
ابن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، الهاشمية كانت مع أهلها بالحميمة من أرض البلقاء، وهي زوج محمد بن إبراهيم الإمام، وإليها ينسب الزينبيون من ولد العباس: لأن زوجها كان له ولدٌ من غيرها فنسب ولدها إليها ليفرق بينهم وبين ولد الزوج الأخرى. وكانت من أولات الفضل، ودخلت على مروان بن محمد عند هلاك إبراهيم بن محمد بن علي الإمام تستأذنه في دفنه، فأذن لها.(9/174)
حدثت زينب عن أبيها عن جدها عن عبد الله بن العباس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أكل مما يسقط من الخوان نفى عنه الفقر، وصرف عن ولده الحمق ".
وبه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اللهم بارك لأمتي في بكورها، زاد غيره يوم خميسها ".
وعن أحمد بن الخليل بن مالك بن ميمون أبو العباس: رأيت زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس أيام المأمون وقد دخلت دار أمير المؤمنين، فرفع عطاء لها الستر، وعلي بن صالح يومئذ الحاجب حاجب المأمون وعطاء يخلقه فقام إليها فقبل رجلها في الركاب، وهي على حمار لها أشهب مختمرة بخمار عدني أسود، وعليها طيلسان مطبق أبيض. فقال علي بن صالح لها: يا مولاتي، حديث سمعته من أمير المؤمنين، يذكره عنك، قالت: اذكر منه شيئاً، قال: حديث أبيك عبد الله بن عباس حين بعثه العباس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمعت زينب تقول: أخبرني أبي عن جدي عن أبيه عبد الله بن عباس قال: بعثني أبي العباس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئت وعنده رجلٌ، فقمت خلفه، فلما قام الرجل التفت إلي فقال: يا حبيبي متى جئت؟ قلت: منذ ساعة. قال: فرأيت عندي أحداً؟ قلت: نعم، الرجل. قال: ذاك جبريل، أما إنه ما رآه أحد إلا ذهب بصره إلا أن يكون نبياً، وأنا أسأل الله أن يجعل ذلك في آخر عمرك، اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل، واجعله من أهل الإيمان.
توفيت بعد المأمون، وتوفي المأمون سنة ثماني عشرة ومئتين.
زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث
ابن هشام المخزومية قال يحيى بن حمزة: كان عبد الملك بن مروان فرض الصداق أربع مئة دينار لا يزاد عليها، وكان ذلك بدعةً منه، وذلك أنه خطب امرأة من قريش يقال لها زينب، ونافسه فيها رجل من أهل بيته، فقال لها ذلك الرجل: أصدقك عشرين ألف دينار. فتزوجته وتركت عبد الملك،(9/175)
فقال عبد الملك: أرى النساء يذهب بهن المهور، ولو كان المهر واحداً ما وضعت المرأة نفسها إلا في الفضل، وما كانت زينب تذهب إلى فلان عني. فكتب: لا يزاد في المهر على أربع مئة دينار. قال يحيى: فكان يقال لذلك الرجل: حزنت نفسك، فيقول: كعكات زينب أحب إلي من الدنيا وما فيها.
قال: وكانت توصف بشيء عجيب، كان مما توصف به أن تستلقي على قفاها فيرمى تحتها بالأترجة فتنفذ إلى الناحية الأخرى لعظم عجيزتها.
قال الزهري: كانت زينب بنت عبد الرحمن بارعة الجمال، وكانت تدعى: الموصولة، وكانت عند أبان بن مروان بن الحكم، فلما توفي أبان دخل عليه عبد الملك فرآها فأحدثت بنفسه، فكتب إلى أخيها المغيرة بن عبد الرحمن يأمره بالشخوص، فشخص إليه، فنزل على يحيى بن الحكم، فقال يحيى: إن أمير المؤمنين إنما بعث إليك لتزوجه أختك زينب، فهل لك في شيء أدعوك إليه؟ قال: هلم فاعرض. قال: أعطيك لنفسك أربعين ألف دينار ولها على رضاها وتزوجنيها. قال له المغيرة: ما بعد هذا شيء. فزوجه إياها. فلما بلغ عبد الملك ذلك أسف عليها، فاصطفى كل شيء ليحيى بن الحكم، فقال يحيى: كعكتين وزينب، يريد أن يجتزىء بكعكتين إذا كانت عنده زينب.
قال الزبير: وإنما قيل لها الموصولة لأنها كلما انثعب كل عضو منها ثم وصلت.
ومن شعر إبراهيم بن علي بن هرمة: من الطويل
فمن لم يرد مدحي فإن قصائدي ... نوافق عند الأكرمين سوام
نوافق عند المشتري الحمد بالندى ... نفاق بنات الحارث بن هشام
قال مصعب بن عثمان: كانت الجارية تولد لأحد آل الحارث بن هشام فيتراسل النساء تباشراً بها، ويرى أهلها أنهم بها أغنياء.(9/176)
زينب الكبرى بنت علي بن أبي طالب
كانت مع أخيها الحسين بن علي عليهم السلام حين قتل، وقدم بها على يزيد بن معاوية مع أهلها.
قال عطاء بن السائب: دلني أبو جعفر على امرأة يقال لها زينب بنت علي أو من بنات علي قالت: حدثني مولى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له: طهمان أو ذكوان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد، وإن مولى القوم منهم ".
وحدثت زينب بنت علي عن فاطمة بنت محمد قالت:
لما أجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رق لنا أول شيء، وألطفنا. قالت: ثم إن رجلاً من أهل الشام أحمر قام إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه يعنيني وكنت جارية وضيئة فأرعدت وفرقت، وظننت أن ذلك جائزٌ لهم، وأخذت بثياب أختي زينب، وكانت أختي زينب أكبر مني وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت: كذبت والله، ولؤمت، ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد فقال: كذبت والله! إن ذلك لي، لو شئت أن أفعله لفعلت. قالت: كلا والله، ما جعل الله ذلك لك إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا. قالت: فغضب يزيد واستطار، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوك وأخوك. فقالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك. قال: كذبت يا عدوة الله. قالت: أنت أمير تشتم ظالماً، وتقهر بسلطانك، قالت: فوالله لكأنه استحيا فسكت. ثم عاد الشامي، فقالت: فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية. قال: اغرب وهب الله لك خنقاً قاضياً. قالت: ثم قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهزهم بما لك خنقاً قاضياً. قالت: ثم قال يزيد بن معاوية: يا نعمان بن بشير، جهزهم بما يصلحهم، وابعث معهم رجلاً من أهل الشام أميناً صالحاً، وابعث معه خيلاً وأعواناً فيسير بهم إلى المدينة، ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في دار على حدة معهن أخوهن علي بن الحسين في(9/177)
الدار التي هو فيها. قال: فخرجن حتى دخلن دار يزيد فلم يبق من آل معاوية امرأة إلا استقبلتهن تبكي وتنوح على الحسين، فأقاموا عليه المناحة ثلاثاً، وكان يزيد لا يغتدي ولا يعتشي إلا دعا علي بن الحسين إليه. قال: فدعاه ذات يوم، ودعا عمرو بن الحسن بن علي وهو غلام صغير، فقال لعمرو: أتقاتل هذا؟ يعني خالداً ابنه قال: لا، ولكن أعطني سكيناً وأعطه سكيناً، ثم أقاتله. فقال له يزيد، وأخذه فضمه إليه:
شنشنة أعرفها من أخزم ... هل تلد الحية إلا حية
وعن زينب بنت علي أنها يوم قتل الحسين بن علي أخرجت رأسها من الخباء وهي رافعة عقيرتها بصوت عال تقول: من البسيط
ماذا تقول إن قال النبي لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم
ما كان هذا جزائي أن نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوءٍ من ذوي رحم
وذكر الزبير: أن زينب التي أنشدت هذه الأبيات زينب الصغرى بنت عقيل بن أبي طالب. أنشدتها بالبقيع تبكي قتلاها بالطف، وقال: فقال أبو الأسود الدؤلي: تقول: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ".(9/178)
زينب بنت يوسف بن الحكم الثقفية
أخت الحجاج.
كانت تحت المغيرة بن شعبة فطلقها، ثم تزوجها الحكم بن أيوب الثقفي، فلما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بالعراق بعث بها الحجاج في حرمة إلى دمشق خوفاً عليهم، فلما قتل ابن الأشعث كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان بالفتح، وكتب مع الرسول كتاباً إلى زينب يخبرها الخبر، فأعطاها الكتاب وهي راكبة على بغلة في هودج فنشرته تقرؤه، فسمعت البغلة قعقعة الكتاب فنفرت، وسقطت عنها، فاندقت عضدها وتهرأ جوفها فماتت، ثم عاد الرسول الذي بعثه بالفتح بوفاة زينب.
وكانت زينب هذه امرأة حازمة عفيفة، وهي التي شبب بها محمد بن عبد الله بن نمير الثقفي النميري، فمن قوله فيها: من الطويل
تضوع مسكاً بطن نعمان أن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ خفرات
أسماء الرجال على(9/179)
حرف السين المهملة
سابق بن عبد الله أبو سعيد
ويقال: أبو أمية، ويقال: أبو المهاجر الرقي المعروف بالبربري الشاعر.
قدم على عمر بن عبد العزيز.
حدث سابق عن مطرف بسنده عن علي قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر من أول الليل ووسطه وآخره، ثم ثبت له آخر الليل.
وحدث عن عمرو بن أبي عمر بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الحلال بينٌ الحرام بينٌ، وبين ذلك مشتبهاتٌ، فمن رتع فيهن قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أرفق بدينه كالمرتعي إلى جنب حمى، ومن ارتعى إلى جنب حمى فيوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله عز وجل في الأرض الحرام ".
وكان سابق بن عبد الله من البكائين.
وحدث سابق عن أبي خلف خادم أنس عن أنس بن مالك قال:
قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مدح الفاسق اهتز العرش، وغضب له الرب عز وجل.
كان أبو أمية أحد الزهاد المشهورين وهو القائل: من الطويل
وللموت تغذو الوالدات سخالها ... كما لخراب الدهر تبنى المساكن
وله: من البسيط
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ... ودورنا لخراب الدهر نبنيها(9/180)
والنفس تكلف بالدنيا وقد علمت ... أن السلامة منها ترك ما فيها
كتب عمر بن عبد العزيز إلى سابق البربري أن عظني، فكتب إليه: من البسيط
باسم الذي أنزل من عنده السور ... والحمد لله أما بعد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر ... فكن على حذرٍ قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرىءٍ عيشٌ يسر به ... إلا سيتبع يوماً صفوه الكدر
وأنشد العباس الخلال لسابق البربري: من البسيط
أصبحتم جزراً للموت يأخذكم ... كما البهائم في الدنيا لكم جزر
وليس يزجركم ما توعظون به ... والبهم يزجرها الراعي فتنزجر
ما يشعرون بما في دينهم نقصوا ... جهلاً وإن نقصوا دنياهم شعروا
أبعد آدم ترجون الخلود وهل ... تبقى فروعٌ لأصلٍ حين ينقعر
لا ينفع الذكر قلباً قاسياً أبداً ... والحبل في الحجر القاسي له أثر
قال أحمد بن محمد بن يزيد الأنصاري: كنا عند محمد بن مصعب القرقساني فقال لنا: بيتٌ من الشعر، فقال: من أخبرني لمن هو من الشعراء فله ثلاثون حديثاً. وكان معنا رجل يعرف الشعر فقال: قولوا له: أي بيت هو؟ قلنا له: يا أبا الحسن، أي بيت هو؟ فقال محمد بن مصعب: من البسيط
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه ... كما يجلي سواد الظلمة القمر
فقال الرجل: هذا لسابق البربري. قال: صدق، فأي شيءٍ بعده؟ قال: من البسيط
والعلم فيه حياةٌ للقلوب كما ... تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
قال: صدق والله، فأي شيء بعده؟ قال:(9/181)
فأنتم جزرٌ للموت يأخذكم ... كما البهائم في الدنيا لنا جزر
قال أبو علي الأنصاري: فحدثنا بالثلاثين التي وعد.
دخل سابق البربري على عمر بن عبد العزيز فقال له عمر: عظني يا سابق وأوجز. قال: نعم يا أمير المؤمنين، وأبلغ إن شاء الله. قال: هات. فأنشده: من الطويل
إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى ... ووافيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون شركته ... وأرصدت قبل الموت ما كان أرصدا
فبكى عمر حتى سقط مغشياً عليه.
سارية بن زنيم بن عمرو
ابن عبد الله بن جابر بن محمية بن عبد بن عدي بن الدئل بن عبد مناة ابن كنانة الدؤلي، ويقال: الأسدي، أبو زنيم.
له صحبة، وهو الذي ناداه عمر بن الخطاب من منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة وهو بفارس: يا سارية الجبل، وكان أميراً في بعض حروب الفرس.
وعن ابن عباس وغيره قالوا: قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بني عبد بن عدي فيهم الحارث بن وهبان وعويمر بن الأخرم وحبيب وربيعة ابنا ملة، ومعهم رهط من قومهم فقالوا: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنه وأعز من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلك غير قريش قاتلنا معك، ولكنا لا يقاتل قريشاً، وإنا لنحبك ومن أنت منه، وقد أتيناك، فإن أصبت منا أحداً خطأ فعليك ديته، وإن أصبنا أحداً من أصحابك فعلينا ديته، إلا رجلاً منا قد هرب، فإن أصبته أو أصابه أحدٌ من أصحابك فليس علينا ولا عليك، وأسلموا، فقال عويمر بن الأخرم: دعوني آخذ عليه. قالوا: لا، محمد لا يغدر ولا نريد أن نغدر به. فقال(9/182)
حبيب وربيعة: يا رسول الله، إن أسيد بن أبي أناس هو الذي هرب وتبرأنا إليك منه، وقد نال منك. فأباح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه، وبلغ أسيداً قولهما لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتى الطائف فأقام به، وقال لربيعة وحبيب: من الوافر
فإما أهلكن وتعيش بعدي ... فإنهما عدوٌّ كاشحان
فلما كان عام الفتح كان أسيد في أناسٍ فيمن أهدر دمه، فخرج سارية بن زنيم إلى الطائف فقال له أسيد: ما وراءك؟ قال: أظهر الله نبيه ونصره على عدوه، فاخرج ابن أخي إليه فإنه لا يقتل من أتاه. فحمل أسيد امرأته وخرج وهي حامل تنتظر، وأقبل فألقت غلاماً عند قرن الثعالب، وأتى أسيد أهله، فلبس قميصاً واعتم، ثم أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسارية قائمٌ بالسيف عند رأسه يحرسه، فأقبل أسيد حتى جلس بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، أهدرت دم أسيد؟ قال: نعم. قال: أفتقبل منه إن جاءك مؤمناً؟ قال: نعم. قال: فوضع يده في يد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هذه يدي في يدك أشهد أنك رسول الله وأن لا إله إلا الله. فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يصرخ: إن أسيد بن أبي أناس قد آمن، وقد أمنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومسح رسول الله وجهه وألقى يده على صدره فيقال: إن أسيد كان يدخل البيت المظلم فيضيء.
فيقال: هذا الشعر لابن أبي أناس، ويقال: لسارية: من الطويل
فما حملت من ناقةٍ فوق كورها ... أبر وأوفى ذمةً من محمد
ولما أنشده من هذه القصيدة:
أأنت الذي يهدي معداً لدينها ... بل الله يهديها وقال لك: اشهد(9/183)
فلما أنشده:
أأنت الذي يهدي معداً لدينها.....................
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل الله يهديها فقال الشاعر:
بل الله يهديها وقال لك: اشهد
وعن حرام بن خالد قال: لما قدم ركب خزاعة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستنصرونه قالوا: يا رسول الله، إن أنس بن زنيم بن عمرو بن عبد الله قد هجاك. فنذر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه، فلما كان يوم الفتح أسلم وأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتذر إليه مما بلغه عنه، فقام نوفل بن معاوية الدؤلي فقال: أنت أولى الناس بالعفو، وحرمتنا منك ما قد علمت، لم نؤذك في الجاهلية، ولم نعاد ربك في الإسلام. فعفا عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال نوفلك فداك أبي وأمي.
وأنس بن زنيم هو أخو سارية بن زنيم.
وكان سارية بن زنيم خليعاً في الجاهلية، وكان أشد الناس خطراً على رجليه، ثم أسلم وحسن إسلامه.
الخليع: اللص السريع العدو، الكثيرة الغارة.
قالوا: وأسيد بن أبي أناس وهو أسيد بن زنيم، ويقال: أنس بن زنيم.
وزنيم بضم الزاي وبعدها نون.
وعن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً يدعى سارية، قال: فبينا عمر يخطب، قال: فجعل يصيح، وهو على المنبر، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، قال: فقدم رسول الجيش فسأله: فقال: يا أمير المؤمنين، لقينا عدونا(9/184)
فهزمونا، فإذا صائح يصيح: يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، يا سارية الجبل، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزمهم الله. فقيل لعمر: إنك كنت تصيح بذلك.
وفي حديث آخر بمعناه: يا سارية بن زنيم الجبل، يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم من استرعى الذئب الغنم. وفي آخره فقيل لعمر بن الخطاب: ما ذلك الكلام؟ فقال: والله ما ألقيت له بالاً، شيء أتى على لساني.
وفي حديث آخر بمعناه: ثم قال: يا سارية الجبل الجبل. ثم أقبل عليهم وقال: إن لله عز وجل جنوداً، ولعل بعضها أن تبلغهم.
وفي حديث آخر قالوا:
كان عمر رضي الله عنه قد بعث سارية بن زنيم الدؤلي إلى فسا ودرابجرد، فحاصروهم، ثم إنهم تداعوا، وأصحروا له، وكثروه، فأتوه من كل جانب، فقال عمر وهو يخطب في يوم جمعة: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ولما كان ذلك اليوم وإلى جنب المسلمين جبل إلى ألجئوا إليه لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فألجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم فهزموهم، فأصاب مغانم، وأصاب في المغنم سفطاً فيه جوهر، فاستوهبه من المسلمين لعمر فوهبوه له، فبعث به رجلاً وبالفتح، وكان الرسل والوفد يجازون وتقضى لهم حوائجهم، فقال له سارية: استقرض ما تبلغ به وتخلفه لأهلك على جائزتك. فقدم الرجل البصرة ففعل، ثم خرج فقدم على عمر فوجده يطعم الناس ومعه عصاه التي يزجر بها بعيره، فقصد له، فأقبل عليه بها. فقال: اجلس. فجلس حتى إذا أكل انصرف عمر وقام، فاتبعه،(9/185)
فظن عمر أنه رجل لم يشبع فقال حين انتهى إلى باب داره: ادخل، وقد أمر الخباز أن يذهب بالخوان إلى مطبخ المسلمين، فلما جلس في البيت أتي بغدائه خبز وزيت وملح جريش، فوضع وقال: ألا تخرجين يا هذه فتأكلين. قالت: إني لأسمع حس رجلٍ. فقال: أجل. فقالت: لو أردت أن أبرز للرجال اشتريت لي غي هذه الكسوة. فقال: أو ما ترضين أن يقال أم كلثوم بنت علي وامرأة عمر؟ قالت: ما أقل غناء ذلك عني. ثم قال للرجل: ادن فكل، فلو كانت راضية لكان أطيب مما ترى. فأكلا حتى إذا فرغ قال رسول سارية بن زنيم: يا أمير المؤمنين، قال: مرحباً وأهلاً. ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته. ثم سأله عن المسلمين، ثم سأله عن سارية بن زنيم فأخبره، ثم أخبره بقصة الدرج فنظر إليه ثم صاح به، يا أمير المؤمنين، إني قد أنضيت إبلي، واستقرضت على جائزتي فأعطني ما أتبلغ به، فما زال عنه حتى أبدله بعيراً ببعيره من إبل الصدقة. ورجع الرسول مغضوباً عليه محروماً حتى قدم البصرة فنفذ لأمر عمر. وقد سأله أهل المدينة عن سارية وعن الفتح، وهل سمعوا شيئاً يوم الوقعة فقال: نعم سمعنا: يا سارية الجبل، وقد كدنا أن نهلك، فألجأنا إليه ففتح الله علينا.
قال خليفة بن خياط: ويقال: افتتح أصبهان سارية بن زنيم صلحاً وعنوة.
سالم بن أبي أمية أبو النضر
مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي القرشي وفد على عمر بن عبد العزيز في خلافته.
حدث أبو النضر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت: كنت أنام بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجلاي في قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها. قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح.(9/186)
قال أبو النضر: دسست إلى عمر بن عبد العزيز بعض أهله، أن أقل له: إن فيك كبراً، أو إنه يتكبر. فقيل ذلك له، فقال عمر: قل له: ليس ما ظننت، إن كنت تراني أتوقى الدينار والدرهم مراقبة لله عز وجل وأنطلق إلى أعظم الذنوب فأركبه، الكبرياء إنما هو رداء الرحمن فأنازعه إياه. ولكن كنت غلاماً بين ظهراني قومي، يدخلون علي بغير إذن، ويتوطؤون فرشي، ويتناولون مني ما يتناول القوم من أخيهم الذي لا سلطان له عليهم. فلما أن وليت خيرت نفسي في أن أمكنهم من حالهم التي كنت لهم عليها، وأخالفهم فيما خالف الحق، أو أتمنع منهم في بابي ووجهي ليكفوا عني أنفسهم وعن الذي أحذر عليهم لو كنت جرأتهم على نفسي من العقوبة والأدب. فهو الذي دعاني إلى هذا.
وكان أبو النضر صالحاً ثقة حسن الحديث.
قال داود بن عبد الرحمن: كان لعمر بن عبد العزيز أخوان في الله عبدين: أحدهما زياد والآخر سالم، فدخل عليه زياد وعنده امرأته فاطمة بنت عبد الملك، فأراد أن تقوم فقال لها: إنما هو زياد عمك. ثم نظر إليه فقال: زياد في دراع من صوف لم يل من أمور المسلمين شيئاً. ثم ألقى بثوبه على وجهه فبكى، فقال لامرأته: ما هذا؟ قالت: هذا عمله منذ استخلف. قال: ودخل عليه سالم فقال: يا سالم، إني أخاف أن أكون قد هلكت. قال: إن تك تخاف فلا بأس، ولكن عبد خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وأباحه الجنة. عصى الله معصية واحدة، فأخرجه بها من الجنة، وأنا وأنت نعصي الله في كل يوم وليلة، ونتمنى على الله الجنة.
توفي أبو النضر سالم في زمن مروان بن محمد، في سنة تسع وعشرين، وقيل سنة ثلاث وثلاثين ومئة.(9/187)
سالم بن حامد
أمير دمشق من قبل المتوكل. كان سيىء السيرة. كان المتوكل قد ولى على أهل دمشق رجلاً من أصحابه يقال له: سالم بن حامد من العرب، فخرج من العراق في أربعة آلاف فارس وراجل من قومه وغيرهم، حتى إذا صار بدمشق وملكها أذل قوماً بها كان بينه وبينهم دم في أول أيام بني العباس وآخر أيام بني أمية، وكان لبني بيهس ولجماعة من قريش دمشق وسائر العرب من السكون والسكاسك وغيرهم قوةٌ، وعدة، ونجدة، وكلمة مقبولة، فلما رأوا كثرة تعدي سالم بن حامد، وجوره، وظلمه، وعتوه وثبوا عليه فقتلوه على باب الخضراء بدمشق في يوم جمعة، وقتلوا من قدروا عليه من أصحابه، وسلطوا الموالي على رحالهم وأموالهم فنهبوها، وبلغ ذلك المتوكل فقال: من للشام؟ وليكن في صولة الحجاج! فقيل له: أفريدون التركي، وكان أفريدون غلاماً من الأتراك الذين كانوا مع جعفر المتوكل شجاعاً سفاكاً للدماء، فدعا المتوكل بأفريدون وعقد له على دمشق، وولاه عليها، فسار إليها في سبعة آلاف فارس وثلاثة آلاف راجل، وأطلق على المتوكل القتل بدمشق يوماً إلى ارتفاع النهار، وأباحه النهب ثلاثة أيام.
فسار أفريدون إلى دمشق، ونزل بقرية السكون والسكاسك: بت لهيا، فلما أصبح قال: يا دمشق! أيش لا يحل بك مني في يومي هذا؟ ثم دعا بفرسه ليركبه ويقال: بغلة دهماء فلما هم أن يضع رجله في الركاب ضربته بالزوج على فؤاده، فسقط من ساعته ميتاً، وخيت الله سعيه، وقطع أمله، فقبر ببيت لهيا، وقبره معروف إلى اليوم، وصار حديثاً ومثلاً، وانصرف العسكر راجعاً إلى العراق خائباً، لم يدخلوا دمشق حتى وافاها المتوكل بحسن نيةٍ، وإضمار الجميل من الفعل، فبنى بها قصراً في ناحية داريا ثم انصرف عنها، فقتله الأتراك بالعراق.(9/188)
سالم بن سلمة بن نوفل
ابن عبد العزى بن أبي نصر بن جهمة بن مطرود بن مازن بن عمرو بن عميرة ابن الحارث ابن تيم بن سعد بن هذيل بن مدركة ويقال ابن سلمة بن عمرو أبو سبرة الهذلي البصري من بني سعد بن هذيل وهو الوالد الجارود بن أبي سبرة، وفد على معاوية رسولاً من زياد.
حدث أبو سبرة قال: كان عبيد الله بن زياد يسأل عن الحوض، حوض محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يكذب به بعدما سأل أبا برزة، والبراء بن عازب، وعائذ بن عمرو، ورجلاً آخر، ويكذب به، فقال أبو سبرة: أنا أحدثك بحديث فيه شفاء هذا، إن أباك بعث معي بمال إلى معاوية، فلقيت عبد الله بن عمرو، فحدثني مما سمع من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأملى علي، فكتبت بيدي، فلم أزد حرفاً، ولم أنقص حرفاً، حدثني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تعالى لا يحب الفحش أو يبغض الفاحش والمتفحش ". قال: لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والتفاحش، وقطيعة الرحم، وسوء المجاورة، وحتى يؤتمن الخائن ويخون الأمين، وقال: ألا إن موعدكم حوضي، عرضه وطوله واحد، وهو كما بين أيلة ومكة، وهو مسيرة شهر، فيه مثل النجوم أباريق، شرابه أشد بياضاً من الفضة، من شرب منه مشرباً لم يظمأ بعده أبداً، فقال عبيد الله: ما سمعت في الحوض حديثاً أثبت من هذا. وصدق به، وأخذ الصحيفة فحبسها عنده.
وفي حديث آخر عند قوله: ويخون الأمين، ومثل العبد المؤمن كمثل القطعة الجيدة من الذهب نفخ عليها فخرجت طيبة، ووزنت فلم تنقص. قال: ومثل العبد المؤمن كمثل النخلة أكلت طيباً، ووضعت طيباً، ووقعت فلم تكسر ولم تفسد. وفي حديث آخر: إن أسلم المسلمين لمن سلم المسلمون من لسانه ويده، وإن أفضل الهجرة لمن هجر ما نهى الله عنه.(9/189)
سالم بن عبد الله بن عمر
ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبيد الله ويقال: أبو عمر العدوي المدني الفقيه قدم الشام على عبد الملك بن مروان بكتاب أبيه بالبيعة له، وعلى الوليد بن عبد الملك، وعلى عمر بن عبد العزيز.
حدث سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دعا رفع يديه، وإذا فرغ ردهما على وجهه.
وعن سالم عن أبيه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى الصبح، ثم استقبل مطلع الشمس فقال: ألا إن الفتن من ههنا ثلاث مرات ومن ثم يطلع قرن الشيطان.
وعن سالم عن أبيه:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في نفر من أصحابه، فأقبل عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ألستم تعلموني أني رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى، نشهد أنك رسول الله. قال: ألستم تعلمون أنه من أطاعني فقد أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتي؟ قالوا: بلى، نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، ومن طاعة الله طاعتك. قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، ومن طاعتي أن تطيعوا أمراءكم، أطيعوا أمراءكم، وإن صلوا قعوداً فصلوا قعوداً.
قال سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به، وكان سالم بن عبد الله أشبه ولد عبد الله به. قال مالك: ولم يكن أحد في زمان سالم بن عبد الله أشبه بمن مضى من الصالحين في الزهد، والقصد، والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشتري الشمال يحملها.(9/190)
قال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السحنة: أي شيءٍ تأكل؟ قال: الخبز والزيت، وإذا وجدت اللحم أكلته. فقال عمر له: أو تشتهيه؟ قال: إذا لم أشتهه تركته حتى أشتهيه.
وعن نافع قال: كان ابن عمر يلقى ابنه سالماً فيقبله ويقول: شيخ يقبل شيخاً. ويقول: إني أحبك حبين: حب الإسلام وحب القرابة.
كان عبد الله بن عمر يلام في حب سالم فكان يقول: من الطويل
يلومونني في سالمٍ وألومهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
قال أبو الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد، حتى نشأ فيهم القراء السادة: علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقهاء، ففاقوا أهل المدينة علماً، وتقى، وعبادةً، وورعاً. فرغب الناس حينئذٍ في السراري.
قال عطاء بن السائب: دفع الحجاج إلى سالم بن عبد الله سيفاً وأمره بقتل رجل فقال سالم للرجل: أمسلم أنت؟ قال: نعم. امض لما أمرت به. قال: فصليت اليوم صلاة الصبح؟ قال: نعم. قال: فرجع إلى الحجاج، فرمى إليه السيف وقال: إنه ذكر أنه مسلم وأنه قد صلى صلاة الصبح اليوم، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله ". قال الحجاج: لسنا نقتله على صلاة الصبح، ولكنه ممن أعان على قتل عثمان. فقال سالم: ههنا من هو أولى بعثمان مني. فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فقال: ما صنع سالم؟ قالوا: صنع كذا وكذا. فقال ابن عمر: مكيس.(9/191)
قال علي بن زيد: دخلت على سالم بن عبد الله منزله وكان لا يأكل إلا معه مسكين. قال: فأرسل ولاه يأتيه بمسكين، فأتاه بعجوز عمياء حدباء، فأدناها، فأكلت معه.
وكان سالم إذا خرج عطاؤه فإن كان عليه دين قضاه، ثم يصل منه إن أراد أن يصل، ويتصدق منه، ثم يحبس لعياله نفقتهم، ثم كتب على ما بقي: للحج إن شاء الله، أو للعمرة إن شاء الله.
وكان لسالم بن عبد الله بن عمر حمار هرم، فنهاه بنوه عن ركوبه، فأبى أن يدعه، قال: فجدعوا أذنه، فأبى أن يدع ركوبه، ثم جدعوا أذنه الأخرى فأبى أن يدع ركوبه، قال: فقطعوا ذنبه فركبه أجدع الأذنين أبتر الذنب.
وكان سالم بن عبد الله يخرج إلى السوق فيشتري حوائج نفسه.
دخل سالم بن عبد الله بن عمر على سليمان بن عبد الملك وعلى سالم ثيابٌ غليظة رثةٌ، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه، حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز، في المجلس، فقال له رجل من أخريات الناس: أما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرةً أحسن من هذه، ويدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سرية لها قيمة فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك هذا، ولا رأيت ثيابك هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك.
قال الحافظ: لقد أحسن عمر في جوابه، وأجاد في الذب عن خاله، ولقد أحسن الذي قال: من الكامل
قد يدرك الشرف الفتى وإزاره ... خلقٌ وجيب قميصه مرقوع
قال سفيان بن عيينة: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة فإذا هو بسالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال(9/192)
له: يا سالم، سلني حاجةً. فقال: إنني أستحيي من الله تبارك وتعالى أن أسأل في بيت الله غير الله. فلما خرج خرج في إثره فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجةً. فقال له سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: من حوائج الدنيا. فقال له سالم: أما والله ما سألت الدنيا من يملكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟
زحم سالم بن عبد الله رجلاً، فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوءٍ! فقال سالم: ما أحسبك أبعدت.
قال سالم: رأيت كأني انتهيت إلى باب الجنة فقرعته، فقيل لي: من؟ قلت: سالم بن عبد الله بن عمر. فقيل: كيف يفتح لرجل لم تغبر قدماه في سبيل الله؟ قال: فأصبح يقول لأهله: جهزوني.
وقال سالم: بلغني أن الرجل يسأل يوم القيامة عن فضل علمه كما يسأل عن فضل ماله.
أقبل سالم بن عبد الله بن عمر يرمي الجمرة يوم النحر، فأطلعت امرأة كفاً خضيباً من خدرها لترمي، فجاءت حصاةً فصكت كفها فولولت وطرحت حصاتها. فقال لها سالم: ترجعين صاغرة قميئة فتأخذين حصاك من بطن الوادي فترمين به حصاةً حصاةً، فقالت: يا عم، أنا والله من الطويل
من اللائي لم يحججن يبغين حسبةً ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
قال: قد قبحك الله! حج هشام بن عبد الملك فجاءه سالم بن عبد الله فأعجبته سحنته فقال له: أي شيءٍ تأكل؟ قال: الخبز والزيت. قال: فإذا لم تشتهه؟ قال: أخمره حتى أشتهيه. فعانه هشام، فمرض ومات، فشهده هشام، وأجفل الناس في جنازته، فرآهم هشام فقال: إن أهل المدينة لكثير، فضرب عليهم بعثاً، أخرج فيه جماعة منهم، فلم يرجع منهم أحد،(9/193)
فتشاءم به أهل المدينة وقالوا: عان فقيهنا، وعان أهل بلدنا.
توفي سالم سنة خمس ومئة: وقيل: سنة ست ومئة في آخرها، ووافق موته حج هشام، ثم قدم المدينة فصلى عليه. وقيل: توفي سنة سبع ومئة، وقيل: سنة ثمان ومئة.
سالم بن عبد الله
أبو عبيد الله المحاربي قاضي دمشق، من ساكني داريا، وكان من حملة القرآن وممن يحضر الدراسة في جامع دمشق.
حدث عن سليمان بن حبيب المحاربي عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من عبدٍ يصرع صرعة مرضٍ إلا بعثه الله منها طاهراً ".
سالم بن وابصة بن معبد الأسدي الرقي
حدث سالم بن وابصة عن أبيه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن شر هذه السباع هذه الأثعل ".
قال مبشر أحد رواة هذا الحديث: وهذا الحرف تفاخر به أهل العربية لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاله وهو يعني الثعالب.(9/194)
وعن جعفر بن برقان قال: خطبنا سالم بن وابصة بالرقة على المنبر فذكر عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطبهم يوم عرفة فقال: " أيها الناس، إني لا أراني وإياكم نجتمع في هذا المجلس أبداً، فأي يوم هذا؟ قالوا: عرفة. قال: فأي بلد هذا؟ قالوا: البلد الحرام. قال: فأي شهرٍ هذا؟ قالوا: الشهر الحرام. قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. هل بلغت؟ اللهم اشهد ".
كان سالم بن وابصة الأسدي رجلاً حليماً، وكان له ابن عم سفيه يحسده، ولم يكن يبلغ في الشرف مبلغه، فكان ينتقصه، فقال سالم ذلك لإخوانه وخاصته من بني عمه، فقال رجل منهم: تعهد أهله وولده بالصلة ودعه فإنه سيصلح. ففعل، فأتاه ابن عمه ذاك فقال له: أنت أحق الناس بما صنعت، وأنت أولى بالكرم مني، والله لا أعود لشيءٍ تكرهه أبداً مني. فقال سالم في ذلك: من البسيط
ذو نيربٍ من موالي السوء ذو حسدٍ ... يقتات لحمي فما يشفيه من قرم
كقنفذ الرمل ما تخفى مدارجه ... خب إذا نام عنه الناس لم ينم
محتضناً ظرباناً ما يزايله ... يبدي لي الغش والعوراء في الكلم
داويت قلباً طويلاً غمره قرحاً ... منه وقلمت أظفاراً بلا جلم
بالرفق والحلم أسديه وألحمه ... بقياً وحفظاً لما لم يرع من رحمي
كأن سمعي إذا ما قال محفظةً ... يصم عنها وما بالسمع من صمم(9/195)
حتى اطبى وده رفقي به ولقد ... أنسيته الحقد حتى عاد كالحلم
فأصبحت قوسه دوني موترةً ... يرمي عدوي جهاراً غير مكتتم
إن من الحلم ذلاً أنت عارفه ... والحلم عن قدرةٍ ضربٌ من الكرم
سالم بن الزعيزعة
مولى مروان بن الحكم وكاتبه وكاتب ابنه عبد الملك بن مروان، وكان على الرسائل لعبد الملك وولاه الحرس.
حدث عن مكحول عن عروة عن عائشة قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً ما يقول لي: ما فعلت أبياتك؟ فأقول: أي أبياتي تريد؟ فإنها كثير، فيقول: في الشكر، فأقول: نعم بأبي وأمي، قال الشاعر: من الكامل
ارفع ضعيفك لا يحربك ضعفه ... يوماً فتدركه العواقب قد نما
يجزيك أو يثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
إن الكريم إذا أردت وصاله ... لم تلف رثاً حبله واهي القوى
قالت: فيقول: نعم يا عائشة، إذا حشر الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد من عباده اصطنع إليه عبدٌ من عباده معروفاً: فهل شكرته؟ فيقول: أي رب، علمت أن ذلك منك فشكرتك. فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكر من أجريت ذلك على يديه.(9/196)
حدث أبو الزعيزعة كاتب مروان بن الحكم: أن مروان دعا أبا هريرة، فأقعده خلف السرير، فجعل يسأله، وجعلت أكتب، حتى إذا كان عند رأس الحول دعا به، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدم ولا أخر.
وعن أبي الزعيزعة: أن مروان بعث معه إلى أبي هريرة بمئة دينار، فلما كان الغد قال له: اذهب فقل له: إنما أخطأت، وليس إليك بعث بها، وإنما أراد مروان أن يعلم أيمسكها أبو هريرة، أو يفرقها. قال: فأتيته، فقال: ما عندي منها شيء، ولكن إذا خرج عطائي فاقتصوها.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي الزعيزعة: هل أتخمت قط؟ قال: لا. قال: لم؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا رفقنا، ولا نكظ المعدة، ولا نخليها.
سالم خادم ذي النون الإخميمي
صحبه وحدث عنه قال: بينا أنا أسير مع ذي النون في جبل لبنان إذ قال لي: مكانك يا سالم، لا تبرح حتى أعود إليك. فغاب عني ثلاثة أيام، وأنا أتقمش من نبات الأرض وبقولها، وأشرب من غدر الماء، ثم عاد بعد ثلاث متغير اللون خائراً، فلما رآني ثابت إليه نفسه فقلت له: أين كنت؟ فقال: إني دخلت كهفاً من كهوف الجبل، فرأيت رجلاً أغبر أشعث نحيفاً نحيلاً، كأنما أخرج من حفرته، وهو يصلي، فلما قضى صلاته سلمت عليه، فرد علي، وقام إلى الصلاة، فما زال يركع ويسجد حتى قرب العصر. فصلى العصر، واستند إلى حجر المحراب يسبح. فقلت له: يرحمك الله توصيني بشيء، أو تدعو لي بدعوة. فقال: يا بني، آنسك الله بقربه. وسكت. فقلت: زدني. فقال: يا(9/197)
بني، من آنسه الله بقربه أعطاه أربع خصالٍ: عزاً من غير عشيرة، وعلماً من غير طلب، وغنًى من غير مال، وأنساً من غير جماعة. ثم شهق شهقةً فلم يفق إلى الغد، حتى توهمت أنه ميتٌ، ثم أفاق فقام وتوضأ، ثم قال: يا بني كم فاتني من الصلوات؟ قلت: ثلاث. فقضاها ثم قال: إن ذكر الحبيب هيج شوقي، وأزال عقلي. قلت: إني راجع فزدني. قال: حب مولاك، ولا ترد بحبه بديلاً: فإن المحبين لله هم تيجان العباد وزين البلاد. ثم صرخ صرخةً، فحركته فإذا هو ميت، فما كان إلا بعد هنيهةٍ إذا بجماعة من العباد منحدرين من الجبل. فصلوا عليه، وواروه، فقلت: ما اسم هذا الشيخ؟ قالوا: شيبان المجنون. قال سالم: فسألت أهل الشام عنه فقالوا: كان مجنوناً، هرب من أذى الصبيان. قلت: فهل تعرفون من كلامه شيئاً؟ قالوا: نعم، كلمةً، كان إذا خرج إلى الصحاري يقول: فإذا ما لم أجن بإلهي فبمن؟ وربما قال: فإذا ما لم أجن بك ربي فبمن؟.
السائب بن أحمد بن حفص
ابن عمر بن صالح بن عطاء بن السائب بن أبي السائب أبو عطاء القرشي المخزومي العماني من أهل البلقاء.
حدث عن أبيه بسنده عن سحيم مولى بني زهرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يغزو هذا البيت جيشٌ، فيخسف بهم في البيداء ".
السائب بن حبيش الكلاعي
من أمراء دمشق، وكان على دواوين قنسرين في خلافة بني مروان.
حدث عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: قال لي أبو الدرداء: أين مسكنك؟ قال: قلت: في قريةٍ دون حمص. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من ثلاثة في قريةٍ زاد في حديث آخر: ولا بدو ولا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، عليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية.
قال السائب: يعني بالجماعة الجماعة في الصلاة.(9/198)
السائب بن عمر بن حفص
ابن عمر بن صالح بن عطاء بن السائب بن أبي السائب المخزومي حدث عن جده حفص بن عمر بسنده عن عروة قال: قالت عائشة رضي الله عنها:
سأل أناس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الكهان فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليسوا بشيء. قالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تلك الكلمة يخطفها الرجل من الجن فيقذفها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مئة كذبة ".
السائب بن مهجان ويقال ابن مهجار
من أهل إيلياء.
حدث عن عمر بن الخطاب خطبته بالجابية، وأظنه شهدها.
حدث السائب بن مهجان أو ابن مهجار من أهل إيلياء، وكان قد أدرك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه أول من جهز البعث إلى الشام فأدخل نعليه في ذراعه، فقالوا: ألا تلبس نعليك؟ قال: إني أحتسب في مشيي معكم الخير. فبعث أبا عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو عبيدة عليهم، فقال: لا تعصوا، ولا تغلوا، ولا تجبنوا، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تعزقوه، ولا تعقروه بهيمةً أحشرتموها، ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تهدموا صومعة، ولا تقتلوا صغيراً ولا عجوزاً، ولا شيخاً، وستجدون قوماً حبسوا أنفسهم في رؤوس الصوامع فاتركوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون قوماً اتخذت الشياطين في أوساط رؤوسهم أفحاصاً فاقتلوهم. اللهم إني قد بلغت، ووعظت، وذكرت، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، سيروا على بركة الله، أحسن الله صحابتكم، وخلف على من تركتم بخير.(9/199)
وكان من قدر الله أن أبا بكر توفي واستخلف عمر بن الخطاب، وكان فتح الشام على يدي عمر، ولا علم لعمر بفتح الشام، ولا علم لأهل الشام بخلافة عمر. فلما بلغتهم خلافته قالوا: فظ غليظٌ شديد، ما هو لنا بملائم، وكرهوا خلافته. ثم بعثوا رجالاً إليه فقالوا: انظروا كيف عدله، وقربه، ولينه. فلما قدم عليه الوفد قالوا: السلام عليك يا خليفة خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وعليكم، من أين أقبلتم؟ قالوا: أقبلنا من الشام. قال: فكيف تركتم من وراءكم من أهل الشام؟ قالوا: تركناهم سالمين صالحين، لعدوهم قاهرين، لبيعتك كارهين، منك مشفقين. فرفع عمر يده إلى السماء فقال: اللهم، حببهم إلي وحببني إليهم.
ثم سار إلى الشام بعد ذلك، فلما دخل الشام حمد الله، وأثنى عليه، ووعظ، وذكر، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، ثم قال: " إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا خطيباً كمقامي فيكم فأمر بتقوى الله، وصلة الرحم، وصلاح ذات البين، وقال: عليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة، وإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون رجلٌ بامرأة، فإن الشيطان ثالثهم، ومن ساءته سيئته وسرته حسنته فهو أمارة المسلم المؤمن، وأمارة المنافق الذي لا تسوءه سيئته، ولا تسره حسنته، إن عمر خيراُ لم يرج من الله في ذلك الخير ثواباً، وإن عمل شراً لم يخف من الله عز وجل في ذلك الشر عقوبةً، وأجملوا في طلب الدنيا، فإن الله عز وجل قد تكفل بأرزاقكم، وكل سيبين له عمله الذي كان عاملاً، استعينوا بالله على أعمالكم، فإنه يمحو " ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ". صلى الله على محمد ".
هذه خطبة عمر بن الخطاب على أهل الشام، يأثرها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/200)
السائب بن يزيد بن سعيد
ابن ثمامة بن الأسود بن عبد الله بن الحارث الولادة ابن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر ابن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة وهو عفير بن عدي بن الحارث أبو يزيد الكندي ابن أخت نمر له صحبةٌ، وحدث عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال السائب بن يزيد: خرجت مع الصبيان إلى ثنية الوداع، نتلقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك.
وحدث سفيان عن الزهري قال: أذكر أني خرجت مع الصبيان نتلقى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ثنية الوداع من تبوك.
وعن عمر بن عطاء بن أبي الخوار: أن نافع بن جبير أرسله إلى السائب يعني ابن يزيد يسأله عن شيء رآه من معاوية في الصلاة فقال: نعم، صليت معه الجمعة في المقصورة، فلما سلم قمت في مقامي فصليت، فلما دخل أرسل إلي فقال لي: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم أو تخرج، فإن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بذلك أن لا توصل صلاة بصلاة حتى تتكلم أو تخرج.
حج السائب مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن سبع سنين، وذهبت به خالته إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مريض، فمسح رأسه، ودعا له بالبركة، وتوضأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشرب من وضوئه، ونظر إلى خاتمٍ بين كتفيه.(9/201)
ويقال: حج مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمره عشر سنين.
وقيل: ولد في سنة ثلاث من الهجرة، ومات في سنة سبع وتسعين وهو ابن سبع وتسعين سنة.
وقيل: مات وهو ابن أربع وتسعين سنة وكان جلداً معتدلاً.
وقال: علمت ما متعت به سمعي وبصري إلا بدعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إن ابن أختي شاكٍ فادع الله له. قال: فدعا لي.
وقيل توفي سنة اثنتين وثمانين. وقيل: سنة إحدى وتسعين.
حدث السائب بن يزيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قام يصلي فقمت خلفه، فرأيت الخاتم بين كتفيه.
وحدث السائب بن يزيد قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل عبد الله بن خطل وأخرجوه من تحت أستار الكعبة، فضرب عنقه بين زمزم والمقام، ثم قال: لا يقتل قرشي بعد هذا صبراً.
حدث عطاء مولى السائب قال: كان شعر السائب بن يزيد أسود من هامته إلى مقدم رأسه، وكان سائر رأسه مؤخره وعارضيه ولحيته أبيض، فقلت يوماً: ما رأيت أحداً أعجب شعراً منك! قال: فقال لي: أو لا تدري مم ذاك يا بني؟ إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بي وأنا ألعب مع الصبيان، فمسح يده على رأسي وقال: بارك الله فيك، فهو لا يشيب أبداً.(9/202)
قال ابن شهاب: ما اتخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاضياً ولا أبو بكر ولا عمر حتى قال عمر للسائب ابن أخت نمر: وجه عني بعض الأمر. حتى كان عثمان قال الزهري: بعض الأمور، وقال: يعني صغيرها.
وعن ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أنه كان يعمل مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على عشور السوق في عهد عمر بن الخطاب، فكنا نأخذ من النبط نصف العشر مما تجروا به من الحنطة، فقال ابن شهاب: فحدثت به سالم بن عبد الله بن عمر فقال: لقد كان عمر يأخذ من القطنية العشور، ولكن إنما وضع نصف العشر يسترضي النبط للحمل إلى المدينة.
وقيل: مات السائب سنة ثمانين.
السائب بن يسار أبو جعفر المديني
مولى بني ليث، المعروف بسائب خاثر، مغن معروف، وكان غنى صوتاً ثقيلاً فقالوا: هذا غناء خاثر غير ممذوق. فلقب خاثراً.
كان منقطعاً إلى عبد الله بن جعفر، فنسب إلى ولائه، وكان عبد الله بن جعفر يخرج به إلى معاوية إذا خرج وغيره من القرشيين، فقال معاوية لعبد الله بن جعفر: هذا الرجل الذي لا يخلو من رقاعكم ومن حوائجكم، ترفعون اسمه في حوائجكم! أي شيءٍ صناعته؟ قال له عبد الله بن جعفر: إن شئت يا أمير المؤمنين أن يدخل عليك، حتى يسمعك بعض صناعته. فدخل على معاوية بن أبي سفيان، وهو على وسادة قد جلس عليها، فقال له عبد الله بن جعفر: أسمع أمير المؤمنين بعض ما عندك. قال: فأسمعه، فلما سمع بعض ذلك قال: قم، لا أقام الله رجليك، والله لقد كدت أن أقوم عن وسادتي. قيل: إن سائباً قتل يوم الحرة.(9/203)
سباع أبو محمد الموصلي الزاهد
صحب المضاء بن عيسى الزاهد وجالسه.
قال مضاء العابد لسباع العابد: يا أبا محمد، إلى أي شيء أفضى بهم الزهد؟ قال: إلى الأنس به.
وفي حديث آخر: قال له: يا أبا محمد، أي شيءٍ أفضى بهم إلى الزهد؟ قال: الأنس بالله.
سبرة ويقال سمرة بن العلاء
ابن الضخم الدمشقي حدث عن الزهري: أن أهل ذا الحليفة كانوا يجمعون مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك على مسيرة أميالٍ من المدينة.
سبرة ويقال سمرة بن فاتك الأسدي
أخو خريم بن فاتك.
له صحبة، شهد فتح دمشق، وهو الذي تولى قسمة المساكن بين أهلها بعد الفتح، فكان ينزل الرومي في العلو، وينزل المسلم في السفل لئلا يضر المسلم بالذمي. وقيل: إنه شهد بدراً.
روى سمرة بن فاتك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الميزان بيد الله يرفع قوماً ويضع قوماً، وقلب ابن آدم بين اصبعين من أصابع الرب عز وجل إذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه.(9/204)
روي عن أبي مطيع: سبرة بالباء.
وعن سمرة بن فاتك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
نعم الرجل سمرة، لو أخذ من لمته وشمر من إزاره. قال: فذهب فأخذ من لمته وقصر من إزاره.
وسمرة بن فاتك وأخوه خريم من بني أسد بن خزيمة بن مدركة. قال ابن سعد: الفاتك جده وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن الفاتك وهو القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة، وأخوه سبرة بن فاتك الأسدي.
قال مروان بن الحكم لأيمن بن خريم: ألا تخرج فتقاتل معنا؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً، وإنهما عهدا إلي ألا أذل أحداً يقول: لا إله إلا الله، فإن أنت جئتني ببراءةٍ من النار قاتلت معك. قال: فاخرج عنا. قال: فخرج وهو يقول: من الوافر
ولست بقاتلٍ رجلاً يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي ... معاذ الله من جهلٍ وطيش
أأقتل مسلماً في غير جرمٍ ... فليس بنافعي ما عشت عيشي
وعم أيمن هو سبرة. وليس يعده أهل المغازي فيمن شهد بدراً.
قال ابن عائذ: مر سبرة بن فاتك الأسدي بأبي الدرداء، فقال أبو الدرداء: إن مع سبرة نوراً من نور محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن عائذ: ولقد رأيت سبرة بن فاتكٍ سابه رجل، فتحرج سبرة عن سبه، وكظم غيظه حتى رأيته يبكي من الغيظ.(9/205)
وعن سمرة بن فاتك الأسدي قال: ما أحب أن امرأتي أصبحت نفساء بغلام، ولا أن فرسي أصبحت تعطف على مهرةٍ، ولوددت أنه لا يأتي علي يومٌ إلا عدا علي فيه قرني من المشركين عليه لأمته إن قتلني قتلني، وإن قتلته عدا علي مثله ما بقيت.
سبرة بن معبد ويقال ابن عوسجة
ابن حرملة بن سبرة بن خديج بن مالك بن عمرو بن ذهل بن ثعلبة بن رفاعة بن نصر بن سعد ابن ذبيان بن رشدان بن قيس بن جهينة أبو ثرية الجهني.
له صحبة، وكان رسول علي رضي الله عنه إلى معاوية بعد قتل عثمان، يطلب بيعته من المدينة.
روى سبرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن المتعة عام الفتح.
وروى سبرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليستتر أحدكم في صلاته ولو بسهم ".
وعن سبرة قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتمتع من النساء عام الفتح بمكة. قال: فخرجت أنا وصاحب لي من بني سليم حتى وجدنا جارية من بني عامر كأنها بكرة عيطاء، فخطبناها إلى نفسها وعرضنا عليها بردينا، فجعلت تنظر فتراني أشب وأجمل من صاحبي، وترى برد صاحبي أجود وأحسن من بردي، فوامرت نفسها ساعة، ثم اختارتني على صاحبي. فكن معنا ثلاثة أيام، ثم أمرنا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نفارقهن.(9/206)
وفي حديث آخر: ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كان عنده شيء من هذه النساء التي يتمتع بهن فليخل سبيلها ".
قالوا: وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسول علي إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه فلم يكتب معاوية معه بشيء، ولم يجبه، ورد رسوله، وجعل كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله: من البسيط
أدم إدامة حصنٍ أو خذن بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجزل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لها غيرنا مولىً ولا حكما
وجعل الجهني كلما تنجز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات وذكر قصة.
وتوفي سبرة في خلافة معاوية بن أبي سفيان.
سبكتكين بن عبد الله
أبو منصور التركي أمير دمشق من قبل المستنصر ويعرف بتمام الدولة، ولي دمشق في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين وأربع مئة، ومات بها في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وأربع مئة وهو أميرها.
حدث عن الحسن بن محمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: حضر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنازةً فقال: " على صاحبكم دينٌ؟ قالوا: نعم. قال: صلوا عليها. قال علي: علي الدين يا رسول الله فصل عليها. قال: فك الله رهانك يا علي كما فككت رهان أخيك في الدنيا، من فك رهان أخيه في الدنيا فك الله رهانه يوم القيامة. فقال رجل: يا رسول الله، لعلي خاصةً أم للناس عامةً؟ فقال: بل للناس عامةً.(9/207)
كان عبد العزيز يقرأ يوماً على سبكتكين هذا، فقال: رضي الله عنك وعن والديك. فقال: لا تقل ذلك فإن والدي كانا كافرين. ثم إنه نسي فقال له ذلك مرةً أخرى، فقال: ألم أقل لك لا تقل ذلك؟ أو كما قال.
سبيع بن المسلم بن علي بن هارون
أبو الوحش المقرىء الضرير، المعروف بابن قيراط حدث في سن خمس وخمس مئة عن رشأ بن نظيف بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحبوا العرب لثلاثٍ: لأني عربيٌّ، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. " وحدث أبو الوحش أيضاً عن أبي علي الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد الأهوازي بسنده إلى أبي بكر محمد بن عزيز السجستاني قال: وفسر الأعشى أوزار الحرب بقوله: من المتقارب
وأعددت للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
ومن نسج داود تحدى بها ... على أثر الحي عيراً فعيرا
ولد أبو الوحش سنة تسع عشرة وأربع مئة، وتوفي سنة ثمانٍ وخمس مئة.
سحيم بن المهاجر
من سكان طرابلس، وولي إمرتها في أيام عبد الملك بن مروان، وولاه الوليد غزو البحر، وكتب إليه عبد الملك أن يكيد بعض الروم.
كان طاغية الروم لما رأى ما صنع الله للمسلمين منعة مدائن الساحل كاتب أنباط(9/208)
جبل لبنان، واللكام فخرجوا جراجمة فعسكروا بالجبل، ووجه طاغية الروم قلقط البطريق في جماعة من الروم في البحر، فسار بهم حتى أرسى بهم بوجه الحجر، وخرج بمن معه حتى علا بهم على جبل لبنان، وبث قواده في أقصى الجبل حتى بلغ أنطاكية وغيرها من الجبل الأسود، فأعظم ذلك المسلمون بالساحل حتى لم يكن أحد يقدر يخرج في ناحية من رجا ولا غيرها إلا بالسلاح. ثم إن الجراجمة غلبت على الجبال كلها من لبنان وسنير وجبل الثلج وجبال الجولان، فكانت باسبل مسلحةً لنا في الرقاد وعقرباء الجولان مسلحة حتى جعلوا ينادون عبد الملك بن مروان من جبل المران من الليل، حتى بعث إليهم عبد الملك بالأموال ليكفوا حتى يفرغ لهم، وكان مشغولاً بقتال أهل العراق ومصعب بن الزبير وغيره.
ثم كتب عبد الملك إلى سحيم بن المهاجر في مدينة طرابلس يتواعده ويأمره بالخروج إليهم، فلم يزل سحيم ينتظر الفرصة منهم ويسأل عن خبرهم وأمورهم حتى بلغه أن قلقط في جماعة من أصحابه في قرية من قرى الجبل، فخرج سحيم في عشرين رجلاً من جلداء أصحابه، قد تهيأ بهيئة الروم في لباسه وهيئته وشعره وسلاحه متشبهاً ببطريق من بطارقة الروم قد بعثه ملك الروم إلى جبل اللكام في جماعة من الروم يغلب على ما هنالك، فلما دنا من القرية خلف أصحابه وقال: انتظروني إلى مطلع كوكب الصبح. فدخل على قلقط وأصحابه وهم في كنيسة يأكلون ويشربون، فمضى إلى مقدم الكنيسة فصنع ما يصنعه النصارى من الصلاة والقول عند دخولها كنائسها، ثم جلس إلى قلقط فقال له: من أنت؟ فانتمى إلى الرجل الذي يتشبه به فصدقه وقال له: إنني إنما جئتك لما بلغني من جهاز سحيم وما اجتمع به من الخروج إليك لأخبرك به وأكفيك أمره إن أتاك، ثم تناول من طعامهم، ثم(9/209)
قال لقلقط وأصحابه: إنكم لم تأتوا ههنا للطعام والشراب. ثم قال لقلقط: ابعث معي عشرة من هؤلاء من أهل النجدة والبأس حتى نحرسك الليلة، فإني لست آمن أن يأتيك ليلاً فبعث معه عشرة وأمرهم بطاعته، فخرج بهم إلى أقصى القرية. وقام بهم على الطريق الذي يتخوفون أن يدخل عليهم منه، فأقام حارساً منهم وأمر أصحابه فناموا، وأمر الحارس إذا هو أراد النوم أن يوقظ حارساً منهم وينام هو. فحرس الأول ثم أقام الثاني، ثم قام سحيم الثالث، ثم قال: أنا أحرس فنم. فلما استقلوا نوماً قتلهم بذبابة سيفه رجلاً رجلاً، فاضطرب التاسع فأصاب العاشر برجله، فوثب إلى سحيم، فاتحدا، وصرعه الرومي وجلس على صدره، واستخرج سحيم سكيناً في خفه فقتله بها، ثم أتى الكنيسة فقتل قلقط وأصحابه رجلاً رجلاً، ثم خرج إلى أصحابه العشرين فجاء بهم فأراهم قتله من قتل من الحرس وقلقط ومن في الكنيسة، ووضعوا سيوفهم في من بقي، فنذر بهم من بقي منهم، وخرجوا هراباً حتى أتوا سفنهم بوجه الحجر، ولحقوا بأرض الروم، ورجع أنباط جبل لبنان إلى قراهم.
سديف بن ميمون المكي
الشاعر. مولى أبي لهب.
حدث عن محمد بن علي قال: وما رأيت محمدياً قط يشبهه أو قال: يعدله قال: حدثنا جابر بن عبد الله قال:
خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعته وهو يقول: " من أبغضنا أهل البيت حشره الله يوم القيامة يهودياً. قال: قلت: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ فقال: نعم، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، إنما احتجز بذلك من سفك دمه وأن يؤدي الجزية عن يدٍ وهو صاغر، ثم قال: إن الله علمني أسماء أمتي كلها كما علم آدم الأسماء كلها، ومثل لي أمتي في الطين فمر بي أصحاب الرايات فاستغفرت لعلي وشيعته.
قال حنان أحد رواة هذا الحديث: فدخلت مع أبي على جعفر بن محمد فحدثه أبي بهذا الحديث، فقال جعفر بن محمد: ما منت أرى أن أبي أحدث بهذا الحديث أحداً؟(9/210)
قدم على المنصور مولى له يقال له سديف، وكان شديد السواد أعرابياً بدوياً، فنظر إلى رجل من بني أمية في مجلس المنصور فعرفه فقال: والله يا أمير المؤمنين إن هذا لذو وثب وكمين خب، يلحظك بعين العدو، ويطلبك بذخل الوتر. فتكلم الأموي فقال له سديف: أفلت نجومك، وحان أجلك، يا أمير المؤمنين، أطف شعلة طبه وشهاب كلبه. فقال الأموي: أصبحنا ما بحمد الله نتخوف بادرة غضبه، ولا شوكة مخلبه، وقد قل به الجور بعد كثرته، وكثر به العدل بعد قلته، فقال سديف: يا أمير المؤمنين، دونكه قبل أن ينصب لك شباك حيله وأشراك دغله فإنه الذي كدمنا بأعضله، وكلمنا بكلكله. فقال الأموي: قد والله رفع الله أمير المؤمنين عن خلف الوعد ونقض العهد، هذا أمان ليس لك علي فيه سلطانٌ بيد ولا لسان، فاكفف عني أيها الوغد الوضر. فقال له المنصور: اكفف يا سديف، وأخبرني هل أطرفتنا بشيء من شعرك؟ قال: لقد أطرفتك بسبائك ذهبٍ، ودر نظمٍ، وجوهر عقيان، فصلتهن لك بزبرجدٍ منضودٍ في سلك معقود لتعرف أني ناصح الجيب أمين الغيب، فأنشده أبياتاً يحرضه على الأموي، فما فرغ من إنشادها حتى دعا بالأموي فقتله والأبيات: من البسيط
يا راتق الفتق من جلباب دولته ... ومن سنا قلبه مستيقظٌ عادي
إني ومن أين لي في كل منزلةٍ ... مولى كأنت لإبراقٍ وإرعاد
أو مثل بحرك بحرٌ لا يزال به ... ريان مرتحل أو واردٌ صادي
لا تبق من عبد شمسٍ حيةً ذكراً ... تسعى إليك بإرصادٍ وإلحاد
جدد لهم رأي عزم منك مصطلمٍ ... يكبون منه عباديداً على الهاد
ولا تقيلن منهم عثرةً أحداً ... فكلهم وفتاهم حية الوادي
وهل يعلم هماً جمزةً حدثٌ ... عبدٌ ومولاه نحريرٌ بها هادي
آليت لو أن لي بالقوم مقدرةً ... لما بقي حاضرٌ منهم ولا بادي
ولم يزل سديف يطلب ولد بسر بن أبي أرطأة حتى ظفر بابنين له بساحل دمشق،(9/211)
فقتلهما لقتل بسر جدهما ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب باليمن، لما بعثه معاوية أميراً عليها بعد قتل عثمان.
وروي عن سديف مولى اللهبيين أنه كان يقول: اللهم، قد صار فيئنا دولةً بعد القسمة، وإمارتنا غلبةً بعد المشورة، وعهدنا ميراثاً بعد الاختيار للأمة، واشتريت الملاهي والمعازف بسهم اليتيم والأرملة، وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة، اللهم، وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهيته، واجتمع طريده، اللهم، فأتح له يداً من الحق حاصدةً تبدد شمله، وتفرق أمره، ليظهر الحق في أحسن صورته وأتم نوره.
حدث محمد بن داود العباسي وكان أمير مكة قال: لما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة مال إليه سديف وبايعه، وكان من خاصته، وجعل يطعن على أبي جعفر ويقول فيه، ويمتدح بني علي ويتشيع لهم. قال: فقال يوماً، ومحمد بن عبد الله على المنبر وسديف عن يمين المنبر يقول ويشير بيده إلى العراق يريد أبا جعفر: من الكامل
أسرفت في قتل البرية جاهداً ... فاكفف يديك أطلها مهديها
فلتأتينك غارةٌ حسنيةٌ ... جرارةٌ يحتثها حسنيها
ويشير إلى محمد بن عبد الله:
حتى يصبح قريةً كوفيةً ... لما تغطرس ظالماً حرميها
قال: فبلغ ذلك أبا جعفر فقال: قتلني الله إن لم أسرف في قتله. قال: فلما قتل عيسى بن موسى محمد بن عبد الله بن حسن بعث أبو جعفر إلى عمه عبد الصمد بن علي، وكان عامله على مكة، إن ظفر بسديف أن يقتله. قال: فظفر به علانيةً على(9/212)
رؤوس الناس، وكان يحفظ له ما كان من مدائحه إياهم قبل خروجه، فقال له: ويحك يا سديف ليس لي فيك حيلة، وقد أخذتك ظاهراً على رؤوس الناس، ولكني أعاود فيك أمير المؤمنين. فكتب إلى أبي جعفر يخبره بأمره، فكتب إليه يأمره بقتله، فجعل يدافع عنه ويعاوده في أمره، فكتب إليه: والله لئن لم تقتله لأقتلنك، ولا يغرنك قولك: أنا عمه. فدافع بقتله حتى حج المنصور، فلما قرب من الحرم أخرج عبد الصمد سديفاً من الحرم فضرب عنقه، ثم خرج للقاء المنصور، فلما لقيه دنا منه، وهو في قبته، فسلم عليه، فقال له أبو جعفر من قبل أن يرد عليه السلام: ما فعلت في أمر سديف؟ قال: قتلته يا أمير المؤمنين. قال: وعليك السلام يا عم، يا غلام أوقف. فأوقف، ثم أمره فعادله.
وذكر أبو بكر البلاذري بسنده عن علي بن صالح قال: كان سديف مائلاً إلى المنصور، فلما استخلف وصله بألف دينار، فدفعها إلى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن معونة له، فلما قتل محمد صار مع أخيه إبراهيم بالبصرة، حتى إذا قتل إبراهيم أتى المدينة، فاستخفى بها، فيقال: إنه طلب له الأمان من عبد الصمد بن علي وهو واليها، فأمنه، وأحلفه أن لا يبرح من المدينة، وقدم المنصور المدينة فقيل له: هذا سديف رأيناه ذاهباً وجائياً. فبعث في طلبه، وأخذ عبد الصمد بن أشد أخذٍ ووجد عليه في أمره، فلما أتي بسديف أمر به فجعل في جوالق، ثم خيط عليه، وضرب بالخشب حتى كسر، ثم رمي به في بئر وبه رمقٌ حتى مات.
سراقة بن مرداس الأزدي البارقي
شاعر من شعراء العراق. قدم دمشق في أيام عبد الملك هارباً من المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكان قد هجاه، ثم رجع إلى العراق مع بشر بن مروان. وكان بينه وبي جرير مهاجاة قال أبان بن عثمان البجلي الكوفي: كان سراقة البارقي شاعراً ظريفاً تحبه الملوك، وكان قاتل المختار، فأخذه أسيراً، فأمر(9/213)
بقتله فقال: والله لا تقتلني حتى تنقض دمشق حجراً حجراً. فقال المختار لأبي عمرة: من يخرج أسرارنا؟ ثم قال: من أسرك؟ قال: قومٌ على خيلٍ بلق، عليهم ثيابٌ بيضٌ لا أراهم في عسكرك. قال: فأقبل المختار على أصحابه فقال: إن عدوكم يرى من هذا ما لا ترون، قال: إني قاتلك؟ قال: والله يا أمين آل محمد، إنك تعلم أن هذا ليس باليوم الذي تقتلني فيه. قال: ففي أي يومٍ أقتلك؟ قال: يوم تضع كرسيك على باب مدينة دمشق، فتدعو بي يومئذٍ، فتضرب عنقي. فقال المختار لأصحابه: يا شرطة الله، من يذيع حديثي؟ ثم خلى عنه فقال سراقة وكان المختار يكنى أبا إسحاق: من الوافر
ألا أبلغ أبا إسحاق أني ... رأيت البلق دهماً مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذراً ... علي هجاءكم حتى الممات
أري عيني ما لم تر أياه ... كلانا عالمٌ بالترهات
ثم قدم سراقة بعد ذلك العراق مع بشر بن مروان، وكان بشرٌ من فتيان قريش سخاء ونجدة، وكان ممدحاً، فمدحه جرير، والفرزدق، والأخطل، وكثيرٌ، وأعشى بني شيبان، وكان يغري بين الشعراء، وهو أغرى بين جرير والأخطل، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه، وهجاه جرير أيضاُ بأبيات، ثم نزعا، فمر جرير بسراقة بمنًى والناس مجتمعون على سراقة وهو ينشد، فجهره جماله، واستحسن نشيده، قال: من أنت؟ قال: بعض من أخزى الله على يديك. قال: أما والله لو عرفتك لوهبتك لظرفك.
سرج اليرموكي
روي عنه أنه قال: أجد في الكتاب أو في هذه الأمة اثني عشر ربياً نبيهم أحدهم، فإذا وفت العدة طغوا وبغوا وكان بأسهم بينهم.(9/214)
السري بن المغلس أبو الحسن البغدادي
السقطي الصوفي أحد الزهاد. قدم دمشق.
حدث عن علي بن غراب عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرني أبي قال:
لما اشتكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قال: فصلى بهم، فوجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفةً فخرج، فلما رآه أبو بكر ذهب يتأخر، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم ذهب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى جلس إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والناس يصلون بصلاة أبي بكر، أبو بكر قائمٌ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعدٌ.
وحدث السري عن مروان بن معاوية بسنده عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا جلوساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا يجالسني اليوم قاطع رحمٍ ". فقام فتًى من الحلقة فأتى خالةً له قد كان بينهما بعض الشيء، فاستغفر لها واستغفرت له، ثم عاد إلى المجلس فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الرحمة لا تنزل على قوم بينهم قاطع رحم ".
وحدث سري بسنده عن الحسن أنه سمعه يقول: ابن آدم، إنك لو تجد حقيقة الإيمان ما كنت تعيب الناس بعيبٍ هو فيك حتى تبدأ بذلك العيب من نفسك فتصلحه، فلا تصلح عيباً إلا ترى عيباً آخر، فيكون شغلك في خاصة نفسك، وذلك أحب ما يكون إلى الله إذا كنت كذلك.
وعن سري السقطي: أنه مرت به جارية معها إناء فيه شيءٌ، فسقط من يدها فانكسر، فأخذ سريٌّ شيئاً من دكانه فدفعه إليها بدل ذلك الإناء، فنظر إليه معروف الكرخي فأعجبه ما صنع، فقال له معروف: بغض الله إليك الدنيا.
وكان سري خالد الجنيد وأستاذه، وكان تلميذ معروف الكرخي، وكان أوحد زمانه في الورع والأحوال السنية وعلوم التوحيد. وكان السري به أدمة.
قال سري السقطي: هذا الذي أنا فيه من بركات معروف: انصرفت من صلاة العيد فرأيت مع معروف(9/215)
صبياً شعثاً، فقلت: من هذا؟ فقال: رأيت الصبيان يلعبون وهذا واقف منكسرٌ، فسألته لم لا تلعب؟ قال: أنا يتيم. قال سري: فقلت له: ما ترى أنك تعمل به؟ فقال: لعلي أخلو فأجمع له نوىً يشتري به جوزاً يفرح به. فقلت له: أعطنيه أغير من حاله. فقال لي: أو تفعل؟ فقلت: نعم، فقال لي: خذه أغنى الله قلبك. فسويت الدنيا عندي أقل من كذا.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: اكس هذا اليتيم. قال سري: فكسوته، ففرح به معروف وقال: بغض الله إليك الدنيا وأراحك مما أنت فيه. فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إلي من الدنيا.
قال السري: التوبة على أربع دعائم: استغفار باللسان، وندم القلب، وترك بالجوارح، وإضمار أن لا يعود فيه.
قال الجنيد: سمعت الحسن البزاز يقول: كان أحمد بن حنبل ههنا، وكان بشر بن الحارث ههنا، وكنا نرجو أن يحفظنا الله بهما، ثم إنهما ماتا وبقي السري، وإني أرجو أن يحفظنا الله بالسري.
كان أبو حمدون المقرىء يقول: رجلٌ يعيد صلاةً أربعين سنة يتكلم فيه؟! يعني سري بن مغلس.
قال الجنيد: كان السري يقول لنا ونحن حوله: أنا لكم عبرة يا معشر الشباب، اعملوا، فإنما العمل في الشبيبة.
قال سري السقطي: لا يقوى على ترك الشهوات إلا بترك الشهوات.(9/216)
قال الجنيد: سمعت السري يقول: إن نفسي تطالبني منذ ثلاثين أو أربعين سنة أو أغمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وفي حديث بمعناه: وآكلها فما تصح لي.
وقال: أشتهي بقلاً منذ ثلاثين سنة ما أقدر عليه.
وقال: إني لاشتهي الحندقوق منذ ست عشرة سنة والهندباء بخلٍّ منذ ثمان عشرة سنة، وإني لأعجب ممن يتسع كيف يطلق له الاتساع، وهذا عبد الواحد بن زيد يقول: الملح بشبارجات، وإن بلية أبيكم آدم لقمةٌ، وهي أخرجته من الجنة، وهي بليتكم إلى أن تقوم الساعة.
قال سري السقطي: أتاني حسين الجرجاني إلى عبادان فدق علي باب الغرفة التي كنت فيها فخرجت إليه فقال لي: سري؟ فقلت: سري. فقال لي: ملحك مدقوقة؟ قلت: نعم، قال: لا تفلح. ثم قال: سري، لولا أن الله تعالى عقم الآذان عن فهم القرآن ما زرع الزارع، ولا تجر التاجر، ولا تلاقى الناس في الطرقات، ثم مضى فأتعبني وأبكاني.
قال الجنيد بن محمد: ذكر السري بن مغلس يوماً، وأنا أسمعه، السواد فكرهه يعني كره الأكل من السواد أو أن يملك فيها أحد وكان يشدد في ذلك ولا يأكل من بقل السواد، ولا من ثمره. ولا من شيء يعلم أنه منه، ما أمكنه، فرأيت رجلاً يوماً وقد أهدى إليه خرنوباً وقثاء برياً حمله له من أرض الجزيرة فقبله منه. ورأيته قد سر به، وكان يشدد في الورع.(9/217)
وكان سري يقول: أحب أن آكل أكلة ليس لله علي فيها تبعةٌ، ولا لمخلوق علي فيها منة، فما أجد إلى تلك سبيلاً.
قال ابن أبي الورد: دخلت علي سري السقطي وهو يبكي ودورقه مكسورٌ، فقلت له: ما بالك؟ قال: انكسر الدورق، فقلت: أنا أشتري لك بدله. فقال لي: تشتري بدله! وأنا أعرف من أين الدانق الذي اشتري به الدورق، ومن أين طينه، وإيش أكل عامله حتى فرغ من عمله؟ قال السري: رجعت مرة من بعض المغازي فرأيت في طريقي قفيزاً مملوءاً ماءً صافياً وحوله عشب من حشيش، فدنوت فقلت في نفسي: يا سري، إن كنت يوماً أكلت أكلة حلالٍ وشربت شربة حلالٍ فاليوم. فنزلت عن دابتي فأكلت من ذلك الحشيش، وشربت من ذلك الماء، فهتف بي هاتف، سمعت الصوت، ولم أر الشخص: يا سري بن المغلس، فالنفقة التي بلغتك إلى ههنا من أين هي!؟ وفي حديث آخر: فعلمت أني في لا شيء.
قال سري بن المغلس: اتصل من اتصل بالله أربعة، وانقطع من انقطع عن الله بخصلتين، فأما الأربع التي اتصل بها المتصلون فلزوم الباب، والتشمير في الخدمة، والنظر في الكسرة، وصيانات الكرامات إذا وهب لك شيئاً لا يحب أن يطلع عليه غيره. وأما الخصلتان اللتان انقطع بهما المنقطعون فتخط إلى نافلة بتضييع الفريضة، والثانية عمل بظاهر الجوارح ولم يعط عليه صدق القلوب.
قال سري بن مغلس: أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفاف الطعمة، وحسن الخليقة.(9/218)
قال سري: خمس من أخلاق الزهاد: الشكر على الحلال، والصبر عن الحرام، ولا يبالي متى مات، ولا يبالي من أكل الدنيا، ويكون الفقر والغنى عنده سواء.
قال السري: كل الدنيا فضول إلا خمس: خبز يشبعه وماء يرويه، وثوب يستره، وبيت يكنه، وعلم يستعمله.
قال أبو العباس السراج: سألت إبراهيم بن السري السقطي: كيف كان يأكل من مالكم؟ قال: كان يقول: آكل من مالكم بقدر ما يحل لي من الميتة.
قال السري: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار عن قولي: الحمد لله، مرة. قيل: وكيف ذلك؟ قال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني واحد فقال لي: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله. فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت حيث أردت لنفسي خيراً مما للمسلمين.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: أعرف طريقاً مختصراً قصداً إلى الجنة، فقلت له: ما هو؟ فقال: لا تسأل من أحد شيئاً. ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكون معك شيء تعطي أحداً.
قال: وسمعته يقول: إني لأعراف طريقاً يؤدي إلى الجنة قصداً. فقيل له: ما هو يا أبا الحسن؟ قال: أن تشتغل بالعبادة، وتقبل عليها وحدها فلا يكون فيك فضل.
قال الجنيد: سمعت بعض المؤمنين يقول يعني سرياً: ما بدت لي من الدنيا زهرةٌ إلا جددت لي من الدنيا عزوفاً.(9/219)
قال سري السقطي لإبراهيم البنا: يا بنا، ليس من زهد في الدنيا تقذراً مثل من زهد في الدنيا تصبراً.
كان السري يقول: لولا الجمعة والجماعات لطينت علي الباب.
قال سري السقطي: إني أذكر مجيء الناس إلي فأقول: اللهم هب لهم من العلم ما يشغلهم عني، فإني لا أريد مجيئهم أن يدخلوا علي.
قال سري: من أراد أن يسلم دينه، ويستريح قلبه وبدنه، ويقل غمه فليعتزل الناس، لأن هذا زمان عزلة ووحدةٍ. وقال مرة أخرى: فإن هذا زمان وحشةٍ. والعاقل من اختار فيه الوحدة.
قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: اجتهد في الخمول فإن أحوالك تشهرك بين أوليائه إذا صح مقامك فيها.
قال الجنيد: سمعت سري السقطي يقول، وسئل عن التصوف فقال: الإعراض عن الخلق، وترك الاعتراض على الحق.
قال الجنيد: ما رأيت أعبد لله من السري السقطي، أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤي مضطجعاً إلا في علة الموت.
قال سري: استأذن علي رجلٌ فأذنت له، فجاء فوقف بباب الغرفة قائماً ينظر، وفي زاوية الغرفة محبرة، قال: فقلت له: ادخل. قال: فقال: لا جزى الله من غرني فيك خيراً. قال: فقلت له: ويحك! ولم؟ قال: ما تلك الموضوع في تلك الزاوية؟ ثم انصرف وتركني.
وفي حديث آخر بمعناه: قال: محبرة!؟ إنما ذه في بيوت البطالين.(9/220)
قال السري: اليقين أن لا تهتم لرزقك الذي قد كفيته وتغفل عن عملك الذي قد أمرت به، فإن اليقين يسوق إليك الرزق سوقاً.
قال الجنيد: سمعت السري يقول:
إن الله سلب الدنيا عن أوليائه. وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده، لأنه لم يرضها لهم.
قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: صليت وردي ليلة، ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: يا سري! كذا تجالس الملوك؟ قال: فضممت رجلي، وقلت: وعزتك لا مددتها أبداً. قال الجنيد: فبقي بعد ذلك ستين سنة ما مد رجله ليلاً ولا نهاراً.
قال سري السقطي: غزوت راجلاً فنزلت خربةً للروم، فألقيت نفسي على ظهري، ورفعت رجلي على جدار، فإذا هاتفٌ يهتف بي: يا سري بن مغلس! هكذا تجلس العبيد بين يدي أربابها؟ قال الجنيد: سمعت السري بن المغلس، وقد ذكر الناس فقال: لا تعمل لهم شيئاً، ولا تترك لهم شيئاً، ولا تعط لهم شيئاً، ولا تكشف لهم شيئاً. قال الجنيد: يريد بهذا القول تكون أعمالك كلها لله وحده.
قال: وسمعت السري يقول: لو أحسست بإنسان يريد أن يدخل علي قلت: كذا بلحيتي وأمر يده على لحيته كأنه يريد أن يسويها من أجل دخول الداخل عليه لخفت أن يعذبني الله على ذلك بالنار.
قال: وسمعت السري يقول: إنما أذهب أكثر أعمال القراء العجب وخفي الرياء أو كلام نحو هذا.
وقال السري: عملٌ قليل في سنةٍ خيرٌ من كثير في بدعة، كيف يقل عملٌ مع التقوى؟(9/221)
قال سري: الأمور ثلاثة: أمر بان لك رشده فاتبعه، وأمر بان لك غيه فاجتنبه، وأمر أشكل عليك فقف عنه وكله إلى الله عز وجل، وليكن الله دليلك، واجعل فقرك إليه تستغن به عمن سواه.
قال سري: من تزين للناس بما ليس فيه سقط من عين الله.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد. فقيل له: ولم ذلك؟ فقال: أخاف أن لا يقبلني قبري فأفتضح.
قال: وسمعت سرياً يقول غير مرة: ما أعرف أحداً أقدر أن أقول: إني أحسن عاقبةً منه.
قال: وسمعته يقول: ما أرى أن لي فضلاً على أحد. فقيل له: ولا على هؤلاء المخنثين؟ فقال: ولا على هؤلاء المخنثين.
قال: وسمعته يقول: إني لأنظر في أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود.
قال علان الخياط: وجرى ذكر مناقب سري السقطي، قال: كنت جالساً مع سري يوماً، فوافته امرأة فقالت: يا أبا الحسن، أنا من جيرانك، أخذ ابني الطائف البارحة، وكلم ابني الطائف، وأنا أخشى أن يؤذيه، فإن رأيت أن تجيء معي أو تبعث إليه. قال علان: فتوقعت أن يبعث إليه. فقام، فكبر وطول في صلاته، فقالت المرأة: يا أبا الحسن، الله الله في هو ذا أخشى أن يؤذيه السلطان، فسلم، وقال لها: أنا في حاجتك. قال علان: فما برحت حتى جاءت امرأة إلى المرأة فقالت: الحقي، قد خلو ابنك.(9/222)
قال أبو الطيب: قال لي علان: وإيش يتعجب من هذا؟ اشترى منه كر لوزٍ بستين ديناراً، وكتب في رزمانجه ثلاثة دنانير ربحه، فصار اللوز بتسعين ديناراً، فأتاه الدلال وقال له: إن ذلك اللوز أريده. فقال له: خذه. قال: بكم؟ قال بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إن اللوز قد صار الكر بتسعين. قال له: قد عقدت بيني وبين الله عقداً لا أحله، ليس أبيعه إلا بثلاثة وستين ديناراً. فقال له الدلال: إني قد عقدت بيني وبين الله أن لا أغش مسلماً، لست آخذه منك إلا بتسعين، فلا الدلال اشترى منه، ولا سري باعه.
قال أبو الطيب: قال لي علان: كيف لا يستجاب دعاء من كان هذا فعله؟ قال الجنيد: دخلت على السري يوماً فقال: لي عصفورٌ كان يجيء كل يوم فأفت له الخبز فيأكل من يدي، فنزل وقتاً من الأوقات فلم يسقط على يدي، فتذكرت في نفسي أي شيءٍ السبب، فذكرت أني أكلت ملحاً بأبزار، فقلت في نفسي: لا آكل بعدها، وأنا تائب منه. فسقط على يدي فأكل.
وفي حديث آخر بمعناه: ففكرت في سري: ما العلة في وحشته مني؟ فوجدتني قد أكلت ملحاً طيباً، فقلت في نفسي: أنا تائب من الملح الطيب. فسقط على يدي فأكل وانصرف.
قال أبو محمد الجريري:
دخلت يوماً على سري السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ قال: جاءتني البارحة الصبية فقالت لي: يا أبه، هذه الليلة حارةٌ، وهذا الكوز فيه ماء، هو ذا أعلقه ههنا، فإذا برد فاشربه. قال: فعلقته، وقمت إلى أمر كنت أقوم إليه، فحملتني عيناي فنمت، فرأيت كأن جارية من أحسن الخلق نزلت من السماء، وإذا الدنيا قد أشرقت لحسن وجهها، وعليها قميص فضة يتخشخش، وكأني أقول لها: لمن أنت يا جارية؟ قالت: أنا(9/223)
لمن لا يشرب الماء البارد في الكيزان. قال: وتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته ثم قالت: سري يدعي المحبة ويشرب الماء البارد في الكيزان، هذا محال. قال: فرأيت الخزف المكسور في غرفته لم يشله ولم يمسه حتى عفا عليه التراب.
وفي حديث آخر: وتناولت القلة بيدها فضربت بها على الأرض فكسرتها.
قال سري: أصبر الناس من صبر على الحق.
قال الجنيد: بت ليلة عند السري، فلما كان في بعض الليل قال لي: يا جنيد، أنت نائم؟ قلت: لا. قال: الساعة أوقفني الحق بين يديه وقال: يا سري، تدري لم خلقت الخلق؟ قلت: لا. قال: خلقت الخلق فادعوا كلهم في، وادعوا محبتي. فخلقت الدنيا فاشتغلوا بها من عشرة آلافٍ تسعة آلاف، وبقي ألفٌ، فخلقت الجنة فاشتغل من الألف تسع مئة بالجنة، وبقيت مئةٌ، فسلطت عليهم شيئاً من البلاء فاشتغل عني بالبلاء من المئة تسعون، وبقيت عشرةٌ فقلت لهم: ما أنتم! لا الدنيا أردتم، ولا في الجنة رغبتم، ولا من البلاء هربتم. فقالوا: وإنك لتعلم ما نريد. فقال: إني أنزل بكم من البلاء ما لا تطيقه الجبال الرواسي، أفتثبتون لذلك؟ قالوا: ألست أنت الفاعل بنا؟ قد رضينا. قلت: فأنتم عبيدي حقاً.
قال الجنيد: سمعت السري يقول: اللهم، مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب.
قال الجنيد: سألني السري يوماً عن المحبة فقلت: قال قومٌ: هي الموافقة. وقال قوم: الإيثار. وقال قوم: كذا وكذا. فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها، فلم تمتد، ثم قال: وعزته لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت، ثم غشي عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق.(9/224)
قال الجنيد: كنت يوماً عند السري، وكنا جالسين، وهو متزرٌ بمئزرٍ، فنظرت إلى جسده كأنه جسد سقيمٍ دنفٌ مضنى كأجهد ما يكون، فقال: انظر إلى جسدي هذا! لو شئت أن أقول: إن ما بي هذا من المحبة كان كما أقول. وكان وجهه أصفر، ثم أشرق حمرةً حتى تورد، ثم اعتل، فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: من الخفيف
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي ... والذي بي أصابني من طبيبي
فأخذت المروحة أروحه، فقال لي: كيف يجد روح المروحة من جوفه يحترق من داخل؟ ثم أنشأ يقول: من البسيط
القلب محترقٌ والدمع مستبق ... والكرب مجتمعٌ والصبر مفترق
كيف القرار على من لا قرار له ... مما جناه الهوى والعشق والقلق
يا رب إن كان شيءٌ فيه لي فرجٌ ... فامنن علي به ما دام بي رمق
قال الجنيد: قال لي ليلة السري بين المغرب وعشاء الآخرة: احفظ عني هذا الكلام. ثم قال: الشوق والوله يترفرفان على القلب، فإن وجدا فيه الحياء والأنس أوطنا، وإلا رحلا. احفظ هذا الكلام يا غلام لئلا يضيع.
وقال في حديث آخر: احفظ عني يا غلام، إن المعرفة ترفرف على القلب، فإن كان فيه الحياء، وإلا رحلت.
قال الجنيد: دخلت على سري السقطي رحمه الله في يوم صائف، فإذا الكوز الذي يشرب به في الشمس! فقلت: يا سيدي، الكوز في الشمس. قال: صدقت يا أبا القاسم، في الفيء كان، فجاءت الشمس إليه، فدعتني نفسي إلى أن أنقله إلى الفيء، فاستحييت من الحق تعالى أن أخطو خطوة يكون لنفسي فيها راحة.(9/225)
قال جنيد: سمعت سري بن المغلس يقول: أحسن الأشياء ثلاثة: البكاء على الذنوب، وإصلاح العيوب، وطاعة الله علام الغيوب. زاد في حديث آخر فجعلها خمسة فقال: وجلاء الرين من القلوب، وألا تكون لكل ما تهوى ركوب.
وقال السري: أقوى القوة غلبتك نفسك، ومن عجز عن أدب نفسه كان في أدب غيره أعجز.
وقال السري: من علامة المعرفة بالله القيام بحقوق الله، وإثاره على النفس فيما أمكنت فيه القدرة.
وقال: من علامة الاستدراج العمى عن عيوب النفس.
وقال الجنيد: سمعت السري يقول:
اجعل قبرك خزانتك احشها من كل عمل صالح يمكنك، فإذا وردت على قبرك سرك ما ترى فيه.
وقال مرة: واحشه من كل خير، حتى إذا قدمت عليه فرحت بما قدمت إليه من المعروف.
قال الجنيد رحمه الله: سمعت سري رحمه الله يقول: لم أر شيئاً أحبط للأعمال، ولا أفسد للقلوب الحانية، ولا أضر بالحكمة، ولا أنجع في هلكة العبد، ولا أدوم للأضرار، ولا أبعد من الاتصال، ولا أقرب من المقت، ولا ألزم لمحجةٍ العجب والرياء والتزين من قلة معرفة العبد بنفسه ونظره في عيوب غيره، لا سيما إن كان مشهوراً معروفاً بالعبادة والصلاح، وامتد له الصوت، وبلغ من الثناء ما لم يكن يأمله، تضيء له نفسه في الأماكن الخفية وسراديب الهوى فاختبأ بعد المحادثة، وصمت بعد(9/226)
النطاقة، وأظهر الخمولة بعد الشهرة، وأظهر الهرب من الناس فلم يبرز إلا للخواص، ونالت النفس مناها. كل ذلك لجهله بنفسه، وعماه عن عيوبها، وقبول قوله في إسقاط الناس، وقوله: فلانٌ يجالس وفلان احذروه، ويأمر وينهى، ويثني على من تهواه نفسهن فإن اغتيب عنده من لا يهواه قال: اهتكوا ستر الفجرة واذكروا الفاجر بما فيه، وإن اغتيب من يهواه غضب ونهى عن ذلك وروى أحاديث النهي عن الغيبة وقد شرب السموم القاتلة، ويصير غضبه ورضاه لنفسه، ويرى أنه محسن يلوم أهل النقص والتقصير ويتنزه عمن لا يعرفه، ويقبل صلة من يهواه، ويأنس به، فهلك وأهلك. ونجا من صحت معرفته بنفسه، واشتغل بها، فلم يكن له صديق ولا عدو، ولا يخالط الأشرار، ولا يشتغل عن الله بالأخبار، ولا يمدح ولا يذم وكيف له أن يسلم من شر نفسه وعدوه؟ فكيف من جهل شر نفسه والإزراء على غيره؟ قال الجنيد: سمعت السري السقطي يقول: قلوب الأبرار معلقةٌ بالجراثيم، وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، أولئك يقولون: ليتنا بماذا سبق لنا، وهؤلاء يقولون: ليتنا بماذا يختم لنا.
قال السري لبعض جلسائه: لا تلزم نفسك طول الفكرة فيما يورث قلبك ضعف الإيمان، فإن ضعف الإيمان أصل لكل إثمٍ وهم وغم، ولكن اشغل قلبك بكل ما يورث اليقين، فإن اليقين يورث كل طاعة، ويباعد من كل غم وهم، ويؤمنك من كل خوف، ويقربك من كل روح وفرح، وكذلك روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ما أوتي عبد خيراً من اليقين.
قال السري السقطي: رأيت طاعة الرحمن بأرخص الأثمان مع راحة الأبدان، ورأيت معصية الرحمن بأغلى الأثمان مع تعب الأبدان.
وقال: من لم يعلم قدر النعم سلبها من حيث لا يعلم.
عجبت لمن غدا وراح في طلب الأرباح وهو مثل نفسه لا يربح أبداً.(9/227)
وقال: لو أشفقت هذه النفوس على أبدانها شفقتها على أولادها للاقت السرور في معادها.
وقال: ثلاثةٌ من كن فيه استكمل الإيمان: من إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، وإذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الباطل، وإذا قدر لم يتناول ما ليس له.
قال إبراهيم بن السري: مرض أبو المغيرة القاص، فبعث إلى أبي بالسلام، فقال أبي: أقرئه السلام، وقل له: ليس من حمد الله على سيلان الصديد كمن حمده على أكل الثريد.
قال: فوقع من أبي المغيرة ذاك الكلام بالموقع، فما أظهر ما به حتى مات.
قال سري: الشكر نعمةٌ، والشكر على النعمة نعمة إلى أن لا يتناهى الشكر.
وقال: الشكر على ثلاثة أوجه: شكر اللسان، وشكر البدن، وشكر القلب. فشكر القلب أن يعلم أن النعم كلها من الله عز وجل، وشكر البدن أن لا يستعمل جوارحه إلا في طاعته بعد أن عافاه الله، وشكر اللسان دوام الحمد عليه.
وقال سري: سمعت كلمة انتفعت بها منذ خمسين سنة، كنت أطوف بالبيت بمكة، فإذا رجل جالس تحت الميزاب وحوله جماعة، فسمعته يقول لهم: أيها الناس، من علم ما طلب هان عليه ما بذل.
سئل سري السقطي عن التصوف فقال: هو اسم لثلاثة معان، وهو الذي لا يطفىء نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن من علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب، ولا تحمله الكرامات من الله على هتك أستار محارم الله.(9/228)
وقال سري: احذر أن يكون لك ثناءٌ منشور وعيب مستور.
وقال: الخوف أفضل من الرجاء ما دام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف. فقال له الرجل: كيف يا أبا الحسن؟ قال: لأنه إذا كان في صحته كيساً عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه بربه، وإذا كان في صحته مسيئاً ساء ظنه عند الموت ولم يعظم رجاؤه.
ولما حضرت سري السقطي الوفاة قال له الجنيد: يا سيدي، لا يرون بعدك مثلك. قال: ولا أخلف عليهم بعدي مثلك.
قال الجنيد: دخلت على سري في مرضه الذي توفي فيه فقلت له: كيف تجدك أيها الشيخ؟ فقال: عبدٌ مملوك لا يقدر لنفسه شيئاً. فقال الجنيد: فأخذت المروحة لأروحه فقال: دعني، كيف أتروح بريح المروحة وأحشائي تحترق؟ فقلت له: أوصني أيها الشيخ، فقال: إياك وصحبة العوام. فقلت له: زدني أيها الشيخ. قال: فرفع رأسه إلي بعدما طأطأه وقال: ولا تشتغل عن الله بصحبة الأخيار. قال: فقلت له: لو سمعت منك هذه الكلمة من قبل لما صحبتك قط.
مات سري سنة إحدى وخمسين ومئتين، وقيل: سنة ثلاث وخمسين، وقيل: سنة سبع وخمسين، ودفن في مقبرة الشونيزي. وقبره ظاهر معروف وإلى جنبه قبر الجنيد.
قال أبو عبيد بن حربويه: حضرت جنازة السري السقطي فسررت. فحدثنا رجل عن آخر أنه حضر جنازة سري السقطي. فلما كان في بعض الليالي رآه في النوم فقال:(9/229)
ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي ولمن حضر جنازتي وصلى علي. فقلت: فإني في من حضر جنازتك وصلى عليك. قال: فأخرج درجاً فنظر فيه فلم ير لي فيه اسماً، فقلت: بلى قد حضرت. قال: فنظر فإذا اسمي في الحاشية.
سعادة بن الحسن بن موسى
ابن عبد الله بن الفرج أبو القاسم الفارقي قدم دمشق وسمع بها.
حدث بالرملة عن أبي حفص عمر بن محمد بن عراك بسنده عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله عز وجل لما خلق الدنيا أعرض عنها فلم ينظر إليها من هوانها عليه ".
سعد الله بن صاعد بن المرجى
ابن الحسين أبو المرجى بن الخلال المرحبي سمع بدمشق.
وحدث عن أبي الحسن محمد بن عوف بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي عوف سنة سبع وثمانين وأربع مئة بسنده عن أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يضحي بكبشين أملحين أقرنين يذبحهما بيده، ويطأ على صفاحهما، ويسمي ويكبر.(9/230)
سعد بن أحمد بن محمد
أبو القاسم النسوي القاضي سكن دمشق مدة وحدث بها.
روى أبو القاسم في دمشق سنة ثمانين أو إحدى وثمانين وأربع مئة عن القاضي أبي الحسن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن صخر الأزدي النصري بمكة بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أطفئوا المصابيح إذا رقدتم، وغلقوا الأبواب، وأوكوا الأسقية، وخمروا الطعام والشراب ". وفي رواية: وأحسبه قال: ولو بعود تعرضه عليه.
ولد سنة عشرين وأربع مئة بنسا.
وقتله الفرنج يوم دخلوا بيت المقدس في شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربع مئة.
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
ابن عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، أبو إسحاق ويقال: أبو إبراهيم القرشي الزهري المدني القاضي وفد على هشام بن عبد الملك. وأمه أم كلثوم بنت سعد بن أبي وقاص.
حدث عن عبد الله بن جعفر قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل القثاء بالرطب.
وحدث عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأئمة من قريش إذا حكموا فعدلوا، وإذا عاهدوا فوفوا، وإذا استرحموا فرحموا ".
ولد سنة أربع وخمسين، وتوفي سنة خمس، وقيل: ست، وقيل: سبع وعشرين ومئة وهو ابن ثلاث وسبعين سنة. وقيل: توفي سنة أربع وعشرين ومئة، وقيل: سنة ثمان وعشرين ومئة.(9/231)
وكان سعد ثقةً صدوقاً وثقه جماعةٌ.
وقال يحيى بن معين: لم يتكلم في سعد بن إبراهيم غير مالك بن أنس، وكان سعد من الأمناء المسلمين.
وسرد سعد الصوم قبل أن يموت بأربعين سنة. قال شعبة: كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر، ويقرأ القرآن في كل يومٍ وليلة.
حدث ولده عنه قال: كان أبي يحتبي، فما يحل حبوته حتى يقرأ القرآن. وكان إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين لم يفطر حتى يختم القرآن فيما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء الآخرة في شهر رمضان تأخيراً شديداً، وكان كثيراً ما إذا أفطر يرسل إلى مساكين فيأكلون معه.
قال أبو جعفر المدني:
دخلت على سعد بن إبراهيم وهو على دكانه له قال: فإذا حمارةً عليها شكوة، فلما سمع الأذان جاءت جارية فصبت منه في زجاجة شراباً به من الحسن شيءٌ من شيءٍ أحسبه، قال: فسقاني، ثم قال: أبا جعفر، تدري ما سقيتك؟ قال: قلت: ظننت إني ظمآن؟ قال: ولكني رأيتك تنظر إليه، فأحببت أن تعلم ما هو، هذا زبيبٌ، نأمر الجواري فينقينه من أقماعه وحصرمه، ثم يدق في المهراس، ثم يمرس ويصفى ويجعل في هذه الشكوة، فإذا أمسيت شربت منه، فأجده يقطع البلغم، ويعصمني، قال: وكان لا يأكل إلا بعد ما يذهب من الليل ما شاء الله يعني: يصلي.
وكان سعد يعجب من هؤلاء المتقشفين، وقلما رأيته خارجاً إلى المسجد للصلاة إلا مس غالية.
قيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه عز وجل.(9/232)
وعن سعد: أن عبد الرحمن بن عوف كان يقال له: حواري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومما قيل في سعد من المدح: من الطويل
أبوه حواري النبي وجده ... أبو أمه سعدٌ رئيس المقانب
سعد بن تميم أبو بلال السكوني
والد بلال بن سعد، صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه، ونزل ببيت أبيات من قرى دمشق، وسكن دمشق.
روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قلت: يا رسول الله، أي أمتك خير؟ قال: أنا وأقراني، قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: ثم القرن الثاني، قلنا: ثم ماذا يا رسول الله؟ قال: ثم يكون قوم يحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يستشهدون، ويؤتمنون ولا يؤدون.
وحدث بلال بن سعد: أن أباه لما احتضر قال: وكان أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أي بني، أين بنوك؟ قال: بلال: فأمرت أهلي فألبسوهم قمصاً بيضاً، ثم أتيت بهم فقال: اللهم، إني أعيذهم بك من الكفر، ومن ضلالة العمل، ومن النساء، والفقر إلى بني آدم. وفي رواية: والفقر الذي يصيب بني آدم.
قال عقبة: وسعدٌ أبو بلال بن سعدٍ أتي به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضع يده على رأسه وأمرها على وجهه ثم قال: صدرٌ وعاءٌ للخير.
كان سعد يؤم دمشق، وتوفي في الشام.(9/233)
سعد بن زياد أبو عاصم
مولى سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس حدث سعد عن كيسان مولى عبد الله بن الزبير عن سلمان الفارسي أنه دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا عبد الله بن الزبير معه طست يشرب ماء فيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما شأنك يا بن أخي؟ قال: إني أحببت أن يكون من دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جوفي. فقال: ويلٌ لك من الناس، وويل للناس منك، لا تمسك النار إلا قسم اليمين.
وحدث بسنده عن نافع عن أبي هريرة قال: " إن الله عز وجل لا يرفع العلم إنما يهلك العلماء ولا يتعلم الجهال " حدث سعد وكان قد أدرك عمر بن عبد العزيز قال: عزى أعرابيٌّ بن عبد العزيز عن ابن له فقال: من الطويل
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد
قال أبو علي صالح بن محمد بن حبيب البغدادي: سعد بن زياد شيخٌ بصري ضعيف.
سعد بن أبي سعد
أبو صالح الفرغاني حدث بدمشق.
روى عن أبي محمد أحمد بن الحسين بن منبويه الديبلي بسنده إلى علي بن أبي طالب قال: وكان أقضى الأمة قال: لما أنفذني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن قال: " يا علي، الناس رجلان: فعاقل يصلح للعفو، وجاهلٌ يصلح للعقوبة ".(9/234)
سعد بن سلامة بن حابس
أبو الحسن الداراني المؤدب الإمام حدث بداريا عن أبي الخير سلامة بن محمد البغدادي بسنده عن دينار المسكين قال: خدمت أنس بن مالك ثلاث سنين، فسمعته يحدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من احتكر طعاماً أو تربص به أربعين يوماً، ثم طحنه وخبزه وتصدق به لم يقبله الله منه. " قال: كذا قال. والصواب: أبا مكيس.
سعد بن عبادة بن دليم
ابن حارثة بن أبي حزيمة ويقال: حارثة بن حرام بن حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج ابن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة أبو ثابت ويقال: أبو قيس الخزرجي، سيد الخزرج.
شهد العقبة، وروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث. سكن دمشق، ومات بحوران، وقيل: إن قبره بالمنيحة من إقليم بيت الآبار.
حدث سعد بن عبادة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
ماتت أمي وعليه نذرٌ، فسألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرني أن أقضيه عنها.
وعن سعد بن عبادة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن هذا الحي من الأنصار مجنة، حبهم إيمان، وبغضهم نفاق ".
وسعد بن عبادة نقيبٌ شهد بدراً. وقيل: لم يشهد بدراً. مات بالشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وقيل: في أول خلافة عمر رضي الله عنه.(9/235)
قال محمد بن سعد: في الطبقة الأولى ممن لم يشهد بدراً: سعد بن عباد بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، ويكنى أبا ثابت. كان يتهيأ للخروج إلى بدر فنهش، فأقام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لئن كان سعدٌ لم يشهدها لقد كان حريصاً عليها ". وفي رواية: لقد كان فيها راغباً.
وكان سعد بن عبادة لما أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاز كان يأتي دور الأنصار، يحضهم على الخروج، فنهش ببعض تلك الأماكن فمنعه ذلك من الخروج، فضرب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمه وأجره.
وكان عقيباً نقيباً سيداً جواداً.
وكان سعد في الجاهلية يكتب بالعربية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً، وكان يحسن العوم والرمي، وكان من أحسن ذلك سمي الكامل.
وكان سعد بن عبادة وعدة آباءٍ له قبله في الجاهلية ينادي على أطمهم: من أحب الشحم واللحم فليأت أطم دليم بن حارثة.
وكان سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو وأبو دجانة لما أسلموا يكسرون أصنام بني ساعدة.
وسعدٌ شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أحد النقباء الاثني عشر، ولم يشهد بدراً.
وروى بعضهم: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب له بسهمه وأجره، ولا يثبت ذلك.
وشهد أحداً والخندق والمشاهد كلها مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان سعد لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبعث إليه في كل يوم جفنة فيها ثريد بلحم، أو ثريد بلبن، أو بخل وزيت، أو بسمنٍ، وأكثر ذلك اللحم، فكانت جفنة سعد تدور مع(9/236)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيوت أزواجه. وكانت أمه عمرة بنت مسعود من المبايعات فتوفيت بالمدينة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غائبٌ في غزوة دومة الجندل، وكانت في ربيع الأول سنة خمس من الهجرة، وكان سعد بن عبادة معه في تلك الغزوة، فلما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أتى قبرها فصلى عليها.
ولما أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يهاجر سمع صوتاً بمكة يقول: من الطويل
إن يسلم السعدان يصبح محمدٌ ... من الأمن لا يخشى خلاف المخالف
فقالت قريش: لو علمنا من السعدان لفعلنا وفعلنا. قال: فسمعوا من القابلة وهو يقول:
فيا سعد سعد الأوس كن أنت مانعاً ... ويا سعد سعد الخزرجين الغطارف
أجيبا إلى داعي الهدى وتمنيا ... على الله في الفردوس زلفة عارف
زاد في رواية أخرى:
فإن ثواب الله للطالب الهدى ... جنانٌ من الفردوس ذات رفارف
قال: سعد الأوس: سعدٌ بن معاذ، وسعد الخزرجين سعد بن عبادة.
الغطارف: الكرام.
قال ابن إسحاق: لما تفرق الناس عن بيعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة ونفروا وكان الغد فتشت قريش عن الخبر والبيعة، فوجدوه حقاً، فانطلقوا في طلب القوم، فأدركوا سعد بن عبادة وفاتهم منذر بن عمرو، فشدوا يدي سعد إلى عنقه بنسعةٍ، وكان ذا شعر كثير، فطفقوا يجبذونه بجمته، ويصكونه ويلكزونه. قال سعد بن عبادة: فوالله! إني لفي أيديهم(9/237)
يسحبونني إذ طلع نفرٌ من قريش فيهم فتًى أبيض حلو شعشاع، وضيء، فقلت: إن يك عند أحدٍ من القوم خيرٌ فعند هذا، وهو سهيل بن عمرو، فلما دنا مني رفع يده فلكمني لكمةً شديدة، فقلت: والله ما في القوم خيرٌ بعد هذا، فوالله إني لفي أيديهم إذ غمز رجل منهم فخذي فقال: هل بينك وبين أحد من قريش عهدٌ؟ فقلت: نعم، لا أبا لك، اهتف بالرجلين. ففعلت، فذهب إليهما فقال: إن هذا الرجل الذي في أيدي نفر من قريش يعبثون به يهتف بكما، يزعم أنه قد كان بينه وبينكم عقد وجوار. فقالا: من هو؟ فقال: سعد بن عبادة. فقالا: صدق والله، إن كان ليفعل. ثم جاءا إلي حتى أطلقاني من أيديهم، ثم خليا سبيلي، فانطلقت.
فكان أول شعرٍ قيل في الإسلام شيءٌ قاله ضرار بن الخطاب بن مرداس الفهري في ذلك: من الطويل
تداركت سعداً عنوةً فأسرته ... وكان شفاءً لو تداركت منذرا
فأجابه حسان بن ثابت فقال من أبيات: من الطويل
لست إلى سعدٍ ولا المرء منذرٍ ... إذا ما مطايا القوم أصبحن ضمرا
ولولا أبو وهبٍ لمرت قصائدٌ ... على شرف الخرقاء يلمعن حسرا
قال محمد بن عبد الوهاب: قلت لعلي بن عثام: لم سموا نقباء؟ قال: النقيب الضمين، ضمنوا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسلام قومهم، فسموا بذلك نقباء.
وعن ابن عباس قال: كان عدة أهل بدرٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر رجلاً، كان المهاجرون سبعة وسبعين رجلاً، والأنصار مئتين وستةً وثلاثين رجلاً، وكان صاحب راية المهاجرين علي بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة.(9/238)
وعن ابن عباس قال: كانت راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المواطن كلها: راية المهاجرين مع علي بن أبي طالب، وراية الأنصار مع سعد بن عبادة.
ولما كان يوم فتح مكة دفعت راية قضاعة إلى أبي عبيدة بن الجراح، ودفعت راية بني سليم إلى خالد بن الوليد، وكانت راية الأنصار مع سعد بن عبادة، وراية المهاجرين مع علي بن أبي طالب.
وفي حديث آخر بمعناه: وكان إذا استحر القتال كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يكون تحت راية الأنصار.
وعن أنس قال: لما بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إقفال أبي سفيان قال: أشيروا علي. فقام أبو بكر فقال له: اجلس. ثم قام عمر فقال له: اجلس. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله. فلو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادنا إلى برك الغماد لفعلنا ذلك.
وعن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قتل قتيلاً فله كذا، ومن أسر أسيراً فله كذا ". وكانوا قتلوا سبعين، وأسروا سبعين، فجاء أبو اليسر بن عمرو بأسيرين فقال: يا رسول الله، إنك وعدتنا: من قتل قتيلاً فله كذا، ومن أسر أسيراً فله كذا، فقد جئت بأسيرين. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله، إنا لم يمنعنا زهادة في الآخرة، ولا جبن عن العدو، ولكنا قمنا هذا المقام خشية أن يقتطعك المشركون، فإنك إن تعط هؤلاء لا يبق لأصحابك شيء. فجعل هؤلاء يقولون، وهؤلاء يقولون، فنزلت: " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ". قال: فسلموا(9/239)
الغنيمة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ثم نزلت: " واعلموا أنما غنمتم من شيءٍ فأن لله خمسه.. " الآية.
وروي عن عدة طرقٍ عن أنس أو غيره: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استأذن على سعد بن عبادة فقال: السلام عليك ورحمة الله، فقال سعد: وعليك السلام ورحمة الله. ولم يسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سلم ثلاثاً ورد عليه سعد ثلاثاً، ولم يسمعه: فرجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبعه سعد فقال: يا رسول الله، بأبي أنت، ما سلمت تسليمةً إلا وهي بأذني، ولقد رددت عليك، ولم أسمعك، أحببت أن استكثر من سلامك ومن البركة. ثم دخلوا البيت فقرب إليه زينباً، فأكل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما فرغ قال: أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة، وأفطر عندكم الصائمون.
وفي حديث آخر عن قيس بن سعد بمعناه: فرجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واتبعه سعد فقال: يا رسول الله، قد كنت أسمع تسليمك، وأرد عليك رداً خفياً، لتكثر علينا من السلام. قال: فانصرف معه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر له سعد بغسل، فوضع فاغتسل، ثم ناوله ملحفة مصبوغةً بزعفران وورسٍ، فاشتمل بها، ثم رفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه وهو يقول: اللهم، اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة. قال: ثم أصاب من الطعام، فلما أراد الانصراف قرب إليه سعد حماراً قد وطأ عليه بقطيفة، فركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سعد: يا قيس، اصحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال قيس: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اركب، فأبيت، ثم قال: إما أن تركب وإما أن تنصرف، قال: فانصرفت.
وفي حديث آخر بمعناه عن أم طارق مولاة سعد:
فقال: إنه لم يمنعني أن نأذن لك إلا أنا أردنا أن تزيدنا. قالت: فسمعت صوتاً على الباب يستأذن ولم أر شيئاً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أنت؟ فقال: أم ملدم. فقال: لا مرحباً بك ولا أهلاً، اذهبي إلى أهل قبا. قالت: نعم. قال: فاذهبي إليهم.(9/240)
وعن سهل بن سعد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخطب المرأة ويصدقها، صداقها، ويشرط لها: صحفة سعدٍ تدور معي إذا درت إليك. وكان سعد بن عبادة يرسل إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصفحةٍ كل ليلةٍ، حيث كان جاءته.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: كانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سعد بن عبادة جفنة من ثريد كل يوم، تدور معه أينما دار من نسائه. وكان إذا انصرف من صلاة مكتوبةٍ قال: اللهم، ارزقني مالاً أستعين به على خصالي، فإنه لا يصلح الفعال إلا المال.
قال سعيد بن محمد بن أبي زيد: سألت عمارة بن غزية وعمرو بن يحيى عن جفنة سعد بن عبادة فقالا: كانت مرةً بلحمٍ، ومرةً بسمنٍ، ومرةً بلبنٍ، يبعث بها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كلما دار دارت معه الجفنة.
وعن سعد بن عبادة: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصحفةٍ أو جفنةٍ مملوءةٍ مخاً فقال: يا أبا ثابت ما هذا؟ فقال: والذي بعثك بالحق لقد نحرت أو ذبحت أربعين ذات كبدٍ، فأحببت أن أشبعك من المخ. قال: فأكل، ودعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيرٍ.
قال إبراهيم بن حبيب: سمعت أن الخيزران حدثت بهذا الحديث، فقسمت قسماً من مالها على ولد سعد بن عبادة وقالت: أكافىء به ولد سعد على فعله برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن جابر قال: أمر أبي بحريرة فصنعت، ثم أمرني فأتيت بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأتيته وهو في منزله: قال: قال لي: ماذا معك يا جابر، ألحمٌ ذا؟ قلت: لا. قال: فأتيت أبي فقال(9/241)
لي: هل رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: نعم، قال لي: ماذا معك يا جابر ألحمٌ ذا؟ قال: لعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكون اشتهى اللحم، فأمر بشاة لنا داجن فذبحت، ثم أمر بها فشويت، ثم أمرني فأتيت بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: ماذا معك يا جابر؟ فأخبرته فقال: جزى الله الأنصار عنا خيراً ولا سيما عبد الله بن عمرو بن حرام وسعد بن عبادة.
روى محمد بن عمر الواقدي عن رجاله قالوا: وأقام سعد بن عبادة يعني في غزوة الغابة في ثلاث مئة من قومه يحرسون المدينة خمس ليالٍ حتى رجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأحمال تمر، وبعشر جزائر بذي قرد، وكان في الناس قيس بن سعد على فرس له يقال له الورد. وكان هو الذي قرب الجزر والتمر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا قيس، بعثك أبوك فارساً، وقوى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو، اللهم ارحم سعداً وآل سعد ". ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم المرء سعد بن عبادة. فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله، هو نقيبنا، وسيدنا، وابن سيدنا، كانوا يطعمون في المحل ويحملون في الكل، ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين ".
قال الواقدي: وجاء سعد بن عبادة وابنه قيس بن سعد بزاملةٍ تحمل زاداً يؤمان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني يوم ضلت زاملته في حجة الوداع، حتى يجدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واقفاً عند باب منزله قد أتى الله بزاملته. فقال سعد: يا رسول الله، بلغنا أن زاملتك أضلت مع الغلام وهذه زاملةٌ مكانها. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله(9/242)
عليكما، أما يكفيك يا أبا ثابت ما تصنع بنا في ضيافتك منذ نزلنا المدينة؟ قال سعد: يا رسول الله، المنة لله ولرسوله، والله يا رسول الله للذي تأخذ من أموالنا أحب إلينا من الذي تدع. قال: صدقتم يا أبا ثابت، أبشر فقد أفلحت، إن الأخلاق بيد الله فمن أراد أن يمنحه منها خلقاً صالحاً منحه، ولقد منحك الله خلقاً صالحاً. فقال سعد: الحمد لله هو فعل ذلك.
وعن زيد بن ثابت قال:
دخل سعد بن عبادة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه ابنه، فسلم فقال رسول الله ر هاهنا. وأجلسه عن يمينه، وقال: مرحباً بالأنصار، مرحباً بالأنصار. وأقام ابنه بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجلس، فجلس، فقال: ادن. فدنا فقبل يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وأثابي الأنصار، وأثابي فراخ الأنصار. فقال سعد: أكرمك الله عز وجل كما أكرمتنا. فقال: إن الله عز وجل قد أكرمكم قبل كرامتي، إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض.
وعن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه استعمل سعد بن عبادة فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه فقال له: إياك أن تجيء يوم القيامة تحمل بعيراً على عنقك، يقول سعد: يا رسول الله، فإن فعلت إن ذلك لكائن!؟ قال: نعم. قال سعد: قد علمت أني أسأل فأعطي، فأعفني، فأعفاه.
وعن عبد الله بن عمر أنه قال: كنا جلوساً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاء رجل من الأنصار فسلم عليه، ثم أدبر الأنصاري فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أخا الأنصار، كيف أخي سعد بن عبادة؟ فقال: صالحٌ يا رسول الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يعوده منكم؟ فقام وقمنا معه، ونحن بضعةٌ ما علينا نعال ولا خفاف ولا قلانس ولا قمص نمشي في تلك السباخ حتى جئنا، فاستأخر قومه من حوله حتى دنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الذين معه.(9/243)
وعن ابن عباس قال: لما نزلت: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلودهم ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ". قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: أهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا معشر الأنصار، ألا تسمعون إلى ما يقول سيدكم؟ قالوا: يا رسول الله، لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، ولا طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا على أن يتزوجها من شدة غيرته. فقال سعد: والله يا رسول الله، إني لأعلم أنها حقٌ وأنها من عند الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاع قد تفخذها رجلٌ لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته. قالوا: فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية، وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فذكر الحديث في اللعان بطوله.
وعن محمد بن سيرين قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أمسى قسم ناساً من أهل الصفة بين ناس من أصحابه: فكان الرجل يذهب بالرجل، والرجل يذهب بالرجلين، والرجل يذهب بالثلاثة حتى ذكر عشرة، وكان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشيهم.
وعن عروة بن الزبير قال: كان سعد بن معاذ يقول: اللهم، ارزقني مجداً، وارزقني حمداً، وارزقني. اللهم، إنه لا حمد إلا بمجد، ولا مجد إلا بمال، ولا مال إلا بفعال. اللهم، إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح له، ولا يصلحني إلا الكثير ولا أصلح إلا عليه. قال: وكان له منادٍ ينادي على أطم داره: من أراد شحماً ولحماً فليأت سعداً. قال عروة بن الزبير: وأدركت ابنه قيس بن سعد يفعل مثل صنيع أبيه.(9/244)
وعن ابن أبي سبرة قال: كان سعد بن عبادة يبسط رداءه ويقول: اللهم، ارزقني بالكثير فإن القليل لا يكفيني.
وعن سعد بن عبادة أنه قال لابنه: يا بني، أوصيك بوصية فاحفظها، فإن أنت ضيعتها فأنت لغيرها من الأمر أضيع، إذا توضأت فأتم الوضوء ثم صل صلاة امرىءٍ مودع ترى أنك لا تعود، وأظهر اليأس من الناس فإنه غنى، وإياك وطلب الحوائج إليهم فإنه فقٌ حاضر، وإياك وكل شيءٍ يعتذر منه.
وعن الزبير بن المنذر بن أبي أسيد الساعدي:
أن أبا بكر بعث إلى سعد بن عبادة أن أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك. فقال: لا والله لا أبايعكم حتى أرميكم بما في كنانتي، وأقاتلكم بمن معي من قومي وعشيرتي. فلما جاء الخبر إلى أبي بكر قال بشير بن سعد: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه قد أبى ولج، وليس بمبايعكم أو يقتل، ولن يقتل حتى يقتل معه ولده وعشيرته، ولن يقتلوا حتى تقتل الخزرج، ولن تقتل الخزرج حتى تقتل الأوس، فلا تحركوه فقد استقام لكم الأمر، فإنه ليس بضاركم، إنما هو رجل وحده ما ترك. فقبل أبو بكر نصيحة بشير، فترك سعداً. فلما ولي لقيه ذات يومٍ في طريق المدينة فقال: إيه يا سعد، فقال سعد: إيه يا عمر، فقال عمر: أنت صاحب ما أنت صاحبه. فقال سعد: نعم أنا ذاك، وقد أفضى إليك هذا الأمر، كان والله صاحبك أحب إلينا منك، وقد والله أصبحت كارهاً لجوارك. فقال عمر: إنه من كره جوار جاره تحول عنه. فقال سعد: أما إني غير مستنسىء بذلك، وأنا متحول إلى جوار من هو خيرٌ منك. قال: فلم يلبث إلا قليلاً حتى خرج مهاجراً إلى الشام في أول خلافة عمر، فمات بحوران.
حدث مالك بن أنس: أنه بلغه أن راهباً كان بالشام. فلما رأى أوائل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين قدموا الشام معاذ بن جبل ونظراءه قال: والذي نفسي بيده ما بلغ حواري عيسى بن مريم الذين صلبوا(9/245)
على الخشب، ونشروا بالمناشير من الاجتهاد ما بلغ أصحاب محمد. قال عبد الله بن وهب: فقلت لمالك بن أنس يسميهم، فسمى أبا عبيدة، ومعاذاً، وبلالاً، وسعد بن عبادة.
ويقال: إن الجن قتلت سعد بن عبادة.
حدث عبد الأعلى: أن سعد بن عبادة بال قائماً فرمي، فلم يدر بذلك حتى سمعوا: من مجزوء الهزج
قتلنا سيد الخزر ... ج سعد بن عباده
رميناه بسهمين ... فلم نخط فؤاده
قال عبد العزيز: فما علم بموته بالمدينة حتى سمع غلمان في بئر منبه أو بئر سكن وهم يقتحمون نصف النهار في حر شديد قائلاً يقول من البئر البيتين، فذعر الغلمان، فحفظ ذلك اليوم، فوجدوه اليوم الذي مات فيه سعد. وإنما جلس يبول في نفق، فاقتتل فمات من ساعته.
وروي فافتتل بالفاء. ووجدوه قد اخضر جلده.
وعن سعد بن عبد العزيز قال: أول مدينة فتحت بالشام بصرى، وفيها مات سعد بن عبادة.
قال أبو رجاء: قتل سعد بن عبادة بالشام سنة خمس عشرة بحوران، ورمته الجن. وقيل: توفي في خلافة أبي بكر، وقيل: توفي لسنتين من خلافة عمر. وقيل: لسنتين ونصف من خلافة عمر، بحوران.
وقيل: توفي سنة إحدى عشرة. وقيل: سنة أربع عشرة، وقيل: سنة ست عشرة في أول خلافة عمر، رمته الجن فقتلته.(9/246)
سعد بن عبد الله البزاز
كان صوفياً فاضلاً محباً للصوفية، وكانت له دنيا كثيرة، وكان أديباً ظريفاً.
قال أحمد بن محمد بن زياد: قدم عليه بعض أصحابنا فقال له: هل مررت في طريقك بأحد من أصحابنا؟ فقال: لا، ولكن رأيت رجلاً عرفك، فأكرمني، وأنزلني عنده، وكان لسعد على ذلك الرجل جملة دنانير حساباً بينهم، فضرب على حسابه مكافأة لما بلغه أنه أكرم هذا الفقير من أجله.
قال ابن الأعرابي: كان سعد بن عبد الله يعرف بالدمشقي، خراساني الأصل، أقام بالشام سنين، ثم رجع إلى بغداد، وأنفق جميع ملكه حتى افتقر. وكان قد صحب أحمد بن أبي الحواري، وكان يواسيه في آخر أمره أبو أحمد القلانسي، واجتمع عليه ببغداد دين كثير، ثم فتح الله عليه حتى قضى دينه، وكان طيب النفس، اشترى جارية قوالة للفقراء، فكانت تقرأ لهم القصائد والرباعيات، فلما مات سعد تزوجها الجنيد. وقيل: إن الجارية كان اسمها نجوم.
قال السلمي: كان سعد حراً فاسترق، وأهدي إلى المعتصم، وكان على خزانة كسوته، فلما مات المعتصم أعتق، فخرج إلى الشام. وصحب أحمد بن أبي الحواري، واجتمع فيه آداب الفقراء وآداب الملوك، وفتح الله عليه الدنيا بدمشق، وكان ينفق على القدام. ومات وهو فقير أنفق جميع ملكه على القوم.
سعد بن علي بن محمد
أبو القاسم الزنجاني الحافظ الصوفي سمع بدمشق، وسكن مكة.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن الفضل بن نظيف الفراء بسنده عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة جوف الليل، وأفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم. "(9/247)
كان الإمام أبو مظفر السمعاني عزم على أن يقيم بمكة، ويجاور بها في صحبة الإمام سعد بن علي الزنجاني شيخ الحرم، فرأى ليلة من الليالي والدته، كأنها كشفت رأسها، وأخرجت شعرها وقالت له: يا أبا المظفر، بحقي عليك إلا رجعت إلى مرو، فإني لا أطيق فراقك. قال: فانتبهت من النوم مغموماً، وترددت بين المقام والرجوع فقلت: أشاور سعد بن علي في هذا، فإذا أشار علي بأمرٍ اتبعته. قال: فمضيت إليه، وهو قاعد في الحرم، وقعدت بين يديه، ومن الزحام الذي كان عنده ما قدرت أن أكلمه، فلما تفرق الناس وقام تبعته إلى باب داره، فالتفت إلي وقال: يا أبا المظفر، العجوز تنتظرك. وما زاد على هذا، ودخل البيت، فعرفت أنه تكلم على ضميري، فرجعت مع الحاج تلك السنة.
قال أبو القاسم ثابت بن أحمد بن الحسين البغدادي: رأيت أبا القاسم سعد بن محمد الزنجاني في المنام يقول لي مرةً بعد أخرى: يا أبا القاسم، إن الله تعالى يبني لأهل الحديث أو لأصحاب الحديث بكل مجلس يجلسونه بيتاً في الجنة.
سعد بن علي بن محمد بن أحمد
أبو الوفاء النسوي القاضي حدث عن أبي إسحاق إبراهيم الشرابي قرية على باب نهاوند بمدينة سهرورد قال: رأيته بها سنة ثمان وسبعين وثلاث مئة، ثم رأيته بعد ذلك فسمعته يقول: سمعت علي بن أبي طالب يقول: خمسةٌ من خمسة محالٌ: الأمن من العدو محال، والنصيحة من الحسود محال، والحرية من الفاسق محال، والهيبة من القبر محال، والوفاء من النساء محال.
قال: وحدثني أبو إسحاق قال: سمعت علياً يقول بالكوفة على باب الجامع: أربع لا تدرك بأربع: لا يدرك الشباب بالخضاب، ولا الغنى بالمنى، ولا البقاء بالدواء، ولا الصحة بالاحتماء.(9/248)
سعد بن محمد بن سعد
ويقال: ابن عبد الله بن سعد، أبو محمد ويقال: أبو العباس البجلي البيروتي القاضي قاضي بيروت.
روى عن عبد الحميد بن بكار بسنده عن حريث بن قبيصة قال: لما شارفت المدينة قلت: اللهم، يسر لي جليساً صالحاً لعل الله تعالى ينفعني به، فدفع إلى أبي هريرة فقال له: إني سألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً لعل الله تعالى ينفعني به، فحدثني حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن صلحت سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله، ثم يقول: انظروا هل لعبدي من نافلةٍ؟ فإن كانت له نافلةٌ أتم بها الفريضة، ثم الفرائض كذلك لعائده الله ورحمته.
وحدث بسنده عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: سمعت عمي محمد بن إدريس الشافعي يقو: كانت لي امرأةٌ وكنت أحبها، فكنت إذا رأيتها قلت: من مجزوء الكامل
ومن البلية أن تحب ... ب ولا يحبك من تحبه
فتقول هي:
ويصد عنك بوجهه ... وتلج أنت ولا تغبه
توفي سعد بن محمد البيروتي سنة تسع وسبعين ومئتين.(9/249)
سعد بن محمد بن يوسف
ابن محمد بن غسان بن عبد الرحمن بن بشر بن عبد الله بن حارس بن همام بن مرة بن ذهل ابن شيبان، أبو رجاء الشيباني القزويني سمع بدمشق.
روى عن أبي علي الحسن بن حبيب بن عبد الملك سنة ثمان وأربع مئة بدمشق في مسجد باب الجابية بسنده عن أبي هريرة قال: سأل رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا، فنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
سئل هذا الشيخ عن مولده فقال: حججت وكنت ابن عشرين سنة، ولم أر الحجر بموضعه لأنه لم يكن رد.
سعد بن مالك أبي وقاص
ابن أهيب ويقال: وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب، أبو إسحاق القرشي الزهري.
أحد العشرة المشهود لهم بالجنة. شهد بدراً والمشاهد بعدها، وشهد غزوة أسامة إلى أرض البلقاء، وروى خطبة عمر بالجابية، قال: وأظنه لم يشهدها، وشهد أذرح يوم الحكمين، ووفد على معاوية.
حدث سعد بن أبي وقاص:
أنه مرض عام الفتح مرضاً أشفى منه على الموت، فأتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوده، وهو بمكة، فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً كثيراً، وليس يرثني إلا ابنتي، أفأتصدق بثلثي(9/250)
مالي؟ قال: لا. قال: فبالشطر؟ قال: لا. قال: فالثلث، والثلث كثير، إنك إن تترك ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تتركهم عالةً يتكففون الناس، إنك لن تنفق نفقةً لا أجرت فيها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك. قلت: يا رسول الله، أخلف عن هجرتي. قال: إنك لن تخلف بعدي فتعمل عملاً تريد به وجه الله إلا ازددت به رفعةً أو درجة، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوامٌ ويضر بك آخرون، اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة. يرثي له أن مات بمكة.
قال بكير بن الأشج: سألت عامر بن سعد بن أبي وقاص عن قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعد: وعسى أن تبقى حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون قال عامر: أمر سعد على العراق فقتل قوماً على الردة فضرهم، واستتاب قوماً كانوا سمعوا سجع مسيلمة الكذاب فتابوا فانتفعوا به.
وعن سعد قال: مررت بعثمان بن عفان في المسجد فسلمت عليه، فملأ عينيه ثم لم يرد علي السلام، فأتيت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقلت: يا أمير المؤمنين، هل حدث في الإسلام شيء؟ قال: وما ذاك؟ قلت: لا، إلا أني مررت بعثمان آنفاً في المسجد، فسلمت عليه، فملأ عينيه مني ثم لم يرد السلام! قال: فأرسل عمر إلى عثمان فدعاه فقال: ما يمنعك أن تكون رددت على أخيك السلام؟ فقال عثمان: ما فعلت؟ قال سعد: بلى. قال: حتى حلف وحلفت. قال: ثم إن عثمان ذكر فقال: بلى! فأستغفر الله وأتوب إليه، إنك مررت بي آنفاً وأنا أحدث نفسي بكلمة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا والله ما ذكرتها قط إلا تغشى بصري وقلبي غشاوة. فقال سعد: فأنا أنبئك بها، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر لنا: أول دعوةٍ ثم جاءه أعرابي فشغله، ثم قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتبعته، فلما أشفقت أن يسبقني إلى منزله ضربت بقدمي الأرض، فالتفت إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من هذا أبو إسحاق.؟ قال: قلت: نعم يا رسول الله. قال: فمه. قال: قلت: لا والله، إلا أنك ذكرت لنا: أول دعوة، ثم جاء هذا الأعرابي. قال: فقال: نعم دعوة ذي النون " لا إله إلا أنت(9/251)
سبحانك إني كنت من الظالمين ". فإنه لم يدع بها مسلم ربه عز وجل في شيء قط إلا استجاب له.
وعن سعد بن أبي وقاص قال: وقف عمر بن الخطاب بالجابية فقال: رحم الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، أما إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقف في ناسٍ كقيامي فيكم ثم قال: احفظوني في أصحابي ثم الذين يلونهم يقولها ثلاثاً، ثم يكثر الهرج والكذب، ويشهد الرجل ولا يستشهد، ويحلف الرجل ولا يستحلف، فمن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة، فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد، لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن.
وعن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة قال: خرجت مع أبي، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن الأسود ابن عبد يغوث الزهري عام أذرح، فوقع الوجع بالشام، فأقمنا بسرغ خمسين ليلة، ودخل علينا رمضان فصام المسور وعبد الرحمن بن الأسود، وأفطر سعد بن أبي وقاص وأبى أن يصوم، فقلت لسعد: أبا إسحاق! أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهدت بدراً والمسور يصوم وعبد الرحمن وأنت تفطر؟ قال سعد: إني أنا أفقه منهما.
وفي رواية: أنهم خرجوا إلى الشام قال: فكان سعد بن أبي وقاص يقصر الصلاة ويفطر، وكانا يتمان الصلاة ويصومان. قال: فقيل لسعد: إنك تقصر الصلاة وتفطر ويتمان!؟ فقال سعد: نحن أعلم.
وعن زكريا بن عمرو: أن سعد بن أبي وقاص وفد على معاوية فأقام عنده شهراً يقصر الصلاة. أو شهر رمضان فأفطره.
وعن عمرو بن دينار قال: شهد سعد بن أبي وقاص وابن عمر الحكمين بدومة الجندل.(9/252)
وعن ضمرة بن ربيعة قال: قال حفص:
قدم سعد بن أبي وقاص على معاوية فقال له معاوية: أين كنت في هذا الأمر؟ فقال: إنما مثلنا ومثلكم كمثل ركب كانوا يسيرون فأصابتهم ظلمة فقالوا: إخ إخ. فقال معاوية: ما في كتاب الله إخ إخ، ولكن في كتاب الله: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ".
قال: فبايعه وما سأله شيئاً إلا أعطاه إياه.
وعن سعيد بن المسيب عن سعد قال: قلت: يا رسول الله، من أنا؟ قال: أنت سعد بن مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة. من قال غير ذلك فعليه لعنة الله.
قال الزبير بن بكار: من ولد أهيب بن عبد مناف بن زهرة سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص مالكٌ، وأمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس. وهو أول من رمى بسهم في سبيل الله، وهو أول من أهراق دماً في سبيل الله، وقال بعض الناس: طليب بن عمير أول من أهرق دماً في سبيل الله. وولى عمر سعد بن أبي وقاص قتال فارس، وكان بيني داريه بالبلاط، فقال له: تشغلني عن بناء داري! فقال عمر: أنا أكفيك بناءهما. فكان عمر يحضر بناءهما حتى فرغ منهما. وأشار لي بعض المشايخ إلى بعض بناء عمر الذي بنى له على حاله، وهو إلى اليوم على حاله.
وهو أحد العشرة الذين كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر أنهم في الجنة. وفتح مدائن كسرى، وهو أحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى إليهم بعده. وكان مستجاب الدعوة. وسعد كوف الكوفة ونفى الأعاجم، وكان أهل الكوفة قد رفعوا عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلاً، وكان مما رفعوا عليه أنه لا يحسن الصلاة، فقال: نعم حين(9/253)
ذكر ذلك له والله إني لأركد في الأوليين وأحذف الأخريين. فقال عمر: ذاك الظن بك أبا إسحاق. وأمره أن يعود إلى الكوفة، فقال: تأمرني أن أعود إلى قوم زعموا أني لا أحسن الصلاة!؟ وأبى، فلما طعن عمر قال في وصيته حيث أسماه في أهل الشورى: إن ولي سعد الإمارة فذاك، وإلا فليستعين به الوالي من بعدي، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة. واعتزل اختلاف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قتل عثمان، ونزل قلهي، واحتفر فيه بئراً فأعذب، وأمر أهله ألا يخبروه من أخبار الناس شيئاً، حتى تجتمع الأمة على إمام. ونظر يوماً إلى راكب يزول فقال: هذا راكب، فلما دنا قيل له: هذا ابنك عمر بن سعد. فجاء عمر، فأناخ ثم قال لأبيه: أرضيت لنفسك أن تقيم بهذا المنزل، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يختلفون في الخلافة؟ فقال له: إن جئتني بسيفٍ يعرف المؤمن من الكافر إذا ضربت به فعلت. فقال له: ليس إلا هذا. قال: لا. فوثب، فقال: اجلس حتى تصيب طعاماً. قال: لا حاجة لي بطعامكم.
وذكر بعض أهل العلم: أن ابن أخيه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص جاءه فقال له: هاهنا مئة ألف سيف يرونك أحق الناس بهذا الأمر. فقال: أريد من مئة ألف سيف سيفاً واحداً، إذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئاً، وإذا ضربت به الكافر قطع. فانصرف من عنده إلى علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فكان في أصحابه وقاتل معه.
عن خليفة بن خياط قال: سعد بن أبي وقاص ولاه عمر وعثمان الكوفة، ومات بالمدينة سنة خمس وخمسين.
قال ابن سعد: سعد بن أبي وقاص شهد بدراً وأحداً، وثبت يوم أحد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ولى(9/254)
الناس، وشهد الخندق والحديبية وخيبر، وفتح مكة وكانت معه يومئذ إحدى رايات المهاجرين الثلاث، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان من الرماة المذكورين من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأسلم وهو ابن سبع عشرة سنة، وقيل: ابن تسع عشرة، وقيل: ابن أربع وعشرين سنة. وكان قصيراً، دحداحاً، غليظاً، ذا هامةٍ، شثن الأصابع.
وتوفي بالعقيق في قصره على سبعة أميال من المدينة، وحمل على أعناق الرجال إلى المدينة سنة خمس وخمسين، ويقال: سنة ثمان وخمسين. وكانت سنه يوم توفي أربعاً وسبعين سنة، ويقال: ثلاثاً وثمانين، وصلى عليه مروان بن الحكم.
قال أبو بكر الخطيب:
وهو من المهاجرين الأولين، حضر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشاهده، وجاهد بين يديه، وفداه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبويه فقال له: فداك أبي وأمي، ودعا له فقال: اللهم، سدد رميته وأجب دعوته، فكان مجاب الدعوة. ولما وجه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب جيوش المسلمين إلى العراق أمر سعداً عليهم ففتح الله على يده المدائن وغيرها من بلاد الفرس، ثم ولاه عمر أيضاً الكوفة لما مصرت.
وقيل: إن سعداً كان جعد الشعر، أشعر الجسد، آدم، طويلاً، أفطس. وقيل: إنه كان يخضب بالسواد، وقيل: وكان مفزور الأنف.
قال سعد: اتبعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في وجهي ولا شعرة.
وعن سعيد بن المسيب أن سعداً قال: ما أسلم أحد في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد مكثت سبعة أيام وإني لثلث الإسلام.
وعن سعد قال: ما أسلم أحدٌ قبلي إلا رجل أسلم في اليوم الذي أسلمت فيه، ولقد أتى علي يوم وإني لثلث الإسلام.(9/255)
وعن سعد قال: لقد أسلمت وما فرض الله الصلوات.
وعن سعد قال: رأيت في المنام قبل أن أسلم بثلاث كأني في ظلمة لا أبصر شيئاً إذ أضاء لي قم فاتبعته، فكأني أنظر إلى من سبقني إلى ذلك القمر فأنظر إلى زيد بن حارثة، وإلى علي بن أبي طالب، وإلى أبي بكر، وكأني أسألهم: متى انتهيتم إلى هاهنا؟ قالوا: الساعة. وبلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو إلى الإسلام مستخفياً فلقيته في شعب أجياد، وقد صلى العصر، فقلت: إلام تدعو؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله. فما تقدمني أحد إلا هم.
وعن سعد بن مالك قال: ما جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبويه لأحد قبلي، ولقد رأيته يقول لي: " يا سعد، ارم فداك أبي وأمي، وأنا أول المسلمين رمى المشركين بسهم. " وعن سعد بن أبي وقاص قال: رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لنا طعامٌ إلا ورق الحبلة، إن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما يخالطه شيءٌ، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام. لقد خسرت إذاً وضل سعيي!؟ وعن سعد قال: أنا أول من رمى في الإسلام بسهمٍ، خرجنا مع عبيدة بن الحارث ستين راكباً سرية.
وعن جابر بن سمرة قال: خرجت أنا وسعد في سرية فانهزمنا، فالتفت سعد فإذا رجل رجلٍ خارجة من(9/256)
الرحل، فرماه بسهم فأصاب ساقه، فكأني أنظر إلى الدم على الرجل كأنه شراك، وكان أول من رمى بسهم في الإسلام.
وفي رواية: وهو من أخوال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن محمد بن عمر الواقدي قال: وكان رجال من المشركين قد أذلقوا المسلمين بالرمي منهم حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لسعد بن أبي وقاص: " ارم فداك أبي وأمي " ورمى حبان بن العرقة بسهم فأصاب ذيل أم أيمن وجاءت يومئذٍ تسقي الجرحى فعقلها وانكشف عنها، فاستغرب في الضحك، فشق ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدفع إلى سعد بن أبي وقاص سهماً لا نصل له فقال: ارم، فوقع السهم في ثغرة نحر حبان، فوقع مستلقياً وبدت عورته. قال سعد: فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضحك يومئذٍ حتى بدت نواجذه، ثم قال: استقاد لها سعد. أجاب الله دعوتك وسدد رميتك.
وعن سعد بن أبي وقاصٍ قال: دفع إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد ما في كنانته من السهام وقال: ارم سعد، فداك أبي وأمي، وما جمعهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لغيري قبلي ولا بعدي منذ بعثه الله عز وجل.
وعن يحيى بن حمزة: أن المشركين لما دنوا من المسلمين يوم أحد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احتتهم يا سعد. فقال سعد: فرميت بسهم فقتلت، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احتتهم يا سعد، فقال سعد: فرميت بسهمٍ أعرفه حتى واليت بين سبعة نفر أو ثمانية، كل ذلك يرد علي سهمي أعرفه، فقلت: هذا سهم دم، فجعلته في كنانتي لا يفارقني.(9/257)
وعن عامر بن سعد: أن سعداً رمى يومئذ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نبلوا سعداً، اللهم ارم له، وقال: ارم سعد، فداك أبي وأمي.
قال عمير بن إسحاق: لما كان يوم أحد انكشفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسعد يرمي بين يديه، وفتًى ينبل له، كلما ذهب نبل أتاه بها. قال: ارم أبا إسحاق. فلما فرغوا نظروا من الشاب فلم يروه، ولم يعرف.
وحدث أيوب بن عائشة بنت سعد قال: سمعتها تقول: أنا ابنة المهاجر الذي فداه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحدٍ بالأبوين.
وعن الزهري قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سريةً فيها سعد بن أبي وقاص إلى جانب من الحجاز يدعى رابغ وهو من جانب الجحفة فانكفأ المشركون على المسلمين فحماهم سعد بن أبي وقاص يومئذ بسهامه، وكان أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان هذا أول قتال كان في الإسلام، وقال سعد في رميته: من الوافر
ألا هل أتى رسول الله أني ... حميت صحابتي بصدور نبلي
أذود بها أوائلهم ذياداً ... بكل حزونةٍ وبكل سهل
فما يعتد رامٍ في عدوٍّ ... بسهمٍ يا رسول الله قبلي(9/258)
وعن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني أرمي بالسهم يومئذ يعني يوم أحد فيرده علي رجلٌ أبيض حسن الوجه لا أعرفه، حتى كان بعد فظننت أنه ملك.
وعن علقمة عن عبد الله قال: رأيت سعداً يقاتل يوم بدر قتال الفارس في الرجال.
وعن سعد قال: رأيت رجلين يوم بدر يقاتلان عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره، وإني لآراه ينظر إلى ذا مرة وإلى ذا مرة سروراً بما ظفره الله عز وجل.
وفي رواية أخرى عنه قال: لقد رأيت عن يمين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن يساره يوم أحد رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه كأشد القتال، ما رأيتهما قبل ولا بعد.
وعن عبد الله بن مسعود قال: أشرك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيني وبين عمار وسعد في درقة تسلحناها، وأشركنا فيما أصبنا، فأخفقت أنا وعمار، وجاء سعد بأسيرين.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه في يوم بدر.
وعن ابن شهاب: أنه خفي خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد على الناس كلهم إلا على ستة نفر: الزبير، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وكعب بن مالك، وأبي دجانة، وسهل بن حنيف.
وعن أبي إسحاق قال: كان أشد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة: عمر، وعلي، والزبير، وسعد، يعني ابن أبي وقاص.
وعن عائشة قالت: سهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمه المدينة ليلة فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني(9/259)
الليلة، قالت: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا خشخشة سلاح فقال: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما جاء بك؟ فقال سعد: وقع في نفسي خوف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئت أحرسه. فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم نام.
وعن أنس قال: بينا نحن جلوس عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فأطلع سعد بن أبي وقاص، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ذلك فطلع سعد بن أبي وقاص على مرتبته الأولى، حتى إذا كان الغد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل ذلك، فطلع سعد بن أبي وقاص على مرتبته، فلما قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني عارضت أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاث ليالٍ، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تحل يميني فعلت. قال أنس: فزعم عبد الله بن عمرو أنه بات معه ليلة، حتى كان مع الفجر، فلم يقم من تلك الليلة شيئاً، غير أنه كان إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبره، حتى يقوم مع الفجر، فإذا صلى المكتوبة أسبغ الوضوء وأتمه، ثم يصبح مفطراً، قال عبد الله بن عمرو: فرمقته ثلاث ليالٍ وأيامهن لا يزيد علي ذلك، غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً. فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أحتقر عمله فقلت: إنه لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذلك فبك ثلاث مرات في ثلاثة مجالس: يطلع عليكم رجل من أهل الجنة فاطلعت أولئك المرات الثلاث، فأردت أن آوي إليك حتى أنظر ما عملك فأقتدي بك، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فقال: ما هو إلا الذي قد رأيت. قال: فلما رأيت ذلك انصرفت عنه، فدعاني حين وليت فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي سوءاً لأحد من المسلمين ولا أقوله. قال: هذه التي بلغت بك وهي التي لا أطيق.
وعن عائشة بنت سعد عن أبيها:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس في المسجد ثلاث ليالٍ فقال: اللهم، أخرج من هذا الباب عبداً تحبه ويحبك، فدخل منه سعد ثلاث ليال.
قال عبد الرحمن بن الأخنس: شهدت المغيرة بن شعبة خطب فنال من علي، فقام سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل(9/260)
العدوي عدي قريش فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " عشرة في الجنة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف.... ولو شئت أن أسمي العاشر سميته. ثم سماه فقال: سعيد بن زيد ".
وعن سعيد بن زيد قال: كنا جلوساً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حراء. فقال: اسكن حراء، فما عليك إلا نبي أو شهيد أو صديق، وعليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد. " وعن سعد بن مالك قال: نزلت هذه الآية في: " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علمٌ فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا ". قال: كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت قالت: يا سعد! ما هذا الدين الذي قد أحدثت!؟ لتدعن دينك هذا أو ولا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعير بي فيقال: يا قاتل أمه. قلت: لا تفعلي يا أمه، إني لا أدع ديني هذا لشيء. قال: فمكثت يوماً لا تأكل ولا تشرب وليلة. قال: وأصبحت قد جهدت، قال: فمكثت يوماً آخر وليلةً لا تأكل، فأصبحت واشتد جهدها. قال: فلما رأيت ذلك قلت: يا أمهن تعلمين والله يا أمه، لو كانت لك مئة نفسٍ، فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء، إن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت، فنزلت هذه الآية.
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: نزلت في أربع آيات: الأنفال، و" صاحبهما في الدنيا معروفاً ". والوصية، والخمر.(9/261)
وعن جابر قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل سعد بن أبي وقاص فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا خالي فليرني امرؤٌ خاله.
وعن عائشة بنت سعد عن أبيها قال: وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على جبهتي ثم مسح وجهي وصدري وبطني ثم قال: اللهم، اشف سعداً، فما زلت أجد برد يده على صدري فيما يخيل إلي حتى الساعة.
قال أبو أمامة: جلسنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي وقاص فأكثر البكاء فقال: يا ليتني مت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا سعد، أعندي تتمنى الموت؟ فردد ذلك ثلاث مرات ثم قال: يا سعد، إن كنت خلقت للجنة فما طال عمرك أو حسن من عملك فهو خيرٌ لك.
وعن عامر قال: قيل لسعد بن أبي وقاص: متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر كنت أرمي بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأضع السهم في كبد القوس ثم أقول: اللهم زلزل أقدامهم، وأرعب قلوبهم، وافعل بهم، وافعل ... فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم استجب لسعدٍ.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يستجيب دعائي. قال: يا سعد إن الله لا يستجيب دعاء عبد حتى تطيب طعمته. قال: يا رسول الله، ادع الله أن يطيب طعمتي، فإني لا أقوى إلا بدعائك. فقال: اللهم أطب طعمة سعد. فإن كان سعد ليرى السنبلة من القمح في حشيش دوابه، حين أتي به عليه فيقول لهم: ردوها من حيث حصدتموها.
وعن سعد بن أبي وقاص أن عبد الله بن جحش قال يوم أحد: ألا تأتي ندعو الله عز وجل؟ فخلوا في ناحية، فدعا سعدٌ فقال: يا رب، إذا لقينا(9/262)
القوم غداً فلقني رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده أقاتله فيك ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله وآخذ سلبه. قال: فأمن عبد الله بن جحش ثم قال: اللهم، ارزقني غداً رجلاً شديداً بأسه شديداً حرده، فأقاتله ويقاتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً قلت لي: يا عبد الله، فيم جدع أنفك وأذناك؟ فأقول: فيك وفي رسولك، فتقول: صدقت. قال سعد بن أبي وقاص: كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيته آخر النهار وإن أذنه وأنفه لمعلق في خيط.
وعن جابر بن سمرة قال:
شكا أهل الكوفة سعداً إلى عمر فقالوا: إنه لا يحسن أن يصلي. فقال سعد: أما أنا فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاتي العشي لا أخرم منها، أركد في الأوليين وأحذف في الأخريين. فقال عمر: ذاك الظن بك يا أبا إسحاق. فبعث رجالاً يسألون عنه بالكوفة، فكانوا لا يأتون مسجداً من مساجد أهل الكوفة إلا قالوا خيراً وأثنوا خيراً، حتى أتوا مسجداً من مساجد بني عبس، فقال رجل يقال له أبو سعدة: أما إذ نشدتمونا بالله، فإنه كان لا يعدل في القضية، ولا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية. فقال سعد: اللهم، إن كاذباً فأعم بصره، وأطل عمره، وعرضه للفتن. قال عبد الملك بن عمير: فأنا رأيته بعد يتعرض للإماء في السكك، فإذا سئل: كيف أنت؟ يقول: كبير قير مفتونٌ، أصابتني دعوة سعد.
وعن مصعب بن سعد: أن سعداً خطبهم بالكوفة ثم قال: يا أهل الكوفة، أي أميرٍ كنت لكم؟ فقام رجل فقال: اللهم، إن كنت ما علمتك لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية، ولا تغزو في السرية. قال: فقال سعد: اللهم، إن كان كاذباً فأعم بصره، وعجل فقره، وأطل عمره، وعرضه للفتن. قال: فما مات حتى عمي، فكان يلتمس الجدرات، وافتقر حتى سأل الناس، وأدرك فتنة المختار الكذاب فقتل فيها، فكان إذا قيل له: كيف أنت؟ قال: أعمى فقير، أدركتني دعوة سعدٍ.(9/263)
وعن سعيد بن المسيب قال: خرجت جاريةٌ لسعد يقال لها زبرا، وعليها قميصٌ جديد، فكشفتها الريح، فشد عليها عمر بالدرة، وجاء سعدٌ ليمنعه، فتناوله بالدرة، فذهب سعدٌ يدعو على عمر، فناوله الدرة وقال: اقتص. فعفا عن عمر.
وعن قيس قال: وكان لابن مسعود على سعدٍ مالٌ، فقال له ابن مسعود: أد المال الذي قبلك. فقال سعد: والله إني لأراك لاقٍ مني شراً، هل أنت إلا ابن مسعود عبدٌ من هذيل؟ قال: أجل والله، إني لابن مسعود، وإنك لابن حمنة. فقال لهما هاشم بن عتبة: إنكما صاحبا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر الناس إليكما. فطرح سعدٌ عوداً كان في يده ثم رفع يده فقال: اللهم رب السموات.... فقال له عبد الله: قل قولاً ولا تلعن. فسكت، ثم قال سعد: أما والله لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوةً لا تخطئك.
وكان سعد قد أصابه خراج فلم يشهد يوم فتح القادسية. قال قبيصة بن جابر: فقال رجل منا: م الطويل
نقاتل حتى أنزل الله نصره ... وسعدٌ بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساءٌ كثيرةٌ ... ونسوة سعدٍ ليس فيهن أيم
فبلغت سعداً فقال: اللهم، إن كان كاذباً، أو قال الذي قال رياءً وسمعةً وكذباً فاقطع عني لساني ويده. قال قبيصة: فوالله إني لواقف بين الصفين يومئذ، إذ أقبلت نشابةً بدعوة سعد، حتى وقعت في لسانه، ويبس شقه فما تكلم كلمة حتى لحق بالله عز وجل.
وعن سعيد بن المسيب: أن رجلاً كان يقع في علي وطلحة والزبير، فجعل سعد بن مالك ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام سعد فصلى ركعتين ثم قال: اللهم، إن كان مسخطاً لك فيما(9/264)
يقول فأرني به آيةً واجعله آيةً للناس. فخرج الرجل فإذا هو ببختيٍّ يشق الناس، فأخذه بالبلاط، فوضعه بين كركرته والبلاط، فسحقه حتى قتله. فأنا رأيت الناس يتبعون سعداً ويقولون: هنيئاً لك أبا إسحاق، استجيبت دعوتك.
وعن مغيرة عن أمه قالت: زرنا آل سعد بن أبي وقاص، فرأينا جارية كأن طولها شبرٌ. قلت: من هذه؟ قالوا: وما تعرفينها؟ هذه بنت سعد بن أبي وقاص، غمست يدها في طهوره، فلطمها وقال: لا يشب الله قرنك، فبقيت كما هي.
وعن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف: أن امرأة كانت تطلع على سعد فينهاها فلم تنته، فاطلعت يوماً وهو يتوضأ فقال: شاه وجهك. فعاد وجهها في قفاها.
حدث داود بن قيس عن أمه وكانت مولاة نافع بن عتبة بن أبي وقاص قالت: رأيت سعداً زوج ابنته رجلاً من أهل الشام وشرط عليه ألا يخرجها، فأراد أن يخرج، فأرادت أن تخرج معه، فنهاها سعد وكره خروجها، فأبت إلا أن تخرج، فقال سعد: اللهم لا تبلغها ما تريد. فأدركها الموت في الطريق فقالت: من الطويل
تذكرت من يبكي علي فلم أجد ... من الناس إلا أعبدي وولائدي
فوجد سعدٌ في نفسه: وعن عثمان بن عثمان قال: كان سعد بن أبي وقاص بين يديه لحم فجاءت حدأةً فأخذت بعض اللحم، فدعا عليها سعد، فاعترض عظمٌ في حلقها فوقعت ميتة.(9/265)
حدث عبد الله بن عمر عن سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه مسح على الخفين، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك فقال: نعم، إذا حدثك سعد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً فلا تسأل عنه غيره.
قال الليث: ثم كان فتح جلولاء سنة تسع عشرة افتتحها سعد بن أبي وقاص.
وعن جرير بن عبد الله: أنه مر بعمر فسأله عن سعد بن أبي وقاص: كيف تركته في ولايته؟ قال: تركته أكرم الناس مقدرة، وأقلهم فترةً، وهو لهم كالأم البرة، يجمع كما يجمع الدرة، مع أنه ميمون الطائر، مرزوق الظفر، أشد الناس عند البأس، وأحب قريش إلى الناس. قال: فأخبرني عن الناس. قال: هم كسهام الجعبة: منها القائم الرائش، ومنها العطل الطائش، وابن أبي وقاص ثقافها، يغمز عضلها، ويقيم ميلها، والله أعلم بالسرائر يا عمر.
وعن مليح بن عوف السلمي قال: بلغ عمر بن الخطاب أن سعد بن أبي وقاص صنع باباً مبوباً من خشب على باب داره، وخص على قصره خصاً من قصب، فبعث محمد بن مسلمة، وأمرني بالمسير معه، وكنت دليلاً بالبلاد، فخرجنا وقد أمره أن يحرق ذلك الباب وذلك الخص، وأمره أن يقيم سعداً لأهل الكوفة في مساجدهم، وذلك أن عمر بلغه عن بعض أهل الكوفة أن سعداً حابى في بيع خمس باعه. فانتهينا إلى دار سعد، فأحرق الباب والخص، وأقام محمدٌ سعداً في مساجدها، فجعل يسألهم عن سعد ويخبرهم أن أمير المؤمنين أمره بهذا، فلا يجد أحداً يخبره إلا خيراً.
وعن عمر بن الخطاب قال: لما أصيب، قال له عبد الله بن عمر: ألا تستخلف يا أمير المؤمنين؟ قال: ما أجد أحداً أحق بهذا الأمر من هؤلاء الذين توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عنهم راض. فسمى علياً، وعثمان، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وقال:(9/266)
ليشهدهم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء فمن استخلفوه فهو الخليفة من بعدي، فإن أصابت سعداً وإلا فليستعن به الخليفة من بعدي، فإني لم أنزعه من ضعفٍ ولا خيانة.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة: أن عمر بن سعد ذهب إلى أبيه وهو بالعقيق في أرض له معتزل فقال: يا أبتاه، لم يبق من أصحاب بدر غيرك، ولا من الشورى. فلو أنك انبعثت بنفسك فتنصبها للناس ما اختلف عليك اثنان. فقال: ألهذا جئت يا بني؟ أفغدت حتى لم يبق من أجلي إلا مثل ظمأ الدابة، ثم أخرج فأضرب أمة محمد بعضها ببعض؟ إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير الرزق يعني ما يكفي وخير الذكر الخفي ".
وعن سليمان بن القاسم قال: قال سعد بن أبي وقاص: ما بكيت من الدهر إلا ثلاثة أيام: يوم قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويوم قتل عثمان، واليوم أبكي على الحق، فعلى الحق السلام.
وعن الضحاك قال: قام علي بن أبي طالب على منبر الكوفة حين اختلف الحكمان فقال: قد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فعصيتموني. فقام إليه فتى آدم فقال: إنك والله ما نهيتنا ولكنك أمرتنا وذمرتنا، فلما كان منها ما تكره برأت نفسك، ونحلتنا ذنبك. فقال علي: وما أنت وهذا الكلام؟ قبحك الله! والله لقد كانت الجماعة فكنت فيها خاملاً، فلما ظهرت الفتنة نجمت فيها نجوم قرن الماعزة. ثم التفت إلى الناس فقال: لله منزلٌ نزله سعد بن مالك وعبد الله بن عمر، والله لئن كان ذنباً إنه لصغير مغفور، ولئن كان حسناً إنه لعظيمٌ مشكور.
وعن الحسن قال:
لما كان من بعض هيج الناس ما كان جعل رجلٌ يسأل عن أفاضل أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل لا يسأل أحداً إلا دله على سعد بن مالك. قال: فقيل له: إن سعداً رجل إن(9/267)
أنت رفقت به كنت قمناً أن تصيب منه حاجتك، وإن أنت خرقت به كنت قمناً أن لا تصيب منه شيئاً. قال: فجلس أياماً لا يسأله عن شيء حتى استأنس به، وعرف مجلسه، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: " إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ". إلى آخر الآية. قال: فقال سعد: ما قلت؟ لا جرم! والذي نفس سعد بيده لا تسألني عن شيء أعلمه إلا أنبأتك به. قال: أخبرني عن عثمان. قال: كنا إذ نحن جميعٌ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أحسننا وضوءاً، وأطولنا صلاةً، وأعظمنا نفقةً في سبيل الله. فسأله عن شيء من أمر الناس فقال: أما أنا فلا أحدثك بشيء سمعته من وراء وراء، ولا أحدثك إلا بما سمعت أذناي ووعاه قلبي، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن استطعت أن تكون أنت المقتول ولا تقتل أحداً من أهل الصلاة فافعل، ثلاثاً.
وعن أبي عبد الرحيم قال: كان سعد بن أبي وقاص جالساً ذات يوم وعنده نفر من أصحابه، إذ ذكروا علياً فنالوا منه فقال: مهلاً عن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنا أذنبنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذنباً فأنزل الله: " لولا كتابٌ من الله سبق " الآية، فكنا نرى أنها رحمةٌ من الله سبقت لنا. فقال بعضهم: أما والله إنه ليبغضك ويسميك الأخينس. فضحك سعد حتى استعلاه الضحك، ثم قال: أوليس الرجل يكون في نفسه على أخيه الشيء، ثم لا يبلغ ذلك منه دينه وأمانته!؟ وعن ابن عجلان: أن سعد بن أبي وقاص تزوج امرأة من بني عذرة، وأنه كان يوماً قاعداً في أصحابه إذ جاءه رسول امرأته فقال: فلانة تدعوكم، فذكر امتناعه حتى ردت إليه الرسول، فقام إليها سعد فقال: مالك! أجننت؟ فأشارت إلى حيةٍ على الفراش فقالت: ترى هذا؟ فإنه كان يتبعني إذ كنت في أهلي، وإني لم أره منذ دخلت عليك قبل يومي هذا، فقال له سعد: ألا تسمع؟ إن هذه امرأتي تزوجتها بما لي وأخلها لي ولم يحل لك منها(9/268)
شيء، فاذهب فإنك إن عدت قتلتك. قال: فانساب حتى خرج من باب البيت، وأمر سعد إنساناً يتبعه أين يذهب، فاتبعه حتى دخل من باب مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما كان في وسطه وثب وثبةً فإذا هو في السقف. قال: فلم يعد إليها بعد ذلك.
وعن عوانة أنه قال: دخل سعد بن أبي وقاص على معاوية فسلم عليه، ولم يسم بإمرة المؤمنين، فقال له معاوية: لو شئت أن تقول غيرها لقلت، قال: فنحن المؤمنون ولم نؤمرك، كأنك معجبٌ بما أنت فيه يا معاوية! والله ما يسرني أني على الذي أنت عليه وأني هرقت محجمةً من دم. قال: لكني وابن عمك علياً يا أبا إسحاق قد هرقنا فيه أكثر من محجمة ومحجمتين، تعال فاجلس معي على السرير.
وعن عبد الله بن مليك قال: جاء سعد بن أبي وقاص فدخل على معاوية، فقال له معاوية: ما منعك من القتال: فقال: يا أمير المؤمنين، هبت ريحٌ مظلمة فلم أبصر الطريق فقلت إخٍ إخٍ، فأنخت حتى أسفرت عني فركبت الطريق. فقال له معاوية: والله ما قال الله في شيء مما أنزل إخ، ولكنه قال: " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل ".
فوالله ما كنت مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية، ولا أصلحت كما أمرك الله. فقال له سعد: إنك لتأمرني أن أقاتل رجلاً سمعت فيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له: أنت مني بمنزلة هارون بن موسى غير أنه لا نبي بعدي. فقال له معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال: فلانٌ، وفلانٌ، وأم سملة. فقال: فلانٌ وفلانٌ وأم سلمة؟ فقال: والله لو سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قاتلته.
وعن عبيد الله بن عبد الله المدني قال:
حج معاوية بن أبي سفيان فمر بالمدينة، فجلس في مجلس فيه سعد بن أبي وقاص،(9/269)
وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، فالتفت إلى عبد الله بن عباس فقال: يا أبا عباس، إنك لم تعرف حقنا من باطل غيرنا، فكنت علينا ولم تكن معنا، وأنا ابن عم المقتول ظلماً، يعني عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكنت أحق بهذا الأمر من غيري. فقال ابن عباس: اللهم، إن كان هكذا فهذا وأومأ إلى ابن عمر أحق بها منك لأن أباه قتل قبل ابن عمك. فقال معاوية: ولا سواء، إن أبا هذا قتله المشركون وابن عمي قتله المسلمون. فقال ابن عباس: هم والله أبعد لك وأدحض لحجتك. فتركه وأقبل على سعد فقال: يا أبا إسحاق، أنت الذي لم يعرف حقنا، وجلس فلم يكن معنا ولا علينا. قال: فقال سعد: إني رأيت الدنيا أظلمت فقلت لبعيري: إخ، فأنخته حتى انكشفت. قال: فقال معاوية: لقد قرأت ما بين اللوحين، ما قرأت في كتاب الله عز وجل إخ. قال: فقال سعد: أما إذا أبيت فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلي: أنت مع الحق والحق معك حيثما دار. قال: فقال معاوية: لتأتيني على هذا ببينةٍ. قال: فقال سعد: هذه أم سلمة تشهد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقاموا جميعاً فدخلوا على أم سلمة فقالوا: يا أم المؤمنين، إن الأكاذيب قد كثرت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا سعدٌ يذكر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم نسمعه أنه قال يعني لعلي: أنت مع الحق والحق معك حيثما دار. فقالت أم سلمة: في بيتي هذا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي. قال: فقال معاوية لسعد: يا أبا إسحاق، ما كنت ألوم الآن إذ سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجلست عن علي. لو سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكنت خادماً لعلي حتى أموت.
وعن مصعب بن سعد قال: كان سعد إذا خرج يعني في الصلاة يجوز ويخفف، ويتم الركوع والسجود، فإذا دخل البيت أطال. فقيل له فقال: إنا أمةٌ يقتدى بنا.
وعن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سئل سعد عن شيء فاستعجم، فقيل له في ذلك فقال: إني أكره أن أحدثكم حديثاً فتجعلوه مئة حديث.(9/270)
وعن عائشة بنت سعد قالت: أرسل سعد بن أبي وقاص إلى مروان بن الحكم بزكاة عين ماله خمسة آلاف درهم، وترك سعد يوم مات مئتي ألفٍ وخمسين ألف درهم.
وعن ابن سيرين: أن سعد بن أبي وقاص طاف على تسع جوار في ليلة، ثم أيقظ العاشرة فنام، فاستحيت أن توقظه.
قال سعد بن أبي وقاص لابنه: يا بني، إذا طلبت شيئاً فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن لك قناعة فليس يغنيك مالٌ.
وعن مصعب بن سعد قال: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي، قال: فدمعت عيناي، فنظر إلي فقال: ما يبكي أي بني؟ فقلت: لمكانك وما أرى بك. قال: فلا تبك علي، فإن الله لا يعذبني أبداً. وإني من أهل الجنة، إن الله يدين المؤمنين بحسناتهم ما عملوا لله. قال: وأما الكفار فيخفف عنهم بحسناتهم، فإذا نفدت قال: ليطلب كل عامل ثواب عمله ممن عمل له.
وعن الزهري: أن سعد بن أبي وقاص لما حضره الموت دعا بخلق جبةٍ له من صوف فقال: كفنوني فيها، فإني كنت لقيت المشركين فيها يوم بدر وهي علي، وإنما كنت أخبأها لهذا.
قال أبو بكر بن حفص: توفي سعد بن أبي وقاص والحسن بن علي بن أبي طالب في أيام، بعدما مضى من إمارة معاوية عشرة سنين.
وكان عامر بن سعد قال: كان سعد آخر المهاجرين وفاة.(9/271)
وعن حسين بن خارجة قال:
لما كانت الفتنة الأولى أشكلت علي، فدعوت الله أن يريني طريقاً من الحق أتمسك به قال: فأريت الدنيا والآخرة وبينهما حائط ليس جد طويل، وإذا حبرٌ فقلت: لو تشبثت هذا الحائط لعلي أهبط إلى قتلى أشجع فيخبروني. فهبطت إلى أرضٍ ذات شجر، فإذا أنا بنفر جلوس فقلت: أنتم الشهداء؟ قالوا: نحن الملائكة. فقلت: فأين الشهداء؟ قالوا: تقدم، أمامك إلى الدرجات العلى. فتقدمت أمامي وإذا أنا بروضةٍ، الله أعلم ما بها من الحسن، فدنوت فإذا أنا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لإبراهيم: استغفر لأمتي. فقال إبراهيم: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم أراقوا دماءهم، وقتلوا إمامهم. ألا فعلوا كما فعل خليلي سعد؟! قال: قلت: قد رأيت، لألقين سعداً ولأنظرن في أي الفريقين هو فأكون معه. قال: فغدوت إلى سعد فلقيته فقصصت عليه، فوالله ما أكبر بها فرحاً وقال: خاب من لم يكن له إبراهيم خليلا. فقلت: مع أي الفريقين أنت؟ فقال: ما أنا مع واحد منهما. قلت: فما تأمرني؟ قال: لك غنمٌ؟ قلت: لا. قال: فاشتر غنماً فكن فيها حتى تنجلي هذه الفتنة.
سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة
ابن عبيد بن الأبجر واسمه خدرة بن عوف بن الحارث بن الخزرج، أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمه أنيسة بنت أبي حارثة من بني عدي بن النجار. وأخوه لأمه قتادة بن النعمان.
وزعم بعض الناس أن خدرة هي أم الأبجر.
شهد خطبة عمر بالجابية وقدم دمشق على معاوية.
حدث أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يمر الناس على جسر جهنم وعليه حسكٌ وكلاليب وخطاطيف تخطف الناس يميناً(9/272)
وشمالاً، وبجنبيه ملائكة يقولون: اللهم سلم سلم، فمن الناس من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الفرس المجرى، ومنهم من يسعى سعياً، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم من يزحف زحفاً. فأما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، وأما أناسٌ فيؤخذون بذنوبٍ وخطايا. قال: فيحرقون ويكونون فحماً، ثم يؤذن في الشفاعة فيؤخذون ضبارات ضبارات، فيقذفون على نهر من أنهار الجنة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل: " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما رأيتم الصبغاء شجرة تنبت في الفيافي فيكون آخر من يخرج من النار رجلٌ يكون على شفتها فيقول: يا رب، اصرف وجهي عنها. فيقول عز وجل: عهدك وذمتك لا تسألني غيرها. قال: وعلى الصراط ثلاث شجرات، فيقول: يا رب، حولني إلى هذه الشجرة آكل من ثمرها وأكون في ظلها. قال: فيقول: عهدك وذمتك أن لا تسألني غيرها. قال: ثم يرى أخرى أحسن منها فيقول: يا رب، حولني إلى هذه آكل من ثمرها وأكون في ظلها، ثم يرى سواد الناس ويسمع كلامهم فيقول: يا رب، أدخلني الجنة. قال أبو نضرة: فاختلف أبو سعيد ورجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فيدخل الجنة فيعطى الدنيا ومثلها معها. " وقال الآخر: يدخل الجنة فيعطى الدنيا وعشرة أمثالها.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسافر امرأة سفراً ثلاثة أيام إلا مع زوجها، أو ابنها، أو أخيها، أو ذي محرم.
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يأتي على الناس زمانٌ يغزو فيه فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم. ثم يغزو فئامٌ من الناس فيقال لهم: هل فيكم من رأى من صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من صحب من صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم.(9/273)
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام تلقاه أمراء الأجناد والدهاقين، وعمر على جملٍ عليه رحل رثةٌ، مئثرته مسك جدي، فأتى على نهر فنزل عن بعيره وأخذه بخطامه وخطامه من ليفٍ فرفع ثوبه على ساقيه، فأخاض بعيره فقال له بعض من معه: يا أمير المؤمنين، قد أعدت لك مراكب وكسوةٌ، فلو ركبت بعض تلك المراكب ولبست بعض تلك الكسوة كانت أرعب للعدو وأبعد في الصوت. فقال: أنتعزز بغير ما أعزنا الله به!؟ قال: ثم قام خطيباً فقال:
إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام فينا مقامي فيكم فقال: أحسنوا إلى أصحابي والذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل وما استحلف، ويشهد وما استشهد، فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وإياكم وحديث النساء، وأن لا يخلو بهن إلا محرم، فإنه لا يخلو رجل بامرأة ليست له بمحرم إلا كان ثالثهما الشيطان، ومن ساءته سيئته وسرته حسنته فذلك المؤمن.
وعن أبي سعيد الخدري قال: عهد إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا أعرفن رجلاً منكم علم علماً فكتمه فرقاً من الناس " قال: فحملني ذلك إلى أن سرت إلى معاوية فقلت: ما بالكم تأخذون الصدقة على غير وجهها، ثم تضعونها في غير أهلها؟ فقال: مه يا أبا سعيد! قلت: وما بالكم يكون لكم الأولاد فتؤثرون بعضهم على بعض والله يوصيكم في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين!؟ قال: فدعا كاتبه وكتب بها إلى الآفاق ونهى عن الأولى.
وعن الحسن قال: دخل أبو سعيد الخدري على معاوية فسلم، ثم جلس فقال: الحمد لله الذي أجلسني منك هذا المجلس، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقو: لا يمنعن أحدكم، إذا رأى الحق أو علمه، أن يقول به، وإنه بلغني عنك يا معاوية كذا وكذا، وفعلت كذا وكذا. قال: فعدد عليه أشياء من فعاله، ومما بلغه عنه، فقال له معاوية: أفرغت؟ قال: نعم. قال: فانصرف، فخرج أبو سعيد من عنده وهو يقول: الحمد لله، الحمد لله.(9/274)
وخدرة وخدارة بطنان من الأنصار، أبو سعيد من خدرة، وأبو مسعود من خدارة، وهما ابنا عوف بن الحارث بن الخزرج.
وكان أبو سعيد من أفاضل الأنصار، وورد المدائن في حياة حذيفة بن اليمان، وبعد ذلك مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لما حاب الخوارج بالنهروان.
وكان أبو سعيد لا يخضب، كانت لحيته بيضاء خضلاء.
وعن سهل بن سعد قال: بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا، وأبو ذر، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، وسادس، على أن لا تأخذنا في الله لومة لائم، وأما السادس فاستقاله فأقاله.
وعن محمد بن عمر الواقدي قال: كان أبو سعيد الخدري يحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصيب وجهه يوم أحد، فدخلت الحلقتان من المغفر في وجنته، فلما نزعتا جعل الدم يسرب كما يسرب الشن، فجعل أبي مالك بن سنان يملج الدم بفيه، ثم ازدارده، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب أن ينظر إلى من خالط دمه دمي فلينظر إلى مالك بن سنان. فقيل: لمالك: تشرب الدم؟ فقال نعم أشرب دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مس دمه دمي لم يصبه النار. قال أبو سعيد: فكنا ممن رد من الشيخين لم نجز مع المقاتلة، فلما كان من النهار، وبلغنا مصاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتفرق الناس عنه، جئت مع غلمان من بني خدرة نعترض لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وننظر إلى سلامته، فنرجع بذلك إلى أهلينا، فلقينا الناس منصرفين ببطن قناة، فلم يكن لنا همة إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ننظر إليه، فلما نظر إلي قال: سعد بن مالك؟ قلت: نعم بأبي وأمي، فدنوت منه فقبلت ركبته وهو على فرسه، ثم قال:(9/275)
آجرك الله في أبيك. ثم نظرت إلى وجهه فإذا في وجنتيه مثل موضع الدرهم في كل وجنة، وإذا شجةٌ في جبهته عند أصول الشعر، وإذا شفته السفلى تدمى، وإذا رباعيته اليمنى شظيةً، وإذا على جرحه شيءٌ أسود. فسألت: ما هذا على وجهه؟ فقالوا: حصير محرق، وسألت: من دمى وجنتيه؟ فقيل: ابن قميئة. فقلت: من شجه في جبهته؟ فقيل: ابن شهاب. فقلت: من أصاب شفته؟ فقيل: عتبة. فجعلت أعدو بين يديه حتى نزل ببابه، فما نزل إلا حملاً، وأرى ركبتيه مجحوشتين، يتكىء على السعدين: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، حتى دخل بيته.
فلما غربت الشمس وأذن بلال بالصلاة خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مثل تلك الحال، يتوكأ على السعدين، ثم انصرف إلى بيته، والناس في المسجد يوقدون النيران، يتكمدون بها من الجراح، ثم أذن بلالٌ بالعشاء حين غاب الشفق، فلم يخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجلس بلالٌ عند بابه حتى ذهب ثلث الليل. ثم ناداه: الصلاة يا رسول الله. فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كان نائماً. قال: فرمقته فإذا هو أخف في مشيته منه حين دخل بيته، فصليت معه العشاء، ثم رجع إلى بيته وقد صف له الرجال ما بين بيته إلى مصلاة يمشي وحده حتى دخل، ورجعت إلى أهلي فخبرتهم بسلامة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمدوا الله على ذلك وناموا، وكانت وجوه الخزرج والأوس في المسجد على باب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحرسونه فرقاً من قريش أن تكر.
وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري قال: قال أبو سعيد: استشهد أبي يوم أحد وتركنا بغير مال، فأصابتنا حاجةٌ شديدة. قال: فقالت لي أمي: أي بني، ائت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(9/276)
فاسأله لنا شيئاً. فجئته فسلمت وجلست، وهو في أصحابه جالس فقال واستقبلني: إنه من استغنى أغناه الله، ومن استعف أعفه الله، ومن استكف أكفه الله. قال: قلت: ما يريد غيري. فانصرفت ولم أكلمه في شيء. فقالت لي أمي: ما فعلت؟ فأخبرتها الخبر. قال: فصبرنا الله عز وجل ورزقنا شيئاً، فبلغنا، حتى ألحت علينا حاجةٌ شديدة أشد منها، فقالت لي أمي: ائت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاسأله لنا شيئاً. قال: فجئته وهو في أصحابه جالس، فسلمت وجلست، فاستقبلني وعاد بالقول الأول وزاد فيه: ومن سأل وله قيمة أوقية فهو ملحف. قال: قلت: الياقوتة ناقتي خيرٌ من أوقية، فرجعت ولم أسأله.
وفي حديث آخر زيادة: فرزق الله تعالى حتى ما أعلم أهل بيت من الأنصار أكثر أموالاً منا.
وعن هند بنة سعيد بن أبي سعيد الخدري عن عمتها قالت: جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عائداً لأبي سعيد الخدري، فقدمنا إليه ذراع شاةٍ، فأكل منها، وحضرت الصلاة، ثم قام فصلى ولم يتوضأ.
وعن المسيب قال: أتيت أبا سعيد الخدري فقلت له: هنيئاً لكم برؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبته. فقال: يا بن أخي، لا تدري ما أحدثنا بعده.
وعن أبي نضرة العبدي قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمساً بالعشي، ويخبر أن جبريل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل بالقرآن خمس آيات خمس آيات.
وعنه قال: قلت لأبي سعيد: إنك تحدثنا أحاديث معجبة، وإنا نخاف أن نزيد أو ننقص فلو أنا كتبنا؟ قال: لن نكتبكم، ولن نجعله قرآناً، ولكن احفظوا عنا كما حفظناه. وفي رواية قال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف!؟ إن نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدثنا الحديث، فاحفظوا منا كما حفظناه منه.
وزاد في حديث آخر: فكان أبو سعيد يقول: تحدثوا فإن الحديث يذكر بعضه بعضاً.
وعن يزيد بن عبد الله بن الشخير قال: لما استفتحت المدينة يعني يوم الحرة دخل أبو سعيد الخدري غاراً، فدخل عليه رجل من أهل الشام فقال: لا أخرج وإن تدخل علي أقتلك. فدخل(9/277)
عليه، فوضع أبو سعيد السيف وقال: " إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ". قال: أنت أبو سعيد؟ قال: نعم. قال: استغفر لي غفر الله لك.
وعن أبي سعيد الخدري قال: لزمت بيتي ليالي الحرة فلم أخرج، فدخل علي نفر من أهل الشام فقالوا: أيها الشيخ، أخرج ما عندك. فقلت: والله ما عندي مال. قال: فنتفوا لحيتي وضربوني ضربات، ثم عمدوا إلى بيتي فجعلوا ينقلون ما خف لهم من المتاع، حتى إنهم يعمدون إلى الوسادة والفراش فينفضون صوفهما ويأخذون الظرف، حتى لقد رأيت بعضهم أخذ زوج حمام كان في البيت. ثم خرجوا.
وعن ابنة أبي سعيد الخدري قالت: لما حضر أبو سعيد بعث إلى نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم: ابن عباس، وابن عمر، وأنس بن مالك، وجابر بن عبد الله فقال: لا يغلبنكم ولد أبي سعيد، إذا أنا مت، فكفنوني فيها، وأجمروا علي بوقية مجمر، ولا تضربوا على قبري فسطاطاً، ولا تتبعوني بنار، واجعلوا في سريري قطيفة أرجوان، ولا تتبعني باكية. قال: ففعلوا ما أمرهم.
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال:
دخلت على أبي سعيد الخدري عند موته فدعا بثياب جدد فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها. فإذا مت فلا تتبعوني بنار، ولا تجعلوا علي قطيفة حمراء، ولا تبك علي باكية.
وعن أم عبد الرحمن بنت أبي سعيد قالت: لما احتضر أبو سعيد حضره ابن عمر وابن عباس فقال لهم: إذا حملتم فأسرعوا، أي أسرعوا بي.(9/278)
وعن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: قال لي أبي: يا بني، إني قد كبرت سني وحان مني، خذ بيدي. فاتكأ علي حتى جاء البقيع مكاناً لا يدفن فيه فقال: إذا هلكت فادفني هاهنا، ولا تضربن علي فسطاطاً، ولا تمشين معي بنار، ولا تبك علي باكية، ولا تؤذن أحداً، وليكن مشيك بي خبباً، فجعل الناس يأتوني فيقولون: متى تخرج به؟ فأكره أن أخبرهم وقد نهاني، فقلت: إذا فرغت من جهازه، فخرجت به من صدر يوم الجمعة، فوجدت البقيع قد ملىء علي ناساً.
توفي أبو سعيد بعد الحرة، وكانت الحرة سنة إحدى وستين، وتوفي أبو سعيد سنة ثلاث وستين، وقيل: توفي سنة أربع وستين، وقيل: توفي سنة أربع وسبعين.
سعد بن مسعود أبو مسعود الصدفي
عديد التجيبيين.
روى سعد بن مسعود: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في مجلس فرفع نظره إلى السماء ثم طأطأ نظره، ثم رفعه، فسئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك فقال: إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون الله يعني أهل مجلسٍ أمامه فنزلت عليهم السكينة تحملها الملائكة كالقبة، فلما دنت منهم تكلم رجلٌ منهم بباطلٍ فرفعت عنهم.
وحدث سعد بن مسعود عن رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليت شعري كيف أمتي بعدي حين تتبختر رجالهم وتمرح نساؤهم، وليت شعري حين يصيرون صنفين: صنفاً ناصبي نحورهم في سبيل الله، وصنفاً عمالاً لغير الله.
قال سعد بن مسعود التجيبي: إذا رأيت الرجل دنياه تزداد، وآخرته تنقص، مقيماً على ذلك، راضياً به فذلك المغبون الذي يفلت بوجهه وهو لا يشعر.
وعن سعد بن مسعود قال: حب الدنيا رأس الخطايا.(9/279)
قال أبو سعيد بن يونس: سعد بن مسعود التجيبي، رجل من الصدف، عديد لبني زميلة بن تجيب، كان عمر بن عبد العزيز أرسله إلى إفريقية يفقه أهلها في الدين. وله على سليمان بن عبد الملك وفادة، وكان رجلاً صالحاً، أسند حديثاً واحداً.
وتوفي في خلافة هشام بن عبد الملك.
سعد أبو درة الحاجب
تولى حجابة معاوية، وحجابة عبد الملك بن مروان.
حدث أبو المعطل مولى كلاب، وقد كان أدرك معاوية بن أبي سفيان قال: أقبل رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقال له أبو مريم، غازياً حتى بلغ الجفير وقد استأذن أبو مريم معاوية بدمشق حين مر بها، فلم يجد أحداً يأذن له، فلما بلغ الجفير ذكر حديثاً سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رجع حتى أتى معاوية، فقال لبعض من عليه: أما منكم أحدٌ رشيد يقول لأمير المؤمنين: هاهنا أخوك أبو مريم؟ فلما سمعوا كلامه ذهب بعضهم إلى معاوية فقال: هاهنا رجل يقول: قولوا لأمير المؤمنين: هاهنا أخوك أبو مريم. فقال معاوية: ويحكم! أحبستموه؟ فأذنوا له. فلما دخل قال: مرحباً هاهنا، هاهنا يا أبا مريم. فقال أبو مريم: إني لم أجئك طالب حاجةٍ، ولكن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أغلق بابه دون ذوي الفقر والحاجة أغلق الله عن فقره وحاجته باب السماء. " قال: فأكب معاوية يبكي ثم قال: رد حديثك يا أبا مريم، فرده، ثم قال معاوية: ادعوا لي سعداً، وكان حاجبه، فدعي فقال: يا أبا مريم، حدثه أنت كما سمعت. فحدثه أبو مريم، فقال معاوية لسعد: اللهم إني أخلع هذا من عنقي وأجعله في عنقك، من جاء يستأذن فأذن له. فقضى الله على لساني ما قضى.(9/280)
سعر بن سوادة العامري
قدم الشام تاجراً، وعاين ملك آل جفنة بأعمال دمشق.
حدث مسلم بن ثفنة وقيل مسلم بن شعبة قال:
استعمل ابن علقمة أبي على عرافة قومه وأمره أن يصدقهم. قال: فبعثني أبي في طائفة لآتيه بصدقتهم، قال: فخرجت حتى أتيت شيخاً كبيراً يقال له سعر فقلت: إن أبي بعثني إليك لتؤدي صدقة غنمك. قال: ابن أخي، وأي نحوٍ تأخذون؟ قلت: نختار حتى إنا لنشبر ضروع الغنم. قال: ابن أخي، فإني أحدثك، إني كنت في شعب من هذه الشعاب في غنم لي على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءني رجلان على بعير فقالا: نحن رسولا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليك لتؤدي صدقة غنمك. قلت: ما علي فيها؟ قالا: شاةٌ. قال: فأعمد إلى شاةٍ قد علمت مكانها ممتلئة محضاً وشحماً، فأخرجتها إليهما فقالا: هذه الشافع والشافع: الحامل وقد نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نأخذ شافعاً. قلت: فأي شيءٍ؟ قالا: عناقا جدعة، أو ثنية. قال: فأعمد إلى عناقٍ معتاط. قال: والمعتاط التي لم تلد ولداً وقد حان ولادها فأخرجها إليهما. فقالا: ناولناها. فدفعتها إليهما، فجعلاها معهما على بعيرهما ثم انطلقا.
وعن سعر بن سوادة العامري قال: كنت عسيفاً لعقيلة من عقائل الحي أركب لها الصعبة والذلول، أتهم مرة وأنجد أخرى، لا أليق مطرداً في متجر من المتاجر إلا أتيته، يدفعني الحزن إلى السهل. والسهل إلى الحزن، فقدمت من الشام بخرثةٍ وأثاثٍ أريد به كبة العرب ودهماء(9/281)
الموسم، فدفعت إلى مكة بليل مسدفٍ فحططت عن ركابين وأصلحت من شأني، فلما أضاء لي جلباب الفجر رأيت قباباً تناغي شعف الجبال مجللة بأنطاع الطائف، فإذا بدنٌ تنحر وأخر تساق، وإذا طهاةٌ وحثثة على الطهاة: ألا اعجلوا، وإذا رجل قائم على نشز من الأرض ينادي: يا وفد الله، الغداء. وإذا رجل آخر على مدرجة الطريق ينادي: ألا من طعم فليرجع للعشاء. قال: فجهرني ما رأيت، فدفعت إلى عميد القوم، فإذا أنا به جالسٌ على عرش له أبنوس، تحته نمرقة خز حمراء، متزرٌ بيمنة، مرتدٍ ببردٍ. له جمةٌ فينانة، قد لاث عليها عمامة خز سوداء، فكأني أنظر إلى أطراف جمته كالعناقيد من تحت العمامة، فكأن الشعري تطلع في وجهه، وإذا خوادم حواسر عن أذرعهم، ومشمرين عن سوقهم، وإذا مشايخ جلة حفوف بعرشه، ما يفيض أحد منهم بكلمة، وقد كان نمى إلي حبر من أحبار الشام أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمي هذا أوان توكفه، فقلت: عله وعسيت أن أفقه به، فدنوت فقلت: السلام عليك يا رسول الله، فقال: لست به، وكأن قد وليتني به. فقلت لبعض المشيخة: من هذا؟ قالوا: أبو نضلة هاشم بن عبد مناف. قال: فقلت: هذا والله الشرف والثناء الذي لا ينكر.
وفي حديث آخر بمعناه: فقلت: هذا والله المجد لا مجد بني جفنة.
سعيد بن أحمد بن محمد بن نعيم
ابن أشكاب أبو عثمان بن أبي سعيد العيار الصوفي النيسابوري أحد الطوافين لتسميع الحديث. حدث بدمشق، وأصفهان، وخراسان، وغزنة.
قال أبو محمد فضل الله بن محمد الطبسي: كان الشيخ سعيد العيار رحمه الله شيخاً بهياً ظريفاً، من أبناء مئة واثنتي عشرة سنة(9/282)
وذكر أنه لا يروي شيئاً من أحاديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى بدمشق من بلاد الشام رؤيا حملته وحرضته على رواية مسموعاته من أخبار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وذكر أنه رأى في المنام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قاعدٌ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وعن محبيه ماثلٌ بين يديه، فأراد هذا الشيخ سعيد أن يسلم عليه، فتلقاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه برسالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كيف لا تنشر ولا تروي أخباري؟ قال: ورأيت كأني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام للطهارة، فكنت أنتظر بروزه لأسلم عليه، فانتبهت قبل ذلك، فأنا منذ رأيت تلك الرؤيا أطوف في بلاد الإسلام، وأروي مسموعاتي من أخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: وإنما سمي العيار لأنه كان في ابتدائه يسلك مسالك الشطار، ثم رجع إلى هذه الطريقة.
وحدث سعيد بن أحمد بن أبي بكر محمد بن محمد بن الحسن بن علي بن هانىء البزاز الثقة بسنده عن أبي أيوب قال: صليت المغرب والعشاء مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع بالمزدلفة.
توفي أبو عثمان سعيد بن أحمد بغزنة سنة سبع وخمسين وأربع مئة.
سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص
القرشي الأموي والد يحيى وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال سعيد بن أبان:
كنت عند عمر بن عبد العزيز فدخل عليه عبد الله بن الحسن، وهو يومئذ شاب، في إزار ورداء، فرحب به، وأدناه وحياه، وأجلسه إلى جنبه، وضاحكه، ثم غمز عكنة(9/283)
من بطنه، وليس في البيت يومئذ إلا أموي فقالوا له: ما حملك على غمز بطن هذا الفتى؟ فقال: إني أرجو بها شفاعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سعيد بن أبان بن عيينة بن حصن
ابن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر ويقال: سعيد بن عيينة الفزاري كان ناسكاً، ثم قام بحرب فزارة مع كلب يوم بنات قين حين صح عنده عن كلب ما يوجب قتلهم، وشهد عنده أنهم لا يدينون بدين، وأنهم يطأون الحيض، فغزاهم، فأقدمه عبد الملك بن مروان دمشق، ثم قتله قوداً.
روى أبو جعفر محمد بن حبيب وغيره: أن كلباً كانت أوقعت ببني فزارة يوم العماة قبل اجتماع الناس على عبد الملك بن مروان، فبلغ ذلك عبد العزيز بن مروان فأظهر الشماتة، وكانت أمه كلبية، وهي لبنى ابنة الأصبغ بن زبان، وأم بشرقطية بنت بشر بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب، فقال عبد العزيز لبشرٍ أخيه: أما علمت ما صنع أخوالي بأخوالك؟ فقال بشر: وما فعلوا؟ فأخبره الخبر فقال بشر: أخوالك أضيق أستاهاً من ذلك. فجاء وفد بني فزارة إلى عبد الملك يخبرونه بما صنع بهم، وأن حميد بن حريث بن بحدل الكلبي أتاهم بعهد من عبد الملك أنه مصدق، فسمعوا له وأطاعوا، فاغترهم فقتل منهم نيفاً وخمسين رجلاً. فأعطاهم عبد الملك نصف الحمالات، وضمن لهم النصف الثاني في العام المقبل.
فخرجوا، ودس إليهم بشر بن مروان مالاً، فاشتروا السلاح والكراع، ثم غزا بنو فزارة كلباً فلقوهم ببنات قين، فتعدوا عليهم في القتل، فخرج بشر حتى أتى عبد الملك وعنده عبد العزيز فقال: أما بلغك ما فعل أخوالي بأخوالك؟ فأخبره الخبر، فغضب عبد الملك لإخفارهم ذمته وأخذهم ماله، فكتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره إذا فرغ من ابن(9/284)
الزبير أن يقع ببني فزارة إن امتنعوا عليه، ويأخذ من أصاب منهم. فلما فرغ من ابن الزبير نزل ببني فزارة، فأتاه حلحلة بن قيس بن أشيم وسعيد بن أبان بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، وكان رئيسي القوم، فأخبرا الحجاج أنهما صاحبا الأمر ولا ذنب لغيرهما، فأوثقهما وبعث بهما إلى عبد الملك، فلما دخلا عليه قال: الحمد لله الذي أقاد منكما. قال له حلحلة: أما والله ما أقاد الله مني، لقد نقضت وتري، وشفيت صدري، وبردت وحري. قال عبد الملك: من كان له عند هذين وتر يطلبه فليقم إليهما. فقام سعيد بن سويد الكلبي وكان أبوه فيمن قتل يوم بنات قين فقال له: يا حلحلة، هل أحسست لي سويداً؟ قال: عهدي به يوم بنات قين وقد انقطع خرؤه في بطنه. قال: أما والله لأقتلنك. قال: كذبت والله، ما أنت تقتلني، إنما يقتلني ابن الزرقاء والزرقاء إحدى أمهات مروان بن الحكم، وكان يسب بها فقال بشر بن مروان: اصبر حلحلة. فقال: من الرجز
أصبر من عودٍ بجنبيه جلب ... قد أثر البطان فيه والحقب
فضرب عنقه. ثم قيل لسعيد نحو ما قيل لحلحلة، فرد مثل جواب حلحلة، فقام إليه رجل من بني عليم ليقتله، فقال له بشر: اصبر سعيد. فقال: من الرجز
أصبر من ذي ضاغطٍ معرك ... ألقى بواني زوره للمبرك(9/285)
وقال علي بن الغدير في ذلك شعراً.
سعيد بن إسحاق الدمشقي
حدث عباس الحذاء عن سعيد بن إسحاق الدمشقي.
في قوله الله عز وجل: " إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ". على نهر بحلب يقال له: قويق.
سعيد بن إسماعيل البيروتي
روى عن سهل بن هاشم قال: سمعت يحيى بن حمزة يقول: إن جهنم خلقت زرقاء: " ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً ". وكان قذار عاقر الناقة أزرق، ولا أزرق إلا وجدته خبيثاً.
سعيد بن أسود الخولاني
روى يونس عن ابن شهاب قال: فسألناه عن الجد أبي الأم، فقال: لا يرث شيئاً، ولا يعطى شيئاً، ولا ترث الخالة ولا العمة.
قال: وكان الوليد بن عبد الملك ورث عمة سعيد بن الأسود الخولاني السدس مع ابنته وعصبته، فلما استخلف عمر بن عبد العزيز رد ذلك القضاء إلى ما مضت به السنة، ولم يعطها شيئاً، وقال: الكلالة من ليس له ولدٌ ولا والد.
سعيد بن أوس الخفاف الدمشقي
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فليس بقمارٍ ".(9/286)
وحدث عنه أيضاً، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أدخل فرساً بين فرسين وهو يأمن أن يسبق فهو قمار. "
سعيد بن بريد أبو عبد الله
التميمي النباجي الزاهد عابد سياح، من أقران ذي النون المصري، له كلام حسن في المعرفة وغيرها.
قال أبو عبد الله النباجي: أصابتني ضيقة وشدة، فبت وأنا أتفكر في المصير إلى بعض إخواني، فسمعت قائلاً يقول لي في النوم: أيجمل بالحر المديد إذا وجد عند الله ما يريد أن يميل بقلبه إلى العبيد؟ فانتبهت وأنا من أغنى الناس.
قال سعيد بن بريد: بينا نحن صادقون نقاتل العدو بأرض الروم، وإذا أنا بغلام كأحسن ما رأيت من الغلمان، وعليه طرة وقفا، وعليه حلة ديباج، وهو يقاتل قتالاً شديداً وهو يقول: من مجزوء الرمل
أنا في أمري رشاد ... بين غزوٍ وجهاد
بدني يغزو عدوي ... والهوى يغزو فؤادي
قال: فدنوت منه فقلت: يا غلام! هذا القتال، وهذه المقالة، والطرة، والقفا، والحلة....لا يشبه بعضها بعضاً! فقال الغلام: أحببت ربي فشغلني بحبه عن حب غيره، فتزينت لحور العين لعلها تخطبني إلى مولاها.
قال أبو عبد الله النباجي: من خطرت الدنيا بباله لغير القيام بأمر الله حجب عن الله.
وقال: إن أعطاك أغناك، وإن منعك أرضاك.(9/287)
وقال: أصل العبادة في ثلاثة أشياء: لا ترد من أحكامه شيئاً، ولا تدخر عنه شيئاً، ولا يسمعك تسل غيره حاجةً.
وقال: أشرف ساعاتك ساعة لا يكون لك عارضٌ فيما بينك وبين الله عز وجل.
وقال: ما التنعم إلا في الإخلاص، ولا قرة العين إلا في التقوى، ولا الراحة إلا في التسليم.
وقال: إن لله عز وجل عباداً يستحيون من الصبر، يسلكون مسلك الرضى. وله عبادٌ لو يعلمون ما ينزل من القدر لاستقبلوه استقبالاً حباً لربهم ولقدره عندهم، فكيف يكرهونه بعدما يقع؟! وقال: تدرون ما أراد عبيد أهل الدنيا من مواليهم؟ أن يرضوا عنهم، وأراد الله من عبيده أن يرضوا عنه، وما رضوا عنه حتى كان رضاه عنهم قبل رضاهم عنه.
وقال: خمس خصال بها تمام العمل وهي: معرفة اله عز وجل، ومعرفة الحق، وإخلاص العمل لله عز وجل، والعمل على السنة، وأكل الحلال، فإن فقدت واحدة لم يرفع العمل، وذلك أنك إذا عرفت الله عز وجل ولم تعرف الحق لم تنتفع، وإذا عرفت الله، وعرفت الحق، ولم تخلص العمل لم تنتفع، وإذا عرفت الله عز وجل، وعرفت الحق، وأخلصت العمل، ولم تكن على السنة لم تنتفع، وإن تمت الأربع ولم يكن الأكل من حلال لم تنتفع.
قال رجل لأبي عبد الله النباجي: يا أبا عبد الله، الراضي يسأل؟ قال: يعرض. قال: مثل أي شيء؟ قال: مثل قول أيوب: مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.(9/288)
روى محمد بن عمرو الغزي: أن أبا عبد الله النباجي سأل الله عز وجل أن يجعل رزقه في الماء، فكان غذاؤه في الماء، ثم سأل الله عز وجل أن يقطع عنه شرب الماء، فأري في منامه: إنك خلق أجوف، فكان غذاؤه الماء.
قال محمد بن أبي الورد: صلى أبو عبد الله النباجي بأهل طرسوس صلاة الغداة، فوقع النفير وصاحوا، فلم يخفف الصلاة، فلما فرغوا قالوا له: أنت جاسوس. قال: وكيف ذلك؟ فقالوا: صاح النفير وأنت في الصلاة لم تخفف. فقال: إنما سميت صلاةً لأنها اتصال بالله، وما حسبت أن أحداً يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطب الله به.
قال أبو عبد الله النباجي: إن أحببتم أن تكونوا أبدالاً فأحبوا ما شاء الله ومن أحب ما شاء الله، لم تنزل به مقادير الله وأحكامه بشيء إلا أحبه.
وكان أبو عبد الله النباجي يقول: كيف يكون عاقلاً من لم يكن لنفسه ناظراً؟ أم كيف يكون عاقلاً من يطلب بأعمال طاعته من المخلوقين ثواباً عاجلاً؟ أم كيف يكون عاقلاً من كان بعيوب نفسه جاهلاً وفي عيوب غيره ظاهراً؟ أم كيف يكون عاقلاً من لم يكن لما يراه من النقص في نفسه، وأهل زمانه، محزوناً باكياً؟ أم كيف يكون عاقلاً من كان في قلة الحياء من الله عز اسمه متمادياً.
قال محمد بن يوسف:
كان أبو عبد الله النباجي مجاب الدعوة، وله آيات وكرامات، بينما هو في بعض أسفاره على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه وأسقطه،(9/289)
فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن. فقال أبو عبد الله: ليس له إلى ناقتي سبيل. فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله فجاء إلى رحله فعان ناقته، فاضطربت ناقته، وسقطت تضطرب، فأتى أبو عبد الله، فقيل له: إن العائن قد عان ناقتك، وهي كما تراها تضطرب! فقال: دلوني على العائن، فدل عليه، فوقف عليه وقال: بسم الله، حبس حابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، في كلوبته رشيق، وفي ما له يليق " فارجع البصر هل ترى من فطورٍ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسيرٌ " فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها.
سعيد بن بشير أبو عبد الرحمن
ويقال أبو سلمة الأزدي. ويقال: إنه مولى بني نصر بن معاوية من أهل دمشق.
حدث سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها ".
وثقه قوم، وضعفه آخرون، وله تفسير مصنف رواه الوليد عنه.
توفي سعيد بن بشير ثمان وستين ومئة. وقيل: سنة تسع وستين، وقيل: سنة سبعين.
سعيد بن بشير بن ذكوان القرشي
قال سعيد بن بشير: سمعت مالك بن أنس إذا سئل عن مسألة يظن أن صاحبها غير متعلم، وأنه يريد المغالطة نزع له بهذه الآية يقول: قال الله تعالى: " وللبسنا عليهم ما يلبسون ".(9/290)
سعيد بن تركان أبو جعفر
ويقال أبو الطيب البغدادي الصوفي قال أبو جعفر: كنت أجالس الفقراء، ففتح علي بدينار، فأردت أن أدفعه إليهم، ثم قلت في نفسي: لعلي أحتاج إليه. فهاج بي وجع الضرس، فقلعت سناً، فوجعت الأخرى حتى قلعتها، فهتف بي هاتف: إن لم تدفع إليهم الدينار لا يبقى في فمك سن واحدة.
سعيد بن جابر السغائذي
قال سعيد بن جابر: أتيت بيت المقدس، فلقيت فيها شيخاً معمراً يقال له: روط بن عامر الليثي، فقال لي: يا بن أخي، من أين أنت؟ قلت: من خراسان قال: بلاد الجشونة والخشونة، أفتدري أين إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ قلت: أخبرني يا عم. قال: هي دمشق، فارحل إليها. قلت: قد مررت بها. قال: فهل رأيت جنةً إلا وهي أحسن منها؟ ثم قال: إن الناس ليقولون: إن تحت الغوطة زمردة خضراء فيها ما خلق الله من الألوان فهي تري تلك الألوان من فوق أرضها.
سعيد بن جعفر أبو الفرج
ختن ابن المصري.
حدث عن سعيد بن عبد العزيز بسنده عن جابر بن عبد الله.
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف أبي بكر في ثوب واحدٍ.
سعيد بن الحسين أبو الفتح
البانياسي البزاز سمع بدمشق.
قال سعيد بن الحسين: قرىء على القاضي أبي نصر محمد بن أحمد بن هارون الغساني في الجامع بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن السور الذي ذكره الله في القرآن: " فضرب بينهم بسورٍ له بابٌ باطنه فيه الرحمة(9/291)
وظاهره من قبله العذاب ". سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه الرحمة: المسجد، وظاهره من قبله العذاب يعني: وادي جهنم.
سعيد بن الحكم بن أوس
ابن يحيى بن المعمر أبو عثمان السلمي الدمشقي، يعرف بالفندقي. ويقال: أبو عبد الرحمن ويقال: سعيد بن عبد الحكم قال: وأظنه سعيد بن أوس الذي روى عنه الطبراني.
حدث عن أحمد بن عبد الله بن أبي الحواري بسنده عن إسماعيل الكندي قال: جاء رجل شاب من أهل البصرة إلى طاوس ليسمع منه فوافاه مريضاً، فدخل عليه فجلس عند رأسه يبكي، فقال له طاوس: ما يبكي يا شاب؟ قال: والله ما أبكي على قرابة بيني وبينك، ولا على دنيا جئت أطلبها منك، ولكن على العلم الذي جئت أطلبه منك يفوتني.
فقال: إني موصيك ثلاث كلمات، إن حفظتهن علمت علم الأولين والآخرين، وعلم ما كان وعلم ما يكون: خف الله حتى لا يكون شيء عندك أخوف من الله، وارج الله حتى لا يكون شيء عندك أرجى من الله عز وجل، وأحبب الله عز وجل حتى لا يكون شيء أحب إليك من الله. فإذا فعلت ذلك فقد علمت علم الأولين، وعلم الآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون. قال الفتى: لا جرم! لا سألت بعدك أحداً عن شيء من العلم أبداً.
وحدث سعيد بن الحكم بسنده عن أبي عمرو الأوزاعي قال:
لا تحبوا الأحمق: فإن الله تبارك وتعالى بغضه فخلقه أحمق.(9/292)
سعيد بن خالد بن أبي طويل
من أهل صيدا ساحل دمشق.
حدث عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في صلاة الصبح: من توضأ، ثم توجه إلى مسجد يصلي فيه الصلاة، كان له بكل خطوة حسنة، وتمحى عنه سيئة، والحسنة بعشرٍ، فإذا صلى ثم انصرف عند طلوع الشمس كتب له بكل شعرة في جسده حسنة، وانقلب بحجةٍ مبرورة. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وليس كل حاجٍّ مبرور، فإن جلس حتى يركع كتبت له بكل حسنة ألفا ألف حسنة. ومن صلى صلاة الفجر فله مثل ذلك، وانقلب بعمرة مبرورة ". قال: وليس كل معتمر مبرور؟ وحدث عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من رابط ليلةً في سبيل الله كان أفضل من صيام رجلٍ وقيامه شهراً في أهله ".
وحدث عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من حرس ليلةً على ساحل البحر كان أفضل من عبادة رجل في أهله ألف سنة، السنة ثلاث مئة وستون يوماً، كل يوم ألف سنة. " ضعفه قوم وقالوا: حدث عن أنس بالمناكير، لا يتابع على حديثه.
سعيد بن خالد بن عبد الله
ابن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس أبو خالد ويقال: أبو عثمان الأموي العبشمي سكن دمشق، وإلى أبيه خالد بن عبد الله تنسب رحبة خالد بدمشق. كان من أجواد قريش وكرمائها. مدحه موسى شهوات.(9/293)
قال محمد بن يحيى: كان موسى شهوات مولى بني عدي بن كعب عشق قينةً، فذاكر مولاها أمرها، فقال له: لست أقوى على هبتها لك، ولكني أبيعها بكذا وكذا الثمن قد سماه وأرخصها به عليه إلى سنة ونضمنها ونكفيك مؤنتها إلى أن تأتي بثمنها إلى ذلك الوقت. فخرج شهوات يسأل في ثمنها إلى الشام، فأتى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، وأمه بنت سعيد بن العاص، فأخبره بأمره، وسأله عوناً، فلم يفعل إليه شيئاً، فأتى سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأخبره خبره، فأعطاه ثمنها، ووصله، فقال موسى: من الطويل
أبا خالدٍ أعني سعيد بن خالدٍ ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنما أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم ... وما هو عن إحسانكم برقود
قتلت رجالاً هكذا في بيوتهم ... من الغم لم تقتلهم بحديد
فقل لبغاة العرف قد مات خالدٌ ... ومات الندى إلا فضول سعيد
فلما بلغ سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان استعدى عليه سليمان بن عبد الملك. فقال: يا أمير المؤمنين، هجاني عبد بني عدي. فقال: لم أهجه، ولكني قدمت من المدينة ثم قص قصة الرجلين، فلما صنع ابن خالد بن عبد الله ما صنع أحببت أن أمدحه، فتخوفت أن يظن ظانٌّ أنه العثماني فنسبت كل واحدٍ إلى أبيه وأمه فقال سليمان: أما والله لقد هجاك، ولو وجدت عليه متقدماً لتقدمت عليه.
وأم سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد عائشة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية.(9/294)
قال محمد بن خالد: كان لسعيد بن عبد الله بن خالد بن أسيد قصرٌ بحيال قصر يزيد بن عبد الملك، فكان يزيد إذا ركب إلى الجمعة ركب سعيد فوافاه بموضع لا يخطئه، فقال له يزيد: إن لي حاجة. قال: إذن لا ترد عنها. قال: تهب لي قصرك. قال: هو لك. قال: وإن لك به خمس حوائج فاسألها. قال: أول ما أسأل أن ترد علي قصري. قال: فرده، وقضى له أربع حوائج.
سعيد بن خالد بن عبد الله
ابن يزيد بن أسد بن كرز البجلي ثم القسري كان بدمشق مع أبيه خالد بعدما عزل عن العراق.
حدث سعيد بن خالد عن جده يزيد بن أسدٍ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
سعيد بن خالد بن عمرو
ابن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عثمان، ويقال: أبو خالد الأموي سكن بدمشق.
سأل سعيد بن خالد عروة بن الزبير عن الوضوء مما مست النار، فقال عروة: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " توضؤوا مما مست النار ".
وعن عمرو بن حبيب:
أنه قال لسعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان: ما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خاب عبدٌ وخسر لم يجعل الله في قلبه رحمةً للبشر قال رجاء بن أبي سلمة: أتي عمر بن عبد العزيز بطبق فيه تمر، وعنده سعيد بن خالدٍ، فقال: يا أبا خالد،(9/295)
أترى الرجل يكتفي بحفنة من هذا التمر؟ قال: أما واحدة فلا. قال: فثنتين؟ قال: نعم. قال: فعلى ماذا نتهور في النار إذاً؟
سعيد بن أبي راشد
حدث عن التنوخي النصراني رسول قيصر إلى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال سعيد بن أبي راشد: رأيت رجلاً على باب معاوية، فقالوا: هذا الجهني رسول قيصر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقمت إليه. قال: فقلت: أنت رسول قيصر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. قال: لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك، أو سار إلى تبوك، دعا عريفي قيصر، فقال: ابغ لي رجلاً فصيحاً يبلغ هذا الرجل عني. قال عريفي: فانطلق بي إليه. قال: فكتب معي إليه، وقال: احفظ عني ثلاثاً: لا تذكر عنده الصحيفة، ولا الليل، وانظر الذي بظهره. قال: وكتب معي. فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك، قال: فدفعت إليه الكتاب، فدعا رجلاً يقرأ الكتاب، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: معاوية، فكتبت اسمه عندي. قال: وقال لي: أما إنك لو كنت وافقت عندنا شيئاً أعطيناك. قال: فقال رجل من القوم: عندي يا رسول الله، فكساني حلةً صفرية، فقلت: من هذا؟ قالوا: عثمان بن عفان. قال: فكتبت اسمه عندي. ثم قال: من يقوته؟ قال: فقال رجل من القوم: أنا. قال: فسألت عن اسمه، فقيل لي: سعد بن عبادة. قال: ثم قرأ الكتاب: إنك كتبت إلي تدعوني إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، فأين النار؟ قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جاء الله بالنهار، فأين الليل؟ قال: ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن صاحب فارس مزق كتابي، والله ممزق ملكه، وإن صاحبكم بلغني أنه اقتنى بكتابي، وإنه لن يزال للناس منه بأس شديد ما كان في العيش خير. قال: فلما قمت قال لي: تعاله، إنها قد بقيت واحدةٌ. قال: ثم أخذ بثوبه فألقاه عنه، فنظرت إلى التي بظهره.(9/296)
قال: كذا قال الجهني.
وروي من غير هذا الوجه عن سعيد بن أبي راشد قال: لقيت التنوخي رسول هرقل. فذكر نحوه.
سعيد بن زياد بن فائد
ابن زياد بن أبي هند ويقال: يزيد بن عبد الله بن يزيد بن عميت بن ربيعة ابن دراع بن عدي بن الدار بن هانىء بن حبيب بن نمارة بن لخم ابن عدي بن الحارث بن الدار من عمال بيت المقدس.
حدث سعيد بن زياد عن أبيه عن جده عن أبي هند قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من راءى بالله لغير الله فقد برىء من الله عز وجل.
وحدث أيضاً عن أبيه عن جده عن أبي هند قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: قال الله عز وجل: " من لم يرض بقضائي، ولم يصبر على بلائي، فليلتمس رباً سواي ".
وحدث سعيد بن زياد عن أبيه عن جده عن أبي هند الداري قال: أهدي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طبقٌ من زبيب مغطى، فكشف عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: كلوا بسم الله، نعم الطعام الزبيب، يشد العصب، ويذهب الوصب، ويطفىء الغضب، ويطيب النكهة، ويذهب البلغم، ويصفي اللون ... وذكر خصالاً تمام العشرة لم يحفظها سعيد.
وحدث سعيد بن زياد: أنه لم دخل على المأمون بدمشق قال: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكم. قال: فأريته، قال: فقال، إني لأشتهي أن أدري أي شيء على هذا الغشاء على هذا الخاتم. قال: فقال له أبو إسحاق: حل العقد حتى تدري ما هو. قال: فقال: ما أشك أن(9/297)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: ثم قال للواثق: خذه فضعه على عينيك لعل الله أن يشفيك، وجعل يضعه على عينيه ويبكي.
سعيد بن زيد بن عمرو
ابن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي أبو الأعور القرشي العدوي أحد العشرة الذين شهد لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة. شهد اليرموك وحصار دمشق. وولاه أبو عبيدة بن الجراح دمشق، وخرج مع عمر بن الخطاب في خرجته الثانية إلى الشام التي رجع فيها من سرغ وكان أميراً على ربع المهاجرين.
روى سعيد بن زيد:
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن الكمأة فقال: هي من المن، وماؤها شفاءٌ للعين.
وعن عروة: قال في تسمية أهل بدر: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قدم من الشام بعد ما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بدر، فكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضرب له بسهمه، قال: وأجري يا رسول الله؟ قال زعموا: وأجرك.
وفي حديث محمد بن عمر: قال في تسمية من شهدوا بدراً من بني عدي: سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه هو وطلحة يتحسسان العير، فضرب له بسهمه وأجره.
وأم سعيد فاطمة بنت بعجة بن أمية بن خويلد بن خالد بن المعمر من خزاعة،(9/298)
وقيل ابن المعمور، وقيل ابن المعمود. وهو ابن عم عمر بن الخطاب بن نفيل، كان جده عمرو بن نفيل، والخطاب بن نفيل والد عمر أخوان لأب.
كان سعيد رجلاً آدم طوالاً، توفي بالعقيق، وحمل أعناق الرجال، ودفن بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وقيل: سنة اثنتين وخمسين، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة ثمان وخمسين.
وقال الهيثم بن عدي: توفي سعيد بالكوفة في زمن معاوية، وصلى عليه المغيرة وهو يومئذ واليها. وكان لسعيد يوم توفي ثلاث وسبعون سنة، ونزل في حفرته سعدٌ، ابن عمر.
أسلم سعيد بن زيد قبل أن يدخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها.
قال سعيد بن زيد: لقد رأيتني وإني لموثقي عمر بن الخطاب على الإسلام وما كان أسلم بعد.
قالوا: ولما تحين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصول عير قريش من الشام بعث طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قبل خروجه من المدينة بعشر ليالٍ يتحسسان خبر العير فخرجا حتى بلغا الحوراء فلم يزالا مقيمين هناك حتى مرت بهم العير، وبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر قبل رجوع طلحة وسعيد إليه، فندب أصحابه، وخرج يريد العير، فتساحلت العير، وأسرعت، وساروا الليل والنهار فرقاً من الطلب، وخرج طلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد يريدان المدينة، ليخبرا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر العير، ولم يعلما بخروجه، فقدما المدينة في اليوم الذي لاقى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النفير من قريش ببدر، فخرجا من المدينة يعترضان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلقياه بتربان فيما بين مللٍ والسيالة على المحجة منصرفاً من بدر، فلم يشهد طلحة وسعيد الوقعة، وضرب لهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسهمانهما وأجورهما في بدر، وكانا كمن شهدها. وشهد سعيد أحداً والخندق والمشاهد كلها من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(9/299)
وعن عبد الرحمن بن الأخنس: أن المغيرة بن شعبة خطب فنال من علي، قال: فقام سعيد بن زيد فقال: أشهد أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وعبد الرحمن في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد في الجنة ... ثم قال: إن شئتم أخبرتكم بالعاشر، ثم ذكر نفسه. " وفي حديث آخر بمعناه: ثم أتبع ذلك يميناً قال: والله لمشهدٌ شهده رجل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغبر فيه وجهه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من عمل أحدكم ولو عمر عمر نوح.
وعن سعيد بن زيد: أنه كان عاشر عشرة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حراء فتحرك حراء فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اثبت حراء فإنه ليس عليك إلا نبي، أو صديق، أو شهيد ".
وقال سعيد بن زيد: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول بعد ذلك: أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة....فقال المغيرة بن شعبة لسعيد: أذكرك الله من التاسع؟ قال: دعني عنك. قال: أذكرك الله من التاسع؟ قال: فلم يزل به حتى قال: أنا التاسع. يقول سعيد بن زيد ذلك لنفسه.
وعن يوسف بن مالك الأنصاري:
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما رجع من مكة إلى المدينة، قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن أبا بكر الصديق لم يسؤني قط، فاعرفوا ذلك كله. يا أيها الناس، إني راضٍ عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبد الرحمن، وسعد، وسعيد بن زيد، والمهاجرين الأولين، فاعرفوا ذلك لهم. يا أيها الناس، إن الله تعالى قد غفر لأهل بدر والحديبية. يا أيها الناس، لا تؤذوني في أصحابي ولا في أصهاري، ولا(9/300)
يطالبنكم أحد منهم بمظلمة، فإنها مظلمة لا توهب في القيامة لأحد من الناس. يا أيها الناس، ارفعوا ألسنتكم عن المسلمين، وإذا مات الميت فقولوا فيه خيراً.
وعن سعيد بن جبير قال: كان مقام أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، كانوا أمام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القتال، وخلفه في الصلاة في الصف، وليس لأحد من المهاجرين والأنصار يقوم مقام أحد منهم غاب أم شهد.
وعن هشام بن عروة عن أبيه: أن أروى بنت أويس ادعت على سعيد بن زيد أنه أخذ شيئاً من أرضها فخاصمته إلى مروان بن الحكم، فقال سعيد: أنا كنت آخذ من أرضها شيئاً بعد الذي سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: وماذا سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أخذ شيئاً من الأرض طوقه إلى سبع أرضين، فقال له مروان: لا أسألك بينةً بعد هذا. فقال: اللهم، إن كانت كاذبةً فأعم بصرها، واقتلها في أرضها. قال: فما ماتت حتى ذهب بصرها، وبينا هي تمشي في أرضها، إذ وقعت في حفرة فماتت.
وفي حديث آخر بمعناه: وقال: اللهم، إن كانت أروى ظلمتني فأعم بصرها، واجعل قبرها في بئرها، فعميت أروى. قالوا: وإن أروى خرجت في بعض حاجتها بعد ما عميت، فوقعت في البئر، فماتت، فقالوا: وسألت أروى سعيداً أن يدعو لها، وقالت: إني ظلمتك. فقال: لا أرد على الله شيئاً أعطانيه. وكان أهل المدينة يدعو بعضهم على بعض فيقول: أعمالك الله عمى أروى، يريدونها. ثم صار أهل الجهل يقولون: أعمالك الله عمى الأروى. يريدون الأروى التي بالجبل يظنونها شديدة العمى.(9/301)
وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قال: كتب معاوية إلى مروان بالمدينة يبايع لابنه يزيد، فقال رجل من أهل الشام: ما يحسبك؟ قال: حتى يجيء سعيد بن زيد فيبايع: فإنه سيد أهل البلد، إذا بايع بايع الناس. قال: أفلا أذهب فآتيك به؟ قال: فجاء الشامي وأنا مع أبى في الدار. قال: انطلق فبايع. قال: انطلق، فسأجيء فأبايع، فقال: لتنطلقن، أو لأضربن عنقك. قال: تضرب عنقي؟ فوالله إنك لتدعوني إلى قوم أنا قاتلتهم على الإسلام. قال: فرجع إلى مروان، فأخبره، فقال له مروان: اسكت. قال: وماتت أم المؤمنين، أظنها، زينت، فأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، فقال الشامي: ما يحبسك أن تصلي على أم المؤمنين. قال: أنتظر الذي أردت أن تضرب عنقه، فإنها أوصت أن يصلي عليها. فقال الشامي: أستغفر الله.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: يأمرني مروان أن أبايع لقوم ضربتهم بسيفي حتى أسلموا، والله ما أسلموا، ولكن استسلموا. فقال أهل الشام: مجنون. قال: ومات بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: أظنها ميمونة وأوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد فلما حضرت الجنازة قال أهل الشام: ألا تصلي عليها أيها الأمير؟ قال: إنها أوصت أن يصلي عليها ذلك المجنون. فانتظروا حتى جاء سعيد فصلى عليها.
وأنشد لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: من الخفيف
ويكأن من يكن له نشبٌ يح ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
ويجنب سر النجي ولك ... ن أخا المال محضرٌ كل سر(9/302)
وعن نافع: أن ابن عمر ذكر له أن سعيدٍ بن زيد بن عمرو بن نفيل وكان بدرياً مرض في يوم جمعة، فركب إليه بعد أن تعالى النهار، واقتربت الجمعة، وترك الجمعة.
وعن نافع قال: مات سعيد بن زيد وكان بدرياً فقالت أم سعيد لعبد الله بن عمر: أتحنطه بالمسك؟ قال: وأي طيبٍ أطيب من المسك؟ هلمي مسكاً. فناولته إياه. قال: ولم نكن نصنع كما تصنعون، كنا نتبع بحناطه مراقه ومغابنه.
سعيد بن سويد الكلبي الحمصي
وفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث سعيد بن سويد عن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إني عبد الله، والله، في أم الكتاب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى في قومه، ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك أمهات النبيين يرين.
حدث سعيد بن سويد: أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فلما فرغ جلس، وجلسنا معه، قال: فقال له رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، إن الله قد أعطاك، فلو لبست، وصنعت. فنكس ملياً حتى عرفنا أن ذلك قد ساءه، ثم رفع رأسه فقال: إن أفضل القصد عند الجدة وأفضل العفو عند القدرة.
سعيد بن سهل بن محمد
ابن عبد الله أبو المظفر النيسابوري المعروف بالفلكي سمع بنيسابور، وكان وزر لصاحب خوارزم، ثم خافه، فخرج عن خوارزم، وحج، وتصدق بالحجاز بصدقات كثيرة. وقدم دمشق سنة ثلاث وخمسين وخمس مئة. وكان شيخاً مسناً، حسن الاعتقاد، متواضعاً. رحمه الله.(9/303)
حدث عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن أبي العباس بن أبي الطيب الأخرم المديني المؤذن بسنده عن معمر بن عبد الله عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يحتكر إلا خاطىء.
مات سعيد الفلكي سنة ستين وخمس مئة.
سعيد بن شداد أبو عثمان
حدث عن محمد بن طرخان عن محمد الكلبي: في قوله الله عز وجل: " لآتينهم من بين أيديهم ". قال: من قبل الآخرة. قال: يقول لهم: إنه لا جنة، ولا نار، ولا نشور، ولا حساب. " ومن خلفهم ". من قبل الدنيا يذكرهم الشح، والضن بالأموال، ولما يتركون خلفهم من الضيعة والعيال، فلا ينتفعون منه بشيء. " وعن أيمانهم ". قال: من قبل الدين، والحسب. " وعن شمائلهم ". قال: من قبل الشهوات والمعاصي " ولا تجد أكثرهم شاكرين ".
سعيد بن شمر
شيخ من أهل دمشق.
حدث عمن حدثه عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: رأيت رجلاً قد اصطلمت أذنه، فقلت: يا عبد الله، ما الذي فعل بك ما أرى؟ قال: كنت مع علي أيام الجمل، فلما انهزم أهل البصرة خرجت، فإذا رجل يفحص برجله وهو يقول: من الطويل
لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء
لقد كان عن نصر ابن ضبة أمه ... وأشياعها مستبعدٌ ومناء
أطعنا قريشاً ضلةً من حلومنا ... وطاعتنا أهل الحجاز شقاء(9/304)
كفينا بني تيم بن مرة ما جنت ... وما التيم إلا أعبدٌ وإماء
قال: فقلت له: يا أبا عبد الله، قل: لا إله إلا الله. قال: أوص بها أمك فهي أحقٌ بها، أتأمرني بالجزع عند الموت؟ فلما وليت ناداني فقال: يا عبد الله، قد قبلتها، فادن مني، ولقنيها، وأسمعني، فإن في أذني وقراً. قال: فدنوت منه، فجعلت ألقنه إياها، فأزم أذني فاقتطعها، ثم قال: أخبر أمك أن الذي فعل هذا بك عمير بن الأهلب الضبي.
سعيد بن العاص بن أبي أحيحة
سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عثمان ويقال: أبو عبد الرحمن الأموي أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله عنه رواية. وقتل أبوه العاص بن سعيد يوم بدرٍ كافراً. وكان سعيد عامل عثمان على الكوفة، واستعمله معاوية على المدينة غير مرة.
وقدم على معاوية بعد استقرار الأمر له، ولم يدخل معه في شيء من حروبه، وكانت له بدمشق دار، كانت بعده تعرف بدار نعيم، وحمام نعيم بنواحي الديماس.
ثم رجع سعيد إلى المدينة، ومات بها. وكان كريماً جواداً ممدحاً.
حدث سعيد بن العاص أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية ".
حدث سعيد بن عمرو بن سعيد أنه سمع أباه يوم المرج يقول: سمعت أبي يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا أني سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله سيعز هذا الدين بنصارى من ربيعة على شاطىء الفرات. ما تركت عربياً إلا قتلته أو يسلم.(9/305)
وعن ابن عمر قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببردٍ فقالت: إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم العرب، فقال: أعطيه هذا الغلام، يعني: سعيد بن العاص، وهو واقف: فلذلك سميت الثياب السعيدية.
ومن حديثٍ:
قال عمر بن الخطاب لسعيد بن العاص: ما لي أراك معرضاً؟ كأنك ترى أني قتلت أباك! ما أنا قتلته، ولكن قتله علي بن أبي طالب، ولو قتلته ما اعتذرت من قتل مشرك، ولكني قتلت خالي بيدي: العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. فقال سعيد بن العاص: يا أمير المؤمنين، لو قتلته كنت على حق، وكان على باطل. فسر ذلك عمر منه.
قالوا: ولم يزل سعيد بن العاص في ناحية عثمان بن عفان للقرابة. فلما عزل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط عن الكوفة، دعا سعيد بن العاص فاستعمله عليها. فلما قدم الكوفة قدمها شاباً مترفاً، ليست له سابقة، فقال: لا أصعد المنبر حتى يطهر. فأمر به فغسل، ثم صعد المنبر، فخطب أهل الكوفة، وتكلم بكلام، قصر بهم فيه، ونسبهم إلى الشقاق والخلاف، فقال: إنما هو السواد بستانٌ لأغيلمة من قريش. فشكوه إلى عثمان. فقال: كلما رأى أحدكم من أمير جفوة أرادنا أن نعزله؟! وقدم سعيد بن العاص المدينة وافداً على عثمان، فبعث إلى وجوه المهاجرين والأنصار بصلاتٍ وكسًى، وبعث إلى علي بن أبي طالب أيضاً، فقبل ما بعث به إليه، وقال علي: إن بني أمية ليفوقوني تراث محمد تفوقاً، والله لئن بقيت لهم لأنفضنهم من ذلك نفض القصاب الثراب الوذمة. ثم انصرف سعيد بن العاص إلى الكوفة، فأضر بأهلها إضراراً شديداً، وعمل عليها خمس سنين إلا أشهراً.(9/306)
وقال مرة بالكوفة: من رأى الهلال منكم؟ وذلك في فطر رمضان فقال القوم: ما رأيناه. فقال هاشم بن عتبة بن أبي وقاص: أنا رأيته. فقال له سعيد: بعينك هذه العوراء رأيته من بين القوم؟ فقال هاشم: تعيرني بعيني وإنما فقئت في سبيل الله وكانت عينه أصيبت يوم اليرموك ثم أصبح هاشم في داره مفطراً، وغدى الناس عنده فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فأرسل إليه، فضربه، وحرق داره. فخرجت أم الحكم بنت عتبة بن أبي وقاص وكانت من المهاجرات ونافع بن عتبة بن أبي وقاص من الكوفة حتى قدما المدينة فذكرا لسعد بن أبي وقاص ما صنع سعيد بهاشم، فأتى سعد عثمان، فذكر ذلك له، فقال عثمان: سعيد لكم بهاشم اضربوه بضربه، ودار سعيد لكم بدار هاشم فاحرقوها كما حرق داره. فخرج عمر بن سعد بن أبي وقاص وهو يومئذٍ غلام يسعى حتى أشعل النار في دار سعيد بالمدينة، فبلغ الخبر عائشة رضي الله عنها، فأرسلت إلى سعد بن أبي وقاص تطلب إليه، وتسأله أن يكف، ففعل، ورحل من الكوفة إلى عثمان الأشتر مالك بن الحارث، ويزيد بن مكنف، وثابت بن قيس، وكميل بن زياد النخعي، وزيد وصعصعة ابنا صوحان العبديان، والحارث بن عبد الله الأعور، وجندب بن زهير وأبو زينب الأزديان، وأصفر بن قيس الحارثي، يسألونه عزل سعيد بن العاص عنهم. ورحل سعيد وافداً على عثمان، فوافقهم عنده، فأبى عثمان أن يعزله عنهم، وأمره أن يرجع إلى عمله، فخرج الأشتر من ليلته في نفرٍ من أصحابه، فسار عشر ليالٍ إلى الكوفة، واستولى عليها، وصعد على المنبر، فقال: هذا سعيد بن العاص قد أتاكم يزعم أن هذا السواد بستان لأغيلمةٍ من قريش، والسواد مساقط رؤوسكم، ومراكز رماحكم وفيئكم وفيء آبائكم، فمن كان يرى لله عليه حقاً فلينهض إلى الجرعة. فخرج الناس فعسكروا بالجرعة وهي بين الكوفة والحيرة وأقبل سعيد بن العاص حتى نزل العذيب، فدعا الأشتر يزيد بن قيس الأرحبي، وعبد الله بن كنانة العبدي وكانا محربين فعقد لكل واحد منهما على خمس مئة فارس وقال لهما: سيرا إلى سعيد بن العاص، فأزعجاه، وألحقاه بصاحبه، فإن أبى فاضربا عنقه، وائتياني برأسه. فأتياه، فقالا له: ارحل إلى صاحبك فقال: إبلي أنضاءٌ أعلفها أياماً، ونقدم المصر، فنشتري حوائجنا، ونتزود، ثم أرتحل. فقالا: لا والله(9/307)
ولا ساعةً، لترتحلن أو لنضربن عنقك. فلما رأى الجد منهما ارتحل لاحقاً بعثمان، وأتيا الأشتر فأخبراه، وانصرف الأشتر من معسكره إلى الكوفة، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: والله يا أهل الكوفة، ما غضبت إلا لله ولكم. قد ألحقنا هذا الرجل بصاحبه، وقد وليت أبا موسى الأشعري صلاتكم وثغركم، وحذيفة بن اليمان على فيئكم، ثم نزل، وقال: يا أبا موسى، اصعد. فقال أبو موسى: ما كنت لأفعل، ولكن هلموا فبايعوا لأمير المؤمنين عثمان، وجددوا له البيعة في أعناقكم. فأجابه الناس إلى ذلك، فقبل ولايتهم، وجدد البيعة لعثمان في رقابهم، وكتب إلى عثمان بما صنع، فأعجب ذلك عثمان وسره، فقال عتبة بن الوغل شاعر أهل الكوفة: من الطويل
تصدق علينا يا بن عفان واحتسب ... وأمر علينا الأشعري ليالي
فقال عثمان: نعم وشهوراً وسنين إن بقيت.
وكان الذي صنع أهل الكوفة بسعيد بن العاص أول وهنٍ دخل على عثمان حين اجترىء عليه، ولم يزل أبو موسى والياً لعثمان على الكوفة حتى قتل عثمان، ولم يزل سعيد بن العاص حين رجع عن الكوفة بالمدينة حتى وثب الناس بعثمان فحصروه، فلم يزل سعيد في الدار معه يلزمه فيمن يلزمه، لم يفارقه، ويقاتل دونه.
قالوا: فلما خرج طلحة، الزبير، وعائشة من مكة يريدون البصرة خرج معهم سعيد بن العاص، ومروان بن الحكم، وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، والمغيرة بن شعبة. فلما نزلوا مر الظهران ويقال: ذات عرق قام سعيد بن العاص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن عثمان عاش في الدنيا حميداً، وخرج منها فقيداً، وتوفي سعيداً شهيداً، فضاعف الله حسناته، وحط سيئاته، ورفع درجاته: " مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ". وقد زعمتم أيها الناس، أنكم إنما تخرجون تطلبون بدم عثمان، فإن كنتم ذلك تريدون فإن قتلة عثمان على صدور هذه المطي وأعجازها، فميلوا عليهم بأسيافكم، وإلا فانصرفوا إلى(9/308)
منازلكم، ولا تقتلوا في رضى المخلوقين أنفسكم، ولا يغني الناس عنكم يوم القيامة شيئاً. فقال مروان بن الحكم: لا بل نضرب بعضهم ببعض، فمن قتل كان الظفر فيه، ويبقى الباقي فنطلبه وهو واهن ضعيف. وقام المغيرة بن شعبة فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرأي ما رأى سعيد بن العاص، من كان من هوازن فأحب أن يتبعني فليفعل. فتبعه منهم أناسٌ، وخرج حتى نزل الطائف، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين، ورجع سعيد بن العاص بمن اتبعه حتى نزل مكة، فلم يزل بها حتى مضى الجمل وصفين. ومضى طلحة والزبير، وعائشة، ومعهم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومروان بن الحكم، ومن اتبعهم من قريش وغيرهم إلى البصرة، فشهدوا وقعة الجمل. فلما ولي معاوية الخلافة ولى مروان بن الحكم المدينة، ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، ثم عزله، وولاها مروان بن الحكم ثم عزله وولاها سعيد بن العاص، فمات الحسن بن علي بن أبي طالب في ولايته تلك سنة خمسين بالمدينة، فصلى عليه سعيد بن العاص.
قدم محمد بن عقيل بن أبي طالب على أبيه وهو بمكة فقال: ما أقدمك يا بني؟ قال: قدمت لأن قريشاً تفاخرني، فأردت أن أعلم أشرف الناس. قال: أنا، وابن أمي، ثم حسبك بسعيد بن العاص.
وعن قبيصة بن جابر قال: بعثني زياد إلى معاوية في حوائج، فلما فرغت منها قلت له: يا أمير المؤمنين، كل ما جئت له فقد فرغت منه، وبقيت لي حاجة، أصدرها في مصادرها. قال: وما هي؟ قلت: من لهذه الأمة بعدك؟ قال: وما أنت من ذاك؟ فقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ فوالله إني لقريب القرابة، عظيم الشرف، ناصح الجيب، واد الصدر، فسكت ساعة، ثم قال: بين أربعة من بني عبد مناف: كرمة قريش سعيد بن العاص، وفتى قريش حياءً(9/309)
ودهاءً وسخاءً عبد الله بن عامر، وأما الحسن بن علي فرجل سيد كريم، وأما القارىء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله فمروان بن الحكم، وأما رجل نفسه فعبد الله بن عمر، وأما رجل يرد الشريعة مع دواهي السباع، ويروغ روغان الثعلب فعبد الله بن الزبير.
وعن محمد بن سيرين: أن عثمان بن عفان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار منهم: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن العاص، يعني لكتابة المصحف.
وعن سعيد بن عبد العزيز: أن عربية القرآن أقيمت على لسان سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية لأنه كان أشبههم لهجةً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال سعيد: وقتل العاص مشركاً يوم بدر، ومات سعيد بن العاص قبل بدرٍ مشركاً.
وعن عبد الله بن ساعدة قال: جاء سعيد بن العاص إلى عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، إلى متى تمسك بأيدينا؟ قد أكلنا أكلاً هؤلاء القوم: منهم من رمى بالنبل، ومنهم من قد رمى بالحجارة، ومنهم شاهرٌ سيفه! فمرنا بأمرك. فقال عثمان: إني والله ما أريد قتالهم، ولو أردت قتالهم لرجوت أن أمتنع منهم، ولكني أكلهم إلى الله عز وجل، وأكل من ألبهم علي إلى الله، فإنا سنجمع عند ربنا، فأما قتالٌ، فوالله ما آمرك بقتال. فقال سعيد: والله لا أسأل عنك أحداً أبداً. فخرج فقاتل حتى أم.
حدث محمد بن المنكدر قال:
أهدى سعيد بن العاص هدايا لأهل المدينة، وقال لرسوله: لا تعذرني إلا عند علي بن أبي طالب، وقل له: ما فضلت عليك أحداً في الهدية إلا أمير المؤمنين عثمان. فقال علي لما قال له الرسول ذلك: لشد ما نفست علي أمية وضايقتني، والله لئن وليتها لأنفضنها(9/310)
نقض القصاب الثراب الوذمة. قال: فقال الأصمعي: التراب، فقال شعبة: ما سمعته إلا الثراب بالثاء. فتحاكما إلى أبي عمرو، فحكم كما قال شعبة. قال أبو محكم: الصواب ما قال شعبة، وحكم به أبو عمرو. قال الثوري: صحف الأصمعي وأصاب شعبة.
والثراب: الكروش، يقال: هذه كروش ثربة. والوذمة: ذات زوائد شبهت بوذام الدلو، وقال أبو بكر بن دريد: قولهم التراب الوذمة خطأ، وإن أصحاب الحديث قلبوه، وإنما هو الوذام التربة: قال: وأصله أن كل سير قددته مستطيلاً فهو وذم، وكذلك اللحم والكرش وما أشبهه.
قال سليمان بن زياد: كان بين سعيد بن العاص وبين قوم من بني أمية منازعة، فجاءت سعيداً ولاية المدينة من قبل معاوية، فقال: لا أنتصر وأنا والٍ، فترك منازعة القوم.
كان معاوية يولي المدينة مروان بن الحكم سنة وسعيد بن العاص سنة، فلما كان في ولاية سعيد كتب إليه معاوية: بلغني أن مروان ابتنى داراً، وأنه خرج في الطريق. فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم داره. فقال سعيد: يا جارية، خذي هذا الكتاب فضعيه في الصندوق. فلم يزل يكتب إليه في ولايته تيك، ويأمر باحتفاظ الكتب، لا ينفذ أمره فيما كتب به. ثم ولى مروان فكتب إليه بنظير الكتب التي كتب بها إلى سعيد في مروان، فمضى إلى دار سعيد بالفعلة، وسعيد قد صلى الغداة في المسجد مستقبلاً القبلة فجاء خادم له بخبر مروان، فخرج سعيد، فأخذ بيد مروان، فأدخله الدار، وأخبره مروان بالذي جاء له: فقال سعيد: يا جارية، هاتي الكتب فجاءت بكتب معاوية، فرمى بها إلى مروان. فلما قرأها قال: دواةً وقرطاساً، فكتب إلى معاوية: من الوافر
كتبت إلي تأمرني بعقٍ ... كما قبلي كتبت إلى سعيد
فلما أن عصاك أردت حملي ... على ملساء تزلق بالسديد
لأقطع واصلاً وأخا حفاظٍ ... فرأيك ليس بالرأي الرشيد
ولما مات الحسن بن علي بعث مروان بن الحكم إلى معاوية يخبره أنه مات، قال:(9/311)
وبعث سعيد بن العاص رسولاً آخر يخبره بذلك، وكتب مروان يخبره بما أوصى به حسن من دفنه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن ذلك لا يكون وأنا حي، ولم يذكر ذلك سعيد، فلما دفن حسن بن علي بالبقيع أرسل مروان بريداً آخر يخبره بما كان من ذلك، ومن قيامه ببني أمية ومواليهم، وأني يا أمير المؤمنين عقدت لوائي ولبسنا السلاح، وأحضرت معي من اتبعني، ألفي رجل، فلم يزل الله بمنه وفضله يدرأ ذلك أن يكون مع أبي بكر وعمر ثالثاً أبداً، حيث لم يكن أمير المؤمنين عثمان مظلوم رحمه الله، وكانوا هم الذين فعلوا بعثمان ما فعلوا، فكتب معاوية إلى مروان يشكر له ما صنع، واستعمله على المدينة، ونزع سعيد بن العاص، وكتب إلى مروان: إذا جاءك كتابي هذا فلا تدع لسعيد بن العاص قليلاً ولا كثيراً إلا قبضته. فلما جاء الكتاب إلى مروان بعث به مع ابنه عبد الملك إلى سعيد يخبره بكتاب أمير المؤمنين، فلما قرأه سعيد بن العاص صاح بجارية له: هات كتابي أمير المؤمنين، فطلعت عليه بكتابين فقال لعبد الملك: اقرأهما، فإذا فيهما كتاب من معاوية إلى سعيد بن العاص، يأمره حين عزل مروان بقبض أموال مروان التي بذي المروة، والتي بالسويداء، والتي بذي خشب ولا يدع له عذقاً واحداً. فقال: أخبر أباك؟ فجزاه عبد الملك خيراً، فقال سعيد: والله، لولا أنك جئتني بهذا الكتاب ما ذكرت مما ترى حرفاً واحداً. قال: فجاء عبد الملك بالخبر إلى أبيه قال: هو كان أوصل لنا منا له.
قال صالح بن كيسان: كان سعيد بن العاص رجلاً حليماً وقوراً، ولقد كانت المأمومة التي أصابت رأسه يوم الدار قد كاد أن يخف منها بعض الخفة، وهو على ذلك من أوقر الرجال. وكان مروان رجلاً حديداً، حديد اللسان، سريع الجواب، ذلق اللسان، قلما صبر أن يكون في صدره شيء من حب أحد أو بغضه إلا ذكره، وكان سعيد خلاف ذلك، كان من أحب صبر عن ذكر ذلك ومن أبغض فمثل ذلك، ويقول: إن الأمور تغير والقلوب تغير، فلا ينبغي للمرء أن يكون مادحاً اليوم عائباً غداً.(9/312)
قال عمير بن إسحاق:
كان مروان بن الحكم أميراً علينا بالمدينة سنة ستين فكان يسب علياً عليه السلام في الجمع كذلك، ثم عزل، فاستعمل علينا سعيد بن العاص، فكان لا يسب علياً.
خطب سعيد بن العاص أم كلثوم بنت علي بعد عمر بن الخطاب، وبعث إليها بمئة ألف، فدخل عليها الحسين، فشاورته، فقال: لا تزوجيه. فأرسلت إلى الحسن فقال: أنا أزوجه، فاتعدوا لذلك، وحضر الحسن، وأتاهم سعيد ومن معه، فقال سعيد: أين أبو عبد الله؟ قال الحسن: أكفيك دونه، قال: فلعل أبا عبد الله كره هذا يا أبا محمد؟ قال: قد كان وأكفيكه، قال: إذاً لا أدخل في شيء يكرهه، ورجع ولم يعرض في المال، ولم يأخذ منه شيئاً.
وفي حديث آخر بمعناه: أنه لما خطبها أنعمت له، فبلغ ذلك إخوتها فكرهوه، وثقل عليهم، وكلموها كلاماً شديداً، وقد كانت وعدت سعيداً موعداً، فدعت ابنها زيد بن عمر بن الخطاب وهو يومئذ غلام صغير وبسطت دارها، ووضعت فيها سريراً، ثم قالت: إذا جاء سعيد بن العاص فزوجنيه. وقد كان سعيد وعد ناساً، وأرسل إليهم ليحضروا تزويجه، فحضروه في المسجد، فلما اجتمعوا إليه قال: إني دعوتكم لأمرٍ ثم بدا لي غيره، إني كنت خطبت أم كلثوم فأنعمت، والله ما كنت لأدخل على ابني فاطمة بأمر يكرهانه. ثم التفت إلى كعبٍ مولاه فقال: انظر إلى المئتي ألف درهم التي هيأت لابنة علي، اذهب بها إليها، وقل لها: يقول لك ابن عمك: إنا كنا هيأنا لك هذه فاقبضيها صلة منا لك.
قال ابن عيينة: كان سعيد بن العاص إذا سأله سائلٌ فلم يكن عنده شيء قال: اكتب علي بمسألتك سجلاً إلى يوم ميسرتي.
وكان سعيد بن العاص يدعو إخوانه وجيرته في كل جمعة يوماً، فيصنع لهم الطعام، ويخلع عليهم الثياب الفاخرة، ويأمر لهم بالجوائز الواسعة، ويبعث إلى عيالاتهم بالبر(9/313)
الكثير، وكان يوجه مولى له في كل ليلة جمعة، فيدخل المسجد ومعه صرر فيها دنانير فيضعها بين يدي المصلين، فكان قد كثر المصلون في كل ليلة جمعة في مسجد الكوفة.
قال عبد الأعلى بن حماد: استسقى سعيد بن العاص من دار بالمدينة، فسقوه، ثم حضر صاحب الدار في الوقت مع جماعة، فعرض الدار على البيع، وكان عليه أربعة آلاف دينار، فبلغه أن صاحب الدار يريد بيع داره، فقال لغلام له: لم يبيع هذا الرجل داره؟ فقال: عليه أربعة آلاف دينار دينٌ. قال سعيد: إن له لحرمة وذماماً علينا، لسقيه إيانا. فركب إليه فخافضه، فقال له: السلام عليك، وقال لغريمه: كم لك عليه؟ قال أربعة آلاف دينار. قال: أترضى بضمانها؟ قال: نعم. قال له: فمر وهي لك علي، وقال لصاحب الدار: لتستمتع بدارك.
أتى أعرابي سعيد بن العاص فسأله شيئاً، فقال: يا غلام، أعطه خمس مئة، فذهب، ورجع فقال: خمس مئة درهم، أم خمس مئة دينار؟ فقال سعيد: ويحك ما أردت إلا الدراهم! فإذا توهمت الدنانير فأعطه الدنانير. قال: فقبضها الأعرابي، ثم جلس يبكي: فقال له سعيد: ما يبكيك! أليس قد قضى الله حاجتك؟ قال: بلى، ولكن أبكي على الأرض تأكل مثلك.
قدم أعرابي المدينة يطلب في أربع ديات خملها، فقيل له: عليك بحسن بن علي، عليك بعبد الله بن جعفر، عليك بسعيد بن العاص، عليك بعبيد الله بن العباس. فدخل المسجد، فرأى رجلاً يخرج ومعه جماعة، فقال: من هذا؟ فقيل: سعيد بن العاص. فقال: هذا أحد أصحابي الذين ذكروا لي. فمشى معه، فأخبره بالذي قدم له، ومن ذكر له، وأنه أحدهم، وهو ساكت لا يجيبه. فلما بلغ باب منزله قال لخازنه: قل لهذا الأعرابي فليأت بمن يحمل له. فقيل له: إيت بمن يحمل لك. قال: عافى الله سعيداً، إنما سألناه ورقاً، لم نسأله تمراً! قال: ويحك! إيت بمن يحمل لك. فأخرج إليه أربعين ألفاً، فاحتملها الأعرابي، ومضى إلى البادية، ولم يلق غيره.(9/314)
كان سعيد بن العاص والياً لمعاوية على المدينة، فأصاب الناس سنة فأقحموا، فأطعمهم سعيد حتى أنفق ما في بيت المال، فكتب إلى معاوية، فغضب وقال: لم يرض أن أنفق مالنا حتى ادان؟ فعزله، فلما احتضر دعا ابنه عمراً فقال: إني قد رضيت غيبتك وشهادتك، فانظر ديني فاقضه، واكسر فيه أموالي، ولا يعطه عني معاوية، وانظر بناتي، فلتكن قبورهن بيوتهن إلا من الأكفاء، وانظر إخواني لا يفقدوني، احفظ منهم ما كنت أحفظ. فلما بلغ معاوية موته قال: رحم الله أبا عثمان، مات من هو أكبر مني ومن هو أصغر مني: من الطويل
إذا سار من دون امرىءٍ وأمامه ... وأوحش من إخوانه فهو سائر
لما حضرت سعيد بن العاص الوفاة قال لبنيه: أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا يا أبه. قال: إن فيها قضاء ديني! قال: وما دينك يا أبه؟ قال: ثمانون ألف دينار. قال: يا أبه وفيم أخذتها؟ قال: يا بني، في كريم سددت به منه خلة، وفي رجل جاءني في حاجة ودمه ينزو في وجهه من الحياء، فبدأته بحاجته قبل أن يسألنيها.
قال سعيد بن العاص لابنه: يا بني، أخزى الله المعروف إذا لم يكن ابتداءً عن غير مسألة، فأما إذا أتاك تكاد ترى دمه في وجهه، ومخاطراً لا يدري أتعطيه أم تمنعه، فوالله لو خرجت له من جميع مالك ما كافأته.
قال سعيد بن العاص: ما أدري كيف أكافىء رجلاً بات يقسم ظنه، فلا يقع إلا علي، أصبح يتخطى الناس، ويتخطى المجالس والأحياء حتى يكرمني بنفسه، ويؤنسني بحديثه، غدا التجار إلى تجاراتهم، وغدا إلي في حاجته، فإن كان أخسهم فأخس الله حظي يوم القيامة.
قال سعيد بن العاص: يا بني، إن المكارم لو كانت سهلة يسيرة لسابقكم إليها اللئام.(9/315)
ولكنها كريهة مرة، لا يصبر عليها إلا من عرف فضلها، ورجا ثوابها، وأنشد أبو جعفر مولى بني هاشم: من الكامل
كل الأمور تزول عنك وتنقضي ... إلا الثناء فإنه لك باق
ولو نني خيرت كل فضيلةٍ ... ما اخترت غير مكارم الأخلاق
قال سعيد بن العاص: لجليسي علي ثلاث خصال: إذا أقبل وسعت له، وإذا جلس أقبلت عليه، وإذا حدث سمعت منه.
قال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فتهون عليه.
خطب سعيد بن العاص فقال في خطبته: من رزقه الله حسناً فليكن أسعد الناس به، إنما يتركه لأحد رجلين: إما مصلح فلا يقل عليه شيء، وإما مفسد فلا يبقى له شيء. فقال معاوية: جمع أبو عثمان طرف الكلام.
لما ولي سعيد بن العاص الكوفة أتته هند بنت النعمان مترهبةً معها جوارٍ قد ترهبن، ولبسن المسوح، فاستأذنت، فأذن لها، فدخلت فأجلسها على فرشه، وكلمته في حاجات لها، فقضاها، فلما قامت قالت: أصلح الله الأمير، ألا أحييك بكلمات كانت الملوك تحيى بهن قبلك؟ قال سعيد: بلى. قالت: لا جعل الله لك إلى لئيم حاجةً، ولا زالت المنة لك في أعناق الكرام، وإذا أزال عن كريم نعمةً فجعلك الله سبباً في ردها إليه.
كان دين سعيد بن العاص ثلاثة آلاف ألف درهم، فاشترى معاوية من عمرو بن سعيد بن العاص القصر بألف ألف، والمزارع بألف ألف، والنخل بألف ألف درهم.
وولد سعيد بن العاص محمداً، وعثمان الأكبر، وعمراً يقال له الأشدق، ورجالاً درجوا، وأمهم أم البنين بنت الحكم بن أبي العاص أخت مروان بن الحكم لأبيه وأمه.
ومات سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية في قصره بالعرصة على ثلاثة أميال من المدينة، ودفن بالبقيع وأوصى إلى ابنه عمرو الأشدق، وأمره أن يدفنه(9/316)
بالبقيع. قال: إن قليلاً لي عند قومي في بري بهم أن يحملوني على رقابهم من العرصة إلى البقيع، ففعلوا، وأمر ابنه عمراً إذا دفنه أن يركب إلى معاوية فينعاه، ويبيعه منزله بالعرصة، وكان منزلاً قد اتخذه سعيد، وغرس فيه النخل، وزرع فيه، وبنى فيه قصراً معجباً، ولذلك القصر يقول أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة: من البسيط
القصر ذو النخل فالجماء فوقهما ... أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وقال لابنه عمرو: إن منزلي هذا ليس من العقد، إنما هو منزل برهة، فبعه من معاوية، واقض عني ديني ومواعيدي، ولا تقبل من معاوية قضاء ديني فتزودنيه إلى ربي. فلما دفنه عمرو وقف الناس بالبقيع، فعزوه، ثم ركب رواحله إلى معاوية، فقدم عليه، فنعاه له أول الناس، فاسترجع معاوية، ثم ترحم عليه، وتوجع لموته، ثم قال: هل ترك من دين؟ قال: نعم، قال: وكم؟ قال: ثلاث مئة ألف درهم. قال: هي علي. قال: قد أبى ذلك، وأمرني أن أقضي عنه من أمواله، أبيع ما استباع منها. قال: فعرصني ما شئت. قال: أنفسها وأحبها إلينا وإليه في حياته منزله بالعرصة، فقال معاوية: هيهات، لا، تبيعون هذا المنزل؟ انظر غيره، قال: فما نصنع؟ نحن نحب تعجيل قضاء دينه، فقال: قد أخذته بثلاث مئة ألف درهم. قال: اجعلها بالوافية، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واجعلها بالوافقة، يريد دراهم فارس، الدرهم زنة المثقال الذهب، قال: قد فعلت. قال: واحملها لي إلى المدينة. قال: وأفعل. قال: فحملها له، فقدم عمرو بن سعيد فجعل يصرفها في ديونه ويحاسبهم بمئتي الدراهم الوافية وهي البغلية وهي الدراهم الجواز وهي تنقص في العشرة ثلاثة، كل سبعة بالبغلية عشرة بالجواز حتى أتاه فتى من قريش، يذكر حقاً له في كراع أديم بعشرين ألف درهم على سعيد بن العاص بخط مولى لسعيد كان يقوم لسعيد على بعض(9/317)
نفقاته وشهادة سعيد على نفسه بخط سعيد، فعرف خط المولى وخط أبيه وأنكر أن يكون للفتى وهو صعلوك من قريش هذا المال، فأرسل إلى مولى أبيه، فدفع إليه الصك، فلما قرأه المولى بكى ثم قال: نعم أعرف هذا الصك، وهو حق، دعاني مولاي فقال لي وهذا الفتى عنده على بابه معه هذه القطعة الأديم: اكتب، فكتبت بإملائه هذا الحق. فقال عمرو: وما سبب مالك هذا؟ قال: رأيته وهو معزول يمشي وحدهن فقمت فمشيت معه، حتى بلغ داره، ثم وقف، فقال: هل لك من حاجةٍ: فقلت: لا إله أني رأيتك تمشي وحدك، فأحببت أن أصل جناحك. فقال: وصلتك رحمٌ يا بن أخي. ثم قال: ابغني قطعة أديم، فأتيت جزاراً عند باب داره، فأخذت منه هذه القطعة، فدعا مولاه هذا فقال: اكتب. فكتب وأملاه، وكتب فيه شهادته على نفسه، ثم دفعه إلي وقال: يا بن أخي، ليس عندنا اليوم شيء، فخذ هذا الكتاب، فإذا أتانا شيء فأتنا به إن شاء الله. فمات رحمه الله قبل أن يأتيه شيء. قال عمرو: لا جرم، لا تأخذها إلا وافية، فدفعها إليه كل سبع باثنتي عشرة جوازاً.
قال عوانة: لما توفي سعيد بن العاص قيل لمعاوية: توفي سعيد بن العاص، فقال معاوية: ما مات رجل ترك عمراً. وقيل له: توفي ابن عامر، فقال: لم يدع خلفاً ابن عامر، وكان سعيد وابن عامر ماتا في عام واحد في سنة ثمان وخمسين، كانت بينهما جمعة، ومات سعيد قبل ابن عامر.
قال مسدد: مات سعيد بن العاص، وأبو هريرة، وعائشة، وعبد الله بن عامر سنة سبع أو ثمان وخمسين. وقيل: توفي سعيد بن العاص سنة تسع وخمسين.(9/318)
سعيد بن عامر بن حذيم
ابن سلامان بن ربيعة بن سعد بن جمح الجمحي له صحبة، وروى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث سعيد بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يجيء فقراء المسلمين يزفون كما يزف الحمام، ويقال لهم: قفوا للحساب، فيقولون: والله ما أعطيتمونا شيئاً تحاسبونا به. فيقول الله عز وجل: صدق عبادي. فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاماً.
وفي حديث آخر بمعناه: أدخلوه الجنة بغير حساب.
وعن سعيد بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لو أن امرأة من نساء أهل الجنة أشرفت إلى أهل الأرض لملأت الأرض ريح المسك، ولأذهبت ضوء الشمس والقمر.
وفي رواية: وإني والله ما كنت لأختارك عليهن ودفع يده في صدرها، يعني امرأته.
وعن عبد الرحمن بن سابط قال:
أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر الجمحي فقال: إنا مستعملوك على هؤلاء، تسير بهم إلى أرض العدو، فتجاهد بهم. فقال: يا عمر لا تفتني. فقال عمر: والله لا أدعكم، جعلتموها في عنقي ثم تخليتم مني! إنما أبعثك على قوم لست بأفضلهم، ولست أبعثك لتضرب أيسارهم، ولا تنتهك أعراضهم، ولكن تجاهد بهم عدوهم، وتقسم بينهم فيئهم. فقال: اتق الله يا عمر، أحب لأهل الإسلام ما تحب لنفسك، وأقم وجهك وقضاءك لمن استرعاك الله من قريب المسلمين وبعيدهم، ولا تقض في أمر واحد(9/319)
بقضاءين، فيختلف عليك أمرك، وتنزع عن الحق، والزم الأمر ذا الحجة يعنك الله على ما ولاك. وخض الغمرات إلى الحق حيث علمته، ولا تخش في الله لومة لائم. قال: فقال عمر: ويحك يا سعيد، من يطيق هذا؟ قال: من وضع الله في عنقه مثل الذي وضع في عنقك، إنما عليك أن تأمر فيطاع أمرك، أو يترك فتكون لك الحجة. قال: فقال عمر: إنا سنجعل لك رزقاً. قال: لقد أعطيت ما يكفيني دونه يعني عطاءه وما أنا بمزداد من مال المسلمين شيئاً. قال: فكان إذا خرج عطاؤه نظر إلى قوت أهله من طعامهم وكسوتهم وما يصلحهم، فيعزله، وينظر إلى بقيته فيتصدق به، فيقول أهله: أين بقية المال؟ فيقول: أقرضته. قال: فأتاه نفر من قومه فقالوا: إن لأهلك عليك حقاً، وإن لأصهارك عليك حقاً، وإن لقومك عليك حقاً. قال: ما أستأثر عليهم، إن يدي لمع أيديهم، وما أنا بطالب أو ملتمس رضاء أحد من الناس بطلبي الحور العين، لو اطلعت منهم واحدة لأشرقت لها الأرض كما تشرق الشمس، وما أنا بمختلف عن العنق الأول بعد إذ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يجيء فقراء المسلمين يدفون كما يدف الحمام. فيقال لهم: قفوا للحساب. فيقولون: والله ما تركنا شيئاً نحاسب به. فيقول الله: صدق عبادي. فيدخلون الجنة قبل الناس بسبعين عاماً.
وعن شهر بن حوشب قال: لما قدم عمر حمص أمرهم أن يكتبوا له فقراءهم، فرفع الكتاب فإذا فيه سعيد بن عامر، قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، أميرنا. قال: وأميركم فقير؟ قالوا: نعم، فعجب، فقال: كيف يكون أميركم فقيراً؟ أين عطاؤه، وأين رزقه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، لا يمسك شيئاً. قال: فبكى عمر حتى عمد إلى ألف دينار فصرها، وبعث بها إليه، وقال: أقرئوه مني السلام، وقولوا له: بعث بها إليك أمير المؤمنين، فاستعن بها على حاجتك، قال: فجاء بها إليه الرسول، فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يسترجع، فقالت له امرأته: ما شأنك؟ أصيب أمير المؤمنين؟ قال: أعظم. قال: فظهرت آية؟ قال: أعظم من ذلك. قالت: فأمر من الساعة؟ قال: بل أعظم من(9/320)
ذلك. قالت: فما شأنك؟ قال: الدنيا أتتني، الفتنة أتتني حتى حلت علي. قالت: فاصنع فيها ما شئت. قال لها: عندك عون؟ قالت: نعم. قال: ائتني به. قال: فأته بخمارها فصرها صرراً، ثم جعلها في مخلاة، ثم بات يصلي، حتى إذا أصبح، ثم اعترض بها جيشاً من جنود المسلمين، فأمضاها كلها، فقالت له امرأته: لو كنت حبست منها شيئاً نستعين به! فقال لها: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لو اطلعت امرأة من نساء الجنة إلى الأرض لملأت الأرض من ريح المسك، فإني والله ما أختار عليهن، فسكتت.
وكان عمر قد ولى سعيد بن عامر بعض أجناد الشام، فبلغ عمر أنه يصيبه لممٌ، فأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، وكان زاهداً، فلم ير معه إلا مزوداً، وعكازه، وقدحا، ً فقال له عمر: ما معك إلا ما رأى؟ قال له سعيد: وما أكثرها من هذا! عكازٌ أحمل به زادي، وقدح آكل فيه. قال له عمر: أبك لمم؟ قال: لا، قال: فما غشية بلغني أنها تصيبك؟ قال: حضرت خبيب بن عدي حين صلب، فدعا على قريش، وأنا فيهم، فربما ذكرت ذلك فأجد فترةً حتى يغشى علي، فقال له عمر: ارجع إلى عملك. فأبى، وناشده إلا أعفاه.
أسلم سعيد بن عامر قبل خيبر، وهاجر إلى المدينة، وشهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وما بعد ذلك من المشاهد.
ومات سنة عشرين في خلافة عمر بن الخطاب. وقيل: سنة إحدى وعشرين بحمص. وقيل: مات بالرقة سنة ثماني عشرة وقبره بها. وقيل: مات وهو أمير قيسارية سنة تسع عشرة، وكان حضر قتل خبيب بن عدي بالتنعيم، وكان يصيبه من ذكره غشية.
بلغ سعيد بن عامر أن أبا بكر يريد أن يبعثه، وأنه قد كتب ذلك إلى يزيد بن أبي سفيان، فلما أبطأ عليه ذلك، ومكث أياماً لا يذكر ذلك له أبو بكر، فقال: يا أبا بكر،(9/321)
والله لقد بلغني أنك أرددت أن تبعثني في هذا الوجه، ثم رأيتك قد سكت، فما أدري ما بدا لك، فإن كنت تريد أن تبعث غيري فابعثني معه، فما أرضاني بذلك. وإن كنت لا تريد أن تبعث أحداً فما أرغبني في الجهاد، إيذن لي رحمك الله حتى ألحق بالمسلمين، فقد ذكر لي أنه قد جمعت لهم جموع عظيمة. فقال له أبو بكر: رحمك الله، الله أرحم الراحمين يا سعيد، فإنك ما علمت من المتواضعين، المتواصلين، المخبتين، المتجدين بالأسحار، الذاكرين الله كثيراً. فقال سعيد: يرحمك الله، نعم الله علي أفضل، له الطول والمن، وأنت ما علمتك يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدوقٌ بالحق، قوام بالقسط، رحيمٌ بالمؤمنين، شديد على الكافرين، تحكم بالعدل، ولا تستأثر بالقسم. فقال له: حسبك يا سعيد، اخرج، رحمك الله فتجهز، فإني باعثٌ إلى المؤمنين جيشاً ممداً لهم، ومؤمرك عليهم، وأمر بلالاً فنادى في الناس: ألا انتدبوا أيها الناس مع سعيد بن عامر إلى الشام. قال: فانتدب معه جيش من المسلمين في أيام. قال: وجاء سعيد بن عامر، ومعه راحلته، حتى وقف على باب أبي بكر، والمسلمون جلوس، فقال لهم سعيد، أما إن هذه الوجه وجه رحمةٍ وبركة، اللهم فإن قضيت لنا يعني البقاء فعلى عادتك، وإن قضيت علينا الفرقة فإلى رحمتك، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السلام. ثم ولى سائراً. قال: وأمره أبو بكر أن يسير حتى يلحق بيزيد بن أبي سفيان. قالوا: فقال أبو بكر: عباد الله، ادعوا الله أن يصحب صاحبكم وإخوانكم معه، ويسلمهم، فارفعوا أيديكم رحمكم الله أجمعين. فرفع القوم أيديهم، وهم أكثر من خمسين، فقال علي: ما رفع عدة من المسلمين أيديهم إلى ربهم يسألونه شيئاً إلا استجاب لهم، ما لم يكن معصية أو قطيعة رحم.
وقال حسين بن ضمرة: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ما رفع أربعون رجلاً أيديهم إلى الله يسألونه شيئاً إلا أعطاهم إياه. قال: فبلغ ذلك سعيداً بعدما وقع إلى الشام ولقي العدو، فقال: حم الله إخواني، ليتهم لم يكونوا دعوا لي، قد كنت خرجت، وإني على الشهادة لحريص، فما هو إلا أن لقيت العدو فعصمني الله من الهزيمة والفرار، وذهب من نفسي ما كنت أعرف من حبي الشهادة، فلما أن أخبرت أن إخواي دعوا لي بالسلامة علمت أني قد استجيب لهم. قالوا: وكان مع يزيد بن أبي سفيان كما أوصاه أبو بكر، فشد الله به وبمن كان معه أعضاد المسلمين، وفت بهم أعضاد المشركين.
سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملاً له على حمص يقال له سعيد بن عامر، فقال(9/322)
له عمر: مالك من المال؟ قال: سلاحي، وفرسي، وأبغل أغزو عليها، وغلام يقوم علي، وخادم لامرأتي، وسهم يعد في المسلمين. فقال له عمر: مالك غير هذا؟ قال حسبي هذا، هذا كثير. فقال له عمر: فلم يحبك أصحابك؟ قال: أواسيهم بنفسي، وأعدل عليهم في حكمي. فقال له عمر: خذ هذه الألف دينار، فتقو بها. قال: لا حاجة لي فيها، أعط من هو أحوج إليها مني. فقال عمر: على رسلك حتى أحدثك ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم إن شئت فاقبل، وإن شئت فدع: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرض علي شيئاً، فقلت مثل الذي قلت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
من أعطي شيئاً من غير سؤال ولا استشراف نفسٍ فإنه رزق من الله، فليقبله ولا يرده. فقال الرجل: أسمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. فقبله الرجل، ثم أتى امرأته فقال: إن أمير المؤمنين أعطانا هذه الألف دينار، فإن شئت أن نعطيه من يتجر لنا به، ونأكل الربح، ويبقى لنا رأس مالنا. وإن سئت أن نأكل الأول فالأول: فقالت المرأة: بلأعطة من يتجر لنا به ونأكل الربح ويبقى لنا رأس المال قال: ففرقيه صرراً، ففعلت، فجعل كل ليلة يخرج صرةً، فيضعها في المساكين ذوي الحاجة، فلم يلبث الرجل إلا يسيراً حتى توفي، فأرسل عمر يسأل عن الألف، فأخبرته امرأته بالذي كان يصنع، فالتمسوا ذلك، فوجدوا الرجل قدمها لنفسه، ففرح بذلك عمر، وسر، وقال: يرحمه الله، إن كان ذلك الظن به.
قال خالد بن معدان:
استعمل علينا عمر بن الخطاب بحمص سعيد بن عامر، فلما قدم عمر بن الخطاب حمص قال: يا أهل حمص، كيف وجدتم عاملكم؟ فشكوه إليه وكان يقال لأهل حمص: الكويفة الصغرى لشكايتهم العمال قالوا: نشكو أربعاً: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار، قال: أعظم بها! قال: وماذا؟ قال: لا يجيب أحداً بليل. قال: وعظيمة! قال: وماذا؟ قالوا: وله يوم في الشهر لا يخرج فيه إلينا. قال: وعظيمة! وماذا؟ قالوا: يغبط الغبطة بين الأيام. يعني: تأخذه موته.(9/323)
قال: فجمع عمر بينهم وبينه وقال: اللهم، لا تفيل رأي فيه اليوم، ما تشكون منه؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار. قال: والله إن كنت لأكره ذكره، ليس لأهلي خادم، فأعجن عجيني، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبز خبزي، ثم أتوضأ، ثم أخرج إليهم. فقال: ما تشكو منه؟ قالوا: لا يجيب أحداً بالليل. قال: ما تقول؟ قال: إن كنت لأكره ذكره، إني جعلت النهار لهم، وجعلت الليل لله عز وجل. قال: وما تشكون منه؟ قالوا: إن له يوماً في الشهر لا يخرج إلينا فيه. قال: ما تقول؟ قال: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ولا لي ثياب أبدلها، فأجلس حتى يجف، ثم أدلكها، ثم أخرج إليهم من آخر النهار. قال: ما تشكون منه؟ قالوا: يغبط الغبطة بين الأيام. قال: ما تقول؟ قال: شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضعت قريش لحمه، ثم حملوه على جذعة فقالوا: أتحب أن محمداً مكانك؟ فقال: والله ما أحب أني في أهلي وأن محمداً يشيك بشوكة، ثم نادى: يا محمد. فما ذكرت ذلك اليوم وتركي نصرته في تلك الحال، وأنا مشرك لا أومن بالله العظيم، إلا ظننت أن الله تعالى لا يغفر لي بذلك الذنب أبداً. قال: فتصيبني تلك الغنطة. فقال عمر: الحمد لله الذي لم يفيل فراستي، فبعث إليه بألف دينار، فقال: استعن بها على أمرك، فقالت امرأته: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك. فقال لها: فهل لك في خير من ذلك؟ ندفعها إلى من يأتينا بها أحوج ما نكون إليها. قالت: نعم. فدعا رجلاً من أهل يثق به، فصرها صرراً، ثم قال: انطلق بهذه إلى أرملة آل فلان، وإلى يتيم آل فلان، وإلى مسكين آل فلان، وإلى مبتلى آل فلان، فبقيت منها ذهبية فقال: أنفقي هذه. ثم عاد إلى عمله، فقالت: ألا تشتري لنا خادماً، ما فعل ذلك المال؟ قال: سيأتيك أحوج ما تكونين إليه.
حدث عطية بن قيس: أن عمر بن الخطاب استعمل سعيد بن عامر على جند حمص، فقدم عليه، فعلاه بالدرة، فقال سعيد: سبق سيلك مطرك، إن تستعتب نعتب، وإن تعاقب نصبر، وإن تعف نشكر. قال: فاستحيى عمر، وألقى الدرة، وقال: ما على المؤمن أو المسلم أكثر من هذا، إنك تبطىء بالخراج. فقال سعيد: إنك أمرتنا أن لا نزيد الفلاح على أربعة دنانير،(9/324)
فنحن لا نزيد، ولا ننقص، إلا أنا نؤخرهم إلى غلاتهم. فقال عمر: لا أعز لك ما كنت حياً.
وعن أبي مريم الغساني: أن رجالاً من الجند خرجوا ينتضلون فيهم سعيد بن عامر، فبينما هم كذلك إذ أصابهم الحر، فوضع سعيد قلنسوته عن رأسه، وكان رجلاً أصلع، فلما رمى سعيد، صاح به الواصف في شيء ذكره من رميته: يا أصلع وهو لا يعرفه فقال له سعيد: إن كنت لغنياً أن تلعنك الملائكة. فقال رجل منهم: وعم تلعنه الملائكة. قال: من دعا امرأ بغير اسمه لعنته الملائكة.
سعيد بن عامر أبي بردة
ابن عبد الله أبو موسى بن قيس بن سليم الأشعري الكوفي وفد مع أبيه على عمر بن عبد العزيز.
حدث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من مسلم يموت إلا جعل الله مكانه رجلاً من اليهود أو النصارى في النار ".
وحدث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: على كل مسلمٍ صدقة، قالوا: يا رسول الله، إن لم يجد؟ قال: يعمل بيده فينفع نفسه، ويتصدق، قالوا: أرأيت إن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: يعين ذا الحاج والملهوف، قالوا: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يأمر بالمعروف أو بالخير قالوا: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر، فإنها له صدقة.
سعيد بن عبد الله بن دينار
أبو روح البصري التمار سكن دمشق.
حدث عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
إذا استقر أهل الجنة في الجنة اشتاق الإخوان إلى الإخوان، فيسير سرير ذا إلى ذا،(9/325)
فيلتقيان فيتحدثان ما كان بينهما في دار الدنيا، فيقول: يا أخي، تذكر يوم كنا في دار الدنيا في مجلس كذا، فدعونا الله عز وجل فغفر لنا.
وبسنده عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا سمعت النداء فأجب، وعليك السكينة، فإن أصت فرجةً، وإلا فلا تضيق على أخيك، واقرأ ما تسمع أذناك، ولا تؤذ جارك، وصل صلاة مودع.
وبسنده عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أكرمه أخوه المسلم فليقبل كرامته، فإنما هي كرامة الله، فلا تردوا على الله كرامته.
وبسنده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس الجهاد أن يضرب بسيفه في سبيل الله، إنما الجهاد من عال والديه، وعال ولده، فهو في جهاد، ومن عال نفسه فكفها عن الناس فهو في جهاد.
سعيد بن عبد الله بن محمد
ابن عجب أبي رجاء أبو عثمان الأنباري سمع بدمشق.
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أسوأ الناس سرقةً الذي يسرق صلاته، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها.
توفي سعيد بن عبد الله بن أبي رجاء الأنباري سنة ثمان وسبعين ومئتين.(9/326)
سعيد بن عبيد الله بن أحمد
ابن محمد بن سعيد بن عبيد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أبي مريم أبو عثمان، ويقال: أبو القاسم القرشي المعروف بابن فطيس الوراق من موالي جويرية بنت أبي سفيان.
حدث سعيد بن عبيد الله عن يوسف بن القاسم الميانجي بسنده إلى ابن عباس: أن رجلاً وقع في قرابة للعباس، كان في الجاهلية، فلطمه العباس، فجاء قومه، فقالوا: لنلطمنه كما لطمه، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: العباس مني وأنا منه، لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا.
توفي سعيد بن عبيد الله بن فطيس الوراق في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وأربع مئة.
سعيد بن عبد الرحمن بن حسان
ابن ثابت أبو عبد الرحمن الأنصاري شاعر ابن شاعر ابن شاعر، وفد على يزيد بن عبد الملك، وعلى هشام بن عبد الملك.
حدث سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أبيه، قال: مر حسان بن ثابت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه الحارث المري، فلما عرفه حسان قال: من الكامل
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لا يغدر
وأمانة المري حيث لقيته ... مثل الزجاجة صدعها لا يجبر
إن تغدروا فالغدر منكم عادةٌ ... والغدر ينبت في أصول السخبر(9/327)
فقال الحارث للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أعوذ بالله وبك من هذا، لو أن شعر هذا مزج بماء البحر لمزجه.
حدث سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: رأى ابن عمر علي أوضاح فضة فقال: إنك قد بلغت، أو كبرت، فألقها عنك.
حدث بعضهم قال: سمعت حسان بن ثابت في جوف الليل وهو ينوه بأسمائه ويقول: أنا حسان بن ثابت، أنا ابن الفريعة، أنا الحسام. فلما أصبحت غدوت عليه فقلت له: سمعتك البارحة تنوه بأسمائك، فما الذي أعجبك؟ قال: عالجت شيئاً من الشعر، فلما أحكمته نوهت بأسمائي. فقلت: وما البيت؟ قال: قلت: من الطويل
وإن امرأ يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا من جنى لسعيد
قال: فلما مات حسان بن ثابت، قال عبد الرحمن بن حسان بعد موت أبيه، أوقد ناراً حتى اجتمع إليه الحي ثم قال: أنا عبد الرحمن بن حسان، وقد قلت بيتاً، فخفت أن يسقط بحدث يحدث علي، فجمعتكم لتسمعوه، فأنشدهم: من الطويل
وإن امرأ نال الغنى ثم لم ينل ... صديقاً ولا ذا حاجةٍ لزهيد
فلما مات عبد الرحمن فعل سعيد بن عبد الرحمن مثل ذلك وأنشدهم: من الطويل
فإن امرأ لاحى الرجال على الغنى ... ولم يسأل الله الغنى لحسود
سعيد بن عبد الرحمن البصري
أخو أبي حرة واصل بن عبد الرحمن حدث سعيد بن عبد الرحمن عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر، فصلى ركعتين، ثم(9/328)
سلم، ثم قام، فوضع إحدى يديه على الأخرى على خشبة في المسجد، وخرج سرعان الناس يقولون: قصرت الصلاة، وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، فقام رجل طويل اليدين كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسميه ذات اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة، أم نسيت؟ فقال: لم تقصر، ولم أنس، قال: بلى، نسيت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق ذو اليدين. قال: فصلى ركعتين، ثم سلم، ثم كبر، وسجد سجدتين أو أطول، ثم رفع رأسه، فكبر.
وحدث سعيد بن عبد الرحمن عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك كفار مضر، ولا نصل إليك إلا في أشهر الحرم، فمرنا بأمر ننتهي إليه، وندعو إليه من وراءنا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم شهر رمضان، وخمس ما غنمتم. ونهاهم عن الدباء، والحنتم، والمزفت، والنقير ".
وحدث سعيد بن عبد الرحمن عن محمد بن سيرين عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسافر بين مكة والمدينة يصلي ركعتين، لا يخاف إلا الله عز وجل.
حدث سعيد قال: وقف مكحول علي بالشام، وأنا أبيع مصحفاً فقال: يا أهل العراق! ما أجرأكم على بيع المصاحف! قال: قلت: إن صاحبنا الحسن لا يرى بذلك بأساً. قال: أحسن أهل العراق، أو حسن البصرة؟ لا تكذبوا على الحسن. قال: قلت: والله ما كذبت عليه.(9/329)
سعيد بن عبد العزيز بن مروان
أبو عثمان الحلبي الزاهد نزيل دمشق، وكان من عباد الله الصالحين، وصحب سري السقطي.
تخرج به جماعة من الأعلام.
حدث عن أبي نعيم عبيد بن هشام بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من كان مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً " توفي سعيد بن عبد العزيز سنة ثمان عشرة وثلاث مئة.
سعيد بن عبد العزيز بن أبي يحيى
أبو محمد. ويقال: أبو عبد العزيز التنوخي فقيه أهل دمشق ومفتيهم بعد الأوزاعي.
حدث سعيد بن عبد العزيز عن زياد بن أبي سودة قال: رؤي عبادة بن الصامت وهو على سور بيت المقدس الشرقي وهو يبكي. قال: فقيل: ما يبكيك يا أبا الوليد؟ قال: من هاهنا، أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه رأى جهنم.
ولد سعيد بن عبد العزيز سنة تسعين، وكان الحاكم أبو عبد الله يقول: سعيد بن عبد العزيز لأهل الشام كمالك بن أنس لأهل المدينة في التقدم، والفضل، والفقه، والأمانة.
قال إسحاق بن إبراهيم: كنت أرى سعيد بن عبد العزيز مستقبل القبلة يصلي، قال: وكنت أسمع لدموعه وقعاً على الحصير.
قال أبو عبد الرحمن الأسدي: قلت لسعيد بن عبد العزيز: يا أبا محمد! ما هذا البكاء الذي يعرض لك في الصلاة؟(9/330)
فقال: يا بن أخي! وما سؤالك عن ذلك!؟ قلت: لعل الله أن ينفعني به. فقال سعيد: ما قمت إلى صلاة إلا مثلت لي جهنم.
قال الوليد بن مسلم: رأيت سعيد بن عبد العزيز شيخاً كبيراً إذا فاتته الصلاة في جماعة أخذ بلحيته وقعد يبكي.
قال عبد الواحد بن بسر النصري، من ولد عبد الله عامل المدينة ومكة، قال: خرجت في آخر الليل أريد المسجد، فوجدت باب البريد مغلقاً، فدنوت من الباب، فإذا هو لم يفتح، فاعتزلت ناحيةً، فأقبل شيخ يهلل ويكبر، حتى صار إلى باب المسجد، فدفعه فانفتح، قال: فلحقت به، فإذا الباب مغلق، فجلست ناحية أنتظر الفتح، فأذن المؤذن للفجر، وفتح الباب، فدخلت، فلم يكن لي همٌّ إلا أن أعرف من الشيخ، فإذا هو سعيد بن عبد العزيز يحيي الليل، فإذا طلع الفجر جدد وضوءه وخرج إلى المسجد. قال أبو مسهر: ما رأيت سعيد بن عبد العزيز ضحك قط ولا تبسم ولا رأيته شكا شيئاً قط ولا رأيته سأل إنساناً شيئاً قط. زاد غيره ولا عاب شيئاً قط.
قال أبو مسهر: ينبغي للرجل أن يقتصر على علم بلده وعلى علم عالمه، فلقد رأيتني أقتصر على سعيد بن عبد العزيز، فما أفتقر معه إلى أحد.
قال أبو مسهر: كان سعيد بن عبد العزيز قد اختلط قبل موته، وكان يعرض عليه قبل أن يموت، وكان يقو: لا أجيزها.
وكان سعيد بن عبد العزيز يقول:
ذكر الله شفاء يبرىء من الداء، وذكر الناس داء لا يقبل الشفاء.
قال سعيد بن عبد العزيز: لا خير في الحياة إلا لأحد رجلين: صموت واعٍ، وناطق عارف.(9/331)
وقال سعيد بن عبد العزيز: من أحسن فليرج الثواب، ومن أساء فلا يستنكر الجزاء، ومن أخذ عزاً بغير حق أورثه الله ذلاًّ بحق، ومن جمع مالاً بظلم أورثه الله فقراً بغير ظلم.
قال سعيد بن عبد العزيز: من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.
وقال: الدنيا غنيمة الآخرة.
وسئل سعيد بن عبد العزيز عن الكفاف من الرزق: ما هو؟ قال: شبع يوم وجوع يوم.
قال سعيد بن عبد العزيز: من استخار واستشار فقد قضى ما عليه.
قال حبيب بن أوس: تذوكر الكلام في مجلس سعيد بن عبد العزيز وحسنه، والصمت ونبله، فقال: ليس النجم كالقمر، إنك إنما تمدح السكوت بالكلام، ولن تمدح الكلام بالسكوت، وما نبأ عن شيء فهو أكبر منه.
روي عن ابنٍ لسعيد بن عبد العزيز الأصغر أنه قال: رأيت في المنام من قبل أن يموت أبي بأربع أني دخلت من باب الخضراء، فإذا أنا بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في مجلس ابن جابر، وإذا رأس أبي في حجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقال لي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارفق بهذا الشيخ، فكأنه قد فارقك. قال: فما لبث بعد ذلك إلا أربعاً حتى مات.
ولد سعيد سنة سبع وستين. ومات سنة تسع وخمسين ومئة.
وقيل سنة ثلاث وستين ومئة، وهو وهم، قال: والصواب أنه توفي سنة سبع وستين. وقيل: توفي سنة أربع وستين، وهو وهم أيضاً. وقيل: توفي سنة سبع وخمسين ومئة، وقيل سنة تسع وستين.(9/332)
وقيل: ولد سنة ثلاث وثمانين، وتوفي سنة سبع وستين، فكانت وفاته وهو ابن أربع وثمانين، وقيل: توفي سنة ثمان وستين.
قال مروان بن محمد: رأيت ابن حلبس في النوم، قال: فقلت: إلى شيء صرت؟ قال: إلى خير. قال: قلت: فسعيد بن عبد العزيز؟ قال: هيهات، رفع ذاك إلى عليين.
سعيد بن عبد العزيز البيروتي
قال سعيد بن عبد العزيز البيروتي: كان عندنا قاضٍ قال للناس: احلقوا لحاكم، فإنها نبتت على الضلالة، حتى تنبت على الطاعة. قال: فحمل الناس كلهم على حلق اللحى، فكنت لا تلقى أحداً إلا محلوق اللحية.
سعيد بن عبد الملك الدمشقي
روى عن سفيان الثوري عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال: خرج علي بن أبي طالب يوماً بالكوفة، فوقف على باب، فاستسقى ماءً، فخرجت إليه جارية بإبريق ومنديل، فقال لها: يا جارية، لمن هذه الدار؟ فقالت: لفلان القسطال. فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تشرب من بئر قسطال، ولا تستظلن في ظل عشار ".(9/333)
سعيد بن عثمان بن سعيد
ابن السكن بن سعيد بن مصعب بن رستم بن برثنة بن كسرى أنوشروان سمع بدمشق، وببغداد، وبمصر.
حدث عن عبد الله بن محمد الوراق بسنده عن ثابت قال: حججت فدفعت إلى حلقة فيها رجلان أدركا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخوان، أحسب أن اسم أحدهما محمد، وهما يتذاكران الوسواس، لم يرد على هذا واردٌ غيره في حديث بمعناه، قال: وهما يتذاكران أمر الوسواس: لأن يقع أحدنا من السماء أحب إليه من أن يتكلم بما يوسوس إليه. قال: وقد أصابكم ذلك؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: فإن ذلك محض الإيمان. قال ثابت: فقلت أنا: يا ليت الله أراحنا من ذلك المحض. قال: فانتهراني، وزبراني، فقالا: نحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتقول يا ليت أن الله أراحنا؟! توفي سعيد بن عثمان أبو علي الحافظ سنة ثلاث وخمسين وثلاث مئة.
سعيد بن عثمان بن عفان
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عثمان القرشي الأموي قدم دمشق على معاوية وولاه خراسان، وهو الذي فتح سمرقند، وفتح الله على يديه فتحاً عظيماً، وأصيبت عينه بها، وخرج إليه الصغد، فقاتلوه، فألجأهم إلى مدينتهم، فصالحوه، وأعطوه رهائن، وأخذ الرهون، وقدم على معاوية. وانصرف سعيد بن عثمان بعد موت معاوية إلى المدينة، فقتله أعلاج كان قدم بهم من سمرقند.
حدث سعيد بن عثمان قال: قال عثمان: الربا سبعون باباً، أهونها مثل نكاح الرجل أمه.(9/334)
وعنه قال: قال عثمان: أربى الربا عرض أخيك المسلم أن تشتمه.
أم سعيد بن عثمان فاطمة بنت الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
قال ابن الكابلي:
كان أهل المدينة عبيدهم ونساؤهم يقولون: من الرجز
والله لا ينالها يزيد
حتى ينال هامه الحديد
إن الأمير بعده سعيد
يعنون لا ينالها يزيد: الخلافة، إن الأمير بعده سعيد بن عثمان. فقدم سعيد على معاوية فقال: يا بن أخي؟ ما شيء يقوله أهل المدينة؟ قال: وما يقولون؟ قال: قولهم: من الرجز
والله لا ينالها يزيد
حتى يعض هامه الحديد
إن الأمير بعده سعيد
قال: ما تنكر من ذلك يا معاوية؟ والله إن أبي لخير من أبي يزيد، ولأمي خيرٌ من أم يزيد، ولأنا خير منه، ولقد استعملناك فما عزلناك بعد، ووصلناك فما قطعناك، ثم صار في يديك ما قد ترى، فحلأتنا عنه أجمع. فقال له معاوية: يا بني، أما قولك: إن أبي خير من أبي يزيد فقد صدقت، عثمان خير من معاوية، وأما قولك: أمي خير من أم يزيد فقد صدقت، امرأة من قريش خير من امرأة من كلب، وبحسب امرأة أن تكون من صالح نساء قومها. وأما قولك: إني خير من يزيد فوالله ما يسرني أن خيلاً بيني وبين العراق، ثم نظم لي فيه أمثالك به. ثم قال معاوية لسعيد بن عثمان: الحق بعمك زياد بن أبي سفيان فإني قد أمرته أن يوليك خراسان.(9/335)
زاد في حديث آخر بمعناه: فقال له يزيد: مه، يا أمير المؤمنين، ابن أخيك استعمل الدالة عليك، واستعتبك لتعتبه، واستزادك منك فزده، وأجمل له في ردك، واحمل له على نفسك، ووله خراسان بشفاعتي، وأعنه بمالٍ تظهر به مروءته. فولاه معاوية خراسان وأجازه بمئة ألف درهم. وكان ذلك أعجب ما ظهر من حلم يزيد.
وفي حديث آخر: فقال ابن عائشة: انظروا ذاك يشتم هذا، وهذا يعطف أباه على ذاك، فلم يزل به حتى ولاه خراسان.
سعيد بن عثمان بن عياش
أبو عثمان البغدادي، ويعرف بالفندقي الدمشقي الحناط الصوفي حدث عن محمد بن رزق الله الكلوذاني بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حبست الشمس على بشرٍ قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس.
قال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون يقول: ثلاثة من أعلام الخير في التاجر: ترك الذم إذا اشترى والمدح إذا باع خوفاً من الكذب، وبذل النصيحة للمسلمين حذراً من الخيانة، والوفاء في الوزن إشفاقاً من التطفيف، وثلاثة من أعلام الخير في المكاسب: حفظ اللسان، وصدق الوعد، وإحكام العمل.
توفي سعيد بن عثمان بن عياش سنة أربع وتسعين ومئتين.(9/336)
سعيد بن عثمان ويقال ابن عمر
ويقال ابن محمد بن نصر، أبو عمرو الهمداني سمع بدمشق.
حدث عن أحمد بن عمير بسند عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله امرأ سمع منا حديثاً فوعاها، ثم بلغها من هو أوعى منه "
سعيد بن عثمان أبو عمرو الرازي
سمع بدمشق.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أحب أن يلقى الله طاهراً فليتزوج الحرائر "
سعيد بن عريض بن عادياء
ابن أخي السموءل بن عادياء من يهود الحجاز، وفد على معاوية، وكان شاعراً.
حدث محمد بن سلام قال: دخل آذن معاوية إليه يوماً، فاستأذنه، فقال: يا أمير المؤمنين، بالباب رجل يقال له سعيد بن عريض من أهل الحجاز. فقال: أي والله، ائذن له. فدخل عليه ومعاوية جالس على طنفسة، ونعلاه في رجليه، وهو متوشح بملحفة، فأكثر الترحيب به، وأدنى مجلسه، وأخذ بيده، وقال: يا بن عريض، ما فعل مالك بالحجاز؟ قال: على أحسن حال يا أمير المؤمنين، نعود به على الجار والقريب والصديق، ونطعم الجائع، ونكسو العاري، ونعين ابن السبيل. فقال معاوية: أفلا تبيعنيه؟ قال: بلى. قال: وكم الثمن؟ قال: خمس مئة ألف درهم. قال: لقد أكثرت يا بن عريض! أما إذ منعتني مالك،(9/337)
فأنشدني مرثية أبيك نفسه. قال: نعم. فأنشده: من الكامل
إن امرأ أمن الحوادث ضلةً ... ورجا الخلود كضاربٍ بقداح
يا ليت شعري حين أندب هالكاً ... ماذا تبكيني به أنواحي
أيقلن لا تبعد فرب عظيمةٍ ... فرجتها بشجاعةٍ وسماح
ولقد أخذت الحق غير مخاصمٍ ... ولقد نطقت الحق غير ملاح
قال يوسف بن الماجشون: كان عبد الملك بن مروان إذا قعد للقضاء قيم على رأسه بالسيوف، فأنشد: من السريع
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت الساكت للقائل
واصطرع الناس بألبابهم ... نقضي بحكمٍ عادلٍ فاصل
لا نجعل الباطل حقاً ولا ... نلط دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل
وهذه الأبيات لسعيد بن عريض بن عادياء من أبيات.
سعيد بن عكرمة الخولاني الداراني
كان على حرس عمر بن عبد العزيز.
قال سعيد بن عكرمة: قال عمر بن عبد العزيز: يا حرسي، ما لي أراك تصلي نصف النهار من يوم الجمعة؟ فقال: يا أمير المؤمنين، بلغني أن جهنم لا تسعر يوم الجمعة. قال: فسكت.(9/338)
سعيد بن عمارة بن صفوان
ابن عمرو بن أبي كرب بن حي بن دلج بن مرثد بن هانىء بن ذي جدن الكلاعي الحمصي كان في الجيش الذي توجه إلى دمشق في الطلب بدم الوليد بن يزيد.
حدث سعيد بن عمارة بن الحارث بن النعمان الليثي قال: سمعت أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكرموا أولادكم، وأحسنوا آدابهم.
وبه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المقيم على الربا كعابد وثن.
وبه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رجلاً سأله يعطيه شيئاً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وعزة ربي، إنها أياد بعضها فوق بعض، يد المعطي بعضها أيادي الله، ويده الوسطى، ويد أخرى أسفل من ذلك، ويقول ربي: بعزتي حلفت لأنفسن عنك بما رحمت عبدي، وبعزتي لأحلينك بما رحمت عبدي، وبعزتي لأخلفن عليك بما أعطيت عبدي.
سعيد بن عمرو بن الأسود
ابن مالك بن كعب بن الحريش واسمه معاوية بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن الحرشي شامي. قيل: إنه كان سائلاً يسأل على الأبواب، ثم صار يسقي الماء، ثم صار في الجند، فولي إمرة خراسان من قبل عمر بن هبيرة، ثم عزله، وسجنه. فلما ولي خالد القسري أخرجه من السجن، وأكرمه، فلما هرب ابن هبيرة من سجن خالد بعث خالدٌ سعيداً في إثره فلم يدركه إلا بعد قدومه على هشام. وقدم سعيد على هشام،(9/339)
وولاه غزو الخزر من بعد قتل الجراح بن عبد الله، وعلت حاله، وكان ولده بإرمينية. وكان صاحب الخزر قد كايد هشاماً بإرساله رجلاً من العرب قد كان أصاب أهله وولده، وجعل له تخلية سبيل أهله وولده بإبلاغه تلك الرسالة إلى هشام والرجعة إليه بخبر ما يبلغه، وحمله على بريد المسلمين، فأقبل متحزماً حتى دخل على هشام، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، الجراح بن عبد الله يقرأ على أمير المؤمنين السلام، ويخبره بسلامته وبسلامة من معه من المسلمين بمكان كذا وكذا، وأنه من عدوه منتصف، ويعزم على أمير المؤمنين ليردني إليه بعد إبلاغي الرسالة بخير أمير المؤمنين. قال: ويحك! من غير كتاب؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فدعا بدواب البريد فحمله من ساعته. وأقام هشام يومه، حتى إذا كان من غروب الشمس قال لخاصته: ويحكم رسول الجراح يأتيني بغير كتاب! ثم رجع لم يأتني مصداقٌ لخبره من صاحب بريد ولا عامل! إن نحن إلا في مكر من عدونا. علي بسعيد الحرشي. فأتي به فعقد له في عشرة من قومه على البريد، وقال له: سر في أصحابك، فإن قدمت والجراح حي فأنت مددٌ له، وإن كان قتل فأنت أمير على إرمينية حتى يأتيك رأي أمير المؤمنين، وعقد له هشام بيده، ودفع اللواء إليه، وقال: ادع حاملاً. فنادى سعيد: يا فرج، فقال هشام: أصنعت هذا؟ قال: لا ولكنه أحد موالي وأعواني. قال هشام: هذا أول الفرج، فوجهه على البريد، وأصحبه ممن هو في عسكره من وجوه الناس نحواً من أربع مئة رجل، وأمره أن لا يمر بشريف من العرب إلا استنفره في قومه، ففعل.
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر:
فأقبل سعيد الحرشي سريعاً على البريد، وأنا ببرذعة على بيت مال إرمينية، فلقيته، فرأيته كاسفاً لونه منخزلاً ظهره على دابته، فلما دنوت منه قلت: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله. قال عبد الرحمن: فاعتدل على سرجه، ورد السلام. قال: ويحك! ما فعل الجراح؟ قلت: رحم الله الجراح. فأسفر لونه، وذهبت عنه كآبته، وأقبل علي يسألني عن خبرهم وأمورهم، حتى دخل برذعة، ثم عسكر معسكراً،(9/340)
وضوى إليه الفل، وبقية الناس، وأهل الحسبة، حتى صار في آلاف دون العشرة. فأخبر أن صاحب خزر وجه بما غنم من بلاد المسلمين من النساء والذرية وغيرهم من أهل ذمتهم مع طرخانٍ من طراخنته في نحوٍ من عشرين ألفاً أو قال: ثلاثين ألفاً إلى بلاده، فدعا المسلمين إلى قتالهم ولقائهم، فأجابوه إلى ذلك، فسار بمن معه، حتى لقيهم بهم، فقاتلوهم قتالاً شديداً، فنصرهم الله عليهم، فاستنقذ جميع ما كان من ذلك والذرية، ثم ثبت لهم معسكراً، ليعترض من مر به منهم، فانتخبوا الأبطال والفرسان منهم يعني من خزر ثلاثين ألفاً أو قالا: أكثر منها فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزمهم الله، وقتلوهم مقتلة لم يقتلها قوم قط، وبلغ ذلك الطاغية، وقد بلغه إقبال مسلمة بن عبد الملك بالجموع، فولى قافلاً إلى بلاده. وكان قتل الجراح سنة اثنتي عشرة ومئة.
ولما ولى ابن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي خراسان قال له: يا سعيد، اجعل حاجبك عاقلاً، فإنه وجهك ولسانك والمخبر عنك والمؤدي إليك، وعليك بعمال العزر. قال: وما عمال العزر؟ قال: من شاورت فيه العامة فأشاروا عليك به، فإنهم إن أحسنوا كان حسنهم لك، وإن أساؤوا اتسع العذر بينك وبينهم وبين الناس.
قال الأصمعي: دخل سعيد بن عمرو الحرشي على هشام، فأهوى إلى يده ليقبلها، فلما ولى قال: كنت أظن هذا أرجح مما هو. فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه لراجح، ولكنه كان بخراسان، وهذا من سنتهم.
سعيد بن عمرو بن جعدة
ابن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة القرشي المخزومي الكوفي حدث سعيد بن عمرو عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ليلة القدر فقال: أيكم يذكر ليلة الصهباوات؟ قال: فقال عبد الله: أنا بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وبيدي تمرات أتسحرهن وأنا مستتر من الفجر، حين طلع الفجر، وذلك ليلة سبع وعشرين إن شاء الله.(9/341)
وفي حديث آخر بمعناه: وذلك حين طلع القمير.
سعيد بن عمرو بن الزبير
ابن عمرو بن عمرو بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي الزبيري
ولي الشرطة بدمشق في إمارة العباس بن محمد الهاشمي، ثم دعاه أبو البختري وهب بن وهب إلى ولاية شرطة المدينة، ووهب بن وهب إذ ذاك يليها لهارون، فأبى ذلك عليه، فحلف وهب ليضربنه وليسجننه، ثم لا يرسله ما دام له سلطان، فقبل عمله، وأعطاه أبو البختري مئة دينار، وذلك بعد صلاة العصر، فانصرف سعيد بن عمرو إلى منزله، ومعه رسول أبي البختري بالمئة دينار، فلما صار إلى منزله قال له الرسول: خذ هذه الدنانير. قال: ضعها في تلك الكوة، فلما أصبح سعيد جلس في الرحبة، وأرسل إلى من يليه من فقهاء المدينة، وهم: أبو زيد محمد بن زيد الأنصاري، ومطرف بن عبد الله اليسارى، وعبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة ابن بنت الماجشون، فقال لهم: رزقني الأمير ثلاثين ديناراً، فأنا أقسمها بينكم، لكل رجل عشرة دنانير، وقد استخلفتك يا أبا زيد. فقال أبو زيد: إن عشرة دنانير لمستزاد لها، ولكني ضعيف عن أن أخلفك. وقال لعبد الملك: وأما أنت فقد استكتبتك فقال له عبد الملك: إن عشرة دنانير لكل شهر لمرغوبٌ فيها، ولكني ضعيف البصر، ولا يكون الكاتب ضعيف البصر. قال: وأما أنت يا مطرف فقد استعملتك على الطواف. وكان مطرف ضيقاً فقال: والله لو استعملتني على عملك ما قبلته، فكيف أعمل لك على الطواف؟ فقال: ما أنا بتارككم ولا معفيكم إلا أن أعفى من ولاية الشرط. فدخلوا على أبي البختري، فذكروا ذلك له، فلما جاءه كلمه في تركهم، فقال له سعيد: ليس لك أن تكرهني، وتمنعني من إكراههم، فقال له: ننظر في أمرك، ولا تعجل: فحلف له سعيد، فاجتهد أن لا يعمل له إلا أن يدعه يكره على العمل من رأى. فقال له: ضع سيفنا. فوضع السيف، وانصرف إلى منزله، وألحقه أبو البختري رسولاً فقال له: اردد مئة الدينار. فقال للرسول: أين كنت وضعتها؟ قال: في تلك(9/342)
الكوة. قال: فانظرها حيث وضعتها. فأخذها الرسول من الكوة. وذهب بها إلى أبي البختري، فقال في ذلك سعيد بن عمرو: من البسيط
أظن وهب بن وهبٍ أن أكون له ... لما تغطرس في سلطانه تبعا
سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، أبو عنبسة ويقال: أبو عثمان القرشي الأموي أمه أم حبيب بن حريث بن سليم، العدوية.
شهد وقعة راهط مع أبيه، وكان مع أبيه إذ غلب على دمشق. فلما قتل أبوه سيره عبد الملك مع أهل بيته إلى الحجاز، ثم سكن الكوفة، وكان له بها عقبٌ، ثم وفد على الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
حدث سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا أمة أمية، لا نكتب، ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا. يعني مرة تسعاً وعشرين ومرةً ثلاثين.
وحدث سعيد بن عمرو أنه سمع أباه يوم المرج يقول: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لولا أني سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله عز وجل سيمنع الدين بنصارى من ربيعة على ساحل الفرات. ما تركت عربياً إلا قتلته أو يسلم. " قال عوانة: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد، أدخل عليه بنو عمرو بن سعيد: أمية، ومحمد، وإسماعيل، وسعيد، فقال لهم: إنكم أهل بيت لم تزالوا ترون أن لكم الفضل على جميع قومكم، ولم يجعله الله لكم، إن الذي بيني وبين عمرو لم يكن حديثاً، بل كان قديماً في أنفس أوليتنا على أوليتكم في الجاهلية. قال: فانقطع أمية، وكان أكبرهم، وأجابه(9/343)
سعيد فقال: يا أمير المؤمنين، لم تنعى لنا أمراً كان في الجاهلية، وقد أتى الله بالإسلام، فوعد جنةً، وحذر ناراً. أما ما كان بيني وبين عمرو فأنت وهو أعلم، وقد وصل عمرو إلى الله، ولعمري لئن واخذتنا بما كان بينك وبين أبينا لبطن الأرض خيرٌ لنا من ظهورها. قال: فرق لهم، وقال: إن أباكم خيرني بين أن يقتلني أو أقتله، فاخترت قتله على قتلي، فأما أنتم فما أعرفني بحقكم وأوصلني لقرابتكم.
سعيد بن عمرو بن عمار
أبو عثمان الأزدي البرذعي الحافظ سمع بدمشق.
حدث عن يحيى بن عبدك بسنده عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يكبر في العبدين سبعاً في الأولى، وخمساً في الآخرة، سوى تكبير الافتتاح.
حدث حفص بن عمر الأردبيلي قال:
جلس سعيد بن عمرو البرذعي في منزله، وأغلق بابه، وقال: ما أحدث الناس، فإن الناس قد تغيروا، فاستعان عليه أصحاب الحديث بمحمد بن مسلم بن وارة الرازي، فدخل عليه، فسأله أن يحدثهم، فقال: ما أفعل. فقال: بحقي عليك إلا حدثتهم. فقال: وأي حقٍ لك علي؟ قال: أخذت ذات يوم بركابك. قال: قضيت حقاً لله عليك، وليس لك علي حق. قال: فإن قومك اغتابوك، فرددت عنك. قال: وهذا أيضاً يلزمك لجماعة المسلمين. قال: فإني عبرت بك يوماً في ضيعتك، فتعلقت بي إلى طعامك، فأدخلت على قلبك سروراً. فقال: أما هذا فنعم، فأجابه إلى ما أراد.(9/344)
سعيد بن عمرو بن مرة الجهني
حدث عن أبيه عمرو قال: كنا ذات يوم عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: من كان هاهنا من ولد معد فليقم، فقاموا، وقمت. فقال: اجلس يا عمرو مراراً، ثم قال: من كان هاهنا من اليمن فليقم، فقاموا، وجلست، فقال: يا عمرو، هم قومك فقم معهم.
سعيد بن عمر بن الفتح أبو الفتح
البغدادي الفقيه حدث سعيد بن عمر بن أبي سعيد أحمد بن سعيد بن عتيب الفارسي بسنده عن صهيب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثلاث فيهن البركة: البيع إلى أجل، والمعارضة، وإخلاط البر بالشعير للبيت لا للبيع.
سعيد بن علاقة أبو فاختة
مولى أم هانىء بنت أبي طالب. وقيل: مولى جعدة بن هبيرة المخزومي وجعدة هو ابن هانىء المخزومي حدث سعيد قال: عاد أبو موسى الأشعري الحسن بن علي. قال: فدخل علي فقال: أعائداً جئت يا أبا موسى أو زائراً؟ قال: فقال: يا أمير المؤمنين، لا، بل عائداً. فقال علي: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما عاد مسلم مسلماً إلا صلى عليه سبعون ألف ملكٍ من حين يصبح إلى حين يمسي، وجعل الله له خريفاً في الجنة، قال: فقلنا: يا أمير المؤمنين، وما الخريف؟ قال: الساقية التي تسقي النخل.
حدث سفيان بن عمرو قال: سمعت أبا فاختة سعيد بن علاقة يقول: سمعت ابن عباس يقول: يصوم المجاور المعتكف، فحكى الشعبي أن هشيماً يقوله عن عمرو عن أبي فاختة أن ابن عباس قال: لا اعتكاف إلا بصوم، فقال سفيان: أخطأ هشيم، هو كما قلت لك.(9/345)
قال أبو فاختة: وفدت مع الحسن والحسين إلى معاوية فأجازهما، فقبلا.
شهد أبو فاختة مشاهد علي. هلك في إمارة عبد الملك أو الوليد بن عبد الملك.
سعيد بن عياذ
من أهل عمان. وفد على عبد الملك بن مروان.
كان بنو عياذ سعيد سليمان وشعوة أيا فتنة ابن الزبير غلبوا على عمان، فكانوا يعشرون الناس، فأصابوا أموالاً كثيرة، فلما قتل ابن الزبير جمعوا ما أصابوا من الأموال، وتحصنوا في قرية بعمان، وهي قريبة من البحر، وهي في البحر. فلما قدم الحجاج العراق استعمل سورة بن أبجر على عمان، وكتب إليه أن ابعث إلى بني عياذ من يحصرهم، فبعث بديل بن طهفة البجلي، فحصرهم في السفن، فلم يكن يصل إليه أحد في البحر. فخلف سعيد وسليمان أخاهما في القلعة، وخرجا إلى عبد الملك، فصالحاه على سبع مئة ألف، على أن لهما ما في القلعة إن أدركاها ولم تفتح، وأنهما وجميع من في القلعة آمنون، وإن كنت القلعة قد فتحت فما فيها لعبد الملك، فأمنهم، وكتب لهما إلى الحجاج. فقدما والقلعة على حالها، فأديا المال، ولحقا بعبد الملك، وحمل إليه هدايا كثيرة وجوهراً سوى ما صالحاه عليه، وكان فيما حملا إليه طست من ذهب فيه شجرة من ياقوت وزمرد، فأعجب بها عبد الملك، وظن أن عندهما أموالاً كثيرة وجوهراً، فأراد أن يعتل عليهما فيأخذ الأموال، فقال لهما: بلغني أنكما كنتما تغصبان الناس، وتخيفان السبيل؟ قال سعيد: قد كنا نفعل، وكل ما أتيناك به فهو من غصب، فأعرض عنهما، وجعل الحجاج يكتب فيهما، ويحمله عليهما، فلما خافا أجمعا على الخروج، فقالا لعبد الملك: قد نفدت نفقاتنا، وعندنا جوهر، فمر صاحب بيت المال أن يأخذه ويسلفنا حاجتنا إلى أن يأتينا مالنا، فقد وجهنا رسولاً يأتينا بمال. فأمر عبد الملك صاحب بيت المال أن يفعل، فاحتالا لصاحب بيت المال فأخرجا له جوهراً، فقومه أصحاب الجوهر مئة ألف. فقالا: متاعنا خيرٌ من ذلك.(9/346)
فرد عليهما الجوهر، فقال سليمان لأخيه سعيد: يا أخي، مالنا يأتينا إلى أيام فنفتك متاعنا، فاقبل هذه المئة ألف، فإنما هي أيام يسيرة، فدفعوا إلى صاحب المال جوهراً خسيساً، ليست له قيمة، في كيس مثل الكيس الذي كان فيه الجوهر، فأخذه، ولم يفتشه، وظن أنه الأول، ولم ينكر منه شيئاً، وأعطاهما مئة ألف.
فخرجا من وجههما ذلك، وقد كانا فرغا من جهازهما، فاستأجرا أدلاء، وفقدهما عبد الملك بعد ثالثة، فسأل عنهما، فلم يحس لهما أثراً، فقال لصاحب بيت المال: انظر ما في يديك. فأخرجه، فإذا قيمته خمسة آلاف درهم، فكتب عبد الملك إلى الحجاج، وإلى أجناد الشام، وإلى إبراهيم بن عربي، وهو على اليمامة، يأمره بطلبهما، ولحقا بالأسياف، فخفي أمرهما، فلم يزالا مستخفيين حتى كانت فتنة ابن الأشعث، فقدما إلى عمان، فطردا عامل الحجاج، وغلبا على البلاد، فلما انقضت فتنة ابن الأشعث، وهرب فرجع إلى سجستان بعث الحجاج إلى عمان القاسم بن شعر المري، فقتله سليمان بن عياذ، فوجه الحجاج مجاع بن سعر، فظفر بعمان، فقتل أهلها وسباهم، وهرب سعيد وسليمان، فقتلا في بلاد العدو. وتحصن شعوة بن عياذ في تلك القلعة، فاتخذ مجاع مركباً، واتخذ على دقل المركب درجاً، وغشاه بجلود، ووضع فنزراً على رأس الدقل، وأدنى المركب من القلعة، والدقل مشرف على القلعة، وقال: من ينتدب فيصير على الفنزر، ويرامي أهل القلعة، وله دية؟ فانتدب الدني ورجلان معه، فتعصب بجزيرة، فصاروا في الفنزر، فرامى أهل القلعة، ورماهم أهل القلعة فقتل من الثلاثة رجلٌ، وانقصف الدقل أسفل الفنزر بثلاثة أذرع، فسقطوا في البحر، فغرق المقتول وصاحبه ونجا الدني الذي كان شد رأسه بجزيرة، فطفا الدني بالجزيرة التي على رأسه جعلت ترفعه حتى لحقوه بالقوارب، فأخرجوه، فطلب شعوة الأمان، فنزل على حكم عبد الملك، فقتله مجاع حين أخذه.(9/347)
سعيد بن عيسى القرشي
كان يسكن دمشق.
حدث عن جدته أم الربيع عن أمها: أنها سألت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن العلك للصائم قال: فنهتني، وأمرتني، بالسواك.
وفي حديث آخر بهذا السند أنها سمعت أم حبيبة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: " لا يمضغ العلك الصائم ".
سعيد بن غنيم أبو شيبة الكلاعي
الحمصي والد عنبسة بن سعيد.
حدث عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
لا تقوم الساعة حتى يجعل كتاب الله عاراً، ويكون الإسلام غريباً، وحتى ينقض العلم، ويهرم الزمان، وينقص عمر البشر، وتنقص السنون والثمرات، ويؤتمن التهماء، ويصدق الكاذب، ويكذب الصادق، ويكثر الهرج، قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل القتل، وحتى تبنى الغرف فتطاول، وحتى تحزن ذوات الأولاد، وتفرح العواقر، ويظهر البغي والحسد والشح، ويغيض العلم غيضاً، ويفيض الجهل فيضاً، ويكون الولد غيظاً، والشتاء قيظاً، وحتى يجهز بالفحشاء، وتزول الأرض زوالاً.
وقع في بعض النسخ: سعيد بن عثيم بعين مهملة وثاء مثلثة، وصوابه: ابن غنيم بغين معجمة ونون، والله أعلم.
/(9/348)
سعيد بن الفضل بن ثابت أبو عثمان البصري القرشي، مولاهم.
سكن دمشق ثم رجع إلى البصرة حدث عن حميد عن أنس بن مالك قال: كنا إذا رفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من الركوع لم ينحدر أحد منا للسجود حتى نرى جبهة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأرض.
وحدث عن ابن هلال عن سيار الشعبي عن عبد الله بن عباس قال: إن الله عزّ وجلّ أخرج من آدم ذريته كالذرّ في آذيّ الماء.
قال هشام: الآذيّ: الموج الشديد.
وحدث عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين قال: من قبلتم شهادته فاقبلوا علمه.
وحدث عن عاصم الأحول: رأى ابن سيرين توضأ وحرك خاتمه.
وحدث عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ويل للعرفاء، ويل للعرفاء، ويل للأمراء، ويل للأمراء، ليوّدن أقوام يوم القيامة لو أنهم كانوا معلقين بذوائبهم في الثريا، يذبذب بهم بين السماء والأرض، وأنهم لم يلوا من أمر الناس شيئاً، أو قال: لم يلوا من أمر الأمة شيئاً ".
وثقه قوم، وقال آخرون: ليس بالقوي، منكر الحديث.(10/5)
سعيد بن كيسان
أبو سعيد بن أبي سعيد المقبري مولى بني ليث من أهل المدينة، قدم الشام مرابطاً، وحدث ببيروت من ساحل دمشق.
حدث عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمرت أن أقاتل الناس حتى لا يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزّ وجلّ " وحدث عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما عندك يا ثمامة بن أثال؟ فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كان بعد الغد ثم قال له: ما عندك يا ثمامة؟ قال: ما قلت لك: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد إن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، يا محمد، والله ما كان على وجه الأرض أبغض علي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي. والله ما كان من دين أبغض علي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي، ووالله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد إلي. وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبأت؟! قال: لا، ولكن أسلمت محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا والله يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث سعيد بن أبي سعيد عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسيل علي لعابها، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله قد جعل لكل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث، والولد للفراش، والعاهر للحجر، ألا(10/6)
لا يتولين رجل غير مواليه، ولا يدعى إلى غير أبيه، فمن فعل ذلك فعليه لعنة الله متتابعة إلى يوم القيامة، ألا لا تنفق امرأة من بيت زوجها إلا بأذن زوجها، فقال رجل: ومن الطعام يا رسول الله؟ قال: وهل أفضل أموالنا إلا الطعام؟ ألا إن العارية مؤداة، والمنحة مردودة، الدين مقضي، والزعيم غارم " وحدث سعيد عن بن أبي سعيد المقبري قال:
جئت إلى عبد الله بن عمر وهو يناجي رجل، فظننت إنه يحدثه، فأدخلت رأسي بينهما، فصك في صدري، فدهشت وضحكت، فقال: مجنون أنت؟ قال: قلت ظننت إنك تحدثه بحديث، فقال ابن عمر: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان اثنان يتناجيان فلا تدخل بينهما " قال هشام بن عمار: قلت لابن المقبري: ممن أنتم؟ قال: من بني ليث من كنانة، قلت: فلم سميتم المقبري؟ قال: بما ترى. وأشار إلى المقبرة بجوارها.
كان سعيد بن أبي سعيد مولى بني ليث قد كبر حتى اختلط قبل موته بأربع سنين، ومات في أول خلافة هشام بن عبد الملك سنة ثلاث وعشرين ومئة، وكان ثقة، كثير الحديث.
وكان أبو سعيد كيسان مكاتباً لامرأة من بني ليث.
قال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سعيداً المقبري بعدما كبر يقول: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما أسفل الكعبين من الإزار في النار.
قال أبو معشر: كان سعيد المقبري ربما أنشد الشعر، ويمزح بالشيء ويقول: هو أبل اللسان.
وقيل: توفي سعيد بن أبي سعيد سنة سبع وعشرة ومئة، وقيل: خمس وعشرين، وقيل: سنة ست وعشرين.(10/7)
سعيد بن محمد بن الحسن
ابن القاسم بن إدريس أبو القاسم المروروذي الإدريسي سكن صور، وكان إمام جامعها، وسمع بدمشق.
حدث بصور عن أبي الحسن علي بن محمد بن شداد القزويني بسنده عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يضر هذا الأمر من ناوأه حتى يقوم اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش " وحدث عن أبي الحسن علي بن محمد الطرازي بسنده عن ابن أبي جعفر قال: كنت جالساً عند سويد بن مقرن فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قتل دون ماله فهو شهيد ".
وحدث عن الأكفاني بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:؛ " ألا أخبركم دور الأنصار؟ دار بني النجار، ثم دار بني الأشهل، ثم دار بني الحارث بن الخزرج، ثم دار بني ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير " وحدث أبو القاسم سعيد بن محمد عن أحمد بن علي بن الحسن الكسائي بسنده عن الحسن قال: " لا تشتر مودة ألف رجل بعداوة رجل واحد " قال هارون: قدم علي ابن المبارك فجاء إليّ وهو على الرحل، فسألني عن هذا الحديث فحدثته، فقال: ما وضعت رحلي من مرو إلا لهذا الحديث.
توفي سعيد بن محمد الإدريسي بصور سنة تسع وخمسين وأربع مئة.
سعيد بن محمد أبو الفرج
ختن ابن المصري حدث عن أبي عثمان سعيد بن عبد العزيز الحلبي بسنده عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلف أبي بكر في ثوب واحد.(10/8)
سعيد بن مسبِّح
ويقال مسجح أبو عيسى القرشي الأسود المكي مولى بني جمح، ويقال: مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، ويقال: مولى بني مخزوم، المغني أستاذ عبيد بن سريج في الغناء، وفد على عبد الملك بن مروان.
قال دحمان الأشقر: كنت عاملا لعبد الملك بن مروان بمكة فرفع إلي رجلاً أسود يقال له ابن مسجح قد أفسد فتيان قريش، وأنفقوا عليه أموالهم، فكتبت بذلك إلى عبد الملك بن مروان، فكتب إلي أن أقبض ماله، وسيره إليّ، ففعلت. وتوجه ابن مسجح إلى الشام فصحبه رجل له جوار مغنيات في الطريق، فقال له: أين تريد؟ فأخبره خبره، وقال له: أريد الشام، قال له: فتكون معي؟ قال: نعم، فصحبه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا: من أخص الناس بأمير المؤمنين؟ فقالوا: هؤلاء النفر من قريش وبني عمه، فوقف ابن مسجح عليهم وسلم ثم قال: يا فتيان، هل فيكم من يضيف رجلاً غريباً من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض وكان عليهم موعداً أن يذهبوا إلى قينة يقال لها برق الأفق فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمم فقال له: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم، وأنا أذهب مع ضيفي، قالوا: بل تجيء معنا أنت وضيفك، فذهبوا جميعاً إلى بيت القينة، فلما أتوا بالغداء قال لهم سعيد: إني أرى رجل أسود ولعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس وأكل ناحية، وقام فاستحيوا منه وبعثوا إليه بما أكل، وأخرجوا جاريتين، فجلستا على سرير قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء ودخلتا، وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة وهما معها، فجلستا أسفل السرير عن يمنية وشماله، وجلست هي على السرير، قال ابن مسجح: فتمثلت هذه البيت الطويل:
فقلتُ أشمسٌ أم مصابيح بيعةٍ ... بدت لك خلف السّجف أم أنتَ حالمُ(10/9)
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب مثل هذا الأسود لي الأمثال؟ فنظروا إلي نظراً كثيراً، ولم يزالوا يسكنونها، ثم غنت صوتاً، قال ابن مسجح: فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها، وقال أمثل هذا الأسود يقدم على جاريتي؟ فقال لي الرجل الذي أنزلني عنده: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت لأقوم فتذمم القوم وقالوا لي: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنت فقلت: أخطأت والله يا زانية، وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا أبو عثمان سعيد بن مسجح فقلت: أني والله أنا هو، والله لأقيم عندكم، فوثب القرشيون، فقال هذا يكون عندي، وقال هذا: لا بل يكون عندي، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم " أعني الرجل الذي أنزلني منهم " وسألوه عما أقدمه، فأخبرهم الخبر، فقال له صاحبه: أني أسمر الليلة مع أمير المؤمنين، فهل تحسن أن تحدو؟ فال: لا والله، ولكني أصنع حداء، قال له: فإن منزلي بحذاء منزل أمير المؤمنين، فإذا وافقت منه طيب نفس أرسلت إليك، ومضى إلى عبد الملك، فلما رآه طيب النفس أرسل إلى ابن مسجح فأخرج رأسه من وراء شرف القصر ثم حدا الرجز:
إنك يا معاذ يا بن الفضل ... إن زلزل الأقوام لم تزلزل
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميّل
للحق حتى ينتهوا للأعدل
فقال عبد الملك للقرشي: من هذا؟ قال: رجل حجازي قدم عليّ، قال: أحضره فأحضره، فقال له أحد فحدا، ثم قال له: هل تغني غناء الركبان؟ قال: نعم قال: غنّه فغنى، فقال له: هل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: غنّه، فتغنى فاهتز عبد الملك طرباً، ثم قال له: أقسم أنك لك في القوم اسماً كبيراً من أنت ويلك، قال: أنا المظلوم المقبوض ماله، المسير من وطنه سعيد بن المسجح، قبض مالي عامل الحجاز ونفاني، فتبسم عبد الملك ثم قال قد وضح عذر فتيان قريش في أن ينفقوا عليه أموالهم، وأمنه ووصله، وكتب إلى عامله برد ماله، وألا يعرض به بسوء، فعاد إلى ماله ووطنه.(10/10)
سعيد بن مسلمة بن أمية بن هشام
ابن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية ويقال: سعيد بن مسلمة بن هشام، أبو عبد الملك الأموي حدث عن إسماعيل بن أمية بسنده عن أبان بن عثمان.
أنه رأى جنازة مقبلة، فلما رآها قام وقال: رأيت عثمان يفعل ذلك، وأخبرني أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
حدث سعيد بن مسلمة عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر قال: دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عن يمينه، وعمر عن شماله فقال: " هكذا نبعث يوم القيامة " قال أبو عبد الله بن غالب: قدم علينا سعيد بن مسلمة فحدثنا بكتاب إسماعيل بن أمية فقلت: يا أبا عبد الملك، فأين حديث إسماعيل بن أميه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فذكرت الحديث فقال لنا: قد محا الرافضة أو الشيعة من كتابي أحاديث، فقلت: إن عليا النسائي حدثني عنك عن إسماعيل بن أميه، فذكرت له الحديث، فقال: هكذا حدثناه إسماعيل كما حدثكم عليّ النسائي.
سئل يحيى بن معين عن سعيد بن مسلمة الأموي فقال: ليس بشيء.
وقال البخاري: هو منكر الحديث فيه نظر.
سعيد بن مسلم بن بانك
أبو مصعب المدني وروى عن عمر بن عبد العزيز.
حدث عن عبادل بسنده عن أبي رافع قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتشل كتفاً ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ.(10/11)
وحدث سعيد بن مسلم بن عامر بن عبد الله بن الزبير بسنده عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً " قال سعيد بن مسلم: فحدثت بهذا الحديث عامر بن هشام فقال لي: ويحك يا سعيد بن مسلم، لقد حدثني سليمان بن المغيرة أنه عمل ذنباً فاستصغره فأتاه آت في منامه فقال له: يا سليمان من الكامل:
لا تحقرن من الذنوب صغيراً ... إن الصغير غداً يعود كبيرا
إن الصغير وقد تقادم عهده ... عند الله مسطر تسطيرا
فازجر هواك عن البطالة لا تكن ... صعب القياد وشمرن تشميرا
إن المحبّ إذا أحبّ إلهه ... طار الفؤاد وألهم التفكيرا
فاسأل هدايتك الإله بنيّة ... فكفى بربك هاديا ونصيراً
قال سعيد بن مسلم: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول وهو خليفة: إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس نفرض له.
بانك: أوله باء معجمه بوحدة وألف ونون.
كان سعيد صالحاً ثقة.
سعيد بن منصور بن شعبة
أبو عثمان الخراساني سكن مكة، وسمع بدمشق.
حدث عن إسماعيل بن زكريا بسنده عن علي: أن العباس سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تعجيل صدقنه قبل محلها فرخص له.(10/12)
توفي أبو عثمان بمكة سنة سبع وعشرين ومئتين. وقيل: توفي سنة ست وعشرين ومئتين.
سعيد بن مهران بن داود
أبو عثمان الكردي الحنبلي سمع بدمشق.
حدث عن أبي عبد الله الحسين بن عثمان اليبرودي بسنده عن أبي عبد الله بن محمد بن حنبل قال:
القدر خيره وشره، وقليله وكثيره، ظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وأخره من الله، قضاء قضاه على عباده، وقدر قدره عليهم، لا يعدو أحد منهم مشيئة الله ولا يجاوز قضاه، بل كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قدر عليهم، وهو عدل منه عز ربنا وجل، والزنا والسرقة شرب الخمر وقتل النفس وأكل المال الحرام والشرك بالله والمعاصي كلها بقضاء من الله عزّ وجلّ وقدر من غير أن يكون لأحد من الخلق على الله حجة، بل لله الحجة البالغة على خلقه، " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " علم الله ماض في خلقه بمشيئة منه، قد علم من إبليس ومن غيره ممن عصاه من لدن أن يعصى الله إلى أن تقوم الساعة المعصية وخلقهم لها، وعلم الطاعة من أهل الطاعة وخلقهم لها، وكل يعمل لما خلق له وصائر إلى ما قضي عليه، وعلم منه، لا يعدو أحد منهم قدر الله ومشيئته، والله الفاعل لما يريد الفعال لما يشاء، ومن زعم أن الله شاء لعباده الذين عصوه الجنة والطاعة، وأن العباد شاؤوا لأنفسهم الشر والمعصية فعملوا على مشيئتهم فقد زعم أن الزنا ليس بقدر قيل له: أنت رأيت هذه المرأة حملت من الزنا وجاءت بولدها، إن شاء الله أن يخلق هذه الولد وهل مضى في سابق علمه؟ فإن قال: لا فقد زعم أن مع الله خالقاً وهذا الشرك صراحاً، ومن زعم أن السرقة وشرب الخمر وأكل مال الحرام ليس بقضاء وقدر فقد زعم أن هذا الإنسان قادر أن يأكل رزق غيره وهذا(10/13)
صراح قول المجوسية، بل أكل رزقه وقضى الله أن يأكل من الوجه الذي أكله، ومن زعم أن قتل النفس ليس بقدر من الله فقد زعم أن المقتول مات بغير أجله، وأي كفر أوضح من هذا؟ بل ذلك بقضاء الله ومشيئته في خلقه وتدبيره فيهم، وما جرى من سابق علمه فيهم، وهو العدل الحق الذي يفعل ما يريد، ومن أقر بالعلم لزمه الإقرار بالقدر والمشيئة على الغضب والرضا، ولا يشهد على أحد من أهل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن يكون في حديث كما جاء على ما روي بصدقه، ويعلم أنه كما جاء، ولا يشهد على أحد أنه في الجنة بعمل صالح، ولا بخير أتاه إلا أن يكون في ذلك حديث كما جاء على ما روي لا بنص الشهادة، وعذاب القبر الحق، يسأل العبد عن دينه ونبيه وعن الجنة والنار، ومنكر ونكير حق، وهما فتانا القبر، نسأل الله الثبات، وحوض محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق ترده أمته، وله آنية يشربون بها منه، والصراط حق يوضع على سواء جهنم ويمر الناس عليه، والجنة من وراء ذلك نسأل الله السلامة، والميزان حق توزن به الحسنات والسيئات كما شاء الله أن توزن، والصور حق ينفخ فيه إسرافيل فيموت الخلق، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون لرب العالمين للحساب والقضاء، والثواب والعقاب، والجنة والنار، واللوح المحفوظ تستنسخ منه أعمال العباد لما سبق فيه من المقادير والقضاء، والقلم حق كتب الله به مقادير كل شيء وأحصاه في الذكر، والشفاعة يوم القيامة حق يشفع قوم في قوم، فلا يصيرون إلى النار، ويخرج قوم من النار بعدما دخلوها بشفاعة الشافعين، ويبقى فيها ما شاء الله ثم يخرجهم من النار، وقوم يخلدون فيها أبداً، وهم أهل الشرك والتكذيب والجحود والكفر بالله، ويذبح الموت يوم القيامة بين الجنة والنار، وقد خلقت الجنة وما فيها، وخلقت النار وما فيها، خلقهما الله وخلق الخلق لهما، ولا تفنيان ولا يفنى ما فيهما أبداً، فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله تعالى: " كل شيء هالك إلا وجهه " وبنحو متشابه القرآن قيل له: كل شيء مما كتب عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، ولم يكتب عليهما الموت فمن قال خلاف هذا فهو مبتدع وقد ضل السبيل.(10/14)
سعيد بن نمران بن نمران الهمداني
ثم الناعي شهد اليرموك، وكان في الجيش الذي أمد به أهل القادسية، وكان كاتباً لعلي بن أبي طالب، وقدم به على معاوية مع حجر بن عدي، فشفع فيه حمرة بن مالك الهمداني فخلى سبيله.
حدث عن أبي بكر رضي الله عنه: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) قال: هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.
كان سعيد بن نمران من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام وضمه إلى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب حين ولاه اليمن، وكان ابنه مسافر بن سعيد من أصحاب المختار.
ولما كان أيام ابن الزبير أراد مصعب أن يولي سعيد بن نمران قضاء الكوفة فكتب إليه عبد الله بن الزبير ألا توليه فإنه من أصحاب ابن أبي طالب، وولى عبد الله بن الزبير عبد الله بن عتبة بن مسعود.
سعيد بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية كان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدباً لسعيد هشام بن عبد الملك فبعث به يوماً، فدخل سعيد على هشام فوقف بين يديه ثم انشأ يقول من الرمل:
إنه والله لولا أنت لم ... ينج مني سالماً عبد الصمد
فقال هشام: ولم ذلك؟ فقال سعيد:
إنه قد رام مني خطة ... لم يرمها قبله مني أحد(10/15)
فقال هشام: وما رام؟ قال سعيد:
رام جهلاً بي وجهلاً بأبي ... يولج العصفور في خيس الأسد
فقال هشام: لا ولا كرامة.
سعيد بن يحيى بن صالح
أبو يحيى المعروف بسعدان سكن دمشق وحدث بها.
حدث سعيد بن يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير قال: كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبصرنا القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عزّ وجلّ كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس أو غروبها فافعلوا، ثم قرأ جرير " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " يعني صلاة العصر.
سعيد بن يربوع ين عنكثة
ابن عامر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، أبو الحكم ويقال: أبو هود، ويقال: أبو يربوع، ويقال: أبو مرة، القرشي المخزومي صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويقال لسعيد صرم، أمه بنت سعيد، بن سهم بن عمرو بن كعب.
حدث عن عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن الصرم عن جده عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " أيّما أكبر أنا أو أنت؟ قال: أنت أكبر مني وخير مني، وأنا أقدم سناً، وسماه سعيداً " وقال الصرم وقد ذهب.
قال سعيد: كان اسمي الصرم فسماني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعيداً.
أسلم سعيد بن يربوع يوم فتح مكة، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنيناً، وأعطاه سيدنا(10/16)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين خمسين بعيراً، وكان سعيد أصيب في بصره فجاءه عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى منزله فعزاه بذهاب بصره وقال: لا تدع الجمعة ولا الصلاة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليس لي قائد، قال: فنحن نبعث إليك بقائد، فبعث إليه بغلام من السبي. وتوفي سعيد بالمدينة سنة أربع وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وقيل بمكة. وكان يوم توفي ابن مئة وعشرين سنة.
سعيد بن يزيد بن معيوف الحجوري
حدث عن عمرو بن هاشم البيروتي بسنده عن كعب بن مال.
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا صلى على الميت قال: " اللهم أغفر لأولنا وآخرنا، وحينا وميتنا، وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم، من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان.
وكان سعيد بن يزيد ثقة، وكان من الأبدال.
حدث عن عبد العظيم بن حبيب بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
سعيد بن يزيد القرشي
حدث عن سليمان بن موسى عن عبيد بن جريح أنه رأى ابن عمر يخضب بالصفرة، ويخبر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يخضب بها.
قال: وروى سعيد بن أبي سعيد المقبري هذا الحديث بعينه أتم من هذا: حدث سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبيد بن جريح أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: وما هي يا بن جريح؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة(10/17)
أهلّ الناس إذا رأوا الهلال ولم تهلّ أنت حتى يكون يوم التروية! فقال ابن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستلم إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها، وأما الصفرة فأني رأيت رس الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبغ بها، وأما الهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث بها راحلته.
سعيد بن يوسف الرحبي
الأظهر أنه حمصي، وقيل: أنه صنعاني، من صنعاء دمشق.
حدث سعيد بن يوسف عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ساووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحد لفضلت النساء " وفي رواية أخرى: " فلو كنت مؤثراً أحد على أحد لآثرت النساء على الرجال " وحدث عن عبد الله بن بسر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ليس مني ذو حسد ولا نميمة ولا كهانة ولا أنا منه "، ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية " والذين يؤذون المؤمنين المؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا "
سعيد مولى نمران
حدث عن مولى ليزيد بن نمران عن يزيد بن نمران قال: رأيت بتبوك رجلاً مقعداً، فسألت عن إقعاده فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي فمررت بين يديه فقال: قطع صلاتنا قطع الله أثره، قال: فأقعدت.(10/18)
السفر بن إسماعيل بن سهل
ابن بشر بن مالك بن الأخطل التغلبي الشاعر قال السفر: حضرنا مالك بن طوق في وقت علة أصابته عندنا بدمشق فأنشأ يقول: من الوافر
وليس من الرَّزيّة فقد مال ... ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرَّزيّة فقد شخص ... يموت لموته ناس كثير
سفيان بن الأبرد بن أبي إمامة
ابن قابوس أبو يحيى الكلبي من بني جبار كان له سوق الصياقلة بدمشق قطيعة، وداره بدمشق بجيرون، وكان بدمشق يوم خطب الضحاك بن قيس ودعا إلى بيعة ابن الزبير، وكان هوى سفيان وحسان بن مالك مع بني أمية، وكان مع عبد الملك حين حاصر عمرو من سعيد.
حدث رجاء بن حيوة أن عبد الملك بن مروان قضى في أم ولد توفي عنها سيدها، فنكحت بعده في عدتها قبل أن تعتد عدة الحرة المتوفى عنها زوجها، فدخل بها زوجها التي تزوجته في عدتها، فقضى عبد الملك أن يفرق بينها وبين فتعتد عدتها في سيدها الذي توفي عنها، فعتقت بوفاته ثم تعتد عدتها من زوجها الآخر الذي نكحها في عدتها ويكون لها مهرها بما استحل منها ثم يفرق بينهما فلا يجتمعان أبداً.
قال رجاء: وأمرني عبد الملك أنا وروح بن زنباع أن نجلد كل واحد منهما أربعين جلدة ففعلنا، قال رجاء ثم أرسلني إلى قبيصة بن ذؤيب فأخبرته بقضاء أمير المؤمنين عبد الملك فيهما فقال قبيصة: قد أصاب أمير المؤمنين القضاء، غير أنني وددت لو أنه خفف من الجلد، فقلت لقبيصة: فكم كنت ترى أن يجلدا؟ قال: كنت أرى أن يجلد كل واحد منهما عشرين سوطاً، قال محمد: وكان سفيان بن الأبرد هو أفتى أم الولد وزوجها، وهو أمرهم يومئذ بأن تزوج قبل أن تعتد أربعة اشهر وعشراً فرد عليه عبد الملك، وقضى بما ذكرناه.(10/19)
لما غزا يزيد بن معاوية القسطنطينية كان معه سفيان بن الأبرد الكلبي وحميد بن حريث بن بحدل الكلبي، فرأى بعض أبواب القسطنطينية لا يغلق ليلاً ولا نهاراً فسأل في ذلك فقيل له: إنما تركته الروم مفتوحاً لعزهم في أنفسهم وأنهم لا يخافون أحداً يدخل عليه منه، فقال: إن أصبحت صالحاً ليغلقنه أو لأدخلن عليهم منه، وقال لسفيان وحميد؛ شدّا لي إذا شددت من ظهري، فلما أصبح شد بينهما قاصداً الباب فشد بطريق من بطارقة الروم على سفيان فطعنه فصرعه، وشد حميد على البطريق فطعنه فخر ميتاً، واتبع يزيد حتى إذا قرب من الباب أغلقته الروم فطعنه يزيد. وقد قيل: أن حميداَ كان الطاعن ثم انصرفا، فقال يزيد: خالي خالي يعني سفيان. فلما انتهى إليه نزل فوضع رأسه في حجره وقال: علي بالمتطبب فأتي به فنظر إلى الطعنة التي بسفيان فقال: ابغوني شحماً فأبطئ به عليه فقال: شقوا بطن البطريق فأخرجوا من شحمه ففعل ذلك وأتى بشيء من شحم بطنه، فأدخله في طعنة سفيان ثم خاطها فبرأ سفيان ولم يولد له. قيل إن سفيان بن الأبرد مات في أيام عبد الملك بن مروان سنة أربع وثمانين، أو سنة خمس وثمانين.
سفيان بن سلمون السفياني
حدث أبو معاوية قال: حدَّثنا سفيان بن سلمون السفياني الدمشقي قال: حدَّثنا زهير بن عباد عن شريك بن خماشة.
أنه ذهب يستقي من جب سليمان النبي في مسجد بيت المقدس، فانقطع دلوه، فنزل في الجب فبينا هو يطلبه في نواحي الجب إذ هو بشجرة، فتناول ورقة من الشجرة فأخرجها معه، فإذ هي ليست من ورق شجر الدنيا، فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أشهد إن هذا لهو الحق. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يدخل رجل من هذه الأمة الجنة قبل موته " فجعلوا الورقة بين دفتي المصحف. هكذا روي عن ابن خماشة: بالميم والخاء، قال: والصواب حباشة، بالحاء والباء(10/20)
وسفيان بن سلمون هذا هو
سفيان بن شعيب بن مسلم الذي يأتي بعد هذا. وهو أبو معاوية. وقوله: حدَّثنا بين أبي معاوية وبين سفيان مزيده، ولا شك أنه مسلماً كان يقال له سلمون فنسب إلى جده.
سفيان بن شعيب بن مسلم
ابن شعيب بن مسلم ويقال: سفيان بن شعيب بن مسلم بن شعيب بن عبد الرحمن بن سويد، أبو معاوية من موالي يزيد بن أبي سفيان.
حدَّث سفيان بن شعيب عن محمد بن عثمان بسنده عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الربع مما في أيدي القوم في البداءه وفي الرجعة الثلث بعد الخمس.
وحدَّث أيضاً عن جده بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، كما أمركم الله عزّ وجلّ ".
مات سفيان بن شعيب سنة خمس وسبعين ومئتين.
سفيان بن عاصم بن عبد العزيز
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية كان عند عمه عمر بن عبد العزيز في حجره.
حدَّث سفيان بن عاصم قال: شهدت عمر بن عبد العزيز قال لمولاة له: إني أراك ستلين حنوطي فلا تجعلي فيه مسكاً.
وحدَّث أيضاً قال: أوصى عمر بن عبد العزيز إذا حضر أن يوجه إلى القبلة على شقه الأيمن.
قال سفيان بن عاصم: أمر عمر بن عبد العزيز أن يقبض مني شيء كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعة بين عثمان بن(10/21)
عفان والزبير، فصار حق الزبير لعبد الله وصار حق عثمان صدقه عثمان، فكانت هذه مما قبض عبد الملك من أموال الزبير بعد مقتله فقطعه لسفيان بن عاصم فلما ولي عمر بن عبد العزيز قبضها منه فردها علي بني عبد الله بن الزبير فقال له سفيان: يعطيني القوم وتأخذ أنت مالي؟! قال عمر: ما تتهمني وما أتهم نفسي عليك إنك لابن أخي وإن ابنتي لتحتك، ولكني خير لك ممن أعطاكها، أخرجتك من الإثم ورددت الحق إلى أهله، فلما وليها يزيد بن عبد الملك ردها على سفيان وقال: أنا خير لك من عمك، قبضها منك ورددتها عليك.
سفيان بن عوف بن المغفل
ابن عوف بن عمير بن كلب بن ذهل بن سيار بن والبة بن الدول بن سعد مناة ين غامد واسمه عمرو بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله ابن مالك بن نصر ين الأزد، الأزدي الغامدي.
استعمله معاوية على الصوائف، وكان مع أبي عبيدة بن الجراح بالشام حين افتتحت.
حدث سفيان بن عوف قال:
بعثني أبو عبيدة بن الجراح ليلة غدا من حمص إلى أرض دمشق، فقال: أنت عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وأبلغه مني السلام وأخبره بما قد رأيت وعانيت، وبما قد حدَّثتنا العيون وبما استقر عندك من كثرة العدو والذي رأى المسلمون من الرأي من التنحي، وكتب معه إليه: بسم الله الرحمن. وذكر الكتاب. قال سفيان بن عوف: فلما أتيت عمر فسلمت عليه، قال: أخبرني بخبر الناس، فأخبرته بصلاحهم، ودفع الله عزّ وجلّ عنهم، قال: فأخذ الكتاب فقال لي: ويحك ما فعل المسلمون؟ فقلت: أصلحك الله خرجت من عندهم ليلاً بحمص وتركتهم وهم يقولون: نصلي الصبح ونرتحل إلى دمشق، وقد أجمع رأيهم على ذلك. قال: فكأنه كرهه ورأيت ذلك في وجهه وقال لي: وما رجوعهم عن عدوهم وقد أظفرهم الله بهم في غير موطن! وما تركهم أرضاَ قد حووها وفتحها الله عليهم وصارت في أيديهم؟! أني لأخاف أن يكونوا قد أساؤوا الرأي وجاءوا بالعجز، وجرؤوا عليهم العدو قال: فقلت له: إن الشاهد يرى مالا يرى الغائب، إن صاحب الروم قد جمع لنا جموعاً لم يجمعها هو ولا أحد كان قبله لأحد كان قبلنا، ولقد جاء بعض عيوننا إلى عسكر واحد من(10/22)
عساكرهم، أمر بالعسكر في أصل الجبل فهبطوا من الثنية نصف النهار فما تكاملوا فيها حتى أمسوا، ثم تكاملوا حين ذهب أول الليل، هذا عسكر واحد من عساكرهم فما ظنك بمن بقي؟ قال عمر: لولا أني ربما كرهت الشيء من أمرهم يصنعونه فإذا الله يخير لهم في عواقبه، لكان هذا رأي أنا له كاره، أخبرني أجمع رأي جماعتهم على التحول؟ قال: قلت: نعم قال: فإن الله إن شاء الله لم يكن يجمع رأيهم إلا على ما هو خير لهم.
حدث العتبي عن أبيه قال: جاشت الروم وغزوا المسلمين براً وبحراً، فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فلما كتب عهده قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: اتخذه إماماً لا أعصيه، قال: أردد علي عهدي قال: أتعزلني بعد أن وليتني قبل أن تخبرني؟ أما والله ولو كنا ببطن مكة على السواء ما فعلت هذا. قال: لو كنا ببطن مكة على السواء كنت أنا معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية وكنت عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان منزلي بالأبطح حيث ينشق عنه الوادي، وكان منزلك بأجياد أسفله عذرة وأعلاه مدرة، ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فكتب له عهده ثم قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: اتخذه إماماً ما أم الحرم فإذا خالفه خالفته، فقال معاوية: هذا والله الذي لا يكفكف من عجلة، ولا يدفع في ظهره من بطء، ولا يضرب على الأمر ضرب الجمل الثقال، قال فخرج فاحتضر، فاستعمل على الناس عبد الله بن مسعود الفزاري، فقال: يا بن مسعود، إن فتحاً كبيراً وغنماً عظيماً أن ترجع بالناس لم ينكبوا ولم ينكوا فاقحم بالناس فنكب، فقال شاعر أهل الشام: الطويل
أقم يا بن مسعود قناة قويمة ... كما كان سفيان بن عوف يقيمها
سم يا بن مسعود مدائن قيصر ... كما كان سفيان بن عوف يسومها
فلما رجع دخل على معاوية فقال:
أقم يا مسعود قناة قويمة ... كما كان سفيان بن عوف يقيمها
فقال: يا أمير المؤمنين، إن عذري في ذلك أني ضمت إلى رجل لا يضمّ(10/23)
إلى مثله الرجال، فقال معاوية: إن من فضلك عندي معرفتك من هو أفضل منك.
حدث بعض المشايخ قال: كنا مع سفيان بن عوف الغامدي شاتين بأرض الروم، فلما ضفّنا دعا سفيان الخيول، فاختار ثلاثة آلاف، فأغار بنا على باب الذهب حتى فرغ أهل القسطنطينية وضربوا بنواقيسهم ثم لقونا فقال: ما شأنكم يا معشر العرب؟ وما جاء بكم؟ قلنا: لنخرب مدينة الكفر ويخربها الله على أيدينا، فقالوا: ما ندري أخطأتم الحساب، أم كذب الكتاب، أم استعجلتم القدر، والله إنا لنعلم أنها ستفتح يوماً ولكنا لا نرى هذا زمانها.
قال يحيى بن يحيى الغساني: إن سفيان بن عوف كان تثنى له وسادة فما يقوم حتى يحمل على ألف قارح.
قال محمد بن عمر الواقدي:
إن سفيان ساح في أرض العدو حتى بلغ الزنداق واسمه بالرومية خازقاً، فأدرك سفيان أجله، فلما ثقل قال للناس: إني لمآبي، فأقيموا علي ثلاثة أيام، فأقاموها عليه فمات في اليوم الثالث، وقد أوصى من استخلف وقال: ادخلوا علي الأمراء الأجناد والأشراف من كل جند، فوقعت عينيه على عبد الرحمن بن مسعود الفزاري فقال: أدن مني يا أخا فزارة ففعل فقال له: إنك لمن أبعد العرب مني نسباً، ولكني قد أعلم أن لك نية حسنة وعفافاً، وقد استخلفتك على الناس، فاتق الله يجعل لك من أمرك مخرجاً، وأرد للمسلمين السلامة، واعلم أن قوماً على مثل حالكم يفقدوا أميرهم إلا اختلفوا لفقده، وانتشر عليهم أمرهم، وإن كان كثيراً عددهم، فظاهر جلدهم، إن فتحاً على المسلمين كبيراً أن تقفل بهم ولم يكملوا، ثم مات. فتكت عليه العرب جميعاً حتى كأنه كان لهم ولداً، فلما بلغ معاوية وفاته كتب إلى أمصار المسلمين وأجناد العرب ينعاه لهم، فبكي عليه في كل مسجد، وقام عبد الرحمن بن مسعود بالأمر بعده، قال: فكان معاوية إذا رأى في الصوائف خللاً قال: وأسفياناه ولا سفيان لي. وقيل: إن سفيان كان لا يجيز في العرض رجلاً إلا بفرس ورمح(10/24)
ومخصف ومسلة وبرنس وخيوط كتان ومخلاة ومبضع ونقود وسكة حديد.
توفي سفيان بن عوف الأزدي شاتياً بالروم سنة اثنتين وخمسين، وقيل: توفي سنة أربع وخمسين، وقيل: قتل بأرض الروم سنة خمس وخمسين، وقول من قال إنه مات أصح.
سفيان بن مجيب وقيل نفير
ابن مجيب الأزدي له صحبة. وسفيان أصح، كان على إمرة بعلبك من قبل معاوية وقيل: سفيان بن بخيت، وسفيان بن مجيب هو الصحيح.
حدث الحجاج بن عبد الله الشمالي وكان رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو حج معه حجة الوداع أن سفيان بن مجيب حدثه وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقدمائهم أن في جهنم سبعين ألف واد، في كل واد سبعون ألف شعب، في كل شعب سبعون ألف دار، في كل دار سبعون ألف بيت، في كل بيت سبعون ألف شق، في كل شق سبعون ألف ثعبان، في كل ثعبان سبعون ألف عقرب لا ينتهي الكافر والمنافق حتى يواقع ذلك.
سفيان بن وهب أبو أيمن الخولاني
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد خطبة عمر رضي الله عنه بالجابية، وسكن مصر وغزا المغرب.
حدث سفيان بن وهب الخولاني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تأتي المئة إلا وعلى ظهرها أحد باق " قال: فحدثت به عبد الرحمن بن حجيرة، فقام، فدخل على عبد العزيز بن مروان فحدثه، فحمل سفيان، محمولاً، وهو شيخ كبير، فسأله عبد العزيز فحدثه، فقال: فلعله يعني أنه لا يبقي أحد مما كان معه إلى رأس المئة، فقال سفيان: هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(10/25)
وحدث سفيان بن وهب أنه لما كان تحت ظل راحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حجة الوداع، أو أن رجلاً حدثه ذلك ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كور، فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل بلغت؟ فظننا أنه يريدنا فقلنا: نعم ثم أعاده ثلاث مرات، وقال فيما يقول: روحه في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وغدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وإن المؤمن عرضة وماله ونفسه، حرمته كما حرم هذا اليوم.
وعن سفيان بن وهب الخولاني قال:
كنت مع عمر بن الخطاب بالشام، فأتاه أهل ذمتها فقالوا: إنك كلفتنا وفرضت علينا أن نرزق المسلمين العسل، ولا نجد، فقال عمر: أن المسلمين إذا دخلوا أرضاً فاستوطنوا فيها أشتد عليهم أن يشربوا الماء القراح فلا بد مما يصلحهم فقالوا: إن عندنا شراباً نصنعه من العنب شبة العسل فقال عمر: فأتوني به، فأتوه فجعل يرفعه بإصبعه فيمتد كهيئة العسل فقال عمر: فإن هذا يشبه طلاء الإبل. قال: فأتوا بماء، قال: فأتوه بماء، فصب عليه الماء فشرب وشرب أصحابه فقال عمر: ما أطيب هذا، فارزقوا منه المسلمين. فمكث ما شاء الله أن يمكث، فإذا رجل قد خدر منه، فقام إليه المسلمون، فضربوه بنعالهم وقالوا: سكران سكران فقال الرجل: لا تقتلوني، والله ما شربت إلا الذي رزقنا منه عمر، فأتوه به عمر فقال الرجل: والله ما شربت إلا الذي رزقنا به عمر، فقام عمر بين ظهراني الناس فقال: أيها الناس إنما أنا بشر ولست أحل حراماً ولا أحرم حلالاً، وإن الله قد قبض نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورفع الوحي ثم قال: إني أبرأ إلى الله من هذا؛ أن أحلّ لكم حراماً فاتركوه، فأني أخاف أن يدخل الناس فيه دخولاً فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " كل مسكر حرام " ثم كان عثمان فمنعه.
حدث سفيان بن وهب عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل إليه بطعام مع خضرة فيها بصل أو كراث فلم ير فيه أثر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأبى أن يأكله، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما منعك أن تأكل؟ قال: لم أر أثرك فيه يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " استحي من ملائكة الله وليس بمحرَّم " وعن سفيان بن وهب قال: خضرت عمر بن الخطاب حين أتى بالطلاء بالجابية، قال: فكأني أنظر إليه حين جمع أصابعه فأدخلها في الإناء ثم رفعها، فلما رآه لا يسقط قال: لا بأس بهذا.(10/26)
سفيان بن وهب الخولاني من بني جعل، يكنى أبا أيمن، وفد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. شهد الفتح بمصر، وولي الإمرة لعبد العزيز بن مروان على بعث الطالعة إلى إفريقية سنة ثمان وسبعين، شهد حجة الوداع مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتوفي سنة اثنتين وثمانين.
سفيان الهذلي ويقال الدائلي
والد النضر بن سفيان أدرك أول الإسلام.
حدث سفيان الهذلي قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كنا بين الزرقاء ومعان قد عرّسنا من أول الليل إذا بفارس يقول: أيها النيام، هبوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد وطردت الجنّ كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة جرارة، كلهم قد سمع هذا فرجعنا إلى أهلينا، فإذا هم يذكرون اختلافاً بمكة بين قريش، بنيّ خرج فيهم من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
سلطان بن يحيى بن علي
ابن عبد العزيز بن علي بن الحسين بن محمد " ويكنى محمد بأبي الحسين " بن عبد الرحمن ابن الوليد أبو المكارم بن أبي الفضل بن أبي الحسن بن أبي محمد القرشي القاضي.
سمع بدمشق وببغداد، وكان حسن الصوت يتعانى الوعظ حدث بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عزّ وجلّ يقول: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها خلا الصوم، فالصوم لي وأنا أجزي به، وللصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة إذا لقي الله، والصوم جنة من النار، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " توفي في دمشق سنة ثلاثين وخمس مئة.(10/27)
سلمان ابن الإسلام أبو عبد الله الفارسي
سابق أهل فارس إلى الإسلام صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخدمه وقدم دمشق غازياً ومرابطاً.
حدث سلمان قال: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الجراد فقال: أكثر جنود الله لا آكله ولا أحرّمه.
وعن القاسم أبي عبد الرحمن أنه قال:
زارنا سلمان الفارسي فصلى الإمام الظهر، ثم خرج وخرج الناس يتلقونه كما يتلقى الخليفة، فلقيناه وقد صلى بأصحابه العصر، وهو يمشي، فوقفنا نسلم عليه، فلم يبق فينا شريف إلا عرض عليه أن ينزل به، فقال: أني جعلت نفسي مرتي هذه أن أنزل على بشير بن سعد، فلما قدم سأل عن أبي الدرداء فقالوا: هو مرابط، فقال: وأين مرابطكم؟ فقالوا: في بيروت، فتوجه قبله، فقال لهم سلمان: يا أهل بيروت، ألا أحدثكم حديثاً يذهب الله به عنكم غرض الرباط؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من عذاب القبر، وجرى له صالح ما كان يعمل إلى يوم القيامة ".
كان سلمان الفارسي من أهل رامهرمز من أهل أصبهان من قرية يقال لها جيّ، وكان أبوه دهقان (أرضه، وكان على المجوسية، ثم لحق بالنصارى ورغب عن المجوس ثم صار إلى المدينة وكان عبداً لرجل من يهود، فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً المدينة أتاه سلمان فأسلم، وكاتب مولاه اليهودي فأعانه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى عتق، وتوفي في ولاية عثمان رحمة الله عليه بالمدائ.
قيل: إنه مات سنة ست وثلاثين، وأول مشاهده الخندق، وكان قبل إسلامه يقرأ الكتب، ويطلب الدين، وكان اسم سلمان ما به بن يوذخشان بن مورسلا بن بهبوذان بن(10/28)
فيروز بن شهرك من ولد آب الملك، عاش مئتين وخمسين سنة، ويقال أكثر. وقيل: إنه أدرك وصيّ عيسى عليه السلام.
ولم يزل بالمدينة حتى غزا المسلمون العراق، فخرج معهم وحضر فتح المدائن، ونزلها حتى مات بها، وقبره ظاهر معروف بقرب إيوان كسرى، وعليه بناء، وهناك خادم مقيم لحفظ الموضع وعمارته والنظر في أمر مصالح.
قال ابن مأكولا: هو سلمان الخي.
قال سلمان الفارس: كنت رجلاً من أهل جيّ وكان أهل جيّ يعبدون الخيل البلق، فكنت أعرف أنهم ليسوا على شيء، فقيل لي: إن الدين الذي تطلب هو قبل المغرب فخرجت حتى أتيت أداني أرض الموصل، فسألت عن أعلم أهلها فدللت على رجل في قبة " أو في صومعة " فأتيته فقلت: أني رجل من أهل المشرق وقد جئت في طلب الخير، فإن رأيت أن أصحبك وأخدمك تعلمني مما علمك الله، قال: نعم، فصحبته فأجرى علي مثل الذي يجري عليه من الحبوب والخل والزيت، فصحبته ما شاء الله أن أصحبه، ثم نزل به الموت. فلما نزل به الموت جلستند رأسه أبكي قال: ما يبكيك؟ قلت: انقطعت عن بلادي في طلب الخير فرزقني الله صحبتك فأحسنت صحبتي وعلمتني ما علمك الله، وقد نزل بك الموت، فلا أدري أين أذهب؟ قال: بلى، أخ لي بمكان كذا وكذا فأته فأقرئه مني السلام وأخبره أني أوصيت بك إليه وأصحبه فإنه على حق.(10/29)
فلما هلك الرجل خرجت حتى أتيت الذي وصف لي. قلت: إن فلاناً أخاك يقرئك السلام، قال: وعليه السلام، ما فعل؟ قلت: هلك، وقصصت عليه قصتي، ثم أخبرته أنه أمرني بصحبته، فقبلني وأحسن صحبتي، وأجرى علي مثل ما كان يجري علي عند الآخر، فلما نزل به الموت جلست عند رأسه أبكيه، فقال: ما يبكيك؟ فقلت: أقبلت من بلادي فرزقني الله صحبة فلان، فأحسن صحبتي وعلمني مما علمه الله. فلما نزل به الموت أوصى بي إليك فأحسنت صحبتي وعلمتني ما علمك الله، وقد نزل بك الموت فلا أدري أين أتوجه؟ قال: بلى، لي أخ على درب الروم ائته فأقرئه مني السلام وأخبره أني أمرتك بصحبته، فاصحبه فإنه على الحق.
فلما هلك الرجل خرجت حتى أتيت الذي وصف لي فقلت: إن فلاناً أخاك يقرئك السلام. قال: ما فعل؟ قلت هلك، وقصصت عليه قصتي، وأخبرته أنه أمرني بصحبتك، فقبلني وأحسن صحبتي، وعلمني مما علمه الله، فلما نزل به الموت جلست عند رأسه أبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقصصت عليه قصتي ثم قلت: رزقني الله صحبتك وقد نزل لك الموت فلا أدري إلى أين أذهب؟ قال: لا أين، إنه لم يبق على دين عيسى عليه السلام أحد من الناس أعرفه، ولكن هذا أوان " أو زمان " مخرج نبي، ويخرج " أو قد يكون خرج " بأرض تهامة فالزم قبتي وسل من مر بك من التجار " وكان ممر تجار أهل الحجاز عليه إذا دخلوا الروم " وسل من قدم عليك من أهل الحجاز: هل خرج فيكم أحد تنبأ؟ فإذا أخبروك أنه قد خرج فيهم رجل فأته، فإنه الذي بشر به عيسى عليه السلام، وآيته أن بين كتفيه خاتم النبوة، وأنه يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. قال: فقبض الرجل. ولزمت مكاني لا يمر بي أحد إلا سألته من أي بلاد أنتم؟ حتى مر بي ناس من أهل مكة فسألتهم من أي بلاد أنتم؟ قالوا من الحجاز، قلت هل خرج فيكم أحد يزعم إنه نبي قالوا: نعم قلت هل لكم إلا أن أكون عبداً لبعضكم على أن يحملني عقبة ويطعمني كسرة حتى يقدم بي مكة، فإذا قدم بي مكة فإن شاء باع وإن شاء أمسك؟ قال رجلاً من القوم: أنا، فصرت عبداً له، فجعل يحملني عقبة، ويطعمني كسرة حتى قدمت مكة.
فلما قدمت مكة جعلني في بستان له مع حبشان فخرجت حرجة، فطفت بمكة، فإذا امرأة من أهل بلادي فسألتها فكلمتها فإذا مواليها وأهل بيتها قد أسلموا كلهم، فسألتها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يجلس في الحجر إذا صاح عصفور مكة مع أصحابه حتى إذا أضاء له الفجر تفرقوا. قال: فرجعت اختلف ليلتي كراهية أن يفتقدني أصحابي، قالوا: مالك؟ قلت: اشتكي بطني. فلما كانت الساعة التي أخبرتني أنه يجلس فيها أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو محتب في الحجر وأصحابه بين يديه، فجئته من خلفه فعرف الذي أريد، فأرسل حبوته فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه، فقلت في نفسي الله أكبر، هذه واحدة.
فلما كان في الليلة المقبلة صنعت مثلما صنعت في الليلة التي قبلها لا ينكرني(10/30)
أصحابي، فجمعت شيئاً من تمر، فلما كانت الساعة التي جلس فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتيته، فوضعت التمر بين يديه، فقال: ما هذا؟ قلت: صدقة، قال لأصحابه: كلوا ولم يمد يده. قلت في نفسي: الله أكبر هذه اثنتان. فلما كان في الليلة الثالثة جمعت شيئاً من تمر ثم جئت في الساعة التي يجلس فيها فوضعته بين يديه قال: ما هذا؟ قلت: هدية، فأكل وأكل القوم. قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فسألني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قصتي فأخبرته، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انطلق فاشتر نفسك. فأتيت صاحبي فقلت: بعني نفسي قال: نعم أبيعك نفسك بأن تغرس لي مئة نخلة إذا نبتت وتبين نباتها، وثبتت وتبين ثباتها جئتني بوزن نواة، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، قال: فأعطه الذي سألك وجئني بدلو من ماء البئر الذي يسقي " أو تسقي " به ذلك النخل. قال: فانطلقت إلى الرجل فابتعت نفسي منه، فشرطت له الذي سألني، وجئت بدلو من ماء البئر الذي يسقي به ذلك النخل به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه، فانطلقت فغرست به ذلك النخل، فوالله ما غدرت منه نخلة واحدة. فلما تبين نبات النخل " أو ثبات النخل " فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوزن نواة من ذهب فأعطانيها، فذهبت بها إلى الرجل فوضعها في كفة الميزان ووضع نواة في الجانب الآخر، فوالله ما قلت من الأرض، فأتيت بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لو كنت شرطت له وزن كذا وكذا لرجحت تلك القطعة عليه " قال: فانطلقت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت معه.
قال سلمان الفارسي:
كنت فيمن ولد برامهرمز، وبها نشأت، وأما أبي فمن أصبهان، وكانت أمي لها غنى وعيش، فأسلمتني أمي إلى الكتاب، فكنت أنطلق مع غلمان من قريتنا إلى أن دنا مني فراغ من كتاب الفارسية، ولم يكن في الغلمان أكبر مني ولا أطول، وكان ثم جبل فيه كهف في طريقنا، فمررت ذات يوم وحدي، فإذا أنا فيه برجل طويل عليه ثياب شعر، ونعلان من شعر، فأشار إلي فدنوت منه، فقال: يا غلام، تعرف عيسى بن مريم؟ فقلت: لا، ولا سمعت به، قال: أتدري من عيسى بن مريم؟ هو رسول الله، آمن بعيسى، إنه(10/31)
رسول الله، وبرسول يأتي من بعده اسمه أحمد، أخرجه الله من غم الدنيا إلى روح الآخرة ونعيمها. قلت: ما نعيم الآخرة؟ قال: نعيمها لا يفنى، فلما قال إنها لا تفنى، فرأيت الحلاوة النور يخرج من شفتيه، فعلقه فؤادي، ففارقت أصحابي، وقلت: لا أذهب ولا أجيء إلا وحدي، وكانت أمي ترسلني إلى الكتاب، فأنقطع دونه، وكان أول من علمني شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن عيسى بن مريم رسول الله، ومحمد بعده رسول الله، والإيمان بالبعث بعد الموت، فأعطيته ذلك، وعلمني القيام في الصلاة، وكان يقول: إذا قمت في الصلاة فاستقبل القبلة فإن احتوشتك النار فلا تلتفت، وإن دعتك أمك وأبوك في صلاة الفريضة فلا تلتفت إلا أن يدعوك رسول من رسل الله، وإن دعاك وكنت في فريضة فاقطعها، فإنه لا يدعوك إلا بوحي من الله. وأمرني بطول القنوت، وزعم أن عيسى عليه السلام قال: طول القنوت الأمان على الصراط، وأمرني بطول السجود، وزعم أن طول السجود الأمان من عذاب القبر. وقال: لا تكذبنّ مازحاً ولا جاداً حتى يسلّم عليك ملائكة الله أجمعين. وقال: لا تعصين في طمع ولا عنت، حتى لا تحجب عن الجنة طرفة عين. ثم قال: إذا أدركت محمداً الذي يخرج من جبال تهامة فآمن به، واقرأ عليه السلام مني. وذكر إسلامه بطوله.
ومن حديث آخر مختصراً أن رجلين من أهل الكوفة كانا صديقين لزيد بن صوحان أتياه أن يكلم لهما سلمان أن يحدثهما بحديثه كيف كان أول إسلامه، فأتوا سلمان وهو على المدائن أمير، فإذا هو على كرسي قاعد وبين يديه خوص يسفه فقال سلمان: كنت يتيماً في رامهرمز، وكان ابن دهقان من رامهرمز يختلف إلى معلم يعلمه، فلزمته، وكان لي أخ أكبر مني، وكان مستغنياً في نفسه، وكنت غلاماً فقيراً، وكان إذا قام من مجلسه تفرق من يحفظه، فإذا تفرقوا خرج فتقبع في ثوبه ثم يصعد الجبل، فقلت: لم لا تذهب بي معك؟ قال: أنت غلام، وأخاف أن يظهر منك شيء. قال: قلت لا تخف، قال: في هذا الجبل قوم في برطيل، لهم(10/32)
عبادة، يذكرون الله والآخرة، ويزعمون أنّا عبدة النيران وعبدة الأوثان وأنا على غير دين فقلت: فاذهب بي معك إليهم، قال: حتى أستأمرهم، وأنا أخاف أن يظهر من ذلك شيء، فيعلم أبي، فيجري هلاكهم على يدي. قال: قلت لن يظهر من ذلك شيء، فاستأمرهم، فانتهينا إليهم، فإذا هم في برطيلهم وهم ستة أو سبعة، وكأن الروح قد خرجت منهم من العبادة، يصومون النهار، ويقومون الليل، يأكلون من الشجر وما وجدوا. فقعدنا إليهم، فتكلموا، فحمدوا الله وأثنوا عليه، وذكروا من مضى من الرسل والأنبياء، حتى خلصوا إلى عيسى بن مريم فقالوا: ولد لغير ذكر، وبعثه الله رسولاً، وسخر له ما كان يفعل من إحياء الموتى، وخلق الطير، وإبراء الأعمى والأبرص، فكفر به قوم، وتبعه قوم، وإنما كان عبد الله ورسوله ابتلى به خلقه، قال: فقالوا له قبل ذلك: يا غلام إن لك رباً، وإن لك معاداً، وإن بين يديك جنة ونار إليها تصير، وإن هؤلاء القوم الذين يعبدون النيران أهل كفر وضلالة لا يرضى الله بما يصنعون وليسوا على دين.
ثم انصرفنا، وغدونا إليهم، فقالوا مثل ذلك وأحسن ولزمتهم، فقالوا لي: يا سلمان، إنك غلام، وإنك لا تستطيع أن تصنع ما نصنع، فصل ونم وكل واشرب، قال: فاطلع الملك على صنيع ابنه، فركب الخيل حتى أتاهم في برطيلهم، فقال: يا هؤلاء، قد جاورتموني فأحسنت جواركم ولم تروا مني سوءاً، فعمدتم إلى ابني، فأفسدتموه عليّ، وقد أجلتكم ثلاثاً، فإن قدرت عليكم بعد ثلاث أحرقت عليكم برطيلكم هذا، فالحقوا ببلادكم، فإني أكره أن يكون مني إليكم سوء، قالوا: نعم، ما أردنا مساءتك، ولا أردنا إلا الخير، فكف أبنه عن إتيانهم، فقلت له: اتق الله، فإنك تعرف أن هذا الدين دين الله، وأن أباك ونحن على غير دين، قال: يا سلمان، هو كما تقول، وإنما أتخلف عن القوم بقياً عليهم، ثم لقيت أخي فعرضت عليه، فقال: أنا مشتغل بنفسي في طلب المعيشة. فأتيهم في اليوم الذي أرادوا أن يرتحلوا فيه، فقلت: ما أنا بمفارقكم، قالوا: إنك لا تقدر أن تكون معنا، نحن نصوم النهار، ونقوم الليل، ونأكل الشجر وما أصبنا، وأنت لا تستطيع ذلك قال: قلت: لا أفارقكم، قالوا: أنت أعلم، وإذا أبيت فاطلب حذاء يكون معك، واحمل معك شيئاً تأكله، فإنك لن تستطيع ما نستطيع نحن، قال: ففعلت.(10/33)
وقدمنا الموصل، فأتينا بيعة الموصل، فلما دخلوا حفّوا بهم، وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا في بلاد لا يذكرون الله، بها عبدة نيران، فطردونا فقدمنا عليكم.
فلما كان بعد قالوا: يا سلمان، إن ها هنا قوماَ في هذه الجبال هم أهل دين، وإنا نريد لقاءهم، فكن أنت ها هنا، فقلت: ما أنا بمفارقكم، فخرجوا، وأنا معهم، فأصبحنا بين جبال، وإذا صخرة وماء كثير وخير كثير، فقعدنا تحت الصخرة، فلما طلعت الشمس خرجوا من بين تلك الجبال، خرج كل رجل من مكانه كأن الأرواح انتزعت منهم، فرحبوا بهم، وقالوا: أين كنتم؟ قالوا: كنا في بلاد لا تذكر الله، فيها عبدة للنيران، وكنا نعبد الله فيها فطردونا، فقالوا: ما هذا الغلام؟ فطفقوا يثنون عليّ، قال: فإنهم لكذلك إذا طلع عليهم رجل من الكهف، رجل طوال فجاء حتى سلم، وجلس، فحفوا به وعظموه وأحدقوا به، فقال لهم: أين كنتم؟ فأخبروه، قال: ما هذا الغلام معكم؟ فأثنوا عليّ خيراً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر من أرسل الله من رسله وأنبيائه، وما لقوا وما صنع بهم، حتى ذكر مولد عيسى بن مريم وأنه ولد لغير ذكر، فبعثه الله رسولاً، وأجرى على يديه إحياء الموتى، وإبراء الأعمى والأبرص، وأنه يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً بأذن الله، وأنزل عليه الإنجيل، وعلمه التوراة، وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل، فكفر به قوم، وآمن به قوم، وذكر بعض ما لقي عيسى، وأنه لما كان عبداً أنعم عليه، فشكر ذلك، ورضي الله عنه، حتى قبضه الله، وهو يعظهم. ويقول: اتقوا الله وألزموا ما جاء به عيسى، ولا تخالفوا فيخالف بكم. ثم قال: من أراد أن يأخذ من هذا شيئاً فليأخذ. فجعل الرجل يقوم فيأخذ الحرّة من الماء والطعام والشيء، فقام أصحابي الذين جئت معهم، فسلموا عليه، وعظموه، فقال لهم: ألزموا هذا الدين وإياكم أن تفرقوا، واستوصوا بهذا الغلام خيراً، فقال لي: يا غلام، هذا دين الله الذي تسمعني أقوله، وما سواه كفر. قال: قلت: ما أفارقك. قال: إنك لا تستطيع أن تكون معي، لأني لا أخرج من كهفي هذا إلا كل يوم أحد، وأقبل علي أصحابي وقالوا: يا غلام لا تستطيع أن تكون معه، قلت: ما أنا بمفارقك، فبكى أصحابي الأولون الذين كنت معهم عند فراقهم إياي، فقال: خذ من هذا الطعام ما ترى أنه يكفيك إلى الأحد الآخر، وخذ(10/34)
من هذا الماء ما تكتفي به، ففعلت. وتفرقوا، وذهب كل إنسان على مكانه، وتبعته حتى دخل الكهف في الجبل وانفتل وقال: ضع ما معك وكل واشرب، وقام يصلي فقمت خلفه أصلي فانفتل إليّ وقال: إنك لا تستطيع هذا، ولكن صل ونم وكل واشرب، ففعلت، فما رأيته نائماً ولا طاعماً إلا راكعاً ساجداً إلى الأحد الآخر، فلما أصبحنا قال: خذ جرتك هذه وانطلق، فخرجت معه حتى انتهينا إلى الصخرة، وإذا هم قد خرجوا من تلك الجبال، فقعدوا، وعاد في حديثه نحو المرة الأولى، وإذا خبز كثير وماء، فأخذوا، وتفرقوا في تلك الجبال، ورجع إلى كهف فرجعت معه، فلبثنا كذلك إلى ما شاء الله، فخرج في أحد. فلما اجتمعوا حمد الله، ووعظهم، وقال مثل ما كان يقول لهم ثم قال لهم آخر ذلك: أني كبر سني ورق عظمي، واقترب أجلي، وإنه لا عهد لي بهذا البيت منذ كذا وكذا ولا بد لي من إتيانه، فاستوصوا بهذا الغلام خيراً. قال: فجزع القوم وقالوا: أنت كبير، وأنت وحدك، ولا نأمن أن يصيبك الشيء، قال: لا تراجعوني، لا بد من إتيانه. قال: قلت: ما أنا بمفارقك. قال: يا سلمان، قد رأيت حالي وما كنت عليه، أنا أمشي وأصوم النهار وأقوم الليل، ولا أستطيع أن أحمل معي زاداً ولا غيره، ولا تقدر أنت على هذا، قلت: ما أنا بمفارقك. قال: فبكوا وودعوه.
فخرج، وخرجت معه، وقال لي: احمل معك من هذا الخبز شيئاً تأكله، فمشى واتبعته، يذكر الله ولا يلتفت، ولا يقف على شيء، حتى إذا أمسى قال: يا سلمان، صل أنت ونم وكل واشرب، ثم قام هو يصلي إلى أن انتهى إلى بيت المقدس، وكان لا يرفع طرفه إلى السماء إذا مشى حتى انتهينا إلى بيت المقدس، وإذا على الباب مقعد، قال: يا عبد الله، قد ترى حالي، فتصدق عليّ بشيء، فلم يلتفت إليه، ودخل المسجد، ودخلت معه فجعل يتبع أمكنة من المسجد يصلي فيها، ثم قال: يا سلمان، إني لم أنم منذ كذا وكذا، فإن أنت جعلت لي أن توقظني إذا بلغ الظل مكان كذا وكذا نمت، فإني أحب أن أنام في هذا المسجد، وإلا لم أنم، فقلت: إني أفعل. فنام، فقلت في نفسي: هذا لم ينم منذ كذا وكذا، وقد رأيت بعض ذلك، لأدعنّه ينام حتى يشتفي من النوم، وكان فيما يمشي وأنا معه يقبل علي فيعظني، ويخبرني أن لي ربّا، وأن بين يديّ جنة وناراً وحساباً، ويعلمني ويذكرني نحو ما كان يذكر القوم يوم الأحد حتى قال فيما يقول لي: يا سلمان، إن الله سوف يبعث رسولاً اسمه أحمد يخرج بتهامة، وكان رجلاً أعجمياً لا يحسن أن يقول تهامة(10/35)
ولا محمد، علامته أنه يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم، وهذا زمانه الذي يخرج فيه قد تقارب، وأما أنا فأني شيخ كبير ولا أحسبني أدركه، فإن أدركته أنت فصدقه واتبعه، قلت: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه. قال وإن أمرك، فإن الحق بما يجيء به ورضي الرحمن فيما قال. قال: فلم يمض إلا يسير حتى استيقظ فزعاً يذكر الله، فقال: يا سلمان، مضى الفيء من هذا المكان ولم أذكر الله، أين ما جعلت على نفسك؟ قلت: أخبرتني إنك لم تنم منذ كذا وكذا، ورأيت بعض ذلك، فأحببت أن تشتفي من النوم، فحمد الله وقام.
فخرج وتبعته فمر بالمقعد فقال المقعد: يا عبد الله، دخلت فسألتك فلم تعطني. وخرجت فسألتك فلم تعطني، فقام ينظر هل يرى أحداً فلم يره، فدنا منه فقال: ناولني يدك فناوله فقال: قم بسم الله، فقام كأنه نشط من عقال، صحيحاً لا عيب به، فخلى عن يده، فانطلق ذاهباً، وكان لا يلوي على أحد، ولا يقوم عليه، فقال لي المقعد: يا غلام، احمل علي ثيابي حتى أنطلق وأبشر أهلي، فحملت عليه ثيابه، وانطلق لا يلوي على أحد، فخرجت في أثره أطلبه، وكلما سألت عنه قالوا أمامك، حتى لقيني ركب من كلب فسألتهم. فلما سمعوا لغتي أناخ رجل بعيره، فحملني خلفه حتى أتوا بي بلادهم، فباعوني، فاشترتني امرأة من الأنصار فجعلتني في حائط لها. وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرت به، فأخذت شيئاًً من تمر حائطي فجعلته على يدي ثم أتيته، فوجدت عنده أناساً، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا؟ قلت: صدقة، قال للقوم: كلوا، ولم يأكل هو، ثم لبثت ما شاء الله، ثم أخذت مثل ذلك وأتيته، فوجدت عنده أناساً، وإذا أبو بكر أقرب القوم منه، فوضعته بين يديه، فقال: ما هذا قلت هدية. قال: بسم الله، فأكل وأكل القوم، قال: قلت في نفسي: هذه من آياته، كان صاحبي رجلاً أعجمياً فلم يحسن يقول تهامة فقال: تهمة، وقال: أحمد، فدرت خلفه ففطن لي فأرخى ثوبه، فإذا الخاتم في ناحية كتفه الأيسر، فتبينته، ثم درت حتى(10/36)
جلست بين يديه، فقلت: اشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: من أنت؟ قلت: مملوك فحدثته حديثي وحديث الرجل الذي كنت معه، وما أمرني به، قال: لمن أنت؟ قلت: لامرأة من الأنصار جعلتني حائطاً لها، قال: يا أبا بكر، قال: لبيك قال: اشتره. قال: فاشتراني أبو بكر، فأعتقني. فلبثت ما شاء الله أن ألبث، ثم أتيته، فسلمت عليه، وقعدت بين يديه فقلت: يا رسول الله، ما تقول في النصارى؟ قال: لا خير فيهم ولا في دينهم. فدخلني أمر عظيم، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت معه، ورأيت ما رأيت ثم رأيت أخذ بيده المقعد، فأقامه الله على يديه لا خير في هؤلاء ولا في دينهم، فانصرفت وفي نفسي ما شاء الله عزّ وجلّ، فأنزل الله عزّ وجلّ على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ذلك أن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون " إلى أخر القصة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: علي بسلمان، فأتاني الرسول، فدعاني وأنا خائف، فجئت فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم " ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون " إلى آخر الآية، فقال: يا سلمان، أولئك الذين كنت معهم وصاحبك لم يكونوا نصارى إنما كانوا مسلمين، فقلت: يا رسول الله، فوالذي بعثك بالحق لهو الذي أمرني باتباعك، فقلت له: وإن أمرني بترك دينك وما أنت عليه فأتركه؟ قال: نعم، فاتركه، فإن الحق وما يحبّ الله فيما يأمرك.
وفي حديث أخر: وكان ليهود فاشتراه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكذا وكذا درهماً، وعلى أن يغرس نخلاً، فيعمل بها سلمان حتى تطعم، فغرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النخل إلا نخلة واحدة غرسها عمر فحملت النخل من عامها ولم تحمل نخلة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما شأن هذه؟ قال عمر: يا رسول الله، أنا غرستها قال: فنزعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم غرسها فحملت من عامها.
وعن سلمان الفارسي أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أملى الكتاب على علي بن أبي طالب: هذا ما فادى محمد بن عبد الله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي ثم القرظي بغرس ثلاث مئة نخلة وأربعين أوقية ذهباً، فقد برئ محمد بن عبد الله رسول الله لثمن الفارسي، وولاؤه لمحمد بن عبد الله رسول الله وأهل بيته، وليس(10/37)
لأحد على سلمان سبيل. شهد على ذلك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وحذيفة بن اليمان، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، بلال مولى أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وكتب علي بن أبي طالب يوم الاثنين في جمادي الأولى مهاجر محمد بن عبد الله رسول الله.
وعن سلمان الفارسي قال: تداولني بضعة عشر من رب إلى ربّ وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سابق ولد آدم، وسلمان سابق أهل فارس " وعن سلمان قال:
جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيينة بن بدر والأقرع بن حابس وذووهم فقالوا: يا رسول الله، إنك لو جلست في صدر المجلس ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم، يعنون أبا ذر وسلمان وفقراء المسلمين " وكانت عليهم جباب صوف، ولم يكن عليهم غيرها " جلسنا إليك، وحادثناك، وأخذنا عنك، فأنزل الله عزّ وجلّ " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " إلى قوله " اعتدنا للظالمين ناراً " يتهددهم بالنار، فقام نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات.
وعن الكلبي قال: قال عيينة بن حصن: ما يمنعني من مجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ريح سلمان تؤذيني قال: فنزلت " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " ونزلت " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " إلى قوله تعالى: " وكان أمره فرطاً " يعني عيينة بن حصن.(10/38)
وعن الربيع قال: كان رجال يسعون إلى مجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم بلال وصهيب وسلمان، فيجيء أشراف قومهم وساداتهم، وقد أخذ هؤلاء المجلس فيجلسون إليه، فقالوا: صهيب رومي، وسلمان فارسي، وبلال حبشي يجلسون عنده، ونحن نجيء ونجلس ناحية، فذكروا ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: إنا سادة قومك وأشرافهم، فلو أدنيتنا منك إذا جئنا، فهم أن يفعل فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني قوله عزّ وجلّ: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم ".
وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذه الرجل فما بال هؤلاء فقام إليه معاذ بن جبل فأخذ تلبيبه، ثم أتى به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره مقالته، فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجر رداءه حتى دخل المسجد، ثم نودي الصلاة جامعة، وقال: أيها الناس، إن الربّ واحد والأب أبّ واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي، فقام معاذ بن جبل وهو آخذ بتلبيبه قال: فما تأمرنا بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: دعه، إلى النار، فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل.
وعن أبي هريرة قال: تخطّى سلمان الفارسي رضي الله عنه حلقة قريش وهم عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلسه، فالتفت إليه رجل منهم فقال: ما حسبك ونسبك، وبم اجترأت أن تتخطى حلقة قريش؟! قال: فنظر إليه سلمان الفارسي فأرسل عينيه وبكى وقال: سألتني عن حسبي ونسبي، خلقت من نطفة قذرة، فأما اليوم ففكرة وعبرة، وغداً جيفة منتنة، فإذا نشرت الدوافن، ونصبت الموازين، ودعي الناس لفصل القضاء فوضعت في الميزان فإن أرجح الميزان فأنا شريف كريم، وإن أنقص الميزان فأنا اللئيم الذليل، فهذا حسبي وحسب الجميع، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق سلمان، صدق سلمان، صدق سلمان، من أراد أن ينظر إلى رجل نوّر قلبه فلينظر إلى سلمان.(10/39)
وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خط الخندق عام الأحزاب، فاحتج المهاجرون والأنصار أن سلمان الفارسي، كان رجلاً قوياً، فقال المهاجرون: سلمان منا، وقالت الأنصار: سلمان منا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سلمان منا أهل البيت.
قال الواقدي: أول غزوة غزاها سلمان رضي الله عنه الخندق: وعن بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله عزّ وجلّ يحب في أصحابي أربعة، أخبرني أنه يحبهم وأمرني أن أحبهم، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: إن علياً منهم، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، والمقداد بن الأسود الكندي " وعن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن الجنة تشتاق إلى ثلاثة: علي، وعمار، وسلمان " وفي حديث أخر عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اشتاقت الجنة إلى أربعة: علي، وسلمان، وأبي ذر، وعمار بن ياسر، رضي الله عنهم. " وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" هذا جبريل يخبرني عن الله تبارك وتعالى: ما أحبّ أبا بكر وعمر إلا مؤمن تقي ولا أبغضهما إلا منافق شقي، وإن الجنة لأشوق إلى سلمان الفارسي من سلمان إليها. " وعن أبي جعفر بن علي عن أبيه عن جده قال: أتى جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إن الله عزّ وجلّ يحب من أصحابك ثلاثة فأحبّهم: علي بن أبي طالب، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود، قال: فأتاه جبريل فقال له: يا محمد، إن الجنة لتشتاق لثلاثة من أصحابك، وعنده أنس بن مالك، فرجا أن يكون(10/40)
لبعض الأنصار. قال: فأراد أن يسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنهم فهابه، فخرج فلقي أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، إني كنت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنفاً فأتاه جبريل فقال: إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك، فرجوت أن يكون لبعض الأنصار فهبته أن أسأله، فهل لك أن تدخل على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتسأله؟ فقال: إني أخاف أن أسأله فلا أكون منهم ويشمت بي قومي، ثم لقي عمر بن الخطاب فقال له مثل قول أبي بكر، قال: فلقي علياً فقال له علي: نعم، إن كنت منهم فأحمد الله، وإن لم أكن منهم فحمدت الله، فدخل على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أن أنساً حدثني أنه كان عندك آنفاً وإن جبريل أتاك فقال: يا محمد: أن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة من أصحابك، فمن هم يا نبي الله؟ قال: أنت منهم يا علي، وعمار بن ياسر، وسيشهد معك مشاهد بيناً فضلها عظيما خيرها، وسلمان وهو منا أهل البيت، وهو ناصح فاتخذه لنفسك.
وعن أبي البحتري قال: قيل لعلي عليه السلام: أخبرنا عن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عن أيهم تسألون؟ قالوا: عن عبد الله، قال: علم القرآن والسنة ثم انتهى، وكفى به علماً، قالوا: عمار، قال: مؤمن نسي، فإن ذكرته ذكر. قالوا: أبو ذر، قال: وعي علماً عجز فيه، قالوا: أبو موسى، قال: صبغ في العلم صبغة ثم خرج منه. قالوا: حذيفة، قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين. قالوا: سلمان، قال: أدرك علم الأول وعلم الآخر، بحر لا يدرك قعره، وهو منا أهل البيت. قالوا: فأنت يا أمير المؤمنين، قال: كنت إذا سألت أعطيت وإذا سكت ابتديت.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرحم هذه الأمة بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقضاهم عليّ، وأصدقهم حياء عثمان، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأقرأهم لكتاب الله أبيّ بن كعب، وأبو هريرة وعاء من العلم، وسلمان علم لا يدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر.(10/41)
وعن يزيد بن أبي أوفى قال:
دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجده فقال: أين فلان؟ فجعل ينظر في وجوه أصحابه ويتفقدهم، ويبعث إليهم حتى توافوا عنده، فلما توافوا عنده حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أني محدثكم حديثاً فاحفظوه وعوه، وحدثوا به من بعدكم: إن الله عزّ وجلّ أصطفى من خلقه خلقاً ثم تلا: " والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس " خلقاً، يدخلهم الجنة، وأني أصطفي منكم من أحب أن أصطفيه ومؤاخ بينكم كما آخى الله عزّ وجلّ بين ملائكته، قم يا أبا بكر فاجث بين يدي فإن لك عندي يداً، الله يجزيك بها، لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذتك خليلاً، فأنت مني بمنزلة قميصي من جسدي، ثم تنحى أبو بكر، ثم قال: أدن مني يا عمر فدنا منه فقال: لقد كنت شديد الشغب علينا يا أبا حفص فدعوت الله أن يعز الإسلام بك أو بأبي جهل بن هشام ففعل الله ذلك بك، وكنت أحبهم إلى الله، فأنت معي في الجنة ثالث ثلاثة من هذه الأمة، ثم تنحى عمر، ثم آخى بينه وبين أبي بكر ثم دعا عثمان فقال: ادن أبا عمرو، ادن أبا عمرو، فلم يزل يدنو منه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السماء فقال: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات، ثم نظر إلى عثمان وكانت أزراره محلولة فزرّها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده ثم قال: اجمع عطفي ردائك على نحرك، ثم قال: إن لك شأناً في أهل السماء، أنت ممن يرد على حوضي وأوداجك تشخب دماً، فأقول من فعل بك هذا؟ فتقول: فلان وفلان، وذلك كلام جبريل إذا هاتف يهتف من السماء فقال: ألا إن عثمان أمير كل مخذول، ثم تنحى عثمان، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف فقال: ادن يا أمين الله، أنت أمي الله، وتسمى في السماء الأمين، يسلطك الله على مالك بالحق، أما إن لك عندي دعوة قد وعدتكها وقد أخرتها، قال: خرّ لي يا رسول الله، قال: حملتني يا عبد الرحمن أمانة ثم قال: إن لك لشأناً يا عبد الرحمن، أما أنه أكثر الله مالك، وجعل يقول بيده هكذا وهكذا، ثم تنحى عبد الرحمن، ثم آخى بينه وبين عثمان، ثم دعا طلحة والزبير ثم قال لهما: ادنوا مني فدنوا منه فقال لهما: أنتما حواري كحواري عيسى بن مريم، ثم آخى بينهما، ثم دعا عمار بن ياسر وسعداً وقال: يا عمار، تقتلك الفئة الباغية، ثم آخى بينه وبين سعد، ثم دعا عويمر بن(10/42)
زيداً أبا الدرداء وسلمان الفارسي فقال: يا سلمان، أنت منا أهل البيت، وقد أتاك الله العلم الأول والآخر، والكتاب الأول والآخر ثم قال: ألا أرشدك يا أبا الدرداء؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال: إن تنتقدهم ينتقدوك، وإن تركتهم لا يتركوك، وإن تهرب منهم يدركوك، فاقرضهم عرضك ليوم فقرك، وأعلم أن الجزاء أمامك، ثم آخى بينه وبين سلمان، ثم نظر في وجوه أصحابه فقال ابشروا وأقروا عيناً، أنتم أول من يرد عليّ حوضي، وأنتم في أعلى الغرف، ثم نظر عبد الله بن عمر فقال: الحمد لله الذي يهدي من الضلالة ويلبس من الضلالة على من يحب، فقال علي: لقد ذهب روحي وانقطع ظهري حين رأيتك فعلت بأصحابك ما فعلت، غيري، فإن كان هذا من سخطك عليّ فلك العتبى والكرامة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي بعثني بالحق ما أخرتك إلا لنفسي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي، قال: وما أرث منك يا نبي الله: قال: ما ورث الأنبياء من قبلي. قال: وما ورثت الأنبياء من قبلك؟ قال: كتاب ربهم وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في الجنة مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي. ثم تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إخواناً على سرر متقابلين " المتحابين في الله ينظر بعضهم إلى بعض.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا هذه الآية: " وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم " قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس.
وروي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغة قول سلمان لأبي الدرداء: إن لأهلك عليك حقاً، ولبصرك عليك حقاً فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثكلت سلمان أمه لقد اتسع من العلم.
وعن أبي أمامة قال: أشخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره إلى السماء فقلنا: ما هذه يا رسول الله؟ قال: رأيت ملكاً عرج بعمل سلمان.(10/43)
وعن يحيى بن أبي كثير قال: فقد رسول الله سلمان فسأل عنه، فأخبر أنه عليل، فأتاه يعوده ثم قال: عظم الله أجرك، ورزقك العافية في دينك وجسمك إلى منتهى أجلك، إن لك من وجعك خلالاً ثلاثاً: أما واحدة فتذكرة من ربك تذكر بها، وأما الثانية فتمحيص لما سلف من ذنوبك، وأما الثالثة فادع بما شئت فإن دعاء المبتلي مجاب.
هذا منقطع.
وعن قتادة في قوله: " قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " قال: منهم سلمان، وعبد الله بن سلام.
وعن الربيع بن أنس في قوله عزّ وجلّ: " يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً " قال: هم قوماً يفرون إلى الله عزّ وجلّ، فيعطون ويحبون ويكرمون ويشفعون، منهم سلمان الفارسي.
وعن ابن مسعود عن ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التفسير: " إن الذي أمنوا الله وهادوا " الآية قال: نزلت هذه الآية في سلمان الفارسي، وكان من أهل جندي سابور من أشرافهم.
وعن أنس قال: قيل يا رسول الله، عمن نكتب العلم بعدك؟ قال: عن علي وسلمان.
وعن محمد بن سيرين قال: دخل سلمان على أبي الدرداء في يوم الجمعة فقيل له: هو نائم. فقال: ماله؟ قالوا: إنه إذا كان ليلة الجمعة أحياها، ويصوم يوم الجمعة. قال: فأمرهم فصنعوا طعاماً في(10/44)
يوم الجمعة ثم أتاهم فقال: كل، قال: إني صائم. فلم يزل به حتى أكل، ثم أتيا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرا له ذلك فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عويمر، سلمان أعلم منك " وهو يضرب بيده على فخذ أبي الدرداء " عويمر، سلمان أعلم منك، ثلاث مرات، لا تخص ليلة الجمعة بقيام الليالي، ولا تخص يوم الجمعة بصيام بين الأيام.
وعن النزال بن سبرة الهلالي قال: قالوا يعني لعلي: يا أمير المؤمنين، فحدثنا عن سلمان الفارسي قال: ذلك رجل منا أهل البيت، أدرك علم الأولين والآخرين، من لكم بلقمان الحكيم.
قال عمرو بن ميمون: لما حضر لمعاذ الموت بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قال: أما إنه ليس عليك أبكي إنما أبكي على العلم الذي يذهب معك، قال: إن العلم والإيمان ثابتان إلى يوم القيامة، فالتمس العلم عند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، فإنه عاشر عشرة في الجنة، وسلمان الفارسي، وعويمر أبي الدرداء، فلحقت بعبد الله بن مسعود فأمرني بما أمره به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أصلي الصلاة لوقتها، وأجعل صلاتهم تسبيحاً.
وعن المدائني قال: قال سلمان: لو حدثت الناس بكل ما أعلم لقالوا: رحم الله قاتل سلمان.
وعن قتادة وعلي بن زيد بن جدعان قالا: كان بين سعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي شيء، فقال سعد وهم في مجلس: انتسب يا فلان فانتسب، ثم قال للآخر: انتسب، ثم قال للآخر حتى بلغ سلمان، فقال: انتسب يا سلمان، فقال: ما أعرف لي أبا في الإسلام، ولكني سلمان ابن الإسلام، فنمي ذلك إلى عمر، فقال لسعد ولقيه: انتسب يا سعد فقال أنشدك بالله يا أمير المؤمنين، قال: وكأنه عرف فأبى أن يدعه حتى أنتسب، ثم قال للآخر حتى بلغ سلمان فقال: انتسب يا سلمان، فقال: أنعم الله عليّ بالإسلام، فأنا سلمان ابن الإسلام، فقال عمر: لقد علمت قريش أن الخطّاب كان أعزهم في الجاهلية، وأنا عمر ابن الإسلام أخو سلمان ابن الإسلام، أما والله لولا شيء لعاقبتك عقوبة يسمع بها أهل الأمصار، أما علمت أو ما سمعت أن رجلاً(10/45)
انتمى إلى تسعة آباء في الجاهلية، فكان عاشرهم في النار، وانتمى رجل إلى رجل في الإسلام وترك ما فوق ذلك فكان معه في الجنة.
وعن عمرو بن قيس قال: قيل لسلمان الفارسي: ما حسبك؟ قال: كرمي ديني، وحسبي التراب، ومن التراب خلقت، وإلى التراب أصير، ثم أبعث وأصير إلى الموازين، فإن ثقلت موازيني فما أكرم حسبي وما أكرمني على ربي يدخلني الجنة، وإن خفت موازيني فما ألأم حسبي وما أهونني على ربي ويعذبني إلا أن يعود بالمغفرة والرحمة على ذنوبي.
ومن شعر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: من الطويل
لعمرك ما الإنسان إلا بدينه ... فلا تترك التقوى اتكالاً على الحسب
فقد رفع الإسلام سلمان فارس ... وقد هجن الشرك الشريف أبا لهب
وعن قتادة كره أن يقول سلمان الفارسي ولكن سلمان المسلم.
وعن مسلم البطين. أن عمر رضي الله عنه جعل عطاء سلمان رضي الله عنه أربعة آلاف.
قال ثابت البناني:
كتب عمر بن الخطاب إلى سلمان أن زرني، قال فخرج سلمان إليه، فلما بلغ عمر قدومه قال لأصحابه: هذا سلمان قد قدم، فانطلقوا نتلقاه قال: فلقيه عمر فالتزمه وساءله، ثم رجعا إلى المدينة سلمان وعمر، فقال له عمر: يا أخي، أبلغك عن شيء تكرهه؟ لما أخبرتني به، قال: لولا أنك عزمت ما أخبرتك، بلغني عنك شيء كرهته: بلغني عنك أنك تجمع على مائدتك السمن واللحم، وبلغني أن لك حلتين، حلة تلبسها في أهلك، وحلة تخرج فيها، قال: هل غير ذا؟ قال: لا، قال: كفيت هذا. أظنه قال: لن أعود إليه أبداً.
والحلة: إزار ورداء.(10/46)
وعن ابن عباس قال: قدم سلمان من غيبة له فتلقاه عمر فقال: أرضاك الله عبداً. قال: فزوجني. قال: فسكت عنه. قال: أترضاني لله عبداً ولا ترضاني لنفسك، فلما أصبح أتاه قوم عمر فقال: حاجة؟ قالوا: نعم. قال: وما هي إذاً تقضى؟ قالوا: تضرب عن هذا الأمر، يعنون خطبته إلى عمر فقال: أما والله ما حملني على هذا إمرته ولا سلطانه، ولكن قلت: رجل صالح عسى الله أن يخرج منه ومني نسمة صالحة. قال: فتزوج في كندة " الحديث.
وفي حديث غيره عن سلمان أنه تزوج امرأة من كندة فبنى بها في بيتها، فلما كان ليلة البناء مشى معه أصحابه حتى أتى بيت امرأته. فلما بلغ البيت قال: ارجعوا أجركم الله، ولم يدخلهم عليها كما فعل السفهاء، فلما نظر إلى البيت والبيت منجد قال: أمحموم بيتكم أم تحولت الكعبة في كندة؟؟ قالوا: ما بيتنا بمحموم ولا تحولت الكعبة في كندة، فلم يدخل البيت حتى نزع كل ستر في البيت غير ستر الباب، فلما دخل رأى متاعاً كثيراً فقال: لمن هذا المتاع؟ قالوا: متاعك ومتاع امرأتك، قال: ما بهذا أوصاني خليلي، أوصاني خليلي ألا يكون متاعي من الدنيا إلا كزاد الراكب، ورأى خدماًن فقال: لمن هذا الخدم؟ قالوا: خدمك وخدم امرأتك فقال: ما بهذا أوصاني خليلي، أوصاني خليلي ألا أمسك إلا من أنكح أو أنكح، فإن فعلت فبغين كان علي مثل أوزارهن من غير أن ينقص من أوزارهن شيء، ثم قال للنسوة اللاتي عند امرأته: هل أنتن مخرجات عني مخليات بيني وبين امرأتي؟ قلن: نعم، فخرجن، فذهب إلى الباب حتى أجافه وأرخى الستر، ثم جاء جلس عند امرأته، فمسح بناصيتها ودعا بالبركة فقال لها: هل أنت مطيعتي في شيء أمرك به؟ قالت: جلست مجلس من يطاع. قال: فإن خليلي أوصاني إذا اجتمعت إلى أهلي أن اجتمع على طاعة الله، فقام وقامت إلى المسجد فصليا لما بدا لهما، ثم خرجا فقضى منها ما يقضي الرجل من امرأته، فلما أصبح غداً عليه فقالوا: كيف وجدت أهلك؟ فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم، ثم أعادوا فأعرض عنهم ثم قال: إنما جعل الله الستور والجدر والأبواب ليوارى ما فيها، حسب كل امرئ منكم أن يسأل عما ظهر له فأما ما غاب عنه فلا(10/47)
يسألن عن ذلك. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: المتحدث عن ذلك كالحمارين يتسافدان في الطريق.
وعن عبد الله بن فيروز قال: كانت امرأة سلمان الفارسي بالمدائن فحزن عليها، فبلغ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم. بلغني يا أبا عبد الله سلمان مصيبتك بأهلك، وأوجعني ما أوجعك، ولعمري لمصيبة تقدم أجرها خير نعمة تسأل عن شكرها، ولعلك لا تقوم بها، والسلام عليك.
قال أبو الدرداء: زارنا سلمان من المدائن إلى الشام ماشياً وعليه كساء وأندرورد يعني سراويل مشمرة.
قال ابن شوذب: رئي سلمان وعليه كساء، مطموم الرأس ساقط الأذنين، يعني أنه كان أرقش، فقيل له: شوهت بنفسك فقال: أن الخير خير الآخرة.
وعن ميسرة أن سلمان كان إذا سجدت له العجم طأطأ رأسه وقال: خشعت لله، خشعت لله.
وعن خليفة بن سعيد المرادي عن عمه قال: رأيت سلمان الفارسي بالمدائن في بعض طرقها يمشي، فزحمته حملة من قصب، فأوجعته فتأخر إلى صاحبها الذي يسوقها، فأخذ بعضده فحركه، ثم قال: لا متّ حتى تدرك إمارة الشباب.
وعن علي بن أبي طلحة قال:
اشترى رجل علفاً لفرسه فقال لسلمان: يا فارسي، تعال فاحمل. فحمل وأتبعه،(10/48)
فجهل الناس يسلمون على سلمان فقال: من هذا؟ قالوا: سلمان الفارسي، فقال: والله ما عرفتك، أعطني. قال سلمان: لا، أني أحتسب بما صنعت خصالاً ثلاثاً: أما إحداهن فإني ألقيت عني الكبر، وأما الثانية فإني أعين رجل من المسلمين على حاجته، وأما الثالثة فلو لم تسخرني لسخرت من هو أضعف مني فوقيته بنفسي.
قيل لسلمان: ما يكرهك الإمارة؟ قال: حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها.
وعن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسة آلاف، وكان على ثلاثين ألفاً من الناس، يخطب في عباءة يفترش نصفها، ويلبس نصفها، وكان إذا خرج عطاؤه أمضاه، ويأكل من سفيف يده وكان عطاؤه أربعة آلاف، كان من ثياب فيتصدق بها ويعمل الخوص.
قال النعمان بن حميد: دخلت مع خالي على سلمان بالمدائن ((وهو يعمل الخوص، فسمعته يقول: اشتري خوصاً بدرهم فأعمله فأبيعه بثلاثة دراهم، فأعيد درهماً فيه، وأنفق درهماً على عيالي، وأتصدق بدرهم، ولو أن عمر بن الخطاب نهاني عنه ما انتهي.
قال مالك: كان سلمان الفارسي يعمل الخوص بيده، ولا يقبل من أحد شيئاً، وكان يعيش به، ولم يكن له بيت إنما كان يستظل بظل الجدر والشجر، وأن رجلاً قال له: أنا أبني لك بيتاً قال: مالي به حاجة، فما زال الرجل يردد عليه ذلك ويأبى سلمان حتى قال الرجل: إني أعرف البيت الذي يوافقك قال: فصفه لي، قال: أبني لك بيتاً إذا أنت قمت به أصاب رأسك سقفه، وإذا مددت رجلك أصابتا الجدار. قال: نعم، قال فبنى له.
قال فضيل بن عياض: لبس جبة صوف فقيل له: لو لبست ألين من هذا فقال: إنما أنا عبد ألبس ما يلبس العبيد، فإذا مت لبست جبة لا تبلى حواشيها(10/49)
وعن جرير بن عبد الله قال: نزلت الصفاح في يوم صائف شديد الحر، فإذا رجل نائم في حر الشمس، مستظل بشجرة معه شيء من طعام ومزود له تحت رأسه، ملتف بعباءة قال جرير: فأمرت أن يظلل عليه، ونزلنا فإذا قد انتبه الرجل وإذا هو سلمان الفارسي، قال: فقلت له: ظللنا عليك وما نعرفك فقال: يا جرير، تواضع في الدنيا، فإن من تواضع في الدنيا يرفعه الله يوم القيامة، ومن يتعظم في الدنيا يضعه الله يوم القيامة، يا جرير، لو حرصت على أن تجد عوداً يابساً في الجنة لم تجده. قال: قلت: وكيف يا سلمان وفيها الثمار؟؟ قال: فقال: أصول الشجر الذهب والفضة وأعلاها الثمار، يا جرير، ري ما ظلمة النار؟ قال: لا. قال: فإنه ظلم الناس بعضهم بعضاً في الأرض.
وعن عبد الله بن سلمة قال: كان سلمان إذا أصاب شاة من الغنم ذبحت أو ذبحوها عمد إلى جلدها فيعمل منه جراباً، وإلى شعرها فيجعل منه حبلاً، وإلى لحمها فيقدده، ويستنفع بجلدها، ويعمد إلى الحبل فينظر رجلاً معه قوس قد صدع به فيعطيه، ويعمد إلى اللحم فيأكله في الأيام، وإذا سئل عن ذلك يقول: أن أستغني بالله في الأيام أحب إليّ من أن أفسده ثم أحتاج إلى ما في أيدي الناس.
قال عبد الله بن بريدة: كان سلمان يعمل بيديه، فإذا أصاب شيئاً اشترى به لحماً أو سمكاً، ثم يدعو المجذمين فيأكلون معه.
كتب سلمان إلى أبي الدرداء أن العلم كالينابيع يغشاهن الناس، فيختلجه هذا وهذا فينفع الله به غير واحد، وإن حكمة لا يتكلم بها كجسد لا روح فيه، وإن علماً لا يخرج ككنز لا ينفق منه، وإنما مثل العالم كمثل رجل حمل سراجاً في طريق مظلم يستضيء به من مرّ به، وكل يدعو له بالخير.(10/50)
قال حميد بن هلال: أوخي بين سلمان وأبي الدرداء، فسكن أبو الدرداء بالشام، وسكن سلمان الكوفة، قال: فكتب أبو الدرداء إلى سلمان: سلام عليك، أما بعد فإن الله رزقني بعدك مالاً وولداً، ونزلت الأرض المقدسة، قال: فكتب إليه سلمان: سلام عليك، أما بعد، فإنك كتبت إليّ أنّ الله عزّ وجلّ رزقك مالاً وولداً، واعلم أن الخير ليس بكثرة المال والولد، ولكن الخير أن يعظم حلمك، أن ينفعك علمك، وكتبت إليّ أنك نزلت الأرض المقدسة وأن الأرض لا تعمل لأحد، اعمل كأنك ترى واعدد نفسك من الموتى.
قال يحيى بن سعد:
كتب أبو الدرداء إلى سلمان الفارسي أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدّس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيباً، فإن كنت تبرئ فنعماً لك، وإن كنت متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً، فتدخل النار، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما وقال: متطبب والله، ارجعا إليّ أعيدا علي قصتكما.
قال أبو البختري: جاء الأشعث بن قيس وجرير بن عبد الله البجلي على سلمان، فدخلا عليه في خصّ في ناحية المدائن، فأتياه فسلما عليه، وحيياه، ثم قالا: أنت صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا أدري، فارتابا، وقالا: لعله ليس الذي نريد، فقال لهما: أنا صاحبكما الذي تريدان، قد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجالسته، وإنما صاحبه من دخل معه الجنة فما جاء بكما؟ قالا: جئناك من عند أخ لك بالشام قال: من هو؟ قالا: أبو الدرداء، قال: فأين هديته التي أرسل بها معكما؟ قالا: ما أرسل معنا بهدية، قال: اتقيا الله، وأدّيا الأمانة، ما جاءني أحد من عنده إلا جاء معه بهدية، قالا: لا ترفع علينا هذا، إن لنا أموالاً فاحتكم فيها، قال: ما أريد أموالكما ولكن أريد الهدية التي بعث بها معكما قالا: والله ما بعث معنا بشيء إلا أنه قال: إن فيكم رجل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خلا به لم يبغ أحداً غيره، فإذا أتيتماه فأقرئاه مني السلام، قال: فأي هدية كنت أريد منكما غير هذه؟ وأي هدية أفضل من السلام، تحية من عند الله مباركة طيبة؟(10/51)
قال ميمون بن مهران: جاء رجل على سلمان فقال: يا أبا عبد الله، أوصني. قال: لا تتكلم، قال: ما يستطيع من عاش بين الناس ألا يتكلم. قال: فإن تكلمت فتكلم بحق أو اسكت. قال: زدني قال: لا تغضب قال: أمرتني ألا أغضب، وأنه ليغشاني ما لا أملك، قال: فأن غضبت فاملك لسانك ويدك، قال: زدني قال: لا تلابس الناس قال: ما يستطيع من عاش في الناس ألا يلابسهم قال: فإن لابستهم فاصدق الحديث وأدّ الأمانة.
وعن سلمان قال: الناس ثلاثة: سامع فعاقل، وسامع فتارك، وسامع فعارف، ومن الناس حامل داء، ومنهم حامل شقاء، ومن الناس من إذا ذكرت الله عنده أعانك وأحبّ ذلك، وإن نسيت ذكرك، ومن الناس من إن ذكرت الله عنده لم يعنك، وإن نسيته لم يذكرك، فتواضع لله وتخشع، وخف الله يرفعك الله، وقل سلاماً للقريب والبعيد، فإن سلام الله لا يناله الظالمون، فإن رزقك الله علماً فابتغ إليه كي تعلم مما علمك الله، فإن مثل العلم الذي كمثل رجل حامل سراج على ظهر الطريق فكل من مر به يستبصر به، ويدعو له بالبركة والخير، وإن مثل علم لا يقال به كصنم نائم لا يأكل ولا يشرب.
وعن سفيان الثوري قال: قال سلمان الفارسي: إذا أظهرتم العلم وخزنتم العمل، وتحاببتم بالألسن وتباغضتم بالقلوب لعنكم الله فأصمتكم وأعمى أبصاركم.
وعن سلمان قال: مثل الرجل يلقى أخاه فيشكو إليه فيفرج عنه مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى.
وعن سلمان الفارسي قال: ثلاث أعجبتني حتى أضحكتني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه، وضاحك لا يدري أساخط عليه رب العالمين أم راض، وثلاث أحزنني حتى أبكينني:(10/52)
فراق محمد وحزبه، وهو المطلع، والوقوف بين يدي الله عزّ وجلّ، لا أدري إلى جنة يؤمر بي أم إلى نار.
وعن طارق شهاب الأحمسي عن سلمان الفارسي قال:
إذا كان الليل كان الناس منه على ثلاث منازل: فمنهم من له ولا عليه، ومنهم من لا له ولا عليه، ومنهم من عليه ولا له. قال طارق: فعجبت لحداثة سني وقلة فهمي فقلت: يا أبا عبد الله، وكيف ذلك؟ قال: أما من له ولا عليه فرجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل فتوضأ وصلى، فذلك له ولا عليه، ورجل اغتنم غفلة الناس وظلمة الليل يمشي في معاصي الله عزّ وجلّ فذلك عليه ولا له، ورجل نام حتى أصبح فذلك لا له ولا عليه. قال طارق: فقلت: لأصحبن هذا فلا أفارقه، فضرب على الناس بعث، فخرج فيه فصحبته، فكنت لا أفضله في عمل، إن أنا عجنت خبز، وإن خبزت طبخ، فنزلنا منزلاً فبتنا فيه، وكانت لي ساعة من الليل أقومها، فكنت أتيقظ لها فأجده نائماً فأنام، فأقول: صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير مني نائم، فأنام، ثم أقوم فأجده نائماً فأنام، إلا أنه كان إذا تعار من الليل قال وهو مضطجع: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، حتى إذا كان قبيل الصبح قام فتوضأ، ثم ركع ركعات، فلما صلينا الفجر، قلت يا أبا عبد الله، كانت لي ساعة من الليل أقومها، وكنت أتيقظ لها فأجدك نائماً، فأقول: صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير مني نائم، فأنام، قال: يا بن أخي فأيش كنت تسمعني أقول؟ فأخبرته. فقال: يا بن أخي، تلك الصلاة، إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت المقتل، يا بن أخي عليك القصد فإنه أبلغ.
قال سعيد بن وهب: دخلت مع سلمان على صديق له يعوده فقال: إن الله إذا أبتلى عبده المؤمن بشيء من البلاء، ثم عافاه كان كفارة لما مضى، ومستعيناً فيما بقي، وإن الفاجر إذا أصابه الله(10/53)
بشيء من البلاء ثم عافاه كان كالبعير عقله أهله، ثم أطلقوه، لا يدري فيم عقلوه لا فيم أطلقوه.
قال أبو قلابة: إن رجلاً دخل على سلمان وهو يعجن فقال: يا أبا عبد الله، ما هذا؟ قال: بعثنا الخادم في عمل فكرهنا أن نجمع عليه عملين.
قال سلمان: أني لأعد عراق قدري مخافة الظن بخادمي.
قال شقيق: ذهبت أنا وصاحب لي إلى سلمان فقال: لولا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانها عن التكلف لتكلفت لكم، قال: فجاءنا بخبز وملح، فقال صاحبي: لو كان في ملحنا صعتر، فبعث سلمان بمطهرته فرهنها فجاء بصعتر، فلما أكلنا قال صاحبي: الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا، فقال سلمان: لو قنعت ما كانت مطهرتي مرهونة.
وعن أبي البحتري أن سلمان دعا رجل إلى طعامه، فجاء مسكين فأخذ كسرة فناوله، فقال سلمان: ضعها حيث أخذتها، فإنما دعونا لتأكل، فما رغبتك أن يكون الأجر لغيرك الوزر عليك؟ وعن أنس قال: اشتكى سلمان، فعاده سعد، فرآه يبكي فقال له سعد: ما يبكيك يا أخي؟ ألست قد صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألست؟ ألست؟ فقال: ما أبكاني واحدة من اثنين، ما أبكاني صبابة بالدنيا، ولا كراهية الآخرة، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلينا أنه يكفي أحدكم مثل زاد الراكب، فلا أراني إلا قد تعديته، وأما أنت يا سعد فاتق الله وحده عند حكمك إذا حكمت، وعند قسمك إذا قسمت، وعند همك إذا هممت.(10/54)
قال ثابت: فبلغني أنه ما ترك إلا بضعة وعشرين درهماً نفيقة كانت عنده.
وعن الحسن قال: أمر سعد بن أبي وقاص على الكوفة وبها سلمان الخير. قال: فخرج سعد يوماً يسير على حمار له في السوق وعليه قميص سنبلاني، فلقي سلمان، فلما رآه مقبلاً إليه بكى، فانتهى إليه سعد فسلم عليه وقال: ما يبكيك أبا عبد الله؟ قال: ما لي ألا أبكي وقد سمعت نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يكفيك من الدنيا كزاد الراكب وأرى عليك قميصاً سنبلانياً وأنت على حمار؟ فقال له سعد: أوصني يا أبا عبد الله قال: اذكر ربك عند حكمك إذا حكمت، واذكر الله عند قسمك إذا أقسمت، واتق الله في همك إذا هممت. قال: بم، قال الحسن: حلما حكماً، ثم قال: اتق الله يا ابن آدم في همك، فإن كان هم خير فأمضه، وإن كان هم شر فدعه.
وعن سعيد بن سوقة قال:
دخلنا على سلمان الفارسي نعوده وهو مبطون فأطلنا الجلوس عنده، فشق عليه فقال لامرأته: ما فعلت بالمسك الذي جئنا به من بلنجر؟ فقالت: هو ذا. قال: ألقيه في الماء ثم اضربي بعضه ببعض ثم أنضخي حول فراشي فإنه الآن يأتينا قوم ليسوا بإنس ولا جنّ. ففعلت، وخرجنا عنه، ثم أتيناه، فوجدناه قد قبض.
قال الشعبي: حدَّثني الحارث عن امرأة سلمان بقيرة أنها قالت لما حضره الموت: دعاني وهو في علية لها أربعة أبواب فقال: افتحي هذه الأبواب يا بقيرة، فإن لي اليوم زواراً لا أدري من أي الأبواب يدخلون عليّ ثم دعا بمسك، فقال: أوخفيه في تور ففعلت،(10/55)
قال: ثم أنضحيه حول فراشي، ثم أنزلي، فامكثي، فسوف تطلعين عليّ فتريني على فراشي، فاطلعت إليه، فإذا هو قد أخذ روحه، فكأنه نائم في فراشه، أو نحو من هذا.
توفي سلمان بالمدائن وقبره هناك.
قال ابن زنجويه: بلغني أن سلمان توفي سنة ست وثلاثين قبل الجمل.
وقيل: إنه توفي في خلافة عثمان. فعلى قول ابن زنجويه تكون وفاته في خلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل: توفي سنة سبع وثلاثين.
قال أهل العلم: عاش سلمان ثلاث مئة سنة وخمسين سنة، فأما مئتين وخمسين فلا يشكون فيه.
وعن سعيد بن المسيب أن سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام التقيا، فقال أحدهما لصاحبه: إن لقيت ربك قبلي فأخبرني ماذا لقيت منه، فقال أحدهما لصاحبه: أو يلقى الأحياء الأموات؟ قال: نعم، أما المؤمنون فإن أرواحهم بالجنة، وهي تذهب حيث شاءت. قال: فتوفي أحدهما قبل صاحبه، فلقيه الحيّ في المنام، فكأنه سأله فقال الميت: توكل وأبشر. فلم أر مثل التوكل قط. سلمان مات قبل ابن سلام.
سلمان بن ربيعة بن يزيد بن عمرو
ابن سهم بن نضلة بن غنم بن قتيبة بن معن بن مالك بن أعصر وهو منبه ابن سعد بن قيس عيلان بن مضر، أبو عبد الله الباهلي يقال: إن له صحبة، وشهد فتوح الشام مع أبي أمامة الباهلي، ثم سكن العراق، وولاه عمر رضي الله عنه قضاء الكوفة، ثم ولي غزو أرمينية في خلافة عثمان فقتل ببلنجر.(10/56)
قيل: إنه كان يغزو سنة ويحج سنة.
حدث سلمان بن ربيعة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم بين قومه قسما فقلت يا رسول الله، غير هؤلاء كانوا أحق، فقال: إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش ولست بباخل.
وعن شقيق بن سلمة قال: رأيت سلمان بن ربيعة جالساً بالمدائن على قضائها، استقضاه عمر بن الخطاب أربعين يوماً، فما رأيت بين يديه رجلين يختصمان بالقليل ولا بالكثير، فقلنا لأبي وائل: فممّ ذلك؟ قال: من انتصاف الناس فيما بينهم.
وعن عمرو بن شرحبيل أن سلمان بن ربيعة " وكان قاضياً قبل شريح " سئل عن فريضة فأخطأ فيها، فقال له عمرو بن شرحبيل: القضاء فيها كذا وكذا، فكأنه، أي غضب، فرفع ذلك إلى أبي موسى الأشعري وكان على الكوفة فقال: يا سلمان، كان ينبغي لك ألا تغضب، وأنت يا عمرو كان ينبغي لك أن تساوده في أذنه. يعني تساره.
حدث من شهد القادسية قال: أبصر سلمان بن ربيعة الباهلي أناساً من الأعاجم تحت راية لهم، قد حفروا لها وجلسوا تحتها، وقالوا: لا نبرح حتى نموت، فحمل عليهم، فقتل من كان تحتها، وسلبهم، وكان سلمان فارس الناس يوم القادسية، وكان أحد الذين مالوا بعد الهزيمة على من ثبت، والآخر عبد الرحمن بن ربيعة، ذو النون أخوه، ومال على آخرين قد تكتبوا وتعبئوا للمسلمين فطحنهم بخيله.
قال الشعبي: كان يقال لسلمان: أبصر بالمفاصل من الجازر بمفاصل من الجزور.
حدث أبو عمرو بن العلاء أن عمر بن الخطاب شك في العتاق والهجن من الخيل، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي(10/57)
بطست من ماء، أو بترس فيه ماء، فوضع بالأرض، فما ثنى سنبكه فشرب هجنه، وما شرب ولم يثن سنبكه عربه، وذلك لأن في أعناق الهجن قصراً، فهي لا تنال الماء إلا على تلك الحال، وأعناق الخيل العتاق طوال فهي لا تثني سنبكها لطول أعناقها.
نزل زيد بن صوحان على سلمان بن ربيعة كأنه ينظر ما يعمل، فكان إذا تعار من الليل قال: سبحان الله رب النبيين وإله المرسلين، قال: ثم يصلي ركعات ويقول: يا زيد، اكفني نفسك يقظان أكفك نفسك نائماً.
كان سلمان بن ربيعة الباهلي غزا بلاد الترك في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقتل ببلنجر، فجعل أهل تلك الناحية عظامه في تابوت، فإذا احتبس عليهم القطر أخرجوه فاستسقوا به فسقوا.
قتل سلمان بن ربيعة ببلنجر من بلاد أرمينية سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين. وقيل: مات سنة إحدى وثلاثين
سلمان بن ناصر بن عمران بن محمد
ابن إسماعيل بن إسحاق بن يزيد بن زياد بن ميمون بن مهران أبو القاسم الأنصاري النيسابوري أحد تلاميذ الإمام أبي المعالي الجويني، كان مقدماً في علم الأصول والتفسير، وسمع بدمشق، وكان ذا دين وورع وتقدّم في علم الكلام. وله تصانيف في أصول الدين، وهو الذي شرح كتاب الإرشاد الذي صنفه الجويني.
حدث عن أبي الحسين محمد بن مكي بن عثمان بن عبد الله الأزدي بسنده عن أبي النضر المدني: أنه سمع كتاباً كتبه عبد الله بن أبي أوفى عمر بن عبيد الله بن معمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتظر ذات يوم في بعض مغازيه حتى إذا مالت الشمس قام في الناس فقال: لا تمنوا لقاء العدو، فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم " وفي رواية لعلكم لا تثبتون " وسلوا الله العافية، فإن أتوكم فاثبتوا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم دعا فقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.
توفي سلمان بن ناصر سنة اثنتي عشرة وخمس مئة.(10/58)
سلمان بن ندى بن طراد بن مطر
أبو عبد الله التغلبي القيسراني الشافعي كان إماماً في الفقه، حافظاً له، من المفتين فيه، ذكر عنه أنه كان يحفظ كتاب الشامل لأبي نصر بن الصباغ.
سأله أبو محمد بن صابر عن مولده فقال: في رجب سنة ثمان وثلاثين وأربع مئة بقيسارية.
حدث سلمان بن ندى عن ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من اشترى خادماً فليضع يده على ناصيته ثم يقول: اللهم، أني أسألك من خيره وخير ما جبلته عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبلته عليه، وإذا اشترى دابة فيضع يده على ناصيتها ثم يقول: اللهم، أني أسألك من خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا اشترى بعيراً فليضع يده على ذروة سنامه ثم يقول: اللهم، أني أسألك من خيره وخير ما جبلته عليه، وأعوذ بك من شره وشر ما جبلته عليه.
وحدث سلمان بن ندى عن أبي بكر محمد بن ثابت بن الحسين بن علي الخجندي بسنده للإمام الشافعي رحمه الله: من الخفيف
لست ممن إذا جفاه أخوه ... أظهر الوجد أو تناول عرضا
بل إذا صاحب بدا لي جفاه ... أظهر الود والوصال ليرضى
كن كما شئت لي فإني حمول ... أنا أولى من عن مساويك أغضى
سلمان أبو رجاء مولى أبي قلابة
كان مع مولاه أبي قلابة بالشام ثم رجع إلى العراق.
حدث أبو قلابة
أن عمر بن عبد العزيز استشار الناس في القسامة فقال قوم: هي حق قضى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقضى بها الخلفاء، وأبو قلابة خلف السرير قاعد، فالتفت إليه فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ فقال: أبو قلابة: يا أمير المؤمنين، عندك من رؤوس الأجناد وأشراف العرب، شهد(10/59)
عندك أربعة من أهل حمص على رجل من أهل دمشق أنه زنى أكنت راجمه؟ قال: لا، قال: وشهد رجلان من أهل دمشق على رجل من أهل حمص أنه سرق، ولم يروه، أكنت قاطعه؟ قال: لا، قال: يا أمير المؤمنين، فهذا أعظم من ذلك، لا والله لا أعلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل أحد من أهل الصلاة إلا رجلا كفر بعد إسلامه أو زنى بعد إحصان أو قتل نفساً بغير نفس، قال: فقال عنبسة بن سعيد: فأين حديث أنس بن مالك في العكليين؟ قال: فقال أبو قلابة: إياي حدث أنس بن مالك أن قوماً من عكل أول قال عرينه قدموا المدينة فاجتووها، فأمر لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلقاح، وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا حتى برئوا وذهب سقمهم، أو كما قال: فقتلوا راعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واطردوا النعم، فبلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك غدوة فبعث الطلب في آثارهم، فما ارتفع النهار حتى جيء بهم، فأمرهم فقطعت " أو قطع " أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم، وألقوا بالحرة يستسقون فلا يسقون، قال: فقال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله. فقال عنبسة: يا قوم، ما رأيت كاليوم قط. فقال أبو قلابة: أتتهمني يا عنبسة؟ فقال: لا ولكنك لا يزال هذه الجند بخير ما أبقاك الله بين أظهرهم.
سلمة بن أسلم بن حريش
ابن عدي بن مجدعة بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت بن مالك بن الأوس، أبو سعد الأنصاري صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد بدراً، وخرج في جيش أسامة بن زيد الذي بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل موته إلى أرض البلقاء ليدركوا ثأر من أصيب بمؤتة.
قال سلمة بن أسلم: رأيت الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونحن على الباب، نريد أن ندخل على أثره. فدخل رسول(10/60)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في البيت أحد إلا سعيد مسجى، قال: فرأيته يتخطى، فلما رأيته يتخطى وقفت وأومأ إليّ: قف، فوقفت ورددت من ورائي، وجلس ساعة ثم خرج. فقلت: يا رسول الله، ما رأيت أحداً وقد رأيتك تتخطى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملك من الملائكة أحد جناحيه. فجلست ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هنيئاً لك أبا عمرو، هنيئاً لك أبا عمرو - ويعني بع سعد بن معاذ.
ومن حديث الواقدي مختصراً قال: قالوا: ولم يزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه، ووجد عليهم وجداً شديداً، فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم، فتفرق المسلمون من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم مجدون في الجهاز. ثم دعا أسامة في الغد يوم الثلاثاء فقال: يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأغر صباحاً على أهل أبني، وحرق عليهم، وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم، وخذ معك الأدلاء، وقدم العيون أمامك والطلائع، ثم صدع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمّ في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر، فلما أصبح يوم الخميس عقد له بيده لواء، ثم قال: امض على اسم الله، فخرج بلوائه معقوداً فدفعه إلى بريدة بن الحصيب، فخرج به إلى بيت أسامة، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة فعسكر بالجرف، وجعل الناس يأخذون بالخروج إلى العسكر، ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، أبو عبيدة، وسعد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد، في رجال من المهاجرين، والأنصار عدة: قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم حريس. وذكر الحديث.
وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن(10/61)
الحصيب بلواء أسامة معقوداَ، حتى أتى باب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغرزه عنده، فلما بويع أبو بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة، ولا يحله أبداً حتى يغزو بهم أسامة. قال بريدة: فخرجت باللواء حتى أتيت به بيت أسامة، ثم خرجت به إلى الشام معقوداً مع أسامة، ثم رجعت به إلى بيت أسامة، فما زال معقوداً في بيت أسامة حتى توفي أسامة.
فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتد من ارتد منها عن الإسلام قال أبو بكر لأسامة: انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ الناس بالخروج معه، ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر، ففعل أسامة ورجع يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة: نعم، وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة فغلظ عليهم، فأخذهم بالخروج فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد، وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس، وذكر الحديث.
قتل سلمة بن أسلم يوم جسر أبي عبيد سنة أربع عشرة، وهو ابن ثلاث وستين في أول خلافة عمر بن الخطاب.
وقيد أبو عبد الله الصوري: حريس بالسين المهملة، وقال غيره: حريش بالشين المعجمة.
وقيل: قتل على رأس خمس عشرة سنة.
سلمة بن بشر بن صيفي أبو بشر
حدث سلمة بن بشر عن مسلمة بن علي بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دخلت الجنة فرأيت على بابها: الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر. فقلت: يا جبريل، كيف صارت الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر؟ قال: لأن الصدقة تقع بيد الغني والفقير، والقرض لا يقع إلا في يد من يحتاج إليه.
وحدث سلمة بن بشر أيضاً عن البختري بن عبيد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها. قيل: يا رسول الله، وما ثوابها؟ قال: تقولون: اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً "(10/62)
سلمة بن تميم
حدث عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تقوم الساعة حتى يجعل كتاب الله عاراً، ويكون الإسلام غريباً، وحتى تبدو الشحناء بين الناس، وحتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وينقص عمر البشر، وتنتقص السنون والثمرات، ويؤتمن التهماء، ويتهم الأمناء، ويصدق الكاذب، ويكذّب الصادق، ويكثر الهرج. قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: القتل، وحتى تبنى الغرف فتطاول، وحتى تحزن ذوات الأولاد وتفرح العواقر، ويظهر البغي والحسد والشح، ويهلك الناس، ويكثر الكذب، ويقل الصدق، وحتى تختلف الأمور بين الناس، ويتبع الهوى، ويقضى بالظن، ويكثر المطر، ويقل الثمر، ويغيض العلم غيضاً، ويفيض الجهل فيضاً، وحتى يكون الولد غليظاً والشتاء قيظاً، وحتى يجهر بالفحشاء، وتروى الأرض رياً، ويقوم الخطباء بالكذب، فيجعلون حقي لشرار أمتي، فمن صدّقهم بذلك ورضي به لم يرح رائحة الجنة.
سلمة بن جواس - ويقال سلامة " أبو الحسن الطائي الحمصي قيل أنه دمشقي حدث عن محمد بن القاسم الطائي أن عبد الله بن بشر كان معهم في قريته فقال: هاجر أبي وأمي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسح رأسي بيده وقال: ليعيشن هذه الغلام قرناً، قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله وكم القرن؟ قال: مئة سنة. قال عبد الله: فلقد عشت خمساً وتسعين سنة وبقيت خمس سنين إلى أن أتم قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال محمد: فحسبنا بعد ذلك خمس سنين ثم مات.
وحدث عن أبي مهدي بسنده عن أبي هريرة قال: أوصاني رسول الله بثلاث لا أتركهن في سفر ولا حضر: أربع ركعات في أول النهار، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ولا أنام إلا على وتر.(10/63)
وحدث سلمة بن جواس أيضاً عن معاوية بن يحيى أبي مطيع الأطرابلسي بسنده عن ابن مسعود قال: جاء رجل بأبيه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقتضيه ديناً له عليه فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت ومالك لأبيك.
سلمة بن الخطل، الكناني الحجازي يقال: إن له صحبة، وفد إلى معاوية. قال الحافظ: ولا أعرف له حديثاً مسنداً.
قال يعقوب بن داود:
خطب معاوية يوماً بدمشق، فقال: إن الله عزّ وجلّ ولى عمر بن الخطاب، فولاني بعض ما ولاه الله، فوالله ما خنته، ولا كذبته، ولا حالفت عليه، ثم ولاني الله الأمر فتقدمت وتأخرت، وأخطأت وأحسنت، فمن أنكرني فقد عرفت نفسي، فقام إليه سلمة بن الخطل أحد بني عريج ين عبد مناة بن كنانة فقال: والله يا معاوية لقد أنصفت، وما كنت منصفاً، قال: وما أنت وذاك يا احدب؟ فكأني أنظر إلى حفش بيتك من مهيعة مربوطاً بطنب منه تيس، وبطنب منه بهمة، تخفق فيه الريح بمثل جناح النسر، بفنائه أعنز عشر، درهن قليل تحلبهن في مثل قوارة حافر حمار. قال: رأيت والله ذلك في زمن علينا ولا لنا، والله إن حشوه يومئذ لحسب غير دنس، فهل رأيتني قتلت مسلماً أو كسبت محرماً؟ قال: وأين أنت حتى أراك؟ أنت لا تبرز إلا في غمار الناس، وأي مسلم تقوى عليه حتى تقتله، وأي مكسب تقدر عليه حتى تكسبه، اجلس لا جلست، قال: لا والله، وكني أذهب حيث لا أسمع صوتك. قال: إلى أبعد الأرض لا إلى أقربها. قال: فمضى ساعة وهو ينظر في قفاه ويقول اللهم لا تصحبه، ثم قال: كرّوه عليّ فكروه، فقال: أستغفر الله منك، بلى والله، لقد رأيتك حيث أعرفك، قد أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلمت عليه فرد عليك، وأهديت إليه فقبل منك، وأسلمت، فكنت من صالحي قومك، وإنك لفي شرف منهم، وإنك لخالي، وإن أباك يوم طرف البلقاء لذو عناء، اجلس حتى أفرغ لك، ثم مضى في خطبته. فلما فرغ وصله، وأحسن إليه.(10/64)
سلمة بن دينار
أبو حازم الأعرج المدني الزاهد مولى الأسود بن سفيان المخزومي وقيل: مولى بني ليث. قدم دمشق.
حدث أبو حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله أتي بشراب، وعن يمنه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء يا غلام؟ فقال: لا والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحداً قال: فتلّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده.
قال أبو حازم: قدمت على عمر بن عبد العزيز وهو بخناصرة؟ فلما نظر إليّ عرفني ولم أعرفه، فقال لي: أدن مني يا أبا حازم، فلما دنوت منه عرفته، فقلت: أنت أمير المؤمنين؟ قال: نعم، قلت: ألم تكن بالمدينة بالأمس أميرً؟ قال: نعم، قلت: كان مركبك وطياً، وثوبك نقياً، ووجهك بهياً، وطعامك شهياً، وحرسك كثيراً، فما الذي غير ما بك وأنت أمير المؤمنين؟ فبكى، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لو رأيتني بعد ثالثة في قبري، وقد سالت حدقتاي على وجنتي، وانشق بطني، وجرت الديدان في بدني، لكنت اشد إنكاراً لي من يومك هذا. اعد علي الحديث الذي حدَّثتني به بالمدينة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن بين أيديكم عقبة كؤوداً مضرسة لن يجوزها إلا كل ضامر مهزول ". قال: فبكى ثم قال: أتلومني يا أبا حازم أن أضمر نفسي لتلك العقبة لعلي أنجو منها، وما أظنني بناج منها؟ ذكر أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان التبيين أن أبا حازم دخل مسجد دمشق فوسوس إليه الشيطان أنك قد أحدثت بعد وضوئك، فقال له: وقد بلغ هذا من نصيحتك؟!(10/65)
كان أبو حازم أشقر أفرز أحول، وكان يقص بعد الفجر وبعد العصر في مسجد المدينة، وكان أعرج، وكان عابداً زاهداً، وقدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأتاه الناس، وبعث إلى أبي حازم فأتاه وساءله عن أمره وعن حاله، وكان لأبي حازم حمار، فكان يركبه إلى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لشهود الصلوات، وتوفي أبو حازم في خلافة أبي جعفر بعد سنة أربعين ومئة.
قال أبو حازم: رأيت سهل بن سعد الساعدي في ألف من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرفع يديه في كل خفض ورفع.
قال أبو بكر ين خزيمة: أبو حازم ثقة ولم يكن في زمانه مثله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحداً الحكمة أقرب إلى فيه من أبي حازم.
وقال عون بن عبد الله: ما رأيت أحد يفرفر الدنيا فرفرة هذه الأعرج. يعني أبا حازم.
قال أبو حازم: رأيت أبا حازم في مجلس عون بن عبد الله، وهو يقص في المسجد، ويبكي، ويمسح بدموعه وجهه، فقلت له: يا أبا حازم، لم تفعل هذا؟ قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابته الدموع من خشية الله.
قال مروان بن محمد: قال أبو حازم:
ويحك يا أعرج - يعني نفسه - يدعى يوم القيامة بأهل خطيئة كذا وكذا فتقوم(10/66)
معهم، ثم يدعى بأهل خطيئة أخرى فتقوم معهم، فأراك يا أعرج تقوم مع أهل كل خطيئة.
قال هشام بن عبد الملك لأبي حازم: يا أبا حازم، ما النجاة من هذه الأمر؟ قال: يسير، قال: ما ذاك؟ قال: لا تأخذن شيئاً إلا من حله، ولا تضعن شيئاً إلا في حقه، قال: ومن يطيق ذلك يا أبا حازم؟ قال: من طلب الجنة وهرب من النار.
قال الزهري لسليمان أو هشام: ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: يا أبا حازم، ما قلت في العلماء؟ قال: وما عسيتُ أن أقول في العلماء إلا خيراً! إني أدركت العلماء وقد استغنوا بعملهم عن أهل الدنيا، ولم يستغن أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأى ذلك هذا وأصحابه تعلموا العلم، فلم يستغنوا به، واستغنى أهل الدنيا بدنياهم عن علمهم، فلما رأوا ذلك قذفوا بعلمهم إلى أهل الدنيا، ولم ينلهم أهل الدنيا من دنياهم عن علمهم شيئاً، إن هذا وأصحابه ليسوا علماء إنما هم رواة، قال الزهري: إنه جاري منذ حين وما علمت أن هذا عنده. قال: صدق، أما إني لو كنت غنياً عرفني. قال. فقال له سليمان: ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: تمضي ما في يديك بما أمرت به، وتكف عما نهيت عنه. قال: سبحان الله! ومن يطيق هذا قال: من طلب الجنة، وفرّ من النار، وما هذا فيما تطلب وتفر منه بقليل.
أرسل بعض الأمراء إلى أبي حازم فأتاه، وعنده الإفريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال: أبو حازم: إنَ خير الأمراء من أحبّ العلماء، وإن شرّ العلماء من أحبّ الأمراء، وكان فيما مضى إذا بعث الأمراء إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم، فيسألونهم وكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء، فلما رأى ذلك ناس من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى يكون مثل هؤلاء، فطلبوا العلم، فأتوا الأمراء،(10/67)
فحدثوهم فرخصوا لهم، وأعطوهم، فقبلوا منهم فجرأت العلماء على الأمراء وجرأت الأمراء على العلماء.
قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم: ما لنا نكره الموت! قال: لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب.
قال سفيان بن عيينة: أخبر أبو حازم سليمان بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين فقال سليمان: فأين رحمة الله قال: " قريب من المحسنين " بعث بعض خلفاء بني أمية إلى أبي حازم بمال، فرده، فقال له: يا أبا حازم، خذ، فإنك مسكين، قال: كيف أكون مسكيناً، ومولاي له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! قال محمد بن عجلان: قدم سليمان بن هشام المدينة حاجاً أو معتمراً، فقال للزهري: يا زهري، ها هنا محدث؟ قال: نعم، أبو حازم الأعرج، قال: راوية عن أبي هريرة قال: ابعث، ائتنا به حتى يحدثنا، فبعث. فلما جاء قال له سليمان: تكلم يا أعرج، قال: ما للأعرج من حاجة فيتكلم بها، ولولا اتقاء شركم ما أتاكم الأعرج، فقال: سليمان: ما ينجينا من أمرنا هذه الذي نحن فيه؟ قال: أخذ هذا المال من حله ووضعه في حقه. قال: ومن يطيق ذلك؟ قال: من طلب الجنة، وهرب من النار، قال سليمان: ما بالنا لا نحب الموت يا أعرج؟! قال: لأنك جمعت متاعك فوضعته بين عينيك، فأنت تكره أن تفارقه، ولو قدمته أمامك لأحببت أن تلحق به، لأن قلب المرء عند متاعه فعجب منه سلمان، فقال له الزهري: أصلح الله الأمير، إنه لجاري منذ عشرين سنة ما جالسته ولا حادثته: قال: لأني من المساكين يا بن شهاب، ولو كنت من الأغنياء لجالستني، وحادثتني قال: قرصتني(10/68)
يا أبا حازم قال: نعم وأشد من هذا أقرصك، قال: لقد أتى علينا زمان، وإن الأمراء تطلب العلماء فتأخذ مما في أيدهم، فتنتفع به، فكان في ذلك صلاح الفريقين جميعاً، وطلبت اليوم العلماء الأمراء، وركنوا إليهم، واشتهوا ما في أيدهم، فقالت الأمراء: ما طلب هؤلاء ما في أيدينا حتى كان ما في الدنيا خير مما في أيديهم، فكان في ذلك فساد الفريقين كليهما، فقال سليمان بن هشام: صدقت، والذي لا إله إلا هو، ولأزهدن في الزهري من بعد اليوم.
وفي حديث آخر
قال له سليمان: يا أبا حازم: ليت شعري، ما لنا عند الله، قال: اعرض عملك على كتاب الله، قال: فأين أجد كتاب الله؟ قال: " إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم: قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: " قريب من المحسنين ".
قال سليمان: يا أبا حازم، ليت شعري، كيف العرض غداً على الله تعالى؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكا لآبق يقدم على مولاه. فبكى سليمان حتى اشتد بكاؤه، ثم قال: يا أبا حازم، كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعون عنكم الصلف، وتمسكون بالمروءة، وتقسمون بالسوية، قال: وكيف المأخذ لذلك؟ قال: تأخذه من حقه، وتضعه في أهله، قال: يا أبا حازم، من أفضل الخلائق؟ قال: أولو المروءة والنهي، قال: فما أعدل العدل؟ قال: العدل قول الحق عند من ترجوه وتهابه، قال: يا أبا حازم، ما أسرع الدعاء؟ قال: دعاء المحسن إليه للمحسن، قال: ما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى البائس الفقير، لا يتبعها منّ ولا أذى، قال: من أكيس الناس؟ قال: رجل ظفر بطاعة الله، فعمل بها، ثم دل الناس عليها، فعملوا بها، قال: من أحمق الخلق؟ قال: رجل انحط في هوى أخيه، وهو ظالم، فباع أخرته بدنيا غيره.
قال: يا أبا حازم، هل لك أن تصحبنا، فتصيب منا، ونصيب منك؟ قال: كلاّ. قال: ولم؟ قال: أخاف أن أركن إليكم شيئاً قليلاً، فيذيقني الله ضعف الحياة، وضعف الممات، ثم لا يكون لي منه نصيراً، قال: ارفع إليّ حاجتك؟! قال: نعم تدخلني الجنة، وتخرجني من النار، قال: ليس ذلك إليّ قال: فما لي حاجة سواها، قال: ادع الله(10/69)
لي. قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة. وإن كان سليمان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: قط؟! قال أبو حازم قد أكثرت وأطنبت، إن كنت أهله، وإن لم تكن أهله، فما حاجتك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر؟ قال سليمان: يا أبا حازم، ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ قال: بل نصيحة بلغها إليّ، قال: إن آباءك غصبوا الناس هذا الأمر وأخذوه عنوة بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس، وقد قتلوا فيه مقتلة عظيمة، وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم؟ قال رجل من جلساء سليمان: بئس ما قلت، قال له أبو حازم: كذبت، إن الله أخذ العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه، قال: يا أبا حازم، أوصني، قال: نعم، سوف أوصيك فأوجز، قال: نزه الله أن يراك حيث ينهاك، أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام.
فلما ولي قال: يا أبا حازم، هذه مئة دينار، أنفقها، ولك عندي أمثالها كثير، فرمى بها، وقال: ما أرضاها لك، فكيف أرضاها لنفسي؟! أني أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً، وردي عليك بذلاً، إن موسى بن عمران لما ورد ماء مدين وجد عليه رعاء يسقون ووجد من دونهم جاريتين تذودان، ثم قرأ: " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير " فسأل موسى ربه، ولم يسأل الناس، ففطنت الجاريتان، ولم يفطن الرعاء، فآتيتا أباهما، وهو شعيب، فأخبرتاه، فقال شعيب: ينبغي أن يكون هذا جائعاً، ثم قال لإحداهما: ادعيه لي، فلما أتته أعظمته، وغطت وجهها، وقالت: " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فكره ذلك موسى، وأراد ألا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف، فخرج معها فأتيا على شعيب، والعشاء مهيأ، فقال: اجلس يا شاب فكل، فقال موسى: لا، قال شعيب: لم؟ الست بجائع؟ قال: بلى، ولكني من أهل بيت لا نبيع شيئاَ من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً، وأخشى أن يكون هذه أجر ما سقيت لهما، قال شعيب: لا يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي إقراء الضيف، وإطعام الطعام، فجلس موسى فأكل.
فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً مما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير عند الاضطرار(10/70)
أحلّ منه، وإن كانت من بيت مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء إن وازيتهم بي، وإلا فلا حاجة لي بها. إن بني إسرائيل لم يزالوا على الهدي والتقى، حيث كان أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما أنكسوا وانتكسوا، وسقطوا من عين الله تعالى، وآمنوا بالجبت والطاغوت، فكان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم، فشاركوهم دنياهم، وشركوا معهم في فتكهم. فقال ابن شهاب: يا أبا حازم، لعلك إياي تعني أو بي تعرّض، فقال: ما إياك اعتمدت، ولكن هو ما تسمع، قال: سليمان: يا ابن شهاب، تعرفه؟ قال: نعم، جاري منذ ثلاثين سنة، ما كلمته كلمة قط، قال أبو حازم: إنك نسيت فنسيتني، ولو أحببت لأحببتني، قال ابن شهاب: يا أبا حازم، شتمتني، قال سليمان: ما شتمك، ولكن أنت شتمت نفسك، أما علمت أن للجار على الجار حقاً كحق القرابة يجب؟ فلما ذهب قال رجل من جلساء سليمان: أتحب أن الناس كلهم مثله؟ قال سليمان: لا.
وفي حديث آخر: أن أبا حازم دخل على سليمان بن عبد الملك بالشام في نفر من العلماء، فقال سليمان: يا أبا حازم، ألك مال؟ قال: نعم لي مالان، قال: ما هما بارك الله لك؟ قال: الرضا بما قسم الله تعالى لي، والإياس عما في أيدي الناس، قال: يا أبا حازم، ارفع لي حاجتك، قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه، فما أعطاني شكرت، وما منعني صبرت، مع أني رأيت الأشياء شيئين: فشيء لي وشيء لغيري، فما كان لي فلو جهد الخلق أن يردوه عني ما قدروا، وما كان لغيري فما نافست فيه أهله فيما مضى، فكيف فيما بقي؟ كما منع غيري في رزقي كذلك منعت رزق غيري. قال: يا أبا حازم، ما المخرج مما نحن فيه؟ قال: بالصغير الأمر، تنظر ما كان في يدك مما ليس بحق فتردّه إلى أهله، وما لم يكن لك لم تنازع فيه غيرك، قال سليمان: ومن يطيق هذا؟ قال أبو حازم: من خاف النار، ورجا الجنة، قال: يا أبا حازم، ادع الله لي، قال: ما ينفعك أن أدعو في وجهك، ويدعو عليك مظلوم من وراء الباب، فأي الدعاء أحقّ أن يجاب؟ فبكى سليمان وقام أبو حازم.(10/71)
كان أبو حازم يقول: كل حال لو جاءك الموت وأنت عليها رأيتها غنيمة فالزمه، وكل حال إذا جاءك الموت وأنت عليه رأيته مصيبة فاعتزله.
قال عمر بن عبد العزيز: عظني يا أبا حازم، قال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن يكون قبل تلك الساعة، فجد فيه الآن، وما تكره أن يكون قبل تلك الساعة فدعه الآن.
قال أبو حازم: أنزل نفسك منزل من قد مات، فإنك موقن إنك ميت، فما كنت تحب أن يكون معك إذا مت فقدمه حتى تقدم عليه، وما كنت تكره أن يكون معك إذا مت فخلّفه، واستغن عنه.
وعن أبي حازم قال: وجدت ما أعطيت من الدنيا شيئين: شيء منها يأتي أجله قبل أجلي، فأغلب عليه، وشيء منها يأتي أجلي قبل أجله، فاتركه لمن بعدي، ففي أي هذين أعصي ربي؟.
قال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا قد ألزق به ما يسوؤك.
قال أبو حازم: يسير الدنيا يشغلك عن كثير الآخرة.
قال أبو حازم: اشتدت مؤونتان، مؤونة الدنيا، ومؤونة الآخرة، فأما مؤونة الآخرة فإنك لا تجد لها أعواناً وأما مؤونة الدنيا فإنك لا تضرب يدك على شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليها.
قال أبو حازم: إذا كنت في زمان ترضى فيه من العلم بالقول، ومن العمل بالعلم، فأنت في شرّ زمان وشر أناس.(10/72)
قال أبو حازم: كل نعمة لا تقرب من الله فهي بليّة.
وقال: اضمنوا لي اثنتين أضمن لكم على الله الجنة، عمل ما تكرهون إذا أحبّ الله، وترك ما تحبون إذا كره الله عزّ وجلّ.
مرّ أبو حازم في السوق فنظر إلى الفاكهة فقال: موعدك الجنة.
قال أبو حازم: لا تكون عالماً حتى تكون فيك ثلاث خصال: لا تبغي على من فوقك، ولا تحقر من دونك، ولا تأخذ على علمك دنيا.
قال ابن أبي حازم: قال لي أبي: وهو ينظر إلى عياله وكثرتهم: أرأيت لو أنّ رجلاً تصدق على هؤلاء فأطعمهم وكساهم، يرجو الأجر فيهم، أكان له فيهم؟ قال: قلتله: أي لعمري، لم لا يكون! قال: فلم لا أكون أنا ذلك.
قال:
ومرت جارية في أيام الموسم تعرض للبيع، وقد زينت وهيئت، لها شارة وهيئة، فقال لجلسائه: انظروا إلى هذه ماذا بها من الهيئة، فنظر جلسائه، فقال: ما ثمنها عندكم؟ فقال بعضهم: وددت لو أنها لي بكذا وكذا، شيء كثير، فقال: أولا أدلكم على خير منها بأرخص ثمن؟ امرأة من حور العين إنما صداقها كسرة يطعمها أحدكم مسكيناً، أو سجود ركعتين، هذه والله أيسر عليكم من هذا الثمن كله.
ذكر عن أبي حازم أنهم أتوه فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر؟ فقال: وما يغمكم من ذلك؟ إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء.
قال أبو حازم: الأيام ثلاثة: فأما أمس فقد انقضى عن الملوك نعمته، وذهبت عني شدته، وإني وإياهم من غد لعلى وجل، وإنما هو اليوم فما عسى أن يكون؟(10/73)
قال أبو حازم: لا تعادين رجلاً ولا تناصبه حتى تنظر إلى سريرته بينه وبين الله عزّ وجلّ، فإن تكن له سريرة حسنة فإن الله تبارك وتعالى لم يكن يخذله بعداوتك له، وإن كانت له سريرة رديئة فقد كفاك مساوئه، ولو أردت أن تعمل به أكثر من معاصي الله لم تقدر.
قال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أتته الفتوح.
وقال: من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ.
وقال: لا تقتدين بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعف عن العيب ولا يصلح عند الشيب.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إني لأجد شيئاً يحزنني، قال: وما هو يا بن أخي؟ قلت: حبي للدنيا، قال: أعلم يا بن أخي هذا لشيء ما أعاتب نفسي على بعض شيء حببه الله إليّ، لأن الله تعالى قد حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، ألا يدعونا حبّها إلى أن نأخذ شيئاً من شيء يكرهه الله، ولا نمنع شيئاً من شيء أحبّه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لم يضرنا حبنا إياها.
قال أبو حازم: إن المؤمن إذا نظر اعتبر، وإذا سكت تفكر، وإذا تكلم ذكر، وإن أعطي شكر، وإن منع صبر، والفاجر إن نظر لها، وإن تكلم لغا، وإن سكت سها، وإن أعطي بطر، وإن منع كفر.
قال سفيان: قيل لأبي حازم: ما القرابة؟ قال: المودة. قيل: فما الراحة؟ قال: دخول الجنة.(10/74)
وقال: المودة لا تحتاج إلى القرابة، والقرابة تحتاج إلى المودة.
قال أبو حازم: إذا رأيت الله بتابع نعمه عليك وأنت تعصيه فاحذره.
قال أبو حازم: ليس للملول صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول.
وقال: لأن يكون لي عدو صالح أحب إلي من أن يكون لي صديق فاسد.
وقال: لأنا من أن أمنع الدعاء أخوف إلي من أن أمنع الإجابة.
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين؟ قال: إن رأيت بهما خيراً أعلنته، وإن رأيت بهما شراً سترته، قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعت خيراً وعيته، وإن سمعت بهما شراً أخفيته. قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقاً لله هو فيهما، قال: فما شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً، قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال الله عزّ وجلّ: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون " قال: ما شكر الرجلين؟ قال: إن رأيت خيراً غبطته استعملت بهما عمله، وإن رأيت شراً مقته كففتهما عن عمله، وأنت شاكر لله عزّ وجلّ، فأما من شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمثله رجل له كساء يأخذ بطرفه، ولم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحرّ والبرد والثلج والمطر.
كان أبو حازم يقول: وما الدنيا؟! وما إبليس؟! أما ما مضى منها فحلم، وأما ما بقي فأماني، وأما إبليس فلقد أطيع فما نفع، ولقد عصي فما ضر.(10/75)
وكان ينشد: من البسيط
الدهر أدّبني والصّبر ربّاني ... والقوت أقنعني واليأس أغناني
وأحمكتني من الأيام تجربة ... حتى نهيت الذي كان ينهاني
وقال أبو حازم: إن كان يغنيك من الدنيا ما يكفيك فأدنى عيش الدنيا يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس شيء يكفيك.
وقال: ثلاث من كنّ فيه كمل عقله، ومن كانت فيه واحدة كمل ثلث عقله، من عرف نفسه، وحفظ لسانه، وقنع بما رزق الله.
وقال: والله لئن نجونا من شرّ ما أعطينا لا يضرنا ما زوي عنا، وإن كنا قد تورطنا في شرّ ما قد بسط علينا ما نطلب ما بقي إلا حمقاً.
وقال أبو حازم: مثل العالم والجاهل مثل البنّاء والرقّاص، تجد البنّاء على الشاهق والقصر، معه حديدته جالساً، والرقاص يحمل اللبن والطين على عاتقه على خشبة تحته مهواة، لو زل ذهبت نفسه، ثم يتكلف الصعود بها على هول ما تحته، حتى يأتي بها إلى البنّاء، فلا يزيد البنّاء على أن يعدلها بحديدته وبرأيه وبقدرته، فإذا سلما أخذ البنّاء تسعة أعشار الأجرة وأخذ الرقاص عشراً، وإن هلك ذهبت نفسه، فكذلك العالم يأخذ أضعاف الأجر لعمله.
قال أبو حازم: أتاني رجل فقال لي: إني رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر خرجوا من هذا الباب، وقالوا: إلى أين يا رسول الله؟ قال: إلى أبي حازم نذهب به معنا، وقال ثم يقول أبو حازم أللهم حقق وعجل.
قال أبو حازم لما حضرة الموت: ما آسى عل شيء فاتني من الدنيا إلا ذكر الله، وإن هذا الليل والنهار لا يأتيان(10/76)
على شيء إلا أخلقاه، وفي الموت راحة للمؤمنين ثم قرأ: " وما عند الله خير للأبرار " توفي أبو حازم سنة خمس وثلاثين ومئة. وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ومئه. وقيل توفي سنة أربعين ومئة. وقيل: توفي سنة ثلاث وثمانين ومئة.
رأى أبو حازم أنه في الجنة. قال: فلم أفقد أحداً من إخواني إلا عوف بن يزيد فقلت: فأين عوف ين يزيد؟ قالوا: وأين عوف؟! رفع بحسن خلقه الذي تعرف.
قال سليمان بن سليمان العمري: رأيت أبا جعفر القاري على الكعبة فقلت له: أبا جعفر، قال: نعم، أقرئ أبا حازم السلام، وقل له: يقول لك أبو جعفر: الكيس الكيس فإن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات.
خرج أبو حازم يرمي بالجمار، ومعه قوم متعبدون، وهو يكلمهم ويحدثهم، ويقص عليهم، فبينا هو يمشي، وأولئك معه، إذ نظروا إلى فتاة مستترة بخمارها، وهي التي ليس على نحرها منه شيء ترمي الناس بطرفها يمنة ويسره، وقد شغلت الناس، وهم ينظرون إليها مبهوتين، وقد خبط بعضهم بعض في الطريق، فرآها أبو حازم فقال: يا هذه، اتقي الله، إنك في مشعر من مشاعر الله عظيم، وقد فتنت الناس، فاضربي بخمارك على جيبك، فإن الله تعالى يقول: " وليضربن بخمرهن على جيوبهن " فأقبلت تضحك من كلامه وقالت: أني والله يا أفرز من الطويل
من اللائي لم يحججن يبغين حسبة ... ولكن ليقتلن البريء المغفلا
فأقبل أبو حازم على أصحابه فقال: يا هؤلاء، تعالوا ندعو الله لا يعذب هذه الصورة الحسناء بالنار. فجعل يدعو وأصحابه يؤمنون.
كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك بها. أصبحت شيخاً كبيراً قد(10/77)
أثقلتك نعم الله عليك، مما أصح بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله مما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك، وكل حجة يحتج بها عليك، الغرض الأقصى، ابتلى في ذلك شكرك وأبدي فيه فضله عليك، وقد قال: " لئن شكرتهم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها، وعن حججه عليك كيف قضيتها، ولا تحسبن الله راضياً منك بالتعزيز، ولا قابلاً منك التقصير، هيهات، ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه " لتبّيننّه للنّاس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية. إنك تقول، إنك جدل ماهر عالم، قد جادلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إدلالاً منك بفهمك واقتدار منك برأيك، فأين تذهب عن قول الله عزّ وجلّ: " هأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة "؟ اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينّوه باسمك غداً مع الجرمة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقاً، ولا يرد باطلاً حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك، جعلوك قطباً تدوّر رحا باطلهم عليك، وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم، وسلما إلى ضلالتهم، وداعياً إلى غيهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك، في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسوؤل، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر(10/78)
من جعلك بدينه في الناس بخيلا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته ستيراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً، ما لك لا تنتبه من نعستك، وتستقل من عثرتك، وتقول: والله ما قمت لله مقاماً واحداً أحيي له ديناً، ولا أميت له فيه باطلاً، إنما شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه، ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عزّ وجلّ: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا " الآية. إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده، إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن تردفه على ظهرك، ذهبت اللذة، وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، أحذر قد أنبئت، وتخلص فقد وهلت، إنك تعامل من لا يجهل والذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهز فقد دنا منك سفر وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك، وترد عليك ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قول الله تعالى: " وذكر فإنّ الذكرى تنفع المؤمنين ". أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت له، أو ادخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه ذخر لك خيراً منعوه، أو علمك شيئاً جهلوه؟ بل جهلت ما ابتليت به في حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا عندك، ولكريم إكبارهم عليك؟ ورغبتهم فما في يديك ذهاب عماهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرئاسة، فطلبوا الدنيا منك ومنهم. أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ ابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم، وفتنتهم بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه(10/79)
مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.
اعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله على يدي أوليائه لأوليائه: الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله عزّ وجلّ: " أولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون " وجاه يجريه الله على يدي أعدائه لأوليائهم، ومقة يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس تعظيم أولئك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم كرغبة أولئك فيه إليهم " أولئك حزب الشيطان ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون " ما أخوفني أن تكون لمن ينظر كمن عاش مستوراً عليه في دينه، مقتورا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه، وظهور جلده وكمال شهوته، فعني بذلك دهره، حتى إذا كبرت سنه، ودق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته فتحت الدنيا عليه الدنيا شر مفتوح، فلزمته تبعتها، وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها، فسبحان الله، ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر. فهلا إذ عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد " حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد - أما بعد. فاعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا. فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث في سنه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ إنا لله وإنا إليه لراجعون. على من المعول، وعند من المستعتب؟ نحتسب عند الله مصيبتنا، ونشكو إلى الله بثّنا، وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(10/80)
سلمة بن سبرة
شهد فتوح الشام قال سلمة بن سبرة: خطبنا معاذ بن جبل فقال: أنتم المؤمنين، وأنتم أهل الجنة، وأني لأطمع أن يدخل من تصيبون من فارس والروم الجنة. إن أحدهم إذا عمل لكم عملاً قلتم: أحسنت يرحمك الله، أحسنت بارك الله فيك، ويقول الله تعالى: " ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله " وحدث عن سلمان الفارسي قال: إذا رجف قلب العبد في سبيل الله تحاتت خطاياه كما يتحات عذق النخلة، وذكر من الصلاة مثل ذلك.
سلمة بن شبيب
أبو عبد الرحمن النيسابوري المسمعي أحد الأئمة الرحالين، سمع بدمشق وبغيرها من الشام وبالحجاز وبخراسان وبالعراق.
حدث مروان عن محمد الدمشقي بسنده عن عقبه بن عامر الجهني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا رأيتم الله يعطي العباد ما يشاؤون على معصيتهم إياه فإنما ذلك استدراج منه لهم ثم قرأ: " فلما نسوا ما ذكروا به " إلى قوله: " أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " توفي سلمة بن شبيب في رمضان سنة سبع وأربعين ومئتين في مكة.
قال سلمة بن شبيب النيسابوري: بعت داري بنيسابور، وأردت أن أتحول على مكة بعيالي أجاور بها، فلما فرغت الدار قلت: أصلّي ركعات، وأودع عمار الدار، فصليت ركعات، ثم قلت: يا عمار الدار، سلام عليكم، فإنا خارجون إلى مكة نجاور بها، فسمعت هاتفاً من بعض البيوت: وعليك السلام(10/81)
يا سلمة، ونحن والله خارجون منها، فإنه بلغنا أنه اشتراها رجل يقول: القرآن مخلوق، ونحن لا نقيم في مكان يقال فيه القرآن مخلوق.
قال سلمة بن شبيب النيسابوري بمكة: سئلت أن أحدّث وأنا ابن خمسين سنة، فحدثت مدة، ثم أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام كأنه يقول لي: يا سلمة، لا تحدّث، فما آن لك أن تحدث، فلما حضرني أصحاب الحديث امتنعت عن التحديث، وسألوني، واجتمعوا غير مرة، فلم أحدث، فلما بلغت السبعين رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام كأنه يقول لي: يا سلمة حدث، فقد آن لك أن تحدث، فبكرت إلى المسجد، وجمعت أصحاب الحديث وحدّثتهم، فتعجبوا من ذلك، وقالوا: سألناك غير مرة، فلم تحدث، والآن فقد دعوتنا لتحدثنا! فقصصت عليهم رؤياي، فقلت: إنما أمسكت عن التحديث بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والآن حدثت بأمره.
وقيل: كانت وفاة سلمة بن شبيب سنة ست وأربعين ومئتين، ومات في أكلة فالوذج.
سلمة بن صالح العنبسي الحرستاني
حدث عن أبي جرير بسنده عن عائشة قالت: عمّمَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا وترك من عمامته مثل ورق العشراء ثم قال: رأيت أكثر من رأيت من الملائكة معتمّين.
سلمة بن عبد الله بن الوليد
ابن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، القرشي المخزومي حدث سلمة بن عبد الله بن الوليد عن أبيه: أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ما اسمك؟ فقال: الوليد بن الوليد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كانت بنو مخزوم أن يجعلوا أبا ابنك عبد الله بن الوليد.(10/82)
قال الزبير بن بكار: وولد الوليد بن الوليد: عبد الله، وأمّه ريطه بنت هشام بن المغيرة وكان عبد الله ولد بعد موت أبيه، فسمي الوليد بن الوليد، فقالت أم سلمة بنت أبي سلمة ترثي الوليد: مجزوء الكامل
يا عين بكّي للولي ... د بن الوليد بن المغيرة
مثل الوليد بن الولي ... د أبي الوليد كفى العشيرة
الأبيات فسمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما اتخذتم الوليد إلا حناناً فسموه عبد الله. فولد عبد الله بن الوليد، وأمه سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة، وإخوته لأمه: يحيى وعيسى ابنا طلحة بن عبيد الله، والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
سلمة بن عمرو بن الأكوع
واسمه سنان بن عبد الله بن بشير بن خزيمة بن مالك بن سلامان ابن أسلم بن أفصى بن حارثة أبو عامر، ويقال: أبو مسلم ويقال: أبو إياس الأسلمي المعروف بابن الأكوع قيل: إنه شهد غزوة مؤته من أرض البلقاء.
حدث سلمة بن الأكوع أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي المغرب إذا غابت الشمس وتوارت بالحجاب.
وحدث أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ - يعني مؤتة -: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرجالة سلمة بن الأكوع.
قال الحافظ: كذا قال الواقدي، وهو وهم، إنما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا، يوم أغار(10/83)
عبد الرحمن بن عيينة بن حصن الفزاري على لقاحه بالغابة بالمدينة. قال: وقد ذكرت ذلك في ترجمة أبي قتادة إلا أن يكون قاله في المواطنين جميعاً. فالله أعلم.
مات أبو العباس سلمة بن الأكوع بالمدينة سنة أربع وسبعين، وكان يسكن الربذة. والرواة تقول في المجاز: سلمة بن الأكوع، ينسبونه إلى جده، وكان سلمة يوم مات ابن ثمانين سنة، وكان يصفر لحيته.
قال سلمة بن الأكوع ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستفتح دعاء إلا استفتحه بسبحان ربي الأعلى العليّ الوهاب.
وقال سلمة: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن بايعه تحت الشجرة، ثم مررت به بعد ذلك ومعه قوم فقال: بايع يا سلمة فقلت: قد فعلت فقال: وأيضاً، فبايعته الثانية.
قال يزيد بن أبي عبيد: قال سلمة بن الأكوع: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عدلت إلى ظل شجرة، فلما خف الناس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا بن الأكوع ألا تبايع؟ قلت: قد بايعت يا رسول الله، قال: وأيضاً، قال: فبايعت الثانية: قال يزيد: فقلت: يا أبا مسلم على أي شيء تبايعون يومئذ؟ قال: على الموت.
قال سلمة بن الأكوع: غزوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع غزوات، ومع يزيد بن حارثة تسع غزوات أمّره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا.
قال سلمة بن الأكوع: كان شعارنا ليلة بيتنّا فيها هوازن مع أبي بكر الصديق أمّره علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمت أمت. وقتلت بيدي ليلتئذ سبعة من أهل أبيات.(10/84)
قال سلمة:
غزوت مع أبي بكر أمّره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، فغزونا هوازن. فلما دنونا من ماء لبني فزارة عرّس بنا أبو بكر، فلما صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، ووردنا الماء، فقتل من قتل عليه، ورأيت عنقاً من الذراري في أوائل الناس، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فغدوت حتى حلت بينهم وبين الجبل، وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم، معها ابنة لها من أحسن الناس، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني ابنتها فما كشفت لها عن ثوب حتى قدمت المدينة، فلقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السوق، فقال لي: يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك، فقلت: يا نبي الله أعجبتني المرأة، وما كشفت لها ثوباً، فسكت عني، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق ولم أكشف لها ثوباً، فقال: يا سلمة، هب لي المرأة لله أبوك قال قلت: هي لك يا رسول الله، فبعث بها إلى أهل مكة ففادى بها أسارى من المؤمنين في أيدي المشركين.
وعن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: جاء عين للمشركين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلما طعم انسلّ، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليّ بالرجل، اقتلوه قال: فابتدر القوم، قال: وكان أبي يسبق الفرس شدّاً. قال: فسبقهم إليه فأخذ بزمام ناقته أو بخطامها. قال: ثم قتله. قال: فنفّله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلبه.
وعن يزيد بن أبي عبيد قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة، فقلت: يا أبا مسلم، ما هذه الضربة؟ قال: هذه ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنفث فيه ثلاث نفثات فما اشتكيتها حتى الساعة.
وعن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: قدمنا المدينة زمن الحديبية مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرجنا أنا ورباح غلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(10/85)
بظهر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرجت بفرس لطلحة بن عبيد الله، كنت أريد أن أندّيه مع الإبل، فلما كان بغلس أغار عبد الرحمن بن عيينة على إبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتل راعيها، وخرج يطردها هو وأناس معه في خيل، فقلت: يا رباح، اقعد على هذا الفرس، فألحقه بطلحة، وأخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قد أغير على سرجه، قال: وقمت على تل، فجعلت وجهي من قبل المدينة، ثم ناديت ثلاث مرات: يا صباحاه قال: ثم أتبعت القوم، معي سيفي ونبلي، فجعلت أرميهم وأعقر بهم، وذلك حين كثر الشجر، فإذا رجع إليّ فارس جلست له في أصل الشجرة، ثم رميت، فلا يقبل عليّ فارس إلا عقرت به، فجعلت أرميهم وأقول: أنا بن الأكوع، اليوم يوم الرّضع، فألحق برجل منهم فأرميه، وهو على راحلة من رحله، فيقع سهمي في الرجل حتى انتظمت كتفه فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فإذا كنت في الشجر أخرقتهم بالنبل، وإذا تضايقت الثنايا علوت الجبل فردأتهم بالحجارة فما زال ذلك شأني وشأنهم، أتبعهم، وأرتجز حتى ما خلق الله شيئاً من ظهر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا خلفته وراء ظهري، واستنفدته من أيديهم، ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحاً وأكثر من ثلاثين بردة، يستخفون منها، ولا يلقون من ذلك شيئاً إلا جعلت عليه حجارة، وجمعت على طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا امتد الضحى أتاهم عيينة بن بدر الفزاري، مدداً لهم، وهم في ثنية ضيقة، ثم علوت الجبل فأنا فوقهم، فقال عيينة: ما هذا الذي أرى؟ قالوا: لقينا من هذا البرح ما فارقنا لسحر حتى الآن، وأخذ كل شيء كان في أيدينا، وجعله وراء ظهره، قال عيينة: لولا أن هذا يرى أن وراءه طلباً(10/86)
لقد ترككم، ليقم إليه نفر منكم، فقام إليه نفر منهم أربعة فصعدوا في الجبل، فلما أسمعتهم الصوت قلت: أتعرفوني؟ قالوا: من أنت؟ قلت: أنا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يطلبني منكم رجل فيدركني، ولا أطلبه فيفوتني، قال رجل منهم: أني أظن. قال: فما برحت مقعدي ذلك حتى نظرت إلى فوارس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخللون الشجر، وإذا أولهم الأخرم الأسدي وعلى إثره أبو قتادة فارس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى إثر أبي قتادة المقداد الكندي، فولّى المشركون مدبرين، وأنزل من الجبل فأعرض للأخرم، فآخذ بعنان فرسه، فقلت: يا أخرم، انذر القوم يعني: احذرهم، فأني لا آمن أن يقطعوك، فاتئد حتى يلحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه. قال: يا سلمة، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلم أن الجنة حق والنار حق فلا تحل بيني وبين الشهادة. قال: فخليت عنان فرسه فيلحق بعبد الرحمن بن عيينة، ويعطف عليه عبد الرحمن فاختلفا طعنتين، فعقر الأخرم بعبد الرحمن وطعنه عبد الرحمن فقتله فتحول عبد الرحمن على فرس الأخرم، فيلحق أبو قتادة بعبد الرحمن، فاختلفا طعنتين فعقر بأبي قتادة وقتله أبو قتادة وتحول أبو قتادة على فرس الأخرم.
ثم أني خرجت أعدو في أثر القوم حتى ما أرى من غبار صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، ويعرضون قبيل غيبوبة الشمس إلى شعب فيه ماء يقال له: ذوقرد، فأرادوا أن يشربوا منه فأبصروني أعدوا وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية ثنية ذي تير، وغربت الشمس فألحق رجلاً فأرميه فقلت:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
قال: فقال: يا ثكل أمي أكوعي بكرة؟ فقلت: نعم يا عدو نفسه، وكان الذي رميته بكرة، فأتبعته سهماً آخر فعلق به سهمان ويخلفون فرسين، فجئت بهما أسوقهما إلى(10/87)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على الماء الذي حلّيتم عنه، ذوقرد، فإذا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خمس مئة وإذا بلال قد نحر جزوراً مما خلفت، فهو يشوي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من كبدها وسنامها، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، خلّني فأنتخب من أصحابك مئة فآخذ على الكفار بالعشوة فلا يبقى منهم مخبوء إلا قتلته، قال: أكنت فاعلا ذلك يا سلمة؟ قال: نعم والذي أكرمك، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى رأيت نواجذه في ضوء النهار ثم قال: إنهم يقرون الآن بأرض غطفان، فجاء رجل من غطفان فقال: مروا على فلان الغطفاني فنحر لهمم جزوراً، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة، فتركوها هراباً، فلما أصبحنا قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة، فأعطاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سهم الراجل والفارس جميعاً، ثم أردفني وراءه على العضباء راجعين إلى المدينة. فلما كان بيننا وبينها قريباً من ضحوة " وفي القوم رجل من الأنصار كان لا يسبق - جعل ينادي هل من مسابق؟ ألا رجل يسابق إلى المدينة؟ فأعاد ذلك مراراً وأنا وراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مردفي قلت له: أما تكرم كريماً ولا تهاب شريفاً؟ قال: لا إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي خلني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قلت: اذهب إليه، فطفر عن راحلته وتثنيت رجلي وطفرت عن الناقة، ثم أني ربطت عليه شرفاً أو شرفين، يعني استبقيت نفسي، ثم أني عدوت حتى ألحقه فأصكّ بين كتفيه بيدي. قلت: سبقتك والله أو كلمة نحوها قال: فضحك وقال: أنا أظن، حتى قدمنا إلى المدينة.
قال عبد الرحمن بن رزين: أتينا سلمة بن الأكوع بالرّبذة فأخرج إلينا يداً ضخمة كأنها خف البعير فقال: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي هذه، فأخذنا يده فقبلناها.(10/88)
وعن سلمة بن الأكوع قال: أردفني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراراً، ومسح على وجهي مراراً، واستغفر لي مراراً، عدد ما في يديّ من الأصابع.
وعن سلمة بن الأكوع قال: استأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البداوة فأذن لي.
وعن سلمة بن الأكوع أنه قدم المدينة فلقيه بريدة بن الحصيب فقال: ارتددت عن هجرتك يا سلمة؟! فقال: معاذ الله، أني في إذن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ابدوا يا أسلم فتنسموا الرياح، واسكنوا الشّعاب، فقالوا: إنا نخاف يا رسول الله أن يضرنا ذلك في هجرتنا فقال: أنتم مهاجرون حيث كنتم.
قال سلمة بن الأكوع قال: كنت أحرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبعض حاجته، فاتكأ على يدي، فمررنا رجل في المسجد رافعاً صوته يصلي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عسى أن يكون هذا مرائياً. قال: فقلت: يا رسول الله، رجل يصلي ويدعو ربه قال: فرفض يدي ثم قال: إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة والشدة. قال أحدهما، قال: ثم خرج ليلة أخرى فوجدني فاتكأ على يدي، فمررنا برجل يصلي في المسجد رافعاً صوته فقلت: يا رسول الله، عسى أن يكون هذا مرائياً؟ قال: لا، ولكنه أوّاه، فذهبت أنظر فإذا هو عبد الله ذو البجادين والآخر إعرابي.
كان ابن عباس وابن عمرو أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وجابر بن عبد الله ورافع بن خديج وسلمة بن الأكوع وأبو واقد الليثي وعبد الله بن بحينة مع أشباه لهم من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتون بالمدينة ويحدثون عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا. ولما قتل عثمان بن عفان خرج سلمة بن الأكوع على الرّبذة، وتزوج هناك امرأة، وولدت له أولاداً، فلم يزل بها حتى قبل أن يموت بليال فنزل المدينة.(10/89)
سلمة بن عمرو العقيلي
قاضي دمشق في أيام العباس حدث سلمة بن عمرو، وكان ثقة من أهل دمشق بحضرة الأوزاعي، قال:
شهدت عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بدمشق على باب الصغير، صلى على جنازة بعض ولد صالح بن علي، فكبر عليه خمساً، ثم رُفعت الجنازة، ووضعت جنازة أخرى، فصلى عليها عبد الله بن علي فكبر عليها أربعاً، ثم بُسط له بساط، فجلس عليه، والناس قيام بين يديه من بين هاشمي وأموي وعربي ومولى، ما يقول لرجل منهم اجلس، فقال خادم له: أصلح الله الأمير إنك كبرت أربعاً وخمساً، وأنت بين أعدائك من الشام، فقال له: اسكت، حدثني أخواي محمد وداود ابنا علي بن عبد الله بن عباس عن أبي وأبيهما علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يكبر على الجنائز، ويكبر أربعاً، ويكبر خمساً، ويقول: كلٌ سنّة.
قال أبو مسهر: قال سلمة بن عمرو القاضي على المنبر: لا رحم الله أبا فلان، فإنه أول من زعم أن القرآن مخلوق.
سلمة بن العيّار بن حصن
ابن عبد الرحمن أبو مسلم الفزاري الدمشقي والعيّار لقب، واسمه أحمد.
حدث سلمة بن العيار عن مالك بسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يحب الرفق في الأمر كله " وحدث سلمة بن العيار عن عبد الله بن لهيعة بسنده عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قريش خالصة الله، فمن نصب لها حرباً، أو من حاربها، سُلب، ومن أرادها بسوء خُزي في الدنيا وفي الآخرة.
مات سلمة بن العيّار سنة ثمان وستين ومئة. وقيل: سنة ثلاث وستين ومئة.(10/90)
سلمة بن كلثوم الكندي
قال ابن مندة: عداده في أهل دمشق.
حدث سلمة بن كلثوم عن يزيد بن السمط بسنده عن أنس بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه بصق وهو يصلي ونعلاه في رجليه، فدلك بزاقه بنعله.
وحدث سلمة بن كلثوم عن الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً، ثم أتى قبل الميت فحثا عليه من قِبل رأسه ثلاثاً.
قال ابن أبي داود أحد رواة هذا الحديث: وليس يروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث صحيح أنه كبر على جنازة أربعاً إلا هذا، ولم يروه إلا سلمة بن كلثوم، إنما يروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كبر على النجاشي أربعاً، وأنه صلى على قبر فكبر أربعاً.
قال سلمة بن كلثوم: سمعت إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله.
قال سلمة بن كلثوم: سمعت عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي يقول: إن المؤمن يُقلّ الكلام، ويكثر العمل، وإن المنافق يكثر الكلام ويقل العمل.
سلمة بن كُهيل
أبو يحيى الحضرمي ثم التنعي الكوفي روى
سلمة بن كهيل عن الشعبي أن علياً رحمه الله رجم المرأة، ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(10/91)
وعن سلمة قال: سمعت جندب ولم أسمع أحداً يقول: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا جندب قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من سمع سمّع الله به " وحدث الأعمش عن سلمة بن كهيل قال: رأيت رأس الحسين بن علي رضي الله عنهما على القنا وهو يقول: " فسيكفيكم الله وهو السميع العليم " وقال: إن كل راو لهذا الحديث قال لمن رواه له: الله إنك سمعته من فلان؟ قال: الله، إني سمعته منه، إلى الأعمش. قال الأعمش: فقلت لسلمة بن كهيل: الله، إنك سمعته منه؟ قال: الله، إني سمعته منه بباب الفراديس بدمشق لا مُثّل لي ولا شُبّه لي وهو يقول: " فسيكفيكم الله وهو السميع العليم ".
ولد سلمة سنة أربعين. ومات سنة إحدى وعشرين ومئة يوم عاشوراء. وقيل: ولد سنة سبع وأربعين، قبل قتل الحسين بن علي بثلاث عشر سنة.
ولد سلمة بن كهيل بن حصين بن ثمارج بن هانئ بن عقبة بن مالك بن شهاب بن أخينس بن نمر بن كليب بن نمر بن عمر بن خولي بن زيد بن الحارث بن الحضرمي بن قحطان بن عابر، وهو هود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، ابن فالج، وولد سلمة ثلاثة: يحيى ومحمد وإبراهيم.
قال أبو عبد الله الصوري: التنعيون منسوبون إلى تنعة بطن من حضرموت نزلوا الكوفة. قال: ولا أعلم منهم أحداً غلا منها، منهم حجر بن عنبس التنعي وسلمة بن كهيل وجماعة.
وقيل: توفي سلمة سنة اثنتين وعشرين ومئة، وكان أبيض الرأس واللحية لا يخضب.
قال سفيان الثوري: حدثنا سلمة بن كهيل، وكان ركناً من الأركان، وشد قبضته.(10/92)
كان عبد الرحمن بن مهدي يقول: الحُفاظ أربعة: عمرو بن مرة، ومنصور، وسلمة بن كهيل، وأبو حصين.
كان طلحة يقول: ما اجتمعنا في مكان إلا غلبنا هذا القصير على أمرنا، يعني سلمة بن كهيل.
وكان في سلمة تشيع قليل، وهو من ثقات الكوفيين.
وقال يحيى بن معين: سلمة بن كهيل شيعي مغال.
وقال غيره: هو ثقة ثبت، على الشيعة.
حدث يحيى ين إسماعيل بن سلمة بن كهيل قال: كانت لي أخت أسن مني، فاختلطت وذهب عقلها، وتوحشت، وكانت في غرفة في أقصى سطوحنا، فمكثت بضع عشرة سنة، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الطهور والصلاة، وتتفقد الأوقات، وربما غلب على عقلها أياماً فتحفظ ذلك حتى تقضيه. فبينما أنا نائم ذات ليلة إذا باب بيتي يدق في نصف الليل، فقلت: من هذا؟ قال: لخه! فقلت: أختي! قالت: أختك، فقلت: لبيك، فقمت وفتحتُ الباب، فدخلتْ ولا عهد لها بالبيت من أكثر من عشر سنين، فقلت لها: يا أختاه، خير؟! قالت: خير، أتيت الليلة في منامي، فقيل لي: السلام عليك يا لخة، فرددت، فقيل لي: إن الله قد غفر لجدك سلمة وحفظك بأبيك إسماعيل، فإن شئت دعوت الله، فأذهب ما بك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فإن أبا بكر وعمر شفعا لك إلى الله لحب أبيك وجدك أباهما. قالت: فقلت: إن كان لا بد من اختيار أحدهما فالصبر على ما أنا فيه، والجنة، وإن الله لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء إن شاء أن يجمعهما لي فعل قيل: قد جمعهما لك، ورضي عن أبيك وجدك لحبها أبا بكر وعمر، قومي فانزلي. فأذهب الله ما كان بها وعادت إلى أحسن الحال.
وقيل: توفي سنة ثلاث وعشرين ومئة. وقيل: إنه جيء به في محمل، مات بطريق مكة.(10/93)
قال ابن الأجلح لسلمة بن كهيل: إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في نومي فتحدثني بما رأيت فافعل، فقال سلمة له: وأنت إن مت قبلي فقدرت أن تأتيني في نومي فتخبرني بما رأيت فافعل، فمات سلمة قبل الأجلح، فقال لي أبي: بني، علمت أن سلمة أتاني في نومي فقلت: أليس قدمت قال: إن الله عزّ وجلّ قد أحياني. قال: قلت: كيف وجدت ربك؟ قال: رحيماً يا أبا حُجية قال: أيش رأيت افضل الأعمال التي يتقرب بها العباد؟ قال: ما رأيت عندهم أشرف من صلاة الليل. قال: كيف وجدت الأمر قال: سهلاً ولكن لا تتكلوا.
سلمة بن موسى أبو موسى الأنصاري
من أهل دمشق.
روى عن الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لخيرُ يوم طلعت فيه الشمس ليوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة.
توفي أبو موسى سنة سبع عشرة ومئتين.
سلمة بن هشام بن المغيرة
ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب، أبو هاشم المخزومي له صحبة، وهو قديم الإسلام، دعا له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صلاته. شهد غزوة مؤتة في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خرج إلى الشام مجاهداً فقتل بأجنادين ويقال: يوم مرج الصفر.(10/94)
روى جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان صبيحة خمس عشرة من رمضان يقوم في صلاة الصبح، فإذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة. قال: اللهم، أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنجِ سلمة بن هشام، اللهم، أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم، أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم، اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف، اللهم العن رعلاً، والعن لحيان، والعن ذكوان، بنو غفار، غفر الله لها، اسلم سالمها الله، وبنو عصية عصوا الله ورسوله، الله أكبر، فدعا كذلك خمس عشرة ليلة حتى إذا كان صبيحة الفطر ترك الدعاء لهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا نبي الله مالك لا تدعو للنفر؟ قال: وما علمت أنه قدموا؟! قال: بينا هو يذكرهم انفتح عنهم الطريق، يسوق بهما الوليد بن الوليد قد نُكب بالحرة، وقد سار بهم ثلاثاً على قدميه يقول:
هل أنت غلا إصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
يا نفسي إلا تقتلي تموتي
قال: فهيج بن يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قضى الدنيا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا الشهيد، أنا عليه شهيد ".
ولما خرج الوليد بن الوليد من المدينة إلى عياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام خرجا جميعاً معه، وجاء الخبر قريشاً، فخرج خالد بن الوليد معه نفر من قومه، حتى بلغوا عسفان فلم يصيبوا أثرا ولا خبراً عنهم، وكان القوم قد أخذوا على يد بحر حتى خرجوا على أصح طريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي سلك حين هاجر إلى المدينة.
وكان سلمة بن هشام في بعث مؤتة، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام! أيشتكي شيئاً؟ قالت امرأته: لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج، إذا خرج صاحوا به وبأصحابه: يا فرار أفررتم في سبيل الله؟! حتى قعد في البيت، فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل هم الكُرّار في سبيل الله. فليخرج، فخرج.(10/95)
وأم سلمة بن هشام: ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة. وهو قديم الإسلام بمكة، وهاجر إلى أرض الحبشة، ثم رجع سلمة بن هشام من أرض الحبشة إلى مكة، فحبسه أبو جهل، وضربه وأجاعه وأعطشه، فدعا له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: ثم أفلت سلمة بن هشام، فلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدين، وذلك بعد الخندق فقالت أم ضباعة: من الرجز
اللهم رب الكعبة المسلمة ... أظهر على كل عدو سلمة
له يدان في الأمور المبهمة ... كف بها يعطي وكف منعمة
فلم يزل معه إلى أن قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج مع المسلمين إلى الشام حين بعث أبو بكر الجيوش لجهاد الروم، فقتل سلمة بن هشام بمرج الصفر شهيداً في المحرم سنة أربع عشرة في أول خلافة عمر بن الخطاب. وقيل: قتل يوم أجنادين. وقد تقدم أن أجنادين كانت في سنة ثلاث عشرة.
سلم بن زياد بن عبيد
الذي يقال له ابن أبى سفيان أبو حرب من أهل البصر. قدم على يزيد بن معاوية فولاه خراسان.
قال هشام: لما ولى يزيد بن معاوية سلم بن زياد خراسان أتى يزيد بكأس فأقبل على الساقي فقال: من الخفيف
اسقني تروي عظامي ... ثم مل فاسق مثلها ابن زياد
موضع العدل والأمانة مني ... وعلى ثغر مغنمي وجهادي
ثم أقبل على سلم فقال: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك، وأتعبك أبوك فلا تُربحن(10/96)
نفسك، وأنت في أدنى حظك فابُلغ أقصاه، وإياك مني قبل أن أقول إياي منك، فإن الظن إذا اختلف فيك أخلف منك، واذكر في يومك أحاديث غدك.
قال سلم بن زياد بن أبيه: من الطويل
فإن تكن الدنيا تزول بأهلها ... فقد نلت من ضرائها ورخائها
فلا جزعاً مني عليها ولا أسى ... إذا هي يوماً أذنت بفنائها
لما أذنت النوار لعبد الله بن الزبير في تزويجها بالفرزدق، حكم عليه لها بمهر مثلها عشرة آلاف درهم، فسأل: هل بمكة أحد يعينه على ذلك؟ فدُل على سلم بن زياد، وكان ابن الزبير حبسه فقال فيه: من الطويل
دعي مغلقي الأبواب دون فعالهم ... ومري تمشي بي هُبلت إلى سلم
إلى من يرى المعروف سهلاً سبيله ... ويفعل أفعال الكرام التي تنمي
ثم دخل على سلم فأنشده قال: هي لك، ومثلها نفقتك، فأمر له بعشرين ألف درهم، فقبضها، فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عمرو بن العاص: أتعطي عشرين ألفاً وأنت محبوس؟ فقال: من الطويل
ألا بكرت عرسي تلوم سفاهة ... علىما مضى مني وتأمر بالبخل
فقلت لها والجود مني سجية ... وهل يمنع المعروف سؤاله مثلي؟
ذريني فإني غير تارك شيمتي ... ولا مقصر عن السماحة والبذر
ولا طارد ضيفي إذا جاء طارقاً ... وقد طرق الأضياف شيخي من قبلي
أأبخل إن البخل ليس مخلدي ... ولا الجود يدنيني إلى الموت والقتل
أبيع بني حرب بآل خويلد ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل
وليس ابن مروان الخليفة طائعاً ... لفحل بني العوّام قبح من فحل
فإن تظهروا لي البخل آل خويلد ... فلا ذلك ذلي ولا شكلكم شكلي
وإن تقهروني حيث غابت عشيرتي ... فمن عجب الأيام أن تقهروا مثلي(10/97)
قال سلم بن زياد لطلحة بن عبد الله بن خل الخزاعي: إني أريد أن أصل رجلاً له علي حق وصحبة بألف ألف درهم فما ترى؟ قال: أرى أن تجعل هذه لعشرة قال: فأصله بخمس مئة ألف درهم قال: كثير، فلم يزل حتى وقف على مئة ألف درهم. قال: أفترى مئة ألف درهم نقضي بها ذمام رجل له انقطاع وصحبة ومودة وحق واجب؟ قال: نعم. قال: هي لك، وما أردت غيرك فقال له: أقلني. قال: لا أفعل والله أبداً.
كان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان، وكان مكرماً له وابن عرادة يتجنى عليه إلى أن تركه، وصحب غيره، فلم يحمده أمره فرجع إليه وقال: من الطويل
عتبت على سلم فلما فقدته ... وصاحبت أقواماً بكيت على سلم
رجعت إليه بعد تجريب غيره ... فكان كبرء بعد طول من السقم
سلم بن قتيبة بن مسلم
ابن عمرو بن الحسين بن ربيعة بن خالد بن أسيد الخير بن كعب بن قضاعي بن هلال بن عمرو بن سلامة بن ثعلبة بن وائل بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد ابن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان قال قتيبة بن مسلم: سمعت ابن أبي مليكة يقول: سمعت عائشة تقول: جاء بي جبريل عليه السلام إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قطعة حرير فقال: يا محمد، هذه زوجتك في الدنيا والآخرة.
حدث سلم بن قتيبة عن يحيى بن الحضين بن المنذر بسنده عن عمار بن ياسر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأكل الهدية حتى يأكل منها من أهداها إليه بعدما أهدت إليه المرأة الشاة المسمومة بخيبر.
وعن سلم بن قتيبة عن محمد بن سيرين قال: إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذراً، فإن لم تجد له عذراً فقل: لعل له عذراً.
قال سلم بن قتيبة وكان من العبّاد: إن الرجل ليجيئه السائل فيستقل ما عنده، فيختار شر الأمرين من المنع.(10/98)
وقال الشاعر في مثله: من البسيط
وما أبالي إذا ضيفي تضيفني ... ما كان عندي إذا أعطيت مجهودي
جهد المقل إذا أعطاك مصطبراً ... ومكثر من غنى سيان في الجود
قال أبو عمرو المديني: عرضت لي إلى سلم بن قتيبة حاجة، وهو والي البصرة، فلقيت بعض أصحابه فسألته القيام بها فضمنها، ومكثت أختلف إلى باب سلم أياماً، والرجل يمطلني، ويذكر أن الكلام في الحاجة لا يمكن، فبينا أنا في الباب ذات يوم إذ خرج سلم فوقعت عينه علي، وقد كانت بيني وبينه مودة متقدمة، فدعاني فقال: أتطالب قبلنا شيئاً يا أبا عمرو؟ فقلت: نعم، حاجة حملتها فلاناً مذ أيام، فقال: إن كنت لأظن أنك أحزم مما أرى، إذا كانت لك إلى رجل حادة فلا تحملنها من له قبله طعمة، فإنه لن يؤثرك على طعمته، ولا تحملنها كذباً فإن الكذاب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب، ولا تحملنها أحمق فإنه يجهد لك نفسه ثم لا يصنع شيئاً، قال: ثم أمر بقضاء حاجتي.
أتى رجل سلم بن قتيبة، فمثل بين يديه ثم قال: إني واله ما وقفت هذا الموقف حتى بعت دابتي وسرجه وسيفي وحليته، ثم ميزت فوقع الاختيار عليك، قال: فأطرق سلم ثم رفع رأسه وهو يقول: من الطويل
يرى المرء أحياناً إذا قل ماله ... من الخير ساعات فما يستطيعها
وما إن به بخل ولكن ماله ... يقصر عنها الغني يضعها
إن شئت فاصبر حتى يأتي رزقي، فأشاطركه، وإن شئت كتبت لك كتباً. قال: فقال: إني والله ما أحب أن أشفه رزقك على عيالك، ولكن تكتب لي، قال: فكتب له كتباً أغناه بأدناها.
قال سلم بن قتيبة: رب المعروف اشد من ابتدائه، لأن الابتداء بالمعروف نافلة وربه فريضة.(10/99)
وقال سلم: ما أتى رجل مجلسي ثلاث مرات في غير حاجة فعلمت ما مكافأته.
جرى ذكر رجل في مجلس سلم بن قتيبة، فتناوله بعض أهل المجلس فقال سلم: يا هذا، أوحشتنا من نفسك، وآيستنا من مودتك، ودللتنا على عورتك.
قال سلم بن قتيبة: لا تتم مروءة الرجل حتى يصبر على مناجاة الشيوخ البُخر.
ودخل على سلم رجل يكلمه في حاجة، فوضع سيفه على أصبه، وسلم ساكت، والرجل متكئ على سيفه لا يشعر، وقد جرحه. فلما فرغ ومضى وقد دميت أصبع سلم دعا بمنديل فجعل يمسح الدم، فقيل له: ألا نحيت رجلك، أو أمرته فرفع سيفه؟ فقال: خشيت أن أقطعه عن حاجته.
قال سلم:
الدنيا العافية، والشباب الصحة، والمروءة الصبر على أخلاق الرجال " وفي رواية: والمروءة: الصبر على الرجال - قال: فسألت: ما الصبر على الرجال؟ فوصف المداراة " وزاد في رواية أخرى: ولا خير في المعروف إذا أحصي - ومن المروءة أيضاً أن تصون ثوبي جمعتك، وتكثر تعاهد ضيفك، وتعرف في المسجد مجلسك.
قال سلم: قال بعض حكماء العرب: ما أعان على نظم مروءات الرجال كالنساء الصوالح.
قال الصلت بن راشد: كنت عند طاوس فسأله سلم بن قتيبة عن شيء فزبره أو انتهره. قال: هذا ابن قتيبة صاحب خراسان. قال: ذاك أهون علي.
توفي سلم بن قتيبة الباهلي بالري سنة تسع وأربعين ومئة، وصلى عليه المهدي لعظم شأنه.(10/100)
سلم بن معاذ بن السلم بن الفضل
ابن يزيد بن الوليد بن تميم بن عبد الرحمن، أبو الليث التميمي اليربوعي القصير حدث السلم بن معاذ بن السلم عن أبي عبيد الله إسحاق بن إبراهيم بن عرعرة بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لن تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم ".
وحدث بدمشق عن علي بن حرب بسنده عن شداد بن أوس قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الختان سنة للرجال مكرمة للنساء ".
وحدث بدمشق أيضاً عن أحمد بن يحيى الصوفي بسنده عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل مكة حين فتحها وعلى رأسه مغفر من حديد.
توفي سلم سنة خمس عشر وثلاث مئة.
سلم بن يحيى بن عبد الحميد
ابن يحيى عبد الحميد بن محمد بن عمرو بن عبد الله بن رافع بن عمرو أبو سعد الطائي الحجراوي من أهل حجرا قرية بدمشق.
حدث سلم بن يحيى عن نمير بن الوليد بن نمير بن أوس الأشعري عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الدعاء جند من أجناد الله تبارك وتعالى مجند، يرد القضاء بعد أن يبرم.
هذا حديث مرسل. ونمير بن أوس ليست له صحبة.
وحدث السلم بن يحيى عن سويد بن عبد العزيز بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم ذات يوم قسماً فقال ذو الخويصرة " رجل من بني تميم -: يا رسول الله، اعدل، فقال: ويحك، ومن يعدل إذا لم أعدل؟! قال عمر: يا رسول الله،(10/101)
ائذن لي فأضرب عنقه، قال: لا إن له أصحاباً، يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، يخرجون على حين فترة من الناس، آيتهم رجل أدعج، إحدى يديه مثل ثدي المرأة أو كالبضعة تدرر. قال أبو سعيد الخدري: فأشهد لسمعت هذا النعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشهد أني كنت مع علي بن أبي طالب حين قاتلهم فأرسل في القتلى، فأتي به على النعت الذي نعته رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عن سويد أيضاً بسنده عن أم سلمة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من رأى هلال ذي الحجة فأراد أن يضحي فلا يأخذن من شعره، ولا يقصن ظفره حتى يضحي ".
وحدث السلم بن يحيى بن عبد الحميد الطائي يذكر عن أبيه قال: حدثني أبي عن أبيه عن محمد بن عمرو بن عبد الله عن أبيه عن جده حدثني أبو رافع بن عمر عن أبيه عمرو الطائي أنه قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأجلسه معه على البساط، وأسلم، وحسن إسلامه ورجع إلى قومه فأسلموا.
وكان بن يحيى إذا دخل يوم الجمعة إلى مدينة دمشق ينزل الناس من الجامع فيتلقونه في أسف جيرون فيحملونه حتى يصعدوا إلى المسجد، ثم يفعلون به ذلك إذا أراد الانصراف.
سليط بن حرملة ويقال سويبط
ابن حرملة قدم بصرى في حياة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي بكر رضي الله عنه.
عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنها قالت:
خرج أبو بكر الصديق قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعام في تجارة إلى بصرى ومعه(10/102)
نعيمان بن عمرو الأنصاري وسليط بن حرملة " وهما ممن شهد بدراً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وكان سليط بن حرملة على الزاد، وكان نعيمان بن عمرو مزاحاً، فقال لسليط: أطعمني، قال: لا أطعمك حتى يأتي أبو بكر، فقال نعيمان لسليط: لأغيظنك، فمروا بقوم فقال نعيمان لهم: تشترون مني عبداً لي؟ قالوا: نعم، قال: إنه عبد له كلام، وهو قائل لكم: لست بعبد، أنا ابن عمه فإن كان إذا قال لكم هذا تركتموه فلا تشتروه ولا تفسدو علي عبدي، قالوا: لا بل نشتريه ولا ننظر في قوله، فاشتروه منه بعشر قلائص، ثم جاؤوه ليأخذوه، فامتنع منهم فوضعوا في عنقه عمامة، فقال لهم: إنه يتهزأ ولست بعبده، فقالوا: قد أخبرنا خبرك، ولم يسمعوا كلامه، فجاء أبو بكر الصديق، فأخبروه خبره، فاتبع القوم فأخبرهم أنه يمزح، ورد عليهم القلائص، وأخذ سليطاً منهم. فلما قدموا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبروه الخبر فضحك من ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه عليهم السلام حولاً أو أكثر.
قال: المحفوظ سويبط، وقد ذكره أيضاً في ترجمة سويبط مختصراً ولم نذكره نحن هناك.
سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطر
أبو القاسم اللخمي الطبراني أحد الحفاظ المكثرين، والرحالين الجوالين، سمع بدمشق وبمصر وباليمن. وصنف المعجم الكبير في أسماء الصحابة، والأوسط في غرائب شيوخه، والصغير في أسماء شيوخه، وكتباً.
حدث سليمان بن أحمد الطبراني عن أبي زرعة الدمشقي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحم الله عبداً سمحاً قاضياً وسمحاً مقتضياً ".(10/103)
وحدث عن يحيى بن عثمان بن صالح بسنده عن جابر بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " نعم الإدام الخل ".
كان مولده سنة ستين ومئتين. توفي سنة ستين وثلاث مئة، وهو ابن مئة سنة كملاً.
قال أبو الحسين بن فارس اللغوي: سمعت الأستاذ ابن العميد يقول: ما كنت أظن أن في الدنيا حلاوة ألذ من الرئاسة والوزارة التي أنا فيها حتى شاهدت مذاكرة سليمان بن أحمد الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلب الجعابي بكثرة حفظه، وكان الجعابي يغلب الطبراني بفطنته وذكاء أهل بغداد، حتى ارتفعت أصواتهما ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه. فقال الجعابي: عندي حديث ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هاته. قال: حدثنا أبو خليفة حدثنا سليمان بن أيوب. وحدث بالحديث فقال الطبراني: أنا سليمان بن أيوب، ومني سمع أبو خليفة، فاسمع مني حتى يعلو إسنادك، ولا تروي عن أبي خليفة عني، فخجل الجعابي، وغلبه الطبراني. قال ابن العميد: فوددت في مكاني الوزارة والرئاسة لم تكن لي وكنت الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فرح الطبراني وفرحت مثل الفرح الذي فرح الطبراني لأجل الحديث. أو كما قال.
قال أبو جعفر بن أبي السري محمد بن عبد الله بن الهيثم الدميري قال: لقيت أبا العباس بن عقدة بالكوفة في سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة، فسألته أن يعيد ما فاتني من المجلس، فامتنع، وشددت عليه، فقال لي: من أي بلد أنت؟ قلت: من أهل أصبهان، فقال: ناصبة ينصبون العداوة لأهل بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: لا تقولن يا شيخ هذا، لأن أهل أصبهان منهم متفقهة ومتقون وفاضلون ومتشيعة. فقال: شيعة معاوية؟ قلت: لا والله شيعة علي بن أبي طالب، وما فيهم أحد إلا وعلي أعز عليه من عينه وأهله وولده، فأعاد علي ما فاتني ثم قال لي: سمعت من سليمان بن أحمد اللخمي؟ فقلت: لا أعرفه فقال: يا سبحان الله أبو القاسم ببلدكم ولا تسمع منه وتؤذيني هذا الأذى بالكوفة؟! ما أعرف لأبي القاسم نظيراً، سمعت منه، وسمع مني، وسمعنا من(10/104)
مشايخنا، ثم قال لي: سمعت مسند أبي داود؟ فقلت: لا، فقال لي: ضيعت الحزم لأن مسند أبي داود منبعه أصبهان، وقال لي: تعرف محمد بن حمزة بن عمارة؟ فقلت: شديداً رجلاً من أهل الفضل، قال: فتعرف ابنه إبراهيم؟ قلت: نعم. قال: كان عندنا ورأيته حافظاً للحديث، وقال: ما رأيت مثله في الحفظ.
قال أبو القاسم الطبراني:
رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، كأنه جالس على كرسي على صفته التي انتهت إلينا الصحيحة، فوقفت فسلمت عليه، فرد علي السلام، ثم جلست بين يديه، ورفعت يدي، فدعوت لنفسي ولوالدي وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات بدعاء حسن فتحه الله علي، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقبل علي، يتبسم، فقل: يا رسول الله، أخبرني عن حديث الشعبي عن النعمان بن بشير عنك أنك قلت: مثل المؤمنين في توادهم وتواصلهم وتراحمهم. كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، فأشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحيح صحيح صحيح ثلاث مرات. فقال: فحدثونا عن أبي نعيم عن زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي عن النعمان بن بشير عنك فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذكر التشهد. فذكرت التشهد الذي رواه ابن مسعود: التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله. فقال لي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذكر التشهد، فذهبت إلى أنه أراد التشهد الذي رواه ابن عباس فذكرته، وهو: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده فقال: هذا هو التشهد هذا هو التشهد هذا هو التشهد.
قال أبو القاسم الطبراني: لما قدم أبو علي بن رستم من فارس دخلت عليه، فدخل عليه بعض الكتاب فصب على رجله خمس مئة درهم. فلما خرج قال: ارفع أبا القاسم هذا فرفعته، فجعلت أحدث إلى أن دخلت أم عدنان ابنته، فصب على رجله خمس مئة درهم فقتل، فقال: إلى أين يا أبا القاسم؟ فقلت: قمت لأنك تقول إنما جلست لهذا، فقال: ارفع هذا أيضا، فلما كان(10/105)
آخر أمره تكلم في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ببعض شيء فخرجت من عنده ولم أعد إليه بعد.
قال سليمان بن إبراهيم: سألت أحمد بن عبد الله الحافظ عن حال الطبراني وسيرته وحفظه فقال: لم ير الطبراني مثل نفسه.
قال: وذكر سليمان بن إبراهيم أن الصاحب قال: من الخفيف
قد وجدنا في معجم الطبراني ... ما فقدنا في سائر البلدان
بأسانيد ليس فيها سناد ... ومتون إذا رُفعن متان
قال أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي: سمعت أبا القاسم سليمان بن أحمد يقول: من الكامل
طلب الحديث مذلة وصغار ... والصبر عنه تندم وشنار
فاصبر على طلب الحديث فإنه ... من بعد ذل عزة ووقار
سليمان بن احمد بن محمد بن سليمان
ابن حبيب أبو محمد الجرشي من أهل دمشق. سكن واسط.
حدث عن عمر بن عبد الواحد الدمشقي بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
سليمان بن أحمد بن محمد
ابن أبي عنقود أبو محمد ذكر أنه سمع الكثير من تمام بن محمد.
وذكر أنه سمع الكثير من تمام بن محمد.
وذكر أن تمام بن محمد حدث عن أبي زرعة بسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من باع ثمراً فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئاً. على ما يأكل أحدكم من مال أخيه؟.
توفي سليمان بن أبي عنقود سنة سبع وأربعين وأربع مئة.(10/106)
سليمان بن أحمد بن يحيى بن سليمان
أبو أيوب الملطي الحافظ ابن أبي صلاية حدث عن موسى بن زكريا التستري بسنده عن ابن عم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الولاء وعن هبته.
وحدث سليمان بن أحمد عن أحمد بن مساور الجوهري بسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئاً، ويقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر إلا دخل الجنة، قالوا: وما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، وقتل النفس، والفرار من الزحف.
وحدث عن محمد بن حفص المكي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ".
وحدث عن أبي نصر ليث بن محمد بن ليث بن عبد الرحمن المرزوي بسنده عن يهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الاستغفار في الصحيفة. يعني: يتلألأ نوراً ".
سليمان بن أحمد أبو الحسن البزاز
أنشد أبو الحسن سليمان: من الكامل
نمسي ونصبح ليس همتنا ... إلا نمو المال والولد
ونعد أياماً نعد لها ... ولعلها ليست من العدد
سليمان بن الأحنف
وفد على الوليد بن عبد الملك.
روى أن أعرابياً قدم بخيل إلى الوليد بن عبد الملك، وقد تقدم الوليد في الإضمار قبله، فقال: يا أمير المؤمنين، أريد أن أرسل خيلي مع خيلك، فقال الوليد: يا سليمان(10/107)
كيف تراها؟ فقال:: جزية لو ضمها مضمارك ذهبت، فقال للأعرابي: ما اسمك؟ قال: سليمان بن الأحنف، قال: إنك لمبغوض الاسم، أعرج الأب. قال: فأرسلت الخيل فسبق الأعرابي على فرس له، يقال لها حزمة، فقال له الوليد: هبها لي، فقال: يا أمير المؤمنين، إنها لقديمة الصحبة، ولها حق، ولكني أحملك على مهرها. سبق الناس عام أول وهو رابض، فضحكوا منه، فقال: ما يضحككم؟ سبقت حزمة أمة الناس عام أول وهو في بطنها له عشرة أشهر، فإن الفرس إذا أتت عليه عشرة أشهر وهو في بطن أمه ربض، وكذلك البعير إلا أنه يبرك.
سليمان بن أرقم أبو معاذ البصري
مولى قريظة ويقال: مولى النضير.
حدث سليمان بن أرقم أن يحيى بن أبي كثير الذي يسكن اليمامة حدثه أنه سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن يخبر عن عائشة ابنة أبي بكر أنها قالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا نذر في معصية الله، وكفارتها كفارة يمين ".
كان سليمان بن أرقم ضعيف الحديث جداً.
قال يزيد بن هارون: حدثنا شيخ من قريش عن الزهري عن عروة عن عائشة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، وتسمّوا بخياركم وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. قال الحسن بن علي. فقيل ليزيد، من هذا الشيخ؟ أو سمّه؟ فقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تُبد لكم تسؤكم ". قال الصائغ: هو سليمان بن أرقم.
قال محمد بن بكار: كان سليمان بن أرقم الأنصاري قدرياً.(10/108)
سليمان بن الأشعث بن إسحاق
ابن بشير بن عمرو بن عمران " وعمران ممن قتل مع علي بن أبي طالب بصفين " أبو داود الأزدي السجستاني سمع بدمشق وبمصر وبالبصرة وبالكوفة وبخراسان.
قال أبو داود السجستاني: قلت لأبي عبد اله أحمد بن حنبل: تعرف لأبي العشراء حديثاً غير لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك؟ قال: لا، فقلت: حدثنا محمد بن عمرو الرازي بسنده عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال: ذكرت العتيرة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحسّنها، فقال أحمد: ما أحسبه يشبه أن يكون صحيحاً لأنه من كلام الأعراب. وقال لابنه: هات الدواة والورقة. فكتب عني.
قال أبو داود: ولدت سنة اثنين ومئتين.
قال محمد بن إسحاق الصغاني لُين لأبي داود السجستاني الحديث كما لُين لداود الحديد.
قال موسى بن هارون: خلق أبو داود السجستاني في الدنيا للحديث، وفي الآخرة للجنة. ما رأيت أفضل منه.
قال أبو إسحاق: توفي أبو داود بالبصرة سنة خمس وسبعين ومئتين.
قال أبو داود: كتبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس مئة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب(10/109)
السنن، جمعت في أربعة آلاف وثماني مئة حديث، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه، ويكفي الإنسان لدينه. من ذلك أربعة أحاديث: أحدها قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الأعمال بالنية ".
والثاني قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حسن إسلام المرء تركه لما لا يعنيه ".
والثالث قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه.
والرابع قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحلال بين الحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات ".
قال أبو يحيى زكريا بن يحيى الساجي: كتاب الله عزّ وجلّ أصل الإسلام، وكتاب السنن لأبي داود عهد الإسلام.
قال ابن عرابي: - كتاب السنن يسمع عليه -: لو أن رجلاً لم يكن عنده شيء من العلم إلا المصحف الذي فيه كتاب الله عزّ وجلّ، ثم هذا الكتاب لم يحتج معها إلى شيء من العلم بتة.
قال أحمد بن محمد بن ياسين الهروي:
سليمان بن الأشعث أحد حفاظ الإسلام لحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه وعلله وسنده، في أعلى درجة النسك والعفاف والصلاح والورع، من فرسان الحديث. رحمه الله.
قال أبو بكر بن جابر خادم أبي داود: كنت معه ببغداد فصلينا المغرب إذ قرع الباب، ففتحه فإذا خادم يقول: هذا الأمير أبو أحمد الموفق يستأذن. فدخلت إلى أبي داود، فأخبرته بمكانه، فأذن له، فدخل وقعد، ثم أقبل عليه أبو داود وقال: ما جاء بالأمير في مثل هذا الوقت؟ فقال: خلال ثلاث، فقال: وما هي؟ قال: تنتقل إلى البصرة فتتخذها وطناً. ليرحل إليك طلبة العلم من أقطار الأرض، فتعمر بك، فإنها خربت، وانقطع عنها الناس، لما جرى عليها من محنة الزنج، فقال: هذا واحدة، هات الثانية قال: وتروي لأولادي كتاب السنن. فقال: نعم. هات الثالثة. قال: وتفرد لهم مجلساً للرواية، فإن أولاد الخلفاء لا يقعدون مع العامة فقال: أما هذه فلا سبيل إليها، لأن الناس شريفهم ووضيعهم في العلم(10/110)
سواء، قال: فكانوا يحضرون بعد ذلك، ويقعدون في كم حيري، ويضرب بينهم وبين الناس ستر، ويسمعون مع العامة.
كان لأبي داود كم واسع وكم ضيق فقيل له: رحمك الله ما هذا؟ قال: الواسع للكتب والآخر لا نحتاج إليه.
كان أبو داود يقول: من اقتصر على لباس دون ومطعم دون أراح جسده.
كان أبو داود يقول: الشهوة الخفية حب الرئاسة.
قال أبو داود: شبرت قثاؤة بمصر ثلاثة عشر شبراً ورأيت أترجّة على بعير بقطعتين قطعت، وصيرت على مثل عدلين.
سليمان بن أيوب بن سليمان
ابن داود بن عبد الله بن حذلم، أبو أيوب الأسدي حدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن خولة بنت حكيم الأنصارية قالت: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، عليها غسل؟ فقال: نعم إذا هي أنزلت الماء.
حذلم بحاء مهملة مفتوحة وذال معجمة ساكنة ولام ساكنة وميم.
توفي سليمان بن حذلم سنة تسع وثمانين ومئتين.
سليمان بن بلال بن أبي الدرداء
عويمر بن زيد الأنصاري حدث عن أبيه قال: رُئي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أبي بكر وعمر، وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره، فقال: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذا نكون ثم كذا نبعث ثم كذا ندخل الجنة.(10/111)
وفي رواية: فقال: هكذا نكون ثم هكذا نموت ثم هكذا نبعث ثم هكذا ندخل الجنة.
سليمان بن حبيب أبو بكر
وقيل: أبو ثابت، وقيل: أبو أيوب المحاربي الداراني قاضي دمشق لعمر بن عبد العزيز وغيره.
حدث عن أبي أمامة الباهلي قال: لقد فتح الفتوح أقوام ما كانت حلية سيوفهم الذهب والفضة ولا كانت إلا الآنك والعلابي والحديد.
وحدث أيضاً عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث من كان فيه واحدة منهن كان صامتاً على الله: من خرج في سبيل الله كان ضامناً على الله: من خرج في سبيل الله كان ضامناً على الله إن توفاه أدخله الجنة، وإن رده إلى أهله فيما نال من أجر أو غنيمة، رجل كان في المسجد فهو ضامن على الله إن توفاه أدخله الجنة، وإن رده إلى أهله فبما نال من أجر أو غنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله.
مات سليمان بن حبيب سنة عشرين ومئة وقيل: سنة ست وعشرين ومئة.
وكان سليمان بن حبيب يقضي باليمين مع الشاهد ثلاثين سنة.
سليمان بن أبي حثمة بن حذيفة
ابن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب ابن لؤي بن غلب القرشي العدوي المدني تابعي أدرك عصر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدمه عمر بن الخطاب يصلي للناس مع أبي بن كعب صلاة التراويح.(10/112)
حدث كريب الكندي قال: أنطلق بي علي بن الحسين إلى شيخ من قريش يقال له ابن أبي حثمة، وهو يصلي إلى اسطوانة. فلما رأى علي بن الحسين انصرف، فقال له علي بن حسين: حدثنا حديث أمك، فقال: حدثتني أمي أنها كنت ترقي برقية لها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام قالت: لا أرقي بها حتى أستأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتته فاستأمرته فقال: " ارقي بها ما لم تكن شركاً ".
وحدث سليمان بن أبي حثمة عن الشفاء أن أبا جهم شج رجلاً موضحة يوم حنين فقضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها بخمس.
وأم سليمان الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس بن صداد بن عبد اله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب وكانت من المبايعات وكان لها دار بالمدينة بالحكاكين. ويقال إن عمر بن الخطاب استعملها على السوق. وولدها ينكرون ذلك ويغضبون منه. وأسلم أبو حثمة يوم فتح مكة.
وكان سليمان من صالحي المسلمين، واستعمله عمر بن الخطاب على سوق المدينة.
وعن عروة أن عمر أرسل إلى سليمان بن أبي حثمة، فأتاه، فقال: ما أظنك شهدت معنا صلاة الفجر؟! فقال: أجل، أصبحت شاكياً، قال: فإذا كنت مجيباً أحداً فأجب داعي الله.
وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل على بيتي عمر بن الخطاب فوجد عندي رجلين نائمين، فقال: ما شأن هذين؟ أما شهدا معنا الصلاة؟ قالت: يا أمير المؤمنين، صليا مع الناس، وكان ذلك في شهر رمضان، فلم يزالا يصليان حتى أصبحا، ثم صليا الصبح، وناما، فقال عمر: لأن أصلي الصبح في جماعة أحب إلي من أن أصلي ليلة.(10/113)
وعن عروة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جمع الناس على قيام شهر رمضان: الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حثمة.
وحدث عمر بن عبد الله العبسي.
أن أبي كعب وتميماً الداري كانا يقومان في مقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصليان بالرجال، وأن سليمان بن بي حثمة كان يقوم بالنساء في رحبة المسجد، فلما كان عثمان بن عفان جمع الرجال والنساء على قارئ واحد سليمان بن أبي حثمة، وكان يأمر النساء فيحبسن حتى يمضي الرجال ثم يرسلن.
سليمان بن حميد المزني
من أهل المدينة، سكن مصر، ووفد على عمر بن عبد العزيز.
حدث سليمان بن حميد أن عامر بن سعد حدثه: قال سليمان: لا أعلم إلا أنه حدثه عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لو أن ما أقل ظفر من الجنة نزل في الدنيا لتزخرف له ما بين السماء والأرض ".
سليمان بن حيان بن خيثمة العذري
من أهل دمشق.
حدث عن الوليد بن أبي مالك أنهم أتوا أبا عبيدة بن الجراح يعودونه في مرضه، وامرأته عنده قاعدة بباب الحجرة، فقال: كيف اصبح أبو عبيدة؟ فقال: أصبح مأجوراً، فنادى أبو عبيدة: مكفران عني، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من ابتلي في جسده فهو حطة، وما قال حسنة فبعشر أمثالها، ومن أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبع مئة، ومن أماط أذى عن الطريق كتبت له حسنة ".
وحدث سليمان بن حيان عن أنس بن مالك قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تدخلون الجنة مُرداً مكحلين ذوي أفانين يعني الجمام، أبناء ثلاثين على صورة يوسف وقلب أيوب ".(10/114)
وحدث سليمان بن حيان عن واثلة بن الأسقع قال: كنت من فقراء المسلمين من أهل الصُّفة فأتانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم فقال: كيف أنت بعدي إذا شبعتم من خبز البر والزيت، وأكلتم ألوان الطعام، ولبستم ألوان الثياب، فأنتم اليوم خير أم ذاك؟ قلنا: ذاك، قال: بل أنت اليوم خير. قال واثلة: فما ذهبت بنا الأيام حتى أكلنا ألوان الطعا، ولبسنا ألوان الثياب، وركبنا المراكب، وشبعنا من خبز البر والزيت.
سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب
ابن وارث أبو الوليد الأندلسي الباجي الفقيه سمع بدمشق وبغيرها.
حدث بسرقسطة عن القاضي أبي الوليد بن الصفار واسمه يونس بن عبد الله بن مغيث بسنده عن أبي سعيد الخدري أو عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد، إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال إلى نفسها فقال: إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه.
وحدث عنه أيضاً بسنده عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أناخ بالبطحاء الذي بذي الحليفة وصلى بها، وقال نافع: وكان عبد الله بن عمر يفعل ذلك.
قال أبو جعفر أحمد بن علي بن خلف بن يونس بن غزلون الأموي الأندلسي التطيلي: سألت الباجي عن مولده فقال: ولدت سنة أربع وأربع مئة. قال أبو جعفر: ثم رأيت بعد ذلك تاريخ مولده بخط أمه. وكانت فقيهة: ولد أبني سليمان في ذي الحجة سنة ثلاث وأربع مئة.(10/115)
وقال أبو جعفر أيضا: سمعت أبا الوليد الباجي يقول: كان أبي من تجار القيروان من باجة القيروان، وكان يختلف إلى الأندلس، ويجلس إلى فقيه بها يقال له: أبو بكر بن سماح، وتعجبه طريقته، فكان يقول: تُرى أرى لي ابنا مثلك؟ فلما أكثر من ذلك القول قال ابن سماح: إن أحببت أن ترزق ابناً مثلي فاسكن بقرطبة، والزم أبا بكر محمد بن عبد الله القبري، واخطب إليه ابنته فإن أنكحكها فعسى أن ترزق مثلي، فقدم قرطبة ولزم أبا بكر القبري سنة وأظهر له الصلاح فأعجب بطريقته، ثم خطب إليه ابنته بعد سنة فزوجه بها فجاءه من الولد أبو الوليد، وابن آخر صاحب الصلاة بسرقسطة، وابن ثالث كان من أدل الناس ببلاد العدو في الغزو حتى إنه كان يعرف الأرض بالليل بشم التراب أو كما قال.
الباجي بالباء المعجمة بواحدة، ذو الوزارتين القاضي الإمام أبو الوليد سليمان متكلم، فقيه، أديب، شاعر، رحل إلى المشرق، وسمع بمكة وبالعراق، ودس الكلام على القاضي السمناني، وتفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ورجع إلى الأندلس فروى ودرس وألّف، وكان جليلاً رفيع القدر والخطر.
توفي بالمرية من بلاد الأندلس في سنة أربع وسبعين وأربع مئة ونحوها. وقبره هناك يزار.
جرت مسألة بالأندلس في أن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب يوم الحديبية بيده أم لا؟ وتكلم عليها أبو الوليد الباجي، وحكى عن بعض العلماء القول بأنه كتب، كما في بعض طرق حديث البراء، وتكلم على ذلك بأبلغ كلام وأوضحه، وأجاب بعده جماعة بالرد عليه، وإنكار ذلك، والتشنيع على أبي الوليد، وبعد أجوبة هؤلاء المنكرين جواب جماعة بتصويبه منهم: أحمد بن محمد اللخمي وجعفر بن عبد الجبار والحسن بن علي التميمي المصري فقال في جوابه: وقفت على ما كتبه الفقيه القاضي الأجل شيخنا وكبيرنا وإمامنا الذي نفزع إليه في المشكلات، ونعتمد عليه فيما دهمنا من أمور الناس ومعرفة توحيد خالقنا وصفاته التي بان بها عن جميع المخلوقات أدام الله للمسليمن توفيقه وتسديده، وما منّ به عليهم من البصيرة والهداية من خطأ المخطئين وعمى العامين، فلو نهضوا نحو الفقيه(10/116)
القاضي ليتعلموا منه أوائل المفترضات ومعرفة خالقهم وما خصنا به جميع أهل السنة والأثبات لكان بهم أحرى، وجواب عبد الله بن الحسن البصري وغيره بتصويبه وتقريظه حتى زاد أبو الفضل جعفر بن نصر البغدادي في جوابه على جواب الحسن بن علي التميمي، فلو نهض كل من رد عليه ليتعلموا منه أوائل المفترضات عليهم لكان بهم أحرى ويزيلوا عن أنفسهم الحسد والبغي وإنما " يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ".
أنشد أو الوليد لنفسه: من المتقارب
إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعهْ
فلم لا أكون ضنيناً عليها ... وأجعلها في صلاحٍ وطاعهْ؟
سليمان بن داود
ابن إيشى بن عويد بن ناعر بن سلمون بن يخشون بن عميناذب بن أرم بن خضرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أبو الربيع نبي الله ابن نبي الله جاء في الآثار أنه دخل دمشق قال الكلبي: أول نبي بعث إدريس ثم نوح ثم إبراهيم ثم إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب ثم يوسف ثم لوط ثم هود ثم صالح ثم شعيب ثم موسى وهارون ثم إلياس ثم اليسع ثم يونس ثم أيوب ثم داود ثم سليمان ثم زكريا بن يشوى من بني يهوذا بن يعقوب ثم يحيى بن زكريا ثم عيسى بن مريم بنت عمران بن مابان من بني يهوذا بن يعقوب ثم سيدنا محمد رسول الله بن عبد الله بن عبد المطلب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين.(10/117)
فارص بصاد مهملة ابن يهوذا بن يعقوب.
وعن الحسن في قوله: " غدوّها شهر ورواحها شهر " قال: كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل، وما بين اصطخر ودمشق مسيرة شهر للمسرع، وما بين اصطخر إلى كابل مسيرة شهر للمسرع. قال: وكان يتغدى باليمن ويتعشى بالشام، ويتغدى بالشام ويتعشى باصطخر، ويغدو من اصطخر فيقيل بالعراق، ويروح منها إلى الشام.
وقال في قوله عزّ وجلّ: " وأسلنا له عين القطر " يعني النحاس، فجرى له.
مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال: يخطبها إلى نفسه، ويقول: زوجتي، أسكنك أي غرف دمشق إن شئت قال سليمان: لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب.
وعن ابن مسعود في قوله عزّ وجلّ: " وداود وسليمان إذ يحكما في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " فالكرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته، قال: فقضى داود عليه السلام بالغنم لصاحب الكرم. فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله، قال: وما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان دفعت الكرم إلى صاحبه ودفعت الغنم إلى صاحبها قال الله عزّ وجلّ: " ففهمناك سليمان وكلاً أتينا حُكما وعلما ".(10/118)
وعن أبي هريرة قال: نزل كتاب من السماء إلى داود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختوماً فيه عشر مسائل: أنْ سل ابنك سليمان، فإن هو أخرجهن فهو الخليفة من بعدك، قال: فدعا داود سبعين قساً وسبعين حبراً، وأجلس سليمان بين أيديهم، وقال: يا بني، نزل كتاب من السماء فيه عشر مسائل، أمرت أن أسألكهن، فإن أنت أخرجتهن فأنت الخليفة من بعد، قال سليمان: ليسأل نبي الله عما بدا له، وما توفيقي إلا بالله. قال: أخبرني يا بين ما أبعد الأشياء؟ وما أقرب الأشياء؟ وما آنس الأشياء؟ وما أوحش الأشياء؟ وما القائمان؟ وما المختلفان؟ وما المتباغضان؟ وما الأمر إذا ركبه الرج حُمد آخره؟ وما الأمر إذا ركبه الرجل ذُم آخره؟ فقال سليمان: أما أقرب الأشياء فالآخرة، وأما أبعد الأشياء فما فاتك من الدنيا، وأما آنس الأشياء فجسد فيه روح، وأما أوحش الأشياء فجسد لا روح فيه، وأما القائمان فالسماء والأرض، وأما المختلفان فالليل والنهار، وأما المتباغضان فالموت والحياة كل يبغض صاحبه، وأما الأمر إذا ركبه رجل خمد آخره فالحلم على الغضب، وأما الأمر إذا ركبه الرجل ذم آخره فالحدة على الغضب، قال: ففك الخاتم فإذا هو بالمسائل سواء على ما نزل من السماء. فقال القسيسون والأحبار: لن نرضى حتى نسأله عن مسألة فإن هو أخرجها فهو الخليفة من بعدك، قال: فسلوه. قال سليمان: سلوني، وما توفيقي إلا بالله. قالوا: ما الشيء إذا صلح صلح كل شيء منه وإذا فسد فسد كل شيء منه؟ قال سليمان: هو القلب إذا صلح صلح كل شيء منه، وإذا فسد فسد كل شيء منه، فقالوا: صدقت، أنت الخليفة من بعده، فدفع إليه داود قضيب الملك، ومات من الغد.
وعن ابن عباس قال: استخلف داود سليمان " على سيدنا محمد رسول الله وعليهما الصلاة والسلام - في حياته، وكان سليمان يوم استخلف أتى عليه اثنتا عشرة سنة، وذلك أنه لما نفذ في الحكم، وأبصر داود فهمه، وكان الله عزّ وجلّ جعله فهِماً. قال: فبينا داود جالس مع أحبار بني إسرائيل، فذكروا العقل عند داود فقال له داود: يا بني، ما العقل؟ قال: يا أبه، ما ارتدى العبد برداء أجمل من فضل عقل يرتدي به عبد مؤمن، إن انكسر جبره على عقله، وإن صرع نعشه، وإن زل عمده، وإن ذل أعزه، وإن اعوج أقامه، وإن عثر رفعه، وإن افتقر أغناه، وإن جاع أشبعه، وإن ظمئ أرواه، وإن حزن فرحه، وإن جمع كبحه، وإن استوحش(10/119)
آنسه وإن خاف أمنه، وإن غوى أرشده، وإن تكلم صدقه، وإن كانت سوءة زينها، وإن انكشف ستره، وإن أقام بين ظهراني قوم اغتبطوا به، وإن غاب عنهم أسفوا عليه، وإن خطب إليهم وهو صعلوك اغتفروا ذلك منه، وإن شهد شهادة وهو غريب تفرسوا فيه فأحسنوا به الظن فقبلوها، وإن نطق قالوا: بليغ، وإن سكت قالوا: لبيب، وإن بسط يده قالوا: جواد، وإن قبضها قالوا: مقتصد، وإن عنف قالوا: لم يأل، وإن رفق قالوا: شفيق، وإن أفطر قالوا: معذور، وإن صام قالوا مجتهد. فالعقل رأس الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان، فبه يصل العبد إلى الجنة وبه يتفاضل أهل الدنيا في دنياهم، وأهل الجنة في درجاتهم، لأن العاقل إذا أخطأ رجع، وإذا أساء أحسن، والعقل يرد صاحبه إلى خير العواقب، قال: فتعجب داود عليه السلام، فقال: يا بني، فأين موضع العقل؟ قال: في الدماغ، يكون صاحب العقل زريناً زميتاً، لا يكون عجولاً جهولاً، ولا يستخفه الفرح، ولا يغلبه هواه قال: فعجب داود من حكمته فاستخلفه.
وعن عبد الله بن عباس قال:
لما تزوج داود عليه السلام بتلك المرأة ولدت له سليمان بن داود بعد ما تاب الله عليه، غلاماً، طاهراً، نقياً، فهماً، عاقلاً، عالماً، وكان من أجمل الناس وأعظمه وأطوله، فبلغ مع أبيه حتى كان يشاوره في أموره، ويدخله في حكمه، فكان أول ما عرف داود من حكمته، وتفرس فيه النبوة أن امرأة كانت كسبت جمالاً، فجاءت إلى القاضي تخاصم عنده، فأعجبته فأرسل إليها يخطبها، فقالت: ما أريد النكاح فراودها على القبيح، فقالت: أنا عن القبيح أبعد، فانقلبت منه إلى صاحب الشرطة، فأصابها منه مثل الذي أصابها من القاضي، فانقلبت إلى صاحب السوق، فكان منه مثل ذلك فانقلبت منه إلى حاجب داود فأصابها منه مثلما أصابها من القوم فرفضت حقها ولزمت بيتها، فبينا القاضي وصحب الشرطة وصاحب السوق والحاجب جلوس في مجلس يتحدثون، فوقع ذكرها فتصادق القوم بينهم وشكى كل واحد منهم إلى صاحبه ما أصابه من العجب بها. قال بعضهم: ما يمنعكم وأنت ولاة الأمر أن تتلطفوا لها حتى تستريحوا منها، فاجتمع رأي القوم على أن يشهدوا لها أن لها كلباً وأنها تضطجع فترسله على نفسها حتى ينال منها ما ينال الرجل من المرأة، فدخلوا على داود عليه السلام فذكروا له أن امرأة لها كلب تسمنه وترسله على نفسها حتى يفعل بها ما يفعل الرجل بالمرأة، فكرهنا أن نرفع أمرها إليك حتى(10/120)
نتحققه، فمشينا حتى دخلنا منزلاً قريباً منها في الساعة التي بلغنا أنها تفعل ذلك، فنظرنا إليها كيف حلته من رباطه ثم اضطجعت له حتى نال منها ما ينال الرجل من المرأة، ونظرنا إلى الميل يدخل في المكحلة ويخرج منها، فبعث داود فأتى بها فرجمها، فخرج سليمان وهو يومئذ غلام حين ترعرع ومعه الغلمان ومعه حضانه يلعب، فجعل منهم صبياً قاضياً وآخر على الشرطة، وآخر على السوق، وآخر حاجباً، وآخر كالمرأة، ثم جاؤوا يشهدون عن سليمان كهيئة ما شهد أولئك عن داود، يريدون رجم ذلك الصبي كما رجمت امرأة، قال سليمان عند شهادتهم: فرقوا بينهم ثم دعا بالصبي الذي جعله قاضياً، فقال: أيقنت الشهادة، قال: نعم، قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أسود، قال: نحوه ودعا بالذي جعل على الشرطة فقال: تيقنت الشهادة؟ قال: نعم، قال فما كان لون الكلب؟ قال: أحمر، قال نحوه، ثم دعا صاحب السوق، فقال: أيقنت الشهادة؟ قال: نعم، قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أبيض قال: نحوه، ثم دعا بالذي جعل حاجباً، فقال تيقنت الشهادة؟ قال نعم، قال: فما كان لون الكلب؟ قال: أغبش، قال: أردتم أن تغشوني حتى أرجم امرأة من المسلمين؟ فقال للصبيان: ارجموهم، وخلى سبيل الصبي الذي جعله امرأة، ورجع حضانه، فدخلوا على داود فأخبروه الخبر فقال داود: علي بالشهود الساعة واحداً واحداً، فأتي بهم. قال للقاضي: ما كان لون الكلب؟ فقال: أسود، ثم أتي بصاحب الشرطة وسأله فقال: أبيض، ثم أتي بصاحب السوق فسأله فقال: كان أحمر، ثم أتي بالحاجب فسأله فقال: كان أغبش. فأمر بهم داود فقتلوا مكان المرأة، فكان هذا أول ما استبان لداود من فهم سليمان عليه السلام.
وعن عبد الله بن سلام قالوا: لم يبعث الله عزّ وجلّ رسولاً إلى قومه حتى وجده أرجحهم عقلاً.
قال كعب: وبعض النبيين أرجح عقلاً من بعض، وما استخلف داود سليمان واختاره على جميع ولده وبني إسرائيل حتى عرف فضل عقله في حداثة سنه، وإنما استخلاف الأنبياء قبل سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبوة ما خلا سيدنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه لا نبي بعده وأعطى الله سليمان من العقل ما لو وزن عقله بعقل أهل زمانه لرجحهم.(10/121)
حدث أبو بشير قال:
لما كبر داود " صلى الله على سيدنا محمد نبينا وعليه وسلم " وظن أنه الموت أرسل إلى فقهاء بني إسرائيل وخيارهم، فقال لهم: إني لا أرى إلا قد احتضرت، فابغوني رجلاً منكم ترضونه فأوليه الخلافة من بعدي. قال: فطافوا زماناً لا يذكر لهم رجل من بني إسرائيل بخير إلا أتوه به، فلا ينصرفون عنه حتى يجدوا فيه عيباً. فلما طال ذلك عليهم قال بعضهم: قد رأينا هذا الغلام قد نشأ على أحسن ما ينشأ عليه أحد، وقد عجزنا أن نجد هذا الرجل فلو أتينا سليمان. قال: فغضبت المشيخة وقالوا: ما لسليمان وهذا الأمر؟! قالوا ليس نجد هذا الرجل وما علينا أن نأتيه؟ قال: فطلبوه في أهله فلم يجدوه، فطلبوه فوجدوه في جدار وحده مسنداً ظهره إلى الجدار فسلموا وقعدوا حوله، ففزع سليمان لما رأى أحبار بني إسرائيل وفقهاءهم، فجعلوا لا يسألونه عن شيء يعلمه إلا أخبرهم به، وإن سألوه عن شيء لا علم له به رد علمه إلى الله تعالى، قال: فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقالوا: هذا صاحبنا. فلما فرغوا مما أرادوا أن يسألوه عنه واجتمع رأيهم على أنه صاحبهم ضحك سليمان فغضبت المشيخة، وقالوا: غلام أتيناه لأعظم أمر في الدنيا وليس أهل ذلك ضحك واستهزأ بنا؟ ثم قال بعضهم: والله لأخبرن بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأرسل إليهم داود فقال: ألا تبغوني هذا الرجل، قالوا: ما وجدنا في بني إسرائيل رجلاً يصلح للخلافة، فأتينا سليمان قال: فغضب داود وقال: ما لسليمان وما لهذا؟ قالوا: يا رسول الله، لم نجد الرجل فأتيناه فلم نر إلا خيراً. فلما ذهبنا نقوم ضحك سليمان، قال داود: ضحك! قالوا: نعم، قال: علي بسليمان، قال: فأتي به فقال: أتاك أحبار بني إسرائيل وفقهاؤهم لأعظم أمر في الدنيا. ولست لذلك بأهل، فضحكت بهم وسخرت منهم؟ والله لأعاقبنك بعقوبة لم أعاقبها أحداً مثلك. قال سليمان: يا رسول الله، أو آتيك بعذر! قال: أو تأتيني بعذر! قال: أتاني هؤلاء القوم، فسألوني عن أشياء ما علمت منها أخبرتهم، وما لم أعلم رددت علمه إلى الله، فإنهم حولي إذ سمعت كلاماً من خلفي فالتفت إلى الحائط فإذا أنا بدودة، وإذا هي تقول: يا للعجب من قوم يسألون سليمان، وقد فرغ الله من أمره، فما ملكت نفسي أن ضحكت فرحاً لما قالت. قال: فقال داود لسليمان ولهم: اخرجوا عني، فخرجوا ونزل الوحي على داود: يا داود أعرض عن سليمان فقد ولاه الله الأمر من بعدك.(10/122)
قيل: إن داود قال: إلهي، كن لسليمان كما كنت لي، فأوحى الله إليه أن قل لسليمان يكون لي كما كنت لي أكون له كما كنت لك.
ولما مات نبي الله داود أوحى الله إلى سليمان أن سلني حاجتك، قال أسألك أن تجعل قلبي يخشاك كما كان قلب أبي، وأن تجعل قلبي يحبك كما كان قلب أبي فقال الله عزّ وجلّ: أرسلت إلى عبدي أسأله حاجته فكانت حاجته أن أجعل قلبه يخشاني وأن أجعل قبله يحبني، لأهبن له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. قال الله عزّ وجلّ: " فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فمنن أو أمسك بغير حساب " قال: فأعطاه الله ما أعطاه، وفي الآخرة لا حساب عليه.
وعن الحسن في قوله عزّ وجلّ: " ولقد آتينا داود وسليمان علماً " يعني علم التوراة والزبور والفقه في الدين وفصل القضاء وعلم كلام الطير والدواب " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثر من عباده المؤمنين "، يعني بالتفضيل: النبوة مع الملك.
قال وهب بن منبه: استُخلف سليمان عليه السلام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وداود حي، وأحدث الله له النبوة بعد داود، وأعطاه الله ما لم يعد أحداً من الأنبياء، وكان الله سخر له الجن والإنس والريح والطير، وكان رجلاً وضيئاً أبيض جسيماً كبير العينين يلبس البياض.
ولما عرضت الخيل على سليمان شغله النظر إليها حتى فاتته صلاة العصر، وتوارت بالحجاب. قال: فعقر الخيل غضباً لله. قال: فأعقبها الله أسرع منها، الريح فسخرها له تجري بأمره رخاء حيث شاء.
وعن إبراهيم التيمي قال: كانت الخيل التي شغلت سليمان ألف فرس فعقرها.(10/123)
وقال عكرمة: كانت عشرين ألفاً فعقرها.
وعن وهب قال:
قيل لسليمان: إن خيلاً بلقاً لها أجنحة تطير بها وإنها ترد ما كذا وكذا من جزيرة بحر كذا وكذا، فقال: كيف لي بها؟ قالت الشياطين: نحن لك بها، قال: فانطلقوا فهيئوا لي سلاسل ولجماً، ثم انطلقوا إلى العين التي تردها، فنزحوا ماءها، وسدوا عيونها، وصبوا فيها الخمر، فجاءت الخيل واردة فشمت فأصابت ريح الخمر، فتخبطتها بقوائمها، ولم تشرب، ثم صدرت، ثم عادت للغد، فشمت الخمر فخبطتها ولم تشرب، ثم صدرت عنها. فلما أجهدها العطش جاءت فاقتحمت فيها فشربت فسكرت، فذهبت لتنهض فلم تقدر عليه، فجاءت الشياطين حتى وضعت عليها اللجم والسلاسل ثم قعدت عليها. فلما أفاقت وطارت وعليها اللجم وقد استولت عليها الشياطين، فلم تزل ترفق بها الشياطين وتعالجها حتى هبطت الخيل إلى القرار، فلم يزالوا بها حتى جاؤوا بها سليمان فربطها ووكل بها من يسوسها حتى استأنست وأذعنت، فكان سليمان قد أعجب بها فعرضها ذات يوم فنظر إليها " حتى توارت بالحجاب " وغفل عن صلاة العصر، فقال: " أحببت حب الخير " يعني الخيل " عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي " قال: فردت عليه فمسح سوقها وأعناقها بالسيف، فلم يدع لها نسلاً، فالله أعلم أي ذلك كان.
وقال الزهري: ما عقرها ولكن مسح يده عليها.
وقال الحسن: إن الله كان أعطى سليمان ما لم يعط أحداً من الملك والسلطان وكانت عجائب تكون في زمانه، وكان الله سخر له الشياطين من يغوصون له، ويعملون عملاً دون ذلك، يعني من دون الغوص بنيان المدائن. قال: " والشياطين كل بناء وغواص " قال: "(10/124)
يعملون له ما يشاء من محاريب " يعني المساجد " وتماثيل " يعني ما كانوا يزخرفون له البيوت والمساجد فيمثلون بالشجر وما أشبهه ن نحو النقش في الحيطان ثم قال " وجفان كالجواب " يعني القصاع العظام يجتمع على القصعة الخمس مئة والثلاث مئة مثل الجوبة العظيمة ثم قال: " وقدور راسيات "، يعني به القدور العظام مثل الحياض لا يستقلها أحد، أثافيها منها راسية في الأرض. وقال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب " يعني مطيعاً " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت؛ب الخير عن ذكر ربي " قال الحسن: كانت خيلاً بلقاً جياداً، وكانت أحب الخيل إليه البلق فعرضت عليه، فجعل ينظر إليها " حتى توارت بالحجاب " يعني الشمس، فغفل عن صلاة العصر.
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: أنه سئل عن صلاة الوسطى فقال: هي التي غفل عنها نبي الله سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب. يعني العصر.
وعن الحسن " فطفق مسحاً بالسوق والأعناق " قال: قطع سوقها وأعناقها بالسيف أسفاً على ما فاته من ذكر الله يعني من فوت صلاة العصر لوقتها.
وعن الحسن قال: ولد له ابن به عاهة، قد كسرته الرياح، ولم يقل شق إنسان. قال: فأعجب به سليمان ولم يكن له ولد ذكر، فخاف عليه الموت وآفات الأرض، فطلب له الرضاع، فجاءت الإنس، فطلبوا الرضاع فأبى، وجاءت الجن فطلبوه فأبى، وجاءت السحاب فطلبته، فقال: كيف ترضعينه؟ قالت: أحمله بين السماء والأرض وأربيه بماء المزن، قال: فدعا الريح، فقال لها: كوني مع السحاب في كفالة هذا الولد، فقالت: أفعل، قال: فمهدوا لابن سليمان على السحاب، ثم صار السحاب من فوقه كهيئة القبة، وجعل(10/125)
معه وصيفة تناغيه، ثم أمر الريح أن تحمله فكانت السحاب تنحدر به كل يوم مرتين غدوة وعشية إلى أمه ترضعه وتغسله وتطيبه ثم تضعه في السحاب، فتحمله الريح بين السماء والأرض، فكانت إذا حنت إليه أأراده سليمان تكلما أو أحدهما، فتحمل الريح كلامهما إلى السحاب فينقض السحاب به إليهما حتى ينظرا إليه، ثم يأمر سليمان عليه السلام برده إلى موضعه، وإنما فعل ذلك شفقة عليه، قال: فأمر الله ملك الموت بقبض روحه، فقبضه ثم قال للسحاب: أرسليه فإنك تكفلت به وهو حي، فأرسلته، فوقع على كرسيه ميتاً، فذلك قوله عزّ وجلّ: " ولقد فتنّا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ".
قال الشعبي: قالت الجن:
لئن ولد لسليمان ذكر لنلقين منه مثل ما لقينا من أبيه، فتعالوا حتى نرصد أرحام نسائه حتى لا يولد له. قال: فولد له غلام، فلم يأمن عليه الإنس ولا الجن فاسترضعه في المزن يعني السحاب. وكان يزيد في السنة كذا وكذا، وفي الشهر كذا وكذا وفي الجمعة كذا وكذا، قال: فلم يشعر إلا وقد وضع على كرسيه، وقد مات. فذلك قوله عزّ وجلّ " وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ".
وقال غيره: الشيطان الذي كان أخذ خاتمه.
وقال ابن عباس: قوله: " وألقينا على كرسيه " يعني الجسد: صخراً المارد حين غلب على ملكه، وجلس على كرسي سليمان أربعين يوماً، فالله أعلم أي ذلك كان.
قال ابن عباس:
وإنما ابتلي سليمان بذهاب ملكه للصنم الذي صُور في داره. قال: كان سليمان رجلاً غزّاء، يغزو البحر والبر، فسمع بملك في جزيرة من جزائر البحر يقال لها: صندور، بها ملك عظيم لم يكن للناس إليه سبيل لمكانه من البحر، وكان الله عزّ وجلّ أعطى سليمان في ملكه سلطاناً لا يمتنع منه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب الريح فتخرج به حيث يريد(10/126)
قال: فركب سليمان الريح وجنوده من الجن والإنس حتى نزل تلك الجزيرة، فقتل ملكها، وسبى من فيها، وأصاب جارية لم ير مثلها حسناً وجمالاً، وكانت ابنة ذلك الملك، فاصطفاها لنفسه، فكان يجد بها ما لا يجد بأحد، ويؤثرها على نسائه، فلما رأى ذلك إبليس قال: لأنتهزن فرصتي من سليمان بهذه المرأة، فدس إليها صخراً المارد، فأتاها في صورة حاضنها إلى الباب، ثم قال للحاجب: قل لفلانة إن حاضنك فلاناً بالباب، فأرسلت إلى سليمان، وسألته أن يأذن له عليها، فأذن له فدخل عليها، وهي لا تشك إلا أنه أخوها من الرضاعة، فبكت وبكى وقال لها: قد رضيت من سليمان بما صنع بأبيك وأهل بيتك، فصرت مملوكة بعد أن كنت ملكة بنت ملك! فقالت له: كيف لي بذلك؟ فقال لها: أما تشتاقين إلى أبيك؟ فقالت: وكيف لي وقد سلى الحزن علي جسمي؟ فقال لها: فإني سأرشدك إلى أمر يكون لك فيه فرج، وتسل عن حزنك، إذا دخل سليمان عليك فلا تكلميه إلا نزراً ولا تنظري إليه إلا شزراً، فإذا قال لك: ما لك؟ وما تريدين؟ فقولي له: إني أحب أن تأمر بعض الشياطين، فيصوروا لي أبي في داري التي أنا فيها، فأراه بكرة وعشية، فيذهب عني حزني ويسلى عني بعض ما أجد، قال: فلما دخل سليمان فعلت ما أمرها الشيطان، فقال لها: ما لك؟ قالت: إني أذكر أبي، وأذكر ملكه، وما أصابه فيحزنني ذلك، فقال لها: فقد أبدلك الله ملكاً وسلطاناً أعظم من ملكه وسلطانه، وهداك إلى دينه، فهو أعظم من ذلك كله، قال: إن ذلك كذلك ولكن إذا ذكرته أصابني ما ترى، فإن رأيت أن تأمر بعض الشياطين فيصوروا لي صورة أبي في داري التي أنا فيها، فأراه بكرة وعشية رجوت أن يذهب عني حزني ويسلى عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان صخراً المارد فمثل لها أباها في هيئته في ناحية دارها حتى لا تنكر منه شيئاً، فمثل لها حتى نظرت إلى أبيها لا تنكر في نفسها شيئاً غلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه، فزينته وألبسته، حتى تركته كهيئة أبيها ولباسه، فإذا خرج سليمان من دارها تغدو عليه كل غدوة مع جواريها، فتطيبه وتسجد له وتسجد جواريها، وتروح بمثله، وسليمان لا علم له بشيء من ذلك، وأتاها الشيطان من حيث لا يعلم سليمان، حتى أتى لذلك أربعون يوماً، وبلغ ذلك الناس، وبلغ آصف بن برخيا، وكان صديقاً، فقال له الناس هل بلغك(10/127)
ما بلغنا؟ قال: نعم. قالوا: كيف لنا أن نعلم سليمان؟ قال: أنا أكفيكم ذلك، فدخل عليه فقال: يا نبي الله، إني ((قد كبرت ودق عظمي، ونفد عمري، وقد أحببت أن أقوم مقاماً قبل أن أموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله عزّ وجلّ، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلم الناس بعض ما يجهلون من كثير من أمرهم، قال: فافعل. قال: فجمع الناس سليمان، فقام فيهم خطيباً، فذكر من مضى من أنبياء الله عزّ وجلّ، وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضلهم الله به، حتى انتهى إلى سليمان، فذكر فضله وما أعطاه الله في حداثة سنه وصغره، وما كان أعطي في حياة أبيه داود من الفضل ثم سكت فامتلأ سليمان غيظاً، فلما دخل أرسل إليه فدعاه فقال: يا آصف، ذكرت من مضى من أنبياء الله فأثنيت عليهم، بما كانوا في زمانهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي بخير في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما هذا الذي أحدثت من أمري في كبري؟ قال: أحدثت أن غير الله يعبد في دارك منذ أربعين يوماً في هوى امرأة، قال: في داري؟! قال في دارك، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون عرفت، ما قلت هذا إلا عن شيء بلغك، ثم رجع إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الطهر فأتي بها، لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولم تمسها امرأة ذات الدم، فلبس ثم خرج إلى فلاة من الأرض، ففرش له الرماد ثم أقبل دائباً إلى الله عزّ وجلّ، فجلس على ذلك الرماد يتمعك في ذلك الرماد في ثيابه متذللاً متضرعاً يبكي ويستغفر مما كان في داره، يقولك يا رب، ما هذا بلاؤك عند داود أن يعبدوا غيرك، وأن
يقروا في دارهم وليهم عبادة غيرك. فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، ثم رجع، وكانت له جارية سماها الأمينة، فكان إذا الخلاء أو أراد إتيان امرأة وضع خاتمه عندها، وكان لا يمس خاتمه، إلا وهو طاهر، وكان الله جعل ملكه في خاتمه. قروا في دارهم وليهم عبادة غيرك. فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، ثم رجع، وكانت له جارية سماها الأمينة، فكان إذا الخلاء أو أراد إتيان امرأة وضع خاتمه عندها، وكان لا يمس خاتمه، إلا وهو طاهر، وكان الله جعل ملكه في خاتمه.
قال وهب بن منبه: إن خاتم سليمان عليه السلام كان أتي به من السماء له أربع نواح، في ناحية منه: لا إله غلا اله وحده لا شريك له محمد عبده ورسوله، وفي الثانية: اللهم، مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، وفي الثالثة: كل شيء هالك إلا الله، وفي الرابعة: تباركت إلهي لا شريك لك. وكان له نور يتلألأ، إذا تختم به اجتمع إليه الجن والإنس والطير والريح والشياطين والسحاب.(10/128)
قال: فجاء يوماً يريد الوضوء فدفع الخاتم إليها، صخر المارد حتى سبق سليمان فدخل المتوضأ، فقام خلف الباب فدخل سليمان لحاجته، وخرج الشيطان على صورة سليمان ينفض لحيته من الوضوء، لا تنكر من سليمان شيئاً، فقال: خاتمي يا أمينة، فناولته إياه، ولا تحسب إلا أنه سليمان، فجعله في يده، ثم خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وخرج سليمان فقال للأمينة: خاتمي، قالت: ومن أنت؟ قال: أنا سليمان بن داود، وقد تغير عن حاله وذهب عنه بهاؤه، قالت: كذبت إن سليمان قد أخذ خاتمه وهو جالس على سريره في ملكه فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته.
وقال وهب بن منبه:
إنه كان في جزيرة من جزائر البحر ملك عظيم السلطان، فبعث إليه سليمان يدعوه إلى ما قبله، فأبى عليه لعظم سلطانه، فبعث إليه بالريح، فنسفته وملكه وجميع ما قبله حتى وضعته بين يديه، وكان لذلك الملك ابنة تدعى أبرهة، فأعجب سليمان بها فعرض عليها الإسلام فكرهته، فخوفها بالقتل، فأصرت فخوفها بقتل أبيها، فقالت: إن قتلته قتلت نفسي، فخاف سليمان أن يكرهها فتقتل نفسها وأحبها حباً شديداً، وهي يومئذ على دينها فتركها، فلما غلبته تزوجها، وكانت تعتكف على صنم من ياقوت وكان الصنم من الفيء الذي نسفته الريح، فسألته سليمان فوهبه لها، وكان لا يصبر عنها وكان يتودد لها، ويرفق بها، رجاء أن تسلم، فظل معها ذات يوم. فلما أراد الانصراف وثبت إليه فاعتنقته وقالت له: أسألك بحياتي وبحبي وبحقي إلا ما جزرت لإلهي، فقال سليمان: إن ذلك لا يحل لي وما زيارتي إياك وأنت معتكفة على الشرك إلا رجاء أن تسلمي، ثم قالت: لئن لم تجزر لصنمي لأقتلن نفسي، وكان ذلك من تعليم أبيها. فلما سمع سليمان قولها خافها على نفسها وخدعها وقال لها: إني إن جزرت لصنمك على رؤوس الناس خلعت ملكي، وانخلعت من ديني، قالت: فإني قد حلفت بإلهي لئن لم تفعل لأقتلن نفسي، فابرر يميني فدعا سليمان بجرادة وسكين فذبحها، فبساعة قطع رأسها أنكر نفسه وأنكرته هي، وانقشعت عنه هيبة الملك والسلطان، ثم خرج من عندها فوجد ماله من الشياطين عوداً على منبره، وكان قبل ذلك لا يرام، ووجد على كرسيه أشبه الناس صورة به، ويقال إن ذلك معنى(10/129)
قوله: " وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ". قال: ثم قام إليه خادم له من الجن فاستل خاتمه من أصبه فأبق به، وكانت الجن قبل ذلك لا يرومونه. فلما أخذ الجني الخاتم وكان عفريتاً مارداً ذا رأي في نفسه فقال: ما أخذت خاتم سليمان ولا وصلت إليه إلا بذنب بينه وبين الله عزّ وجلّ، وما آمن أن يرد اله ملكه فلأطرحن هذا الخاتم مطرحاً لا يقدر عليه أبدً ثم انطلق سريعاً حتى ألقاه في اللجة الخضراء. وأوحى الله إلى سليمان لمن ذبحت الجرادة التي قربتها لامرأتك؟ فإن كنت ذبحتها لي فقد صغرت أمري، وما سبقك إلى ذلك أحد، وقد علمت أنه لا يذبح لي إلا رُغاء أو خوار أو ثغاء، وإن كنت قد ذبحتها لصنم امرأتك فلأقلبك من العزة بي، أما كفاك أنك تزوجتها وهي مشركة فلم أعاتبك فيها! فلما فرغ إليه من القول شذ من أهله مرعوباً أربعين ليلة، يعير كما تعير الدابة، يبكي على نفسه، ويعدد على خطيئته، ويستغفر ربه. فلما أخبرته امرأته بالذي أصابه في سببها أحزنها ذلك وأبكاها، فأسلمت رجاء أن يرد الله إليه ملكه، فلما مضت لسليمان أربعون ليلة تاب الله عليه، وغفر له، وانصرف وقد أجهده الجوع، فمر بساحل من سواحل البحر، وإذا بحوت يضطرب فضرب بيده إلى الحوت، فأخذه ليأكله فلما فرى بطنه وجد فيه خاتمه فازداد بذلك خوفاً وعجباً ووجلاً فعاد إليه ملكه.
وقيل: إن سليمان كان عنده مجوسية امرأة، فقالت له يوماً في عيد كان لها: أعطني بقرة أذبحها لعيدنا، قال: لا، قال: فأعطني شاة، قال: لا، قالت: فأعطني دجاجة، قال: لا، قالت: فأعطني حمامة، قال: لا. فبينما هو كذلك إذ وقعت على يده جرادة، فقالت: أعطني هذه الجرادة، قال: نعم، ثم قطع رأسها بيده، فسال منها دم كثير حتى أفزع سليمان، ثم أنساه الله إياه، حتى أصابه بعدما سلب ملكه.
وقيل عن عباس أنه اختصم إلى سليمان فريقان أحدهما من أهل جرادة " امرأة كانت له يعجب بها -(10/130)
وهوي أن يكون الحق لهم، ثم إن الحق كان للآخرين، فقضى لهم به، فإنما أصابه الذي أصابه لذلك الهوى الذي سبق إلى قلبه.
وقيل إنه احتجب عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن الناس ثلاثة أيام، فلم تنظر في أمور عبادي، ولم تنصف مظلوماً من ظالم. وكان ملكه في خاتمه، وكان إذا دخل الحمام وضع خاتمه تحت فراشه، فدخل ذات يوم الحمام والخاتم تحت فراشه، فجاء الشيطان فأخذه وألقاه في البحر، فأقبل الناس نحو الشيطان، فأقبل سليمان يقول: يا أنها الناس، أنا نبي الله، فدفعوه أربعين يوماً، فأتى أهل سفينة فأعطوه حوتاً فشقها فإذا هو بالخاتم فيها، فتختم به ثم جاء فأخذ بناصية الشيطان، وعند ذلك " قال: رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب " وكان أول من أنكره نساؤه فقلن بعضهن لبعض تنكرن ما ينكرن؟ فقلن: نعم، فكان يأتيهن وهن حيض.
قال علي بن زيد رضي الله عنه: فذكرت ذلك للحسن رحمه الله فقال: ما كان الله ليسلطه على نسائه.
وذكر ابن إسحاق وابن سمعان وغيرهما على فتنة سليمان عليه السلام أن الناس شكوا إلى سليمان شدة ما يلقون من شدة الطحن بأيديهم. فجمع سليمان الجن والشياطين فذكر ذلك لهم وقال لهم: هل من حيلة في هذا الطحن،، وفي أن تتخذوا لي آنية أشرب فيها أرى من حولي، فإنه قد بلغني أن بعض الجن إذا أنا شربت وسترن الإناء منهم غمز بي، قالوا: يا رسول الله، إن هذا لشيء ما نطيقه، ولكنه قد تمرد عفريت، وهو في جزيرة من جزائر البحر فإن قدرنا عليه صنع هذا كله، قال: احتالوا حيلة تأتوني به. فانطلقوا إليه وأعلموه أن سليمان قد هلك، وأن الأرض قد بقيت لهم. فلما اطمأن إليهم أخذوه فأوثقوه بالحديد، ثم جاؤوا به سليمان. فلما أدخل عليه أراه الخاتم، فأذله اله عز وجل له، فقال له سليمان: يا صخر، إني هممت بقتلك لفرارك مني، وبلغني رفقك وصنائعك، فأنا أحب أن يتخذ الناس شيئاً يستريحون به مما يلقون من الطحن بأيديهم،(10/131)
وأتخذ لي آنية اشرب فيها ولا تحول بيني وبين النظر إلى الناس. قال: نعم يا رسول الله، أعنّي بطائفة من الجن فأعانه بما أراد. فلم يدع قرية إلا نصب فيها رحاً يطحن أهل البيت في اليوم والليلة ما يكفيهم سنة، ووجد الناس من ذلك راحة فسموها لمكان الراحة الرحا، وعمل لسليمان الزجاج فجاء على ما أراد، فأكرمه سليمان، وقربه حتى كان يشاوره في الأمر، وركب سليمان ذات يوم حتى أتى ساحل البحر فأدركه المساء، وغابت الشمس، وبدت النجوم، فاطلع كوكب فقال سليمان: يا صخر، ما هذا الكوكب؟ قال: هذا نجم كذا وكذا، ثم لم يزل يسأله عن النجوم. فقال سليمان: لقد أعطيت من أمر النجوم علماً، فصف لي كيف علمت ذلك، فقال: يا رسول اله، إن خاتم المملكة في يديك، وإني أفرق أن أدنو منك، ولولا ذلك لأخبرتك بأشياء تعجب، فنزع سليمان الخاتم، ثم قال: امسكه معك، وأخبرني. فلما وقع الخاتم في يده قذفه في البحر فالتقمه حوت، وتمثل صخر مكانه على تمثال سليمان، وقعد على كرسيه. فاجتمع له الجن والإنس والشياطين، وملك كل شيء كان يملكه سليمان، إلا أنه لم يسلّط على نسائه، وخرج سليمان يسأل الناس ويتضيفهم ويقول: أطعموني، فإني سليمان بن داود، فيطردونه ويقولون له: ما يكفيك ما أنت فيه من البلاء حتى تكذب على سليمان، وهذا سليمان على ملكه؟ حتى أصابه الجهد وطال عليه البلاء، فلما تم أربعون يوماً جاء إلى ساحل البحر فإذا بقوم يصيدون السمك فقال لهم: أطعموني، فأبوا فقال لهم: لو تعلمون من أنا لأطعمتموني، أنا سليمان بن داود، فخرج صاحب السفينة فطرده وضربه بمردي في يده وقال: ما يكفيك ما أنت فيه حتى تكذب على سليمان؟ إن كنت جائعاً فخذ من هذا السمك الذي أروح، فأخذ سليمان سمكتين، فدنا من ساحل البحر، فشق بطنهما فإذا في جوفها خاتمه فأخذه فلبسه، ورد الله عليه ملكه، وجاءت الوحوش والطير فقامت الوحوش حوله والطير فوق رأسه، فقال أهل السفينة: هذا والله سليمان فقفزوا بين يديه وقالوا:(10/132)
يا نبي الله، إنما فعلنا ما فعلنا غضباً لك قال: أما إني لا أعاتبكم على ما صنعتم قبل، ولا أحمدكم على ما تصنعون بي لأن الأمر من السماء.
وقيل: إن صخراً أمسك الخاتم أربعين يوماً، فمن ثم دانت له الإنس والجن، وعطفت عليه الطير والوحش. فلما أنكر آصف وعظماء بني إسرائيل حكم عدو الله الشيطان في تلك الأربعين يماً قال آصف: يا معشر بني إسرائيل، هل رأيتم من خلاف حكم ابن داود ما رأيت؟ قالوا: نعم، فعند عند ذلك صخر فألقى بالخاتم في البحر فاستقبله جري فابتلع الخاتم فصار في جوفه مثل الحريق من نور الخاتم، فاستقبل جريه الماء فوقع في شبك الصيادين الذين كان سليمان معهم، فلما أمسوا قسموا السمك، فأسقطوا الجري فجعلوه لسليمان، فذهب به إلى أهله فأمرهم أن يصنعوه، فلما شقوا بطنه أضاء البيت نوراً من خاتمه، فدعت المرأة سليمان فأرته الخاتم فتختم به، وخر لله ساجداً فقال: إلهي، لك الحمد على قديم بلائك وحسن صنيعك إلى آل داود، إلهي، أنت الذي ابتدأتهم بالنعم وأورثتهم الكتاب والحكم والنبوة فلك الحمد، إلهي، تجود بالكثير وتلطف بالصغير، إلهي، فلك الحمد، نعمائك ظهرت فلا تخفى، وبطنت فلا تحصى، فلك الحمد، إلهي لم تسلمني بذنوبي، فلك الحمد، تغفر الذنوب وتستجيب الدعاء، ولك الحمد، إلهي، لم تسلمني بجريرتي، فلك الحمد، ولم تخذلني بخطيئتي، فلك الحمد، فتمم إلهي نعمتك علي، واغفر لي ما سلف " وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " فذلك قوله: " ولق فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب ".
وقيل إن سليمان عليه السلام قال للشياطين: كيف تضلون الناس؟ فقال له شيطان: أعطني خاتمك حتى أخبرك، فأعطاه خاتمه، فذهب به حتى ألقاه في البحر وذهب ملك سليمان، فصار يطوف ويؤاجر نفسه، ويأتي المرأة من بني إسرائيل فيقول لها: أنا سليمان، أطعميني، فتبصق في وجهه، حتى وجد الخاتم في بطن حوت، فرد الله إليه ملكه وله الحمد.(10/133)
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كان في نقش خاتم سليمان لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كان فص خاتم سليمان بن داود سماوي، فألقي إليه فأخذه فوضعه في خاتمه، وكان نقشه: أنا الله لا إله إلا أنا محمد عبدي ورسولي ".
وعن الحسن
أن سليمان لما غلبه صخر المارد على ملكه خرج هارباً مخافة على نفسه أن يقتله، بغير حذاء ولا قلنسوة في قميص وإزار. قال: فمر بباب شارع على الطريق وقد جهده الجوع والعطش والحر، فقرع الباب، فخرجت امرأة فقالت: ما حاجتك؟ قال: ضيافة ساعة، فقد ترين ما أصابني من الحر والرمضاء، وقد احترقت رجلاي وبلغ مجهودي من الجوع والعطش. قالت المرأة: إن زوجي لغائب وليس يسعني أن أدخل رجلاً غريباً علي، وهذا أوان انصراف زوجي، فادخل البستان فإن فيه ماء وثماراً، فأصب من ثماره، وتبرد فيه، فإذا جاء وزجي استأذنته في ضيافتك،، فإن أذن لي فذاك، وإن أبى أصبت مما رزق الله ومضيت، فعلم أنها تكلمت بعقل، فدخل البستان، فاغتسل ووضع رأسه فنام، فأذاه الذباب، فجاءت حية سوداء فمرت بسليمان فعرفته، فانطلقت فأخذت ريحانة من البستان بفيها يقال لها العبهر، فجاءت إلى سليمان عند رأسه، فجعلت تذب عنه حتى جاء زوج المرأة، فقصت عليه القصة، فدخل الزوج إلى سليمان. فلما رأى الحية وصنيعها دعا امرأته، فقال لها: تعالي فانظري العجب، فنظرت ثم مشت إليه، فلما رأتها الحية تنحت عن سليمان، فأيقظاه وقالا له: يا فتى، هذا منزلنا فهو لك لا يسعنا شيء يعجزك، وهذه ابنتي وقد زوجناكها، وكانت من أجمل نساء أهل زمانها، قال: فتزوجها وأقام عندهم ثلاثة أيام، ثم قال: لا يسعني إلا طلب المعيشة لي ولأهلي، فانطلق إلى الصيادين، فقال لهم: هل لكم في رجل يعينكم وترضخون له شيئاً من صيدكم، وكل يأتيه الله برزقه، فقالوا: قد انقطع عنا الصيد، وليس عندنا فضل نعطيكه، فمضى إلى غيره، فقال لهم مثل هذه المقالة، فقالوا: نعم، وكرامة، نواسيك بما عندنا، فأقام معهم يختلف(10/134)
كل ليلة إلى أهله بما أصاب من الصيد، حتى أنكر الناس قضاء سليمان وأفعاله، فقالوا لآصف: هل تنكر من سليمان الذي أنكرنا؟ قال: نعم، ولكن دعوني أعلم علم نسائه، فانطلق آصف، وكان لا يحتجب عنهن، فسألنه عن فعاله قلن: أنكرنا جميع فعاله، ولا يطلب النساء إلا عند الحيض، فقال: هل تواتينه؟ قلن: لا. قال ابن عباس رحمه الله: من زعم أنه أتى نساءه فقد كذب. كان سليمان عليه السلام أكرم على الله تعالى وتقدس من أن يسلط الشيطان على نسائه. قال فختم الله عليه، ولم يردهن. قال واحترس نساؤه، واجتمع الناس يدعون الله أن يفرّج ما بسليمان. قال: فلما رأى الخبيث أن الناس قد فطنوا له عمد فكتب كتاب السحر وختمه بخاتم سليمان ودفنه من تحت قائمة سرير سليمان وانطلق بالخاتم فألقاه في البحر.
وعن قتادة قال: كتبت الشياطين كتباً فيها سحر وشرك، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان، فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب، فقالوا: هذا علم كتمناه سليمان فقال الله تعالى: " واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت ".
وعن عمران بن الحارث قال: بينا نحن عند ابن عباس إذ دخل عليه رجل، فقال له ابن عباس: من أين جئت؟ قال: من العراق، قال: من أين؟ قال من الكوفة، قال: فما الخبر؟ قال: تركتهم يتحدثون أن علياً خرج إليهم. قال: ففزع ثم قال: ما يقولون لا أبا لك؟! لو شعرنا ما نكحنا نساؤه ولا قسمنا ميراثه سأحدثكم عن ذلك: كانت لشياطين يسترقون السمع من السماء فيجيء أحدهم بكلمة حق قد سمعها، فإذا جربت صدق، وكذب معها سبعين كذبة، فتشربتها قلوب الناس، فأطلع الله عليها سليمان عليه السلام، فأخذها فدفنها تحت كرسيه، فلما توفي سليمان قام شيطان بالطريق فقال: ألا أدلكم على كنزه الممتنع الذي لا كنز له مثله؟ تحت الكرسي. فأخرجوه فقالوا: هذا سحر، فتناسختها الأمم حتى(10/135)
بقاياها ما يحدث به أهل العراق فأنزل الله في عذر سليمان عليه السلام " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولك الشياطين كفروا " إلى آخر الآية.
وعن الحسن
أن صخراً المارد حين كان غلب على ملك سليمان. فلما فطن له الناس كتب كتاب السحر، ودعا الشياطين، فأخبرهم أنه قد غلب سليمان على ملكه، وأنه ألقى خاتمه في البحر، فلا يقدر عليه ويستريحوا منه، وأن هذا كتاب كتبته فيه أصناف السحر، وختمته بخاتم سليمان، وإني أدفنه تحت كرسيه، وكتب في عنوانه: هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من العلم. فلما مات سليمان جاءت الشياطين في صورة الإنس فقالوا لبني إسرائيل: إن لسليمان كنزاً من دفاتر من كنوز العلم، وكان يعمل به هذه العجائب فهل لكم فيه؟ قالوا: نعم، فحفروا ذلك الموضع واستخرجوا ذلك الكتاب. فلما نظروا فيه أنكر الأحبار ذلك، وقالوا: ما هذا من أمر سليمان. وأخذه قوم وقالوا: والله ما كان سليمان يعمل إلا بهذا، ففشا فيهم السحر، فليس هو في أحد أكثر منه في اليهود. فلما ذكر الله لرسوله أمر سليمان وأنزل عليه في سليمان وفي المرسلين وعده فيهم، قال من كان بالمدينة من اليهود: ألا تعجبون من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزعم أن سليمان كان نبياً. والله ما كان إلا ساحراً فأنزل الله عزّ وجلّ فيما قالوا: " واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان " يقول: ما كتبت الشياطين يعني أيام غلب صخر سليمان على ملكه " ولكن الشياطين كفروا " هم كتبوا السحر، وما عمل سليمان بالسحر " وما أنزل " السحر " على الملكين ببابل هاروت وماروت " حين فرغ من قصتهما.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، فقال له صاحبه إن شاء الله فلم يقل، فطاف عليهن جميعاً فلم تحمل منهن إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، وايم الذي نفسي بيده إنه لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون.(10/136)
وفي رواية: لأطوفن الليلة على مئة امرأة.
وفي حديث عن أبي هريرة أيضاً أن سليمان كان له أربع مئة امرأة وست مئة سرية. فقال يوماً: لأطوفن الليلة على ألف امرأة، فتحمل كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يستثن، فطاف عليهن، فلم تحم واحدة منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق إنسان، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده لو استثنى فقال: إن شاء الله لولد له ما قال، فرسان ولجاهدوا في سبيل الله ".
وعن ابن عباس قال: كان لداود تسع وأربعون امرأة وكان لسليمان مئتا امراة.
وعن أبي هريرة قال: كان اليوم الذي رد الله تعالى إلى سليمان بن داود خاتمه يوم النيروز، فجاءت الشياطين بالتحف، وكانت تحفة الخطاطيف أن جاءت بالماء في مناقيرها فرشته بين يدي سليمان فاتخذ البعض رش الماء من ذلك اليوم.
وقال سفيان الثوري: بلغني أن سليمان يوم رد الله عليه ملكه، أمر الريح أن تحمله، فحملته فانتهى إلى مفرق الطريقين، استقبله خطاف فقال: أيها املك، إن لي عشاً فيه بيضات قد حضنتهن، وأنا أرجو إفراخي أيامي، فاعدل رحمك الله، فإنك إن مررت بالعش حطمت بيضات، فشفقه وترك ذلك الطريق، فانطلق الخطاف إلى البحر حين نزل سليمان فحمل ماء في منقاره، فنضح بين يديه، فسأله أصحابه عن ذلك فقال: إنه سألني أن أعدل عن الطريق الذي فيه عشه، فهو يحمل الماء من البحر بمنقاره ينضحه بين يدي شكراً لي.
وفي حديث آخر: أتاه برجل جرادة فوضعه بين يدي سليمان، فقال له سليمان: ما هذا؟ قال: هدية لك فقال سليمان: لقد شكر هذا، ومن لا يشكر المخلوق لا يشكر الخالق.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى صلاة فقال: " إن الشيطان عرض ليفسد علي ليقطع الصلاة علي فأمكنني الله(10/137)
منه فذعته، ولقد هممت أن أوثقه في سارية حتى تصبحوا فتنظروا إليه فذكرت قول سليمان: رب هب لي ملكا لا يبغي لأحد، فرده الله خائباً ".
قال الضحاك:
لما رد الله ملك سليمان بعث سليمان إلى صخر، فأتي به، فلما أدخل عليه أمر بوثاقه، فأوثقوه حديداً، ثم سأل الجن: أي قتلة أشد حتى أقتله؟ قالوا: نأتيك بصخرة ثم نجوفها ثم نوثقه فنضعه فيها ونسدها عليه ونطبقها بالحديد ثم نلقيه في البحر، ففعلوا ذلك به، فألقوه في أعمق مكان في البحر، فهو فيه إلى يوم القيامة فذلك قول الله عزّ وجلّ " وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن " يعني سليمان على من شئت من الشياطين " أو أمسك يعني أقره في الوثاق في البحر " بغير حساب " يعني لا تبعة عليك فيه إلى يوم القيامة.
قال عبد الله بن عبيد بن عمير: بعث سليمان إلى مارد من مردة الجن كان في البحر، فأتي به. فلما كان على باب داره أخذ عوداً فذرعه بذراعه، ثم ألقاه من وراء الحائط فوقع بين يدي سليمان فقال سليمان: ما هذا؟ فأخبر بالذي صنع المارد، فقال: تدرون ما أراد؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول اصنع ما شئت فإنما تصير إلى مثل هذا من الأرض.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: أعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبع مئة سنة وستة أشهر، ملك أهل الدنيا كلهم من الجن والأنس والشياطين والدواب والطير والسباع، وأعطي علم كل شيء ومنطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع المعجبة التي سمع بها الناس وذلك قوله: " علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء ".(10/138)
قالوا: وكان سليمان غزاء، يغزو البر والبحر ولا يسمع بملك في ناحية من الأرض إلا أتاه حتى يذله، وكان إذا أراد الغزو أمر بعسكره فضرب، وكان اتخذ ألواحاً من خشب وضم بعضها إلى بعض وعمل لها عمداً من تحتها وسددها بالمسامير الحديد على قدر عسكره، فربما كان عسكره فرسخاً في فرسخ أو أقل أو اكثر، ثم تجيء الشياطين فتدخل تحت الخشب، فتحمل تلك العمد، ثم يأمر الريح وعسكره مسيرة شهر، وكانت الريح تغدو به شهراً، وتروح به شهراً وبعسكره، فذلك قول الله عزّ وجلّ: " رخاء حيث أصاب " مطيعة حيث أراد، وكان الرخاء ريحاً تحمل عسكره إلى حيث أراد سليمان، وإنه ليمر بالزراعة فما تحركها الريح.
وقيل: كانت الشياطين عملوا لسليمان مدينة من قوارير، إذا خرج في المغازي كان يحمل تلك المدينة معه وحشمه وأهل بيته، وكانت ألف ذراع في عشرة آلاف ذراع، فيها ألف سقف كل سقف ألف ذراع، بين كل سقفين عشرة أذرع على كل سقف ما يحتاج إليه من المساكن والقباب والمرافق، فجعل الأعلى قبة فيها مجلسه، على قبتها علم أخمر يضيء منه بالليل للعسكر، وترى بالليل من الأرض البعيدة كما ترى النار، ولتلك المدينة ألف ركن على مناكب الشياطين، تحت كل ركن عشرة من الشياطين.
قال كعب:
وكان سليمان إذا ركب حمل أهله وسار بجيشه وخدمه وكتائبه، وتلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم، وقد اتخذ مطابخ ومخابز، يحمل فيها تنانير الحديد وقدوراً عظاماً، يسع كل قدر عشر جرائر وقد اتخذ فيه ميادين للدواب أمامه فيطبخ الطباخون، وخبز الخبازون، وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض ولريح تهوي بهم، فسار من إصطخر إلى اليمن فسلك المدينة مدينة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، وطوبى لمن اقتدى به. ثم مضى حتى مر بمكة فقال: هذا مولد نبي في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، وطوبى لمن اقتدى به، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله. فلما جاوز(10/139)
سليمان البيت بكى البيت، فأوحى الله إلى البيت فقال: ما يبكيك؟ قال: يا رب، أبكاني هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا علي، فلم يهبطوا في، ولم يصلوا عندي، ولم يذكروك بحضرتي، والأصنام تعبد حولي من دونك فأوحى الله إليه أن لا بتك، فإني سوف أملؤك وجوهاً سجوداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك نبياً في آخر الزمان، أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارً من خلقي يعبدوني، وأفرض على عبادي فريضة يدفون إليك دفوف النسور إلى وكورها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشياطين. ثم مضى سليمان حتى مر بوادي النسرين من الطائف فأتى على وادي النمل فقالت نملة تسمى جيرين من قبيلة تسمى الشيصبان وكانت عرجاء تتكاوس، وكانت مثل الذئب العظيم فنادت النمل " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحكمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " يعني أن سليمان يفهم مقالها، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك، فألقته في مسامع سليمان قال: " فتبسم سليمان ضاحكاً من قولها وقال: رب أوزعني " يعني ألهمني " أن أشكر نعمتك " يعني: أن أؤدي شكر ما أنعمت " علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " يعني مع الصالحين.
ذكر وهب بن منبه سليمان وتعظيم ملكه: أنه كان في رباطه اثنا عشر ألف حصان، وكان يذبح لغذائه كل يوم سبعين ثوراً معلوفاً وستين كراً من الطعام سوى الكباش والصيد والطير، فقيل لوهب: يا أبا عبد الله، أكان يسع هذا ماله؟ قال: كان إذا ملك الملك على بني إسرائيل اشترط عليهم أنهم رقيقه وأن أموالهم له، ما شاء أخذ منها، وما شاء ترك.
قال ابن عباس: كان سليمان بن داود يوضع له ست مئة ألف كرسي، ثم يجيء بأشراف الإنس فيجلسون مما يليه، ثم يجيء بأشراف الجن حتى يجلسوا مما يلي الإنس، ثم يدعو الطير فتظلهم ثم يدعو(10/140)
الريح، فتحملهم فيسيرون. وقيل: يسير في الغداة الواحدة مسيرة شهر. فبينا هو ذات يوم يسير إذ احتاج إلى الماء، وهو في فلاة من الأرض، فدعا الهدهد فنقر الأرض، فأصاب موضع الماء، فجاءت الشياطين إلى المكان فيسلخونه كما يسلخ الإهاب حتى استخرجوا الماء: فكيف يعرف هذا ولا يعف الفخ حتى يقع في عنقه؟ فقال ابن عباس: ويحك إن القدر حال دون البصر.
حدث إدريس بن سنان أبو إلياس قال:
بلغنا " والله أعلم " عن صفة كرسي سليمان بن داود بحكمته أنه صنع دفوف الكرسي من عظام الفيلة، وفصصها بالدر وبالياقوت والزبرجد واللؤلؤ، صنعت صنعة لم يصنع مثلها من مضى، ولا صنعها من بقي بعده، ثم جعل له ست درجات بعضها فوق بعض، وجعل بين كل درجتين شبراً، وجعل كل درجة منها مفصصة بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ، وحفف الكرسي من جانبيه كليهما بنخل من ذهب، وعناقيدها ياقوت وزبرجد ولؤلؤ، وجعل رؤوس النخل من أحد جانبي الكرسي طواويس من ذهب، وجعل من جانبه الآخر سوراً من ذهب مقابلة للطواويس، وجعل عن يمين الدرجة الأولى شجرة صنوبر من ذهب، وعن يسارها أسداً من ذهب، وعلى رؤوس الأسدين عموداً من زبرجد، ومن جانبي الأسدين شجرتين كلتاهما كرم من ذهب معرشتين، فأظلتا الكرسي كله بتعريشها وورقها، وفوق أعلى درج الكرسي أسدين عظيمين من ذهب مجوفين محشوين مسكاً وعنبراًً، فإذا أراد سليمان بن داود الملك أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان كما يستدير المنجنون فينفخان ما في أجوافهما من الطيب، ومن جانبي الكرسي منبران من ذهب أحدهما مجلس خليفة سليمان، والآخر مجلس الأحبار والقضاة، وسبعين منبراً من ذهب لسبعين قاضياً من أحبار بني إسرائيل وعلمائهم وكهولهم، من كل جانب من الكرسي خمسة وثلاثون منبراً، فإذا أراد الملك أن يصعد إلى كرسيه وضع قدميه على الدرجة الأولى من الكرسي استدار الكرسي كما يستدير المنجنون، فيبسط الأسد يده اليمنى والنسر جناحه الأيسر، فيتكئ سليمان عليها إلى الدرجة التي تليها وكذلك تصنع الأسد والنسور من كل درجة إلى درجة(10/141)
حتى يستوي إلى أعلى الكرسي، فإذا استوى سليمان على كرسيه جالساً أخذ التنين العظيم تاج الملك فوضعه على راس سليمان، وكان الذي يستدير بالكرسي وما فيه من العجائب تنين عظيم حتى تمر الأسود والنسور والطواويس التي على الدرجة السفلى إلى أعلى الكرسي فيظلون من فوق رأس سليمان، وهو جالس على الكرسي، فينضحون ما في أجوافها من الطيب على رأس سليمان، وكانت حمامة على عمود جوهر تأخذ التوراة، حتى تجعلها في يد سليمان فيقرأها على الناس فإذا جلس سليمان على كرسيه للقضاء، وجلس قضاة بني إسرائيل على كراسيها عن يمينه وشماله جانبي الكرسي فدخلت الشهود للشهادات استدار منجنون الكرسي، فيزأر الأسد، وتخفق النسور بأجنحتها، وترجع الطواويس لترعب قلوب الشهود أن لا يشهدوا بالزور، ويقول الشهود عندما يرون من العجائب وما دخلهم من الرعب: لا نشهد إلا بالحق، فإنا إن نشهد بالزور يهلك العالم، فلم يكن مثل كرسي سليمان في الأولين ولا يكون مثله في الآخرين.
فلما قبض الله سليمان وجاء بخت نصر، فأخذ ذلك الكرسي فحمله معه إلى أنطاكية، فأراد أن يصعد فيه ليقعد عليه، ولم يكن له علم كيف يصعد فيه، فلما وضع قدمه على الدرجة الأولى ولم تصب موضعها رفع الأسد يده اليمنى فكسر ساق بخت نصر الأيسر فعرج فلم يزل بخت نصر يعرج منها حتى مات، ثم بعث الله ملكاً من ملوك فارس يقال له: كارس بن سورس ويقال الفرريا بن يساريا فحمل الكرسي من بابل حتى رده إلى بيت المقدس، فوضعوه تحت الصخرة فلم يقعد أحد على كرسي سليمان من بعده، ولم يقدر عليه منذ وضع تحت الصخرة.
فذلك ما يذكر من حديث الكرسي وما فيه من العجائب.
قال إسحاق بن بشر: وكان سليمان إذا ركب يسمع حفيف قبته من اثني عشر ميلاً، فلا يبقى غلام ولا جارية ولا رجل ولا امرأة إلا وهم متشوفون ينظرون إلى مركب سليمان ويتعجبون. فبينا سليمان في مسيره بهذه الحال، وقد اشرفوا عليه من كل جانب، غذ مر(10/142)
على رجل من بين إسرائيل يعمل بالمسحاة في حرث له يقال له: مرعبدا، فقال مرعبدا ولم يرفع طرفه إليه: لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، ثم أقبل على مسحاته، فلم يلتفت له، ولم ينظر إليه، والناس متشوفون من كل جانب، فلما رأى سليمان ذلك رفع رأسه فنظر إلى الطير فوقفن، فإذا وقفت الطير تركت الشياطين الأركان، وتجيء الريح فتحمل له البيت بقدرة الله. فلما نظر سليمان إلى العابد وهو مرعبدا قطع به فقال: والله ما هذا إلا رجل في قلبه إيمان ومعرفة ليس في قلب أحد.
قال عبد الله بن عمر: قال لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لينظر إلى الكافر ولا ينظر إلى المزهي، ولقد حملت سليمان بن داود الريح وهو متكئ، فأعجب واختال بنفسه فطرح على الأرض.
وعن الفضيل بن عياض قال: كان سليمان بن داود إذا أراد أن يركب وُضع له ست مئة ألف كرسي، تحتمله الريح، وتظله الطير والغمام فوق ذلك، فبينا هو يسير إذ مر بحرّاث يعمل في زرعه، فاستوقفه فوقف غير مستكبر، فإما أتاه أو ساءله فقال له: يا نبي الله، حك في نفسي شيء، لم أجد له موضعاً غيرك، قال: وما هو؟ قال: أرأيت ما مضى من ملكك هذا هل تجد لشيء منه لذة؟ قال: لا. قال: فما بقي؟ قال: ولا. قال: ما أراك سبقتني من الدنيا إلا باليسير، قيل: فقال له سليمان: هل لك أن تصحبني؟ قال: فما تصنع بي؟ قال: أصنع بك خيراً، قال: هل تزيد في رزقي؟ قال: لا، قال: فهل تزيد في عمري؟ قال: لا، قال: فما أصنع بصحبتك!! وعن ابن كعب القرظي في قوله عزّ وجلّ " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلا من قبل " الآية قال: يعني يتزوج ما يشاء من النساء، هذا فريضة، وكان من الأنبياء هذا سننهم، وقد كان لسليمان بن داود ألف امرأة، سبع مئة مهيرة(10/143)
وثلاث مئة سرية، وكان لداود مئة امرأة فيهن أم لسيمان امرأة أورياء تزوجها داود بعد الفتنة. فهذا أكثر مما كان لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال وهب بن منبه: أمر الله الريح فقال: لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء في الأرض بينهم إلا حملته فوضعته في أذن سليمان، فلذلك سمع كلام النملة.
قيل: إن سليمان النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، كان جالساً، فرأى عصفوراً، يدير زوجته على السفاد وهي تمتنع منه، فضرب بمنقاره في الأرض ثم رفعه إلى السماء، فقال سليمان: هل تدرون ما قال لها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال لها: ورب السماء والأرض ما أريد السفاد لك، ولكن أردت أن يكون من نسلي ونسلك من يسبح الله في الأرض.
قال مالك بن دينار: صنع سليمان بن داود قبة من ذهب أربعين ذراعاً في أربعين ذراعاً، وركب فيها من صنوف الجوهر، فبينا سليمان جالس فيها غذ سقط فيها خطافان، فراود الذكر الأنثى فامتنعت عليه فقال لها: لم تمنعين نفسك؟ فوالله لو كلفتني حمل هذه القبة لحملتها، فسمع سليمان قوله فأمر فأتي بهما فقال: من القائل كذا وكذا؟ قال الذكر: أنا يا نبي الله، قال فما حملك على ذلك؟ قال: يا نبي الله، أنا محب والمحب لا يلام.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أرأيتم ما أعطي سليمان من ملكه، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعاً، وما كان يرفع طرفه إلى السماء تخشعاً من ربه عزّ وجلّ.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خُير سليمان بين المال والملك والعلم فاختار العلم، فأعطي الملك والمال لاختيار العلم.
حدث أبو عمران الجوني قال: مر سليمان بن داود في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وعن(10/144)
شماله، فمر بعابد من عباد بني إسرائيل. قال: فقال: لقد آتاك الله يا بن داود ملكاً عظيماً فسمع كلامه فقال: تسبيحة في صحيفة مؤمن أفضل مما أوتي آل داود، وما أوتي ابن داود يذهب وتسبيحته تبقى.
قال الفضيل بن عياض: كان عسكر سليمان مئة فرسخ، وكان يذبح في كل يوم ألف شاة وثلاثين ألف بقرة سوى ما يلقى الطير من نواهضها، ويطعم الناس الحوارى، ويطعم أهله الخشكار، ويأكل هو الشعير قال: " وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب ".
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قالت أم سليمان لسليمان: يا بني، لا تكثر النوم بالليل، فإن من كثر نومه بالليل يلقى الله يوم القيامة فقيراً ".
وعن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن أول من صنعت له النورة ودخل الحمام سليمان بن داود، فلما دخله وجد حره وغمه، قال: أوه من عذاب بالله أوه قبل أن لا يكون أوه.
وفي رواية: أول من صنع له الحمام سليمان بن داود.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بينما امرأتان ومعهما أبناهما إذ جاء الذئب فذهب بأحدهما، فقالت هذه لصاحبتها إنما ذهب بابنكن، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فاختصمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فمرتا على سليمان، فأخبرتاه فقال ائتوني بسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا ويرحمك الله هو ابنها فقضى به للصغرى.
قال أبو هريرة: فوالله إن سمعت بالسكين قبل ذلك اليوم، ما كنت أقول إلا المدية.(10/145)
وعن محمد بن كغب القرظي قال:
جاء رجل إلى سليمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا نبي الله، إن لي جيراناً سرقوني إوزاً، فنادى: الصلاة جامعة ثم خطبهم فقال في خطبته: واحد كم يسرق إوزة جاره، ثم يدخل المسجد والريش على رأسه، فمسح رجل رأسه، فقال سليمان: خذوه فإنه صاحبكم.
وعن الحسن قال: بلغني أن داود قال لابنه: يا بني، أي شيء أبرد؟ قال: عفو الله عن العباد وعفو العباد بعضهم عن بعضهم. قال: فأي شيء أحلى؟ قال: روح الله بين عباده.
وعن داود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لسليمان حين استخلفه: يا بني، أي شيء أحسن؟ قال: روح الله بين عباده، وصورة حسنة في عمل صالح وخلق حسن.
وعن ابن أبي نجيح قال: قال سليمان: أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتوا، وعُلمنا ما علم الناس وما لم يعلموا، فلم نجد شيئاً أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
وعن قتادة قال: ذُكر لنا أن سليمان بن داود كان يقول: اذكر الجائع إذا شبعت، واذكر الفقير إذا استغنيت.
وعن يحيى بن كثير أن سليمان بن داود قال: يا بني إسرائيل، من خشي الله في السر والعلانية، وقصد في الغنى والفقر، وعدل في الغضب والرضا، وذكر الله على كل حال فقد أعطي مثل ما أعطيت أو أفضل منه.
وعن سعيد بن عبد العزيز قال سليمان بن داود: نظرت في الحكمة فكثر همي، ونظرت في العلم فكثر شيبي، فذهبت أنظر في الأمر(10/146)
فإذا مع الشباب كبر، وإذا مع الغنى فقر، وإذا مع الصحة سقم، وإذا مع الحياة موت، وإذا تربتي وتربة السفيه الأحمق يصيران إلى أن يكونا سواء، إلا أن أفضله يوم القيامة بعمل صالح، فكيف يهنأني مع هذا طعام أو شراب؟ وعن خيثمة قال: قال سليمان بن داود النبي صلى الله على نبينا وعليهما وسلم: كل العيش قد جربناه، ليّنه وشديده فوجدناه يكفي منه أدناه.
وعن الحسن قال: بلغني أن سليمان بن داود قال: العقل نجاة العاقل بطاعته ربه، وحجته على معصية الله، وإن العمل القليل من العاقل أرجح من الكثير من الجاهل، ومجامعة العاقل على البرادع خير للمؤمن من مجامعة الجاهل على حشايا السندس والاستبرق، ومجامعة المرء العاقل على المزابل خير من مجامعة الجاهل على الزرابي.
قال سليمان بن داود: يا معشر الجبابرة، كيف تصنعون إذا وضع المنبر للقضاء؟ يا معشر الجبابرة، كيف تصنعون إذا لقيتم ربكم الجبار فرادى؟ وقال سليمان بن داود: يا بني، إياك وكثرة الغضب، فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم.
وعن الأوزاعي قال: قال سليمان: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود لابنه: يا بني، عليك بخشية الله فإنها غاية كل شيء، يا بني، لا تقطع أمراً حتى تشاور فيه مرشداً، يا بني، عليك بالحبيب الأول فإن الأخير لا يعدله.
وعنه قال: قال سليمان لابنه: يا بني، لا تقطعن أمراً حتى تؤامر مرشداً، فإنك إذا فعلت ذلك لم تحزن عليه يا بني، إياك وكثرة الغيرة من غير سوء تراه على أهلك فترمى بالسوء من أجلك.(10/147)
قال سليمان: من أراد أن يغيظ عدوه فلا يرفع العصا على ولده.
وعن يحيى بن أبي كثير قال: قال سليمان بن داود لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك، فترمى بالشر من أجلك، وإن كانت بريئة، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تستخف فؤاد الرجل الحليم، قال: وعليك بخشية الله فإنها غلبت كل شيء.
وعنه أن سليمان قال لابنه: يا بني، إياك والمراء، فإن نفعه قليل وهو يهيج العداوة بين الإخوان.
وعن مالك بن دينار قال: خرج سليمان في موكبه فمر ببلبل على غصن شوك يصفر ويضرب بذنبه فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه يقول: قد أصبت اليوم نصف تمرة فعلى الدنيا السلام.
وعن كعب الأحبار قال: خرج سليمان بن داود نبي الله عليه الصلاة والسلام يستقي لقومه فإذا نملة قائمة على رجليها رافعة يديها تقول: اللهم، إنا خلق من خلقك ولا غنى لنا عن رزقك، فأنزل علينا غيثك، ولا تؤاخذنا بذنوب عبادك، فقال سليمان عليه السلام: أرجعوا، فقد استجاب الله لكم بدعاء غيركم فرجعوا يخوضون الماء إلى الركب.
وفي حديث آخر: فلا تهلكنا بذنوب بني آدم.
وقيل: إن داود كان له صديق من بني إسرائيل يُدني مجلسه ويشاوره، فمات داود وولي سليمان. قال: فنظر من أحق الناس أن يشاوره ويُدني مجلسه منه؟ قال: ما أعلم أحداً أحق من الشيخ الذي مات نبي الله وهو عنه راض، فأرسل إليه فأدنى مجلسه، وكان الله وكل بسليمان ملك الموت أن يدخل إليه كل يوم دخلة، فيسأله كيف هو، ويقول له: هل لك من حاجة أقضيها لك؟ فإن قال: نعم لم يبرح ملك الموت حتى يقضيها، ثم(10/148)
لا يعود إليه من الغد، فدخل عليه يوماً والشيخ مسند ظهره إلى سرير سليمان فقال له: كيف كنت الليلة؟ قال: بخير، قال: ألك حاجة؟ قال: لا، فانصرف ملك الموت والناس يحسبون أنه رجل من الناس، فلما خرج أقبل الشيخ على رجل سليمان، فجعل يقبلها، ويقول: يا نبي الله، كيف رضي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عني؟ قال: حسن، قال: وكيف رضاك عني منذ صحبتك؟ قال: حسن إني أسألك بحق الله إلا ما أمرت الريح أن تحملني فتلقيني بأقصى مدرة من أرض الهند، قال: فأخذه أفكل شديد، قال سليمان: ولم؟ قال: هو ما أقول لك، قال: فاخبرني فإني فاعل، قال أم تر إلي الرجل الذي دخل عليك، فإنه لحظ إلي لحظة، فما أتمالك رعدة، فقال سليمان: سبحان الله، وهل إلا رجل نظر إليك؟ قال: هو ما أقول لك، قال: وأراده سليمان على ألا يفعل فأبى، قال: فدعا الريح، فقال: احمليه فألقيه بأقصى مدرة بالند، وظل سليمان لا ينتفع بشيء حزناً على الشيخ، قال: فقعد على سريره قبل ساعته التي كان يقعد فيها حزناً على الشيخ، ودخل عليه ملك الموت ثم قال: ألك حاجة؟ قال: الحاجة غدت بي إلى هذا المكان، قال: مه. فذكر الشيخ ومنزلته، وذكر ما سأله. وذكر ما سأله. قال له ملك الموت: يا رسول الله، منذ جئتك ما ينقضي عجبي منه، إنه سقط إلي أمس كتاب أن أقبض روحه مع طلوع الفجر بأقصى مدرة بأرض الهند، فهبطت وما أحسبه إلا هناك، فدخلت عليه فإذا هو قاعد، وقد أمرت أن أقبض روحه مع طلوع الفجر بأقصى مدرة بأرض الهند، فجعلت أتعجب، فوا للذي بعثك بالحق إني هبطت عليه مع طلوع الفجر، فوجدته بأقصى مدرة من أرض الهند فقبضت روحه، وتركت جسده هنالك.
قال كعب: أمر داود ببناء بيت المقدس، فبنى فيه قدر قعدة، ثم أحدث شيئاً، فقيل له: إنك لست بصاحبه. قال: رب، فمن ذريتي؟ قال: نعم، فبناه سليمان حتى فرغ من بناه جعل عليه مأدبة، ذبح أربعة آلاف بقرة وسبعة آلاف شاة، ودعا بني إسرائيل فأكلوا حتى قام فدخله فقال: اللهم، أما عبد لك دخل بيتك هذا مستجيراً فأجره،(10/149)
فأوحى الله إليه أن قد استجبت لك. فلما أوحى إليه أن قد استجبت لك، أن خلص الدعوة لآل داود عليه السلام.
قال قرة: أمر سليمان ببناء بيت المقدس فقالوا لسليمان: إن زوبعة الشيطان له عين في الجزيرة، يردها كل سبعة أيام، فأتوها فنزحوها فصبوا فيها خمراً، فجاء لورده، فلما أبصر الخمر قال كلاماً له: أما علمت أنك إذا شربك صاحبك ظهر عليه عدوه " في أساجيع " ألا لا وردتك اليوم، فذهب ثم رجع لظمأ آخر. فلما رآها قال كما قال أول مرة، ثم ذهب ولم يشرب، ثم جاء لورده لإحدى وعشرين ليلة، وقال: ما علمتك إنك لتذهبن الهم " في أساجيع له " فشرب فسكر فجاؤوا إليه، فأروه خاتم السحر فانطلق معهم إلى سليمان، فأمره ببناء بيت المقدس، فقال دلوني على بيض الهدهد فدل على عشه فأكب عليه بحمحمة، فانطلق الهدهد فجاء بالماس الذي يثقب به اللؤلؤ والياقوت فغط الزجاجة، فذهب ليأخذه فأزعجوه عنه فجاء بالماس إلى سليمان، فجعلوا يستعرضون له الجبال كأنما يخطون في الطين.
وحدث كعب:
أن الله أوحى إلى سليمان أن ابن بيت المقدس، فجمع حكماء الإنس وعفاريت الجن وعظما الشياطين، ثم فرق الشياطين فجعل منهم فريقاً يبنون، وفريقاً يقطعون الصخر والعمد من معادن الرخام، وفريقاً يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان، الدرة منها مثل بيضة النعام، ومثل بيض الدجاج، وأخذ في بناء المسجد، فلم يثبت البناء، وكان عليه حين بناه داود، فأمر بهدمه، ثم حفر الأرض حتى بلغ الماء، فقال: أسسوا على الماء فألقوا فيه الحجارة، فكان الماء يلف، فدعا سليمان الحكماء والأحبار، ورأسهم آصف فقال: أشيروا علي، فقال آصف ومن قال منهم: إنا نرى أن نتخذ قلالاً من نحاس، ثم نملأها حجارة، ثم نكت عليها هذا الكتاب الذي في خاتمك لا إله إلا الله وحده لا شريك له ومحمد عبده ورسوله، ثم نلقي تلك القلال عليه في الماء، فيكون أساس البناء عليه ففعل(10/150)
فثبتت القلال، وألقوا الصخر والحجارة عليها، وبنى حتى ارتفع البناء وفرق الشياطين في أنواع العمل، فكانت الشياطين دأبوا في عمله وجعل فرقة منهم يقطعون معادن الياقوت والزمرد وألوان الجوهر، فجعل الشياطين صفاً مرصوصاً ما بين معدن الرخام إلى حائط المسجد، فإذا قطعوا من المعدن حجراً أو اسطوانة يلقاه الأول منهم الذي يلي المعدن ثم الذي يليه، فيلقى بعضهم بعضاَ حتى ينتهي إلى المسجد، وجعل يقطع الرخام الأبيض منه مثل بياض اللبن من معدن يقال له السامور ليس بهذا السامور الذي في أيدي الناس، ولكن هذا به سمي، وإنما دل على معدن السامور عفريت من الشياطين كان في جزيرة من جزائر البحر، فدلوا سليمان عليه، فأرسل إليه بطابع من حديد، وكان خاتمه يرسخ في الحديد والنحاس فيطبع إلى الجن بالنحاس، ويطبع على الشياطين بالحديد فلا يجيبه أقاصيهم إلا بذلك، وكان خاتمه أنزل عليه من السماء، حلقته بيضاء، وطابعه كالبرق لا يستطيع أحد يملأ منه بصره.
فلما بعث إلى العفريت وجاءه قال له: هل عندك من حيلة أقطع بها الصخر فإني أكره صوت الحديد في مسجدنا هذا وصريره للذي أمرنا به من الوقار والسكينة، فقال له العفريت: ابغني وكر عقاب، فإني لا أعلم في الطير أشد من العقاب فنفحه برجله ليقطعه فلم يقدر عليه، فحلق في السماء متلطفاً، فلبث يومه وليلته، ثم أقبل ومعه خصين من السامور معترض، فتفرقت الشياطين حتى أخذوه منه، وأتوا به على سليمان فكان به يقطع الصخر، وعمل سليمان بيت المقدس عملاً لا يوصف ولا يبلغ كنهه أحد، وزينه بالذهب والفضة والدر والياقوت والمرجان وألوان الجوهر في سمائه وأرضه وأبوابه وجدره وأركانه شيئاً لم ير مثله، ولم يعلم يومئذ كان على ظهر الأرض موضع كان أعظم منه، ولا عرض من عرض الدنيا أكبر منه، فتسامعت به الخلائق، وشهدته ملوك الأرض، وكان نصب أعينهم، ولكنهم لم يكونوا يرومونه مع سليمان.(10/151)
فلما فرغ سليمان منه جمع الناس، وأخبرهم أنه مسجد لله تعالى هو أمر ببنائه، وأن كل شيء فيه لله عزّ وجلّ، وأن من انتقصه شيئاً قد خان الله، وأن داود كان الله عزّ وجلّ عهد إليه بذلك من قبل، وأوصى سليمان بذلك من بعده، فلما انتهى عمله اتخذ طعاماً وجمع سليمان الناس فلم يُر قط جمع في موضع أكبر منه يومئذ ولا طعام اتخذ أكثر منه ثم أمر بالقربان فقرب لله عزّ وجلّ قبل أن يطعم الناس، فوضع القران في رحبة المسجد وبين ثورين، فأوقفهما قريباً من الصخرة، ثم قام على الصخرة فقال: اللهم، أنت وهبت لي هذا الملك مَناً منك علي وطولاً علي وعلى والدي من قبلي، وأنت الذي ابتدأتني وإياه بالنعمة والكرامة، وجعلته حكماً بين عبادك وخليفة في أرضك، وجعلتني وارثه من بعده وخليفته في قومه، وأنت الذي خصصتني بولاية مسجدك هذا قبل، وأكرمتني به قبل أن تخلقني، فلك الحمد على ذلك والمن والطول، اللهم، وأسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال: لا يدخل إليه مذنب لم يتعمده إلا طلب التوبة أن تتقبل منه وتتوب عليه وتغفر له، ولا يدخل إليه خائف لم يتعمده إلا طلب الأمن أن تؤمنه من خوفه وتغفر له ذنبه، ولا يدخل إليه مقحط لم يتعمده إلا طلب الاستسقاء أن تسقي بلاده، ولا يدخل إليه سقيم لم يتعمده إلا طلب الشفاء أن تشفيه من سقمه وتغفر ذنبه، وأن لا تصرف بصرك عمن دخله حتى يخرج منه، اللهم إن أجبت دعوتي وأعطيتني مسألتي فاجعل علامة ذلك أن تتقبل قرباني. قال: فنزلت نار من السماء فأخذت ما بين الأفقين ثم امتد منها عنق فاحتمل القربان ثم صعد به إلى السماء.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما بنى سليمان البيت سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنتين، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله ملكاً لا يبغي لأحد من بعده فأعطاه ذلك، وسأله حكماً أو علماً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه ذلك، وسأله أن لا يأتي أحد هذا البيت فيصلي فيه إلا رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن قد أعطاه ذلك.
وعن جابر بن عبد الله قال:
وجد في حكمة سليمان أن الله عزّ وجلّ كان مثّل لسليمان بناء ثلاثين ميلاً(10/152)
في مثل حائط البيت، أرق من قشر البيض، وليس للبيت سقف، وله سبعون باباً على كل باب حاجب قائم، وكان الله عزّ وجلّ علم سليمان منطق الطير، وكان لا يقدر أحد من ولد آدم أو من بني الجان أو من دواب الأرض أو من هوام الأرض يدخ على سليمان حتى يستأذن سبعين حاجباً، وفي صدر البيت سرير من ذهب مكلل بالجوهر واللؤلؤ والمرجان، ووجه السرير مكلل باللؤلؤ والجوهر، وقوائمه مثل ذلك، والسرير سبعة أميال، وهو في السماء سبعة أميال، وعلى السرير سبعون فراشاً من ألوان السندس والإستبرق والديباج، وفي كل زاوية من زوايا السرير سبعون مرفقة على لون صاحبتها، وكل واحدة من ألوان شتى، وعن يمين السرير أسد من ذهب طوله سبعة أميال، وعن يسار السرير أسد من ذهب طوله سبعة أميال، وصدر الأسدين وقوائمهما مكلل باللؤلؤ والجوهر من ألوان شتى، وفي عين كل أسد ياقوتتان حمراوان يضيء البيت منهما، وخلف السرير صقر من ذهب إذا بسط جناحيه غطى السرير والأسدين، وإذا ضمهما كان قائماً جناحه مكلل بألوان الجوهر والدر، وعن يسار السرير عشرة آلاف كرسي من ذهب مكلل بألوان الدر والجواهر، وعلى الكراسي أحبار بني إسرائيل وعلماؤهم وألو الألباب من أهل الفهم والبصر والمعرفة بالله عزّ وجلّ، وخلف السرير ألف مسجد، في كل مسجد رجل قائم يضج إلى الله عزّ وجلّ ويضرع بالبكاء عليه المسوح لا يفترون، وبين يدي السرير سلم عارضته من ذهب وقوائمه من فضة، وكان سليمان إذا جلس على هذا المجلس يضطجع الناس سبعة أميال، فيكون خطما الأسدين مقابل خديه ومنقار الصقر مقابل أنفه. فإذا نشر جناحيه يضيء البيت طرائق من نور بين أحمر وأخضر وأصفر وألوان شتى، وكان الريح يدخل في الصقر فينشر جناحيه، فإذا أراد أن يضمهما خرجت الريح عنه، وكان سليمان إذا نظر بين يديه نظر للأسدين إلى جانبيه ونظر إلى منقار الصقر مقابل أنفه ونظر إلى بني إسرائيل وهم جلوس على الكراسي، فازداد لله رغبة وشوقاً، وإذا نظر إلى خلفه نظر إلى أولئك العباد وبكائهم، فازداد من الله رهبة وله خشية، فكان يسمي مجلسه ذلك مجلس رغبة ورهبة، وكان للبيت ألف ركن، يحمل كل ركن مئة ألف شيطان، وهم يعملون أعمالاً شتى. وكان سبعون ألف طير يظلون سقف ذلك البيت.(10/153)
وعن خيثمة قال: قال سليمان بن داود لملك الموت: إذا أردت أن تقبض روحي فأعلمني، قال: ما أنا بأعلم بذلك منك، إنما هي كتب تلقى إلي فيها تسمية من يموت.
وعن الحسن أن سليمان لما فرغ من بناء بيت المقدس وأراد الله تعالى قبضه دخل المسجد فإذا أمامه في القبلة شجرة خضراء بين عينيه. فلما فرغ من صلاته تكلمت الشجرة فقالت: ألا تسألني ما أنا؟ فقال سليمان: ما أنت؟ قالت: أنا شجرة كذا وكذا دواء كذا من داء كذا، فأمر سليمان بقطعها. فلما كان من الغد فإذا بمثلها قد نبتت، فسألها سليمان فقال: ما أنت؟ قالت أنا شجرة كذا وكذا دواء كذا من داء كذا، فأمر بقطعها. فكان كل يوم إذا دخل المسجد يرى شجرة قد نبتت، فيسألها فتخبره، فوضع عند ذلك كتاب الطب حتى وضعوا الطب وكتبوا الأدوية وأسماء الشجر التي نبتت في المسجد، فلما فرغ من ذلك نبتت شجرة فدخل المسجد. فلما صلى قال لها: ما أنت؟ قالت: أنا الخرنوب قال: وما الخرنوب؟ قالت: لا أنبت في بيت غلا كان سريعاً خرابه، فقال سليمان: الآن قد علمت، إن الله قد أذن في خراب هذا المسجد وذهاب هذا الملك، فقطع سليمان تلك الشجرة فاتخذ منها عصاً يتوكأ عليها، فكانت تلك منسأته.
وكان سليمان يتعبد في كل سنة أربعين يوماً لا يخرج من محرابه إلى الناس عدة الأيام التي كلم الله تعالى موسى وعدة أيام توبة داود النبي صلى الله على نبينا وعليهم وسلم، فكان يلبس الصوف ويصوم ويقوم في محرابه، فيصف بين رجليه، وربما اتكأ على عصاه يواصل فيها الصوم، ثم يخرج بعد الأربعين. فلما افتنن وغفر الله له، ورد عليه ملكه اجتهد في العبادة، فكان يتعبد كل سنة ثمانين يوماً، فلما أراد الله قبضه دخل محرابه فقام يصلي واتكأ على عصاه، فبعث الله ملك الموت، فقبض روحه، فبقي سنة على عصاه، فانتظره الناس ثمانين يوماً فلم يخرج فقالوا: قد اجتهد في العبادة، إنه كان مدتهاً أربعين يوماً، ثم زاد حتى بلغ ثمانين يوماً فلم يخرج، وإنه قد اجتهد أيضاً فكانوا لا يعلمون بموته، لا الجن ولا الإنس، وكانت الجن والشياطين متفرقين في أصناف الأعمال وليس أحد يعلم بموته حتى سلط الله الأرَضَة على عصاه التي كان يتوكأ عليها فأكلتها فوقع سليمان والعصا فذلك قول الله عزّ(10/154)
وجلّ: " فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته " يعني عصاه " فلما خرّ تبينت الجن " أنه ميت " أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ".
وفي رواية أخرى أن سليمان قال: اللهم، عمّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أن الجن كانوا لا يعلمون الغيب. فلما أكلتها الأرضة وتبينوا موته شكرت الجن ذلك للأرضة، فأينما كانوا يأتونها بالماء حيث تبني شكراً لما صنعت بعصا سليمان.
وفي رواية: وقدروا مقدار أكلها للعصا فكان سنة.
وقوله تعالى: " وإن عندنا لزلفى وحسن مآب " قال: يُسقي شربة يوم القيامة في الموقف على رؤوس الخلائق.
وقيل: لا يزال يدنيه ويدنيه حتى يمس بعضه.
وعن عبيد بن عمير: " وإن له عندنا لزلفى ". قال: ذكر الدنو منه يوم القيامة حتى ذكر أنه يمس بعضه. هذا في حق داود عليه السلام لأنه يوافي القيامة خائفاً من ذنبه، فيؤمنه الله بإكرامه بقربه. وقد روي أنه يدنيه حتى يلصق بقائمة من قوائم عرشه فحينئذ يأمن من أليم بطشه.
وعن الزهري وغيره: أن سليمان عاش اثنتين وخمسين سنة، وكان ملكه أربعين سنة.
وعن ابن عباس: أن ملكه عاش عشرين سنة. والله أعلم.(10/155)
سليمان بن داود بن أبي حفص
أبو الربيع الجيلي سمع بدمشق.
حدث عن أبي صالح محمد بن أبي عدي بن الفضل السمرقندي بسنده عن حفص بن عمر المربعي قال: خرجنا من بغداد نريد شعيب بن حرب الواسطي بمدائن كسرى، فضاق علينا منزله، فخرج إلى شط دجلة، إلى موضع يقال له الرقة، فقلنا له: يا أبا صالح، معنا أحاديث نريد أن نسألك عنها، فقال: كما أنت حتى أحدثكم حديثين في الورع: أما أحدهما فرأيته بعين، وصحبته برجلي، وأما الآخر فحدثني به حبيبي سفيان بن سعيد بن مرزوق الثوري:
خرجت حاجاً، فلما كنت على سيف البحر أقبل رجلان كأنما ركضا في رحم، يعظم كل واحد منهما صاحبه، فقالا لي: ما يحبسك ها هنا؟ فقلت: سفينة أركب فيها إلى الحج، فبينا نحن كذلك، إذ أقبلت سفينة فيها قمح مصبوب، فركبنا فيها والقلع مشرع، فمد أحد الفتيين يده إلى حبة قمح، فألقاها فيه، فنظر إليه صاحبه فقال له: مه ما صنعت!؟ قال: سهوت، قال: وأنا أصحب من يسهو عن الله! ثم قال: يا ملاح، قرب أنزلني، وإلا قذفت نفسي قي البحر، فتهاون به الملاح فقلت أنا بجهلي به: يا هذا، من حبة قمح ألقاها صاحبك إلى فيه تلقي نفسك في البحر؟! فلم ينظر إلى صاحبه ونظر إلي، فقال لي هيه، استصغرت الذنب، ولم تنر من عصي! ثم صاح صيحة حتى بلغ رأسه سقف السفينة، ثم وقع يضطرب مثل الفرخ المذبوح، فرششنا على وجهه الماء، حتى أفاق فقال: يا ملاح قرب أنزلني، وإلا قذفت نفسي في البحر، فتهاون به الملاح، فاجتمع بأثوابه ثم زج نفسه في البحر، فما كانت إلا غوصة حتى علا الماء إلى صدره ثم غاب عنا، فلمن نره، فقلت أنا لصاحبه: يا هذا، من حبة قمح ألقيتها إلى فيك، طرح صاحبك نفسه في الماء! فقال: والله إني لرفيقه منذ ثلاثين عاماً، ما رأى مني زلة غيرها. فقلت في نفسي: هذا والله يدل على فحوى قوله: إنه ما عصى الله عزّ وجلّ منذ ثلاثين(10/156)
عاماً، فقلت له: هل لك في الصحبة رحمك الله؟ فقال لي: هو ذا نحن وأنت على هذا العود، فكنت معه أخدمه، فأنصت لحديثه، وأفطر معه، ويذكر صاحبه ولا ذكره، كأنه لا يشك إلا أنه سيسبقه إلى الموضع الذي يريد، فلم نزل حتى أتينا جدة ثم أتينا مكة، فبينا يدي في يده في الطواف، إذ بصرت بصاحبه فقلت في نفسي: لا ينكر لأوليا الله عزّ وجلّ أن يسبقوا السفن، يا فلان، هذا رفيقك، فجعل يريد أن يسلم عليه فيهابه، ثم جسر فسلم عليه، فرد عليه السلام، وقال له: لبّ الله عزّ وجلّ بالتوبة من ذنبك، ثم قال: هو لبيك اللهم بالتوبة من ذنبي وذنب صاحبي، ثم التفت إليه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا رفيقنا الذي وجدناه على سيف البحر، فالتفت إلي بوجه طلق، فقال: أما إنه جزاك الله عن رفيقي خيراً، قد كنت له أنساً ومستراحاً، فقلت له: هل لك في الصحبة رحمك الله فقال لي: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صحبة الثلاثة لئلا يتناجى اثنان دون الثالث، فقلت: فما دمتما بمكة، فلما كان الغد حال بيني وبين قطار جمال فالتفت أطلبهما، فلم أجدهما، فلم أزل أسأل عنهما، فلم أجد أحداً يعطيني لهما خبراً فإن يكن أحد من الأبدال فهما ذانك الفتيان.
وأما الآخر فحدثني سفيان الثوري قال: بينا أمشي يوماً ضرب بيده على كتفي فقال لي: يا أبا صالح، ألا أحدثك حديثاً في الورع؟ فقلت: بلى. قال: بلغني أن المسيح عيسى بن مريم صلوات الله على نبينا وعليه وسلامه مر بمقبرة، فناداها يا أهل القبور، تخبرونا أم نخبركم، أم عن جوابنا مُنعتم؟ أما نحن فنخبركم: أما أزواجكم فقد استبدلوا بعدكم أزواجاً، وأما أولادكم فقد حشروا في زمرة اليتامى، وأما منازلكم التي بنيتم وشيدتم فقد سكنها غيركم، وأما أموالكم التي اكتسبتموها فقد أخذها غيركم، هذا خبر ما عندنا فما عندكم؟ ثم دنا إلى قبر منها مفرد فضربه برجله وقال: أقسمت عليك إلا قمت بإذن الله عزّ وجلّ، فخرج من القبر رجل، فقال: ما الذي أردت منه يا روح الله؟ فإني لواقف في الحساب منذ سبعين سنة. حتى أتتني الصيحة الساعة: أجب روح الله، فقال له: يا هذا، لقد كنت كثير الذنوب في الدنيا، فقال: والله يا روح الله ما كنت إلا حمالاً أحمل على رأسي، فأكتسب حلالاً، وأنفق قصداً، وأتصدق فضلاً، فقال: سبحان الله! حمال على رأسه يكسب حلالاً. وينفق قصداً، ويتصدق فضلاً، وأنت في الحساب منذ سبعين عاماً! فقال له: وتعجب من ذلك يا روح الله، إنه مما وبخني(10/157)
به ربي عزّ وجلّ وعيرني أن قال لي: عبدي، اكتراك جارك فلان لتحمل له حزمة من قصب فأخذت منها شظية، فتخللت بها، وألقيتها في غير موضعها، استهانة منك بي وأنت تعمل أني أنا الله فوقك أطلع وأرى. قال: فشاب مقدم رأس عيسى بن مريم من هول ما سمع ثم قال: هؤلاء الشظايا فما بالكم بأصحاب الجذوع؟
سليمان بن داود أبو داود الخولاني
الداراني أخو عثمان بن داود
حدث سليمان بن داود قال: سمعت أبا قلابة الجرمي يقول: حدثني عشرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيامه وركوعه وسجوده بنحو من صلاة أمير المؤمنين يعني عمر بن عبد العزيز، قال سليمان: فرمقت عمر في صلاته فكان بصره إلى موضع سجوده، وإذا كبّر فركع لم يرفع رأسه حتى يرى أن كل من خلفه قد ركع، ثم يرفع رأسه، ويعتدل قائماً حتى يرى أن كل من خلفه قد رفع، ثم يسجد فلا يرفع رأسه حتى يرى أن كل من خلفه قد سجد، ثم إذا رفع رأسه للقيام رجع على صدور قدميه حتى يعتدل قائماً، وإذا سلم لم يقم حتى يأخذ عمامته فيمسح بها وجهه.
وحدث عمرو بن حزم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وبعث به مع عمرو بن حزم فقرئت على أهل اليمن وهذه نسختها: " بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رُعين ومعافر وهمدان. أما بعد. فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم: خمس الله عزّ وجلّ، وما كتب على المؤمنين من العُشر في العقار ما سقت السماء أو كان سيحاً وإن كان بعلاً ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما سقي بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعاً وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد(10/158)
بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمساً وثلاثين، فإذا زادت على خمس وثلاثين واحدة ففيها بنت لبون إلى أن تبلغ خمساً وأربعين، فإذا زادت واحدة على خمسة وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل إلى أن تبلغ ستين، فإذا زادت واحدة على ستين ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمساً وسبعين، فإذا زادت واحدة على خمس وسبعين ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الفحل، وفي كل ثلاثين باقورة بقرة بيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة، وفي كل أربعين شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين ومئة، فإذا زادت على عشرين ومئة ففيها شاتان إلى أن تبلغ مئتين، فإذا زادت واحدة فثلاث إلى أن تبلغ ثلاث مئة، فما زاد ففي كل مئة شاة شاة، ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عوار ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة، فما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية، وفي كل خمس أواق من الورق خمسة دراهم، فما زاد ففي كل أربعين درهماً درهم، وليس فيما دون خمس أواق شيء، وفي كل أربعين ديناراً دينار، وإن الصدقة لا تحل لمحمد عليه السلام ولا لأهل بيته، إنما هي الزكاة التي تزكو بها أنفسكم ولفقراء المؤمنين وفي سبيل الله تعالى، وليس في رقيق ولا مزرعة ولا عمالة شيء إذا كانت تؤدى صدقاتها من العشر، وليس في عبد ".
قال يحيى لفضل: وكان في الكتاب أن أكر الكبائر عند الله عزّ وجلّ يوم القيامة الشرك بالله عزّ وجلّ، وقتل النفس المؤمنة بغير حق، والفرار في سبيل الله يوم الزحف، وعقوق الوالدين، ورمي المحصنة، وتعلم السحر، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم. وأن العمرة حج(10/159)
الأصغر، ولا يمس القرآن إلا طاهر، ولا طلاق قبل إملاك، ولا عتاق حتى يبتاع، ولا يصلين أحد منكم في ثوب واحد ليس على منكبه شيء، ولا يحتبي في ثوب واحد ليس بين فرجه وبين السماء شيء، ولا يصلي أحكم في ثوب واحد وشقه باد، ولا يصلين أحد منكم عاقصاً شعره، وكان في كتابه أن من اعتبط مؤمنا ً قَتلاً عن بينه فإنه قود، إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن النفس الدية مئة من الإبل، وفي الأنف إذا أُوعب جدعه الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل أصبع من الأصابع في اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل وفي الموضحة خمس من الإبل، والرجل يقتل، وقال أبو المظفر: يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار. وزاد غيره: وفي اللسان الدية، وفي الشفتين الدية، في البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية.
وقيل: إن حديث الصدقات لعمرو بن حزم إنما هو عن سليمان بن أرم، وقيل إن سليمان بن داود هو سليمان ضعف قوم سليمان بن داود.
بن أرقم. والله أعلم.(10/160)
سليمان بن داود الدمشقي
حدث شيبان أبي معاوية عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه فهو في النار.
سليمان بن سعد الخشني مولاهم
كاتب عبد الملك بن مروان والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز. من أهل الأردن. وذُكر أنه أول من نقل الديوان من الرومية إلى العربية.
حدث سليمان بن سعد عن ابن شهاب أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب فقال: كيف تأمرني أن لا أبالي في الله لومة لائم أم أقبل على خويصة نفسي؟ فقال له عمر: إن وُليت شيئاً من أمر الناس فلا تبال في الله لومة لائم، وإن لم تل شيئاً فأقبل على نفسك وأمُر بالمعروف وانه عن المنكر. قال أبن شهاب: فذكرتها لعمر بن عبد العزيز فقام بها إلى المنبر، فقلت له: ما حمل على هذا؟ فقال: إني لم أسمّك.
كان سليمان بن سعد الشامي حازماً ذي رأي، فكان يقول: لو صحبني رجل، فقال: اشترط علي خصلة واحدة، وجع ما سواها لقلت: لا تكذبني.
حدث سليمان بن سعد أن عبد الملك دعاه وسليمان بن سعد على ديوان الأردن، قد ولي مكان رجل من النصارى، وسرجون على جماعة من دواوين العرب والعجم. قال سليمان: فخلا بي عبد الملك فقال: إن ما يلي النصارى من أمور المسلمين لم يزل يغيظني، وإني لغلام أفد إلى معاوية. ثم قال: لقد كنت أردت أن أذكر ذلك أيام مروان فذكر شيئاً منعه منه، ثم دعاني إلى أن يوليني عمل سرجون. قال: فهِبت ذلك ولم أجبه إليه، وذكرت بعض ما أتخوف ألا أعرف عمله. قال: إني بعون الله أوثق مني لك بعملك، فبينا هو يذكر ذلك إذ سمع تنحنح روح بن زنباع، وكان لا يحجب فقال لي: تنحّ فإن روحاً لا يكتم شيئاً، قال: ثم إنه قال لروح: إني كلمت كاتب جندكم هذا، وروح يومئذ على الأردن فذكر له ما ذكر لي من(10/161)
أمر سرجون، ثم دخل وتركني وروحاً، فأقبل علي روح، يحثني أن أقبل ما عرض علي من ذلك، حتى كان من قوله: إن أمير المؤمنين قد اهتم من هذا بما تركه غيره من الخلفاء، فإن أنت تركت أن تقبل ذلك تخوفت أن يدوم الأمر على ما كان عليه من تولية النصارى. قال: واشتكى سرجون بعد ذلك مرضه الذي مات فيه، فأرسل إليه عبد الملك: من ترى لعملك الذي أنت فيه؟ قال: إن كان من المسلمين فسليمان بن سعد، وإن كان من النصارى ففلان، رجل من أهل بعلبك " فمات سرجون، وولي عبد الملك سليمان بن سعد فهو أول مسلم ولي الدواوين كلها وحولها بالعربية.
وهو أول من ترجم ديوان الشام بالعربية.
قال عمر بن عبد العزيز لسليمان بن سعد: وقد بلغني أن أبا فلان عاملنا كان زنديقاً قال: وما يضرك يا أمير المؤمنين؟ كان أبو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافراً فما ضره. فغضب غضباً شديداً وقال: ما وجدت له مثلاً إلا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعزله.
سليمان بن سلمة بن عبد الجبار
أبو أيوب الخبائري الحمصي ابن أخي عبد الله بن عبد الجبار أو ابن أخته سمع بدمشق وغيرها حدث عن بقية بن الوليد بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: طلب العلم فريضة على كل مسلم.
ضعفه قوم.
قال ابن ما كولا: الخبائر بطن من الكلاع، وهو خبائر بن سواد بن عمرو بن الكلاع بن شرحبيل.(10/162)
سليمان بن سُليم أبو سلمة
الكناني الكلبي قيل إنه دمشقي، والصحيح أنه حمصي.
حدث عن يحيى بن جابر عن المقدام بن معدي كرب الكناني قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطن. حسب ابن آدم آكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلثاً طعاماً وثلثاً شراباً وثلثاً لنفسه ".
وحدث عن يحيى بن جابر الطائي عن عوف بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعوذ بالله، يعني من طمع يؤدي إلى طبع ومن طمع إلى غير مطمع ".
توفي سليمان بن سليم وهو يلبس الصوف زاهداً في الدنيا، وكان ثقة.
وعن سليمان بن سليم أنه قال: الكذب يسقي باب كل شي، كما يسقي الماء أصول الشجر.
قال أحمد بن نصر: سليمان بن سليم ليس فوق سليم أب. أحسبه كان معتقاً. قيل إنه مولى لكنانة كلب. مات سنة سبع وأربعين ومئة.
سليمان بن سُليم بن كيسان
مولى كلب والد أبي نوفل علي بن سليمان الكيساني الكابت. ارتضاه هشام بن عبد الملك لتأديب ابنه محمد بن هشام، وأوصاه بما ينبغي أن يأخذه به؟ قال سليمان الكلبي: بعث إلي هشام بن عبد الملك وهو بالرصافة فأتيته، فلما دخلت عليه أومأ إلي أن اجلس، فجلست، فأضرب عني حتى سكن جانبي، ثم قال: إنه قد بلغني عنك فضلٌ، وإذا بلغني عن رجل من رعيتي مثل الذي بلغني عنك سارعت إليه بكل ما يحب، واستعنت به على فهم أموري، وإن محمداً ابن أمير المؤمنين بالمكان الذي بلغك وهو جلدة ما بين عيني، وأنا أرجو أن يبلغ الله به أفضل ما بلغ من أهل بيته، وقد ولاك أمير المؤمنين بأديبه وتعليمه والنظر فيما يصلح الله به أمره، فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة فيه، لخصال لو لم تكن إلا(10/163)
واحدة لكنت حقيقاً ألا تضيعها، فكيف إذا اجتمعت، أما أولها فأنت مؤتمن عليه فحق عليك أداء الأمانة فيه. وأما الثانية فأنا إمام ترجوني وتخافني. وأما الثالثة فكلما ارتقى الغلام في الأمور درجة ارتقيت معه ففي هذا ما يرغبك فيما أوصيك به.
إن أول ما آمرك به أن تأخذه بكتاب الله وتقرئه في كل يوم عشراً، يحفظ القرآن حفظ رجل يريد الكسب به. وروه من الشعر أحسنه، وتخلل به في أحياء العرب فخذ من صالح شعرهم من هجاء ومدح، فإنه ليس من قوم إلا وقد هجوا ومُدحوا. وروه جماهير أحياء العرب، ثم تخلل به في مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحفظ من كان معه وحسن بلائهم، وبصّره طرفا من الحلال والحرام والخطب وما يحتاج إليه في قدره وموضعه. ثم أجلسه للناس في كل يوم وأدخل عليه أشراف قريش والعرب وعلية الناس، وأطيبوا لهم الطعام وعجلوا بالغداء فمن أحب بعد الغداء أقام، ومن أحب أن ينصرف فإن للناس حوائج. وأدخل عليه أهل الفقه والدين فإنهم إذا خرجوا من عنده فرآهم الناس ظنوا أنه مثلهم، وإن لم يكن مثلهم، ولا تدخل عليه أهل الفسق والدعارة وشرّاب الخمر، فإنهم إذا خرجوا من عنده ظن الناس أنه مثلهم، وإن لم يكن مثلهم، وإذا سمعت منه الكلمة الحسنة فنبه القوم لها، فلعلهم لم يفطنوا لما جاء به، وفطنت له لاهتمامك بأمره، لأنهم إذا خرجوا أذاعوا ذلك عنه، وإذا سمعت عنه الكلمة العوراء فاصمت عنها، فلعل القوم لم ينتبهوا لها، فإذا خرجوا من عنده فانقله منها إلى غيرها، وخبره بفسادها، ثم انظر إليه في بدنه فمره فليتسن عرضاً، وليحلق شعره، تغلظ قصرته، وعلمه شعر حاتم يسخُ ويمجد، ولا يجعلن ثيابه طوالاً فإنها لباس النوكى، ولا سيما أبناء الملوك، ولا تحملنه على سرج صغير فتبدو منه أليتاه وإن فعل الفساق، ولا تجلسه مع حشمة فإنهم لهم مفسدة وإياك والسوقة فإنهم أسوأ شيء آداباً، وخذ خدمه باللين وطلاقة الروجه على بابه والبشاشة بالناس والتآلف بهم، وإذا أعطيتم فأعطوا حملة القرآن وحملة العلم وأهل الفضل فإنكم تؤجرون على تقريبهم، ويحمدكم الناس على عطيتهم إلا أن يكون في سبب تجده أو وسيلة تكون لأحدهم يقضي ذمامه، وابسطوا أيديكم بالفضل ووجوهكم بالبشر، فإنكم ملوك والناس سوقة، وإنهم يطؤون(10/164)
أعقابكم بنازع الفضل ولين الجناح، ولا يخرجن إلا معتماً، ولا يركبن محذوفاً ولا مهلوباً، ولا تعقدن له ذنب دابة إلا في لثق، ولا يسيرن ملتفتاً ولا طامحاً، وإياك أن تكتم عيبه فيؤدي لك ذلك غيرك، فانزل لك عما يسرك إلى ما يضرك، فإن قصر عن شيء فيما أمرته به في أدبه أو تقاعس لك لكزة في نفسه أو قدرة فأدخل عليه بعض أهله حتى يجره برجله إلى مجلس أدبه، خذه بهذا كله وزده من عندك ما استطعت، فإني قد تبينت عقله اليوم وبعد اليوم، فإن رأيته ازداد خيراً إلى ما كان عليه رُئي أثر أمير المؤمنين عليك، وإن كانت الأخرى فلا تلم إلا نفسك. وقد أجريت لك في كل شهر ألف دينار.
سليمان بن عبد الله المنصور
ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو أيوب الهاشمي أمه فاطمة من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي. كان أمير دمشق من قبل الرشيد ووليها أيضاً من قبل الأمين مرتين.
حدث سليمان بن المنصور عن أبيه عن جده قال: قال لي ابن عباس: يا بني إذا أفضى هذا الأمر إلى ولدك، فسكنوا السواد ولبسوا السواد، وكان شيعتهم أهل خراسان لم يخرج هذا الأمر منهم إلا عيسى بن مريم.
لما شخص سليمان بن أبي جعفر إلى دمشق والياً عليها قال لإبراهيم بن المهدي: خلا لك الجو فبيضي واصفري فقال له إبراهيم: لك والله خلا الجو لأنك تقعد في صدر مجلسك وتأكل إذا اشتهيت ليس مثل من هو في السماط يأكل على شبع، ويكف على جوع، ويخدم في وقت كسل.
توفي سليمان بن أبي جعفر سنة تسع وتسعين ومئة، وهو ابن خمسين سنة.(10/165)
سليمان ويقال سُليم بن عبد الله
أبو عمران الأنصاري قائد أم الدرداء ومولاها حدث عن ذي الأصابع قال: قلنا يا رسول الله، إن ابتُلينا بعدك بالبقاء فما تأمرنا؟ وفي رواية: أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس، فلعله أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون.
قال أبو عمران: كنت أقود بأم الدرداء من دمشق إلى بيت المقدس، فكانت تقول لي: يا سليمان، أسمع الجبال وما وعدها الله، فأرفع صوتي بهذه الآيات: " ويوم نسير الجبار " " ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً ".
سليمان بن عبد الحميد بن رافع
أبو أيوب البهراني الحمصي سمع بدمشق.
حدث عن أبي اليمان الحكم بن نافع بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيها الناس، إن صريح ولد آدم من الأولين والآخرين ابنا كلاب بن مرة: قصي وزُهرة، لفاطمة بنت سعد بن سيل الأزدي، وهو أول من جدر البيت بعد كلاب بن مرة.
وحدث عن محمد بن إسماعيل بن عباس بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من دعاكم على كراع فأجيبوه ".
ضعَّفوه.(10/166)
سليمان بن عبد الرحمن بن أحمد
ابن عطية وهو سليمان بن أبي سليمان الداراني العنسي من جلة المشايخ، كان له لسان عال في علوم القوم وكان عبداً صالحاً.
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت سليمان بن أبي سليمان يقول: إن من لم يُعطَ من يشتهي من الآخرة في الدنيا إنه يعطاه في الآخرة، وأحسب أن عملاً لا يوجد له لذة في الدنيا أنه لا يكون له ثواب في الآخرة.
حدث أحمد بن موسى عن أبي مريم قال: يقول أهل النار: إلهنا ارض عنا، وعذبنا بأي نوع شئت من العذاب، فإن غضبك أشد علينا من العذاب الذي نحن فيه. فحدثت به سليمان بن أبي سليمان فقال: ليس هذا من كلام أهل النار هذا كلام المطيعين لله. فحدثت به سليمان فقال صدق سليمان بن أبي سليمان.
قال بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان يعني الداراني يقول: ما أعرف للرضى حداً، ولا للورع حداً، ما أعرف من كل شيء إلا طريقه. قال أحمد: فحدثت به سليمان ابنه فقال: لكني أعرفه: من رضي في كل شيء فقد بلغ حد الرضى، ومن زهد في كل شيء فقد بلغ حد الزهد، ومن تورع في كل شيء فقد بلغ حد الورع. قال أحمد: وسمعت أبا سليمان يقول: الورع من الزهد بمنزلة القناعة من الرضى.
قال أحمد بن أبي الحواري: قال أبو سليمان: إن في هذا القرآن خانات إذا مرا بها المريدون نزلوا فيها. فذكرت الحكاية لسليمان بن أبي سليمان فقال: إذا تكاملت معرفته صار القرآن كله له خانات، فقيل له: أي وقت تتكامل معرفته؟ فقال: إذا عرفت مقدار من خاطبه به.(10/167)
وقال أيضاً: سمعت أبا سليمان يقول: إن في خلق الله خلقاً لو ذم لهم الجنان ما اشتاقوا إليها، فكيف يحبون الدنيا وهو قد زهدهم فيها؟! فحدثت به سليمان ابنه قال: لو دمّها لهم؟ قتل: كذا قال أبوك، قال: والله لقد شوقهم إليها فما اشتاقوا فكيف لو ذمها؟! قال أحمد بن أبي الحواري: قلت لأبي سليمان: إنما رجع إلى الكسب يعني سليمان وطلب الحلال والسنة فقال لي: ليس يفلح قلب يهتم بجمع القراريط.
قال أحمد بن أبي الحواري: اجتمعت أنا وأبو سليمان ومضاء في المسجد، فتذاكرنا الشهوات، من أصابها عوقب ومن تركها أثيب، وسليمان ساكت، فقال لنا: أكثرتم منذ العشية في ذكر الشهوات، أما أنا فأزعم أن من لم يكن في قلبه من الآخرة ما يشغله عن الشهوات لم يُعَن على تركها.
مات أبو سليمان سنة خمس ومئتين، وعاش ابنه سليمان بعده سنتين وأشهراً. وقيل: مات أبو سليمان سنة خمس وثلاثين ومئتين وعاش ابنه سليمان بعده سنتين وشهراً.
سليمان بن عبد الرحمن
ويقال ابن إنسان. ويقال ابن يسار بن عبد الرحمن أبو عمر، ويقال: أبو عمرو مولى بني أمية ويقال: مولى بني أسد ين خزيمة ويقال: مولى بني شيبان من أهل دمشق.
حدث عن عبيد بن فيروز قال: سألت البراء: ما كره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ما نهى عنه من الأضاحي؟ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويدي أقصر من يده: " أربع لا تجزى: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن(10/168)
مرضها، والكسيرة التي لا تنقي وفي رواية: والعجفاء التي لا تنفي قال: قلت: فإني أكره أن يكون في الأذن نقص أو في السن نقص أو في القرن نقص قال: إن كرهت شيئاً فدعه ولا تُحرّمه على أحد ".
وحدث سليمان بن عبد الرحمن عن القاسم أبي عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه نذر أن لا يعتق غلاماً له، فأعتقه ثم كفر عن يمينه بعتق آخر.
سليمان بن عبد الرحمن عيسى
ابن ميمون أبو أيوب التميمي، المعروف بابن بنت شرحبيل حدث عن الوليد بن مسلم بسنده عن أبي عمرة الأنصاري قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة، فأصاب الناس مخمصة، فاستأذن الناس رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلغنا الله به. فلما رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد هم أن يأذن لهم، قال: يا رسول الله، كيف بنا إذا نحن لقينا العدو غداً جياعاً رجالاً؟ ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو الناس ببقايا أزوادهم فيجمعوا فتدعوا فيها بالبركة، فإن الله عزّ وجلّ سيبلغنا بدعوتك، أو قال سيبارك لنا في دعوتك، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببقايا أزوادهم، فجعل الناس يجيئون بالحثية من الطعام وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع فجمعه ثم قام، فدعا بما شاء الله أن يدعوا، ثم دعا الجيش بأوعيتهم، وأمرهم أن يحتثوا، فما بقي في الجيش وعاء إلا ملأه وبقي مثله، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بدت نواجذه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، لا يلقى الله عبدُ مؤمن بهما إلا حجبتا عنه يوم القيامة.
وحدث سليمان بن عبد الرحمن عن عيسى بن يونس بسنده عن مريم بنت طارق قالت: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فسألتها عن الظروف التي ينبذ فيها، فقالت: يا نساء المؤمنين، إنكن لتسألن عن ظروف ما كان كثير منها على عهد رسول(10/169)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاتقين الله، ما أسكر إحداكن فلتجتنبه، وإن أسكرها ماء حبها فلتجتنبه، فإن كل مسكر حرام.
قال سليمان بن عبد الرحمن: ولدت سنة ثلاث وخمسين ومئة، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومئتين، أو ثلاث وثلاثين ومئتين.
سليمان بن عبد الملك بن مروان
ابن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس أبو أيوب القرشي الأموي بويع له بالخلافة بعد أخيه الوليد بن عبد الملك بعهد من أبيه في سنة ست وتسعين، كانت داره بدمشق موضع ميضاءة جيرون الآن. كان فصيحاً مؤثراً للعدل، محباً للغزو، ونفذ الجيش لحصار القسطنطينية حتى صالحوهم على بناء الجامع بها.
قال سليمان: حدثني أبي عبد الملك قال: حدثني أبو مروان بن الحكم قال: سألت عائشة ليالي سرنا إلى البصرة عن حديث أهل الإفك من هم؟ فقالت رجال من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: ونساء؟ فقالت ونساء إلا زينب بنت جحش، فإن الله عصمها بالورع ثم ضحكت. وذكر الحديث.
ونعن سليمان بن عبد الملك أن عبد الرحمن بن هنيدة أخبره أن عبد الله بن عمر ركب إلى الغابة، فمر على ابن هنيدة، وهو في بيته، فقال له أتركب؟ قال: فركبت معه حماراً، فسرنا، حتى إذا كنا ببعض الطريق، قال: سكت أحدث نفسي، فقال عبد الله بن عمر: ما لك؟ قلت: سكت أتمنى، هل تتمنى يا أبا عبد الرحمن؟ قال عبد الله: لو أن لي أحداً هذا ذهباً أعلم عدده، وأخرج زكاته، ما كرهت ذلك أو ما خشيت أن يضرني.
ولد سليمان في سنة ستين.
قال أبو سلمة يوسف بن يعقوب الماجشون: فرض لي سليمان بن عبد الملك وقد أتى علي سنتان أو نحوه، وولي(10/170)
سليمان يوم توفي الوليد سنة ست وتسعين، وولي عمر بن عبد العزيز في صفر سنة تسع وتسعين، وهو أخو سعيد ومحمد ويزيد وهشام والوليد ومسلمة.
وتوفي سليمان بدابق في صفر، وقيل في رمضان سنة تسع وتسعين، فكانت ولايته ثلاث سنين وثلاثة أشهر، وهو ابن تسع وثلاثين سنة، وكان سليمان عظيم الوجه، أبيض، مقرون الحاجبين، وشعره يضرب منكبيه، ما رُئي أجمل منه.
حدث عامر بن صالح
أن عبد الملك بن مروان جمع ببيته ذات يوم الوليد وسليمان ومسلمة، فاستقرأهم، فقرؤوا فأحسنوا، واستنشدهم فأنشدوا، فأجادوا لكل شاعر غير الأعشى، فقال لهم: قرأتم فأحسنتم وأنشدتم فأجدتم لكل شاعر غير الأعشى فمالكم تهجرونه؟! قد أخذ من كل جنس فأحسن، وما امتدح رجلاً قط إلا تركه مذكوراً، وإن كان خاملاً، ولا حجا رجلاً قط إلا وضعه، وإن كان مذكوراً، هذا عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة، وهما من بيت واحد هجا علقمة فأخمله، وكان شريفاً مذكوراً، ومدح عامر بن الطفيل فرفعه، ثم قال عبد الملك: يا بني لينشدني كل رجل منكم أرق بيت قالته العرب، ولا يفحشن ولا يستحين إنشاده، هات يا وليد فقال الوليد: من البسيط
ما مركب وركوب الخيل يعجبني ... كمركب بين دملوج وخلخال
قال عبد الملك: وهل يكون من الشعر أرفث من هذا: هات يا سليمان فقال: من الخفيف
حبذا رجعها يهديها إليها ... في يدي درعها تحل الإزارا
قال: لم تصب، هات يا مسلمة، قال مسلمة:
وما ذرّفت عيناك إلا لتضربي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
قال: كذب ولم يصب، إذا ذرفت عيناها بالوجد فما بقي إلا اللقاء، وإنما ينبغي(10/171)
للعاشق أن يقتضي منها الجفاء ويكسوها المودة، أنا مؤجلكم في هذا البيت ثلاثة أيام على أن لا تسألوا عنه أحداً فمن أتاني به فله حكمه، فنهضوا وخرجوا عنه، فبينا سليمان في موكب له إذا هو بأعرابي يسوق إبلاً له، وهو يقول:
لو حُزّ بالسيف رأسي في مودتها ... لمال يهوي سريعاً نحوها رأسي
قال سليمان: عليّ بالأعرابي، فأُتي به فوكل به ثم انصرف إلى عبد الملك، فقال له عبد الملك: ما وراءك يا سليمان؟ قال: قد أجبتك عما سألت، وأنشده البيت فقال عبد الملك: أحسنت أنى لك هذا؟ فقص عليه خبر الأعرابي فقال: حاجتك! ولا تنس حظ صاحبك، قال: حاجتي يا أمير المؤمنين أن عهد العهد ليس بمقرب أجلاً، ولا تركه بمباعد حتفاً، وقد عهد أمير المؤمنين إلى الوليد، فإن رأى أمير المؤمنين أن يعهد إلي بعده فعل، قال: نعم. فأقام الحج للناس بمكة، ووصله ثمانية آلاف درهم، فجعلها للأعرابي، وهي سنة إحدى وثمانين.
قال ابن شوذب: قال الوليد لعمر بن عبد العزيز: اخلع سليمان، قال: وكيف نخلعه ونتركك، وإنما بايعنا لك وله في عقد واحد؟! حدث جماعة من مشيخة الجند: أن الوليد لما مات وبويع لسليمان أتته بيعة الأجناد وهو بمشارف البلقاء، فأتى بيت المقدس، وأتته الوفود بالبيعة، فلم يروا وفادة كانت أهنأ من الوفادة إليه، كان يجلس في قبلة من صحن مسجد بيت المقدس مما يلي الصخرة، قد بسطت البسط بين يدي قبته، عليها النمارق والكراسي، فيجلس ويأذن للناس، فيجلس الناس على الكراسي. والوسائد والكساء آنية الذهب والفضة وكتاب الدواوين فيدخل وفد الجند، ويتقدم صاحبهم فيتكلم عنهم وعمن قدموا من عنده، فيقول: إن رجال جندنا كذا وكذا، ومن حاجتهم كذا ومما يصلحهم كذا، فيأمر بذلك كله فيكتب قبل أن يبرح، ثم يقبل على حاجته، فإن سأل زيادة في عطائه أو بلاغاً في شرف أمر الكتاب فكتبوا، وإن سأل ديناً أمره فسماه، وأمر بدفعه إليه من ذلك المال، ثم يقوم من كان معه، كل يتكلم بحاجته فتُقضَى.
حدث سعيد بن عبد العزيز
أن سليمان بن عبد الملك ولي وهو إلى الشباب والرقة ما هو، فقال لعمر بن عبد(10/172)
العزيز: إنا قد ولينا ما قد ترى، ولم يكن لنا بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به يكتب. قال: فكان من ذلك عزل عمال الحجاج، وإخراج من كان في سجن العراق، وإخراج أعطية العراقيين، ومن ذلك كتابه أن الصلاة قد كانت أُميتت فأحيوها، وردوها إلى وقتها، مع أمور حسنة، كان يسمع من عمر بن عبد العزيز فيها، قال: فحدثت من أدرك ذلك أن سليمان هم بالإقامة ببيت المقدس، واتخذها منزلاً، وجمع الناس الأموال بها، قال: وقدم عليه موسى بن نصير من ناحية المغرب، ومسلمة بن عبد الملك، فبينا هو على تلك إذ جاءه الخبر أن الروم خرجت على ساحل حمص فسبت امرأة وجماعة، وللمرأة فيهم ذكر إذ ذاك، فغضب سليمان وقال: ما هو إلا هذا نغزوهم ويغزونا، واله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية، أو أموت دون ذلك، ثم التفت إلى مسلمة وموسى فقال: أشيرا علي، فقال موسى: يا أمير المؤمنين، إن أردت ذلك فسر بسيرة المسلمين فيما فتحوه من الشام ومصر إلى إفريقية، ومن العراق إلى خراسان، كلما فتحوا مدينة اتخذوها داراً، وحازوها للإسلام وأهله حتى بلغوا ما رأيت، فابدأ بالدروب فافتح ما فيها من الحصون ومطاميرها ومسالحها حتى تجعله في حوز المسلمين وملكهم حتى تبلغ القسطنطينية، وقد هدمت حصونها وأوهنت قوتها، فإنهم سيعطون بأيديهم فالتفت إلى مسلمة فقال: ما تقول؟ فقال: هذا الرأي إن طال عمر إليه أو كان الذي يلي يثني على رأيك ولا ينقضه، رأيت أن تعمل منه ما عملت، وتبلغ منه ما بلغت، ولا تأتي على ما قاله خمس عشرة سنة، ولكني أرى أن تُغزي جماعة من المسلمين في البر والبحر القسطنطينية فيحاصروها، فإنهم ما دام عليهم البلاء أعطوا الجزية أو فتحوها عنوة، ومتى ما يكن ذلك فإن ما دونها من الحصون بيدك، فقال سليمان: هذا الرأي، فأغزي جماعة أهل الشام والجزية والموصل في البر في نحو عشرين ومئة ألف، أغزى أهل مصر وأهل إفريقية في البحر في ألف مركب عليهم عمر بن هبيرة الفزاري، وعلى جماعة من الناس مسلمة بن عبد الملك، وأغزى داود بن سليمان في جماعته من أهل بيته.
وحدث جماعة أن سليمان بن عبد الملك أخرج لهم الأعطية، وأعلمهم أن غزو القسطنطينية والإقامة(10/173)
عليها ما قدروا لذلك قدره، فأخذ الناس العطاء وتجهزوا، وقدم سليمان دمشق، فصلى الجمعة، ثم عاد إلى المنبر فكلم الناس وأخبرهم بيمينه التي حلف عليها من حصار القسطنطينية، فانفروا على بركة الله، واعلموا أنه المقام عليها، فعليكم بتقوى الله ثم الصبر ثم الصبر، فقام رجل من تحت القبة من أشراف الناس ممن اكتتب في البعث فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: قد سمعنا يمين أمير المؤمنين فنحن مطيعون صابرون حتى يفتحها اله ويبر قسم أمير المؤمنين، فليقطعني أمير المؤمنين دار فلان البطريق إن شاء الله، قال سليمان: نعم ومضى سليمان حتى نزل دابق، فاجتمع الناس إليه فأمضى مسلمة بالبعث فأدرب، وأقام سليمان بدابق فذكر يمينه أن لا ينتقل من دابق حتى يفتح القسطنطينية فأقام بها.
قال الشعبي حج سليمان بن عبد الملك فرأى الناس بالموسم فقال لعمر بن عبد العزيز: أما ترى هذا الخلق الذي لا يحصي عددهم إلا الله، ولا يسع رزقهم غيره؟ فقال عمر: يا أمير المؤمنين، هؤلاء رعيتك اليوم، وهم غداً خصماؤك. فبكى سليمان بكاء شديداً ثم قال: بالله أستعين.
قال عطاء بن السائب: كان عمر بن عبد العزيز في سفر مع سليمان بن عبد الملك فأصابته السماء برعد وبرق وظلمة وريح شديدة حتى فزعوا لذلك، وجعل عمر بن عبد العزيز يضحك، فقال له سليمان: ما أضحكك يا عمر؟ أما ترى ما نحن فيه؟ قال له: يا أمير المؤمنين، هذه آثار رحمته فيه شدائد ما ترى فكيف بآثار سخطه وغضبه؟! قال يزيد بن حازم: كان سليمان بن عبد الملك يخطبنا كل جمعة، لا يدع أن يقول في خطبته: وإنما أهل الدنيا على رحيل لم تمضِ بهم نية ولم تطمئن لهم دار حتى يأتي أمر وعد الله وهم على ذلك، كذلك لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجعاتها، ولا يتقى من شر أهلها، ثم يتلو " أفرأيت إن متعناهما سنين ثم جاؤهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتعون ".(10/174)
قال محمد بن سيرين:
رحم الله سليمان بن عبد الملك، افتتح خلافته بخير، وختمها بخير، افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها، وختمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز.
وسُمي سليمان بن عبد الملك مفتاح الخير لأنه استخلف عمر بن عبد العزيز.
نادى رجل سليمان بن عبد الملك وهو على المنبر: أيا سليمان، أيا سليمان، اذكر يوم الآذان، قال: فنزل عن المنبر ودعا بالرجل فقال: أنا سليمان فما يوم الأذان؟ قال: " فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين " قال: فما مظلمتك؟ قال: أرضي وأرض آبائي أخذها وكيلك. قال: فكتب إلى وكيله أن ادفع إليه أرضه وأرضي مع أرضه.
حكي أن سليمان لبس يوماً الخضرة، وهو يريد أن يركب، فلما نظر إلى نفسه أعجبته فقال: إني أنا الملك الشاب، فقالت مغنيته: أنت والله يا أمير المؤمنين أحق ببيتي الشاعر حين يقول: من الخفيف
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
فقال: ويحك جنيت علي. فنزع ثيابه ولم يركب حتى مات.
قال سليمان بن عبد الملك: العاقل أحرص على إقامة لسانه منه على طلب معاشه.
ذكر الكلام في مجلس سليمان بن عبد الملك فذمه أهل المجلس فقال سليمان: كلا، إن من تكلم فأحسن قدر على أن يسكت فيحسن، وليس كل من سكت فأحسن قدر أن يتكلم فيحسن.
أنشد المدائني لسليمان بن عبد الملك: من الطويل
وهوّن وجدي في شراحيل أنني ... متى شئت لاقيت امرءاً مات صاحبه(10/175)
ولسليمان بن عبد الملك: من الطويل
ومن شيمتي أن لا أفارق صاحبي ... وإن ملّني إلا سألت له رشداً
وإن دام لي بالود دمت ولم أكن ... كآخر لا يرعى ذماماً ولا عهدا
حدث أبو الزناد قال: كان سليمان ليلة في بادية له، فسمر ليلة على ظهر سطح، ثم تفرق جلساؤه، ودعا بوضوء، فجاءته جارية له فبينا هي تصب عليه أنكر أمرها، فرفع رأسه إليها فإذا هي مصغية بسمعها مائلة بجسدها كله إلى صوت غناء تسمعه في ناحية العسكر، فأمرها فتنحت، فاستمع للصوت فإذا صوت رجل يغني فأنصت له حتى فهم ما يغني به من الشعر، ثم دعا جارية من جواريه غيرها فتوضأ، فلما أصبح أذن للناس، فلما أخذوا مجالسهم أجرى ذكر الغناء، ومن كان يسمعه وليّن فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه، فأفاضوا في ذلك بالتليين والتسهيل، وذكر من كان يسمعه من سروات الناس، فقال: هل بقي أحد يُسمع منه؟ فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين، عندي رجلان من أهل أُبُلّة محكمان. قال: وأين منزلك من العسكر؟ فأومأ له إلى الناحية التي كان الغناء منها. قال سليمان: فابعث إليهما، ففعل فوجد الرسول أحدهما فأقبل به إليه. فقال: ما اسمك؟ قال سمير. فسأله عن الغناء وكيف هو فيه؟ فقال: حاذق محكم، قال: فمتى عهدك به؟ قال: في ليلتي هذا الماضية، قال: وفي أي نواحي العسكر كنت؟ فذكر الناحية التي سمع منها سليمان الصوت، قال: فما غنيت؟ فذكر الشعر الذي سمعه سليمان، فأقبل سليمان على القوم فقال: هدر الجمل فضبعت الناقة ونب التيس فكشرت العنز وهدل الحمام فزافت الحمامة وغنى الرجل فطربت المرأة، ثم أمر به فخُصي. وسأل عن الغناء أين أصله(10/176)
وأكثر ما يكون؟ قالوا: بالمدينة وهو في المخنثين، وهم الحذاق به، فكتب إلى عامله بالمدينة وهو أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري أن أخصِ من قِبلك من المخنثين المغنين.
دخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك بن مروان، وسليمان يأكل الفالوذج، فقال له سليمان: ادن يا أعرابي فكل من هذا الفالوذج، فإنه يزيد في الدماغ، فقال له الأعرابي: لو كان الأمر على ما تقول فينبغي أن يكون رأسك مثل رأس البغل، قال: فضحك سليمان.
قال هشام بن سليمان: أكل سليمان بن عبد الملك أربعين دجاجة تشوى له على النار على صفة الكباب، وأكل أربعاً وثمانين كلوة بشحومها وثمانين جردقة من غير الماء، ثم أكل مع الناس.
حج سليمان بن عبد الملك فتأذى بحر مكة، فقال له عمر بن عبد العزيز: لو أتينا الطائف، فأتاها فلقيه ابن أبي زهير أحد بني أبان بن سالم فقال: يا أمير المؤمنين، انزل علي قال: إني أخاف أن أنهضك، قال: كلا، إن الله قد رزق خيراً، فنزل فأُتي بخمس رمانات فأكلهن، فجعلوا يأتونه بخمس خمس حتى أكل سبعين رمانة، ثم أتي بخروف وست دجاجات فأكلهن ثم أُتي بمكوك زبيب طائفي فأكله أجمع، وقال يعني: نام فانتبه من القائلة فأكل مع الناس.
قال عبد الله بن عبد الله بن الحارث: كان سليمان بن عبد الملك أكولاً، وكان بينه وبين عبد الله بن عبد الله وصلة، قال لنا سليمان يوماً: إني قد أمرت قيم بستاني أن يحبس علي الفاكهة، ولا يجتني منها شيئاً حتى تدرك، فاغدوا علي مع الفجر يقول لأصحابه الذين يأنس بهم لنأكل الفاكهة في برد النهار، فغدونا في ذلك الوقت فصلينا الصبح ودخلنا معه، فإذا الفاكهة متهدلة على أغصانها، وإذا كل فاكهة مختارة، قد أدركت كلها، فقال: كلوا ثم أقبل عليها، فأكلنا بمقدار الطاقة وأقبلنا نقول: يا أمير المؤمنين، هذا العنقود فيخرطه في فيه، يا أمير المؤمنين، هذه التفاحة، كلما رأينا شيئاً نضيجاً أومأنا إليه فيأخذه فيأكله، ويحطمه(10/177)
حطماً حتى ارتفع الضحى ومتع النهار، ثم أقبل على قيم البستان فقال: ويحك يا فلان، إني قد استجعت، فهل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين: عتاق حولية حمراء، قال: ائتني بها، ولا تأتين معها بخبز، فجاء بها على خوان لا قوائم لها، وقد شصيت بأربعها، وقد انتفخت وملأت الخوان، وجاء بها غلمة يحملونها فأدنوها منه، وهو قائم، فأقبل يأخذ العضو فيجيء معه ليفتحه، فيطرحه في فيه، ويلقي العظم حتى أتى عليها، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل فأكثر، ثم قال للقيم: ويحك ما عندك شيء تطعمنيه؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، دجاجتان بحريتان قد عمتتا شحماً قال: ائتني بهما، ففعل بهما كما فعل بالعتاق، ثم عاد لأكل الفاكهة، فأكل ملياً، ثم قال للقيم: هل عندك شيء تطعمنيه؟ فإني قد جعت ويحك، قال: عندي سويق جديدة يعني الحنطة، كأنه قطع الأوتار، وسمن بسلاء وسكر، قال: أفلا أعلمتني بهذا قبل؟ ائتني به. وأكثِر فجاء بقعب يقعد فيه الرجل، وقد ملأه من السويق قد خلطه بالسكر وصب عليه سمن سلاء، وأتي بجرة ماء بارد وكوز، فأخذ القعب على كفه وأقبل القيم يصب عليه الماء فيحركه حتى كفأه على وجهه فارغاً، ثم عاد لأكل الفاكهة فأكل ملياً حتى جرت عليه الشمس، ودخل، وأمرنا أن ندخل إلى مجلسه، فدخلنا وجلسنا، فما مكث أن خرج علينا. فلما جلس قام كبير الطباخين حياله يؤذنه بالغداء فأومأ إليه أن ائت بالغداء، فوضع يده فأكل، فما فقدنا من أكله شيئاً.
وفي حديث آخر بمعناه وفيه: ثم إن سليمان بن عبد الملك بعد فراغه من أكله هذا عرضت له حمى أدته إلى الموت.
كان سليمان بن عبد الملك يأخذ المرآة، فينظر فيها من فرقه إلى قدمه، ويقول: أنا الملك الشاب، فلما نزل بمرج دابق حمّ وفشت الحمى في عسكره فنادى بعض خدمه، فجاءت بطست فسقطت، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: محمومة. قال: فأين فلانة؟ قالت: محمومة. فلم يعد أحداً إلا قالت محموم، فقال سليمان: الحمد لله جعل(10/178)
خليفته في الأرض ليس له من يُوضيه، ثم التفت إلى خاله الوليد بن القعقاع العنسي فقال: من الكامل
قرب وضوءك يا وليد فإنما ... هذي الحياة تعلة ومتاع
فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً ... فالدهر فيه فرقة وجماع
ومات في مرضه.
قال يحيى ين يحيى: جلس سليمان بن عبد الملك في بيت أخضر على وطاء أخضر عليه ثياب خضر ثم نظر إلى وجهه في المرآة، فأعجبه شبابه وجماله، فقال: كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً، وكان أبو بكر صديقاً، وكان عمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جباراً، وأنا الملك الشاب. فما دار عليه الشهر حتى هلك.
قال عبد الرحمن بن حسان الكناني:
لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض الذي توفي فيه، وكان مرضه بدابق ومعه رجاء بن حيوة، فقال لرجاء بن حيوة: يا رجاء، من لهذا الأمر بعدي: أستخلف ابني؟ قال: ابنك غائب، قال: فالآخر؟ قال: صغير، قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً، وتختم عليه، وتدعوهم إلى بيعته مختوماً عليه، قال: لقد رأيت، ائتني بقرطاس فكتب العهد لعمر بن عبد العزيز، ثم من بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه. ودفعه إلى رجاء، وقال اخرج للناس فمرهم فليبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً، فجمعهم فقالوا له: ومن في هذا الكتاب؟ قال: مختوم لا تُخبروا بمن فيه حتى يموت. قالوا: لا نبايع حتى نعلم ما فيه فرجع إلى سليمان فقال: انطلق إلى صاحب الشرطة والحرس وناد للصلاة جامعة ومُر الناس، فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما فيه. قال: رجاء: فلما فرغت خرجت إلى منزلي، فسمعت(10/179)
جلبة موكب، فالتفت فإذا هشام فقال لي: يا رجاء، قد علمت موقعك منا، وإن أمير المؤمنين صنع شيئاً ما أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني، فإن يك عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمير نفس حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه؟! لا يكون ذلك أبداً، فأدارني فأبيت عليه فانصرف. فبينا أنا أسير سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز، فقال: يا رجاء، إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن، فأعلمني ما دام في الأمير نَفَس لعلي أتخلّص منه ما دام حياً، قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه؟! فأدارني وألاصني فأبيت عليه. قال رجاء: وثقل سليمان وحجب الناس عنه حتى مات. فلما مات أجلسته في مجلسه، وأسندته، وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين قلت: أصبح ساكناً، وقد أحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب بين يديه، والكتاب بين يديه، وأذنت للناس فدخلوا عليه وأنا قائم عنده، فلما دنوا منه قلت: إن أميركم يأمركم بالوقوف، ثم أخذت الكتاب من عنده، ثم تقدمت إليهم، فقلت: أمير المؤمنون يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب، قال: فبايعوا وبسطوا أيديهم. فلما بايعتهم على ما فيه أجمعين، وفرغت من بيعتهم قلت له: آجركم الله في أمير المؤمنين، قالوا: فمن؟ قال: فافتح الكتاب، فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم، فلما قرؤوا من بعده يزيد بن عبد الملك، فكأنهم تراجعوا، فقال: أين عمر بن عبد العزيز، فطلبوه فلم يوجد في القوم، فنظروا فإذا هو في مؤخر المسجد. قال: فأتوه فسلموا عليه بالخلافة، فعقر به فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه، فدنوا به إلى المنبر، فلم يقدر على الصعود حتى أصعدوه فأجلسوه، فجلس طويلاً لا يتكلم، فلما رآهم رجاء جلوساً قال: ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه، فنهض القوم إليه، فبايعوه، ومد يده إليهم فصعد إليه هشام، فلما يد يده إليه قال: يقول هشام إنا لله وإنا إليه راجعون، حتى صار يلي هذا الأمر أنا أن أنت، ثم قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إني لست بقاض ولكني منفذ،(10/180)
ولست بمبتدع ولكني متبع، وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم، وإن هم نفثوا فلست لكم بوالٍ، ثم نزل يمشي، قال: فأتاه صاحب المراكب بمركب، فقال: ما هذا؟ قال: مركب للخليفة، قال: لا حاجة لي فيه، ائتوني بدابتي، فأتوه بدابته، فركبها. ثم خرج يسير، وخرجوا معه، فمالوا به إلى طريق، فقال: إلى أين؟ قالوا: البيت الذي هيأنا للخليفة. قال: لا حاجة لي فيه، انطلقوا بي إلى منزلي. قال رجاء: فأتى منزله، فنزل عن دابته، ثم دعا بداوة وقرطاس، فجعل يكتب بيده إلى العمال في الأمصار، ويملي على نفسه، قال رجاء: فلقد كنت أظن أنه سيضعف. فلما رأيت صنيعه في الكتاب علمت أنه سيقوى بهذا أو نحوه.
لما احتضر سليمان بن عبد الملك جعل يقول:
إن بني صبية صغارُ ... أفلح من كان له كبار
فيقول عمر بن عبد العزيز: قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين، فيقول سليمان:
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له شتويون
فيقول عمر: قد أفلح المؤمنون يا أمير المؤمنين.
وقال بعض أهل العلم: إن آخر ما تكل به سليمان قال: أسألك منقلباً كريماً.
قال الأوزاعي: أخرجت جنازة سليمان بن عبد الملك، وحضرت صلاة المغرب، فبدأ عمر بن عبد العزيز بصلاة المغرب ثم صلى على سليمان.
ومات سليمان من ذات الجنب بدابق من أرض قنسرين، وهو ابن خمس وأربعين سنة.
وقيل: ثلاث وأربعين سنة، وقيل: إنه لم يبلغ الأربعين.(10/181)
سليمان بن عتبة بن ثور بن يزيد
ابن الأخنس أبو الربيع السلمي، وقيل الغساني الداراني حدث عن يونس عن أبي ادريس عن أبي الدرداء قالوا: يا رسول الله، أرأيت ما نعمل، أمر قد فُرغ منه، أم شيء نستأنفه؟ فقال: بل أمر قد فرغ منه، قالوا: فكيف بالعمل يا رسول الله؟ قال: كل أمر مهياً لما خلق له.
وحدث أيضاً بالسند عن أبي الدرداء قال: لئن غفر لكم ما تأتون إلى البهائم لقد غفر لكم كثيراً، أو قال: ذنباً.
قيل لأبي مسهر: ما تقول في سليمان بن عتبة؟ قال ثقة، قيل له: إنه يسند أحاديث عن أبي الدرداء قال: هي يسيرة، وهو ثقة، لم يكن له عيب إلا لصوقه بالسلطان.
حدث سليمان بن عتبة الدمشقي أن أبا جعفر عبد الله بن محمد أمير المؤمنين سأله في مقده الشام في ثلاث أو أربع وخمس مئة عن ست الأرضين التي بأيدي أولاد الصحابة، يذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله عزّ وجلّ لما أظهر المسلمين على بلاد الشام، وصالحوا أهل دمشق كرهوا يعني أن يقيموا بالبلدان دون أن يتم ظهورهم وإثخانهم في عدو الله، فعسكروا في مرج بردى، ما بين المزة إلى مرج شعبان، جنبي بردى مروجاً كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها، ليست لأحد منهم، فأقاموا بها حتى أوطأ الله بها المشركين ذلاً وقهراً، فأحيا كل قوم محلهم، وبنوا فيها فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمضاه لهم فبنوا الدور ونصبوا الشجر، ثم أمضاه عثمان بن عفان، فقال أبو جعفر: قد أمضيناه لأهله.
توفي سليمان بن عتبة سنة خمس وثمانين ومئة.(10/182)
سليمان بن علي بن عبد الله
ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، أبو أيوب، ويقال أبو محمد الهاشمي ولد سنة اثنتين وثمانين وعاش ستين سنة.
حدث عن أبيه عن جده عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أهل الجنة عشرون ومئة صنف. ثمانون منها أمتي ".
وحدث عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أمسى كالاً من عمل يديه أمسى مغفوراً له ".
قال القاسم بن موسى: مر على سليمان بن علي ممن يصلح القدور والقصاع، فقال له سليمان: مسلم أنت أو يهودي؟ قال: لا، بل مسلم، قال: يا جارية، أخرجي إلينا ما كان من قصاع وقدور، تحتاج إلى الإصلاح، فأخرج إليه، فقال: انصحني حتى أحدثك بحديث لو مشيت ألف فرسخ لكان قليلاً، فحدث بهذا الحديث.
وحدث عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الولاء ليس بمتحوّل ولا بمتنقل ".
كان سليمان كريماً جواداً. مر برجل يسأل قد تحمل عشر ديات، فأمر له بها كلها، وسع وهو في سطح له نسوة كن يغزلن فقلن: ليت الأمي اطلع علينا فأغنانا، فقام فجعل يدور في قصره، فجمع حلياً من ذهب وفضة وجوهر، وصير ذلك في منديل ثم أمر فالقي إليهن، فماتت إحداهن فرحاً. ورأى عبد الله أخوه رجلاً من آل زياد راكباً على بغل، وعليه شارة حسنة، فقال: من هذا؟ فقال سليمان: مسلم بن حرب بن زياد، فقال: وقد بقي من آل زياد مثل هذا؟ فقال سليمان: نعم، لم أجد إليهم سبيلاً، منعني منهم الحق، قال: أما والله لئن بقيت لهم لأبيدنهم، فبلغ ذلك مسلماً فهرب عن البصرة، فلم يدخلها حتى شخص بعبد الله.
وكان يعتق في كل موسم عشية عرفة مئة نسمة، وبلغت صلاته في الموسم وقريش والأنصار وسائر الناس خمسة آلاف ألف.(10/183)
قال سليمان بن علي لبعض أصحابه:
ويحك، أين عتبة هذا الذي اقتدى به أهل البصرة؟ قال: فخرج به في الجيش حتى أتى به الجنان فوقف به على عتبة وهو لا يعلم، منكس رأسه، بيده عود ينكت الأرض، فوقف عليه فسلم فرفع رأسه، فقال: وعليكم السلام ورحمة الله. قال: كيف أنت يا عتبة؟ قال: بحال بين حالين، قال: ما هما؟ قال: قدوم على الله بخير أم بشر، ثم نكس رأسه وجعل ينكت الأرض، فقال سليمان بن علي: أرى عتبة قد أحزن نفسه، ولا يبالي ما أصبحنا فيه وأمسينا، ثم قال: يا عتبة، قد أمرت لك بألفي درهم قال: أقبلها منك أيها الأمير على أن تقضي لي معها حاجة، قال: نعم، وسرّ سليمان قال: وما حاجتك؟ قال: تعفيني منها. قال: قد فعلت ثم ولى عنه، وهو يبكي ويقول: قصر إلينا عتبة ما نحن فيه.
لما قدم سليمان بن علي البصرة والياً عليها قيل له إن بالمربد رجلاً من بني سعد مجنوناً سريع الجواب، لا يتكلم إلا بالشعر، فأرسل إليه سليمان بن علي قهرمانه فقال له: أجب الأمير، فامتنع فجره وزبره وخرق ثوبه، وكان المجنون يستقي على ناقة له، فاستاق القهرمان الناقة، وأتى بها سليمان بن علي. فلما وقف بين يديه قال له سليمان: حياك الله يا أخا بني سعد، فقال:
حياك رب الناس من أمير ... يا فاضل الأصل عظيم الخير
إني أتاني الفاسق الجلواز ... والقلب قد طار به اهتزاز
فقال سليمان: إنما بعثنا إليك لنشتري ناقتك. فقال:
ما قال شيئاً في شراء الناقه ... وقد أتى بالجهل والحماقة
فقال: ما أتى؟ فقال:
خرّق سربالي وشق بردتي ... وكان وجهي في الملا وزينتي(10/184)
قال: أمعتزم على بيع الناقة؟ فقال:
أبيعها من بعد ما لا أوكسُ ... والبيع في بعض الأوابد أوكسُ
فقال: كم شراؤها عليك؟ فقال:
شراؤها عشر ببطن مكه ... من الدنانير الفيام السكة
ولا أبيع الدهر أو أزداد ... إني لربح في الورى معتاد
فقال: بكم تبيعها؟ فقال:
خذها بعشر وبخمس وازنه ... فإنها ناقة صدقٍ مارنه
فقال: فحَطّنا. فقال:
تبارك الله العلي العالي ... تسألني الحطّو أنت العالي
قال: فنأخذها ولا نعطيك شيئاً. فقال:
فأين ربي ذو الجلال الأفضل ... إن أنت لم تخش الإله فافعل
قال: فكم أزن لك فيها؟ فقال:
والله ما ينعشني ما تعطي ... ولا يداني الفقر مني حطي
خذها بما أحببت يا بن عباس ... يا بن الكرام من قريش الراس
فأمر له سليمان بألف درهم وعشرة أثواب. فقال:
إني رمتني نحوك الفجاج ... أبو عيال معدم محتاج
طاوي المطي ضيق المعيش ... فأنبت إن لديك ريشي
ربحتني منك بألف فاخره ... شرفك الله بها في الآخرة
وكسوة طاهرة حسان ... كساك ربي حلل الجنان
فقال سليمان: من يقول إن هذا مجنون! ما كلمت أعرابياً أعقل منه.(10/185)
سليمان بن أبي كريمة
أبو سلمة الصيداوي حدث عن الزهري بسنده عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوتر بأكثر من ثلاث عشرة ركعة ولا قصر عن سبعة.
وحدث عن مكحول بسنده عن حبيب بن مسلمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زُر غباً تزداد حباً ".
وحدث عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به، لا عذر لأحد في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنّة مني ماضية، فإن لم يكن سنة مني فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فأيما أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي بكم رحمة.
سليمان بن محمد بن إسماعيل
ابن محمد بن عبد الرحمن بن القاسم بن يزيد بن مشكم، أبو أيوب الخزاعي حدث عن هشام بن خالد الأزرق بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يمنعن أحدكم جاره أن يجعل خشبة في جداره ".
توفي أبو أيوب سنة تسع عشر وثلاث مئة.
سليمان بن محمد بن سلمة
أبو القاسم الحراني حدث عن عمر بن أحمد بن سنان عن الربيع عن روح عن صفوان بن صالح قال:
ذكرت للوليد بن مسلم خبر امرأة بخراسان وقد والت على عشر بنات، فقيل لها: إن جاءتك بنت تحمدين الله؟ قالت: لا، فولدت قردة. فقال لي الوليد: قد كان عندنا شبيه بهذا: كان رجل من أهل الأوزاع ولدت له امرأته تسع بنات فقال لها وقد حملت منه: إن ولدت جارية لأطلقنك، وخرج إلى المسجد فولدت جارية فلفتها في رقاعها،(10/186)
وحملتها وألقتها في كنيسة توما، وجاء الرجل فدخل عليها فنكر إلى حالها، فلم يزل بها حتى أقرت له وأعلمته بمكانها فذهب ليجيء بها فوجدها ومعها أخرى فحملها إليها فقال لها: أيتهن بنتك؟ قالت: لا أدري، فسئل الأوزاعي، فقال: ترثان منه ومنها ميراث جارية، وترث منهما ميراث جارية ولا تتوارثان، إذا ماتتا لأنهما ليستا بأختين.
سليمان بن محمد بن الفضل بن جبريل
أبو منصور البجلي النهرواني من ولد جرير بن عبد الله البجلي الصحابي سمع بدمشق.
حدث عن محمد بن سليمان بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الأعمال تُعرض يوم الخميس ويوم الجمعة، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلين فإنه يقول: أخّروا هذين حتى يصطلحا ".
وحدث عن هشام بن خالد بسنده عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لو أن عبداً هرب من رزقه لطلبه رزقه كما يطلبه الموت ".
وحدث عن أبن أبي عمر بسنده عن أبي عثمان النهدي أن بلالاً قال: يا رسول الله، لا تسبقني بآمين.
توفي أبو منصور سنة سبع وثمانين ومئتين.
سليمان بن مجالد بن أبي المجالد
من أهل الأردن، أخو المنصور من الرضاعة، وكان معهم بالحميمة. فلما أفضى الأمر إلى المنصور ولاه الري. وكان يلي له الخزائن أيضاً.(10/187)
حدث سليمان بن مجالد قال: خرجت مع أبي جعفر المنصور نريد هشام بن عبد الملك، وأبو جعفر على حمار، وأنا أسوق به، منصرفاً إلى الرصافة، فنزلنا على مسلمة لنأخذ رأيه، فأمر لنا بخمس مئة درهم، وقال له مسلمة: لا تبت بها، واتخذ لنا مسلمة سفرة فيها طعاما فعلقتها على الحمار ورحلنا، فلما انفلق الصبح وأصاب الدنيا، إذا هشام قد أدركنا، فقال لي أبو جعفر: اعدل عن طريقه لئلا يرانا، فعدلنا، وقام يصلي الغداة، وبصر بنا هشام، فقال لمسلمة: من صاحب الحمار والرجل الذي معه؟ فقال: هذا ابن عمك عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أوصلت إليه صلتك وأمرته بالخروج في الليل فسمع لأمرك، رق له هشام، ونزل عن فرسه، وقال لبعض أصحابه: امضِ به وادفعه إلى ذلك الفتى، ومضى وأخذنا الفرس، فركبه أبو جعفر وركبت الحمار، حتى إذا انبسطت الشمس نزل أبو جعفر وأنا أمسك الفرس، فصلى ركعتين ودعا ثم قال: اللهم، كما حملتني على فرسه فأجلسني مجلسه، ثم التفت إلي فقال: هات شيئاً حتى نأكل، فقربت السفرة، وفيها طعام حسن من طعام مسلمة، وجعلنا نأكل منها، فوقف علينا سائل، وعليه فروة حمراء وبيده عصا، فقال: تصدقوا رحمكم الله فقال له أبو جعفر: صنع الله لك، فمر الشيخ، ثم ندم أبو جعفر وقال أستغفر الله، وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم سبقني لساني إلى الرد عليه، خذ السفرة فادفعها إليه بما فيهنا، فأخذت السفرة، فأتيت الشيخ بها، فقلت: إن هذا الفتى ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنه فكر في أمرك وأنت بمقطعة ودار مضيعة، فبعث بسفرته وجميع طعامه إليك، فقال لي: أقرئه السلام، وقل له لا حاجة لنا في طعامك، إن الله عزّ وجلّ قد سمع دعاءك، وأنت تقول: اللهم، كما حملتني على فرسه فأجلسني مجلسه، وإن الله وله الحم سيفعل ذلك، قال: فرجعت إلى أبي جعفر بالجواب فقال: قرّب لي فرسي ما هذا إلا الخضر عليه السلام، فركب الفرس ودار في الصحراء فلم ير له أثراً.
كان على أبواب مدينة أبي جعفر مما يلي الرحاب ستور وحجاب، وعلى كب باب قائد، فكان على باب الشام سليمان بن مجالد في ألف، وعلى باب البصرة أبو الأزهر التيمي في ألف، وعلى باب الكوفة خالد العكّي في ألف، وعلى باب خراسان مسلمة بن صهيب الغساني في ألف، وكان لا يدخل أحد من عمومته، يعني عمومة المنصور، ولا غيرهم من هذه الأبواب إلا راجلاً إلا داود بن علي عمه فإنه كان منقرساً، فكان يُجعل في محفة(10/188)
ومحمد المهدي ابنه. وكان يكنس الرّحاب في كل يوم يكنسها الفراشون، ويُحمل التراب إلى خارج المدين، فقال له عمه عبد الصمد: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير فلو أذنت لي أن أنزل داخل الأبواب فلم يأذن له، فقال: يا أمير المؤمنين، عدني بعض بغال الروايا التي تصل إلى الرحاب، فقال يا ربيع، بغال الروايا تصل إلى رحابي؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: تتخذ الساعة قنى بالساح من باب خراسان حتى تجيء إلى قصري، ففعل.
سليمان بن موسى
أبو الربيع، ويقال أبو أيوب الأشدق الفقيه، مولى آل أبي سفيان بن حرب حدث عن عبد الرحمن بن أبي حسين عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل عرفات موقف، وارفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن مُحسّر وكل فجاج مني " وقال الحربي: مكة منحر، وفي كل أيام التشريق ذبح.
وحدث سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر: سئل عن الغسل يوم الجمعة؟ فقال: أمرنا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، ولها مهرها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ".
وعن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا نكاح إلا بوليّ وشاهدي عدل، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له ".
قال سليمان بن موسى " بينا أنا في سوق حمص في بعض ما كنت أغزو إذا أنا بعبد الله بن أبي زكريا وأبي مخرمة قال: أين تريدان؟ قال: نريد أن نأتي أبا أمامة، قلت: فأجيء معكما؟ قالا: إن شئت، فانطلقنا إليه، فذكر الكذب فعظمه، ثم قال: لأنتم أبخل من أهل الجاهلية، إن الله أمركم بالنفقة في سبيل الله وجعل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف(10/189)
كثيرة فقال: " وما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه وهو خير الرازقين " والله، لقد فتحت الفتوح بسيوف ما حليتها الذهب ولا الفضة ولا حليتها إلا الآنك والعلابي والحديد.
كتب عمر بن عبد العزيز في خلافته إلى أبي بكر بن عمر بن حزم أنه مُر قبلك الذين ينقلون العذرة إذا صليت الظهر ألا يعالجوا منها شيئاً حتى يمسوا.
قال عطاء بن أبي رباح: سيد شباب أهل الحجاز ابن جريج، وسيد شباب أهل الشام سليمان بن موسى، وسيد شباب أهل العراق حجاج بن أرطأة.
قال زيد بن واقد: كنا نأتي سليمان بن موسى نجلس إليه، فكان يحدثنا في نوع من العلم يومنا ذاك، ثم نأتيه من الغد فيحدثنا بنوع آخر من العلم يومنا ذاك. قال: فقلت: يا أبا الربيع، جزاك الله خيراً إنك تحدثنا بما نعلم وبما لا نعلم.
قال سليمان بن موسى: حسن المسألة نصف العلم.
قال سليمان بن موسى: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب، وجع عنك أذى الخادم، وليكن عليك سكينة ووقار ولا تجعل يوم صومك ويوم إفطارك سواء.
قال سليمان بن موسى: ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة: حليم من أحمق، وبرُّ من فاجر، وشريف من دنيء.
مات سليمان بن موسى في إمرة هشام بن عبد الملك.
قدم سليمان بن موسى على هشام الرصافة، فسقاه طبيب لهشام شربة فقتله، فسقى هشام ذلك الطبيب من ذلك الدواء فقتله.
وكان موت سليمان بن موسى سنة خمس عشرة ومئة. وقيل: سنة تسع عشرة ومئة.(10/190)
سليمان بن موسى
أبو داود الزهري حدث عن إسماعيل بن عبد الملك عن رزين قال: قال علي بن أبي طالب في قول الله عزّ وجلّ: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ".
قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما أصاب عبد في الدنيا ذنباً فأقيم عليه حده إلا كان كفارة له، وكان الله أكرم من أن يثني العقوبة في الآخرة، ولا ستر الله على عبده في الدنيا إلا كان أكرم من أن يفضحه يوم القيامة.
وحدث سليمان بن موسى عن مظاهر بن أسلم المخزومي عن المقبري عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة.
سليمان بن هشام بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو أيوب ويقال أبو الغمر الأموي وأمه أم حكيم بنت يحيى بن أبي العاص، كان قد سجنه الوليد بن يزيد بعد موت أبيه بعمان، فلما قتل الوليد خرج من السجن، ولحق بيزيد بن الوليد فولاه بعض حروبه إلى أن كسره مروان بن محمد بعين الجر، فهرب إلى تدمر ثم استأمن إلى مروان بن محمد، وبايعه ثم خلعه، واجتمع إليه نحو سبعين ألفاً وطمع في الخلافة فبعث إليه مروان عسكراً، فهزم سليمان، ومضى إلى حمص فتحصن بها، فتوجه إليه مروان فهرب، ولحق بالضحاك بن قيس الخارجي وبايعه، فقال بعض شعراء الخوارج: من الطويل
ألم تر أن الله أظهر دينة ... وصلّت قريش خلف بكر بن وائل
قال قتادة: قال لي سليمان بن هشام: إن هذا يعني الزهري لا يدعنا نأكل شيئاً إلا أمرنا أن(10/191)
نتوضأ منه يعني ما مسته النار قالت له: سألت سعيد بن المسيب فقال: إذا أكلت فهو طيب وليس فيه وضوء، فإذا خرج فهو خبيث عليك فيه الوضوء قال: فهل بالبلد أحد؟ قلت: نعم، أقدم رجل في جزيرة العرب علماً، قال: من؟ قال: عطاء بن أبي رباح، فبعث إليه فقال: حدثني جابر بن عبد الله أنهم أكلوا مع أبي بكر الصديق خبزاً ولحماً فصلى ولم يتوضأ، فقال لي: ما تقول في العمري فقلت: حدثني النضر بن أنس عن بشير بن نُهيك عن أبي هريرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: العمري جائزة. قال الزهري: حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: العمري جائزة، قال الزهري: إن الأمراء لا يقضون بذلك. قال عطاء: بل قضى به عبد الملك بن مروان في كذا وكذا.
قال الزبير بن بكار: سليمان بن هشام لأم ولد قتلته المسودة. ومن شعره قال وهو مع الضحاك بن قيس الشيباني الحروري حين خرج على هشام بن عبد الملك: الطويل
يا عيش لو أبصرتنا لترقرقت ... دموعك لما خف أهل البصائر
عشيرة رحنا واللواء كأنه ... إذا زعزعته الريح أشلاء طائر
يعني بذلك أخته عائشة بنت هشام امرأة عبيد الله بن مروان بن محمد.
كان عند سليمان بن هشام بن عبد الملك فاطمة بنت القاسم بن محمد بن جعفر بن أبي طالب الكبرى، وأمها زينب بنت علي الكبرى، فقال لها سليمان يوماً: إنما أنت بغلة لا تلدين، فقالت له: ليس الأمر كما ظننت، ولكن يأبى كرمي أن يدنسه لؤمك.
سليمان بن يسار أبو عبد الرحمن
ويقال: أبو عبد الله. ويقال: أبو أيوب أخو عطاء، وعبد الملك، مولى ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أهل المدينة، قدم دمشق على الوليد بن عبد الملك.(10/192)
حدث سليمان بن يسار عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل ثم لتستثفر بثوب ثم لتصلي.
كان لسليمان بن يسار مقدماً في الفقه والعلم، وكان نظير سعيد بن المسيب، وكان مكاتباً لميمونة ابنة الحارث بن حزن زوجة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأدى وعتق، ووهبت ميمونة ولاءه لعبد الله بن العباس. وهي خالة عبد الله بن عباس.
وبنو يسار ثلاثة: عطاء، وسلمان، وعبد الملك. وهم فرس.
حدث سليمان بن يسار عن عائشة قال: استأذنت عليها فقالت: من هذا؟ فقلت: سليمان، فقالت: كم بقي عليك من مكاتبتك؟ قال: قلت: عشرة أواق. قالت: ادخل فإنك عبد ما بقي عليك درهم.
قال عبد الله بن يزيد الهذلي. سمعت سليمان بن يسار يقول: سعيد بن المسيب بقية الناس، وسمعت السائل يأتي سعيد بن المسيب فيقول: اذهب إلى سليمان بن يسار فإنه أعلم من بقي اليوم.
وكان سليمان بن يسار يصوم الدهر وكان عطاء بن يسار يصوم يوماً ويفطر يوماً.
قال مصعب بن عثمان: كان سليمان بن يسار من أحسن الناس وجهاً.
قال أبو حازم:
خرج سليمان بن يسار حاجاً من المدينة، ومعه رفيق له، حتى نزلوا بالأبواء، فأخذ رفيقة السفرة، وانطلق يبتاع لهم قعد سليمان في الخيمة وكان من أجمل(10/193)
الناس وجهاً وأروعهم، فبصرت به أعرابية من قلة الجبل، فلما رأت حسنه وجماله انحدرت عليه وعليها البرقع والقفازان، فوقفت بين يديه، وأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر، فقالت: أهيئني، فظن أنها تريد طعاماً، فقام إلى فضل السفرة ليعطيها، فقالت: لست أريد هذا، إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله، فقال: جهزك إلي إبليس، ثم وضع رأسه بين كميه، وأخذ في النحيب، فلما رأت ذلك سدلت البرقع على وجهها، ورجعت إلى خيمتها، فجاء رفيقه وقد ابتاع لهم ما يرفقهم، فلما رآه قد انتفخت عينه من البكاء، وانقطع حلقه، قال: ما يبكيك؟ قال: ذكرت ضيعتي، قال: لا، ألا إن لك قصة، إنما عهدك بضيعتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به حتى أخبره بشأن الأعرابية فوضع السفرة وجعل يبكي بكاء شديداً، فقال له سليمان أنت ما يبكيك؟ قال: أنا أحق بالبكاء منك، قال: ولم؟ قال: لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها، فلما انتهى سليمان إلى مكة وطاف وسعى، أتى الحجر واحتبى بثوبه فنعس، فإذا رجل وسيم جميل طوال، له شارة حسنة ورائحة طيبة، فقال له سليمان: من أنت رحمك الله؟ قال: أنا يوسف بن يعقوب، قال يوسف الصديق؟ قال: نعم، قال: أن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعجباً، فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب.
قال سليمان بن يسار: تودد الناس واستعطافهم نصف الحلم.
توفي سليمان بن يسار سنة مئة، وقيل: سنة سبع ومئة، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة، وقيل: توفي سنة أربع ومئة، وقيل: توفي سنة أربع وتسعين، وقيل: توفي سنة تسع ومئة.
سليمان أبو أيوب الخوّاص
أحد الزهاد المعروفين والعُباد الموصوفين. سكن الشام، وكان أكثر مقامه ببيت المقدس، ودخل بيروت.
قال سري بن المغلس السقطي: أربعة كانوا في الدنيا، اعملوا أنفسهم في طلب الحلال، ولم يدخلوا أجوافهم إلا(10/194)
الحلال، فقيل له: من هم يا أبا الحسن؟ قال: وهيب بن الورد، وشعيب بن حرب، ويوسف بن أسباط، وسليمان الخواص.
وقال: كان أهل الورع في وقت من الأوقات أربعة: حذيفة المرعشي، وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط، وسليمان الخواص، فنظروا إلى الورع، فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلى التقلل أو قال التذلل.
قال الفريابي: كنت في مجلس فيه الأوزاعي وسعيد بن عبد لعزيز وسليمان الخواص، فذكر الأوزاعي الزهاد فقال الأوزاعي: ما نريد أن نرى في دهرنا مثل هؤلاء، فقال: سعيد بن عبد العزيز: سليمان الخواص ما رأيت أزهد منه، وكان سليمان في المجلس ولا يعلم سعيد فقنع سليمان رأسه، وقام فأقبل الأوزاعي على سعيد فقال: ويحك لا تعقل ما يخرج من رأسك! تؤذي جليسنا، تُزكيه في وجهه؟! قال سعيد بن عبد العزيز: دخلت على سليمان الخواص فرأيته جالساً في الظلمة وحده، فقلت له: ما لي أراك جالساً في الظلمة وحدك؟! قال: ظلمة القبر أشد يا سعيد. فقال: ألا تطلب لك رفيقاً؟ قال: أكره أن أطلب رفيقاً، ولا أقوم بحقه الذي يجب له علي، قلت له: هذا مال صحيح قد أصبته، وأنا لك به يوم لقيامة، خذه تنفق منه على نفسك وتستر به عورتك، فقال: يا سعيد، إن نفسي لم تجبني إلى ما رأيت حتى خشيت أن لا تفعل، فإن أخذت مالك هذا ثم نفد فمن لي بمثله صحيح، فتركته ثم عدت إليه من الغد، فقلت له: رحمك الله إنه بلغني في الحديث أن الرجل لا تستجاب دعوته في العامة حتى يكون نقي المطعم نقي الملبس، فادع لهذه الأمة دعوة، فابتدر الباب مغضباً ثم قال: يا سعيد، أنت بالأمس تفتنني، وأنت اليوم تشهرني، قال: فأتيت الأوزاعي فأخبرته بما قلت له، وما قال لي، فقال لي الأوزاعي: يا سعيد، دع سليمان الخواص، ودع إبراهيم بن أدهم، فإنهما لو أدركا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكانا من خيار أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(10/195)
قال أبو محمد قدامة الرملي:
قرأ رجل هذه الآية " وتوكّل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً " فأقبل علي سليمان الخواص فقال: يا أبا قدامة، ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره، ثم قال: انظر كيف قال تعالى " وتوكل على الحي الذي لا يموت " فأعلمك أنه لا يموت وأن جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته فقال " وسبح بحمده " ثم أخبرك أنه خبير بصير، ثم قال: والله، يا أبا قدامة، لو عامل عبدُ لله بحسن التوكل وصدق النية له بطاعته لاحتاجت إليه الأمراء، فمن دونهم، فكيف يكون هذا محتاجاً؟ اجتمع حذيفة المرعشي وسليمان الخواص ويوسف بن أسباط رضي الله عنهم فتذاكروا الفقر والغنى، وسليمان ساكت، فقال بعضهم: الغني من كان له بيت يسكنه، وثوب يستره، وسداد من عيش يكفه عن فضول الدنيا. قال بعضهم: الغني من لم يحتج إلى الناس. فقيل لسليمان: ما تقول أنت يا أبا أيوب؟ فبكى ثم قال: رأيت جوامع الغنى في التوكل، ورأيت جوامع الشر في القنوط، والغنى حق، الغني من أسكن الله في قلبه من غناه يقيناً، ومن معرفته توكلاً، ومن عطاياه وقسمه رضي، فذاك الغني حق الغني وإن أمسى طاوياً، وأصبح معوزاً، فبكى القوم جميعاً من كلامه.
مر سليمان الخواص بإبراهيم بن أدهم، وهو عند قوم قد أضافوه فقال: يا أبا إسحاق، نعم الشيء هذا إن لم تكن تكرمه على دين.
قال سليمان الخواص: من وعظ أخاه المؤمن فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما يبكته.
قال أبو بشر الفقيمي: رأيت في المنام كأن القيامة قد قامت، وكأن منادياً ينادي: ليقم السابقون الأولون،(10/196)
فقام سفيان الثوري، ثم قال: ليقم السابقون الأولون، فقام سليمان الخواص، ثم قال: ليقم السابقون الأولون فقام إبراهيم بن أدهم.
سُليم بن أسود بن حنظلة
أبو الشعثاء المحاربي الكوفي حدث عن أبي هريرة أن رجلاً خرج من المسجد، والمؤذن يؤذن أو يقيم، فقال: قد عصى هذا أبا القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كنت ف المسجد فنودي بالصلاة فلا يخرجن أحد حتى يصلي.
حدث أبو الشعثاء المحاربي قال: أوصى طارق بن عبد الله المحاربي بنيه أن ينتقلوا من الكوفة، وينزلوا دمشق، ونهاهم أن ينزلوا الفراديس. قال أبو الشعثاء. فخرجت لوصية طارق حتى أقدم دمشق، فلقيت بها أبا هريرة، فأخبرته الخبر ومعه زياد النميري، فقال: ليس منزل اليوم أحب إلي من برذوني، فإذا قلّت الصفراء والبيضاء وانقطعت لقحة المسلمين فخير الحلل دمشق.
توفي أبو الشعثاء سنة اثنتين وثمانين بعد الجماجم.
سليم بن أيوب بن سليم
أبو الفتح الرازي الفقيه الشافعي الأديب سكن الشام مرابطاً محتسباً لنشر العلم والسنة.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن الحسين الجعفي بأيلة بسنده عن جرير بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحثنا على الصدقة، فأمسك الناس حتى رأيت في وجهه الغضب، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرّة فأعطاها إياهن ثم تتابع الناس حتى رُئي في وجهه السرور، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سنّ سنّة حسنة كان له أجرها، ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء، ومن سنّ سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء.(10/197)
حدث أبو الفتح سليم أنه كان في صغره بالري، وله نحو من عشر سنين، قد حضر بعض الشيوخ، وهو يُقرئ القرآن. فلما قرئ عليه قال لي: تقدم فاقرأ فجهد أن أقرأ الفاتحة، فلم أقدر على ذلك لانغلاق لساني، فقال: يا بني، ألك والدة؟ قالت: نعم. قال: قل لها تدعو لك يرزقك الله قراءة القرآن ومعرفة العلم، قالت: نعم. ثم رجعت إلى والدتي فسألتها الدعاء، ففعلت، ثم إني كبرت واشتهيت العربية، فدخلت بغداد، وقرأت بها العربية، وتفقهت. ثم عدت إلى الري، فبينا أنا يوماً في الجامع وقد كتبت مختصر المزني، وأنا أقابل عليه صديقاً لي، وإذا الشيخ قد حضر، وسلم علينا وهو لا يعرفني، وسمع مقابلتنا، وهو لا يعلم ما نقول، ثم قال: متى نتعلم مثل هذا؟ فأردت أن أقول له: إن كان لك والدة قل لها تدعو لك، فاستحييت منه. أو كما قال.
كان سليم ببغداد في حال طلبه العلم ترد عليه كتب من الري، فلا يقرأ شيئاً منها، ولا ينظر فيها، ويجمعها عنده، إلى أن فرغ من تحصيل ما أراد، ثم فتحها فوجد في بعضها ماتت أمك، وفي بعضها ما يضيق له صدره، فقال: لو كنت قرأتها قطعتني عن تحصيل ما أردت. وتفقه بعد أن جاء الأربعين.
صنف سليم الكثير في الفقه وغيره، ودرّس. وهو أول من نشر هذا العلم بصور، وانتفع به جماعة. وكان يحاسب نفسه على الأنفاس، ولا يدع وقتاً يمضي عليه بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ. ونسخ شيئاً كثيراً.
حدث عنه أبو الفرج الإسفراييني أنه نزل يوماً إلى داره ورجع فقال: قرأت جزءاً في طريقي.
وحدث المؤمل بن الحسن أنه رأى سليماً وقد جفا عليه القلم، فإلى أن قطّه جعل يحرك شفتيه، فعلم أنه يقرأ أثناء إصلاحه القلم، لئلا يمضي عليه زمان وهو فارغ، أو كما قال.
غرق الفقيه سليم في بحر القلزم عند ساحل جدة بعد عودته من الحج في صفر سنة سبع وأربعين وأربع مئة، وكان نيف على الثمانين.(10/198)
ودفن في جزية بقرب الجار عند المخاضة. وقيل: غرق على ساحل جار.
سليم بن عامر أبو يحيى
الخبائري الكلاعي من أهل حمض شهد فتح القادسية واستسقاء معاوية بدمشق.
حدث سليم بن عامر عن تميم الرازي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل، ولا يترك الله عزّ وجلّ بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله عزّ وجلّ هذا الدين، بعزّ عزيز يعزّ به الإسلام، وذلّ ذليلٍ يذل به الكفر.
قال سليم بن عامر خرجنا في جنازة على باب دمشق ومعنا أبو أمامة الباهلي، فلما صلي على الجنازة وأخذوا في دفنها قال أبو أمامة: يا أيها الناس، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا منه إلى المنزل الآخر، وهو هذا يشير إلى القبر بيت الوحدة وبيت الظلمة وبيت الدود وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة فإنكم لفي بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه، وتسود وجوه، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نوراً، ويترك الكافر والمنافق فلا يعطيان شيئاً، وهو المثل الذي ضر الله عزّ وجلّ في كتابه " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور " لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن كما لا يستضيء الأعمى بنور البصير. يقول المنافقون للذين آمنوا " انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً " وهي خدعة التي خدع بها المنافق، قال الله عزّ وجلّ "(10/199)
يخادعون الله وهو خادعهم " فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً، فيصرفون إليه وقد ضرب " بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم " نصلي بصلاتكم ونغزو مغازيكم " قالوا: بلى ولكنكم فتنتف أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور " تلا إلى قوله " وبئس المصير ".
قال سليم بن عامر: خرجت أريد بيت المقدس فمررت بأم الدرداء فسقتني طلاء وأمرت لي بدينار.
قال سليم بن عامر: قال أبو الدرداء: نعم صومعة الرجل المسلم بيته، يكف فيه نفسه وبصره وفرجه، وإياكم والمجالس في السوق فإنها تلغي وتلهي.
قال سليم بن عامر: رأيت غلاماً يمشي إلى وراء. قال: قلت: لم تفعل هذا يا غلام؟ قال: لانقلاب الزمان.
مات سليم بن عامر سنة ثلاثين ومئة.
سُليم بن عتر بن سلمة بن مالك
ابن عتر بن وهب بن عوف بن معاوية بن الحارث بن أيدعان بن سعد ابن تجيب بن الأشرس بن شبيب بن السكون بن الأشرس بن كندة أبو سلمة التجيبي المصري قاضي مصر وقاصّها، كان يسمى الناسك لشدة عبادته. شهد خطبة عمر بالجابية. وعتر بكسر العين المهملة وسكون التاء باثنتين فوقها.(10/200)
حدث سليم بن عتر قال: سجد لنا عمر بن الخطاب في سورة الحج سجدتين ثم قال: إن هذه السورة فُضلت بأن فيها سجدتين.
وحدث قال: خطبنا عمر بالجابية وهو على المنبر فقرأ آية سجدة. فنزل فسجد فيها.
قال سليم بن عتر:
صدرنا من الحج مع حفصة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعثمان محصور فكانت تسأل عنه ما فعل، حتى رأت راكبين فأرسلت تسألهما فقالا: قتل، فقالت: والذي نفسي بيده إنها للقرية التي قال الله " وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله " الآية.
روي أن سليم بن عتر كان رجلاً صالحاً، وكان يختم في كل ليلة ثلاث ختمات، ويأتي امرأته ويغتسل ثلاث مرات، وأن امرأته قالت بعد موته: رحمك الله، لقد كنت ترضي ربك، وترضي أهلك.
قال حرملة بن عمران: كان يوسف جالساً في هذا المسجد، يعني مسجد الفسطاط، ومعه الحجاج ابنه، فمر سليم بن عتر، فقام إليه يوسف فسلم عليه، وقال: إني أريد أن آتي أمير المؤمنين، فإن كانت لك حاجة فأمرني بها. قال: نعم، حاجتي أن تسأله أن يعزلني عن القضاء، فقال: والله، لوددت أن قضاة المسلمين كلهم مثلك. فكيف أسأله أن يعزلك؟ قال: ثم انصرف، فجلس، فقال له الحجاج ابنه: يا أبه، من هذا الذي قمت إليه؟ قال: يا بني، هذا سليم بن عتر قاضي أهل مصر وقاصهم، فقال: يغفر الله لك يا أبه. أنت يوسف بن أبي عقيل تقوم إلى رجل من كندة أو تجيب؟! فقال: والله يا بني إني لأرى الناس ما يُرحمون إلا بهذا وأشباهه، فقال: والله ما يفسد الناس على أمير المؤمنين إلا هذا وأشباهه، يقعدون(10/201)
ويقعد إليهم أقوام أحداث فيذكرون سيرة أبي بكر وعمر فيخرجون على أمير المؤمنين، والله لو صفا هذا الأمر لسألت أمير المؤمنين أن يجعل لي السبيل فأقتل هذا وأشباهه، فقال: والله يا بني إني لأظن الله خلقك شقياً.
قال عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة: اختصم إلى سليم بن عتر في ميراث فقضى بين الورثة، ثم تناكروا فعادوا إليه، فقضى بينهم وكتب كتاباً بقضائه، أشهد فيه شيوخ الجند. قال: فكان أول القضاة بمصر سجل سجلاً بقضائه.
روي أنه ولي القضاء عشرين سنة.
وعن سليم بن عتر قال: لما قفلت من البحر تعبدت في غار سبعة أيام بالإسكندرية لم أصب فيها طعاماً ولا شراباً، ولولا أني خشيت أن أضعف لزدت فتممت عشراً.
قال الهيثم بن خالد: كنت خلف عمي سليم بن عتر فمر عليه كليب بن أبرهة، ووراءه علج يتبعه، فقال سليم: يا أبا رشدين، ألا حملته؟ قال: أحمل غلاماً مثل هذا ورائي؟ قال: أفلا قدمته بين يديك إلى باب المسجد؟ قال: ولم أفعل؟ قال: أفلا نظرت غلاماً صغيراً فحملته وراءك؟ قال: ما فعلت، قال سليم: سمعت أبا الدرداء يقول: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً ما مُشي خلفه.
مر سليم بن عتر على مقبرة وهو حاقن قد غلبه البول، فقال له بعض أصحابه: لو نزلت إلى هذه المقابر فبلت في بعض حفرها، فبكى، ثم قال: سبحان الله، والله إني لأستحيي من الأموات كما أستحيي من الأحياء.
حدث أبو صالح سعيد بن عبد الرحمن الغفاري أن سليم بن عتر التجيبي كان يقص على الناس وهو قائم، فقال له صلة بن الحارث الغفاري، وهو من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ما تركنا عهد نبينا ولا قطعنا أرحامنا حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا.
توفي سليم بن عتر سنة خمس وسبعين بدمياط في إمرة عبد العزيز بن مروان.(10/202)
سليم أبو عامر من أهل الحاضر
من نواحي حلب حدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ناد في الناس: من قال لا إله إلا الله وجبت له الجنة ". قال: فاستقبله عمر فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ قال: أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنادي من قال: لا إله إلا الله وجبت له الجنة. قال: ارجع فرجع، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ردك قال: استقبلني عمر فقال: ارجع فرجعت، فقال عمر: يا رسول الله، إذاً يتكلوا فدعهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق عمر.
كان سليم بن عامر ممن سباه خالد بن الوليد من حاضر حلب. قال: فلما قدمنا على أبي بكر جعلني في المكتب، فكان المعلم يقول لي: اكتب الميم فإذا لم أحسنها قال لي: دورها، اجعلها مثل عين بقرة.
وشهد فتح دمشق والقادسية.
قال سليم أبو عامر: رأيت أبا بكر وصليت خلفه سبعة أشهر ورأيت من عن يمينه وعن شماله وما عليهم إلا شملة واحدة.
قال أبو زرعة: سليم بن عامر صالح، أدرك الجاهلية، غير أنه لم يصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهاجر في عهد أبي بكر رضي الله عنه.(10/203)
سليم أبو الصلت الحضرمي الشامي الحمصي
شهد صفين وحدث قال: شهدت صفين، فإنا على صفوفنا وقد حُلنا بين أهل العراق وبين الماء، فأتانا فارس مقنع بالحديد، فأقبل حتى وقف، ثم حسر عن رأسه، فإذا هو الأشعث بن قيس، فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد، قال معاوية: ما الذي تريد؟ قال: نريد أن تخلّوا بيننا وبين الماء، فقال معاوية لأبي الأعور عمرو بن سفيان: يا أبا عبد الله خلّ بين إخواننا وبين الماء، فقال أبو الأعور لمعاوية: كلا والله يا أم عبد الله لا نخلي بينهم وبين الماء فعزم عليه معاوية حتى خلى بينهم وبين الماء، قال: فلم يلبثوا بعد ذلك إلا قليلاً حتى كان الصلح بينهم.
سليم مولى بني عذرة
سمع كعب الأحبار يقول: إذا نزلت الروم عمق الأعماق بأنطاكية، فمن لم ينصر المسلمين يومئذ فليس هو على شيء.
سليم مولى زياد
وفد على معاوية، وقال له معاوية، وكان به معجباً: أخبرني يا سليم عني وعن زياد، فإن لك بالرجال علماً، قال: يا أمير المؤمنين، لك الفضل، قال: عزمت عليك لتخبرني، قال: أما إذ عزمت علي فإني إذا كنت عنده يعني زياد فرأيت موارد أموره ومصادرها قالت: هذا أحزم العرب وإذا قدمت عليك، فرأيت موارد أمورك ومصادرها قلت: هذا أحزم العرب، وأحزمكما عندي الذي أكون عنده، قال: كرهت يا سليم أن تفضل أحدنا على صاحبه، وسأخبرك عني وعن زياد وعما بيننا: إني أطلب الأمر مجاملة، فإن لم أظفر به لم يُعلم بما فاتني، وإن زياداً يطلبه مغالبة فيُعلم خيبته وظفره.(10/204)
سليم بن صالح أبو سفيان العنسي
سكن جبلة.
وحدث عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان بسنده عن جابر بن عبد الله قال: كان يبلغني حديث في القصاص، وكان صاحب الحديث بمصر، فاشتريت بعيراً، فشددت عليه رحلاً، فسرت حتى وردت مصر، فقصدت إلى باب الرجل الذي بلغني عنه الحديث، فقرعت الباب، فخرج إلي مملوك له فنظر في وجهي ولم يكلمني، فقال أعرابي بالباب، فقال: سله من أنت؟ فقلت: جابر بن عبد الله، فخرج إلى مولاه فلما تراءينا اعتنق أحدنا صاحبه، فقال: يا جابر، ما جاء بك؟ فقلت: حديث بلغني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القصاص، ولا أظن أحداً ممن مضى أو ممن بقي أفهم له منك، قال: نعم يا جابر، سمعت رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الله عزّ وجلّ يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلاً بهماً، ثم ينادي بصوت رفيع غير فظيع يسمع به من بعُد كمن قرب، فيقول: أنا الديّان، لا تظالم اليوم، وعزّتي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم ولو لطمة كف بكف، ويد على يد. ألا وإن أشد ما أتخوف على الذي من بعدي عمل قوم لوط، فلترتقب أمتي العذاب إذ تكافأ النساء بالنساء والرجال بالرجال "، قال: والرجل عبد الله بن أنيس.
سليم هذا بفتح السين وكسر اللام.
سماك بن عبد الصمد بن سلام
ابن وديعة. وقيل ربيعة بن سماك بن رافع بن مالك، أبو القاسم الأنصاري البغدادي سمع بدمشق.
حدث عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني بسنده عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ثلاثة كلهم ضامن على الله عزّ وجلّ،: رجل خرج غازياً في سبيل الله فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله حتى يتوفاه فيدخله الجنة، أو يرده بما نال من أجر أو غنيمة، ورجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله.(10/205)
وحدث سماك بن عبد الصمد عن أب مسهر بسنده عن خيفان بن عرابة العنسي قال:
قدمت على عثمان في ثلاث مئة راكب من اليمن، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين رحمة الله وبركاته، أنا خيفان بن عرابة العنسي قدمت عليك من خبج وخبيج لتلحقنا بالمهاجرين وتجعل لنا سهماً في المسلمين، فقال عثمان: أخبرني عما مررت به من أفاريق العرب في بلاد اليمن، فقلت له: يا أمير المؤمنين، أما هذا الحي من بني الحارث بن كعب فحسك أمراس ومسك أحماس إذا اشتد الباس. وأما هذا الحي من مذحج فأنجاد بسل، ومساعير غير عزل، وأما هذا الحي من خثعم فجعابيب أصحاب أنابيب بنو أب وأولاد علة، وأما هذا الحي من الأزد فكرام في الجاهلية سادة، وحماة في الإسلام قادة. وأما هذا الحي من حمير فبخٍ بخٍ أولئك الملوك أرباب الملوك، فقال عثمان مرحباً بأهل اليمن أعلم في الدين قادة في المسلمين، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورحا الإسلام دائرة فيما ولد قحطان، والجفوة والقسوة فيما ولد عدنان، حمير رأس العرب ونابها، ومذجح هامتها وغلصمتها والأزد كاهلها وجمجمتها، والأنصار مني وأنا منهم، اللهم، اغفر للأنصار وأبناء الأنصار، اللهم أعزّ غسان أكرم العرب في الجاهلية وأفضل أناس في الإسلام تقية، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم الأنصار، وزروني ونصروني وحموني، هم شيعتي وأصحابي وأول من يدخل في بُحبُوحة الجنة من أمتي ".(10/206)
قيل إن خيفان هو ابن عرانة بالنون. والله أعلم.
قال بعض الرواة: بلغتنا وفاة سماك بن عبد الصمد بطرسوس في رمضان سنة اثنين وثمانين ومئتين.
سمرة بن سهم الأسدي
ويقال القرشي من أهل الكوفة. قدم دمشق.
حدث سمرة بن سهم قال: حدث سمرة بن سهم قال: نزلت على أبى هاشم بن عتبة وهو طعن، فدخل عليه معاوية يعوده، فبكى فقال له معاوية: ما يبكيك؟ أوجع يسوؤك أم الدنيا قد ذهب صفوها؟ فقال: لا، ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلي عهداً فوددت أني تبعته، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام، وإنما يكفيك من جمع المال خادم ومركب في سبيل الله، فوجدت فجمعت.
السمط بن ثابت بن يزيد
ابن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة الكندي حمصي من أشراف حمص، قدم دمشق في عسكر من أهل حمص للطلب بدم الوليد بن يزيد، فهرب الجيش بقرب عذراء، ودخل السمط دمشق فبايع يزيد بن الوليد الناقص.
كان شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة بن عدي ين ربيعة بن معاوية الكندي الجاهلي قد وفد على سيدنا رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، من ولده السمط بن ثابت بن يزيد بن شرحبيل. كان خرج على مروان بن محمد، فظفر به مروان فصلبه،(10/207)
وابنه عبد الله بن السمط كان من أشراف أهل الشام فقتله عبد الله بن سعيد الجرشي أيام ولي حمص لمحمد بن هارون، وقتل معه ابنيه أحمد وأبا الأسود.
حدث أبو إدريس الخولاني أنه كان مع شرحبيل بن السمط في سرية، وأنهم صبحوا عند صلاة الفجر قرية في مغارهم ينظرون إلى أهلها حتى انتشوا لهم، فصلوا مفترقين على خيولهم مستقبلي جوف الشام، فصلى من كان مع شرحبيل تلك الصلاة، ونزل مالك الأشتر عن فرسه فاستقبل القبلة يصلي، فاستحوذ شرحبيل وأصحابه على القرية ومن فيها، فذكر لابن السمط ما فعل ما لك الأشتر فقال شرحبيل: خالف مخالف خالف الله به فقتله الله مخالفاً، فسئل أبو إدريس عن تلك الصلاة أراغبين صليتموها أم راهبين قال بل راغبين.
وروي هذا الحديث عن السمط بن ثابت، أو ثابت بن السمط. قالوا: وهي عن شرحبيل أصح.
سمعان بن هُبيرة بن مساحق
ابن بُجير بن عمير بن أسامة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مالك لن نصر بن قعين.
لما أراد معاوية أن يبايع أهل الأمصار ليزيد كتب إلى زياد أن يوفد عليه وجوه أهل الكوفة، فلما اجتمع أهل البصرة والكوفة عند معاوية قام أبو سمال الأسدي فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا أمير المؤمنين، لا ينفع الحذر القدر، ولا يغلب الجهل القضاء، ولا يملك الناس تغيير النعماء، وليس أمير المؤمنين بالذي يعطينا ولا يمنعنا، ولا بالذي يضعنا ولا يرفعنا، ولكن الله هو الرافع الخافض، المعطي(10/208)
المانع، والأمور بيده وهو يديرها في خلقه كما يشاء، نحن يا أمير المؤمنين رعية أنت مسؤول عنها ومجازى بما عملت فيها، ولا تعذر بفسادها، فقال له معاوية وهو يستنطقه: لكن أهل بيتك أنت راع عليهم ومسؤول عنهم، قال أبو سمال: والله إني لأضرب جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأقوّم جائرهم، وإنه ليدركني لهم رأفة الوالد ولده، والبعل زوجته، قال معاوية له: حاجتك يا أبا سمّال؟ فما عرّضت بذكر الولد والزوجة إلا لذلك، قال: مسألتي إياك يسيرة، وعطيتك إياي جليلة، فأخّر معاوية عطية سمال حتى كان اليوم الذي أذن للوفود برجوعهم إلى أمصارهم، فبعث إليه بخمسة آلاف درهم وثلاثة مطارف وعشرة برود وعشر رواحل ونعلين وبرذون وفرس وغلام سائس ووصيف خباز وجارية بربرية.
كان أبو السمّال ينادي مناديه في السوق والكتاتيب: من كان هاهنا من بني فلان وفلان ممن ليست له بها خطة فمنزله على أبي سمال، فاتخذ عثمان للأضياف منازل.
عاش سمعان بن هبيرة، وهو أبو السمال الأسدي سبعاً وستين ومئة سنة. وهو الذي يقول من أبيات: من الطويل:
وللموت خير لامرئ من حياته ... بدارة ذل غل بلايا يوقر
يريد: على البلايا، قال أبو حاتم: وآخر حرف في كتاب سيبويه: علْ ماء بنو فلان، يريد الماء.
سمعون التغلبي
شاعر وفد على عبد الملك بن مروان.
كلم سمعون التغلبي عبد الملك بن مروان بشيء أغضبه، فرماه بخرز كان في يده فضحك به قوم من بني تميم فقال: من الطويل:
أمن خذفةٍ عرضاً تباشرتْ ... عدات فلا عار علي ولا نكرُ
فإن أمير المؤمنين وفعلهُ ... لكالدهر لا عارُ بما فعل الدهرُ(10/209)
سنان بن أبي منظور أبو الفضل
ويقال: ابن أبي منظور أبو الفضل مولى واثلة بن الاسقع.
حدث سنان مولى واثلة قال: توفي ولد للربان وشهده واثلة. فلما انصرفوا من المقبرة قعد واثلة عند باب دمشق، فمر به الربان، فقال له واثلة: يا أبا سعيد، جبر الله مصيبتك، وغفر لمتوفاك، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من دفن ثلاثة من الولد احتسبهم حرم الله عليه النار ".
سندي بن شاهك أبو نصر
مولى المنصور. أمير دمشق من قبل موسى بن عيسى بن علي في خلافة الرشيد.
قال السندي: لما ظفر المنصور برجل من كبرياء بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء فاصدقني ولك الأمان، قال: نعم، فقال له المنصور: من أين أُتي بنو أمية حتى انتشر أمرهم؟ قال: من تضييع الأخبار. قال: فأي الأموال وجدوها أنفع؟ قال: الجوهر. قال: فعند من وجدوا الوفاء؟ قال: عند مواليهم، قال: فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، ثم قال: أضع من أقدارهم، فاستعان بمواليه.
وفي سنة ست وسبعين ومئة تهدم سور مدينة دمشق، هدمه السندي بن شاهك رجل من أهل السن، وكان دميم الخلق. وكان أمير الشام كلها موسى بن عيسى.
وكان السندي بن شاهك لا يستحلف المكاري ولا الملاح ولا الحائك. كان يجعل القول قول المدعي، وكان يقول كثيراً: اللهم، إني أستخيرك في الجمال ومعلم الكتاب.
توفي السندي ببغداد سنة أربع ومئتين.(10/210)
سند بن يحيى بن سند
أبو صالح المعري حدث سند بن يحيى عن العباس بن الوليد بن مزيد بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إن الله يجوز لكم عن صدقة الخيل والرقيق.
سواد بن قارب الأزدي
ويقال السدوسي له صحبة ووفادة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. من أهل الشراة من جبال البلقاء.
دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: نشدتك بالله يا سواد بن قارب هل تخشى اليوم من كهانتك شيئاً؟ قال: سبحان الله يا أمير المؤمنين، والله ما استقبلت أحداً من جلسائك بمثل الذي استقبلتني به، فقال عمر: سبحان الله يا ساد، ما كنا عليه من شركنا أعظم مما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث، إنه لعجب من العجب قال: إي والله يا أمير المؤمنين، إنه لعجب من العجب، قال: فحدثنيه. قال: كنت كاهناً في الجاهلية، فبينا أنا ذات ليلة إذ أتاني نجيّ، فضربني برجله ثم قال: يا سواد، اسمع أقل لك، قال: قلت: هات. قال: من السريع
عجبت للجن وأنجاسها ... ورحلها العين باحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... واسم بعينك إلى راسها
قال: فنمت، ولم أحفل بقوله شيئاً. فلما كانت الليلة الثاني أتاني فضربني برجله ثم قال: يا سواد، اسمع أقل لك قال: قلت: هات. قال:
عجبت للجن وتطلابها ... ورحلها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما صادق الحي ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... ليس المقاديم أذنابها
قال: فحرك قوله مني شيئاً. قال: ونمت. فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني(10/211)
برجله، وقال: يا سواد بن قارب أتعقل أم لا تعقل؟ قال: قلت: وما ذلك؟ قال: ظهر بمكة نبي يدعو إلى عبادة ربه الحق، اسمع، أقل لك، قال: قلت: هات. قال:
عجبت للجن وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم ... بين روابيها وأحجارها
قال: فعلمت أن الله قد أراد بي خيراً، فقمت إلى بردة ففتقتها فلبستها، ووضعت رجلي في غرز الناقة، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى بيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: إذا اجتمع المسلمون قمت، فقل: من الطويل
أتاني نجي بعد هدء ورقدة ... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليالٍ قوله كل ليلة ... أتاك رسول من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيل الإزار ووسطت ... بي الذعلب والوجناء غبر السباسب
وأعلم أن الله لا رب غيره ... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة ... إلى الله يا بن الأكرمين الأطايب
فمرنا بمهما شئت يا خير مرسل ... وإن كان فيما جاك شيب الذوائب
زاد في رواية
وكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة ... سواك يمن عن سواد بن قارب
قال: فسر المسلمون بذلك، فقال عمر بن الخطاب: هل تحس منها شيئاً؟ قال: أما منذ علمني الله القرآن فلا.
وفي رواية: فقال له عمر: هل يأتيك رئيك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله من الجن.(10/212)
وفي حديث آخر: ثم أنشأ عمر يقول: كنا يوماً في حي من قريش يقال لهم آل ذريح، وقد ذبحوا عجلاً لهم، والجزار يعالجه إذ سمعنا صوتاً من جوف العجل ولا نرى شيئاً: يا آل ذريح، أمر نجيح، صائح يصيح، بلسان فصيح يشهد أن لا إله إلا الله.
سويبط بن سعد بن حرملة
ابن مالك بن عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي بن كلاب أبو حرملة القرشي العبدري له صحبة من سيدنا رسول الله ص، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وقيل: إن اسمه سليط، وهو صاحب القصة المشهورة مع نعيمان لما خرجا مع أبي بكر الصديق رضي الله عنهم في تجارة إلى بصرى قبل فتح الشام، وقد ذكرناها في ترجمة سليط. وأكثر ما ينسب إلى جده، فيقال: سويبط بن حرملة.
عن عبيد الله بن أبي رافع وهو كاتب علي قال: سمعت علياً يقول: بعثني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا والزبير قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة فإذا نحن بالظعينة قلنا: أخرجي الكتاب قالت: ما معي كتاب، قلنا: لتخرجن الكتاب أو لنقلعن الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله، لا تعجل، إني كنت امرءاً ملصقاً في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، ولم يكن لي فهم قرابة وأحببت أن أتخذ فيهم يداً إذ فاتني ذلك، يحمون بها قرابتي، وما فعلته كفراً ولا أريد أذى ولا أرضى بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد صدقكم، قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: إنه(10/213)
قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ".
وعن قيس بن أبي حازم قال: قال عمر بن الخطاب لأسماء: سبقناكم بالهجرة، فقالت: أجل والله، لقد سبقتمونا بالهجرة، وكنا عند العراة الحفاة، " يعني الحبشة " وكنت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلم جاهلكم ويفقه عالمكم ويأمركم بمعالي الأخلاق، وقالت: لآتين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلأخبرنه، فأتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: للناس هجرة ولكم هجرتان.
سيود بن سعيد بن سهل
ابن شهريار أبو محمد المعروف بالحدثاني أصله من هراة. سمع بدمشق وبمصر وبغيرها.
حدث سويد بن سعيد عن سويد بن عبد العزيز بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله تبارك تعالى: " إني لأستحيي من عبدي وأمتي يشيبان في الإسلام أعذبهما بعد ذلك " ".
وبإسناده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يقول الله عز وجل: لأنا أعظم عفواً من أن أستر على عبدي ثم أفضحه، ولا أزال أغفر لعبدي ما استغفرني.
وحدث عن عيسى بن يونس بسنده عن عوف بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تفترق هذه الأمة بضعاً وسبعين فرقاة شرها فرقة يقيسون بالرأي، يستحلّون به الحرام، ويحرمون به الحلال ".
وثقة قوم، وجرحه آخرون. وقال يحيى بن معين: هو حلال الدم.(10/214)
قال أبو القاسم السهمي: سألت الدارقطني عن سويد بن سعيد فقال: تكلم فيه يحيى بن معين وقال: حدث عن أبي معاوية عن الأعمش عن عطية عن أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة. " قال يحيى بن معين: وهذا باطل عن أبي معاوية لم يروه غير سويد، وجرح سويد لروايته لهذا الحديث.
قال الشيخ أبو الحسن: فلم نزل نظن أن هذا كما قال يحيى وأن سويداً أتى أمراً عظيماً في روايته هذا الحديث حتى دخلت مصر في سنة سبع وخمسين، فوجدت هذا الحديث في مسند أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي المعروف بالمنجنيقي، وكان ثقة روي عن أبي كريب عن أبي معاوية ما قال سويد سواء وتخلص سويد، وصح الحديث عن أبي معاوية.
توفي سويد بن سعيد بالحديثة سنة أربع وأربعين ومئتين.
وكان بلغ مئة سنة. وقيل: توفي سنة أربعين ومئتين.
سويد بن عبد العزيز بن نمير
أبو محمد السلمي القاضي سكن دمشق. وكان شريك يحيى بن حمزة في القضاء، وكان يتقاضى إليه أهل الذمة.
حدث سويد بن عبد العزيز عن عاصم الأحول عن أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع السنبل حتى ييبس.
وحدث عن الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من نبي ولا وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن وُقي شرّها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما.
ما من نبي ولا وال إلا وله بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً، ومن وُقي شرّها فقد وُقي، وهو من التي تغلب عليه منهما.(10/215)
حدث أبو أيوب الخبائري الحمصي قال: رأيت سويد بن عبد العزيز بزق في ثوبه وقال: رأيت حميد الطويل بزق في ثوبه وقال: رأيت أنس بن مالك بزق في ثوبه وقال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بزق في ثوبه.
ولد سويد بن عبد العزيز سنة أربع ومئة وقيل: سنة ثمان وقيل: ولد سنة تسعين.
قال يحيى: سويد بن عبد العزيز ليس بشيء، وكان قاضي دمشق بين النصارى، قيل له: فالمسلمون من يقضي بينهم؟ قال: يقضي لهم قاض آخر.
توفي سويد سنة سبع وستين ومئة. قالوا: وهذا وهم. توفي سنة ثلاث وتسعين أو أربع وتسعين ومئة. وهو ابن أربع وثمانين سنة.
سويد بن عمرو الأنصاري
شهد عزوته مؤتة، من نواحي البلقاء من أعمال دمشق، واستشهد بها.
حدث سويد بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بلوا أرحامكم ولو بسلام ".
قال محمد بن سعد: قالوا: آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين وهب بن سعد وسويد بن عمرو وقتلا جميعاً يوم مؤتة شهيدين.(10/216)
سويد بن غفلة بن عوسجة بن عامر
ابن وداع بن معاوية بن الحارث بن مالك بن عوف بن سعد بن وف بن خزيم بن جعفي ابن سعد العشيرة بن مذحج وهو مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن غريب ابن زيد بن كهلان بن سبأ، أبو أمية الجعفي
أدرك الجاهلية والإسلام، وقيل إنه صلى الله مع النبي، وشهد فتح اليرموك، وخطبة عمر بالجابية.
حدث سويد بن غفلة قال: قدم علينا مصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذت بيده، فقرأت كتابه فإذا فيه: لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، قال: فأتيته بناقة عظيمة ململمة، فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا أخذت خيار مال امرئ مسلم؟ فأتيته بناقة من الإبل خيار فقبلها.
وحدث سويد بن غفلة أن عمر بن الخطاب خطب بالجابية فقال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لبس الحرير إلا موضع اصبعين أو ثلاث أو أربع.
قال سويد بن غفلة: لما هزمنا العدو يوم اليرموك أصبنا يلامق ديباج وحرير فلبسناها، فقدمنا على عمر، ونحن نرى أنه يعجبه ذلك، فاستقبلنا وسلمنا عليه قال: فشتمنا ورجمنا بالحجارة حتى سبقناه نعدو، قال: فقال بعض القوم: لو بلغه عنكم شر، وقال بعضهم فلعله في زيكم هذا الذي عليكم فضعوه، فإن هو فعل بكم هذا فقد بلغه عنكم شر، قال: فوضعنا ثيابنا تلك، وأتيناه فسلمنا عليه فرحب وساءلنا، ثم قلنا له: أتيناك فسلمنا عليك فشتمتنا ورجمتنا، وأتيناك الآن فسلمنا فرددت ورحبت بنا! قال: فقال: إنكم جئتم في زي أهل(10/217)
الكفر، وإنكم الآن في زي أهل الإيمان، وإنه لا يصلح من الديباج إلا هكذا وأشار بإصبعيه، وهكذا وأشار بثلاث أصابعه، وهكذا وأشار بأربع أصابعه.
وفي حديث آخر: فخلعناه ولسبنا بروداً يمانية ثم أتيناه. فلما رآنا قال: مرحباً بالمهاجرين، إن الله عز وجل لم يرض الحرير والديباج لمن كان قبلكم، فيرضاه لكم؟ ثم فال: إن الحرير لا يصلح منه إلا هكذا. الحديث ...
قال محمد بن سعد: سويد بن غفلة أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفد عليه فوجده وقد قبض فصحب أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً مع علي صفين.
وقال أبو عبد الله منده: أدرك دفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نفضوا أيدهم عنه.
وروي عنه أنه قال: أنا أصغر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين، ومات سنة ثمانين، وقيل: سنة إحدى وثمانين، وله عشرون سنة. وقيل: إحدى وثلاثون، وقيل: ثمان وعشرون ومئة.
وقد روي عن سويد بن غفلة أنه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهدب الشعر، مقرون الحاجبين، واضح الثنايا، أحسن شعر وضعه الله عز وجل على رأس إنسان.
وحدث أسامة بن أبي عطاء.
أنه كان عند النعمان بن بشير إذا أقبل سويد بن غفلة فأرسل إليه فدعاه، والنعمان يومئذ أمير فقال: ألم يبلغني أنك صليت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ومرة لا بل مرار كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمع النداء كأنه لا يعرف أحداً من الناس.
حدث عمران بن مسلم قال: مر رجل من صحابة الحجاج على مؤذن جعفي، والحجاج في قصره وهو يؤذن، فأتى(10/218)
الحجاج فقال: ألا تعجب من أني سمعت مؤذناً جعفياً يؤذن بالهجير!! فأرسل يجاء به، فقال: ما هذا الآذان: فقال: ليس لي أمر، إنما سويد هو الذي أمرني بهذا، فأسل إلى سويد فجيء به فقال له الحجاج: ما هذه الصلاة؟ قال: صليتها مع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان، فلما ذكر عثمان جلس وكان مضطجعاً، فقال: أصليتها مع عثمان؟ قال: نعم. قال: لا تؤمن قومك، وإذا رجعت فسب علياً، قال: نعم، سمع وطاعة، فلما أدبر قال الحجاج: لقد عهد الشيخ الناس وهم يصلون الصلاة هكذا.
وكان سويد يؤم قومه في رمضان في القيام، وقد أتى عليه عشرون ومئة سنة، وتزوج بكراً وهو ابن ست عشر ومئة.
وقال علي بن صالح: بلغ سويد بن غفلة عشرين ومئة سنة، ولم ير محتبيا قط، ولا متساند قط، وأصاب بكراً، يعني في العام الذي توفي فيه.
وقال عمران بن مسلم: كان سويد بن غفلة إذا قيل له: أعطي فلان وولي فلان قال: حسبي كسرتي وملحي.
وقال خيثمة: أوصي سويد بن غفلة قال: إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً، ولا تقربوا قبري جصاً ولا أجراً ولا عوداً، ولا تصحبني امرأة ولا تكفنوني إلا في ثوبي.
سهل بن إسماعيل بن سهل
أبو صالح الطرسوسي الجوهري القاضي، المعروف بسهلان سمع بدمشق وغيرها.
حدث سهل بن إسماعيل سنة أربعين وثلاث مئة عن أبي بكر عبد الرحمن بن القاسم بسنده عن جرير بن عبد الله البلجي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من لا يرحم الناس لا يرحمه الله.(10/219)
وحدث أيضاً عن أبي إبراهيم يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن عبادة الواسطي بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم. وكأني بأهل لا إله ألا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقول الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. " وحدث عن محمد بن نصير الكاتب بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: تقتل عماراً الفئة الباغية.
سهل بن بشر بن أحمد بن سعيد
أبو الفرج الإسفراييني الصوفي سمع ببغداد وبدمشق وبمصر وبغيرها.
حدث سهل بن بشر عن أبي علي الحسن بن خلف بن يعقوب بسنده عن انس بن مالك قال: عطس عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمت - أو فشمت - أحدهما أو لم يشمت الأخر أو فسمته ولم يشمت الآخر، قال: إن هذا حمد الله عز وجل فسمته وهذا لم يحمد الله فلم أشمته.
توفي أبو الفرج سنة إحدى وتسعين وأربع مئة بدمشق، وكان مولده سنة تسع وأربع مئة.
سهل بن الحسن بن محمد بن أحمد
أبو العلاء البامي الصوفي المعروف بالكافي سكن دمشق مدة حدث سهل بن الحسن عن أبيه بسنده عن سهل بن سعد قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر: " لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فبات الناس أيهم يعطاه، وغدوا، كلهم يرجوه، قال: أين علي؟ قيل: يشتكي عينيه فبصق في عينيه، ودعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع وأعطاه، فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: اتئد، على رسلك حتى تنزل بساحتهم، وادعهم(10/220)
إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من أن يكون لك حمر النعم.
توفي أبو العلاء سنة ست وثلاثين وخمس مئة.
سهل بن داود بن ديزويه
أبو سعيد الشيباني النيسابوري الرازي سمع بدمشق حدث أبو سعيد عن هشام بن عمار بسنده عن أبي إمامة الباهلي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأمنت عليهم الملائكة: مضل المساكين، قال خالد: الذي يهوي بيده إلى المسكين فيقول: هلم أعطيك فإذا جاءه قال: ليس معي شيء، والذي يقول للمكفوف اتق البئر، اتق الدابة، وليس بين يديه شيء، والرجل يسأل عن دار القوم فيدلونه على غيرها، والرجل يضرب الوالدين حتى يستغيثا. " وحدث عن هدبة بن خالد بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجزة له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار "
سهل بن أبي زينب
قال سهل: كنت عند عمر بن عبد العزيز إذ قال: يا أبا قلابة، حدثنا، فقال أبو قلابة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني رأيت أني أؤمكم إذ لحقني ظلال، وتقدمت ثم لحقني ظلال فتقدمت لحقني من أمتي يكونون من بعدي تلحق بي قلوبهم وأعمالهم ". قال: فقال عمر: أي والله يا أبا قلابة، ما كنت تسرنا بهذا الحديث قبل اليوم؟(10/221)
سهل بن شعيب بن ربيعة
النخعي الكوفي قال سهل بن شعيب بن ربيعة الشعوذي: ركبت البريد إلى عمر بن عبد العزيز فانقطع بي في بعض أرض الشام، فركبت السخرة حتى أتيته، وهو بخناصرة قال: فسايرني، فقال: ما فعل جناح المسلمين؟ قلت: وما جناح المسلمين يا أمير المؤمنين؟ قال: البريد، قلت: انقطع في أرض كذا وكذا. قال: فعلى أي شيء أتيتنا؟ قلت: على السخرة. قال: سخرت دواب النبط في سلطاني؟ فأمر بي فضربت أربعين سوطاً.
سهل بن صدقة الأموي
مولى عمر بن عبد العزيز حدث عن بعض خاصة عمر بن عبد العزيز أنه حين أفضت إليه الخلافة سمعوا في منزله بكاء عالياً، فسئل عن البكاء؟ فقيل إن عمر بن عبد العزيز قد خير جواريه فقال: لقد نزل بي أمر شغلني عنكن، فمن أحبت أن أعتقها أعتقتها، ومن أرادت أن أمسكها لم يكن مني إليها شيء، فبكين أياساً منه.
سهل بن عبد الله بن الفرخان
أبو طاهر الأصبهاني العابد سمع بدمشق حدث سهل بن عبد الله عن أبي أيوب سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن عمر بن الخطاب قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حلق القفا بالموسى إلا عند الحجامة.
كان سهل بن عبد الله مجاب الدعوة، وكان أهل بلده مفزعهم إلى دعائه عند النوائب والمحن، ودخل الحمام للتنظيف، فرأى بعض الناس عراة، فسأل ربه أن يكفيه أمر التنظيف ودخول الحمام، فسقطت شعرته فلم تنبت بعد ذلك. وكانت له شجرة جوز تحمل كل سنة(10/222)
كثيراَ، فسقط منها رجل فاستعظم ذلك، وقال اللهم أيبسها فيبست فلم تحمل بعد ذلك، ولقي من الجهال فيما نقل من مذهب الشافعي، فإنه أول من حمل علم الشافعي رحمه الله مختصر حرملة بن يحيى عن الشافعي، فاستعظم ذلك الجهال الذين كانوا على مذهب أهل العراق فصبر على أذيتهم، ولم يعارضهم بشيء محتسباً إلى أن مضى حميداً رشيداً رحمه الله، توفي سنة ست وسبعين ومئتين، وقيل: سنة ست وتسعين ومئتين.
سهل بن عبد العزيز بن مروان
أخو عمر بن عبد العزيز قال عمر بن مهاجر: هلك سهل بن عبد العزيز أخو عمر فأمرني أن أحفر له، وقال: إذا حفرت له فلتكن قدر قامة أو إلى المنكب، فإن أعلى الأرض أطهر من أسفلها، ففعلت.
قال مالك: قام عمر بن عبد العزيز إلى مصلاه، فذكر سهل بن عبد العزيز وعبد الملك ومزاحماً، فقال: اللهم أنك قد علمت ما كان من عونهم - أو معونتهم - إياي، فأخذهم فلم يزدني ذلك إلا حباً، ولا إلى ما عندك إلا شوقاً. ثم رجع إلى مجلسه.
توفي بالشام سنة تسع وتسعين.
سهل بن الحنظلية
وهو سهل بن عمروا بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت بن مالك بن الأوس، الأنصاري الأوسي والحنظلية أمه. صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعه تحت الشجرة. وسكن دمشق.
قال قيس بن بشر التغلبي: كان أبي جليساً لأبي الدرداء، فأخبرني قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له ابن الحنظلية، وكان رجلاً متوحداً ما يجالس الناس إنما هو في صلاة، فإذا انصرف فإنما هو في تسبيح وتكبير وتهليل حتى يأتي أهله، فمر بنا يوماً، ونحن عند أبي الدرداء(10/223)
فسلم فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك، قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية فقدمت، فأتى رجل منهم فجلس في المجلس الذي فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لرجل إلى جنبه: لو رأيتنا حيث لقينا العدو، فطعن فلان فلاناً، فقال: خذها وأنا الغلام الغفاري، كيف ترى؟ قال: ما أراه إلا قد أبطل أجره، فقال الآخر: ما أرى بذلك بأساً، فتنازعا في ذلك، حتى سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبحان الله، لا بأس أن يؤجر ويحمد، قال: فسر بذلك أبو الدرداء فجعل يقول: أنت سمعت هذه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فجعل يقول: نعم. قال: فمر بنا ذات يوماً آخر فسلم فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعك ولا تضرك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإسبال إزاره، فبلغ ذلك خريماً، فأخذ شفرة فقطع جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى نصف ساقيه، قال: ثم مر بنا يوماً آخر، فسلم فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا حالكم، وأصلحوا لباسكم، حتى تكونوا كالشامة في الناس، فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان لا يولد لابن الحنظلية، فكان يقول: لأن يكون لي سقط في الإسلام أحب إلي مما طلعت عليه الشمس.
وكان سهل بن الحنظلية فيمن بايع تحت الشجرة.
وحدث جابر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة وحدث سعد مولى حاطب قال: قلت يا رسول الله، حاطب من أهل النار؟ قال: لن يلج النار أحد شهد بدراً وبيعة الرضوان.
توفي سهل بن الحنظلية في صدر خلافة معاوية بن أبي سفيان.(10/224)
سهل بن محمد بن الحسن أبو الحسن
القايني الصوفي المعروف بالحساب سكن دمشق، وحدث بها وبالعراق وبغيرها.
حدث سهل بن محمد بن الحسن القايني الفقيه، عن أبي نصر محمد بن الحسين الصوفي، بسنده عن أنس بن مالك، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.
ومن شعره: من الطويل
إذا كنت في دار يهينك أهلها ... ولم تك محبوساً بها فتحول
وأيقن بأن الرزق يأتيك أينما ... تكون ولو في قفر بيت مقفل
ولاتك في شك من الرزق إن من ... تكفل بالأرزاق فهو بها ملي
ومن شعر سهل أيضاً: من الطويل
تمناه طرفي في الكرى فتجنبا ... وقبلت يوماً ظلّه فتغضّبا
وخبّر أني قد عبرت ببابه ... لأخلس منه نظرة فتحجّبا
ولو هبّت الريح الصّبا نحو أذنه ... بذكري لسبّ الريح أو لتعتّبا
وما زاده عندي قبيح فعاله ... ولا الصدّ والهجران إلا تحببّا
توفي سهل سنة سبع وأربعين وأربع مئة، وسمع يقول قبل موته بأيام: إن له سبعاً وسبعين سنة.
حدث بكتاب المدخل إلى الإكليل من تصنيف الحاكم أبي عبد الله بن البيع. وكان يذهب إلى التشيّع.(10/225)
سهل بن محمد بن شجاع
ويقال: ابن الحسين بن محمد أبو عثمان النيسابوري الواعظ قدم دمشق.
حدث عن الحاكم أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع بسنده عن أبي هريرة قال: لعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجل يلبس لبسة المرأة، المرأة تلبس لبس الرجل.
سهل بن هاشم بن بلال
أبو إبراهيم. ويقال أبو زكريا الخشني الواسطي ثم البيروتي.
سكن دمشق.
حدث سهل بن هاشم عن سفيان الثوري بسنده عن ثوبان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا راعه أمر قال: الله، الله ربي لا أشرك به شيئاً.
وقال غيره: لا شريك له.
سهل مولى عمر بن عبد العزيز
سمع عمر بن عبد العزيز، وكان يؤدب ولده. وقال الحافظ: لا أحسبه إلا سهل بن صدقه الذي ذكرناه متقدماً.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سهل مولاه: أما بعد، فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، وصرفهم إليك عن غيرك من موالي وذوي الخاصة بي، فخذهم بالخفاء فهو أمغر لأقدامهم، وترك الصبحة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك فإن كثرته تميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك(10/226)
بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعارف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت العشب إلى الماء، ولعمري لتوقي ذلك بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء يتتبع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يتثبت في قراءته، فإذا فرغ منه تناول فرسه ونبله وخرج إلى العرض حافياً فرمى سبعة أرشاق ثم انصرف إلى القائلة، فإن ابن مسعود كان يقول: يا بني، قيلوا فإن الشياطين لا تقيل. والسلام على من اتبع الهدى.
سهم بن خنبش أبو خنبش
ويقال أبو خنيس الأزدي وفد على عمر بن عبد العزيز، وحدث بقصة أهل الدار وقتل عثمان، وكان قد شهده.
حدث أن ركب الأشقياء من أهل مصر أتوه قبل ذلك، فأجازهم وأرضاهم فانصرفوا حتى إذا كانوا في بعض الطريق انصرفوا، فخرج عثمان فصلى إما صلاة الغداة وإما صلاة الظهر، فحصبه أهل المسجد وقذفوه بالحصا والنعال والخفاف، فانصرف إلى الدار ومعه أبو هريرة والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وعبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم والمغيرة بن الأخنس في أناس، فكانوا يطوفون على البيوت، فإذا هم بركب الأشقياء قد دخلوا المدينة وأقبل ناس حتى قعدوا على باب الدار ومعهم وعليهم السلاح فقال عثمان لغلام له يقال له وثاب: خذ مكتلاً من تمر والمكتل معه، فانطلق به إلى هؤلاء القوم، فإن أكلوا من طعامنا فلا بأس بهم، وإن أشفقت منهم فارجع، فانطلق بالمكتل فلما رأوه رشقوه بالنبل، فانصرف الغلام وفي منكبه سهم، فخرج عثمان ومن معه إليهم، فأدبروا وأدركوا رجلا يمشي القهقرى، قال: فأخذناه فأتينا به عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين، والله، ما نريد قتالك وكنا نريد معاتبتك، فأعتب قومك وأرضهم، فأقبل على أبي هريرة فقال: يا أبا هريرة، فلعلهم ذلك يريدون فخلوا سبيله. قال: فخلينا سبيله، وخرجت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقالت: الله الله يا عثمان في دماء المؤمنين فانصرف إلى الدار.(10/227)
فلما أصبحنا صلى بنا صلاة الغداة، فقال: أشيروا، فلم يتكلم من القوم أحد غير عبد الله بن الزبير فقال: أشير عليك بثلاث خصال، فاركب أيهن شئت.
إما أن نهلّ فتحرم عليهم دماؤنا وإلى ذلك ما قد أتانا مددنا من الشام، قال: وقد كان عثمان كتب إلى أهل الشام عامة وإلى أهل دمشق خاصة، أني في قوم قد طال فيهم عمري واستعجلوا القدر، وقد خيروني بين أن يحملوني على شارف إلى جبل الدخان وبين أن أنزع لهم رداء الله الذي كساني، وبين أن أفتديهم، ومن كان على السلطان يخطئ ويصيب وإن باعونا، ولا أمير عليكم دوني.
وإما نهرب على نجائب سراع لا يدركنا أحد حتى نلحق بمأمننا من الشام.
وإما أن نخرج بأسيافنا ومن شايعنا فنقاتل، فنحن على الحق وهم على الباطل.
فقال عثمان: أما قولك أن نهل بعمرة تحرم عليهم دماؤنا فوالله لو لم يكونوا يرونها اليوم حراماً لا يحرمونها إن نحن أهللنا، وأما قولك أن نهرب إلى الشام فوالله أني لأستحي أن آتي أهل الشام هارباً م قومي وأهل بلدي، وأما قولك نخرج بأسيافنا ومن شايعنا فنقاتل فنحن على الحق وهم على الباطل فوالله أني لأرجو أن ألقى الله عز وجل ولم أهرق محجما من دماء المؤمنين.
قال: فمكثنا أياماً، ثم إنا صلينا معه صلاة الصبح، فلما فرغ أقبل الناس علينا بحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أن أبا بكر وعمر أتياني الليلة فقالا لي: صم يا عثمان فإنك مفطر عندنا، وأنا أشهدكم أني قد أصبحت صائماً وأعزم على من كان يؤمن بالله واليوم الآخر إلا خرج من الدار سالماً مسلماً منه فقلنا: يا أمير المؤمنين، إن خرجنا لم نأمنهم على أنفسنا، فأذن لنا فلنكن في بيت من الدار يكون لنا فيه جماعة ومنعة، فأذن لهم، فدخلوا البيت وأمر بباب الدار ففتح فدعا بالمصحف وأكب عليه وعنده امرأتاه بنت الفرافصة الكلبية وابنة شيبة، فكان أول من دخل عليه محمد بن أبي بكر فمشى إليه حتى أخذ بلحيته فقال:(10/228)
دعها يا ابن أخي، فوالله إن كان أبوك ليلهف لها بأدنى من هذا، فاستحيا فخرج، فقال: قد أشعرته لكم، وأخذ عثمان ما امتعط من لحيته، فأعطاه إحدى امرأتيه، ثم دخل رومان بن سودان رجل أزرق قصير مخدد، عداده من مراد، ومعه جرز من حديد، فاستقبله فقال: على أي ملة أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كنت من المشركين، فقال: كذبت وضربه بالجزر على صدغه الأيسر فقتله فخر، وأدخلته بنت الفرافصة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة ضليعة، وألقت بنت شيبة نفسها على ما بقي من جسده، فدخل رجل من أهل مصر بالسيف مصلتاً، فقال: والله لأقطعن أنفه، فعالج المرأة فغلبته، فكشف عنها درعها من خلفه حتى نظرت إلى متنها، فلما لم يصل إليه أدخل السيف بين قرطها ومنكبها، فقبضت على السيف فقطع أناملها، فقالت: يا رباح، وهو غلام أسود لعثمان أعن على هذا، فمشى إليه الغلام، فضربه ضربة بالسيف فقتلهن ثم أن الناس دخلوا الدار فلما رأوا الرجل قد قتل، وأن المرأتين لا يتركانه، ندم ناس من قريش. واستحيوا، فأخرجوا الناس وثار أهل البيت لهم، فاقتتلوا على باب الدار، فضرب مروان بن الحكم بالسيف على العاتق، فخر فضرب رجل من أهل مصر المغيرة بن الأخنس، فقال الذي قتله: تعس قاتل المغيرة، فألقى سلاحه ثم أدبر هارباً يلتمس التوبة، وأمسينا فقلنا: إن تركتم صاحبكم حتى يصبح مثلوا به، فانطلقوا إلى بقيع الغرقد فامصا له من جوف الليل، ثم حملناه فغشينا سواد من خلفنا هبناهم حتى كدنا بأن نفترق عنه، فنادى منهم: ألا روع عليكم. اثبتوا، فإنما جئنا لنشهده معكم، وكان أبو خنيس يقول: هم ملائكة الله، فدفناه، ثم هربنا من ليلتنا إلى الشام، فلقينا أهل الشام بوادي القرى عليهم حبيب بن مسلمة.(10/229)
سهيل بن عمرو بن عبد شمس
ابن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب أبو يزيد العامري القرشي الأعلم أحد خطباء قريش. له صحبة. أسلم يوم فتح مكة، وخرج إلى الشام مجاهداً في جماعة من أهل بيته، وهلك بالشام وقيل: إنه قتل باليرموك وشهد مع المشركين بدراً، وكان يقال له: ذو الأنياب.
حدث أبو سعد أبي فضالة الأنصاري، وكانت له صحبة قال:
اصطحبت أنا وسهيل بن عمرو إلى الشام ليالي أغزانا أبو بكر الصديق، فسمعت سهيلاً يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: مقام أحدكم في سبيل الله ساعة خير من عمله عمره في أهله. قال سهيل: وأنا أرابط حتى أموت ولا أرجع إلى مكة أبداً، فلم يزل بالشام حتى مات بها في طاعون سنة ثمان عشرة في خلافة عمر بن الخطاب.
وعن سهيل بن عمرو قال: لقد رأيت يوم بدر رجالاً بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون.
وكان سهيل أعلم الشفة، وكان من أشراف قريش، أسره يوم بدر مالك بن الدخشم فقال في ذلك مالك: من المتقارب
أسرت سهيلاَ فلن أبتغي ... أسيراً به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى ... سهيلاً فتاها إذا تصطلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى ... وأكرهت سيفي على ذي العلم(10/230)
ذو الشفر لقب سيفه فقدم مكرز بن حفص بن الآخيف العامري ثم المعيصي فقاطعهم على فدائه.
وفي رواية: فانتهى إلى رضاهم في سهيل أرفع الفداء: أربعة آلاف وقال لهم: اجعلوا أرجلي في القيد مكان رجليه حتى نبعث إليكم بالفداء، ففعلوا ذلك به، وبعث سهيل بالمال مكانه من مكة، وفي ذلك يقول مكرز بن حفص: من الطويل
فديت بأذواد كرام سبا فتى ... ينال الصميم غرمها لا المواليا
وقلت سهيل خيرنا فاذهبوا به ... لأبنائنا حتى يديروا الأمانيا
ولما استنفر أبو سفيان بن حرب قريشاً لعيرها قام سهيل بن عمرو قال: يال غالب، أتاركون أنتم محمد والصباة من أهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم؟! من أراد مالاً فهذا مال، ومن أراد قوة فهذه قوة، فقال في ذلك أمية بن أبي الصلت: من الكامل
أأبا يزيد رأيت سيبك واسعاً ... وسجال كفك تستهل وتمطر
بسطت يداك بفضل عرفك والذي ... يعطي يسارع في العلاء فيظفر
فوصلت قومك واتخذت صنيعة ... فيهم تعد وذو الصنيعة يشكر
ونمى ببيتك في المكارم والعلا ... يابن الكرام فروع مجد تزخر
وجحاجح بيض الوجوه أعزة ... غر كأنهم نجوم تزهر
إن التكرم والندى عامر ... أخواك ما سلكت لحج عزور
عزور: رمل بالجحفة.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسهيل أسير: دعني(10/231)
أنزع حتى يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، وكان سهيل أعلم مشقوق الشفة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لعله يقوم مقاماً نحمده، فأسلم سهيل في الفتح، وقام بعد ذلك بمكة خطيباً حين توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وماج أهل مكة، وكادوا يرتدون، فقام فيهم سهيل بمثل خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة، وكأنه كان يسمعها، فسكن الناس، وقبلوا منه، وأمير مكة يومئذ عتاب بن أسيد.
وسهيل بن عمر ((والذي جاء في الصلح يوم الحديبية، فقال سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه: قد سهل أمركم، فكاتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب القضية هو. وكان سهيل بن عمرو بعد أن أسلم كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج سهيل بجماعة أهله إلا ابنته هند إلى الشام مجاهداً حتى ماتوا كلهم هنالك.
وعن قتادة في قوله تبارك وتعالى: " فقاتلوا أئمة الكفر " قال: أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، عتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله وهموا بإخراج الرسول، وليس كما يتناول أهل البدع والشبهات الفري على الله وعلى كتابهوعن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: اللهم ألعن فلاناً، اللهم، العن الحارث بن هشام اللهم، ألعن سهيل بن عمرو، اللهم، ألعن صفوان بن أمية. قال: فنزلت هذه الآية: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " قال: فتيب عليهم كلهم.
حدث عامر ين سعد عن أبيه قال: رميت يوم بدر سهيل بن عمرو فقطعت نساه فأتبعت أثر الدم حتى وجدته قد أخذه مالك بن الدخشم، وهو آخذ بناصية، فقلت: أسيري رميته، فقال مالك: أسيري أخذته(10/232)
فأتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه منهما جميعاً، فأفلت سهيل بالروحاء من مالك بن الدخشم، فصاح في الناس، فخرج في طلبه فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من وجده فليقتله، فوجده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه فلم يقتله، وقيل: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجده بين سمرات، فأمر به فربطتداه إلى عنقه ثم قربه إلى راحلته فلم يركب خطوة حتى قدم المدينة، فلقي أسامة بن زيد وهو على راحلته القصواء، فأجلسه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يديه، وسهيل مجنوب، يداه إلى عنقه. فلما نظر أسامة إلى سهيل قال: يا رسول الله، أبو زيد؟! قال: نعم، هذا الذي كان يطعم بمكة الخبز.
ولما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وقدم بالأسرى وسودة بنت زمعة عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، قالت سودة: فأتينا فقيل لنا: هؤلاء الأسرى قد أتي بهم، فخرجت إلى بيتي ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وإذا أبو يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت: أبا يزيد، أعطيتم بأيديكم ألا متم كراماً، فوالله ما راعني إلا قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيا سودة، أعلى الله وعلى رسوله؟ قلت: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق إن ملكت حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت.
قال الحسن بن محمد.
قال عمر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، دعني أنزع ثنية سهيل بن عمرو فلا يقوم خطيباً في قومه أبداً، فقال: دعها فلعلها أن تسرك يوماً. قال: ولما مات سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفر منه أهل مكة، فقام سهيل بن عمرو عند الكعبة وقال: من كان محمد إلهه فإن محمد قد مات، والله حي لا يموت.
ولما فتح رسول الله مكة، دخل البيت، فصلى بين الساريتين، ثم وضع يديه على عضادتي الباب، فقال: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، وصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ماذا تقولون؟ وما تظنون؟ فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً، ونظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت. قال: فإني أقول كما قال أخي يوسف: "(10/233)
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " ألا إن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي إلا سدانة البيت وسقاية الحاج " قال سهيل بن عمرو: لما دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة وظهر انقحمت بيتي وأغلقت علي بابي، وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن أطلب لي جواراً من محمد، فإني لا آمن أن أقتل، قال: وجعلت أتذكر أثري عند محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبه مع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت فيها، فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أبي تؤمنه؟ فقال: نعم، هو آمن بأمان الله، فليظهر، فليخرج، فلعمري إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بنافع، فخرج عبد الله إلى أبيه فخبره بمقالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال سهيل: كان والله برّاَ صغيراً وكبيراً، فكان سهيل يقبل ويدبر، وخرج إلى حنين مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على شركة حتى أسلم بالجعرانة.
زاد في رواية: وأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ من غنائم حنين مئة من الإبل.
قال سعيد بن مسلم:
لم يكن أحد من كبراء قريش الذي تأخر إسلامهم، فأسلموا يوم فتح مكة، أكثر صلاة ولا صوماً ولا صدقة، ولا أقبل على ما يعينه من أمر الآخرة من سهيل بن عمرو، حتى إن كان لقد شحب وتغير لونه، وكان كثير البكاء رقيقاً عند قراءة القرآن. لقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل، يقرئه القرآن، وهو يبكي حتى خرج معاذ من مكة، حتى قال له ضرار بن الخطاب: يا أبا يزيد، تختلف، إلى هذا الخزري يقرئك القرآن! ألا يكون(10/234)
يختلف إلى رجل من قومك من قريش؟ فقال: يا ضرار، هذا الذي صنع بنا ما صنع حتى سبقنا كل السبق، لعمري أختلف إليه، ووضع الإسلام أمر الجاهلية، ورفع الله أقواماً بالإسلام كانوا في الجاهلية لا يذكرون، فليتنا كنا مع أولئك فتقدمنا، وأني لأذكر ما قسم الله في تقدم إسلام أهل بيتي الرجال والنساء، مولاي عمير بن عوف فأسر به وأحمد الله عليه، وأرجو أن يكون الله نفعني بدعائهم، ألا أكون مت على ما مات عليه نظرائي، وقتلوا. قد شهدت مواطن كلها أنا فيها معاند للحق: يوم بدر، ويوم أحد، والخندق وأنا وليت أمر الكتاب يوم الحديبية، يا ضرار، أني لأذكر مراجعتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ، وما كنت ألظ به من الباطل، فأستحي من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا بمكة وهو بالمدينة ولكن ما كان فينا من الشرك أعظم من ذلك، ولقد رأيتني يوم بدر وأنا في حيز المشركين، وأنظر إلى ابني عبد الله ومولاي عمير بن عوف قد فرا مني فصارا في حيز محمد، وما عمي عليّ يومئذ من الحق، لما أنا فيه من الجهالة وما أرادهما الله به من الخير، ثم قتل ابني عبد الله بن سهيل يوم اليمامة شهيداً عزاني به أبو بكر وقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الشهيد ليشفع لسبعين من أهل بيته، فأنا أرجو أن يكون أول من يشفع له.
وكان أبو بكر الصديق يقول: ما كان فتح أعظم في الإسلام من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه. والعباد يعجلون، والله لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد، لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً عند المنحر يقرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هدية ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، ونظر إلى سهيل يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقرّ يوم الحديبية بأن يكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحمدت الله الذي هداه للإسلام، وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة.
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سهيل بن عمرو يستهديه من ماء زمزم، فبعث إليه براويتين وجعل كرا غوطيا.(10/235)
وعن أبي عمرو بن عدي بن الحمراء الخزاعي قال: نظرت إلى سهيل بن عمرو يوم جاء نعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى مكة، وقد تقلد السيف ثم قام خطيباً بخطبه أبي بكر التي خطبت بالمدينة كأنه كان يسمعها، فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقد نعى الله نبيكم إليكم، وهو بين أظهركم، ونعاكم إلى أنفسكم فهو الموت حتى لا يبقى أحد، ألم تعلموا أن الله قال: " إنك ميت وإنهم ميتون " وقال: " وما محمد إلا برسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " وقال: " كل نفس ذائقة الموت " ثم تلا: " كل شيء هالك إلا وجهه " فاتقوا الله واعتصموا بدينكم، وتوكلوا على ربكم، فإن دين الله قائم وكلمة الله تامة، وإن الله ناصر من نصره، ومعز دينه، وقد جمعكم الله على خيركم. فلما بلغ عمر كلام سهيل بمكة قال: أشهد أن محمداً رسول الله، وأن ما جاء به حق، هذه هو المقام الذي عنى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال: لعله يقوم مقاماً لا تكرهه.
سئل سعيد بن المسيب عن خطباء قريش في الجاهلية فقال: الأسود بن المطلب بن أسد، وسهيل ين عمرو، وسئل عن خطبائهم في الإسلام، فقال: معاوية وابنه، وسعيد وابنه، وعبد الله بن الزبير.
قال سفيان الثوري:
حضر باب عمر الخطاب جماعة من مشيخة الفتح وغيرهم، فيهم سهيل بن عمرو عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فخرج الإذن أين صهيب؟ أين عمار؟ أين سلمان؟ ليدخلوا. فتمعرت وجوه القوم، فقال سهيل: لم تمعر وجوهكم؟ دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا، فلئن حسدتموهم على باب عمر فما أعد الله لهم في الجنة أكثر من هذا.(10/236)
وفي حديث بمعناه: والله، لا أدع موقفاً وقفته مع المشركين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وقفت على المشركين مثله، ولا أنفقت نفقة مع المشركين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفقت على المشركين مثله.
قال ابن الأعرابي: استشهد باليرموك عكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام، وجماعة من بني المغيرة، فأتوا بماء، وهم صرعى، فتدافعوه حتى ماتوا ولم يذوقوه. قال: أتي عكرمة بالماء فنظر إلى سهيل بن عمرو ينظر إليه، فقال: ابدؤوا بذا، فنظر سهيل إلى الحارث بن هشام ينظر إليه فقال: ابدؤوا بهذا، فماتوا كلهم قبل أن يشربوا، فمر بهم خالد بن الوليد فقال: بنفسي أنتم.
سهيل بن ميسرة، أبو سفيان الفلسطيني الرملي.
قدم دمشق.
قال سهيل: سمعت عطاء الخراساني يقول: إذا صلى الرجل وصاحبه تقدمه بمنكبه.
وحدث عنه قال: ما أحدث رجل وضوءاً إلا أحدث الله عز وجل له مغفرة، وإذا أم الرجل صاحبه فليتقدمه بمنكبه، وليكن الإمام منهما عن يسار صاحبه.
وقال سهيل: سمعت عطاء الخراساني يقول: أهدي إلى أهل بيت رأس شاة، فقالوا: إن جيراننا هؤلاء أحوج إليه منا، فبعثوا به إليهم فلم يزالوا يتهادونه حتى رجع إلى الأول.
سلامة بن بحر أبو الفرج القاضي
أحد قضاة سيف الدولة. له شعر رقيق منه قوله: من السريع
من سره العيد فما سرني ... بل زاد في همي وأشجاني
لأنه ذكرني ما مضى ... من عهد أحبابي وإخواني(10/237)
سلامة بن بشر بن بديل
أبو كلثم العذري الدمشقي حدث عن يزيد بن السمط عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان.
وحدث سلامة بن بشر عن صدقه بن عبد الله بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو أن للإنسان واديين مال لابتغى وادياً ثالثاً؛ ولا يملأ نفس الإنسان إلا التراب، ويتوب الله على من تاب.
سلامة بن عبد الله بن نعيم
قال سلامة: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج إلينا يوم جمعة، فخطب على المنبر، وإنما عليه ثوب رطب، كأنما غسل تلك الساعة، قال: فظننا ما له ثوب غيره.
سلامة بن علي الفارقي
سمع بدمشق حدث سلامة بن علي الفارقي عن عبد الوهاب بن الحسن بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الناس كإبل مئة، لا تكاد تجد فيها راحلة.
سلامة بن محمد بن ناهض
ويقال سلام أبو بكر الترياقي المقدسي سمع بدمشق وغيرها.
حدث سلامة بن ناهض عن هشام بن عمار بسنده عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: دخل عوف بن مالك المسجد متوكئاً على ذي الكلاع، وكعب يقص على الناس، فقال عوف لذي الكلاع: ألا تنه ابن أخيك هذا عما يفعل؟ فإني سمعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(10/238)
يقول: لا يقص على الناس إلا أمير أو مأمور أو محتال، فقال له ذو الكلاع ما قال عوف، فسأل كعب عوفاً فقال: أنت سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول؟ قال: نعم، فقال كعب: ما أنا بأمير ولا مأمور ولا محتال.
سلامة بن محمد أبو الخير البغدادي
قدم دمشق حدث عن أبي حفص عمر بن أحمد بن عثمان بسنده عن عبد الله بن سعيد قال: عرضت أحرف المعجم على الرحمن سبحانه وتعالى، وهي تسعة وعشرون حرفاً، فتواضع الألف بين الحروف، فشكر الله تعالى تواضعه، فجعله قائماً، وجعله مفتاح كل اسم من أسمائه.
سلامة بن محمود بن محمد
أبو الفرج الموصلي حدث عن عبد الله بن ثابت المحاربي بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى رجلاً يغتسل في صحن الدار فقال: إن الله حيي حليم ستير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر، ولو بجذم حائط.
سلام بن سلمة ويقال ابن سليم
كان يقرئ أولاد هشام بن عبد الملك.
حدث عن عكرمة عن ابن عباس قال:
قحط كل الناس على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج من المدينة إلى بقيع الغرقد معتماً بعمامة سوداء قد أرخى طرفيها بي يديه، والآخر بين منكبيه قوساً عربية، فاستقبل القبلة فكبر؛ وصلى بأصحابه ركعتين، جهر بالقراءة فيها، قرأ في الأولى: " إذا الشمس كورت " والثانية " والضحى " ثم قلب رداءه لتنقلب السنة، ثم حمد الله عز وجل،(10/239)
وأثنى عليه، ثم رفع يديه فقال: اللهم ضاحت بلادنا وأغبرت أرضنا وهامت دوابنا، اللهم منزل البركات من أماكنها، وناشر الرحمة من معادنها بالغيث المغيث، أنت المستفغر للأنام، فنستغفرك للجمات من ذنوبنا، ونتوب إليك من عظيم خطايانا. اللهم أرسل السماء علينا مدراراً واكفاً مغزوزراً من تحت عرشك، من حيث ينفعنا غيثاً مغيثاً، دارعاً رائعاً ممرعاً طبقاً غدقاً خصباً، تسرع لنا به النبات، وتكثر لنا به البركات، وتقبل به الخيرات، اللهم، إنك قلت في كتابك " وجعلنا من الماء كل شيء حي " اللهم، فلا حياة لشيء خلق من الماء إلا بالماء، اللهم وقد قنط الناس، أو م نقد قنط منهم وساء ظنهم وهامت بهائمهم وعجت عجيج الثكلى على أولادها، إذ حبست عنا قطر السماء، فدق لذلك عظمها، وذهب لحمها، وذاب شحمها، اللهم. ارحم أنين الأنة وحنين الحانة ومن لا يحمل رزقه غيرك، اللهم، ارحم من البهائم الحائمة، والأنعام السائمة، والأطفال الصائمة، اللهم، ارحم المشايخ الركع، ولأطفال الرضع، والبهائم الرتع، اللهم، زدنا قوة إلى قوتنا، ولا تردّنا محرومين، إنك سميع بالدعاء، رحمتك يا أرحم الراحمين فما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى جاءت السماء حتى أهمّ كلّ رجل منهم كيف ينصرف إلى منزله، فعاشت البهائم وأخصبت الأرض، وعاش الناس، كل ذلك ببركة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سلام بن سليمان بن سوار أبو العباس الأعمى حدث عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن مسعود المسعودي بسنده عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل به.(10/240)
وحدث عن مسلمة بن الصلت بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألو شهر رمضان رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
سلام بن أبي سلام منظور الحبشي
والد معاوية وزيد ابني سلام حدث عن أبي أمامة الباهلي أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " ما الإيمان؟ قال: إذا سرّتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت مؤمن.
وحدث زيد بن سلام عن أبيه أو عن جده أن حذيفة بن اليمان لما أن أحتضر أتاه أناس من الأنصار، فقالوا له: يا حذيفة، لا نراك إلا مقبوضاً، فقال لهم: غب مسرور، وحبيب جاء على فاقة، لا أفلح ندم. اللهم، أني لم أشارك غادراً في غدرته، فأعوذ بك اليوم من صاحب السوء - وفي نسخة من صباح السوء - وكان الناس يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر، فقلت له: يا رسول الله، إنا كنا في شرّ فجاءنا الله بالخير فهل بعد ذلك الخير شر؟ فقال: نعم، قلت: كيف يكون؟ قال: سيكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولايستنون بسنتي، وسيقوم رجال قلوبهم قلوب شياطين في جثمان إنسان، قال: قلت: كيف أصنع إن أدركني ذلك؟ قال: اسمع الأمير الأعظم وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك.(10/241)
سيابة بن عاصم بن شيبان
ابن خزاعي بن محارب بن مرة بن هلال، السلمي له وفادة على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسكن الشام.
حدث سيابة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم حنين.
أنا ابن العواتك.
زاد في رواية من سليم حدث الشعبي
أنه أتي به للحجاج موثقاً، فلما انتهي به إلى باب القصر، قال: لقيني يزيد بن أبي مسلم، فقال: إنا لله يا شعبي، لما بين دفتيك من العلم، وليس بيوم شفاعة بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك، فبالحري أن تنجو، ثم لقيني محمد بن الحجاج، فقال لي مثل مقالة يزيد. فلما دخلت على الحجاج قال: وأنت يا شعبي ممن خرج علينا وكثر؟! فقلت: أصلح الله الأمير، أحزن بنا المنزل، وأجدب الجناب، وضاق المسلك، واكتحلنا السهر، واستحلسنا الخوف، ووقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، قال: صدق والله، ما برّوا بخروجهم علينا، ولا قووا علينا حيث فجروا، أطلقوا عنه. ثم احتاج إلي في فريضة فأتيته، فقال: ما تقول في أخت وأم وجد؟ قلت: قد أختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عبد الله بن عباس، وزيد، وعثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، فقال: ما قال فيها ابن عباس إن كان لمفتيا؟ قلت: جعل الجد أباً، ولم يعط الأخت شيئاً، وأعطى الأم الثلث، قال: فما قال فيها زيد؟ قلت:(10/242)
جعلها من تسعة: أعطى الأم ثلاثة، وأعطى الجد أربعة، وأعطى الأخت سهمين، قال: فما قال: فيها أمير المؤمنين، يعني عثمان؟ قلت: جعلها ثلاثاً، قال: فما قال فيها ابن مسعود؟ قلت جعلها من ستة: أعطى الأخت ثلاثاً، والجد سهمين، والأم سهمين، قال: فما قال فيها أبو تراب؟ قلت جعلها ستة أعطى الأخت ثلاثة، وأعطى الأم سهمين، وأعطى الجد سهماً، إذ جاء الحاجب، وقال: إن بالباب رسلاً قال: ائذن لهم، قال: فدخلوا عمائمهم على أوساطهم، وسيوفهم على عواتقهم، وكتبهم بأيمانهم، ودخل رجل من بني سليم يقال له سيابة بن عاصم، فقال: من أين قال من الشام، قال: كيف أمير المؤمنين، كيف جسمه؟ فأخبره. فقال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، أصابني فيما بيني وبين أمير المؤمنين ثلاث سحائب، قال: فانعت لي كيف كان وقع القطر؟ وكيف كان أثره وتباشيره؟ قال: أصابتني سحابة بحوران، فوقع قطر صغار، وقطر كبار، فكان الكبار لحمة الصغار، ووقع بسيط متدارك وهو السح الذي سمعت به، فواد سائل، وواد بارح، وأرض مقبلة وأرض مدبرة، وأصابتني سحابة بسوى القريتين ففاءت الأرض بعد الري وامتلأ الري وامتلأ الإخاذ وأفعمت الأودية، وجئتك في مثل وجار - أو مجر - الضبع.
ثم قال: ائذن. فدخل رجل من بني أسد فقال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: لا، كثر الإعصار، واغبرت البلاد وأكل ما اشرف من الجنبة، فاستقينا انه عام سنة.
قال: بئس المخبر أنت، قال: أخبرتك بالذي كان.(10/243)
قال: ائذن، فدخل رجل من أهل اليمامة، فقال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم، سمعت الرواد يدعون إلى ريادتها، وسمعت قائلاً يقول: هلموا أظعنكم إلى محلة تطفأ فيها النيران، وتشكى فيها النساء، ويتنافس فيها المعزى.
قال الشعبي: فلم يدري الحجاج ما قال. قال: ويحك إنما تحدث أهل الشام فافهمهم، قال: أصلح الله الأمير أخصبت الناس فكان التمر والسمن والزبد واللبن فلا توقد نار يختبز بها. وأما تشكي النساء فإن المرأة تظل تربق بهمها، وتمخض لبنها، فتبيت ولها أمين من عضيدها كأنهما ليس منها. وأما تنافس المعزى فإنها ترعى من أنواع الشجر وألوان الثمر ونور النبات ما يشبع بطونها ولا يشبع عيونها فتبيت وقد امتلأت أكراشها، لها من الكظة جرة، فتبقى الجرة حتى تستنزل بها الدرة.
قال: ائذن فدخل رجل من الموالي كان من أشد الناس في ذلك الزمان، فقال: هل كان وراءك من غيث؟ قال: نعم. ولكن لا أحسن أن أقول كما قال هؤلاء. قال: قل كما تحسن، قال: أصابتني سحابة بحلوان، فلم أزل أطأ في إثرها حتى دخلت على الأمير.
قال: لأن كنت أقصرهم في المطر خطبة إنك لأطولهم بالسيف خطوة.
العرب تقول: لا أفعل ذلك ما اختلفت الجرة والدرة، واختلافها أن الجرة تصعد والدرة تسفل.
سيار مولى معاوية
وقيل مولى خالد بن يزيد بن معاوية دمشقي. سكن بالبصرة.
حدث سيار عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فضلني الله على الأنبياء "، أو قال: " على أمتي " أو قال: " على الأمم بأربع: أرسلت إلى الناس كافة، وجعلت لي الأرض كلها ولأمتي مسجداً وطهوراً، فأينما أدركت(10/244)
رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجد، وعنده طهور، ونصرت بالرعب يسير بين يدي مسيرة شهر، يقذف في قلوب أعدائي، وأحل لنا الغنائم ".
وحدث سيار عن عايذ الله قال: الذي يتبع الأحاديث ليحدث بها لا يجد ريح الجنة.
سيار خادم عمر بن عبد العزيز
قال الحافظ: إن كان هذا هو الذي تقدم مولى آل معاوية، خدم عمر بن عبد العزيز فهو هو، وإن كان غيره. فسيار بأسماء الموالي أشبه.
حدث سيار خادم عمر بن عبد العزيز قال: دخل على عمر فقال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره، ورأيت عثمان، وهو يقول: خصمت علي ورب الكعبة، وعلي يقول: غفر لي ورب الكعبة.
سيف بن أبي سيف
حدث عن سعيد بن عبد العزيز عن ابنٍ لعبد الله بن حازم السلمي عن كعب إن العبد لا يبكي حتى يبعث الله إليه ملكاً فيمسح كبده بجناحه، فإذا مسح كبده بجناحه بكى.
سيماه ويقال سيمويه البلقاوي
كان نصرانياً شماساً فأسلم، ولقي سيدنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحسن إسلامه، وعاش عشرين ومئة سنة.
حدث سيمويه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعت من فيه إلى أذني، وحملنا القمح من البلقاء إلى المدينة، فبعنا، وأردنا أن نشتري تمراً من تمر المدينة، فمنعونا، فأتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرنا فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للذين منعونا: " أما يكفيكم رخص هذا الطعام فيكم بغلاء هذا التمر الذي يحملونه، ذروهم يحملونه ".(10/245)
أسماء النساء على حرف السين المهملة
سارة بنت هازان بن ناحور
ويقال سفوهن بن ناحور زوج سيدنا إبراهيم الجليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام. روي أنها كانت معه بعين الجر بدمشق.
ولد لإبراهيم إسماعيل، وهو أكبر ولده، وأمه هاجر قبطيه، وإسحاق وكان ضرير البصر، وأمه سارة بن شوئل بن ناحور بن شاروغ بن أرغوا بن فالج بن عابر بن شالخ بن أرفشخذ بن سام بن نوح، وماتت سارة فتزوج إبراهيم امرأة من الكنعانيين يقال لها قنطورا.
قال الضحاك: كان اسم سار يسارة. فلما قال لها جبريل: يا سارة، قالت سارة: إن اسمي يسارة فكيف تسميني سارة؟ قال الضحاك: يسارة العاقر من النساء التي لا تلد، وسارة الطالق الرحم التي تلد وتحمل الولد، فقال لها جبريل: كنت يسارة ولا تحملين، فصرت سارة تحملين الولد فترضعينه، فقالت سارة: يا جبريل. نقصت اسمي، قال جبريل: إن الله قد وعدك بأن يجعل هذا الحرف في اسم ولد من ولدك في آخر الزمان، وذلك أن اسمه عبد الله حي فسماه يحيى.
خرج إبراهيم وقد جاوز كوثى ربى، وتزوج سارة بنت قوهن بن ناحور بعدما(10/246)
أهلك الله الملك وأمره الله بالإجلاء عن بلاده، وأمره أن يلحق بالأرض المقدسة، وكان يوم تزوج وخرج من بلاد قومه إلى الأرض المقدسة ابن ثمانين سنة، ثم خرج وتزوج سارة وخرج معه هازان أخوه، ولوط بن هازان وهو ابن أخيه، فذلك قوله عز وجل: " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي "، فمضى مع إبراهيم وسارة فتزوجها إبراهيم على ألا يراها غيره، وكانت سارة من أحسن نساء العالمين.
قال ابن عباس: قسم الله الحسن عشرة أجزاء فجعل منها ثلاثة أجزاء في حواء، وثلاثة أجزاء في سارة وثلاثة أجزاء في يوسف وجزءاً في سائر الخلق. فكانت سارة من أحسن نساء أهل الأرض، وكانت من أشد نسائهم غيرة.
وعن ابن السائب قال: خرج إبراهيم من حوزان يؤم أرض بني كنعان حتى عبر الفرات إلى الشام فانحرف لسانه عن السريانية إلى العبرانية، وإنما سميت العبرانية لأنه تكلم بها إن عبر الفرات، ومضى حتى أتى أنتملك ملك بني كنعان بالشام وعظيمهم الذي يدين له عظماؤهم يومئذ، وكان ينزل عين الجر من أرض البقاع من جند دمشق، وكانت الشام يومئذ منسوبة إلى فلسطين فقال له أنتملك: إنه لا طاقة لي بمعاندة نمروذ، وقد جاورتنا مخالفاً له، فقال إبراهيم إن إلهي يمنعك منه، فأجار إبراهيم، وسأله أن يزوجه سارة، فقال: إنها زوجتي فلم يعرض لها، وقال: انزل حيث شئت من أرضنا، وبعث إلى عظماء النواحي يأمرهم بحفظه وحسن مجاورته فنزل اللجون " قرية من قرى الأردن - ثم تحول منها إلى أرض فلسطين فنزل ناحية منها يقال لها السبع من أرض بيت جبريل ثم تحول إلى قرية يقال لها حبرى في ما بين جبريل وبين البيت المقدس فأقام بها.(10/247)
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: قوله حين دعي على آلهتهم " إني سقيم " وقوله " فعله كبيرهم هذا " وقوله لسارة " إنها أختي ".
قال: ودخل إبراهيم قرية فيها ملك من الملوك أو جبار من الجبابرة، فقيل: دخل إبراهيم الليلة بامرأة من أحسن الناس، قال: فأرسل إليه الملك أو الجبار: من هذه معك؟ قال: أختي، قال: أرسل بها، فأرسل بها إليه، وقال لها: لا تكذبي قولي فإني قد أخبرته أنك أختي وليس على الأرض مؤمن غيري وغيرك، فلما دخلت إليه قام إليها. قال: فأقبلت توضأ وتصلي وتقول: اللهم، إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، قال: فغط حتى ركد برجله، فقالت: اللهم، إنه إن يمت يقل هي قتلته، قال: فأرسل، ثم قام إليها. قال: فقامت توضأ وتصلي وتقول: اللهم، إن كنت تعلم أني آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط علي الكافر، قال: فغط حتى ركض برجله، فقالت اللهم، إنه إن يمت يقل هي قتلتني، قال: فأرسل، فقال في الثالثة أو الرابعة: ما أرسلتم إلي إلا شيطاناً، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر قال: فرجعت فقالت لإبراهيم أشعرت أن الله رد كيد الفاجر وأخدم وليدة.
وفي حديث آخر: أنها لما دخلت عليه وثب إليها فحبس عنها، فقال لها: ادعي إلهك الذي تعبدين أن يطلقني ولا أعود فيما تكرهين، فدعت الله فأطلقه، ففعل ذلك ثلاثاً ثم قال للذي جاء بها، أخرجها عني، فإنك لم تأت بإنسية، إنما أتيتني بشيطانه، فأخدمها هاجر، فرجعت إلى إبراهيم فاستوهبها منها فوهبتها له، فقال: فهي أمكم يا بني ماء السماء، يعني العرب.
قال أبو الحسن المفسّر: لما أخذ صاحب مصر سارة من إبراهيم الخليل ذهب ليتناولها فأيبس الله يده في عنقه فقال لها: يا هذه، ما أطوع ربك لك حين دعوته علي، فقالت له: وأنت إن أطعته أطاعك.(10/248)
وقيل إن الحُسن قسم نصفين: نصف ليوسف وسارة، ونصف بين الناس.
وعن أبي هريرة: أن إبراهيم لم يولد له، فكانت سارة لا تلد. فلما رأت سارة ذلك أحبت أن تعرض هاجر على إبراهيم فكان يمنعها غيرتها.
كانت هاجر ذات هيئة، فوهبتها سارة لإبراهيم، فقالت: إني أراها وضيئة فخذها لعل الله أن يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد مُنعت الولد، فلم تلد لإبراهيم حتى أيست. وكان إبراهيم قد دعى ربه " ربي هب لي من الصالحين " فأخرت الدعوة حتى كبر إبراهيم، وعقمت سارة. ثم إن إبراهيم وقع على هاجر فولدت له إسماعيل.
فلما ولد إسماعيل اشتد حزنها على ما فاتها من الولد. ولما رأت سارة إبراهيم قد شغف بإسماعيل غارت غيرة شديدة، وحلفت لتقطعن عضواً من أعضاء هاجر، قال: فبلغ ذلك هاجر فلبست درعاً لها، وجرت ذيلها، فهي أول نساء العالمين جرت الذيل، وإنما فعلت ذلك لتعفي أثرها في الطريق على سارة فلن تقدر عليها، فقال لها إبراهيم: هل لك إلى خير؟ أن تعفي عنها وترضي بقضاء الله، فقالت: فكيف لي بما قد حلفت؟ قال: اخفضيها فتكون سنة للنساء وتبري يمينك، قالت: أفعلها فخفضتها، فمضت السنة للنساء في الخفض منها.
وقيل: أنها لما غارت منها حلفت أن تقطع منها ثلاثة أشراف. فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبري يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أذنيها واخفضيها " والخفض هو الختان " ففعلت ذلك بها، فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً، فقالت سارة أراني إنما زدتها جمالاً فلم تقارهّ على كونها معه، ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكة، وكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها، وقلة صبره عنه.
قال يحيى بن أبي رافع: في قوله عز وجل: " فأقبلت امرأته في صرة " قال: صيحة، فولولت.(10/249)
ولما ولدت سارة لإبراهيم إسحاق جعل الكنعانيون يقولون: ألا تعجبون لهذا الشيخ ولهذه العجوز، وحدوا صبياً سقيطاً فأخذاه يزعمان أنه ولدهما، وهل تلد مثلها من النساء؟! فكون الله صورة إسحاق على صورة إبراهيم حتى لا يراه أحد إلا قال: والله، إنه لمن الشيخ.
جاء جرير إلى عمر فشكا إليه ما يلقى من النساء، فقال عمر: إنا لنجد ذلك حتى إني لأريد الحاجة فتقول: ما تذهب إلا إلى فتيات بني فلان فلا تنظر إليهن؟ فقال ابن مسعود: أما بلغك أن إبراهيم شكا إلى الله من رداءة خلق سارة فقال له: إنها خلقت من الضلع، فألبسها على ما كان فيها، ما لم تر عليها خزية في دينها فقال عمر: لقد حشا الله بين أضلاعك علماً كثيراً وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أولاد المسلمين في جبل في الجنة يكفلهم إبراهيم وسارة، فإذا كان يوم القيامة دفعوهم إلى آبائهم.
قال شعيب الجبائي: ألقي إبراهيم في النار وهو ابن ست عشرة، وذبح إسحاق وهو ابن تسع سنين وولدته سارة وهي ابنة تسعين، وكان مذبحه من إيلياء على ميلين. فلما علمت سارة أراد بإسحاق بطنت يومين وماتت في اليوم الثالث، وقيل ماتت سارة وهي بنت مئة سنة وسبع وعشرين سنة.
ولما أراد إبراهيم ذبح إسحاق حزنت سارة حزناً شديداً، ومرضت من شدة الغم، وكان لإسحاق في ذلك الوقت سبع وثلاثون سنة، وقيل: تسع سنين، وكان أصابها البطن ثلاثة أيام.(10/250)
سفانة بنت حاتم الطائية
أخت عدي بن حاتم، ويقال عمته، وإن ثبت أن أسمها سفانة فهي أخته، أسلمت وحكت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدمت في طلب أخيها.
عن عدي بن حاتم الطائي قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً إلى المدينة. فلم رأيت ذلك من أمره في علوه، وأنه تثب سراياه فتغير فلا يقوم بشيء قلت لنفسي: يا نفس، لو أني خلقت لي أجمالاً فإن أغير على النعم والغنم كان عندي ما أتحمل عليه، فخلفت عندي من الإبل ما أعلم أنه يحملني إن بليت ببلوى. فبينا أنا ذات يوم إذ جاءني راعي الإبل بعصاه، فقلت له: ما وراءك؟ قال: قد أغير عل النعم، فقلت: ومن أغار عليها؟ قال: خيل محمد، قلت: يا نفس، هذا الذي كنت أحاذر، فأين الفرار؟ فقربت أجمالي وحملت أهلي لأنجو بهم، وكنت نصرانيا، فدخلت على عمتي، فقلت: ما عسى أن نصنع بمثل هذه وقد كبرت، فحملت امرأتي، فقالت عمتي: يا عدي، أما تتقي ربك، نتنجو بامرأتك وتدع عمتك! فقلت لها: وما عسى أن نصنع بك وأنت امرأة قد كبرت، فمضيت ولم ألتفت إلى عمتي، حتى وردت الشام فانتهيت إلى قيصر، وكان بأرض حمص فأدخلت عليه، فقلت له: إني رجل من العرب وأنا على دينك، وهذا الرجل قد تناولنا ببلدنا، فكان المفر منه إليك، فقال لي قيصر: اذهب فانزل بمكان كذا وكذا حتى نرى لك رأياً في أمره، فنزلت لذلك المكان، فمكثت به حيناً، فإني في بعض أيامي بهم وغم فإذا أنا بظعينة متوجهة نحونا. فلما انتهيت إليّ نظرت فإذا هي عمتي. فلما رأتني ابتدرتني فقالت لي: يا عدي، أما اتقيت ربك، نجوت بامرأتك مما تحاذره وتركت عمتك، وذكر الحديث.
قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم لموسى بن عمرا بن مناح وهما جالسان بالبقيع: تعرف سرية الفلس؟ قال موسى: ما سمعت بهذه السرية. قال: فضحك ابن حزم ثم قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً في خمسين ومئة رجل على مئة بعير وخمسين فرساً وليس وما(10/251)
في السرية إلا أنصاري، وفيها وجوه الأوس والخزرج، فاجتنبوا الخيل، واعتقبوا على الإبل حتى أغاروا على أحياء من أحياء العرب، وسأل عن محلة آل حاتم فدل عليه، فشنوا الغارة مع الفجر، فسبوا حتى ملؤوا أيدهم من السبي والنعم والشاء، وهدم الفلس وخربه وكان صنماً لطيىء، ثم أنصرف راجعاً إلى المدينة.
قالوا: وإن علياً عليه السلام، خرج ومعه راية سوداء ولواء أبيض، معهم القنا والسلاح الظاهر، وقد دفع رايته إلى سهل بن حنيف، ولواءه إلى جبار بن صخر السلمي، وخرج بدليل من بني أسد يقال له حريث خريتا فسلك بهم على طريق فيد، فلما انتهى بهم إلى موضع قال: إن بينكم وبين الحي الذي تريدونه يوماً تاماً، وإن ترناه بالنهار ووطئنا أطرافهم ورعاءهم، فأنذورا الحي فتفرقوا. فلم تصيبوا منهم حاجتكم، لكن نقيم يومنا هذا في موضعنا حتى نمسي، ثم نعتشي ليلتنا على متون الخيل فنجعلها غارة حتى نصبحهم في عماية الصبح، قالوا: هذا الرأي فعسكروا وسرحوا إبلهم واصطنعوا، وبعثوا نفراً منهم يتقصون ما حولهم، فبعثوا أبو قتادة والجباب بن المنذر وأبا نائلة فخرجوا على متون خيلهم يطوفون حول المعسكر، فأصابوا غلاماً أسود فقالوا: ما أنت: قال: أطلب بغيتي، فأتوا به علياً، فقال: من أنت؟ قال: باغ، قال: فشدوا عليه فقال: أنا غلام لرجل من طيئ من بني نبهان، أقرّوني في هذا الموضع، وقالوا: إن رأيت خيل محمد فطر إلينا فأخبرنا، وأنا لا أدرك شداً. فلما رأيتكم أردت الذهاب إليهم، ثم قلت: لا أعجل حتى آتي أصحابي بخبر بين من عددكم وعدد خيلكم وركابكم، ولا أخشى ما أصابني، فلكأني كنت مقيداً حتى أخذتني طلائعكم.
قال عليّ: اصدقنا ما وراءك؟ قال: أوائل الحي على مسيرة ليلة طرادة تصحبهم الخيل في مغارهم خبباً وعدواً، قال علي لأصحابه: ما ترون؟ قال جبار بن صخر: نرى أن ننطلق على متون الخيل ليلتنا حتى نصبح القوم وهم غارون فنغير عليهم ونخرج(10/252)
بالعبد الأسود دليلاً ونخلف حريثاً مع العسكر حتى يلحقونا، إن شاء الله، قال علي: هذا الرأي.
فخرجوا بالعبد الأسود والخيل تعادى، وهو ردف بعضهم عقبة، ثم ينزل فيردف آخر عقبة، وهو مكتوف. فلما رأى ابهار الليل كذب العبد، وقال: لقد أخطأت الطريق وتركتها ورائي، فقال علي: فارجع بنا إلى حيث أخطأت، فرجع ميلاً أو أكثر ثم قال: أنا على خطأ، فقال علي: أنا منك على خدعة، ما تريد إلا أن تتيهنا عن الحي قدموه، لتصدقنا أو لنضرب عنقك، قال: فقدم وسل السيف على رأسه، فلما رأى الشر قال: أرأيت أن صدقتكم أينفعني؟ قالوا: نعم، قال: فإني صنعت ما رأيتم، أنه أدركني ما يدرك الناس من الحياء، فقلت: أقبلت بالقوم أدلهم على الحي من غير محنة، ولا خوف منهم، فلما رأيت منكم ما رأيت، وخفت أن تقتلوني كان لي عذر، فأنا أحملكم على الطريق، قالوا: أصدقنا، قال: القوم منك قريب. فخرج بهم حتى انتهوا إلى أدنى الحي، فسمعوا نباح الكلاب وحركة النعم في المراح الشاه، فقال: هذا الأصرام وهي على فرسخ فنظر بعضهم إلى بعض، قالوا: فأين آل حاتم؟ قال: هم متوسطوا الأصرام قال القوم بعضهم لبعض: إن أفزعنا الحي تصايحوا وأفزع بعضهم بعض، فيغيب عنا إخوانهم في سواد الليل، ولكن نمهل حتى يطلع الفجر معترضاَ، فقد قرب طلوعه فنغير، فإن أنذر بعضهم بعضاَ لم يخف علينا أين أخذوا، وليس عند القوم خيل يهربون عليها، ونحن على متون الخيل، قالوا: الرأي ما أشرت به.
فلما اعترض الفجر أغاروا عليهم، فقتلوا من أشرف، واستاقوا الذرية والنساء، وجمعوا النعم والشاء، ولم يخف عليهم أحد تغيب، فملؤوا أيدهم، قال: تقول جارية من الحي: وهي ترى العبد الأسود، وكان اسمه أسلم، وهو موثق، ماله هبل، هذا عمل رسولكم أسلم، لا سلم، وهو جلبهم عليكم، ودلهم على عورتكم. قال: يقول الأسود: اقصري يا بنة الأكارم، ما دللتهم حتى قدمت ليضرب عنقي. قال: فعسكر القوم، وعزلوا(10/253)
الأسرى، وعزلوا الذرية، وأصابوا آل حاتم: أخت عدي ونسيات معها، فعزلوهن على حدة، فقال أسلم لعلي: ما تنتظر بإطلاقي؟ فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أنا على دين قومي، هؤلاء الأسرى، ما صنعوا ما صنعت، قال: ألا تراهم موثقين، فنجعلك معهم في رباطك؟ قال: نعم، أنا مع هؤلاء موثقاً أحب إليّ من أن أكون مع غيرهم مطلقاً، يصيبني ما أصابهم، فضحك أهل السرية منه، فأوثق وطرح مع الأسرى، وقال: أنا معهم حتى تروا فيهم ما أنتم راؤون، فقائل يقول له من الأسرى: لا مرحباً بك أنت جئتنا بهم، وقائل يقول: مرحباَ بك وأهلاَ، ما كان عليك أكثر مما صنعت، لو أصابنا الذي أصابك لفعلنا الذي فعلت، وأشد منه، ثم قد آسيت بنفسك.
وجاء العسكر فاجتمعوا فقربوا الأسرى، فعرضوا عليهم الإسلام، فمن أسلم ترك، ومن أبى ضربت عنقه، حتى أتوا العبد الأسود، فعرضوا عليه الإسلام، فقال: إن الجزع من السيف للؤم، وما من خلود، قال: يقول رجل الحي ممن أسلم: يا عجباً منك إلا كان هذا حيث أخذت. فلما قتل من قتل منا وسبي من سبي منا، وأسلم من أسلم راغباً في الإسلام، تقول ما تقول! ويحك، أسلم واتبع دين محمد، قال: فإني أسلم وأتبع دين محمد، فأسلم فترك، وبقي بعد ذلك إلى كانت الردة فشهد مع خالد بن الوليد اليمامة، فأبلى بلاء حسناً.
قال: وسار علي إلى الفلس فهدمه وخربه، ووجدوا في بيته ثلاثة أسياف: رسوب والمخذم، وسيف يقال له اليماني، وثلاثة أدرع، وجردوه، وكان عليه ثياب يلبسونه إياها، وجمعوا السبي فاستعمل علي عليهم أبا قتادة، واستعمل عبد الله بن عتيك السلمي على الماشية والرثة، ثم ساروا حتى نزلوا ركك فاقتسموا السبي والغنائم، وعزل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفياً رسوباً والمخدم، ثم صار له بعد السيف الآخر، وعزل الخمس، وعزل آل حاتم، فلم يقسمهم حتى قدم المدينة.
قالوا: وكان في السبي أخت عدي بن حاتم فلم تقسم، فأنزلت دار رملة بنت(10/254)
الحدث، وكان عدي بن حاتم قد هرب حين سمع بحركة علي، وكان له عين بالمدينة فحذره، فخرج إلى الشام، وكانت أخت عدي إذا مر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تقول: يا رسول الله هلك الوالد وعاب الوافد، فامنن علينا منّ الله عليك، كل ذلك يسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من وافدك؟ فتقول: عدي بن حاتم، فيقول: الفار من الله ورسوله؟ حتى يئست. فلما كان يوم الرابع مرّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تكلم فأشار إليها رجل: قومي فكلميه، فكلمته، فأذن لها ووصلها، وسألت الرجل الذي أشار إليها فقيل: علي، وهو الذي سباكم أما تعرفينه؟ فقالت: لا والله، ما زلت مدنية طرف ثوبي على وجهي وطرف ردائي على برقعي من يوم أسرت حتى دخلت هذه الدار، ولا رأيت وجهه ولا وجه أحد من أصحابه.
وفي حديث أخر بمعناه أنها لما كلمته وقالت: فامنن علي منّ الله عليك، قال قد فعلت، لا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني، قالت: وأقمت حتى قدم نفر من بلي أو قضاعة، وأنا أريد أن أتي الشام، قالت: فجئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، قد قدم رجال من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ، قالت: فكساني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحملني وأعطاني نفقة، فخرجت فيهم حتى قدمت الشام.
قال أبو عامر: وكانت قد أسلمت وحسن إسلامها.
قال عدي: وإني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة تؤمنا، قال: قلت: ابنة حاتم، فإذا هي هيه. فلما وقفت علي انسحلت: القاطع الظالم ارتحلت بأهلك وولدك وتركت بقية والدك أختك عورتك؟ قال: قلت: يا خية، لا تقولي إلا خيراً، فوالله ما لي من عذر، ولقد صنعت ما ذكرت. قال: ثم نزلت فأقامت عندي. قال: فقلت لها: " وكانت امرأة حازمة ":ماذا ترين في أمر هذا الرجل؟ قالت: أرى أن تلحق به سريعاً، فإن يكن الرجل نبياً فللسابق إليه فضله، وإن يكن ملكاً فلن تذل عز اليمن وأنت أنت. قال: قلت: والله إن هذا الرأي. قال فخرجت حتى أقدم على الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فدخلت عليه وهو في(10/255)
مسجده، فس ((لمت عليه، فقال: من الرجل؟ قال: قلت: عدي بن حاتم، فرحب به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقربه وكان يتألف شريف القوم ليتألف به قومه، قالوا: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق به إلى بيته قال: فلقيته امرأة كبيرة ضعيفة فاستوقفته، فوقف لها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال: قلت في نفسي: ما هذا بملك، قال: ثم مضى حتى إذا دخل بيته تناول وسادة من أدم محشوة ليفاً فقدمها إليّ، فقال: اجلس على هذه. قال: قلت: بل أنت فأجلس. قال: فقال: بل أنت فاجلس عليها. قال: فجلست عليها، وجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأرض. قال: قلت في نفسي: ما هذا بأمر مل.
قال أبو عامر في حديث: فدخل الإسلام في قلبي، وأحببت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حباً لم أحببه شيئاً قط - وقال أوائل هذا الحديث: إن عدياً قال: ما رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سمع به مني - قال: ولم يكن في البيت إلا خصاف ووسادة أدم، قال: فلم يجلس عليها، ولم أجلس عليها، ثم أقبل عليّ فقال: هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن توحد الله، وهل من أحد غير الله، هيه يا عدي بن حاتم، أفررت أن تكبر الله، ومن أكبر من الله، هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تعظم الله، ومن أعظم من الله، هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن لا إله إلا الله، وهل من إله غير الله، هيه يا عدي بن حاتم أفررت أن تشهد أن محمداً رسول الله. قال: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول نحو هذا وأنا أبكي. قال: ثم أسلم.
قال ابن إاق في حديثه:
ثم قال: إيه يا عدي بن حاتم ألم تك ركوسياً؟ قال: قلت: بلى، قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك، قال: قلت: أجل والله، وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل. قال: ثم قال: لعله يا عدي بن حاتم إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله لأوشك أن يفيض فيهم(10/256)
يعني المال - حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله أن يمنعك من ذلك ما ترى من كثرة عدوهم وقلة عددهم فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم، قال: فأسلمت، فكان عدي يقول: مضت اثنتان، وبقيت الثالثة، والله لتكونن. لقد رأيت القصور البيض من أرض بابل، وقد فتحت عليهم، ورأيت المرأة تخرج على بعيرها، لا تخاف إلا الله حتى تحج البيت من القادسية، وأيم الله لتكونن الثالثة: ليفيضن المال حتى لا يوجد من يأخذه.
وعن علي بن أبي طالب أنه قال: يا سبحان الله، ما أزهد كثيراً من الناس في الخير، عجبت لرجل يجيئه أخوه المسلم في حاجة لا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق فإنها تدل على سبل النجاح، فقام رجل فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وما هو خير منه، لما أتينا سبايا طيئ وقعت جارية جماء، حواء، لعساء، لمياء، عيطاء، شماء الأنف، معتدلة القامة، درماء الكعبين، جدلة الساقين، لفاء العجزين، خميصة الخصرين، مصقولة المتنين، ضامرة الكشحين، فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت: لأطلبن إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجعلها من فيئي. فلما تكلمت نسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عني فلا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يفكّ العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويفشي السلام، ويطعم الطعام، ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيئ، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جارية، هذه صفة المؤمن حقاً، لو كان أبوك إسلامياً لترحمنا عليه، خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق، فقام أبو بردة بن نيار، فقال: يا رسول الله، الله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال: يا أبا بردة، لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق.(10/257)
سكينة واسمها أميمة
ويقال: أمينة، ويقال: آمنة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب قدمت دمشق مع أهل بيتها بعد قتل أبيها، ثم خرجت إلى المدينة، ويقال إنها عادت إلى دمشق بعد ذلك وإن قبرها بها.
حدثت سكينة عن أبيها قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حملة القرآن عرفاء أهل الجنة يوم القيامة " كان اسمها آمنة. وسكينة لقب لقبتها به أمها الرباب بنت امرئ القيس، وكانت سكينة من أجلد نساء قريش، دخلت على هشام في قواعد نساء قريش فسلبته منطقته ومطرفته وعمامته، وقال لها هشام لما طلبت ذلك منه، أو غيره؟ تقول: ما أريد غيره، وكان هشام يعتم ويلبس، فسلبته ذلك كله ودعا بثياب غيرها فلبسها، وكانت إذا لعن مروان جدها علياً عليه السلام لعنته وأباه وأبا أبيه، وكانت من أجمل الناس.
عن ابن شهاب قال: نكحت سكينة ابنة الحسين إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بغير ولي، فكتب عبد الملك إلى هشام بن إسماعيل أن فرق بينهما.
وعنه أنه قال في المرأة تنكح نفسها بغير إذن وليها قال: زوجت سكينة بنت حسين نفسها إبراهيم عبد الرحمن بن عوف، فكتب فيها هشام بن إسماعيل إلى عبد الملك بن مروان فكتب عبد الملك أن يفرق بينهما، فإن كان دخل بها فلها صداقها بما استحل منها، وإن لم يكن دخل بها خطبها مع الخطاب.
ذكر الحافظ ابن عساكر في كتا ((به حكايات جرت لها مع شعراء أكبرت قدرها عن ذكر مثلها عنه.
توفيت سكينة سنة سبع عشرة ومئة بالمدينة.(10/258)
سكينة زوج أبي الحسن
زيد بن عبد الله بن محمد البلوطي.
حدث أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الحنائي قال:
وجدت للحفظ في كتاب سكينة زوج الشيخ أبي الحسين البلوطي رحمه الله: يقرأ فاتحة الكتاب، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وآية الكرسي، ويقرأ: (سنقرئك فلا تنسى) (إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم أن علينا بينانه) (علمه شديد القوى) (علم الإنسان ما لم يعلم) (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان) (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) (كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) (ففهمناها سليمان) (قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي شدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً إنك كنت بنا بصيراً قال قد أوتيت سؤلك يا موسى)
سلمى بنت سعيد بن خالد
ابن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميه، أم سلمة زوج هشام بن عبد الملك، ثم خلف عليها الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وهي التي حلف بطلاقها قبل دخوله بها، واستقدم المدينة ليفتوه بأمرها، وكانت عنده أختها لأبيها وأمها أم عبد الملك سعدة بنت سعد بن خالد.
عن صدقة بن عبد الله الدمشقي قال: جئت محمد بن المنكدر وأنا مغضب فقلت: الله، أنت أحللت للوليد بن يزيد أم سلمة؟ قال: أنا ولكن رسول الله صلى اه عليه وسلم، حدثني جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا طلاق لمن لا يملك ولا عتق لمن لا يملك "(10/259)
وروي أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى سعيد بن خالد ينهاه عن تزويج الوليد بن يزيد، ويقول له: أتريد أن تتخذ الوليد فحلاً؟ فلم يزوجه إياها. فلما امتنع من تزويجه أنف وحلف بطلاقها إن تزوجها.
وقيل: إنه لم يتزوجها لسبب آخر، وهو أنه دخل دار أبيها يوم مات وهي بدمشق، وكانت تحته أختها أم عبد الملك بنت سعيد، فخرجت في ثياب مسفرة، فقالت له وهي لا تعرفه: ويلك ما ت أبي؟ فوقعت في نفسه، فطلق أختها وخطبها، فلم يزوجوه إياها.
والله أعلم بالصحيح من القولين.
كان الوليد بن يزيد قال: يوم أتزوج سلمى بنت سعيد بن خالد فهي طالق.
قالوا: وكتب الوليد بن يزيد إلى أمراء الأمصار أن يكتبوا إليه بالطلاق قبل النكاح " وكان قد ابتلى بذلك " فكتب إلى عامله باليمن فدعا ابن طاوس وإسماعيل بن شروس وسماك بن الفضل فأخبرهم ابن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عطاء بن أبي رباح وسماك عن وهب بن منبه أنهم قالوا: لا طلاق قبل النكاح. ثم قال سماك من عنده: إن النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، فكيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟ فأعجب الوليد من قوله وأخذ به وكتب إلى عامله على اليمن أن يستعمله على القضاء.
وقال الوليد في سلمى أشعاراً كثيرة فمنها: من الوافر
ألا ليت الإله يجي بسلمى ... كذاك الله يفعل ما يشاء
فيخرجها فيطرحها بأرضٍ ... فيرقدها وقد سقط الرداء
ويأتي بي فيطرحني عليها ... فيوقظها وقد قُضي القضاء
ويرسل ديمة سحاً علينا ... فتغسلنا ولا يبقى عناءُ(10/260)
سلامة جارية شاعرة، كانت ليزيد بن معاوية، من مولدات المدينة، كان الأحوص يشبب بها.
قال أبو محمد الجزري: كانت بالمدينة جارية مغنية، يقال لها: سلامة، من أحسن النساء وجهاً، وأتمهن عقلاً، وأحسنهن حديثاً، وقد قرأت القرآن، وروت الشعر وقالته. وكان عبد الرحمن بن حسان والأحوص يجلسان فيرويانها الشعر، ويناشدانها إياه، فعلقت الأحوص، وصدت عن عبد الرحمن، فقال لها عبد الرحمن يعرض لها بما ظنه من ذلك: الوافر
أرى الإقبال منك على جليسي ... ومالي في حديثكما نصيب
فأجابته:
لأن الله عقله فؤادي ... فحاز الحب دونكما الحبيب
فقال الأحوص:
خليلي لا تلمها في هواها ... ألذ العيش ما تهوى القلوب
قال: فأضرب عنها ابن حسان، وخرج ممتدحاً ليزيد بن معاوية، فأكرمه وأعطاه. فلما انصرف قال: يا أمير المؤمنين، عندي نصيحة، قال: وما هي؟ قال: جارية بالمدينة لامرأة من قريش من أجمل الناس وأكملهم ولا تصلح أن تكون إلا لأمير المؤمنين وفي سمّاره، فأرسل إليها يزيد فاشتريت له وحملت إليه فوقعت منه موقعاً عظيما، وفضلها على جميع من عنده، وقدم عبد الرحمن المدينة فمر بالأحوص وهو على باب داره مهموم، فأراد أن يزيده على ما به فقال: من السريع
يا مبتلي بالحب مفدوحاً ... لاقى من الحب تباريحا
أفحمه الحب فما ينثني ... إلا بكأس الحب مصبوحا(10/261)
وصار ما يعجبه مغلقاً ... عنه وما يكره مفتوحا
قد حازها من أصبحت عنده ... ينال منها الشمّ والريحا
خليفة الله فلّ الهوى ... وغزّ قلباً منك مجروحا
فأمسك الأحوص عن جوابه. ثم إن شابين من بني أمية أرادا الوفادة إلى يزيد، فأتاهما الأحوص، فسألهما أن يحملا له كتاباً، ففعلا وكتب إليها معهما: من الكامل
سلام ذكرك ملصق بلساني ... وعلى هواك تعودني أحزاني
ما لي رأيتك في المنام مطيعة ... وإذا انتبهت لججت في العصيان
ثم غلبه جزعه، فخرج إلى يزيد ممتدحاً له، فقربه وأكرمه، وبلغ لديه كل مبلغ، فدست إليه سلامة خادماً، وأعطته مالاً على أن يدخله إليها، فأخبر الخادم يزيد بذلك، فقال: امض لرسالتها، ففعل ما أمره، وأدخل ألاحوص، وجلس يزيد بحيث يراهما. فلما بصرت الجارية بالأحوص بكت إليه وبكى إليها، وأمرت فألقي له كرسي فقعد عليه، وجعل كل واحد منهما يشكو إلى صاحبه شدة الشوق، فلم يزالا يتحدثان إلى السحر، ويزيد يسمع كلامهما، من غير أن يكون بينهما ريبة حتى إذا هم بالخروج قال: من البسيط
أمسى فؤادي في هم وبلبال ... من حب من لم أزل منه على بال
فقالت:
صحا المحبون بعد النأي إذ يئسوا ... وقد يئست وما أصحو على حال
فقال:
من كان يسلو بيأس عن أخي ثقة ... فعنك سلاّم ما أمسيت بالسالي
فقالت:
والله والله لا أنساك يا شجني ... حتى تفارق مني الروح أوصالي
فقال:
والله ما خاب من أمسى وأنت له ... ياقرة العين في أهل وفي مال(10/262)
ثم ودعها وخرج، فأخذه يزيد ودعا بها فقال: أخبراني عما كان في ليلتكما، اصدقاني، فأخبراه، وأنشداه ما قالا، فقال له يزيد: أتحبها؟ قال: إي والله يا أمير المؤمنين: من البسيط
حباً شديداً تليداً غير مطرف ... بين الجوانح مثل النار تضطرم
ثم قال لها: أتحبينه؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين:
حباً شديداً جرى كالروح في جسدي ... فهل تفرق بين الروح والجسد
فقال يزيد: إنكما لتصفان حباً شديداً، خذها يا أحوص فهي لك. ووصله صلة سنية فأخذها وانصرف إلى الحجاز، وهو من أقر الناس عيناً.
سلامة أم المنصور
قال طيفور مولى أمير المؤمنين: حدثتني سلامة أم أمير المؤمنين قالت: لما حملت بابي جعفر رأيت كأنه خرج من فرجي أسد فزأر ثم أقعى فاجتمعت حوله الأُسد، فكلما انتهى إليه منها أسد سجد له.
سلامة أم سلام المعروفة بسلامة القس
إحدى جاريتي يزيد بن عبد الملك اللتين انتشر ذكرهما، واشتهر حبه لهما، كانت قبل يزيد لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وكانت من مولدات المدينة، وكانت أحسن الناس غناء في زمانها، والقس هو عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار.
اشتراها يزيد بثلاثة آلاف دينار فأعجب بها. وفيها يقول ابن قيس الرُّقيات: من الطويل
لقد فتنت ريا وسلامة القسا ... فم تتركا للقس عقلاً ولا نفسا
كان القس عند أهل مكة من أحسنهم عبادة وأظهرهم تبتلاً " قالوا: وكان(10/263)
يقدم على عطاء في النسك " وأنه مر يوماً بسلامة، جارية كانت لرجل من قريش، وهي التي اشتراها يزيد بن عبد الملك، فسمع غناءها فوقف يستمع فرآه مولاها، فدنا منه فقال: هل لك أن تدخل فتسمع فتأبى عليه، فلم يزل به حتى تسمح، وقال: أقعدني في موضع لا أراها ولا تراني، قال: أفعل، فدخل فتغنت فأعجبته، فقال مولاها: هل لك أن أحولها إليك فتأبى ثم تسمح، فلم يزل يسمع غناءها حتى شغف بها وشغفت به، وعلم ذلك أهل مكة. فقالت له يوماً: أنا والله أحبك، قال: وأنا والله أحبك، قالت: وأحب أن أضع فمي على فمك، قال: وأنا والله، قال: وأحب أن ألصق صدري بصدرك وبطني ببطنك، قال: وأنا والله، قالت: فما يمنعك فوالله إن الموضع لخال؟ قال: إني سمعت الله يقول: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " وأنا أكره أن تكون خلة ما بيني وبينك تؤول بنا إلى عداوة يوم القيامة، قالت: يا هذا، أتحسب أن ربي وربك لا يقبلنا إن نحن تبنا إليه؟ قال: بلى، ولكن لا آمن أن أفاجأ، ثم نهض، وعيناه تذرفان، فلم يرجع وعاد إلى ما كان عليه من النسك.
قالوا: كانت بالمدينة جارية لآل أبي رمانة أو لآل تفاحة، يقال لها سلامة، فكتب فيها يزيد بن عبد الملك لتشترى له، فاشتريت بعشرين ألف دينار، فقال أهلها: ليس تخرج حتى تصلح من شأنها، فقالت الرسل: لا حاجة لكم بذلك، معنا ما يصلحها، فخرج بها حتى أُتي بها سقاية سليمان فأنزلها رسله، فقالت: لا والله، لا أخرج حتى يأتيني قوم كانوا يدخلون علي فأسلم عليهم، قال: فامتلأت رحبة ذلك الموضع، ثم خرجت فوقفت بين الناس وهي تقول: من الخفيف
فارقوني وقد علمت يقيناً ... ما لمن ذاق ميتة من إياب
إن أهل الحصاب قد تركوني ... موزعاً مولعاً بأهل الحصاب
أهل بيت تبايعوا للمنايا ... ما على الدهر بعدهم من عتاب
فما زالت تبكي ويبكون حتى راحت، ثم رأسلت إليهم ثلاثة آلاف درهم.(10/264)
بينما الناس ينتظرون أن يخرج يزيد بن عبد الملك حين مات إذ خرج بسريره، بين يدي عوديه سلامة تقول: من مجزوء الرمل
لا تلمنا إن جزعنا ... أو هممنا بجزوع
كلما أبصرت ربعاً ... خالياً فاضت دموعي
خالياً من سيد كا ... ن لنا غير مضيع
قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
للذي حل بنا ال ... يوم من الأمر الفظيع
سيدة بنت عبد الله بن مرحوم
أم الحسين الطرسوسية الماجدية حدثت عن أبي بكر الدينوري بسنده عن أبي سعيد الخراز قال: أكبر ذنبي إليه معرفتي به.
وحدثت بسندها عن أبي بكر الدقي قال: سمعت الزقاق يقول: لي سبعون سنة أُربّ هذا الفقر. من لم تصحبه فيه التقية أكل الحرام النص.
وجدثت بسندها عن ابن حسان قال: كان سهل يقول: لا يبلغ الإنسان إلى السماء حتى يدفن نفسه في الأرض، فإذا دفنها في الأرض الأولى بلغ سماء الدنيا وكذا الأرضين السبع. فإذا بلغ الثرى بلغ العرش.(10/265)
وبسندها عن أبي بكر الدقي قال: حكى لنا الزقاق أنه قيل لذي النون: لمن أصحب؟ قال: لمن يسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ، ثم سألته ثانية: لمن أصحب؟ قال: لمن إذا أذنبت أنت تاب هو، وإذا مرضت عادك. وسئل مرة أخرى: لمن أصحب؟ فقال: لمن يعلم فيك ما يعلمه الله منك، فتأمنه على ذلك.
سيدة بنت عبد الله
امرأة أبي الحسين البلوطي قالت: سمعت أبا إسحاق البلوطي يُحرّض على قراءة سورة القدر
أسماء الرجال على(10/266)
حرف الشين المعجمة
شافع بن محمد بن يعقوب
ابن إسحاق بن إبراهيم بن يزيد، أبو النصر النيسابوري الإسفراييني سمع بدمشق. وجده يعقوب هو أبو عوانة الإسفراييني المحدث المعروف بالحافظ.
حدث شافع عن محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم الإدام الخل " وحدث عن أبي جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له.
وحدث عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الهروي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
إن الرجل يموت والداه أو أحدهما وإنه لعاق لهما، فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله براً.
روى بجرجان سنة سبع وسبعين وثلاث مئة(10/267)
شاكر بن عبد الله بن محمد
ابن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان ابن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أنور بن أرقم ابن أسحم بن النعمان، وهو الساطع " وسمي بذلك لجماله " ابن عدي ابن عبد غطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة بن تيم الله وهو مجمع تنوخ بن أسد ابن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير أبو اليسر التنوخي المعري كاتب الإنشاء للملك العادل أبي القاسم محمود بن زنكي رحمه الله. فاضل من أهل بيت فضل. ولد سنة ست وتسعين وأربع مئة. سكن دمشق.
حدث عن جده محمد بن المهذب بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لينادي المنادي يوم القيامة: أين فقراء أمة محمد؟ قوموا فتصفحوا صفوف القيامة، ألا من أطعمكم في أكلة أو سقاكم في شربة أو كساكم في خلقاً أو جديداً خذوا هذه فأدخلوه الجنة، فلا يزال صاحب قد تعلق بصاحبه وهو يقول: يا رب العالمين، هذا أشبعني، ويقول الآخر: يا رب العالمين، هذا أرواني، فلا يبقى من فقراء أمة محمد صغير ممن فعل ذلك ولا كبير إلا أدخلهم الله جميعاً الجنة ".
وله شعر حسن.
توفي أبو اليسر سنة إحدى وثمانين وخمس مئة.
شبل بن الحسين بن علي
ابن عبد الواحد أبو طاهر الحارثي حدث عن سهل بن بشر بسنده عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف محكمة، فيقول الله عزّ وجلّ: اقبلوا هذا وردوا هذا، فتقول الملائكة: وعزتك، ما كتبنا إلا ما عمل فيقول: صدقتم، إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي.(10/268)
ولد أبو طاهر سنة إحدى وأربعين وأربع مئة أو قبلها. وتوفي سنة اثنتي عشرة وخمس مئة. وذكر ولده أبو البركات عنه أنه لم تفته صلاة في مرضه، وكان يقول حين يصلي بالليل: كل من ذكرني بسوء في حل إلا من رماني بالرفض فإنه يخرجني عن الإسلام.
شبل بن علي بن شبل
ابن عبد الباقي أبو القاسم الصوتي العاقوني سمع بدمشق.
حدث عن أبي الحسن محمد بن عوف بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي عوف بسنده عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها "
شبلي بن عبد الملك بن أحمد
أبو الحسن البلخي الصوفي قدم دمشق وسمع بها.
حدث عن تمام بن محمد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة "
شبة بن عقال بن صعصعة
ابن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم بن مر بن طابخة، التميمي الدارمي البصري لجده صعصعة صحبة.
حدث عن أبيه عن جده صعصعة قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، ربما فضلت الأنملة خبأتها للنائبة وابن السبيل فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أمك، أباك، أخاك أختك، أخاك: أدناك أدناك "(10/269)
وبه قال: قلت: يا رسول الله، أوصني قال: " املك ما بين لحييك ورجليك ".
ومن ولد صعصعة بن ناجية الفرزدق.
شبيب بن شيبة بن عبد الله
ابن عمرو بن الأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس ابن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مرّ، أبو معمر التميمي المنقري الأهتمي البصري الخطيب حدث عن الحسن عن عمران بن حصين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبيه حصين: " كم تعبد اليوم إلهاً؟ قال: سبعة: ستة في الأرض وواحداً في السماء قال: أيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. قال: يا حصين، إن أسلمت علمتك كلمتين، فأسلم حصين فجاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: علمني الكلمتين. قال: قل: اللهم، ألهمني رشدي وقني شر نفسي.
وحدث عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فهي خداج.
وحدث شبيب أنه سمع عطاء عن أبي سعيد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" ما أنزل الله عزّ وجلّ داء إلا أنزل معه دواء، إلا السام، يعني الموت ".
قال شبيب: كنت أسير في موكب أبي جعفر أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين، رويداً فإني أمير عليك فقال: ويلك أمير علي؟! فقلت: نعم. حدثني معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقطف القوم دابة أميرهم، فقال أبو جعفر: أعطوه دابة فهو أهون علينا من أن يتأمر علينا.(10/270)
قال شبيب: قال لي أبو جعفر " كنت في سماره -: عظني وأوجز. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله لم يرض من نفسه أن جعل فوقك أحداً من خلقه، فلا ترض له من نفسك بأن يكون عبد هو أشكر منك. قال: والله، لقد أوجزت وقصرت قال: قلت: والله، لئن كنت قصرت فما بلغت كنه النعمة فيك.
دخل شبيب يوماً على الهدي فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، إن الله لما قسم الأقسام لم يرض لك من الدنيا إلا أسناها وأعلاها، فلا ترض لنفسك من الآخرة إلا مثل ما رضي الله لك به من الدنيا، وعليك يا أمير المؤمنين بتقوى الله، فإنها عليكم نزلت، ومنكم قبلت، وإليكم ترد.
قال شبيب: كان لي مجلس من المهدي في عشية كل خميس خامس خمسة، فذكر يوماً عيسى بن زيد حين توارى، فقال: غمض علي أمره فما ينجم لي منه شيء، ولقد خفته على المسلمين أن يفتنهم فلما سكت قلت: وما يعنيك من أمره؟ فوالله لا يجتمع عليه اثنان، وما هو لذلك بأهل. قال: فرأيته يكره ما أقول، فقطعت كلامي. فلما سكت قال: والله، ما هو كما قلت، هو والله المحقوق أن يتبع وأن يشق العصا. فلما فرغ قمت وخرجت، فقال للفضل بن الربيع: احجبه عن هذا المجلس. فحجبني أشهراً ثم حضرت فقال الفضل بن ربيع: يا أمير المؤمنين، هذا شبيب بالباب فقال: ائذن له. فلما دخلت قال: مرحباً بابي المعتمر - وكذا كان يكنيني " وكان يكنى أبا معمر " أبقاك الله طويلاً، فإن في بقاء مثلك صلاحاً للعامة والخاصة. فلما سكت قلت: يا أمير المؤمنين، إني وإياك كما قال رؤبة لبلال بن أبي بردة:
إني وقد تعنى أمور تعتني ... على طريق العذر إن عذرتني
فلا وربّ الآمنات القطّن ... ما آيب سرك إلا سرني
شكراً وإن عزّك أمر عزني ... ما الحفظ أما النصح إلا أنني
أخوك والراعي لما استرعيتني ... إ، ي وإن لم ترني كأنني
أراك بالغيب وإن لم ترني ... من غشّ أو ونى فإني لا أني
عن رفدكم خيراً بكل موطن(10/271)
قال: صدقت يا فضل، ردوه إلى مجلسه وأمر له بعشرة آلاف درهم.
خرج شبيب بن شيبة من دار المهدي فقيل له: كيف تركت الناس؟ قال: تركت الداخل راجياً والخارج راضياً.
قال موسى بن إبراهيم: كان شبيب بن شيبة يصلي بنا في المسجد الشارع في مربعة أبي عبيد الله، فصلى بنا يوماً الصبح فقرأ بالسجدة: و" هل أتى على الإنسان " فلما قضى الصلاة قام رجل فقال: لا جزاك الله عني خيراً، فإني كنت غدوت لحاجة. فلما أقيمت الصلاة دخلت أصلي، فأطلت حتى فاتتني حاجتي. قال: وما حاجتك؟ قال: قدمت من الثغر في شيء من مصلحته وكنت وعدت البكور إلى دار الخليفة لأتنجز ذلك. قال: فأنا أركب معك. فركب معه ودخل على المهدي فأخبره الخبر. قال: فتريد ماذا؟ قال: قضاء حاجته، فقضى حاجته وأمر له بثلاثين ألف درهم، فدفعها إلى الرجل، ودفع إليه شبيب من ماله أربعة آلاف درهم قال له: لم تضرك السورتان.
قال الأصمعي: أخبرني من رأى شبيب بن شيبة المنقري وقد اشتد حجاب المهدي عليه، وهو يطلب الوصول فلا يصل فقال: يا أبا معمر، جاهك وقدرك وشرفك تذل نفسك هذا الذل؟؟؟؟؟؟؟! قال: اسكت نذلّ لهم لنعز عند غيرهم، فإنه من رفعوه ارتفع، ومن وضعوه اتضع.
كان شبيب بن شيبة رجلاً شريفاً يفزع إليه أهل البصرة في حوائجهم، فكان يغدو في كل يوم ويركب، فإذا أراد أن يغدو أكل ن الطعام شيئاً قد عرفه، فنال منه ثم ركب فقيل له: إنك تباكر للغداء، فقال: أجل أطفئ به فورة جوفي وأقطع به خلوف فمي، وأبلغ به في قضاء حوائجي، فإني وجدت خلاء الجوف وشهوة الطعام يقطعان الحليم عن بلوغه في حاجته، ويحمله ذلك على التقصير فيما به إليه الحاجة، فإني رأيت النهم لا مروءة له، ورأيت الجوع داء من الداء، فخذ من الطعام من يذهب به عنك النهم، وتداو به من داء الجوع.
قال شبيب بن شيبة لرجل من قريش كلمة فلم يحمد أدبه فقال: يا بن أخي، الأدب الصالح خير من النسب المضاعف وعز الشريف أدبه.(10/272)
كان شبي يقول: اطلبوا العلم بالأدب، فإنه دليل على المروءة وزيادة في العقل وصاحب في الغربة.
قال شبيب: إخوان الصدق خير مكاسب الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعدة في البلاء، ومعونة على حسن المعاش والمعاد.
قال شبيب بن شيبة: من سمع كلمة يكرهها فسكت انقطع عنه ما يكره، وإن أجاب سمع أكثر مما يكره.
قال شبيب بن شيبة: خطبت إلى بعض أحياء بني تميم بالبادية فوافى ذلك مي نشاطاً فقلت وأطنبت حتى ظننت أني قد أبلغت، فرد علي أعرابي ملتحف بعباءة له، فأخرج يده منها وقال: توسلت بحرمة، واستقربت برحم ماتة، وأدللت بحق واجب، وحضضت على خير، ودعوت إلى سنّة وأنت كفؤ كريم، فمرحباً بك وأهلاً، فرضك مقبول والذي سألت مبذول، وبالله التوفيق. قال شبيب: فلو كان قدم في صدر كلامه حمد الله والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكان قد فضحني.
قال شبيب بن شيبة: سمعت ابن سرين يقول: الكلام أوسع من أن يكذب ظريف.
قال عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي: دخل أبي إلى عيسى بن جعفر بن المنصور وهو أمير البصرة فعزاه عن طفل مات له، ودخل بعده شبيب بن شيبة المنقري فقال: أبشر أيها الأمير، فإن الطفل لا يزال محبنظياً على باب الجنة، يقول: لا أدخل حتى يدخل والداي، فقال له أبي: يا أبا معمر، دع الظاء والزم الطاء، فقال له شبيب: أتقول هذا وما بين لابتيها أفصح مني! فقال له أبي: وهذا خطأ ثان، من أين للبصرة لابة؟ واللابة الحجارة السود، والبصرة الحجارة البيض، فكان كلما انتعش انتكس.
المحبنطي: هو الممتنع، وقيل: هو الممتلئ غضباً، وقيل: هو الساكت حياء.(10/273)
لما مات شبيب بن شيبة أتى عمي صالح المري للتعزية فيه فقال: رحمة الله على أديب الملوك، وجليس الفقراء، وحياة المساكين.
وكان شبيب أعلم الناس بمعاني الكلام مع بلاغة حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل من الكلام ما لا يبلغه الخطباء بكثيره.
شجاع بن بكر بن محمد
أبو محمد التميمي الدومي حدث عن أبي محمد عبد الله الكوفي بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود كما بدأ، قالوا: يا رسول الله، وما الغرباء؟ قال: الفرّارون بدينهم يبعثهم الله عزّ وجلّ يوم القيامة مع عيسى بن مريم.
شجاع بن علي بن أحمد بن علي
أبو الفتح الإمام حدث عن أبي جعفر محمد بن إبراهيم الديبلي بسنده عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما أدخلت الجنة رأيت في العرش - أو تحت العرش - إفرندة خضراء مكتوب فيها بقلم من نور ابيض: محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق.
شجاع بن وهب
ويقال: ابن أبي وهب بن ربيعة ويقال: زمعة بن أسد بن صهيب بن مالك بن كثير ابن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، أبو وهب، ويقال: أبو عقب الأسدي.
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسوله إلى الحارث بن أبي شمر إلى غوطة دمشق ويقال إلى جبلة بن الأيهم الغساني، ويقال إلى هرقل مع دحية بن خليفة الكلبي إلى ناحية بصرى، وهو من مهاجرة الحبشة، وشهد بدراً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى عن جماعة دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا:
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شجاع بن وهب الأسدي وهو أحد الستة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً. قال شجاع: فانتهيت إليه وهو بغوطة(10/274)
دمشق، وهو مشغول بتهيئة الأنزال والألطاف لقيصر وهو جاء من حمص إلى إيلياء، فأقمت على بابه يومين أو ثلاثة فقلت لحاجبه: أني رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا وجعل حاجبه - وكان رومياً اسمه مري - يسلني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت أحدثه عن صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يدعو إليه فيرق حتى يغلبه البكاء ويقول: أني قرأت الإنجيل فأجد صفة هذا النبي بعينه، وأنا أؤمن به وأصدقه، وأخاف من الحارث أن يقتلني، وكان يكرمني ويحسن ضيافتي، وخرج الحارث يوماً فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذن لي عليه فدفعت إليه كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع ملكي مني؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، عليّ بالناس، فلم يزل يعرض حتى قام وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك ما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره بخبري، وما عزم عليه، فكتب إليه ألا تسير إليه ووافني بإيلياء، فلما جاءه جواب كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غداً، فأمر لي بمئة مثقال ذهب، ووصلني بنفقة وكسوة وقال: اقرأ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مني السلام فقدمت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: باد ملكه. وأقرأته من مري السلام وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق. ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح.
كان شجاع بن وهب نحيفاً طويلاً أجنأ، وكان من مهاجرة الحبشة في الهجرة الثانية، وآخى رسول الله بينه وبين أوس بن خولي.
وقتل شجاع بن وهب يوم اليمامة سنة اثنتي عشر، وهو ابن بضع وأربعين سنة. وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث جابر أن عبداً لحاطب جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشكو خاطباً فقال: يا رسول الله، ليدخلن حاطب النار فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كذبت لا يدخلها فإنه شهد بدراً والحديبية.
شجرة بن مسلم
حدث عن ابن حلبس وغيره أنه سمعهم يقولون: إذا تمت زينة دمشق فمن كان خارجاً منها سلم ومن كان داخلها هلك، ثم لا يصيبها عذاب بعد ذلك. فقالوا: زينتها بناء المسجد.(10/275)
شداد بن أوس بن ثابت
ابن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، أبو يعلى ويقال: أبو عبد الرحمن بن أخي حسان بن ثابت الأنصاري، من بني مغالبة وهم بنو عمرو ابن مالك له صحبة. روى عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم دمشق والجابية، وسكن بيت المقدس، وكان شهد اليرموك.
حدث شداد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله عزّ وجلّ كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته.
وعن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم قال: خرجنا مع شداد بن أوس فنزلنا مرج الصفر، فقال: ائتونا بالسفرة نعبث بها فكان القوم يحفظونها منه فقال: يا بن أخي، لا تحفظوها علي، ولكن احفظوا مني ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سمعته يقول: " إذا كنز الناس الدنانير والدراهم فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم أني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم أنك أنت علام العيوب.
وهو في رواية أخرى: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم أني أسألك الثبات في الأمر، وأسألك عزيمة الرشد وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك يقيناً صادقاً، وأسألك قلباً سليماً، وأسألك خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، واستغفرك لما تعلم، إنك علاّم الغيوب.
قال شداد: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا أخذ أحدكم مضجعه ليرقد فليقرأ بأم الكتاب وسورة، فإن الله يوكل به ملكاً يهب معه إذا هب.(10/276)
وعن أبي الأشعث الصنعاني
أنه راح إلى مسجد دمشق وهجر في الرواح فلقي شداد بن أوس والصنابحي. قال: قلت: أين تريدان رحمكما الله؟ قالا: نريد ها هنا، إلى أخ لنا نعوده، فانطلقت معهما حتى دخلنا على ذلك الرجل فقالا له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت بنعمة من الله وفضل، فقال له شداد: ابشر بكفارات السيئات وحط الخطايا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يعني: قال الله عزّ وجلّ: إني إذا ابتليت عبداً من عبادي مؤمناً فحمدني وصبر على ما ابتليته به فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا. قال: ويقول الرب للحفظة: أني أنا قيدت عبدي وابتليته فأجروا له ما كنتم تجرون له قبل ذلك من الأجر وهو صحيح.
قال عبد الرحمن بن غنم: لما دخلنا مسجد الجابية، أنا وأبو الدرداء، فلقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله، وشمال أبي الدرداء بيمينه، فخرج يمشي بيننا، فقال عبادة: إن طال بكما عمر أحدكما أو كلاكما فيوشك أن تريا الرجل من ثبج المسلمين قد قرأ القرآن على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعاده وأبداه، وأحل حلاله، وحرم حرامه، ونزل عند منازله، أو قرأ به على لسان أحد لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت.
فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا شداد بن أوس وعون بن مالك فجلسا إلينا فقال شداد: إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء: اللهم غفراً، أو لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب؟ فأما الشهوة الخفية فقد عرفناها فهي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها، فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد؟ قال شداد: أرأيتكم لو رأيتم أحداً يصلي لرجل، أو يصوم له، أو يتصدق له، أترون أنه قد أشرك؟ قالوا: نعم. قال شداد: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من(10/277)
صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " فقال عوف: ولا يعد الله إلا ما ابتغي فيه وجهه من ذلك العمل كله، فيتقبل منه ما خلص له، ويدع ما أشرك به فيه؟ فقال شداد: فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أنا خير قسيم، فمن أشرك بي شيئاً فإن جدّه وعمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك بي، أنا عنه غنيّ " وعن شداد بن أوس أنه لما دنت وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام شداد ثم جلس، ثم قام ثم جلس فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما قلقك يا شداد؟ فقال: يا رسول الله، ضاقت بي الأرض، فقال: ألا أن الشام إن شاء الله وبيت المقدس ستفتح إن شاء الله، وتكون أنت وولدك من بعدك أئمة إن شاء الله.
كان لشداد أربعة بنين وبنت، وكان أكبرهم يعلى، ثم محمد، وعبد الوهاب، والمنذر، فمات شداد، وعبد الوهاب والمنذر صغيران، ولم يعقب يعلى وأعقبوا كلهم.
وكانت البنت اسمها خزرج، تزوجت في الأزد، وتوفي شداد سنة أربع وستين، ونشأ لأبنته نسل إلى سنة ثلاثين ومئة.
وكان فيها خروج أبي مسلم، وزوال أمر بني أمية، فرجفت الشام، وكان أكثر ذلك ببيت المقدس، ففني كثير ممن كان فيها من الأنصار وغيرهم، ووقع المنزل الذي كان فيه محمد بن شداد على كل من كان فيه من أهله وولده ففنوا جميعاً، وسلم محمد قد ذهبت رجله تحت الردم، فعمر بعد ذلك إلى قدوم المهدي.
وكانت النعل وزجاً، خلفها شداد عند ولده، فصارت إلى محمد بن شداد، فلما أن رأت أخته خزرج ما نزل به وبأهله، وأنه لم يبق منهم أحد جاءت فأخذت فرد النعلين،(10/278)
وقالت: يا أخي، ليس لك نسل، وقد رزقت ولداً، وهذه مكرمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحب أن تشرك فيها ولدي، فأخذتها منه، وكان ذلك في أوان الرجفة فمكثت النعل عندها حتى أدرك أولادها.
فلما أن صار المهدي إلى بيت المقدس، أتوه بها، وعرفوه نسبها من شداد، فعرف ذلك، وقبل النعل منهما، وأجاز كل واحد منهم بألف دينار، وأمر لكل واحد منهما بضيعة، وكتب كل واحد منهما في مئة من العطاء، ثم بعث إلى محمد بن شداد فأتي به يحمل على أيدي الرجال للزمانة التي كانت به، أصابته الرجفة، فسأله عن خبر النعل، فصدق مقالة الرجلين فيها، وقال له المهدي: ائتني بالأخرى، فبكى محمد بن شداد، واسترحمه، وناشده بقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إن الأمر قد قرب مني فلا تفجعني بها، ولا تسلبني مكرمة اختصنا بها ابن عمك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي الرحمة، فرق المهتدي للشيخ، وأقرها على حالها.
فحدث جماعة من مشايخ الأنصار من ولد شداد وغيره: أن الرجلين هلكا وهلك ما كان لهما ولم يعقبا.
كان أبو الدرداء يقول: إن لكل أمة فقيها، إن فقيه هذه الأمة شداد بن أوس.
قال عبادة: من الناس من أوتي علماً ولم يؤت حلماً، ومنهم من أوتي حلماً ولم يؤت علماً، وإن شداد بن أوس من الذين أوتوا العلم والحلم.
قال سعيد بن عبد العزيز: فضل شداد بن أوس الأنصار بخصلتين: ببيان إذا نطق، بكظم إذا غضب.
شيع شداد بن أوس رجالاً غزوا في سبيل الله فقالوا: يا أبا يعلى، انزل كل معنا، قال: لو كنت أكلت الطعام قبل أن أعلم من أين أصله منذ بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأكلت معكم.(10/279)
كان شداد بن أوس إذا أخذ مضجعه من الليل كان كالحبة على المقلى فيقول: اللهم، إن النار قد حالت بيني وبين النوم، ثم يقوم فلا يزال يصلي حتى يصبح.
وعن شداد بن أوس أنه قال: الموت أفظع هولاً في الدنيا والآخرة على المؤمن، والموت أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض وغلي في القدور، ولو أن الميت نشر فأخبر أهل الدنيا بألم الموت ما انتفعوا بعيش ولا لذوا بنوم.
قال معاوية لشداد بن أوس: أنا أفضل أم علي؟ وأيّنا أحب إليك؟ قال: عليّ أقدم هجرة وأكثر مع رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الخير سابقة، وأشجع منك نفساً، وأسلم منك قلباً، وأما فقد مضى عليّ، وأنت اليوم عند الناس أرجى منه.
توفي أبو يعلى بفلسطين سنة ثمان وخمسين وهو ابن خمس وسبعين.
شداد بن عبد الله أبو عمار
القرشي الأموي مولاهم حدث شداد بن عبد الله عن أبي أمامة قال: بينما أنا قاعد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله، أني أصبت حداً فأقمه عليّ فسكت عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أعاد فقال: يا رسول الله، إني أصبت حداً فأقمه عليّ فسكت عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أعاد فقال: يا رسول الله، أصبت حداً فأقمه عليّ فسكت عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أعاد فقال: يا رسول الله، أني أصبت حداً فأقمه عليّ، فأقيمت الصلاة، فلم يرد عليه شيئاً حتى صلى النبي ثم انصرف. قال شداد: فحدثني أبو أمامة قال: أني مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرجل يتبع ويقول: أني أصبت حداً فأقمه عليّ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرأيت حين خرجت من بيتك أليس توضأت فأحسنت الوضوء قال: بلى يا رسول الله. قال: فإن الله عزّ وجلّ قد غفر لك حدّك أو قال: غفر لك ذنبك.
وحدث شداد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن ينصرف من صلاته استغفر ثلاث مرات ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام.(10/280)
وحدث شداد عن أبي أمامة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من لا خلاق له في الآخرة.
قال شداد: صحبت أنساً وهو وافد إلى عبد الملك بن مروان، فكان يصلي على بعيره، حدث شداد أبو عمار القارئ قال: مر موسى عليه السلام برجل رافع يديه يدعو الله، فقال موسى: يا رب، عبدك يدعوك فاستجب له، افعل به، فأوحى الله إليه: يا موسى، لو رفع إلي يديه حتى تنقطعا من آباطهما ما استجبت له حتى يرد غرباليّ اللتين الذين غصبهما.
قال الحافظ: شداد القارئ لا يكنى أبا عمار، وشداد أبو عمار لا يعرف بالقارئ
شداد بن عبيد الله بن شداد
أبو محمد ويقال: أبو هند الخولاني القارئ الضرير من أهل دمشق، يعرف بابن الأحنف.
حدث عن أبي سلام الأسود قال: بعث إلي عمر بن عبد العزيز. قال: فقدمت عليه. فلما دخلت قال لي: ادنه حتى كادت ركبتي تلزق بركبته فقال: حدثني حديث ثوبان عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: حوضي كما بعد عدن إلى عمان، أحلى من العسل، أشد بياضاً من اللبن، أكاويبه كنجوم السماء، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً. وأول الناس وروداً المهاجرون، الشعث رؤوساً والدنس ثياباً الذين لا يفتح لهم السدد، ولا ينكحون الممنعات، الذين يعطون كل الذي عليهم، ولا يعطون كل الذي لهم، فقال عمر بن عبد العزيز: أما الممنعات فقد نكحت بنت عبد الملك، وأما السدد فقد فتحت لي، والله لأشعثن رأسي ولأدنسن ثيابي.(10/281)
وعن إسماعيل بن عبيد الله وسمع شداد بن عبيد الله الخولاني، وكان رأس الحلقة التي في المسجد. قال شداد: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أنا وأمة سوداء سعفاء الخدين عملت بطاعة الله إلا سواء، فقال إسماعيل: كذبت لم يجعل الله تبارك وتعالى لنبيه عدلاً من أمته.
شداد بن قيس
كان كاتب معاوية عن أبي بكر الهذلي أن علياً لما استخلف عبد الله بن عباس على البصرة سار إلى الكوفة فتهيأ منها إلى صفين، فاستشار الناس في ذلك، فأشار عليه قوم أن يبعث الجنود ويقيم، وأشار آخرون بالمسير، فأبى إلا المباشرة فجهز الناس، فبلغ ذلك معاوية فدعى ابن العاص فاستشاره فقال: أما إذ بلغك أنه يسير فسر بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. قال: أما إذاً يا أبا عبد الله، فجهز الناس فجاء عمرو فحضض الناس وضعّف علياً وأصحابه وقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم، وأوهنوا شوكتهم، وقطعوا حدهم ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلي قد قتلهم ووترهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار علي في شرذمة قليلة منهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه، وفي دمكم أن تبطلوه، وكتب في أجناد الشام وعقد لواءه فعقد لوردان غلامه فيمن عقد وابنيه عبد الله ومحمد وعقد علي لغلامه قنبر ثم قال عمرو: من الرجز
هل يغنين وردان عني قنبراً ... وتغني السكن عني حميرا
إذا الكماة لبسوا السنورا
فبلغ ذلك علياً فقال:
لأصبحن العاصي ابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص
فلما سمع ذلك معاوية قال: ما أرى ابن أبي طالب إلا وقد وفى لك، فجاء معاوية(10/282)
يتأنى في مسيره، وكتب إلى من كان يرى أنه يخاف علياً أو طعن عليه ومن أعظم دم عثمان، فاستغواهم إليه. فلما رأى ذلك الوليد بعث إليه: من الوافر
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق وما تريم
وإنك والكتاب إلى علي ... كدابغة وقد حلم الأديم
يمنيك الإمارة كل ركب ... لا يفاض العراق بها رسيم
وليس أخو الترات بمن توانى ... ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حياً ... لجرّد لا أليف ولا سؤوم
ولا نكلٌ على الأوتار حتى ... يسيرها ولا برم جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ... فهم صرعى كأنهم الهشيم
فدعا معاوية شداد بن قيس كاتبه فقال: ابغني طوماراً، فأتاه شداد بطومار فأخذ القلم يكتب، فقال: لا تعجل. اكتب: من الطويل
ومستعجب مما يرى من أناتنا ... ولو زينته الحرب لم يترمرم
وقال: أطوِ الطومار فأرسل به إلى الوليد. فلما فتحه لم يجد فيه غير هذا البيت.
شراحيل بن آدة
ويقال: شراحيل بن شراحيل. ويقال: شراحيل بن كلب بن كلب بن آدة ويقال: شرحبيل، أو الأشعث الصنعاني - صنعاء الشام حدث عن عبادة قال: أخذ علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أخذ على النساء ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا يعضه بعضكم بعضاً، ولا تعصوني في معروف آمركم به، فمن أصاب منكم حداً فعجلت له العقوبة فهو كفارة له، ومن أخرت عقوبته فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.(10/283)
شراحيل بن عبيدة بن قيس العقيلي
شهد غزو القسطنطينية مع مسلمة بن عبد الملك. وقيل: أمد به سليمان بن عبد الملك مسلمة.
حدث الليث بن تميم الفارسي وغيره: أن ليون لما رأى ما قد لزمه من الحصار، وأشفق من الغلبة كتب إلى صاحب برجان: أما بعد. فقد بلغك نزول العرب بنا وحصارهم إيانا، وليسوا يريدوننا خاصة دون غيرنا من جماعة من يخالف دينهم، وإنما يقاتلون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى، فما كنت صانعاً يوم نعطيهم الجزية أو يدخلوا علينا عنوة ثم يفضون إليك وإلى غيرك فاصنعه يوم يأتيك كتابي هذا. فكتب صاحب برجان إلى مسلمة: أما بعد. فقد بلغنا نزولك بمدينة الروم وبيننا وبينهم من العداوة ما قد علمتم، وكل ما وصل إليهم فهو لنا سار، فمهما احتجت إليه من مدد أو عدة أو مرفق فأعلمناه فآتيك منه ما أحببت. فكتب إليه مسلمة: أنه لا حاجة لنا بمدد ولا عدة، ولكنا نحتاج إلى الميرة والتسوّق، فابعث إلينا ما استطعت.
فكتب إليه صاحب برجان: إني ققد وجهت إليك سوقاً عظيما فيه من كل ما أحببت من باعة يضعفون عن النفوذ إليكم به ممن يمرون به من حصون الروم، فابعث من يحرزه إليك. قال: فوجه إليهم خيلاً عظيمة وولي عليهم رجلاً ونادي في العسكر: ألا من أراد البيع والشرى فليخرج مع فلان حتى تلقوا هذا السوق، فخرج بشرّ عظيم يبيع بعضهم بعضاً على غير حذر ولا خوف من عدو حتى أفضوا إلى عسكر السوق في مرج واسع قد أطافت به الجبال وكتائب برجان في شعاب تلك الجبال وغياضه. فلما نزل والي الجيش بعسكره وانتشر الناس في السوق وشغلهم البيع والشرى شدت عليهم الكتائب فقتلوا ما شاؤوا وأسروا ما شاؤوا إلا من أعجزهم. ثم والت برجان إلى بلادها، وبلغ مسلمة ومن معه فأعظمهم(10/284)
ذلك وكتب به مسلمة إلى سليمان بن عبد الملك يخبره بما كان، فقطع بعثاً على أهل الشام إلى برجان وولى عليهم شراحيل بن عبيدة فسار بهم حتى أجاز الخليج ثم مضى إلى بلاد برجان فساح في أهلها، وأتوه فقاتلوه فهزمهم الله ثم قفل إلى مسلمة فكان عنده.
شراحيل بن عمرو أبو عمر العنسي
من أهل دمشق حدث عن عبادة بن نسي بسنده عن معاذ من جبل قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من حافظ على سبع تسبيحات في كل ركعة وسجدة من الصلاة المكتوبة أدخله الله الجنة.
وحدث عن أيوب بن مسيرة بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قيام الساعة في الصف للقتال في سبيل الله خير من قيام ستين سنة.
وبه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أن رجلاً سأله عقالاً من المغنم فأعرض عنه، ثم عاد فأعرض عنه فلما كثر عليه قال: من لك بعقال من نار؟!
شراحيل بن مرثد أبو عثمان الصنعاني
شهد قتال خالد بن الوليد مسيلمة وشهد فتح دمشق.
حدث أبو عثمان الصنعاني قال: لما فتح الله علينا دمشق خرجنا مع أبي الدرداء في مسلحة ببرزة، ثم تقدمنا مع أبي عبيدة بن الجراح ففتح الله بنا حمص ثم تقدمنا مع شرحبيل بن السمط فأوطأ الله بنا ما دون النهر يعني الفرات، وحاصرنا عانات، وأصابنا عليه لأواء.
وقدم علينا سلمان الخير في مدد لنا فقال: ألا أحدثكم بشيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(10/285)
عسى أن ييسر الله بعض ما أنتم فيه؟ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه صائماً لا يفطر وقائماً لا يفتر، فإن مات مرابطاً جرى له صالح ما كان يعمل حتى يبعث، ووقي عذاب القبر.
حدث أبو عثمان أنه سمع أبا الدرداء يقول: إذا ليعقبن الله المشائين إلى المساجد في الظلم نوراً تاماً يوم القيامة.
شراحيل بن مسلمة بن عبد الله
ويقال: شراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي حدث المهلهل بن صفوان قال:
كنت أخدم إبراهيم بن محمد في الحبس وكان معه في الحبس عبد الله بن عمر بن عبد العزيز وشراحيل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وكانوا يتزاورون، وخص الذي بين إبراهيم وشراحيل، فأتاه رسوله يوماً بلبن فقال: يقول لك أخوك: إني شربت من هذا اللبن فاستطبته فأحببت أن تشرب منه، فتناوله فشرب فتوصب من ساعته وتكسر جسده، وكان يوماً يأتي فيه شراحيل فأبطأ عليه، فأرسل إليه: جعلت فداك قد أبطأت، فما حبسك؟ فأرسل إليه إني لما شربت من اللبن الذي أرسلت به إلي أخلقني، فأتاه شراحيل مذعوراً فقال: لا والله الذي لا إله إلا هو ما شربت اليوم لبناً، ولا أرسلت به إليك فإنا لله وإنا إليه راجعون، احتيل عليك والله. فما بات إلا ليلته وأصبح من الغد ميتاً.
شرحبيل بن السمط بن شرحبيل
ابن الأسود بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور ابن مرتع ابن كندة، أبو يزيد، ويقال: أبو السمط الكندي يقال إن له صحبة، ويقال لا صحبة له. استعمله معاوية على بعض جيوشه وكان يسكن حمص، واستقدمه معاوية إلى دمشق قبل صفين ليستشيره.(10/286)
روي أن أبا هريرة وابن السمط كانا يقولان: لا يزال المسلمون في الأرض حتى تقوم الساعة. وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تزال طائفة قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها.
قال ابن مندة: هذا حديث لا يعرف إلا من حديث الحمصيين.
حدث ابن السمط أنه خرج مع عمر إلى ذي الحليفة يريد مكة، فصلى ركعتين فسألته عن ذلك فقال: إنما أصنع كما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع.
وعن شرحبيل بن السمط قال: طال رباطنا أو إقامتنا على حصن، فاعتزلت من العسكر أنظر في ثيابي لما آذاني مه. قال: فمر بي سلمان فقال: ما تعالج يا أبا السمط؟ فأخبرته، فقال: إني لأحسبك تحب أن تكون عند أم السمط، فكانت هي تعالج هذا منك. قلت: إي والله. قال: لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: رباط يوم وليلة، أو يوم أو ليلة كصيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً أجري عليه مثل ذلك من الأجر وأجري عليه الرزق وأمن من الفتان، واقرؤوا إن شئتم: " والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً " إلى آخر الآيتين.
ولما بُغت معاوية، أطبقوا على منع الصدقة، وأجمعوا على الردة قام شرحبيل بن السمط وأبوه في بني معاوية وقالا: والله إن هذا لقبيح بأقوام أحرار التنقل، وإن الكرام ليكونون على الشبهة فيتكرمون أن ينتقلوا منها إلى أوضح منها مخافة العار، فكيف بالرجوع عن الجميل وعن الحق إلى القبيح والباطل؟ اللهم، إنا لا نمالئ قومنا على هذا،(10/287)
وإنا لنادمون على مجامعتهم إلى يومنا هذا، وخرج شرحبيل والسمط حتى أتيا زياد بن لبيد فانضما إليه.
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل شرحبيل بن السمط على المدائن وأبوه بالشام، فكتب إلى عمر إنك تأمر ألا يفرق بين السبايا وبين أولادهن فإنك قد فرقت بيني وبين ابني، فكتب إليه فألحقه بابنه.
كان شرحبيل بن السمط على جيش فقال إنكم نزلتم أرضاً فيها نساء وشراب فمن أصاب منكم حداً فليأتنا حتى نطهره. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه: لا أم لك تأمر قوماً ستر الله عليهم أن يهتكوا ستر الله عليهم؟! حدث بكر بن سوادة قال: كان رجل يعتزل الناس إنما هو وحده، فأتاه أبو الدرداء فقال: ما يحملك على هذا؟! فقال: أخاف أن أسلب ديني ولا أشعر. قال: فحدثت بذلك رجلاً من أهل الشام فقال: ذاك شرحبيل بن السمط.
كتب معاوية إلى شرحبيل يسأله القدوم عليه وهيأ له رجالاً يخبرونه أن علياً قتل عثمان، منهم يزيد بن أسد البجلي وبسر بن أرطأه وأبو الأعور السلمي فقدم إليه.
قال الأصمعي: بينما معاوية بن أبي سفيان يساير شرحبيل بن السمط إذ راثت دابة شرحبيل، وكان عظيم الهامة، وفطن معاوية بروث الدابة وساء ذك شرحبيل فقال له معاوية: إنه يقال: إن الهامة إذا عظمت دل ذلك على وفور الدماغ وصحة العقل قال: نعم يا أمير المؤمنين إلا هامتي فإنها عظيمة وعقلي ضعيف ناقص، فتبسم معاوية قال: كيف ذلك لله أنت؟ قال: لإٌطعامي هذا البارحة مكوكي شعير. قال: فضحك معاوية وحمله على دابة من مراكبه.
توفي شرحبيل بن السمط سنة أربعين، وصلى عليه حبيب بن مسلمة الفهري. ولما تقدم حبيب قال: صلوا على أخيكم واجتهدوا له في الدعاء، وليكن من دعائكم: اللهم، اغفر لهذه النفس الحنيفة المسلمة، واجعلها من الذين تابوا واتبعوا سبيلك وقها عذاب الجحيم. واستنصروا الله على عدوكم.(10/288)
شرحبيل بن عبد الله بن المطاع
ابن عمرو ويقال: المطاع بن عبد العزى بن قطن بن الغوث بن مرّ وهو شرحبيل بن حسنة أبو عمار، ويقال: أبو عبد الرحمن ويقال: أبو واثلة الكندي حليف بني زهرة، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأحد أمراء الأجناد الذين وجههم أبو بكر لفتح الشام. وهو أخو عبد الرحمن بن حسنة. وحسنة أمهما.
حدث أبو صالح الأشعري عن عبد الله الأشعري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى رجل يصلي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو مات هذا على حاله مات على غير ملة محمد " ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الذي لا يتم ركوعه وينقر في سجوده مثل الجائع يأكل التمرة والتمرتين لا يغنيان عنه شيئاً ". قال أبو صالح: فقلت لأبي عبد الله: من حدثك هذا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: أمراء الأجناد: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان.
قال الواقدي: شرحبيل بن حسنة من كندة قال الزبيري: حسنة ليست أمه وهي من أهل عَدَولي ساحل اليمن، وهي من المهاجرات وهي مولاة. وكانت تحت سفيان بن معمر بن حبيب الجمحي.
قالوا: وولاؤها لمعمر بن حبيب بن وهب بن حُذافة.
وعن الشفاء بنت عبد الله قالت: دخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألته وشكوته إليه، فجعل يعتذر إلي، وجعلت ألومه.(10/289)
قالت: ثم إنه حانت صلاة الأولى فدخلت بيت ابنتي وهي عند شرحبيل بن حسنة، فوجدت زوجها في البيت فوقعت به، ألومه: حضرت الصلاة وأنت هاهنا؟ فقال: يا عمة لا تلوميني، كان لي ثوبان استعار أحدهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجدت في نفسي من ذلك، فقلت: ومن يلومه وهذا شأنه؟ قال شرحبيل: إنما كان أحدهما ثوب درع فرقعنا جيبه.
توفي شرحبيل بن حسنة في طاعون عمواس بالشام سنة ثمان عشرة في خلافة عمر بن الخطاب. وهو ابن سبع وستين سنة.
وكان شرحبيل قدم مصر رسولاً من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملكها، وتوفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بمصر.
وافتتح شرحبيل ابن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه وذلك بأمر أبي عبيدة بن الجراح.
قال ابن شهاب: لما استخلف عمر بن الخطاب نزع خالد بن الوليد وأمر أبا عبيدة بن الجراح. قدم عمر الجابية فنزع شرحبيل بن حسنة وأمر جنده أن يتفرقوا على الأمراء الثلاثة، فقال له شرحبيل: يا أمير المؤمنين، أعجزت أم خنت؟ قال: لم تعجز ولم تخن قال: فلم عزلتني؟ قال: تحرجت أن أؤمرك وأنا أجد أكفأ منك. قال: فاعذروني يا أمير المؤمنين في الناس قال: سأفعل ولو علمت غير ذلك لم أفعل، فقام عمر فعذره، ثم أمر عمرو بن العاص بالمسير إلى مصر وبقي الشام على أميرين أبي عبيدة بن الجراح ويزيد بن سفيان.
قال عبد الرحمن بن غنم: وقع الطاعون في الشام فخطب عمرو بن العاص فقال: إن هذا الطاعون رجس ففروا منه في الأودية والشعاب، فبلغ ذلك شرحبيل بن حسنة فغضب، فجاء يجر ثوبه، ونعلاه في يده فقال: كذب عمرو بن العاص، صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمرو أضل من جمل أهل، ولكنه رحمة ربكم ودعوة نبيكم ووفاة الصالحين قبلكم، فبلغ ذلك معاذاً فقال: اللهم، اجعل نصيب آل معاذ الأوفر فماتت ابنتاه فدفنهما في قبل واحد، وطعن ابنه عبد(10/290)
الرحمن فقال: " الحق من ربك فلا تكونن من الممترين " فقال: " ستجدني إن شاء الله من الصابرين " وطعن معاذ في ظهر كفه فجعل يقبله ويقول: هي أحب إلي من حمر النعم، فإذا سُري عنه قال: رب غم غمك فإنك تعلم أني أحبك. ورأى رجلاً يبكي عنده يقال له عميرة فقال: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي على دنيا كنت أصبتها منك ولكنني أبكي على العلم الذي كنت أصبته منك. قال: فلا تبك فإن إبراهيم كان في الأرض وليس بها عالم فأتاه الله علماً، فإذا أنا مت فاطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن سلام وسلمان وعويمر أبي الدرداء.
وفي حديث آخر:
فقام شرحبيل بن حسنة وهو أحد الغوث فقال: والله لقد أسلمت وإن أميركم هذا أضل من جمل أهله، فانظروا ما يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا وقع بأرض وأنت بها فلا تهربوا فإن الموت في أعناقكم، وإذا كان بأرض فلا تدخلوها فإنه يحرف القلوب ".
شرحبيل بن محمد الداراني
حدث عن محمد بن عثمان بن مرة الداراني عن أبيه عن جده أن أبا مسلم الخولاني حضره العيد فقالت له امرأته نائلة: يا أبا مسلم، لو أنك أتيت معاوية فسألته أن يبعث لنا سكراً وجوزاً ويبعث لنا كذا وكذا، وكان أبو مسلم يدلج من داريا فيصلي في مسجد دمشق، فكان ربما يجيء إلى الباب قبل أن يفتحه المؤذنون فينفتح له الباب فيعلم المؤذنون أن أبا مسلم قد دخل، وأن معاوية بعث رجلاً فقال: اذهب حتى تقف خلف أبي مسلم حتى تسمع ما يقول. فلما أن دخل أبو مسلم المسجد وقف مقامه الذي كان يقف فيه فقال: اللهم، إن نائلة سألتني أن أسأل معاوية كذا وكذا وإني لا أسأله، ولكني أسألك إياه من خزائنك، فذهب الرجل فأخبر معاوية فأرسل له كل ما ذكر من لجوز وغيره. فلما انصرف أبو مسلم إلى منزله لقيته نائلة فقالت له: قد جاءنا كذا وكذا وجاءنا كذا، ولكنك ليس تطيعني، فحمد الله على ذلك ولم يخبرها.(10/291)
شريح بن أوفى بن يزيد بن زاهر
ابن حرّ بن شيطان بن حذيم بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة ابن مازن بن الحارث بن قطيعة ابن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعيد بن قيس عيلان العبسي الكوفي كان في المسيرين الذين سيرهم عثمان بن عفان في خلافته من الكوفة إلى دمشق، ثم إن شريح بن أوفى خرج على علي بن أبي طالب عليه السلام وأنكر تحكيمه الحكمين، فقتل بالنهروان.
روى الضحاك بن عثمان الحزامي قال: كان هوى محمد بن طلحة بن عبيد الله مع علي بن أبي طالب، فنهى علي عن قتله، وقال: من رأى صاحب البرنس الأسود فلا يقتله، يعني محمداً. فقال لعائشة يومئذ: يا أماه، ما تأمريني؟ فقالت: أرى أن تكون كخير ابني آدم: أن تكف يدك فكف يده، فقتله رجل من بني أسد بن خزيمة يقال له كعب بن مدلج من بني منقذ بن طريف. ويقال: قتله شداد بن معاوية العبسي. ويقال: بل قتله عصام بن مبشر البصري. وعليه كثرة الحديث وهو الذي يقول في قتله: من الطويل
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
دلفت له بالرمح من تحت بزه ... فخر صريعاً لليدين وللفم
شككت إليه بالسنان قميصه ... فأرديته عن ظهر طرف مسوم
أقمت له في دفعة الخيل صلبه ... بمثل قدامى النسر حران لهذم
يذكرني حاميم لما طعنته ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
على غير شيء غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحق يندم
قال: فقال علي حين رآه صريعاً: صرعه هذا المصرع برّ أبيه.
وقال يحيى الأموي: قتل محمد بن طلحة كعب بن مدلج.(10/292)
وقال غيره: شريح بن أوفى، فقال في قتله وذكر له بعض هذه الأبيات قال أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري: شريح بن أوفى من أصحاب علي بن أبي طالب.
ذكر أبو حسان الزيادي أنه هو قاتل محمد بن طلحة الذي يقال له السَجاد وعن أبي حسان يقول: قتله الأشتر.
حدث أبو مخنف عن أبي حباب قال: ووقع شريح بن أوفى إلى جانب جدار، يعني: يوم النهر فقاتل على ثلمة فيه طويلاً من نهار، وكان جل من يليه من همدان، فأخذ يرتجز ويقول:
قد علمت دارية عبسية ... ناعمة في أهلها كفيه
إني سأحمل ثلمتي العشية
فشد عليه قيس بن معاوية المرهبي فقطع رجله فجعل يقاتلهم وهو يقول: القرم يحمي شلوه معقولا ثم شد قيس بن معاوية فقتله.
قال أبو عبيد: سنة تسع وثلاثين فيها قتلت الخوارج من أهل النهر، منهم عبد الله بن وهب الراسبي، وزيد بن حصن الطائي، وشريح بن أوفى العبسي، وأبي بن قيس النخعي. وكانوا هم القراء من أصحاب علي قبل الحكمين.(10/293)
شريح بن الحارث بن قيس
ابن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور ابن مرتع أبو أمية الكندي القاضي ويقال: شريح بن شرحبيل ويقال: ابن شراحيل
ويقال: إنه من أولاد الفرس الذين كانوا باليمن. أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يلقه. ويقال: بل لقيه. واستقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة، وأمّره علي وأقام على القضاء بها ستين سنة. وقضى بالبصرة سنة، وقدم دمشق في ولاية معاوية، وحاكم إلى قاض كان بها.
حدث شريح القاضي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم أنا، رضوان الله عليهم أجمعين.
حدث قاضي المصرين شريح بعن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله عز وجل يدعو صاحب الدين يوم القيامة فيقول: يا بن آدم، فيم أضعت حقوق الناس؟ فيم أذهبت أموالهم؟ فيقول: يا رب، لم أفسده، ولكني أصبت به إما غرقاً وإما حرقاً. قال: فيقول تبارك وتعالى: أنا أحق من قضى عنك اليوم، فترجح حسناته على سيئاته فيؤمر به إلى الجنة.
جاء شريح إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم ثم قال: يا رسول الله، إن لي أهل بيت ذوي عدد باليمن، فقال له جئ بهم، فجاء بهم والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قبض.
قال عطاء بن مصعب: تقدم شريح إلى قاضٍ لمعاوية يطالب رجلاً بحق له، فقال القاضي لشريح: أرى حقك قديماً. قال شريح: الحق أقدم منك ومنه، فقال: إني أظنك ظالماً، قال: ما على ظنك رحلت من العراق. قال: ما أظنك تقول الحق. قال: لا إله إلا الله. قال: فنمي الخبر إلى معاوية فقال: هذا شريح فأمر أن يفرغ من أمره ويعجل رده إلى العراق.
وعاش شريح بن الحارث عشرين ومئة سنة. وعاش عدي بن حاتم عشرين ومئة سنة، وعاش سويد بن غفلة عشرين ومئة سنة.(10/294)
وكان شريح إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله علي بالإسلام ثم عديد لكندة. ويقال إنه إنما خرج إلى المدينة لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا من ذلك فخرج، وكان شاعراً عائفاً زاجراً قائفاً كوسجاً، لا لحية له.
العائف: الذي يعيف الطير أن يزجرها. ولم يرد من قال: إنه عائف: هذه العيافة، وكيف يريد هذا؟ وقد روي أن العيافة من الجبت ولكنه أراد أنه مصيب الظن صادق الحدس، فكأنه عائف. وهذا كما يقال: ما أنت إلا ساحر إذا كان رقيقاً لطيفاً، وما أنت إلا كاهن إذا أصاب بظنه. والقائف الذي يعرف الآثار ويتبعها ويعرف شبه الرجل في ولده وأخيه.
كان مالك بن أنس يقول: كان أهل البصرة عندنا هم أهل العراق وهم الناس. ولقد كان بالكوفة رجال: علقمة والأسود وشريح، حتى وثب إنسان يقال له حماد فاعترض هذا الدين، فقال فيه برأيه ففسد الناس، فالله المستعان " وللبسنا عليهم ما يلبسون ".
قيل لشريح: بأي شيء أصبت هذا العلم؟ قال: بمفاوضة العلماء، آخذ منهم وأعطيهم.
قال الشعبي: أخذ عمر بن الخطاب فرساً من رجل على سوم فحمل عليه رجلاً فعطب عنده فخاصمه فقال: اجعل بيني وبينك رجلاً. فقال الرجل: فإني أرضى بشريح العراقي، فأتوا شريحاً فقال شريح لعمر: أخذته صحيحاً سليماً فأنت له ضامن حتى ترده صحيحاً سالماً، فأعجب عمر بن الخطاب فبعثه قاضياً.
حدث شريح أن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاقض بها، فإن(10/295)
جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانظر ما أجمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن به سنة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد رأيك ثم تقدم فتقدم، وإن شئت أن أتأخر فتأخر. ولا أرى التأخير إلا خيراً لك.
وعن هبيرة بن يريم أن علياً جمع الناس في الرحبة وقال: إني مفارقكم فاجتمعوا في الرحبة، رجال أيما رجال، فجعلوا يسألونه حتى نفد ما عندهم ولم يبق إلا شريح فجثا على ركبتيه وجعل يسأله، فقال له علي: اذهب فأنت أقضى العرب.
قال الشعبي:
خرج علي بن أبي طالب عليه السلام إلى السوق، فإذا هو بنصراني يبيع درعاً فعرف علي الدرع، فقال: هذه درعي، بيني وبينك قاضي المسلمين. ((وكان قاضي المسلمين شريح، كان علي استقضاه. فلما رأى شريح أمير المؤمنين قام من مجلس القضاء وأجلس علياً في مجلسه وجلس شريح قدامه إلى جنب النصراني، فقال علي: أما يا شريح لو كان خصمي مسلماً لقعدت معه مجلس الخصم ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تصافحوهم ولا تبدؤوهم بالسلام ولا تعودوا مرضاهم، ولا تصلوا عليهم، وألجئوهم إلى مضائق الطريق، وصغروهم كما صغرهم الله. اقض بيني وبينه يا شريح. قال: فقال شريح: ما تقول يا أمير المؤمنين؟ قال: فقال علي: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان. قال: فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال النصراني: ما أكذب أمير المؤمنين، الدرعي هي درعي. قال: فقال شريح: ما أرى أن تخرج من يده فهل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح. قال: فقال النصراني: أما أنا فأشهد أن هذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يجيء إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، هي والله يا أمير المؤمنين درعك اتبعتك من الجيش وقد زالت عن جملك الأورق فأخذتها، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: فقال علي عليه السلام: أما إذ أسلمت فهي لك وحمله على فرس عتيق. قال الشعبي: لقد رأيته يقاتل المشركين.
وفي رواية: وفرض له ألفين وأصيب معه يوم صفين.(10/296)
وفي رواية: أنه ضاع لعلي عليه السلام درع يوم الجمل فأصابها رجل من بني قفل فباعها، فعرفت عند رجل من اليهود، فقال: اشتريتها من بني قفل فخاصمه علي إلى شريح، فشهد لعلي الحسن بن علي ومولاه قنبر، فقال شريح لعلي: زدني شاهداً مكاالحسن، فقال: أترد شهادة الحسن؟ قال: لا ولكني حفظت عنك أنك قلت: لا تجوز شهادة الولد لوالده، فقال علي عليه السلام: الحق ببانقيا واقض عليها، واستعمل على الكوفة محمد بن يزيد بن خليدة الشيباني ثم عزله وأعاد شريحاً.
قال علي عليه السلام لشريح: لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده فانظر ما تقضي، وفيم تقضي، وكيف تقضي، وفيم تمضي، وإليه تفضي.
وعن عامر قال: جاءت امرأة إلى علي تخاصم زوجها طلقها، فقالت: قد حضت في شهر ثلاث حيض، فقال علي لشريح: اقض بينهما. قال: يا أمير المؤمنين، وأنت هاهنا؟! قال: اقض بينهما. قال: إن جاءت من بطانة أهلها ممن ترضى دينه وأمانته يزعم أنها حاضت ثلاث حيض تطهر عند كل قرء وتصلي جاز لها، وإلا فلا. فقال علي: قالون. وقالون بلسان الروم: أحسنت. وقيل: قالون بالرومية جيد.
أتي شريح ابني عم أحدهما زوج والآخر أخ لأم، فقال شريح: للزوج النصف وما بقي فللأخ من الأم. وقال علي: أخطأ العبد الأبظر: للزوج النصف وللأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفان.
نظر شريح إلى رجل يقوم على رأسه وهو يضحك وهو في مجلس القضاء، فنظر إليه شريح فقال له: ما يضحكك وأنت تراني أتقلب بين الجنة والنار؟! حدث سالم أبو عبد الله قال: شهدت شريحاً وتقدم إليه رجل قال: أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، فقال:(10/297)
إني رجل من أهل الشام. قال: بعيد سحيق. قال: إني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين. قال: إني اشترطت لها دارها. قال: الشرط أملك. قال: اقض بيننا قال: قد فعلت.
قال أبو عمرو الشيباني:
كنت عند شريح فأتاه قوم برجل عليه صك بخمس مئة درهم ديناً فقالوا: إن مولى لنا مات وترك على هذا خمس مئة درهم ديناً، ونحن وارثو مولانا، فقال له شريح: ما تقول؟ فقال: كان أخير رجلاً حراً مولى لهؤلاء وكان موسراً، وأنا عبد مملوك لقوم آخرين، وكان أعطاني هذه الدراهم أنتفع بها، فمات أخي وترك مالاً كثيراً ورثه هؤلاء عنه، فقلت لهم: دعوا لي هذه الدراهم فإني معيل. قال: فكلمهم شريح، وقال لهم: لا عليكم أن تدعوا له هذه الدراهم وسائر ميراث أخيه لكم فقد ذكر عياله، فأبوا وقالوا خذ لنا بحقنا. قال: فقال لهم شريح: اتقوا الله، وافعلوا. فأبوا وقالوا: خذ لنا بحقنا، فقال له شريح: ادفعها إليهم فإنك عبد لا ميراث لك، فأقيموا من بين يديه على ذلك. قال أبو عمرو الشيباني: فلما رأيت جزعه وشدة همه قلت له: ويحك، ذكرت أنك معيل فما عيالك؟ قال: زوجة وأولاد ذكور وإناث، فقلت: فما زوجتك؟ حرة أو أمة؟ فقال: حرة، فرجعت إلى شريح فقلت: يا أبا أمية، ألا ترى ما يقول هذا الرجل؟ قال: وما يقول؟ قلت: يقول: لي أولاد أحرار من امرأة حرة. قال: ردهم علي، فرددتهم فأعاد الكلام فاعترفوا به، وقالوا: نعم، له أولاد أحرار، فقال: ولد حر من امرأة حرة فقال شريح: فابن الأخ الحر أولى بالميراث منكم، والله، لا تبرحوا حتى تعطوه ما في أيديكم من ميراث أخيه. قال: فانتزع ذلك منهم فدفعه إليه.
قال محمد بن سيرين: جاء رجل إلى شريح فقال: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها؟ قال: النصف. قال: فمضى، ثم عاد وله خصوم له في هذه المسألة، فإذا هي عشرة أسهم يجب له منها ثلاثة أسهم. قال الوليد بن مسلم: يفسر ذلك أنها تركت زوجها وأمها وأختها لأبيها وأمها، وأختها لأمها فأعطاه ثلاثة اسهم من عشرة، وكان الرجل بعد ذلك يقول: انظروا إلى قاضيكم هذا، أتيته فقلت: إن امرأتي توفيت ولم تترك ولداً فما لي من ميراثها(10/298)
فقال النصف، فلما تحاكمنا إليه ما أعطاني النصف ولا الثلث، فكان شريح يقول له: يا عدو نفسه، إذا رأيتني ذكرت حكماً جائراً، وإذا رأيتك ذكرت رجلاً فاجراً تظهر الشكوى وتكتم حقيقة القضاء.
قال مجاهد: اختصم إلى شريح في ولد هرة فقالت امرأة: هو ولد هرتي، وقالت الأخرى: هو ولد هرتي، فقال شريح: ألقها مع هذه فإن هي قرّت ودرّت واسبطرت فهي لها، وإن هي فرت وهرت واقشعرت فيلس لها.
أتى شريحا ًالقاضي قوم برجل فقالوا: إن هذا خطب النساء فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدواب. فزوجناه فإذا هو يبيع السنانير. قال: أوَلا قلتم أي الدواب؟ وأجاز شريح نكاحه.
حدث ابن عوف أن شريحاً أقر عنده رجل بشيء ثم ذهب لينكر فقال: قد شهد عليك ابن أخت خالتك.
وعن الشعبي أن عبد الله بن شريح كان بينه وبين رجل خصومه فقال لأبيه إن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان الحق لي فأعلمني ذلك حتى أخاصمه إليك وإن كان الحق علي لم أخاصمه قال: فقال: خاصمه. قال: فجاءه بخصم فقضى عليه، فلقيه بعدما انصرف فقال: ما رأيت مثلك، إني لو لم أكن تقدمت إليك عذرتك، ولكن قد أعلمتك الأمر وسألتك أن بيني وبين فلان خصومة، فإن كان القضاء علي لم أخاصمه إليك فأمرتني أن أخاصمه! فقال: يا بنيّ، إنك لما تقدمت على أمرك كان القضاء عليك فكرهت أن أخبرك فتذهب إلى خصمك، فتصالحه وتقطع من ماله شيئاً لا حق لك فيه، فلذلك لم أخبرك.
خرجت قرحة بإبهام شريح فقيل له: ألا أريتها طبيباً قال: هو الذي أخرجها.(10/299)
قال شريح: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد الله رزقني الصب عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني.
وعن شقيق قال: قال شريح في فتنة ابن الزبير: ما استخبرت ولا أخبرت، ولا ظلمت مسلماً ولا معاهداً ديناراً ولا درهماً. قال: قلت له: لو كنت على حالك لأحببت أن أكون قد مت، فأومأ إلى قلبه فقال: كيف بهذا؟ وفي رواية قال: كيف بما في صدري. تلتقي الفئتان إحداهما أحب إلي من الأخرى.
قال الشعبي: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها فبكت فقلت: يا أبا أمية، ما أظنها إلا مظلومة فقال: يا شعبي، إن إخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون قال عامر:
سئل شريح القاضي عن الجراد: فقال: قبح الله الجرادة فيها خلقه سبعة جبابرة: رأسها رأس فرس، وعنقها عنق ثور، وصدرها صدر أسد، وجناحها جناح نسر، ورجلاها رجلا جمل، وذنبها ذنب حية، وبطنها بطن عقرب.
قال المدائني: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له رجل: ما هذه؟ قال: ناقة تمشي على أربع. قال: أتبيع؟ قال: لذلك أخرجتها. قال: وبكم تبيعها؟ قال: بكذا وكذا. قال: كيف لبنها؟ قال: احلب في أي إناء شئت، قال: كيف الوطاء؟ قال: افرش ونم. قال: فكيف قوتها؟ قال: احمل على حائط أو دع. قال: فكيف نجاؤها؟ قال: علق سوطك وسر، فاشتراها منه، فقال له شريح، إن عرضت لك حاجة فسل عن أبي أمية في مسجد الكوفة، فسار بها الرجل، قال: فإذا أخبث ما سخر لأدمي، فأتى مسجد الكوفة وشريح في مجلس القضاء فقال: لم أر فيها شيئاً مما وصفت، فأدناه شريح وأفهمه ما قال له ثم أقاله.
قيل للشعبي: يقال في المثل: إن شريحاً أدهى من الثعلب وأحيل. فما هذا؟ فقال(10/300)
إن شريحاً خرج أيام الطاعون إلى النجف، فكان إذا قام يصلي يجيء ثعلب فيقف تجاهه فيحاكيه ويمثل بين يديه فيشغله عن صلاته. فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة وأخرج كميه وجعل قلنسوته وعمامته عليه، فأقبل الثعلب فوقف على عادته، فأتاه شريح من خلفه فأخذه بغتة فلذلك يقول هو أدهى من الثعلب.
قال الشعبي قال لنا شريح: يا شعبي عليكم بنساء بني تميم فإنهن النساء. قلنا: وكيف؟ قال: رجعت يوماً من جنازة مظهراً، فمررت بخباء فإذا عجوز معها جارية رود فاستسقيت، فقالت: اللبن أعجب إليك أم ماء أم نبيذ؟ قال: قلت: اللبن أعجب إليّ، قالت: يا بنية، اسقيه لبناً، فإني أظنه غريباً، فسقتني، فلما شربت قلت: من هذه الجارية؟ قالت: هذه ابنتي زينب بنت جرير إحدى نساء بني تميم ثم من بني حنظلة ثم من بني طهيّة. قلت: أتزوجينيها؟ قالت: نعم، إن كنت كفؤاً، قال: فانصرفت إلى منزلي وامتنعت عن القائلة، فلما صليت الظهر وجهت إخواني إلى الثقات: مسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، فصليت العصر ثم رحب إلى عمها وهو في مسجده، فلما رآني تنحى لي عن مجلسه فقلت: أنت أحق بمجلسك ونحن طالبوا حاجة فقال: مرحباً بك يا أبا أمية ما حاجتك؟ قلت: أني قد ذكرت زينب بنت أخيك، فقال: والله ما بها عنك رغبة ولا بك عنها مقصر، قال: وتكلمت فزوجني، ثم انصرفت فما وصلت إلى منزلي حتى ندمت وقلت: ماذا صنعت بنفسي؟ فهممت أن أرسل إليها بطلاقها ثم قلت: لا أجمع حمقتين، ولكن أضمها إليّ فإن رأيت ما أحب حمدت الله، وإن تكن الأخرى طلقتها. فأرسلت إليها بصداقها وكرامتها.
فلما أهديت إليّ وقام النساء عنها قلت: يا هذه؟ إن من السنة إذا أهديت المرأة إلى زوجها أن تصلي ركعتين خلفه، ويسألا الله البركة، فقمت أصلي فإذا هي خلفي. فلما فرغت رجعت إلى مكانها، ومددت يدي إليها فقالت: على رسلك فقلت: إحداهن ورب الكعبة فقالت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فإني امرأة غريبة ولا والله ما ركبت مركباً أصعب علي من هذا، وأنت رجل لا أعرف أخلاقك فخبرني بما تحب آته، وبما تكره أزدجر عنه، أقول قولي هذا وأستغفر لله لي ولك. فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد وآله. أما بعد. فقد قدمت خير مقدم، قدمت على أهل دار، زوجك سيّد(10/301)
رجالهم، وأنت إن شاء الله سيّدة نسائهم، أحب هذا وأكره هذا. قالت: فحدثني عن أختانك أتحب أن يزوروك؟ قال: قلت: إني رجل قاض وأكره أن يملوني وأكره أن ينقطعوا عني. قال: فأقمت معها سنة أنا كل يوم أشد سروراً مني باليوم الذي مضى، فرجعت يوماً من مجلس القضاء فإذا عجوز تأمر وتنهي في منزلي فقلت: من هذه يا زينب؟ قالت: هذه ختنك، هذه أمي. قلت: كيف حالك يا هذه؟ قالت: كيف حالك يا أبا أمية؟ وكيف رأيت أهلك؟ قال: قلت: كل الخير. قالت: إن المرأة لا تكون أسوأ خلقاً منها في حالتين: إذا ولدت غلاماً وإذا حظيت عند زوجها، فإن رابك من أهلك ريب فالسوط السوط. قلت: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتني الرياضة وأحسنت الأدب، فكانت تجيئني في كل حول مرة فتوصي بهذه الوصية، ثم تنصرف، فأقمت معها عشرين سنة ما غضبت عليها يوماً ولا ليلة إلا يوماً وكنت لها ظالماً، وذلك إني ركعت ركعتي الفجر وأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها، فكفأت عليها الإناء وبادرت إلى الصلاة وقلت: يا زينب، إياك والإناء فعجلت إليه فحركته فضربها العقرب، فلو رأيتني يا شعبي وأنا أمصّ أصبعها وأقرأ عليها المعوذتين، وكان لي جار يقال له قيس لا يزال يقرع مرأته فعند ذلك أقول: من الطويل
رأيت رجالاً يضربون نساءهم ... فشلت يميني حين أضرب زينبا
يا شعبي، فعليك بنساء بني تميم فإنهن النساء.
أوصى شريح أن يصلى عليه بالجبّانة، وأن لا يؤذن به أحد، ولا تتبعه صائحة وألا يجعل على قبره نور، أن يسرع به السير، وأن يلحد له.
مات شريح سنة ثمانين. وقيل: سنة ست وسبعين. وقيل: سنة ثمان وسبعين، وهو ابن مئة وعشرين سنة. وقيل: ابن مئة وعشر سنين. وقيل: مئة وثمان سنين. بعدما عزل عن القضاء لسنتين. وقيل: توفي سنة سبع وثمانين.(10/302)
شريح بن عبيد بن شريح
ابن عبد بن عريب أبو الصلت وأبو الصواب، المقرائي الحضرمي الحمصي قدم دمشق، وكان بها حين قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بن العاص.
حدث عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أول عظم يتكلم من الإنسان حين يختم على الأفواه، يعني فخذه. وذكر كلاماً لم أفهمه.
وحدث عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال الله عزّ وجلّ: " ابن آدم، صل لي أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره " قال شريح بن عبيد: حضرت عبد الملك بن مروان قال لبشير بن عقربة الجهني يوم قتل عمر بن سعيد: يا أبا اليمان، اليوم احتجت إلى كلامك قم فتكلم، فقال: أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قام بخطبة لا يلتمس بها إلا رياء وسمعة أوقفه الله يوم القيامة موقف رياء وسمعة. "
شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك
ويقال: ابن هانئ بن يزيد بن الحارث بن كعب ويقال غير ذلك، أبو المقدام الحارثي الكوفي أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وكان من كبار أصحاب علي عليه السلام. وشهد بحكم الحكمين بدومة الجندل في صحابة عليّ، وقدم على معاوية فشفع في كثير بن شهاب الحارثي حين حبسه فأطلقه له.
حدث ابن شريح بن هانئ قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين فقالت: ائت علياً فإنه أعلم بذلك، فأتيت علياً فسألته عن المسح على الخفين فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرنا أن يمسح المقيم يوماً وليلة والمسافر ثلاثاً.(10/303)
قال شريح: قلت لعائشة: ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع؟ قالت: كان يصلي ركعتين قبل الفجر، ثم يخرج فيصلي فإذا دخل تسوّك.
وعن شريح أنه سأل عائشة: أخبريني بأي شيء كان يبدأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجع إليك من المسجد؟ قالت: كان يبدأ بالسواك.
وعن زياد بن النضر أن علياً بعث أبا موسى الأشعري ومعه أربع مئة رجل عليهم شريح بن هانئ ومعهم عبد الله بن عباس يصلي بهم ويلي أمرهم، وبعث معاوية عمرو بن العاص في أربع مئة من أهل الشام حتى توافوا بدومة الجندل.
قتل شريح بسجستان زمن الحجاج مع عبيد الله بن أبي بكرة وهو الذي يرتجز ويقول وكان جاهلياً إسلامياً:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمّت أدركت النبي المنذرا ... وبعده صديقه وعمرا
والجمع في صفينهم والنهرا ... ويوم مهران ويوم تسترا
وبا خميراوات والمشقّرا ... هيهات ما أطول هذا عمرا
وعاش شريح بن هانئ عشرين ومئة سنة. وقيل: مئة وعشر سنين. وقتل سنة ثمان وسبعين.(10/304)
شريك بن الأعور
واسم الأعور الحارث، الحارثي شاعر من أهل البصرة. وقد وفد على عمر بن الخطاب، وكان من أصحاب عليّ، شهد معه الجمل وصفين، ووفد على معاوية بن أبي سفيان.
جلس معاوية ذات يوم، بين يديه السماطا (ن، فدخل الناس وأشراف العرب، ودخل فيمن دخل شريك بن الأعور الحارثي وافداً، فلما أن اطمأن به مجلسه نظر إليه معاوية فقال: ما اسمك؟ قال: شريك، فقال معاوية: ما لله من شريك، وإنك لأعور، الصحيح خير من الأعور، وإنك لدميم والجميل خير من الدميم، فبم سدت قومك؟ فقال له شريك: والله لقد أحميت أنفي ولا بد من إجابتك، فوالله إنك لمعاوية، وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت، وإنك لابن صخر، والسهل خير من الصخر، وإنك لابن حرب، السلم خير من الحرب، وإنك لابن أمية وما أمية إلا أمة صغرت فاستصغرت، فبم سدت قومك؟ فقال: يا غلام، أقمه، فقام شريك وأنشأ يقول: من الوافر
أيشتمني معاوية بن صخر ... وسيفي صارم ومعي لساني
وحولي من ذوي يمن ليوث ... ضراغمة تهش إلى الطعان
تعيرني الدمامة من سفاه ... وربات الحجال من الغواني
ذوات الدلّ في خيرات عصب ... يحيون الهجان مع الحسان
فلا تبسط لسانك يا بن حرب ... علينا إذا بلغت مدى الأماني
متى ما تدع قومك أدع قومي ... وتخف الأسنة بالطعان
يجيبني (ُ كلّ غطريف شجاع ... كريم قد توشح باليماني
فإن تك للشقاء لنا أميراً ... فإنا لا نقرّ على الهوان
وإن تك أمية في ذراها ... فإني في ذوي عبد المدان
توفي شريك بالكوفة قبل مقتل الحسين بن علي عليهما السلام بيسير.(10/305)
شريك بن سلمة المرادي
شهد صفين مع معاوية. وقيل أنه أحد قتلة عمار بن ياسر، وكان عمار بن ياسر قتل وهو ابن إحدى وتسعين سنة. وكان أقدم في الميلاد من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أقبل أليه ثلاثة نفر: عقبة بن عامر الجهني، وعمر بن الحارث الخولاني، وشريك بن سلمة المرادي، فانتهوا إليه جميعاً وهو يقول: والله، لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر علمت أنا على حق، وأنتم على باطل، فحملوا عليه جميعاً فقتلوه. وزعم بعض الناس أن عقبة بن عامر هو الذي قتل عماراً، وهو الذي كان ضربه حين أمره عثمان بن عفان، ويقال: بل الذي قتله عمر بن الحارث الخولاني. وقيل: إن قاتل عمار أبو الغادية يسار بن سبع الجهني، ويقال: المزني.
شريك بن شداد الحضرمي الشيعي
كوفي من التابعين. أحد الاثني عشر الذي قدم بهم من الكوفة مع حجر بن عدي إلى عذراء وقتل بها.
حدث رجل من أهل البصرة قال:
خرجت أريد بيت المقدس فآواني المطر صومعة راهب، فأشرف عليّ فقال: أين تريد؟ قلت: بيت المقدس، قال: ثم أين؟ قلت: المدينة. قال: هل أنت مبلغ عني كعب الأحبار رسالة؟ قال، فقلت: نعم، إلا أن أنسى أو أموت. قال: قل له إذا لقيته: إنّ راهب بني فلان يقول لك: ما بال مسجد العطموس؟ فقدمت بيت المقدس، فقضيت حاجتي ثم أتيت المدينة، فلقيت كعباً فبلغته رسالة الراهب فقال: إذا قضيت حاجتك وأردت الرجعة فائتني، فأتيته حين قضيت حاجتي، فقال: إذا أتيته فقل له: إن كعباً يقول لك: ما حال قتلى عذراء؟ فلما أن لقيته قلت: إن باً يقول كذا وكذا، فقال: قاتل الله كعباً، ما بقي أحد أعلم منه، ثم انقمع في صومعته فقلت: إني قد بلغتك عن كعب وأبلغت كعباً عنك، ثم أخرج من بينكما صفراً؟ والله، لا أبرح حتى تخبرني أو تأكلني السباع، فتحمل دمي. قال: فجعل يلاحظني النظر، فلما رآني لا أبرح أشرف علي فقال: إنا نجد في كتابنا أن قوماً من أهل دينكم يقتلون بعذراء لا حساب عليهم ولا عذاب، قال: فما مكثت إلا يسيراَ حتى جيء بحجر بن عدي وأصحابه فقتلوا بعذراء.(10/306)
شعيب بن يوبب بن عنقاء بن مدين
ويقال: شعيب بن يوبب بن مدين بن إبراهيم. ويقال: شعيب بن صيعون بن عنقاء ابن ثابت بن مدين بن إبراهيم. ويقال: شعيب بن سحر ين لاوي بن يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم. ويقال: شعيب بن مهذم بن سحول، وسحول حمير ويقال: شعيب بن عمرو بن نصر بن الأزد. ويقال: شعيب ابن مهذم بن ذي مهذم بن المقدم بن حصور نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المذكور في القرآن، وجدته - ويقال أمه - ابنة لوط عليه السلام. كان ممن هاجر مع إبراهيم عليهما السلام من أرض بابل إلى الشام واجتاز معه دمشق.
وذكر وهب بن منبه أن شعيباً وبلعم كانا من رهط آمنوا بإبراهيم عليه السلام يوم أحرق بالنار، وهاجروا معه إلى الشام فزوجهم بنات لوط عليه السلام وقيل: إن أهل التوراة يزعمون أن شعيباً في التوراة اسمه ميكائيل، واسمه بالسريانية حرى بن يسحر، وبالعبرانية شعيب، وعن الشرقي بن القطامي وكان عالماً بالأنساب قال: هو يثروب بالعبرانية، وشعيب بالعربية، ابن عنقاء بن يوبب بن إبراهيم، كل هؤلاء ينسبونه إلى إبراهيم عليه السلام. ويقال: شعيب بن ميكائيل، واسمه بالعبرانية تيروب بن جري.
وعن أبي الحسن الدارقطني قال: يوبب أوله ياء مفتوحة معجمة باثنتين من تحتها وواو وباءان هو شعيب بن يوبب، وولد شعيب امرأتين إحداهما صفوراء امرأة موسى بن عمران عليهما السلام.
قال الكلبي: شعيب النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم ابن يوبب بن عنقاء بن مدين، ومالك بن دعر بن يوبب بن عنقاء بن مدين هو الذي استخرج يوسف من الجب.(10/307)
وعن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: " واذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صديقاً نبيّاً " قال: كان الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة: نوح، وصالح، وهود، ولوط، وشعيب، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه. ولم يكن من الأنبياء من له اسمان إلا إسرائيل وعيسى فإسرائيل يعقوب، وعيسى المسيح عليهم السلام.
وعن قتادة أن نوحاً صلى الله على نبينا وعليه بعث من أرض الجزيرة، وهوداً صلى الله على نبينا وعليه وسلم من أرض الشحر أرض مهرة، وصالحاً صلى الله على نبينا وعليه وسلم من الحجر، ولوطاً صلى الله على نبينا وعليه من سدوم، وشعيباً صلى الله على نبينا وعليه وسلم من مدين، ومات إبراهيم وآدم وإسحاق ويوسف بأرض فلسطين، وقتل يحيى بن زكريا بدمشق.
وعن سعيد بن عبد العزيز في قوله عز وجلّ " فاصبروا كما صبر أولو العزم من الرسل " قال: هم نوح وهود وإبراهيم وشعيب وموسى صلى الله على نبينا وعليهم وسلم.
وعن ابن عباس أنه قال: كان شعيب عليه السلام نبياً رسولاً من بعد يوسف وكان من خبره وخبر قومه ما ذكره الله عزّ وجلّ. يقول الله عزّ وجلّ: " وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ". فكانوا مع ما كان فيهم من الشرك أهل بخس في مكاييلهم وموازينهم مع كفرهم بربهم وتكذيبهم بنبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال عكرمة: ما بعث الله نبياً مرتين إلا شعيباً مرة إلى مدين فأخذهم الله بالصيحة ومرة أخرى إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله بعذاب يوم الظلة.(10/308)
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: " إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله إليهما شعيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وقال قتادة: في قول الله عزّ وجلّ " وأصحاب الرّسّ " قال: قوم شعيب وقيل: إن الأيكة ومدين هما واحد. والله أعلم.
فأما من قال منهم إنه بعث مرتين فقال في قصة مدين " وإلى مدين أخاهم شعيباً قال: يا قوم اعبدوا الله " فبدأ فدعاهم إلى توحيد الله عزّ وجلّ وعبادته فذلك قوله: " ما لكم من إله غيره " وأمرهم بعد ذلك بالكف عن ظلم الناس وبخسهم مكاييلهم، فقال لهم: " قد جئتكم ببينة من ربكم " يعني بياناً من ربكم " فأوفوا الكيل والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم " " ولا تعثوا في الأرض مفسدين ".
قال: فما دعاهم إلى ذلك كذبوه وردوا عليه نصيحته وقالوا: يا شعيب أصلواتك هذه تأمرك وكان أكثر الأنبياء صلاة فلذلك قالوا: " أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا " يعني نترك عبادة آلهة آبائنا " أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " نوفي لمن نشاء ونبخس من نشاء " إنك لأنت الحليم الرّشيد " يقولون: إنك لأنت الأحمق السفيه، يشهرون به(10/309)
وعن ابن عباس أنهم كانوا إذا دخل عليهم الغريب فيأخذون دراهمه، ويقولون: دراهمك هذه زيوف. فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس يعني: بالنقصان، قيل: كانوا يأخذون دراهم جياداً من الناس، فيقطعونها ثم يعطونهم بدلها من عندهم زيوفاً نفاية، فذلك بخسهم، مع ما كانوا يطففون في الكيل.
وعن ابن عباس قال: قال شعيب " ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " يقول لا تعملوا في الأرض بالمعاصي. قال: كانوا يخرجون وكانت بلادهم بلاد ميرة يمتار الناس منهم، قال: فكانوا يقعدون على الطريق فيصدون الناس عن شعيب، يقولون: لا تسمعوا منه فإنه كذاب يفتنكم. فذلك قوله عزّ وجلّ " ولا تقعدوا بكلّ صراط توعدون " الناس إن اتبعتم شعيباً فتنكم وهو كذاب " وتصدون عن سبيل الله من آمن به وتبغونها عوجاً " قال ابن عباس: كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم، يعني يعشرونه. وكانوا أول من سنّ ذلك.
وقال الحسن في قوله عزّ وجلّ " إني أراكم بخير " قال: رخص السعر.
وعن الزبرقان قال: رأيت الأحنف صلى بعد العصر. قلت يا أبا بحر، ما هذه الصلاة؟ قال: يا بن أخي، إن شعيباً يعني النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم كان كثير الصلاة. وكان سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر شعيباً قال: ذلك خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه فيما دعاهم(10/310)
إليه وفيما ردوا عليه، وكذبوه وتواعدوه بالرجم والنفي من بلادهم، وتوعد كبراؤهم ضعفاءهم فقالوا: " لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون " فلم ينته شعيب أن دعاهم فقال لهم: يا قوم، اذكروا قوم نوح وعاد وثمود " وما قوم لوط منكم ببعيد " وكان قوم لوط أقربهم إلى شعيب، كانوا أقربهم عهداً بالهلاك " واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم " لمن تاب إليه من الذنب، " ودود " يعني: يحبه ثم يقذف له المحبة في قلوب عباده، فردوا عليه فقالوا: " يا شعيب، ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً " كان أعمى ضعيفاً، وقيل: أي ضعيف الركن لا عقب له، يعني، لا ابن له وكان له ابنتان " ولولا رهطك " يعني عشيرتك التي أنت منهم " لرجمناك " يعني لقتلناك " وما أنت علينا بعزيز " فلما عتوا على الله عزّ وجلّ: " فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين " فأما في سورة هود " في ديارهم " يعني في منازلهم " جاثمين " وأما في الأعراف " دارهم " يعني: في عساكرهم ميتين. وقوله " كأن لم يغنوا فيها " يعني: كأن لم ينعموا فيها. ولما قالوا له: " ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز " قال: يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله " قالوا: بل الله. قال: أفاتخذتم الله " وراءكم ظهرياً " يعني: تركتم أمره وكذبتم نبيه، غير أن علم ربي أحاط بكم " إن ربي بما تعملون محيط " وقوله: " إنما أنت من المسحرين " أي من المخلوقين.
وقوله عزّ وجلّ: " وإنا لنراك فينا ضعيفاً " قال: كان أعمى. وإنما عمي من بكائه من حب الله عزّ وجلّ.(10/311)
عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" بكى شعيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حب الله حتى عمي، فرد عليه بصره وأوحى إليه: يا شعيب، ما هذا البكاء أشوقاً إلى الجنة أم خوفاً من النار؟ فقال: إلهي وسيدي، أنت تعلم أني ما أبكي شوقاً إلى جنتك، ولا خوفاً من النار، ولكن اعتقدت حبك بقلبي، فإذا نظرت إليك فما أبالي ما الذي تصنع بي، فأوحى الله إليه: يا شعيب، إن يكن ذلك حقاً فهنيئاً لك لقائي. يا شعيب، لذلك أخدمتك موسى بن عمران كليمي.
وعن ابن عباس أنه جاءه رجل فقال: يا بن عباس، إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. قال: أوبلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: فإن لم تخش أن تفتضح بثلاثة أحرف في كتاب الله عزّ وجلّ فافعل. قال: وما هن؟ قال: قوله عزّ وجلّ " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثاني؟ قال: قوله " لم تقولون ما لا تفعلون " أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فالحرف الثالث؟ قال: قول العبد الصالح شعيب على نبينا وعليه الصلاة والسلام " وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه " أحكمت هذه الآية؟ قال: لا. قال: فابدأ بنفسك.
قال ابن عباس في قوله " فأخذتهم الصيحة " يعني قوم شعيب قال: جاءت صيحة، وذلك أن جبريل نزل فوقف عليهم فصاح صيحة رجفت منها الجبال والأرض، فخرجت أرواحهم من أبدانهم فذلك قوله " فأخذتهم الرجفة " وذلك حين سمعوا الصيحة قاموا قياماً، وفزعوا لها، فرجفت بهم الأرض فرمتهم ميتين. يقول الله عزّ وجلّ: " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " يقول: ألا سحقاً لهم.(10/312)
وبعث الله جبريل إلى أهل مدين شطر الليل ليأفك بهم مغانيهم، فألفى رجلاً قائماً يتلو كتاب الله عزّ وجلّ، فهاله أن يهلكه فيمن يهلك فرجع إلى المعراج فقال: اللهم، أنت سبوح قدوس بعثتني إلى مدين لآفك مغانيهم فأصبت رجلاً قائماً يتلو كتاب الله عزّ وجلّ فهالني أن أهلكه فيمن أهلك، فأوحى الله تعالى: ما أعرفني به، هو فلان بن فلان فابدأ به، فإنه لم يدفع عن محاربتي إلا موادعاً.
وقيل: كان أصحاب الأيكة أصحاب غيضة بين ساحل البحر إلى مدين. قال تعالى: " كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب " ولم يقل أخوهم، لأنه لم يكن من جنسهم. وقوله عزّ وجلّ: " فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ".
قال ابن عباس: أرسل الله عليهم سموماً من جهنم فأطاف بهم سبعة أيام حتى أنضجهم الحر، فحميت بيوتهم، وغلت مياههم في الآبار والعيون، فخرجوا من منازلهم ومحلهم هاربين. قال: والسموم معهم، فسلط الله عليه الشمس من فوق رؤوسهم، فبغتتهم حتى تفلقت منها جماجمهم، وسلط عليهم الرمضاء من تحت أرجلهم حتى تساقطت لحوم أرجلهم، ثم أنشأ لهم ظلة كالسحابة السوداء. فلما رأوها ابتدروها، يستعينون بظلها، تبردهم ما هم فيه من الحر حتى إذا كانوا تحتها جميعاً أطبقت عليهم فهلكوا، ونجى الله عزّ وجلّ شعيباً والذين آمنوا معه رحمة منه وحزن على قومه الذين أنزل الله بهم النقمة، ثم قال يعزي نفسه بما ذكر الله عزّ وجلّ: " يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين ".
وقال زيد بن أسلم: قوله " عذاب يوم الظلة " قال: صارت الغمام عليهم ناراً.(10/313)
وعن ابن عباس أن شعيباً كان يقرأ من الكتب التي كان الله عزّ وجلّ أنزلها على إبراهيم قال: إنما أنزل الله عزّ وجلّ من السماء صحفاً على آدم وإدريس ونوح وإبراهيم. وكان أنزل على شيث خمسون صحيفة.
وعن أبي حازم قال:
لما رجعتا إلى أبيهما " يعني ابنتي شعيب " أخبرتاه خبر موسى فقال أبوهما وهو شعيب عليه السلام: ينبغي أن يكون هذا رجلاً جائعاً، ثم قال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي. فلما أتته غطت وجهها وقالت " إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا " فلما قالت " أجر ما سقيت لنا " كره موسى ذلك وأراد ألا يتبعها، ولم يجد بداً من أن يتبعها لأنه كان في أرض مسبعة وخوف فخرج معها، وكان الريح يضرب ثوبها فيصف لموسى عجيزتها، وكانت ذات عجز، فجعل موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام يعرض عنها مرة ويغض مرة، فناداها: يا أمة الله، كوني خلفي وأريني السمت بقولك. فلما دخل على شعيب إذا هو بالعشاء تهياً، فقال له شعيب: اجلس يا شاب، فتعش، فقال له موسى: أعوذ بالله، فقال له شعيب: ول ذلك؟ ألست بجائع؟ قال: بلى. ولكن أخاف أن يكون هذا عوضاً لما سقيت لهما، وأنا من أهل بيت لا يبتغي شيئاً من عمل الآخرة بملء الأرض ذهباً. فقال له شعيب: لا والله يا شاب، ولكنها عادتي وعادة آبائي، نقري الضيف، ونطعم الطعام. قال: فجلس موسى فأكل.
وعن أبن عباس أنه قال: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما: قبر إسماعيل وشعيب على نبينا وعليهما الصلاة والسلام، فقبر إسماعيل في الحجر وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال وهب بن منبه: إن شعيباً مات بمكة، ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي الكعبة بين دار الندوة وبين باب بني سهم.(10/314)
شعيب بن أحمد بن عبد الحميد
ابن صالح بن ذريح بن يحيى بن عبد الله بن صالح بن الفتح أبو عبد الملك القرشي، مولى الزبير بن العوام حدث عن أبيه بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا معاوية، إياك والغضب، فإن الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل ".
شعيب بن إسحاق بن شعيب بن إسحاق
أبو محمد القرشي حدث عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الملك بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس ".
شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن
ابن عبد الله بن راشد القرشي، مولاهم دمشقي.
حدث عن هشام الدستوائي عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقي الله يشرب به شيئاً دخل النار ".
وحدث عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يقول: " لا تتقدموا الشهر بيوم أو اثنين إلا رجل كان يصوم صياماً فليصمه ".
توفي شعيب سنة تسع وثمانين ومئة، وهو ابن إحدى وسبعين. وقيل كان مولى رملة بنت عثمان بن عفان.(10/315)
شعيب بن دينار
أبو بشر بن أبي حمزة الحضرمي مولى بني أمية. كان كاتباً لهشام بن عبد الملك بالرصافة، واجتاز بدمشق.
حدث عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترك الوضوء ما مست النار.
توفي شعيب بن أبي حمزة سنة اثنتين وستين ومئة، وقيل سنة ثلاث وستين ومئة.
شعيب بن رزيق
أبو شيبة الشامي المقدسي سكن طرسوس. واجتاز بدمشق أو بأعمالها.
حدث عن عطاء الخراساني قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: رأيت عثمان قاعداً في المقاعد، فدعا بطعام مما مسته النار فأكله، ثم قام إلى الصلاة فصلى ثم قال عثمان: قعدت مقعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكلت طعام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصليت صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث عنه عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يتطوع الإمام في مقامه الذي صلى فيه وللناس فيه المكتوبة ".
وحدث عنه بسنده عن بريدة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " احذروا كل مسكر، فإن كل مسكر حرام ".
شعيب بن سهل بن كثير
أبو صالح الرازي القاضي المعروف بشعبويه قدم دمشق مع المتوكل حدث عن الصباح بن محارب بسنده عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أفضلكم من علم القرآن وتعلمه ".(10/316)
كان شعيب بن سهل قاضي بغداد، جهمياً.
قال الحارث بن أبي أسامة:
سنة سبع وعشرين ومئتين، وثب قوم يوم الجمعة في مسجد الرصافة على رجلين من الجهمية فضربوهما وأذلوهما، ومضوا إلى مسجد شعيب بن سهل القاضي يريدون محو كتاب كان كتبه على مسجد يذكر فيه أن القرآن مخلوق فأشرف عليهم خادم لشعيب فرماهم بالنشاب، فوثبوا فأحرقوا باب شعيب، وانتهب ناس منزله، وأرادوا نفسه، فهرب منهم. وهو أول قاض حرق بابه وانتهب منزله، وكان جهمياً مبغضاً لأهل السنة، متحاملاً عليهم، منتقصاً لهم لا يقبل لأحد منهم صرفاً ولا عدلاً. وتوفي سنة ست وأربعين ومئتين وكان ينفي الصفات والرؤية.
شعيب بن شعيب بن إسحاق
أبو محمد القرشي توفي أبوه وهو حمل. فلما ولد سمي باسمه وكني بكنيته.
حدث عن أبي المغيرة بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا سها أحدكم في صلاته فلا يدري أزاد أم نقص فليسجد سجدتين وهو جالس ".
وحدث عن مروان بن محمد بسنده عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى العصر والشمس في حجرتها، لم يظهر الفيء من حجرتها مات شعيب بن شعيب بدمشق سنة أربع وستين ومئتين. وولد في سنة تسعين ومئة.
شعيب بن شعيب بن مسلم بن شعيب
حدث عن جده مسلم بن شعيب بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أسرف عبد على نفسه حتى إذا حضرته الوفاة قال لأهله: إذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في الريح في البحر، فوالله لئن قدر علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من خلقه بعد، ففعل أهله ذلك. قال: فقال الله تبارك وتعالى لكل شيء أخذ منها شيئاً: ردّ(10/317)
ما أخذت منه، فإذا هو قائم فقال الله: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك. قال: فغفر الله له.
شعيب بن عبد الرحمن بن عمر
ابن نصر بن محمد، أبو عبد الله الشيباني الدباغ حدث عن أبي العباس محمد بن الحسن الكلابي بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم يوم لا ظل إلا ظلي ".
كان شعيب يقول: بلغني أن من حق الولد على والده أن يحسن اسمه وصنعته ومسكنه، ولم يصنع بي أبي شيئاً من لك: سماني شعيباً وأسلمني دباغاً، وأسكنن في حارة اليهود. أو كما قال.
شعيب بن عمرو بن نصر
ويقال: ابن عمرو بن سهل، أبو محمد الضبعي سكن دمشق.
حدث عن سفيان بسنده عن ميمونة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشاة لها ميتة قال: " ألا نزعتم إهابها، فدبغتموه، فانتفعتم به؟ " قالوا: يا رسول الله، إنها ميتة. قال: " إنما حرم أكلها ".
وحدث عن يزيد بن هارون بسنده عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واصل في آخر الشهر، فواصل ناس، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لو مد لنا الشهر لواصلت وصالاً، يدع المتعمقون تعمقهم. إنكم لستم كهيئتي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ".(10/318)
شعيب بن محمد بن عبد الله ابن عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم بن عمرو ابن هصيص بن كعب بن لؤي القرشي السهمي من أهل الحجاز.
حدث عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: صم يوماً ولك عشرة أيام. قال: زدني يا رسول الله. قال: صم يومين ولك تسعة أيام. قال: زدني يا رسول الله. قال: صم ثلاثة أيام ولك ثمانية أيام. قال ثابت: فأخبرت بذلك مطرف بن عبد الله فقال: مأراه إلا يزداد في العمل وينقص من الأجر.
قال: كذا ذكر وإنما هو عن جده وحدث أنه طاف مع عبد الله سبعاً. فلما فرغ قال له شعيب عند دبر الكعبة: ألا تتعوذ؟ فقال عبد الله: أعوذ بالله من النار. فلما استلم الحجر قام بين الحجر والباب فألصق وجهه وبطنه ويديه إلى الكعبة ثم قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعله.
وحدث شعيب أيضاً
أن رجلاً جاء حين قدم الحاج إلى جده عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن رجل محرم قع بامرأته، فأرسله إلى عبد الله بن عمر فقال: اذهب إلى ذاك فسله، فلم يعرفه الرجل. قال شعيب: فذهبت معه فسأل ابن عمر عن ذلك فقال: بطل حجه. قال: فيقعد؟ قال: فقال: لا بل يخرج فيصنع ما يصنع الناس، فإذا أدركه قابل حج وأهدي فرجع إلى عبد الله بن عمرو فأخبره بذلك فقال عبد الله بن عمرو: اذهب إلى ذاك فسله، فأرسله إلى عبد الله بن عباس. قال شعيب: وذهبت معه فسأله فقال مثل قول ابن عمر ثم رجع إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فأخبره بقوله فقال: ماذا تقول أنت؟ قال: أقول مثل ما قالا.(10/319)
شعيب بن الهيثم بن إبراهيم
ابن يزيد بن غيلان أبو محمد القرشي البيروتي حدث عن العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي بسنده عن خزيمة بن ثابت أنه قال: أشهد على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " إن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن ".
شقران السلاماني
مولى سلامان من قضاعة، شاعر من شعراء دولة بني أمية. وفد على الوليد بن يزيد وكان مداحاً له، وهاجى ابن ميادة. ومن شعره يرثي أخاه: من الطويل
ذكرت أبا أروى فبت كأنني ... برد الأمور الماضيات وكيل
لكل اجتماع من خليلين فرقة ... وكل الذي دون الفراق قليل
وإن افتقادي واحداً بعد واحد ... دليل على ألا يدوم خليل
قال ابن الأعرابي: قوله: برد الأمور الماضيات وكيل أي أتعزى بالأسى التي أصيب بها الناس قبلي، وأقول: ما ت فلان وفلان، لأتعزى.
شقيق بن إبراهيم
أبو علي الأزدي البلخي الزاهد أحد شيوخ التصوف. صحب إبراهيم بن أدهم.
حدث عن إبراهيم بن أدهم بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو صليتم حتى تكونوا كالحنايا، وصمتم حتى تكونوا كالأوتار ثم كان الاثنان أحب إليكم من الواحد لم تبلغوا الاستقامة.
وحدث عن عباد بن كثير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تجلسوا عند كل عالم إلا عالم يدعوكم من الخمس إلى الخمس، من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الرغبة إلى الزهد ".(10/320)
وحدث عن إبراهيم بن أدهم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة قال: دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي جالساً، فقلت: يا رسول الله، إنك تصلي جالساً فما أصابك؟ قال: الجوع يا أبا هريرة، فبكيت، فقال: لا تبك يا أبا هريرة، فإن شدة الحساب لا تصيب الجائع إذا احتسب.
وحدث شقيق بن إبراهيم، الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة المداوم على عبادة ربه، عن أبي هاشم الأبلي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قضى حاجة المسلم في الله كتب له الله عمر الدنيا سبعة آلاف صيام نهاره وقيام ليله ".
قال حاتم الأصم: كان شقيق بن إبراهيم موسراً، وكان يتفتى ويعاشر الفتيان، وكان علي بن عيسى بن ماهان أمير بلخ يحب كلاب الصيد، ففقد كلباً منها، فسُعي برجل أنه عنده، وكان الرجل في جوار شقيق، فطلب الرجل وضرب، فدخل دار شقيق مستجيراً، فمضى شقيق إلى الأمير وقال: خلوا سبيله فإن الكلب عندي أرده إليكم إلى ثلاثة أيام، فخلوا سبيله، وانصرف شقيق مهتماً لما صنع. فلما كان اليوم الثالث كان رجل غائباً عن بلخ رجع، فوجد في الطريق كلباً عليه قلادة فأخذه وقال: أهديه إلى شقيق فإنه يشتغل بالتفتي فحمله إليه، فنظر شقيق فإذا هو كلب الأمير، فسر به وحمله إلى الأمير، وتخلص من الضمان، فرزقه الله الانتباه، وتاب مما كان فيه وسلك طريق الزهد.
قال خلف بن تميم:
التقى إبراهيم بن أدهم وشقيق بمكة فقال إبراهيم لشقيق: ما بدء أمرك الذي بلغك هذا؟ فقال: سرت في بعض الفلوات، فرأيت طيراً مكسور الجناحين في فلاة من الأرض، فقلت: انظر من أين يرزق هذا، فقعدت بحذائه، فإذا أنا بطير قد أقبل في منقاره جرادة فوضعها في منقار الطير المكسور الجناحين، فقلت لنفسي: يا نفس، الذي قيض هذا الطائر الصحيح لهذا الطائر المكسور الجناحين في فلاة من الأرض هو قادر أن يرزقني حيثما كنت، فتركت التكسب، واشتغلت بالعبادة. فقال إبراهيم: يا شقيق، ولم لا تكون أنت الطير الصحيح الذي أطعم العليل حتى تكون أفضل منه؟ أما سمعت من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اليد العليا(10/321)
خير من اليد السفلى؟ ومن علامة المؤمن أن يطلب أعلى الدرجتين في أموره كلها حتى يبلغ منازل الأبرار؟ قال: فأخذ يد إبراهيم يقبلها وقال له: أنت أستاذنا يا أبا إسحاق.
قال حاتم: قدم شقيق بن إبراهيم من الكوفة يريد مكة، فلقيه سفيان الثوري فقال له: أنت الذي يدعو إلى التوكيل ويمنع المكاسب؟ فقال: شقيق ما قلت كذا. قال: أيش قلت؟ قال: قلت: حلال بيّن وحرام بيّن ومتشابه فيما بين ذلك ولكن دخلت الآفة من الخاصة على العامة. وهم خمس طبقات: فأولهم العلماء، والثاني الزهاد، والثالث الغزاة، والرابع التجار، والخامس السلطان. فأما العلماء فهم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم. وإذا كان العالم طامعاً جامعاً فالجاهل بمن يقتدي؟ وأما الزهاد فهم ملوك الأرض. فإذا كان الزاهد يرغب فيما في أيدي الناس فالراغب بمن يقتدي؟ وأما الغزاة فهم أضياف الله في أرضه. فإذا كان الغازي يحب الخيلاء والتصدر في المجالس فمن يغزو؟ وأما التجار فهم أمناء الله عزّ وجلّ في أرضه، فإذا كان التاجر الأمين خائناً فالخائن بمن يقتدي؟ وأما السلطان فهم الرعاة، فإذا كان الراعي هو الذئب فالذئب ما يجد ما يأكل. يا سفيان، لا تجمعن منها إلا قدر مقامك فيها، فقام سفيان ولم يردّ عليه شيئاً.
قال شقيق: التوكل طمأنينة القلب بموعود الله.
كان شقيق البلخي يقول: لكل واحد مقام، فمتوكل على ماله، ومتوكل على نفسه، ومتوكل على لسانه، ومتوكل على سيفه، وقيل على شرفه ومتوكل على سلطنته، ومتوكل على الله عزّ وجلّ. فأما المتوكل على الله فقد وجد الاسترواح، نوّه الله به ورفع قدره. وقال: " وتوكَّلْ على الحي الذي لا يموت " وأما من كان مستروحاً إلى غيره فيوشك أن ينقطع به فيبقى.(10/322)
قال محمد بن عامر: قال لشقيق: متى أوفق العمل الصالح؟ قال: إذا جعلت أحداث يومك وليلتك متقدمة عند الله. قلت: فمتى أتوكل؟ قال: إن اليقين إذا تم بينك وبين الله سمي تمامه توكلاً. قلت: فمتى يصح ذكري لربي؟ قال: إذا سمجت الدنيا في عينيك، وقدمت أملك فيما بين يديك. قلت: فمتى أعرف ربي؟ قال: إذا كان الله لك جليساً ولم تر سواه لنفسك أنيساً. قلت فمتى أحب ربي؟ قال: إذا كان ما أسخطه أمر عندك من الصبر. وكان ما ينزل بك هو الغنم والظفر، وجددت لذلك حمداً وشكراً. قلت: فمتى أشتاق إلى ربي؟ قال: إذا جعلت الآخرة لك قراراً ولم تسمّ لك الدنيا مسكناً. قلت: فمتى أعرف لقاء ربي؟ قال: إذا كنت تقدم على حبيب، وتصدر عن أمل قريب. قلت: متى أستلذ الموت؟ قال: إذا جعلت الدنيا خلف ظهرك، وجعلت الآخرة نصب عينيك، وعلمت أن الله تبارك وتعالى يراك على كل حال، وقد أخفي عليك الدقيق والجليل. قلت: فمتى أكتفي بأهون الأغذية؟ قال إذا عرفت وبال الشهوات غداً وسرعة انقطاع عذوبة اللذات. قلت: متى أوثر الله ولا أوثر عليه سواه؟ قال: إذا أبغضت فيه الحبيب، وجانبت فيه القريب.
قال حاتم: اختلفت إلى شقيق ثلاثين سنة فقال لي يوماً: أيش تعلمت في ترددك إلينا؟ فقلت له: أربعة أشياء، استغنيت بها عن الأشياء كلها. فقال لي: ما هي؟ فقلت: رأيت أن رزقي من عند ربي فلم أشتغل إلا بربي، ورأيت أن ربي قد وكل بي ملكين يكتبان علي كل ما تكلمت به، فلم أتكلم إلا بما يرضي ربي، ولم أتكلم إلا بحق، ورأيت أن الخلق ينظرون إلى ظاهري والله ينظر إلى باطني، فرأيت مراقبته أولى وأوجب فسقط عني رؤية الخلق، ورأيت أن الله داعياً يدعوا الخلق إليه، فاستعددت له متى جاءني لا أحتاج أن يقتلني يعني ملك الموت، فقال له: يا حاتم، ما خاب سعيك.
سئل شقيق البلخي: ما علامة التوبة؟ قال: إدمان البكاء على ما سلف من الذنوب، والخوف المقلق من الوقوع فيها، وهجران إخوان السوء، وملازمة أهل الخير.(10/323)
قيل لشقيق: ما علامة العبد المباعد المطرود؟ قال: إذا رأيت العبد قد منع الطاعة، واستوحش منها قلبه وحلا له المعصية واستأنس بها، وخفت عليه، ورغب في الدنيا، وزهد في الآخرة، وأشغله بطنه وفرجه لم يبال من أين أخذ الدنيا فاعلم أنه عند الله مباعد لم يرضه لخدمته.
قال شقيق بن إبراهيم: بينا أنا ذات ليلة نائم حيال الكعبة في المسجد الحرام إذ رأيت في منامي ملكين أتياني فوقفا علي، فقال أحدهما لصاحبه: كم حج العام؟ قال له صاحبه: حج ثلاثة: فلان وفلان، وفلان يقال له شقيق. قال: لا، شقيق عليه فضل ثوب. قال: فلما كان قابل حججت في عباء، فبينا أنا راقد في المسجد الحرام رأيتهما في منامي، فقال أحدهما لصاحبه: كم حج العام فقال: ثلاثة فلان وفلان وشقيق، ألا إن الله عزّ وجلّ شفعهم في كل من حج.
كان شقيق يقول: تفسير الحمد على ثلاثة أوجه: أوله إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك، والثاني أن ترضى بما أعطاك، والثالث ما دام قوته في جسدك أن لا تعصيه.
قال شقيق: من شكا مصيبة نزلت به إلى غير الله لم يجد في قلبه لطاعة الله حلاوة أبداً.
قال حاتم الأصم: كنا مع شقيق البلخي ونحن مصافو الترك في يوم لا أرى فيه إلا رؤوساً تندر، وسيوفاً تقطع، ورماحاً تقصف، فقال لي شقيق ونحن بين الصفين: كيف ترى نفسك يا حاتم في هذا اليوم؟ تراه مثله في الليلة التي زفت إليك امرأتك؟ قلت: لا، والله. قال: لكني والله، أرى نفسي في هذا اليوم مثله في الليلة التي زفت فيها امرأتي. قال: ثم نام بين الصفين ودرقته تحت رأسه حتى سمعت غطيطه. قال حاتم: ورأيت رجلاً من أصحابنا في ذلك اليوم يبكي فقلت: مالك؟ قال: قتل أخي. قال: قلت: حبط أجرك، صار إلى(10/324)
الله وإلى رضوانه. قال: فقال لي: اسكت، ما أبكي أسفاً عليه ولا على قتله، ولكني أبكي أسفاً ألا أكون دريت كيف كان صبه لله عند وقوع السيف به. قال حاتم: فأخذني في ذلك اليوم تركي فأضجعني للذبح فلم يكن قلبي به مشغولاً، كان قلبي بالله مشغولاً أنظر ماذا يأذن الله به في، فبينا هو يطلب السكين من خفه إذ جاءه سهم فذبحه فألقاه عني.
قتل شقيق في غزوة كولان سنة أربع وتسعين ومئة.
قال أبو سعيد الخراز: رأيت شقيقاً البلخي في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، غير أنا لا نلحقكم، فقلت: ولم ذلك؟ فقال: لأنا توكلنا على الله عزّ وجلّ بوجود الكفاية، وتوكلتم على الله بعدم الكفاية. قال: فسمعت الصراخ: صدق صدق، فانتبهت وأنا أسمع الصراخ.
شقيق بن ثور بن عُفير
ابن زهير بن كعب بن عمرو بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة ابن عكابة، أبو الفضل السدوسي البصري شهد صفين مع علي بن أبي طالب عليه السلام، ثم وفد على معاوية، وكان رئيس بكر بن وائل في الإسلام، واستشهد أبوه ثور بتستر مع أبي موسى الأشعري.
حدث عاصم الأحول عن شمير أن رجلاً خطب امرأة فقالوا: لا نزوجك حتى تطلق ثلاثاً، فقال: اشهدوا أني قد طلقت ثلاثاً. فلما دخل على المرأة ادعوا الطلاق فقال: كيف قلت؟ قالوا: لا نزوجك حتى تطلق ثلاثاً، فطلقت ثلاثاً، فقال: أما تعلمون أنه كانت تحتي فلانة بنت فلان فطلقتها ثلاثاً؟ حتى عد ثلاثاً. قالوا: ما هذا أردنا.
وقد وفد شقيق بن ثور إلى عثمان بن عفان فأمروه أن يسأل عثمان. فلما قدم سألاه فاخبر انه سال عثمان فقال: له نيته.(10/325)
نازع مالك بن مسمع شقيق بن ثور فقال له مالك: إنما شرفك قبر بتستر، قال له شقيق: ولكن وضعك قبر بالمشقّر. قال: الذي دفن بالمشقر مسمع أبو مالك، قتل في الردة وكان يقال له فسل الكلب، نزل بقوم فنبح عليه كلبهم، فقتل الكلب فقتل به. وكان ثور قتل بتستر مع أبي موسى الأشعري.
قال شقيق بن ثور حين حضرته الوفاة: ليته لم يكن سيد قومه، كم من باطل قد حققناه وحق قد أبطلناه.
ولما احتضر شقيق بن ثور قال: هذا دَين الله في أعناقنا، لابد من أدائه على عسر أو يسر، ثم قال لبنيه: إذا أنا مت فلا تبكين علي باكية، ولا تنوحن علي نائحة، وأكثروا لي من الاستغفار.
شقيق بن سلمة أبو وائل الأسدي
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال شقيق بن سلمة قال: قال عبد الله:
كنا إذا صلينا خلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلنا: السلام على الله دون عبارة السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فالتفت إلينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: الله هو السلام، فإذا صلى أحدكم فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض، اشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمداً عبده ورسوله.
قال أبو وائل: غزوت مع عمر بن الخطاب الشام فنزلنا منزلاً، فجاء دهقان يستدل على أمير المؤمنين حتى أتاه. فلما رأى الدهقان عمر سجد له فقال عمر: ما هذا السجود؟! فقال: هكذا نفعل بالملوك، فقال عمر: اسجد لربك الذي خلقك، فقال: يا أمير المؤمنين، إني صنعت لك طعاماً فائتني. فقال عمر: هل في بيتك شيء من تصاوير العجم؟ قال: نعم. قال:(10/326)
لا حاجة لنا في بيتك، ولكن انطلق فابعث إلينا بلون من الطعام، ولا تزدنا عليه. قال: فانطلق فبعث إليه بالطعام فأكل منه. قال عمر لغلامه: هل في إداوتك شيء من ذلك النبيذ؟ قال: نعم. قال: فأتاه فصبه في إناء ثم شمه فوجده منكر الريح، فصب عليه الماء ثلاث مرات ثم شربه، ثم قال: إذا رابكم شيء فافعلوا به هكذا، ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تلبسوا الديباج والحرير، ولا تشربوا في آنية الفضة والذهب، فإنها لهم في الدنيا، وهي لنا في الآخرة.
سكن أبو وائل الكوفة، وورد المدائن مع علي بن أبي طالب حين قاتل الخوارج بالنهروان.
وشهد صفين مع علي عليه السلام وقال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أمرد، فلم يقض لي أن ألقاه.
قال أبو وائل: أتانا مصدق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأتيته بكبش لي فقلت: خذ صدقة هذا، قال: ليس في هذا صدقة.
قال عاصم: قلت لأبي وائل: متى أدركت؟ قال: بينما أنا أرعى غنماً لأهلي إذ مرّ ركب أو فوارس ففرقوا غنمي، فوقف رجل منهم فقال: اجمعوا للغلام غنمه كما فرقتموها عليه، فتبعت رجلاً منهم فقلت: من هذا؟ قال: هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الحافظ: والأحاديث في أنه لم ير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصح.
كان أبو وائل يقول: أدركت من الجاهلية سبع سنين.
قال الأعمش: قال لي شقيق بن سلمة: يا سليمان، لو رأيتني ونحن هرّب من خالد بن الوليد يوم بُزاخة، فوقعت عن البعير فكادت تندق عنقي، فلو متّ يومئذ كانت النار. قال شقيق: كنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة.(10/327)
قال أبو وائل: ماتت أمي نصرانية، فأتيت عمر فذكرت ذلك له فقال: اركب دابة وسر أمام جنازتها.
وقيل: إن أبا وائل لم يلق عمر.
وقال شقيق: أعطاني عمر أربعة أعطية. وقال: لتكبيرة واحدة خير من الدنيا وما فيها.
وعن مغيرة قال: قيل لإبراهيم حين ذكر كراهية أصحابه الصلاة على الطنفسة فقيل: إن أبا وائل يصلي على الطنفسة. قال: أما إنه خير مني.
وعن إبراهيم النخعي قال: ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به، وإني لأرجو أن يكون أبو وائل منهم.
وعن شقيق أنه تعلم القرآن في شهرين.
وعن سفيان أنه أمَّهم أبو وائل، فرأى من صوته فقال: كأنه أعجبه، قال: فترك الإمامة.
قال عاصم: كان أبو وائل إذا خلا ينشج، ولو جعل له الدنيا على أن يفعل ذلك وأحد يراه لم يفعل.
قال عاصم: كان لأبي وائل خص من قصب، هو فيه وفرسه، فكان إذا غزا نقضه وإذا قدم بناه.(10/328)
وكان عطاء أبي وائل ألفين، فإذا خرج أمسك ما يكفي أهله سنة، وتصدق بما سوى ذلك. وجاءه رجل فقال: ابنك على السوق، فقال: والله لو جئتني بموته كان أحب إلي، إن كنت لأكره أن يدخل بيتي من عمل عملهم.
وكان أبو وائل يقول لجاريته: يا بركة، إذا جاء يحيى، يعني ابنه بشيء فلا تقبيله، وإذا جاءك أصحابي بشيء فخذيه، وكان يحيى ابنه قاضياً على الكناسة، وكان يقول لجاريته: يا بركة، لا تطعميني شيئاً مما يجيء به.
قال عاصم: قال لي أبو وائل: يا عاصم، أيهما أكثر: القيراط أو الدانق؟ قال: وكان أبو وائل يمر في السوق فيسمع قيراط، دانق، فلا يدري كم هو.
وقال عاصم:
ما رأيت أبا وائل ملتفتاً في صلاة ولا في غيرها، ولا سمعته يسب دابة قط إلا أنه ذكر الحجاج يوماً فقال: اللهم، أطعم الحجاج من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم تداركها فقال: إن كان ذلك أحب إليك، فقلت: واستثنى في الحجاج! فقال: يعدها ذنباً.
قال الأعمش: قال لي شقيق: ما يمنعك أن تأتينا أكثر مما تأتينا؟ قال: وكره أن يقول إني أحب أن تأتينا أكثر مما تأتينا، فيكذب.
قال عاصم بن بهدلة: قلت لأبي وائل: شهدت صفين؟ قال: نعم، وبئست الصفون كانت.
قال عاصم: قيل لأبي وائل: أيهما أحب إليك علي أو عثمان؟ قال: كان علي أحب إلي من عثمان، ثم صار عثمان أحب إلي من علي.(10/329)
قال الأعمش: كنت آتي شقيق بن سلمة وبنو عمه يلعبون بالنرد والشطرنج، فيقول: سمعت أسامة ابن زيد وسمعت عبد الله، وهم لا يدرون فيم نحن.
قال الأعمش: قال لي أبو وائل: يا سليمان، ما في أمرائنا هؤلاء واحدة من اثنتين: ما فيهم تقوى أهل الإسلام، ولا فيهم عقول أهل الجاهلية.
قال الأعمش: قال لي شقيق: يا سليمان، نعم الرب ربنا لو أطعناه ما عصانا.
قال شقيق بن سلمة: مثل قراء هذا الزمان كغنم ضوائن ذات صوف، عجاف، أكلت من الحمض وشربت من الماء حتى انتفخت خواصرها، فمرت برجل فأعجبته، فقام إليها فعبط شاة منها، فإذا هي لا تنقي، ثم عبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال: أف لك سائر اليوم.
قال أبو وائل: استعملني ابن زياد على بيت المال، فأتاني رجل بصك فيه: اعط صاحب المطبخ ثماني مئة درهم، فقلت له: مكانك، فدخلت على ابن زياد فحدثته، فقلت له: إن عمر استعمل عبد الله بن مسعود على القضاء وعلى بيت المال، وعثمان بن حنيف على ما سقى الفرات، وعمار بن ياسر على الصلاة والجند، ورزقهم كل يوم شاة، فجعل نصفها وسقطها وأكارعها لمعار لأنه على الصلاة والجند، وجعل لعبد الله بن مسعود ربعها، وجعل لعثمان ابن حنيف ربعها، ثم قال: إن مالاً يؤخذ منه كل يوم شاة إن ذلك فيه لسريع، فقال لي ابن زياد: ضع المفاتيح واذهب حيث شئت.
قال أبو وائل: أرسل إلي الحجاج فقال: ما اسمك؟ قال: قلت: ليالي هبطه أهله. قال: كم تقرأ من القرآن؟ قال: قلت: أقرأ منه ما إن تبعته كفاني، قال: إنا نريد أن نستعين بك على(10/330)
بعض أعمالنا. قال: قلت: على أي عمل الأمير؟ قال: على السلسلة. قال: قالت: إن السلسلة لا يصلحها إلا رجال يقومون عليها، ويعملون عليها، وإن تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن يعفني الأمير فهو أحب إلي، وإن يقحمني أقتحم. وأيم الله إني لأتعار من الليل، فأذكر الأمير فما يأتيني النوم حتى أصبخ، ولست للأمير على عمل، فكيف إذا كنت للأمير على عمل؟ وأيم الله ما أعلم الناس هابوا أميراً قط هيبتهم إياك أيها الأمير. قال: فأعجبه ما قلت له، فقال أن أعِد علي فأعدت عليه، فقال، أما قولك: إن يعفني الأمير فهو أحب إلي، وإن يقحمني أقتحم، فإنا إن لا نجد غيرك نقحمك، وإن نجد غيرك لا نقحمك. وأما قولك: إن الناس لم يهابوا أميراً هيبتهم إياي فإني والله ما أعلم اليوم رجلاً هو أجرأ على دم مني، ولقد ركبت أشياء هابها الناس ففرج لي بها، انطلق يرحمك الله. قال: فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر، فقال: أرشدوا الشيخ: قال: فجاءني إنسان وأخذ بيدي.
توفي أبو وائل في زمن الحجاج بعد الجماجم. ولما مات قبل أبو بردة جبهته. وقيل: إنه مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. قالوا: وهو وهم، فإنه لم يبق إلى خلافته. وقيل كانت وفاته سنة تسع وتسعين.
شمر بن ذي الجوشن
واسم ذي الجوشن شرحبيل ويقال: عثمان بن نوفل. ويقال أوس بن الأعور أبو السابغة العامري ثم الضبابي من بني كلاب كانت لأبيه صحبة، وهو تابعي، أحد من قاتل الحسين بن علي عليهما السلام، ووفد على يزيد بن معاوية مع أهل بيت الحسين عليهم السلام.
حدث ذو الجوشن قال:
أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لي، قلت، يا محمد، إني قد جئتك بابن القرحاء لتتخذه. قال: لا حاجة لي فيه، ولكن إن شئت أن أقيضك به المختارة(10/331)
من دروع بدر فعلت، فقلت: ما كنت لأقايضك اليوم بغيره. قال: فلا حاجة لي فيه، ثم قال: يا ذا الجوشن، ألا تسلم فتكون من أول هذا الأمر؟ قلت: لا، قال: لمَ؟ قلت: إني رأيت قومك قد ولعوا بك، قال: فكيف بلغك عن مصارعهم ببدر؟ قال: قلت: قد بلغني. قال: قلت: إن تغلب على الكعبة وتقطنها، قال: لعلك إن عشت أن ترى ذلك ثم قال: يا بلال، خذ حقيبة الرجل فزوده من العجوة. فلما أدبرت قال: أما إنه من خير بني عامر. قال: فوالله إني لبأهلي بالعود إذ أقبل راكب فقلت: من أين؟ قال: من مكة. قلت: ما فعل الناس؟ قال: غلب عليها محمد. قال: فقلت: هبلتني أمي، فوالله لو أسلم يومئذ ثم أسله الحيرة لأقطعنيها.
وإنما نسب الضبابي لأن أحد ولد عمرو بن معاوية يقال له: ضب، فنسب إلى ذلك.
وإنما سمي ذو الجوشن من اجل أن صدره كان ناتئاً.
قال أبو إسحاق: كان الشمر بن ذي الجوشن الضبابي يصلي معنا الفجر ثم يقعد حتى يصبح ثم يصلي ثم يقول: اللهم، إنك شريف تحب الشرف، وإنك تعلم أني شريف فاغفر لي. قلت: كيف يغفر الله لك وقد خرجت إلى ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعنت على قتله؟! قال: ويحك، فكيف نصنع؟ إن أمراءنا هؤلاء أمرونا بأمر، فلم نخالفهم ولو خالفناهم كنا شراً من هذه الحمر السقاة.
قال أبو إسحاق: رأيت قاتل الحسين بن علي شمر بن ذي الجوشن، ما رأيت بالكوفة أحداً عليه طيلسان غيره.
قال محمد بن عمرو بن حسن: كنا مع الحسين عليه السلام بنهري كربلاء فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي. وكان شمر أبرص.(10/332)
حدث خليفة العصفري قال: الذي ولي قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن وأمير الجيش عمر بن سعد بن مالك.
قال مسلم بن عبد الله الضبابي: لما خرج شمر بن ذي الجوشن وأنا معه حين هزمنا المختار وقتل أهل اليمن بجبانة السبيع، ووجه غلامه رزيناً في طلب شمر حتى نزل ساتيدما، ثم مضى حتى نزل إلى جانب قرية يقال لها الكلتانية على شاطئ نهر إلى جانب تل، ثم أرسل إلى تلك القرية فأخذ منها علجاً ثم قال: النجاء بكتابي هذا إلى مصعب بن الزبير وكتب عنونه للأمير مصعب بن الزبير من شمر بن ذي الجوشن، فمضى العلج حتى يدخل قريبة فيها بيوت وفيها أبو عمرة، وقد كان المختار بعثه في تلك الأيام إلى تلك القرية لتكون مسلحة فيما بينه وبين أهل البصرة، فلقي ذلك العلج علجاً من أهل تلك القرية فأقبل يشكو إليه ما لقي من شمر، فإنه لقائم معه يكلمه إذ مر به رجل من أصحاب أبي عمرة، قرأ الكتاب مع العلج وعنوانه لمصعب من شمر، فسألوا العلج عن مكانه الذي هو به وأخبرهم فإذا ليس بينهم وبينه إلا ثلاثة فراسخ فأقبلوا يسيرون إليه. قال: فحدثني مسلم بن عبد الله: وأنا والله مع شمر تلك الليلة، فقلنا له: لو أنك ارتحلت بنا من هذا المكان فإنا نتخوف به، فقال: أوكل هذا فرقاً من هذا الكذاب، والله لا أتحول منه ثلاثة أيام، ملأ الله قلوبكم رعباً، قال: وكان ذلك المكان الذي كنا به فيه دباء كثير، فوالله إني لبين اليقظان والنائم إذ سمعت وقع حوافر الخيل فقلت في نفسي: هذا صوت الدباء ثم إني سمعته أشد من ذلك فانتبهت ومسحت عيني، قلت: لا والله ما هذا بالدباء. قال: وذهبت لأقوم فإذا أنا بهم قد اشرفوا علينا من التل، فكبروا ثم أحاطوا بأبياتنا، وخرجنا نشتد على أرجلنا وتركنا خيلنا. قال: فأمر على شمر وإنه لمرتد ببرد محقق وكان أبرص فكأني أنظر إلى بياض كشحيه من فوق البرد، وإنه ليطاعنهم بالرمح قد أعجلوه أن يلبس سلاحه وثيابه، فمضينا وتركناه فما هو إلا أن مضت ساعة إذ سمعت: الله أكبر، قتل الله الخبيث.(10/333)
قال عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود: أنا صاحب الكتاب الذي رأيته مع العلج، وأتيت به أبا عمرة، وأنا قتلت شمراً. قال: قلت: هل سمعته يقول شيئاً ليلتئذ؟ قال: نعم. خرج علينا فطاعننا برمحه ساعة، ثم ألقى رمحه ثم دخل بيته فأخذ سيفه، ثم كر علينا وهو يقول: مشطور الرجز
نبهتهم ليث عرين باسلا ... جهماً محياه يدق الكاهلا
لم ير يوماً عن عدو ناكلا ... إلا كذا مقاتلاً أو قاتلا
يبرحهم ضرباً ويروي العاملا
شمعون أبو ريحانة الأزدي
ويقال: الأنصاري. ويقال القرشي والأصح أنه الأزدي ويقال: شمغون بالغين المعجمة. قالوا: وهو أصح له صحبة من سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهد فتح دمشق، واتخذ بها داراً، وسكن بعد ذلك بيت المقدس.
قال أبو الحصين الهيثم بن شفي: خرجت أنا وصاحب لي يسمى أبا عامر " رجل من المعافر " لنصلي بإيلياء، وكان قاصهم رجلاً من الأزد يقال له: أبو ريحانة من الصحابة. قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد، فأدركته فجلست إلى جنبه، فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ فقلت: لا، فقال: سمعته يقول: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عشرة: الوشر، والوشم، والنتف، وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار، وعن مكامعة المرأة المرأة بغير شعار، وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريراً مثل الأعاجم، وأن يجعل على منكبيه حريراً مثل الأعاجم، وعن التهبي، وركوب النمر، ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان.(10/334)
قال أبو ريحانة: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة، فأتينا ذات ليلة إلى شرف، فبتنا عليه، فأصابنا برد شدي حتى رأيت من يحفر في الأرض حفرة يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة يعني: الترس. فلما رأى ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس نادى: من يحرسنا في هذه الليلة وأدعو له بدعاء يكون فيه فضل؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فقال: ادنه فدنا فقال: من أنت؟ فتسمى له الأنصاري، ففتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعاء فأكثر منه. فقال أبو ريحانة: فلما سمعت ما دعا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: أنا رجل آخر. قال: ادنه فدنوت فقال: من أنت؟ فقلت: أنا أبو ريحانة، فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ثم قال: حرمت النار على عين دمعت، أو بكت من خشية الله، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله، وقال: حرمت النار على عين أخرى ثالثة لم يسمها محمد بن شمير أحد رواته.
وعن أبي ريحانة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من انتسب إلى تسعة آباء كفار يريد بهم عزاً وكرماً كان عاشرهم في النار.
وعن أبي ريحانة الأنصاري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الحمى كير من جهنم، وهي نصيب المؤمن من النار " ومن ولد أبي ريحانة محمد بن حكيم بن أبي ريحانة كاتب من كتاب الدمشقيين، وهو أول من طوى الطومار وكتب فيه مدرجاً مقلوباً.
وعن أبي ريحانة قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكوت إليه تفلت القرآن ومشقته علي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تحمل عليك ما لا تطيق، وعليك بالسجود ".
وعن أبي ريحانة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن إبليس ليضع عرشه على البحر، ودونه الحجب يتشبه بالله عزّ وجلّ، ثم يبث جنوده فيقول: من لفلان الآدمي، فيقوم اثنان فيقول: قد أجلتكما سنة فإن أغويتماه وضعت عنكما التعب، وإلا صلبتكما. قال: فكان يقال لأبي ريحانة لقد صلب فيك كثيراً.(10/335)
قفل أبو ريحانة من بعث غزا فيه. فلما انصرف أتى أهله فتعشى من عشائه ثم دعا بوضوء فتوضأ منه، ثم قام إلى مسجده، فقرأ سورة ثم أخرى، فلم يزل ذلك مكانه كلما فرغ من سورة افتتح أخرى، حتى إذا أذّن المؤذّن من السّحر شد عليه ثيابه فأتته امرأته فقالت: يا أبا ريحانة قد غزوت فتعبت في غزوتك ثم قدمت، ألم يكن لي منك حظ ونصيب؟ فقال: بلى، والله، ما خطرت لي على بال، ولو ذكرتك لكان لك علي حق، فقالت: فما الذي شغلك يا أبا ريحانة؟ قال: لم يزل يهوى قلبي فيما وصف الله في جنته من لباسها وأزواجها ولذاتها حتى سمعت المؤذّن.
كان أبو ريحانة مرابطاً بالجزيرة بميافارقين، فاشترى رسناً من نبطي من أهلها بأفلس، فقفل أبو ريحانة ولم يذكر الفلوس أن يدفعها إلى صاحبها حتى انتهى إلى عقبة الرستن وهي من حمص على اثني عشر ميلاً فذكرها، فقال لغلامه: هل دفعت إلى صاحب الرسن فلوسه؟ قال: لا، قال: فنزل عن دابته فاستخرج نفقة من نفقته فدفعها إلى غلامه وقال لأصحابه: أحسنوا معاونته على دوابي حتى يبلغ أهلي. قالوا: فما الذي تريد؟ قال: أنصرف إلى بيعي حتى أدفع إليه فلوسه فأودي أمانتي. فانصرف حتى أتى ميافارقين فدفع الفلوس إلى صاحب الرسن، ثم انصرف إلى أهله.
ركب أبو ريحانة البحر وكان يخيط فيه بإبرة معه، فسقطت إبرته في البحر فقال: عزمت عليك يا رب إلا رددت علي إبرتي، فظهرت حتى أخذها.
قال: واشتد عليهم البحر ذات يوم وهاج فقال: اسكن أيها البحر، فإنما أنت عبد مثلي قال: فسكن حتى صار كالزيت.(10/336)
شهاب بن خراش بن حوشب
ابن يزيد بن الحارث بن يزيد بن رُويم بن عبد الله بن سعد بن مرة بن ذهل ابن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل أبو الصلت الشيباني الكوفي الواسطي انتقل إلى الشام، وسكن فلسطين، واجتاز بدمشق.
حدث عن سفيان الثوري بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يحسر الفرات عن جبل من ذهب، فتقتتلون عليه، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون، ولا تقوم الساعة إلا نهاراً ".
وحدث شهاب عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أخاف على أمتي بعدي خصلتين: تكذيباً بالقدر، وتصديقاً بالنجوم.
قال أبو الصلت: فلقيت أبان بن أبي عياش فسألته عن هذا الحديث هل سمعته من أنس؟ قال: سمعته أذناي ووعاه قلبي عن أنس بأثره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " فرغ الله من أربع: من الخلق والخُلُق والرزق والأجل ".
ورواه الحافظ مسلسلاً عن خاله القاضي أبي المعالي بسنده إلى شهاب بن خراش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أخوف ما أخاف على أمتي تصديق بالنجوم، وتكذيب بالقدر، ولا يؤمن عبد بالله حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحيته وقال: آمنت بالقدر كله خيره وشره، حلوه ومره، وأخذ أنس بلحيته كذلك وقال كذلك، وأخذ كل راو بلحيته، وقال مثل ذلك إلى خاله القاضي أبي المعالي أخذ بلحيته وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه ومره.
قال شهباب بن خراش حدثني شعيب بن زريق الطائفي قال: كنت جالسا عند رجل يقال له الحكم بن حزن الكلفي وله صحبة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأنشأ يحدثنا قال: قدمت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سابع سبعة أو تاسع تسعة. قال: فأذن(10/337)
لنا فدخلنا فقلنا: يا رسول الله، أتيناك لتدعو لنا بخير، قال: فدعا لنا بخير، وأمر بنا فأنزلنا وأمر لنا بشيء من تمر، والشأن إذ ذاك دون.
قال: فلبثنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياماً شهدنا فيها الجمعة، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوكئاً على قوس، أو قال على عصا، فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات، ث ((م قال: يا أيها الناس، إنكم لن تفعلوا، أو لن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا.
حدث شهاب بن خراش عن سعيد بن سنان قال: أتيت بيت المقدس أريد الصلاة، فدخلت المسجد، وغفلت سدنة المسجد حتى أطفئت القناديل، وانقطعت الرجل، وغلقت الأبواب، فبينا أنا على ذلك إذ سمعت حفيفاً له جناحان قد أقبل وهو يقول: سبحان الدائم، القائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الملك القدوس، سبحان رب الملائكة والروح، سبحان الله وبحمده، سبحان العلي الأعلى، سبحانه وتعالى. ثم أقبل حفيف يتلوه يقول مثل ذلك، ثم أقبل حفيف بعد حفيف يتجاوبون بها حتى امتلأ المسجد، فإذا بعضهم قريب مني، فقال: آدمي؟ قلت: نعم، قال: لا روع عليك، هذه الملائكة. قلت: سألتك بالذي قواكم على ما أرى: من الأول؟ قال: جبريل. قلت: ثم الذي يتلوه؟ قال: ميكائيل. قلت: ثم الذين يلونهم من بعد؟ قال: الملائكة. قلت: سألتك بالذي قواكم لما أرى: ما لقائلها من الثواب؟ قال: من قالها سنة، في كل يوم مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة، أو يرى له.
قال أبو الزاهرية: قلت: سنة، وسنة كثير فقلتها في يوم عدد أيام السنة، فرأيت خيرا.
قال سعيد بن سنان: فقلت: سنة وسنة كثير لعلي لا أعيش، فقلتها في يوم عدد أيام السنة فرأيت خيرا.
قال الحوشبي كذلك.
قال محمد بن عمرو: فقلتها أنا في ثلاثة أو أربعة كل يوم مرة، فكان لا يزال الرجل يلقاني فيقول رأيت لك كذا وكذا.(10/338)
قال شهاب بن خراش بن حوشب ابن أخي العوام بن حوشب قال: أدركت من أدركت من صدر هذه الأمة وهيقولون: اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تأتلف عليه القلوب، ولا تذكروا الذي شجر بينهم، فتحرشوا الناس عليهم.
شهاب بن محمد بن شهاب
ابن يحيى بن عبد القاهر، أبو القاسم الأنصاري الصوري حدث عن أبي العلاء أحمد بن صالح بسنده عن سهل بن سعد قال: أتى جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنكم مجزيّ به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس.
شهاب بن مسرور بن مساور
ابن سعد بن أبي الغادية يسار بن سبع المزني حدث عن أبيه عن جده عن أبيه أبي الغادية قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة من أصحابه جالساً إذ مرت به جنازة فقال: ممن الجنازة؟ فقالوا: من مزينة. فما جلس ملياً حتى مرت به الثانية فقال: ممن الثانية؟ فقالوا: من مزينة. فما جلس ملياً حتى مرت به الثالثة فقال: ممن الجنازة؟ فقالوا: من مزينة، فقال: سيري مزينة، ما هاجرت فتيان قط كرموا على الله إلا كان أسرعهم فناء، سيري مزينة لا يدرك الدجال منا أحد.
قال: غريب جداً، لم أكتبه إلا من هذا الوجه. والله أعلم.
/(10/339)
شهر بن حوشب أبو عبد الله ويقال أبو عبد الرحمن، ويقال أبو الجعد، ويقال أبو سعيد الأشعري مولى أسماء بنت يزيد بن السكن. من أهل دمشق، ويقال: من أهالي حمص.
حدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو كان العلم معلَّقاً بالثريا لتناوله قومٌ من أبناء فارس ".
وحدث شهر أيضاً قال: سمعت أبا هريرة قال: أوصاني حبيبي أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بصيام ثلاثة أيام من كل شهر. وألاّ أنام إلا على وتر، وركعتي الفجر ".
وحدث شهر عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل نبيٍ حرماً. وحرمي المدينة ".
قال عثمان بن نويرة: دعي شهر بن حوشب إلى وليمة وأنا معه، فخلنا فأصبنا من طعامهم. فلما سمع شهر المزمار وضع إصبعَيه في أذنيه، وخرج حتى لم يسمعه.
وعن شهر بن حوشب قال: من ركب مشهوراً من الدواب، أو لبس مشهوراً من الثياب أعرض الله عنه، وإن كان عليه كريماً.(11/5)
قال قتادة: جاء شهر بن حوشب يستأذن على الأمير، فخرج الإذن فقال: إن الأمير يقول: لا تأذن له فإنه سبائي قال: فقلت: إن خادم البيت يخبرك بما في أنفسهم. قال: بم؟ قال قتادة: لا غفر الله لمن لا يستغفر لهما. يعني علياً وعثمان.
حدث أعين الإسكان وكان يؤاجر نفسه إلى مكة كلَّ سنة قال: آجرت نفسي من شهر بن حوشب إلى مكة وكان له غلام ديلمي مغنّ وكان إذا نزل منزلاً قال لغلامه ذاك: تنح فادخل فاستذكر غناءك. قال: ثم يقبل علينا فيقول: إن هذا ينفق بالمدينة.
وقال غيره: كنت مع شهر بن حوشب في طريق مكة، فكنا إذا نزلنا منزلاً قال: سوُّوا عودنا، سووا طنبورنا، فإنما نأكل به خبزنا.
قال ابن عون، سرق شهر عيبتي في طريق مكة.
قال يحيى بن أبي بكير حدثني أبي قال: كل شهر بن حوشب على بيت المال، فأخذ " خريطة " فيها دراهم، فقال القائل: " الطويل ".
لقد باعَ شهرٌ دينه بخريطةٍ ... فمن يأمنِ القراءَ بعدك يا شهرُ؟
توفي شهر بن حوشب سنة ثمان وتسعين. وقيل: سنة مئة، أو إحدى ومئة: وقالوا: اثنتي عشرة ومئة.
قالوا: وكان ضعيفاً.(11/6)
شيبان بن محمد بن أحمد
أبو الفرج النوبندجاني الفقير حدث عن أحمد بن عبد الله بن أنس المقرىء بسنده عن قتادة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ الركعتين الأوليين من الظهر والعصر بأم القرآن وسورتين. كان يُطوّل في الركعة الأولى، ويُسمعنا الآية أحياناً.
شيبة بن الأحنف أبو النضر الأوزاعي
حدث عن أبي سلام قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن حديث الحوض فقلت: سمعت ثوبان يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن سعة حوضي ما بين عدن إلى عمان، شراب أحلى من العسل، وأبيض من الثلج. من شرب منه شربة لم يظمأ آخرُ ما عليه أولَّ الناس، يردّه عليّ فقراءُ المهاجرين، الدنسة ثيابهم، الشعثة رؤوسهم. الذين لا تفتح لهم السدد، ولا ينكحون الممنعات، الذين يعطون الحق الذي عليهم، ولا يُعطّون الذي لهم ".
وحدث أيضاً عن أبي سلام الأسود عن أبي صالح الأشعري أن أبا عبد الله الأشعري حدثه
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصُر برجل يصلي لا يتم ركوعه ولا سجوده فقال: " لو مات هذا على ما هو عليه لمات على غير ملة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، (فأتِمّوا الكروع والسجود) . قال: (مَثَل الذي يصلي ولا يُتم ركوعه ولا سجوده مثل الجائع لا يأكل إلا التمرة والتمرتين لا تغنين عنه شيئاً) .
قال أبو صالح: فلقيت أبا عبد الله فقلت: من حدثك هذا الحديث أنه(11/7)
سمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: حدثني أمراء الأجناد: خالد بن الوليد، وشرحبيل بن حَسَنة، وعمرون بن العاص أنهم سمعوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
شيبة بن عثمان بن أبي طلحة
عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي ابن كلاب بن مرة، أبو عثمان القرشي العبدري حاجب الكعبة المعظمة، وهو جد الشيبيين. وله صحبة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلام. أسلم بعد الفتح، وشهد حنيناً مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشركاً. وفد على معاوية.
حدث شيبة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فإن وُسِّع له فليجلس، وإلا فلينظر أوسع مكان يراه فليجس فيه.
وحدث شيبة قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكعبة، فصلى فيها ركعتين، فإذا فيها تصاوير، فقال: يا شيبة، اكفِني هذه، قال: فاشتد ذلك عليك، فقال له رجل: أطيّنها ثم ألطخها بزعفران، ففعل.
قال عبد الرحمن الزجاج: أتيت شيبة بن عثمان فقلت: يا أبا عثمان، زعموا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل الكعبة فلم يصلّ، فقال: كذبوا، وأبي، لقد صلّى بين العمودين ركعتني، ثم ألصق بهما بطنه وظهره.(11/8)
كان شيبة خرج مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حنين وهومشرك، وكان يريد أن يغتال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرى من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِرّة يوم حنين، فأقبل يريده، فرآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا شيبة! هلم لك "، فقذف الله في قلبه الرعب، ودنا من رسو الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على صدره ثم قال: " أخسأ عنك الشيطان "، وأخذه أَفْكَل، وفزع، وقذف الله في قلبه الإيمان، فقاتل مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان ممن صبر معه، وكان من خيار المسلمين. وأوصى إلى عبد الله بن الزبير بن العوام.
شيبةُ بن عثمان وهو الأوقص بقي حتى أدرك يزيد بن معاوية، وهو أبو صفية. توفي سنة تسع وخمسين.
قال شيبة: خرجت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين. والله ما خرجت إسلاماً ولكني خرجت إبقاء أن تظهر هوازن على قريش، فوالله إني لواقف مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ قلت: يا نبي الله، إن لأرى خيلاً بُلقاً. قال: " يا شيبة: إنه لا يراها إلا كافر ". قال: فضرب بيده صدري فقال: " اللهم: اهد شيبة "، وفعل ذلك ثلاثاً. قال: فما رفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده عن صدري الثالثة حتى ما أجد من خلق الله أحب إلي منه. قال: فالتقى المسلمون، فقُتل من قتل. قال: ثم أقبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمر آخذ باللجام، والعباس آخذ بالثَّغَر. قال: فنادى العباس: أين المهاجرون، أين أصحاب سورة البقرة، بصوت عال، هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل الناس والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " قدِّماها ".
أنا النبي غير كذب ... أنا ابن عبد المطلب
قال: فأقبل المسلمون، فاصطكوا بالسيوف، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الآن حمي الوطيس.(11/9)
في حدث آخر: كان شيبة رجلاً صالحاً، له فضل، وكان يحدث عن إسلامه، وما أراد الله به من الخير ويقول: ما رأيت أعجب مما كنا فيه من لزوم ما مضى عليه آباؤنا من الضلالات، ثم يقول:
لما كان عام الفتح ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة عنوة قلت: أسير مع قريش إلى هوازن بخيبر، فعسى إن اختلطوا أن أصيب من محمد غِرّة، وأثأر منه، فأكون أنا الذي قمت بثأر قريش كلها. وأقول: لو لم يبق من العرب والعجم أحد إلا اتبع محمداً ما تبعته أبداً. فكنت مرصداً لما خرجت له، لا يزداد الأمر في نفسي إلا قوة. فلما اختلط الناس اقتحم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بغلته، وأصلتّ السيف ودنوت أريد ما أريد منه ورفعت سيفي حتى كدت أسوّره. فرفع لي شواظ من نار كالبرق كاد يمحشني، فوضعت يدي على بصري خوفاً عليه. والتفت إليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنادى: " يا شيب، أدنُ مني "، فدنوت، فمسح صدري ثم قال: " اللهم، أعِذه من الشيطان ". قال: فوالله لهو كان ساعة إذٍ أحبِّ إليَّ من سمعي وبصري ونفسي، وأذهب الله ما كان بي، ثم قال: " آدن فقاتل "، فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، الله يعلم أن أحب أن أقيه بنفسي كل شيء. ولو لقيت تلك الساعة أبي لو كان حياً لأوقعت به السيف، فجعلت ألزمه فيمن لزمه حتى تراجع المسلمون فكرّوا كرّة رجل واحد، وقربت بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستوى عليها، فخرج في إثرهم حتى تفرقوا في كل وجه، ورجع إلى معسكره فدخل خبَاءه، فدخلت عليه، ما دخل عليه غيري حبّاً لرؤية وجهه وسروراً به، فقال: " يا شيب، الذي أراد الله بك خيرٌ مما أردت بنفسك "، ثم حدثني بكل ما أضمرت في نفسي مما لم أذكره لأحد قط. قال: فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله. ثم قلت: استغفر لي يا رسول الله. قال: " غفرَ الله لك ".
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: يا شيب، قالت الكفار، ثم قال: " يا عباس، اصرخ بالمهاجرين الذين(11/10)
بايعوا تحت الشجرة، وبالأنصار الذين آوَوا ونصروا ". قال: فما شبهت عطف الأنصار على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا عطفة الإبل - أو كما قال - على أولادها. قال: حتى ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه في حَرَجَة. قال: فلرماح الأنصار كانت أخوف عندي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رمال الكفار. قال: ثم قال: يا عباس، ناولني من الحصباء. قال: وأَفْقَه الله البغلة كلامه، فانخفضت به حتى كاد بطنها يمس الأرض. قال: فتناول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البطحاء فحثى في وجوههم وقال: شاهت الوجوه، " حم "، " لا يُنصَرُوْنَ ".
حدث صعب قال: شيبة بن عثمان بن أبي طلحة دفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المفتاح إليه وإلى عثمان بن طلحة فقال: " خذوها يا بني أبي طلحة خالة تالدة، لا يأخذها منك إلا ظالم "، فبنو أبي طلحة هم الذين يلون سدانة الكعبة دون بني عبد الدار.
وعن عروة قال: كان العباس وشيبة بن عثمان آمَنا ولم يهاجرا، فأقام عباس على سقايته، وشيبة على الحجابة.
قال شقيق: بعث معي رجل بدراهم هدية إلى الكعبة. قال: فدخلت، فإذا شيبة جالس على كرسي، فأعطيته إياها فقال: ألك هذه؟ فقلت: لا، لو كانت لي لم آتك بها. قال: أما لئن قلت ذلك لقد قعد عمر بن الخطاب في مقعدك الذي أنت فيه، فقال: ما أنا بخارج حتى أقسم مال الكعبة. قلت: ما أنت بفاعل، قال: بل لأفعلن، ولمَ؟ قال: قلت: لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر قد رأيا مكانه فلم يحركاه، وهما أحوج إلى المال منك، قال: فقام مكانه فخرج.
توفي شيبة بن عثمان سنة ثمان وخمسين: وقيل: سنة تسع وخمسين.(11/11)
شيبة بن الوليد بن سعيد
أبو محمد العثماني القرشي حدث شيبة بن الوليد قال:
لما صار أبو جعفر الخليفة إلى الرقة دعا بعبد الله بن معاوية بن هشام بن عبد الملك فضرب عنقه، وصلبه. وكانت امرأة عبد الله بن معاوية صفية بن إسحاق بن مسلم العقيلي. فلما فعل ذلك بزوجها أتت أباها إسحاق بن مسلم - وكانت له من أبي جعفر ناحية، وكان من خاصته - فقالت: يا أبه. قد فعل بصهرك ما ترى، وإنه يسمج بك أن يمر المارّ فيرى سوءته على الخشبة باديةً، فقال لها: تريدين ماذا؟ قالت: تُكلم أبا جعفر يهبه لك فننزله فندفنه. قال: مالي إلى ذلك سبيل. قال: فلما أبى عليها، وجنّها الليل أخذت جورايها وكساء خز ثم أتت الخشبة فوضتها بالأرض، ثم أخذته فأدرجته في الكساء ثم حملته جواريها حتى أتت به منزلها فحفرت له تحت فراشها ثم دفنته، ورّت الفراش مكانه. فلما أصبح أبو جعفر وفُقد عبُد الله قيل له فيه، وأخبر بذهابه، فجمع أبو جعفر وجوه أهل الرقة وأشرافهم، ثم أعطى الله عهداً لئن لم تجيئوني بخبر عبد الله بن معاوية لأضربن رقابكم. قال: وجعل جُلّ نظره وكلامه إلى إسحاق بن مسلم، فخرجوا من عنده، وقد طارت عقولهم، فأتى إسحاق بن مسلم ابنته فقال: أي بُنَيّة، إنه قد كان من أمر أبي جعفر كيت وكيت، وقد حمل علي من بينهم، واتهمني في جسده لسمع كلامك، هو تحت الفراش، وأخبرته خبره والذي صنعت، فلما كان من الغد غدا أشراف أهل الرقة، ولا يشكون في القتل. فلما دخلوا عليه جثا إسحاق بن مسلم بين يدي أبي جعفر فأخبره خبره، وبما صنعت ابنته. فلما فهم قوله قلب وجهه عنه وصرف حديثه إلى غيره، وتركه وأصحابه، ولم يعرض لعبد الله ولا لامرأته.(11/12)
شيث بن آدم عليه السلام
ويقال شَبَث، واسمه هبة الله يقال: إن قبره بالبقاع.
عن ابن عباس قال: خرج آدم من الجنة بين صلاة الظهر وصلاة العصر، فأنزل إلى الأرض، وكان مكثه في الجنة نصف يوم من أيام الآخرة، وهو خمس مئة سنة من يوم كان مقداره اثنتي عشرة ساعة، واليوم ألف سنة مما يعد أهل الدنيا، فأهبط آدم على جبل بالهند يقال له: نود وأهبطت حواء بجدة فنزل آدم. معه ريح الجنة، فعلق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هنالك طيباً. فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم.
وقالوا: أنزل معه من طيب الجنة أيضاً، وأنزل معه الحجر الأسود، وكان أشد بياضاً من الثلج. وعصا موسى، وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع على طول موسى ومرّ، ولبان. ثم أنزل عليه بعدُ العلاة والمطرقة والكلبتين فنظر آدم حين أهبط على الجبل إلى قضيب من حديد ثابت على الجبل فقال: هذا من هذا، فجعل يكسر أشجاراً قد عُتقت ويبست بالمطرقة، ثم أوقد على ذلك الغصن حتى ذاب. فكان أول شيْ ضرب منه مدية، فكان يعمل بها، ثم ضرب التنور وهو الذي ورثه نوح، وهو الذي فار بالهند بالعذاب. فلما حج آدم وضع الحجر الأسود على أبي قُبيس، فكان يضيء لأهل مكة في ليالي الظلم كما يضيء القمر. فلما كان قبل الإسلام بأربع سنين، وقد كان الحُيَّ والجُنُب يصمِدون إليه فيمسحونه فاسودّ، فأنزلته قريش من أبي قُبيس. وحج آدم من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه. وكان آدم حين أهبط يمسح رأسُه السماء، فمن ثم صلع، وأورث ولده الصلع، ونفرت من طوله دواب البر، فصارت وحشاً من يومئذ. فكان آدم وهو على ذلك الجبل قائماً يسمع أصوات الملائكة، ويجد ريح الجنة، فحط من طوله ذلك إلى ستين ذراعاً، فكان ذلك طوله حتى مات. ولم يجمع حُسن آدم(11/13)
لأحد من ولده إلا ليوسف. وأنشأ آدم يقول: ربِّ، كُنْتُ جارَكَ في دارك، ليس لي ربّ غيرك، ولا رقيب دونك، آكل منها رغداً، وأسكن حيث أحببت، فأهبطتني إلى هذا الجبل المقدس، فكنت أسمع أصوات الملائكة، وأراهم كيف يحُفّون بعرشك. وأجد ريح الجنة وطيبها، ثم أهبطتني إلى الأرض، وحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر، وذهب عني ريح الجنة، فأجابه الله: " لمعصيتك يا آدم فعلت ذلك بك ".
فلما رأى الله عزّ وجل عُري آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي انزل الله عزّ وجل من الجنة. فأخذ آدم كبشاً فذبحه، ثم أخذ صوفه، فغزلته حواء، ونسجه هو وحواء، فنسج آدم جبّة لنفسه وجعل لحواء درعاً وخماراً، فلبساه. وقد كانا اجتمعا بجمع، فسميت جمعاً. وتعارفا بعرفة، فسميت عرفة، وبكيا على ما فاتهما مائتي سنة. ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً. ثم أكلا وشربا، وهما يومئذ على نود الجبل الذي أهبط عليه آدم. ولم يقرب حواء مئة سنة، ثم قربها فبلغت، فحملت فولدت أول بطن: قابيل وأخته لتود توْأمته، ثم حملت فتلد هايل وأخته قليما توأمته. فلما بلغوا أمر الله آدم أن يزوج البطن الأول البطن الثاني، والبطن الثاني البطن الأول، يخالف بين البطنين في النكاح. وكانت أخت قابيل حسنة، وأخت هابيل قبيحة، فقال آدم لحواء الذي أُمر به، فذكرته لابنيها فرضي هابيل، وسخط قابيل وقال: لا والله، ما أمر الله بهذا قط. ولكن هذا عن أمرك يا آدم، فقال آدم: فقرِّبا قرباناً، فأيكما كان أحقّ بها أنزل الله عزّ وجلّ ناراً من السماء فأكلت قربانه. فرضيا بذلك، فغدا هابيل وكان صاحب ماشية بخير غذاء غنمه وزبد ولبن، وكان قابيل زراعاً، فأخذ طناً من شرّ زرعه ثم صعد الجبل، يعني: نود، وآدم معهما فوضعا القربان، ودعا آدم ربه، وقال قابيل في نفسه: لا أبالي أتُقُبِّل مني أم لا، لا ينكح هابيل أختي أبداً. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل، وتجنبت قربان قابيل لأنه لم يكن زاكي القلب.
فانطلق هابيل، فأتاه قابيل وهو في غنمه، فقال: لأقتلنك. قال: لِمَ تقتلني؟! قال: لأن الله تقبل منك، وردّ علي قرباني، ونكحت أختي الحسنة، ونحكت أختك القبيحة. ويتحدث الناس بعد اليوم أنك كنت خيراً مني، فقال له هابيل: " لَئِنْ(11/14)
بَسَطتَ إليَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي، ما أَنا بباسطٍ يدي إليكَ لاَقتلكَ إني أخافُ الله رب العالمين إني أريدُ أن تبُوءَ وإثمِكَ فتكونَ من أصحابِ النارِ وذلكَ جزاءُ الظالمين ".
أما قوله: " بإثمي " يقول: بقتلي إذا قتلتني، إن إثمك الذي كان عليك قبل قتلي. فقتله فأصبح من النادمين. فتركه لم يُوار جسده (فبعث الله غُراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه) وكان قتله عشية، وغدا إليه غدوة لينظر ما فعل، فإذا هو بغراب حيّ يبحث على غراب ميت فقال: (يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي) كما يواري هذا سوأة أخيه؟! فدعا بالويل، وأصبح من النادمين. ثم أخذ قابيل بيد أخته ثم هبط بها من الجبل يعني: نود إلى الحضيض، فقال آدم لقابيل: اذهب، فلا تزال مرعوباً أبداً، لا تأمن من تراه، فكان لا يمر به أحد من ولده إلا رماه. فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له، فقال للأعمى أبيه: هذا أبوك قابيل، قال: فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله، فقال ابن الأعمى: يا أبتاه، قتلت أباك؟! فرفع الأعمى يده فلطم ابنه، فمات ابنه، فقال الأعمى: ويل لي، قتلت أبي برميتي، وقتلت ابني بلطمتي.
ثم حملت حواء فولدت شيث وأخته عزوراء فسمي هبة الله، اشتق له من اسم هابيل، فقال لها جبريل حين ولدته: هذا هبة الله لك بدل هابيل. وهو بالعربية شبث، وبالسريانية: شاث، والعبرانية: شيث. وإليه أوصى آدم. وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومئة سنة. ثم تغشاها آدم، فحملت حملاً خفيفاً فمرت به. يقول: قامت وقعدت، ثم أتاها الشيطان في غير صورته، فقال: يا حواء، ما هذا في بطنك؟ قالت: لا أدري، قال: فلعله بهيمة من هذه البهائم. قالت: لا أدري، ثم أعرض عنها حتى إذا هي أثقلت أتاها فقال: كيف تجدينك يا حواء؟ قالت: إني لأخاف أن يكون كالذي خوفتني، ما أستطيع القيام إذا قمت. قال: أفرأيت إن دعوت الله فجعله إنساناً(11/15)
مثلك ومثل آدم تسمينه بي؟ قالت: نعم. فانصرف عنها. وقال لآدم: لقد أتاني آت فأخبرني أن الذي في بطني بهيمة من هذه البهائم، وإن لأجد له ثقلاً، وأخشى أن يكون كما قال. فلم يكن لآدم ولا لحواء همّ غيره حتى وضعته. فذلك قول الله عزّ وجلّ: " دَعَوَا الله ربَّهُما لَئِن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين " فكان هذا دعاءهما قبل أن تلد. فلما ولدت غلاماً سوياً أتاها فقال لها: ألا تسمينه كما وعدتني؟ قالت: وما اسمك؟ - وكان اسمه عزازيل، ولو تسمى به لعرفته - فقال اسمي الحارث فسمته عبد الحارث. فمات. يقول الله عزّ وجلّ: " فلمَّا آتاهما صالحاً جعلاَ لله شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ". وأوحى الله إلى آدم أن لي حرماً بحيال عرشي، فانطلق فابن لي بيتاً فيه ثم حف به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أستجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: أي رب، وكيف لي بذلك؟ لست أقوى عليه ولا أهتدي له، فقيض الله له ملكاً، فانطلق به نحو مكة، فكان آدم إذا مر بروضة ومكان يعجبه قال للملك: أنزل بنا ها هنا، فيقول له الملك: مكانك، حتى قدم مكة، فكان كل مكان نزل به عمراناً وكل مكان تعدّاه مفاوز وقفاراً، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده في حراء، فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة، وطاف بالبيت أسبوعاً. ثم رجع إلى أرض الهند فمات على نود.
فقال شيث لجبريل عليه السلام: صلِّ على آدم، فقال: تقدم أنت، فصلِّ على أبيك، وكبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة. وخمس وعشرون تفضيلاً لآدم. ولم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً بنود. ورأى آدم فيهم الزنا وشرب الخمر. فأوصى ألا يناكح بنو شيث بني قابيل، فعل بنو شيث آدم في مغارة، وجعلوا عليه حافظاً لا يقربه أحد من بني قابيل، وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث. وكان عمر آدم سبع مئة سنة وستاً وثلاثين سنة، فقال مئة من بني شيث صباح: لو نظرنا ما فعل بنو عمّنا، يعنن بنبي قابيل. فهبتط المئة إلى نساء قباح من(11/16)
بني قابيل، فاحتبس النساء الرجال، ثم مكثوا ما شاء الله. ثم قال مئة آخرون: لو نظرنا ما فعل إخوتنا، فهبطوا من الجبل إليهم، فاحتبستهم النساء. ثم هبطت بنو شيث كلهم، فجاءت المعصية، وتناكحوا، واختلطوا، وكثر بنو قابيل حتى ملأوا الأرض، وهم الذي عرفوا أيام نوح.
نود: اسم الجبل. وفي النسخ: نوذ، بالذال المعجمة.
وعن ابن عباس قال: ولد لآدم أربعون ولداً: عشرون غلاماً وعشرن جارية، فكان ممن عاش منهم هابيل وقابيل وصالح وعبد الرحمن، والذي كان سماه عبد الحارث، وود، وكان ودّ يقال له: شيث - ويقال: هبة الله - وكان إخوته قد سودوه. وولد له سواع ويغوث ويعوق ونسراً.
قالوا: إن حواء حملت بشيث الوصي حتى نبتت أسنانه، وكانت تنظر إلى وجهه من صفائه في بطنها. وهو الثالث من ولد آدم، وإنه لما حضرها الطلق، فأخذها عليه شدة شديدة، فانتبذت به. فلما وضعته أخذته الملائكة، فمكث معها أربعين يوماً، فعلموه الهز، ثم رُدَّ إليها.
قال أبو ذر الغفاري:
دخلت المسجد فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس وحده، فجلست إليه، فقال: " يا أبا ذر، إن للمسجد تحية، وإن تحيته ركعتان، فقم فاركعهما "، فقمت فركعتهما، ثم عدت فجلست إليه فقلت: يا رسول الله، أمرتني بالصلاة، فما الصلاة؟ قال: " خير موضوع، استكثرو أو استقلّ "، قال: قلت: يا رسول الله، فأي الأعمال أفضل؟ قال: " إيمان بالله، وجهادٌ في سبيله ". قال: قلت: يا رسول الله، فأي المسلمين أسلم؟ قال: " مَن سَلِمَ الناسُ من لِسانِهِ ويده ". قال: قلت: يا رسول الله، فاي الهجرة أفضل؟ قال: "(11/17)
من هجر السيئات ". قال: قلت: يا رسول الله، فأي الصلاة أفضل؟ قال: " طول القنوت ". قال: قلت: يا رسول الله، فما الصيام؟ قال: " فرض مجزيّ وعند الله أضعاف كثيرة ". قلت: يا رسول الله، فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عُقر جواده، وأُهريق دمه ". قال: قلت: يا رسول الله، فأي الرقاب أفضل؟ قال: " أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها ". قال: قلت: يا رسول الله، فأي الصدقة أفضل؟ قال: " جهدٌ من مقلّ مُسر إلى فقير ". قلت: يا رسول الله؟ فأيما أنزل الله عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي. ثم قال: يا أبا ذر، ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة.
قلت: يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال: مئة ألف وعشرون ألفاً. قلت: يا رسول الله، كم المرسل من ذلك؟ قال: ثلاث مئة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً. قال: قلت: كثير طيب، قلت: يا رسول الله، من كان أولهم؟ قال: آدم عليه السلام، قال: قلت: يا رسول الله، أنبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه، ثم سواه قبلاً، ثم قال: يا أبا ذر، أربعة سريانيون: آدم، وشيث، وخنوخ وهو إدريس، وهو أول من خطّ بالقلم، ونوح. وأربعة من العرب: هود، وشُعَيب، وصالح، ونبيك يا أبا ذر. قال: قلت: يا رسول الله، كم كتاباً أنزل الله عزّ وجلّ؟ قال: " مئة كتاب وأربعة كتب: أنزل على شيث خمسين صحيفة، وأنزل على خنوخ ثلاثين صحيفة، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف، وأنزل التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ". قال: قلت: يا رسول الله، ما كانت صحف إبراهيم؟ قال: " كانت أمثالاً كلها: أيّها الملك، المسلط، المبتلى، المغرور، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض، ولكني بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكانت فيها أمثال: على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن تكون له ساعات يناجي فيها ربه، وساعات يحاسب فيها نفسه، وساعة يفكر فيها في صنع الله عزّ وجلّ، وساعات يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب، وعلى العاقل ألا يكون ظاعناً إلا لثلاث: تزوُّد لمعاد، ومرمّة لمعاش، أو لذة في غير محرم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه. ومَن حسِب كلامه من عمله قلّ كلامه إلا فيما يعنيه. قال: قلت: يا رسول الله، فما كانت(11/18)
صحف موسى؟ قال: كانت عِبراً كلها: عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح، عجبت لمن أيقن بالموت وهو يضحك، عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب. عجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها ثم اطمأن إليها. عجبت لمن أيقن بالحساب غداً ثم لا يعمل ". قال: قلت: يا رسول الله، أوصني، قال: " أوصيك بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنه رأس الأمر كله ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " عليك بتلاوة القرآن، وذكر الله، فأنه نور لك في الأرض، وذكر لك في السماء ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب، ويذهب نور الوجه ". قلت: يا رسول الله زدني، قال: " عليك بالصمت إلا من خير، فإنه مَطردة للشيطان عنك، وعون لك على أمر دينك ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " أحِبَّ المسكين وجالسهم " قلت: يا رسول الله، نعمة الله، زدني، قال: " عليك بالجهاد، فإنه رهبانية أمتي ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " انظر إلى مَن تحتك، ولا تنظر إلى مَن فوقك، فإنه أجدر ألا تزدر بنعمة الله عندك ". قال: قلت: يا رسول الله زدني، قال: " صَل قرابتك وإن قطعوك ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " لا تخف في الله لومة لائم ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " قل الحق وإن كان مرّاً ". قلت: يا رسول الله، زدني، قال: " يردّك عن الناس ما تعرف من نفسك، ولا تجد عليهم فيما تأتي ". ثم ضرب يده على صدري وقال: " يا أبا ذر، لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكفّ، ولا حسب كحسن الخلق ".
وروي عن كعب الأحبار أن الله أنزل على آدم عصيّاً بعدد الأنبياء المرسلين، ثم أقبل على ابنه شيث فقال: أي بني، أنت خليفتي من بعدي، فخذها بعمارة التقوى والعروة الوثقى. وكلما ذكرت الله فاذكر إلى جنبه اسم محمد، فإني رأيت اسمه مكتوباً على ساق العرش وأنا بين الروح والطين. ثم إني طُفت السماوات فلم أر في السماوات موضعاً إلا رأيت اسم محمد مكتوباً عليه، وإن ربي أسكنني الجنة. فلم أر في الجنة قصراً ولا غرفة إلا اسم محمد مكتوباً، ولقد رأيت اسم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكتوباً على نحور الحور العين وعلى ورق قصب آجام الجنة، وعلى ورق شجرة طوبى، وعلى ورق سدرة المنتهى وعلى أطراف الحجُب وبين أعين الملائكة. فأكثِر ذكره. فإن الملائكة تذكره في كل ساعاتها.(11/19)
توفي شيث يوم الثلاثاء تسع ساعات من النهار لتسعة وعشرين يوماً من شهر آب في عشرين سنة من حياة خنوخ. وكانت حياة شيث تسع مئة واثنتي عشرة سنة. وحنّطه ابنه أنوش بالمرّ واللبان والسَّليخة، ودفنه في مغارة الكنوز مع آدم عليه السلام. وناحوا عليه أربعين يوماً. ومات آدم ولشيث مئتان وخمس سنين.(11/20)
أسماء النساء على حرف الشين المعجمة
شارزما بنت جعفر أمة العزيز الديلمية
قدمت دمشق حدثت عن أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن يحيى بن منده بسنده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: دخلنا عليه فقلنا له، لقد رأيت خيراً، صاحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصليت خلفه. قال: لقد رأيته، ولقد خشيت أنما أُخِّرت لشرّ. ما حدثتكم فاقبلوه، وما سَلتُّ عنه فدعوه. قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادٍ بين مكة والمدينة يُدعى: خُمّ. وقال: " إنما أنا بشر يوشك أن أدعى فأجيب، ألا وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، حَبلٌ، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة ". ثم قال: " أهل بيتي، أُذكِّركم الله في أهل بيتي. ثلاث مرات.(11/21)
شكر وتسمى أيضاً مشكورة بنت أبي الفرج
سهل بن بشر بن أحمد بن سعيد الأسفراييني، أمة العزيز حدثت عن أبيها وغيره بسندهما إى عبد الرحمن بن سَمُرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسأل الإمارة، فإنك إن أويتها عن مسألة وُكِلت إليها، وإن أتيتها عن غير مسألة أُعنيت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك ".
توفيت سنة إحدى وخمسين وخمس مئة.
شهدة جارية الوليد بن يزيد بن عبد الملك
قال ابن جامع: غنت شهدة الوليد بن يزيد يوماً: " السريع "
خبرّتُها قالت لأترابها ... ما لأبي الخطاب قد أعرضا
إن كانَ قد ملّ فما حيلتي ... أو كانَ غضباناً فعندي الرضا
فطرب طرباً شديداً، واستحسنه، وقال: ويحك يا شهدة! لمن هذا الغناء؟ قالت: يا سيدي، هذا أخذته من الجنفاء والهبيريّة جاريتَي أيوب بن سلمة المخزومي، ولا أدري لمن هو. قال: فما فعلتا؟ قالت: أما الهبيرية فماتت، وأما الجنفاء فعجوز كبيرة. قال: فهل فيها فضل فنستدعيها؟ قالت: لا. فأمر بالكتاب لها إلى صاحب الحجاز بعشرة آلاف درهم.
قال أبو الفرج: شهدة جارية الوليد هي أم عاتكة بنت شهدة إحدى المحسنات من قيان الحجاز وكانت شهدة مغنية نائحة.
أسماء الرجال على(11/22)
حرف الصاد المهملة
صاعد بن عبد الرحمن بن صاعد
ابن عبد السلام بن صاعد بن عبد الحميد بن باكر بن عبد الله، أبو القاسم التميمي ويقال: النصري النحاس، المعروف بابن البراد حدثت عن الربيع بن سليمان بسنده عن سمرة قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نعتدل في الجلوس، ولا نستوقر.
توفي صاعد سنة أربع وعشرين وثلاث مئة.
صافي بن إبراهيم بن الحسن
أبو البركات ويكنى أبا الحسن الطرسوسي المقرىء الضرير، معبّر الأحلام حدث عن أبي الفرج سهل بن بشر بن أحمد بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ".
توفي صافي سنة سبع وعشرين وخمس مئة.
صافي بن عبد الله
أبو الحسن الأرمني عتيق قاضي القضاة أبي عبد الله الشهرستاني.
حدثت عن أبي الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الإمام ضامن، فما صنع فاصنعوا ".
توفي سنة ثمان وثلاثين وخمس مئة.(11/23)
صالح بن أحمد بن محمد بن حنبل
ابن هلال بن أسد. أبو الفضل بن أبي عبد الله الشيباني البغدادي، قاضي أصبهان حدث عن أبيه بسنده عن أنس قال: سدل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصيته ما شاء الله أن يسدل، ثم فرق بعد ذلك توفي صالح بأصبهان سنة خمس وستين ومئتين. وقيل: سنة ست وستين ومئتين. وكان مولده سنة ثلاث ومئتين.
صالح بن أبي الأخضر اليمامي
مولى هشام بن عبد الملك. كان يصحب الزهري ويخدمه.
حدث صالح الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في مجلس من المسلمين: " يدخل الجنة أول زمرة من أمتي سبعون ألفاً، وجوههم أشد بياضاً من القمر ليلة البدر، فقام إليه عُكاشة ابن مِحصَن - كأني أنظر إليه نَمِرَة - فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم. قال: " اللهم، اجعله منهم ". قام إليه من الأنصار، يعني رجلاً - فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: " سبقك بها عكاشة ".
وحدث عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من أُولي معروفاً فليكاف به، فإن لم يستطع فليذكره، فإذا ذكره فقد شكره. ومن تشبع بما لم ينل فهو كلابس ثوبًي زور ".
وبه قالت: أُهديت لحفصة شاة ونحن صائمتان، فأفطرنا، وكانت بنت أبيها، فدخل عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فقال: " أبدلا يوماً مكانه ".(11/24)
صالح بن إدريس بن صالح
أبو سهل البغدادي المقرىء حدث عن أبي بكر الأنباري قال: سمعت المبرد قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: فوت الحاجة أيسر من الذلّ فيها.
صالح بن إسماعيل بن محمد
ابن إسماعيل. أبو الخير الخوارزمي الكاثي الصوفي قدم دمشق طالباً للعلم حدث عن أبي فراس أسامة بن عبد الوارث بن محمد بن عبد المنعم بن عيسى بن محمد بن عيسى الأسدي الأبهري بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من الشعر حكمة. وأصدق بيت قالته العرب: " الطويل " ألا كل شيء ما خلا الله باطل قالت: قلت لأبي: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من الشعر حكمة " ولم يقل: إن الشعر حكمة. فقال لي منشداً: " البسيط "
قل للذي يدّعي في العلم فلسفةً ... حفِظت َشيئاً وغابت عنكَ أشياءُ
ثم قال لي: يا بني! هذه " من " تسمى مِن التبعيض. قال الله عزّ وجلّ (ونُنَزِّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ) معناه: وننزل القرآن الذي هو شفاء. وقال الله عزّ وجلّ: (قُل لِلمُؤمِنِينِ يَغُضُّوا مِن أبصَارهِم) . أفتراه أمرنا أن نغض بعض البصر؟ معناه: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم.(11/25)
توفي أبو الخير سنة أربع وخمسين وخمس مئة.
صالح بن البختري أبو الفضل
ختن مروان بن محمد الطاطري على ابنته.
حدث عن وهب بن جرير بن حازم بسنده عن خالد بن عبد الله قال: كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، وكانت قريش تشرح شرحاً كبيراً، فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار، فأراد أن يأتيها فقالت: لا، إلا كما نفعل. قال: فأخبر ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنزل الله عزّ وجلّ: " نِسَاؤكُم حُرثُ لَكُم فَأتُوا حَرثَكُم أَنّى شِئتُم " قائماً وصاعداً ومضجعاً بعد أن يكون في صمام واحد.
صالح بن بشر بن سلمة
أبو الفضل القرشي الأردني الطبراني سمع بدمشق حدث عن أبي اليمان الحكم بن نافق بسنده عن أبي الدرداء قال: أوصاني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث، لا أدعهن لشيء: " أوصاني بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وألا أنام إلا على وتر، وتسبيحة الضحى في الحضر والسفر ".
وحدث عن عبد العزيز بن أبان بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة ".
حدث سنة تسع وخمسين ومئتين.(11/26)
صالح بن جُبير الصَيْدائي الطبراني
ويقال الفلسطيني كاتب عمر بن عبد العزيز على الخراج والجند. وكتب ليزيد بن عبد الملك.
حدث عن أبي جمعة قال: تغدينا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقلنا: يا رسول الله، أحد خيرٌ مِنَّا؟ أسلمنا وجاهدنا معك. قال: " نعم، قومٌ يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يرّوني ".
وحدث صالح بن جبير قال: قدم علينا أبو جمعة الأنصاري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيت المقدس ليصلي فيه، ومعنا رجاء بن حيوة يومئذ. فلما انصرف خرجنا معه لنشيعه. فلما أردنا الانصراف قال: إن لك جائزة وحقاً، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: هات يرحمك الله. قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا معاذ بن جبل عاشر عشرة، فقلنا: يا رسول الله، هل من قوم أعظم منا أجراً؟ آمنا بك، واتبعناك. قال: " ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم، يأتيكم بالوحي من السماء؟ بلى، قوم يأتون من بعدكم، يأتيهم كتاب بين لوحين، فيؤمنون به، ويعملون بما فيه. أولئك أعظم منكم أجراً. أولئك أعظم منكم أجراً. أولئك أعظم منكم أجراً ".
قال صالح بن جبير: ربما كلمت عمر بن عبد العزيز في الشيء فيغضب، فأذكر أن في الكتاب مكتوباً: أتق غضبة الملك الشاب، فارفق به، حتى يذب غضبه فيقول لي بعد ذلك: لا يمنعك يا صالح ما ترى منا أن تراجعنا في الأمر إذا رأيته.(11/27)
صالح بن جناح اللخمي الشاعر
أحد الحكماء. أدرك الأتباع، وكلامه مستفاد في الحكمة.
قال صالح بن جناح الدمشقي لابنه:
يا بني، إذا مرّ بك يوم وليلة قد سلم فيهما دينك، وجسمك، ومالك، وعيالك فأكثر الشكر الله تعالى. فكم من مسلوب دينه، ومنزوع ملكه، ومهتوك ستره، ومقصوم ظهره في ذلك اليوم، وأنت في عافية. وفيه أقول: " السريع ".
لو أنني أعطيت سؤلي لما ... سالتُ إلا العفوَ والعافية
فكم فتىّ قد باتّ في نعمةٍ ... فسلَّ منها الليلة الثانية
قال صالح: أصل المروءة الحزم، وثمرها الظفر، وإذا طلب رجلان أمراً ظفر به أعظمهما مروءة.
قال صالح بن جناح: اعلم أن من الناس من يجهل إذا حلُمت عنه، ويحلُم إذا جعلت عليه، ويُحسن إذا أسأت به، ويثسيء إذا أحسنت إليه، وينصفك إذا ظلمته، ويظلمك إذا انصفت. فمن كان هذا خلقه فلا بد من خلق ينصفك من خلقه، ثم قحة تنصف من جهته، وجهالة تقدع من جهالته. وإلا أذلّك، لأن بعض الحلم إذعان، وقد ذل من ليس له سفيه يعضّده، وضلّ من ليس له حليم يرشده. وفي الجهالة وبعضها للأخيار أقول: " الطويل "
لئن كنتُ محتاجاً إلى العلم إنني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوجُ
ولي فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ ... ولي فرسٌ للجهلِ بالجهلٍ مُسرج
فمن شاء تقومي فإن مقومٌ ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً ولا أخاً ... ولكنني أرضى بهِ حين أحوج
فإن قال بعضُ الناسِ فيه سماجةٌ ... فقد صدقوا والذل بالحر أسمج
وفي رواية أخرى زيادة على هذا الشعر، ولم يسم قائله:(11/28)
الا ربما ضاق الفضاءُ بأهلهِ ... وأمكنَ من بين الأسنة مخرج
قال صالح بن جناح: اعتبر ما لم تره من الأشياء بما قد رأيته، ولم تسمعه بما قد سمعته، وما لم يصبك بما قد أصابك، وما بقي من عمرك بما قد مضى وما لم يبل منك بما قد بلي واعلم " مجزوء الرمل "
إنما أنت نهارٌ ... ضوؤه ضوء معارُ
بينما غصنك غضٌّ ... ناضرٌ فيه اخضرارُ
إذ رماه زمناه ... فإذا فيه اصفرارُ
وكذاك الليلُ يأتي ... ثم يمحوه النهارُ
فهذه صفتها، وما لا أصف أدهى وأمر. فما أصنع بأمرٍ إذا أقبل غر، وإذا أدبر ضر، وأنشد: " الطويل "
نموت وننسى غير أن ذنوبنا ... إذا نحن متنا لا تموت ولا تُنسى
ألا ربّ ذي عينين لا تنفعانه ... وهل تنفع العينان من قلبه أعمى؟
صالح بن رستم أبو عبد السلام
مولى بني هاشم، من أهل دمشق.
حدث شيخ يكنى أبا عبد السلام عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قال قائل: يا رسول الله، ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدوركم المهابَة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؛ قال: حب الدنيا وكراهية الموت ".(11/29)
صالح بن سويد
ويقال: ابن عبد الرحمن - أبو عبد السلام القَدَري من حرس عمر بن عبد العزيز: حدث عمرو بن مهاجر قال:
أتى صالح وغيلان عن عمر بن عبد العزيز، وقد بلغه أنهما يتكلمان في القدر، فقال لهما: عِلم الله نافذ في عباده أو منتقص؟ قالا: بل نافذ يا أمير المؤمنين. قال: فبم عسى أن يكون الكلام إذا كان علم الله نافذاً؟ قال: فخرجا، فبلغه بعد أنهما يتكلمان فأرسل إليهما، فقال: ما هذا الكلام الذي تنطقان فيه؟! قال غيلان: نقول ما قال الله. قال: ماذا قال الله؟ قال: " هَلْ أَتًى عَلَى الإِنْسَانِ حِيْنٌ منَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً " إلى قوله: " إنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وإِمَّا كَفُراً " ثم سكت فقال له عمر بن عبد العزيز: اقرأ، فقرأ حتى بلغ آخر السورة " وَمَا تَشَاؤونَ إلاّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حكيماً يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ في رَحْمَتِهِ والظَّالِيمِيْنَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيْماً " فقال له عمر بن عبد العزيز: كيف ترى في رحمته يا بن الأتانة؟ تأخذ الفروع، وتدع الأصول؟! قال: فخرجنا ثم بلغه أنهما يتكلمان، فأرسل إليهما حين اشتكى وهو مغضب شديد الغضب، فدعا بهما وأنا خلفه قائم مستقبلهما، فقال لهما وهو مغضب: ألم يكن سابق في علم الله حين أمر إبليس بالسجود لآدم أنه لا يسجد؟ فأومأت إيهما برأسي أن قولا: نعم، لِمَا عرفت من شدة غضبه، فقالا: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ألم يكن في سابق علم الله حين أمر آدم عليه السلام ألا يأكل من الشجرة أنه سيأكل؟ فأومأت إليهما أن قولا: نعم، فقال: نعم. قال عمرو بن مهاجر: لولا أني أومأت إليهما أن قولا: نعم، لصنع بهما شراً. فأمر بها فأخرجا. وأمر بالكتاب إلى الناس أو إلى الأجناد بخلافهما. فمات عمر رضي الله عنه ولم ينفذ الكتاب.(11/30)
كتب رجاء بن حيوة إلى هشام بن عبد اللملك: بلغني يا أمير المؤمنين أنه دخلك شيء من قتل غيلان، ولَقتلُ غيلان وصالح أحبّ إلى من قتل ألفين من الروم.
صالح بن شريح السَّكوني
من تابعي أهل حمص.
قال صالح بن شريح: كنت عند ابن قرط الثمالي بحمص إذ اقبل أبو عبيدة بن الجراح من دمشق يريد قنسرين. فلما تغدى قال له ابن قرط: لو نزعت فراهيجك وتوضأت، قال: ما نزعتهما منذ خرجت من دمشق. فلا أنزعهما حتى أرجع إليها.
وحدث صالح قال: سمعت معاوية يقول: ما يبالي الرجل منكم مدح رجلاً في وجهه أو أمرّ على حلقه موسى رميضة.
حدث صالح بن شريح أن النعمان بن الرازية أخبره.
أنه قال: يا رسول الله، إنا كنا نعتاف في الجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام فماذا تأمرنا يا رسول الله؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفى الإسلام أصدقها، ولكن لا يمتنعن أحدكم من سفر.
صالح بن طرفة بن أحمد بن محمد
ابن طرفة بن الكميت، أبو أحمد الحرستاني حدث عن أبيه بسنده عن أبي ثعلبة الُخشَني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كل ذي ناب من السباع.(11/31)
صالح بن عبد الله بن الحسن
ابن إسماعيل بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد الملك، أبو الفضل الهاشمي.
حدث عن محمود بن خالد بن يزيد بسنده عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الذي يفوته العصر فكأنما وُتر أهلَه ومالَه ".
صالح بن عبد الله
أبو شعيب الأنصاري القاضي المستملي حدث عن الحسن بن الوليد بن موسى بن راشد الكلابي بسنده عن أبي رافع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أكل كتف شاة، ثم صلى ولم يتوضأ.
صالح بن عبد الرحمن
أبي صالح، أبو الوليد الكاتب من أهل البصرة. كان أبوه أبو صالح سُبي، وسبي معه من سجستان سنة ثلاثين، في خلافة عثمان علي يدي الربيع بن زياد الحارثي. أسرتهما امرأة من بني النزال أحد بني مرة بن عبيد، فأعتقهما، فتعلم صالح كتاب العربية والفارسية. وكان فصيحاً جميلاً، يختلف إلى ديوان زياد وابن زياد ويجالس الأحنف والوجوه. وكان حافظاً يحفظ ما يسمع، وصحب زاذان فرَوخ، كاتب الحجاج، فتعلم منه. وهو أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وبَذَلت كتّاب الفرس له ثلاث مئة ألف درهم على ألا يفعل فابى، وعامة من تخرَّج من كتاب أهل البصرة والكوفة فبصالح تخَرَّج.
ووفد على سليمان بن عبد الملك فولاه خراج العراف. ورده إليها فوليها صالح أيام سليمان كلها، وأقره عمر بن عبد العزيز سنة. ثم استعفاه فأعفاه - ويقال: إن شنّع عند عمر بن عبد العزيز فعزله.
ولما ولي يزيد بن عبد الملك كان صالح عنده بالشام، فكتب عمر بن هبيرة إلى(11/32)
يزيد في إيفاد صالح إليه ليسأله عن الخراج فبعث به إليه وأوصاه به فتعنته وقتله.
قال سهل بن أبي الصلت: أجل الحجاج صالح بن عبد الرحمن أجلاً حتى قلب الديوان وجُعل بالعربي.
قال أبن شوذب: كتب صالح بن عبد الرحمن وصاحبُه إلى عمر بن عبد العزيز يعرضان له بدماء المسلمين، وكانا عاملَيْه على شيء من العراق. فكتبا: إن الناس لا يصلحهم إلا السيف، فكتب إليهما عمر: خبثين من الخبث، رِبْذتين من الرِّبذ يعرضان لي بدماء المسلمين، ما أحد من المسلمين إلا ودمكما أهون عليَّ من دمه.
سأل يزيد بن المهلب صالح بن عبد الرحمن دجاجة يزيدها في طعامه، فأبى عليه. وسأله لما تزوج عاتكة بن الملاءة أن يعجل له رزق شهر للوليمة، فأبى عليه. وكان صالح تقدمه على العراق عاملاً على الخراج.
صالح بن عبد القدوس
أبو الفضل الأزدي الحُدّاني مولاهم، البصري والحدان بن شمس بن عمرو من الأزد. كان حكيم الشعر، زنديقاً، متكلماً. يقدمه أصحابه في الجدال عن مذهبهم. وقتله المهدي على الزندقة " وكان " شيخاً كبيراً. ومن شعره: " الخفيف ": كلُّ آتٍ لا شك آتِ وذو الجهل مُعنى والهمُّ والحزنُ فضلُ وله: " السريع ".
ما بين ما تحمد فيه وما ي ... دعو إليك الذمّ إلا القليلُ(11/33)
وله: " الخفيف "
أيها اللائمي على نكدِ الدّه ... ر لكلٍّ من البلاءِ نصيبُ
قد يُلامُ السريُّ في غير ذنبٍ ... وتغطى من المسيءِ الذنوبُ
وتحولُ الأحوالُ بالمرءِ والدّه ... رُ له في صروفهِ تقليبُ
كان المهدي اتهمه بالزندقة، فأمر بحمله إليه، وأحضر بين يديه. فلما خاطبه أعجب بغزارة أدبه وعلمه وبراته وحسن بيانه، وكثرة حكمته. فأمر بتخلية سبيله. فلما ولى ردّه وقال: ألست القائل: " السريع ":
والشيخ لا يتركُ أخلاقَه ... حتى يوُارى في ثرى رمسِهِ
إذا أرعوى عاد إلى جهلِهِ ... كذي الضني عادَ إلى نُكسِهِ
قال: بلى يا أمير المؤمنين. قال: فأنت لا تترك أخلاقك. ونحن نحكم فيك بحكم في نفسك. ثم أمر به فقتل، وصلب على الجسر.
وقال: إن المهدي أُبلغ عنه أبياتاً يُعرض فيها بسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأحضره المهدي فقال: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: لا، والله يا أمير المؤمنين، والله ما أشركت بالله طرفة عين، فاتق الله ولا تفسك دمي على الشبهة، وقد قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادرؤوا الحدودَ بالشبهات ". وجعل يتلو عليه القرآن حتى رقّ له وأمر بتخليته. فلما ولّى قال: أنشدني قصيدتك السينية، فأنشده حتى بلغ البيت الذي أوله:
والشيخُ لا يتركُ أخلاقه
فأمر به حينئذٍ فقتل.
قال أحمد بن عبد الرحمن المعبِّر: رأيت صالح بن عبد القدوس في المنام ضاحكاً مستبشراً، فقلت: ما فعل بك(11/34)
ربّك؟ وكيف نجوت مما كنت تُرمى به؟ قال: إني وردت على ربّ لا تخفى عنه خافية، فاستقبلني برحمته، وقال: قد علمت براءتك مما كنت تُقذف به.
صالح بن عُبَيد بن هانىء
من قرية نوى. وكان إماماً بقرية الحُراك.
حكى عن بعض الصالحين قال: كانت عندنا رجل، أدركته وكان فاضلاً، وكان يلتقط السُّبل من خلف الغنم. وكان يصلي معنا في المسجد، وينصرف إلى بيته ليجلس مع الناس. فسألني بعض أهلي أن أمضي معه إلى هذا الرجل في حاجة بعد المغرب. فإذن لنا فلم نرَ في البيت غير حريرة، وقدر موضوعة على حجرين، وليس تحتها أثرُ وقيدٍ من زمان، فقال لنا: قد كنت الليلة لغير نِيّة الأكل الساعة، ولكن آكل معكم. ثم قام وأخرج رغيفاً من طاق فثرده في قصعة، وأتى بالقذر التي هي على الحجرين فإذا هي تفور، كأن النار تحتها، فصب ما فيها على البركة، وطعمنا منها ما سدّ نفوسنا. وكان عدساً، وبقي من الطعام بعدما شبعنا.
ووجّه إليه رجل من أهل الموضع قصعة فيها خبيص فردّها وقال: هذا ما لانحتاج إليه.
صالح بن علي بن عبد الله
ابن عباس بن عبد المطلب بن هاشم، الهاشمي
كان مولده بالشراة، من أرض البلقاء، من أعمال دمشق. وكان مع أخيه عبد الله بن علي في فتح دمشق. وهو الذي ولي فتح مصر. وولي الموسم، وإمرة دمشق.(11/35)
حدث عن أبيه عن جده عبد الله بن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لأن يربي أحدكم بعد أربع وخمسين ومئة جرو كلب خير له من أن يربي ولداً لصلبه ".
وقال في أثناء حديثه: إن أبا جعفر أغزى صالح بن علي في سنة ثلاث وأربعين ومئة بمن معه من أهل خراسان، وبعثاً ضربه على أهل الشام ليس بالكثيف، وأمره أن يعسكر بهم بدابق، ففعل. ووجه هلال بن ضيغم السلامي من أهل دمشق في جماعة من أهل دمشق، فبنوا على جسر سَيحان حصن أذنة.
ولد صالح سنة ست وتسعين. ومات سنة إحدى وخمسين ومئة. وقيل: سنة اثنتين وخمسين ومئة. وقيل: إنه ولد بعين أُباغ من ناحية الشام. وقد بلغ ثمانياً وخمسين سنة.
صالح بن علي الدمشقي
حدث بدمشق عن محمد بن عمرو السوسي بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طعام الرجل يكفي الرجلين، وطعام الرجلين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية ".
صالح بن كيسان
أبو محمد، ويقال: أبو الحارث مولى امرأة من دَوْس، ويقال: مولى بني غفار.(11/36)
حدث عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قفل من حج أو عمرة أو غزو فأوفى على فدفد من الأرض قال: " لا إله إلى الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، آيبون إن شاء الله تائبون، عابدون لربنا حامدون ".
وحدث عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.
وحدث صالح قال: رأيت ابن عمر يصلي في جَوف الكعبة، فكان لا يدع أحداً يمر بين يديه، فإذا مر رجل خدبه حتى يرده.
قال صالح بن كيسان: اجتمعت أنا وابن شهاب ونحن نطلب العمل، فاجتمعنا على أن نكتب السنن، فكتبنا كل شيء سمعنا عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: نكتب ما جاء عن أصحابه فقلت: لا، ليس بسنّة، فقال: بل هو سنّة. قال: فكتب، ولم أكتب. فأنجح، وضيّعتُ.
قال سفيان: قال لنا عمرو بن دينار: اذهبوا إلى صالح فإنه يحدث بحديث حسن، فأتيناه فقال: حدثني سليمان بن يسار عن أبي رافع قال: ضربتُ قبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأبطح، ولم يأمرني، فجاء فنزل، يعني: بالمحصَّب.(11/37)
صالح بن محمد بن زائدة
أبو واقد الليثي المدني قدم دمشق غازياً.
حدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " موضع سوطٍ في الجنة خير من الدنيا وما فيها ".
وحدث عن نافع بن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من حضر إماماً فليقل خيراً أو ليسكت ".
وحدث عن سالم عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من وجدتموه غلّ فاضرِبوه، أو حرّقوا متاعه ".
قال: فدخلت على مسلمة بن عبد الملك فأخذ رجلاً قد غلّ. فدعا سالماً فحدثه - الحديث. قال: فأحرق متاعه. ووجد في متاعه مصحفاً فقوم المصحف وتصدّق بقيمته.
قالوا: صالح هذا منكر الحديث.
وروي في غير حديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغالّ، ولم يأمر فيه بحرق متاعه.
وعن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز ومحكول، فغلّ رجل متاعاً، فأمر الوليد بمتاعه فحرق وضرب، ولم يُعط سهمه.
توفي بعد خروج محمد بالمدينة. وكان خروج محمد سنة خمس وأربعين ومئة.(11/38)
صالح بن محمد بن شاذان
أبو الفضل الكرخي الأصبهاني سكن أصبهان، وسمع بدمشق وحمص وبغيرها.
حدث بمكة وبمصر عن أحمد بن مهران بسنده عن ابن برية عن أبيه.
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سريّة، وبعث معها. رجلاً يكتب إليه بالأخبار.
وحدث محمد بن علي الخلال بسنده عن أنس قال: بارك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الثريد والسحور والطعام لا يُكال.
توفي بمكة سنة أربع وعشرين وثلاث مئة.
صالح بن محمد بن صالح
أبو علي الجلاب البغدادي، يعرف بابن روزبة التَّوَّزي قدم دمشق.
حدث عن أبي حفص عمور بن علي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما. والحج المرور ليس له جزاء إلا الجنة ".
وحدث عن عمرو بن علي بسنده عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ: " عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ " قال: الدّعيّ. ألم تسمع الشاعر بقول: " الطويل ":
زنيمٌ تداعتهُ الرجالُ زيادةً ... كما زيدَ في عرض الأديم أكارعه
قدم صالح مصر بعد الثلاث مئة، وحدث بها.(11/39)
صالح بن محمد بن صالح
ابو شعيب الحجازي المطوعي المستملي سمع بدمشق.
حدث عن أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من رآني في المنام فإنه لا يدخل النار ".
صالح بن محمد بن عمرو
ابن حبيب. أبو علي الأسدي البغدادي الحافظ، المعروف بِجَزَرة سكن خراسان، وسمع بدمشق.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن معاوية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ألا لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتنة ".
وحدث عن محمد بن الصباح بسنده عن أبي موسى قال: سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً يُثني على رجل ويُطريه في المدحة فقال: لقد أهلكتم الرجل، أو قطعتم ظهر الرجل.
ولد صالح بن محمد بالكوفة سنة عشر ومئتين، وقد بخارى سنة ست وستين ومئتين، وأقام بها حتى مات وكان ثقةً، صدوقاً، حافظاً، عارفاً، وهو من ولد حبيب بن الأشرس. وروى عنه مسلم بن الحجاج القشيري، ودخل خراسان وماوراء النهر، وحدث بها مدة طويلة من حفظه من غير كتاب أو أصل يصحبه، وما أُخذ عنه فيما حدث خطأ أو شيء يُنقَم عليه. وكان ذا مزاح ودعابة، مشهوراً بذلك.
ولقب جَزَرَة لأنه صحف في حديث عبد الله بن بشر أنه كانت له خَرَزة يداوي بها المرضى فقال: جزرة.(11/40)
وقيل: ولد سنة خمس ومئتين، وتوفي سنة ثلاث وتسعين ومئتين في بخارى. وقيل سنة أربع وتسعين. وكان يطنز كما يكون في البغداديين.
كان ببخارى رجل حافظ يلقب بجمل، فكان صالح وهذا الحافظ يمشيان ببخارى، فاستقبلهما جمل عليه وقر جَزر، فأراد ذلك الحافظ أن يخجل صالحاً فقال: يا أبا علي، ما هذا الذي على البعير، فقال له صالح: أما تعرفه؟! قال: لا. قال: هذا أنا عليك، أراد: جزر على جمل.
قال إسحاق بن عبد الرحمن القاري: أعطاني صالح الحافظ الملقب جزرة جزءاً، فكنت أكتبه، فرأى الجزء في يدي أبو ذر القاضي، فقال لي: اشتر لي قليلَ فستق، وأعطاني ثمنه. فلما ذهبت أخذ الجزء، غير فيه أشياء. ولما جئت إلى صالح قرأت عليه الجزء رأى موضعاً فأصلح، وموضعاً آخر فاصلح. فلما كان الثالث تغير وقال: أما سمعت بي؟! أما عرفتني؟! قلت: يا سيدي، أنا لا أعلم شيئاً من ذلك، فقال: إلى مَن دفعتَ الجزء؟ فقلت: أخذ مني الجزءأبو ذر القاضي، فقال: هذا من فِعل ذلك العيّار. أرادأن يُجرِّبني.
قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن مسلم الأسفراييني: كنا على باب أبي حاتم الرازي إذ خرج وفي يده كتاب فقال: هذا كتاب أخينا أبي علي صالح بن محمد البغدادي، ولا يزال يضحكنا شاهداً وغائباً، يقول فيه: أعظم الله أجرك في محمد بن يحيى الذهلي، فقد مات، وقعد مكانه محمد بن يزيد، ويعرف بمخمس.(11/41)
حدث عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تصحب الملائكة رُفقة فيها جَرس ".
وحدث بحديث أبي التياح عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يا أبا عمير، ما فعل البَعير. فأعظم الله أجركم في ذلك الإمام وأقر أعينكم بهذا المحدث الجديد.
وحدث صالح أنه سمع بعض المشايخ يقول: إن السين والصاد يتعاقبان، فسأل بعض تلامذته عن كنية الشيخ فقال له: أبو صالح. قال: فقلت للشيخ: يا أبا سالح، أسلحك الله، هل يجوز أن يقرأ: نحن نقسّ عليك أحسن القسس؟ قال: فقال لي بعض تلامذته: أتواجه الشيخ بهذا؟ فقلت: لأنه يكذب، إنما يتعاقب السين والصاد في بعض المواضع، هذ1 يذكره على الإطلاق.
وعن صالح قال: الأحول في المنزل مبارك، يرى الشيء شيئين.
قال صالح جزرة: كان عبد الله بن عمر بن أبان يمتحن كل من يجيئه من أصحاب الحديث، فإنه كان غالياً في التشيع، فدخلت عليه فقال: من حفر بئر زمزم؟ قلت: معاوية بن أبي سفيان. قال: فمن نقل ترابها؟ قلت: عمرو بن العاص، فصاح وزبرني، ودخل منزله.
قال أبو النضر الفقيه:
كنا نقرأ على صالح جزرة، وهو عليل، فتحرك فبدت عورته، فأشار إليه بعض أهل المجلس بأن يجمع عليه ثيابه فقال: رأيته؟ لا ترمّد عينك أبداً.(11/42)
صالح بن هبة الله بن محمد
ابن عفان أبو محمد البغدادي الواعظ قدم دمشق بعد العشرين وخمس مئة، وعقد بها مجلس الوعظ في المسجد الجامع. ولم يحدث بدمشق.
حدث عن محمد بن عبد السلام بسنده عن يزيد الأصم عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نبيذ الجرّ المزقت والدُّباء والنقير. قال يزيد: فأنا أشهد لسمعت هذا من ابن عمر يذكره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليس بيني وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ابن عمر.
صالح مولى بني أم حكيم
قال صالح: تزوجت امرأة من صليبة غسان، فأرسل إلي محمد بن سويد - وهو عامل سليمان بن عبد الملك على دمشق - فقال: إنه ليس لك أن تزوّج امرأة من صليبة العرب، فطلِّقها. قال: قلت: ما أتيت حراماً، ولا أفعل. قال: فألزمني إلى عمود من عمد الخضراء، فضربني عشرة أسواط، ثم قال: طلِّقها، فأبيت. فلم يزل يصنع بين ذلك حتى ضربني ثمانين سوطاً. قال: فأذلقني الضرب، فطلقتها البتة. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز أتيته مستعدياً عليه. قال: ما الذي تريد؟ قلت: أريد أن ترد علي(11/43)
امرأتي. قال: ابتليت بجبار ظالم، فما أصنع بك؟ إنما الطلاق والعتاق كلام، فإذا فاته صاحبه نفذ عليه. فراددتُه، فقال: ما عندي غير هذا، فقلت: يا أمير المؤمنين، فالمهر ترده إلي، قال: فبم استحللت فرجها؟ قال: فألزمني الطلاق.
صبح أبو صالح الخراساني
أحد الزهاد. جالس أبو سليمان الداراني وقال له يوماً: يا أبا سليمان، طوبى للزاهدين، فقال له سليمان؛ طوبى للعارفين.
حدث صبح بسنده إلى إسماعيل الكندي قال: جاء رجل من أهل البصرة إلى طاوس ليسمع منه. قال: فوافاه مريضاً، فجلس عند رأسه يبكي، فقال: ما يبكيك يا شاب؟! قال: والله، ما أبكي على قرابة بيني وبينك ولا على دنيا جئت أطلبها منك، ولكن على العلم الذي جئت أطلب منك يفوتني. قال: فقال له طاوس: إن موصيك بثلاث كلمات، إن حفظتهن علمت علم الأولين والآخرين، وعلِم ما كان، وعلم ما يكون: خَفِ الله حتى لا يكون عندك شيء أخوف منه، وارجُ الله حتى لا يكون عندك شيء أرجا منه، وأحبب الله حتى لا يكون شيء أحبّ إليك منه. فإذا فعلت ذلك علمت على الأولين والآخرين، وعلم ما كان، وعلم ما يكون، قال: فقال له الشاب: لا جرم والله، ولا سألت أحداً بعدك عن شيء ما بقيت.(11/44)
صَبِيغ بن عسل
ويقال ابن عُسَيل - الصَاد مفتوحة والباء مكسورة وعِسل بكسر العين وسكون السين ويقال: صَبيغ بن شريك، من بني عسل بن عمرو بن يربوع ابن حنظلة التميمي اليربوعي البصري الذي سأل عمر بن الخطاب عما سأله، فجلده، وكتب إلى أهل البصرة ألاّ يُجالسوه.
واسمه مشتق من الشيء المصبوغ. قيل: أنه كان يحمَّق. وفد على معاوية. ولم يزل بشرّ بعد جَلْد عمر حتى قتل في بعض الفتن، وهو الذي كان يتتبع مشكل القرآن.
قال
صبيغ بن عسل: جئت عمر بن الخطاب زمان الهدنة، وعليّ غديرتان وقَلَنْسِيَة، فقال عمر: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يخرج من المشرق حلقان الرؤوس يقرؤون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، طوبى لمن قتلوه، وطوبى لمن قتلهم. ثم أمر عمر ألاّ أُؤوى ولا أُجالس.
قال سعيد بن المسيب: جاء الصبيغ التميمي إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن " الذَارِيَاتِ ذَرْواً " قال: هي الريح، ولولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله ما قلته. قال: فأخبرني عن " الْحَامِلاَتِ وِقرْاً " قال: السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما قلته. قال: فأخبرني عن " الْمُقَسِّماتِ أَمْراً " قال: هي الملائكة، ولولا أني(11/45)
سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول ما قلته، قال: فأخبرني عن " الْجَارِيَاتِ يُسْراً " قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله ما قلته.
قال: فأمر به عمر رضي الله فضُرب مئة، وجُعل في بيت، فإذا برىء دعا به فضربه مئة أخرى. ثم حمله عل قتب، وكتب إلى أبي موسى: حرِّم على الناس مجالسته. فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان شيئاً. فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدق، فخلِّ بينه وبين مجالسته الناس.
وفي رواية أخرى بمعناه: واحملوه على قتب، وابلغوا به حيّه. ثم ليقم خطيب فيقُلْ: إن صَبيغاً طلب العلم وأخطأه، فلم يزل وضيعاً في قومه بعد أن كان سيداً فيهم.
وفي حديث آخر أنه لما سأله قال له عمر: ضع عن رأسك، فإذا له وفرة فقال عمر: أما والله، لو رأيتك محلوقاً لضربت الذي فيه عيناك، ثم كتب إلى أهل البصرة - أو إلينا - لا تجالسوه. قال: فلو جاء ونحن مئة لتفرقنا.
قال محمد بن سيرين: كتب عمر بن الخطاب إلى ابي موسى الأشعري ألا يُجالس صَبيغ، وأن يُحرم عطاءَه ورزقه.
وكان صَبيغ بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلقة، ويجلس، وهم لا يعرفونه، فتناديهم الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين عمر، فيقومون ويدَعونه.(11/46)
صخر بن جندل
ويقال ابن جندلة أبو المعلى - ويقال أبو العلاء - البيروتي القاضي من ساحل دمشق.
حدث عن يونس بن مَيْسَرة بن حَلبَس عن أبي إدريس قال: سمعت أبا الدرداء يقول: والله، وايم الله - ما سمعته حلف قبلها ولا بعدها - ما من عمل أحبّ إلى الله من إصلاح ذات البين، والمشي إلى المساجد، وخلق جائز.
وحدث عنه أيضاً قال: سمعت أبا إدريس يقول: ما بلغ عبد حقيقة الإخلاص حتى لا يحبّ ان يحمده أحد على شيء من عمل الله عزّ وجلّ.
وحدث عنه قال: كان أبو عبيدة بن الجراح وهو والٍ يحمل سطلاً من خشب حتى يأتي حمام أبان.
وعن صخر قال: قال معاوية: الخلافة: العلم بالحق، والحكم بالمعدلة، وأخذ الناس بأمر الله.
صخر بن حرب بن أمية
ابن عبد شمس بن عبد مناف. أبو سفيان وأبو حنظلة الأموي أسلم يوم الفتح، وشهد اليرموك، وكان القاضي يومئذ.
عن عبد الله بن عباس قال: حدثني أبو سفيان حرب مِن فيه قال: كنا قوماً تجاراً، فكانت الحرب قد حضرتنا حتى نهكت أموالنا. فلما كانت الهدنة، هدنة الحديبية، بيننا وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم نأمن أن وجدنا أمناً، فخرجت تاجراً(11/47)
إلى الشام مع رهط من قريش. فوالله، ما علمت امرأة بمكة ولا رجلاً إلا قد حمّلني بضاعة، وكان وجه متجرنا من الشام عزَّةَ من أرض فلسطين. فخرجنا حتى قدمناها، وذلك حين ظهر قيصر صاحب الروم على من كان في بلاده من الفرس، وأخرجهم منها، وردّ عليه صليبه الأعظم، وقد كان استلبوه إياه. فلما بلغه ذلك، وكان منزله بحمص من أرض الشام، فخرج منها يمشي متشكراً إلى بيت المقدس ليصلي فيه، فبسط له البسط، وتطرح له عليها الرياحين حتى انتهى إلى إيلياء، فصلى بها، فأصبح ذات ليلة وهو مهموم، يقلب طرفه إلى السماء فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصحبت مهموماً، فقال: أجل، فقالوا: وما ذاك؟ فقال: أُريت في هذه الليلة أن ملك الختان ظاهر، فقالوا: فوالله ما نعلم أمة من الأمم تختتن إلا اليهود، وهم تحت يدك وفي سلطانك، فإن كان قد وقع هذا في نفسك منهم فابحث في مملكتك كلها فلا يبقى يهودي إلا ضربت عنقه، فتستريح من هذا الهم. فإنهم في ذلك من رأيهم يُديرونه إذ أتاهم رسول صاحب بصرى برجل ن العرب قد دفع إليهم فقال: أيها الملك، هذا رجل من العرب، من أهل الشاء والإبل يحدثك عن حدث كان ببلاده، فسله عنه، فلما انتهى إليها قال لترجمانه: سله ما هذا الخبر الذي كان في بلاده؟ فقال:
كان رجل من العرب من قريش خرج يزعم أنه نبيّ، وقد اتبعه أقوام وخالفه آخرون، وقد كانت بينهم ملاحم من مواطن، فخرجت من بلادي، وهم عن ذلك. فلما أخبره الخبر قال: جرِّدوه، فإذا هو مختون، فقال: هذا والله الذي رأيت، لاماتقولون، أعطه ثوبه. انطلق لشأنك. ثم دعا صاحب شرطته وقال له: قلب في الشام ظهراً وبطناً حتى تأتيني برجل من قوم هذا لنسأله عن شأنه. فوالله إني وأصحابي لبغرّة إذ هجم علينا فسألنا: ممن أنتم؟ فأخبرناه، فساقنا إليه جميعاً. فلما انتهينا إليه - قال أبو سفيان: فوالله ما رأيت من رجل قط أزعم أنه كان أدهى من ذلك الأغلف، يريد هرقل ح فلما انتهينا إليه قال: أيّكم أمسّ به رحماً فقلت: أنا. فقال: أدنوه مني، فأجلسني بين يديه ثم أمر بأصحابي فأجلسهم خلفي وقال: إن كذبٍ فردُّوا عليه - قال أبو سفيان: ولقد عرفت أن لو كذبت ما ردوا علي، ولكني كنت امرأ سيداً أتكرم وأستحي من الكذب،(11/48)
وعرفت أن أدنى ما يكون أن يرووه عني ثم يتحدثوا به عني بمكة، فلم أكذبه - فقال: أخبروني عن هذا الرجل الذي خرج فيكم، فزهدت له شأنه، وصغرت له أمره، فوالله ما التفت إلى ذلك مني وقال: أخبروني عما أسألك عنه من أمره، فقلت: سلني عما بد لك. قال: يكف نسبه فيكم؟ فقلت: محضاً، من أوسطنا نسباً. قال: فأخبروني: هل كان من أهل بيته أحد يقول مثل قوله، فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. قال: فأخبرني: هل كان له فيكم مثلك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه؟ قلت: لا. قال: فأخبروني عن أتباعه! مَن هم؟ فقلت: الأحداث والضعفاء والمساكين، فأما أشراف قومه وذوو الأسنان منهم فلا. قال: فأخبروني عمن يصحبه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ قلت: قلّما صحبه رجل ففارقه. قال: فأخبرني عن الحرب بينكم وبينه. فقلت: سِجال، يُدال علينا وندال عليه. قال: فأخبرني هل يغدِر؟ فلم أجد شيئاً أغمز فيه إلا هي. قلت: لا، ونحن منه في مدّة، ولا نأمن غدر، فوالله ما التفت إليها مني، وأعاد علي الحديث فقال: زعمت أنه من أمحضكم نسباً، وكذلك يأخذ الله النبي، إذا أخذه لا يأخذه إلا من أوسط قومه. وسألتك: هل كان من هل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبّه به؟ فقلت: لا. وسألتك: هل كان له ملك فاستلبتموه إياه، فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملك؟ فقلت: لا. وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الأحداث والمساكين والضعفاء، وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان. وسألتك عمن يتبعه: أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه؟ فزعمت أنه قلَّ من يصحبه فيفارقه، وكذلك حلاوة الإيمان، لا تدخل قلباً فتخرج منه. وسألتك: كيف الحرب بينكم، فزعمت أنها سجال، يدال عليكم وتدالون عليه، وكذلك تكون حرب الأنبياء، ولهم تكون العاقبة. وسألتك: هل يغدِر؟ فزعمت أنه لا يغدر. فلئن كنت صدقتني ليغلبني على ما ملكت قدماي هاتان، ولوددتُ أني عنده فأغسل قدميه. الحق لشأنك، فقمت وأنا أضرب بإحدى يديّ على الأخرى أقول: يا آل عباد الله، لقد أمر أمرُ ابن أبي كبشة. أصبح ملوك بني الأصفر يخافونه في سلطانهم.(11/49)
أبو كبشة وَجز بن غالب بن عامر بن الحارث - وهو غُبْشان - ووَجْز أبو كبشة أول من عبد الشعري، وكان وجز يقول: إن الشعري يقطع السماء عرضاً ولا أرى في السماء شيئاً، شمساً ولا قمراً، ولا نجماً يقطع السماء عرضاً غيرها. والعرب تسمي الشعرى العَبُور، لأنها تعبر الماء عرضاً. وجز هو أبو كبشة الذي قريش تنسب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه، لأنه جده من قِبَل أمه. لأن آمنة بنت وهب وأم وهب قيلة بنت أبي قيلة. واسم أبي قيلة وجز بن غالب، والعرب تظن أن أحداً لا يعمل شيئاً إلا بعرق ينزعه شبهه. فلما خالف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين قريش، وهدى الله به من الضلالة قال مشركو قريش: نزعة أبي كبشة، لأن أبا كبشة خالف الناس بعبادة الشعرى، فكانوا ينسبون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه. وكان أبو كبشة سيداً في خزاعة، لم يعيّروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به من تقصير كان فيه، ولكن لما خالف دينهم نسبوه لخلاف أبي كبشة، فقالوا: خالف كما خالف أبو كبشة.
وأم أبي سفيان صفية بنت حَزْن بن بُجَير بن الهُزَم بن رُوَيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر.
وشهد أبو سفيان مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطائف. ورُمي يومئذ فذهبت إحى عينيه. وشهد يوم حنين فأعطاه سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية، وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية، فقال أبو سفيان: فداك أبي وأمي والله إنك لكريم، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت. فجزاك الله خيراً وتوفي سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو سفيان عامله على نجران. وكان أبو سفيان ذهب بصره في آخر عمره. ونزل المدينة آخر عمره. ومات بها سنة اثنتين وثلاثين. وقيل: سنة إحدى وثلاثين، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
وولدَ حرب بن أمية با سفيان، والفارعة، وفاختة بني حرب. واسم أبي سفيان صخر. ولم يزل أبو سفيان على الشرك حتى أسلم يوم فتح مكة. وهو كان في عير قريش التي أقبلت من الشام. وخرج سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعترض لها حتى ورد بدراً. وساحل(11/50)
أبو سفيان بالعير، وهو كان رأس المشركين يوم أحد، وهو كان رئيس الأحزاب يوم الخندق. ولم يزل أبو سفيان بعد انصرافه عن الخندق بمكة لم يلق سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جمع إلى أن فتح صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة. وأسلم أبو سفيان، وشهد الطائف مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورُمي يومئذ، فذهبت إحدى عينيه، وشهد يوم حنين. ولم أصيبت عينه يوم الطائف مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعينه في يده: أيما أحبّ إليك: عين في الجنة أو أدعو الله أن يردها عليك؟ قال: بل عين في الجنة. ورمى بها، وأصيبت عينه الأخرى يوم اليرموك تحت راية يزيد ابنه. وقيل: توفي سنة أربع وثلاثين، وصلى عليه عثمان بن عفان، ودفن بالبقيع. وولد قبل الفيل بعشر سنين. وكان ربعاً، عظيم الهامة.
وعن مجاهد " فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الكُفّرِ " قال: أبو سفيان. وقال مالك: أبو سفيان، وأبو جهل وابنه، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة. وقيل بدل وابنه: وأمية بن خلف.
وعن سعيد " إِنَّ الذيْنَ كَفَرُوا يُنْفقُونَ أَمْوَالَهُمْ " قال: نزلت في أبي سفيان.
وعن أبي سفيان أن أمية بن أبي الصلت كان معه بغزة - أو قال: بإيلياء - فلما قفلنا قال لي أمية: يا أبا سفيان، هل لك أن نتقدم عن الرفقة فنتحدث؟ قلت: نعم. قال: ففعلنا. فقال له: يا أبا سفيان، إيهٍ عن عتبة بن ربيعة قال: كريم الطرفين ويجتنب المظالم والمحارم. قلت: نعم. قال: وشريف مِسَنّ. قال: السنّ والشرف أزريا به. فقلت له: كذبت، ما ازداد سنّاً إلا ازداد شرفاً. قال: يا أبا سفيان، إنها لكلمة ما سمعت أحداً يقولها لي منذ تنصّرت، لا تعجل علي حتى أخبرك، قال: هات. قال: إني كنت أجد في كتبي نبياً يبعث من حرّتنا هذه، فكنت أظن بك، كنت لا أشك أني هو. فلما دارست أهل(11/51)
العراق إذ هو من بني عبد مناف، فنظرت في بني عبد مناف فلم أجد أحداً يصلح لهذا الأمر غير عتبة بن ربيعة. فلما أخبرتني بسنه عرفت أنه ليس له حين جاوز الأربعين، ولم يوح إليه. قال أبو سفيان: فضرب الدهر ضربه، وأوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وخرجت في ركب من قريش أريد اليمن في تجارة، فمررت بأمية بن أبي الصلت فقلت له كالمستهزىء به: يا أمية، قد خرج النبي الذي كنت تنتظر، قال: أما إنه حق فاتبعه. قلت: ما يمنعك من اتباعه؟ قال: ما يمنعني إلا استحياء من نُسَيّات ثقيف. إني كنت أحدثهن أني هو، ثم يرونني تابعاً لغلام من بني عبد مناف، ثم قال أمية: وكأني بك يا أبا سفيان إن خالفته قد ربطت كما يربط الجدي حتى يؤتى بك إليه، فيحكم فيك ما يريد.
بلغ معاوية أن ابن الزبير يشتمه أبا سفيان فقال: بئس لعمر الله ما يقول في عمه. لكني لا أقول في أبي عبد الله رحمة الله عليه إلا خيراً، أن كان لامرأ صالحاً. خرج أبو سفيان إلى بادية له مردفاً هنداً، وخرجت أسير أمامهما وأنا غلام على حمارة لي إذ لحقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال أبو سفيان: انزل يا معاوية حتى يركب محمد، فنزلت عن الحمارة، وركبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسار أمامهما هنيهة ثم التفت إليهما فقال: يا أبا سفيان بن حرب ويا هند بنة عتبة، والله لتموتن ثم لتبعثن ثم ليدخلن المحسن الجنة والمسيىء النار. ون ما أقول لكم لَحقّ، وإنكم لأول ن أنذرتم، ثم قرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حم تَنْزِلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحيم " حتى بلغ " قَالَتا أَتَيْنَا طَائِعِينَ " فقال له أبو سفيان: أفرغت يا محمد؟ قال: نعم، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحمارة وركبتها، وأقبلت هند على أبي سفيان وقالت: ألهذا الساحر الكذاب أنزلت ابني؟ قال: لا، والله ما هو بساحرا ولا كذاب.
حدث أبو ميسرة أن غلاماً من بني المغيرة شدّ فاطمة بن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي جويرية - فنادت: يا آل عبد مناف فخرج أبو سفيان يشتد أول الناس.(11/52)
وعن ثابت البُناني قال: إنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أوذي وهو بمكة فدخل دار أبي سفيان أمن، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
عن البراء بن عازب قال: جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبد الله بن جبير. قال: ووضعهم موضعاً وقال: إن رأيتمونا تخطّفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظهرنا على العدو وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم. قال: فهزموهم. قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن على الجبل، وقد بدت أسواقن وجلاجلهن، رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمةَ، أي قومِ الغنيمةَ، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنمية. فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين، فذلك قوله: يدعوهم الرسول في أخراهم. فلم يبق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير اثني عشر رجلاً، فأصابوا منها سبعين رجلاً وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه أصاب من المشركين يم بدر أربعين ومئة، سبعين اسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد، أفي القوم محمد، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً. قال: فنهاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يجيبوه ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي قحافة، أفي القوم ابن أبي حقافة، أفي القوم ابن الخطاب، أفي القوم ابن الخطاب، ثم أقبل على أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، وقد كُفيتموهم، فما مالك عمر رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبتَ والله يا عدو الله، إن الذي عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك فقال: يم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مُثلة، لم آمر بها ولم تسؤني، ثم أخذ يرتجز:
اعل هُبَل اعل هُبَل(11/53)
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ألا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسول الله: ما نقول؟ قال: " الله أعلى وأجلّ ". قال: أن لنا العزّى ولا عزّى لكم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الا تجيبونه؟ " قالوا: يا رسلو الله، وما نقول؟ قال: " قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم ".
وعن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب
أن رجلاً قال لحذيفة: نشكو إلى الله صحبتكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره، فقال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله عز وجلّ إيمانكم به ولم تروه، والله لا ندري يا بن أخي لو أدركَته كيف كنت تكون. لقد رأيتَنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الخندق في ليلة باردة مطيرة وقد نزل أبو سفيان وأصحابه بالعرصة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَن رجل يذهب فيعلم لنا عِلم القوم أدخله الله الجنة؟ ثم قال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال: مَن رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيقي يوم القيامة؟ فوالله ما قام منا أحد، فقال أبو بكر: يا رسول الله، ابعث حذيفة، فقلت: دونك والله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا حذيفة، فقلت: لبيك، بأبي أنت وأمي، فقال: هل أنت ذاهب؟ فقتل: والله، ما بي أن أقتل، ولكين أخشى أن أؤسر، فقال: إنك لن تؤسر، فقلت: مُرني يا رسول الله بما شئت، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب حتى تدخل بين ظهراني القوم، فائت قريشاً فقل: يا معشر قريش، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قريش؟ أي قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتل فيكم، ثم ائت بني كنانة، فقل: يا معشر كنانة، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين بني كنانة؟ أين رماة الخندق؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، ثم أئت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس إذا كان غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل: أين الفرسان؟ فيقدمونكم، فتصلوا القتال، فيكون القتال فيكم، وقال لي لا تحدث شيئاً في سلاحك حتى تأتيني فتراني، فانطلقت حتى دخلت بين ظهراني القوم، فجعلت أصطلي معهم على نيرانهم، وجعلت ابث ذلك(11/54)
الحديث الذي أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا كان وجه السحر قام أبو سفيان فدعا اللات والعزى وأشرك. ثم قال: لينظر رجال مَن جليسه؟ ومعي رجل منهم يصطلي على النار، قال: فوثبت إليه، فأخذت بيده مخافة أن يأخذني، فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان ابن فلان، فقلت: أولى، فلما دنا الصبح نادّوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ فقالوا: أيْهات، هذا الذي أُتينا به البارحة. أين بنو كنانة؟ أين الرماة؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة. أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين الفرسان؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أُتينا به البارحة، فتخاذلوا. وبعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفأته، حتى لقد رأيت أبا سفيان وثبت على جمل له معقول فجعل يستحثه ولا يستطيع أني قوم. فولا ما أمرني به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سلاحي لرميته أدنى من تلك. قال: فجئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلت أخبره عن أبي سفيان. قال: فجعل يضحك حتى جعلت أنظر إلى أنيابه.
قال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ " عَسَى اللهُ أنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً " قال: مصاهرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي سفيان بن حرب.
قال الزبير: وتزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم حبيبة بنت أبي سفيان. زوجه إياها النجاشي، فقيل لأي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن محمداً قد نكح ابنتك قال: ذاك الفحل لا يُقرَع أنفه.
وعن ابن عباس قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمرّ الظهران قال العباس بن عبد المطلب - وقد خرج مع(11/55)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة -: يا صباح قريش، والله لئن بغَتَها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بلادها فدخل مكة عَنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فجلس على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ البيضاء وقال: أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطاباً أو صاحب لبن أو داخلاً يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأتوه فيستأمنوه، فخرجت، فوالله إن لأطوف بالأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حِزام وبُديل بن ورقاء وقد خرجوا يتحسسون الخبر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فسمعت أبا سفيان وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً، فقال بديل بن ورقاء: هذه والله نيران خزاعة، حشَّتها الحرب، فقال أبو سفيان: خزاعة ألأم من ذلك وأذلَ، فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة وهو أبو سفيان، فقال: أبو الفضل؟ فقلت: نعم، فقال: لبيك، فداك أبي وأمي، فما وراءك؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس قد دلف إليكم بما لا قِبَل لكم به، في عشرة آلاف من المسلمين، قال: فكيف الحيلة، فداك أبي وأمي؟ فقلت: تركب في عجز هذه البلغة، فأستأمن لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه والله لئن ظفر بك ليضربَنّ عنقك، فردفني، فخرجت أركض به بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكلما مررت بنارٍ من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا: عّم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حى مررت بنار عمر بن الخطاب فنظر فرآه خلفي فقال عمر: أبو سفيان؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد، ثم اشتد نحو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركضتُ البغلة حتى اقتحمت على باب القبة، وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة الرجل البطيء، فدخل عمر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد، فدعني أضرب عنقه، فقلت: يا رسول الله، إن قد أمنته، ثم جلست إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه الليلة أحد دوني، فلما كثر فيه عمر قلت: فهلا يا عمر، فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال عمر: مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب به،(11/56)
فقد آمنّاه حتى تغدو به علي بالغداة. فرجع به إلى منزله. فلما أصبح غدا به على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رآه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ويحك يا أبا سفيان!. ألم يأنِ لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟! فقال: بأبي أنت وأمي، ما أوصلك وأرحمك! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئاً بعد، فقال: ويحكم يا أبا سفيان! أولم يأنِ لك أن تعلم أني رسول الله؟! فقال: بابي أنت وأمي، ما أوصلك وأحلمك وأكرمكَ! أما والله هذه فإن في النفس منها شيئاً. فقال العباس: فقلت: ويلك تشهد بشهادة الحق قبل - والله - أن تضرب عنقك. فتشهد. فقال رسول الله للعباس حين تشهد أبو سفيان: انصرف به يا عباس فاحبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود الله، فقلت له: يا رسول الله: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً يكون له في قومه فقال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن.
فخرجت به حتى حبسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرّت عليه القبائل، فيقول: من هؤلاء يا عباس؟ فأقول: سُليم، فيقول: ما لي ولسُليم. وتمر به القبيلة فيقول: من هؤلاء؟ فأقول: أسلم، فيقول: مالي ولأسلم، وتمر جهينة فيقول: مالي ولجهينة، حتر مرّ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخضراء، إذ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار في الحديد لا يُرى منهم إلا الحدّق، فقال: يا ابا الفضل، من هؤلاء؟ فقلت: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المهاجرين والأنصار، فقال: يا أبا الفضل، لقد اصبح ملك ابن أخيك عظيماً، فقلت: ويحك! إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قلت: إلحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعاً حتى جاء مكة، فصرخ في المسجد! يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قِبَل لكم به. قالوا: فمه، فقال: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقالوا: ويحك: وما دارك وما تغني عنا؟! قال: ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أعلق عليه داره فهو آمن.(11/57)
وفي حديث آخر: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس بعدما خرج: " احبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ". قال العباس: فعدلت به في مضيف الوادي إلى خطم الجبل. فلما حبست أبا سفيان قال: غدراً يا بني هاشم؟! فقال العباس: إن أهل النبوة لا يغدرون، ولكن لي إليك حاجة. فقال أبو سفيان؛ فهلا بدأت بها أوّلاً، فقلتَ: إن لي إليك حاجة فكان أفرخ لروعي؟ قال العباس: لم أكن أراك تذهب هذا المذهب.
وعبأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها. فكان أول من قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالدُ بن الوليد في بني سُليم، وهم ألف، فيه لواء يحمله عباس بن مرداس، ولواء يحمله خُفاف بن نُدبة، وراية يحملها الحجاج بن عِلاط. قال أبو سفيان: من هؤلاء، قال العباس: خالد بن الوليد. قال: الغلام؟ قال: نعم. فلما حاذى خالد بالعباس وإلى جنبه أبو سفيان كبروا ثلاثاً ثم مضَوا. ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمس مئة، منهم مهاجرون وأفناء الناس، ومعه راية سوداء. فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثاً، وكبر أصحابه، فقال: من هذا؟ قال: الزبير بن العوام. قال: ابن أخيك؟ قال: نعم. ومرت بنو غفار في ثلاث مئة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري - ويقال: إيماء بن رَحْضة - فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. قال: يا أبا الفضل، من هؤلاء؟ قال: بنو غفار: قال: ما لي ولبني غفار. ثم مضت أسلم في أربع مئة فيها لواءان، يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بن الأعجم. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. فقال: من هؤلاء؟ قال: اسلم. قال: يا ابا الفضل، مالي ولأسلم، وما كان بيننا وبينها تِرَة قط. قال العباس: هم قوم مسلمون، دخلوا في الإسلام. ثم مرت بنو كعب بن عَمرو في خمس مئة، يحمل رايتهم بشر بن سفيان. قال: من هؤلاء؟ قال: بنو كعب بن عمرو. قال: نعم، هؤلاء حلفاء محمد. فلما حاذَوه كبّروا ثلاثاً. ثم مرت مزينة في ألف، فيها ثلاثة ألوية، وفيها مئة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مَقرِّن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو. فلما حاذوه كبروا، فقال: من هؤلاء؟ قال: مزينة. قال: يا أبا الفضل، مالي ولمزينة، قد جاءتني تُقعقع من شواهقها. ثم مرت جهينة في ثمان مئة مع قادتها، فيها أربعة ألوية: لواء من أبي رَوْعة معبد بن خالد، ولواء من سويد بن صخر،(11/58)
ولواء مع رافع بن مَكِيث، ولواء مع عبد الله بن بدر. قال: فلما حاذوه كبروا ثلاثاً. ثم مرت كنانة، بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مئتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي. فلما حاذوه كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء؟ قال: بنو بكر. قال: نعم، أهل شؤم، والله. هؤلاء الذين غزانا محمد بسببهم. أما والله ما شُوورت فيه، ولا علمته، ولقد كنت له كارهاً حيث بلغني، ولكنه أمرٌ حُمّ. قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكم ودخلتم في الإسلام كافة.
وفي حديث آخر قال:
مرت بنو ليث وحدها، وهم مئتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة. فلما مر كبروا ثلاثاً، فقال: من هؤلاء قال: بنو ليث. ثم مرت أشجع وهم آخر من مرّ، وهم ثلاث مئة، معهم لواءان: لواء يحمله مَعْقِل بن سنان، ولواء من نُعَيم بن مسعود، فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا شدَّ العرب على محمد، فقال العباس: أدخل الله الإسلام قلوبهم، فهذا من فضل الله، فسكت ثم قال: ما مضى بعد محمد؟ قال العباس: لم يمض بعد. لو رأيت الكتيبة التي فيها محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأيت الحديد والخيل والرجال، وما ليس لأحد به طاقة. قال: أظن - والله - يا أبا الفضل، ومن له بهؤلاء طاقة؟ فلما طلعت كتيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون. كل ذلك يقول: ما مرّ محمد؟ فيقول العباس: لا حتى مرّ يسير على ناقته القصواء بين أبي بكر وأُسيد بن حَضير وهو يحدثهما، فقال العباس: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية ولواء، في الحديد، لا يُرى منهم إلا الحدق، لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل - وعليه الحديد - بصوت عال، وهو يَزعها، فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل، من هذا المتكلم؟ قال: عمر بن الخطاب. فقال: لقد أمر أمْرُ بن عدي بعدّ - والله - قلةٍ وذلّة، فقال العباس: يا أبا سفيان، إن الله يرفع من يشاء، وإن عمر ممن رفعه الإسلام. ويقال: في الكتيبة، ألفا دارع واعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته سعد ابن عبادة فهو أمام الكتيبة كلما مرّ سعد براية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى: يا ابا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحلّ الحرمة، اليوم أذل الله قريشاً. فأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا حاذى بأبي سفيان، ناداه: يا رسول الله، أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين(11/59)
مر بنا قال: يا أبا سفيان، اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذلّ الله قريشاً. وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأفضل الناس. قال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله، ما نأمن سعداً أن يكون منه في قريش صولة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا سفيان، اليوم يوم المرحمة، اليوم أعزّ الله فيه قريشاً. قال: وأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى قيس بن سعد، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بالأمارة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بعمامته، فعرها سعد، فدفع اللواء إلى ابنه قيس.
وعن أبي الوليد سعيد بن مينا قال:
لما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح بمرّ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبا سفيان يحضركم فانتشروا له، فخرجوا فاصابه عمر بن الخطاب فجاء به ملبَّباً، فقال العباس: يا بن الخطاب، ما حملك على الذي صنعت، لقد علمتَ أنه قد دار بيني وبينه لَوْث، ولولا ذلك ما جاء، فقال عمر: لولا أنك عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علمت ما أقول لك، دونكه، فجاء به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخلاّه. فلما ولّى راجعاً قال: اجعل لي شيئاً آتِ به قومي، قال: تؤمِن من دخل دارك. فانطلق يسير والناس متفرقون في الأراك والسَّمُر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للعباس: الحق صاحبك، فإني لا آمن أن يكون قد أحسّ في قلبه قلة القوم، أو رآهم متفرقين في السَّمُر والأراك، فيرجع إلى قومه فيخبرهم بذلك، فيرجع كافراً. فانطلق العباس يسير حتى إذا كان حيث ينظر إليه قال: أبا سفيان، قف. فإن لي إليك حاجة. قال: فأخبرني بها أقضها لك. قال: قف حتى أنتهي إليك. قال: غدراً يا بني هاشم؟ قال: ستعمل في آخر يومك أنا لسنا نغدِر، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس فساروا، وأقبل خالد بن الوليد في كتيبة.، فقال أبو سفيان: ابن أخي هذا يا عباس؟ قال: لا، ولكن هذا خالد بن الوليد. ثم جاءت كتيبة أخرى(11/60)
فقالوا أبو سفيان: ابن أخيك هذا؟ قال: لا، ولكن فلان. ثم جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة الناس، فقال أبو سفيان: إني لأظن هذا ابن أخيك؟ فقال: أجل، إي والله، لقد علمت ما حملك على الذي صنعت، إنما أردت أن تريني هؤلاء قال: أجل، إني حسبت أن يكون في نفسك قلة القوم وهم متفرقون في السَّمُر والأراك، فترجع إلى قومك فتخبرهم بذلك، ثم ترجع كافراً، فقال: أجل والله، لقد كان ذلك في نفسي، فوالله ما زالت أرى الكتائب والقبائل حتى رأيت أن جبال مكة ستسير معهم. فهذا حين أيقنت. فانطلق حتى انتهى إلى الأبطح، وعكرمة أبي جهل واقف في الناس، فقال: يا أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: مالا يدان والله لك به ولا قومك، فقال: إني لأظنك قد صبوت، فقال: وقد كان بعض ذلك، فقال: لعنك الله من رئيس قوم، فوالله لقد هممت أن أبدأ بك. فانطلق، فجاءت العجوز هند كاشفة عن ساقها تقول: أبا سفيان، ما وراءك؟ فقال: يا بنت عم، الخيل، فقالت: ثكل قِبن من وافد قوم، قتلت فلاناً - فسمت ابناً لها - وأكلت لحم معاوية. ونادى مناديه: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فدخلوا داره حتى ملأوها عليه، حتى لاذوا بالحيطان، وأقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس، وبعث خالد بن الوليد من قِبل اليمين، فالتفوا، وصرخ صارخ لقريش: لا قريش، هلكت قريش بعد اليوم، فشار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأمر مناديه: مَن دخل داره فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن.
قال يزيد الرقاشي: لما أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأبي سفيان عرض عليه الإسلام، فقال له أبو سفيان: وتحملني على بغلتك، وتكسوني بردتك، وتتخذ معاوية كاتباً - وأراه قال: وتزوج أم حبيبة - ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن؟ كل ذلك يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. فأسلم. فسرحة ومشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى انتهى إلى مكة، فالتقى القوم فاقتتلوا، ونفذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل المسجد، فجعل يطعن بسية قوسه في عين الصنم، ويقول: " جَاءَ الحقُّ وزهق الباطلُ إن الباطلَ كان زهُوقاً ".(11/61)
وعن ابن شهاب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يوم فتح مكة: من دخل دارك يا أبا سفيان ودارك يا حكيم وكف يده فهو آمن. ودار أبي سفيان بأعلى مكة، ودارُ حكيم بأسفل مكة.
وعن سعيد بن المسيب قال: لما كان ليلة دخل الناس مكة ليلة الفتح لم يزالوا في تكبير وتهليل وطواف بالبيت حتى أصبحوا، فقال أبو سفيان لهند: أترين هذا من الله؟ قال: ثم أصبح فغدا أبو سفيان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قلت لهند: أترين هذا من الله؟ نعم، هو من الله، فقال أبو سفيان: أشهد أنك عبد الله ورسوله، والذي يحلف به أبو سفيان ما سمع قولي هذا أحد من الناس إلا الله وهند.
وعن ابن عباس قال:
رأى أبو سفيان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي والناس يطؤون عقبيه فقال بينه وبين نفسه: لو عاودت هذا الرجل القتال، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب بيده في صدره فقال: إذن يخزيك الله. قال: أتوب إلى الله وأستغفر الله، فما تفوهت به.
وفي حديث آخر بمعناه: فقال: ما أيقنت أنك نبيّ حتى الساعة، إن كنتُ لأحدث نفسي بذلك.
وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم قال: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملتحفاً بثوب من بعض بيوت نسائه، وأبو سفيان جالس في المسجد، فقال أبو سفيان: ما أدري بم يغلبنا محمد، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ضرب في ظهره وقال: بالله يغلبك، فقال أبو سفيان: أشهد أنك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن عباس قال: كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله، ثلاث أسالك أن تعطيَنيهِنّ، قال: وما هنّ؟ قال: عندي أحسن الحرب(11/62)