كان معه، فأوثقهم، وذكر خالد قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال خالد لأكيدر: أرأيتك إن أجرتك تفتح لي باب دومة؟ قال: نعم، فانطلق حتى دنا منها، فثار أهلها وأرادوا أن يفتحوا له فأبى عليهم أخوه، فلما رأى ذلك قال لخالد: أيها الرجل خلني فلك الله أن أفتحها لك، إن أخي لا يفتحها ما علم أني في وثاقك، فأرسله خالد وأصحابه، فذكر خالد قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي أمره.
فقال أكيدر: والله ما رأيتها قطٌّ جاءتنا إلا البارحة - يريد البقر - ولقد كنت أضمر لها إذا أردت أخذها فأركب لها اليوم واليومين، ولكن هذا القدر ثم قال: يا خالد، إن شئت حكمتك وإن شئت حكمتني، فقال خالد: بل نقبل منك ما أعطيت، فأعطاهم ثمان مائةٍ من السبي وألف بعير، وأربع مائة درع، وأربع مائة رمح.
وأقبل خالد بأكيدر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبل معه يحنّه بن رؤيا عظيم أيلة، فقدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشفق أن يبعث إليه كما بعث إلى أكيدر، فاجتمعا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاضاهما على قضيته على دومة، وعلى تبوك وعلى أيلة وعلى تيماء وكتب لهما كتاباً.
وعن بلال بن يحيى قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر رضي الله عنه على المهاجرين إلى دومة الجندل، وبعث خالد بن الوليد على الأعراب معه، وقال: " انطلقوا فإنكم ستجدون أكيدر دومة يقتنص الوحش فخذوه أخذاً، فابعثوا به إلي، ولا تقتلوه وحاصروا أهلها ".
قال: فانطلقوا، فوجدوا أكيدر دومة كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخذوه فبعثوا به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحاصروهم، فقال لهم أبو بكر: تجدون ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإنجيل؟ قالوا: ما نجد له ذكراً، قال: بلى، والذي نفسي بيده إنه لفي الإنجيل مكتوب كهيئة قرست وليست بقرست، فانظروا.
فنظروا، فقالوا: نجد الشيطان خطر خطرة بقلم لا ندري ما هي.
فقال له، رجل من الأنصار أو المهاجرين: أكفر هؤلاء يا أبا بكر؟ فقال: نعم، وإنكم ستكفرون.
فلما كان يوم مسيلمة قال ذلك الرجل لأبي بكر: هذا الذي قلت لنا يوم دومة الجندل إنا سنكفر؟ فقال: لا، ولكن آخر أمامكم.(5/21)
وقيل إن خالد بن الوليد لما قدم بأكيدر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أسلم وكتب له كتاباً فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منع الصدقة ونقض العهد وخرج من دومة الجندل فلحق بالحيرة وابتنى بها بناء سماه دومة بدومة الجندل.
وروى عوانة بن الحكم، أن أبا بكر كتب إلى خالد بن الوليد وهو بعين التمر يأمره أن يسير إلى أكيدر فسار إليه فقتله، وفتح دومة، وقد كان خرج منها بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عاد إليها، فلما قتله خالد مضى خالد إلى الشام.
قال: ولعله أن يكون قتله بدومة الجندل عند الحيرة فهي تقرب من عين التمر.
ألب رسلان بن رضوان بن تتش
ابن ألب رسلان التركي ولي إمرة حلب بعد موت أبيه رضوان في جمادى الآخرة سنة سبع وخمس مائة وهو صبي عمره ست عشرة سنة، وتولى تدبير أمره خادم لأبيه اسمه لؤلؤ البابا، ورفع عن أهل حلب بعض ما كان جدد عليهم من الكلف وقتل أخويه ملك شاه، وأميركا، وقتل جماعة من الباطنية وكانت دعوتهم ظهرت في حلب أيام أبيه، ثم كاتب طغتكين أمير دمشق، ورغب في استعطافه، فأجابه طغتكين إلى ذلك، ودعا له على منبر دمشق في رمضان من هذه السنة.
ثم قدم ألب رسلان في هذا الشهر دمشق وتلقاه طغتكين وأهل دمشق في أحسن زي، وأنزله في القلعة بدمشق، وبالغ في إكرامه، فأقام فيها أياماً، ثم عاد إلى حلب في أول شوال، وصحبه طغتكين، فلما وصل إلى حلب لم ير منه طغتكين ما يحب، ففارقه، وعاد إلى دمشق، وساءت سيرة ألب رسلان بحلب، وانهمك في المعاصي، وخافه لؤلؤ البابا فقتله بقلعة حلب في ثاني ربيع الآخر سنة ثمان وخمس مائة.(5/22)
ونصب أخاً له طفلاً عمره ست سنين.
وبقي لؤلؤ بحلب إلى أن قتل في آخر سنة عشر وخمس مائة ببالس.
إلياس بن تشبين بن العازر بن هارون
ويقال إلياس بن شبى ويقال إلياس بن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هارون ويقال إلياس بن العازر بن العيزار بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
أرسله الله تعالى إلى أهل بعلبك، وقيل: إنه اختفى من الكفار في المغارة التي بجبل قاسيون بدمشق عشر سنين.
وروي عن كعب أنه قال: إن إلياس اختبأ من ملوك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين، حتى أهلك الله الملك، ووليهم غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام، فأسلم وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم، فأمر بهم فقتلهم عن آخرهم.
وقيل: إنه أقام هارباً من قومه في كهف جبل عشرين ليلة، أو قال: أربعين، تأتيه الغربان برزقه.
وروي عن الكلبي أنه قال: أول نبيٍّ بعث إدريس، ثم نوح، ثم إبراهيم، ثم إسماعيل وإسحاق، ثم يعقوب، ثم يوسف، ثم لوط، ثم هود، ثم صالح، ثم شعيب، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم إلياس بن تشبين بن العازر بن هارون بن عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب.
وعن وهب أن حزقيل قام في بني إسرائيل بأمر الله عز وجل وطاعته، وكان فيما أعطاه الله عز(5/23)
وجل عزة لبني إسرائيل حتى قبضه الله عز وجل إليه.
فعظمت الأحداث في بني إسرائيل، وخالطوا عبدة الأوثان، فنصب الأوثان طوائف منهم، وطائفة منهم متمسكون بالعهد، فكانوا يقتلون الأنبياء وأبناء الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس، وأحبوا الملك، حتى بعث الله إليهم إلياس بن العازر بن العيزار نبياً، وإنما كانت الأنبياء تبعث في بني إسرائيل بعد موسى، لتجديد ما نسوا من التوراة، وكانت لا تنزل عليهم الكتب.
إنما كانوا يعملون بما في التوراة، ويجددون لهم ما نسوا من التوراة، وكان إلياس عليه السلام مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقوم بأمره، وينتهي الملك إلى رأيه؛ وكان سائر ملوك بني إسرائيل اتخذوا الأصنام.
وكان له صنم يقال له: بعل قال ابن عباس: البعل: الرب سموا الصنم رباً، وهو بلغة اليمن البعل: الرب.
وعن كعب قال: أربعة أنبياء اليوم، اثنان في الدنيا، واثنان في السماء.
فأما اللذان في الدنيا: فإلياس والخضر، وأما اللذان في السماء: فعيسى وإدريس عليهما السلام.
قال عبد الله بن مسعود: إسرائيل هو يعقوب عليه السلام، وإلياس هو إدريس.
قال أحمد بن حنبل: سمعنا أن ستة من الأنبياء لهم في القرآن اسمان اسمان: محمد وأحمد، وإبراهيم وأبراهام، ويعقوب وإسرائيل، ويونس وذو النون، وإلياس إلياسين، وعيسى المسيح عليهم السلام.
وقيل: الخضر من ولد فارس، وإلياس من بني إسرائيل فيلتقيان كل عام بالموسم.
وعن ابن عباس في قول الله عز وجل: " إن إلياس لمن المرسلين؛ إذ قال لقومه ألا تتقون، أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين "! قال: وإنما سمي(5/24)
بعلبك، لعبادتهم البعل، وكان موضعهم يقال له: بك.
فسمي بعل بك.
يقول الله عز وجل: " وتذرون الله أحسن الخالقين ".
وقال الحسن: إن الله عز وجل بعث إلياس إلى بعلبك، وكانوا قوماً يعبدون الأصنام، وكانت ملوك بني إسرائيل متفرقة على العامة.
كل ملكٍ على ناحيةٍ يأكلها؛ وكان الملك الذي كان معه إلياس يقوم له أمره، ويقتدي برأيه، وهو على هدىً من بين أصحابه، حتى وقع إليهم قوم من عبدة الأصنام، فقالوا له: ما يدعوك إلياس إلا إلى الضلالة والباطل، وجعلوا يقولون له: اعبد هذه الأوثان التي يعبد الملوك، ودع ما أنت عليه، فقال الملك لإلياس: يا إلياس والله ما تدعو إلا إلى الباطل، وإني أرى ملوك بني إسرائيل كلهم قد عبدوا الأوثان التي يعبد الملوك، وهم على ما نحن عليه يأكلون ويشربون، وهم في ملكهم يتقلبون، وما تنقص دنياهم من أمرهم الذي تزعم أنه باطل، ومالنا عليهم من فضل، فاسترجع إلياس، وقام شعر رأسه وجلده، فخرج عليه إلياس.
وقال الحسن:
إن الذي زين لذلك الملك امرأته، وكانت قبله تحت ملكٍ جبار، وكان من الكنعانيين في طولٍ وجسم وحسن؛ فمات زوجها الأول، فاتخذت تمثالاً على صورة بعلها من الذهب، وجعلت له حدقتين من ياقوت، فتوجته بتاجٍ مكللٍ بالدر والجواهر، ثم أقعدته على سرير تدخل عليه، فتدخنه وتطيبه، وتسجد له، ثم تخرج عنه؛ فتزوجت بعد ذلك هذا الملك الذي كان إلياس معه.
وكانت فاجرة قد قهرت زوجها، فكانت هي التي جمعت هؤلاء السبعين الذين زعموا أنهم أنبياء، وبنت بيت الأصنام ووضعت البعل.
فدعاهم إلياس إلى الله فلم يزدهم ذلك إلا بعداً.
فقال إلياس: اللهم إن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر بك، وعبادة غيرك فغير ما بهم من نعمتك.
قال الحسن: إن الله أوحى إلى إلياس أني قد جعلت أرزاقهم بيدك حتى تكون أنت الذي تأذن لهم.
فقال إلياس: اللهم أمسك عنهم القطر ثلاث سنين، فأمسك الله عنهم القطر، وأرسل إلياس إلى الملك فتاه، وكان تلميذه، فقال(5/25)
لهم اليسع بن خطوب، وليس باليسع الذي يقال له الخضر، وذلك ابن عاميا، وكان هذا غلاماً يتيماً من بني إسرائيل، آوت أمه إلياس وأخفت أمره، وكان اليسع به ضرٌّ، فدعا الله له فعافاه من الضر الذي كان به، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه، فذهب حيثما ذهب، فلما أمسك الله عنهم القطر، أرسل إلياس اليسع إلى الملك فقال: قل له إن إلياس يقول لك: إنك اخترت عبادة البعل على عبادة الله، واتبعت عتاة قومك هؤلاء الكذبة الذين يزعمون أنهم أنبياء، واتبعت هوى امرأتك الخبيثة التي خانتك وأهلكتك، فاستعد للعذاب والبلاء.
قال: وأمسك الله عنهم القطر حتى هلكت الماشية والدواب والهوام، وجهد الناس جهداً شديداً، وخرج إلياس شفقاً على نفسه حين دعا عليهم.
فانطلق اليسع، فبلغ رسالته الملك، فعصمه الله من شر الملك، ولحق بإلياس.
فانطلق إلياس حتى أتى ذروة جبل، فكان الله يأتيه برزقه، وفجر له عيناً معيناً لشرابه وطهوره، حتى أصاب الناس الجهد، فأكلوا الكلاب والجيف والعظام، فأرسل الملك إلى السبعين، فقال لهم: سلوا البعل أن يفرج ما بنا.
قال: فأخرجوا أصنامهم، فقربوا لها الذبائح، وعكفوا عليها، وجعلوا يدعون حتى طال ذلك عليهم، فقال لهم الملك: إن إله إلياس كان أسرع إجابةً من هؤلاء.
فبعثوا في طلب إلياس ليدعو لهم، فلم يجبهم، فغار ماؤه، فقال: يا رب، غار مائي، فأوحى الله إليه أني قد أهلكت خلقاً كثيراً، لم أرد هلاكهم بخطايا بني إسرائيل.
فقال إلياس: أي ربٍّ، دعني أنا أكون الذي أدعو لهم لعلهم يرجعون، فقيل له: نعم فأتى بني إسرائيل فقال لهم: أتحبون أن تعلموا أن الله عليكم ساخط، وإنما حبس عنكم المطر للذي أنتم عليه، فأخرجوا أوثانكم التي تعبدونها، وتزعمون أنها خير مما أدعوكم إليه، فادعوها هل تستجيب لكم؟ وإلا دعوت ربي يفرج عنكم، فقالوا: نفعل، فأخرجوا أوثانهم، فجعلت الكذبة تدعو وتتضرع، ويدعو إلياس معهم، فلا يستجاب لهم، فقالوا: يا إلياس ادع لنا ربك، قال: فدعا إلياس ربه أن يفرج عنهم، فارتفعت سحابة مثل الترس وهم ينظرون، حتى ركزت عليهم، ثم أدحيت، ثم أرسل الله عليهم المطر فأغاثهم.
فقال الحسن: فتابوا وراجعوا.
وقيل تمادوا بعد ذلك، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم، فقيل له: انظر يوم كذا وكذا، فإذا رأيت دابة لونها مثل لون النار فاركبها، فجعل يتوقع ذلك اليوم، فإذا هو بشيء قد أقبل على صورة فرس لونه كلون النار، حتى وقف بين يديه،(5/26)
فوثب عليه، فانطلق به، وناداه اليسع: يا إلياس، بماذا تأمرني؟ فكان آخر العهد به، فكساه الله عز وجل الريش، وألبسه النور، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب، فصار في الملائكة فقال: كان إنسياً ملكياً سمائياً.
وقال الحسن: هو موكل بالفيافي، والخضر بالبحار وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى.
وإنهما يجتمعان في كل عام بالموسم.
وفي حديث مرفوع عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " يلتقي الخضر وإلياس عليهما السلام في كل عام بالموسم بمنى فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: سبحان الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله، ما شاء الله لا يصلح السوء إلا الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله ".
قال ابن عباس: من قالهن حين يصبح ويمسي ثلاث مرات أمنه الله من الغرق والسرق: قال: وأحسبه قال: ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب.
وعن قتادة: في قوله تبارك وتعالى: " وتركنا عليه في الآخرين " قال: ترك الله تبارك وتعالى عليه ثناء حسناً في الآخرة.
قال واثلة بن الأسقع: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك، حتى إذا كنا في بلاد جذام في أرض لهم يقال لها الحوزة وقد كان أصابنا عطش شديد فإذا بين أيدينا آثار غيث، فسرنا ملياً، فإذا بغديرٍ وإذا فيه جيفتان، وإذا السباع قد وردت الماء، فأكلت من الجيفتين، وشربت من الماء، قال: فقلنا: يا رسول الله، هذه جيفتان وآثار السباع قد أكلت منها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم. هما طهوران اجتمعا من السماء والأرض لا ينجسهما شيء، وللسباع ما شربت في بطونها، ولنا ما بقي ".
حتى إذا ذهب ثلث الليل، إذا نحن بمنادٍ ينادي بصوت حزين: اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المبارك عليها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا حذيفة ويا أنس، ادخلا إلى هذا الشعب، فانظرا ما هذا الصوت ".(5/27)
قال: فدخلنا فإذا نحن برجل عليه ثياب بياض أشد بياضاً من الثلج، وإذا وجهه ولحيته كذلك، ما أدري أيهما أشد ضوءاً ثيابه أو وجهه! فإذا هو أعلى جسماً منا بذراعين أو ثلاثة.
قال: فسلمنا عليه فرد علينا السلام، ثم قال: مرحباً، أنتما رسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالا: فقلنا: نعم، قالا: فقلنا من أنت يرحمك الله؟ قال: أنا إلياس النبي، خرجت أريد مكة فرأيت عسكركم، فقال لي جندٌ من الملائكة على مقدمتهم جبريل وعلى ساقتهم ميكائيل: هذا أخوك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم عليه والقه، ارجعا فأقرئاه السلام، وقولا له: لم يمنعني من الدخول إلى عسكركم إلا أني أتخوف أن تذعر الإبل ويفزع المسلمون من طولي، فإن خلقي ليس كخلقكم، قولا له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيني.
قال حذيفة وأنس: فصافحناه، فقال لأنس خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من هذا؟ قال: حذيفة بن اليمان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فرحب به ثم قال: والله إنه لفي السماء أشهر منه في الأرض يسميه أهل السماء صاحب سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال حذيفة: هل تلقى الملائكة؟ قال: ما من يوم إلا وأنا ألقاهم، ويسلمون علي وأسلم عليهم.
قال: فأتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا حتى أتينا الشعب وهو يتلألأ وجهه نوراً.
وإذا ضوء وجه إلياس وثيابه كالشمس.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على رسلكم ".
قال: فتقدمنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدر خمسين ذراعاً، وعانقه ملياً، ثم قعدا.
قالا: فرأينا شيئاً كهيئة الطير العظام بمنزلة الإبل قد أحدقت به وهي بيض، وقد نشرت أجنحتها فحالت بيننا وبينهم، ثم صرخ بنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا حذيفة ويا أنس تقدما ".
فتقدمنا، فإذا بين أيديهم مائدة خضراء لم أر شيئاً قط أحسن منها، قد غلب خضرتها لبياضها، فصارت وجوهنا خضراء وثيابنا خضراء، وإذا عليها خبز ورمان وموز وعنب، ورطب وبقل، ما خلا الكراث.
قال: ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلوا بسم الله ".
قالا: فقلنا: يا رسول الله أمن طعام الدنيا هذا؟ قال: " لا ".
قال لنا: هذا رزقي، ولي في كل أربعين يوماً وأربعين ليلة أكلة يأتيني بها الملائكة، وهذا تمام الأربعين يوماً والليالي، وهو شيء يقول الله عز وجل له: كن فيكون قال: فقلنا: من أين وجهك؟ قال: وجهي من خلف رومية، كنت في جيش من الملائكة مع جيش من المسلمين غزوا أمةً من الكفار.
قال: فقلنا: فكم يسار من ذلك الموضع الذي كنت فيه؟ قال: أربعة أشهر، وفارقته أنا منذ عشرة أيام، وأنا أريد إلى مكة أشرب بها في كل سنة شربة، وهي ريي وعصمتي إلى تمام الموسم من قابل.
قال: فقلنا: فأي المواطن أكبر معارك؟ قال: الشام وبيت المقدس(5/28)
والمغرب واليمن، وليس من مسجد من مساجد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا وأنا أدخله صغيراً كان أو كبيراً.
قال: الخضر متى عهدك به؟ قال: منذ سنة كنت قد التقيت أنا وهو بالموسم، وقد كان قال: إنك ستلقى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبلي، فأقرئه مني السلام، وعانقه وبكى قال: ثم صافحناه وعانقناه وبكى وبكينا، فنظرنا إليه حتى هوى في السماء كأنه يحمل حملاً، فقلنا: يا رسول الله لقد رأينا عجباُ إذ هوى إلى السماء.
فقال: " إنه يكون بين جناحي ملك حتى ينتهي به حيث أراد ".
قال الحافظ ابن عساكر: هذا حديث منكر، وإسناده ليس بالقوي.
وعن الخليل بن مرة قال: بينا رجل يبيع سلعة له وهو يكثر الكلام فيها، إذ أتى عليه آتٍ فقال: يا عبد الله، إن كثرة الكلام لا تزيد في رزقك شيئاً، وإن قلة الكلام لا تنقص من رزقك شيئاً، قال: عليك شأنك يا عبد الله قال: هذا شأني، ثم ولى الرجل، فلحقه، فقال: يا عبد الله، قلت لي قولاً فأحب أن تفسره لي، قال: إن من الإيمان أن تؤثر الصدق على الكذب وإن ضرك، وأن تدع الكذب وإن نفعك، وألا يكون لقولك فضل على عملك.
قال: يا عبد الله، إني أحب أن تكتب لي هذا فإني أخاف أن أنساه، قال: فبينا أنا أكلمه إذ غاب عني فلم أره، فلقيت رجلاً من آل عمر رضي الله عنه، فأخبرته.
فقال: هذا من قول إلياس عليه السلام.
وفي حديث آخر بمعناه قال: كانوا يرونه الخضر أو إلياس عليهما السلام.
وعن ثابت قال: كنا مع مصعب بن الزبير بسواد الكوفة، فدخلت حائطاً أصلي ركعتين، فافتتحت " حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول " فإذا رجل من خلفي على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنة.
فقال لي: إذا(5/29)
قلت: " غافر الذنب " فقل: يا غافر الذنب اغفر لي ذنبي، وإذا قلت: " قابل التوب " فقل: يا قابل التوب، تقبل توبتي، وإذا قلت: " شديد العقاب " فقل: يا شديد العقاب لا تعاقبني، وإذا قلت: " ذي الطول " فقل: يا ذا الطول طل علي منك برحمة.
فالتفت فإذا لا أحد، خرجت فقلت: مر بكم رجل على بغلة شهباء عليه مقطعات يمنةٍ؟ فقال: ما مر بنا أحد فكانوا لا يرون إلا أنه إلياس.
أماجور
ولي إمرة دمشق في أيام المعتمد على الله سنة ست وخمسين ومائتين.
ومات سنة أربع وستين ومائتين، وكان أميراً مهاباً ضابطاً لعمله، خشناً، شجاعاً، لا يقطع في جميع أعماله الطريق، فوجه مرة فارساً إلى أذرعات في رسالة، فلما رجع الفارس من أذرعات نزل اليرموك، فصادف في القرية رجلاً من الأعراب، فلما رأى الأعرابي الجندي مد يده فنتف من سبال الجندي خصلتين من شعر.
فلما أن رجع الفارس إلى دمشق اتصل الخبر بأماجور ما فعل الأعرابي بالفارس، فدعاه أماجور فسأله عن القصة؟ فأخبره، فأمر بالفارس فحبس، ثم قال لكاتبه: اطلبوا معلماً يعلم الصبيان فجاؤوا بمعلم، فقال أماجور للمعلم: هو ذا أعطيك نفقة واسعة وتخرج إلى اليرموك، وأعطيك طيوراً تكون معك، فإذا دخلت القرية، تقول لهم: إني معلم جئت أطلب المعاش، وأعلم صبيانكم، فإذا تمكنت من القرية، فارصد لي الأعرابي الذي نتف سبال الفارس، وخذ خبره واسمه، ولا تبرح من القرية وإن بقيت بها مدة طويلة، حتى يوافي هذا الأعرابي القرية، فإذا رأيته قد وافى، فخذ هذا الكتاب الذي أعطيك، وادفعه إلى أهل القرية حتى يقرؤوه، ثم أرسل الطيور إلي بخبرك طيراً خلف طير، ففعل المعلم ذلك، ووافى اليرموك، وأقام بها ستة أشهر، حتى وافى الأعرابي القرية، فلما أن رآه المعلم أخرج كتاب أماجور إلى القرية: الله الله في(5/30)
أنفسكم، اشغلوا الأعرابي إلى ما أوافيكم، فإن جئت ولم أوافه خربت القرية، وقتلت الرجال.
وخلى المعلم الطيور إلى دمشق بخبر الأعرابي، وموافاته القرية، فلما أن وصل الخبر إلى أماجور ضرب بالبوق، وخرج من وقته حتى وافى اليرموك في أسرع وقت وأحدقوا بالقرية، فأصاب الأعرابي في وسط القرية، فأخذه وأردفه خلف بعض غلمانه، ووافى به دمشق، فلما أصبح أماجور دعا بالأعرابي فقال له: ما حملك على أن رأيت رجلاً من أولياء السلطان في قرية لم يؤذك ولم يعارضك، نتفت خصلتين من سباله، فقال الأعرابي: كنت سكران أيها الأمير لم أعقل ما فعلت، فقال أماجور: ادعوا لي بحجام، فأتي بحجام، فقال: لا تدع في وجه الأعرابي ولا في رأسه، ولا على بدنه شعرة إلا نتفتها، فبدأ بأشفار عينيه ثم بحاجبيه ثم بلحيته ثم بشاربه، ثم برأسه، ثم بيديه، فما ترك عليه شعرة إلا نتفها، ثم قال: هاتوا الجلادين، فأتي بالجلادين، فضربه أربع مئة سوط، ثم أمر بحبسه، فلما كان من الغد، دعا به فضربه أربع مئة سوط آخر، ثم قطع يديه، فلما أن كان اليوم الثالث قطع رجليه فلما أن كان في اليوم الرابع ضرب رقبته وصلبه، ثم دعا بذلك الجندي من الحبس، فضربه مائة عصا وأسقط اسمه، وقال: أنت ليس فيك خير لنفسك حيث رأيت أعرابياً واحداً ليس معه أحد ولا غلمان ولا أصحاب استخذيت له وخضعت له حتى فعل بسبالك ما فعل.
كيف يكون لي فيك خير إذا احتجت إليك؛ وطرده.
قال أبو يعقوب الأذرعي: لما بنى أماجور الفندق الذي في الخواصين كتب على بابه: مائة سنة وسنة.
قال: فما عاش بعد أن كتب ذلك إلا مائة يوم ويوم، وتوفي أماجور أمير دمشق في سنة أربع وستين ومائتين.
قال أبو علي الحسن بن قريش المحاملي: رأيت أماجور الأمير في النوم، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي.
قلت: بماذا؟ قال: بضبطي لطرق المسلمين، وطريق الحاج.
أمد بن أبد الحضرمي اليماني
أحد المعمرين، استقدمه معاوية بن أبي سفيان.
قالوا: إن معاوية قال: إني لأحب أن ألقى رجلاً قد أتت عليه سنٌّ، وقد رأى(5/31)
الناس يخبرنا عما رأى.
فقال بعض جلسائه: ذلك رجل بحضرموت.
فأرسل إليه، فأتي به، فقال له: ما اسمك؟ قال: أمد.
قال: ابن من؟ قال: ابن أبد.
قال: ما أتى عليك من السن؟ قال: ستون وثلاث مائة.
قال: كذبت.
قال: ثم إن معاوية تشاغل عنه، ثم أقبل عليه، فقال: ما اسمك؟ قال: أمد.
قال: ابن من؟ قال: أبد.
قال: كم أتى عليك من السن؟ قال: ثلاث مئة وستون سنة.
قال: فأخبرنا عما رأيت من الأزمان، أين زماننا هذا من ذلك؟ قال: وكيف تسأل من تكذب؟ قال: إني ما كذبتك، ولكني أحببت أن أعلم كيف عقلك.
قال: قال: يوم شبيه بيوم، وليلة شبيه بليلة، يموت ميت، ويولد مولود، فلولا من يموت لم تسعهم الأرض، ولولا من يولد لم يبق أحد على وجه الأرض.
قال: فأخبرني هل رأيت هاشماً؟ قال: نعم رأيته رجلاً طوالاً، حسن الوجه، يقال، إن بين عينيه بركةً أو غرة بركةٍ.
قال: فهل رأيت فهل رأيت أمية؟ قال: نعم، رأيته رجلاً قصيراً أعمى، يقال: إن في وجهه شراً أو شؤماً: قال: فهل رأيت محمداً؟ قال: من محمد؟ قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: ويحك، ألا فخمته كما فخمه الله؟ فقلت: رسول الله.
قال: فأخبرني، ما كانت صناعتك؟ قال: كنت رجلاً تاجراً.
قال: فما بلغت تجارتك؟ قال: كنت لا أشتري عيباً ولا أرد ربحاً.
قال له معاوية: سلني.
قال: أسألك أن تدخلني الجنة.
قال: ليس ذلك بيدي ولا أقدر عليه، قال: أسألك أن ترد علي شبابي، قال: ليس ذاك بيدي ولا أقدر عليه، قال: لا أرى بيديك شيئاً من أمر الدنيا ولا من أمر الآخرة.
قال: فردني من حيث جئت، قال: أما هذا فنعم.
ثم أقبل معاوية على أصحابه، فقال: لقد أصبح هذا زاهداً فيما أنتم فيه راغبون.
قالوا: كذا جاء اسمه، فالله أعلم، هل هو اسمه الذي سمي به، أو هو اسم سمى به نفسه عند طول عمره؟(5/32)
امرؤ القيس بن حجر
ابن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار ابن عمرو بن معاوية بن الحارث بن يعرب بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة، أبو يزيد ويقال أبو وهب ويقال أبو الحارث.
كان بأعمال دمشق.
وقد ذكر مواضع من أعمالها في شعره، فمن ذلك قوله: " من الطويل "
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل
وكل هذه مواضع معروفة بحوران ونواحيها.
ومن ذلك قوله في قصيدة: " من الطويل "
ولما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
ثم قال بعدها أبيات منها:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ... ولابن جريجٍ كان في حمص أنكرا
ففي كتاب طبقات الشعراء للجاهليين: في الطبقة الأولى: امرؤ القيس بن حجر.
قال ابن كلبي: إنما سمي حجر بن عمرو بن معاوية الأكرمين آكل المرار لأن امرأته هند بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية الأكرمين لما أغار عليه ابن الهيولة السليحي فأخذها، فقال:(5/33)
كيف ترين الآن حجراً؟ فقالت: أراه والله خبيث الطلب، شديد الكلب، كأنه بعير أكل مراراً.
والمرار نبتٌ حارٌ يأكله البعير، فيتقلص منه مشفره.
وكان حجر أفوه خارج الأسنان فشبهته به، فسمي آكل المرار بذلك.
حدث ابن الكلبي أن قوماً أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه عن أشعر الناس.
فقال: ائتوا ابن الفريعة، يعني حسان.
فأتوه.
فقال: ذو القروح، يعني: امرؤ القيس، فرجعوا فأخبروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: صدق، رفيع في الدنيا خامل في الآخرة، شريف في الدنيا، وضيع في الآخرة، هو قائد الشعراء إلى النار.
أو كما قال.
قال محمد بن الحسن المخزومي: قيل لحسان بن ثابت: من أشعر الناس؟ قال: أبو أمامة يعني النابغة الذبياني.
قال: ثم من؟ قال: حسبك بي مناضلاً أو منافحاً.
قيل: فأين أنت من امرؤ القيس؟ قال: إنما كنت في ذكر الإنس.
قدم قوم من اليمن على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: يا محمد أحيانا الله ببيتين من شعر امرئ القيس بن حجر.
قال: " وكيف ذلك "؟ قالوا: أقبلنا نريدك فضللنا فبقينا ثلاثاً بغير ماء، فاستظللنا بالطلح والسمر وفي رواية فانطلق كل رجل منا إلى أصل شجرةٍ ليموت في ظلها فبينا نحن في آخر رمق إذ أقبل فأقبل راكب متلثم بعمامة، وتمثل رجل منا ببيتين: " من الطويل "
ولما رأت أن الشريعة همها ... وأن البياض من فرائضها دامي
تيممت العين التي عند ضارجٍ ... يفيء عليها الطلح عرمضها طامي
فقال الراكب: من يقول هذا الشعر؟ قال: امرؤ القيس بن حجر.
قال: فلا والله(5/34)
ما كذب.
هذا ضارج عندكم، فحبونا على الركب إلى ماء كما ذكر، عليه العرمض، يفيء عليه الطلح، فشربنا رينا، وحملنا ما بلغنا من الطريق.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها، منسيٌ في الآخرة، خاملٌ فيها، يجيء يوم القيامة معه لواء الشعر إلى النار ".
ويقال: إن لبيداً قدم المدينة قبل إسلامه فقال رجل من قريش لرجل منهم: انهض إلى لبيد، فاسأله أن يسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أشعر الناس؟ فنهض إليه فسأله.
قال: " إن شئت أخبرتك من أعلمهم ".
قال: بل أشعرهم.
قال: " يا حسان! أعلمه "، فقال حسان: الذي يقول: " من الطويل "
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب والحشف البالي
قال: هذا امرؤ القيس، فمن الثاني؟ قال: " يا حسان أعلمه ".
قال: الذي يقول: " من المتقارب "
كأن تشوفه بالضحى ... تشوف أزرق ذي مخلب
إذا سل عنه جلالٌ له ... يقال سليبٌ ولم يسلب
قال لبيد: وهذا له أيضاً.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو أدركته لنفعته ".
ثم قال: " معه لواء الشعراء يوم القيامة حتى يتدهدى بهم في النار ".
فقال لبيد: ليت هذه المقالة قيلت لي، وأني أدهدى في النار، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه.
قال أبو سليمان الخطابي في حديث عمر، أنه ذكر امرأ القيس، فقال: خسف لهم عين الشعر، وافتقر عن معانٍ عورٍ أصح بصراً.
فسره ابن قتيبة في كتابه، فقال: خسف من الخسيف، وهو البئر يحفر في حجارة،(5/35)
فيستخرج منها ماءٌ كثير.
وافتقر: فتح، وهو من الفقير.
والفقير: فم القناة.
وقوله: عن معان عور.
يريد أن امرأ القيس من اليمن، وليست لهم فصاحة.
قال أبو سليمان: هذا لا وجه له، ولا موضع لاستعماله فيمن لا فصاحة له، وإنما أريد بالعور ههنا: غموض المعاني ودفنها من قولك: عورت الركية إذا دفنتها، وركية عوراء، قال الشاعر: " من الزجر "
ومنهل أعور إحدى العينين ... بصيرة الأخرى أصم الأذنين
جعل العين التي تنبع بالماء بصيرة، وجعل المندفنة عوراء، فالمعاني العور على هذا: هي الباطنة الخفية.
كقولك: هذا كلام معمى: أي غامض غير واضح.
أراد عمر أنه قد غاص على معان خفية على الناس، فكشفها لهم.
وضرب العور مثلاً لغموضها وخفائها، وصحة البصر مثلاً في ظهورها وبيانها.
وذلك كما أجمعت عليه الرواة، من سبقه إلى معان كثيرة لم يحتذ فيها على مثال متقدم: كابتدائه في القصيدة بالنسيب، والبكاء في الأطلال، والتشبيهات المصيبة، والمعاني المقتضبة التي تفرد بها، فتبعه الشعراء عليها، وامتثلوا رسمه فيها.
قال يونس بن حبيب: علماء البصرة يقدمون امرأ القيس بن حجر، وأله الكوفة يقدمون الأعشى، وأهل الحجاز والبادية يقدمون زهيراً والنابغة.
قال ابن سلام: واحتج لامرئ القيس من يقدمه، وليس أنه قال ما لم يقولوا، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، استحسنتها العرب واتبعته فيها الشعراء، منه: استيقاف صحبه، والبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وتشبيه النساء بالظباء والبيض، وتشبيه الخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين(5/36)
المعنى، وكان أحسن طبقته تشبيهاً؛ وأحسن الإسلام تشبيهاً ذو الرمة.
قال أبو عبيدة: ذهبت اليمن بجد الشعر وهزله؛ فجده امرؤ القيس، وهزله أبو نواس.
سئل الفراء يحيى بن زياد القيسي النحوي عن أشعر العرب؟ فأبى أن يقول، فقيل له: إنك لهذا موضع فقل، فقال: كان زهير بن أبي سلمى واضح الكلام، مكتفية بيوته، البيت منها بنفسه كافٍ، وكان جيد المقاطع، وكان النابغة جزل الكلام حسن الابتداء والمقطع، يعرف في شعره قدرته على الشعر، لم يخالطه ضعف الحداثة.
وكان امرؤ القيس شاعرهم الذي علم الناس الشعر والمديح والهجاء بسبقه إياهم، وإنه إن كان خارجاً من حد الشعراء ينوفهم وكان لطرفة شيء ليس بالكثير، وليس كما يذهب إليه بعض الناس لحداثته، وكان لو متع بسنٍّ حتى يكبر معه شعره، كان خليقاً أن يبلغ المبالغ.
وكان الأعشى يضع لسانه من الشعر حيث شاء، وكان الحطيئة نقي الشعر، قليل السقط، حسن الكلام مستويه، وكان لبيد وابن مقبل يجريان مجرىً واحداً في خشونة الكلام وصعوبته.
وليس ذلك بمحمودٍ عند أهل الشعر، وأهل العربية يشتهونه لكثرة غريبه، وليس يجود الشعر عند أهله حتى يكون صاحبه يقدر على تسهيله وإيضاحه؛ فإذا نزلت عن هؤلاء فجرير والفرزدق، فهما اللذان فتقا الشعر وعلما الناس، وكادا يكونان خاتمي الشعر.
وكان ذو الرمة مليح الشعر يشبه فيجيد ويحسن، ولم يكن هجاءً ولا مداحاً، وليس الشاعر إلا من هجا فوضع، أو مدح فرفع، كالحطيئة والأعشى فإنهما كانا يرفعان ويضعان، ثم قال الفراء: والله الرافع والواضع.
قال ابن الكلبي: لما أقبل امرؤ القيس بن حجر يريد بني أسد ثائراً بأبيه، وكان مرثد بن علس بن ذي حزن ملك جهينة قد أمده بخمس مائة رجل من حمير رماة، فسار حتى مر بتبالة وبها ذو الخلصة، وكانت العرب كلها تعظمه، فدخل امرؤ القيس عليه وعنده قداح له ثلاثة: الآمر والناهي والمتربص، يستسقم في قتال بني أسد، فخرج(5/37)
الناهي، فأعاد، فخرج الناهي، فأعاد، فخرج الناهي، فكسر الأقداح وضرب بها وجه ذي الخلصة، وقال: عضضت بأير أبيك، لو كان أبوك المقتول لما عوقتني، ثم أغار على بني أسد فقتلهم قتلاً ذريعاً، فلم يستسقم عند ذي الخلصة حتى جاء الله بالإسلام.
قال أبو عمرو بن العلاء: أقبل امرؤ القيس حتى لقي الحارث التوأم اليشكري وكان الحارث يكنى أبا شريح، فقال امرؤ القيس: " من الوافر "
أحار ترى بريقاً لم يغمض
فقال الحارث:
كنار مجوس تستعر استعارا
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال الحارث:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن حنينه والذعر فيه
فقال الحارث:
عشارٌ ولهٌ لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك ببطن الجو ظبياً
فقال الحارث:
ولم يترك بعرصتها حمارا(5/38)
فقال امرؤ القيس:
فلما إذ علا بقفا أضاحٍ
قال الحارث:
وعت أعجاز ريقه فحارا
فقال امرؤ القيس: لا بغيت أحداً بعدك بالشعر.
قال الشافعي: قال امرؤ القيس: " من الطويل "
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
كذبت لقد أصبي على المرء عرسه ... وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي
ومن شعره:
فلو أن ما سعى لأدنى معيشةٍكفاني ولم أطلب قليلٌ من المال
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
قال خالد بن يزيد الكاتب: بينا أنا مارٌ بباب الطاق إذ براكب خلفي على بغلة، فلما لحقني نخسني بسوطه، فقال: أنت القائل يا خويلد:
وليل المحب بلا آخر؟
قلت: نعم! قال: لله أبوك، وصف امرؤ القيس الليل الطويل في ثلاثة أبيات، ووصفه النابغة في ثلاثة أبيات، ووصفه بشار بن برد في ثلاثة أبيات، وبرزت عليهم بشطر(5/39)
كلمة فلله أبوك.
قلت: وبم وصفه امرؤ القيس؟ فقال: بقوله: " من الطويل "
وليلٍ، كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بجوزه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبحٍ وما الإصباح فيك بأمثل
قلت: وبما وصفه النابغة؟ فقال: بقوله: " من الطويل "
كليني لهمٍّ يا أميمة ناصب ... وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب
وصدرٍ أراح الليل عازب همه ... تضاعف فيه الهم من كل جانب
تقاعس حتى قلت ليس بمنقضٍ ... وليس الذي يهدي النجوم بآيب
قلت له: وبم وصفه بشار؟ فقال: بقوله: " من الطويل "
خليلي ما بال الدجى لا تزحزح ... وما بال ضوء الصبح لا يتوضح؟
أظن الدجى طالت وما طالت الدجى ... ولكن أطال الليل سقم مبرح
أضل النهار المستنير طريقه ... أم الدهر ليلٌ كله ليس يبرح؟
قلت له: يا مولاي هل لك في شعر قلته لم أسبق إليه؟ قال: نعم.
فقلت: " من مجزوء الرمل "
كلما اشتد خضوعي ... لجوىً بين ضلوعي
ركضت في حلبتي خد ... ي خيلٌ من دموعي
قال: فثنى رجله من بغلته وقال: هاكها فاركبها فأنت أحق بها مني.
فلما مضى سألت عنه فقيل: هو أبو تمام حبيب بن أوس الطائي.(5/40)
ومن شعر امرئ القيس: " من الطويل "
إذا قلت هذا صاحبٌ قد رضيته ... وقرت به العينان بدلت آخرا
وذلك أني لم أثق بمصاحبٍ ... من الناس إلا خانني وتغيرا
ولما احتضر امرؤ القيس بأنقرة نظر إلى قبر فسأل عنه فقالوا: قبر امرأة غريبة فقال: " من الطويل "
أجارتنا إن المزار قريب ... وإني مقيمٌ ما أقام عسيب
أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكل غريبٍ للغريب نسيب
وروي أن هذين البيتين وجدا على قبر أبي نواس مكتوبين والبيت الأول:
أجارتنا إن الخطوب تنوب
امرؤ القيس بن عابس بن المنذر
ابن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية ابن كندة، وهو ثور بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الكندي، وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسلم، ورجع إلى بلاد قومه، وثبت على إسلامه، فلم يرتد مع من ارتد من كندة، ثم خرج إلى الشام مجاهداً وشهد اليرموك.
وكان امرؤ القيس بن عابس نازلاً ببيسان من الشام.
وكان شاعراً.(5/41)
حدث رجاء بن حيوة وعرس بن عميرة أن رجلاً من حضرموت وامرأ القيس بن عابس كان بينه وبين آخر خصومة في أرض له، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحضرمي البينة، فلم تكن له بينة، فقضى على امرئ القيس باليمين، فقال الحضرمي: يا رسول الله، أمكنته من اليمين، ذهبت والله أرضي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها - يعني مال امرئٍ مسلم - لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان ".
قال: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأ القيس فتلا عليه هذه الآية: " إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً " إلى آخر الآية.
قال امرؤ القيس: يا رسول الله، ماذا لمن تركها؟ قال: " الجنة ".
قال: فإني أشهدك أني قد تركتها.
وكان امرؤ القيس جاهلياً وأدرك الإسلام.
ووفد إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام على الإسلام، وكان له غناءٌ في الردة، وهو القائل: " من الوافر "
ألا أبلغ أبا بكرٍ رسولاً ... وخص بها جميع المسلمينا
فلست مجاوراً أبداً قبيلاً ... بما قال الرسول مكذبينا
دعوت عشيرتي للسلم حتى ... رأيتهم أغاروا مفسدينا
فلست مبدلاً بالله رباً ... ولا متبدلاً بالسلم دينا
أمية بن أبي الصلت عبد الله
ابن أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن، أبو عثمان، ويقال أبو الحكم الثقفي.
شاعر جاهلي، قدم دمشق قبل الإسلام، وقيل: إنه كان نبياً وإنه كان في أول أمره على الإيمان، ثم زاغ عنه، وأنه هو الذي أراد الله تعالى بقوله: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ".(5/42)
قال أبو سفيان: خرجت وأمية بن أبي الصلت الثقفي تجاراً إلى الشام، فكلما نزلت منزلاً أخذ أمية سفراً له يقرؤها علينا.
فكنا كذلك حتى نزلنا قرية من قرى النصارى فجاؤوه وأهدوا له وأكرموه، وذهب معهم إلى بيتهم، ثم رجع في وسط النهار، فطرح ثوبيه، وأخذ ثوبين له أسودين فلبسهما وقال لي: يا أبا سفيان، هل لك في عالم من علماء النصارى إليه يتناهى علم الكتاب نسأله؟ قلت: لا أرب لي فيه، والله لئن حدثني بما أحب لا أثق به، ولئن حدثني بما أكره لأوجلن منه، قال: فذهب، وخالفه شيخ من النصارى، فدخل علي فقال: ما يمنعك أن تذهب إلى هذا الشيخ؟ قلت: ألست على دينه، قال: وإن، فإنك تسمع منه عجباً وتراه؛ ثم قال لي: أثقفي أنت؟ قلت: لا ولكني قرشي.
قال: فما يمنعك من الشيخ، فوالله إنه ليحتكم، ويوصي بكم.
قال: فخرج من عندنا، ومكث أمية حتى جاءنا، بعد هدأة من الليل، فطرح ثوبيه ثم انجدل على فراشه، فوالله ما نام ولا قام حتى أصبح كئيباً حزيناً ساقطاً غبوقه على صبوحه، ما يكلمنا ولا نكلمه، ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: وهل بك من رحيل؟ قال: نعم، قال: فرحلنا فسرنا بذلك ليلتين من همه، ثم قال لي في الليلة الثالثة: ألا تحدث يا أبا سفيان؟ قلت: وهل بك من حديث؟ قال: والله ما رأيت مثل الذي رجعت به من عند صاحبك، قال: أما إن ذلك لشيءٌ لست فيه إنما ذلك جلت به من منقلبي؟ قال: قلت: وهل لك من منقلب؟ قال: إني والله لأموتن ثم لأحيين، قال: قلت: هل أنت قابل أمانتي؟ قال: على ماذا؟ قلت: على أنك لا تبعث ولا تحاسب، قال: فضحك ثم قال: بلى والله يا أبا سفيان، لنبعثنّ ولنحاسبنّ وليدخلنّ فريق الجنة وفريق النار، فقلت: ففي أيهما أنت أخبرك صاحبك؟ قال: لا علم لصاحبي بذلك لا فيّ ولا في نفسه، قال: فكان في ذلك ليلتين، يعجب مني وأضحك منه حتى قدمنا غوطة دمشق فبعنا متاعنا فأقمنا بها شهرين، فارتحلنا حتى نزلنا قرية من قرى النصارى، فلما رأوه جاؤوه وأهدوا له وذهب معهم إلى بيعتهم حتى بعدما انتصف النهار، فلبس ثوبيه وذهب إليهم حتى جاءنا بعد هدأة الليل، فطرح ثوبيه ورمى بنفسه على فراشه، فوالله ما نام ولا قام وأصبح حزيناً كئيباً لا يكلمنا ولا نكلمه، ثم قال: ألا ترحل؟ قلت: بلى إن شئت، فرحلنا كذلك من بثه وحزنه ليالي، ثم قال لي: يا أبا سفيان، هل لك في المسير نتقدم أصحابنا؟ قلت: هل لك فيه؟ قال: فسر،(5/43)
فسرنا حتى برزنا من أصحابنا ساعة ثم قال: هيا صخر! قلت: ما تشاء؟ قال: حدثني عن عتبة بن ربيعة أيجتنب المظالم والمحارم؟ قلت: إي والله، قال: ويصل الرحم ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله.
قال: وكريم الطرفين وسيط في العشيرة؟ قلت: نعم.
قال: فهل تعلم قرشياً أشرف منه؟ قلت: لا والله لا أعلمه.
قال: أمحوج هو؟ قلت: لا بل هو ذو مال كثير.
قال: وكم أتى عليه من السن؟ قلت: قد زاد على المائة.
قال: فالشرف والسن والمال أزرين به.
قلت: ولم ذاك يزري به؟ لا والله بل يزيده خيراً.
قال: هو ذلك، هل لك في المبيت؟ قلت: هل لي فيه؟ قال: فاضطجعنا حتى مر الثقل، قال: فسرنا حتى نزلنا في المنزل، وبتنا به، ثم رحلنا منه، فلما كان الليل قال لي: يا أبا سفيان، قلت: ما تشاء؟ قال: هل لك في مثل البارحة؟ قلت: هل لي فيه؟ قال: فسرنا على ناقتين بختيتين حتى إذا برزنا قال: هيا صخر هيه عن عتبة بن ربيعة، قلت: هيهاً فيه، قال: أيجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم، ويأمر بصلتها؟ قلت: إي والله إنه ليفعل.
فقال: وذو مال؟ قال: أتعلم قرشياً أسود منه؟ قلت: لا والله ما أعلمه.
قال: كم أتى له من السن؟ قلت: قد زاد على المائة، قال: فإن السن والشرف والمال أزرين به.
قلت: كلا والله ما أزرى به ذاك، وأنت قائل شيئاً فقله.
قال: لا تذكر حديثي حتى يأتي منه ما هو آتٍ، ثم قال: فإن الذي رأيت أصابني أني جئت هذا العالم، فسألته عن أشياء، ثم قلت: أخبرني عن هذا النبي الذي ينتظر قال: هو رجل من العرب.
قلت: قد علمت أنه من العرب فمن أي العرب هو؟ قال: من أهل بيت يحجه العرب.
قلت: وفينا بيت يحجه العرب؟! قال: هو من إخوانكم من قريش، قال: فأصابني والله شيء ما أصابني مثله قط، وخرج من يدي فوز الدنيا والآخرة وكنت أرجو أن أكون إياه.
فقلت: فإذا كان ما كان فصفه لي، قال: رجل شاب حتى دخل في الكهولة، بدوّ أمره يجتنب المظالم والمحارم ويصل الرحم ويأمر بصلتها، وهو محوج كريم الطرفين متوسط في العشيرة، أكثر جنده الملائكة.
قلت: وما آية ذلك؟ قال: قد رجفت الشام منذ هلك عيسى بن مريم عليه السلام ثلاثين رجفة كلها مصيبة وبقيت رجفة عامة فيها مصائب.
قال أبو سفيان: قلت له: هذا والله الباطل.
لئن بعث الله رسولاً لا يأخذه إلا(5/44)
مسناً شريفاً.
قال أمية: والذي حلفت به إن هذا لهكذا يا أبا سفيان، تقول إن قول النصراني حق.
هل لك في المبيت؟ قلت: هل لي فيه؟ قال: فبتنا حتى جاءنا الثقل، ثم خرجنا حتى إذا كنا بيننا وبين مكة ليلتان أدركنا راكب من خلفنا، فسألناه، فإذا هو يقول أصابت أهل الشام بعدكم رجفةٌ، دمر أهلها وأصابتهم فيها مصائب عظيمة.
قال أبو سفيان: فأقبل علي أمية فقال:: كيف ترى قول النصراني يا أبا سفيان؟ قلت: أرى والله وأظن أن ما حدثك صاحبك حق.
قال: فقدمنا مكة، فقضيت ما كان معي ثم انطلقت حتى جئت اليمن تاجراً، فكنت بها خمسة أشهر، ثم قدمت مكة، فبينا أنا في منزلي جاءني الناس، يسلمون علي، ويسألون عن بضائعهم، ثم جاءني محمد بن عبد الله، وهند عندي تلاعب صبيانها، فسلم علي ورحب بي وسألني عن سفري ومقامي، ولم يسلني عن بضاعته، ثم قام فقلت لهند: والله إن هذا يعجبني، ما من أحد من قريش له معي بضاعة إلا قد سألني عنها، وما سألني هذا عن بضاعته، فقالت لي هند: وما علمت شأنه؟ قلت وفزعت: ما شأنه؟ قالت: يزعم أنه رسول الله، فوقذتني، وذكرت قول النصراني فوجمت حتى قالت هند: ما لك؟ فانتبهت فقلت: إن هذا لهو الباطل، لهو أعقل من أن يقول هذا.
قالت: بلى والله إنه ليقول ذلك، ويواتى عليه وإن له لصحابة على دينه.
قلت: هذا الباطل.
قال: وخرجت فبينا أنا أطوف بالبيت لقيته فقلت: إن بضاعتك قد بلغت كذا وكذا وكان فيها خير فأرسل فخذها ولست آخذ منك فيها ما آخذ من قومي، فأبى علي وقال: إذاً لا آخذها.
فأرسلت: فأرسل فخذها وأنا آخذ منك ما آخذ من قومي.
فأرسل إلى بضاعته فأخذها، وأخذت منه ما كنت آخذ من غيره ولم أنشب أن خرجت إلى اليمن، فقدمت الطائف، فنزلت على أمية بن أبي الصلت، فقلت له: يا أبا عثمان، قال: ما تشاء؟ قلت: هل تذكر حديث النصراني؟ قال: أذكره.
قلت: فقد كان.
قال: ومن؟ قلت: محمد بن عبد الله.
قال: ابن عبد المطلب؟ قلت: ابن عبد المطلب، ثم قصصت عليه خبر هند.
قال: فالله يعلم لتصبب عرقاً، ثم قال: والله يا أبا سفيان لعله أن صفته لهي، ولئن ظهر وأنا حي لآتلين إلى الله في نصره عذراً.
قال: ومضيت إلى(5/45)
اليمن فلم أنشب أن جاءني هناك استهلاله، فأقبلت حتى نزلت على أمية بن أبي الصلت بالطائف، فقلت: أبا عثمان، قد كان أمر الرجل ما قد بلغك وسمعت، قال: قد كان لعمري.
قلت: فأين أنت منه يا أبا عثمان؟ قال: والله ما كنت لأومن برسول من غير ثقيف أبداً.
قال أبو سفيان: وأقبلت إلى مكة فوالله ما أنا ببعيد حتى جئت مكة فوجدت أصحابه يضربون ويحقرون، قال أبو سفيان: فجعلت أقول: فأين جنده من الملائكة؟ قال: فدخلني ما يدخل الناس من النفاسة.
وعن نافع بن عاصم بن مسعود قال: إنني لفي حلقة فيها عبد الله بن عمر فقرأ رجل من القوم الآية التي في الأعراف: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ".
قال هل تدرون من هو؟ قال بعضهم: هو صيفي بن الراهب، وقال آخر: بل هو بلعم رجل من بني إسرائيل.
قال: لا.
قالوا: فمن هو؟ قال: هو أمية بن أبي الصلت.
قال الكلبي: بينا أمية راقد ومعه ابنتان له؛ إذ فزعت إحداهما فصاحت عليه، فقال: ما شأنك؟ قالت: رأيت نسرين كشطا سقف البيت فنزل أحدهما إليك فشق بطنك والآخر واقف على ظهر البيت، فناداه، فقال: أوعى؟ قال: نعم، قال: أزكا؟ قال: لا، فقال: ذاك خير أريد بأبيكما فلم يقبله.
حدث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: استنشدني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شعر أمية بن أبي الصلت فأنشدته مائة بيت كلما أنشدته ما فيه قال: " إنه قد كاد أن يسلم ".(5/46)
وحدث الشريد الهمداني قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع، فبينا أنا أمشي ذات يوم إذا وقع ناقة خلفي، فالتفت فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " الشريد؟ " فقلت: نعم، قال: " ألا أحملك؟ " قلت: بلى.
وما بي من عناءٍ ولا لغوب، ولكن أردت البركة في ركوبي مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأناخ، فحملني، فقال: " أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت؟ " قلت: نعم.
قال: " هات ".
فأنشدته.
قال: " أظنه قال مئة بيت، فقال: عند الله علم أمية بن الصلت ".
قال أبو هريرة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكاد ابن أبي الصلت أن يسلم ".
وعن ابن عباس قال: أنشد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أمية بن أبي الصلت: " من الكامل "
رجلٌ وثور تحت رجل يمينه ... والنسر للأخرى وليثٌ مرصد
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فصدق ".
وأنشد قوله:
والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ ... صفراء يصبح لونها يتورد
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صدق ".
وأنشد قوله:
تأبى فما تطلع لنا في رسلها ... إلا معذبةً وإلا تجلد
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صدق ".
وعن عكرمة قال: قال ابن عباس: إن الشمس تطلع كل سنة في ثلاث مئة وستين كوة، تطلع كل يوم في كوة لا ترجع إلى تلك الكوة إلا ذلك اليوم من العام القابل، ولا تطلع إلا وهي كارهة، فتقول: رب لا(5/47)
تطلعني على عبادك فإني أراهم يعصونك، يعملون بمعاصيك.
فقال: أو لم تسمعوا إلى ما قال أمية بن الصلت: حتى تجبر وتجلد؟ قلت: يا مولاي؟ أو تجلد الشمس؟ فقال: عضضت على هن أبيك إنما اضطر الروي إلى الجلد.
وعن عكرمة قال: قلت لابن عباس: أرأيت ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمية بن أبي الصلت، آمن شعره، وكفر قلبه؟ فقال: هو حقٌّ فما أنكرتم من ذلك؟ قلت: أنكرنا قوله:
والشمس تطلع كل آخر ليلةٍ ... صفراء يقبح لونها يتورد
ليست بطالعةٍ لهم في رسلها ... إلا معذبةً وإلا تجلد
ما بال الشمس تجلد؟ فقال: والذي نفسي بيده ما طلعت الشمس قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك، فيقولون لها: اطلعي اطلعي، فتقول: لا أطلع على قوم يعبدونني من دون الله، فيأتيها ملكٌ، فيستقل لضياء بني آدم، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع بين قرنيه فيحرقه الله تحتها، وذلك قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما طلعت إلا بين قرني شيطان ".
وما غربت الشمس قط إلا خرت لله ساجدة، فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب بين قرنيه فيحرقه الله تحتها.
وقد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولا غربت إلا بين قرني شيطان ".
قال ابن أبي الدنيا: إن لله تعالى من العلوم ما لا يحصى، يعطي كل واحد من ذلك ما لا يعطي غيره.
لقد روي عن بكر السهمي عن أبيه أن قوماً كانوا في سفر، فكان فيهم رجل يمر الطائر فيقول: تدرون ما يقول هذا؟ فيقولون: لا فيقول: يقول: كذا وكذا، فيحيلنا على شيء لا ندري أصادق هو أم كاذب إلى أن مروا على غنم وفيها شاة قد تخلفت على سخلة لها، فجعلت تحنو عنقها إليها وتثغو فقال: أتدرون ما تقول هذه الشاة؟ قلنا: لا، قال: تقول للسخلة: الحقي لا يأكلك الذئب كما أكل أخاك عام أول في هذا المكان، قال: فانتهينا إلى الراعي، فقلنا له: ولدت هذه الشاة قبل عامك هذا؟ قال: نعم، ولدت سخلة عام أول، فأكلها الذئب بهذا المكان، ثم أتينا على قوم فيهم ظعينة على جمل لها وهو يرغو يحنو عنقه إليها، فقال: أتدرون ما يقول هذا البعير؟ قلنا: لا.
قال: فإنه يلعن(5/48)
راكبته، ويزعم أنها رحلته على مخيط، فهو مزنر في سنامه.
قال: فانتهينا إليهم، فقلنا: يا هؤلاء، إن صاحبنا هذا يزعم أن هذا البعير يلعن راكبته ويزعم أنه رحلته على مخيط وأنه في سنامه قال: فأناخوا البعير، فحطوا عنه، فإذا هو كما قال.
قال الأصمعي: كل شعر قيل في السخاء غلب عليه حاتم، وكل شعر قيل في الشجاعة غلب عليه عنترة، وكل شعر قيل في الغزل غلب عليه ابن أبي ربيعة، وكل ما قيل في الزهد غلب عليه أمية بن أبي الصلت.
قال الحسين بن الحسن المروزي: سألت سفيان بن عينية عن تفسير قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ".
فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء.
فقال: أما بلغك حديث منصور عن مالك بن الحارث يقول الله تعالى: " إذا شغل عبدي ثناؤه علي عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي للسائلين؟ " قلت: نعم، قال: هذا تفسيره، ثم قال: أما بلغك ما قال أمية بن أبي الصلت حين أتى ابن جدعان يطلب فضله ونائله فقال: " من الوافر "(5/49)
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
ثم قال: يا حسين هذا مخلوق يكتفي بالثناء عليه دون مسألته فكيف بالخالق عز وجل؟.
قال أبو عاصم: اشترى أخ لشعبة من طعام السلطان، فحبس وشركاؤه، فحبس بستة آلاف دينار بحصته، فخرج شعبة إلى المهدي ليكلمه فيه، فلما دخل عليه قال له: يا أمير المؤمنين أنشدني قتادة لأمية بن أبي الصلت بقوله لعبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
كريمٌ لا يعطله صباحٌ ... عن الخلق الكريم ولا مساء
فأرضك أرض مكرمةٍ بنتها ... بنو تيمٍ وأنت لها سماء
إذا أثنى عليك المرء يوماً ... كفاه من تعرضه الثناء
فقال: لا يا أبا سطام لا تذكرها قد عرفناها وقضيناها لك.
ادفعوا إليه أخاه، لا تلزموه شيئاً.
ومن شعر أمية بن أبي الصلت: " من الكامل "
لا ينكتون الأرض عند سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان
وإذا المقل أقام وسط رحالهم ... ردوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم لكل مهمةٍ ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان
ومن شعره: " من الطويل "
عطاؤك زينٌ لامرئٍ إن حبوته ... بخيرٍ وما كل العطاء يزين
وليس بشينٍ لامرئٍ بذل وجهه ... إليك كما بعض السؤال يشين
قال سعيد بن المسيب: قدمت الفارعة أخت أمية بن أبي الصلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد فتح مكة، وكانت ذات عقلٍ ولبٍ وجمال، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها معجباً، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: " يا فارعة هل تحفظين من شعر أخيك شيئاً؟ "، فقالت: نعم، وأعجب منه ما قد رأيت قالت: كان أخي في سفر، فلما انصرف بدأ بي، فدخل علي، فرقد على السرير وأنا أحلق أديماً في يدي إذ أقبل طائران أبيضان أو كالطيرين أبيضين، فوقع على الكوة أحدهما،(5/50)
ودخل الآخر فوقع عليه فشق الواقع عليه ما بين قصته إلى عانته، ثم أدخل يده في جوفه فأخرج قلبه فوضعه في كفه ثم شمه، فقال له الطائر الأعلى: أوعى؟ قال: وعى.
قال: أزكا؟ قال: أبى، ثم رد القلب إلى مكانه، فالتأم الجرح أسرع من طرفة عين، ثم ذهبا، فلما رأيت ذلك دنوت منه فحركته، فقلت: هل تجد شيئاً؟ قال: لا، إلا توصيباً في جسدي وقد كنت ارتعت مما رأيت، فقال لي: ما لي أراك مرتاعة؟ قالت: فأخبرته الخبر، فقال: خير أريد بي ثم أصرف عني، فأنشأ يقول من أبيات: " من المنسرح "
باتت همومي تسري طوارقها ... أكف عيني والدمع سابقها
مما أتاني من اليقين ولم ... أوت براةً يقص ناطقها
أمن تلظى عليه واقدة النار محيطٌ بهم سرادقها
أم أسكن الجنة التي وعد ال ... أبرار مصفوفةٌ نمارقها
لا يستوي المنزلان ثم ولا ال ... أعمال لا تستوي طرائقها
قالت: فلما انصرف إلى رحله لم يلبث إلا يسيراً حتى ظعن في جنازته، فأتاني الخبر، فانطلقت إليه، فوجدته منعوشاً قد سجي عليه، فدنوت منه فشهق شهقة وشق بصره ونظر نحو السقف ورفع صوته: لبيكما ها أنذا لديكما لا ذو مال فيفديني ولا ذو أهل فيحميني، ثم أغمي عليه، إذ شهق شهقة، قلت: قد هلك الرجل فشق بصره نحو السقف ورفع صوته فقال: " من مجزوء الرجز "(5/51)
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
لا ذو براءة فأعتذر، ولا ذو عشيرة فأنتصر، ثم أغمي عليه إذ شهق شهقةً، ونظر نحو السقف فقال:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
إن تغفر اللهم تغفر جماً ... وأي عبدٍ لك إلا ألما
ثم أغمي عليه إذ شهق شهقة فقال:
لبيكما لبيكما ... ها أنا ذا لديكما
" من الخفيف "
كل عيشٍ وإن تطاول دهراً ... صائرٌ مرةً إلى أن يزولا
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال أرعى الوعولا
ثم مات.
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا فارغة! إن مثل أخيك كمثل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها " إلى آخر الآية.
قال يعقوب بن السكيت: كان أمية بن أبي الصلت بسرف قال: فجاء غراب، فنعب نعبة فقال له أمية: بفيك التراب، ثم نعب نعبة أخرى قال: بفيك التراب، ثم أقبل على أصحابه، فقال: تدرون ما قال الغراب؟ يزعم أني أشرب هذا الكأس ثم أتكئ فأموت، ثم نعب نعبة أخرى، فقال: وآية ذلك أني أقع على هذه المزبلة فأبتلع عظماً ثم أقع فأموت قال: فوقع الغراب على المزبلة فابتلع عظماً فمات، فقال أمية: أما هذا فقد صدقني عن نفسه ولكن لأنظرن أيصدقني عن نفسي؟ قال: فشرب الكأس ثم اتكأ فمات.
قال ابن شهاب: قال أمية ابن أبي الصلت: " من البسيط "
ألا رسول لنا منا يخبرنا ... ما بعد غايتنا من رأس مجرانا(5/52)
قال: ثم خرج أمية إلى البحرين ونبئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقام أمية بالبحرين ثماني سنين، ثم قدم الطائف، فقال لهم: ما يقول محمد بن عبد الله؟ قالوا: يزعم أنه نبي فهو الذي كنت تتمنى.
قال: فخرج حتى قدم عليه مكة.
قال: فلقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا بن عبد المطلب ما هذا الذي تقول؟ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أقول أني رسول الله وأن الله لا إله إلا هو ".
قال: فإني أريد أن أكلمك، تعدني غداً؟ قال: " فموعدك غداً ".
قال: فتحب أن آتيك وحدي أو في جماعة من أصحابي وتأتي وحدك أو في جماعة من أصحابك؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أي ذلك شئت ".
قال: فإني آتيك في جماعة فأت في جماعة، فلما كان الغد غدا أمية في جماعةمن قريش قال: وغدا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معه نفرٌ من أصحابه حتى جلسوا في ظل البيت.
قال: فتبدأ أمية فخطب، ثم سجع ثم أنشد الشعر قال: حتى إذا فرغ قال: أجبني يا بن عبد المطلب قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بسم الله الرحمن الرحيم يس والقرآن الحكيم ".
قال: حتى إذا فرغ منها وثب أمية يجر رجليه قال: فتبعته قريش تقول: ما تقول يا أمية؟ قال: أشهد أنه الحق.
قالوا: فهل تتبعه؟ قال: حتى أنظر في أمره.
قال: ثم خرج أمية إلى الشام.
قال: وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة، فلما قتل أهل بدر، أقبل أمية من الشام حتى نزل بدراً، قال: ثم ترحل يريد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فقال قائل: يا بن أبي الصلت ما تريد؟ قال: أريد محمداً.
قال: وما تصنع؟ قال: أؤمن به وألقي إليه مقاليد هذا الأمر.
قال: تدري من في القليب؟ قال: لا.
قال: فيه عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما ابنا خالك وأمه رقيقة بنت عبد الشمس.
قال: فجدع أنف ناقته وقطع ذنبها، ثم وقف على القليب يقول: " من مجزوء الكامل "
ماذا ببدرٍ فالعقن ... قل من مرازبةٍ جحاجح
قال: فرجع إلى مكة وترك الإسلام، فخرج حتى قدم الطائف، وقدم على أخته فوجدها تجلي أدماً لها، وذكر حديث الطائرين وشق بطنه وإخراج قلبه، وقول الأعلى منهما: أوعى؟ قال: وعى.
قال: أقبل؟ قال: أبى.
قال: فرده، ثم طار، فأتبعهما(5/53)
أمية بصره، وقال: لبيكما لبيكما وقص بقية الحديث وأنشأ يقول من أبيات: " من الخفيف "
ليتني كنت قبل ما قد بدا لي ... في قنان الجبال أرعى الوعولا
فاجعل الموت نصب عينيك واحذر ... غولة الدهر إن للدهر غولا
وخرج من عندها حتى إذا كان بين بيتها وبيته أدركه الموت.
قال: ففيه أنزل الله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ".
أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد
ابن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي.
أصله من مكة قدم على عبد الملك وكانت داره بدمشق.
عن أمية بن عبد الله بن خالد أنه سأل عبد الله بن عمر قال: قلت له: أرأيت قصر الصلاة في السفر إنا لا نجدها في كتاب الله، إنما نجد ذكر صلاة الحضر؟ قال أمية: قال عبد الله بن عمر: يا بن أخي إن الله أرسل إلينا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نعلم شيئاً، وإنما نعمل ما رأينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل.
وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال خليفة بن خياط: وفي سنة ثلاث وسبعين بعث خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وهو والي البصرة أخاه أمية بن عبد الله إلى البحرين إلى أبي فديك في جمع كثير، فالتقوا فانهزم أمية وأهل البصرة.(5/54)
قال: سنة أربع وسبعين، فيها بعث عبد الملك بن مروان عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي إلى أبي فديك، فقتل أبو فديك، وكتب عبد الملك إلى بكير: إن قتلت ابن خازم أو أخرجته من خراسان فأنت الأمير، فقتل بكيرٌ ابن خازم، وأقام والياً على حتى قدم أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد فعزله، وولى أمية - يعني خراسان - ثم عزله، وولى المهلب بن أبي صفرة في سنة تسع وسبعين سجستان ولاها عبد الملك عبد الله بن علي بن عدي ثم عزله، وضمها من خراسان إلى أمية بن عبد الله، وذلك سنة ثلاث وسبعين، فولى أمية ابنه عبد الله بن أمية نحواً من ثلاث سنين فعزله عبد الملك، وولى محمد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقتله شبيب الحروري بالأهواز قبل أن يصل إليها، وذلك سنة سبع وسبعين، ثم عزل أمية فضمت إلى الحجاج.
ومات أمية بن عبد الله في ولاية عبد الملك.
وقيل: إن أمية بن خالد وخالد بن يزيد بن معاوية وروح بن زنباع ماتوا بالصنبرة في عام واحد.
وقيل: مات روح في سنة أربع وثمانين، وقال: أبو الحسن المدائني: مات أمية بن عبد الله بن خالد سنة سبع وثمانين.
أمية بن عبد الله بن عمرو
ابن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية أبو عثمان القرشي الأموي.
حدث عن أبيه قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يحدث مروان بن الحكم وهو أمير المدينة قال: خلق الله عز وجل الملائكة لعبادته أصنافاً، وإن منهم لملائكة قياماً صافين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة ركوعاً خشوعاً من يوم خلقهم إلى يوم القيامة وملائكة سجوداً منذ خلقهم الله إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم تبارك وتعالى ونظروا إلى وجهه الكريم قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.(5/55)
قال أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: قدمت الصائفة غازياً، فدخلت على عمر بن عبد العزيز، فرحب بي وقال: أين يا أبا عثمان؟ قلت: غازياً إن شاء الله، قال: صنعت الذي يشبهك وما كان عليه أولوك وخيار سلفك، إن ها هنا شيئاً قد أمرنا به لمثل من كان في وجهتك، قال: فقبلت ذلك وكان خمسين ديناراً، فلما رجعت مررت عليه، فقال لي مثل مقالته الأولى، فقلت: يا أمير المؤمنين ما يقع مني هذا موقعاً.
قال: ما يزيد على هذا أحد، ولو وجدت سبيلاً إلى أن أعطيك غيره من بيت مال المسلمين لفعلت، فقلت: إن لي ولداً، قال: هذا حق نكتب لك إلى عاملك من كان منهم يطيق معاملة المسلمين في مغازيهم فرض له في عيال المسلمين.
قلت: فإن علي ديناً فاقضه عني، قال: هذا حق نكتب لك إلى عاملك، فيبيع مالك فيقضي دينك، وما فضل عليك قضاه من بيت مال المسلمين، فقلت له: والله ما جئتك لتفلسني وتبيع مالي.
قال: والله ما هو غيره.
قال أمية بن عبد الله: كنا عند عمر بن عبد العزيز فقال رجل لرجل: تحت إبطك، فقال عمر: ما على أحدكم أن يتكلم بأجمل ما يقدر عليه، قالوا: وما ذاك؟ قال: لو قال تحت يدك كان أجمل.
وكان أمية غزا طيئاً يوم المنتهب فهزمته وفي سنة ثلاثين ومائة يوم القديد قتل أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان.
أمية بن عثمان الدمشقي
حكى عنه محمد بن عكاشة الكرماني أصول السنة على ما قيل.
قدم محمد بن عكاشة الكرماني البصرة سنة خمس وعشرين ومائتين، فقال: هذا ما اجتمع أهل السنة والجماعة ممن رأيت وسمعت من أهل العلم منهم: سفيان بن عينية، فذكر(5/56)
جماعة، ثم قال: وأمية بن عثمان الدمشقي وأحمد بن خالد الدمشقي، فذكر ما عليه أهل السنة من السنن.
قال محمد بن عكاشة وقد كان روى لنا عن الزهري قال: من اغتسل ليلة الجمعة وصلى ركعتين يقرأ فيهما " قل هو الله أحد " ألف مرة، رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منامه.
قال محمد بن عكاشة فدمت عليه نحواً من سنتين أغتسل كل ليلة جمعة وأصلي ركعتين أقرأ فيهما " قل هو الله أحد " ألف مرة طمعاً أن أرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعرض عليه هذه الأصول قال: فأتت علي ليلة باردة، فاغتسلت طمعاً أن أرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصليت ركعتين قرأت فيهما " قل هو الله أحد " ألف مرة، فلما أخذت مضجعي أصابني حلم، فقمت الثانية فاغتسلت، ثم صليت ركعتين قرأت فيهما " قل هو الله أحد " ألف مرة فلما فرغت منهما كان قريباً من السحر فاستندت إلى الحائط ووجهي إلى القبلة، فجاءني النوم، فدخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النعت والصفة وعليه بردان من هذه البرود الثمانية، قد تأزر بإزار وارتدى بآخر فجثا مستوفزاً على رجله اليسرى وأقام اليمنى.
قال محمد بن عكاشة فأردت أن أقول حياك الله يا رسول الله، فبدأني فقال: حياك الله.
قال: وكنت أحب أن أرى رباعيته المكسورة فتبسم فرأيت رباعيته المكسورة فقلت: يا رسول الله الفقهاء قد خلطوا علي في الاختلاف وعندي أصيلات من السنة أعرضها قال: نعم.
قلت: الرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، والصبر على حكمه، والأخذ بما أمر الله، والنهي عما نهى الله، وإخلاص العمل، والإيمان بالقدر خيره وشره، وترك المراء والجدال والخصومات في الدين، والمسح على الخفين، والجهاد مع كل خليفة، والصلاة يوم الجمعة مع كل بر وفاجر والصلاة على من مات من أهل القبلة سنة، والإيمان قول وعمل، والإيمان يزيد وينقص، والقرآن كلام الله، والصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم من عدل أو جور، ولا نخرج على الأمراء بالسيف وإن جاروا، ولا ننزل أحداً من أهل القبلة جنة ولا ناراً، ولا نكفر أحداً من أهل التوحيد وإن عملوا بالتوحيد والكف عن مساوئ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأفضل الناس بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان قال محمد بن عكاشة: فوقفت على علي وعثمان كأني هبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أفضل عثمان على علي، فقلت في نفسي: علي ابن عمه وختنه، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه قد علم، فقال: " عثمان ثم علي " ثم قال: " هذه السنة فتمسك بها ".
وضم أصابعه وعقد على ثلاثةٍ وتسعين، وحول الإبهام(5/57)
وعطفها على أصابعه.
قال محمد بن عكاشة: فعرضت هذه الأصول عليه ثلاث ليال كل ليلة أقف على علي وعثمان فيبتسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند قولي كأنه قد علم، ثم يقول: " عثمان ثم علي "، فكنت أعرض عليه هذه الأصول وعيناه تهطلان.
قال: فلما قلت: والكف عن مساوئ أصحابك انتحب حتى علا صوته.
قال ابن عكاشة: ووجدت حلاوة في فمي وقلبي فمكثت ثمانية أيام لا آكل طعاماً حتى ضعفت عن صلاة الفريضة فلما أكلت ذهبت عني الحلاوة.
وقد روي عن منبه بن عثمان بدل أمية.
قال: وهو الصحيح.
أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي والد إسماعيل بن أمية كان بالشام عند قتل أبيه وبعد ذلك، وكان عند عمر بن عبد العزيز وسكن مكة.
حدث محمد بن كعب قال: كنا بخناصرة في مجلس فيه أمية بن عمرو بن سعيد وعراك بن مالك وعمر بن عبد العزيز فقال عمر بن عبد العزيز: ما أحد أكرم على الله عز وجل من كريم بني آدم قال الله عز وجل: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " وقال أمية بن عمرو مثل قول عمر بن عبد العزيز فقال عراك بن مالك: ما أحد أكرم على الله من ملائكته، هم خدمة داريه ورسله إلى أنبيائه، وما خدع إبليس آدم إلا أنه قال: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما من الناصحين " قال: فقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيك يا أبا حمزة - يعني محمد بن كعب - فيما امترينا فيه؟ قال: قلت: قد أكرم الله آدم خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة أن يسجدوا له وجعل من ذريته من تزوره الملائكة، وجعل من ذريته الأنبياء والرسل وأما قوله " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " فهذا للخلائق كلهم قال الله تعالى: " والذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون(5/58)
بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً " الآية، فهؤلاء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم ذكر الجن فقال: إنهم قالوا: " وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً وأنا منا المسلمون " فهؤلاء من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم جمع الخلائق كلهم وقال: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية " فهؤلاء من الملائكة والإنس والجن ليس خاصة لبني آدم.
أمية بن يزيد بن أبي عثمان
ابن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أمية الأموي.
روي عن أبي مصبح الحمصي عن ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأس الدين النصيحة " وفي رواية عنه " الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة ".
قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
قافل أمية بن يزيد: سألت عمر بن عبد العزيز أن يفرض لابنٍ لي، فقال: لو كنت أفرض لابن لي مثله فرضت لهذا.
قال أمية بن يزيد: كان عمر بن عبد العزيز إذا أملى على كتابه قال: اللهم إني أعوذ بك من شر لساني.
قتله صالح بن علي بن أو عبد الله بن علي يوم نهر أبي فطرس سنة اثنتين وثلاثين ومائة.(5/59)
انتصار بن يحيى المصمودي
المعروف برزين الدولة.
غلب على دمشق في المحرم سنة ثمان وستين وأربع مائة حين هرب عنها معلى بن حيدرة بن منزو، فاجتمعت المصامدة إلى انتصار هذا، وكان زمامهم والمقدم عليهم، وقووا نفسه على الأمر فرضي أكثر الناس بذلك لسداده وحميد سيرته، فاستقر أمره يوم الأحد مستهل المحرم، وأقام والياً بها إلى أن دخلها أتسز في ذي القعدة من هذه السنة، فعوضه عن دمشق بانياس ويافا من الساحل.
أنس بن السلم بن الحسن بن السلم
أبو عقيل الخولاني الأنطرطوسي.
حدث بدمشق سنة تسع وثمانين ومائتين عن عيسى بن سليمان الشيزري بسنده إلى أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعيذ من عذاب القبر.
وحدث عن عمرو بن هشام الحراني بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ".
أنس بن سيرين وكنية سيرين
أبو عمرة أخو محمد بن سيرين أبو حمزة، ويقال: أبو موسى.
ويقال: أبو عبد الله من أهل البصرة.
قدم دمشق مع أنس بن مالك.
قال أنس بن سيرين: سألت ابن عمر عن الركعتين قبل الغداة أطيل فيهما القراءة؟ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي مثنى مثنى، ويوتر بركعة.
قال: قلت: ليس غير هذا أسألك، قال: إنك لضخم، ألا تدعني أستقرئ لك الحديث! كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي(5/60)
من الليل مثنى مثنى، ويوتر بركعة، ويصلي ركعتي الغداة، وكان الأذان بأذنه.
قال حماد: يعني بسرعته.
قال أنس بن سيرين: سمعت أنس بن مالك قال:
قال رجل من الأنصار وكان ضخماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أستطيع الصلاة معك، فصنع الرجل له طعاماً فدعاه إلى بيته، ونضح له طرف حصير لهم، فصلى عليه ركعتين.
قال: فقال فلان بن فلان بن الجارود لأنس: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي الضحى؟ قال: ما رأيته صلاها غير ذلك اليوم.
قال الأوزاعي: حدثت أن أنس بن سيرين صام يوم عرفة فجهده الصوم، فسأل ابن عمر وابن عباس وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك فأمروه أن يفطر ويقضي.
قال أنس بن سيرين: تلقينا أنس بن مالك حين قدم من الشام، فلقيناه بعين التمر وهو يصلي على دابته لغير القبلة، فقلنا له: إنك تصلي إلى غير القبلة، فقال: لولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل ذلك ما فعلت.
وعن أنس بن سيرين قال: أقبلت مع أنس بن مالك من الشام فكان يصلي على حماره أين ما توجه به تطوعاً حتى أتينا أطط وأصبحت الأرض غدائر، فاستخار ربه واستقبل القبلة وصلى على حماره.
قال أنس بن سيرين: ولد محمد بن سيرين لسنتين بقيتا من خلافة عثمان بن عفان، وولدت لسنةٍ بقيت من خلافته.(5/61)
وكانوا ستة، خمسة أخوة، وأختهم حفصة وكان أكبرهم معبد بن سيرين، ويحيى بن سيرين، ومحمد بن سيرين، وخالد بن سيرين، وأنس بن سيرين - وكان أصغرهم - وحفصة بنت سيرين.
قال حماد بن زيد: قلنا لأنس بن سيرين: حدثنا بحديث عسى الله أن ينفعنا به.
قال: اتقوا الله واتقوا أحاديث أحدثت لا نعرفها.
وعن أنس بن سيرين قال: ولي أنس بن مالك أعمالاً من أعمال البصيرة، فاستعملني على الأبلة، قال: فقلت: تستعملني على المكس من بين عملك؟ قال: وما عليك أن تأخذ بكتاب عمر قال: قلت: وما كتاب عمر؟ قال: كتب أن آخذ من المسلمين من كل أربعين درهماً درهماً ومن أهل الذمة من كل عشرين درهماً درهماً، وممن لا ذمة له من كل عشرة.
يعني درهما، فقلت: ومن لا ذمة له؟ قال: الروم كانوا يجيئون بتجارات لهم إلى المدينة فيؤخذ منهم العشر.
حدث حماد بن زيد قال: أتينا أنس بن سيرين فلما رآنا قال: قد جاء اللغاطون قد جاء اللغاطون.
يعني أصحاب الحديث.
ومات أنس بن سيرين سنة ثمان عشرة وقيل سنة عشرين.
أنس بن عباس بن عامر بن حي
ابن رعل بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي، أدرك سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووفد عليه وكان في الجيش الذي أمد بهم عمر بن الخطاب أهل القادسية ممن شهد اليرموك.(5/62)
وفيما ذكر العلماء من وفود العرب على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: وقدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل من بني سليم يقال له قيس بن نشبة، فسمع كلامه وسأله عن أشياء فأجابه، ووعى ذلك كله، ودعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الإسلام فأسلم، ورجع إلى قومه بني سليم، فقال: قد سمعت ترجمة الروم، وهيمنة فارس، وأشعار العرب، وكهانة الكاهن، وكلام مقاول حمير، فما يشبه كلام محمدٍ شيئاً من كلامهم، فأطيعوني وخذوا بنصيبكم منه.
فلما كان عام الفتح خرجت بنو سليم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلقوه بقديد وهم سبع مائة رجل، ويقال كانوا ألفاً، وفيهم العباس بن مرداس، وأنس بن عباس بن رعل، وراشد بن عبد ربه، فأسلموا وقالوا: اجعلنا في مقدمتك، واجعل لواءنا أحمر، وشعارنا مقدماً، ففعل ذلك بهم، فشهدوا معه الفتح والطائف وحنيناً.
وأعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راشد بن عبد ربه رهاطاً وفيها عين يقال لها عين الرسول، وكان راشد يسدن صنماً لبني سليم، فرأى يوماً ثعلبين يبولان عليه فقال:
ربٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ثم شد عليه فكسره، ثم أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " ما اسمك؟ " قال: غاوي بن عبد العزى، قال: أنت راشد بن عبد ربه.
فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتح مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خير قرى عربية خيبر، وخير بني سليم راشدٌ ".
وعقد له على قومه.
قال عبد الله محمد بن المكرم معلق هذا المختصر: هكذا رأيت هذا البيت بتثنية الثعلب، والبيت نعرفه أن ذكر الثعلب يقال له ثعلبان، وعلى ذلك أورد علماء اللغة هذا البيت، وفي أول البيت همزة استفهام:
أربٌّ يبول الثعلبان برأسه ... لقد ذل من بالت عليه الثعالب(5/63)
وما أدري هذا تصحيف أو رواية! وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على رعل وفالج وذكوان وعصية، وهؤلاء كلهم من بني سليم، ولما قتل أصحاب بئر معونة دعا عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين ليلة حتى نزل عليه: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " فأمسك عنهم.
أنس بن عياض أبو ضمرة الليثي المدني
حدث عن هشام بن عروة عن أبيه يحدث عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ".
قال أبو ضمرة: ولدت سنة أربع ومائة، وكان أبو ضمرة قدم بلخ في ولاية نصر بن سيار، ومات سنة مائتين.
كان ثقة.
وقيل مات سنة تسع وتسعين ومائة.
قال أبو خيثمه: قال لنا أنس بن عياض: أنا أسير الله في أرضه، يعني أنه بلغ تسعين سنة.
أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم
ابن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار، أبو حمزة، ويقال: أبو ثمامة الأنصاري النجاري، خادم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبه، قدم دمشق أيام الوليد بن عبد الملك.
حدث أنس بن مالك قال: كان ابن لأم سليم يقال له: أبو عمير، كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمازحه إذا دخل على أم سليم، فدخل يوماً فوجده حزيناً فقال: " ما لأبي عمير حزيناً؟ فقالت: يا رسول الله مات(5/64)
نغيره الذي كان يلعب به، فجعل يقول: " يا أبا عمير ما فعل النغير؟ ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام ".
أو قال: " ثلاث ليال ".
وعن عروة بن رويم قال: أقبل أنس بن مالك إلى معاوية بن أبي سفيان وهو بدمشق قال: فدخل عليه فقال له معاوية: حدثني بحديث سمعته من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بينك وبينه فيه أحد.
قال أنس: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الإيمان يمانٍ هكذا إلى لخم وجذام ".
قال الحافظ: هكذا قال معاوية، وقال: والمحفوظ على عبد الملك وعلى الوليد.
وعن إسماعيل عن عبيد الله قال: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك فقال له الوليد: ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر الساعة؟ فحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لست من الدنيا وليست مني؟ إني بعثت والساعة نستبق ".
وفي رواية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنتم والساعة كتين ".
وعن مكحول قال: رأيت أنس بن مالك يمشي في هذا المسجد فقمت إليه فقلت: كيف ترى في الوضوء من الجنازة؟ فقال: أليس إنما كنا في صلاة ورجعنا إلى صلاة؟ لا وضوء.
قال الزهري: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو وحده فسألته وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ما أعرف شيئاً مما أدركنا إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت.
قال أبو مسهر: قدم أنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك حين استخلف في سنة ست وثمانين،(5/65)
وقال إسماعيل بن عبيد الله: إنه حضر أنس بن مالك عند الوليد بن عبد الملك سنة ثنتين وتسعين، ومات أنس بالبصرة سنة ثلاث وتسعين، وقيل: سنة ثنتين وتسعين، وهو آخر من مات بالبصرة من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: كان يوم مات ابن تسع وتسعين سنة، وأمه أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن مالك بن النجار، وقيل: اسمها مليكة بنت ملحان، وأمها الرميصاء.
قال قتاده: لما مات أنس بن مالك رضي الله عنه قال مورق: ذهب اليوم نصف العلم، قيل: كيف ذلك يا أبا المعتمر؟ قال: كان الرجل من أهل الأهواء إذا خالفنا في الحديث قلنا: تعالى إلى من سمعه من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روى الزهري عن أنس قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأنا ابن عشر سنين، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة، كون أمهاتي يحثثنني على خدمته، فدخل علينا دارنا فاستقينا من بئرنا وحلبنا له من شاة لنا داجن، فناولته فشرب، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب ثم أعطى الأعرابي وقال: " الأيمن فالأيمن ".
وحدث سعيد بن المسيب عن أنس بن مالك قال:
قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأنا ابن ثمان سنين، فأخذت أمي بيدي وانطلقت بي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله إنه لم يبق رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفتك بتحفة، وإني لا أقدر على ما أتحفك به إلا ابني هذا، فخذه فليخدمك ما بدا لك.
فخدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، فما ضربني ضربة، ولا سبني سبة، ولا انتهرني، ولا عبس في وجهي، فكان أول ما أوصاني به أن قال: " يا بني اكتم سري تك مؤمناً ".
فكانت أمي وأزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألنني عن سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا أخبرهم به، وما أنا مخبر بسر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً أبداً.
وقال: " يا بني عليك بإسباغ الوضوء يحبك حافظاك ويزد في عمرك، ويا بني بالغ في الاغتسال من الجنابة فإنك تخرج من مغتسلك وليس عليك ذنب ولا خطيئة ".
قال: قلت: كيف المبالغة يا رسول الله؟ قال: " تبلغ(5/66)
أصل الشعر وتنقي البشرة، ويا بني إن استطعت أن لا تزال أبداً على وضوء فإنه من يأته الموت وهو على الوضوء يعطى الشهادة، ويا بني إن استطعت لا تزال أن تصلي فإن الملائكة تصلي عليك مادمت مصلياً، ويا بني إذا ركعت فأمكن كفيك من ركبتيك، وافرج بين أصابعك، وارفع مرفقيك عن جنبيك، ويا بني إذا رفعت رأسك من الركوع فأمكن كل عضوٍ منك موضعه؛ فإن الله لا ينظر يوم القيامة إلى من لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده، ويا بني فإذا سجدت فأمكن جبهتك وكفيك من الأرض، ولا تنقر نقر الديك، ولا تقع إقعاء الكلب - أو قال: إقعاء الثعلب - وإياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإن كان لابد ففي النافلة لا في الفريضة، ويا بني إذا خرجت من بيتك فلا تقعن عينك على أحد من أهل القبلة إلا سلمت عليه؛ فإنك ترجع مغفوراً لك، ويا بني إذا دخلت منزلك فسلم على نفسك وعلى أهلك، ويا بني إن استطعت أن تصبح وتمسي وليس في قلبك شيء لأحد؛ فإنه أهون عليك في الحساب، ويا بني إن اتبعت وصيتي فلا يكن شيء أحب إليك من الموت ".
وفي رواية: " يا بني إن قدرت أن تكون من صلاتك في بيتك مثنى فافعل ".
وفي آخر الحديث ثم قال: " يا بني وذلك من سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة ".
وعن ابن همام قال: قال أنس: خدمت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ابن ثمان، وقبض وأنا ابن ثمان عشرة؛ فما قال لي لشيء صنعته لما صنعته؟ ولا قال لشيء لم أصنعه لمَ لم تصنعه؟ وقال لي في مرضه: إني أوصيك بوصية فاحفظها: " أكثر الوضوء يزد في عمرك، ولا تزل طاهراً ولا تبيتن إلا على طهر؛ فإن مت متَ شهيداً، وأكثر صلاة الليل والنهار تحبك الحفظة، وصل صلاة الضحى؛ فإنها صلاة الأوابين، وإذا خرجت من بيتك فسلم على من لقيت من المسلمين تزد في حسناتك، وإذا دخلت على أهلك فسلم عليهم يزد في بركاتك، ووقر كبير المؤمنين، وارحمنّ صغيرهم تكن معي ".
وضم بين أصابعه.
قال أنس بن مالك: جاءت بي أم سليم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أزرتني بنصف خمارها، وردتني ببعضه،(5/67)
فقالت: يا رسول الله هذا أنيس ابني أتيتك به يخدمك فادع الله له، فقال: " اللهم أكثر ماله وولده ".
قال أنس: فوالله إن مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي يتعادون على نحو مائة اليوم.
وفي رواية قال: " اللهم أكثر ماله وولده، وأدخله الجنة ".
قال: فلقد رأيت اثنتين وأنا أرجو الثالثة.
وعن ثابت وعن أنس قال: دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، قال: " قوموا فلأصل بكم - في غير وقت صلاة - فصلى بنا "، فقال رجل لثابت: أين جعل أنساً منه؟ قال: جعله عن يمينه، ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي: يل رسول الله خويدمك أدع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، فكان في آخر ما دعا به لي أن قال: " اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه ".
وفي حديث آخر، فقال: " اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره واغفر له ".
قال: فكثر مالي حتى صار يطعم في السنة مرتين، وكثر ولدي حتى دفنت من صلبي أكثر من مائة، وطال عمري حتى استحيت من أهلي واشتقت لقاء ربي، وأنا أرجو الرابعة.
وفي حديث أن أنساً قال: دفنت بكفي هذه أكثر من مائة ما فيهم ولد ولا سقط.
وفي حديث:
وكان له بستان يحمل الفاكهة في السنة مرتين، وكان فيها ريحان يجيء منه ريح المسك.(5/68)
وعن أنس قال: لما كان صبيحة اليوم الذي احتلمت فيه أخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقال: " لا تدخل على النساء إلا بإذن ".
قال: فما أتى علي يوم كان أشد علي منه.
وعن ثابت البناني قال: دخلت على أنس بن مالك، فقلت: رأت عيناك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أظنه قال: نعم، قال: فقبلتهما.
قال: فمشت رجلاك في حوائج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم.
قال: فقبلتهما ثم قلت: فصببت الماء بيديك؟ قال: نعم.
فقبلتهما.
ثم قال أنس لي: يا ثابت، صببت الماء بيدي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوضوئه، فقال لي: " يا غلام أسبغ الوضوء يزد في عمرك، وأفش السلام تكثر حسناتك، وأكثر من قراءة القرآن تجيء يوم القيامة معي كهاتين ".
وقال بأصبعيه هكذا، وأرانا أبو الحسن محمد بن سنان السبابة والوسطى.
وعن ثابت عن أنس قال: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عندنا، فعرق، فجاءت أمي بقارورة فجعلت تسلب العرق فيها فاستيقظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها فقال: " يا أم سليم ما هذا الذي تصنعين؟ " قالت: هذا عرقك نجعله في طيبنا، وهو من أطيب الطيب من ريح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ثابت: قال أنس بن مالك: ما شممت عنبراً قط، ولا مسكاً أطيب ولا مسست شيئاً قط ديباجاً، ولا خزاً ولا حريراً ألين مساً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ثابت: فقلت يا أبا حمزة ألست كأنك تنظر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكأنك تسمع إلى نغمته؟ قال: بلى والله إني لأرجو أن ألقاه يوم القيامة فأقول: يا رسول الله خويدمك، قال: خدمته عشر سنين بالمدينة وأنا غلام، ليس كل امرئ كما يشتهي صاحبي أن يكون.
ما قال لي فيها أفٍّ، وما قال لي لما فعلت هذا؟ أو ألا فعلت هذا.
وعن جميلة مولاة أنس قالت: كان ثابت إذا جاء إلى أنس قال: يا جميلة ناوليني طيباً أمس به يدي فإن ابن(5/69)
أبي ثابت لا يرضى حتى يقبل يدي يقول: يدٌ مست رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أنس بن مالك أنه سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال: خويدمك أنس اشفع له يوم القيامة، قال: " أنا فاعل ".
قال: فأين أطلبك؟ قال: " اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط؛ فإن وجدتني وإلا فأنا عند الميزان وإلا فأنا عند حوضي لا أخطئ هذه الثلاثة المواضع ".
وعن ثمامة بن أنس قال: قيل لأنس: أشهدت بدراً؟ قال: وأين أغيب عن بدر لا أم لك؟ قال الحافظ: لم يوافق أصحاب المغازي على هذا القول.
وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: خرج أنس بن مالك مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين توجه إلى بدر وهو غلام يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أبي قلابة عن أنس قال: شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية وعمرته والحج والفتح وحنيناً والطائف وخيبراً.
قال إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس كم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سبع وعشرون غزوة، ثمان غزوات يغيب فيها الأشهر، وتسع عشرة يغيب فيها الأيام.
قال: قلت: كم غزا أنس بن مالك؟ قال: ثمان غزوات.
وعن أبي هريرة قال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ابن أم سليم أنس بن مالك.(5/70)
وعن أنس بن سيرين قال: كان أنس أحسن الناس صلاة في السفر والحضر.
وعن ثمامة بن عبد الله قال: كان أنس يصلي فيطيل القيام حتى تفطر قدماه دماً.
وعن ثمامة بن عبد الله بن أنس قال: كان لأنس ثوبان على المشجب كل يوم؛ فإذا صلى المغرب لبسهما فلم يقدر عليه ما بين المغرب والعشاء قائماً يصلي.
وعن ثابت قال: قال أنس: يا أبا محمد خذ عني فإني أحدث عن سول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الله، ولن تأخذ عن أحد أوثق مني.
قال: ثم صلى بي العشاء، ثم صلى ست ركعات يسلم بين الركعتين ثم أوتر بثلاث يسلم في آخرهن.
وعن أنس بن مالك قال:
ما أورثتني أم سليم إلا برد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدحه الذي كان يشرب فيه، وعمود فسطاطه وصلايةً كانت تعجن عليها أم سليم الرامك بعرق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون في بيت أم سليم، فينزل عليه الوحي وهو على فراشها، فيجدل كما يجدل المحموم فيعرق؛ فكانت أم سليم تعجن الرامك بعرقه.
حدث أبو نعيم - يعني عبيد الله بن هشام - عن المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ما بقي أحد مما صلى القبلتين غيري.
قال أبو نعيم: والقبلتان بالمدينة بطرف الحرة: قبلة إلى بيت المقدس، وقبلة إلى الكعبة.(5/71)
وعن ثابت قال: كنت مع أنس فجاء قهرمانه، فقال: يا أبا حمزة عطشت أرضنا، قال: فقام أنس فتوضأ وخرج إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا، فرأيت السحاب يلتئم، قال: ثم مطرت حتى ملأت كل شيء، فلما سكن المطر بعث أنس بعض أهله فقال: انظر أين بلغت السماء فنظر فلم تعد أرضه إلا يسيراً.
حدث من صحب أنس بن مالك: فلما أحرم فلم أقدر أكلمه حتى حل، من شدة إتقانه على إحرامه.
وقال الجريري: أحرم أنس بن مالك من ذات عرق قال: فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله عز وجل حتى أحل.
قال: فقال لي: يا بن أخي هكذا الإحرام.
قال صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: دخل علينا أنس بن مالك يوم الجمعة والإمام يخطب، ونحن في بعض أبيات أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نتحدث، فقال: مه، فلما أقيمت الصلاة قال: إني أخاف أن أكون قد أبطلت جمعتي بقولي لكم مه.
كان أبو غالب يقول: لم أر أحداً كان أضنّ بكلامه من أنس بن مالك.
قال محمد بن سيرين: كان أنس بن مالك قليل الحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان إذا حدث، أو قلما يحدث إلا قال حين يفرغ: أو كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن حميد عن أنس بن مالك يحدث بحديث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رجل: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فغضب غضباً شديداً وقال: والله ما كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن كان يحدث بعضنا بعضاً ولا نتهم بعضنا.(5/72)
وعن محمد بن سيرين: أن أميراً من الأمراء أعطى أنس بن مالك شيئاً من الفيء، فقال أنس: أخمس؟ فقال: لا.
فلم يقبله.
حدث النضر بن شداد عن أبيه قال شداد قال: اعتل أنس بن مالك فعدناه، فقلنا له: ندعو لك الطبيب.
قال: الطبيب أمرضني.
قال يزيد بن خصيفة: تنخم أنس بن مالك في المسجد ونسي أن يدفنها، ثم خرج حتى جاء أهله، فذكرها فجاء بسعفةٍ من نار فطلبها حتى وجدها ثم حفر لها فأعمق فدفنها.
جاء زياد النميري مع القراء إلى أنس بن مالك، فقيل له: اقرأ فرفع صوته، وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه الخرقة، وكان على وجهه خرقة سوداء، فقال: ما هذا ما هذا ما هذا؟ ما هكذا كانوا يفعلون.
قال: وكان إذا رأى شيئاً ينكره كشف الخرقة عن وجهه.
وعن ابن شهاب قال: دخلت على أنس بن مالك بالهاجرة، فذكرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وعثمان، فبكى، فقلت: ما يبكيك يا أبا حمزة؟ فقال: ما أخرت له، فقلت: لا تبك إني لأرجو أن تكون أخرت لخير، صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وعثمان وما أخرت إلى الآن إلا أن تكون شهيداً على هؤلاء، فقال: والله ما أنتم على شيء مما كانوا عليه إلا الصلاة، وإنها هي المؤخرة.
وعن موسى بن أنس أن أبا بكر لما استخلف بعث إلى أنس بن مالك ليوجهه إلى البحرين على السعاية قال: فدخل عليه عمر، فقال له أبو بكر: إني أردت أن أبعث هذا إلى البحرين وهو فتى شاب قال: فقال له عمر: ابعثه فإنه لبيب كاتب.
قال: فبعثه فلما قبض أبو بكر قدم على عمر، فقال له عمر: هات هات يا أنس ما جئت به، قال، قال: يا أمير المؤمنين(5/73)
البيعة أولاً قال: فقال: نعم.
قال: فبسط يده.
قال: قال: على السمع والطاعة، قال ابن عون: فما أدري، قال ما استطعت، أو قال أنس ما استطعت، قال: فأخبرته ما جئت به، قال: فقال: أما ما كان من كذا وكذا فاقبضوه، وما كان من المال فهو لك.
قال: فأتيت على زيد بن ثابت وهو جالس على الباب، فقال: ألق عليه ما أعطاك أمير المؤمنين قال: فألقيت عليه، فحسب.
قال ابن عون: فلا أدري أقصر على بني النجار أو قال: أنت أكثر خزرجي فيها مالاً.
وفي حديث آخر: وكان المال أربعة آلاف.
قال أنس: كان جرير بن عبد الله معي في سفر فكان يخدمني، فقال: إني رأيت الأنصار تصنع برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً فلا أحداً منهم إلا خدمته.
وعن الأعمش قال: شكونا الحجاج بن يوسف قال: فكتب أنس إلى عبد الملك: إني خدمت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع سنين، والله لو أن اليهود والنصارى أدركوا رجلاً خدم نبيهم لأكرموه.
قال علي بن زيد: كنت في القصر مع الحجاج وهو يعرض الناس ليالي ابن شعث، فجاء أنس بن مالك فقال الحجاج: هي يا خبيث! جوال في الفتن، مرة مع علي بن أبي طالب، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث! أما والذي نفس الحجاج بيده لأستأصلنك كما تستأصل الصمغة، ولأجردنك كما يجرد الضب.
قال: يقول أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله سمعك، قال: فاسترجع أنس، وشغل الحجاج وخرج أنس فتبعناه إلى الرحبة، فقال: لولا أني ذكرت ولدي وخشيته عليهم بعدي لكلمته بكلام في مقامي لا يستحيينني بعده أبداً.
وعن أزهر بن عبد الله: كنت في الخيل الذين بيتوا أنس بن مالك وكان فيمن يؤلب على الحجاج وكان مع عبد الرحمن بن الأشعث فأتوا به الحجاج فوسم في يده: عتيق الحجاج.(5/74)
وقيل: إن أنس لما قال له الحجاج: إياك أعني أصم الله سمعك، كتب إلى عبد الملك بن مروان بذلك، فكتب عبد الملك إلى الحجاج: يا بن المستفرمة بحب الزبيب، لقد هممت أن أركلك ركلة تهوي بها إلى نار جهنم، قاتلك الله، أخيفش العينين، أصك الرجلين، أسود الجاعرتين.
قال أحمد بن صالح العجلي: لم يبتل أحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا رجلين معيقيب كان به هذا الداء الجذام، وأنس بن مالك كان به وضح.
قال أبو جعفر محمد بن علي: رأيت أنس بن مالك أبرص وبه وضح شديد، ورأيته يأكل فيلقم لقماً كباراً.
قال أيوب بن أبي تميمة: ضعف أنس عن الصوم فصنع جفنة من ثريد ودعا بثلاثين مسكيناً، فأطعمهم.
وحدث محمد بن سيرين عن أنس بن مالك أنه كان عنده عصية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمات فدفنت معه بين جيبه وبين قميصه.
قال أنس بن سيرين: شهدت أنس بن مالك وحضره الموت، فجعل يقول: لقنوني لا إله إلا الله فلم يزل يقولها حتى قبض.
ومات وهو ابن مائة وسبع سنين وقيل: ابن تسع وتسعين، وكان آخر من مات بالبصرة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة تسعين، وقيل: سنة ثلاث وتسعين، وقيل سنة اثنتين وتسعين.(5/75)
قال محمد السنبلاني: أتيت أنس بن مالك، فقلت: أنت آخر من بقي من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: قد بقي قوم من الأعراب فأما من أصحابه فأنا آخر من بقي.
قال أبو نعيم: مات جابر بن زيد وأنس سنة ثلاث وتسعين في جمعة.
وقال أحمد بن حنبل: مات أنس بن مالك وجابر بن زيد في جمعة في سنة ثلاث وتسعين، وصلى على ابن مالك قطن بن مدرك الكلابي.
أنس الجهني
له صحبة على ما قيل، نزل الشام، وكان بدمشق عند مرض أبي الدرداء.
قال أنس: دخلت على أبي الدرداء أعوده في مرضه، فقلت: يا أبا الدرداء إنا نحب أن تصح فلا تمرض، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن المليلة والصداع يولعان بالمؤمن، وإن ذنبه مثل جبل أحد، حتى لا يدعا عليه من ذنبه مثقال حبة من خردل ".
وروى يونس بن محمد بسنده عن أنس، قال يونس: وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اركبوا هذه الدواب سالمة، وايتدعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي ".
وروى هذا الحديث معاذ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم رواحل، فقال لهم: " اركبوها سالمة ودعوها سالمة، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق، فرب مركبة خير من راكبها، وأكثر ذكراً لله عز وجل منه ".(5/76)
أوسط بن عمر ويقال ابن عامر
ويقال: ابن إسماعيل أبو إسماعيل، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عمرو البجلي، أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وسكن دمشق وحمص، وكان له بدمشق دار عند الباب الشرقي.
حدث أوسط بن عمرو البجلي قال:
قدمنا المدينة بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعام، فلقيت أبا بكر على منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس، قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الأول هذا الأول، فاغرورقت عيناه، فما استطاع أن يتكلم من العبرة، ثم قال: " يا أيها الناس سلوا الله العافية، فإنه لن يؤت أحدٌ بعد يقين خيراً من معافاة، وإياكم والكفر، فإنه لن أجد أشد من ريبةٍ بعد كفرٍ، وعليكم بالصدق، فإنه مع البر وهما في الجنة، وإياكم والكذب؛ فإنه مع الفجور وهما في النار ".
وفي حديث آخر بمعناه: " ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا ".
أوس بن أوس ويقال ابن أبي أوس
الثقفي، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نزل دمشق وقبره بها.
وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من غسل يوم الجمعة واغتسل، ودان واستمع وأنصت، كان له بكل خطوةٍ يخطوها من حين يخرج من بيته إلى حين يأتي المسجد أجرها كصيام سنةٍ وقيامها ".
وفي وراية: " وأنصت ولم يلغ حتى يفرغ الإمام ".
وفي رواية: " مشى ولم يركب ".
وعن أوس بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة؛ فأكثروا علي من الصلاة فيه؛ فإن صلاتكم معروضةٌ علي ".
قالوا: وكيف تعرض(5/77)
صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: " إن الله عز وجل حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ".
قال الحافظ: وقيل إنهما اثنان: أوس بن أوس، وأوس بن أبي أوس، وأوس بن أوس هذا الذي نزل الشام، وابن أبي أوس من أهل الطائف.
أوس بن حارثة بن لأم
وإليه البيت في طيئ، ابن عمرو بن طريف ين ثمامة بن مالك بن جدعاء بن ذهل بن رومان بن حرب بن خارجة بن سعد بن فطرة بن طيئ بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان الطائي، شاعر.
قدم دمشق في الجاهلية خاطباً لماوية بنت حجر بن النعمان الغسانية، وكان مقامها بدمشق، وكانت تخطب في سائر العرب من يمنيٍّ أو مضريٍّ، فلا يكلمها أحدٌ في التزويج مصرحاً إلا أن يكون في الشعر.
قال عبد الله بن المبارك: سأل النعمان حاتم طيئ: من سيدكم؟ قال: أوس بن حارثة، قال: فأين أنت منه؟ قال: ما أصلح أن أكون مملوكاً له، فقال: النعمان: هذا السؤدد.
قال عبد الله: فأين قراؤنا وعلماؤنا عن هذا؟! وأوس بن حارثة هذا هو أوس بن سعد الطائي.(5/78)
وقيل لأوس بن حارثة: أنت أسود أم حاتم؟ وكان أوس يحتبي في ثلاثين من ولده، فقال: لو أني وولدي لحاتم لانتهبنا في غداة.
وقيل لحاتم: أنت أسود أم أوس؟ فقال: بعض بني أوس أسود مني.
أويس بن عامر بن مالك بن عمرو
ابن سعد بن عصوان بن قرن بن رمدان بن ناحية بن مراد وهو عامر بن مالك بن أدد من مذحج، ويقال: أويس بن عمرو بن حمدان بن عصوان، ويقال: ابن سعد بن عصوان، ويقال: أويس بن عامر بن الخليص، ويقال: أويس بن عبد الله أبو عمر المرادي القرني، من تابعي أهل اليمن، أدرك حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، ووفد على عمر بن الخطاب، وسكن الكوفة ويقال: إنه مات بدمشق، وإن قبره في مقابر باب الجابية.
روى أويس القرني عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لله عز وجل تسعةٌ وتسعون اسماً، مائةً غير واحدة، إنه وتر يحب الوتر، وما من عبد يدعو بها إلا وجبت له الجنة ".
وذكر الأسماء كلها.
وروى عن علي وعمر من أحصاها دخل الجنة.
وروى أويس القرني عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب أنهما قالا: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" من دعا بهذه الأسماء استجاب الله له: اللهم أنت حيٌ لا تموت، وخالقٌ لا تغلب، وبصيرٌ لا ترتاب، وسميعٌ لا تشك، وصادقٌ لا تكذب، وقاهر لا تغلب، وندًى لا تنفد، وقريبٌ لا تبعد، وغافرٌ لا تظلم، وصمدٌ لا تطعم، وقيوم لا تنام، ومجيبٌ لا تسأم، وجبارٌ لا تقهر، وعظيمٌ لا ترام، وعالمٌ لا تُعلّم، وقويٌ لا تضعف، وعلمٌ لا توصف، ووفيٌّ لا تخلف، وعدلٌ لا تحيف، وغنيٌّ لا تفتقر، وحليمٌ لا تجور،(5/79)
ومنيعٌ لا تقهر، ومعروفٌ لا تقهر، ووكلٌ لا تخفر، وغالبٌ لا تُغلب، وقديرٌ لا تستأمر، وفردٌ لا تستشير، ووهابٌ لا تمل، وسريعٌ لا تذهل، وجوادٌ لا تبخل، وعزيزٌ لا تذل، وحافظٌ لا تغفل، وقائمٌ لا تنام، ومحتجب لا ترى، ودائم لا تفنى، وباقٍ لا تبلى، وواحدٌ لا تشبه، ومقتدرٌ لا تنازع ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي بعثني بالحق لو دعا بهذه الدعوات والأسماء على صفائح من حديد لذابت، ولو دعي بها على ماءٍ جارٍ لسكن، ومن أبلغ إليه الجوع والعطش، ثم دعا ربه أطعمه الله وسقاه، ولو أن بينه وبين موضع يريد جبلاً لانشعب له الجبل حتى يسلكه إلى الموضع، ولو دعا على مجنون لأفاق، ولو دعا على امرأة قد عسر عليها ولدها لهون عليها ولدها، ولو دعا بها والمدينة تحترق وفيها منزله لنجا ولم يحترق منزله، ولو دعا بها أربعين ليلة من ليالي الجمعة غفر الله له كل ذنب بينه وبين الله عز وجل، ولو أنه دخل على سلطان جائر ثم دعا بها قبل أن ينظر السلطان إليه لخلصه الله من شره، ومن دعا بها عند منامه بعث الله بكل حرف منها سبع مائة ألف ملك من الروحانيين، وجوههم أحسن من الشمس والقمر يسبحون له، ويستغفرون له، ويدعون ويكتبون له الحسنات ويمحون عنه السيئات، ويرفعون له الدرجات ".
فقال سلمان: يا رسول الله أيعطي الله بهذه الأسماء كل هذا الخير؟ فقال: " لا تخبر به الناس حتى أخبرك بأعظم منها فإني أخشى أن يدعوا العمل أو يقتصروا على هذا ".
ثم قال: " من نام وقد دعا، فإن مات مات شهيداً وإن عمل الكبائر، وغفر لأهل بيته، ومن دعا بها قضى الله له ألف ألف حاجة ".
قال البخاري: أويس القرني أصله من اليمن مرادي، في إسناده نظر فيما يرويه.
قال ابن عدي: وليس لأويس من الرواية شيء، وإنما له حكايات ونتف وأخبار في زهده، وقد(5/80)
شك قوم فيه إلا أنه من شهرته في نفسه وشهرة أخباره لا يجوز أن يشك فيه، وليس له من الأحاديث إلا القليل، فلا يتهيأ أن يحكم عليه بالضعف، بل هو صدوق ثقة مقدار ما يروى عنه، ومالك ينكره يقول: لم يكن.
القرني: بالقاف والراء مهملة والنون.
أويس: بطن من مراد، أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وجوده، وشهد مع علي صفين، وكان من خيار المسلمين.
قال أصبغ بن يزيد: أسلم أويس القرني على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن منعه من القدوم بره لأمه.
قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من خير التابعين رجل من قرن، يقال له أويس القرني.
حدث أسير بن جابر قال: كان محدث بالكوفة يحدثنا، فإذا فرغ من حديثه تفرقوا، ويبقى رهطٌ فيهم رجل يتكلم بكلامٍ لم أسمع أحداً يتكلم بكلامه، فأتيته ففقدته، فقلت لأصحابي: هل تعرفون رجلاً كان يجالسنا كذا وكذا؟ فقال رجل من القوم: أنا أعرفه ذاك أويس القرني.
قلت: أفتعرف منزله؟ قال: نعم.
فانطلقت معه حتى جئت حجرته فخرج إلي، فقلت: يا أخي من حبسك عنا؟ قال: العري.
قال: وكان أصحابه يسخرون منه ويؤذونه قال: قلت: خذ هذا البرد فالبسه.
قال: لا تفعل فإنهم إذاً يؤذوني إذا رأوه.
قال: فلم أزل به حتى لبسه فخرج عليهم، فقالوا: من ترون خدع عن برده هذا؟! قال: فجاء موضعه، قال: أترى؟ قال: فأتيت المجلس فقلت: ما تريدون من هذا الرجل؟ قد آذيتموه، الرجل يعرى مرة ويكتسي مرة، قال: فأخذتهم بلساني أخذاً شديداً، قال: فقضي أن أهل الكوفة وفدوا على عمر بن الخطاب، فوفد رجل ممن كان يسخر به، فقال عمر: ما ههنا أحد من القرنيين؟ قال: فجاء ذلك الرجل، فقال عمر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أمٍّ له، وقد كان به بياض فدعا الله عز وجل فأذهبه عنه، إلا مثل موضع الدينار، أو الدرهم، فمن لقيه منكم فأمروه أن يستغفر لكم.
قال - يعني عمر -: فقدم علينا، قال: قلت: من أين؟ قال: من اليمن.
قلت: ما اسمك؟ قال: أويس.
قال: قلت: فمن تركت باليمن؟ قال: أماً لي قال:(5/81)
قلت: أكان بك بياض فدعوت الله عز وجل فأذهبه عنك؟ قال: نعم! قال: قلت: استغفر لي قال: أو يستغفر مثلي لمثلك يا أمير المؤمنين!؟ قال: فاستغفر لي.
قال: قلت: أنت أخي لا تفارقني قال فانملس مني، فأنبئت أنه قدم عليكم بالكوفة.
قال: فجعل ذلك الذي يسخر به يحقره قال: يقول: ما هذا فينا ولا نعرفه.
قال عمر: بلى! إنه رجل كذا، قال: - كأنه يضع شيئاً - فينا يا أمير المؤمنين رجل يقال له أويس، قال: أدرك ولا أراك تدرك قال: فأقبل ذلك الرجل حتى دخل عليه قبل أن يأتي أهله، فقال له أويس ما هذه بعادتك فما بدا لك؟ قال: سمعت عمر يقول فيك كذا وكذا فاستغفر لي يا أويس، قال: لا أفعل حتى تجعل لي عليك ألا تسخر بي فيما بعد ولا تذكر ما سمعته من عمر لأحد.
قال: فاستغفر له، قال أسير: فما لبثنا أن فشا أمره بالكوفة، قال: فدخلت عليه فقلت له: يا أخي ألا أراك العجب ونحن لا نشعر؟ فقال: ما كان في هذا ما أتبلغ به الناس، وما يجزى كل عبدٍ إلا بعمله، قال: فانملس مني فذهب.
رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب عن هاشم مختصراً.
وعن أبي هريرة قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلقةٍ من أصحابه إذ قال: " ليصلين معكم غداً رجل من أهل الجنة ".
قال أبو هريرة: فطعمت أن أكون أنا ذلك، فغدوت وصليت حلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقمت في المسجد حنى انصرف الناس، وبقيت أنا وهو، فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل أسود متزرٌ بخرقة مرتدٍ بقباطي، حتى وضع يده في يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: يا نبي الله ادع الله لي، فدعا له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشهادة، وإنا لنجد منه ريح المسك الأذفر، فقلت: يا رسول الله أهو هو قال: " نعم وإنه لمملوك بني فلان ".
فقلت: ألا تشتريه فتعتقه يا نبي الله؟ فقال: " وأرى ذلك إن كان الله يريد أن يجعله من ملوك أهل الجنة يا أبا هريرة، إن لأهل الجنة ملوكاً وسادة وإن هذا الأسود أصبح من ملوك أهل الجنة(5/82)
وسادتهم، يا أبا هريرة إن الله يحب من خلقه الأصفياء الأحفياء الأتقياء، الشعثة رؤوسهم، المغبرة وجوههم، الخمصة بطونهم من كسب الحلال الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإن خطبوا المتنعمات لم ينكحوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن حضروا لم يدعوا، وإن طلعوا لم يفرح بطلعتهم، وإن مرضوا لم يعادوا، وإن ماتوا لم يشهدوا.
قالوا: يا رسول الله كيف لنا برجل منهم؟ قال: " ذاك أويس القرني ".
وما أويس القرني؟ قال: أشهل ذو صهوبة، بعيد ما بين المنبكين، معتدل القامة، آدم شديد الأدمة، ضاربٌ بذقنه إلى صدره، رامٍ ببصره موضع سجوده، واضع يمينه على شماله، يتلوا القرآن، يبكي على نفسه، ذو طمرين لا يؤبه له، متزرٌ بإزار صوف ورداء، تحت منكبه لمعة بيضاء، ألا وإنه إذا كان يوم القيامة قيل للعباد: ادخلوا الجنة، ويقال لأويس: قف لتشفع، فيشفعه الله في مثل عدد ربيعة ومضر؛ يا عمر ويا علي، إذا أنتما لقيتماه فاطلبا إليه إن يستغفر لكما يغفر الله لكما ".
قال: فمكثا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه، فلما كان في آخر سنة قبض فيها عمر في ذلك العام، صعد على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته: يا أهل الحجيج أهل اليمن، أفيكم أويس القرني؟ فقام شيخ كبير طويل اللحية فقال: إنا لا ندري ما أويس، ولكن ابن أخ لي يقال له أويس وهو أخمل ذكراً وأقل مالاً وأهون أمراً فينا، نرفعه إليك وإنه ليرعى إبلنا حقيراً بين أظهرنا، فعمى عليه عمر كأنه لا يريده، فقال: ابن أخيك هذا بحرمنا هو؟ قال: نعم، قال: وأين يصاب؟ قال: بأراك عرفات قال: فركب عمر وعلي سراعاً إلى عرفات، فإذا هو قائم يصلي إلى شجرة والإبل حوله ترعى، فشدا حماريهما، ثم أقبلا إليه فقالا: السلام عليك ورحمة الله، فخفف أويس الصلاة ثم قال: السلام عليكما ورحمة الله وبركاته قالا: من الرجل؟ قال: راعي أبل وأجيرٌ لقوم، قالا: لسنا نسألك عن الرعاية ولا عن الإجارة، قالا: ما اسمك؟ قال: عبد الله.
قالا: قد علمنا أن أهل السماوات وأهل الأرض كلهم عبيد لله.
فما اسمك الذي سمتك أمك؟ قال: يا هذان ما تريدان إلى هذا؟ قال: وصف لنا محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أويس القرني، فقد عرفنا فيك الصهوبة والشهولة، وأخبرنا أن تحت منكبك الأيسر لمعةً بيضاء فأوضحها لنا فإن كانت بك فأنت هو، فأوضح منكبه فإذا اللمعة، فابتدراه يقبلانه وقالا:(5/83)
نشهد أنك أويس القرني فاستغفر لنا يغفر الله لك، قال: ما أخص باستغفاري نفسي ولا أحداً من ولد آدم، ولكنه في البر والبحر في المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، يا هذان قد شهر الله لكما حالي وعرفكما أمري فمن أنتما؟ فقال علي: أنا علي بن أبي طالب وهذا عمر أمير المؤمنين، فاستوى أويس قائماً، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فجزاكما الله عن هذه الأمة خيراً، وقالا: وأنت فجزاك الله عن نفسك خير الجزاء، فقال عمر: رحبك حتى ندخل مكة فآتيك بنفقة من عطائي وفضل كسوة من ثيابي، هذا الميعاد بيني وبينك قال: يا أمير المؤمنين لا ميعاد بيني وبينك ولا أعرفك بعد اليوم، ما أصنع بالنفقة؟ ما أصنع بالكسوة؟ أما ترى علي إزاراً من صوف ورداء من صوف؟ متى تراني أخرقهما؟ أما ترى أن نعلي مخصوفتان؟ متى ترى أبليهما؟ أما تراني أني قد أخذت من رعايتي أربعة دراهم؟ متى تراني آكلها؟ يا أمير المؤمنين إن بين يديّ ويديك عقبة كؤوداً، لا يجاوزها إلا ضامرٌ مخفف مهزول.
فأخف عني رحمك الله، فلما سمع ذلك عمر من كلامه ضرب بدرته الأرض ثم نادى بأعلى صوته: ألا ليت أن عمر لم تلده أمه، يا ليتها كانت عاقراً لم تعالج حمله، ألا من يأخذها بما فيها ولها؟ قال أويس: من جدع الله أنفه.
ثم قال: يا أمير المؤمنين خذ أنت هاهنا، وآخذ أنا هاهنا، فولى عمر ناحية مكة، وساق أويس إبله فوافى القوم إبلهم، وخلى عن الرعي، وأقبل على العبادة حتى لحق بالله.
فهذا ما أتانا عن أويس القرني سيد التابعين.
وحدث هرم بن حيان قال: قدمت الكوفة فلم يكن لي همٌّ إلا أويس القرني أطلبه وأسأل عنه، حتى سقطت عليه نصف النهار على شاطئ الفرات يتوضأ أو يغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم آدم أشعر محلوق الرأس، كث اللحية، مغبر، كريه الوجه والمنظر، وعليه إزار من صوف، فسلمت عليه، فقلت: حياك الله من رجل، كيف أنت رحمك وغفر لك يا أويس؟ فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان(5/84)
كيف أنت؟ قال: وخنقتني العبرة حين رأيت من حاله ما رأيت قال: فمددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، قال: وعجبت حين عرفني وعرف اسم أبي، ما كنت رأيته قبل ذلك ولا رآني قال: قلت: رحمك الله من أين عرفتني وعرفت اسم أبي ولم أكن رأيتك قط؟ قال: نبأني العليم الخبير، وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد يتحابون بروح الله وإن لم يتلاقوا ولم يتعارفوا وتفرقت بهم المنازل.
قال: فقلت: حدثني بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحفظه عنك، فقال: إني لم أدرك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بأبي رسول الله وأمي، ولم تكن لي معه صحبة، ولكن أدركت رجالاً رأوه فحدثوني عنه نحو ما حدثوك، ولست أحب أن أفتح هذا الباب على نفسي أن أكون محدثاً أو قاصاً أو مفتياً، في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان.
قال: قلت: اقرأ علي آيات من كتاب الله أسمعها منك، وادع لي بدعوات أحفظها عنك فإني أحبك حباً شديداً، فقال: " سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " فأخذ بيدي فمشى على شاطئ الفرات، ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم بسم الله الرحمن الرحيم " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين " إلى قوله " إنه هو العزيز الحكيم " قال: فنظرت إليه وأنا أحسب أنه قد غشي عليه.
قال: ثم نظر إلي فقال: يا هرم بن حيان مات أبوك، فإما إلى الجنة وإما هو إلى النار، ويوشك أن تموت، ومات آدم ومات حواء ومات إبراهيم خليل الله ومات موسى نجي الله ومات داود خليفة الله ومات محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات خليلي وصفيي عمر بن الخطاب، وقال: واعمراه، واعمراه! وعمر يومئذ حي، وذلك عند آخر خلافته، قال: فقلت له: إن عمر لم يمت، فقال: بلى قد نعاه إلي ربي إن كنت تفهم وعقلت ما قلت وأنا وأنت غداً في الموتى، وكأن قد، ثم صلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم دعا بدعوات خفاف، ثم قال: عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين، وإياك أن تفارق الجماعة فيفترق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك، وزارني فيك، اللهم أدخله علي زائراً في دارك دار السلام.
وضم علي(5/85)
ضيعته، وأرضه من الدنيا باليسير، وما أعطيته من الدنيا فاجعله لما تعطيه من الشاكرين، ثم قال: لا أراك فيما بعد اليوم فإني كثير الهم شديد الغم مادمت مع هؤلاء الناس حياً وأكره الشهرة، والوحدة أحب إلي فلا تطلبني خذ هكذا.
قال: فجهدت أن أمشي معه ساعة فأبى علي، فدخل في بعض أزقة الكوفة، قال: فجعلت التفت إليه وأنا أبكي ويبكي حتى توارى عني، فسألت عنه وطلبته فلم أجد أحداً يخبر عنه بشيء، قال: فما أتت علي جمعة إلا وأنا أراه في منامي مرة أو مرتين.
أو كما قال.
وفي وراية حديث آخر بمعناه، في آخره قال: فغزا غزوة أذربيجان فمات، قال: فتنافس أصحابه في حفر قبره، قال: فحفروا فإذا بصخرة محفورة ملحودة.
قال: وتنافسوا في كفنه قال: فنظروا فإذا في عيبته ثياب ليس مما ينسج بنو آدم، قال: فكفنوه في تلك الثياب ودفنوه في ذلك القبر.
قال علقمة بن مرثد الحضرمي: انتهى الزهد إلى ثمانية نفر من التابعين: عامر بن عبد الله، وأويس القرني، وهرم بن حيان العبدي والربيع بن خثيم القوري، وأبي مسلم الخولاني، والأسود بن يزيد، ومسروق بن الأجدع، والحسن بن أبي الحسن البصري.
فأما أويس القرني فإن أهله ظنوا أنه مجنون، فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليه السنة والسنتان لا يرون له وجهاً، وكان طعامه مما يلقط من النوى، فإذا أمسى باعه لإفطاره، وإن أصاب حشفة خبأها لإفطاره.
وعن سعيد بن المسيب قال: نادى عمر بن الخطاب وهو على المنبر بمنى: يا أهل قرن، فقام مشايخ، فقالوا: نحن يا أمير المؤمنين، قال: أفي قرن من اسمه أويس؟ فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ليس فينا أويس إلا مجنون يسكن القفار والرمال، لا يتألف ولا يؤلف، فقال: ذاك الذي أعنيه، إذا عدتم إلى قرن فاطلبوه وبلغوه سلامي، وقولوا له: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرني بك، وأمرني أن أقرأ عليه سلامه، قال: فعادوا إلى قرن فطلبوه فوجدوه(5/86)
في الرمال، فأبلغوه سلام عمر، وسلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: عرفني أمير المؤمنين وشهر باسمي، السلام على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللهم صل عليه وعلى آله، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهراً، ثم عاد أيام علي فقاتل بين يديه فاستشهد في صفين أمامه، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة، من طعنة وضربة ورمية.
وروي عن ابن عمر قال: بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفناء الكعبة، إذ نزل عليه جبريل عليه السلام في صورة لم ينزل عليه مثلها قط، فقال: السلام عليك يا محمد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ".
فقال: يا محمد إنه سيخرج في أمتك رجل يشفع فيشفعه الله في عدد ربيعة ومضر فإن أدركته فسله الشفاعة لأمتك فقال: " أي حبيبي، يا جبريل، ما اسمه وما صفته؟ " فقال: أما اسمه فأويس، وأما صفته وقبيلته في اليمن من مراد، وهو رجل أصهب، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، بكفه اليسرى وضح أبيض، قال: فلم يزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطلبه فلم يقدر عليه، فلما احتضر النبي أوصي أبا بكر وأخبره بما قال له جبريل في أويس القرني: " فإن أنت أدركته فسله الشفاعة لك ولأمتي ".
فلم يزل أبو بكر يطلبه فلم يقدر عليه، فلما احتضر أبا بكر أوصى به عمر بن الخطاب وأخبره بما قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: يا عمر إن أنت أدركته فسله الشفاعة لي ولك ولأمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزل عمر يطلبه حتى كان آخر حجةٍ حجها عمر وعلي بن أبي طالب، فأتيا رفاق اليمن، فنادى عمر بأعلى صوته: يا معشر الناس، هل فيكم أويس القرني؟ أعاد مرتين، فقام شيخ من بعض الرفاق، فقال: يا أمير المؤمنين نعم.
هو ابن أخ لي، هو أخمل أمراً، وأهون ذكراً من أن يسأل مثلك عن مثله.
وساق الحديث بمعنى الأحاديث المتقدمة إلى آخره، فقال أويس: جزاك الله خيراً يا عمر عن هذه الأمة، وأنت يا علي فجزاك الله خيراً عن هذه الأمة، تعيشان حميدين وتموتان فقيدين، فقالا له: أوصنا بحاجتك يرحمك الله، فقال لهم أويس: أوصيكما بتقوى الله والعمل بطاعته والصبر على ما أصابكما فإن ذلك من عزم الأمور، وأوصيكما أن تلقيا هرم بن حيان فتقرئاه مني السلام، وخبراه أني أرجو أن يكون رفيقي في الجنة.
قال: فودعاه ولم يزل عمر وعلي رضي الله عنهما يطلبان هرم بن(5/87)
حيان، فبينما هما ماران في مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذا هما بهرم بن حيان قائماً يصلي، فانتظراه، فلما انصرف سلما عليه فرد عليهما السلام، ثم قال لهما: من أين جئتما؟ قالا: جئنا من عند أويس القرني وهو يقرئك السلام، وهو يقول لك: إني أرجو أن تكون رفيقي في الجنة قال: فلم يزل هرم بن حيان في طلب أويس، فبينا هو في الكوفة مارٌّ على شاطئ الفرات؛ إذا هو برجل أصهب، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، يغسل طمرين له من الصوف، فدنا منه هرم بن حيان فقال: السلام عليك ورحمة الله يا أويس، فأجابه بمثل ذلك من السلام وقال له: يا هرم بن حيان، قال له هرم: كيف الزمان عليك؟ قال له أويس: كيف الزمان على رجل إذا أصبح يقول: لا أمسي، ويمسي يقول: لا أصبح، يا أخا مراد إن الموت وذكره لم يترك للمؤمن فرحاً، وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يترك للمؤمن صديقاً، فقال له هرم: يا أويس أما معرفتك أن عمر وعلياً وصفاك لي فعرفتك بصفتهما فأنت من أين عرفتني؟ قال له أويس: إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها في الله ائتلف، وما تناكر في الله اختلف، قال له أويس: يا هرم اتل علي آيات من كتاب الله عز وجل، فتلا عليه هذه الآية: " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين " قال: فخرّ أويس مغشياً عليه، فلما أفاق قال له هرم: إني أريد أن أصحبك وأكون معك، فقال له أويس: لا يا هرم، ولكن إذا مت لا يكفني أحد حتى تأتي أنت، فتكفني، وتدفني، ثم إنهما افترقا، ولم يزل هرم بن حيان في طلب أويس حتى دخل مدينة من مدائن الشام يقال لها: دمشق؛ فإذا هو برجل ملفوف في عباءةٍ له، ملقى في صحن المسجد، فدنا منه فكشف العباءة عن وجهه؛ فإذا هو بأويس قد توفي، فوضع يده على أم رأسه، ثم قال: واأخاه! هذا أويس القرني مات ضائعاً، فقالوا له: من أنت يا عبد الله؟ ومن هذا؟ فقال: أما أنا فهرم بن حيان المرادي، وأما هذا فأويس القرني ولي الله، قالوا: فإنا قد جمعنا له ثوبين نكفنه فيهما، فقال لهم هرم: ما له بثمن ثوبيكم حاجة، ولكن يكفنه هرم بن حيان من ماله: قال: فضرب هرم بيده إلى مزود أويس فإذا هو بثوبين لم يكن له بهما عهد عند رأس أويس على أحدهما مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، براءة من الله الرحمن الرحيم لأويس القرني من النار، وعلى الآخر(5/88)
مكتوب: هذا كفن لأويس القرني من الجنة.
قال عبد الحمن بن أبي ليلى: لما كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي: فيكم أويس القرني؟ قالوا: نعم، فضرب دابته حتى دخل معهم، وقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير التابعين أويس القرني. " قال سلام بن مسكين: حدثني رجل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خليلي من هذه الأمة أويس القرني. " وعن إبراهيم بن عيسى اليشكري قال: قال أويس القرني: لأعبدن الله في الأرض كما تعبده الملائكة في السماء.
قال: فكان إذا استقبل الليل قال: يا نفس، الليلة القيام، فيصف قدميه حتى يصبح، ثم يستقبل الليلة الثانية، فيقول: يا نفس الليلة الركوع فلا يزال راكعاً حتى يصبح، ويستقبل الليلة الثالثة فيقول: يا نفس الليلة السجود فلا يزال ساجداً حتى يصبح.
وعن الربيع بن خثيم قال: أتيت أويس القرني فوجدته جالساً قد صلى الصبح، فقلت: لا أشغله عن، فمكث مكانه ثم قام إلى الصلاة حتى صلى الظهر ثم قام إلى الصلاة فقلت: لا أشغله عن العصر فصلى العصر ثم صلى المغرب، فقلت: لابد له من أن يرجع فيفطر، فثبت مكانه حتى صلوا العشاء الآخرة، فقلت: لعله يفطر بعد العشاء الآخرة، فثبت مكانه حتى صلى الفجر ثم جلس، فغلبته عيناه فانتبه وقال: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة، ومن بطن لا يشبع، فقلت: بي ما عاينت منه فرجعت.
ومن حديث آخر: كان أويس إذا أمسى تصدق بما في بيته من الفضل من الطعام والثياب، ثم يقول اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني به، ومن مات عرياناً فلا تؤاخذني به.
وكان أويس يقول إذا جنه الليل: اللهم إني أبرأ إليك من كل كبدٍ جائعة، ومن كل بدنٍ عار، اللهم لا أملك إلا ما ترى.(5/89)
جاء رجل إلى أويس القرني، فقال: السلام عليكم، فقال: وعليكم قال: كيف أنتم يا أويس؟ قال: فحمد الله.
قال: كيف الزمان عليكم؟ قال: ما دنيا رجلٍ إذا أصبح لم تر أنه يمسي، وإذا أمسى لم تر أنه يصبح، فيبشر بجنة أو بنار، يا أخا مراد، إن الموت لم يبق فرحاً، يا أخا مراد، قيام المؤمن بحقوق الله لم يبق ذهباً ولا فضة، يا أخا مراد، قيام المؤمن بأمر الله لم يبق صديقاً، والله إنا لنأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، فيرمونا بالعظائم، ويتخذونا أعداء، ويجدون على ذلك أعوناً، وايم الله لا يمنعني ذلك أن نقوم لله عز وجل بحق.
قال بشر بن الحارث: قال أويس: لا ينال هذا الأمر حتى تكون كأنك قتلت الناس أجمعين.
قال أويس القرني: لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قضاء من الله الذي قضى " شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ".
قال أبو سليمان: لما حج أويس القرني دخل المدينة، فلما وقف على باب المسجد قيل له: هذا قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فغشي عليه، فلما أفاق قال: أخرجوني فليس ببلدي بلدةٌ محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها مدفون.
مر أويس القرني على قصار في يوم شديد البرد، فرحمه أويس وجعل يبكي، فنظر إليه القصار، فقال له: يا أويس ليت تلك الشجرة لم تخلق.
قال: فما سمع جواب أسرع منه.
وعن عطاء قال: خرج أويس القرني غازياً راجلاً إلى ثغر أرمينية، فأصابه البطن، فالتجأ إلى أهل(5/90)
خيمة فمات عندهم، ومعه جراب وقعب، فقالوا لرجلين منهم: اذهب فاحفر له قبراً، قالوا: فنظرنا في جرابه فإذا فيه ثوبان ليسا من ثياب الدنيا وجاء الرجلان فقالا: قد أصبنا قبراً محفوراً في صخرة كأنما رفعت الأيدي عنه الساعة فكفنوه ودفنوه ثم التفتوا فلم يروا شيئاً.
وقال سليمان بن قيس العامري: رأيت أويس القرني بصفين صريعاً بين عمار وخزيمة بن ثابت.
إياس بن زيد ويقال ابن يزيد
أبو زكريا الخزاعي، والد عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي من التابعين، أدرك عمر بن الخطاب وكان عمر يثني عليه.
روى أبو زكريا الخزاعي عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رباط يوم وليلةٍ في سبيل الله عز وجل كصيام شهرٍ وقيامه، إن مات جرى له أجر المرابط إلى أن يبعث، وأومن من الفتان، وقطع له من الجنة رزق.
وعن أبي زكريا عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن المعروف لا يصلح إلا لذي دين، أو لذي حسبٍ، أو لذي حلم.
قال سعيد بن عبد العزيز: كتب عمر بن الخطاب إلى يزيد بن أبي سفيان أو إلى أبي الدرداء: وأقرئا مني الرجل الصالح السلام، يعني أبا زكريا والد عبد الله بن أبي زكريا.(5/91)
إياس بن معاوية بن قرة بن إياس
ابن هلال بن رئاب بن عبد العزيز بن دريد بن أوس بن سواءة بن عمرو بن سارية بن ثعلبة ابن ذبيان بن ثعلبة بن أوس بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وأوس هو ابن مزينة وهي أمه، وإليهما ينسب المزنيون ومزينة بنت كلب بن وبرة.
وقيل: هو إياس بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن زياد بن عبيد بن سواءة بن سارية وكنيته أبو واثلة المزني قاضي البصرة.
ولجده صحبة وأمه امرأة من خراسان.
قدم الشام في أيام عبد الملك، ثم قدم على عمر بن عبد العزيز في خلافته، ثم قدم مرة أخرى حين عزله عدي بن أرطاة عن القضاء.
حدث إياس بن معاوية قال:
كنا عند عمر بن عبد العزيز فذكر عند الحياء، فقالوا: الحياء من الدين، فقال عمر بن عبد العزيز: بل هو الإيمان كله.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين حدثني أبي عن جدي قرة المزني: قال كنا عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر عنده الحياء فقالوا: يا رسول الله الحياء من الدين؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الحياء والعفاف والعي عن اللسان لا عي القلب والعمل من الإيمان؛ وإنهن يزدن في الآخرة وينقصن من الدنيا، وما يزدن في الآخرة أكثر مما ينقصن من الدنيا، وإن الشح والفحش والبذاء من النفاق وإنهن ينقصن من الآخرة ويزدن في الدنيا، وما ينقصن من الآخرة أكثر مما يزدن في الدنيا ".
قال إياس: فحدثت به عمر بن عبد العزيز، فأمرني فأمليته عليه وكتبه بخطه، ثم صلى الظهر والعصر وإنها في كفه لم يضعها إعجاباً بها.
دخل إياس بن معاوية الشام وهو غلام فقدم إلى قاض لعبد الملك بن مروان، وكان خصمه شيخاً صديقاً للقاضي فقال له القاضي: يا غلام أما تستحي، أتقدم شيخاً كبيراً! قال إياس: الحق أكبر منه.
قال له: اسكت، قال: فمن ينطق بحجتي إذا سكت؟ قال: ما أحسبك تقول حقاً حتى تقوم.
قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: ما أظنك إلا ظالماً له! قال: ما على ظن القاضي خرجت من منزلي، فدخل القاضي على عبد الملك، فأخبره الخبر.
فقال له: اقض حاجته واصرفه عن الشام لا يفسد الناس علينا.(5/92)
استعمل عمر بن عبد العزيز عدي بن أرطاة الفزاري على البصرة، فولى إياس بن معاوية القضاء، فهرب إياس من عدي إلى عمر بن عبد العزيز.
قال سليمان بن زياد: خرج إياس إلى الشام إلى عمر بن عبد العزيز، فمات عمر قبل أن يصل إليه، فكان يجلس في مجلس مسجد دمشق في حلقة فيها قوم من قريش، فحدث رجل من بني أمية رجلاً بحديث، فرده إياس فأغلظ له الأموي، فقام إياس من الحلقة فقيل للأموي: إن هذا إياس بن معاوية المزني، قال: لم أعرفه، فلما عاد إياس من غدٍ، قال له الأموي: إنك جالستنا في ثياب السوقة بكلام الأشراف، فلم نحتمل ولم أكن عرفتك.
كان إياس قاضياً بالبصرة مرتين، وكان عاقلاً من الرجال فطناً، كان فقيهاً عفيفاً.
قيل لمعاوية بن قرة: كيف ابنك لك؟ قال: نعم الابن، كفاني أمر دنياي، وفرغني لآخرتي.
ذكر إياس بن معاوية عند ابن سيرين، فقال: إنه لفهمٌ إنه لفهمٌ.
قال: وكان رزق إياس كل شهر مائة درهم.
قال ابن شوذب: كان يقال: يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل.
فكانوا يرون أن إياس بن معاوية منهم.
ودخل عليه ثلاث نسوةٍ، فقال: أما واحدة فمرضع، والأخرى بكر، والأخرى ثيب، فقيل له: بم علمت؟ قال: أما المرضع فلما قعدت مسكت ثديها بيدها، وأما البكر فلما دخلت لم تلتف إلى أحد، وأما الثيب فلما دخلت نظرت ورمت بعينيها.
قال حماد بن سلمة: سمعت إياس بن معاوية يقول: أذكر الليلة التي ولدت فيها، وضعت أمي على رأسي جفنة.
قال المدائني: قال إياس بن معاوية لأمه: ما شيء سمعته وأنا صغير وله جلبةٌ شديدة؟ قالت:(5/93)
تلك يا بني طست سقطت من فوق الدار إلى أسفل، ففزعت، فولدتك تلك الساعة.
إياس بن معاوية: كنت في مكتب بالشام، وكنت صبياً، فاجتمع النصارى يضحكون من المسلمين، وقالوا: إنهم يزعمون أنه لا يكون تفل للطعام في الجنة، قال: قلت: يا معلم أليس يزعم الناس أن أكثر الطعام يذهب في البدن؟ فقال: بلى.
فقال: قلت: فما تنكر أن يكون الباقي يذهبه الله في البدن كله؟ فقال: أنت شيطان.
قال إياس بن معاوية: ما يسرني أن أكذب كذبةً لا يطلع عليها إلا أبي معاوية بن قرة لا أسأل عنهم يوم القيامة وأن لي بالدنيا بحذافيرها.
قال ابن شبرمة: قال إياس بن معاوية: إياك وما استشبع الناس من الكلام، وعليك بما يعرف الناس من القضاء.
قال إياس بن معاوية: ما خاصمت أحداً من أهل الأهواء بعقلي كله إلا القدرية.
قال: قلت: أخبروني عن الظلم ما هو؟ قالوا: أخذ ما ليس له.
قال: قلت: فإن لله تعالى كل شيء.
قال عدي: اجتمع إياس بن معاوية وغيلان عند عمر بن عبد العزيز فقال عمر: أنتما مختلفان، وقد اجتمعتما، فتناظرا تتفقا.
فقال إياس: يا أمير المؤمنين إن غيلان صاحب كلام، وأنا صاحب اختصار، فإما أن يسألني ويختصر أو أسأله وأختصر، فقال غيلان: سل.
فقال إياس: أخبرني ما أفضل شيء خلقه الله عز وجل؟ قال: العقل.
قال: فأخبرني عن العقل، مقسوم أو مقتسم؟ فأمسك غيلان.
فقال له: أجب فقال: لا جواب عندي.
فقال إياس قد تبين لك أمره يا أمير المؤمنين.
إن الله تبارك وتعالى يهب العقول لمن يشاء فمن قسم له منها شيئاً، ذاده به عن المعصية، ومن تركه تهور.(5/94)
قال الأصمعي: إن إياساً وغيلان اجتمعا، فقال له بعد سؤاله عن العقل وسكوته عن جوابه، قال له: سل عن غير هذا.
فقال له إياس: أخبرني عن العلم قبل أو العمل؟ فقال غيلان: والله لا أجبتك فيها.
فقال إياس: فدعها وأخبرني عن الخلق خلقهم الله مختلفين أو مؤتلفين؟ فنهض غيلان، وهو يقول: والله لا جمعني الله وإياك مجلس أبداً.
قال الأصمعي: ومن حديث عدي أن غيلان قال لعمر: أتوب إلى الله ولا أعود إلى هذه المقالة أبداً، فدعا عليه عمر إن كان كاذباً، فأجيبت دعوته.
قال عمر بن علي: قال رجل لإياس بن معاوية: يا أبا واثلة حتى متى يتوالد الناس ويموتون؟ فقال لجلسائه: أجيبوه.
فلم يكن عندهم جواب، فقال إياس: حتى تتكامل العدتان: عدة أهل النار، وعدة أهل الجنة.
قال سفيان بن حسين: سمعت إياس بن معاوية يقول: لأن يكون في فعال الرجل فضل عن قوله أجمل من أن يكون في قوله فضل عن فعاله.
قال سفيان بن حسين: كنت عند إياس بن معاوية وعنده رجل تخوفت إن قمت من عنده أن يقع في.
قال: فجلست حتى قام فلما قام ذكرته لإياس.
قال: فجعل ينظر في وجهي ولا يقول لي شيئاً حتى فرغت فقال لي: أغزوت الديلم؟ قلت: لا، قال: غزوت السند؟ قلت: لا، قال فغزوت الهند؟ قلت: لا، قال: غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: فسلم منك الديلم والسند والهند والروم، وليس يسلم منك أخوك هذا.
قال: فلم يعد سفيان إلى ذلك.
قال سفيان بن حسين: قال إياس بن معاوية: لابد للناس من ثلاثة أشياء.
لابد لهم من أن تأمن سبلهم، ويختار لحكمهم حتى يعتدل الحكم فيهم، وأن يقام لهم بأمر الثغور التي بينهم وبين عدوهم، فإن هذه الأشياء إذا قام بها السلطان احتمل الناس ما كان سوى ذلك من أثرة السلطان وكل ما يكرهون.(5/95)
قال العتبي: مر رجلان بإياس بن معاوية، فعرج عليه أحدهما، وتجاوز الآخر، فكان المعرج عليه أراد أن يغريه به قال: فقال إياس: أما أنت فعرجت بكرمك، وأما هو فاستمر على ثقته.
قال الأصمعي: قال إياس بن معاوية: امتحنت خصال الرجال، فوجدت أشرفها صدق اللسان، ومن عدم فضيلة الصدق فقد فجع بأكرم أخلاقه.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: قال إياس بن معاوية: يا ربيعة! كل ما بني على غير أساس فهو هباء، وكل ديانة أسست على غير ورع فهي هباء.
حدث المستنير بن لأخضر عن إياس بن معاوية قال: جاءه دهقان، فسأله عن المسكر، أرحام هو أم حلال؟ فقال: هو حرام.
فقال: كيف يكون حراماً؟ أخبرني عن التمر، أحلال أم حرام؟ قال: حلال.
قال: فأخبرني عن الكشوث، أحلال هو أم حرام؟ قال: حلال.
قال: فأخبرني عن الماء.
قال: حلال.
قال: فما خالف ما بينهما، وإنما هو التمر والكشوث والماء، أن يكون هذا حلالاً وهذا حراماً؟ فقال إياس للدهقان: لو أخذت كفاً من تراب، فضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: لا.
قال: فأخذت كفاً من ماء، فنضحته في وجهك، أكان يوجعك؟ قال: لا.
قال: فأخذت كفاً من تبن، فضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: لا.
قال: فإذا أخذت هذا التراب، فعجنته بالتبن والماء، ثم جعلته كتلاً حتى يجف، فضربتك به، أكان يوجعك؟ قال: نعم.
ويقتلني! قال: فكذا هو التمر والماء والكشوت، إذا جمع ثم عتق حرم، كما يجفف هذا.
أرسل عمر بن عبد العزيز رجلاً من أهل الشام، وأمره أن يجمع بين إياس وبين(5/96)
القاسم بن ربيعة الجوشني من بني عبد الله بن غطفان، ويولي القضاء أنفذهما، فقدم يجمع بينهما، فقال إياس للشامي: سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن وابن سيرين، ولم يكن إياس يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال للشامي: لا تسل عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفضل مني وأفقه، وأعلم بالقضاء، فإن كنت فيمن يصدق، فينبغي لك أن تصدق قولي، وإن كنت كاذباً فما يحل أن توليني وأنا كذاب، فقال إياس للشامي: إنك جئت برجل فأقمته على جهنم، فافتدى نفسه من النار أن تقذفه فيها بيمين حلفها كذب فيها يستغفر الله عز وجل منها، وينجو مما يخاف.
فقال الشامي: أما إذ فطنت لها فإني أوليك، فاستقضاه، فلم يزل على القضاء سنة ثم هرب، وكان يفصل بين الناس، إذا تبين له الأمر حكم به.
قيل لإياس لما ولي القضاء: إنك تعجل بالقضاء.
قال إياس: كم بكفك من إصبع؟ فقال: خمسة، فقال له إياس: عجلت بالجواب، قال: لم يعجل من استيقن علماً، فقال إياس: هذا جوابي.
قال حميد الطويل: لما ولي إياس بن معاوية القضاء دخل عليه الحسن وإياس يبكي.
فقال له: ما يبكيك؟ فذكر إياس الحديث: " القضاة ثلاثةٌ، اثنان في النار، وواحد في الجنة ".
فقال الحسن: إن فيما قص الله عليك من نبأ داود وسليمان ما يرد قول هؤلاء الناس، ثم قرأ: " وداود وسليمان إذا يحكمان الحرث " إلى قوله " ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً " فحمد سليمان ولم يذم داود.
وفي رواية أنه قال: " القضاة ثلاثة: رجل اجتهد وأخطأ فهو في النار، ورجل مال به الهوى فهو في النار، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة ".
قال الحسن: أخذ الله على الحكام ثلاثة: أن لا يشتروا به ثمناً، ولا يخشوا فيه الناس، وأن لا يتبعوا الهوى.
قال: ثم قرأ هذه الآية: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك " وقال: "(5/97)
ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ".
قال إبراهيم لإياس بن معاوية: لولا خصال فيك كنت أنت الرجل.
قال: وما هي؟ قال: تقضي قبل أن تفهم، ولا تبالي من جالست، ولا تبالي ما لبست.
قال: أما قولك: أقضي قبل أن أفهم، فأيهم أكثر ثلاثة أو اثنان؟ قال: لا.
بل ثلاثة قال: ما أسرع ما فهمت! قال: ومن لا يفهم هذا! قال: ذلك أنا، لا أقضي حتى أفهم.
وأما قولك: إني لا أبالي مع من جلست، فإني أجلس مع من يرى لي، أحب إلي من أن أجلس مع من أرى له.
وأما قولك: إني لا أبالي ما لبست، فلأن ألبس ثوباً يقي نفسي، أحب إلي من ألبس ثوباً أقيه بنفسي.
قال أبو محمد القرشي: استودع رجل رجلاً مالاً.
ثم طلبه فجحده، فخاصمه إلى إياس بن معاوية، فقال الطالب: إني دفعت المال إليه.
قال: ومن حضرك؟ قال: دفعته إليه في مكان كذا وكذا، ولم يحضرنا أحد.
قال: فأي شيء كان في ذلك الموضع؟ قال: شجرة.
قال: فانطلق إلى ذلك الموضع، وانظر إلى الشجرة، فلعل الله تعالى يوضح لك هناك ما يبين لك حقك، لعلك دفنت مالك عند الشجرة ونسيت، فتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى الرجل وقال إياس للمطلوب: اجلس حتى يرجع خصمك، فجلس وإياس يقضي وينظر إليه ساعة، ثم قال له: يا هذا أترى صاحبك بلغ موضع الشجرة التي ذكر؟ قال: لا.
قال: يا عدو الله إنك لخائن.
قال: أقلني أقالك الله، فأمر من يحتفظ به حتى جاء الجل، فقال له إياس: قد أقر لك بحقك فخذه به.
واستودع رجل رجلاً مالاً.
قال: وكان أميناً لا بأس به وخرج المستودع إلى مكة، فلما رجع طلبه فجحده، فأتى إياس بن معاوية، فأخبره، فقال له إياس: أعلم أنك أتيتني؟ قال: لا.
قال: فنازعته عنه أحد؟ قال: لا.
لم يعلم أحد بهذا قال: فانصرف واكتم أمرك، ثم عد إلي بعد يومين، فمضى الرجل، فدعا إياس أمينه ذاك، قال: قد حضر مال كثير أريد أن أصيره إليك، أفحصينٌ منزلك؟ قال: نعم.
قال: فأعد موضعاً للمال(5/98)
وقوماً يحملونه، وعاد الرجل إلى إياس، فقال له: انطلق إلى صاحبك فاطلب مالك، فإن أعطاك فذاك، وإن جحدك فقل له: إني أخبر القاضي، فأتى الرجل صاحبه، فقال له: مالي وإلا أتيت القاضي وشكوت إليه أمري، فدفع إليه ماله، فرجع الرجل إلى إياس، فقال: قد أعطاني المال، وجاء الأمين إلى إياس لموعده فزبره وانتهره، وقال: لا تقربني يا خائن.
واستودع رجل رجلاً كيساً فيه دنانير وغاب الرجل، فطالت غيبته فلما طال الأمر، فتق المستودع من أسفله، وأخذ الدنانير وجعل في الكيس دراهم وخيطه والخاتم على حاله، فقدم صاحب المال بعد خمس عشرة سنة وطلب ماله، فدفع إليه الكيس بخاتمه فلم يقبله، وقال: هذه دراهم، ومالي دنانير.
قال: هذا كيسك بخاتمك، فرافعه إلى عمر بن هبيرة، فقال لإياس بن معاوية: انظر في أمر هذين.
فقال إياس للطالب: ما تقول؟ قال: أعطيته كيساً فيه دنانير.
قال: مذ كم؟ قال: مذ خمس عشرة سنة.
قال للآخر: ما تقول؟ قال: كيسه بخاتمه.
قال: منذ كم؟ قال: منذ خمس عشرة سنة.
قال: ففضوا الخاتم، ونثروا الدراهم، فوجدوا ضرب عشر سنين وخمس سنين، فأقر بالدنانير، فألزمه إياها.
قال معتمر: رد رجل جارية اشتراها من رجل غلبه، فخاصمه إلى إياس بن معاوية، فقال له: لم تردها؟ قال: أردها بالحمق.
قال إياس لها: أي رجليك أطول؟ قالت: هذه.
قال: تذكرين أي ليلة ولدت؟ قالت: نعم.
فقال له إياس: رد رد.
قال المدائني: قيل لإياس بن معاوية: ما فيك إلا كثرة الكلام قال: أفتسمعون صواباً أو خطأ؟ قالوا: لا بل صواباً.
قال: فالزيادة من الخير خير.
قال: وما رمي إياس بالعي قط، وإنما عابوه بالإكثار.
قال محمد بن سلام: قيل لإياس: ما فيك عيب، غير أنك معجب بقولك.
فقال لهم: أو أعجبكم قولي؟(5/99)
قالوا: نعم، قال: فأنا أحق بأن أعجب بما أقول وما يكون مني.
قال: وهذا مما استحسنه الناس من قوله.
قال ابن شوذب: كان أبو إياس يقول: الناس ولدوا أبناءً وولدت أباً.
توفي إياس بن معاوية سنة اثنتين وعشرين ومئة بواسط.
أيمن بن خريم بن الأخرم بن شداد
ابن عمرو بن فاتك بن القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار أبو عطية الأسدي، له صحبة كان يسكن دمشق ثم تحول إلى الكوفة.
روى عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أيمن إن قومك أسرع العرب هلاكاً ".
وحدث أيمن بن خريم قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطيباً فقال: " يا أيها الناس عدلت شهادة الزور إشراكاً بالله ".
ثلاثاً، ثم قرأ " فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ".
خريم أوله خاء معجمة مضمومة وراء مفتوحة.
وأمه الظناء وأمه الصماء بنت ثعلبة بن عمرو بن حصين بن مالك الأسدي.
قال الشعبي: أتاني عامريٌّ وأسديٌّ قال: وقد أخذ العامري بيد الأسدي فهو لا يفارقه قال: فقلت له: يا أخا بني عامر إنه قد كانت لبني أسد ست خصال لا أعلمها، كانت بحي من العرب: كانت امرأة زوجها الله عز وجل بنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السماء، والسفير بينهما جبريل، أفكانت هذه لقومك؟ وكان أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش الأسدي، أفكانت هذه(5/100)
لقومك؟ وكان أول مغنم قسم في الإسلام مغنم عبد الله بن جحش، أفكانت هذه لقومك؟ وكان منهم رجل يمشي بين الناس مقنعاً، وهو من أهل الجنة عكاشه بن محصن الأسدي أخو بن غنم بن دودان، فكانت هذه لقومك؟ وكان أول من بايع بيعة الرضوان أبو سنان عبد الله بن وهب فقال: يا رسول الله ابسط يدك أبايعك قال: " على ماذا؟ " قال: على ما في نفسك.
قال: " وما في نفسي؟ " قال: فتح أو شهادة.
قال: " نعم ".
فبايعه.
قال: فجعل الناس يبايعونه ويقولون: على بيعة أبي سنان على بيعة أبي سنان.
فكانت هذه لقومك؟ وكانوا سبع المهاجرين.
روى الشعبي قال: قال مروان لأيمن بن خريم يوم المرج يوم قتل الضحاك بن قيس: ألا تخرج فتقاتل معنا؟ قال: لا.
إن أبي وعمي شهدا بدراً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعهدا إلي أن لا أقاتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله.
قال: ائتني ببراءة من النار فأنا معك، قال: اذهب فلا حاجة لنا فيك، فقال: " من الوافر "
ولست بقاتلٍ رجلاً يصلي ... على سلطان آخر من قريش
له سلطانه وعلي إثمي ... معاذ الله من جهلٍ وطيش
أأقتل مسلماً في غير شيءٍ ... فلست بنافعي ما عشت عيشي
قال الواقدي: حديث خريم بن فاتك أنه قال: إن أبي وعمي شهدا بدراً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما شهد أبوه ولا عمه بدراً وأنكر ذلك هو والعلماء وقالوا: أهل بدر أعرف من ذلك لا يستطاع الزيادة فيهم ولا النقصان.(5/101)
قال المدائني: كان أيمن بن خريم بن فاتك عند عبد العزيز بن مروان بمصر، فدخل عليه نصيب فأنشده مديحاً امتدحه به، فقال لأيمن: نصيبٌ أشعر منك، قال: لا والله، ولكنك طرفٌ ملولٌ فقال: أتقول: إني ملولٌ وأنا أواكلك مذ كذا وكذا وكان بأيمن برصٌ في يده فغضب ولحق ببشر بن مروان فقال: " من الوافر "
ركبت من المقطم في جمادى ... إلى بشر بن مروان البريدا
ولو أعطاك بشرٌ ألف ألفٍ ... رأى حقاً عليه أن يزيدا
قال: ومر به نصيب بالكوفة فقال له: إني تركت غديراً ناضباً وأتيت بحراً زاخراً، وكان بشر لا يؤاكل أيمن، فاشتهى يوماً لبنا وقال للحاجب: اخرج فانظر لي من يأكل معي، فخرج فأدخل أيمن بن خريم، فلما رآه بشر آساه فقال: إني اشتهيت البارحة لبنا فهيئ لي، وأصبحت أنوي الصوم فأتيت باللبن فلما وضع بين يدي ذكرت أني صائم وليس أحد أحق بأكله منك فدونكه.
فلم يلبث أن صفره وكان يغير بياض يده بالزعفران.
أيمن بن نابل كنيته أبو عمران
ويقال: أبو عمر المكي الحبشي مولى أبي بكر اجتاز بدمشق حين توجه إلى غزو الروم.
روى أيمن بن نابل عن قدامة بن عبد الله: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ناقةٍ صهباء يرمي الجمرة، لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك.(5/102)
قال أيمن بن نابل: سألت قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: إن ريش الحمام قد كثر في المسجد فإذا سجد أحدنا دخل في عينيه، فقال: انفخوا.
وحدث أيمن بن نابل عن ابن الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمنا التشهد: " بسم الله التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصاحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله نسأل الله الجنة ونعوذ بالله من النار ".
قال أيمن بن نابل: كنت أسير مع مجاهد في أرض الروم فسألته عن صوم السفر فقال: صم فأنا الساعة صائم.
ونابل بالباء الموحدة تحتها.
قال السيناني: دلني على أيمن بن نابل سفيان الثوري فقال: هل لك في أبي عمران؟ فلقيته فإذا رجل حبشيٌّ طوال ذا مشافرٍ مكفوف.
وكان أيمن بن نابل من سودان مكة المعتقين، وكان فصيحاً عابداً فاضلاً يحدث عنه بزهد وفضل، فقال يحيى: كان أيمن ثقة وكان لا يفصح وكانت فيه لكنة.
وقال الدارقطني: أيمن ليس بالقوي خالف الناس ولو لم يكن إلا حديث التشهد.(5/103)
أيمن رجل من ثقيف
والد إسحاق أبي أيمن، من أهل حمص، حكى عن ابن يناق صاحب رحاب، ورحاب قرية من عمل الصويت من نواحي دمشق.
وروى عنه ابنه إسحاق أبو أيمن أنه سمع ابن يناق صاحب رحاب يقول: أنزلت في هذا الأندر ملوكاً، كسرى وقيصر وأمير المؤمنين عمر، وقد هيأت هذا المنزل لعمر كما كنت أهيئه لمن كان قبله، فإني لفي تهيئة طعام الناس وما يصلحهم جعلت أتعاهد المكان الذي أعددته له لا ينزله أحد، فأتيته فإذا فسيطيط يضرب فيه، فقلت: تنحوا رحمكم الله فإن هذا المكان أعددته لأمير المؤمنين، فقالوا: أمير المؤمنين الذي يأخذ بعمود الفسطاط؟؟! فخرج علي فإذا عليه قميص كرابيس وسخ قد كاد يتقطع من الوسخ فقلت: يا أمير المؤمنين ألا أغسل قميصك هذا حتى يجف عليك؟ قال: بلى إن شئت.
فاغتنمت ذلك فدعوت بقميص قبطي قد خيط فلبسه، فلما وجد لينه وقعقعته قال: ويحك يا بن يناق ائتني بقميصي قال: فجئته به ولما يجف بعد، فذهبت أدخله بيتاً، فرأى فيه صورة فأبى أن يدخله، ثم أتيته بعسل فشربه، فقال: إن هذا لا يسع الناس فهل من شراب يسع الناس؟ فأتيته بطلاء قد طبخ على الثلثين فنظر إليه فقال: ما أشبه هذا بطلاء الإبل، ثم سقى رجلاً منه، فشربه، فقال: أتجد دبيباً تجد شيئاً؟ قال: لا، ثم ثنى، فقال: تجد شيئاً؟.
قال: لا.
قال: ثم ثلث، فقال: أتجد شيئاً؟ قال: لا، قال: قم فامش، فمشى حتى رجع، فقال: أتجد دبيباً تجد شيئاً؟ قال: لا، قال: فقال: نعم ارزق الناس من هذا، وكتب به إلى سعد بالكوفة.(5/104)
أيوب نبي الله صلى الله على نبينا وعليه وسلم بن زارح بن آموص بن ليفزر بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام
ويقال: أيوب بن آموص بن رازح بن رعويل بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل واختلف فيه على غير ذلك.
وكان أيوب عليه السلام يسكن بالشام وديره معروف بناحية البثنية من نواحي دمشق بقرب نوى وموضع مغتسله وأندرته بتلك القرية معروف، وكانت له البثنية بأسرها سهلها وجبلها، وكانت له الخيل والإبل والبقر والغنم والحمير والعبيد.
وأم أيوب بنت لوط النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وكان تحته رحمة بنت منشأ بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق عليهم السلام.
قال وهب بن منبه: كان أيوب أعبد أهل زمانه وأكثرهم مالاً، وكان لا يشبع حتى يشبع الجائع، وكان لا يكتسي حتى يكسو العاري، وكان إبليس قد أعياه أمر أيوب عليه السلام ليغويه فلا يقدر، وكان عبداً معصوماً.
قال: وكانت شريعة أيوب عليه السلام بعد التوحيد إصلاح ذات البين، وإذا طلب حاجة إلى الله عز وجل خر ساجداً ثم طلب.
وروي عن ابن عباس أنه قال: يا صاحب الذنب لا تأمن سوء عاقبته، ولما تتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، فإن قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال، وأنت على الذنب أعظم من الذي عملته، وضحكك وأنت لا تدير ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرت به أعظم من الذنب، وحزنك من الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب إذا ظفرت به، وخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب لا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك(5/105)
أعظم من الذنب إذا عملته.
ويحك هل تدري ما كان ذنب أيوب فابتلاه الله بالبلاء في جسده، وذهاب ماله؟ إنما كان ذنب أيوب أنه استعان به مسكين على ظلم يدرؤه عنه فلم يعنه، ولم يأمر بمعروف وينه الظالم عن ظلم هذا المسكين، فابتلاه الله عز وجل.
حدث أبو إدريس الخولاني قال: أجدب الشام فكتب فرعون إلى أيوب عليه السلام أن هلم إلينا فإن لك عندنا سعةً، فأقبل بخيله وماشيته وبنيه، فأقطعهم وبنيهم، فدخل شعيب عليه السلام، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ذكر شعيب قال: ذاك خطيب الأنبياء.
قال: يا فرعون أما تخاف أن يغضب الله فيغضب لغضبه أهل السموات والأرض والجبال والبحار؟ فسكت أيوب، فلما خرجا من عنده، أوحى الله إلى أيوب: يا أيوب، أوسكتّ عن فرعون لذهابك إلى أرضه؟ استعد للبلاء، قال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم، وآوي الغريب، وأشبع الجائع، وأكفت الأرملة؟ فمرت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق، يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه، وقال: أنت يا رب.
فأوحى الله إليه: استعد للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلمه لك قال: فما أبالي.
قال الليث بن سعد: كان السبب الذي أصاب أيوب وابتلي به أنه دخل أهل قريته على ملكهم وهو جبار من الجبابرة - وذكر بعض ما كان ظلمه الناس ويقع به عليهم - فكلموه فأبلغوا في كلامه ورفق أيوب في كلامه له مخافةً لزرعه، فقال الله: " اتقيت عبداً من عبادي من أجل زرعك أن تصدقه مخافة منك أن يغلظ عليك؟ " فأنزل الله عز وجل به ما أنزل به من البلاء.
قال الحسن:
ضرب أيوب بالبلاء ثم البلاء بعد البلاء بذهاب الأهل والمال، ثم ابتلي في بدنه، ثم ابتلي حتى قذف به في بعض مزابل بني إسرائيل، قال الحسن: فما يُعلم أيوب دعا الله عز وجل يوماً أن يكشف ما به ليس ذلك إلا صبراً واحتساباً حتى مر به رجلان، فقال أحدهما(5/106)
لصاحبه: لو كان لله في هذا حاجة ما بلغ به هذا كله، فسمع أيوب فشق عليه، فقال: رب مسني الضر ثم رد ذلك إلى ربه فقال " وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قال: وأتيناه أهله في الدنيا ومثلهم معهم بالآخرة.
وعن ابن عباس قال: قالت امرأة أيوب لأيوب: إنك رجل مجاب الدعوة، فادع الله أن يشفيك، فقال: كنا في النعماء سبعين سنة، فدعينا نكون في البلاء سبعين سنة، قال: فمكث في ذلك البلاء سبع سنين.
قال قتادة: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين ملقًى على كناسة بيت المقدس.
وعن الحسن قال: إن كانت الدودة تقع من جسد أيوب عليه السلام فيأخذها فيعيدها إلى مكانها، ويقول: كلي من رزق الله عز وجل.
قال الفضيل بن عياض: كان بين فراق يوسف حجر يعقوب إلى أن التقيا ثمانون سنة، قال: ومكث أيوب مطروحاً في الكناسة سبع سنين لا يسأل الله عز وجل أن يكشف عنه، قال: وما على ظهر الأرض خليفة أكرم على الله عز وجل يومئذ من أيوب.
سئل أبو العباس بن عطاء: عن قوله عز وجل: " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " فقال: إن الله عز وجل سلط الدود على جسم أيوب كله إلا على قلبه ولسانه، فكان القلب غنياً بالله قوياً، واللسان بذكر الله رطباً دائماً، يأكل الدود الجسم كله حتى بقيت أضلاعه مشبكةً والعروق ممدودةً، وحتى ما بقي للدود شيئاً يأكله، فسلط الله الدود بعضه على بعض، فأكل بعضه بعضاً حتى بقيت دودتان، فجاعتا جميعاً، فشدت إحداهما على الأخرى فأكلتها، وبقيت واحدة فجاعت ودنت إلى القلب لتنقره، فقال أيوب عليه السلام عند ذلك " مسني الضر " أن(5/107)
فقدت حلاوة ذكرك من قلبي، لأنك لو جمعت البلاء كله علي بعد أن لا أفقدك من قلبي ما وجدت للبلاء ألماً، فأوحى الله عز وجل إليه: " يا أيوب إنك لتنظر إلي غداً "، قال: يا رب بهاتين العينين، فقال له عز وجل: " يا أيوب أجعل لك عينين يقال لهما: البقاء، فتنظر إلى البقاء بالبقاء ".
قال وهب بن منبه: لم يكن أصاب أيوب الجذام ولكنه أصابه أشد منه، كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقأ.
قال طلحة بن مصرف: قال إبليس: ما أصبت من أيوب شيئاً أفرح به إلا أني كنت إذا سمعت أنينه علمت أني قد أوجعته.
قال سفيان: لم يفقه عندنا من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.
قال ابن عباس: اتخذ إبليس تابوتاً فجلس في الطريق وجعل يداوي المرضى قال: فمرت به امرأة أيوب، فقالت له: هل لك أن تداوي هذا المبتلى؟ قال: نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجراً غيره.
قال: فأتت أيوب فذكرت ذلك له.
قال: ويحك ذاك الشيطان، لله علي إن عافاني لأجلدنك مائة جلدة قال: فلما عوفي قال الله له: " خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث " قال: فاتخذ عذقاً في مئة شمراخ فضربها به ضربةً واحدة.
قال وهب بن منبه: قال إبليس لامرأة أيوب: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً! فاتبعيني فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في واد، فقال: اسجدي لي وأرد(5/108)
عليكم، فقالت: إن لي زوجاً أستأمره، فأخبرت أيوب فقال: أما آن لك أن تعلمي؟ ذلك الشيطان، لئن برئت لأضربنك مئة جلدة.
وعن مجاهد في قوله تعالى: " وخذ بيدك ضغثاً " قال: هي لأيوب خاصة.
وقال عطاء: هي للناس عامة، وقال الحسن: فنادى حين نادى " إني مسني الشيطان بنصبٍ وعذاب " فأوحى الله عز وجل إليه " اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ " قال: فركض ركضة خفيفة، فإذا عين تنبع حتى غمرته فرد الله عز وجل جسده، ثم مضى قليلاً، ثم قيل له: " اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب " فركض ركضة أخرى، فإذا هو بعينٍ تجري فشرب منها، فطهرت جوفه، وغسلت كل قذرٍ كان فيه.
قال ليث بن سليم: قيل لأيوب عليه السلام: يا أيوب لا يعجبك تصبرك، فإني قد علمت ما في كل شعرة من لحمك ودمك، ولولا أني أعطيت موضع كل شعرة منك صبراً ما صبرت.
ولما اشتد على أيوب البلاء أوحى الله إليه: " لو أصبحت في يدي عبد من عبيدي لأصبحت في بلاء أشد من البلاء الذي أنت فيه، ولكنك أسير في يدي وأنا أرحم الراحمين ".
وهب بن منبه قال: إن إبليس طار في المردة، فأتى مشارق الأرض ومساربها لينظر هل يجد عبداً لله عز وجل مخلصاً يثني على ربه فيغويه؟ قال: فأتاه نداء: يا لعين أتعلم أن أيوب عليه السلام عبد صالح مخلص لله عز وجل لا تستطيع أن تغويه، قال: يا رب إن أيوب قد أعطيته من المال والولد والسعة وقرة العين في الدنيا إذا نظر إليه فلا يستطيع أحد أن يغويه، ولكني سلطني على ماله وولده، وكان له ثلاثة عشر ولداً ذكوراً كلهم، وكانوا من رحمة بنت منشّا بن يوسف بن يعقوب، فقال: سلطني عليهم، فترى أيوب كيف يطيعني(5/109)
ويعصيك، ويؤمن بي ويكفر بك، فقال: اذهب فقد سلطتك على ماله وولده، قال: فرجع إبليس إلى مجلسه وجمع شياطينه ومردته فقالوا: سيدنا لم حشرتنا وجمعتنا ودعوتنا؟ قال: ألا ترون هذا العبد الذي أثنى عليه ربه ومدحه، وزعم أني لا أستطيع أن أغويه، وقد سلطني على ماله وولده؟ فقاموا جميعاً، فقالوا: نحن عونك عليه.
قال: فما عندكم؟ فقامت طائفة منهم مثل الجيش العظيم، معهم عواصف الريح، وقام قومٌ منهم صاحوا صيحةً خرجت لأفواههم كلهب النيران، وقام قوم منهم صاحوا صيحة رجفت الأرض منها، فقال للذين جاؤوا بعواصف الريح: انطلقوا إلى دواب أيوب وغنمه ورعاته فاحتملوها حتى تقذفوها في البحر، وأنا منطلق إليه في صورة قيمه بشأنهم فأغويه.
قال: فانطلقوا فجاؤوا بالرياح من أركان الأرض فعصفتهم ثم احتملتهم حتى قذفتهم في البحر فغرقتهم، فجاء إبليس في صورة قيمه إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال: يا أيوب ألا أراك قائماً تصلي وقد أقبلت ريح عاصف فاحتملت دوابك وغنمك برعاتها فعصفتها وقذفتها في البحر فغرقتها وأنت قائم تصلي! قال: فلم يرد عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته فقال: الحمد لله الذي هو رزقنيه ثم قبله مني كالقربان النقي وميزك منهم كما يميزوا الزوان من القمح.
قال: فانصرف خائباً، فدعا الذين يخرج من أفواههم كلهب النيران فقال: انطلقوا إلى جنان أيوب وزرعه فأحرقوها حتى أذهب أنا إليه في صورة قيمة فأغويه، فانطلقوا فصاحوا صيحة فتوجهت ناراً من أفواههم كأنها لهب النار فأتت على جنانه ومزارعه ومعايشه فصارت كالرميم، وجاء إبليس في صورة قيمه فسلم وأيوب قائم يصلي، فقال: يا أيوب ألا أراك قائماً تصلي وقد جاء الحريق فأتى على جنانك ومزارعك ومعايشك كلها فصارت كالرميم! فلم يرد عليه شيئاً حتى فرغ من صلاته فقال: الحمد لله الذي رزقنيه ثم قبضه مني كالقربان النقي يقربه صاحبه وميزك منه كما يميز الزوان من القمح ولو كان فيك خير لقبضك معهم، ثم أقبل على صلاته، فرجع إبليس فدعا هؤلاء الذين يزيلون الأرض بصيحتهم، فقال: اذهبوا إلى منازل أيوب حتى تزلزلوا بهم وترمسوا فيها ولده وخدمه، قال: فانطلقوا فصاحوا صيحة عظيمة جعلوها دكةً واحدة، ثم جاء إبليس إلى أيوب في صورة حاضن ولده، فقال: يا أيوب إنه قد جاءت صيحة فصارت منزلك دكةً واحدة فما بقي لك ولد ولا خادم إلا رمس تحته، وأنت قائم تصلي! قال: فانصرف، فقال: الحمد لله الذي هو رزقنيهم وقبضهم مني كالقربان النقي وميزك من بينهم كما يميز الزوان من القمح،(5/110)
ولو كان فيك خيراً لقبضك معهم، فانصرف إبليس عدو الله خائباً منكسراً، فأتاه نداء " كيف رأيت عبدي أيوب؟ " قال: يا رب! إن أيوب قد علم أنك ستعوضه بكل واحدٍ اثنين، ولكن سلطني على جسده فسوف ترى كيف يطيعني ويعصيك، ويؤمن بي ويكفر بك؛ قال: اذهب فقد سلطتك على جسده من غير أن أسلطك على روحه، فجاء فنفخ في إبهام قدميه.
قال: فاشتعل فيه مثل النار.
وروي عن مجاهد أن أول من أصابه الجدري أيوب عليه السلام.
وعن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" إن أيوب نبي الله لبث في بلائه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين، قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: مذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب عليه السلام: لا أدري ما يقول، غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق، وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأت عليه، فأوحي إلى أيوب " اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب " فاستبطأته فبلغته ينتظر فاستقبلته فتلقته، فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ ووالله على ذلك ما رأيت أحداً أشبه به منك إذ كان صحيحاً، قال: فإني أنا هو، وكان له أندران أندر القمح وأندر الشعير، فبعث الله سحابتين فكانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق حتى فاض ".
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بينما أيوب يغتسل عرياناً(5/111)
خر عليه جراد من ذهب، فجعل أيوب يخبئ في ثوبه، فناداه ربه عز وجل: " يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ " قال: بلى يا رب، ولكن لا غناء بي عن بركتك.
وفي حديث آخر بمعناه، قال: يا رب من يشبع من رحمتك أو من فضلك؟ وعن ابن عباس قال: سألت نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله: " ووهبنا له أهله ومثلهم معهم " قال: " يا بن عباس رد الله امرأته إليه، وزاد في شبابها حتى ولدت له ستة وعشرون ذكراً، وأهبط الله إليه ملكاً، فقال: يا أيوب إن الله يقرئك السلام بصبرك على البلاء، فاخرج إلى أندرك، فبعث الله سحابة حمراء فهبطت عليه بجراد الذهب، والملك قائم معه، فكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردها في أندره، قال الملك: يا أيوب أما تشبع من الداخل حتى تتبع الخارج؟ فقال: إن هذه بركة من بركات ربي وليس أشبع منها ".
وروي عن ابن عباس: أن أيوب عاش بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية وعلى ذلك مات، وتغيروا بعد ذلك وغيروا دين إبراهيم كما غيره من كان قبلهم.
حدث وهب بن منبه أن ابن عباس طاف بالبيت حين أصبح سبوعاً، وأنا وطاوس معه وعكرمة مولاه، وكان قد رق بصره فكان يتوكأ على العصا، فلما فرغ من طوافه انصرف إلى الحطيم فصلى ركعتين ثم نهض فنهضنا معه فدفع عصاه إلى عكرمة مولاه، وتوكأ علي وعلى طاوس، ثم انطلق بنا إلى غربي الكعبة بين باب بني سهم وباب بني جمح فوقعنا على قوم بلغ ابن عباس أنهم يخوضون في حديث القدر وغيره مما يختلف الناس فيه، فلما وقف عليهم سلم عليهم، أجابوه ورحبوا وأوسعوا له، فكره أن يجلس إليهم ثم قال: يا معشر المتكلمين فيما لا يعنيهم ولا يرد عليهم، ألم تعلموا أن لله عباداً قد أسكتتهم خشيته من غير عيٍّ ولا بكم(5/112)
وإنهم لهم الفصحاء الطلقاء النبلاء الألباء العالمون بالله وبآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم وكسرت قلوبهم وطاشت عقولهم إعظاماً لله عز وجل وإعزازاً وإجلالاً، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله عز وجل بالأعمال الزاكية، يعدون أنفسهم من الظالمين الخاطئين، وإنهم لأنزاه برآء، ومع المقصرين والمفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء، ولكنهم لا يرضون منه بالقليل ولا يستكثرون له الكثير ولا يدلون عليه بالأعمال، متى ما لقيتهم فهم مهتمون محزونون مروعون خائفون مشفقون وجلون فأين أنتم منهم؟ يا معشر المبتدعين اعلموا أن أعلم الناس بالقدر أسكتهم عنه، وأن أجهل الناس بالقدر أنطقهم فيه.
قال وهب: ثم انصرف عنهم وتركهم، فبلغ ابن عباس أنهم قد تفرقوا عن مجلسهم ذلك، ثم لم يعودوا إليه حتى هلك ابن عباس.
وفي حديث آخر عن وهب قال:
بلغ ابن عباس عن مجلس كان في ناحية بني سهم يجلس فيه ناس من قريش فيختصمون فترتفع أصواتهم، فقال لي ابن عباس: انطلق بنا إليهم، فانطلقنا حتى وقفنا عليهم، قال ابن عباس: أخبرهم عن كلام الفتى الذي كلم به أيوب وهو في حاله، قال وهب: فقلت: قال الفتى: يا أيوب أما كان في عظمة الله وذكر الموت ما يكل لسانك ويقطع قلبك ويكسر حجتك؟ يا أيوب أما علمت أن لله عباداً أسكتتهم خشية الله من غير عيٍّ ولا بكم، وإنهم لهم الفصحاء الطلقاء الألباء العالمون بالله وآياته، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله تقطعت قلوبهم وكلت ألسنتهم وطاشت عقولهم وأحلامهم فرقاً من الله وهيبة له، فإذا استفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون له بالقليل، يعدون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين، وإنهم لأنزاه أبرار أخيار، ومع المضيعين المفرطين، وإنهم لأكياس أقوياء ناحلون دائبون، يراهم الجاهل فيقول مرضى، وليسوا مرضى وقد خولطوا وقد خالط القوم أمرٌ عظيم.
قال مجاهد: يؤتى بثلاثة يوم القيامة: بالغني والمريض والعبد المملوك فيقال للغني: " ما منعك من عبادتي؟ " فيقول: يا رب أكثرت لي من المال فطغيت، فيؤتى بسليمان في ملكه فيقول: " أنت كنت أشد شغلاً من هذا؟ " قال: يقول: لا بل هذا، قال: " فإن هذا لم يمنعه ذلك أن(5/113)
عبدني ".
قال: ثم يؤتى بالمريض قال: فيقول: " ما منعك من عبادتي؟ " قال: فيقول: شغلت على جسدي.
قال: فيؤتى بأيوب في ضره، فيقول: " أنت كنت أشد ضراً من هذا؟ " قال: لا بل هذا.
قال: " فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني ".
قال: ثم يؤتى بمملوك فيقول: " ما منعك من عبادتي؟ " فيقول: يا رب جعلت علي أرباباً يملكونني.
قال: فيؤتى بيوسف في عبوديته فيقول: " أنت كنت أشد عبودية أم هذا؟ " قال: لا بل هذا.
قال: " فإن هذا لم يمنعه ذلك أن عبدني ".
وعن أبي عبد الله الجدلي قال: كان أيوب نبي الله صلى الله على نبينا وعليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من جار عينه تراني وقلبه يرعاني، إن رأى حسنة أطفأها وإن رأى سيئة أذاعها.
قال: ذكر أبو جعفر الطبري أن عمر أيوب كان ثلاثاً وتسعين سنة.
أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري
أبو سليمان البغدادي الإخباري، قدم دمشق وحدث بها وبمصر.
روى عن محمد بن عبد الله الرقاشي بسنده عن أبي سعيد قال: رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناساً في مؤخر المسجد فقال: " لا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله، ادنوا مني فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم ".
توفي بدمشق سنة تسع وخمسين، وقيل سنة ستين ومئتين.(5/114)
أيوب بن بشير بن كعب العدوي البصري
قال أيوب بن بشير: لما سير أبو ذر إلى الشام قلت له: إني أريد أن أسألك عن حديث من حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: إذاً أحدثك به إلا أن يكون سراً.
قال: ليس بسرٍّ.
قلت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال: ما لقيته قط إلا صافحني.
قال: هكذا روي، وأيوب لم يلق أبا ذر وإنما رواه عن رجل عنه كما رواه في حديث آخر عن فلان العنزي أنه أقبل مع أبي ذر فلما رجع تقطع الناس عنه.
قلت: يا أبا ذر إني سائلك عن بعض أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: إن كان سراً من سر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم أخبرك به.
قلت: ليس بسرٍّ، ولكن كان إذا لقي الرجل فأخذ بيده يصافحه؟ قال: على الخبير سقطت، لم يلقني قط إلا أخذ بيدي غير مرةٍ واحدة وكانت تلك آخرهن، أرسل إلي فأتيته في مرضه الذي توفي فيه فوجدته مضطجعاً فأكببت عليه فرفع يده فالتزمني.
وفي حديث آخر بمعناه: فلقيني فاعتنقني وكان ذلك أجود وأجود.
وعزى أيوب بن بشير سليمان بن عبد الملك على ابنه فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في الفاني وبارك لك في الباقي.
أيوب بن تميم أبو سليمان التميمي المقرئ
روى عن الأوزاعي بسنده عن أبي هريرة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها ".
حدث أيوب بن تميم قارئ أهل دمشق عن عثمان بن أبي العاتكة قال: سمع كعب الأحبار رجلاً ينشد:(5/115)
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يهلك العرف بين الله والناس
فقال كعب: والذي نفسي بيده إنه لمكتوب في التوراة.
قال عبيد بن أبي السائب: إذا حدثك أيوب بن تميم عن الأوزاعي فشد يدك به.
قيل: إن أيوب بن تميم توفي سنة بضع وتسعين ومئة.
أيوب بن حسان أبو حسان الجرشي
من أهل دمشق.
روى عن ثور بن يزيد بسنده عن عمرو بن الأسود العنسي قال: أتينا عبادة بن الصامت أيام أرواد فإذا هو قائم يركع فقالت له أم حرام: يا أبا الوليد هؤلاء إخوانك جاؤوك تحدثهم فقال لها: إن كنت صحبت فقد صحبت وإن أكن سمعت فقد سمعت فحدثيهم أنت، فقالت: أتانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " أين أبا الوليد؟ " فقلت: الساعة يأتيك.
فألقيت له وسادةً فجلس عليها، فضحك، فقلت: ما أضحكك؟ قال: " أول جيش من أمتي يركبون البحر قد أوجبوا ".
قلت: أدع لي أن أكون معهم.
قال: " اللهم اجعلها معهم ".
قالت: ثم ضحك فقلت: ما الذي أضحكك؟ قال: " أول جيشٍ من أمتي يرابطون مدينة قيصر مغفور لهم ".(5/116)
أيوب بن حمران
ويقال حمران مولى عبيد الله بن زياد، قدم دمشق على بني أمية.
حدث يونس بن حبيب الجرمي قال: لما قتل عبيد الله بن زياد الحسين بن علي عليه السلام وبني أبيه عليهم السلام، بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية، فسر بقتلهم أولاً، وحسنت بذلك منزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم على قتل الحسين عليه السلام، فكان يقول: وما كان علي لو احتملت الأذى وأنزلته معي في داري، وحكمته فيما يريد؛ وإن كان في ذلك وكفٌ ووهنٌ في سلطاني، حفظاً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورعاية لحقه وقرابته! لعن الله ابن مرجانة فإنه أخرجه واضطره، وقد كان سأل أن يخلي سبيله ويرجع من حيث أقبل، أو يأتيني فيضع يده في يدي، أو يلحق بثغر من ثغور المسلمين حتى يتوفاه الله، فأبى ذلك ورده عليه وقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، وأبغضني البر والفاجر بما استعظم الناس من قتلي حسيناً، مالي ولابن مرجانة لعنه الله وغضب عليه! ثم إن عبيد الله بن زياد بعث مولى له يقال له أيوب بن حمران إلى الشام ليأتيه بخبر يزيد، فركب عبيد الله ذات يوم حتى إذا كان في رحبة القصابين، إذا هم بأيوب بن حمران قد قدم، فلحقه فأسر إليه بموت يزيد بن معاوية، فرجع عبيد الله من مسيره ذلك وأتى منزله، وأمر عبد الله بن حصن أحد بني ثعلبة بن يربوع فنادى: إن الصلاة جامعة.
وفي حديث آخر غيره: فلما تجمع الناس صعد المنبر فنعى يزيد، وعرض بثلبه لقصد يزيد إياه قبل موته خافه عبيد الله فقال الأحنف لعبيد الله: إنه قد كانت ليزيد في أعناقنا بيعة، وكان يقال: أعرض عن ذي قبر.
فأعرض عنه.(5/117)
أيوب بن خالد أبو عثمان الجهني الحراني
دخل دمشق.
حدث عن الأوزاعي بسنده إلى ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس " وروى أحاديث أخر.
قال ابن عدي: أيوب بن خالد حدث عن الأوزاعي بالمناكير، وكان ولي بريد بيروت فسمع من الأوزاعي هناك فجاء بأحاديث مناكير: قال أيوب بن خالد: خرجت إلى الأوزاعي فوافيته بدمشق، فقال لي: من أين جئت؟ فقلت: من حران.
فقال لي: ومن كم فارقت في حران؟ فقلت: من ثمانية أيام.
فقال لي: من حران إلى دمشق في ثمانية أيام؟ قال: على أي شيء جئت؟ فقلت: على البريد: فقال: على البريد! والله لا حدثتك بحرف، أو ترجع إلى حران وتجيء على راحلتك، أو على كريٍّ حتى أحدثك.
قال: فرجعت إلى حران واكتريت منها، وجئت إليه إلى بيروت ومعي المكاري حتى شهد لي ثم حدثني.
أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد
ابن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب أبو سلمة القرشي المخزومي.
ولد بدمشق، وأتى به أبوه إلى معاوية فسماه أيوب، ثم سكن المدينة، وقدم على هشام بن عبد الملك(5/118)
وكان عمر بن مصعب وأيوب بن سلمة يتواصلان، ويذكر أن أميهما أختان من ولادة العجم، وأنهما بنتا خال حيلان الملك.
قال: وكانت الشهقة تعتري أيوب بن سلمة كثيراً وكان يرقى منها.
حدث عن عامر بن سعيد عن أبيه قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمعرس فقال: " لقد أتيت ".
فقيل لي: إنك لبالوادي المبارك يعني العقيق.
وعاش أيوب بن سلمة بالدولتين دولة بني أمية لمكان بنت أخيه أم سلمة عند مسلمة بن هشام ودولة بني العباس لمكانها عند أبي العباس أمير المؤمنين.
أيوب بن سليمان بن داود
ابن عبد الله بن حذلم الأسدي.
روى عن سويد بن عبد العزيز بسنده عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كل ذي مخلب من الطير وكل ذي ناب من السبع.
أيوب بن سليمان بن عبد الملك
ابن مروان بن الحكم الأموي، ولي غزو الصائفة، وكان أبوه قد رشحه لولاية العهد من بعده، فمات في حياة أبيه، ومدحه جرير بن الخطفى الشاعر.
لم تعلم له رواية.
وأم أيوب بن سليمان أم أبان بنت أبان بن الحكم بن أبي العاص.
بايع سليمان لابنه أيوب يوم الفطر من سنة ست وتسعين، وتوفي أيوب يوم السبت(5/119)
لثمان ليال خلون من المحرم، وتوفي سليمان بدابق في صفر لعشر ليال بقين من سنة تسع وتسعين، وكان بينه وبين ابنه اثنان وأربعون يوماً، وكان جرير قال فيه لما عهد إليه سليمان: " من البسيط "
إن الإمام الذي ترجى نوافله ... بعد الإمام ولي العهد أيوب
كونوا كيوسف لما جاء إخوته ... فاستسلموا قال ما في اليوم تثريب
وقيل توفي سنة ثمان وتسعين.
قال رجاء بن حيوة: لما كان الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من وخز ونظر في المرآة، فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة فصلى بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب وهو غلام لم يبلغ.
فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب أستخير الله فيه وأنظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين ثم خرقه.
حدث بريد ليزيد بن المهلب قال: حملت حملين مسكاً من خراسان إلى سليمان بن عبد الملك، فانتهيت إلى باب ابنه أيوب وهو ولي العهد، فدخلت عليه، فإذا بدار مجصصة حيطانها وسقوفها، وإذا بها وصفاء ووصائف عليهم ثياب صفر وحلي الذهب، ثم دخلت داراً أخرى، فإذا حيطانها وسقوفها خضراء وإذا وصفاء ووصائف عليهم ثياب خضر وحلي الزمرد، قال: فوضعت الحملين بين يدي أيوب وهو قاعد على سرير معه امرأته، لم أعرف أحدهما من صاحبه، فانتهبت المسك من بين يديه فقلت له: أيها الأمير اكتب لي براءة، فنهرني فخرجت فأتيت سليمان فأخبرته بما كان، فقال: قد عرفنا قصتك، فكتب براءة، ثم عدت بعد أحد عشر يوماً، فإذا أيوب وجميع من كان معه في داره قد ماتوا أصابهم الطاعون.(5/120)
دخل عمر بن عبد العزيز على سليمان بن عبد الملك وعنده أيوب ابنه وهو يومئذ ولي عهده قد عقد له من بعده، فجاء إنسان يطلب ميراثاً من بعض نساء الخلفاء، فقال سليمان: ما أخال النساء يرثن في العقار شيئاً، فقال عمر بن عبد العزيز: سبحان الله! فأين كتاب الله؟ قال: يا غلام اذهب فائتني بسجل عبد الملك بن مروان الذي كتب في ذلك، فقال له عمر: لكأنك أرسلت إلى المصحف! قال أيوب: والله ليوشكن الرجل يتكلم بمثل هذا عند أمير المؤمنين ثم لا يشعر حتى يفارقه رأسه.
قال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك وإلى مثلك فما يدخل على أولئك أشد مما خشيت أن يصيبهم من هذا، فقال سليمان: مه، ألأبي حفص تقول هذا؟ قال عمر: والله لئن كان جهل علينا يا أمير المؤمنين ما حلمنا عنه.
قال الأصمعي: اشتد جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب حتى جاءه المعزون من الآفاق.
فقال رجل منهم: إن امرأ حدث نفسه بالبقاء في الدنيا ثم ظن أن المصائب لا تصيبه فيها لغبين الرأي ولما حضر أيوب الوفاة وهو ولي العهد، دخل سليمان وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة وسعد بن عقبة فجعل ينظر في وجهه، فخنقته العبرة، ثم نظر فقال: إنه ما يملك العبد أن يسبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة، والناس في ذلك أضراب: فمنهم من يغلب صبره على جزعه، فذلك الجلد الحازم المحتسب، ومنهم من يغلب جزعه على صبره، فذلك المغلوب الضعيف العقدة، وليست منكم خشية، فإني أجد في قلبي لوعة، إن أنا لم أبردها بعبرة خفت أن يتصدع كبدي.
فقال له عمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا تحبطن.
قال ابن عقبة: فنظر إلي وإلى رجاء بن حيوة نظر مستعتب يرجو أن يساعده على ما أراد من البكاء، فأما أنا فكرهت آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين فافعل فإني لا أرى بذلك بأساً ما لم تأت من(5/121)
ذلك المفرط، وقد بلغني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما مات ابنه إبراهيم واشتد عليه وجده وجعلت عيناه تدمعان قال: " تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون ".
قال: فأرسل عينيه، فبكى حتى ظننا أن نياط قلبه قد انقطع، قال: فقال عمر بن عبد العزيز لرجاء: يا رجاء ما صنعت بأمير المؤمنين؟ قال: دعه يقضي من بكائه وطراً، فإنه إن لم يخرج من صدره ما ترى خفت أن يأتي على نفسه.
قال: ثم رقأت عبرته، فدعا بماء فغسل وجهه، وأقبل علينا حتى قضى أيوب، وأمر بجهازه، وخرج يمشي أمام الجنازة، فلما دفناه، وحثا التراب عليه وقف ملياً ينظر إليه، وقال: " من الطويل "
وقوف على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيوب، وأنشد: " من السريع "
كنت لنا أنساً ففارقتنا ... فالعيش من بعدك مر المذاق
ثم قال: أدن مني دابتي يا غلام، فركب، ثم عطف رأس دابته إلى القبر وقال:
لئن صبرت فلم أقبلأ
ألفظك من شبعٍ ... وإن جزعت فعلقٌ منفسٌ ذهبا
فقال له عمر بن عبد العزيز: الصبر يا أمير المؤمنين، فأنه أقرب إلى الله وسيلة، وليس الجزع بمحيي من مات ولا راد ما فات.
قال: صدقت وبالله التوفيق.
وقال الأصمعي: وعزى رجل سليمان بن عبد الملك عن ابنه أيوب فقال: إن من أحب البقاء، وأمن الحدثان لعازب الرأي.(5/122)
أيوب بن أبي عائشة
حدث عن أبي هبيرة: أن رجلاً ضاف بأعمى فعشاه، فلما كان من الليل قام فتوضأ فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم دعا فقال: اللهم رب الأرواح الفانية ورب الأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح إلى أجسادها، وبطاعة الأجساد البالية إلى عروقها، وأسألك بدعوتك الصادقة فيهم، وكلمة الحق بينهم، وبشدة سلطانك، ينتظرون قضاءك، ويرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك أن تجعل النور في بصري والإخلاص في عملي، والشكر في قلبي أبداً ما أبقيتني، فحفظ الأعمى هذا الدعاء، فلما كان من القابلة، فتوضأ وصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم رفع يديه، فدعا بهذا الدعاء، فلما بلغ: أن تجعل النور في بصري أبصر الأعمى، ورد الله عز وجل إليه بصره.
حدث أيوب بن أبي عائشة، وكان من الصالحين، وكان يتبرك بدعائه، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم.
قال: قيل لموسى عليه السلام: يا موسى إنما مثل كتاب أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الكتب بمنزلة وعاء فيه لبن كلما مخضته أخرجت زبدته.
أيوب بن عبد الله بن مكرز
ابن الأخيف العامري القرشي.
حدث عن وابصة بن معبد الأسدي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا لا أريد أن أد ع شيئاً من البر والإثم إلا سألته عنه، فأتيته وحوله عصابة من الناس يستفتونه، فجعلت أتخطاهم، فقالوا: إليك يا وابصة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت لهم: دعوني أدن منه، فإنه أحب الناس إلي أن أدنو منه، فقال: دعوا وابصة.
ادن يا وابصة ادن يا وابصة.
فدنوت حتى قعدت بين يديه، فقال لي: " يا وابصة أتسألني أو أخبرك؟ " قلت: بل أخبرني يا رسول الله.
قال: " أتسألني عن البر والإثم؟ " فقلت: نعم.
فجمع أنامله، ثم جعل ينكت بهن في صدري ويقول: " يا وابصة استفت(5/123)
قلبك، واستفت نفسك. البر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدور، وإن أفتاك الناس وأفتوك ".
ثلاث مرات.
وعن ابن مكرز - رجل من أهل الشام من بني عامر بن لؤي - عن أبي هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله عز وجل وهو يبتغي عرضاً من الدنيا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا أجر له ".
فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلعلك لم تفهمه، فقال الرجل: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي من عرض الدنيا، فقال: " لا أجر له ".
فأعظم ذلك الناس، فقالوا للرجل عد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له الثالثة: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي من عرض الدنيا فقال: " لا أجر له ".
أيوب بن عثمان الدمشقي
حدث عن عثمان بن أبي عاتكة عن كعب الحبر أنه سمع رجلاً ينشد بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال: والذي نفسي بيده إن هذا البيت لمكتوب في التوراة.
أيوب بن محمد بن زياد بن فروخ
أبو سليمان الرقي الوزان مولى ابن عباس، قدم دمشق.
قيل: إن أيوب يلقب بالقلب، وقيل: إن القلب هو أيوب بن محمد الصالحي البصري.
حدث عن مروان بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلام يسلخ شاةً، فقال له: " تنح حتى أريك فإني لا أراك تحسن(5/124)
تسلخ ".
قال: فأدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط وقال: " هكذا يا غلام فاسلخ ".
ثم انطلق فصلى بالناس ولم يتوضأ يعني لم يمس ماءً.
وحدث أيوب عن ضمرة بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم وفيتم سبعين أمة أنتم أفضلها وأكرمها على الله عز وجل ".
كان أيوب يزن القطن في الوادي، لا يخضب.
مات في ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين.
وقيل: في سنة ست وأربعين.
أيوب بن محمد بن محمد
ابن أيوب أبي سليمان بن سليمان أبو الميمون الصوري، حدث بدمشق وصور.
روى عن علي بن معبد بسنده عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الذي يجر ثوبه من الخيلاء لا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ".
وحدث عن كثير بن عبيد الله الحذاء بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " خلق الله آدم على صورته، طوله سبعون ذراعاً ".
ذكر أيوب مع الضعفاء.
أيوب بن مدرك بن العلاء
أبو عمرو الحنفي من أهل دمشق، قرأ القرآن وأقرأه.
وحدث عن مكحول عن واثلة بن الأسقع وأنس بن مالك قالا: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تذهب الدنيا حتى يستغني النساء بالنساء، والرجال بالرجال ". والسحاق زنى النساء فيما بينهن.(5/125)
وحدث عن مكحول عن معاوية بن قرة قال: سمعت أبا هريرة يقول: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يكشفون رؤوسهم في أول قطرةٍ تكون من السماء في ذلك، ويقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو أحدث عهداً بربنا عز وجل وأعظمه بركةً ".
وحدث عن مكحول عن أبي أمامة قال: لما آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الناس، آخى بينه وبين علي.
وأيوب بن مدرك ضعيف.
أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد
ابن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي المكي.
حدث أيوب بن موسى عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا زنت أمة أحدكم فليحدها الحد ولا يثرب - قال سفيان: لا يعير - وإن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب، ثم إن زنت في الثالثة أو في الرابعة فليبعها ولو بضفيرٍ ".
حدث أيوب عن موسى عن نافع قال: خرج ابن عمر يريد العمرة فأخبر أن بمكة أمراً يخاف أن يحبس.
فقال: أهل بالعمرة فإن حبست صنعت كما صنع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الحديبية، فأهلّ بالعمرة، فلما سار قليلاً وهو بالبيداء أوجب حجاً، وقال: ما سبيل العمرة إلا سبيل الحج، وقال: أشهدكم أني قد أوجبت حجاً.
وقدم مكة فطاف بالبيت سبعاً، وطاف بين الصفة والمروة سبعاً طاف لهما طوافاً واحداً، وقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل، فلما أتى قديداً اشترى هدياً وساق معه.
كان أيوب والياً على الطائف لبعض بني أمية وكان ثقة ممن يحمل عنه الحديث.
حمل عنه مالك بن أنس، وأمه أم ولد.(5/126)
وفي سنة اثنتين وثلاثين ومئة قتل داود بن علي أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد.
أيوب بن موسى ويقال ابن محمد
ويقال ابن سليمان أبو كعب السعدي، من أهل البلقاء من نواحي دمشق.
حدث عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه ".
أيوب بن ميسرة بن حلبس
أخو يونس بن ميسرة الجبلاني.
قال أيوب بن ميسرة: سمعت بسر بن أبي أرطاة يقول:
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
فقلت: إني أسمعك تردد هذا الدعاء.
قال: إني سمعت رسول اللهصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو به.
حلبس بالحاء غير معجمة مفتوحة وباء معجمة بواحدة.
أيوب بن نافع بن كيسان
ولكيسان صحبة، ويقال: لنافع أيضاً صحبة.
روى عن أبيه نافع - وقيل: كيسان - أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ستشرب أمتي من بعدي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يكون عونهم على شربها أمراؤهم ".(5/127)
أيوب بن هلال وهلال أبو عقال
ابن زيد بن حسن بن أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي.
حدث أبو زيد يحيى بن أيوب بن أبي عقال هلال أن أباه حدثه وكان صغيراً فلم يع عنه، قال: فحدثني عمي زيد بن أبي عقال عن أبيه أن أباه حدثه أن حارثة تزوج إلى طيئ بامرأة من بني نبهان فأولدها جبلة وأسماء، وقيل: وأسامة وزيداً، وتوفيت أمهم وبقوا في حجر جدهم لأمهم وأراد حارثة حملهم فأبى جدهم لأمهم فقال: ما عندنا خير لهم، فتراضوا إلى أن حمل جبلة وأسماء، وقيل: وأسامة وخلف زيداً، فجاءت خيل من تهامة من فزارة فأغارت على طيئ فسبت زيداً فصاروا به إلى عكاظ، فرآه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل أن يبعث فقال: " يا خديجة رأيت في السوق غلاماً من صفته كيت وكيت، يصف عقلاً وأدباً وجمالاً ولو أن لي مالاً لاشتريته ".
فأمرت خديجة ورقة بن نوفل فاشتراه من مالها، فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا خديجة هبي لي هذا الغلام بطيبةٍ من نفسك "، فقالت: يا محمد إني أرى غلاماً وضيئاً وأحب أن أتبناه وأخاف أن تبيعه أو تهبه، فقال: " يا موفقة ما أردت إلا أن أتبناه "، فقالت: به فديت يا محمد، فرباه وتبناه، إلى أن جاء رجل من الحي فنظر إلى زيد فعرفه فقال له: أنت زيد بن حارثة؟ قال: لا أنا زيد بن محمد، فقال: بل أنت زيد بن حارثة، إن أباك وعمومتك وإخوتك قد أتعبوا الأبدان، وأنفقوا الأموال في سببك فقال: " من الطويل "
ألكني إلى قومي وإن كنت نائياً ... فإني قطين البيت عند المشاعر
وكفوا من الوجد الذي قد شجاكم ... ولا تعملوا في الأرض نص الأباعر
فإني بحمد الله في خير أسرة ... خيار معدٍّ كابراً بعد كابر
فمضى الرجل فخبر حارثة، ولحارثة فيه أشعار منها: " من الطويل "
بكيت على زيد ولم أدر ما فعل ... أحيٌّ يرجى أم أتى دونه الأجل
ووالله ما أدري وإني لسائل ... أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل(5/128)
فيا ليت شعري هل لك الدهر رجعة ... فحسبي من الدنيا رجوعك لي بجل
تذكرينه الشمس عند طلوعها ... ويعرض ذكراه إذا عسعس الطفل
وإن هبت الأرواح هيجن ذكره ... فيا طول أحزاني عليه ويا وجل
سأعمل نص العيش في الأرض جاهداً ... ولا أسأم التطوف أو تسأم الإبل
حياتي أو تأتي علي منيتي ... وكل امرئ فانٍ وإن غره الأمل
ثم إن حارثة أقبل إلى مكة في إخوته وولده وبعض عشيرته، فأصاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفناء الكعبة في نفر من أصحابه وزيداً فيهم، فلما نظروا إلى زيد عرفوه وعرفهم، فقالوا له: يا زيد، فلم يجبهم إجلالاً منه لسيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وانتظاراً منه لرأيه.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هؤلاء؟ " قال: يا رسول الله، هذا أبي وهذان عماي، وهذا أخي، وهؤلاء عشيرتي.
فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قم فسلم عليهم يا زيد ".
فقام فسلم عليهم، وسلموا عليه، وقالوا: امض معنا يا زيد.
قال: ما أريد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدلاً، فقالوا له: يا محمد إنا معطوك بهذا الغلام ديات، فسم ما شئت فإنا حاملوها إليك.
قال: أسألكم أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني خاتم أنبيائه ورسله.
فأبوا وتلكؤوا وتلجلجوا، وقالوا: تقبل ما عرضنا عليك يا محمد؟ فقال: " هاهنا خصلة غير هذه، قد جعلت أمره إليه، إن شاء فليقم وإن شاء فليرحل ".
قالوا: قضيت ما عليك يا محمد، وظنوا أنهم قد صاروا من زيد إلى حاجتهم، قالوا: يا زيد قم قد أذن لك محمد فانطلق معنا.
قال: هيهات هيهات، ما أريد برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدلاً، ولا أوثر عليه والداً ولا ولداً، فأداروه وألاصوه واستعطفوه وذكروا وجد من وراءهم به، فأبى وحلف أن لا يصحبهم، فقال حارثة: يا بني أما أنا فإني مؤنسك بنفسي، فآمن حارثة وأبى الباقون، فرجعوا إلى البرية، ثم إن أخاه جبلة رجع فآمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأول لواء عقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشام لزيد، وأول شهيد كان بمؤتة زيد وثانيه جعفر الطيار، وآخر لواء عقده بيده لأسامة على اثني عشر ألفاً من الناس فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال: إلى أين يا رسول الله؟ قال: " عليك(5/129)
بأبنى فصبحها صباحاً فقطع وحرق وخذ بثأر أبيك ".
واعتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة ".
فجهز إلى أن صار إلى الجرف واشتدت علة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعث إلى أسامة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدك، فرجع، فدخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أغمي عليه، ثم أفاق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى أسامة فأقبل فرفع يديه إلى السماء ويفرغها عليه.
قالوا: فعرفنا أنه إنما يدعو له، ثم قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان فيمن غسله الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب، وأسامة يصب عليه الماء، فلما دفن عليه السلام.
قال عمر لأبي بكر: ما ترى في لواء أسامة؟ قال: ما أحل عقداً عقده النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يحل من عسكره رجل إلا أن تكون أنت يا عمر، ولولا حاجتي إلى مشورتك لما حللتك من عسكره.
يا أسامة عليك بالمياه يعني بالبوادي وكان يمر بالبوادي ينظرون إلى جيش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيثبتوا على أديانهم، إلى أن صاروا إلى عشيرته كلب فكانت تحت لوائه إلى أن قدم الشام على معاوية، فقال له معاوية: اختر لك منزلاً فاختار المزة واقتطع فيها هو وعشيرته.
وقال الشاعر أعور كلب: " من الطويل "
إذا ذكرت أرض لقوم بنعمةٍ ... فبلدة قومي تزدهي وتطيب
بها الدين والإفضال والخير والندى ... فمن ينتجعها للرشاد يصيب
ومن ينتجع أرضاً سواها فإنه ... سيندم يوماً بعدها ويخيب
تأتى لها خالي أسامة منزلاً ... وكان لخير العالمين حبيب
حبيب رسول الله وابن رديفه ... له ألفةٌ معروفة ونصيب
فأسكنها كلباً وأضحت ببلدة ... لها منزل رحب الجناب خصيب
فنصف على بر فسيح ونزهة ... ونصف على بحر أغر رطيب
ثم أن أسامة خرج إلى وادي القرى إلى ضيعة فتوفي بها، وخلف في المزة ابنة له يقال(5/130)
لها: فاطمة، فلم تزل مقيمة إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز، فجاءت، فدخلت عليه، فقام من مجلسه وأقعدها فيه، وقال لها: حوائجك يا فاطمة؟ قالت: تحملني إلى أخي، فجهزها وحملها.
أيوب بن يزيد بن قيس
ابن زرارة بن سلمة بن حنتم بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد بن مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، ويعرف بابن القرية النمري.
والقرية التي نسب إليها هي: خماعة بنت جشم بن ربيعة بن زيد مناة.
تزوجها مالك بن عمرو، فولدت له حنتم بن مالك.
وفد على عبد الملك بن مروان.
وصحب أيوب بن قرية بن مروان والحجاج بن يوسف.
يضرب به المثل في الفصاحة.
وكان أيوب خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج بن يوسف.
وبعض الناس ينفيه ويقول لم يكن.
قال الأصمعي: وأربعة لم يلحنوا في جدٍّ ولا هزل: الشعبي، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف، وابن القرية.
والحجاج أفصحهم.
وسأل الحجاج ابن القرية عن الصبر؟ فقال: كظم ما يغيظك واحتمال ما ينوبك.
وقال الحجاج لابن القرية: ما الإرب؟ قال: الصبر على كظم الغيظ حتى تمكنك الفرصة.(5/131)
قال أيوب بن القرية: الرجال ثلاثة: عاقل وأحمق وفاجر، فالعاقل إن تكلم أجاد، وإن سمع وعى، وإن نطق نطق بالصواب، والأحمق إن تكلم عجل، وإن حدث ذهل، وإن حمل على القبيح فعل.
والفاجر إن ائتمنته خانك وإن حادثته شانك.
وفي حديث آخر: وإن استكتمته سراً لم يكتمه عليك.
قال الجاحظ:
سأل الحجاج ابن القرية عن أضيع الأشياء؟ فقال: سراج في شمس، ومطر في سبخة، وبكر تزف إلى عنين، وطعام متأنق فيه عند سكران ومعروف عند غير أهله.
وفي رواية: وامرأة حسناء تزف إلى أعمى، وطعام طيب يهيأ لشبعان، وصنيعةٌ عند من لا يشكرها.
قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: وجه الحجاج بن يوسف أيوب بن القرية إلى عبد الرحمن بن الأشعث عيناً عليه بسجستان، فلم يلبث أن غمز به، فأدخل على عبد الرحمن.
فقال له: مرحباً بالموصوف عندنا بتزين البلاغة.
أأنت ابن القرية؟ قال: نعم. أصلح الله الأمير، فقال له عبد الرحمن: أخبرني عن أمر.
قال: يسأل الأمير عما أحب.
قال: أخبرني عن الحجاج ما أمره لديك؟ أعلى محجة القصد أم في مجانبة الرشد؟ قال: أسألك الأمان قبل البيان، قال: لك الأمان.
قال: إن الحجاج على احتجاج في قصد المنهاج يمنح الظفر ويجتنب الكدر، لا تفظعه الأمور، وليس فيها بعثور، في النعماء شكور، وفي الضراء صبور فإنهاك أن تقاوله، وأعيذك بالله أن تطاوله، وهو على تربة(5/132)
العدل لا تزل به النعل، ولا يعرنك الجبن ولك الحق، فإنكم خير داعية وأوثق، قال له عبد الرحمن: كذبت يا عدو الله، والله لأقتلنك، قال: فأين اللعان قال: وكيف الاقان لمن كذب وفجر والله لاقتلنك أو لتظاهرني عليه.
قال له: أصلح الله الأمير.
إنما أنا رسول.
قال: هو ما أقول لك، فلما رأى أنه غير منتهٍ عنه تابعه وأقام معه يصدر له كتبه إلى الحجاج.
فجمع له عبد الرحمن الناس فأصعده على المنبر، فقام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن الأمر الذي يدعوكم الحجاج إليه لم ينزل من السماء، ولم تقم به الخطباء ولم تسنه الأنبياء، ولم تصدر به إلينا من قبله كتب.
ثم نزل، فلم يلبث أن قتل عبد الرحمن وهزم الحجاج الناس، فبعث في طلب الفار، فأتي بابن القرية أسيراً، فلقيه عنبسة بن سعيد، فقال له: أيوب! قال: أيوب، فما وراءك؟ قال: ورائي أنك مقتول، قال: كلا.
إني قد أعددت للأمير كلمات صغاراً صلاباً كركب وقف قد قضين من حاجة وطراً، وقد استقبلن سفراً، قال: هو ما أقول لك.
فلما أدخل على الحجاج تجاهل عليه.
فقال: من أنت؟ قال: أنا أيوب.
قال: يا أيوب ألم تكن في خمول من الدعة، وعدمٍ من المال، وكدرٍ من العيش، وتضعضعٍ من الهيئة، ويأسٍ من بلوغ ما بلغت، فوليتك ولاية الوالد ولم أكن لك والداً، ووليتك ولاية الراجي عندك الخير ولم أرج عندك خيراً، ووليتك ولاية الجاري باليد ولم يكن عندي يد، وأجرتك بها ثم قمت عند عبد الرحمن فقلت: إن الأمر الذي يدعوكم إليه الحجاج لم ينزل من السماء ولم ولم، والله لتعلمنّ يا بن القرية أن قتلك قد نزل من السماء.
قال له: أصلح الله الأمير.
إني قد أتيت إنساناً في مسك شيطان يتهددني بتخونه ويقهرني بسلطانه، فنطق اللسان بغير ما في القلب، والنصيحة لك ثابتة، والمودة لك باقية.
قال: صدقت يا عدو الله، فلم كنت كاذباً وكان قلبك منافقاً وأردت كتمان ما كان الله معلنه منك، وإخفاء ما كان الله يعلمه من سريرتك، وكيف علمك بالأرض؟ قال: علمي بها كعلمي ببيتي، قال: فأخبرني عن الهند.
قال: بحرها درٌ، وترابها مسك، وحطبها عود، وورقها عطر.
قال: فأخبرني عن مكة.
قال: تمرها دقل، ولصها بطل، إن كثر الجند بها جاعوا: وإن قلوا(5/133)
بها ضاعوا.
قال: فأخبرني عن عمان.
قال: حرها شديد، وصيدها عتيد، يشدون الجلوف وينزلون الطفوف، وكأنهم بهائم ليس لهم راع، قال فأخبرني عن اليمامة. قال: أهل جفاء وطيرة ونكد قال: فأخبرني عن البصرة.
قال: ماؤها مالح، وشربها سانح، مأوى كل تاجر، وطريق كل عابر.
قال: فأخبرني عن واسط.
قال: جنة بين حماةٍ وكنة.
قال: وما حماتها وما كنتها؟ قال: البصرة والكوفة، ودجلة والفرات يحقران شأنها وينقصان الخير عنها.
قال: فأخبرني عن الكوفة.
قال: ارتفعت عن البحر، وسفلت عن الشام، فطاب ليلها، وكثر خيرها.
قال: فأخبرني عن المدينة.
قال: رسخ العلم فيها ووضح، وسناؤها قد طفح.
قال: فأخبرني عن مكة.
قال: رجالها علماء وفيهم جفاء، ونساؤها كساةٌ كعراة.
قال: فأخبرني عن اليمن.
قال: أصل العرب.
وأهل بيوتات الحسب.
قال: فأخبرني عن مصر.
قال: عروس نسوة، كلهن يزفها.
قال: وما ذاك بها؟ قال: فيها الثياب وإليها الأموال.
قال: فأمر به فحبس عشراً، ثم أخرجه يوم العيد، فأقعده إلى جانب المنبر، ثم صعد الحجاج فخطب الناس ونزل، ثم دعا به والناس مجتمعون على الموائد، فكفوا عن الطعام، وأقبلوا يستمعون ما يكون من محاورتهما.
فقال له الحجاج: يا بن القرية.
كيف رأيت خطبتي؟ قال: أصلح الله الأمير، أنت أخطب العرب.
قال: عزمت عليك إلا صدقتني.
قال: تكثر الرد، وتشير باليد، وتقول أما بعد.
قال له: ويلك! أو ما تستعين أنت بيدك في كلامك؟ قال: لا أصل كلامي بيدي حتى يضيق علي لحدي يوم أقضي نحبي.
قال: علمت أني قاتلك؟ قال: ليستبقني الأمير أكن له كما كنت عليه قبل أنا في طاعته أشد مبالغة وفي مناصحته أشد نصرة، قال له: هيهات، هيهات، كذبت نفسك، وساء ظنك، وطال أملك، وكان أملك مع سوء عملك الموت قبل ذلك ثم دعا بحربة فجمع بها يده ثم هزها، فجزع أيوب من ذلك جزعاً شديداً.
فقال: أصلح الله الأمير، دعني أتكلم بكلمات صعاب صلاب كركب وقف قد قضين من حاجة وطراً، وقد استقبلن سفراً، يكن مثلاً بعدي.
قال: هاتهن إنهن لن ينجيك مني.
قال: أصلح الله الأمير.
إن(5/134)
لكل جواد عثرة، ولكل شجاع سهوة ولكل صارم نبوة، ولكل حليم زلة، ولكل مذنب توبة قال: لا نقيلك عثرتك، ولا تقبل توبتك، ولا يغفر ذنبك.
قال: أصغني سمعك.
قال: قد أصغيتك سمعي.
وأقبلت عليك وأنا ممضٍ فيك أمري.
قال: أصلح الله الأمير، أنت منهج السالكين، غليظ على الكافرين، رؤوف بالمؤمنين، تام السلاح، كامل الحلم، راسخ العلم، فكن كما قال الأخطل.
قال: وما قال؟ قال: قال: " من البسيط "
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
قال: ليس هذا حين المزاح، اليوم أروي من دمك السلاح.
قال له: قد قال الله عز وجل: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " قال: فأطرق طويلاً ثم قال له: أخبرني بأصدق بيت قاله الشاعر فأنشأ يقول: " من الطويل "
وما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ... أبر وأوفى ذمةً من محمد
ولا فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
قال: صدقت.
فرجا أيوب أن يكون له عنده فرج.
قال: أخبرني بأشكل بيت قاله الشاعر فأنشأ يقول:
حبذا رجعها يديها إليها ... في يدي درعها تحل الإزارا
ثم قال: أخبرني بأسير بيت قاله الشاعر.
قال:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال: فأخبرني بأكرم بيت قاله الشاعر.
قال: " من الوافر "(5/135)
وكنا الأيمنين إذا التقينا ... وكان الأيسرين بنو أبينا
فصالوا صولةً فيمن يليهم ... وصلنا صولةً فيمن يلينا
فآبوا بالنهاب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
فقال له: كذبت يا بن اللخناء، بل كنتم ألأم وأوضع، ثم رفع القناة فوضعها بين ثندوتة، ثم غمزها حتى طلع الدم، ثم قال: هكذا يقتل اللئيم يا بن اللخناء، ثم قال: ارفعوه فرفعوه، فجعل يقول: ثكلتك أمك يا بن القرية لقد فات منك كلام كثير، ومنطق بليغ، لله درك ودرايتك.
قيل: قتل الحجاج ابن القرية سنة أربع وثمانين.(5/136)
أسماء النساء على حرف الألف
أسماء بنت عبد الله أبي بكر الصديق
ذات النطاقين التيمية، زوج الزبير بن العوام، وأم عبد الله بن الزبير، وأخت عائشة الصديقة، وأمها قتيلة بنت عبد العزى بن عبد أسعد بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي.
ويقال: قتلة.
لها صحبة، شهدت أسماء اليرموك مع زوجها الزبير.
حدث هشام عن فاطمة: أن أسماء كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها، أخذت الماء فصبته بينها وبين جيبها، وقالت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمرنا أن نبردها بالماء.
وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء، ماؤه أبيض من الورق، وريحه أطيب من المسك كيزانه كنجوم السماء، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً ".
قال: وقالت أسماء بنت أبي بكر: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني على الحوض أنظر من يرد علي منكم، وسيؤخذ أناس دوني فأقول: يا رب مني ومن أمتي، " فيقول: " ما شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم ".
فكان ابن أبي ملكية يقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرجع على أعقابنا أو نفتن عن ديننا.
وعن مسلم القري قال: سألت ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها، وكان ابن الزبير ينهى عنها.
فقال: هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص فيها، فادخلوا عليها فسلوها.
قال: فدخلنا فإذا امرأة ضخمة عمياء، فقالت: قد رخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(5/137)
وعن أبي واقد صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه شهد اليرموك، قال: وكانت أسماء بنت أبي بكر مع الزبير في خبائها فسمعها تقول للزبير: إن كان الرجل من العدو ليمر يسعى، فتصيب قدميه عروة أطناب خبائي، فيسقط على وجهه ميتاً ما أصابه السلاح.
وسميت أسماء ذات النطاقين لأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تجهز مهاجراً ومعه أبو بكر الصديق أتاهما عبد الله بن أبي بكر في الغار ليلاً بسفرتهما، ولم يكن لها أشناق، فشقت لها أسماء نطاقها فشنقتها به.
فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة فقيل لها ذات النطاقين.
وقتلة أمها نزلت فيها: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ".
كانت قتلة قدمت على ابنتها أسماء بنت أبي بكر، وقتلة راغبة عن الإسلام على دين قومها، ومعها ابنها الحارث بن مدرك بن عمر بن مخزوم، فأبت أسماء أن تقبل هديتها حتى تسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألته، فأنزل الله عز وجل: " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين " الآيات.
فأدخلتها أسماء وقبلت هديتها.
قال محمد بن مسلمة: تصلون ذوي أرحامكم.
قال ثم نسخ هذا بقوله: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم، أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروحٍ منه، ويدخلهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه، أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون ".
وكانت أسماء مع ابنها عبد الله حين قتل، وبقيت مائة سنة حتى عميت، وماتت بعد قتل عبد الله بن الزبير سنة ثلاث وسبعين بعد ابنها بليال، وكانت أخت عائشة لأبيها.
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على(5/138)
باب أبي بكر، فخرجت إليهم؛ فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده، وكان فاحشاً خبيثاً، فلطم خدي لطمة خر منها قرطي.
قالت: ثم انصرفوا، فمضى ثلاث ليال ما ندري أين توجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغني بأبيات شعر غنى بها العرب، وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته ولا يرونه، حتى خرج بأعلى مكة: " من الطويل "
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلاها بالهدى واغتدوا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله، عرفنا حيث وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أريقط دليلهما.
وعن أسماء قالت: لما توجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة معه أبو بكر، حمل أبو بكر معه جميع ماله خمسة آلاف أو ستة آلاف، فأتاني جدي أبو قحافة، وقد ذهب بصره.
فقال: إن هذا والله فجعكم بماله مع نفسه فقلت: كلا يا أبه! قد ترك لنا خيراً كثيراً، فعمدت إلى حجارة فجعلتهن في كوةٍ في البيت، كان أبو بكر يجعل ماله فيها، وغطيت على الأحجار بثوب ثم جئت به، فأخذت يده فوضعتها على الثوب، فقلت: ترك لنا هذا، فجعل يجد مس الحجارة من وراء الثوب، فقال: أما إذ ترك لكم هذا فنعم.
ولا والله ما ترك لنا قليلاً ولا كثيراً.
قال كثير أبو الفضل: حدثني رجل من قريش من آل الزبير، أن أسماء بنت أبي بكر أصابها ورم في رأسها ووجهها، وأنها بعثت إلى عائشة بنت أبي بكر: اذكري وجعي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لعل الله(5/139)
يشفيني، فذكرت عائشة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجع أسماء، فانطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل على أسماء، فوضع يده على وجهها ورأسها من فوق الثياب.
فقال: " بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله ".
صنع ذلك ثلاث مرات.
فأمرها أن تقول ذلك، فقالت ثلاثة أيام، فذهب الورم.
قال كثير: تصنع ذكر عند حضور الصلوات المكتوبات بقولها وتراً ثلاثاً.
وعن ابن أبي ملكية: أن أسماء بنت أبي بكر الصديق كانت تصدع، فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.
وعن أسماء قالت: تزوجني الزبير وماله في الأرض من مال ولا مملوك، ولا شيء غير فرسه، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز، فكان يخبز لي جارات من الأنصار، وكن نسوة صدق، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير الذي أقطعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ.
قالت: فجئت يوماً والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه نفر من أصحابه، فدعاني، فقال: " إخ إخ " ليحملني خلفه.
قالت: واستحييت أن أسير مع الرجال وذكرت الزبير وغيرته.
قالت: وكان أغير الناس فعرفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني أني استحيت - فمضى.
فجئت الزبير، فقلت: لقيني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه، قال: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني.
وعن عكرمة: أن أسماء كانت تحت الزبير بن العوام وكان شديداً عليها، فشكت ذلك إليه.
فقال: يا بنية اصبري، فإن المرأة إذا كان لها زوج صالح، ثم مات عنها فلم تزوج بعده جمع بينهما في الجنة.(5/140)
قال هشام بن عروة: ضرب الزبير أسماء بنت أبي بكر، فصاحت بعبد الله بن الزبير فأقبل، فلما رآه قال: أمك طالق إن دخلت.
فقال له عبد الله: أتجعل أمي عرضة ليمينك؟ فاقتحم عليه فخلصها منه، فبانت منه.
قالت أسماء بنت أبي بكر: مر بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أحصي شيئاً وأكيله، فقال: " يا أسماء لا تحصي فيحصي الله عليك ".
قالت: فما أحصيت شيئاً بعد قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من عندي ولا دخل علي، وما نفد عندي من رزق إلا أخلفه الله.
كانت أسماء تقول لبناتها: يا بناتنا تصدقن ولا تنتظرن الفضل فإنكن إن انتظرتن الفضل لم تجدنه، وإن تصدقتن لا تجدن فضله.
كان ابن الزبير يقول: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء، وجودهما يختلف.
أما عائشة فكانت تجمع الشيء إلى الشيء حتى إذا اجتمع عندها وضعته مواضعه.
وأما أسماء فإنها كانت لا تدخر شيئاً لغد.
ولما فرض عمر الأعطية، فرض لأسماء بنت أبي بكر ألف درهم.
قال عبد الله بن عروة بن الزبير: قلت لجدتي أسماء: كيف كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم، وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله.
قال: قلت: فإن ناساً هاهنا إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه، قالت: أعوذ بالله من الشيطان.
حدث عثمان بن حمزة قال: أرسلتني أسماء بنت أبي بكر الصديق إلى السوق، وافتتحت بسورة الطور، فخرجت وقد انتهت إلى " ووقانا عذاب السموم " فذهبت إلى السوق ثم رجعت، وهي تكررها "(5/141)
ووقانا عذاب السموم " وهي تصلي.
كانت أسماء بنت أبي بكر تمرض المرضة، فتعتق كل مملوك لها.
كانت أسماء اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص للصوص، وكان استعروا بالمدينة، فكانت تجعله تحت رأسها.
قالت فاطمة بنت المنذر: ما رأيت أسماء لبست إلا معصفرة، حتى لقيت الله عز وجل، وإن كانت تلبس الدرع يقوم قياماً من العصفر.
وكان عروة بن الزبير تعصفر له الملحفة بالدينار، قال: وإن كان لآخر ثوب لبسه لثوب عصفر له بالدينار.
وعن أسماء قالت لعبد الله بن الزبير حين قاتل الحجاج:
يا بني عش كريماً، ومت كريماً، لا يأخذك القوم أسيراً.
وكانت أسماء تقول وابن الزبير يقاتل الحجاج: لمن كانت الدولة اليوم؟ فيقال: للحجاج.
فتقول: ربما أمر باطل، فإذا قيل لها: هي لعبد الله وأصحابه، تقول: اللهم انصر أهل طاعتك ومن غضب لك.
اشتكت أسماء وعبد الله بن الزبير يقاتل الحجاج، وكانت قد كبرت ورقت فنظر إليها، فقال: ما أحسن الموت، فسمعت ذلك العجوز.
فقالت: يا بني والله ما أحب أن أموت يومي هذا حتى أعلم إلى ما تصير إليه، إما ظفرت فذلك الذي نرجو ونسر به، وإما الأخرى فأحتسبك وتمضي لسبيلك.
وفي حديث بمعناه، فقالت له: وإياك أن تعرض على خطة فلا توافق، فتقبلها كراهية الموت، وإنما عنى ابن الزبير أن يقتل فيحزنها ذلك، وكانت ابنة مائة سنة.
لما قتل الحجاج يوسف بن عبد الله بن الزبير، دخل على أسماء بنت أبي بكر وقال لها: يا أمه إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة؟ فقالت: لست لك بأم؛ ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، ومالي من حاجة، ولكن انتظر حتى أحدثك ما(5/142)
سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إني سمعته يقول: " يخرج من ثقيف كذاب ومبير ".
فأما الكذاب فقد رأيناه - تعني المختار - وأما المبير فأنت.
فقال لها الحجاج: مبير النافقين.
حدث يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعدما قتل ابن الزبير بثلاثة أيام، وهو حينئذ مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة مكفوفة البصر فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل.
فقال الحجاج: المنافق، فقالت: والله ما كان منافقاً، إن كان لصواماً قواماً براً، فقال: انصرفي يا عجوز فإنك قد خرقت.
قالت: لا والله ما خرقت منذ سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج من ثقيف كذاب ومبير ".
فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت.
لما قلت الحجاج ابن الزبير صلبه على عتبة المدينة، فمر به ابن عمر فوثب عليه، فقال له: السلام عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد نهيتك عن هذا ثلاثاً، أما والله ما علمت إن كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، وإن أمة أنت شرهم لأمة صدق، فلما بلغ ذلك الحجاج أمر به فطرح في مقابر اليهود، ثم أرسل إلى أمه أن تأتيه، فأبت أن تأتيه، فأرسل إليها: لتأتين أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك حتى يأتيني بك، فأرسلت إليه: والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني، فلما رأى ذلك لبس سبتيه ثم خرج يتوذف إليها حتى دخل عليها، فقال: كيف رأيتني صنعت بعبد الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وقد بلغني أنك كنت تعيره بابن ذات النطاقين، وقد والله كنت ذات نطاقين أما أحدهما، فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه وأما الآخر، فإني كنت أرفع فيه طعام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وطعام أبي، فأي ذلك - ويل أمك - عيرته بك؟ أما إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدثنا أنه سيخرج من ثقيف رجلان كذاب ومبير فأما الكذاب فابن أبي عبيد، وأما المبير فأنت.
قال: فانصرف عنها ولم يراجعها.
قال: وفي رواية يخرج من ثقيف ثلاثة: كذاب ومبير وذيال.
قالت: وأما الذيال فلم نره وسوف يرى.(5/143)
لما صلب ابن الزبير، دخل ابن عمر المسجد، وذلك حين قتل ابن الزبير وهو مصلوب ومطروح، فقيل له: إن أسماء في ناحية المسجد، فمال إليها فقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وأما الأرواح عند الله، فاتقي الله، وعليك بالصبر.
فقالت: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
قال ابن أبي ملكية: دخلت على أسماء بعدما أصيب ابن الزبير فقالت: بلغني أن الرجل صلب عبد الله اللهم لا تمتني حتى أوتى به فأحنطه وأكفنه، فأتيت به بعد ذلك قبل موتها، فجعلت تحنطه بيدها وتكفنه بعدما ذهب بصرها.
وفي حديث بمعناه: وصلت عليه فما أتت عليها إلا جمعة حتى ماتت وقيل ثلاثة أيام.
وعن أسماء: أنه لما قتل عبد الله بن الزبير، كان عندها شيء أعطاها إياه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت طارقاً فطلبه، فلما جاءها به سجدت.
قال الركين بن الربيع: دخلت على أسماء وقد كبرت وهي تصلي، وامرأة تقول لها: قومي، اقعدي، افعلي.
من الكبر.
قال هشام: أتى على أسماء مئة عام وما سقط لها سن.
وزاد غيره: ولم ينكر من عقلها شيء.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت:
إذا أنا مت فاغسلوني وحنطوني وكفنوني ولا تذروا علي كفني حنوطاً، ولا تدفنوني ليلاً.
وفي رواية: ولا تتبعوني بنار.(5/144)
أسماء بنت واثلة بن الأسقع الليثية
حدثت عن أبيها قالت: كان أبي يصوم الاثنين والخميس فقلت: ما هذا الصوم الذي لا تدعه؟ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصومهما ويقول: " تعرض فيهما الأعمال على الله عز وجل ".
وعن أسماء بنت واثلة قالت: كان أبي إذا صلى صلاة الصبح جلس مستقبل القبلة، لا يتكلم حتى تطلع الشمس، فربما كلمته في الحاجة فلا يكلمني، فقلت له: ما هذا؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من صلى صلاة الصبح، ثم قرأ: " قل هو الله أحد " مائة مرة قلب أن يتكلم فكلما قال: " قل هو الله أحد " غفر له ذنب سنة ".
أسماء ويقال فكيهة بنت يزيد
ابن السكن بن رافع بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث ابن الخزرج بن عمرو بن عامر.
أم عامر، ويقال أم سلمة الأنصارية الأشهلية لها صحبة، وهي من اللاتي بايعن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت اليرموك، وقتلت من الروم تسعة بعمود فسطاطها، وشهدت خيبر مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
روت أسماء بنت يزيد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج والنساء في جانب المسجد، وأنا فيهن، فسمع ضوضاءهن، فقال: " يا معشر النساء، أنتن أكثر حطب جهنم ".
قالت: فناديت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت جريئة على كلامه، فقلت: يا رسول الله، بماذا؟ قال: " إنكن إذا أعطيتن لم تشكرن، وإذا ابتلين لم تصبرن، وإذا أمسك عنكن شكوتن، وإياكن وكفر المنعمين ".
فقلت: يا رسول الله، وما المنعمون؟ قال: " المرأة تكون تحت الرجل وقد ولدت الولدين والثلاثة، فتقول: ما رأيت منك خيراً قط ".(5/145)
وعن أسماء قالت: لما أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببيعة النساء أتيته أنا وبنات عمٍ لي نبايعه، فعرض علينا الإسلام فأقررنا، وأخرجت ابنة عمٍ لي يدها لتبايعه فكف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده وقال: " إني لست أصافح النساء " ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المرأة سوارين وخواتم في أصابعها من ذهب، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصاة فرمى بها، ثم قال: " أيتها المرأة أيسرك أن يحليك الله مكان هذا سوارين وخواتم من نار؟ " قالت: لا يا رسول الله قال: " فاطرحيه إذاً " فانتزعت الخواتم فوضعتهن بين يديها، وعالجت السوارين فلم ينزع أحدهما، وعسر الآخر عليها، فاستعانت امرأة فلم تزالا تعالجاه حتى نزعتاه، فوضعتاه بين أيدينا، فوالله ما أدري من أخذه من العالمين.
ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من حلى أو تحلى أو ترك مثل عين جرادة أو مثل خربصيصة كوي بها يوم القيامة معذباً أو مغفوراً له ".
فقال رجل: ما الخربصيصة؟ قال: " أصغر من عين الجرادة ".
وفي رواية، أن أسماء كان عليها سواران وأنه قال: " ألق السوارين يا أسماء، أما تخافين أن يسورك الله بسوارين من نار ".
قالت: فألقيتهما فما أدري من أخذهما.
وعن أسماء قالت قالت امرأة من النسوة: يا رسول الله ما هذا المعروف الذي ليس لنا أن نعصيك فيه؟ فقال: " لا تنحن ".
فقلت: يا رسول الله إن بني فلان قد أسعدوني على عمي فلابد من قضائهن، فأبى علي، فعاتبته مراراً فأذن لي في قضائهن، فلم أنح بعد في قضائهن ولا في غيره حتى الساعة، ولم يبق امرأة من النسوة إلا قد ناحت.
وعن أم عامر بنت يزيد بن السكن، وكانت من المبايعات، أنها أتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرقٍ فتعرقه، وهو في مسجد بني عبد الأشهل، ثم قام، فصلى، ولم يتوضأ.
وعن أم عامر أسماء بنت يزيد قالت: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجدنا المغرب، فجئت منزلي، فجئته بعرق وأرغفة(5/146)
فقلت: بأبي وأمي تعش، فقال لأصحابه: " كلوا بسم الله ".
فأكل هو وأصحابه الذين جاؤوا معه، ومن كان حاضراً من أهل الدار.
والذي نفسي بيده لرأيت بعض العرق لم يتعرقه وعامة الخبز، وإن القوم أربعون رجلاً، ثم شرب ما عندي في شجب، ثم انصرف، فأخذت ذلك الشجب فذهبت فطويته نسقي فيه المريض ونشرب منه في الحين رجاء البركة.
الشجب: القربة تخرز من أسفلها ويقطع رأسها إذا خلقت، شبه الدلو العظيم.
أسماء امرأة كانت في عصر أم الدرداء
حكى أبو عبد رب الزاهد قال:
أمرتني أم الدرداء أن أبيع لها جارية، فبعتها من امرأة يقال لها أسماء، فلم تلبث أن أصابها طاعون، فقلت لأم الدرداء: إن الجارية أصابها طاعون فهلكت، فقالت: لا تأخذ من ثمنها شيئاً، فلقيتها فأخبرتها، فقالت: الله! إن كانت أم الدرداء غنية تريد أن تكون أولى بالأجر مني لا أفعل، فما زلت أمشي بينهما حتى أصلحت بينهما على النصف من الثمن.
آمنة ويقال أمة بنت سعيد بن العاص
ابن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، كانت زوج خالد بن يزيد بن معاوية، فطلقها، فتزوجها الوليد بن عبد الملك، وفيها يقول خالد: " من الطويل "
كعابٌ أبوها ذو العصابة وابنه ... وعثمان ما اكفاؤها بكثير
فإن تفتلتها والخلافة تنقلب ... بأكرم علقى منبرٍ وسرير
قال الهيثم بن عدي: كانت ابنة سعيد بن العاص تحت الوليد بن عبد الملك.
فمات عبد الملك فلم تبك عليه.
فقال لها الوليد: ما يمنعك من البكاء على أمير المؤمنين؟ قالت: وما أقول له إلا أن(5/147)
أدعو الله أن يحييه حتى يقتل لي أخاً آخر، قال: إي والله لقد كسرنا ثناياه فقالت: علمت من شقت استه السيوف، قال: الحقي بأهلك، قالت: ألذ من الدنيا وأيسر.
آمنة بنت الشريد زوج عمر بن الحمق
كانت بدمشق ذكر أبو الحسن علي بن محمد الكاتب الشابشتي: أن عمرو بن الحمق، لما قتل حمل رأسه إلى معاوية، وهو أول رأس حمل في الإسلام من بلد إلى بلد، وكانت آمنة بنت الشريد زوجته بدمشق، فلما حمل رأس عمرو إليه أمر أن يلقى في حجرها وأن يسمع منها تقول، فلما رأته ارتاعت له.
وأكبت عليه تقبله، وقالت: واضيعتا في دار هون! بقيتموه طويلاً، وأهديتموه إلي قتيلاً، فأهلاً وسهلاً، كنت له غير قالية، وأنا له غير ناسية، قل لمعاوية: أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر الله ذنبك، فعاد الرسول إليه بما قالت، فأمر بها فأحضرت، وعنده جماعة وفيهم إياس بن شرحبيل وكان في شدقيه نبوٌّ لعظم لسانه.
فقال لها معاوية: يا عدوة الله أنت صاحبة الكلام.
قالت: نعم، غير فازعةٍ ولا معتذرة، قد لعمري اجتهدت في الدعاء، وأنا أجتهد إن شاء الله إن نفع الاجتهاد والله من وراء العباد.
فأمسك معاوية.
فقال إياس: اقتل هذه، فما كان زوجها بأحق بالقتل منها.
فقالت له: تبا لك ويلك! بين شدقيك جثمان الضفدع وأنت تأمره بقتلي كما قال تعالى: " إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين " فضحك معاوية والجماعة، وبان الخجل من إياس، ثم قال معاوية: اخرجي عني فلا أسمع بك في شيءٍ من الشام.
قالت: سأخرج عنك، فما الشام لي بموطن، ولا أعرج فيه على حميم ولا سكن، ولقد أعظمت في مصيبتي، وما قرت به عيني، وما أنا إليك بعائدة ولا لك حيث كنت بحامدة، فأشار إليها بيده أن اخرجي، فقالت: عجباً لمعاوية يبسط علي غرب لسانه ويشير إلي ببنانه، فلما خرجت قال معاوية: يحمل إليها ما يقطع بها غرب لسانها ويخفف به إلى بلدها فقبضت ما أمر لها به وخرجت تريد الكوفة، فلما وصلت إلى حمص توفيت.(5/148)
آمنة ويقال أمينة
بنت عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم.
حدثت عن ميمونة أنها قالت: يا رسول الله أفتنا عن الصدقة.
قال: " إنها حجابٌ من النار لمن احتسبها يبتغي بها وجه الله ".
قالت: أفتنا في ثمن الكلب.
قال: " طعمة جاهلية وقد أغنى الله عنها ".
قالت: أفتنا عن عذاب القبر.
قال: " أثر البول فمن أصابه بولٌ فليغسله، فمن لم يجد ماءً مسحه بتراب طيب.
حدث شيخ من ساكني العقيق قال: إني لواقف بالعقيق وقد جاء الحاج، إذ طلعت امرأة على رحالةٍ حولها صففٌ فنظرنا إليها فأعجبنا حالها فلما أن كانت حذو قصور سفيان بن عاصم يعني ابن عبد العزيز بن مروان عدلت إليها ونحن ننظر، فاضطجعت في موضعٍ ساعة ثم قامت، فدخلت قصراً من تلك القصور فأقامت فيه ساعة، ثم خرجت، فركبت ومضت.
قلنا: لننظرنّ إلى ما صنعت هذه المرأة، فجئنا مضجعها الذي اضطجعت فيه، ثم دخلنا القصر الذي دخلته؛ فإذا بكتاب يواجهنا في الجدار فإذا هو: " من الطويل "
كفى حزناً بالهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
بلى إن ذا الشوق الموكل بالهوى ... يزيد اشتياقاً كلما حول الصبرا
مقيماً بها يوماً إلى الليل لا يرى ... أوانس قد كانت تكون بها عصرا
وتحته مكتوب: وكتبت آمنة بنت عمر بن عبد العزيز: كان سفيان بن عاصم زوجها.(5/149)
آمنة أو أمية بنت أبي الشعثاء الفزارية.
حدثت عن مدلوك أبي سفيان قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع موالي فأسلمت، فمسح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده على رأسي، قالت آمنة: فرأيت ما مسح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رأسه أسود، وقد شاب ما سوى ذلك.
آمنة بنت محمد بن أحمد
العجلية والدة الحسن بن الحنائي.
حدثت عن أبي محمد عبد الله بن عبد الرزاق الأزدي بسنده عن جابر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يموت بثلاثة أيام يقول: " لا يموت أحدكم إلا وهو بالله حسن الظن ".
آمنة ذات الذنب كان لها ذنب مخلوق في عجزها فنخسها مروان المرتعش فضرطت فخاصمته إلى نمير بن أوس فقضى لها بأربعين درهماً وعباءة.؟
أميمة بنت أبي بشر بن زيد
الأطول الأزدية زوج عبد الله بن قرط الثمالي الأزدي.
شهدت اليرموك مع بعلها.
قال أبو حذيفة إسحاق بن بشر: وأقبلوا - يعني الروم - حتى نزلوا بمكانٍ من اليرموك يدعى دير الخل مقابل المسلمين، والمسلمون قد تحرزوا وأصعدوا النساء.(5/150)
قالوا: فمر قيس بن هبيرة على نسوةٍ من نساء المسلمين مجتمعاتٍ، فلما رأينه قامت إليه أميمة بنت أبي بشر، وكانت تحب عبد الله بن قرط الثمالي، وكان فرس قيس أشبه شيء بفرس عبد الله بن قرط، وكان باده على الفرس شبيهاً بباده، فظنته زوجها، فقامت إليه فقالت: استمتع، بنفسي أنت.
فظن قيس أنها شبهته بزوجها، قال: أظنك شبهتني بعبد الله.
قالت: واسوأتاه! فانصرفت.
فقال: أيتها المرأة، وإياكن أعني أيضاً، قبح الله امرأة تضطجع لزوجها، وهذا عدوه قد حل بساحته يقاتله إذا أراد منها ذلك، فلتحث التراب في وجهه، ثم لتقل: اخرج فقاتل عني فإني لست بامرأتك حتى تمنعني، فلعمري ما يقرب النساء على مثل هذه الحال إلا فسلٌ من الرجال، ثم مضى، قال: تقول المرأة: واسوأتاه! هذا يظن أني ظننت أنه زوجي، فقمت إليه أتعرض له، إنما ظننت أنه ابن قرط، ولم يكن تعشى البارحة إلا عشاء خفيفاً، كان تعشى عنده رجلان من إخوانه، فكنت قد هيأت له غداءه، فأردت أن ينزل فيتغدى.
أميمة بنت رقيقة
وهي أميمة بنت عبد ويقال: عبد الله بن بجاد بن عمير بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وأمها رقيقة بنت خويلد أخت خديجة بنت خويلد، لها صحبة، وهي من المبايعات.
شهدت مؤته، وقدمت على معاوية دمشق، وروت عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحاديث.
قالت أميمة بنت رقيقة: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نسوة نبايعه، فقلنا: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فيما استطعتن وأطقتن ".(5/151)
فقالت: فقلت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، هلم نبايعك يا رسول الله.
فقال: " إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمئة امرأة، كقولي لامرأة واحدة، أو مثل كقولي لامرأة واحدة ".
وفي حديث آخر: جاءت أميمة بنت رقيقة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبايعه على الإسلام.
فقال: " أبايعك على أن لا تشركي بالله شيئاً، ولا تسرقي ولا تزني ولا تقتلي ولدك ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديك ورجليك، ولا تنوحي ولا تبرجي تبرج الجاهلية الأولى ".
وعن رقيقة قالت: كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدحٌ من عيدان يبول فيه، ويضعه تحت السرير، فجاءت امرأة يقال لها بركة قدمت مع أم حبيبة من الحبشة فشربته، فطلبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يجده، فقيل: شربته بركة.
فقال: " احتظرت من النار بحظار ".
كان معاوية قد حول أميمة إليه إلى الشام، وبنيت لها دار، ودخلت على معاوية في مرضه الذي مات فيه، فقال: اندبيني يا بنت رقيقة؟ فتسجت بثوبها ثم قالت: " من الهزج "
ألا ابكيه ألا ابكيه ... ألا كل الفتى فيه
ثم قال: لابنتيه: اقلبنني، فقلبته هندٌ ورملة، فقالت: إنكما لتقلبان حولاً قلباً، إن وقي كبده النار غداً.
ثم قال: " من الكامل "
لا يبعدن ربيعة بن مكدم ... وسقى الغوادي قبره بذنوب(5/152)
قال هشام بن عروة سمعت عبد الله بن الزبير يقول: كان والله - يعني معاوية - كما قالت بنت رقيقة: " من الهزج "
ألا ابكيه ألا ابكيه ... ألا كل الفتى فيه
وقيل رقيقة هي أم مخرمة بن نوفل صاحبة الرؤيا في استسقاء عبد المطلب بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أنيسة بنت معبد المغني
ومعبد مولى ابن قطن.
يقال لها: عروس القيان.
خرجت مع أبيها معبد وأخيها كردم إلى يزيد بن عبد الملك فأقاموا بالشام حياة يزيد كلها، ثم رجعوا إلى المدينة طول أيام هشام، فلما ولي الوليد بن يزيد استحضرهم فخرجوا إليه، ولم يزالوا مقيمين في عسكره حتى مات معبد، فخرج الوليد بن يزيد وأخوه الغمر متبذلين يحملان مقدم جنازته.
اصطبح الوليد بن يزيد يوماً وعنده أنيسه بنت معبد وأخوها كردم وشهدة جاريته.
فقال لأنيسة: أتعرفين صوتاً كان أبي يقترحه على أبيك فيه ذكر لبابة؟ فقالت: نعم.
وغنته: " من الكامل "
ودع لبابة قبل أن تترحلا ... واسأل فإن قلاله أن تسألا
إلبث لعمرك ساعةً وتأنها ... فلعل ما بخلت به أن يبذلا
حتى إذا ما الليل جن ظلامة ... ورجوت غفلة حارسٍ أن يغفلا
خرجت تأطر في الثياب كأنها ... أيم يسيب على كثيبٍ أهيلا
فطرب الوليد وقال: هو هو واصطبح عليه يومه، ووالى الشرب سبعة أيام فأمر فيها في كل يوم لأنيسة بألف دينار، ثم أمر أن تجهز بذلك وتزوج رجلاً شريفاً موسراً، فزوجها رجلاً من وجوه أصحابه من تنوخ.
أسماء الرجال على(5/153)
حرف الباء
بحيري الراهب
الذي حذر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الروم، ورده من أرض بصرى، وكان على دين المسيح، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
توفي قبل البعث، كان يسكن قرية يقال لها: الكفر، بينها وبين بصرى ستة أميال تعرف اليوم بدير بحيرى؛ وقيل: كان يسكن البلقاء بقريةٍ يقال لها: ميفعة وراء زيزاء.
عن ابن عباس: أنا أبا بكر الصديق صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثمان عشرة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن عشرين، وهم يريدون الشام في تجارة، حتى إذا نزلوا منزلاً فيه سدرة قعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب يقال له بحيرى يسأله عن شيء، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال له: ذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فقال: هذا والله نبي، ما استظل تحتها بعد عيسى بن مريم إلا محمد.
ووقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فلما نبئ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتبعه.
حدث أبو داود سليمان بن موسى: أن أبا طالب عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج به إلى الشام، فلما مروا بقرية يقال لها: ميفعة من أرض البلقاء، وفيهم راهب يقال له: بحيرى، فخرج إليهم بحيرى، وكانوا قبل ذلك يقدمون فلا يخرج إليهم ولا يلتفت، فجعل يتخللهم حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(5/154)
فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا الذي بعثه الله رحمة للعالمين.
فقال شيوخ من قدم معه من قريش: وما علمك؟ قال: أنكم لما أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجداً ولا يسجد إلا لنبي، وأعرفه بالصفة وبخاتم النبوة مثل التفاحة أسفل من غضروف كتفه، ثم انطلق بحيرى فأتاهم بطعام، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رعية إبل أصحابه، فقال: أرسلوا إليه، فأرسلوا إليه، فقال بحيرى: انظروا عليه غمامة تظله! فانتهى إليهم وقد علموه على الشجرة فيء الشجرة، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومال إليه فيء الشجرة، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة كيف مال إليه! فبينا هم يأكلون وهو قائم عليهم؛ إذ هو بفوارس من الروم مقبلين، فلما رآهم بحيرى استقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ فقالوا: جئنا لأنه بلغنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر، فلم يبق طريق من طرق الروم إلا وقد بعث عليه قوم وبعثنا إلى هذه الطريق.
فقال: ما وراءكم أفضل لكم، قال: أرأيتم أمراً أراد الله أن يمضيه يستطيع أحد رده؟ فتبعوه وأقاموا وأتاهم بحيرى فقال: أيكم ولي هذا الغلام؟ فأشاروا إلى أبي طالب.
فقال: إنهم إن رأوه عرفوه، فقتلوه، فرده أبو طالب.
وذكر حديث بحيرى لما عمل الطعام ودعاهم إليه، وقد ذكرناه في ترجمة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال في آخره: وكان رجال من يهود قد رأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وعرفوا صفته، فأرادوا أن يغتالوه، فذهبوا إلى بحيرى فذاكروه أمره فنهاهم أشد النهي، وقال لهم: أتجدون صفته؟ قالوا: نعم.
فما لكم إليه سبيل، فصدقوه، وتركوه، ورجع أبو طالب فما خرج به سفراً بعد ذلك خوفاً عليه.
بختري بن عبيد بن سليمان الطابخي
الكلبي من أهل القلمون من قرية الأفاعي حدث البختري بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رجل من الناس: يا رسول الله ما العاديات ضبحاً؟ فأعرض عنه، ثم رجع إليه من الغد.
فقال:(5/155)
ما الموريات قدحاً؟ فأعرض عنه، ثم رجع الثالثة، فقال: ما المغيرات صبحاً؟ فرفع العمامة أو القلنسوة عن رأسه بمخصرته فوجده مفرعاً رأسه.
فقال: " لو وجدته طاماً رأسه لوضعت الذي فيه عيناه ففزع الملأ من قوله ".
فقالوا: يا نبي الله ولم؟ قال: " إنه سيكون أناس من أمتي يضربون القرآن بعضه ببعض ليبطلوه ويتبعون ما تشابه منه ويزعمون أن لهم في أمر ربهم سبيلاً ولكل دين مجوس وهم مجوس أمتي وكلاب النار.
فكان يقول: هم القدرية.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سموا أولادكم فإنهم من أطفالكم " والمحفوظ: أفراطكم.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشربوا أعينكم الماء ولا تنفضوا أيديكم من الماء فإنها مراوح الشيطان ".
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: " إنك لأول من يقاتل الخوارج، فلا تتبعن مدبراً، ولا تجهز على جريح ".
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً ".
بختري باء معجمة بواحدة وخاء معجمة، وتاء معجمةٌ باثنتين من فوقها.
كان فيه ضعف، وروى عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدر عشرين حديثاً عامتها مناكير، منها: أشربوا أعينكم الماء، ومنها: الأذنان من الرأس.
بخت نصر بن بيت بن جوذرز
الملك البابلي.
دخل دمشق ومضى منها إلى بيت المقدس فخربها وسبى أهلها وحملها إلى بابل وقيل إنه آمن بعد ذلك.(5/156)
حدث مجاهد قال: كان من قصة بخت نصر أنه كان يتيماً بأرض لا يؤبه له، وكان فيما ذكروا من جيش نمرود صاحب إبراهيم، وكان لزنية، بغت أمه فكان من شأنه أن دانيال الأكبر وكان قد قرأ التوراة ذات يوم فأتى على هذه الآية " فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً " قال: فطوى التوراة فقال: يا رب من هذا المكان الذي يكون خراب بيت المقدس على يديه وهلاك بني إسرائيل؟ قال: فأري في المنام أن يتيماً بأرض بابل يقال له بخت نصر عليلاً فقيراً فقضيت ذلك على يديه فلما أصبح تجهز بمال عظيم، ثم خرج نحو أرض بابل حتى وردها، وملكها يومئذ سنحاريب.
فدخل عليه، فقال: من أنت ومن أين أقبلت؟ قال: أقبلت من أرض بني إسرائيل وحملت معي أموالاً أقسمها في فقراء أهل أرضك ويتاماهم.
قال: فأنزله وأكرمه، وأجعل يلطف اليتامى والفقراء فيعطيهم ويسأل عن أسمائهم حتى قسم مالاً كثيراً فكان لا يظفر ببخت نصر حتى أعياه ذلك فبعث من يطلبه في قرى بابل ومدائنها فلا يظفر به حتى أيس منه فأقام ببابل رجاء أن يظفر به.
قال: فخرج غلامه ذات يوم إلى بعض قرى بابل للميرة، قال: فمر بغلام مريض على طريق الناس قد اتخذ له عريش، وقد فرش له الرماد، به الذرب يسيل الماء الأصفر منه، فلما نظر إليه غلام دانيال رأى منظراً فظيعاً فقال له: ما حالك يا غلام؟ قال: أنا غلام يتيم قد كنت أكد على أم لي عجوز حتى أصابني ما ترى فعجزت عني فوضعتني هاهنا يعطف الناس علي والمارة فأصيب الشيء والكسرة.
فقال له: وما اسمك؟ قال: ما تسأل عن اسمي؟ قال: إن مولاي قسم مالاً كثيراً في اليتامى والمساكين فكيف غبت عنه؟ قال بخت نصر: هي أرزاق، قال: فأخبرني عن اسمك حتى أخبره بحالك فيعطيك كما يعطي غيرك، قال: اسمي بخت نصر.
قال: فلما انصرف الغلام إلى سيده فأخبره بما رأى.
قال دانيال: هذا بغيتي وأسر في نفسي، وانطلق معه غلامه إليه.
فقال: ما اسمك؟ قال: اسمي بخت نصر، وأنا غلام يتيم من أهل بيت شرف، ولكن انقلب علينا الزمان وأصابتنا الشدة فعجزت أمي عني فألقتني هذا الموضع.(5/157)
قال: فأمر غلامه فغسله وطيبه وكساه، ثم حمله حتى جاء به إلى أمه، وأجرى عليها حتى برأ وصح، وكان قبل أن ينزل به المرض يخرج مع أتراب له إلى البراري فيحتطب فكانوا يؤمرونه على أنفسهم فيحتطبون له ويحملونه فيما بينهم حتى ينتهوا إلى القرية فيحتزمون له حزمة فكان يدخلها السوق فيبيعها، فكان منها معيشته ومعيشة أمه، فلما صح قال له دانيال: يا بخت نصر هل تعلم أني قد أحسنت إليك؟ قال: نعم.
قال: فما رأيك إن وصلت إلي مكافأتي هل أنت مكافيّ؟ قال: يا سيدي هل صنع أحد بأحد إلا دون ما صنعت بي، ومن أين أقدر على مكافأتك! قال: أخبرني إن ملكت يوماً من الدهر بابل وغزوت بلاد بني إسرائيل فلي الأمان منك ولأهل بيتي؟ قال: نعم.
غير أني أظن أن هذا منك استهزاء! قال دانيال: لا بل هو الجد مني.
قالت أمه: يا سيدي، إن كان الذي تقول حقاً فأنت الملك وهو تبع لك، فقال دانيال: أتكتب لي أماناً ولأهل بيتي يكون كتابك علامة بيني وبينك وبين أهل بيتي وأعطيك عشرين ألف درهم؟ قال: نعم.
قال: فكتب له بخت نصر كتاباً أماناً بخط يده ولأهل بيته، وجهز بالذهب، وأعطاه دانيال عشرين ألف درهم، ثم ودع الملك ولحق ببلاده، فعمد بخت نصر ففرق تلك الدراهم في الغلمة الذين كان يترأس عليهم، فكساهم واشترى لهم الدواب، وكان ظريفاً كاتباً أديباً، فانطلق إلى سنحاريب الملك، فانتسب له ولزم بابه في أصحابه، فكان يوجهه في أموره وكان مظفراً حتى بدا لسنحاريب أن يغزو بيت المقدس، فبعث جواسيسه يأتونه بخبر الأرض، فانطلق بخت نصر فركب حماراً ثم جاء حتى دخل على الملك، فقال: أيها الملك إنك تبعث عيوناً إلى أرض بني إسرائيل فأحب أن أنطلق أنا بنفسي، فإني أنا أعلم منهم بالأمر الذي تدرك به حاجتك.
قال له الملك: ألا أعلمتني فكنت أستعملك عليهم، ولكن امضه.
فمضى حتى وردها، فكان أصحابه يسألون عن الحصون وعن العدة والرجال والمدخل والمخرج وكان بخت نصر يسأل بقوله: هل فيكم اليوم أنبياء وكتب تقرؤونها؟ قالوا: نعم.
قال: أفتطيعون أنبياءكم؟ قالوا: لا.
قال: أفتقيمون كتبكم؟ قالوا: لا.
قال: فانصرف، وانصرف أصحابه، فأعلموا الملك ما عاينوا.
وقال بخت نصر: أيها الملك إن فيهم أنبياء لا يطيعونهم وكتباً لا يقيمونها فإن نصرت فبهذا.
قال سنحاريب: إنه ليس للقوم بنا يدان، وسأغزوهم بجنود لا قبل لهم بها، وكان من قصته ما كان.
يروى أن بخت نصر دخل الشام ومصر في ست مائة ألف راكب وهو راكب على أسد أحمر(5/158)
متعمم بثعبان، متقلداً سيفاً طوله عشرة أشبار في عرض شبر، أخضر النصل، يقطر منه الماء شبه الشرر، غمده من ذهب مرصع بصنوف الجوهر والياقوت الأحمر، منقوش عليه هذه الأبيات: " من السريع "
وأنت إن لم ترج أو تتقي ... كالميت محمولاً على نعشه
لا تنجش الشر فتصلى به ... فقل من يسلم من نجشه
وأخمد الشر فإن هجته ... فاحرص لأعدائك في جشه
للبحر أقراشٌ لها صولةٌ ... فاحذر على نفسك من قرشه
إذا طغى الكبش بشحم الكلى ... أدخل رأس الكبش في كرشه
وناطح الكبش له ساعةٌ ... تأخذه أنطح من كبشه
فكم نجا من يد أعدائه ... وميتٌ مات على فرشه
من يفتح القفل بمفتاحه ... نجا من التهمة في فشه
ونابش الموتى له ساعةٌ ... تأخذه أنبش من نبشه
والبغي صراعٌ له صولةٌ ... تستنزل الجبار عن عرشه
قال ابن المبارك: رئي لقمان يعدو خلف بخت نصر فراسخ، فقيل له: يا ولي الله تعدو خلف هذا الكافر؟ قال: لعلي أسأله في مؤمن فيجيبني فيه.
قال وهب: لما فعل بخت نصر ما فعل - يعني ما ذكر في ترجمة أرميا - قيل له: كان لهم صاحب يحذرهم ما أصابهم، ويصفك وخبرك لهم، ويخبرهم أنك تقتل مقاتلهم، وتسبي ذراريهم، وتهدم مساجدهم، وتحرق كنائسهم، فكذبوه، واتهموه، فضربوه، وقيدوه، وحبسوه، فأمر بخت نصر فأخرج أرميا من السجن، فقال له: أكنت تحذر هؤلاء القوم ما أصابهم؟(5/159)
قال: نعم.
قال: فأنى علمت ذلك؟ قال: أرسلني الله تعالى إليهم فكذبوني.
قال: كذبوك وضربوك وسجنوك! قال: نعم.
قال: فبئس القوم قوم كذبوا نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، فهل لك أن تلحق بي فأكرمك، وأواسيك، وإن أحببت أن تقيم في بلادك فقد أمنتك.
قال له أرميا: إني لم أزل في أمان الله منذ كنت لم أخرج منه ساعة قط، ولو أن بني إسرائيل لم يخرجوا منه لم يخافوك ولا غيرك لو لم يكن لك عليهم سلطان.
فلما سمع بخت نصر قوله تركه.
فأقام أرميا بأرض إيلياء، وأخرج أهل بيت دانيال الأكبر كتاب آمان بخت نصر فأمضاه لهم، وأخرج بهم معه فكانوا خمسة أنفس: دانيال بن حزقيل وميشائيل وميخائيل وعيصو، وحرسوس، ويقال: كان عزير معهم وعزرائيل.
والله أعلم.
وكانوا شباباً لم يبلغوا الحلم، دانيال بن حزقيل كان أعطاه الله الحكمة، وكان عبداً صالحاً كريماً على الله عز وجل.
وقال ابن عباس: إنه مزق كتاب دانيال فنشأ هؤلاء الغلمة فكانوا وصفاء وكان أكبرهم دانيال، وهو دانيال الحكيم الذي أنقذ الله به بني إسرائيل من أرض بابل فعمد بخت نصر - حين سمع كلام دانيال وحكمته ونظر إليه - إلى جب في فلاةٍ من الأرض، فألقى فيه دانيال مع شبلين، وأطبق عليه الجب وهو مغلول، وقتل على دم يحيى بن زكريا سبعين ألفاً، وذلك أن ما بعث الله تعالى بخت نصر عليهم عقوبة لهم بما قتلوا يحيى وزكريا؛ وذلك أنه أمر بالموضع الذي قتل فيه يحيى وزكريا، فرأى دماءهما تغلي، فسأل عن ذلك؟ فقالوا: هي دماء نبيين، ولا تسكن حتى يقتل بكل واحد منهما سبعون ألفاً، فلما قتل بخت نصر على دمائهما هذه العدة سكنت تلك الدماء.
قال ابن عباس: لم يقتل كهلاً ولا وليداً ولا امرأة، إنما قتل أبناء الحرب وقادة الجيوش حتى استكمل هذه العدة، ودانيال في الجب مع الشبلين سبعة أيام فأوحى الله إلى نبي من بني إسرائيل كان بالشام، فقال: " انطلق فاستخرج دانيال من الجب "، فقال: يا رب! ومن يدلني عليه؟ فقال: " هو في موضع كذا وكذا يدلك عليه مركبك "، فركب أتاناً له وخرج(5/160)
حتى انتهى إلى ذلك الموضع، فدارت به حمارته ثلاث مرات في أرض ملساء، فعرف أن بغيته فيها، فقال: يا صاحب الجب، فأجابه دانيال، فقال: قد أسمعت فما تريد؟ قال: أنا رسول الله إليك لأستخرجك من هذا الموضع، فقال دانيال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، الحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالإساءة غفرانا، والحمد لله الذي يكشف ضرنا عن كربنا، ثم استخرجه، وإن الشبلين لعن يمينه وعن شماله يمشيان معه، وإن ذلك النبي لفي ناحية يفرق منهما، حتى عزم عليهما دانيال أن يرجعا إلى الغيضة.
قال ابن عباس: من قال عند كل سبع: اللهم رب دانيال ورب الجب، ورب كل أسد مستأسد، احفظني واحفظ علي، لم يضره السبع.
وحدث قتادة عن كعب: أن بخت نصر انطلق بدانيال معه إلى أرض بابل يصدر عن رأيه، حتى قيل له: إنه مخالفٌ لك ولا يأكل لحم الخنزير.
قال: فدعاه إلى طعامه فأبى أن يأكله، فسجنه في السجن حتى رأى رؤياه التي قطع بها على ما سنذكره.
وحدث عن وهب أن بخت نصر سار ببني إسرائيل وكنوز بيت المقدس إلى أرض بابل، فأقام أرميا بأرض إيلياء وهي خراب، فكان يبكي وينوح على بيت المقدس، وكان يساعده عليه الخطاف فيطوف حوله، فمن ثم نهي عن قتله، وكانت بقايا من بني إسرائيل متفرقين بلغهم أمر أرميا ومقامه بإيلياء، فاجتمعوا إليه، فقالوا: قد عرفنا الآن أنك نصحتنا، ولو أطعناك لم يصبنا ما أصابنا فمرنا بأمرك.
فقال لهم: أقيموا في أرضنا فنستغفر الله ونتوب إليه لعله يتوب علينا، فقالوا: إنا نخاف أن يسمع بنا بخت نصر، فيبعث إلينا من يتخطفنا، ونحن شرذمة قليلون، ولكن ننطلق إلى ملك مصر، فنستجيره، وندخل في(5/161)
ذمته.
فقال أرميا: ذمة الله أولى الذمم لكم، وإنكم لا يسعكم أمان أحد في الأرض إن أخافكم الله، وإن أمان الله هو أوسع لكم.
قالوا: إن الأمر كما تقول، لو كان الله راضياً عنا، ولكن الله ساخط علينا، ولسنا نأمن سطوته أن يسلمنا إلى عدونا، فانطلقوا إلى ملك مصر.
فأوحى الله إلى أرميا أنهم لو أطاعوا أمرك ثم كنت أطبقت عليهم السماء والأرض، لجعلت لهم من بينهما مخرجاً، وما كنت لأخفرك لو أطاعوك، وإني لأقسم بعزتي لأعلمنهم أنه ليس لهم ملجأ ولا محيض إلا طاعتي، واتباع أمري، فلما وردوا على ملك مصر شكوا إليه شأنهم.
فقال: أنتم في ذمتي وجواري، فسمع بذلك بخت نصر، فأرسل إلى ملك مصر أن لي قبلك عبيداً أبقوا معي، فابعث بهم إلي مصفدين، وإلا فأذن بحرب، فكتب إليه ملك مصر: إنك كاذب ما هم بعبيد.
إنهم أبناء الأحرار، وأهل النبوة والكتاب، ولكنك ظلمتهم واعتديت، فلما سمع بذلك أرميا رحمهم، فبادر إليهم ليشهدهم.
فأوحى الله إليه: " إني مظهر بخت نصر على هذا الملك الذي اتخذوه حرزاً ".
فقال لهم ذلك أرميا، فإن لم تطيعوني أسركم بخت نصر وقتلكم، فإن آية ذلك أن الله قد أراني موضع سرير بخت نصر الذي يضعه فيه بعدما يظفر بمصر وملكها، ثم عمد فدفن أربعة أحجار في الموضع الذي يضع بخت نصر فيه سريره، ثم قال: تقع كل قائمة من سريره على حجر منها.
قال: فلجوا في رأيهم، فسار بخت نصر، فأسر الملك وبني إسرائيل، وقتل جنوده، وقسم الفيء، وأراد قتل الأساري وقد وضع سريره في ذلك الموضع، فوقعت كل قائمة منه على حجر من تلك الأحجار التي دفن أرميا.
فقال له بخت نصر: ألا أراك مع أعدائي بعد أن أمنتك وأكرمتك؟! قال له أرميا: إنما جئتهم محذراً أخبرتهم خبرك، وقد وضعت لهم علامة من تحت سريرك، وأريتهم هذا المكان الذي يوضع فيه سريرك، فإن تحت كل قائمة حجراً دفنته، فلما رفع سريره وجد مصداق ما قال، فقال لأرميا: لو أعلم أن فيهم خيراً لوهبتهم لك، وما بي إلى قتلهم من حاجة، ولكن أقتلهم غضباً لك إذ كذبوك، واتهموا نصيحتك، فقتلهم ثم لحق بأرض بابل، فأقام أرميا بمصر، واتخذ بها جنينة وزرعاً يعيش منه.
فأوحى الله تعالى إليه: " إن لك عن الزرع والمقام بأرض مصر شغلاً، فكيف تسعك أرض وأنت تعلم سخطي على قومك ولا يحزنك هذا البلاء الذي يصب على إيلياء وأهلها، فالحق بهم حتى يبلغ كتابي أجله، فإني راد بني إسرائيل تارة أخرى إلى الأرض المقدسة، ومستنقذهم من عدوهم، وناظر كيف يعملون ".
فخرج أرميا مذعوراً حتى أتى بيت المقدس، فأوحى الله(5/162)
إليه: " سأعمره وأرفعه، وإني باعث ملكاً يقال له كورش من أرض فارس، حتى ينزل بقومه ورجاله حتى يعمرها، ويبني قصورها ومساجدها، ويكشف عن أنهارها، ويغرس أعنابها ونخلها وزيتونها "، فتوجه كورش إليها في جمع ومعه ثلاثون ألف قيم يستعملون الناس، كل قيم على ألف عامل ومعهم ما يحتاجون إليه، ولما أرميا عمارتها سأل ربه أن يقبضه إليه، فمات أرميا، وأنقذ الله بني إسرائيل بعد مائة سنة من أرض بابل على يدي دانيال.
وقال كعب: كان سبب إنقاذ بني إسرائيل من بابل أن بخت نصر لما صدر من بيت المقدس بالأسارى، وفيهم دانيال وعزير وأربعة وصفاء غلمان لم يبلغوا الحلم غير دانيال، واتخذ بني إسرائيل خولا زماناً طويلاً، وإنه رأى رؤيا فزع منها، فدعا كهنته وسحرته، فأخبرهم بما أصابه من الكرب بما في رؤياه، وسألهم أن يعبروها له، فقالوا له: قصها علينا.
قال: قد أنسيتها فأخبروني بتأويلها.
فقالوا: إنا لا نقدر على أن نخبرك بتأويلها حتى تقصها علينا، فغضب، وقال لهم: اخترتكم واصطفيتكم لمثل هذا، اذهبوا فقد أجلتكم ثلاثة أيام، فإن أتيتموني بتأويلها وإلا قتلتكم، وشاع ذلك في الناس، فبلغ دانيال وهو مسجون.
فقال لصاحب السجن وهو إليه محسن: هل لك أن تذكرني للملك فإن عندي علم رؤياه، وإني لأرجو أن تنال بذلك عنده منزلة تكون سبب عاقبتي.
قال له صاحب السجن: إني أخاف عليك سطوة الملك، لعل غم السجن حملك على أن تتروح بما ليس عندك فيه علم، مع أني أظن إن كان أحد عنده من هذه الرؤيا علم فأنت هو.
قال دانيال: لا تخف علي، فإن لي رباً يخبرني بما شئت من حاجتي، فانطلق صاحب السجن، فأخبر بخت نصر بذلك، فدعا دانيال، فأدخل عليه، ولا يدخل عليه أحد إلا سجد له، فوقف دانيال فلم يسجد له، فقال الملك لمن في البيت: اخرجوا، فخرجوا، فقال بخت نصر لدانيال: أخبرني عما يمنعك أن تسجد لي، قال دانيال: إن لي رباً آتاني هذا العلم الذي(5/163)
سمعت به على أن لا أسجد لغيره، فخشيت أن أسجد لك فينسلخ عني العلم، ثم أصير في يدك أمياً لا ينتفع بي، فتقتلني، فرأيت بترك سجدة أهون من القتل، وخطر سجدة أهون من الكرب والبلاء الذي أنت فيه، فتركت السجود نظراً لي ولك، فقال بخت نصر: لم يكن قط أوثق في نفسي منك حين وفيت لإلهك، وأعجب الرجال عندي الذين يوفون لأربابهم بالعهود، فهل عدنك علم الرؤيا التي رأيت؟ قال: نعم.
عندي علمها وتفسيرها.
رأيت صنماً عظيماً رجلاه في الأرض ورأسه في السماء.
أعلاه من ذهب، ووسطه من فضة، وسفله من نحاس، وساقاه من حديد، ورجلاه من فخار، فبينا كنت تنظر إليه قد أعجبك حسنه، وإحكام صنعته، قذفه الله حتى طحنه، فاختلط ذهبه، وفضته، ونحاسه، وحديده، وفخاره، حتى يخيل لك أنه لو اجتمع جميع الإنس والجن على أن يميزوا بعضه من بعض لم يقدروا على ذلك، ولو هبت ريح لأذرته، ونظرت إلى الحجر الذي قذف به يربو ويعظم، ويكبر حتى ملأ الأرض كلها، فصرت لا ترى إلا السما والحجر، قال له بخت نصر: صدقت الرؤيا فما تأويلها؟ فقال دانيال: أما الصنم فأمم مختلفة في أول الزمان وفي وسطه وفي آخره، وأما الذهب فهذا الزمان وهذه الأمة التي أنت فيها، وأنت ملكها، وأما الفضة، ابنك من بعدها تملكها، وأما النحاس فأمة الروم، وأما الحديد ففارس، وأما الفخار فأمتان تملكها امرأتان، إحداهما في مشرق اليمن، والأخرى في غربي الشام، وأما الحجر الذي قذف به الصنم، فدين يقذف الله به هذه الأمم في آخر الزمان ليظهره عليها، يبعث الله نبياً أمياً من العرب، فيدوخ الله به الأمم والأديان كما رأيت الحجر دوخ أصناف الصنم، ويظهره على الأديان والأمم، كما رأيت الحجر ظهر على الأرض وانتشر فيها حتى ملأها، فيحق الله به الحق، ويزهق به الباطل، ويهدي به أهل الضلال، ويعلم به الأميين، ويقوي به الضعفة، ويعز به الأذلة، وينصر به المستضعفين.
قال له بخت نصر: ما أعلم أحداً استعنت به منذ وليت الملك على شيء غلبني غيرك، ولا لأحد عندي يدٌ أعظم من يدك، وأنا جازيك بإحسانك، فاختر من ثلاث أعرضهن عليك: واحدة أن أردك إلى بلادك وأعمر لك كل شيء خربته، وإن أحببت كتبت لك أماناً تأمن به حيث ما سلكت، وإن أحببت أن تقيم معي، فأواسيك.
قال: أما قولك: تردني إلى بلادي وتعمر لي ما خربت؛ فإنها أرض كتب الله عليها الخراب وعلى أهلها الفناء إلى أجل معلوم، وليس تقدر أن تعمر ما خرب الله عز وجل، ولا ترد(5/164)
أجلاً أجله الله حتى يبلغ الكتاب أجله، وينقضي هذا البلاء الذي كتبه الله على إيلياء وأهلها، وأما قولك: إنك تكتب لي أماناً آمن به حيث ما توجهت؛ فإنه لا ينبغي أن أطلب مع أمان الله أمان مخلوق، وأما ما ذكرت من مواساتك؛ فإن ذلك أوفق لي يومي هذا حتى الله فينا قضاءه، فجمع بخت نصر ولده وحشمه وأهل العلم والرأي، فقال لهم: هذا رجل حكيم قد فرج الله عني الكرب الذي عجزت عنه به، وإني قد رأيت أن أوليه أمركم، فخذوا من أدبه وحكمته، وأعظموا حقه، فإن جاءكم رسولان أحدهما مني والآخر من دانيال، فآثروا حاجته على حاجتي، ونزل منه دانيال بأفضل المنازل، وجعل تدبير ملكه إليه، فلما رأى ذلك عظماء أهل بابل حسدوا دانيال، واجتمعوا إلى بخت نصر، فقالوا له: لم يكن على الأرض ملك أعز من ملكنا ولا أعظم، ولا قوم أهيب في صدور أهل الأرض منا حتى دانت لنا الأرض، واعترفت لنا الأمم، فليس يطمع فينا أحد، وإنا نخبرك أن الأمم قد طمعوا فينا منذ قلدت أمر ملكك هذا العبد الإسرائيلي، وإنك لم تفعل هذا حتى أنكرت عقلك ورأيك، وعجزت عن السياسية، وقد نصحناك، فقال لهم بخت نصر: ما أنكرت عقلي ولا رأيي، ولا تزيدني الأيام إلا تجربة وعلماً، ولكنه كان نزل بي ما رأيتم، فعجز عنه رأيي، وعجزتم أنتم، ففرج عني، فماذا تنقمون أن عمدت إلى أحكم أهل الأرض فاستعنت به مع رأيي، وكل ذلك أريد به صلاح أمركم وقوام ملككم؟ قالوا: فإن كان كما تقول، أفليس يخبرك أن له رباً عظيماً هو الذي يدبر له أمره ويطلعه على الغيب؟ قال بخت نصر: بلى، يزعم أن له رباً لولاه لم يك شيئاً، ولا يعلم شيئاً.
قالوا له: هذا العبد الضعيف قدر على أن يتخذ إلهاً يخبره بما شاء، فكيف لا تقدر أنت في مثل خطرك وعظم ما أوتيت من الملك على أن تتخذ إلهاً، فيخبرك بحاجتك ويكفيك ما أهمك، وتستغني به عن الناس، ونحن لك على ذلك مؤازرون؟ قال بخت نصر: فأنتم وذاك.
قالوا: فأعطنا الطاعة والسلطان حتى نفرغ مما تريد، ففعل بهم ذلك، فعملوا طوله في السماء سبعون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً من الألواح ثم دسروه بالحديد والمسامير، وألبسوه الذهب، وكللوه بالياقوت وألوان الجوهر، ثم صنعوا له عيداً عظيماً، وذبحوا له الذبائح، وواعدوا الناس لذلك اليوم يجتمعون فيه، فيعبدون ذلك الصنم ويسجدون له، واتخذوا أخدوداً في الأرض، فأوقدوا فيها ناراً عظيمة، وهم أصحاب الأخدود، وكانت الأخدود باليمن وبابل، فأما الذي كان باليمن فاتخذه يوسف ذوا وناس الحميري، وهو الذي(5/165)
ملك حمير، وكان صاحب عنفصير، وهو الذي قتل الناس وأحرقهم بالنار ليدعوا إلى الإسلام، وكان الأخدود الأخرى بابل اتخذها بخت نصر، فلما اجتمع الناس يوم عيدهم، أمروهم بالسجود لذلك الصنم فسجدوا، فمن أبى حرقوه في تلك الأخدود، وكان بخت نصر سبى من إيلياء سبعين ألف غلام، فقسمهم في ملوك بابل، ماخلا دانيال وميشائيل وعيصو ومرسوس فأقاموا بذلك زماناً يستخدمونهم حتى أدرك الوصفاء، فأنكر أهل بابل شأنهم، فقالوا لبخت نصر: إنا أنكرنا شأننا منذ أدرك عبيدنا، فإنا نحب أن تنفيهم منا فتخرجهم عنا، أو تأذن لنا فنقتلهم.
فقال لهم: أنتم وذاك. قال: فقتلوهم جميعاً، وبقي هؤلاء العدة في يدي الملك، فكانوا يدعون الله ويقولون: يا رب قد عذبت آباءنا بذنوبهم فما بالنا؟! فأوحى الله إلى دانيال: " إني مخلصهم "، فعطف عليهم بخت نصر فلم يقتلهم، فلما أخرجوا صنمهم ليوم عيدهم، دعوا هؤلاء العدة من بني إسرائيل، فقالوا لهم: اسجدوا لآلهتنا، فقالوا: إن هذا ليس بإله نسجد له، إنما هو خشب عملته الرجال، فإن شئتم سجدنا للذي خلقه فاغتنموا خلافهم ليحرقوهم وليغيظوا بهم دانيال، فكتفوهم ثم رموا بهم في تلك النار فباتوا فيها حتى أصبحوا، فاطلع بخت نصر عليهم من قصره، فرأى فيها خمسة نفر في النار، ورأى خامسهم خلقاً عظيماً له ريش، فرأى النار قد عادت جليداً، وإذا صاحب الريش يكنفهم ويلحفهم بريشه من برد الجليد، فلما نظر بخت نصر إلى ذلك امتلأ رعباً، فدعا قومه فقال: كم كنتم ألقيتم في النار؟ قالوا: أربعة.
قال: فإن معهم خامساً له ريش وهيبة وجسم لا يقدر قدرها.
قالوا: ليس لنا به علم، فدعا دانيال، فسأله.
فقال: هؤلاء الأربعة أعرفهم فمن الخامس صاحب الريش؟ قال: دانيال: الخامس الذي وكله الله بالظل والبرد والثلج والجليد، وهذه خزائن بيده، فأرسله إلى هؤلاء الفتية حتى صير النار جليداً حتى لا يضرهم برد الجليد.
وقيل: إن دانيال قال لبخت نصر لما سأله عن الخامس، قال: ذاك جبريل بعثه الله يروح عنهم ويؤنسهم، وقيل: إن بخت نصر قال لدانيال: ألا أعلمتني حين عرض لهم فأحول بينهم وبين ما صنعوا بهم! قال دانيال: حملني على ذلك الرفق بك لما أدخل عليك أهل مملكتك ووثقت لهم(5/166)
بنصر الله، وأن الله لم يخذلهم، وأردت أن يرى قومك عزة الله وسلطانه وكيف يعز أولياءه، فأمر بهم فأخرجوا من النار.
قال وهب: لما وقفوا بين يدي بخت نصر قال: كيف بتم البارحة؟ قالوا: بأفضل ليلة مرت علينا منذ خلقنا، قال بخت نصر: وهي أفضل من لياليكم في بلادكم؟ قالوا له: سبحان الله ومتى كنا نطمع في بلادنا ملائكة الرحمن أن يلحفونا بالريش، ويردون عنا أذى البرد، ويستغفرون لنا، ويصافحونا! فأمرهم أن يلحقوا بدانيال فأكرمهم، فلم يزالوا حتى على ذلك ثلاث سنين، ثم إن بخت نصر رأى رؤيا أهول وأعظم مما كان رأى، فأرسل إلى عظماء قومه، فقال لهم: إني قد رأيت في مضجعي هذا ولم أتحول عنه رؤيا فيما يخيل إلي أشد من الأولى، وخشيت أن يكون فيها هلاكي وهلاككم، وذهاب ملككم وقد نسيتها فما ترون؟ فجعلوا علة عجزهم دانيال فقالوا: إنك عمدت إلى أسحر العالمين فوضعته عند رأسك، فهو يفزعك بسحره، ويريك الأحلام لينال منك المنزلة والكرامة، فشأنك وشأنه، وقد عمرت قبله زماناً لا ترى شيئاً تكرهه.
وأنت مستغنٍ برأيك، فأدخلت على نفسك هذا البلاء، فقال لهم بخت نصر: أما عندكم غير هذا؟ قالوا: لا.
قال: اخرجوا عني، ثم دعا دانيال، فقال: إني قد رأيت في مضجعي هذا ولم أتحول عنه رؤيا قد نسيتها هي عندي أعظم من الأولى فهل عندك علمها؟ قال: نعم.
قال: إذاً فاقصصها علي، قال دانيال: رأيت شجرة عظيمة أصلها ثابت وفرعها ذاهب في السماء، في فرعها طير السماء كله، وفي ظلها وحوش الأرض وسباعها كلها، فبينا أنت تنظر إليها، وقد أعجبك حسنها وعظمها وخضرتها، والذي جمع الله في فرعها من الطير، وفي ظلها من الوحوش؛ إذ أقبل ملك يحمل حديداً كأنه الفأس على عاتقه، وهو يؤم الشجرة؛ إذ ناداه ملك من فوقه من باب من أبواب السماء فقال له: ما أمرك ربك في هذه الشجرة؟ قال: أمرني أن لا أدع منها شيئاً، فناداه الملك من فوقه: إن الله يأمرك أن لا تستأصلها من أصلها خذ بعضها وأبق بعضها، فنظرت إلى الملك قد ضرب رأسها بالفأس فانقطع منها بعض أغصانها، وتفرق ما كان فيها من الطير، وما كان في ظلها من السباع، وبقي الجذع متغيراً قد تغير حسنه وخضرته لا هيئة له.
قال بخت نصر: هذه الرؤيا التي رأيتها فما تأويلها؟ قال دانيال: أنت الشجرة، وما رأيت فوقها من الطير فولدك وأهلك وحشمك، وما رأيت في ظلها من السباع والوحوش فخولك وعبيدك ورعيتك،(5/167)
كانوا في ظلك وملكك، وقد أغضبت الله فيما بايعت هؤلاء عليه من عمل هذا الصنم، فإنهم لن يأتوا بمثل الله أبداً، فذكر الله بك عندما أراد من هلاكك فصفح عنك، ثم رأيت الملك وقد أهم أن يستأصل الشجرة من أصلها، فناداه الآخر من فوقه أن يأخذ منها ويبقي منها، وكذلك يصنع الله بك يأخذ منك ويبقي.
قال بخت نصر: وكيف يفعل بي؟ قال: يبتليك ببدنك، يعرفك به قدرته، فلا يدع صورة مما خلق وأخرى فيها الروح إلا مسخك فيها، فلبثت في ذلك البلاء سبع سنين، ولو شاء أن يجعل ذلك في أوشك من طرفة عين لفعل، ولكن ليطول عليك البلاء ويعرفك أنه ليس لك من دونه وال، ولا يملك لك أحد معه شيئاً، ثم لا يحولك في صورة من تلك الصور إلا كنت ملك ذلك الجنس وتعلوه وتقهره، فإذا انقضت السبع سنين رجعت إنساناً كما كنت أول مرة، فقال بخت نصر: فهل يقبل ربك مني توبة أو فدية أو رجعة؟ فقال: لا، حتى يعرفك قدرته وينفذ قضاءه فيك.
قال: فلما قال هذا اعتزل ملكه وأهله ووكل ابنه، وأمره أن يكون السائس دانيال، وأغلق عليه أبوابه وقعد يبكي على نفسه، فمكث في البكاء سبعة أيام، فلما غمه البكاء ظهر فوق بيته يتروح من غم ما هو فيه، فساعة ظهر أنبت الله له ريشاً وزغباً، وجعل له مخاليب ومنقاراً، فصار عقاباً، ثم ذهب يطير فلا يقوم له طير في السماء إلا قهره، وتحدث به أصحاب النسور الذين يصيدون الطير فقالوا: إنه حدث في السماء طير عظيم على صورة عقاب لا يقوم له شيء ولا يطيقه إنسان، ثم حوله فرساً، فتحدث به أصحاب الأرمال، وقالوا إنه حدث في المروج حصان من الخيل ما رأينا مثله عظماً وجسماً، لا يقوم له شيء، ولا يرومه إنسان، فجعل لا يمسخ في شيء إلا ذكر عظمه وقوته وتحدث بذلك، فلم يزل في ذلك سبع سنين وولده وملكه على حاله لم يتغيروا، ولم يحدثوا فيه شيئاً، وكان يأمرهم دانيال أن لا يغيروا من أمره شيئاً حتى يرجع إليهم.
وفي رواية، وكان إذا مسخ في جنس ذكراً فاشتهى الإناث واغتلم حوله أنثى، فأحرم واشتهى الذكور حوله الله ذكراً، فكان لا يصل إلى شهوته من الجماع، ولا يوصل إليه.(5/168)
قالوا: وكان آخر خلق مسخ فيه بخت نصر البعوضة، فأقبل في صورتها يطير حتى دخل بيته، فحوله الله إنساناً، فاغتسل بالماء ولبس المسوح، وألقى جفن سيفه، ثم خرج به صلتاً يتوكأ عليه حتى برز إلى جناته، فأمر بجمع قومه فاجتمعوا كأجمع ما كانوا قط، ثم قال: يا أيها الناس إني وإياكم كنا نعبد من دون الله ما لا يضرنا ولا ينفعنا، ولا يخلقنا ولا يرزقنا، ولا يميتنا ولا يحيينا، ولا يملك لنا من الله شيئاً، وإنه قد تبين لي من قدرة الله في نفسي أن لا إله إلا إله بني إسرائيل، فمن بايعني على هذا أو أجابني عليه، فأنا منه وهو مني، وأنا وهو في الحق سواء، ومن أبى وخالف ضربته بسيفي هذا، وأشار به إليهم - وكان فيهم مهيباً - حتى يحكم الله بيني وبينه، ألا وإني قد أجلتكم يومي هذا، فإذا أصبحت فأجيبوني، ثم انصرف عنهم، فساعة دخل بيته وقعد على فراشه قبض الله روحه.
فقال وهب بن منبه: سألني ابن عباس عن قصة بخت نصر فقصصتها عليه، فقال ابن عباس: ما شبهت إيمانه إلا بإيمان سحرة فرعون حين قالوا: آمنا برب موسى وهارون.
وكان وهب بن منبه يقول:
لما مسخ بخت نصر كان في ذلك يعقل عقل الإنسان، ثم رد الله روحه فدعا إلى توحيد الله، وقال: كل إله باطل إلا إله السماء.
قال بكار: فقيل لوهب: أمؤمناً مات؟ فقال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: قد آمن قبل أن يموت، وقال بعضهم: قتل الأنبياء، وحرق الكتب، وخرب بيت المقدس، فلن تقبل توبته.
وقيل: إن بخت نصر لما قتل بني إسرائيل وخرب بيت المقدس، وسار بسبايا بني إسرائيل إلى أرض بابل، فسامهم سوء العذاب، فأراد أن يتناول السماء، فجمع بني إسرائيل وعظماء أهل بابل ممن عنده علم، فقال لهم: إني قد قهرت أهل الأرض، فأريد أن أتناول ملك السماء، فهل عندكم علم أو حيلةٌ أصعد إلى السماء؟ فقالوا: لا.
فقال لهم: انطلقوا فاطلبوا لي حيلة أصعد بها إلى السماء.
فسلط الله عليه بعوضة، فدخلت منخره، فوقعت في دماغه، فلم تزل(5/169)
البعوضة تعذبه وتأكل دماغه، فلم يزل ينطح رأسه على الحجر حتى مات، ثم أوصى أن شقوا هامته فينظروا ما كان فيه.
قال: ففعلوا، فرأوا قدرة الله، فإذا هم ببعوضة قد تعلقت بدماغه.
والله أعلم أي ذلك كان.
قالوا: وملك بخت نصر خمسٌ وأربعون سنة، منها تسع عشرة سنة قبل خراب أورشلم - وهي بيت المقدس - وسباء بابل، وست وعشرون بعد الخراب.
قالوا: كان أمره بعدما رفع عيسى بن مريم، وقيل: كان قبل عيسى بن مريم، وقيل: كان قبل الاسكندر والمسيح بأكثر من ثلاث مائة سنة.
قالوا: ومن زمن آدم إلى سبي بابل أربعة آلاف وتسع مائة وثمان عشرة سنة.
بخيت بن محمد بن حسان البسري
بخيت أوله باء مضمومة خاء معجمة مفتوحة وآخره تاء معجمة باثنتين من فوقها هو بخيت بن أبي عبيد البسري.
من أهل بسر.
كان أبوه من كبار الزهاد.
قال أبو بكر الهلالي: اجتمع أصحاب الحديث بطبرية إلى بخيت بن أبي عبيد البسري، فسألوا أن يملي عليهم حديثاً، فقال: ما أحب أن ألقى الله وأنا صاحب حديث.
قالوا: فاحك لنا عن أبيك شيئاً، فقال: سمعت أبي يقول: " من الرجز "
البيت خالٍ والكباش تنتطح ... فمن نجا برأسه فقد ربح(5/170)
بدر بن الهيثم بن خالد بن عبد الرحمن
وقيل: بدر بن الهيثم بن نصر مولى بني هاشم الدمشقي.
حدث عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طاعة الإمام حقٌ على المرء المسلم، ما لم يأمر بمعصية الله، فإذا أمر بمعصية الله عز وجل فلا طاعة له ".
بدر بن عبد الله أبو النجم
مولى المعتضد بالله المعروف بالحمامي وبالكبير.
قدم دمشق من مصر ممداً لأميرها طغج بن جف الفرغاني في خلافة المكتفي من قبل الطولونية لما حاصر القرمطي دمشق، فلقيه بكناكر، فقتل القرمطي، وانصرف إلى طبرية راجعاً إلى مصر، ثم رجع من الطريق والياً على دمشق من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، فقدمها في شعبان سنة تسعين ومائتين.
حدث أبو النجم بدر الكبير عن عبيد الله بن محمد بن رماحس بسنده عن أبي جرول زهير بن صرد الجشمي قال: لما أسرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين يوم هوازن، وذهب يفرق السبي، أتيته فأنشأت أقول: " من البسيط "
امنن علينا رسول الله في كرمٍ ... فإنك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضةٍ قد عاقها قدرٌ ... مشتتٌ شملها في دهرها غير
أبقت لنا الحرب هتافاً على حزن ... على قلوبهم الغماء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح الناس حلماً حين يختبر
امنن على نسوةٍ قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يزينك ما تأتي ومت تذر
لا تجعلنا كمن شالت نعامته ... واستبق منا فإنا معشر زهر
إنا لنشكر للنعماء إذا كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدخر(5/171)
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمهاتك إن العفو مشتهر
يا خير من مرحت كمت جياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
إنا نؤمل عفواً منك تلبسه ... هذي البرية إذ تعفو وتنتصر
فاعف عفا الله عما أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
فلما سمع هذا الشعر، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم ".
وقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله، وقالت الأنصار: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
قال أبو نعيم الحافظ: بدر الأمير أبو النجم، قدم أصبهان سنة ثلاث وثمانين ومائتين لإخراج عمر بن عبد العزيز أخي أحمد بن عبد العزيز إلى مدينة السلام وقدمها أيضاً واليها عليها سنة خمس وتسعين ومائتين في رمضان، فتولاها إلى صفر من سنة ثلاث مائة، وكان عاد لأحسن السيرة، منع من نزول الجند في الدور إلا بالكراء الوافي، وكان يقرب أهل العلم، ويرفع منهم.
وقال أبو نعيم أيضاً: كان عبداً صالحاً مجاب الدعوة.
قال أبو بكر الخطيب: ولي بدر الإمارة في بلدان جليلة، وكان له من السلطان منزلة كبيرة، وتولى الأعمال بمصر مع ابن طولون، إلى أن فسد أمر ابن طولون وقتل، فقدم بدر بغداد، فأقام بها مدة، ثم ولاه السلطان بلاد فارس، فخرج إلى عمله وأقام هناك إلى أن توفي.
حدث جحظة قال: كنت بحضرة المعتضد ذات يوم، فأمرني أن أغني صوتاً فغنيت، ثم استعاده دفعة أخرى، وطرب له طرباً شديداً، فأمر لي بمائة درهم، وقال: عرجوا به على بدر - يريد(5/172)
صاحب جيشه - فقلت لعله أن يوجد مما أطلق لي حق الجراية، فلما وثب أمير المؤمنين حملني الخادم إلى قصر بدر، فرأيت مجلساً أحسن من مجلس الخليفة، وفيه من الغناء طرائقه، فلما رآني وثب وأجلسني في دسته وقال له الخادم: هذه تحفة أمير المؤمنين، فأكرمني، فغنيته ثلاثة أصوات، فلما سمعهن أمر بمائة ألف درهم، وعشرة تخوت ثياب، وشهريٍ لين الركوب، وغلام أسود.
وانصرفت وعدت إلى مجلس أمير المؤمنين في الغد، فغنيته صوتاً فأطربه، فأمر لي بالجائزة فقلت: يا أمير المؤمنين ويعرج بي على بدر، فقال: ذلك لا يعاود.
قال إسماعيل بن علي الخطبي: ورد الخبر في ربيع الأول سنة إحدى عشرة وثلاث مائة بموت بدر غلام ابن طولون المعروف ببدر الحمامي، وكان أميراً على بلاد فارس كلها وكورها، وقد طالت أيامه بها، وصلحت بمكانه، والسلطان حامد لأمره فيها، وشاكر إلى مكانه بها، فورد الخبر بوفاته، وأن ابنه محمداً قام بالأمر هناك، وسكن الناس، وضبط ما تهيأ له ضبطه، فأمر السلطان أن يكتب إليه بالولاية مكان أبيه، وتأمر على بلاد فارس، وأطاعه الناس.
وقيل: مات بدر بشيراز وهو أمير على فارس.
بدر بن عبد الله أبو النجم الأرمني
التاجر المعروف بالشيحي، عتيق عبد المحسن بن محمد، قدم دمشق دفعات.
حدث عن أبي محمد الصريفيني بسنده عن شعبة عن ثابت قال: كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يقوم فيصلي فإذا قال: سمع الله لمن حمده، يقوم حتى نقول قد نسي.(5/173)
توفي بدر ببغداد في ليلة السبت التاسع من رمضان سنة اثنتين وثلاثين وخمس مائة.
بديح مولى عبد الله بن جعفر
من أهل المدينة.
حدث بديح قال: كان عبد الله بن جعفر يحدثنا قال: فأقبل علي بن أبي طالب من سفر، فلقيناه غلمة من بني عبد المطلب، فينا الحسن والحسين، فلما دفعنا إليه تناولني فضمني إليه، فقال: يا بن أخي إني معلمك كلمات سمعتهن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من قالهن عند وفاته دخل الجنة: لا إله إلا الله الحكيم الكريم - ثلاث مرات - الحمد لله رب العالمين - ثلاث مرات - تبارك الذي بيده الملك يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وعن بديح قال: أن عبد الله بن جعفر قدم على عبد الملك بن مروان، فأهدى له رقيقاً من رقيق المدينة، فقال له يحيى بن الحكم وهو عنده: إنما أهديت لأمير المؤمنين وحشاً من وحوش رقيق الحجاز، وقال له يحيى بن الحكم: ما فعلت خبثة؛ يعني المدينة؟ قال له عبد الله بن جعفر: سماها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيبة وسميتها خبثة! وفي رواية: خالفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما أرى الله سيخالف بينك وبينه.
قال أبو الحسن المدائني: دخل عبد الله بن جعفر على معاوية ومعه بديح، فقال لبديح: هات بعض هناتك، فغنى، فحرك معاوية رجليه، فقال ابن جعفر: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: إن الكريم طروب.
قال الأصمعي: قال الوليد بن عبد الملك لبديح: خذ بنا في المنى، فوالله لأغلبنك قال: لا تغلبني.
قال: بلى لأفعلن، قال: فستعلم، قال الوليد: فإني أبداً أتمنى ضعف ما تتمنى أنت فهات،(5/174)
قال: فإني أتمنى سبعين كفلاً من العذاب، ويلعني الله لعناً كبيراً، فعليك ضعف ذلك.
قال: غلبتني قبحك الله.
بديع بن عبد الله أبو الحسن
مولى الميانجي حدث عن مولاه القاضي أبي بكر يوسف بن القاسم الميانجي بسنده عن ابن عباس قال؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحبوني لحب الله عز وجل، وأحبوا أهل بيتي لحبي ".
برد بن سنان أبو العلاء القرشي
مولاهم من أهل دمشق سكن البصرة.
حدث عن نافع عن ابن عمر: أنه كان يؤاجر أرضه حتى ذكر رافع بن خديج أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن كراء الأرضين، فترك ذلك.
وحدث برد بن سنان عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله: أن جبريل أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلمه الصلاة، فجاء جبريل حين زالت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى الظهر، ثم جاءه حين صار الظل كأنه مثل شخص الرجل، فتقدم جبريل، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى العصر، ثم جاءه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى المغرب، ثم جاءه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى العشاء، ثم أتاه اليوم الثاني جبريل حين صار الظل كأنه مثل شخص الرجل، فتقدم جبريل، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى الظهر، ثم جاءه حين صار الظل مثل الرجل، فتقدم جبريل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى(5/175)
العصر، ثم جاءه حين وجبت الشمس لوقت واحد، فتقدم جبريل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى المغرب.
قال: ثم قمنا نحو ثلث الليل، فتقدم جبريل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى العشاء الآخرة، ثم جاءه حين أضاء الفجر وأضاء الصبح، فتقدم جبريل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، والناس خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلى الغداة، ثم قال: ما بين صلاتين وقت.
قال: فسأل رجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة؟ فصلى بهم كما صلى به جبريل، ثم قال: " أين السائل عن الصلاة؟ ما بين الصلاتين وقت ".
توفي برد بن سنان سنة خمس وثلاثين ومائة.
ووثقه قوم، وضعفه آخرون قليلون، وكان قدرياً.
بركان بن عبد العزيز بن الحسين
ابن أحمد، أبو الحسن بن أبي محمد الأنماطي، كان مستوراً حافظاً للقرآن، ولم يكن الحديث من شأنه.
حدث عن أبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تجوزا في الصلاة فإن خلفكم الضعيف والكبير وذا الحاجة ".
ولد بركات ليلة نصف شعبان سنة خمس وأربعين وأربع مائة بدمشق.
قال: وكان شيخاً مغفلاً.
حكى أبو الحسين القيسي أنه قال له: إن الناس يقولون: إن صلاتي كافرة، فقال له: إنما يقولون إنها بدعة.
فقال: هو هذا.
وكان يديم الخروج إلى مغارة الدم، ويصلي بمن يكون فيها النوافل جماعةً، ولم يفرق بين بدعة وكافرة، وحكي أنه كان يعمم الصبيان يوم العيد.
توفي يوم السبت ثامن عشر من رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة.(5/176)
بركات بن عبد الواحد بن محمد
ابن عمرو بن حميد بن صدقة بن معترف الهمذاني الدمشقي سكن مصر.
حدث عن عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بسنده عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة ".
بركات بن علي بن الحسين بن مسعود
أبو سعد الأردبيلي.
قدم دمشق مع أخيه أبي عمرو مسعود سنة إحدى وثمانين وأربع مائة.
أنشد أبو سعد بركات لأبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري: " من الكامل "
وإذا سقيت من المحبة جرعةً ... ألقيت من فرط الخمار خماري
كم تبت جهداً ثم لاح عذاره ... فخلعت من ذاك العذار عذاري
بركة الأردني ويقال الأزدي
قال: توضأ مكحول في منزلي، فأتيته بمنديل، فأبى أن يتمندل، وتمسح ببرقة قبائه وقال: إن فضل الوضوء بركة؛ وأنا أحب أن لا تعدو البركة ثوبي.
بركة بضم الباء وتسكين الراء.
بريدة بن الحصيب بن عبد الله
ابن الحارث بن الأعرج بن سعد بن رزاح بن عدي بن سهم بن مازن بن الحارث بن سلامان ابن أسلم بن أفصى، أبو عبد الله، ويقال: أبو سهل، ويقال: أبو ساسان، ويقال: أبو الحصيب الأسلمي، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(5/177)
أسلم حين اجتاز به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مهاجراً إلى المدينة، وشهد غزوة خيبر، وأبلى يومئذ، وشهد فتح مكة، وكان معه أحد لواءي أسلم، واستعمله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات قومه؛ وكان يحمل لواء أسامة لما بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أرض البلقاء يطلب قتلة أبيه بمؤته.
وخرج مع عمر إلى الشام لما رجع من سرغ أميراً على ربع أسلم.
حدث بريدة الأسلمي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملاً سأل عن اسمه؛ فإن أعجبه فرح بذلك ورئي بشر ذلك في وجهه؛ وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه.
روى بريدة أنه دخل على معاوية رجلٌ يتناول علياً ويقع فيه؛ قال فقال: يا معاوية، تأذن لي في الكلام؟ قال فقال: تكلم - وهو يرى أنه سيقول مثل ما قال صاحبه - فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني لأرجو أن أشفع عدد كل شجرةٍ ومدرة ".
أفترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها علي؟ قال فقال: اسكت، فإنك شيخٌ قد ذهب عقلك.
قال أحمد بن سنان: نزل بريدة بن الحصيب الأسلمي على مرو عن أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قال له: " كن في بعث المشرق، ثم في بعث خراسان، ثم اسكن مدينة مرو ".
فقدمها، وأقام بها إلى أن توفي.
وأوصى أن لا يدفن على جادة.
فحفر له على جادة، فسقط، ثم تنحوا به عن الجادة، فدفنوه في زمن معاوية؛ وله عقبٌ من ولده.
ودفن بمرو رجلان من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بريدة والحكم الغفاري.
قال أحمد بن عثمان وهو ابن الطوسي: بريدة اسمه عامر بن حصيب، بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة.
وقيل: إن بريدة مات في زمن يزيد بن معاوية سنة اثنتين أو ثلاثٍ وستين.
حدث بريدة(5/178)
قال: كانت قريش جعلت مائةً من الإبل لمن يأخذ نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيرده عليهم حين توجه إلى المدينة.
فركب بريدة في سبعين راكباً من أهل بيته من بني سهم، فتلقى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أنت؟ " قال: بريدة.
فالتفت إلى أبي بكر فقال: " يا أبا بكر، برد أمرنا وصلح "؛ قال: ثم ممن؟ قال: من أسلم؛ قال لأبي بكر: سلمنا.
قال: ثم ممن؟ قال: من بني سهم.
قال: خرج سهمك.
قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتطير، ولكن يتفاءل.
وفي رواية: قال بريدة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن أنت؟ قال: " أنا محمد بن عبد الله، رسول الله ".
فقال بريدة: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله.
فأسلم بريدة وأسلم الذين معه جميعاً، فلما أن أصبح قال بريدة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تدخل المدينة إلا معك لواء.
قال: فحمل عمامته ثم شدها برمح، ثم مشى بين يديه حتى دخل المدينة؛ فقال بريدة: يا رسول الله تنزل علي؟ قال: " أما إن ناقتي هذه مأمورة ".
قال: فسارت حتى وقفت على باب أبي أيوب فبركت.
قال بريدة: الحمد لله الذي أسلمت بنو سهمٍ طائعين غير مكرهين.
حدث محمد بن عمرو الواقدي عمن ذكره من شيوخه قال: قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، نعم الرجل بريدة لقومه، عظيم البركة عليهم، مررنا به ليلة مررنا ونحن مهاجرون إلى المدينة، فأسلم معه من قومه من أسلم.
فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم الرجل بريدة لقومه وعز قومه، إن خير القوم من كان مدافعاً عن قومه ما لم يأثم، فإن الآثم لا خير فيه ".
وغزا بريدة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست عشرة غزوة.
حدث بريدة قال: شهدت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتح خيبر، فكنت فيمن صعد الثلمة، فقاتلت حتى رأى بلائي ومكاني، وأبليت وعلي ثوب أحمر، وما علمت أني ركبت في الإسلام ذنباً أعظم منه للشهرة.(5/179)
حدث بريدة قال:
لما كان يوم خيبر أخذ اللواء أبا بكر، فرجع ولم يفتح له، فلما كان الغد أخذه عمر، فرجع ولم يفتح له، وقتل محمود بن مسلمة.
فرجع الناس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأدفعن لوائي غداً إلى رجلٍ يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، لن يرجع حتى يفتح له ".
فبتنا طيبةً أنفسنا أن الفتح غداً.
فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الغداة، ثم دعا باللواء، وقام قائماً؛ فما منا من رجلٍ له منزلةٌ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا يرجو أن يكون ذلك الرجل؛ حتى تطاولت أنا لها، فدفعت رأسي لمنزلةٍ كانت لي منه؛ فدعا علي بن أبي طالب وهو يشتكي عينه.
قال: فمسحها ثم دفع إليه اللواء؛ وقال بريدة: إنه كان صاحب مرحب.
وعن بريدة قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللحكم الغفاري: " أنتما عينان لأهل المشرق، وبكما يحشر أهل المشرق ".
فقدما مرو وماتا بها.
وعنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا بريدة إنه لا يكل بصرك، ولا يذهب سمعك، أنت نورٌ لأهل المشرق ".
وعن ابن بريدة قال: كان بريدة ربع الإسلام.
قال أبو عبد الله: وإنما يعني بقوله ربع الإسلام، أن يكون الأول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثاني أبو بكر، والثالث عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، والرابع بريدة.
حدث رجلٌ من بكر بن وائل قال: كنت مع بريدة الأسلمي بسجستان، قال: فجعلت أعرض بعلي وعثمان وطلحة والزبير لأستخرج رأيه؛ قال: فاستقبل القبلة، فرفع يديه فقال: اللهم اغفر لعثمان،(5/180)
واغفر لعلي بن أبي طالب، واغفر لطلحة بن عبيد الله، واغفر للزبير بن العوام.
قال: ثم أقبل علي فقال لي: لا أبا لك، أتراك قاتلي!؟ قال فقلت: والله ما أريد قتلك، ولكن هذا أردت منك.
قال: قومٌ سبقت من الله سوابق، فإن يشأ يغفر لهم بما سبق لهم، وإن يشأ يعذبهم بما أحدثوا فعل.
حسابهم على الله عز وجل.
وكان بريدة يقول: لا عيش إلا طراد الخيل للخيل.
قال عبد الله بن مولة: بينا أنا أسير بالأهواز على دابة لي، فإذا بين يدي رجلٌ على دابة وهو يقول: اللهم ذهب قرني من هذه الأمة، اللهم ألحقني بهم.
فلحقته فقلت له: وأنا معك يرحمك الله.
قال: اللهم وصاحبي هذا إن أراد ذلك؛ قال: يا بن أخي، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " خير أمتي قرن بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ".
قال بعض رواته: ولا أدري ذكر الثالثة أم لا.
ثم يظهر فيهم السمن، ويزهقون الشهادة ولا يسألونها.
قال: فإذا الرجل بريدة.
قال عبد الله بن بريدة: مات والدي بمرو، وقبره بحصين؛ وهو قائد أهل المشرق يوم القيامة ونورهم.
قال لي بريدة: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أيما رجلٍ من أصحابي مات ببلدةٍ فهو قائدهم ونورهم يوم القيامة ".(5/181)
بريد الكلبي ثم العليمي
والد البطريق بن بريد حدث عن أبيه أو عن ابن عمه الوليد - شك - قال: كنت بالمدينة، فأصابتنا عكة أوفى الناس منها على جبل سلع، يلتمسون الروح فجلست إلى شيخ قد جلس الناس إليه، كان رأسه ولحيته ثغامة، فسلمت؛ فقال: ممن؟ فانتسبت له، فقال: ومن أي الأجناد؟ فقلت: من الشام.
فقال: والله يا أخا أهل الشام، ليخرجن إليكم الروم، فليخرجنكم منها كفراً كفراً، وليقفنّ فوارس من الروم على جبلنا هذا؛ فليتشمر أهل المدينة، ثم لينزلن الله نصره.
بسر بن أرطاة
ويقال: ابن أبي أرطاة، عمير بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، أبو عبد الرحمن العامري.
له صحبة؛ ويقال: لا صحبة له.
وسكن دمشق، وشهد صفين مع معاوية، وكان على رجالة أهل دمشق.
وولاه معاوية اليمن، وكانت له بها آثار غير محمودة.
وقيل: إنه خزف قبل موته.
روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثين.
روي عن بسر بن أرطاة: أنه كان يدعو كلما ارتحل: اللهم إنا نستعينك على أمرنا كله، فأحسن عونك، ونسألك خير المحيا وخير الممات.
فقال له عبيدة المليكي: أمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعتها؟ قال(5/182)
بسر: نعم، كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو بها.
وكان بسر كلما ارتحل يقول: إنا مرتحلون وربنا محمود.
قال الحافظ:
هذا إسنادٌ غريب، ومتنٌ غير محفوظ، والمحفوظ عن بسر بن أرطاة، أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو: " اللهم أحسن عاقبتي في الأمور كلها، وأجرني من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ".
وعن جنادة بن أبي أمية: أنه قال على المنبر برودس حين جلد الرجلين اللذين سرقا غنائم الناس فقال: إنه لم يمنعني من قطعهما إلا أن بسر بن أبي أرطاة وجد رجلاً سرق في الغزو يقال له مصدر، فجلده ولم يقطع يده وقال: نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القطع في الغزو.
وحدث بسر أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تقطع الأيدي في الغزو ".
قال الواقدي: ولد بسر قبل وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين، وقبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير.
وأنكر أن يكون روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ روايةً أو سماعاً.
وغيره قال: أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه، وكان يسكن الشام، وبقي إلى خلافة عبد الملك بن مروان.
وأمه بنت الأبرص بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي.
فولد بسر الوليد لأم ولدٍ.
وشهد بسر فتح مصر، واختط بها؛ وله بمصر دار بسر، وحمام بسر.
وكان من شيعة معاوية، وشهد معه صفين.
وكان معاوية وجهه إلى اليمن والحجاز في أول سنة أربعين؛ وأمره أن يتقرى من كان في طاعة علي فيوقع بهم، ففعل بمكة والمدينة واليمن(5/183)
أفعالاً قبيحة.
وقي ولي البحر لمعاوية، وكان وسوس في آخر أيامه، وكان إذا لقي إنساناً قال: أين شيخي؟ أين عثمان؟ ويسل سيفاً؛ فلما رأوا ذلك جعلوا له في جفنه سيفاً من خشب، فكان إذا ضرب به لم يضر.
قال أبو الحسن الدارقطني: بسر بن أرطاة له صحبة ولم يكن له استقامة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال العلاء بن سفيان: غزا بسر بن أرطاة الروم، فجعلت ساقته لا يزال يصاب منها طرف، فجعل يلتمس أن يصيب الذين يلتمسون عورة ساقته فيكمن لهم كمين، فيصاب الكمين، فجعلت بعوثه تلك لا تصيب ولا تظفر؛ فلما رأى ذلك تخلف في مائةٍ من جيشه، ثم جعل يتأخر حتى تخاف وحده، فبينا هو يسير في بعض أودية الروم إذ رفع إلى قرية ذات جوز كثير، وإذا براذين مربطة بالجوز ثلاثين برذوناً، والكنيسة إلى جانبهم، فيها فرسان تلك البراذين الذين كانوا يعقبونه في ساقته؛ فنزل عن فرسه فربطه مع تلك البراذين، ثم مضى حتى أتى الكنيسة فدخلها، ثم أغلق عليه وعليهم بابها، فجعلت الروم تعجب من إغلاقه وهو وحده؛ فما استقلوا إلى رماحهم حتى صرع ثلاثة، وفقده أصحابه، فلاموا أنفسهم وقالوا: إنكم لأهلٌ أن تجعلوا مثلاً للناس؛ إن كبيركم خرج معكم فضيعتموه حتى هلك، ولم يهلك منكم أحد! فبينا هم يسيرون في ذلك الوادي حتى أتوا مرابط تلك البراذين؛ فإذا فرسه مربوطٌ معها، فعرفوه، وسمعوا الجلبة في الكنيسة فأتوها، فإذا بابها مغلق، فبلغوا طائفةً من سقفها، فنزلوا عليهم وهو ممسكٌ طائفةً من أمعائه بيده اليسرى والسيف بيده اليمنى؛ فلما تمكن أصحابه في الكنيسة سقط بسر مغشياً عليه؛ فأقبلوا على من كان بقي فأسروه وقبلوا.
فأقبلت عليهم الأسارى فقالوا: ننشدكم الله، من هذا الذي دخل علينا؟ قالوا: بسر بن أرطاة.
فقالوا: ما ولدت النساء مثله.
فعمدوا إلى معاه فردوه في(5/184)
جوفه، ولم يخرق منه شيء، ثم عصبوه بعمائمهم، وحملوه على شقه الذي ليست به جراح، حتى أتوا به المعسكر فخاطوه، فسلم وعوفي.
قال أيوب بن ميسرة بن حلبس: كان بسر بن أرطاة على شاتيةٍ بأرض الروم، قال: فوافق يوم الضحى؛ فالتمسوا الضحايا فلم يجدوها، فقام في الناس يوم الأضحى فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنا قد التمسنا الضحايا اليوم والتمسوها، فلم نقدر على شيء - قال: وكانت معه نجيبةٌ له يشرب لبنها لقوح - ولم نجد شيئاً نضحي به إلا هذه النجيبة، فأنا مضحٍّ بها عني وعنكم، فإن الإمام أبٌ وولد.
ثم قام فنحرها فقال: اللهم تقبل من بسرٍ ومن بنيه.
ثم قسموا لحمها بين الأجناد، حتى صار لهم منها جزءٌ من الأجزاء مع الناس.
وعن شريح بن عبيد أن بسر بن أرطاة قال: والله ما عزمت على قوم قط عزيمةً إلا استغفرت لهم حينئذٍ ثم قلت: اللهم لا حرج عليهم.
روى الشعبي:
أن معاوية بن أبي سفيان أرسل بسر بن أرطاة القرشي ثم العامري في جيش من الشام، فسار حتى قدم المدينة، وعليها يومئذ أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهرب منه أبو أيوب إلى عليٍّ بالكوفة.
فصعد بسر منبر المدينة، ولم يقاتله بها أحد، فجعل ينادي: يا دينار، يا زريق، يا نجار، شيخٌ سمحٌ عهدته هاهنا بالأمس - يعني عثمان رضي الله عنه - وجعل يقول: يا أهل المدينة، والله لولا ما عهد إلي أمير المؤمنين، ما تركت بها محتلماً إلا قتلته.
وبايع أهل المدينة لمعاوية.
وأرسل إلى بني سلمة فقال: لا والله ما لكم عندي من أمان ولا مبايعة حتى تأتوني بجابر بن عبد الله صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج جابر بن عبد الله حتى دخل على أم سلمة خفياً فقال لها: يا أمه!(5/185)
قد خشيت على ديني، وهذه بيعةٌ ضلالة.
فقالت له: أرى أن تبايع، فقد أمرت ابني عمر بن أبي سلمة أن يبايع، فخرج جابر بن عبد الله فبايع بسر بن أرطاة لمعاوية.
وهدم بسر دوراً كثيرة بالمدينة، ثم خرج حتى أتى مكة، فخافه أبو موسى الأشعري وهو يومئذٍ بمكة، فتنحى عنه، فبلغ ذلك بسراً فقال: ما كنت لأوذي أبا موسى، ما أعرفني بحقه وفضله! ثم مضى إلى اليمن، وعليها يومئذٍ عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب عاملاً لعلي بن أبي طالب، فلما بلغ عبيد الله أن بسراً قد توجه إليه هرب إلى علي، واستخلف عبد الله بن عبد المدان المرادي.
وكانت عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان قد ولدت من عبيد الله غلامين من أحسن صبيان الناس وأوضئه وأنظفه، وهما عبد الرحمن وقثم، فذبحهما ذبحاً.
وكانت أمهما قد هامت بهما وكادت تخالط في عقلها.
وكانت تنشدهما في الموسم في كل عام تقول: " من البسيط "
ها من أحسن بنييّ اللذين هما ... كالدرتين تجلى عنهما الصدف
ها من أحسن بنييّ اللذين هما ... سمعي وقلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحسن بنييّ اللذين هما ... مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
حدثت بسراً وما صدقت ما زعموا ... من قولهم ومن الإفك الذي وصفوا
أنحى على ودجي إبنيّ مرهفةً ... مشحوذةً وكذاك الإثم يقترف
من ذا لوالهةٍ حرى مفجعةٍ ... على صبيين ضلاّ إذ غدا السلف
قال: فلما بلغ علياً رضي الله عنه مسير بسرٍ وما صنع، بعث في عقب بسر بعد منصرفه من الشام جارية بن قدامة السعدي؛ فجعل لا يلقى أحداً خلع علياً إلا قتله وأحرقه بالنار حتى انتهى إلى اليمن؛ فلذلك سمت العرب جارية بن قدامة محرقاً.
قال أبو سعيد بن يونس: ويقال: إن أم عبد الرحمن وقثم ابني عبيد الله بن العباس جويرية بنت قارظ(5/186)
الكنانية. وكان عبيد الله بن العباس قد جعل ابنيه هذين عبد الرحمن وقثم عند رجلٍ من بني كنانة، وكان صغيرين؛ فلما انتهى بسرٌ إلى بني كنانة بعث إليهما ليقتلهما، فلما رأى ذلك الكناني دخل بيته، وأخذ السيف ثم خرج يشتد عليهم بسيفه حاسراً وهو يقول: " من الزجر "
الليث من يمنع حافات الدار ... ولا يزال مصلتاً دون الجار
ألا فتى أروع غير غدار
فقال له بشر: ثكلتك أمك، والله ما أردنا قتلك، فلم عرضت نفسك للقتل؟! فقال: أقتل دون جاري، فعسى عند الله وعند الناس.
فضرب بسيفه حتى قتل.
وقدم بسرٌ الغلامين فذبحهما ذبحاً؛ فخرج نسوةٌ من بني كنانة، فقالت منهن قائلة: يا هذا، هذا الرجال قتلت فعلام تقتل الولدان، والله ما كانوا في جاهليةٍ ولا إسلام، والله إن سلطاناً لا يقوم إلا بقتل الضرع الصغير، والمدره الكبير، وبرفع الرحمة، وعقوق الأرحام، لسلطان سوء.
فقال لها بسر: والله لهممت أن أضع فيكن السيف.
فقالت: تالله إنها لأخت التي صنعت، وما أنا لها منك بآمنة.
ثم قالت للنساء واللائي حولها: ويحكن تفرقن.
فقالت جويرية أم الغلامين: امرأة عبيد الله بن العباس تبكيها وذكر الأبيات بعينها.
قال هشام الكلبي: من قال إن أمهما عائشة بنت عبد الله بن عبد المدان بن الديان فقد أخطأ، لم تلد عائشة الحارثية إلا ابنه العباس وابنته العالية.
قال واهب بن عبد الله المعافري:
قدمت المدينة فأتيت منزل زينب بنت فاطمة بنت عليٍّ لأسلم عليها، فدخلت عليها الدار، فإذا عندها جماعةٌ عظيمة، وإذا هي جالسة مسفرة، وإذا امرأةٌ ليست بالجليلة، ولم تطعن في السن؛ فاحتملتني الحمية والغضب لها فقلت: سبحان الله! قدرك قدرك،(5/187)
وموضعك موضعك وأنت تجلسين للناس كما أرى مسفرة؟! فقالت: إن لي قصة، قال: قلت: وما تلك القصة؟ قالت: لما كان أيام الحرة، وفد أهل الشام المدينة، وفعلوا فيها ما فعلوا، وكان لي يومئذ ابنٌ قد ناهز الاحتلام.
قالت: فلم أشعر به يوماً وأنا جالسةٌ في منزلي إلا وهو يسعى وبسر بن أرطاة يسعى خلفه حتى دخل علي فألقى نفسه علي وهو يبكي، يكاد البكاء أن يفلق كبده، فقال لي بسر: ادفعيه إليّ: فأنا خيرٌ له.
قالت: فقلت له: اذهب مع عمك، قالت: فقال: لا والله لا أذهب معه يا أمة، هو والله قاتلي.
قالت فقلت: أترى عمك يقتلك!؟ لا، اذهب معه.
قالت فقال: لا والله يا أمة لا أذهب معه هو والله قاتلي.
قالت: وهو يبكي يكاد البكاء أن يفلق كبده، قالت: فلم أزل أرفق به وأسكته حتى سكن.
قالت: ثم قال لي بسر: ادفعيه إليّ فأنا خير له؛ قال فقلت: اذهب مع عمك، قالت: فقام فذهب معه، قالت: فلما خرج من باب الدار قال للغلام: امش بين يدي، قالت: وإذا بسرٌ قد اشتمل على السيف فيما بينه وبين ثيابه؛ فلما ظهر إلى السكة، رفع بسرٌ ثيابه وشهر السيف عليه من خلفه ثم علاه به، فلم يزل يضربه حتى برد.
قالت: فجاءتني الصيحة: أدركي ابنك قد قطع.
قالت: فقمت أتعثر في ثيابي، ما معي عقلي.
قالت: فإذا جماعةٌ قد أطافوا به، وإذا هو قتيل قد قطع، قالت: فألقيت نفسي عليه، وأمرت به يحمل.
قالت: فجعلت على نفسي من يومئذ لله أن لا أستتر من أحد، لأن بسراً هو أول من هتك ستري وأخرجني للناس، فالله حسيبه.
بسر بن عبيد الله الحضرمي
روى عن أبي إدريس الخولاني قال: حدثني النواس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من قلبٍ إلا بين أصبعين من أصابع الرحمن جل وعز، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه ".(5/188)
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ".
قال: " والميزان بيد الرحمن عز وجل، يرفع أقواماً، ويضع آخرين إلى يوم القيامة ".
وعن بسر قال: سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: سمعت أبا مرثد الغنوي يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها ".
بشار بن أحمد بن محمد أبو الرجاء
الأصبهاني، الحاج، القصار، الصوفي.
قدم دمشق طالب علم في سنة تسعٍ وسبعين وأربع مائة بعد منصرفه من الحج.
حدث عن أبي عمرو عبد الوهاب بن أبي عبد الله بن منده بسنده، عن ابن عباس قال: بينما رجلٌ واقفٌ مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعرفة؛ فأوقصته راحلته فمات.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغسلوه بماءٍ وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه ولا تخمروه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً ".
وقيل: ملبداً.
بشرى بن عبد الله الروحي الرملي
الخادم مولى المقتدر بالله.
قدم دمشق.
حدث عن علي بن عبد الحميد الغضائري قال: حدثنا أحمد بن علي الخواص، قال: رأيت يحيى بن أكثم القاضي في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني ووبخني؛ فلحقني ما يلحق العبد بين يدي سيده؛ وقال: " يا شيخ السوء، لولا شيبتك(5/189)
لحرقتك بالنار ".
فقلت: ما هكذا حدثنا عنك.
قال: فبم حدثت عني؟ قال: حدثنا عبد الرزاق عن معمر، عن الزهري، عن أنس، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن جبريل، عنك أنك قلت: " ما من عبدٍ يشيب في الإسلام فأعذبه بالنار ".
فقال: " صدق عبد الرزاق، صدق معمر، صدق الزهري، صدق أنس، صدق محمد نبيي، صدق جبريل. انطلقوا به إلى الجنة ".
بشر بن إبراهيم أبو سعيد القرشي
ويقال: أبو عمرو الأنصاري، المفلوج، من أهل دمشق.
سكن البصرة.
روى عن الأوزاعي بسنده عن عائشة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أذنب عبدٌ ذنباً فساءه إلا غفر الله له وإن لم يستغفر منه ".
وروى عن ثور بن يزيد بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رب عابدٍ جاهل، ورب عالمٍ فاجر؛ فاحذروا الجهال من العباد، والفجار من العلماء، فإن أولئك فتنة الفتناء ".
وحدث عن الأوزاعي بسنده عن واثلة بن الأسقع الليثي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أراد الحاجة أوثق في خاتمه خيطاً.
وروى عن ثور بن يزيد بسنده، عن معاذ بن جبلٍ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أزين الحلم لأهله ".
بشر بن بكر أبو عبد الله
من أهل دمشق سكن تنيس حدث عن الأوزاعي بسنده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب، أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب. "(5/190)
توفي بشر في دمياط في ذي القعدة سنة خمسٍ ومائتين، وقيل: سنة مائتين.
بشر بن الحارث بن عبد الرحمن
ابن عطاء بن هلال بن ماهان بن عبد الله، أبو نصر المروزي، الزاهد، المعروف بالحافي، أحد أولياء الله الصالحين، والعباد السائحين.
قدم الشام، واجتاز بجبل لبنان.
قال بشر بن الحارث: سمعت العوفي يذكر عن الزهري، عن أنسٍ قال: اتخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتماً فلبسه ثم ألقاه.
وحدث عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم بسنده، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثٌ لا تفطر الصائم: الحجامة، والاحتلام، والقيء ".
وكان بشرٌ ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد.
وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة، واستقامة المذهب، وعزوف النفس، وإسقاط الفضول.
وسمع جماعة، وكان كثير الحديث إلا أنه لم ينصب نفسه للرواية؛ وكان يكرهها، ودفن كتبه لأجل ذلك؛ وكل ما سمع منه فإنه على طريق المذاكرة.
كان أبو نصر بشر بن الحارث ابن أخت علي بن خشرم كبير الشأن؛ وكان سبب توبته أنه أصاب في الطريق كاغذةً مكتوباً عليها اسم الله وطئتها الأقدام، فأخذها واشترى بدرهم كان معه غالية، فطيب بها الكاغذة وجعلها في شق حائط، فرأى فيما يرى النائم كأن قائلاً قال له، يا بشر طيبت اسمي لأطيبن اسمك في الدنيا والآخرة.
قال أيوب العطار: كنت خارجاً من باب حرب فلقيني بشر بن الحارث وقال: يا أيوب انظر إلى جميل ما ينشر وقبيح ما يستر، كنت اليوم خارجاً من باب حرب فلقيني رجلان، فقال أحدهما لصاحبه: هذا بشر الذي يصلي كل ليلة ألف ركعة، ويواصل في كل ثلاثة أيام(5/191)
والله يا أيوب ما صليت ألف ركعة مكاناً واحداً، ولا واصلت ثلاثاً قط، إلا أني أحدثك عن بدء أمري.
قلت: نعم، فقال: دعاني رجل من أهل الربض؛ فبينما أنا أمضي إليه رأيت قرطاساً على وجه الأرض، فيه اسم الله تعالى؛ فأخذته ونزلت إلى النهر، فغسلته وكنت لا أملك من الدنيا إلا درهماً فيه خمسة دوانيق، فاشتريت بأربعة دوانيق مسكاً وبدانقٍ ماء ورد؛ وجعلت أتتبع اسم الله تعالى فأطيبه.
ثم رجعت إلى منزلي فنمت؛ فأتاني آتٍ في منامي فقال لي: يا بشر، كما طيبت اسمي لأطيبن ذكرك، وكما طهرته لأطهرن قلبك.
قال بشر بن الحارث: أتيت باب المعافى بن عمران، فدققت الباب، فقيل لي: من؟ فقلت بشر الحافي.
فقالت لي بنيةٌ من داخل الدار: لو اشتريت نعلاً بدانقين لذهب عنك اسم الحافي.
قال أبو الحسن للحسن بن عمرو: سمعت بشراً وجاء إليه أصحاب الحديث يوماً وأنا حاضر، فقال لهم بشر: ما هذا الذي أرى معكم قد أظهرتموه؟ قالوا: يا أبا نصر، نطلب هذه العلوم، لعل الله ينفع بها يوماً.
قال: علمتم أنه يجب عليكم فيها زكاة كما يجب على أحدكم إذا ملك مائتي درهم: خمسة دراهم؛ فكذلك يجب على أحدكم إذا سمع مائتي حديث أن يعمل منها بخمسة أحاديث؛ وإلا فانظروا أيش يكون عليكم هذا غداً.
قال البيهقي: لعله أراد من الأحاديث التي وردت في الترغيب في النوافل؛ وأما في الواجبات فيجب العمل بجميعها.
حدث قاسم بن إسماعيل بن علي قال: كنا بباب بشر بن الحارث، فخرج إلينا فقلنا: يا أبا نصر، تحدثنا؟ فقال: أتؤدون زكاة الحديث؟ قال: قلنا: يا أبا نصر وللحديث زكاة؟ قال: نعم، إذا سمعتم عملاً أو صلاة أو تسبيحاً استعملوه.(5/192)
قال محمد بن المثنى البزاز: قلت لبشر بن الحارث: تذكر بكورنا إلى فلان وفلان المحدث؟ شكره الله لك؛ قال: لا بل غفره الله لي.
قال بشر:
لو أن رجلاً كان عندي في مثال سفيان ومعافى، ثم جلس اليوم يحدث، ونصب نفسه لانتقص عندي نقصاناً شديداً.
قال بشر: إني وإن أدنيت الرجل وهو يحدث، فإنه عندي قبل أن يحدث أفضل كثيراً من كان من الناس؛ وإنما الحديث اليوم طرف من طلب الدنيا وكده؛ وما أدري كيف يسلم صاحبه، وكيف يسلم من يحفظه، لأي شيء يحفظه! قال بشر: وإني لأدعو الله أن يذهب به من قلبي، ويذهب بحفظه من قلبي، وإن لي كتباً كثيرة قد ذهبت وأراها تطوى فيرمى بها فما آخذها، وإني لأهم بدفنها كلها، وأنا حيٌ صحيح، وما أكره ترك ذلك من خيرٍ عندي، وما هو من سلاح الآخرة ولا من عدد الموت.
قيل لبشر بن الحارث: يقولون إنك لا تحفظ الحديث! فقال: أنا أحفظ حديثاً واحداً إذا عملت به فقد حفظت الحديث؛ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ".
حتى أفعل هذا وأحفظ الحديث.
قال أيوب العطار: سمعت بشر بن الحارث يقول: حدثنا حماد بن زيد، ثم قال: أستغفر الله أن أذكر الإسناد، في القلب خيلاء.
قال محمد بن المثنى السمسار: كنا عند بشر بن الحارث وعنده العباس بن عبد العظيم العنبري - وكان من سادات المسلمين - فقال له: يا أبا نصر، أنت رجل قد قرأت القرآن، وكتبت الحديث، فلم لا تتعلم من العربية ما تعرف به اللحن حتى لا تلحن؟ قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل؟ قال: أنا يا أبا نصر، قال: فافعل، قال: قل ضرب زيدٌ عمراً، قال فقال له بشر: يا أخي ولم ضربه؟ قال: يا أبا نصر ما ضربه وإنما هذا أصل وضع، فقال بشر: هذا أوله كذب، لا حاجة لي فيه.(5/193)
قال عمار: رأيت الخضر عليه السلام فسألته عن بشر بن الحارث؟ فقال: مات يوم مات، وليس على ظهر الأرض أتقى لله منه.
قال بلال الخواص: كنت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجلٌ يماشيني، فتعجبت! ثم ألهمت أنه الخضر، فقلت له: بحق الحق من أنت؟ فقال: أخوك الخضر، فقلت له: أريد أن أسألك، فقال: سل، فقلت: ما تقول في الشافعي رحمه الله؟ قال: هو من الأوتاد.
فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل؟ قال: رجل صديق قلت: فما تقول في بشر بن الحارث؟ فقال: لم يخلف بعده مثله.
فقلت: بأي وسيلة رأيتك؟ فقال: ببرك بأمك.
سأل إنسانٌ أبا خيثمة عن الرجل إذا دخل المسجد الجامع يوم الجمعة، كم يصلي؟ قال: هذا بشر بن الحارث، بلغني أنه إذا دخل المسجد الجامع صلى ركعتين ثم لم يزد عليهما حتى يصلي الجمعة وينصرف.
قال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً ولا أحفظ للسانٍ من بشر بن الحارث، كان في كل شعرة عقل، ووطئ الناس عقبه خمسين سنةً ما عرف له عيبةٌ لمسلم؛ لو قسم عقله على أهل بغداد صاروا عقلاء، وما نقص من عقله شيء.
قال بشر الحافي: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقال لي: " يا بشر، تدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ " قلت: لا يا رسول الله قال: " باتباعك لسنتي وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لإخوانك، ومحبتك لأصحابي وأهل بيتي، هو الذي بلغك منازل الأبرار ".
قال بشر بن الحارث: ما أنا بشيءٍ من عملي أوثق مني بحب أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان يقول: لو أن الروم سبت من المسلمين كذا وكذا ألفاً، ثم فداهم رجلٌ كان في قلبه سوءٌ لأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لم ينفعه ذلك.(5/194)
سئل أحمد بن حنبل عن مسألة في الورع؟ فقال: أنا، أستغفر الله، لا يحل لي أن أتكلم في الورع، أنا آكل من غلة بغداد، لو كان بشر بن الحارث، صلح أن يجيبك عنه، فإنه كان لا يأكل من غلة بغداد، ولا من طعام السواد، يصلح أن يتكلم في الورع.
كان بشر يقول: إن الجوع يصفي الفؤاد، ويميت الهوى، ويورث العلم الدقيق.
وكان يقول: طوبى لمن ترك شهوةً حاضرةً لموعد غائب لم يره.
قال بشر بن الحارث: ما تركت الشهوات منذ أربعين سنة إلا أنه لا يصفو لي درهمٌ حلال.
قال أبو حفص ابن أخت بشر بن الحارث: اشتهى بشر سفرجلة في علته، فقالت لي أمي: يا بني اطلب لي سفرجلة.
قال: فجئت بها، فأخذها، فجعل يشمها، قال: ثم وضعها بين يديه.
فقالت أمي: يا أبا نصر كلها، قال: ما أطيب ريحها! قال: فما زال يشمها حتى مات، وما ذاقها.
قال عبد الوهاب: ما رأيت أحداً أقدر على ترك شهوةٍ من بشر الحافي.
وقال عبد الله الرضواني: ما رأيت أحداً من الزهاد إلا وهو يذم الدنيا ويأخذ منها، غير بشر بن الحارث، فإنه كان يذمها ويفر منها.
قال أحمد بن المغلس: سمعت أبا نصر بشراً وقد قال له رجل: يا أبا نصر ما أشد حب الناس لك! فغلظ ذلك عليه، ثم قال: ولك عافاك الله، قال: وكيف؟ قال: دع لهم ما في أيديهم.
فذكرت لأبي نصر فقلت: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس، حدثنا مالك عن(5/195)
نافع، عن ابن عمر قال: أتى رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، دلني على عملٍ إذا أنا عملته أحبني الله من السماء، وأحبني الناس من الأرض؟ قال: فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس ".
فرأيت أبا نصرٍ قد فرح به، إذ وافق قوله سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان بشر بن الحارث يقول: ينبغي لنا أن لا نحب هذه الدار، لأنها دارٌ يعصى الله فيها، ووالله لو لم يكن منا إلا أنا أحببنا شيئاً أبغضه الله عز وجل لكفانا.
وكان يقول: ما عرف الخلق أفضل من شيئين: الله والدنيا؛ فإنهم إذا عرفوا الله اجتهدوا في طاعته، وإذا عرفوا الدنيا اجتهدوا في تركها.
قال علي بن عثام: أقام بشر بن الحارث بعبادان عشر سنين يشرب من البحر، ولا يشرب من حياض السلاطين حتى أضر بجوفه؛ فرجع إلى أخته، وأخذه وجعٌ لا يقوم به إلا أخته.
وهو يتخذ المغازل فيبيعه، وذلك كسبه.
قال محمد بن يوسف الجوهري: كنت أمشي مع بشر بن الحارث في يومٍ صائف، منصرفاً من الجمعة، فاجتزنا بسور دار إسحاق بن إبراهيم، وله فيءٌ، فجعلت أزحم بشراً إلى الفيء وهو يمشي في الشمس، فقلت: لأسألنه، أيش الورع أن يمشي إنسانٌ في الشمس فيضر بنفسه، فقلت: يا أبا نصر أنا أضطرك إلى الفيء وأنت تمشي في الشمس!؟ فقال مجيباً لي: هذا فيء سوء.
كان بشر لا ينام الليل، تراه بالنهار كأنه مهوس.
فقيل له في ذلك، فقال: أكره أن يأتيني أمر الله وأنا نائم.(5/196)
قال أبو علي الدقاق: مر بشرٌ ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كله، ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيامٍ مرة.
فبكى بشر، فقيل له في ذلك فقال: لا أذكر أني سهرت ليلةً كاملة، ولا أني صمت يوماً ثم لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه يلقي في القلوب أكثر مما يفعله العبد، لطفاً منه سبحانه وكرماً.
ثم ذكر ابتداء أمره كيف كان، كما ذكرناه.
قالت زبدة أخت بشر: دخل علي بشرٌ ليلةً من الليالي، فوضع إحدى رجليه داخل الدار، والأخرى خارجها وبقي كذلك يتفكر حتى أصبح، فلما أصبح وتهيأ للطهارة سألته وقلت: أقسمت عليك فبماذا تفكرت طول ليلتك؟ قال: تفكرت في بشر النصراني، وبشر اليهودي، وبشر المجوسي، ونفسي واسمي بشر؛ فقلت: ما الذي سبق منك إليه حتى خصك؟ فتفكرت في تفضله علي، ومنته علي في أن جعلني من خاصته، وألبسني لباس أحبائه.
وقيل لبشر: لما لا تصلي في الصف الأول؟ فقال: أنا أعلم أيش يريد، يريد قرب القلوب لا قرب الأجسام.
قال بشر بن الحارث: أشتهي منذ أربعين، أن أضع يداً على يد في الصلاة ما يمنعني من ذلك إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله.
قال أيوب العطار: انصرفت مع بشر بن الحارث يوم الجمعة من مسجد الجامع، فمررنا في درب أبي الليث، وإذا صبيانٌ يلعبون بالجوز، فلما رأوا بشر بن الحارث قالوا: بشر بشر، واستلبوا الجوز ومروا يحضرون، فوقف بشرٌ ثم قال لي: أي قلبٍ يقوى على هذا!؟ إن هذا لدربٌ لا مررت فيه حتى ألقى الله عز وجل.(5/197)
قال محمد بن قدامة: لقي بشراً الحافي رجلٌ سكران، فجعل يقبله ويقول: يا سيدي يا أبا نصر، ولا يدفعه بشرٌ عن نفسه، فلما ولى تغرغرت عينا بشرٍ وقال: رجلٌ أحب رجلاً على خيرٍ توهمه، لعل المحب قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله.
وكان بشر يقول: إذا أحب الله عز وجل أن يتحف العبد، سلط عليه من يؤذيه.
وكان يقول: لا خير فيمن لا يؤذى.
وكان يقول: الصبر الجميل الذي لا يشكو فيه إلى الناس.
وكان يقول: من لم يحتمل الغم والأذى لم يدخل فيما يحب.
قال عبيد الله الوراق:
خرجت يوم جمعةٍ مع بشر بن الحارث إذ دخل المسجد وعليه فروٌ مقطع فرده العون، فذهبت لأكلمه، فمنعني، فجاء فجلس عند قبة الشعراء فقلت له: يا أبا نصر لمَ لم تدعني أكلمه؟ قال: اسكت، سمعت المعافى بن عمران يقول: سمعت سفيان الثوري يقول: لا يذوق العبد حلاوة الإيمان، حتى يأتيه البلاء من كل مكان.
قال محمد بن المثنى: انصرفت مع بشر بن الحارث في يوم أضحى من المصلى، فلقي خالد بن خداش المحدث، فسلم عليه، فقصر بشرٌ في السلام، فقال خالد: بيني وبينك مودة من أكثر من ستين سنة، ما تغيرت عليك، فما هذا التغير؟ فقال بشر: ما هاهنا تغيرٌ ولا تقصير، ولكن هذا يومٌ يستحب فيه الهدايا، وما عندي من عرض الدنيا شيءٌ أهدي لك، وقد روي في الحديث: أن المسلمين إذا التقيا كان أكثرهما ثواباً أبشهما بصاحبه.
فتركتك لتكون أفضل ثواباً.
كان ببغداد رجلٌ من التجار، وكان كثيراً ما يقع في الصوفية، قال: فرئي(5/198)
بعد ذلك وقد صحبهم وأنفق عليهم جميع ما ملك.
فقيل له: أليس كنت تبغضهم؟! فقال: ليس الأمر على ما توهمت، وإني صليت الجمعة يوماً وخرجت، فرأيت بشر بن الحارث خرج من المسجد مسرعاً، فقلت في نفسي: انظر إلى هذا الرجل الموصوف بالزهد، ليس يستقر في المسجد! قال: فتركت حاجتي فقلت: أنظر إلى أين يذهب؟ قال: فتبعته، فرأيته تقدم إلى الخباز واشترى بدرهمٍ خبز الماء.
قال: فقلت: انظر إلى الرجل يشتهي خبز الماء! ثم تقدم إلى الشواء فأعطاه درهماً وأخذ الشواء. قال: فزادني عليه غيظاً! ثم تقدم إلى الحلاوي فاشترى فالوذجاً بدرهم.
فقلت في نفسي: والله لأنغصن عليه حين يجلس ويأكل؛ ثم خرج إلى الصحراء، وأنا أقول: يريد الخضرة والماء.
قال: فما زال يمشي إلى العصر وأنا خلفه، قالب: فدخل قرية، وفي القرية مسجد، وفيه رجلٌ مريض، قال: فجلس عند رأسه، وجعل يلقمه، قال: فقمت لأنظر إلى القرية، فبقيت ساعةً ثم رجعت فقلت للعليل: أين بشر؟ قال: ذهب إلى بغداد، قال: فقلت: وكم بيني وبين بغداد؟ فقال: أربعون فرسخاً، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيش عملت بنفسي! وليس معي ما أكتري ولا أقدر على المشي، قال: اجلس حتى يرجع، قال: فجلست إلى الجمعة القابلة؛ قال: فجاء بشر في ذلك الوقت ومعه شيءٌ يأكل المريض، فلما فرغ قال له: يا أبا نصر هذا رجلٌ صحبك من بغداد وبقي عندي منذ الجمعة، فرده إلى موضعه.
قال: فنظر إلى كالمغضب وقال: لم صحبتني؟ قال: فقلت: أخطأت.
قال: قم فامش.
قال: فمشيت إلى قرب المغرب.
قال: فلما قربنا قال لي: أين محلتك من بغداد؟ قلت: في موضع كذا، قال: اذهب ولا تعد.
قال: فتبت إلى الله وصحبتهم وأنا على ذلك.
وكان بشر يقول: من أحب العز في الدنيا والشرف في الآخرة، فليكن فيه ثلاث خصال: لا يسأل أحداً شيئاً، ولا يذكر أحداً بسوء، ولا يجيب أحداً إلى طعامه.
وكان بشرٌ يقول: لو لم يكن في القنوع إلا التمتع بالعز كفى صاحبه.(5/199)
قال رجلٌ لبشر بن الحارث: يا أبا نصر، لا أدري بأي شيء آكل خبزي؟ قال: إذا أردت أن تأكل خبزك فاذكر العافية فاجعلها أدمك.
قال بشر: كلما اشتهى رجلٌ لقاء رجل ذهب إليه.
هذه فتنة، ولذةٌ يتلذذون بلقاء بعضهم بعضاً.
ينبغي للإنسان أن يقبل على نفسه وعلى القرآن.
وقال بشر: إذا عرفت في موضعٍ فاهرب منه، وإذا رأيت الرجل إذا اجتمعوا إليه في موضعٍ لزمه، واشتهى ذلك فهو يحب الشهرة.
قال محمد بن نعيم بن الهيصم: دخلت على بشر في علته فقلت: عظني، فقال: إن في هذه الدار نملةً تجمع الحب في الصيف لتأكله في الشتاء؛ فلما كان يومٌ أخذت حبةً في فمها، فجاء عصفورٌ فأخذها والحبة؛ فلا ما جمعت أكلت، ولا ما أملت نالت.
قلت له: زدني، قال: ما تقول في من القبر مسكنه، والصراط جوازه، والقيامة موقفه، والله مسائله، فلا يعلم إلى جنةٍ يصير فيهنى، أو إلى نارٍ فيعزى، فوا طول حزناه! وواعظم مصيبتاه! زاد البكاء فلا عزاء، واشتد الخوف فلا أمن.
قال: وقال لي بشرٌ مراراً كثيرة: انظر خبزك من أين هو؟ وانظر إلى مسكنك الذي تتقلب فيه كيف هو؟ وأقل من معرفة الناس، ولا تحب أن تحمد، ولا تحب الثناء.
كان بشر يقول: لا تكاد تضع يدك إلا على مراءٍ؛ إما مراءٍ بدين، وإما مراءٍ بدنيا، وهما جميعاً شر شيء، فانظر أشد الناس توقياً، وأعفهم وأطيبهم مكسباً فجالسه، ولا تجالس من لا يعينك على آخرتك.
وقف بشر على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر إليها، فقيل له: يا أبا نصر لعلك تشتهي من هذا شيئاً؟ قال: لا ولكن نظرت في هذا إذا كان يطعم هذا من يعصيه، فكيف من يطيعه!.(5/200)
قال بشر الحافي لرجل: احذر أن تمر في حاجتك، فيأخذك وأنت لا تدري.
كان بشر الحافي يقول: أما تستحي أن تطلب الدنيا ممن يطلب الدنيا، اطلبها ممن بيديه الدنيا.
قال الحسن الحناط: كنت عند بشر الحافي، فجاءه نفر فسلموا عليه فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن من الشام جئنا نسلم عليك ونريد الحج، فقال: شكر الله لكم.
فقالوا: تخرج معنا؟ فقال: بثلاث شرائط: لا نحمل معنا شيئاً؛ ولا نسأل أحداً شيئاً؛ وإن أعطانا أحدٌ لا نقبل.
قالوا: أما أن لا نحمل فنعم؛ وأما أن لا نسأل فنعم؛ وأما أن لا نقبل إن أعطينا؛ فهذا لا نستطيع.
فقال: خرجتم متوكلين على زاد الحجيج! ثم قال: يا حسن! الفقراء ثلاثة: فقيرٌ لا يسأل، وإن أعطي لا يأخذ، فذلك من جملة الروحانيين.
وفقيرٌ لا يسأل، وإن أعطي قبل، فذلك ممن يوضع له موائد في حظائر القدس.
وفقير يسأل، وإن أعطي قبل قدر الكفاية، فكفارته صدقه.
وكان بشر يقول: الحلال لا يحتمل السرف.
وكان يقول: الأخذ من الناس مذلة.
وكان يقول: ليس هذا زمان اتخاذ الإخوان، إنما هو زمان خمول، ولزوم البيوت.
وكان يقول: لا يجد من يحب الدنيا حلاوة العبادة.
وكان يقول: يأتي على الناس زمانٌ لا تقر فيه عين حكيم.
ويأتي على الناس زمانٌ تكون الدولة فيه للحمقى على الأكياس.
وقيل لبشر: بالله يا أبا نصر، أيهما أحلى الدنانير أو الدراهم؟ قال: الطاعة والله أحلى منهما جميعاً.
قال يحيى بن المختار: سمعت بشراً يقول: ما ظنكم بقومٍ وقفوا بين يدي الله عز وجل مقدار خمسين ألف عام لم يأكلوا ولم(5/201)
يشربوا حتى قحلت أجوافهم من الجوع وانقطعت أكبادهم من العطش، واندقت أعناقهم من التطاول، ورجوا الفرج، أمر بهم إلى النار!.
وقال بشر: سكون النفس إلى قبول المدح أشد عليها من المعاصي.
وكان بشر يقول: العداوة في القرابة، والحسد في الجيران، والمنفعة في الإخوان.
وقيل لبشر: العبادة لا تصلح إلا بالصيام، فقال: قد يصوم البر والفاجر، فإن كنت صائماً فاجتنب كثرة الكلام والغيبة، وأطب مطعمك لعله أن يسلم لك صومك، وإلا فاستخر الله وكل.
نظر بشر الحافي إلى حدثٍ جميل فقال: إن الذي قدر على زينتك، قادر على صرف القلوب عنك.
قال أحمد بن الفتح: قال لي بشر: يا أحمد، إن قوماً غرهم ستر الله عز وجل، وفتنهم حسن ثناء الناس عليهم، فلا يغلبنّ جهل غيرك بك على علمك بنفسك أعاذنا الله عز وجل وإياك من الاغترار بالستر، والاتكال على حسن الذكر.
كان بشر يقول: النظر إلى الأحمق سخنة عين، والنظر إلى البخيل يقسي القلب.
وكان يقول: صاحب زيغ سخي أخف على قلبي من عابدٍ بخيل.
وكان يقول: بقاء البخلاء كربٌ على قلوب المؤمنين.
وكان يقول: البخيل لا غيبة له، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنك(5/202)
لبخيل ".
ومدحت امرأةٌ عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: صوامةٌ قوامة إلا أن فيها بخلاً.
قال: " فما خيرها إذاً ".
قال بشر: أي ليس فيها خير.
قال العباس بن يوسف: أنشدني بشر بن الحارث: " من السريع "
برمت بالناس وأخلاقهم ... فصرت أستأنس بالوحده
هذا لعمري فعل أهل التقى ... وفعل من يطلب ما عنده
قد عرف الله فذاك الذي ... آنسه الله به وحده
وكان بشرٌ يقول: حسبك أن أقواماً موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن أقواماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم.
وكان يقول: ليس شيءٌ من أعمال البر أحب إلي من السخاء، ولا أبغض إلي من الضيق وسوء الخلق.
وأنشد بشر: " من السريع "
أقسم بالله لرضخ النوى ... وشرب ماء القلب المالحه
أعز للإنسان من فقره ... ومن سؤال الأوجه الكالحه
فاستشعر اليأس تكن ذا غنى ... وترجعن بالصفقة الرابحه
فاليأس عزٌ والتقى سؤددٌ ... وشهوة النفس لها فاضحه
من كانت الدنيا به برةً ... فإنها يوماً له ذابحه
وأنشد بشر في القناعة: " من الوافر "
أفادتني القناعة أي عزٍ ... ولا عزاً أعز من القناعه(5/203)
فخذ منها لنف مالٍ ... وصير بعدها التقوى بضاعه
تحز حالين: تغنى عن بخيلٍ ... وتسعد في الجنان بصبر ساعه
قال أبو عاصم المتطبب: سمعت بشر بن الحارث يتمثل بهذين البيتين - وهما لمحمود الوراق - فعجبنا منه كيف بلغه هذان البيتان: " من مجزوء الرمل "
مكرم الدنيا مهانٌ ... مستذلٌ في القيامه
والذي هانت عليه ... فله ثم كرامه
قال أبو عبد الرحمن الزاهد رفيق بشر بن الحارث: رأى صاحبٌ لنا رب العزة في النوم قبل موت بشرٍ بقليل فقال: " قل لبشر بن الحارث: لو سجدت لي على الجمر ما كنت تكافئني بما نوهت اسمك في الناس ".
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: مات بشر سنة سبع وعشرين ومائتين قبل المعتصم بستة أيام، وقد بلغ من السن خمساً وسبعين سنة، وحشر الناس بجنازته، ورئي أبو نصر التمار، وعلي بن المديني في جنازته، وهما يصيحان: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.
وذلك أن بشراً خرجت جنازته بعد صلاة الصبح، وكان نهاراً صيفاً، والنهار فيه طول، ولم يستقر في القبر إلى العتمة.
وقال أبو حفص ابن أخت بشر: كنت أسمع الجن تنوح على خالي في البيت الذي كان فيه غير مرة، سمعت الجن تنوح عليه.
وقال خشنام ابن أخت بشر: رأيت خالي بشراً في النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، وجعل يذكر ما فعل الله من الكرامة.
فقلت له: قال لك شيئاً؟ فقال: نعم فقلت له:(5/204)
ما قال لك؟ قال: قال لي: " يا بشر ما استحييت مني، تخاف ذلك الخوف على نفسٍ هي لي!.
قال الحسين بن إسماعيل المحاملي رأيت القاساني في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ فأوحى إلي أنه نجا بعد مدة.
قلت: فما تقول في أحمد بن حنبل؟ قال: غفر الله له.
قلت: فبشر الحافي؟ قال ذاك تحيه الكرامة من الله في كل يوم مرتين.
قال عاصم: رأيت في المنام كأني قد دخلت درب هشام، فلقيني بشر بن الحارث، فقلت: من أين يا أبا نصر؟ قال: من عليين، قلت: ما فعل أحمد بن حنبل؟ قال: تركت الساعة أحمد بن حنبل وعبد الوهاب الوراق بين يدي الله عز وجل، يأكلان ويشربان ويتنعمان.
قلت: فأنت؟ قال: علم الله عز وجل قلت رغبتي في الطعام، فأباحني النظر إليه.
قال أحمد بن الفتح: رأيت أبا نصر بشر بن الحارث في منامي وهو قاعدٌ في بستان، وبين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت له: يا أبا نصر ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباحني الجنة بأسرها وقال لي: " كل من جميع ثمارها واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها كما كنت تحرم نفسك الشهوات في دار الدنيا ".
فقلت له: زادك يا أبا نصر، فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائمٌ على باب الجنة، يشفع لأهل السنة ممن يقول القرآن كلام الله غير مخلوق، فقلت: ما فعل معروف الكرخي؟ فحرك رأسه ثم قال لي: هيهات هيهات، حالت بيننا وبينه الحجب، إن معروفاً لم يعبد الله شوقاً إلى جنته، ولا خوفاً من ناره، وإنما عبده شوقاً إليه، فرفعه الله إلى الرقيع الأعلى، ورفع الحجب بينه وبينه ذلك الترياق المقدسي المجرب.
فمن كانت له إلى الله حاجة، فليأت وليدع، فإنه يستجاب له إن شاء الله.(5/205)
قال الحسين بن مروان: رأيت بشراً في النوم فقلت: يا أبا نصر، ما فعل الله بك؟ فقال: غفر الله لي، وغفر لمن تبع جنازتي، قال: فقلت: ففيم العمل؟ فأخرج كسرةً ثم قال: انظر في هذه الكسرة.
وقال القاسم بن منبه: رأيت بشراً في النوم فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وقال لي: " يا بشر قد غفرت لك ولكل من تبع جنازتك "، فقلت: يا رب ولكل من أحبني؟ فقال: " ولكل من أحبك إلى يوم القيامة ".
قال إسحاق بن محمد: لما مات بشر بن الحارث رآه بعض العلماء واقفاً بين يدي الله عز وجل، فق الله: " يا بشر قد غفرت لك ولجميع من حضر جنازتك، ولسبعين ألفاً ممن سمعوا بموتك ".
قال أبو العباس القرشي:
أتيت أبا نصر التمار بعد موت بشر بن الحارث بأيامٍ نعزيه، فقال لنا أبو نصر: رأيته البارحة في النوم في أحسن هيئة، فقلت له: ما صنع بك ربك؟ قال: قد استحييت من ربي من كثرة ما أعطاني من الخير، وكان فيما أعطاني أن غفر لمن تبع جنازتي.
قال أحمد بن الدورقي: مات جارٌ لي، فرأيته في الليل وعليه حلتان قد كسي، فقلت: أيش قصتك ما هذا؟ قال: دفن في مقبرتنا بشر بن الحارث، فكسي أهل المقبرة حلتين حلتين.
قال مؤذن بشر بن الحارث: رأيت بشراً في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قلت: ما فعل بأحمد بن حنبل؟ فقال: غفر له، فقلت: ما فعل بأبي نصر التمار؟ قال: هيهات، ذلك في عليين، فقلت: فبماذا نال ما لم تنالاه؟ فقال: بفقرة وصبره على بنياته.
قال محمد بن خزيمة: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً، فبت في ليلتي، رأيته في المنام وهو(5/206)
يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله، أي مشيةٍ هذه؟ فقال: مشية الخدام في دار السلام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وتوجني، وألبسني نعلين من ذهب، فقال: " يا أحمد، هذا بقولك: إن القرآن كلامي "، ثم قال لي: " يا أحمد، ادعني بتلك الدعوات التي بلغتك عن الثوري، كنت تدعو بها في دار الدنيا "، فقلت: يا رب كل شيء، فقيل: هيه، فقلت: بقدرتك على كل شيء، فقال لي: " صدقت "، فقلت: لا تسألني عن شيء، واغفر لي كل شيء قال: " قد فعلت ".
ثم قال: " يا أحمد هذه الجنة قم فادخل إليها ".
فدخلت فإذا بسفيان الثوري وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة ويقول: " الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فنعم أجر العاملين " فقلت له: ما فعل عبد الوهاب الوراق؟ قال: تركته في بحرٍ من نور، في زلالٍ من نور يزار به إلى الملك الغفور، قال: قلت له: فما فعل بشر؟ - يعني ابن الحارث - فقال لي: بخٍ بخٍ! ومن مثل بشر! تركته بين يدي الجليل وبين يديه مائدة من الطعام، والجليل مقبلٌ عليه وهو يقول: " كل يا من لم تأكل، واشرب يا من لم تشرب، وانعم يا من لم تتنعم في دار الدنيا ".
قال: فأصبحت، فتصدقت بعشرة آلاف درهم.
بشر بن أبي حفص
ويقال: ابن أبي جعفر الكندي الدمشقي.
حدث عن مكحول أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لبلال: " ألا لا تغادر صيام الاثنين، فإني ولدت يوم الاثنين، وأوحي إلي يوم الاثنين، وهاجرت يوم الاثنين، وأموت يوم الاثنين ".(5/207)
بشر بن حميد بن أبي مريم
المزني المدني قال بشر بن حميد: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول بخلافته بخناصرة: سمعت بالمدينة والناس يومئذٍ كثير، من مشيخة المهاجرين والأنصار أن حوائط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني السبعة التي وقف - من أموال مخيريق، وقال: إن أصبت فأموالي لمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضعها حيث أراه الله.
وقتل يوم أحد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مخيريق خير يهود ".
ثم دعا لنا عمر بتمرٍ منها، فأتي بتمرٍ في طبق فقال: كتب إلي أبو بكر بن حزم يخبرني أن هذا التمر من العذق الذي كان على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل منها.
قال: قلت: يا أمير المؤمنين فاقسمه بيننا، قال: فقسمه فأصاب كل رجلٍ منا تسع تمرات.
قال عمر بن عبد العزيز: قد دخلتها إذ كنت والياً بالمدينة، وأكلت من هذه النخلة ولم أر مثلها من التمر أطيب ولا أعذب.
بشر بن حيان الخشني البلاطي
قال بشر: أقبل واثلة بن الأسقع يسير حتى وقف علينا ونحن نبني مسجدنا - يعني مسجد بيت البلاط - فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من بنى لله مسجداً بنى الله له في الجنة أفضل منه ".(5/208)
بشر بن عبد الله بن يسار
السلمي الحمصي حدث بشر عن عبادة بن نسي بسنده عن عبادة بن الصامت قال:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشغل، فإذا قدم الرجل مهاجراً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعه إلى رجلٍ منا يعلمه القرآن، فدفع إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً كان معي في البيت أعشيه عشاء أهل البيت، وكنت أقرئه القرآن؛ فانصرف إلى أهله، فرأى أن عليه حقاً، فأهدى إلي قوساً لم أر أجود منها عوداً، ولا أحسن منها عطفاً، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: ما ترى يا رسول الله؟ فقال: " جمرةٌ بين كتفيك تعلقتها "، أو قال: " تقلدتها ".
حدث بشر بن عبد الله عن مكحول قال: قام فينا عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " مهلّ أهل المدينة من ذا الحليفة، ومهل أهل المغرب من الجحفة، ومهل أهل نجدٍ من قرن ".
قال عبد الله: وقال الناس: مهل أهل اليمن من يلملم، ولم أسمعه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بشر بن عبيد الله بن صالح
أبو عبد الله القرشي الزمعي الدمشقي.
حدث عن داود بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال حين يصبح: اللهم إنا أصبحنا نشهدك ونشهد ملائكتك، وحملة عرشك، أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ورسولك، غفر الله له ما أصاب في يومه ذاك من ذنب؛ وإن هو قالها حين يمسي غفر الله له ما أصاب في ليلته تلك من ذنب ".(5/209)
بشر ويقال بشير بن عبد الوهاب
ابن بشير، أبو الحسن الأموي، مولى بشير بن مروان، من أهل دمشق، زاهد.
حدث عن الوليد بن مسلم بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً ذات شرف وهو حين ينتهبها مؤمن ".
حدث علي بن الحسين بن إسماعيل بن صبيح البزاز قال: سمعت بشر بن عبد الوهاب، وكان صاحب خير وفضل، وكان ينزل دمشق وذكر أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلاً وثلثي الميل، وذكر أن فيها خمسين ألف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة وعشرين ألف دارٍ لسائر العرب، وستة وثلاثين ألف دارٍ لليمن، قال: أخبرني بذلك سنة أربعٍ وستين ومئتين.
مات بشر بدمشق يوم السبت لليلتين خلتا من رجب سنة أربع وخمسين ومئتين.
بشر بن أبي عمرو بن العلاء
ابن عمار بن العريان بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهم بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تيم بنمر بن أد المازني.
قدم دمشق مع أبيه حين قدمها.
حدث عن أبيه عن الذيال بن حرملة قال: سمعت صعصعة بن صوحان يقول: لما عقد علي بن أبي طالب الألوية أخرج لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ير ذلك اللواء منذ قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعقده ودعا قيس بن سعد بن عبادة، فدفعه إليه، فاجتمعت الأنصار وأهل بدر، فلما نظروا إلى لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكوا، فأنشأ قيس بن سعد بن عبادة يقول: " من البسيط "
هذا اللواء الذي كان نحف به ... دون النبي وجبريل له مدد
ما ضر من كانت الأنصار عيبته ... أن لا يكون له من غيرهم عضد(5/210)
وبسنده عنه أيضاً قال: جاء أعرابيٌّ إلى علي بن أبي طالب فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، كيف نقرأ هذا الحرف: لا يأكله إلا الخاطون؟ كلٌّ والله يخطو؟ قال: فتبسم عليٌّ وقال: يا أعرابي " لا يأكله إلا الخاطئون " قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان الله ليسلم عبده.
ثم التفت عليٌّ إلى أبي الأسود فقال: إن الأعاجم قد دخلت في الدين كافة، فضع للناس شيئاً يستدلون به على صلاح ألسنتهم.
فرسم لها الرفع والنصب والخفض.
بشر بن عون أبو عون القرشي
الجوبري الدمشقي، من باب الجابية، وقيل: من قرية تدعى جوبر.
حدث عن بكار بن تميم، عن مكحول، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا، أو يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون؛ وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله؛ فإذا فاءت أعطيت العدل ".
وحدث عن بكار، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع الليثي، عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" مثل الجمعة مثل قومٍ غشوا ملكاً، فنحر لهم الجزور، ثم جاء قومٌ فذبح لهم البقر، ثم جاء قومٌ فذبح لهم الغنم، ثم جاء قومٌ فذبح لهم النعام، ثم جاء قومٌ فذبح لهم الوز، ثم جاء قومٌ فذبح لهم الدجاج، ثم جاء قومٌ فذبح لهم العصافير ".(5/211)
بشر بن العلاء بن زبر
أخو عبد الله وبشر هو الأكبر منهما.
قال بشر: سمعت حزام بن حكيم يحدث عن أبي ذر أنه قال: يا رسول الله، ذهب بالأجور أصحاب الدثور؛ نصلي ويصلون، ونصوم ويصومون، ولهم فضول أموالٍ يتصدقون بها وليس لنا ما نتصدق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا ذر! ألا أعلمك كلماتٍ تقولهن تلحق من سبقك ولا يدركك إلا من أخذ بعلمك؟ " قال: بلى يا رسول الله، قال: " تكبر دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وتسبح ثلاثاً وثلاثين - يعني - وتحمد ثلاثاً وثلاثين، وتختم بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير ".
فأخبر الآخرون بذلك، فأتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله إنهم قد قالوا مثل ما قلنا! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وعلى كل نفسٍ في كل يومٍ صدقة، فضل بصرك للمنقوص بصره صدقة، وفضل سمعك للمنقوص سمعه صدقة، وفضل شدة ذراعيك للضعيف لك صدقة، وفضل شدة ساقيك للملهوف صدقة، وإرشادك الضال صدقة، وإرشادك سائلاً أين فلانٌ فأرشدته لك صدقة، ورفعك العظام والحجر عن طريق المسلمين لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر لك صدقة، ومباضعتك أهلك صدقة ".
بشر بن قيس التغلبي
والد قيس بن بشر، من أهل قنسرين، جالس أبا الدرداء بدمشق، فسمع منه ومن معاوية بن أبي سفيان وغيرهم.
حدث بشر بن قيس قال: كان بدمشق رجلٌ يقال له ابن الحنظلية، متوحداً لا يكاد يكلم أحداً، إنما هو في(5/212)
صلاة، فإذا فرغ يسبح ويكبر ويهلل حتى يرجع إلى أهله.
قال: فمر علينا ذات يوم ونحن عند أبي الدرداء، فقال له أبو الدرداء: كلمة منك تنفعنا ولا تضرك؟ قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فلما قدمنا جلس رجلٌ منهم في مجلسٍ فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا فلان لو رأيت فلاناً طعن ثم قال: خذها وأنا الغلام الغفاري، فما ترى؟ قال: ما أراه إلا قد حبط أجره.
قال: فتكلموا في ذلك حتى سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصواتهم فقال: " بل يحمد ويؤجر ".
قال: فسر بذلك أبو الدرداء حتى هم أن يجثو على ركبتيه، فقال: أنت سمعته مراراً؟ قال: نعم، قال: ثم مر علينا يوماً آخر فقال له أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرك؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " نعم الرجل خريم الأسدي، لو قص شعره وشمر إزاره ".
فبلغ ذلك خريماً، فعجل فأخذ شفرةً فقص من جمته ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه.
قال: فدخلت على معاوية، فرأيت رجلاً معه على السرير، شعره فوق أذنيه، مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه.
قلت: من هذا؟ قالوا: خريم الأسدي.
قال: ثم مر علينا يوماً آخر فقال أبو الدرداء: كلمة منك تنفعنا ولا تضرك؟ قال: نعم، كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لنا: " إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم ولباسكم، حتى تكونوا في الناس كأنكم شامة؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ".
بشر بن مروان بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو مراون الأموي القرشي، أخو عبد الملك وعبد العزيز ومحمد.
ولاه أخوه عبد الملك المصرين: الكوفة والبصرة.
وكان كريماً ممدحاً.
وداره بدمشق بعقبة الصوف، وإليه ينسب دير بشر الذي عند حجيرا.
وأمه قطية بنت بشر بن عامر ملاعب الأسنة أبي براء بن مالك بن جعفر بن كلاب.
وقطية بضم القاف وفتح الطاء وتشديد الياء باثنتين من تحتها.(5/213)
قال الأصمعي: أنشدت يونس بن حبيب يوماً: " من البسيط "
إن الرياح لتمسي وهي فاترةٌ ... وجود كفك قد يمسي وما فترا
فقال لي يونس: من يقول هذا؟ قلت: الفرزدق، قال: ويك! فيمن؟ قلت: في بشر بن مروان، فقال: قد كان - والله - الفرزدق من مداحي العرب.
كان بشر بن مروان بن الحكم إذا ضرب البعث على أحدٍ من جنده، ثم وجده قد أخل بمركزه، أقامه على كرسي، ثم سمر يديه في الحائط، ثم انتزع الكرسي من تحت رجليه، فلا يزال يتشحط حتى يموت.
وإنه ضرب البعث على رجلٍ حديث عهدٍ بعرس ابنة عمه، فلما صار في مركزه كتب إلى ابنة عمه كتاباً ثم كتب في أسفله: " من البسيط "
لولا مخافة بشرٍ أو عقوبته ... وأن يرى حاسدٌ كفي بمسمار
إذاً لعطلت ثغري ثم زرتكم ... إن المحب إذا ما اشتاق زوار
فورد الكتاب على ابنة عمه، فأجابته وكتبت في أسفله:
ليس المحب الذي يخشى العقاب ولو ... كانت عقوبته في فجوة النار
بل المحب الذي لا شيء يفزعه ... أو يستقر ومن يهواه في الدار
فلما قرأ كتابها قال: لا خير في الحياة بعدها، فأقبل حتى دخل المدينة، فأتى بشر بن مروان في وقت غذائه، فلما فرغ من غذائه أدخل عليه، فقال: ما الذي دعاك إلى تعطيل ثغرك، أما سمعت نداءنا وإيعادنا!؟ فقال له: اسمع عذري، فإما عفوت وإما عاقبت، قال: ويلك وهل لمثلك من عذر! فقص عليه قصته وقصة ابنة عمه، فقال: أولى لك، ثم قال: يا غلام حط اسمه من البعث، وأعطه عشرة آلاف درهم.
الحق بابنة عمك.(5/214)
وعن حصين قال: كنت مع عمارة صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم عيد مع بشر بن مروان، قال: فرفع يديه بالدعاء، قال: فقال عمارة: قبح الله هاتين اليدين القصيرتين، لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما يزيد أن يشير بإصبعه.
قال حصين: أول من أذن له في العيد بشر بن مروان.
ولما قتل عبد الملك مصعب بن الزبير، ودخل الكوفة، صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني قد استعملت عليكم رجلاً من أهل بيتٍ لم يزل الله عز وجل يحسن إليهم في ولايتهم، أمرته بالشدة والغلظة على أهل المعصية، وباللين على أهل الطاعة، فاسمعوا وأطيعوا، وهو بشر بن مروان، وخلفت معه أربعة آلاف من أهل الشام، منهم روح بن زنباع الجذامي، ورجاء بن حيوة الكندي.
وكان بشر يشرب باليل وينادم قوماً من أهل الكوفة، فقال لندمائه ليلةً: إن هذا الجذامي يمنعني من أشياء أريد أن أعطيكموها.
فقال له رجل مولىً لبني تميم: أنا أكفيكه.
فكتب على باب القصر ليلاً: " من البسيط "
إن ابن مروان قد حانت منيته ... فاحتل لنفسك يا روح بن زنباع
إن الدنانير لا تغني مكانكم ... إذا نعاك لأهل الرملة الناعي
فلما أصبحوا قرأ ذلك الناس، فبلغ ذلك روحاً؛ فجاء إلى بشر فقال: ائذن لي فإن أهل العراق أصحاب توثب، فجعل بشر يتمنع عليه وهو يشتهي أن يخرج، فأذن له.
فلما قدم على عبد الملك جعل يخبره عن أهل العراق فيقول له عبد الملك: هذا من جبنك يا أبا زرعة، فاستخلف عبد الملك على البصرة خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن العيص بن أمية، ثم عزله وولى بشر بن مروان البصرة مع الكوفة؛ فأتاه الكتاب بولاية البصرة وهو يشرب الدواء الكبير، فقال له الأطباء: إن هذا دواء نريد أن تودع نفسك بعده،(5/215)
فلا تخرج، فأبى، فلما دنا من البصرة تلقاه فيمن لقيه الحكم بن الجارود، فقال له: مرحباً وجعله عن يمينه، ثم لقيه الهزيل بن عمران البرجمي فرحب به وجعله عن يساره؛ ثم لقيه المهلب، فلما رآه يسير بينهما فقال: هذان شاهدان، وأميرنا صاحب شراب.
فلم يلبث بالبصرة إلا أشهراً حتى مات.
فضره ذلك الدواء.
ولما ولى عبد الملك بن مروان أخاه بشر بن مروان العراقين كتب إليه بشر حين وصل: أما بعد، يا أمير المؤمنين فإنك قد أشغلت إحدى يدي وهي اليسرى، وبقيت اليمنى فارغةً لا شيء فيها.
قال: فكتب إليه: فإن أمير المؤمنين قد شغل يمينك بمكة والمدينة والحجاز واليمن.
قال: فما بلغه الكتاب حتى وقعت القرحة في يمينه.
فقيل له: تقطعها من مفصل الكف، فجزع، فما أمسى حتى بلغت المرفق، فأصبح وقد بلغت الكتف، وأمسى وقد خالطت الجوف.
فكتب إليه: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإني كتبت إليك وأنا في أول يومٍ من أيام الآخرة، وآخر يومٍ من أيام الدنيا، وقال: " من الطويل "
شكوت إلى الله الذي قد أصابني ... من الضر لما لم أجد لي مداويا
فؤادٌ ضعيفٌ مستكينٌ لما به ... وعظمٌ بدا خلواً من اللحم عاريا
فإن مت يا خير البرية فالتمس ... أخاً لك يغني عنك مثل غنائيا
يواسيك في السراء والضر جهده ... إذا لم تجد عند البلاء مواسيا
قال: فجزع عليه، وأمر الشعراء فرثوه.
قال الحسن البصري: قدم علينا بشر بن مروان البصرة وهو أبيض بض، أخو خليفةٍ وابن خليفة ووالٍ على العراق، فأتيت داره، فلما نظر إلي الحاجب قال: يا شيخ من أنت؟ قلت: الحسن البصري، قال: فادخل إلى الأمير وإياك أن تطيل الحديث معه، واجعل الكلام الذي يدور بينك وبينه جواباً ولا تمكنه من المجالسة فتثقل عليه.
قال: فدخلت، فإذا بشرٌ على سريرٍ عليه فرشٍ قد كاد أن يغوص فيها، وإذا رجلٌ متكئٌ على سيف، قائمٌ على رأسه، فسلمت عليه فقال: من أنت يا شيخ، أعرفك؟ قلت: الحسن البصري الفقيه.(5/216)
قال: أفقيه هذه المدرة؟ قال: قلت: نعم أيها الأمير.
قال: فاجلس، ثم قال لي: ما تقول في زكاة أموالنا، أندفعها إلى السلطان أم إلى الفقراء؟ قال: قلت: أي ذلك فعلت أجزأ عنك، قال: فتبسم ثم رفع رأسه إلى الذي كان على رأسه فقال: لشيءٍ ما يسود من يسود.
ثم جعل يديم النظر إلي، فإذا أملت طرفي إليه صرف بصره عني، وإذا أطرقت أبدّ في نظره.
قال: ثم قمت فاستأذنت في الانصراف، فقال لي: مصاحباً محفوظاً.
قال: ثم عدت بالعشي فإذا هو قد انحدر من سريره إلى صحن مجلسه، وإذا الأطباء حواليه وهو يتململ تململ السليم، فقلت: ما للأمير؟ قالوا: محموم.
ثم عدت من غد، وإذا الناعية ينعاه، وإذا الدواب قد جزوا نواصيها، قلت: ما للأمير؟ قالوا: مات.
فحمل ودفن في جانب الصحراء.
ووقف الفرزدق على قبره فرثاه، فلم يبق أحدٌ كان على القبر إلا خر باكياً.
قال: ثم انصرفت فصليت في جانب الصحراء ما قدر لي ثم عدت إلى القبر، وإذا قد أتي بعبدٍ أسود، فدفن إلى جانبه، فوالله ما فصلت بين القبرين حتى قلت: أيهما قبر بشر بن مروان؟! وكانت ولاية بشرٍ للعراق سنة أربع وسبعين.
ومات في أول سنة خمسٍ وسبعين.
وقيل: مات سنة ثلاث وسبعين.
بشر بن وهب أبو مروان السراج
حدث عن الهيثم بن عمران، عن أبيه، عن مكحول، قال: إياك وطلبات الحوائج من الناس، فإنه فقرٌ حاضر، وعليك بالإياس، فإنه الغنى؛ ودع من الكلام ما يعتذر منه، وتكلم بما سواه؛ وإذا صليت فصل صلاة مودع.
بشر وهو الحتات بن يزيد بن علقمة
ابن حوي بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، أبو منازل المجاشعي التميمي.(5/217)
وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وفد بني تميم مع جماعة من أشرافهم.
وآخى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين معاوية بن أبي سفيان.
ووفد على معاوية.
قال ابن إسحاق: فقدمت وفود العرب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي في أشراف من بني تميم، فيهم الأقرع بن حابس، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم، والحتات، ونعيم بن زيد، وقيس بن الحارث، وقيس بن عاصٍ في وفد عظيم من بني تميم، معهم عيينة بن حصن الفزاري، وهم الذين دخلوا المسجد ونادوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمد! فآذى لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من صياحهم فخرج إليهم فقالوا: يا محمد جئناك نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا وقص الحديث كما ذكرناه في ترجمة الأقرع بن حابس أو بمعناه.
ونزل فيهم القرآن: " إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ".
والحتات هو الذي مات عند معاوية، وورثه الفرزدق، وهجا معاوية لأخذه ميراثه، ويجمعهما في النسب سفيان.
والحتات هو القائل للفرزدق وأراد الخروج إليه إلى عمان: " من الوافر "
كتبت إلي تستهدي الجواري ... لقد أنعظت من بلدٍ بعيد
أقد لا تأتنا فعمان أرضٌ ... بها سمكٌ وليس بها ثريد
وكان للحتات قدر وذكر في الجاهلية، ثم أسلك ووفد إلى عمر بن الخطاب.
وهو الذي أجار الزبير بن العوام لما انصرف عن الجمل.
وقتل الزبير في جواره.
فجرير يعير مجاشعاً بذلك، فمما قال فيهم: " من الكامل "
قال النوائح من قريشٍ غدوةً ... غدر الحتات وجاره والأقرع(5/218)
وقال أيضاً فيهم: " من الكامل "
لو كنت حراً يا بن قين مجاشعٍ ... شيعت ضيفك فرسخين وميلا
وبنو مجاشع تنكر أن يكون الحتات أجاره، ويقولون: إنما كان الزبير قصد النعر بن الزمام المجاشعي، فلم يصادفه.
ثم قتل من ليلته.
وكان الحتات ممن هرب من عليٍّ عليه السلام؛ وهو القائل: " من المتقارب "
لعمر أبيك فلا تجزعي ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شرٌ طويلا
وكان الحتات عم الفرزدق، وفد على معاوية والأحنث بن قيس وجارية بن قدامة السعدي، ففضلهما على الحتات في الجائزة، ولم يعلم بذلك الحتات؛ فلما خرجوا علم به فرجع إليه وقال: فضلت علي محرقاً ومخذلاً؟! يعني بالمحرق لأنه حرق دار الإمارة، والأحنف خذل عن عائشة والزبير - فقال معاوية: إنما اشتريت منهما دينهما ووكلتك إلى دينك ورأيك في عثمان بن عفان - وكان عثمانياً - فقال: وأنا فاشتر مني ديني؛ فألحقه بهما.
فخرج الحتات، فمات في الطريق، فبعث معاوية فأخذ المال.
فوفد الفرزدق على معاوية فقال من أبيات: " من الطويل "
أبوك وعمي يا معاوي أورثا ... تراثاً فأولى بالتراث أقاربه
فما بال ميراث الحتات أخذته ... وميراث صخرٍ جامدٌ لك ذائبه
فلو كان هذا الأمر في جاهليةٍ ... عرفت من المولى القليل حلائبه
ولو كان هذا الأمر في عز ملككم ... لأديته أو غص بالماء شاربه
فرد عليه معاوية ميراث الحتات.
قال: فأنشد هذه الأبيات بعض خلفاء بني أمية(5/219)
فقال: ما فعل معاوية؟ قالوا: رد عليه ماله، فقال: لو كنت مكانه لقلت له: يا مصان وضربت عنقه.
بشير بن أبان بن بشير بن النعمان
ابن بشير بن سعد الأنصاري.
حدث عن أبيه، عن جده، قال: كتب مروان بن الحكم إلى النعمان بن بشير يخطب على ابنه عبد الملك بن مروان أم أبان بنت النعمان، فكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من مروان بن الحكم إلى النعمان بن بشير، سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله ذو الجلال والإكرام، والعظمة والسلطان، قد خصكم معاشر الأنصار بنصرة دينه، وإعزاز نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد جعلك الله منهم في البيت العميم والفرع القديم، وقد دعاني ذلك إلى اختيار مصاهرتك وإيثارك على الأكفاء من ولد أبي؛ وقد رأيت أن أزوج ابني عبد الملك بن مروان ابنتك أم أبان بنت النعمان؛ وقد جعلت صداقها ما نطق به لسانك، وترنمت به شفتاك، وبلغه مناك، وحكمت به في بيت المال قبلك.
فلما قرأ النعمان كتابه كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم من النعمان بن بشير إلى مروان بن الحكم، بدأت باسمي سنةً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وذلك لأني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إذا كتب أحدكم إلى أحد فليبدأ بنفسه ".
أما بعد فقد وصل إلي كتابك، وفهمت ما ذكرته فيه من محبتنا.
أما إن تكن صادقاً فغنماً أصبت، وبحظك أخذت، لأنا أناسٌ جعل الله حبنا إيماناً، وبغضنا نفاقاً.
وأما ما أطنبت فيه من ذكر شرفنا وقديم سلفنا، ففي مدح الله لنا وذكره إيانا في كتابه المنزل وقرآنه المفصل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أغنانا عن مدح أحدٍ من الناس؛ وأما ما ذكرت من أنك آثرتني بابنك عبد الملك بن مروان على الأكفاء من ولد أبيك فحظي منك مردودٌ عليهم موفرٌ لهم، غير مشاحٍ لهم فيه، ولا منازعٍ لهم عليه، وأما ما ذكرت أنك جعلت صداقها ما نطق به لساني وترنمت به شفتاي وبلغه(5/220)
مناي، وحكمت به في بيت المال قبلي، فقد أصبح بحمد الله - لو أنصفت - حظي في بيت المال أوفر من حظك وسهمي فيه أجزل من سهمك، وأنا القائل: " من الطويل "
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت ... لها حفدٌ مما يعد كثير
ولكنها نفسٌ علي كريمةٌ ... عيوفٌ لأصهار اللئام قذور
لنا في بني العنقاء وابني محرقٍ ... مصاهرةٌ يسمى بها ومهور
وفي آل عمرانٍ وعمر بن عامرٍ ... عقائل لم يدنس لهن حجور
بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس
ابن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الحارث بن الخزرج، أبو مسعود ويقال: أبو النعمان الأنصاري، والد النعمان بن بشير، له صحبةٌ وروايةٌ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بشير بفتح الباء وكسر الشين، وخلاس بفتح الخاء وتشديد اللام.
حدث بشير بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" رحم الله عبداً سمع مقالتي فحفظها، فرب حامل فقهٍ غير فقيه، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه. ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل؛ ومناصحة ولاة الأمر؛ ولزوم جماعة المسلمين ".
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " منزلة المؤمن من المؤمن، منزلة الرأس من الجسد، متى اشتكى الجسد اشتكى له الرأس، ومتى اشتكى الرأس اشتكى له الجسد ".(5/221)
شهد بشير بن سعدٍ بدراً والعقبة والمشاهد بعدهما؛ وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سريتين إلى بني مرة، إحداهما بعد الأخرى.
وهو الذي كان كسر على سعد بن عبادة الأمر يوم سقيفة بني ساعدة؛ فبايع أبا بكر هو وأسيد بن الحضير أول الناس.
واستشهد بعين التمر مع خالد بن الوليد سنة إحدى عشرة بعد انصرافه من اليمامة.
وقيل: سنة ثلاث عشرة، وقيل: سنة اثنتي عشرة.
وأمه وأم أخيه سماك ابني سعد بن ثعلبة: أنيسة بنت خليفة بن عدي بن عمرو بن امرئ القيس بن مالك الأغر.
وكان بشير يكتب بالعربية في الجاهلية، وكانت الكتابة في العرب قليلاً.(5/222)
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك، فخرج فلقي رعاء الشاء، فسأل: أين الناس؟ فقالوا: هم في بواديهم، والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء منحازاً إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم، فأدركه الدهم منهم عند الليل، فتراموا بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير وأصبحوا؛ وحمل المريون عليهم فأصابوا أصحاب بشير.
وولى منهم من ولى، وقاتل بشيرٌ قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه.
وقيل قد مات.
ورجع بنعمهم وشائهم.
وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي، وأمهك بشير بن سعد وهو في القتلى؛ فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهوديٍ بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع عليهم فأصابوا أصحاب بشير.
وولى منهم من ولى، وقاتل بشيرٌ قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه.
وقيل قد مات.
ورجع بنعمهم وشائهم.
وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي، وأمهك بشير بن سعد وهو في القتلى؛ فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقام عند يهوديٍ بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة، وهيأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير بن العوام فقال: " سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير، فإن ظفرك الله بهم فلا تبقي فلهم ".
وهيأ معه مائتي رجل، وعقد له اللواء.
فقدم غالب بن عبد الله من سريةٍ قد ظفره الله عليهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للزبير بن العوام: " اجلس ".
وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل.
فخرج أسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشيرٍ وأصحابه، وخرج معهم علبة بن زيد.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشير بن سعد في سرية فيها ثلاث مائة إلى يمن وجبار من فدك ووادي القرى، وكان بها ناسٌ من غطفان قد تجمعوا مع عيينة بن حصن فلقيهم بشير ففض جمعهم، وظفر بهم وقتل وسبى وغنم، وهرب عيينة وأصحابه في كل وجه.
وكانت هذه السرية في شوال سنة سبع.
وعن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: أتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله عز وجل أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تمنينا أنه لم يسأله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قولوا: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما باركت على إبراهيم، في العالمين إنك حميدٌ مجيد. والسلام كما قد علمتم ".
قال يحيى بن سعيد الأنصاري: لما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عيادة في سقيفة بني ساعدة، فأتاهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال بشير بن البراء الأنصاري: منا أمير ومنكم أمير.
قال عمر: فأردت أن أتكلم فمنعني أبو بكر، فقلت: لا أعصيه.
ثم تكلم أبو بكر، فما ترك شيئاً أردت أن أتكلم به إلا تكلم به وزاد عليه، وذكر حق الأنصار وما(5/223)
أعطاهم الله وقال: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، والأمر بيننا نصفان كقد الأنملة.
فقال بشير بن سعد: والله ما إياكم أيها الرهط يكره، ولا عليكم ننفسها، ولكنا نتخوف أن يليها قومٌ - أو قال: رجال - قد قتلنا آباءهم وأبناءهم.
قال يحيى: فزعموا أن عمر بن الخطاب قال: إذا كان ذلك فاستطعت أن تموت فمت.
قال يحيى بن سعيد: فكان أول من بايع أبا بكر بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير.
وقال عمر بن الخطاب في مجلسٍ وحوله المهاجرون والأنصار: أرأيتم لو ترخصت في بعض الأمور ما كنت فاعلين؟ فسكتوا - فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً - فقال بشير بن سعد: لو فعلت ذلك قومناك تقويم القدح.
فقال عمر: أنتم إذاً أنتم.
بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة
نفيع بن الحارث الثقفي البصري، قيل: إنه وفد على معاوية مع أبيه.
حدث بشير بن عبيد الله قال: أول من نعى الحسن بن عليٍّ بالبصرة عبد الله بن سلمة بن المحبق أخو سنان، نعاه لزياد، فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه، فبكى الناس وأبو بكرة مريض، فسمع الضجة فقال: ما هذا؟ فقالت امرأته عبسة بنت سحام من بني ربيع: مات الحسن بن علي، فالحمد لله الذي أراح الناس منه، فقال أبو بكرة: اسكتي ويحك! فقد أراحه الله من شرٍّ كثير، وفقد الناس خيراً كثيراً.
قال خلاد بن عبيد: تغدى يوماً معاوية وعنده عبيد الله بن أبي بكرة، ومعه ابنه بشير - ويقال: غير(5/224)
بشير - فأكل فأكثر من الأكل، فلحظه معاوية، وفطن عبيد الله بن أبي بكرة، فأراد أن يغمز ابنه فلم يمكنه ولم يرفع رأسه حتى فرغ.
فلما خرج لامه على ما صنع؛ ثم عاد إليه وليس معه ابنه، فقال معاوية: ما فعل ابنك التلقامة؟ قال: اشتكى، قد علمت أن أكله سيورثه داءً.
قال سلم بن قتيبة: مر بي بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة فقال: ما يجلسك؟ قلت: خصومةٌ بيني وبين ابن عمٍ لي ادعى شيئاً في داري.
قال: فإن لأبيك عندي يداً، وإني أريد أن أجزيك بها، وإني والله ما رأيت شيئاً أذهب للدين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل لقلبٍ من خصومة.
قال: فقمت لأرجع، فقال خصمي: ما لك؟ قلت: لا أخاصمك، قال: عرفت أنه حقي؟ قلت: لا ولكني أكرم نفسي عن هذا.
قال: فمررت بعد ببشيرٍ وهو يخاصم فذكرته قوله؛ قال: لو كان قدر خصومتك عشر مراتٍ فعلت، ولكنه مرغاب، أكثر من عشرين ألف ألف.
بشير بن عقربه ويقال بشر
أبو اليمان الجهني له صحبة.
روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثين.
حدث عبد الله بن عوف الكناني - وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على الرملة - قال: شهدت عبد الملك بن مروان قال لبشير بن عقربة الجهني يوم قتل عمرو بن سعيد بن العاص: يا أبا اليمان قد احتجت اليوم إلى كلامك، فقم فتكلم.
فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من قام بخطبةٍ لا يلتمس بها إلا رياءً وسمعةً وقفه الله يوم القيامة موقف رياءٍ وسمعة ".
قال بشير بن عقربة: لما قتل أبي يوم أحد أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أبكي، فقال: " يا حبيب ما يبكيك؟ أما ترضى أن أكون أنا أبوك، وعائشة أمك ".
فمسح على رأسي فكان أثر يده من رأسي(5/225)
أسود وسائره أبيض، وكانت بي رتة، فتفل فيها فانحلت.
وقال لي: " ما اسمك؟ " قلت: بجير، قال: " بل أنت بشير ".
وبشير معروف بفلسطين.
بشير بن الخصاصية
وهي أمه، واسم أبيه معبد، ويقال: زيد بن معبد بن ضباب بن سبيع، وقيل: ابن شراحيل بن سبع بن ضباري بن سدوس السدوسي، صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كان اسمه زحم، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً، سكن البصرة وتوجه منها إلى حمص واجتاز دمشق.
حدث بشير قال: كنت أماشي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخذ بيده، فقال لي: " يا بن الخصاصية، ما أصبحت تنقم على الله تبارك وتعالى، أصبحت تماشي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
قال: أحسبه قال: أخذ بيده، قال: قلت: ما أصبحت أنقم على الله شيئاً، قد أعطاني الله تبارك وتعالى كل خير.
قال: فأتينا على قبور المشركين، فقال: " لقد سبق هؤلاء خيراً كثيراً ".
ثلاث مرات.
ثم أتينا على قبور المسلمين فقال: " لقد أدرك هؤلاء خيراً كثيراً ".
ثلاث مرات يقولها.
قال: فبصر برجلٍ يمشي بين المقابر في نعليه فقال: " ويحك يا صاحب السبتين، ألق سبتيك ".
مرتين أو ثلاثاً.
فنظر الرجل، فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلع نعليه.
قال بشير: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعاني إلى الإسلام ثم قال لي: " ما اسمك؟ " قلت: نذير، قال: " بل أنت بشير ".
قال: فأنزلني الصفة، فكان إذا أتته هدية أشركنا فيها، وإذا أتته صدقة صرفها إلينا.
قال: فخرج ذات ليلة فتبعته، فأتى البقيع فقال: " السلام(5/226)
عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا بكم لاحقون، وإنا لله وإنا إليه راجعون، لقد أصبتم خيراً بجيلاً، وسبقتم شراً طويلاً ".
ثم التفت إلي فقال: " من هذا؟ " قال: فقلت: بشير، فقال: " أما ترضى إن أخذ الله بسمعك وقلبك وبصرك إلى الإسلام من بين ربيعة الفرس الذين يزعمون أن لولاهم لائتفكت الأرض بأهلها؟ " قلت: بلى يا رسول الله.
قال: " ما جاء بك؟ " قلت: خفت أن تنكب أو تصيبك هامةٌ من هوام الأرض.
قال محمد بن عبد الكريم: إنما سمي الفرس لأن أباه نزار بن معد كان له فرس، وقبةٌ من أدم وحمار، فجعل الفرس لأكبر ولده ربيعة، والقبة للذي يتلوه وهو مضر، والحمار للثالث وهو إياد.
فلذلك يقال: ربيعة الفرس، ومضر الحمراء، وإياد الحمار.
حدث بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبايعه، فاشترط علي فقال: " تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وتجاهد في سبيل الله ".
قال: قلت: والله يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما: الصدقة والجهاد، والله ما لي إلا عشرة زودٍ هن رسل أهلي وحمولتهن؛ وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى فقد باء بغضبٍ من الله عز وجل، وأخاف إن حضر القتال جزعت نفسي وخفت الموت.
قال: فقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده ثم بسطها فقال: " لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة؟! " قال: قلت: يا رسول الله أبايعك، فبايعني عليهن كلهن.
قالت ليلى امرأة بشير: إنها سمعته سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أصوم يوم الجمعة ولا أكلم ذلك اليوم أحداً؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تصم الجمعة إلا في أيامٍ هو أحدها، أو في شهر، فأما أن لا تكلم أحداً فلعمري لأن تكلم بمعروف وتنهى عن منكر خيرٌ من أن تسكت ".(5/227)
بشير بن النعمان بن بشير بن سعد
الأنصاري الخزرجي.
حدث عن أبيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في خطبته أو في موعظته: " أيها الناس، الحلال بينٌ والحرام بين، وبين ذلك أمورٌ مشتبهاتٌ، فمن تركهن سلم دينه وعرضه، ومن أوضع فيهن يوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، فإن حمى الله في أرضه معاصيه ".
بشير بن النعمان بن علي بن محمد
ابن الحجاج بن نوح بن يزيد بن النعمان بن بشير بن سعد، أبو الخزرج بن أبي القاسم، الأنصاري النعماني المقرئ.
حدث بسنده عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد الناس يوم القيامة، يدعوني ربي فأقول: لبيك وسعديك، والخير بيديك والشر ليس إليك ".
قال: والشر ليس إليك: يعني ليس يتقرب به إليك.
وحدث بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والله لله أفرح بتوبة العبد من العبد يجد ضالته بالفلاة ".
مات أبو الخزرج بشير بن النعمان سنة خمسٍ وأربع مائة، وقيل: سنة تسع وأربع مائة.
بشير مولى معاوية بن أبي سفيان
حدث عن عشرة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أحدهم حدير أبو فوزة، أنه سمعهم يقولون إذا رأوا الهلال: اللهم اجعل شهرنا الماضي خير شهر وخير عاقبة، وأرسل علينا شهرنا هذا بالسلامة والإسلام، والأمن والإيمان، والمعافاة والرزق الحسن.(5/228)
بشير مولى معاوية بن بكر
بفتح الباء وكسر الشين أيضاً.
قال بشير مولى معاوية بن بكر: أمرني عمر بن عبد العزيز أخصي له نعلاً في خلافته.
بشير مولى هشام بن عبد الملك
قال: أتي هشام برجلٍ عنده قيانٌ وخمرٌ وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه، فضربه، فبكى الشيخ.
قال بشير: فقلت له وأنا أعزيه: عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي للضرب، إنما أبكي لاحتقاره البربط سماه طنبوراً.
قال: وأغلظ رجلٌ لهشام، فقال له هشام: ليس لك أن تغلظ لإمامك.
قال: وتفقد هشامٌ بعض ولده لم يحضر الجمعة فقال له: ما منعك من الصلاة؟ قال: نفقت دابتي، قال: فعجزت عن المشي فتركت الجمعة.
فمنعه الدابة سنة.
بشير بن كعب بن أبي الحميري
أبو أيوب، ويقال: أبو عبد الله العدوي البصري.
شهد وقعة اليرموك، واستخلفه أبو عبيدة على خيلٍ باليرموك بعد فراغه منه وتوجهه إلى دمشق.
حدث بشير بن كعب عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، أصبحت على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنوبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ".(5/229)
لما كان طاعون الجارف احتفر بشير بن أبي كعب العدوي قبراً، فقرأ فيه القرآن، فلما مات دفن فيه.
حدث حجير بن الربيع عن عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الحياء خيرٌ كله ".
فقال بشير بن كعب: إن منه ضعفاً ومن وقاراً، فقال عمران: يا حجير من هذا؟ قال: هذا بشير بن كعب، وأثنى عليه خيراً، فقال عمران: أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزعم أن منه ضعفاً ومنه وقاراً! والله لا أحدثكم اليوم بحديث، وقام.
قال مجاهد: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه؛ فقال: يا بن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تسمع! فقال ابن عباس: إنا كنا مرةً إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف.
قال علي بن زيد: كان بشير بن كعب كثيراً ما يقول: انطلقوا حتى أريكم الدنيا، قال: فيجيء بهم إلى السوق وهي يومئذٍ مزبلة فيقول: انظروا إلى دجاجهم وبطهم وثمارهم.
قال عنه الدارقطني: بشير ثقة، جليس ابن عباس.
وأخرج عنه مسلم.
بطريق بن بريد بن مسلم
ابن عبد الله الكلبي العليمي من أهل دمشق.
حدث عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: بلغني أن المؤمن إذا مات تمنى الرجعة إلى الدنيا، ليس ذلك إلا ليكبر تكبيرةً أو يهلل تهليلةً أو يسبح تسبيحة.(5/230)
بغا أبو موسى الكبير
أحد قواد المتوكل، قدم معه دمشق سنة ثلاث وأربعين ومائتين، فاستشعر من قربه فأشخصه من دمشق لغزو الصائفة، ومعه القواد، ففتح صملة.
حدث علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال: كان عبد الله بن طاهر قد أهدى للمعتصم شهريين ملمغين، ذكر أن خراسان لم تخرج مثلهما، فسأله بغا أن يحمله على أحدهما، فأبى وقال: تخير غيرهما ما شئت فخذه.
قال: فخرجنا ولم نأخذ شيئاً، فلما صرنا بطبرستان عرض له قوم من أهلها فقالوا له: إن في بعض هذه الغياض سبعاً قد استكلب على الناس وأفناهم؛ فقال: إذا أردت الرحيل غداً فكونوا معي حتى تقفوني على موضعهم، قال: فلما رحلنا من غد حضر جماعة منهم، فانفرد بهم في عشرين فارساً من غلمانه، ومعه قوسه ونشابتان في منطقته، فصاروا به إلى الغيضة، فثار السبع في وجهه من بينهم، فقال: فحرك فرسه من بين يديه وأخذ نشابةً من النشابتين فرماه في لبته، فمر السهم فيها إلى الريش، وركب السبع رأسه، وعاد بغا إليه، فما اجترأ أحدٌ على النزول إليه حتى نزل بغا فوجده ميتاً.
قال: فشبرناه، فكان من رأسه إلى رأس ذنبه ستة عشر شبراً، ووجدناه أحصى الشعر إلا معرفته.
قال: فكتبنا بخبره إلى المعتصم فلحقنا جواب كتابنا بحلوان يذكر فيه أنه قد تفاءل بقتل السبع ورجا أن يكون من علامات الظفر ببابك، وأنه قد وجه إلى بغا بالشهريين الذين كان يطلب(5/231)
أحدهما فمنعه، وبسبع خلعٍ من خاصة خلعه وثيابه، وخمس مائة ألف درهم صلةً له وجزاءً على قتل السبع، قال: وإنما أراد المعتصم بذلك إغراءه على طاعته ومجاهدة عدوه.
وكان بغا ملوكاً لذي الرياستين الحسن بن سهل.
وكان يحمق ويجهل في رأيه مع شجاعته وإقدامه وكثرة وقائعه وفتوحه؛ وولاه المستعين ديوان البريد.
ومرض في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين ومائتين، وعاده المستعين، فلما انصرف من عيادته قضى من وقته.
وذكر أبو الحسن بن الوراق:
أن بغا كسر باب بيت المال فأخذ منه ما أراد وجمع أصحابه، ثم صار إلى البيت، فأحرق بابه ونهبت داره ودور ولده وأسبابه بسر من رأى، فطلب الأمان فلم يؤمن، فاستتر من أصحابه وانحدر في زورق مستخفياً، فأخذته المغاربة عند الجسر بسر من رأى ليلة الخمسي لليلةٍ بقيت من ذي القعدة سنة أربعٍ وخمسين ومائتين، فقتله وليد المغربي، وطيف برأسه ثم بعث به إلى بغداد فنصب هناك.(5/232)
بقية بن الوليد بن صائد
ابن كعب بن حريز، أبو يحمد - بضم الياء وإسكان الحاء وفتح الميم - الكلاعي الحمصي.
بعثه أبو جعفر المنصور إلى دمشق لمساحتها.
روى عن الزبيدي، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا دعي أحدكم إلى عرس أو نحوه فليجب ".
حدث بقية بسنده، عن أبي الأسد السلمي، عن أبيه، عن جده، قال: كنت سابع سبعة، فأمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجمع كل رجلٍ منا درهماً، فاشترينا أضحيةً بسبعة دراهم، فقلنا: يا رسول الله قد أغلينا بها! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن أفضل الضحايا أغلاها وأنفسها ".
فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً فأخذ بيد، ورجلاً بيد، ورجلاً برجل، ورجلاً برجل، ورجلاً بقرن، ورجلاً بقرن، وذبحها السابع وكبرنا عليها جميعاً.
وحدث بقية عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس.
أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رخص في دم الحبون - الدماميل - قال: فكان عطاء يصلي وهي في ثوبه.
وقد أنكروا هذا الحديث وقالوا: إن بقية قال: لم أسمعه أنا من ابن جريج.
ولد بقية سنة عشرٍ ومائة، ومات سنة سبعٍ وتسعين.
حدث بقية بن الوليد عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن خيار بن سلمة قال: سألت عائشة عن أكل البصل فقالت: آخر طعام أكله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعامٌ فيه بصل.
قال بقية بن الوليد: قدمت على شعبة فأبعدني وأقصاني، فأقمت عنده شهرين لا أصل منه إلى شيء، فبينا أنا عنده بين الظهر والعصر إذ أقبل إليه رسول الأمير فقال له: يا أبا بسطام، الأمير يقرأ(5/233)
عليك السلام ويقول لك: ما تقول في رجلٍ ضرب رجلاً على الرأس فادعى المضروب أنه قد منعه الشم؟ قال: فلم يكن عند شعبة جواب، فانصرف إلى جلسائه فقال لهم: ما تقولون في مسألة الأمير؟ فقالوا: وما هي؟ فأخبرهم، فلم يكن عند القوم جواب، فالتفت إلي فقال: ما اسمك؟ قلت: بقية، قال: إذا نزل بكم هذا إلى من ترجعون؟ قلت: إليك وإلى أمثالك، قال: دع هذا عنك إلى من ترجعون؟ قلت: إلى أبي عمرو عبد الحمن بن عمرو الأوزاعي، قال: ما يقول في مسألة الأمير؟ قلت: أصبحك الله يشمه الخردل المدقوق، فإن دمعت عيناه فكاذب، وإن لم تدمع عيناه فصادق.
قال: فأفتى رسول الأمير بذلك.
قال: وأقبل علي فحدثني في شهرين ما كنت أرضى أن يحدثنيه في ستة أشهر.
قال بقية: دخلت على هارون الرشيد فقال: يا بقية إني أحبك فقلت: ولأهل بلدي؟ قال: لا إنهم جند سوء، لهم كذا وكذا غدرة في الديوان.
قال: قلت يا أمير المؤمنين إذاً أنت وليهم ماذا تعهد إليهم؟ قال: أعهد إليهم أن يكونوا لليتامى كالأب الرحيم، وللأرامل كالزوج الشفيق، ويكونوا ويكونوا، ولا أرضى منهم بذلك حتى يضعوا أيديهم على رأسي، قال: فإنهم لا يفون بذلك يا أمير المؤمنين، نحن قوم عرب يسرفون علينا، فقال هارون الرشيد: فذلك كذلك، ثم قال: حدثني يا بقية، فقلت: حدثني محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سابق العرب إلى الجنة وسلمان سابق فارس إلى الجنة، وصهيب سابق الروم إلى الجنة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنة ".
قال: زدني، قلت: حدثني محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعين ألفاً، وثلاث حثياتٍ من حثيات ربي ".
قال: فامتلأ من ذلك فرحاً وقال: يا غلام ناولني أكتبها.
قال: وكان القيم بأمره الفضل بن الربيع، ومتربته بعيدة، فناداني فقال لي: يا بقية ناول أمير المؤمنين بجنبك، قلت: ناوله أنت يا هامان، فقال: سمعت ما قال لي يا أمير المؤمنين؟ قال: اسكت فما كنت أنت عنده هامان حتى كنت أنا عنده فرعون.(5/234)
وكان بقية بن الوليد يقول: ما أرحمني للثلاثاء ما يصومه أحد.
مات بقية سنة ست وتسعين ومائة.
وقيل سنة سبعٍ وتسعين ومائة بحمص.
وقيل: سنة ثمانٍ، وقيل: سنة تسعٍ.
وسنة سبعٍ وتسعين أصح.
بقي بن مخلد بن يزيد
أبو عبد الرحمن الأندلسي الحافظ أحد علماء الأندلس، ذو رحلةٍ واسعة.
وكان ورعاً فاضلاً زاهداً مجاب الدعوة.
وروي أن عدد شيوخه الذين روى عنهم مائتان وأربعة وثمانون رجلاً.
قال عبد الرحمن بن أحمد: سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى بقي بن خويلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم، ولا أقدر على مال أكثر من دويرة ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليلٌ ولا نهار ولا نوم ولا قرار.
فقال: نعم، انصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله.
قال: وأطرق الشيخ، وحرك شفتيه.
قال: فلبثنا مدة، فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالماً وله حديثٌ يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسانٌ يستخدمنا كل يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة، ثم يردنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب مع صاحبه الذي يحفظنا، فانفتح القيد من رجلي ووقع على الأرض؛ ووصف اليوم والساعة فوافق الوقت الذي جاءت المرأة ودعا الشيخ؛ قال: فنهض إلي الذي كان يحفظني وصاح علي وقال: كسرت القيد!؟ قلت: لا إنه سقط من رجلي، فتحير وأخر صاحبه وأحضر الحداد وقيدوني، فلما مشيت خطواتٍ سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري! فدعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم، فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله فلا نقيدك.
فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.
مات بقي بن مخلد الأندلسي سنة ستٍ وسبعين ومائتين.
وقيل: سنة ثلاثٍ وسبعين.
وولد في رمضان سنة إحدى ومائتين.(5/235)
بكار بن بلال أبو أيوب العاملي
مولى الثقيف، وينسب إلى عاملة.
بلغني أنه لما بلغ أهل الشام يوم صفين أن عمار بن ياسر قد قتل بعثوا من يعرفه ليأتيهم بعلمه؛ فعاد إليهم فأخبرهم أنه قد قتل؛ فنادى أهل الشام أصحاب علي: إنكم لستم بأولى بالصلاة على عمار بن ياسر منا.
قال: فتواعدوا عن القتال حتى صلوا عليه جميعاً.
حدث بكار بن بلال عن أبي عمرو الأنصاري أن علياً قال لأهل العراق: إن بسر بن أبي أرطاة قد صعد إلى اليمن، ولا أحسب هؤلاء القوم إلا ظاهرين عليكم - يعني أهل الشام - وما ذلك أنهم أولى بالحق منكم، ولكن ذاك لاجتماعهم على أميرهم وافتراقكم، وإصلاحهم في بلادهم، وفسادكم في بلادكم، وأدائهم الأمانة وخيانتكم، والله لقد فلانا فخانني، وفلانا فخانني - يعدد - وفلاناً وليته، فجمع ما جمع من المال فانطلق به إلى معاوية؛ ولقد خيل لي أني لو ائتمنت أحدكم على قدحٍ لسرق علاقته.
اللهم إني قد مللتهم وملوني، اللهم اقبضني إلى رحمتك، وأبدلهم بي من هو شرٌّ لهم مني.
توفي أبو بلال بكار بن بلال سنة ثلاث وثمانين ومائة.
وكان مولده في خلافة عمر بن عبد العزيز سنة مائة.
وهو ابن ثلاثٍ وثمانين سنة.
بكار بن تميم أبو عبد الرحمن
من دمشق حدث عن مكحول، عن أبي أمامة قال: كان أحب الشراب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلو البارد.(5/236)
بكار بن شعيب أبو خزيمة العبدي الدمشقي
حدث عن أبي حازم المدني، عن أبيه، عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الناس سواءٌ كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء يكثر بإخوانه المسلمين، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل الذي ترى له.
وقال عمر: عليك بإخوان الصدق تعيش في أكنافهم، فهم زينةٌ في الرخاء، وعدةٌ في البلاء.
بكار بن قتيبة بن عبيد الله
ابن أبي برذعة بن عبيد الله بن بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة، أبو بكرة الثقفي.
قاضي مصر أصله من البصرة، ولي القضاء بمصر سنين كثيرة.
قدم دمشق سنة تسع وستين ومائتين في صحبة أحمد بن طولون، وحدث بها، وروى عنه جماعةٌ من أهلها.
حدث عن روح بن عبادة بسنده، عن ابن عباس أن أم الفضل أرسلت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم عرفة بلبن، فشربه وهو يخطب الناس.
وحدث عنه أيضاً بسنده، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلةٌ في الجنة.
وحدث عن الضحاك بن مخلد بسنده، عن أبي بكرة قال:
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أتاه الشيء يسره سجد.
قال أحمد بن سهل بن بويه الهروي: كنت ألازم غريماً لي إلى بعد العشاء الآخرة، وكنت ساكناً في جوار بكار بن قتيبة، فانصرفت إلى منزلي فإذا هو يقرأ: " يا داود إنا جعلناك خليفةً في الأرض " إلى قوله: "(5/237)
فيضلك عن سبيل الله " فوقفت أتسمع عليه قليلاً، ثم انصرفت، فقمت في السحر على أن أصير إلى منزل الغريم، فإذا هو يقرأ هذه الآية يرددها ويبكي، فعلمت أنه كان يقرؤها من أول الليل.
قال سعيد بن عثمان: سمعت بكار بن قتيبة ينشد: " من الطويل "
لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها ... لعيبي في نفسي عن الناس شاغل
ولي بكار بن قتيبة القضاء بمصر من قبل المتوكل.
قدمها يوم الجمعة لثمانٍ بقين من جمادى الآخرى سنة ستٍ وأربعين ومائتين.
وتوفي في ذي الحجة سنة سبعين ومائتين.
ولم يزل قاضياً إلى أن توفي.
وأقامت بمصر بلا قاضٍ سبع سنين إلى أن ولى خمارويه بن أحمد بن طولون محمد بن عبدة القضاء.
وكان أحمد بن طولون أراد بكاراً على لعن الموفق فامتنع من ذلك فسجنه إلى أن مات أحمد؛ فأطلق من السجن.
فمكث بعد ذلك يسيراً ثم مات؛ فغسل ليلاً وكثر الناس فلم يدفن إلى وقت صلاة العصر.
وكان مولد بكار بالبصرة سنة اثنتين ومائة، ومات وهو ابن سبع وثمانين.
وكان من الحمد في ولايته القضاء ومن القبول لأهلها إياه، ومن عفته عن أموالهم ومن سلامته في أحكامه، ومن اضطلاعه بذلك على نهاية ما يكون عليه مثله، حتى لو كانت أخلاقه ومذاهبه هذه فيمن تقدم لكان يبين بها عن كثيرٍ منهم.
وكان الأمير أحمد بن طولون من المعرفة بحقه، والميل إليه والتعظيم لقدره على نهاية، وكان يأتي إليه وهو يملي على الناس الحديث على كثرة من كان يحضر مجلسه، فيمنع حاجبه مستمليه من الانقطاع عن الاستملاء عليه؛ ثم يصعد إليه إلى المجلس الذي كان يحدث فيه، فيقعد مع الناس فيه ويستتم بكارٌ مجلسه وهو حاضر، ثم لا يقطعه بحضوره إياه؛ فلم يزل كذلك حتى أراد منه أحمد طولون خلع أبي أحمد الموفق ولعنه، فأبى ذلك عليه، فلما رأى أحمد بن طولون أنه لا يلتئم له منه ما يحاوله منه ألب عليه سفهاء أهل الأحباش ومن سواهم من العوام، وجعله لهم خصماً.
وكان يقعد له من يقيمه بين يديه مع من يخاصمه مقام الخصوم فلا يأبى ذلك ويقوم بالحجة لنفسه.
وكان أحمد قد حبس القاضي بكاراً بالمرفق في القماحين.
قال:(5/238)
فأدخل إليه فقال: هذا رجل كان يزعم أنه قاضي المسلمين خمسةً وعشرين سنة، وقد غصبني داري وهو ساكنها الآن ولي عليه من أجرتها خمسة دنانير؛ فسئل القاضي بكار عن ذلك فقال: لا أدري ما يقول هذا الرجل، أنا لم أنزل هذه الدار، وإنما أنزلتها كرهاً، فإن كان مغصوباً فالذي غصبه هو الذي أنزلنيها.
وهذا في الجملة كلامٌ محال، ما ظننته يجوز على أحد، لأني إن كنت غاضباً فما له علي أجرة معلومة، ولئن كانت له علي أجرة بسكناي داره فما أنا غاضب.
قال: فأمر للذي كان يخاصم إليه بخمسة دنانير فدفعت إلى الذي خاصمه ما كان يلبسه للجمعة وخرج إلى الباب يريد الرواح منه فيقول له الموكلون به: ارجع، فيقول: اللهم اشهد، ثم يرجع.
فلم يزل كذلك فيها حتى توفي أحمد بن طولون؛ فبقي هو فيها بعد ذلك حتى توفي وأخرجت جنازته بعد العصر وكثر الناس وفيهم أصحاب أحمد بن طولون قد غطوا رؤوسهم حتى لا يعرفوا وزادت الجماعة من غير أن يرى في الناس راكبٌ واحد، فشهده أكثر ممن شهد العيد بوقارٍ وسكينة.
بكار بن محمد
حدث عبد الله بن سعيد بن يحيى الرقي قاضي فارس قال: كتبت إلي والدتي مرية بنت مروان بن يزيد بن عبد الملك بن عياض بن غنم القرشية من الرقة وأنا على قضاءٍ تستر تقول: حدثتني والدتي عاتكة بنة بكار عن أبيها بكار بن محمد قال: دخلت على هشام بن عبد الملك بالرصافة وهو جالسٌ في قبته الخضراء وعنده ابن شهاب الزهري: فحدثنا ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما ترك عبد الله أمراً لا يتركه إلا لله تعالى إلا عوضه الله منه ما هو خيرٌ له منه في دينه ودنياه ".
قالت العجوز: فآثرني على ما أنت فيه يعوضك الله تعالى ويؤثرك.
وكتب إلي في أسفل كتابها لنفسها: " من الطويل "
عجوزٌ بأرض الرقتين وحيدةٌ ... لنأيك بالأهواز ضاق بها الذرع
وقد ماتت الأعضاء من كل جسمها ... سوى دمع عينيها فلم يمت الدمع(5/239)
تراعي الثريا ما تلذ بغمضها ... إلى أن يضيء الصبح أنجمه السبع
وكم في الدجى من ذي همومٍ مقلقل ... وآخر مسرورٍ يدر له الضرع
ومن أضحتكه الدار وهي أنيسةٌ ... بكاها إذا ما ناب من حادثٍ قرع
بكر بن أحمد بن حفص بن عمر
ابن عثمان بن سليمان، أبو محمد التنيسي المعروف بالشعراني.
سمع بدمشق جماعة.
حدث عن محمد بن عوف بسنده، عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإخصاء وقال: " فيه نماء خلق الله تعالى ".
بكر بن سهل بن إسماعيل بن نافع
أبو محمد الدمياطي مولى بني هاشم، سمع بدمشق.
حدث عن عبد الله بن يوسف بسنده، عن عقبة بن عامر، أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الذي يسر بالقرآن كالذي يسر بالصدقة، والذي يجهر بالقرآن كالذي يجهر بالصدقة ".
وحدث أيضاً بكر بن سهل - وكان شيخاً مربوعاً أسمر، كبير الأذنين حدث بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من عبدٍ يمر بقبر كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه ".
وفي رواية: ورد عليه السلام.
توفي بدمياط في ربيع الأول سنة تسعٍ وثمانين ومائتين.
وقيل: إنه مات في ربيع الآخر بالرملة بعد عوده من الحج، وإن مولده سنة ستٍ وتسعين ومائة.
وكان قد جمع له بالرملة خمس مائة دينار ليقرأ عليهم التفسير فامتنع وقدم بيت المقدس، فجمع له من الرملة ومن بيت المقدس ألف دينار، فقرأ عليهم الكتاب ومات في هذه السنة.(5/240)
بكر بن شعيب بن بكر بن محمد
ابن أيوب بن عبد الرحمن أبو الوليد القرشي.
روى عن أبي بكر القاسم بن عيسى العصار بسنده، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " التمسوا ليلة القدر في السبع الأواخر ".
وحدث عن سعيد بن عبد العزيز بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول ".
توفي أبو الوليد يوم السبت لستٍ خلون من جمادى سنة أربعٍ وخمسين وثلاث مائة.
بكر بن عبد العزيز بن إسماعيل
ابن عبيد الله بن أبي المهاجر أبو عبد الحميد القرشي المخزومي.
مولاهم.
حدث عن سليمان بن أبي كريمة، عن حيار مولى أم الدرداء عن أم الدرداء قالت: خرج أبو الدرداء يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوجد جماعةً من العرب يتفاخرون، قال: فاستأذنت، فأذن لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: " يا أبد الدرداء ما هذا اللجب الذي أسمع؟ " قال: قلت: يا رسول الله هذه العرب تتفاخر فيما بينها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا الدرداء إذا فاخرت ففاخر بقريش، وإذا كاثرت فكاثر بتميم، وإذا حاربت فحارب بقيس، إلا أن وجوهها كنانة، ولسانها أسد، وفرسانها قيس؛ إن لله يا أبا الدرداء فرساناً في سمائه يقاتل بهم أعدائه، وهم الملائكة، وفرساناً في الأرض يقاتل بهم أعداءه وهم قيس، يا أبا الدرداء، إن آخر من يقاتل عن الإسلام حين لا يبقى إلا ذكره، ومن القرآن إلا رسمه لرجلٌ من قيس ".
قال: قلت: يا رسول الله من أي قيس؟ قال: " من سليم ".(5/241)
قيل لعبد الملك بن مروان: من أفضل قريش؟ قال: بنو هاشم، قيل: ثم من؟ قال: ثم بنو أمية، قيل: ثم من، قال: بنو مخزوم، قيل: ثم من؟ قال: قريشٌ بعد هؤلاء كأسنان المشط.
بكر بن عمرو المعافري المصري
إمام المسجد الجامع بمصر.
حدث عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو كان بعدي نبيٌ لكان عمر بن الخطاب ".
توفي بكر بن عمرو في خلافة أبي جعفر المنصور، وكانت له عبادةٌ وفضل.
حدث بكر عن عمرو: أنه لم ير أبا أمامة - يعني ابن سهل - واضعاً إحدى يديه على الأخرى قط، ولا أحدٌ من أهل المدينة حتى قدم الشام فرأى الأوزاعي وناساً معه يضعونه.
بكر بن محمد بن بكر بن خريم
أبو القاسم المزي الطرائفي المعدل.
حدث بدمشق عن أبي الحسن أحمد بن عمير بن يوسف بن جوصا بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا "، قالوا: يا رسول الله، وما رياض الجنة؟ قال: " حلق الذكر ".
ولد بكر بن محمد سنة تسعٍ وثلاث مائة.(5/242)
بكر بن محمد بن علي بن حيد
ابن عبد الجبار بن النضر بن مسافر بن قصي، أبو المنصور التاجر النيسابوري.
حدث عن أبي الحسين أحمد بن محمد بن عمرو الخفاف بسنده، عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يدخر شيئاً لغدٍ.
قال أبو بكر الخطيب: سمعت ابن حيد يقول: ولدت في سنة ست وثمانين وثلاث مائة.
وحيد بكسر الحاء المهملة والياء باثنتين من تحتها.
وكان بكر ثقة، حسن الاعتقاد، صحيح المذهب، كثير الدرس للقرآن، محباً لأهل الخير، متفقداً للفقراء بالبر والإرفاق.
مات بالري سنة أربعٍ وستين وأربع مائة.
بكر بن مصعب
دخل دمشق وسئل عنها، فقال: هي جنة الدنيا للمطيع لله، إذا مات بها لا يقال له: استراح من الدنيا، يعني أنه كان في جنة فانتقل إلى جنة.
بكير بن ماهان أبو هاشم الحارثي
أحد دعاة بني العباس.
روي عن بكير بن ماهان أنه قال: يلي من ولد العباس أكثر من ثلاثين رجلاً، ستةٌ منهم يسمون باسم واحد، وثلاثةٌ باسم واحد، يفتح أحد الثلاثة القسطنطينية.(5/243)
قال محمد بن جرير الطبري: وفي سنة ثماني عشرة ومائة وجه بكير بن ماهان عمار بز يزيد إلى خراسان والياً على شيعة بني العباس، فنزل فيما ذكر مرو، وغير اسمه وتسمى بخداش، ودعا إلى محمد بن علي، فسارع إليه الناس وقبلوا ما جاءهم به، وسمعوا له وأطاعوا، ثم غير ما دعاهم إليه، وتكذب وأظهر دين الخرمية ودعا إليه، ورخص لبعضهم في نساء بعض وأخبرهم أن ذلك عن أمر محمد بن علي؛ فبلغ أسد بن عبد الله خبره، فوضع عليه العيون حتى ظفر به، فأتي به وقد تجهز لغزو بلخ، فسأله عن حاله، فأغلظ خداش له القول؛ فأمر به فقطعت يده، وقطع لسانه، وسمل عينيه.
فذكر محمد بن علي عن أشياخه قال: لما قدم أسد آمل في مبدئه أتوه بخداش صاحب الهاشمية، فأمر به قرعة الطبيب فقطع لسانه وسمل عينيه وقال: الحمد لله الذي انتقم لأبي بكر وعمر منك.
ثم دفعه إلى يحيى بن نعيم الشيباني عامل آمل، فلما قفل من سمرقند كتب إلى يحيى فقتله وصلبه بآمل.
بكير بن محمد بن بكير
أبو القاسم المنذري الطرسوسي حدث بدمشق.
وروى عن أبي القاسم علي بن يعقوب بن إبراهيم المعروف بابن أبي العقب، عن عيسى بن عبد الله، عن نعمان وهو المتعبد قال: سمعت ابن عاصم يقول: من لم ينتهز البغية عند إمكان الفرصة عض على الندم عند فوات الإمكان، فلا إمكان كسلامة الأبدان في الأيام الخالية؛ فمن أحب أن يكون في الدنيا حكيماً مؤدباً، وفي الآخرة ملكاً متوجاً فليقبل مني ثلثا خلال: ينفي عن قلبه سلطان الطمع بالإياس؛ ويميت من قلبه سورة الغضب بالتواضع لله عز وجل؛ والثالثة رأس كل خير هي ابتداؤه ووسطه وتمامه: يؤثر دلالة العقل والعلم على جلب الهوى يقع به الحق حيث كان.(5/244)
بكير بن معروف أبو معاذ
ويقال: أبو الحسن الأسدي الدامغاني قاضي نيسابور، سكن دمشق.
قال بكير بن معروف: أخذ بيدي إبراهيم الصايغ فذهب به إلى أبي الزبير فسألته فقال أبو الزبير: حدثني ابن عم لأبي هريرة يقال له عبد الرحمن عن أبي هريرة أن ماعزاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: طهرني يا رسول الله، فإني قد زنيت.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أو تدري ما الزنى؟ " فقال: أصبت امرأة حراماً ما يصيب الرجل من امرأته.
قال: فطرده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم عاد، فطرده ثم عاد، فطرده قال: ثم عاد، فطرده، ثم عاد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتدري ما الزنى؟ " قال: نعم، أصبت من امرأةٍ حراماً ما يصيب الرجل.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أدخلت وأخرجت؟ " قال: نعم.
قال له " أربع مرات، قال: نعم.
قال: فأمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجم؛ فاضطرته الحجارة إلى شجرة، حتى قتل؛ فمر به رجلان فقالا: انظر إلى هذا أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطرده، ثم أتاه فطرده، فلم يذهب حتى قتل كما يقتل الكلب ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع، فسار ساعة فمر بحمار ميت، شائلٍ برجله فقال لهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلا من هذا الحمار ".
فقالا: وهل يؤكل من هذا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفسي بيده، إنه لفي نهر من أنهار الجنة يتقمص فيه " فقال له هزال: أنا أمرته أن يأتيك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو سترته بملحفتك كان خيراً ".
وحدث بكير عن معروف عن مقاتل بن حيان بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بن مسعود " قلت: لبيك يا رسول الله، قال: " هل تدري أوثق عرى الإيمان؟ "(5/245)
قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: " الولاية في الله، والحب في الله، والبغض في الله ".
توفي بكير بن معروف سنة ثلاثٍ وستين ومائة.
بلعم ويقال بلعام بن باعوراء
ويقال: ابن أبر، ويقال: ابن أوبر، ويقال: ابن باعر بن شتوم بن قرشيم بن ماب بن لوط بن حران بن آزر.
كان يسكن قرية من قرى البلقاء، وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم، فانسلخ من دينه.
له ذكر في القرآن.
قال قتادة في قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قيل: بلعم، وقيل أمية بن أبي الصلت.
وقال الكلبي: " ولكنه أخلد إلى الأرض " قال: مال إلى الدنيا وركن إليها، فمثله " كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " فذلك الكافر هو ضالٌّ وعظته أو لم تعظه.
وقال كعب الأحبار: هو بلعم، وكان رجلاً من أهل البلقاء، وكان بلغه اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وكان من الجبابرة الذين كانوا ببيت المقدس.
وقال ابن عباس: في قوله تعالى " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " قال:(5/246)
هو رجلٌ كان في بني إسرائيل أعطي ثلاث دعواتٍ يستجاب له فيهن ما يدعو به، وكانت له امرأة، له منها ولد، وكانت سمجةً دميمة، قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأةٍ من بني إسرائيل؛ فدعا الله لها، فلما علمت أن ليس في بني إسرائيل مثلها رغبت عن زوجها وأرادت غيره؛ فلما رغبت عنه دعا الله أن يجعلها كلبةً نباحة؛ فذهبت منه فيها دعوتان؛ فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر! أن صارت أمنا كلبةً نباحة يعيرنا الناس بها، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولاً؛ فدعا الله فعادت كما كانت، فذهبت فيها الدعوات الثلاث، فسميت البسوس.
فقيل: أشأم من البسوس.
قال أبو الفرج: المشهور عند أهل السير والأخبار أن البسوس التي يقال من أجلها: أشأم من البسوس: الناقة التي جرى فيما جرى من أمرها حرب داحس والغبراء.
والمعروف من قول أهل التأويل أن قوله عز وجل: " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " عنى به بلعم بن باعوراء الذي دعا للجبارين على موسى وبني إسرائيل.
وقال بعضهم نزلت في أمية بن أبي الصلت.
قال مقاتل بن سليمان: سمعت من حدثني عن كعب الحبر، وعن جماعة من الرواة، كلهم عن بلعم بن باعوراء.
وزاد بعضهم على بعض قالوا: إن بلعم بن باعوراء كان ينزل قريةً من قرى البلقاء - وفي رواية يقال لها بالعة - وكان يحسن اسم الله الأعظم، وكان متمسكاً بالدين، وإن موسى لما نزل أرض كنعان من الشام بين أريحا وبين الأردن، وجبل البلقاء والتيه، فيما بين هذه المواضع، قال: فأرسل إليه بالق الملك فقال: إنا قد رهبنا من هؤلاء القوم - يعني موسى بن عمران - وإنه قد جاز البحر ليخرجنا من بلادنا وينزلها بني إسرائيل، ونحن قومك وليس لك بقاءٌ بعدنا، ولا خير لك في الحياة بعدنا، وأنت رجلٌ مجاب الدعوة فاخرج فادع عليهم، فقال بلعم: ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أدعو الله عز وجل عليهم، وأنا أعلم من الله ما أعلم! وإني لا أدخل في شيء من أموركم فاعذروني.
فقالوا له: ما لنا من متركٍ في هذه الحال.
فلم يزالوا يترفقون به ويتضرعون إليه، قال بعضهم وكانت له امرأةٌ يحبها ويطيعها(5/247)
وينقاد لها فدسوا لها هدايا فقبلتها، ثم أتوها فقالوا لها: قد نزل بنا ما ترين، فيجب أن تكلمي بلعام فإنه مجاب الدعوة فيدعو الله عز وجل فإنه لا خير فيه بعدنا.
فقالت له: إن لهؤلاء القوم حقاً وجواراً وحرمة، وليس مثلك أسلم جيرانه عند الشدائد، وقد كانوا مجملين في أمرك وأنت جديرٌ أن تكافئهم وتهتم بأمرهم! فقال لها: لولا أني أعلم أن هذا الأمر من الله عز وجل لأجبتهم.
فقالت: انظر في أمورهم ولينفعهم جوارك.
فلم تزل به حتى ضل وغوى، وكان الله عز وجل عزم له في أول أمره على الرشد ففتنته فافتتن، فركب حمارة فوجهها إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل، فلما سار غير بعيد ربضت به حمارته فنزل عنها فضربها حتى أذلقها، فقامت فلم تسر إلا قليلاً حتى ربضت، ففعل بها بمثل ذلك، فقامت فلم تسر إلا قليلاً حتى ربضت، فضربها حتى أذلقها، فقامت فأذن لها فكلمته فقالت: يا بلعم أني مأمورة فلا تظلمني، فقال لها: ومن أمرك؟ قالت: الله عز وجل أمرني، انظر إلى ما بين يديك، ألا ترى إلى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا يقولون: أتذهبين إلى نبي الله والمؤمنين يدعو عليهم بلعم؟! فقال بعضهم: إن الحمارة قالت: ألا ترى الوادي أمامي قد اضطرم ناراً؟ قال: فخلى سبيلها ثم انطلق حتى أشرف على رأس جبلٍ مطلٍّ على بني إسرائيل، فجعل يدعو عليهم، فلا يدعو بشيءٍ من سوء إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله عز وجل لسانه إلى بني إسرائيل، وجعل يترحم على بني إسرائيل ويصلي على موسى، فقال له قومه: يا بلعم أتدري ما تصنع؟ إنما تدعو لهم، فقال: هذا ما لا أملك وهذا شيءٌ قد غلب الله عز وجل عليه.
وأدلع لسانه.
فقيل: إنه جاءته لمعةٌ فذهبت ببصره فعمي، فقال لهم: قد ذهبت الدنيا والآخرة مني، ولم يبق إلا المكر والحيلة، وليس إليهم سبيل، وسأمكر لكم وأحتال لهم: اعلموا أنهم قومٌ إذا أذنب مذنبهم ولم تغير عامتهم عمهم البلاء.
فقالوا له: كيف لنا بشيء يدخل عليهم منه ذنب يعمهم من أجله العذاب؟ قال: تدسون في عسكرهم النساء، فإني لا أعلم أوشك صرعةً للرجل من المرأة؛ فانظروا نساءً لهن جمال، فأعطوهن(5/248)
السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر تبيعها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأةٌ نفسها من رجلٍ إذا أرادها، فإنهم إن زنى منهم رجلٌ كفيتموهم؛ ففعلوا ذلك، فلما دخل النساء العسكر مرت امرأةٌ من الكنعانيين إسمها كبسى بنة صوريا برأس سبط بن شمعون بن يعقوب وهو زمري بن شولوا فقام إليها فأخذ بيدها حتى أعجبه جمالها، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى فقال: إني لأظنك يا موسى ستقول هذا حرامٌ عليك! فقال موسى: أجل إنها حرام فلا تقربها، فقال: والله لا أطيعك في هذا؛ ثم دخل بها قبته فوقع عليها.
فأرسل الله عز وجل الطاعون في بني إسرائيل.
وكان فنحاص بن العيزار بن هارون، وهو صاحب أمر موسى، وكان رجلاً قد أوتي بسطةً في الخلق وقوةً في البطش، وكان غائباً حين صنع زمري بن شولوا ما صنع؛ فجاء والطاعون قد وقع في بني إسرائيل، فأخبر الخبر، فأخذ حربته وكانت حربته من حديد كلها، فدخل عيلهما القبة وهما مضطجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما وقد رفعهما إلى السماء بحربته قد أخذها بذراعيه واعتمد بمرفقيه على خاصرته وأسند الحربة إلى لحيته فجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن عصاك.
فرفع الله عز وجل الطاعون بينهم.
فحسب من هلك في الطاعون سبعون ألفاً من بني إسرائيل.
فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحةٍ يذبحونها القبة والذراع واللحي لاعتماده بالحربة على خاصرته وأخذه إياها بذراعيه وإسناده إياها إلى لحيته، والبكر من أموالهم وأنفسهم لأنك كان البكر من ولد هارون.
وقال بعض الرواة: إن بلعم أخذ أسيراً فأتي به موسى - على نبينا وعليه الصلاة السلام - فقتله.
وهكذا كانت سنتهم، وفيه نزلت " واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا " إلى قوله " لعلهم(5/249)
يتفكرون " فيعرفون أنه لم يأت بهذا الخبر عما مضى فيهم إلا نبي يأتيه خبر السماء.
وروي عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال، إن كان قاله: كان مثل بلعم بن باعوراء في بني إسرائيل كمثل أمية بن أبي الصلت في هذه الأمة.
بنان بن حازم أبو عبد السلام
حدث ببعلبك عن ثور بن يزيد عن مدرك بم عبد الله الكلاعي عن كعب قال: إن خيار هذه الأمة خيار الأولين والآخرين، إن من هذه الأمة رجالاً إن أحدهم ليخر ساجداً لا يرفع رأسه حتى يغفر الله لمن خلفه فضلاً عنه.
وكان كعب يتحرى الصفوف المؤخرة رجاء أن يكون من أولئك.
بندار بن عبد الله الهمذاني الصوفي
حدث بدمشق عن أبي الحسن عبد العزيز بن داود بسنده، عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" إن الله لا ينز ع العلم من الناس بعد أن يعطيهم إياه، ولكن يذهب بالعلماء، كلما ذهب بعالم أذهب ما معه من العلم، حتى يبقى من لا يعلم فيضلوا ".
وفي رواية " فيضلوا ويضلوا ".
بندار بن عمر بن محمد بن أحمد
أبو سعيد التميمي الروياني.
قدم دمشق وحدث بها وبغيرها.
حدث عن أبي محمد عبد الله بن جعفر الخبازي بسنده، عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خمس ليال لا ترد فيهن الدعوة: أول ليلةٍ من رجب؛ وليلة النصف من شعبان؛ وليلة الجمعة؛ وليلة الفطر؛ وليلة النحر ".(5/250)
بلال بن جرير بن عطية
ابن الخطفى، واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة التميمي اليربوعي الكلبي، من البصرة، شاعر بن شاعر.
وفد على بعض خلفاء بني أمية.
ولي بلال السعاية على تيم والرباب، فمر بمنازل بني تيم بن عبد مناة بن أد، فلبس النساء بتوتهن، ورفعن سجوفهن، وتزين جهدهن وقلن: مرحباً بابن جرير، انزل فلك ما شئت من شواءٍ وأقطٍ وتمرٍ وسمن، فأما الطحين فطار فلا طحين، يردن بذلك ما قال فيهن جرير:
إذا أخذت تيميةٌ هادي الرحا ... تنفس قنباها فطار طحينها
قال: فاستحيا بلال فعدل عنهن وبه حاجةٌ إلى النزول عندهن.
بلال بن الحارث بن عكم
ابن سعد بن قرة بن مازن بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور، ويقال: بلال ابن الحارث بن عصم بن سعيد، أبو عبد الرحمن المزني.
صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من أهل بادية المدينة.
شهد الفتح، وكان يحمل أحد ألوية مزينة، وكان فيمن غزا دومة الجندل مع خالد بن الوليد.
حدث بلال بن الحارث المزني عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الرجل ليتكلم الكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة؛ وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها من سخطه إلى يوم يلقاه ".(5/251)
وحدث علقمة بن وقاص الليثي أن بلال بن الحارث المزني قال له: إني رأيتك تدخل على هؤلاء الأمراء وتغشاهم، فانظر ماذا تحاضرهم به، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الخير، ما يعلم مبلغها، فيكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها، فيكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه ".
فكان علقمة يقول: رب حديثٍ قد حال بيني وبينه ما سمعت من بلال.
وحدث علقمة أيضاً قال: أقبلت راكباً وناداني بلال بن الحارث المزني، فوقفت له حتى جاءني فقال: يا علقمة إنك أصبحت اليوم وجهاً من وجه المهاجرين، وإنك تدخل على هذا الإنسان - يعني مروان - وإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يكون بعدي أمراء، من دخل عليهم فليقل حقاً، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة يرضي بها السلطان فيهوي بها أبعد من السماء ".
توفي بلال سنة ستين في أواخر أيام معاوية وهو ابن ثمانين سنة.
ويقال: إن بلال بن الحارث أول من قدم من مزينة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجالٍ من مزينة في رجب سنة خمسٍ من الهجرة.
وقدم بلال بن الحارث مصر لغزو إفريقية سنة سبعٍ وعشرين.
وكانت مزينة في غزو إفريقية أربع مائة، كان لواؤهم على حدة يحمله بلال بن الحارث.
قال الواقدي: سمعنا أن بلال بن الحارث أول من قدم من وفد مزينة في رجب سنة خمس، فقال: يا رسول الله إن لي مالاً لا يصلحه غيري، فإنا كان الإسلام لا يكون إلا لمن هاجر بعنا أموالنا ثم هاجرنا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حيث ما كنتم اتقيتم الله لم يلتكم من أعمالكم شيئاً ".
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع بلال بن الحارث معادن القبيلة جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم.
وكتب له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلال بن الحارث المزني، أعطاه معادن القبيلة جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع من قدس ولم يعطه حق مسلم ".(5/252)
الغوري: ما كان من بلاد تهامة، والجلسي: ما كان من أرض نجد.
قال عبد الله بن أبي بكر:
جاء بلال بن الحارث المزني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستقطعه أرضاً، فقطعها له طويلةً عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال إنك استقطعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرضاً عريضةً طويلةً فقطعها لك، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يمنع شيئاً يسأله، وإنك لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، قال: فانظر ما قويت عليه منها فأمسكه، وما لم تطق فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله، شيءٌ أقطعنيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عمر: والله لتفعلنّ.
فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين.
بلال بن رباح أبو عبد الكريم
ويقال: أبو عبد الله، ويقال: أبو عمرو الحبشي.
مولى أبي بكر الصديق، وهو ابن حمامة وهي أمه، مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، من المهاجرين الأولين الذين عذبوا في الله عز وجل.
سكن دمشق ومات بها سنة عشرين ابن بضعٍ وتسعين.
حدث بلال قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توضأ ومسح على الخفين والخمار.
وروى أبو بكر الصديق عن بلال، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أصبحوا بالصبح، فإنه أعظم للأجر ".(5/253)
شهد بلالٌ بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يعقب.
وكان مولدا من مولدي بني جمح، اشتراه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأعتقه.
قال الوضين بن عطاء: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر اعتزلا في الغار، فبينما هما كذلك إذ مر بهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان، وبلال مولد من مولدي مكة، قال: وكان لعبد الله بمكة مائة مملوكٍ مولد؛ فلما بعث الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بهم فأخرجوا من مكة إلا بلالاً يرعى عليه غنمه تلك؛ فأطلع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه من ذلك الغار فقال: " يا راعي، هل من لبن؟ " فقال بلال: ما لي إلا شاةٌ منها قوتي، فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إيت بها.
فجاء بها، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقعبه، فاعتقلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلب في القعب حتى ملأه، فشرب حتى روي، ثم حلب حتى ملأه، فسقى أبا بكر، ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالاً حتى روي، ثم أرسلها وهي أحفل ما كانت، ثم قال: " يا غلام، هل لك في الإسلام؟ فإني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
فأسلم، وقال: " أكتم إسلامك ".
ففعل وانصرف بغنمه، وبات بها وقد أضعف لبنها، فقال له أهله: لقد رعيت مرعىً طيباً فعليك به، فعاد إليه ثلاثة أيام يستقيهما ويتعلم الإسلام، حتى إذا كان اليوم الرابع، فمر أبو جهل بأهل عبد الله بن جدعان فقال: إني أرى غنمكم قد نمت وكثر لبنها! فقالوا: قد كثر لبنها منذ ثلاثة أيام وما نعرف ذلك منها! فقال: عبدكم ورب الكعبة يعرف مكان ابن أبي كبشة، فامنعوه أن يرعى ذلك المرعى؛ فمنعوه من ذلك المرعى.
ودخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة فاختفى في دارٍ عند المروة، وأقام بلالٌ على إسلامه، فدخل يوماً الكعبة وقريشٌ في ظهرها لا يعلم، فالتفت فلم ير أحداً، أتى الأصنام وجعل يبصق عليها ويقول: خاب وخسر من عبدكن فطلبته قريشٌ فهرب حتى دخل دار سيده عبد الله بن جدعان فاختفى فيها، ونادوا عبد الله بن جدعان فخرج فقالوا: أصبوت؟ قال: ومثلي يقال له هذا! فعلي نحر مائة ناقةٍ للات والعزى، قالوا: فإن أسودك صنع كذا وكذا، فدعا(5/254)
به، فالتمسوه فوجدوه، فأتوه به فلم يعرفه، فدعا خوليه فقال: من هذا؟ ألم آمرك أن لا يبقى بها أحداً من مولديها إلا أخرجته؟ فقال: كان يرعى غنمك، ولم يكن أحدٌ يعرفها غيره؛ فقال لأبي جهل وأمية بن خلف: شأنكما به فهو لكما، اصنعا به ما أحببتما.
فخرجا به إلى البطحاء يبسطانه على رمضائها، ويجعلان رحاً على كتفيه ويقولان: اكفر بمحمد، فيقول: لا، ويوحد الله، فبينما هما كذلك إذ مر بهما أبو بكر، فقال: ما تريدان بهذا الأسود؟ والله ما تبلغان به ثأراً، فقال أمية بن خلف لأصحابه: ألا ألعبنكم بأبي بكر لعبةً ما لعبها أحدٌ بأحد، ثم تضاحك وقال: هو على دينك يا أبا بكر فاشتره منا، فقال: نعم، فقال: أعطني عبدك نسطاساً - ونسطاس عبد لأبي بكر، حداد يؤدي خراجه نصف دينار - فقال أبو بكر: إن فعلت تفعل؟ قال: نعم، قال: فذلك لك، قال: فتضاحك وقال: لا والله حتى تعطين ابنته مع امرأته، قال: إن فعلت تفعل؟ قال: نعم، قال: قد فعلت، قال: فتضاحك وقال: لا والله حتى تزيدني معه مائتي دينار، قال أبو بكر أنت رجلٌ لا تستحي من الكذب، قال: لا واللات والعزى، لئن أعطيتني لأفعلن، فقال: هي لك، فأخذه.
قال زر: قال عبد الله: أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعمار وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد.
فأما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمنعه الله بعمه أبي طالب؛ وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد وصفدوهم في الشمس؛ وما منهم أحدٌ إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلالاً، فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأعطوه الولدان يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحدٌ أحد.(5/255)
قال عمرو بن عبسة: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: من تابعك على أمرك؟ قال: " حرٌّ وعبد ".
يعني أبا بكر وبلالاً، فكان عمر يقول بعد ذلك: ولقد رأيتني وإني لربع الإسلام.
وحدث هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمر ببلال وهو يعذب على الإسلام وهو يقول: أحدٌ أحد، فيقول ورقة: أحدٌ أحد والله يا بلال! ثم يقبل على من يفعل ذلك به من بني جمح وعلى أمية فيقول: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً، يقول: لأتمسحن به.
قال عامر: كان موالي بلال يأخذونه فيضجعونه في الشمس ثم يأخذون الحجر فيضعونه على بطنه ويعصرونه ويقولون: دينك اللات والعزى، فيقول: ربي الله، ويقول: أحدٌ أحد، فقال: وايم الله لو أعلم كلمةً هي أغلظ لكم منها لقلتها، قال: فمر أبو بكر الصديق بهم، فقالوا: يا أبا بكر أل تشتري أخاك في دينك؟ قال: بلى، فاشتراه بأربعين أوقية فأعتقه.
وفي حديث آخر: أن أبا بكرٍ قال لعباس: اشتر أنت بلالاً، فاشتراه وبعث به إلى أبي بكر فأعتقه؛ فكان يؤذن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يخرج إلى الشام فقال أبو بكر: بل عندي، فقال: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لله فذرني أذهب إلى الله.
قال: فخرج إلى الشام فأقام بها حتى مات.
وقيل: إن أبا بكر رضي الله عنه اشتراه بسبع أواقي ثم أعتقه، ثم انطلق إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله اشتريت بلالاً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشركة يا أبا بكر ".
فقال: قد أعتقته(5/256)
يا رسول الله، فبلغ أبا بكر أنهم قالوا: اشتراه منا بسبع أواقي، لو أبى إلا أوقية لبعناه إياه.
فقال أبو بكر: لو أبوا إلا مائة أوقية لاشتريته بها.
قال مسلم بن صبيح: قال أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا قد كثرنا فلوا أمرت كل عشرةٍ منا فبيتوا رجلاً من صناديد قريش ليلاً فأخذوه فقتلوه، فتصبح البلاد لنا؟ فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك حتى رئي في وجهه، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، أبناؤنا، آباؤنا، إخواننا، فما زال عثمان يردد ذلك حتى ساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قولهم الأول، ورئي في وجهه حتى رفض ذلك، وأخذنا المشركون حين أمسينا، فما من أحدٍ من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد أعطى الفتنة غير بلال قال: الأحد الأحد.
حدث الأصمعي عن العمري قال: أول من أذن بلال، وأول من ابتنى مسجداً يصلى فيه عمار بن ياسر، وأول من رمى بسهم في سبيل الله سعد بن أبي وقاص وأول من تغنى بالحجاز المصطلق أبو خزاعة، وإنما سمي المصطلق لحسن صوته.
وفي حديث آخر:
وأول من عدا به فرسه في سبيل الله المقداد بن الأسود، وأول من أفشى بمكة القرآن عبد الله بن مسعود، وأول من استشهد من المسلمين يوم بدر مهجع مولى عمر، وأول حيٍّ آلفوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جهينة، وأول حيٍّ أدوا الزكاة طائعين من أنفسهم بنو عذرة بن سعد.
وعن خباب بن الأرت في قوله عز وجل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " إلى " الظالمين " قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا(5/257)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعداً مع بلال وصهيب وخباب وناسٍ من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلساً يعرف لنا به العرب فضلنا، فإن وفود العرب ترد عليك فنستحي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت.
قال: " نعم ".
قالوا: فاكتب لنا عليك كتاباً، قال: فدعا بالصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبريل عليه السلام " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شيء، وما من حسابك عليهم من شيءٍ فتطردهم فتكون من الظالمين " ثم قال: " وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلامٌ عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " فرمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصحيفة من يده، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول: " سلامٌ عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة " فدنونا منه يومئذٍ حتى وضعنا ركبنا على ركبته، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجلس معنا، فإذا أراد يقوم قام وتركنا، فأنزل الله عز وجل: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " قال: تجالس الأشراف " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " قال: عيينة والأقرع " واتبع هواه وكان أمره فرطا " قال: هلاكاً.
ثم ضرب لهم مثلاً رجلين كمثل الحياة الدنيا، قال: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقعد معنا، فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه، وإلا صبر أبداً حتى نقوم.
قالت عائشة: لما قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وعك أبو بكر وبلال، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول: " من الرجز "
كل امرئ مصبحٌ في أهله ... والموت أدنى من شراك نعله
قال: وكان بلال إذا أقلع عنه رفع عقيرته يقول: " من الطويل "(5/258)
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً ... بوادٍ وحولي إذخرٌ وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنةٍ ... وهل يبدون لي شامةٌ وطفيل
اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء.
ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، اللهم بارك لنا في صاعها ومدها، وصححها لنا وانقل حماها إلى الجحفة ".
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اشتاقت الجنة إلى ثلاثة: إلى علي، وعمار، وبلال ".
وعن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لم يكن نبيٌ قبلي إلا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، وإني أعطيت أربعة عشر: حمزة وجعفر وعليٌ وحسن وحسين وأبو بكر وعمر والمقداد وحذيفة وسلمان وعمار وبلال "، سقط ذكر ابن مسعود وأبي ذر، وهما تمام الأربعة عشر.
وعن أبي هريرة قال: قال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال عند صلاة الفجر: " يا بلال أخبرني بأرجى عملٍ عملته منفعةً في الإسلام، فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة؟ " قال: ما عملت يا رسول الله في الإسلام عملاً أرجى عندي منفعةً من أني لم أتطهر طهوراً تاماً قط في ساعةٍ من ليلٍ أو نهار إلا صليت بذلك الطهور لربي ما كتب لي أن أصلي.
قال بريدة: أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعا بلالاً فقال: " يا بلال بم سبقتني إلى الجنة، ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشخشتك أمامي، إني دخلت البارحة الجنة فسمعت خشخشتك، فأتيت على قصرٍ من ذهب مربعٍ مشرف، فقلت: لمن هذا القصر؟ " قالوا: لرجل من العرب، قلت: " أنا عربي، لمن هذا القصر؟ " قالوا: لرجل من المسلمين من أمة محمد، قلت: " فأنا محمد لمن هذا القصر؟ " قالوا: لعمر بن الخطاب، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لولا غيرتك يا عمر(5/259)
لدخلت القصر ".
فقال: يا رسول الله ما كنت لأغار عليك، قال: وقال لبلال: " بم سبقتني إلى الجنة؟ " قال: ما أحدثت إلا توضأت وصليت ركعتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بهذا ".
وفي رواية: ولا أذنت قط إلا صليت ركعتين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بها ".
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دخلت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفةً أمامي فقلت: ما هذا يا جبريل؟ " قال: بلال.
خشفة: أي صوت.
وعن سويد بن عمير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حوضي أشرب منه يوم القيامة ومن اتبعني من الأنبياء، ويبعث الله ناقة ثمود لصالح فيحتلبها فيشربها والذين آمنوا معه حتى يوافوا بها الموقف معه ولها رغاء ".
قال: فقال له رجلٌ من القوم وأظنه معاذ بن جبل: يا رسول الله وأنت يومئذ على العضباء؟ قال: " لا ابنتي فاطمة على العضباء، وأحشر أنا على البراق فأختص به دون الأنبياء ".
قال: ثم نظر إلى بلال فقال: " يحشر هذا على ناقةٍ من نوق الجنة، فيقدمنا بالأذان محضاً، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله قالت الأنبياء مثلها: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله، فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، فمن مقبولٍ منه ومردودٍ عليه "، قال: " فيتلقى بحلة من حلل الجنة، وأول من يكسى يوم القيامة من حلل الجنة بعد الأنبياء الشهداء وصالح المؤذنين ".
وفي رواية: " وأول من يكتسي من حلل الجنة بعد النبيين والشهداء بلال وصالح المؤذنين ".
وعن ابن عمر أنه قال: أبشر يا بلال، فقال: بم تبشرني يا عبد الله بن عمر؟ فقلت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يجيء بلالٌ يوم القيامة معه لواءٌ يتبعه المؤذنون حتى يدخلهم الجنة ".(5/260)
وعن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم المرء بلال، ولا يتبعه إلا مؤمن، وهو سيد المؤذنين، والمؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة ".
وعن أنسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يحشر المؤذنون يوم القيامة على نوقٍ من نوق الجنة، يقدمهم بلال رافعي أصواتهم بالأذان، ينظر إليهم الجمع، فيقال: من هؤلاء؟ فيقال: مؤذنو أمة محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يخاف الناس ولا يخافون، ويحزن الناس ولا يحزنون ".
وعن سليمان بن بريدة قال: دخل بلالٌ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يتغدى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الغداء يا بلال ".
قال: إني صائم يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نأكل رزقنا، وفضل رزق بلال في الجنة، أشعرت يا بلال أن الصائم تسبح عظامه وتستغفر له الملائكة ما أكل عنده ".
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتخذوا السودان فإن ثلاثةً منهم من سادات الجنة: لقمان الحكيم، والنجاشي؛ وبلال المؤذن ".
قال الطبراني: أراد الحبش.
وفي روايةٍ في حديثٍ آخر: " سادة السودان أربعة: لقمان الحبشي؛ والنجاشي؛ وبلال؛ ومهجع ".
وعن عائذ بن عمرو، قال: مر أبو سفيان ببلال وسلمان وصهيب فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عنق هذا بعد مأخذها، فقال أبو بكر الصديق: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدها! فذهب أبو بكرٍ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أبا بكر لعلك أغضبتهم، لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ".
قال: فرجع أبو بكر فقال: يا إخوة! لعلكم غضبتم؟ قالوا: يغفر الله لك يا أبا بكر.(5/261)
وعن امرأة بلالٍ: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاها فسلم فقال: " أثمّ بلال؟ " فقالت: لا، قال: " فلعلك غضبى على بلال؟ " قالت: إنه يجيئني كثيراً فيقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما حدثك عني بلالٌ فقد صدقك بلال، بلال لا يكذب، لا تغضبي بلالاً، فلا يقبل منك عملٌ ما أغضبت بلالاً ".
حدث زيد بن أسلم أن بني أبي البكير جاؤوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: زوج أختنا فلاناً، فقال لهم: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا مرةً أخرى فقالوا: يا رسول الله أنكح أختنا فلاناً، فقال: " أين أنتم عن بلال؟ " ثم جاؤوا الثالثة فقالوا: أنكح أختنا فلاناً، فقال: " أين أنتم عن بلال، أين أنتم عن رجل من أهل الجنة! " قال: فأنكحوه.
وعن أبي أمامة قال:
عير أبو ذرٍ بلالاً بأنه فقال: يا بن السوداء! وأن بلالاً أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره، فغضب؛ فجاء أبو ذرٍ ولم يشغر، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما أعرضك عني إلا شيءٌ بلغك يا رسول الله، قال: " أنت الذي تعير بلالاً بأمه!؟ " قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي أنزل الكتاب على محمد - أو ما شاء الله أن يحلف - ما لأحدٍ على أحدٍ فضلٌ إلا بعمل، إن أنتم إلا كطف الصاع ".
وعن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " مثل بلال كمثل نحلةٍ عدت، تأكل من الحلو والمر، ثم هو حلو كله ".
وعن بلال قال: مررت على فاطمة - عليها سلام الله - وهي تعالج الرحا، قال: وابنها الحسين يبكي، قال: وحانت الصلاة، قال بلال: فقلت لفاطمة: أيما أعجب إليك؟ أكفيك الرحا أو الصبي؟ فقالت فاطمة: أنا ألطف بصبيي، قال: فأخذت بقية الطحن فطحنته عنها؛(5/262)
فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا بلال ما حبسك؟ " فقلت: يا رسول الله، مررت على فاطمة وهي تعالج الرحا فأعنتها على طحنها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رحمتها رحمك الله ".
وعن بلالٍ قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا بلال الق الله فقيراً ولا تلقه غنياً ".
قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: " إذا رزقت فلا تخبأ، وإذا سئلت فلا تمنع ".
قال: قلت: وكيف لي بذلك يا رسول الله؟ قال: " هو ذاك وإلا النار ".
وعن مجاهد: في وقله عز وجل: " ما لنا لا نرى رجالاً كنا نعدهم من الأشرار أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار " قال: يقول أبو جهل: أين بلال أين فلان أين فلان؟ كنا نعدهم في الدنيا من الأشرار، فلا نراهم في النار! أم هم في مكان لا نراهم فيه؟ أم هم في النار لا يرى مكانهم؟!.
وفي رواية: أين عمار، أين بلال؟.
وفي رواية عن ابن عباس: " كنا نعدهم من الأشرار " خباباً وبلالاً.
قال ابن أبي مليكة: لما كان يوم الفتح رقي بلالٌ فأذن على ظهر الكعبة فقال بعض الناس: يا عبد الله، لهذا العبد الأسود أن يؤذن على ظهر الكعبة! فقال بعضهم: إن يسخط الله يغيره، فأنزل الله جل ذكره: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليمٌ خبيرٌ ".(5/263)
وعن أنس قال: أذن بلالٌ بليل، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعيد الأذان، فرقي بلال وهو يقول: " من الرجز "
ليت بلالاً ثكلته أمه ... وابتل من نضح دمٍ حبينه
يرددها حتى صعد، فلما صعد نادى: ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام، فلما انشق الفجر أعاد الأذان.
أذن بلالٌ حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أذن لأبي بكر حياته، ثم لم يؤذن زمن عمر، فقال له عمر: ما يمنعك أن تؤذن؟ فقال: إني أذنت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض، وأذنت لأبي بكر حتى قبض لأنه كان ولي نعمتي وقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يا بلال، ليس شيءٌ أفضل من عملك إلا الجهاد في سبيل الله ".
فخرج مجاهداً.
وعن سعد القرظ قال: خرجت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت الزنج يتراطنون حين رأوه ليس معه أحد، ولم يدر به الناس، قال: فارتقيت على نخلةٍ فأذنت، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما هذا يا سعد، من أمرك بهذا؟ " قال: قلت: يا رسول الله بأبي وأمي أنت، إني رأيت الزنج يتراطنون ولم يكن معك أحد، فخفتهم عليك، فأردت أن يعلم أنك قد جئت حتى يجتمع الناس؛ فقال: " أصبت، إذا لم يكن معي بلالٌ فأذن ".
قال: وكان النجاشي قد أهدى له عنزتين فأعطى بلالاً واحدة فكان يمشي بها بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى توفي.
قال: فجاء بلالٌ إلى أبي بكر الصديق فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن أفضل أعمالكم الجهاد في سبيل الله ".
وقد أردت الجهاد، فقال له أبو بكر: أسألك بحقي إلا ما صبرت، إنما هو اليوم أو غد حتى أموت؛ فأقامٌ بلالٌ معه يمشي بالعنزة بين يديه حتى توفي أبو بكر، فجاء إلى عمر فقال له كما قال لأبي بكر، فسأله عمر بما سأله أبو بكر، فأبى، فقال: فمن(5/264)
يؤذن؟ قال: سعد القرظ، فإنه قد كان أذن بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأعطاه العنزة، فمشى بين يدي حتى قتل، ثم بين يدي عثمان.
وقيل:
إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توفي أذن بلال ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقبر، فكان إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله انتحب الناس في المسجد، قال: فلما دفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له أبو بكر: أذن، فقال: إن كنت إنما أعتقتني لأكون معك فسبيل ذلك، وإن كنت أعتقتني لله فخلني ومن أعتقتني له، فقال: ما أعتقتك إلا لله، قال: فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فذلك إليك.
قال: فأقام حتى خرجت بعوث الشام، فسار معهم حتى انتهى إليها.
وعن أبي الدرداء قال: لما دخل عمر بن الخطاب من فتح بيت المقدس فصار إلى الجابية، سأل بلالٌ أن يقره بالشام، ففعل ذلك، قال: وأخي أبو رويحة الذي آخى بيني وبينه رسول الله؛ فنزل داريا في خولان، فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم: قد أتيناكم خاطبين، وقد كنا كافرين فهدانا الله، ومملوكين فأعتقنا الله، وفقيرين فأغنانا الله؛ فإن تزوجونا فالحمد لله، وإن تردونا فلا حول ولا قوة إلا بالله.
فزوجوهما، ثم إن بلالاً رأى في منامه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال! أما آن لك أن تزورني يا بلال!.
فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة فأتى قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل يبكي عنده ويمرغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين، فجعل يضمهما ويقبلهما، فقالا له: يا بلال نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذن به لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السحر؛ ففعل، فعلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر، الله أكبر ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله طح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلما أن قال: الله أكبر، الله أكبر ارتجت المدينة، فلما أن قال: أشهد أن لا إله إلا الله ازداد رجتها فلما أن قال: أشهد أن محمداً رسول الله خرج العواتق من خدورهن وقالوا: أبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!؟ فما رئي يوم أكثر باكياً ولا باكيةً بالمدينة بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك اليوم.(5/265)
وعن جابر قال: كان عمر يقول: أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا، يعني بلالاً.
وعن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: ذكر عمر بن الخطاب ذات يوم أبا بكر فجعل يصف مناقبه ثم قال: وهذا سيدنا بلال حسنةٌ من حسنات أبي بكر.
وعن سالم: أن شاعراً امتدح بلال بن عبد الله بن عمر فقال في شعره: " من الطويل "
بلال بن عبد الله خير بلال
فقال له ابن عمر: كذبت، بل بلال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير بلال.
وعن أنس بن مالك قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلاً من أصحابه يقال له سفينة بكتابٍ إلى معاذ، إلى اليمن؛ فلما صار في الطريق إذا هو بالسبع رابضٌ في وسط الطريق، فخاف أن يجوز فيقوم إليه فقال: أيها السبع إني رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاذ، وهذا كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاذ.
قال: فقام السبع فهرول قدامه غلوةٌ ثم همهم، ثم صرخ ثم تنحى عن الطريق؛ فمضى بكتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاذ، ثم رجع بالجواب، فإذا هو بالسبع، فخاف أن يجوز فقال: أيها السبع إني رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاذ، وهذا جواب كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معاذ، فقام السبع فصرخ ثم همهم ثم تنحى عن الطريق؛ فلما قدم أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وتدرون ما قال أول مرة؟ قال: كيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وأما الثانية فقال: أقرئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وسلمان وصهيباً وبلالاً مني السلام ".
روى الأوزاعي: أن بلالاً أتى عمر بن الخطاب فقال: الصلاة، فرددها عليه، فقال له(5/266)
عمر: نحن أعلم بالوقت منك، قال له بلال: لأنا أعلم بالوقت منك، إذ أنت أضل من حمار أهلك.
وحدث ابن مراهن قال: كان أناس يأتون بلالاً فيذكرون فضله وما قسم الله له من الخير، فكان يقول: إنما أنا حبشي كنت بالأمس عبداً.
وعن قيس قال: بلغ بلالاً أن ناساً يفضلونه على أبي بكر فقال: كيف تفضلوني عليه وإنما أنا حسنة من حسناته.
حدث من رأى بلالاً قال:
كان بلال رجلاً آدم، شديد الأدمة، نحيفاً طوالاً، أجنأ له شعر كثير، خفيف العارضين، به شمطٌ كثير، وكان لا يغير.
حدث سعيد بن عبد العزيز قال: قال بلال حين حضرته الوفاة: " من الهزج "
غداً نلقى الأحبه ... محمداً وحزبه
قال: تقول امرأته: واويلاه! قال: يقول هو: وافرحاه!.
وكان سعيد بن طلحة من ولد أبي بكر يقول: كان بلال ترب أبي بكر، فكان مولده بعد الفيل بثلاث سنين أو أقل.(5/267)
بلال بن سعد بن تميم أبو عمرو
ويقال أبو زرعة السكوني.
إمام الجامع بدمشق، كان أحد الزهاد، له كلامٌ كثير في المواعظ، وليس له عقب.
قال أبو مسهر: كان بلال بن سعدٍ بالشام مثل الحسن البصري بالعراق، فكان قارئ الشام، وكان جهير الصوت.
حدث بلال بن سعد عن أبيه قال: قلنا يا رسول الله ما للخليفة بعدك؟ قال: " مثل الذي لي ما رحم وأقسط في القسط، وعدل في القسم ".
قال الأصمعي: كان بلال بن سعد يصلي الليل أجمع، فكان إذا غلبه النوم في الشتاء - وكان في داره بركة ماء - فيجيء فيطرح نفسه مع ثيابه في الماء حتى ينفر عنه النوم.
فعوتب في ذلك، قال: ماء البركة في الدنيا خيرٌ من صديد جهنم.
قال الأوزاعي: كان بلال بن سعد من العبادة على شيء لم يسمع بأحدٍ من الأمة قوي عليه؛ كان له في كل يوم وليلة ألف ركعة.
قال أبو عمرو: سمعت بلال بن سعد يقول في مواعظه: والله لكفى به ذنباً أن الله عز وجل يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها، زاهدكم راغب، وعالمكم جاهل، ومجتهدكم مقصر.
قال بلال بن سعد: أخ لك كلما لقيك ذكرك بحظك من الله، خيرٌ لك من أخٍ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً.(5/268)
وكان يقول: لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوه في السر.
وكان يقول: لا تكن ذا وجهين وذا لسانين، فتظهر للناس أنك تخشى الله فيحمدوك وقلبك فاجر.
وكان يقول: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت فلم تغير ضرت العامة.
وكان يقول: أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء، وإنما خلقتم للبقاء، وإنما تنقلون من دارٍ إلى دار، كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى جنةٍ أو نار.
وكان يقول في موعظته: عباد الرحمن، اعلموا أنكم تعملون في أيامٍ قصار لأيام طوال، في دار زوال لدار مقام، ودار حزنٍ ونصب، لدار نعيمٍ وخلد، ومن لم يعمل في اليقين فلا يتعبنّ.
وكان يقول: عباد الرحمن، أشفقوا من الله واحذروا، ولا تأمنوا مكر الله ولا تقنطوا من رحمة الله، واعلموا أن لنعم الله عز وجل عندكم ثمناً، فلا تشبهوا على أنفسكم تعملون عملاً لله لثواب الدنيا، ومن كان كذلك فوالله لقد رضي بقليل حيث استغنيتم باليسير من عرض الدنيا، ولم ترضوا ربكم فيها، ورفضتم ما يبقى لكم، وكفاكم منه يسير.
وكان يقول: عباد الرحمن، أما ما وكلكم الله به فتطيعون، وأما ما تكفل الله لكم به فتطلبون! ما هكذا نعت الله عباده الموقنين؛ ذوو عقولٍ في طلب الدنيا وبلهٌ عما خلقتم له! فكما ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعته، فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصي الله.(5/269)
وكان يقول: من سبقك إلى الود فقد استرقك بالشكر.
وكان يقول: من سبق إحسانه إليك فقد استرقك شكره.
قال بلال بن سعد: لما حضرت أبي الوفاة قال: اجمع لي بنيك، فألبستهم ثياباً بيضاً ثم جئت بهم، فقال: اللهم إني أعيذهم بك من الكفر، ومن ضلالة العمل، ومن السباء والفقر إلى بني آدم.
وكان بلال يقول: لا تنظر إلى صغر خطيئتك، ولكن انظر إلى من عصيته.
قال سعيد بن عبد العزيز: رمي بلال بن سعد بالقدر، فأصبح فتكلم في قصصه فقال: رب مسرور مغبون، والويل لمن له الويل ولا يشعر، يأكل ويشرب وقد حق عليه في علم الله أنه من أهل النار.
بلال بن أبي بردة عامر بن عبد الله
أبي موسى بن قيس، أبو عمرو، ويقال: أبو عبد الله الأشعري البصري.
ولي إمرة البصرة.
حدث عن أبيه عن جده، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من مسلمين تواجها بسيفهما فقتل أحدهما الآخر إلا دخلا النار جميعاً ".
فقيل له: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: " إنه أراد قتل صاحبه ".
وحدث أيضاً عن أبيه عن جده أبي موسى الأشعري، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من وصبٍ يصيب العبد في دار الدنيا، ولا نكبة، ولا ما يصيبه في دار الدنيا إلا كان كفارةً لذنبٍ قد سلف منه، ولم يكن الله ليعود في ذنبٍ قد عاقب منه ".
جاء رجلٌ إلى بلال بن أبي بردة، فسعى برجل؛ فقال لصاحب شرطته: سل عنه،(5/270)
فسأل عنه فقال: أصلح الله الأمير، إنه ليقال فيه، فقال: الله أكبر، حدثني أبي عن جدي أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يسعى بالناس إلا ولد زنى ".
قال جويرة بن أسماء: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه، فقال: من كانت الخلافة - يا أمير المؤمنين - شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت - والله - كما قال مالك بن أسماء: " من الخفيف "
وتزيدين طيب الطيب طيباً ... إن تمسيه أين مثلك أينا
وإذا الدر زان حسن وجوهٍ ... كان للدر حسن وجهك زينا
فجزاه عمر خيراً؛ ولزم بلالٌ المسجد يصلي، ويقرأ ليله ونهاره؛ فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثقةً له فقال له: إن عملت لك في ولاية العراق ما تعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً؛ فأخبر بذلك عمر، فنفاه وأخرجه وقال: يا أهل العراق إن صاحبكم أعطى مقولاً ولم يعط معقولاً، وزادت بلاغته ونقصت رادته.
وكان بلال بن أبي بردة يقول: يا معشر الناس، لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا أن تقبلوا أحسن ما تسمعون.
وقال بلال بن أبي بردة: رأيت عيش الدنيا في ثلاثة: امرأة تسرك إذا نظرت إليها، وتحفظ غيبك إذا غبت عنها؛ ومملوكٌ لا تهتم بشيءٍ معه وقد كفاك جميع ما ينوبك، فهو يعمل على ما تهوى، كان قد علم ما في نفسك؛ وصديقٌ قد وضع مؤنة الحفظ عنك فيما بينك وبينه، فهو لا يتحفظ في صداقتك ما يرصد به عداوتك، يخبرك بما في نفسه، وتخبره بما في نفسك.
دخل مالك بن دينار على بلال بن أبي بردة فقال له: يا أبا يحيى ادع الله لي، فقال له: ما ينفعك دعائي لك وعلى بابك أكثر من مائتين يدعون عليك!.(5/271)
قال محمد بن واسع: دخلت على بلال بن أبي بردة فقلت له: يا بلال إن أباك حدثني عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن في جهنم وادياً يقال له: هبهب، حقاً على الله أن يسكنه كل جبار ".
وإياك يا بلال أن تكون ممن يسكنه.
قال المدائني: أرسل بلال إلى قصابٍ في جواره في السحر، قال: فدخلت عليه وبين يديه كانون، وفي صحن الدار تيسٌ ضخم، فقال: أخرج الكانون واذبح التيس واسلخه وكبب لحمه، ففعلت، ودعا بخوانٍ فوضع بين يديه، وجعلت أكبب اللحم، فإذا استوى منه شيء وضعته بين يديه يأكله حتى تعرقت له لحم التيس، فلم يبق إلا بطنه وعظامه، وبقيت بضعةٌ على الكانون فقال لي: كلها، فأكلتها، وجاءت جارية بقدر فيها دجاجتان وناهضتان، ومعه صحفةٌ مغطاة لا أدري ما فيها، فقال: ويحك ما في بطني موضع، فضعيها على رأسي، فضحك إلى الجارية وضحكت إليه ورجعت، ثم دعا بشرابٍ فشرب منه خمسة أقداح، وأمر لي منها بقدح فشربته، ثم قال: الحق بأهلك.
وكان بلال يخاف الجذام، فوصف السمن يستنقع به، فكان يقعد فيه ثم يبيعه؛ فترك أهل البصرة أكل السمن وشراءه إلا ممن كان يسليه في منزله.
وكان بلال موصوفاً بالبخل على الطعام.
قال ابن سلام: أمر بلال بن أبي بردة بالتفريق بين رجلٍ وامرأته، فقالت: يا آل أبي موسى، إنما خلقكم الله للتفريق بين المسلمين، أرادت ما صنع أبو موسى بعليٍّ ومعاوية.
قال أبو زيد الأنصاري: دعا ابن أبي بردة أبا علقمة، فلما دخل عليه قال: تدري لم أرسلت إليك؟ قال: لا، قال: لأسخر بك، فقال أبو علقمة: لئن فعلت ذلك لقد سخر أحد الحكمين بصاحبه، فلعنه ابن أبي بردة وأمر بحبسه، فمكث أياماً ثم أخرجه يوم السبت، فلما وقف بين يديه(5/272)
قال له: يا أبا علقمة ما هذا الذي في كمك؟ قال: طرف من طرف السجن، قال: أفلا تهب لنا منه؟ قال: هذا يوم لا نأخذ فيه ولا نعطي، فقال له، ما أبردك وأثقلك يا أبا علقمة! قال: أبرد مني وأثقل مني من كانت جدته يهوديةٌ من أهل السواد.
وروي:
أن بلالاً إنما قتله دهاؤه؛ وذلك أنه قال للسجان: خذ مني مائة ألف درهم وتعلم يوسف أني قد مت، وكان يوسف إذا أخبر عن محبوسٍ أنه قد مات أمر بدفعه إلى أهله، فطمع بلال أن يأمر يوسف بدفعه إلى أهله، قال السجان: كيف تصنع إذا دفعت إلى أهلك؟ قال: لا يسمع لي يوسف بخبرٍ ما دام والياً؛ فأتى السجان يوسف بن عمر فقال له: إن بلالاً قد مات، فقال: أرنيه ميتاً فإني أحب أن أراه ميتاً، فجاء السجان فألقى عليه شيئاً غمه حتى مات، ثم أراه يوسف.
بلال بن أبي هريرة الدوسي
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد مع معاوية صفين، وجعله على بعض رجالته، وبقي إلى أيام سليمان بن عبد الملك.
حدث عن أبيه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يخرج الدجال من هاهنا، وأشار نحو المشرق ".
وروي عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتي بصحفةٍ تفور، فرفع يده منها ثم قال: " إن الله لم يطعمنا ناراً ".
بلال بن عويمر أبي الدرداء
أبو محمد الأنصاري القاضي ويقال: كان أميراً ببعض الشام، وهو في عداد أهل دمشق.
حدث عن أبيه أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " حبك الشيء يعمي ويصم ".(5/273)
وحدث أيضاً عن أبيه أبي الدرداء قال: " ما أمكنهم من دمائكم فبما غيرتم من أعمالكم، فإن يك خيراً فواهاً واهاً، وإن يك شراً فآهاً آهاً ".
هكذا سمعت من نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو سليمان الخطابي: قوله: واهاً.
إنما يقال ذلك على التمني للخير، قال الشاعر: " من الرجز "
واهاً لريا ثم واهاً واها
وقوله لآهاً: إنما يقال ذلك في التوجع، قال نابغة بني شيبان: " من الخفيف "
أقطع الليل آهةً وحنيناً ... وابتهالاً لله أي ابتهال
توفي بلال بن أبي الدرداء في آخر سنة ثلاثٍ وتسعين.(5/274)
أسماء النساء على حرف الباء
بثينة بنت حبا بن ثعلبة بن الهوذ
ابن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد هذيم بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ أم عمرو، ويقال: أم الوليد، ويقال: أم عبد الملك، ويقال: أم المسور العذرية، صاحبة جميل بن معمر، وفدت على عبد الملك، ويقال: إن لأبيها حبا صحبة؛ وكان زوجها بنبيه بن الأسود العذري والد سعيد بن الأسود، ويقال: هي بنت خالة جميل.
قال محمد بن يزيد المبرد: دخلت بثينة على عبد الملك، فأحد النظر إليها ثم قال: يا بثينة ما رأى فيك جميل حين قال ما قال؟ قالت: ما رأى الناس فيك حين ولوك الخلافة يا أمير المؤمنين؟ قال: فضحك عبد الملك حتى بدت سنٌ له كان يخفيها، فما ترك لها من حاجةٍ إلا قضاها.
قال أبو عثمان المازني: حج عبد الملك بن مروان فنزل بوادي القرى، فدخلت عليه بثينة عليها ثيابٌ من ثياب البادية، وعلى وجهها برقع، فقال: أقسمت عليك إلا نحيت البرقع عن وجهك،(5/275)
ففعلت، فإذا وجهٌ ليس ببارع الجمال، وعليه أثر كلفة، قال: ما أراك كما قال جميل: " من الكامل "
بيضاء آنسة كأن حديثها ... درٌ تهلّل سلكه منثور
ولقد طربت إليك حتى إنني ... لأكاد من طربٍ إليك أطير
ما أنت يا بثينة بهذه الصفة! قالت: يا أمير المؤمنين لكنني كنت عنده كذلك، أما سمعت قول ابن أبي ربيعة: " من الرمل "
ولقد قالت لأترابٍ لها ... وتعرت ذات يومٍ تبترد
أكما ينعتني تبصرنني ... عمركن الله أم لا يقتصد
فتضاحكن وقد قلن لها ... حسنٌ في كل عينٍ من تود
فبرها وقضى حوائجها.
كانت عزة كثير وبثينة تتحدثان، فأقبل كثيرٌ نحوهما، فقالت بثينة لعزة: استخفي حتى أولع بكثير، فتوارت، فأتى فسلم، فردت بثينة عليه السلام وقالت له: أما آن لك أن تشبب بنا فأنشأ يقول: " من الطويل "
رمتني على قربٍ بثنية بعدما ... تولى شبابي وارجحنّ شبابها
بعينين نجلاوين لو رقرقتهما ... لنوء الثريا لاستهل سحابها
قال: فأطلعت عزة رأسها فقال:
ولكنما ترمين نفساً مريضةً ... لعزة منها ودها ولبابها
قال أدهم التميمي:
لقيت كثير عزة في البادية فقال: لقيني جميل بن معمر في هذا الموضع وأنا جاءٍ من عند أبي بثينة صاحبته، فقال: من أين يا كثير؟ فقلت: من عند أبي الحبيبة - يعني(5/276)
صاحبته - قال: وأين تريد؟ فقلت: أريد الحبيبة - يعني عزة - فقال: ارجع من حيث جئت.
وواعد بثينة، فقلت: لا أقدر، من عندهم جئت وإذا رجعت من ساعتي اتهمني أبوها؛ فقال: لابد، فقلت: متى كان آخر عهدك بهم؟ قال: بالدوم وهم يرحضون أثواباً لهم، قال: فرجعت، فلما رآني أبو بثينة قال: يا كثير أليس كنت عندنا الآن؟ قلت: بلى ولكن ذكرت أبياتاً قلتها في عزة فأحببت أن أنشدك إياها، قال: وما هي؟ قال: وبثينة في خيمةٍ من وراء خيمته فأنشدته: " من الطويل "
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... إليّ رسولاً والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعدا ... وأن تأمريني بالذي فيه أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل
قال: فضربت بثينة بيدها على الخباء وقالت: اخسأ، اخسأ، فقال أبوها: ما هذا يا بثينة؟ قالت: كلبٌ يأتينا من وراء الرابية إذا نام الناس يؤذينا، قال: فرجعت إلى جميل فقلت: قد وعدتك من وراء الرابية إذا نام الناس.
روى بعض أهل العلم لبثينة: " من الطويل "
تواعدني قومي بقتلي وقتله ... فقلت اقتلوني واخرجوه من الذنب
ولا تتبعوه بعد قتلي أذيةً ... كفى بالذي يلقاه من شدة الحب
لما مات جميل بن معمر رثته بثينة بهذين البيتين، وقيل: إنهما لم تقل غيرهما: " من الطويل "
وإن سلوي عن جميلٍ لساعةٌ ... من الدهر ما حانت ولا حان حينها
سواءٌ علينا يا جميل بن معمرٍ ... إذا مت بأساء الحياة ولينها(5/277)
بحرية بنت هانئ بن قبيضة
ابن مسعود الشيبانية، امرأة عبيد الله بن عمر، كانت حازمة عاقلة، ووردت معه الشام، وكانت معه بصفين حين قتل.
حدثت بحرية بنت هانئ: أنها زوجت نفسها من القعقاع بن شور، وبات عندها ليلةً وجاء أبوها فاستعدى علياً فقال: أدخلت بها؟ قال: نعم، فأجاز النكاح.
حدث يزيد بن يزيد بن جابر أن معاوية دعا عبيد الله بن عمر فقال: إن علياً كما ترى في بكر بن وائل، قد حامت عليه، فهل لك أن تسير في الشهباء قال: نعم، فرجع عبيد الله إلى خبائه فلبس سلاحه ثم إنه فكر وخاف أن يقتل مع معاوية على حاله، فقال له مولى له: فداك أبي إن معاوية إنما يقدمك للموت، إن كان لك الظفر فهو يلي، وإن قتلت استراح منك ومن ذكرك، يقال: ابن عمر بن الخطاب، فأطعني واعتل؛ قال: ويحك قد عرفت ما قلت، فقالت له امرأته بحرية بنت هانئ: ما لي أراك مشمراً؟ قال: أمرني أمير المؤمنين أن أسير في الشهباء، قالت: هو والله مثل التابوت لم يحمله أحدٌ قطٌّ إلا قتل، أنت تقتل وهو الذي يريد معاوية، قال: اسكتي والله لأكثرن من القتل في قومك اليوم، فقالت: لا تقل هذا، خدعك معاوية، وغرك من نفسك، وثقل عليه مكانك، قد أبرم هذا الأمر هو وعمرو بن العاص قبلاليوم فيك، لو كنت مع عليٍّ أو جلست في بيتك كان خيراً لك؛ قد فعل ذلك أخوك وهو خير منك، قال: اسكتي - وهو يبتسم ضاحكاً - لترينّ الأسارى من قومك حول خبائك هذا، قالت: والله لكأني راكبةٌ دابتي إلى قومي أطلب جسدك لأن أورايه؛ إنك مخدوع، إنما تمارس قوماً غلب الرقاب، فيهم الحرون، ينظرونه نظر القوم إلى الهلال، لو أمرهم ترك الطعام والشراب ما ذاقوه؛ قال: أقصري من العذل، فليس لك عندنا طاعة.
فرجع عبيد الله إلى معاوية فضم إليه الشهباء، وهم اثنا عشر ألفاً، وضم(5/278)
إليه ثمانية آلاف من أهل الشام فيهم ذو الكلاع في حمير؛ فقصدوا يؤمون علياً فلما رأتهم ربيعة جثوا على الركب وشرعوا الرماح، حتى إذا غشوهم ثاروا إليهم واقتتلوا أشد القتال، ليس فيهم إلا الأسل والسيوف؛ وقتل عبيد الله، وقتل ذو الكلاع؛ والذي قتل عبيد الله زياد بن خصفة التيمي، فقال معاوية لامرأة عبيد الله: لو أتيت قومك فكلمتهم في جسد عبيد الله بن عمر؟ فركبت إليهم ومعها من يجيرها، فأتتهم فانتسبت، فقالوا: قد عرفناك، مرحباً بك فما حاجتك؟ قالت: هذا الذي قتلتموه، فأذنوا لي في حمله، فوثب شبابٌ من بكر بن وائل فوضعوه على بغل، وشدوه، وأقبلت امرأته إلى عسكر معاوية، فتلقاها معاوية بسريرٍ فحمله عليه وحفر له وصلى عليه ودفنه ثم جعل يبكي ويقول: قتل ابن الفاروق في طاعة خليفتكم حياً وميتاً، وإن كان الله قد رحمه ووفقه للخير، قال: تقول بحرية وهي تبكي عليه، وبلغها ما يقول معاوية فقالت: أما أنت فقد عجلت له يتم ولده وذهاب نفسه، ثم الخوف عليه لما بعد أعظم الأمر.
فبلغ معاوية كلامها فقال لعمرو بن العاص: ألا ترى ما تقول هذه المرأة؟ فأخبره فقال: والله لعجبٌ لك ما تريد أن يقول الناس شيئاً! فوالله لقد قالوا في خير منك ومنا، فلا يقولون فيك أيها الرجل، إن لم تغض عما ترى كنت في نفسك في غم.
قال معاوية: هذا والله رأيي الذي ورثت من أبي.
برق الأفق المدنية
قال دحمان الأشقر: كتب عامل الحجاز إلى عبد الملك بن مروان: إن بالحجاز رجلاً يقال له ابن مسجح، أسود يغني، وقد أفسد رهبان قريش، وأنفقوا عليه أموالهم.
فكتب إليه في نفيه عن الحجاز وأخذ ماله، فنفي، فخرج إلى الشام في صحبة رجلٍ له جوارٍ مغنيات، فكان معه حتى بلغا دمشق، فدخلا مسجدها فسألا من حضر عن أخص الناس بالخليفة؟ فقالوا:(5/279)
هؤلاء النفر من قريش وأخصهم بنو عمه؛ فعمد ابن مسجح إلى القرشيين فسلم عليهم وقال لهم: يا فتيان هل فيكم من يضيف رجلاً غريباً من أهل الحجاز؟ فنظر بعضهم إلى بعض، وكانوا قد تواعدوا أن يذهبوا إلى قينةٍ يقال لها برق الأفق، فتثاقلوا به إلا فتى منهم تذمم فقال: أنا أضيفك، وقال لأصحابه: انطلقوا أنتم وأنا أذهب مع ضيفي، فقالوا له: لا، بل تجيء أنت وضيفك، فذهبوا جميعاً إلى بيت القينة؛ فلما أتوا بالغداء قال لهم ابن مسجح: إني رجلٌ أسود، فلعل فيكم من يقذرني، فأنا أجلس ناحية، وقام، فاستحوا منه وبعثوا إليه بما أكل، فلما صاروا إلى الشراب، قال لهم مثل ذلك، ففعلوا به، وأخرجت لهم القينة جاريتين، فجلستا على سريرٍ قد وضع لهما، فغنتا إلى العشاء، ثم دخلتا وخرجت جارية حسنة الوجه والهيئة، وهما معها، فجلست على السرير وجلستا أسفل منها عن يمين السرير وشماله؛ قال ابن مسجح: فتمثلت بهذا البيت:
فقلت أشمسٌ أم مصابيح بيعةٍ ... بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
فغضبت الجارية وقالت: أيضرب لنا هذا الأسود الأمثال؟! فنظروا إلي نظراً منكراً، ولم يزالوا يسكتونها، ثم غنت صوتاً فقلت: أحسنت والله، فغضب مولاها وقال: هذا الأسود يقدم على جاريتي! فقال لي الرجل الذي أنزلني عليه: قم فانصرف إلى منزلي فقد ثقلت على القوم، فذهبت أقوم، فتذمم القوم مني وقالوا: بل أقم وأحسن أدبك، فأقمت، وغنت لحناً لي فقلت: أخطأت والله - أي زانية - وأسأت، ثم اندفعت فغنيت الصوت، فوثبت الجارية فقالت لمولاها: هذا والله أبو عثمان سعيد بن مسجح، فقلت: إني والله أنا هو، ولا أقيم عندكم، فوثب القرشيون فقال لي: هذا يكون عندي وقال هذا: لا بل يكون عندي، فقلت: لا والله لا أقيم إلا عند سيدكم - يعني الرجل الذي أنزله - وسألوه عما أقدمه؟ فأخبرهم، فقال له صاحب منزله: أنا أسمر الليلة عند أمير المؤمنين فهل تحسن أن تحدو؟ قال: لا والله، ولكني أصوغ لحناً على الحداء، قال: فافعل، فصنع لحناً على ألحان الحداء في هذا الشعر: " من مشطور الرجز "
إنك يا معاوي المفضل ... إن زلزل الأقوام لم تزلزل(5/280)
عن دين موسى والكتاب المنزل ... تقيم أصداغ القرون الميل
للحق حتى ينتحوا للأعدل
وسمعه الفتى فقال: أحسنت والله، وأجدت، رح معي، فراح معه وجلس على الباب، فلما طابت نفس عبد الملك بعث القرشي بغلامه إليه أن يعلو السور ويرفع صوته بالأبيات، وكان من أحسن الناس صوتاً، ففعل، فلما سمع عبد الملك صوته طرب وقال: من هذا؟ قال الفتى: هذا رجلٌ من أهل الحجاز قدم علينا فأحببت أن تسمع حداءه؛ قال: هاتوه فجاؤوا به، فسمعه من قريب، ثم قال: أتغني غناء الركبان؟ قال: نعم، قال: فغن، فغناه فازداد طربه واستزاده، ثم قال له: هل تغني الغناء المتقن؟ قال: نعم، قال: عن، فغناه فاهتز عبد الملك طرباً، واستزاده فقال له: إن لك في القوم اسماً كبيراً فمن أنت منهم؟ قال: أنا المظلوم المنفي، المقبوض ماله ابن مسجح، فأمر بالكتاب إلى عامله برد ماله، وألا يعرض له بسوءٍ إذا عاد إلى وطنه.
وأمر له بمائة، وسأل القرشي عن خبره؟ فأخبره به، فضحك حتى استغرب، فقال عن الصوت الذي أخطأت فيه الجارية فغناه وهو للحادرة: " من الكامل "
بكرت سمية غدوةً فتمتع ... وغدت غدوة مفارقٍ لم يرجع
وتعرضت لك فاستبتك بواضحٍ ... صلتٍ كمنتص الغزال الأتلع
أسمي ما يدريك كم من فتيةٍ ... باكرت لذتهم بأدكن مترع
بكروا علي بسحرةٍ فصحبتهم ... من عاتقٍ كدم الذبيح مشعشع
فطرب عبد الملك ورمى إليه بمطرفٍ كان عليه وقال له: كن مع الحرس مادمت مقيماً حتى نأنس بصوتك، ففعل، وتوسل مولى برق الأفق إليه بصاحب منزله حتى وصل إليه فوصله صلةً سنية، وأخذت جاريته عنه فأكثرت وانصرفت.(5/281)
بلقيس بنت شراحيل الهدهاد بن شرحبيل
وفي نسبها اختلاف، ملكة سبأ.
قيل: إنها ملكت اليمن تسع سنين، ثم كانت خليفةً عليها من قبل سليمان بن داود أربع سنين.
قال مسلمة بن عبد الله بن ربعي: لما أسلمت بلقيس تزوجها سليمان بن داود ومهرها باعلبك.
روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحد أبوي بلقيس كان جنياً ".
سئل الحسن عن ملكة سبأ، وقالوا: إن أحد أبويها جني؟ فقال الحسن: لا يتوالدون؛ أي إن المرأة من الإنس لا تلد من الجن.
قال مجاهد: كان تحت يدها اثنا عشر ألف قيل، تحت يد كل قيل مائة ألف.
وعن مجاهد: إن ذا القرنين ملك الأرض إلا بلقيس صاحبة مأرب، وإن ذا القرنين كان يلبس ثياب المساكين ثم يدخل المدائن فينظر من عورتها قبل أن يقاتل أهلها؛ فأخبرت بلقيس بذلك، فبعثت رسولاً يصور لها صورته في ملكه حين يقعد، وصورته في ثياب المساكين، ثم جعلت كل يومٍ تطعم المساكين فتجمعهم، فجاءها رسولها بصورته، فجعلت(5/282)
إحدى صورتيه على باب بيتها، والأخرى على باب الأصطوان، فكانت تطعم المساكين كل يوم، فإذا فرغوا عرضتهم واحداً واحداً حتى جاء ذو القرنين في ثياب المساكين، فدخل مدينتها، ثم جلس المساكين إلى طعامها، فلما خرجوا أخرجتهم واحداً واحداً وهي تنظر إلى صورته في ثياب المساكين، حتى مر ذو القرنين فنظرت إلى صورته فعرفته فقالت: احبسوا هذا، فقال لها: لمَ حبستني فإنما أنا مسكين من المساكين؟ قالت: أنت ذو القرنين وهذه صورتك في ثياب المساكين، والله لا تفارقني أو تكتب أماناً بملكي أو أضرب عنقك؛ فلما رأى ذلك كتب لها أماناً بملكها.
فلم ينج منه أحدٌ غيرها.
وعن قتادة: " إني وجدت امرأةً تملكهم " قال: بلغني أنها امرأة تسمى بلقيس - أظنه قال: بنت شراحبيل - أحد أبويها من الجن، مؤخر أحد قدميها مثل حافر الدابة؛ وكانت بأرضٍ يقال لها مأرب، على ثلاثة أيام من صنعاء.
خرج ذو رعين ملك اليمن يتصيد ومعه العساكر، فطاب له الصيد وانقطع عسكره؛ فعطش واشتد عطشه، فسار في تلك الصحراء يطلب ماءً إذ رفع له خباء فقصده، فإذا شيخٌ محتبٍ بفناء الخيمة فقال: أنعم صباحاً أيها الشيخ، قال: وأنت، قال: اسقني ماءً، فقال الشيخ: يا حسنه اسقي عمك ماء، فخرجت جاريةٌ كأنها الشمس الطالعة، أصاب الصحراء من نور وجهها، وبيدها كأسٌ من ياقوتٍ أحمر، فتعجب الملك من جمالها وقال: في قصري ألف جارية ما فيهن جاريةٌ في جمالها ولا في مملكتي مثل هذا الكأس؛ فأخذ الكأس من يدها فشرب حتى روي، وانصرفت، فقال الملك: أيها الشيخ ما هذه الجارية منك؟ قال: ابنتي، قال: ألها زوج؟ قال: لا ولا تزوجت قط، قال: أفتزوجني إياها؟ قال: لا، قال: ولمَ؟ قال: لا تصلح لك، قال: لأي شيء؟ قال: لأني من الجن وأنت من الإنس، قال الملك: قد رضيت وأنا كفؤٌ كريم، أنا ذو رعين ملك اليمن بيدي والحجاز والسند والهند، وقد هويت ابنتك فلا تحرمني إياها، فقال(5/283)
لها الشيخ: ما تقولين؟ قالت: إن أجابني إلى خصلةٍ واحدة تزوجت به! قال الملك: وما هي؟ قالت: لا تسألني عن شيءٍ أعمله لمَ عملته، فإني لا آلوه نصحاً؛ فمتى سألني عن شيءٍ فعلته لمَ فعلته فهو طلاقي، ولا يراني أبداً، فأجابه الملك إلى ذلك وأحضر الملك إخوانه من الجن وأقاربه، وعقد نكاح ابنته، وسار الملك إلى قصره وحملت إليه ودخل بها وجليت عليه، فكانت كل يوم تتصور له في صورةٍ جديدة، وثيابٍ جدد، وحلي جديد، ثم حملت منه؛ وكان للملك ذي رعين سبعون بنتاً وما رزق ابناً قط، وهو يشتهيه ويتمناه، فلما تم حملها ولدت ابناً من أحسن البنين، فبشر الملك بذلك فسر سروراً عظيماً وفتح بيوت الأموال للصدقات والجوائز، وقطعت ثياب الخلع للأمراء والقواد، وصنعت السروج، وأعد الطعام كل أسبوع؛ فوثبت إلى الابن فذبحته، وإلى الطعام فأراقته، وإلى الخلع والسروج فضرمت فيها النار؛ ولما بلغ ذلك الملك غضب غضباً شديداً وهم بقتلها وقام ليسألها لمَ صنعت ذلك؛ فقال له وزيره: كيف حبك لها؟ قال: ما أحببت شيئاً قط كحبي لها، ولو غابت عن بصري حسبت التلف على نفسي، فقال: أيها الملك، لا تلم إلا نفسك إذا تزوجت جنيةً ليست من جنسك ولا تحبك ولا تشفق عليك، ولعلها تبغضك وتريد فراقك ففعلت هذا! لتسلها فتخرج من قصرك فيكون ابن الملك قد مات ويزول عن الملك من يحبه ويهواه فلا يطيق فراقه ويعطيها مناها، فقال الملك: أما بغض فما تبغضني لأني أتتني محبتها لي وشفقتها علي.
وتوقف الملك عن مسألتها، وهي مع ذلك متحننة على الملك غير مقصرة عن خدمته والتذلل له، فلما طهرت من نفاسها واقعها الملك فحملت، فلما تم حملها ولدت بنتاً، ولا شيء أبغض إليه من البنات إذ له سبعون بنتاً، فلما ولدتها أرسلت إليه: أيها الملك افتح بيوت الأموال وصدق وهب وأعط، وادع الأمراء والقواد؛ فلما وصلت إليه الرسالة لم يملك نفسه من الغضب أن صار إليها فقال: ما هذه؟ أنا لم يجئني ابنٌ قط، فلما جاءني سررت به ذبحته وحرمتني إياه، فلما جاءتني ابنةٌ وأنا لها كاره أمرتني بالفرح والسرور وهو عندي حزن؛ فما الذي دعاك إلى ذبح ابني ومهجة قلبي؟! فلما قال لها ذلك أسبلت عينها بالدموع والبكاء، ولطمت وجهها وهتكت ثيابها وحلقت شعرها وقالت: أيها الملك طلقتني بعد صحبة خمس سنين، وما أحببت شيئاً قط حبي إياك، فكان هذا جزائي منك أو أملي فيك! ثم قالت: أيها الملك، اعلم أني ذبحت ابني ومهجة قلبي في هواك ومحبتك، وذلك أن والدي الذي رأيته ممن(5/284)
يسترق السمع من السماء، فلما ولدت الابن عرج أبي إلى السماء فسمع الملائكة يقولون: إن الله قد قضى على ابنك أنه إن عاش حتى يبلغ الحلم يذبحك على فراشك، فمن شدة حبي لك آثرتك على ابني ورأيت أن أذبحه صغيراً ولا يكبر، فيدخل قلبي من محبته ما أعاونه عليك، ولقد وجدت عليه مثلما تجد الوالدة على ولدها، إلا أني رأيت نار أطفئت، كل ذلك محبة للمك، وأما الثياب والسروج التي حرقتها والطعام الذي أهرقته فإن لي ابن عمٍّ كان مسمى علي، فلما صرت إليك حسدني وعاداني، فلما ولدت الابن جاء ابن عمي فسمّ الطعام والثياب والسروج ليهلك الملك ورجاله؛ فلذلك فعلت الذي فعلت، فلما ولدت هذه الابنة صعد والدي إلى السماء فاسترق السمع فسمع الملائكة يتحدثون أن هذه البنت أبرك بنتٍ ولدت على وجه الأرض، وأشرفه وأجله، وإنها وارثة ملكك بعد أن يغصبه غاصبٌ ليس من أهله، فهي التي ترتج منها البلاد، وتملك اليمن وحضرموت والحجاز ويجل سلطانها ويعظم شأنها حتى يكون تحت يدها ألف أمير، وتحت يد كل أميرٍ ألف قائد، تحت يد كل قائدٍ ألف جندي، وإنه يتزوج بها نبيٌ يكون في زمانها يقال له سليمان، تسمع له الجن والإنس والشياطين والسحاب والرياح ويسخر ذلك كله له ويسمعون ويطيعون أمره، ويفهم كلام الوحش والطير، فيكون بيده نصف الأرض فاستوص أيها الملك بها خيراً إذ حرمتني قربها، وانظر كيف تكون لها بعدي، فلن تراني أبداً ولن أراك بعد يومي هذا.
ثم غابت عن بصره.
وعن ابن عباس قال:
كان سليمان إذا سار في ملكه فالإنس عن يمينه، والجن عن يساره، والشياطين بين يديه، والوحوش خلفه، والطير تظله والريح تحمله؛ وكان دليله على الماء في المفاوز الهدهد، فإذا احتاجوا إلى الماء جاء الهدهد فشم الأرض ثم نقر بمنقاره، فيحفر الماء على وجه الأرض، فبينما سليمان يسير بين المشرق والمغرب في مفازة احتاج الجنود إلى الماء، وكان الهدهد غائباً، فشكت الجنود العطش إلى آصف - وكان صاحب أمر سليمان - فقال: أيها الملك إن الجنود قد عطشوا ولا ماء، فرفع سليمان رأسه فنظر إلى الطير ففقد الهدهد فقال: " مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " فقالت الطير: هو من الغائبين، فغضب سليمان فقال: بعد عني وأنا في المفازة معي الجنود " لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو(5/285)
ليأتيني بسلطان مبين " قال: عذرٌ مبين، فلما سمع الطير ذلك استقبلوا الهدهد فقالوا: ويلك أين كنت؟ قد غضب عليك وحلف ليعذبنك أو ليذبحنك أو لتأتينه بعذرٍ مبين يخرجك من ذنبك، فلما سمع الهدهد ذلك أدبر راجعاً، فارتفع حتى أشرف على الجبال والبحور، فبينا هو كذلك إذ أشرف على جبل سبأ ونظر إلى بلقيس ملكتهم وهي جالسةٌ على عرشها وبين يديها ألف رجل متقلدون السيوف، قيام، كل رجلٍ منهم ملك على قومه؛ فلما رأى الهدهد ذلك قال: هذا حجتي التي أرجع بها إلى سليمان، فرجع فوقع بين يدي سليمان فسجد فقال سليمان: ما لك؟ وأين غبت؟ فقال: " أحط بما لم تحط به، وجئتك من سبأٍ بنبأٍ يقين " قال: وما نبؤك؟ قال: " إني وجدت امرأةً تملكهم وأوتيت من كل شيء، ولها عرشٌ عظيم " إلى " فهم لا يهتدون " فدعا سليمان برقٍّ فكتب فيه بيده وطواه وختمه بخاتمه، ولم يكتب فيه عنواناً ثم قال: " سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " إلى " فانظر ماذا يرجعون " فانطلق الهدهد بالكتاب حتى ألقاه في حجر بلقيس.
وفي رواية: فجاء الهدهد وقد غلقت الأبواب، وكانت تغلق أبوابها وتضع مفاتحها تحت رأسها، فجاء الهدهد فدخل من الكوة فألقى الصحيفة عليها ففرحت وظنت أنه ألقي إليها من السماء فقالت: يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتابٌ كريم " وظنت أنه من عند الله، فمن هناك سمته كريماً، فلو أنها علمت أنه من سليمان ما سمته كريماً، كانت هي أعز في نفسها من أن تسمي كتاب سليمان كريماً، فلما فتحته قالت: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين، قالت: يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعةً أمراً حتى تشهدون " قالوا: أيها الملكة ما أحدٌ في الأرض أعز منا منعةً، ولا أقوى منا بمال، ولا أشد منا بطشاً ولا أبعد منا صوتاً، ولا أقهر منا عزاً، فنرى أن نسير إليهم " والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين " فقالت: إن سليمان قد ادعى أنه نبي فإن كان(5/286)
صادقاً فإن الله معه، ومن يكن الله معه يغلب، وإن كان نبياً ثم سرنا إليه أهلكنا بجنود الله، وإن سار إلينا فوطئنا بمن معه من الجنود كان فساد بلادكم وأهل ملتكم، ولكني باعثةٌ إليه بهدية، فإن كان سليمان ملكاً يرضى بالدنيا ويريدها، فإنه سيرضى منا بالهدايا واللطف، وإن كان نبياً فإنه لا يرضى دون أنى نأتيه مسلمين أو مقهورين، فإن كان نبياً أتيناه مسلمين أحب إلينا من أن يطأ بلادنا، فقال القوم: فأمرك عندنا طاعة؛ فبعثت إليه بثلاث لبناتٍ من ذهب في كل لبنةٍ مائة رطل من ذهب، وياقوتةٍ حمراء طولها شبر، مثقوبة، وثلاثين وصيفاً قد حلقت رؤوسهم، وثلاثين وصيفةً قد حلقت رؤوسهن، وكتبت إليه: إني قد بعثت إليك بهديةٍ فاقبلها؛ وبعثت إليك بياقوتةٍ طولها شبر مثقوبة فأدخل فيها خيطاً ثم اختم على طرفي الخيط بخاتمك؛ وبعثت إليك بثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفةً تميز الغلمان من الجواري ولا تجرد منهم أحداً.
فلما فصلت الرسل من عندها جاء دمرياط - وكان أميراً على الشياطين - فقال لسليمان: إن بلقيس قد بعثت إليك بثلاث لبناتٍ من ذهب، وياقوتةٍ حمراء، وثلاثين وصيفاً وثلاثين وصيفةٍ؛ فقال سليمان لدمرياط: افرشوا لي من باب مجلسي إلى طريق القوم ثمانية أميالٍ في ميل عرضاً لبن ذهب، فبعث دمرياط الشياطين فقطعوا من الجبال الملس، فموهوه بالذهب، ففرشوا من باب سليمان الطريق للرسل ثمانية أميالٍ في ميلٍ عرضاً، ونصبوا على جنبتي الطريق أساطين من ياقوتٍ أحمر، فلما جاءت الرسل فنظروا إلى الذهب والياقوت! فقال بعضهم لبعض: أن ننطلق إلى هذا الرجل بثلاث لبناتٍ من ذهب وعنده من الذهب ما قد فرش به الطريق!؟ فقال رئيسهم إنما نحن رسل نبلغ ما أرسل به معنا؛ فمضوا حتى دخلوا على سليمان، فقرأ كتاب بلقيس، ووضعوا اللبنات بين يديه فقال: " أتمدوننّ بمال " إلى " تفرحون " قال: تفرحون بثلاث لبنات ذهب؟! انطلقوا فخذوا ما رأيتم ثلاثمائة أو ثلاثة آلاف أو ثلاثين ألفاً أو ثلاث مائة ألف أو ثلاثة آلاف ألف، فقالوا: أيها الملك إنما نحن رسل، فأمر بقبض اللبنات، ثم دعا بالياقوتة فأخذ ذرةً فربط فيها خيطاً ثم أدخلها في ثقب الياقوت حتى خرجت من الجانب الآخر، ثم جمع طرفي الخيط ثم ختم عليه، ثم دعا بتورٍ من ماء، فوضعوه، ثم أمر أولئك الوصفاء أن يتوضؤوا واحداً واحداً فميزهم(5/287)
بالوضوء، الغلمان من الجواري ثم قال: هؤلاء غلمان وهؤلاء جوارٍ.
قالت الرسل: أيها الملك اكتب إليها بجواب كتابها، فقال: لا، ارجعوا إليهم " فلنأتينهم بجنودٍ لا قبل لهم بها " الآية، فرجعت إليها الرسل فقالت: ما جئتم به من عند سليمان؟ فقالوا: ما كنت صانعةً حتى يأتيك الجنود فالآن.
فاستقلت ومن معها وحملت الخزائن والسلاح على سبعين فيلاً، ثم توجهت ومعها أولئك الألف الذين بين يديها، وخلفت عرشها، فلما فصلت جاء دمرياط فقال: أيها الملك إن بلقيساً قد خرجت إليك ومعها ألف ملك قد حملت خزائنها وسلاحها على سبعين فيلاً، فقال سليمان: ما فعل عرشها أمعها أم خلفته؟ فقال: بل خلفته، قال سليمان: " فأيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين "؟ قال دمرياط: " أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإنه عليه لقويٍّ أمين " وكان سليمان يصلي الصبح ثم يجلس للناس إلى طلوع الشمس، فقال: آتيك به من حين تجلس إلى حين تقوم، فقال سليمان: أريد أعجل من ذلك، فقال آصف: " أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك " قال: يرتد إليك طرفك: هو أن تنظر إلى الشيء فتتبين أنه حمار أو دابة حتى ينتهي إليك أو تنتهي إليه؛ وكان آصف يقوم على رأس سليمان بالسيف.
قال: أنت؟! قال: نعم، قال: فافعل، فنزل آصف قائم السيف من يده ثم رفع يده فإذا العرش موضوعٌ بين يدي سليمان، فكاد سليمان أن يفتتن، فقال: ربي سألتك ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي، ربي فجعلت في ملك يمني وفي خولي ومن يجري عليه رزقي من قدر على هذا ولم أقدر عليه، هذا نقصانٌ في ملكي، فدخلت سليمان فتنةٌ، ثم عصم فراجع فقال: أليس " هذا فضل ربي، ليبلوني أأشكر أم أكفر " الآية.
" قال: نكروا لها عرشها "، وكان عرشها عليه صفائح من ذهبٍ وفضة، قد ركبت فيه فصوص الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر واللؤلؤ، وكان للعرش قائمتان من زبرجد وقائمتان من ياقوتٍ أحمر، فكان تنكيرهم إياه، أن نزعوا صفيحة الذهب، فجعلوها مكان الفضة، وصفيحة الفضة مكان الذهب، والياقوت مكان الزبرجد والدر مكان اللؤلؤ والقائمتين للزبرجد مكان القائمتين للياقوت، فجاءت بلقيس فدخلت على سليمان وقد وضع لها بين(5/288)
يدي سليمان كرسي، فجلست عليه، فقال سليمان: أنت امرأةٌ من العرب يا بلقيس في بيت ملكٍ ومملكة، تعبدين الشياطين وتشركين بالله، وتكفرين النعم؟! فقالت: يا سليمان إنك نبيٌ مصطفى وقد انتخبك الله لنفسه، واختارك لخلقه، ورضي بك لعباده، ولا ينبغي لك أن تعيرني، لأن الله تعالى يغير ولا يغيَر؛ فكف سليمان عنها، فأنشأت تذكر منزلتها ومجلسها، فقال سليمان لآصف: خذ بيدها فأدخلها صرحي، وكان صرح سليمان ميلاً في ميل، طول سقفه ثمانون ذراعاً قارورةٌ خضراء، أرضه وجدره وسقفه، فلما قامت بلقيس على باب الصرح حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها وكانت بيضاء، كثيرة الشعر، فنظر سليمان إلى ساقيها ثم صرف بصره فقال آصف: أرسلي ثيابك إنه صرحٌ ممردٌ من قوارير، فلما مشت في الصرح ورفعت رأسها ونظرت قالت في نفسها: لا والله ما هذا عمل الإنس، قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "، فقال سليمان لدمرياط: اصنعوا شيئاً يذهب شعر بلقيس، فقال: الحلقة، فقال سليمان: هذا يحلق ما ظهر فكيف بما بطن؟ فصنعوا النورة، فكانت النورة أول ما صنعت.
فأمر سليمان ببلقيس فانطلق بها إلى النساء فهيئت، فتزوجها سليمان فأحبها ونزلت منه بمنزلةٍ لم ينزلها أحدٌ من نسائه.
وكان سليمان قبل أن يتزوج بلقيس لا يدفع خاتمه إلى أحدٍ ولا يأمن عليه أحداً، فلما تزوج بلقيس أمنها على خاتمه، وكان إذا دخل لحاجته جاءت بلقيس فدفع الخاتم إليها، فإذا قضى حاجته خرج فقال لها: هاتي ماءً فتوضئه، ثم يأخذ الخاتم منها فيخرج إلى الناس، فبينما هو ذات يوم قد دخل لحاجته، وقد دفع الخاتم لبلقيس؛ إذ جاء دمرياط فدخل في صورة سليمان ثم تسور الحائط فخرج من باب المخرج فقال لبلقيس: هاتي ماءً، فجاءته بماء فوضأته، قال: هاتي الخاتم فأخذ الخاتم فلبسه فأفرغ على الخبيث بهجة الملك؛ وكان سلطان سليمان في خاتمه، فخرج الخبيث فجلس على عرش سليمان وبنو إسرائيل حوله جلوسٌ لا ينكرونه، وآصف قائمٌ على رأسه لا يعرفه، فخرج سليمان من الحاجة، فثارت بلقيس، فقالت في نفسها: ما لسليمان أن دخل معه الخاتم؟! فقال لها سليمان: هاتي ماءً، فجاءته(5/289)
بماء، فتوضأ ثم قال: هاتي الخاتم قالت: قد دفعت إليك الخاتم قال سليمان: يا بلقيس اتقي الله فإن الله قد هداك على يدي للإسلام، وأخرجك من الشرك وأهله، وإني قد ائتمنتك على سلطان ربي الذي وهبه لي فلا ينبغي لك أن تخونيني، قالت بلقيس: وأنت يا سليمان فاتق الله، فإن الله قد اصطفاك وأكرمك برسالاته، ولا ينبغي لك أن تخونني، فإني لم أخنك، فقال سليمان: من أخذ الخاتم؟ قالت: أنت أخته ولا أنكرك، فعرف سليمان أن البلية قد نزلت، فاطلع إلى مجلسه فإذا دمرياط جالسٌ على عرشه، فطرح سليمان ثيابه ولبس ثياباً دونها ثم خرج يسيح في الأرض، فإذا جاع دخل بعض القرى فيأتي العجوز جالسةً بباب بيتها فيستطعمها فترده فيقول: أطعميني فإني سليمان، فتقول: سليمان ملك الدنيا وتأخذ التراب والحجارة وترميه به وتقول: لمَ تكذب على سليمان؟ فلم يزل يطوف حتى انتهى إلى بحر القلزم، فإذا صيادون في سفينة يصيدون الحيتان، فقال لهم سليمان: أؤاجركم على نفسي على أن تطعموني.
قالوا: نعم، فاستأجروه كل يومٍ بأربعة أرغفة وحوتين، فكان معهم فإذا جاءت السفينة فيها حيتان أخذ سليمان مكيلاً فنقل الحيتان من السفينة إلى البر، فلم يزل مع الصيادين.
وأنكرت بنو إسرائيل أحكامهم وأمورهم وقضاياهم؛ ففزع بعضهم إلى بعض ولقي بعضهم بعضاً، وفزعت الأشراف إلى الفقهاء فقالوا: ما أنكرتم ما أنكرنا من أمر سليمان؟ فقال الفقهاء: بلى، فقالوا: لئن كان هذا سليمان لقد خولط فهلكت الأرض ومن عليها، فلقي الفقهاء آصف، فقالوا: هل أنكرت من أمر سليمان؟ فقال: لئن كان هذا سليمان لقد هلكنا، وكان آصف غلاماً من أولاد الأنبياء، كان في حجر سليمان قد تبناه، وكان يدخل على نسائه، فقال الفقهاء: لآصف: ادخل على النساء فسلهن؛ فدخل آصف على النساء فسألهن، فقلن: ما هذا سليمان وبكين، وقلن: لئن كان هذا سليمان لقد هلكنا وهلكتم وهلكت الأرض، لا والله ما هو سليمان.
وكان ذلك لتسعٍ وثلاثين ليلةً من بلية سليمان، فخرج آصف فقال: يا معشر بني إسرائيل افعلوا ما أنتم فاعلون، فإن هذا ليس بسليمان، واجتمعت بنو إسرائيل وأجمعوا على أن ينهضوا بالفاسق دمرياط؛ فبلغه ذلك فهرب وذهب معه بالخاتم صبيحة أربعين ليلة من بلية سليمان حتى أتى بحر القلزم، وكان القلزم من أبعد البحور قعراً، فرمى بالخاتم في البحر وقال: لا يرجع إلى سليمان ملكه أبداً، ثم أتى جزيرةً من القلزم فكان فيها، وبعث الله حوتاً تدعى الملكة فالتقمت الخاتم(5/290)
حين طرحه الفاسق، فانطلق الصيادون الذين معهم سليمان فألقوا شبكتهم، فجروا الشبكة وألقوا ما فيها في السفينة، فأخذ سليمان مكيلاً ينقل الحيتان على عنقه إلى الشاطئ حتى حان غداؤه، فقال لأصحابه: هاتوا غدائي فأعطوه رغيفين ثم تناول بعضهم حوتاً وطرحه إليه وهي الملكة، فأخذها وشق بطنها، فبدر الخاتم فأخذه سليمان فقبله ووضعه في يده فجاءته الطير فأظلته وجاءت الريح فحفت به وجاءت الجن فطارت بجنبيه، فنظر إليه الملاحون فكبروا وخروا سجداً له، فقالوا: أيها الملك إنا لم نعرفك، فقال سليمان: لست ألومكم على ما كان ولا أحمدكم على ما صنعتم إنما هو سلطان ربي أعطانيه قهر به خلقه، وسخرهم لي.
وأمر الريح فحملته ومن معه من الجنود تزيف بهم على وجه الأرض وعلى البحور حتى أتى منزله؛ ثم قال للشياطين علي بالفاسق دمرياط؛ فطافت الشياطين حتى وجدوه في جزيرة القلزم، فصرخوا به فخرج، فقالوا: يا دمرياط أجب سليمان، قال: وأين سليمان؟ أليس قد هلك، ألقيت خاتمه حيث لا يرجع ملكه إليه أبداً!؟ فقالوا: ويلك، إن سليمان قد رد الله إليه خاتمه ورجع إليه ملكه، فقال الفاسق: لا والله لا آتيه أبداً، فرجعوا إلى سليمان فقالوا: إنه قد أبى، فدعا سليمان بطينة فختمها بخاتمه ثم قال: انطلقوا بهذه الطينة واصرخوا به، فإذا خرج فاطرحوا الطينة إليه فإنه سيأتي صاغراً، فانطلقوا فصرخوا به، فلما خرج إليهم، قالوا: انطلق إلى سليمان، قال: لا والله، قالوا: فانظر في هذه الطينة، فطرحوا إليه الطينة، فنظر فيها، فبكى وقال: قهرني سليمان بسلطان ربي، فجاء حتى عبر إليهم فأخذوه وأوثقوه، وأتوا به سليمان، فلما كلمه سليمان قال له دمرياط: لا عذر لي فاصنع ما أنت صانع.
فأمر سليمان الشياطين، فأتوه بحجر طوله أربعون ذراعاً فقال: خذوا الخبيث فأدخلوه في جوفه، ثم أمر بالقطر - وهو النحاس الأحمر - فصب عليه، ثم قال: خذوا هذه الصخرة فانطلقوا بها إلى القلزم فاطرحوه في قعرها ففعلت الشياطين.
قال ابن عباس: لم يجر عرش صاحبة سبأٍ بين السماء والأرض ولكنه انشقت له الأرض، فجرى تحت(5/291)
الأرض حتى ظهر بين يدي سليمان.
وكان عرشها ثلاثة أبيات بعضها على بعض من ياقوتةٍ حمراء، على أربع دعائم.
قال أبو المليح: أردت سفراً فأتيت ميمون بن مهران أودعه فقال لي: لا تيأس أن تصيب في سفرك هذا أفضل ما طلبت، فإن موسى خرج يقتبس لأهله ناراً فكلمه الله، وإن صاحبة سبأ خرجت ليس شيءٌ أحب إليها من ملكها فرزقها الله الإسلام.
قال همام بن منبه: قدمت مكة فجلست إلى ابن الزبير ومعه جماعةٌ من قريش.
فقال رجل من قريش: ممن أنت؟ قلت: من اليمن قال: ما فعلت عجوزكم؟ قلت: أي عجوز؟ قال: بلقيس.
قلت له: عجوزنا أسلمت مع سليمان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعجوزكم حمالة الحطب في جيدها حبلٌ من مسد.
روى الأوزاعي قال: كسر برجٌ من أبراج تدمر، فأصابوا فيه امرأةً حسناء، دعجاء، مدرجةً مدمجة، كأن أعطافها طي الطوامير المدرجة، عليها عمامة طولها ثمانون ذراعاً مكتوبٌ على طرف العمامة بالذهب:
بسم الله الرحمن الرحيم، أنا بلقيس ملكة سبأ، زوجة سليمان بن داود ملكت الدنيا كافرةً ومؤمنة، ملكت ما لم يملكه أحدٌ قبلي، ولا يملكه أحدٌ بعدي، صار مصيري إلى الموت، فأقصروا يا طلاب الدنيا.
ولما تزوج سليمان بلقيس قالت: ما مستني حديدةٌ قط، فقال للشياطين: انظروا أي شيءٍ يذهب بالشعر غير الحديد، فوضعوا له النورة، فكان أول من وضعها له شياطين سليمان.
أسماء الرجال على(5/292)
حرف التاء المثناة فوقها
تُبع بن حسان بن ملكيكرب بن تبع
ابن الأقرن ويقال: إن اسم تبع هذا حسان بن تبع بن أسعد بن كرب الحميري، وتبع لقبٌ للملك الأكبر بلغة أهل اليمن، ككسرى بالفارسية، وقيصر بالرومية، والنجاشي بالحبشة، ملك تبع دمشق.
قال أبو نصر بن ماكولا: أما تبان، أوله تاء معجمة باثنتين من فوق، وبعدها باء معجمة بواحدة، فهو تبع الحميري واسمه أسعد تبان أبو كرب بن ملكي كرب بن قيس بن زيد بن عمرو ذي الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، ويقال: هو أول من كسا البيت.
قال سعيد بن عبد العزيز: كان تبع إذا عرض الخيل قاموا صفاً من دمشق إلى صنعاء اليمن.
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما أدري الحدود كفارةٌ لأهلها أم لا، ولا أدري تبع لعيناً كان أم لا، ولا أدري، ذو القرنين نبياً كان أم ملكاً؟ ".
وفي رواية: " أعزير كان نبياً أم لا؟ ".(5/293)
وعن ابن عباسٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاث وثلاث وثلاث، فثلاث لا يمين فيهن، وثلاث الملعون فيهن، وثلاث أشك فيهن؛ فأما الثلاث التي لا يمين فيهن: فلا يمين مع والد؛ ولا المرأة مع زوجها؛ ولا المملوك مع سيده. وأما الملعون فيهن؛ فملعونٌ من لعن والديه؛ وملعونٌ من ذبح لغير الله، وملعون من غير تخوم الأرض. وأما الذي أشك فيهن: فعزير لا أدري أكان نبياً أم لا؛ ولا أدري ألعن تبع أما لا؟ قال: ونسيت ".
- يعني الثالثة - وهذا الشك من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قبل أن يتبين له أمره ثم أخبر أنه كان مسلماً.
كما روي عن سهل بن سعد قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تسبوا تبعاً فإنه قد أسلم ".
قال أبو مجلز: جاء ابن عباس إلى عبد الله بن سلام.
فقال: إني أسألك عن ثلاث؟ قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم.
قال: تسألني وأنت تقرأ القرآن؟! قال: نعم، أسألك عن تبع ما كان؟ وأسألك عن عزير ما كان؟ وأسألك عن الهدهد لمَ تفقده سليمان صلى الله على نبينا وعليه، من بين الطير؟ قال: أما تبع فإنه كان رجلاً من الهرب ظهر على الناس وسبى فتيةً من الأحبار فأفسد عليهم أوقات دعائهم فأنكر الناس تبعاً، قال: قد ترك دينكم وآلهتكم فما تقولون، أو فما تأمرون؟ فقالوا: بيننا وبينهم النار التي تحرق الكاذب وينجو منها الصادق، فعرض ذلك تبع على أصحابه، فرضوا بذلك، فعمد بهم تبع إلى النار فأمر الفتية أن يدخلوا فيها، فألقوا مصاحفهم في أعناقهم فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت النار وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فقال تبع: لتدخلنها، فدخلوها فانفرجت عنهم حتى مضوا، ثم أمر قومه أن يدخلوها فلما أرادوا أن يدخلوها سفعت وجوههم فوجدوا حرها فنكصوا، فأمر بهم تبع أن يدخلوها فدخلوها فانفرجت لهم حتى توسطوها، فأحاطت بهم فأحرقتهم.
فأسلم تبع.
وكان رجلاً صالحاً.
وأما عزير فإنه لما ظهر بخت نصر على بني إسرائيل خرب بيت المقدس، وشقوا المصاحف.
ودرست السنة، وكان عزير توحش في الجبال، وكانت له عينٌ يشرب منها.(5/294)
فمثلت له عند العين امرأة، فلما جاء ليشرب فبصر بالمرأة فانصاع.
فلما جهده العطش أتاها وهي تبكي.
قال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي على ابني، قال: أكان يخلق؟ قالت: لا.
قال: فكان يرزق؟ قالت: لا، وذكر الحديث، قالت: ما بالك هاهنا تركت قومك؟ قال: وأين قومي؟ قالت: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك.
قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه فانتهى إلى قومه فأحيا لهم التوراة والسنة.
وأما الهدهد فإن سليمان - صلوات الله على نبينا وعليه - نزل منزلاً فلم يدر ما بعد الماء، فسأل عن بعد الماء، فقالوا: الهدهد فعند ذلك تفقده.
حدث محمد بن إسحاق قال: سار تبع الأول إلى الكعبة.
فأراد هدمها وكان من الخمسة الذين لهم الدنيا بأسرها.
وكان له وزراء.
فاختار منهم واحداً وأخرجه معه وكان يسمى عميارسنا لينظر إلى مملكته، وخرج في مائة ألف وثلاثين ألفاً من الفرسان ومائة ألف وثلاثة عشر ألفاً من الرجالة.
وكان يدخل كل بلدة وكانوا يعظمونه وكان يختار من كل بلدةٍ عشرة أنفس من حكمائهم حتى جاء إلى مكة ومعه أربعة آلاف رجل من الحكماء الذين اختارهم من بلدانٍ مختلفة، فلم يتحرك له أحد ولم يعظموه، فغضب عليهم، ودعا عميارسنا وقال: كيف شأن أهل هذه البلد الذين لم يهابوني ولم يهابوا عسكري كيف شأنهم وأمرهم؟ قال الوزير: إنهم قوم عربيون جاهلون لا يعرفون شيئاً، وإن لهم بيتاً يقال له الكعبة، وإنهم معجبون بها، ويسجدون للطاغوت والأصنام من دون عز وجل.
قال الملك: إنهم معجبون بهذا البيت؟ قال: نعم.
فنزل ببطحاء مكة معه عسكره، وتفكر في نفسه دون الوزير ودون الناس وعزم أن يأمر بهدم هذا البيت وأن التي سميت كعبة تسمى خربة، وأن يقتل رجالهم ويسبي نساءهم وذراريهم.
فأخذه الله عز وجل بالصداع، وفتح من عينيه وأذنه وأنفه وفمه ماءً منتناً، فلم يكن يستقر أحدٌ عنده طرفة عين من نتن الريح، فاستيقظ لذلك وقال لوزيره اجمع العلماء والأطباء وشاورهم في أمري؛ فاجتمع العلماء والأطباء عنده فلم يصبر أحد منهم ولم تمكنهم مداواته؛ قال: قد جمعت حكماء بلدانٍ مختلفة ووقعت في هذه العلة،(5/295)
فلم يقم أحدٌ في مداواتي، فقالوا: بأجمعهم: يا قوم أمرنا أمر الدنيا، وهذا أمرٌ سماويٌ لا نستطيع مرد أمر السماء، واشتد الأمر على الملك، فتفرق الناس وأمره كل ساعةٍ أشد، حتى أقبل الليل وجاء أحد العلماء إلى وزيره فقال: إن بيني وبينك سراً وهو أنه إن كان الملك يصدق لي في كلامه وما نواه عالجته فاستبشر بذلك الوزير وأخذ بيده وحمله إلى الملك وقال للملك إن رجلاً من العلماء ذكر: إن صدق الملك وما نواه في قلبه ولم يكتم شيئاً منه عالجه؛ فاستبشر الملك وأذن له بالدخول عليه فدخل فقال: إن بيني وبينك سراً أريد الخلوة فيه، فخلا به وقال: هل نويت في هذا البيت أمراً؟ قال: نعم، نويت أن أخرب هذا البيت وأقتل رجالهم وأسبي نساءهم، فقال: إن وجعك وبلاءك من هذا، اعلم أن صاحب هذا البيت قويٌ يعلم الأسرار، فيجب أن تخرج من قلبك جميع ما نويت من أذى هذا البيت وذلك خير الدنيا والآخرة، قال الملك: فقد أخرجت جميع المكروهات من قلبي ونويت جميع الخيرات والمعروفات، فلم يخرج العالم الناصح من عنده حتى برأ من العلة وعافاه الله عز وجل بأمر الله جل وعلا من ساعته، وخرج من منزله صحيحاً على دين إبراهيم - صلى الله على نبينا وعليه - وخلع على الكعبة سبعة أثواب، وهو أول من كسا البيت ودعا أهل مكة فأمرهم بحفظ الكعبة، وخرج هو إلى يثرب.
ويثرب هي بقعةٌ فيها عين ماء ليس فيها نبت ولا بيت ولا أحد فنزل على رأس العين مع عسكره بجمع العلماء والحكماء الذين كانوا معه واختارهم من بلدانٍ مختلفة ورئيس العلماء العالم الناصح الشفيق لدين الله عز وجل الذي أعلم الملك شأن الكعبة، ثم إنهم اجتمعوا وتشاوروا فاعتزل من بين أربعة آلاف رجلٍ عالم أربع مائة رجل، كل من كان أعلم وأفهم وبايع كل واحدٍ منهم صاحبه أنهم لا يخرجون من ذلك المقام وإن ضربهم الملك وقتلهم وقرضهم وأحرقهم وجاؤوا بجملتهم ووقفوا بباب الملك وقالوا: إن خرجنا من بلداننا فطفنا مع الملك زماناً وحيناً ونريد أن نقيم في هذا المقام إلى أن نموت فيه، وإنا قد عقدنا أن لا نخرج من هذا المقام إلى أن نموت، وإن قتلتنا وحرقتنا، فقال الملك للوزير: انظر ما شأنهم يمتنعون عن الخروج معي وأنا أحتاج إليهم ولا أستغني عنهم، وأي حكمةٍ في نزولهم في هذا المقام واختيارهم؟ فخرج الوزير وجمعهم وذكر لهم قول الملك، فقالوا للوزير مثل ما قالوا للملك، قال الوزير: فما الحكمة في ذلك؟ قالوا: أيها الوزير اعلم أن شرف هذا البيت وشرف هذه البلدة بسبب هذا الرجل الذي يخرج، يقال له محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(5/296)
إمام الحق، صاحب القضيب والناقة والتاج والهراوة، وصاحب القرآن والقبلة، وصاحب اللواء والمنبر، صاحب قول لا إله إلا الله، ومولده بمكة، وهجرته إلى ههنا فطوبى لمن أدركه وآمن به، وكنا على رجاء أن ندركه أو يدركه أولادنا فلما سمع الوزير مقالتهم هم أن يقيم معهم؛ فلما جاء وقت الرحيل أمر الملك أن يرحلوا، فقالوا بأجمعهم: لا نرحل، وقد أخبرنا الوزير بحكمة مقامنا ههنا؛ فدعا الملك الوزير فقال له: لم تخبرنا بمقالة القوم، قال: لأني عزمت على المقام معهم وخفت أن لا تدعني، وأعلم أنهم لا يخرجون، فلما سمع الملك منه تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر الملك أن يبنوا أربع مائة دار، لكل رجلٍ من العلماء دار، واشترى لكل منهم جاريةً وأعتقها وزوجها منه، وأعطى لكل واحد منهم عطاءً جزيلاً، وأمرهم أن يقيموا في ذلك الموضع إلى وقت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب كتاباً وختمه بالذهب ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصحه في شأن الكعبة، وأمره أن يدفع الكتاب إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أدركه، وإن لم يدركه إلى أولاده، وأولاد أولاده أبداً ما تناسلوا إلى حين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكان في الكتاب: أما بعد، يا محمد فإني آمنت بك وبكتابك الذي أنزله الله عليك، وأنا على دينك وسنتك وآمنت بربك ورب كل شيء، وبكل ما جاء من ربك عز وجل من شرائع الإيمان والإسلام، وإني قبلت ذلك، فإن أدركتك فبها ونعمت، وإن لم أدركك فاشفع لي يوم القيامة ولا تنسني، وإني من أمتك الأوابين وبايعتك قبل مجيئك، وقبل إرسال الله تعالى إياك، وأنا على ملتك وملت أبيك إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وختم الكتاب بالذهب ونقش عليه " لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذٍ يفرح المؤمنون بنصر الله " وكتب عنوان الكتاب إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب العالمين صلوات الله عليه، من تبع الأول حمير بن وردع، أمانة الله في يد من وقع، إلى أن يوصل إلى صاحبه.
ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصح له في شأن الكعبة وأمره بحفظها.
وخرج تبع من يثرب، ويثرب هو الموضع الذي نزل به العلماء، وهو مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وسار تبع حتى مر بغلسان بلدةٍ من بلاد الهند فمات بها.(5/297)
ومن اليوم الذي مات فيه تبع إلى اليوم الذي ولد فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألف سنةٍ لا زيادة فيه ولا نقصان، ثم إن أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أولاد أولئك العلماء الأربع مائة الذين سكنوا دور تبع إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسمعوا بخروجه استشاروا في إيصال الكتاب إليه فأشار عليهم عبد الرحمن بن عوف وكان قد هاجر قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن اختاروا رجلاً ثقةً وابعثوا بالكتاب معه إليه فاختاروا رجلاً يقال له: أبو ليلى وكان من الأنصار، ودفعوا إليه الكتاب وأوصوه محافظة الكتاب والتبليغ؛ وخرج على طريق مكة، فوجد محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قبيلة سليم، فعرف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعاه وقال: " أنت أبو ليلى ومعك كتاب تبع الأول ".
فبقي الرجل متفكراً وذكر في نفسه أن هذا من العجب ولم يعرفه، فقال: من أنت فإني لست أعرف في وجهك أثر السجود، وتوهم أنه ساحر فقال: " لا بل أنا محمد، هات الكتاب ".
ففتح الرجل رحله وكان يخفي الكتاب فدفعه إليه، فقرأه أبو بكر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " مرحباً بالأخ الصالح ".
ثلاث مرات، وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة، فرجع وبشر القوم، فأعطاه كل واحدٍ منهم عطاءً على تلك البشارة.
وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله أهل القبائل أن ينزل عليهم وتعلقوا بناقته، فقال: " دعوها فإنها مأمورة ".
حتى جاءت إلى دار أبي أيوب فبركت، ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في دار أبي أيوب، وأبو أيوب كان من أولاد العالم الناصح لتبع في شأن الكعبة، وكانوا ينتظرونه، فهم من أولاد العلماء الذين سكنوا يثرب في دور تبع الذي بنى لهم، والدار التي نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها هي الدار التي بنى تبع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأنشد أبو زيد لتبع الأول: " من الكامل "
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافيةً ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت بالنفس
قال محمد بن إسحاق: ولما فعل تبع ما فعل غضبت ملوك حمير وقالوا: أما كان يرضى أن يطيل غزونا ويبعدنا في المسير من أهلنا حتى طعن علينا أيضاً في ديننا وعاب آباءنا فاجتمعوا على أن(5/298)
يقتلوه ويستخلفوا أخاه من بعده.
فاجتمع رأي الملوك كلهمعلى ذلك إلا ذا همدان فإنه أبى أن يمالئهم على ذلك، فثاروا به فأخذوه ليقتلوه، فقال لهم: أتراكم قاتلي؟ قالوا: نعم، قال: أما لا، فإذا قتلتموني فادفنوني قائماً فإنه لن يزال لكم ملك قائم مادمت قائماً فلما قتلوه قالوا والله لا يهلكنا حياً وميتاً فنكسوه على رأسه فقال في ذلك ذو همدان في الذي كان من أمره: " من الوافر "
إن تك حميرٌ غدرت وخانت ... فمعذرة الإله لذي رعين
ألا من يشتري سهراً بنومٍ ... سعيدٌ من يبيت قرير عين
ثم استخلفوا أخاً له يقال له عبد كلال فزعموا أنه كان لا يأتيه النوم بالليل فأرسل إلى من كان ثم من يهود فقال: ويحكم ما ترون شأني؟ فقالوا: إنك غير نائمٍ حتى تقتل جميع من مالأك على قتل أخيك.
فتتبعهم فقتل رؤوس حمير وخونتهم، ثم خرج ابنٌ لتبع يقال له: دوس، حتى أتى قيصر فهو مثلٌ في اليمن يضرب به بعد لا كدوس ولا كعملق رحله.
فلما انتهى إلى قيصر دخل عليه، فقال له: إني ابن ملك العرب، وإن قومي عدوا على أبي فقتلوه، فجئتك لتبعث معي من يملك لي بلادي وذلك لأن ملكهم الذي ملكهم بعد أبي قد قتل أشرافهم ورؤوسهم، فدعا قيصر بطارقته فقال: ما ترون في شأن هذا؟ فقالوا: لا نرى أن تبعث معه أحداً إلى بلاد العرب وذلك أن لا نأمن هذا عليهم ليكون إنما جاء ليهلكهم؟ فقال قيصر: كيف أصنع به وقد جاءني مستغيثاً؟ فقالوا: اكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة - وملك الحبشة يدين لملك الروم - فكتب له إليه وأمره أن يبعث معه رجالاً إلى بلده، فخرج دوسٌ بكتاب قيصر حتى أتى به النجاشي، فلما قرأه نخر وسجد له، وبعث معه ستين ألفاً واستعمل عليهم روزبه، فخرج في البحر حتى أرسى إلى ساحل اليمن فخرج عليهم هو وقومه، فخرجت عليهم حمير، وحمير(5/299)
يومئذٍ فرسان أهل اليمن، فقاتل أهل اليمن قتالاً شديداً على الخيل، فجعلوا يكردسونهم كراديس، ثم يحملون عليهم فكلما مضى منهم كردوس تبعه آخر فلما رأى ذلك روزبه، قال لدوس: ما جئت بي هاهنا إلا لتحرر بي قومك فلأبدأن بك ولأقتلنك قبل أن أقتل، فقال: لا تفعل أيها الملك ولكن أشير عليك فتقبل مني؟ قال: نعم فأشر عليّ، قال له دوس: أيها الملك إن حمير قوم لا يقاتلون إلا على الخيل، فلو أنك أمرت أصحابك فألقوا بين أيديهم درقهم وأترستهم، ففعلوا ذلك، فجعلت حمير تحمل عليهم فتزلق الخيل عن الترسة والدرق فتطرح فرسانها فيقتل الآخرون، فلم يزالوا كذلك حتى رقوا وكثرهم الآخرون، وإنهم ساروا حتى دخلوا صنعاء فملكوها وملكوا اليمن.
تبوك بن أحمد بن تبوك بن خالد
ابن يزيد بن عبد الله بن يزيد بن غنم بن حجر، أبو محمد مولى نصر بن الحجاج بن علاط السلمي.
حدث عن هشام بن عمار بسنده إلى عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله ورسوله وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة شاء ".
توفي تبوك بن أحمد في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاث مائة.
تبوك بن الحسن بن الوليد بن موسى
ابن سعيد بن راشد بن يزيد بن فندش بن عبد الله أبو بكر الكلابي المعدل، أخو عبد الوهاب.
حدث عن محمد بن أحمد الخلال بسنده عن عبد الله بن معقل قال: دخلت أنا وأبي على ابن مسعود فقال له أبي: أنت سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " الندم توبة؟ " قال: نعم أنا سمعته يقول الندم توبة.(5/300)
وحدث عن سعيد عن عبد العزيز بسنده عن الزهري: أن مروان بن الحكم قال: سألت زيد بن ثابت عن الخلسة؟ فقال: ليس في الخلسة قطع.
توفي تبوك بدمشق في رمضان سنة ثمانٍ وسبعين وثلاث مائة.
تبيع بن عامر أبو عبيدة
ويقال: أبو عتبة، ويقال: أبو عبيد، ويقال: أبو حمير، ويقال: أبو غطيف، ويقال: أبو عامر الحميري.
ابن امرأة كعب الأحبار.
يقال إنه أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأسلم في زمن أبي بكر الصديق، وقرأ القرآن على مجاهد بأرواد جزيرة في البحر قريبة من القسطنطينية، وكانا غازيين بها.
حدث تبيع عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا آتاك الله هذا المال من غير مسألة ولا إشراف فخذه فكله وتموله ".
وحدث تبيع عن كعب قال: من أحسن الوضوء، ثم صلى العشاء الآخرة، ثم صلى بعدها أربع ركعاتٍ يتم الركوع والسجود، يعلم ما يقرأ فيهن كن له بمنزلة ليلة القدر.
وعن خليد بن عجلان قال: قال ابن امرأة كعب لعمرو بن سعيد حين خلع: إني قد قرأت في الكتب أن رجلاً من قريش يسافر مع ملك، ثم يغدر به ويدخل مدينةً من مدائن الشام يتحرز فيها ثم يقتل، وأنا خائفٌ عليك فاتق لا تكونه.
قال معاذ بن عبد الله بن حبيب: رأيت ابن عباس يسأل تبيعاً: هل سمعت كعباً يذكر السحاب بشيء؟ قال: سمعت كعباً يقول: إن السحاب غربال المطر، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه.
قال: صدقت، وأنا قد سمعته.
قال: وسمعت كعباً يذكر أن الأرض نبتت العام نبتاً وقابل(5/301)
غيره؟ قال: نعم، قال: وسمعت كعباً يقول: إن البذر ينزل مع المطر فيخرج في الأرض قال: صدقت، وأنا قد سمعته.
كان تبيع بن عامر رجلاً مرحلاً كان دليلاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض عليه الإسلام فلم يسلم حتى توفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأسلم مع أبي بكر رضي الله عنه، وقد كان يقص عند أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال حسين بن شفي بن ماتع الأصبحي: كنا جلوساً مع عبد الله بن عمرو بن العاص إذ أقبل تبيع فقال عبد الله: أتاكم أعلم من عليها، فلما جلس قال عبد الله بن عمرو: يا أبا عبيدة أخبرنا عن الخيرات الثلاث والشرات الثلاث، قال: نعم، الخيرات الثلاث: لسانٌ صادق، وقلبٌ نقي، وامرأة صالحة، والشرات الثلاث: لسانٌ كذوب، وقلبٌ فاجر، وامرأة سوء.
فقال عبد الله قد قلت لكم.
حدث رشيد بن كيسان الفهمي قال: كنا برودس وأميرنا جنادة بن أبي أمية الأزدي، فكتب إلينا معاوية بن أبي سفيان: إنه الشتاء ثم الشتاء، فتأهبوا له.
فقال له تبيع ابن امرأة كعب الأحبار: تقفلون إلى كذا وكذا، فقال الناس: وكيف نقفل وهذا كتاب معاوية إن الشتاء ثم الشتاء؟ فأتاه بعض أهل خاصته من الجيش فقال: ما يسميك الناس إلا الكذاب لما تذكر لهم من الفعل الذي لا يرجونه، فقال تبيع: فإنهم يأتيهم إذنهم في يوم كذا وكذا وشهر كذا وكذا، وآية ذلك أن تأتي ريحٌ فتقلع هذه الثنية التي في مسجدهم هذا، فانتشر قوله فيهم، فأصبحوا ذلك اليوم في مسجدهم ينتظرون ذلك وكان يوماً لا ريح فيه، فانتظروا حتى احتاجوا إلى المقيل والغداء، وملوا فانصرفوا إلى مساكنهم أو إلى مراكبهم، حتى إذا انتصف النهار، وقد بقي في المسجد بقايا من الناس، فأقبلت ريحٌ عصار فأحاطت بالثنية فقلعتها وتصايح الناس في منازلهم خرت الثنية، خرت الثنية، فأقبلوا(5/302)
من كل مكان حتى اجتمعوا على الساحل، فرأوا شيئاً لاصقاً يتحول في الماء، حتى تبين لهم أنه قاربٌ، فأتاهم بموت معاوية، وبيعة يزيد ابنه، وآذنهم بالقفل.
فزكوا تبيعاً وأثنوا عليه خيراً ثم قالوا: وأخرى بقيت قد دخل الشتاء ونحن نخاف أن تنكسر مراكبنا، فقال لهم تبيع: لا ينكس لكم عود نصركم، ولا ينقطع لكم حبل نصركم حتى تردوا بلادكم.
فساروا فسلمهم الله عز وجل.
كان تبيع يقول: إني لأجد نعت أقوامٍ يتفقهون لغير الله، ويتعلمون لغير العبادة، ويلتمسون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون جلود الضأن على قلوب الذئاب، فبي يغترون، وإياي يخادعون، فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحليم فيها حيران.
حدث ربيع بن سيف عن تبيع قال: إذا فاض الظلم فيضاً، وكان الولد لوالده غيظاً، والشتاء قيظاً، والحكم حيفاً والشرطة سيفاً أتاكم الدجال يزيف زيفاً.
قال تبيع: من أعرقت فيه الفارسيات لم يخطئه دينٌ أو حلم، ومن أعرقت فيه الروميات لم يخطئه شدةٌ أو ثقابة، ومن أعرقت فيه البربريات لم يخطئه حدةٌ أو تكلف، ومن أعرقت فيه الحبشيات لم يخطئه سكر أو تأنيث.
توفي تبيع سنة إحدى ومائة.
تليد الخصي مولى عمر بن عبد العزيز
ويقال: مولى زبان بن عبد العزيز.
قال تليد: كان عمر بن عبد العزيز إذا صلى الصبح في خلافته جلس في مجلسه الذي ينظر فيه(5/303)
في أمر الناس، فلا يكلم أحداً حتى يقرأ: قاف والقرآن المجيد؛ كان يفعل ذلك حتى مرض مرضه الذي مات فيه.
تمام بن عبد الله بن المظفر
أبو القاسم الظني السراج.
حدث عن أبي الحسن علي بن الحسن بن طاوس المغربي بسنده عن عبد الله بن بحينة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام في اثنتين من الصلاة ولم يجلس، فلما قضى صلاته سجد سجدتين وهو جالس، ثم سلم بعد ذلك.
توفي تمام في المحرم سنة ثلاث وثلاثين وخمس مائة.
تمام بن عبد السلام بن محمد
ابن أحمد، أبو الحسن اللخمي.
حدث عن أبي الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة القرشي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " بلغوا عني - يعني ولو آية - وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ".
تمام بن كثير أبو قدامة الجبيلي
من أهل جبيل، من ساحل دمشق.
حدث عن عقبة بن علقمة قال: سألت الأوزاعي عن الإيمان أيزيد؟ قال: نعم، حتى يكون مثل الجبال.
قال قلت: ينتقص؟ قال: نعم حتى لا يبق منه شيء.(5/304)
وسئل العباس بن الوليد البيروتي وقيل له: أليس تقول: بقول الأوزاعي؟ فقال: نعم.
وحدث عن محمد بن شعيب بن شابور، عن الوليد القاص قال: أتيت أنطاكية فإذا أسود قد نبش قبراً فأصاب فيه صحيفة نحاس، فيها مكتوبٌ بالعبرانية، فأتوا بها إلى إمام أنطاكية، فبعث إلى رجل من اليهود فقرأه فإذا فيه: أنا عون بن إرميا بعثني ربي إلى أنطاكية أدعوهم إلى الإيمان بالله فأدركني فيها أجلي، وسينبشني أسود في زمان أمة أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
تمام بن محمد بن عبد الله
ابن جعفر بن عبد الله بن الجنيد أبو القاسم بن أبي الحسن البجلي الرازي الحافظ، ولد بدمشق وسمع بها.
حدث عن أبي الحسن خيثمة بن سليمان بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورهم، كأني أنظر إليهم إذا انفلقت الأرض عنهم يقولون: لا إله إلا الله. والناس بهمّ ".
وحدث عن أبي الميمون عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد البجلي بسندهإلى سفيان الثوري قال: ما أعرف شيئاً أفضل من طلب الحديث إذا أريد به الله عز وجل.
توفي تمام بن محمد في المحرم سنة أربع عشرة وأربع مائة، وكان مولده سنة ثلاثين وثلاث مائة.
وكان ثقة مأموناً؛ قال أبو بكر بن الحداد: ما لقينا مثله في الحفظ والخبرة.(5/305)
تمام بن نجيح الأسدي
دمشقي، وقيل إنه حلبي.
حدث عن الحسن البصري، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما من حافظين رفعا إلى الله ما حفظا، فيرى الله عز وجل في أول الصحيفة خيراً أو في آخرها خيراً إلا قال الله لملائكته: اشهدوا أني قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة ".
وفي رواية: " يرفعان إلى الله ما حفظا من الليل والنهار ".
قال تمام بن نجيح: كنت عند ابن سيرين فأتاه رجلٌ فقال: إني رأيت كأني أقطف الزيتونة فأعصره في أصلها؛ فقال: إن كنت صادقاً فأنت على نكاح أمك.
قال: فلقيت عون بن عتبة - وكان شاهداً معنا عند ابن سيرين - فقال: ألم تسمع الرجل الذي سأل ابن سيرين عن الرؤيا؟ قال: قلت بلى، قال: فإني لقيته فقال لي: إني رجعت إلى امرأتي فناشدتها، فإذا هي أمي.
قال تمام بن نجيح: كنت قاعداً عند محمد بن سيرين إذ أتاه رجل فقال: إني رأيت الليلة أن طائراً نزل من السماء فوقع على ياسمينة، فنتف منها ثم إنه طار حتى دخل في السماء.
قال: فقال ابن سيرين: هذا قبض علماء.
قال تمام: فلم تمض تلك السنة حتى مات الحسن وابن سيرين ومكحول، وستةٌ من العلماء سواهم، فكانوا تسعة من علماء أهل الأرض ماتوا في تلك السنة.(5/306)
تميم بن أوس بن خارجة
ابن سود بن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار بن هانئ بن حبيب، أبو رقية الداري، له صحبة.
حدث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى عنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديث الجساسة.
وكان يسكن فلسطين وقيل: إنه سكن دمشق.
حدث عامر قال: دخلنا على فاطمة بنت قيس نسألها عن قضاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، فلما ذهبنا لنخرج قالت: كما أنتم، أحدثكم بحديثٍ سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: وأراها أمرت بطعامٍ يصنع فصنع، فأرادت أن تحبسنا عليه، قالت: بينما أنا في المسجد وفيه أناس - كأنها تقللهم - إذ خرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضحك حتى كادت تبدو نواجذه، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " إني حدثت حديثاً فرحت به فخرجت لأحدثكم به لتفرحوا لفرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إن تميم الدري حدثني أنه ركب البحر في نفرٍ من أهل فلسطين فرمت بهم الريح إلى جزيرةٍ فخرجوا، فإذا هم بشيء طويل الشعر، كبير، لا يدرون ما تحت الشعر أذكر أم أنثى؟! فقلنا لها: ألا تخبرينا وتستخبرينا؟ فقال: ما أنا بمخبركم شيئاً ولا مستخبركم، ولكن ائتوا هذا الدير فإن فيه من هو فقير إلى أن يخبركم ويستخبركم، قالوا: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة.
فأتينا الدير فإذا فيه إنسانٌ نضرٌ وجهه، به زمانة، قال - وأحسبه موثق -: من أنتم؟ قلنا: نفرٌ من العرب، قال: هل خرج نبيكم؟ قالوا: نعم، قال: فما صنعتم؟ قلنا: اتبعوه، قال: أما إن ذلك خير لهم، قال: فما فعلت فارس والروم؟ قلنا: العرب تغزوهم، قال: فما فعلت البحيرة؟ قلنا ملأى تدفق، قال: فما فعل نخلٌ بين الأردن وفلسطين؟ قلنا: قد أطعم، قال: فما فعلت عين(5/307)
زغر؟ قال: تسقي ويسقى منها؛ قال: أنا الدجال، أما إني سأطأ الأرض كلها ليس طيبة ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طيبة المدينة لا يدخلها ".
وعن تميم الداري: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما الدين النصيحة، إنما الدين النصيحة ".
قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: " لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وعن تميم الداري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يقول الله عز وجل لملك الموت: انطلق إلى وليي فأتني به فإني قد ضربته بالسراء والضراء فوجدته حيث أحب.
ائتني به فلأريحه.
قال: فينطلق ملك الموت إليه ومعه خمس مائةٍ من الملائكة، معهم أكفانٌ وحنوطٌ من الجنة، ومعهم ضبائر الريحان، أصل الريحانة واحد، وفي رأسها عشرين لوناً، لكل لون منها ريح سوى ريح صاحبه، ومعهم الحرير الأبيض فيه المسك الأذفر؛ قال: فيجلس ملك الموت عند رأسه وتحفه الملائكة، ويضع كل ملكٍ منهم يده على عضو من أعضائه، ويبسط ذلك الحرير الأبيض والمسك الأذفر من تحت ذقنه، ويفتح له باب إلى الجنة، فإن نفسه لتعلل عند ذلك بطرف الجنة؛ مرة بأرواحها ومرة بكسوتها، ومرة بثمارها كما يعلل الصبي أهله إذا بكى.
قال: وإن أزواجه ليبتهشنّ عند ذلك ابتهاشاً قال: وتنزو الروح، قال: تريد أن تخرج من العجلة إلى ما تحب، قال: ويقول ملك الموت: اخرجي يا أيتها الروح الطيبة إلى " سدرٍ مخضودٍ، وطلحٍ منضودٍ، وظلٍّ ممدودٍ، وماءٍ مسكوب " قال: ولملك الموت أشد لطفاً به من الوالدة بولدها، يعرف أن ذلك الروح حبيبٌ لربه، فهو يلتمس بلطفه تحبباً لربه، رضىً للرب عنه، فيسل روحه كما تسل الشعرة من العجين، قال: وقال الله تبارك وتعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين " وقال: " فإما إن كان من المقربين فروحٌ(5/308)
وريحان وجنة نعيم " قال: روحٌ من جهد الموت، قال: وريحانٌ يتلقى به، قال: وجنة نعيم مقابلة.
قال: فإذا قبض ملك الموت روحه، قال الروح للجسد: جزاك الله عني خيراً فقد كنت سريعاً بي إلى طاعة الله، بطيئاً بي عن معصية الله، وقد نجوت وأنجيت.
قال: ويقول الجسد للروح مثل ذلك، قال: وتبكي عليه بقاع الأرض التي كان يطيع الله فيها، وكل بابٍ من السماء يصعد منه عمله، أو ينزل منه رزقه أربعين سنة، قال: فإذا قبض ملك الموت روحه أقامت الخمس مائة من الملائكة عند جسده، فلا يقلبه بنو آدم لشقه إلا قلبته الملائكة قبلهم وعلته بأكفانٍ قبل أكفان بني آدم، وحنوط قبل حنوط بني آدم، ويقوم من بين باب بيته إلى باب قبره صفان من الملائكة يستقبلونه بالاستغفار، قال فيصيح عند ذلك إبليس صيحةً يتصدع منها بعض عظام جسده، ويقول لجنوده: الويل لكم كيف تخلص هذا العبد منكم؟ قال: فيقولون: إن هذا كان عبداً معصوماً، قال: فإذا صعد ملك الموت بروحه إلى السماء يستقبله جبريل في سبعين ألفاً من الملائكة كلٌ يأتيه ببشارةٍ من ربه سوى بشارة صاحبه؛ قال: فإذا انتهى ملك الموت بروحه إلى العرش خر الروح ساجداً؛ قال: يقول الله لملك الموت: انطلق بروح عبدي هذا فضعه في " سدرٍ مخضودٍ، وطلحٍ منضودٍ وظلٍّ ممدودٍ وماءٍ مسكوب " قال: فإذا وضع في قبره قال: جاءته الصلاة فكانت عن يمينه، وجاءه الصيام فكان عن يساره، وجاءه القرآن والذكر فكانا عند رأسه، وجاءه مشيه إلى الصلاة فكان عند رجليه، وجاءه الصبر فكان في ناحية القبر، قال: فيبعث الله عنقاً من العذاب قال: فيأتيه عن يمينه، فتقول الصلاة: وراءك، والله مازال دائباً عمره كله، وإنما استراح الآن حين وضع في قبره، قال: فيأتيه عن يساره فيقول الصيام مثل ذلك، قال: ثم يأتيه عند رأسه فيقول القرآن والذكر مثل ذلك، قال: ثم يأتيه من عند رجليه فيقول مشيه إلى الصلاة مثل ذلك، قال: فلا يأتيه العذاب من ناحيةٍ يلتمس هل يجد إليه مساغاً إلا وجد ولي الله قد أخذ جنته؛ فينقمع العذاب عند ذلك فيخرج.
قال: ويقول الصبر لسائر الأعمال: أما إنه لم يمنعني أن أباشر أنا بنفسي إلا أني نظرت ما عندكم فإن عجزتم كنت أنا صاحبه، فأما إذ أجزأتم عنه فأنا له ذخرٌ(5/309)
عند الصراط والميزان، قال: وبعث الله ملكين، أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي وأنفاسهما كاللهب، يطآن في أشعارهما، بين منكب كل واحدٍ منهما مسيرة كذا وكذا، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة يقال لهما منكرٌ ونكير، في يد كل واحدٍ منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها؛ قال: فيقولان له: اجلس، قال: فيجلس فيستوي جالساً، قال: وتقع أكفانه في حقويه، قال: فيقولان له: من ربك؟ وما دينك ومن نبيك؟ " قالوا: يا رسول الله، ومن يطيق الكلام عند ذلك، وأنت تصف من الملكين ما تصف، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء " قال: فيقول: ربي الله وحده لا شريك له، وديني الإسلام الذي دانت به الملائكة، ونبيي محمدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين؛ قال: فيقولان: صدقت، قال فيدفعان القبر فيوسعانه من بين يديه أربعين ذراعاً، ومن خلفه أربعين ذراعاً، وعن يمينه أربعين ذراعاً، وعن شماله أربعين ذراعاً، ومن عند رأسه أربعين ذراعاً، ومن عند رجليه أربعين ذراعاً، قال: فيوسعان مائتي ذراع، قال: فأحسبه قال: أربعون ذراع يحاط به، قال: ثم يقولان: انظر فوقك، قال: فينظر فوقه فإذا بابٌ مفتوح إلى الجنة؛ قال: فيقولان له: ولي الله هذا منزلك إذ أطعت الله ".
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس محمد بيده، إنه تصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً، قال: ثم يقال له: انظر تحتك، فينظر تحته، فإذا بابٌ مفتوحٌ إلى النار، قال: فيقولان: يا ولي الله نجوت آخر ما عليك ".
قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس محمد بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك فرحة لا ترتد أبداً "، قال: قالت عائشة: يفتح له سبعةٌ وسبعون باباً إلى الجنة، يأتيه ريحها وبردها حتى يبعثه الله، قال: فيقول الله لملك الموت: " انطلق إلى عدوي فائتني به، فإني قد بسطت له في رزقي، وسربلته نعمتي فأبى إلا معصيتي، فائتني به لأنتقم منه، قال: فينطلق إليه ملك الموت في أكره صورةٍ رآها أحدٌ من الناس قط، له اثنتا عشرة عيناً،(5/310)
ومعه سفود من النار، كثير الشوك، ومعه خمس مائةٍ من الملائكة معهم نحاس وجمر من جمر جهنم، ومعه سياطٌ من نار، لينها لين السياط وهي نار تأجج، قال: فيضربه ملك الموت بذلك السفود ضربةً يغيب أصل كل شوكةٍ من ذلك السفود في أصل كلّ شعرةٍ وعرقٍ وظفر، ثم يلويه لياً شديداً قال: فينزع روحه من أظفار قدميه، قال: فيلقيها في عقبيه؛ قال: فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفه ملك الموت عنه، قال: فتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط، قال: ثم ينتره ملك الموت نترةً فينزع روحه من عقبيه فيلقيها في ركبتيه، ثم يسكر عدو الله سكرةً عند ذلك، فيرفه ملك الموت عنه، قال: فتضرب الملائكةوجهه ودبره بتلك السياط، فينتره ملك الموت نترة، قال: فينزع روحه من ركبتيه فيلقيها في حقويه، فيسكر عدو الله عند ذلك سكرة، فيرفه ملك الموت عنه، قال: وتضرب الملائكة وجهه ودبره بتلك السياط، قال: كذلك إلى صدره، ثم كذلك إلى حلقه، قال: ثم تبسط الملائكة النحاس وجمر جهنم تحت ذقنه، ويقول ملك الموت: اخرجي أيتها الروح اللعينة الملعونة إلى " سمومٍ وحميم، وظلٍّ من يحموم، لا باردٍ ولا كريم " قال: فإذا قبض ملك الموت روحه قال الروح للجسد: جزاك الله عني شراً فقد كنت سريعاً بي إلى معصية الله، بطيئاً بي عن طاعة الله، فقد هلكت وأهلكت، قال: ويقول الجسد للروح مثل ذلك، فتلعنه بقاع الأرض التي كان يعصي الله عليها؛ وينطلق جنود إبليس يبشرونه بأنهم قد أوردوا عبداً من ولد آدم النار، قال: فإذا وضع في قبره ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، حتى تدخل اليمنى في اليسرى واليسرى في اليمنى، قال: ويبعث الله إليه أفاعي دهماء كأعناق الإبل، يأخذون بأرنبته وإبهامي قدميه، فتقرضه حتى يلتقين في وسطه؛ قال: ويبعث الله ملكين، أبصارهما كالبرق الخاطف، وأصواتهما كالرعد القاصف، وأنيابهما كالصياصي، وأنفاسهما كاللهب، يطآن في أشعارهما، بين منكبي كل واحدٍ منهما مسيرة كذا وكذا، قد نزعت منهما الرأفة والرحمة، يقال لهما منكرٌ ونكير، في يد كل واحد منهما مطرقة، لو اجتمع عليها ربيعة ومضر لم يقلوها، قال: فيقولان له اجلس، قال: فيجلس، فيستوي جالساً، قال وتقع أكفانه في حقوه، قال: فيقولون له: من ربك وما دينك ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري،(5/311)
قال: فيقولان له: لا دريت ولا تليت، قال: فيضربانه ضربةً يتطاير سراره في قبره، ثم يعودان فيقولان له: انظر فوقك، فنظر، فإذا بابٌ مفتوحٌ من الجنة، قال: فيقولان: عدو الله هذا منزلك لو كنت أطعت الله.
قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس محمد بيده إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرةٌ لا ترتد أبداً "، قال: فيقولان له: انظر تحتك، قال: فينظر تحته، فإذا بابٌ مفتوحٌ إلى النار، قال: فيقولان: عدو الله هذا منزلك إذ عصيت الله.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " والذي نفس محمدٍ بيده، إنه ليصل إلى قلبه عند ذلك حسرةٌ لا ترتد أبداً ".
قال: وقالت عائشة: ويفتح له سبعةٌ وسبعون باباً إلى النار يأتيه حرها وسمومها حتى يبعثه الله إليها ".
حدث عبد الله بن يزيد بن روح بن زنباع الجذامي، عن أبيه قال:
قدم وفد الداريين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منصرفه إلى تبوك، وهم عشرة نفر، فيهم تميم ونعيم ابنا أوس بن خارجة، ويزيد بن قيس بن خارجة، والفاكه بن النعمان بن جبلة بن صفار بن ربيعة بن دراع بن عدي بن الدار، وجبلة بن مالك بن صفارة وأبو هند والطيب ابنا ذر، وهانئ بن حبيب، وعزيز ومرة ابنا مالك بن سواد بن جذيمة فأسلموا، وسما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطيب عبد الله، وسمى عزيزاً عبد الرحمن؛ وأهدى هانئ بن حبيب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راوية خمر وأفراساً وقباء مخوصاً بالذهب فقبل الأفراس والقباء وأعطاه العباس بن عبد المطلب، فقال: ما أصنع به؟ قال: " تنزع الذهب فتحليه نساءك أو تستنفقه، ثم تبيع الديباج فتأخذ ثمنه ".
فباعه العباس من رجل من يهود بثمانية آلاف(5/312)
درهم؛ وقال تميم: لنا جيرةٌ من الروم لهم قريتان، يقال لإحداهما حبرى وللأخرى بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي، قال: " فهما لك "، فلما قام أبو بكر أعطاه ذلك، وكتب له به كتاباً، وأقام وفد الداريين حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأوصى لهم بجاد مائة وسق.
قال أبو هند الداري: قدمنا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة ونحن ستة نفر: تميم بن أوس، ونعيم بن أوس أخوه، ويزيد بن قيس، وأبو هند بن عبد الله - وهو صاحب الحديث - وأخوه الطيب بن عبد الله، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن، وفاكه بن النعمان فأسلمنا، وسألنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقطعنا من أرض الشام فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سلوا حيث شئتم ".
فقال تميم: أرى أن نسأله بيت المقدس وكورها، فقال أبو هند: وكذلك يكون فيها ملك العرب، وأخاف إن لا يتم لنا هذا، فقال تميم: فنسأله بيت جبرين وكورتها فقال أبو هند: هذا أكبر وأكبر، فقال: فأين ترى أن نسأله؟ فقال: أرى أن نسأله القرى التي يقع فيها حصن تل مع آبار إبراهيم؛ فقال تميم: أصبت ووفقت قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تميم أتحب تخبرني بما كنتم فيه، أو أخبرك؟ " فقال تميم: بل تخبرنا يا رسول الله، نزداد إيماناً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أردتم أمراً وأراد هذا غيره، ونعم الرأي رأى ".
قال: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطعة جلدٍ من أدم، فكتب لنا فيها كتاباً نسخته: "(5/313)
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ذكر ما وهب محمدٌ رسول الله الداريين إذ أعطاه الله الأرض، وهب لهم بين عين وحبرون وبيت إبراهيم، بمن فيهن، لهم أبداً، شهد عباس بن عبد المطلب وجهم بن قيس وشرحبيل بن حسنة، وكتب ".
قال: ثم دخل بالكتاب إلى منزله، فعالج في زاوية الرقعة، وعساه شيءٌ لا يعرف، وعقده من خارج الرقعة بسير عقدين، وخرج إلينا به مطوياً وهو يقول: " إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا، والله ولي المؤمنين " ثم قال: " انصرفوا حتى تسمعوا بي قد هاجرت ".
قال أبو هند: فانصرفنا، فلما هاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة قدمنا عليه فسألناه أن يجدد لنا كتاباً فكتب لنا كتاباً نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم.
هذا ما أنطى محمدٌ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لتميم الداري وأصحابه، إني أنطيتكم عين وحبرون والبرطوم وبيت إبراهيم بدمنهم وجميع ما فيهم نطيةً بتة، ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم فيها أذله الله.
شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وكتب ".
فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وولي أبو بكر، وجه الجنود إلى الشام فكتب لنا كتاباً نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم، من أبي بكر الصديق إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلامٌ عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: امنع من كان يؤمن بالله واليوم الآخر من الفساد في قرى الداريين، وإن كان أهلها قد جلوا عنها، وأراد الداريون أن يزرعوها فليزرعوها، فإذا رجع أهلها إليها فهي لهم وأحق بهم، والسلام عليك ".(5/314)
قال عكرمة: لما أسلم تميم الداري قال: يا رسول الله، إن الله مظهرك على الأرض كلها، فهب لي قريتي من بيت لحم، قال: " هي لك ".
قال: وكتب له بها، فلما استخلف عمر فظهر على الشام جاء تميم بكتاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال عمر: أنا شاهد ذلك، فأعطاها إياه.
قال: وبيت لحم هي القرية التي ولد عيسى ابن مريم فيها.
قال أبو عبيد: تميم الداري فخذٌ من لخم أو جذام.
وعن سماعة أن تميم الداري سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقطعه قرياتٍ بالشام عينون وقلاية والموضع الذي فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم، قال: وكان بها ركحه ووطيئه قال: فأعجب ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إذا صليت فسلني ذلك ".
ففعل، فأقطعه إياهن بما فيهن.
فلما كان زمن عمر، وفتح الله الشام أمضى ذلك لهم.
قال أبو عبيد: أهل المدينة إذا شبروا الدار قالوا: بجميع أركاحها، يريدون جميع نواحيها.
وعن راشد بن سعد قال: قال تميم الداري، وهو تميم بن أوس، رجلٌ من لخم، فقال: يا رسول الله إن لي جبرةً من الروم بفلسطين لهم قرية يقال لها حبرى، وأخرى يقال لها بيت عينون، فإن فتح الله عليك الشام فهبهما لي، قال: " هما لك ".
قال: فاكتب لي بذلك كتاباً، فكتب فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتميم بن أوس الداري، أن له قرية حبرى وبيت عينون، قريتها كلها سهلها وجبلها وماؤها وحرثها، وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يلجه عليهم أحدٌ بظلم، فمن ظلمهم أو(5/315)
أخذ من أحدٍ منهم شيئاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وكتب علي ".
فلما ولي أبو بكر كتب لهم كتاباً نسخته: هذا كتابٌ من أبي بكر أمين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي استخلف في الأرض بعده، كتبه للداريين، أن لا يفسد عليهم مأثرتهم قرية حبرى وبيت عينون، لمن كان يسمع ويطيع، فلا يفسد منها شيئاً، وليقم عمرو بن العاص عليهما فليمنعهما من المفسدين.
وعن محمد بن سيرين، عن تميم الداري قال: استقطعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرضاً بالشام قبل أن تفتح، فأعطانيها، ففتحها عمر بن الخطاب في زمانه، فأتيته فقلت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاني أرضاً من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثها لعمارتها، وترك لنا ثلثاً.
وعن مقاتل بن سليمان في قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " نزلت في بديل بن أبي ما رية مولى العاص بن وائل السهمي كان خرج مسافراً في البحر إلى أرض النجاشي، ومعه رجلان نصرانيان أحدهما يسمى تميم بن أوس الداري، وكان من لخم، وعدي بن بداء، فمات بديل وهم في السفينة في البحر؛ قال: " حين الوصية "، وذلك أنه كتب وصيةً، ثم جعله في متاعه، ثم دفعه إلى تميمٍ وصاحبه، وقال لهما: بلغا هذا المتاع أهلي.
فخلا ببعض المتاع، وحبسا جاماً من فضة مموهاً بالذهب، فنزلت " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية " يقول: عند الوصية يشهد وصيته " اثنان ذوا عدلٍ " من المسلمين في دينهما " أو آخران من غيركم " يعني من غير أهل دينكم النصرانيين تميم الداري وعدي بن بداء " إن أنتم " يا معشر المسلمين " ضربتم في(5/316)
الأرض " للتجارة " فأصابتكم مصيبة الموت " يعني بديل بن أبي مارية حين انطلق تاجراً في البحر، فانطلق معه تميمٌ وعديٌ صاحباه، فحضره الموت فكتب وصيته ثم جعله في المتاع وقال: أبلغا هذا المتاع أهلي، فلما مات بديل قبضا المال فأخذا منه ما أعجبهما؛ وكان فيما أخذا إناءً من فضة فيه ثلاث مائة مثقال منقوشاً مموهاً بالذهب، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته، ففقدوا بعض متاعه فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيه تاماً لم يبع منه ولم يهب؛ فكلموا تميماً وصاحبه فسألوهما: هل باع صاحبنا شيئاً أو اشترى فخسر فيه؟ أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ قالا: لا، قالوا: فإنا قد افتقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا، قالا: ما لنا علم بما أبدى ولا بما كان في وصيته، ولكنه دفع إلينا هذا المال فبلغناكم إياه.
فرفعوا أمرهما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزلت " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " يعني بديل بن أبي مارية - " اثنان ذوا عدلٍ منكم " من المسلمين: عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان " أو آخران من غيركم " من غير أهل دينكم - يعني النصرانيين " إن أنتم " يا معشر المسلمين " ضربتم في الأرض " تجاراً " فأصابتكم مصيبة الموت " يعني بديل بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي " تحبسونهما " يعني النصرانيين تقيمونهما " من بعد الصلاة " يعني صلاة العصر " فيقسمان بالله " يقول: فيحلفان بالله " إن ارتبتم " يعني إن شككتم - نظيرها في النساء الصغرى - أن المال كان أكثر من هذا الذي أتيناكم به " لا نشتري به ثمناً " يقول: لا نشتري بأيماننا عرضاً من الدنيا " ولو كان ذا قربى " يقول: ولو كان الميت ذا قرابة منا " ولا نكتم شهادة الله " إنا إذا كتمنا شيئاً من المال " إنا إذاً لمن الآثمين " بالله؛ فحلفهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند المنبر بعض صلاة العصر، فحلفا أنهما لم يخونا شيئاً من المتاع، فخلى سبيلهما.
فلما كان بعد ذلك، وجد الإناء الذي فقدوه عند تميم الداري، قالوا: هذا كان من آنية صاحبنا الذي كان أبدى بها، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه؛ فقالا: قد كنا اشتريناه منه فنسينا أن نخبركم به.
فرفعوهما إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثانية، فقالوا: يا نبي الله إنا وجدنا مع هذين إناءً من فضة من متاع صاحبنا؛ فأنزل الله عز وجل "(5/317)
فإن عثر على أنهما " يقول: فإن اطلع على أنهما يعني النصرانيين كتما شيئاً من المال أو خانا " فآخران " من أولياء الميت وهما عبد بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان " يقومان مقامهما " يعني مقام النصرانيين " من الذين استحق " الإثم " عليهم الأولين فيقسمان بالله " يعني فيحلفان بالله في دبر صلاة العصر: أن الذي قالا في وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر من الذي أتيتمانا به وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذي خرج به معه وكتبه في وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله تعالى " لشهادتنا " يعني عبد الله بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة " أحق من شهادتهما " يعني النصرانيين " وما اعتدينا " في الشهادة عليكما - يعني النصرانيين بشهادة المسلمين من أولياء الميت " إنا إذاً لمن الظالمين، ذلك أدنى " يعني أجر نظيرها في النساء " أن يأتوا " يعني النصرانيين " بالشهادة على وجهها " كما كانت، ولا يكتما شيئاً " أو يخافوا أن ترد أيمانٌ بعد أيمانهم " يقول: أو يخافوا أن يطلع على خيانتهما فرد شهادتهما بشهادة الرجلين المسلمين من أولياء الميت، فحلف عبد الله والمطلب كلاهما أن الذي في وصية الميت حق وأن هذه الآنية من متاع صاحبنا فأخذوا تميم بن أوس الداري وعدي بن بداء النصرانيين بتمام ما وجدا في وصية الميت حين اطلع الله تبارك وتعالى على خيانتهما في الإناء، ثم وعظ الله المؤمنين أن يفعلوا مثل هذا أو يشهدوا بما لم يروا ولم يعاينوا؛ فقال يحذرهم نقمته: " واتقوا الله " واسمعوا مواعظه " والله لا يهدي القوم الفاسقين " ثم إن تميم بن أوس الداري اعترف بالخيانة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ويحك يا تميم أسلم يتجاوز الله عنك ما كان في شركك ".
فأسلم تميم الداري وحسن إسلامه، ومات عدي بن بداء نصرانياً.
قال تميم الداري: كنت بالشام حين بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل(5/318)
فقلت أنا في جوار عظيم هذا الوادي الليلة، قال: فلما أخذت مضجعي إذا منادٍ ينادي لا أراه: عذ بالله فإن الجن لا تجير أحداً من الله.
فقلت: أيم تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه؛ وذهب كيد الجن، ورميت بالشهب، فانطلق إلى محمد وأسلم.
فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهباً به، وأخبرته الخبر، فقال: قد صدقوك نجده يخرج من الحرم، ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء، فلا تسبق إليه.
قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت.
قال محمد بن سيرين: جمع القرآن على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وعثمان بن عفان، وتميم الداري.
وقيل:
جمع القرآن على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعةٌ لا يختلف فيهم: معاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد، وأبو زيد؛ واختلفوا في رجلين من ثلاثة، قالوا: عثمان وأبو الدرداء، وقالوا: عثمان وتميم الداري.
وعن أبي كعب أنه كان يختم القرآن في ثمان ليال، وكان تميم الداري يختمه في سبع.
وعن ابن سيرين أن تميم الداري كان يقرأ القرآن في ركعة.
قال: وقالت امرأة عثمان حين دخلوا عليه ليقتلوه فقالت: إن تقتلوه فقد كان يحيي الليل كله بالقرآن في ركعة.
وعن محمد بن أبي بكر عن أبيه قال: زارتنا عمرة، فباتت عندنا، فقمت من الليل فلم أرفع صوتي بالقراءة، فقالت: يا بن أخي ما منعك أن ترفع صوتك بالقراءة؟ فما كان يوقظنا إلا صوت معاذ القارئ وتميم الداري.(5/319)
قال خارجة بن مصعب: ختم القرآن في الكعبة أربعةٌ من الأئمة: عثمان بن عفان؛ وتميم الداري؛ وسعيد بن جبير؛ وأبو حنيفة.
قال مسروق: قال لي رجل من أهل مكة: هذا مقام أخيك تميم الداري صلى ليلةً حتى أصبح أو كرب أن يصبح يقرأ آيةً يرددها ويبكي: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءٌ محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " وعن مسروق: أن تميم الداري ردد هذه الآية حتى أبح: " إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".
وعن منكدر بن محمد، عن أبيه: أن تميم الداري نام ليلةً لم يقم يتهجد فيها حتى أصبح، فقام سنةً لم ينم فيها عقوبةً للذي صنع.
حدث أبو العلاء عن رجل قال: أتيت تميم الداري، فتحدثنا حتى استأنست إليه، فقلت: كم جزءاً تقرأ القرآن في ليلة؟ فغضب وقال: لعلك من الذين يقرأ أحدهم القرآن في ليلة ثم يصبح فيقول: قد قرأت القرآن في هذه الليلة؟ فوالذي نفس تميمٍ بيده لأن أصلي ثلاث ركعاتٍ نافلةٍ أحب إلي من أن أقرأ القرآن في ليلةٍ ثم أصبح فأقول: قرأت القرآن الليلة.
قال: فلما أغضبني قلت: والله إنكم معاشر صحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بقي منكم - لجديرون أن تسكتوا فلا تعلموا وأن تعنفوا من سألكم! فلما رآني قد غضبت لان وقال: ألا أحدثك يا بن أخي؟ قلت: بلى، والله ما جئت إلا لتحدثني؛ قال: أرأيت إن كنت أنا مؤمناً قوياً، وأنت مؤمن(5/320)
ضعيف، فتحمل قوتي على ضعفك فلا تستطيع، فتنبت، أو رأيت إن كنت مؤمناً قوياً وأنا مؤمن ضعيف أتيتك ببساطي حتى أحمل قوتك على ضعفي فلا أستطيع فأنبت؟ ولكن خذ من نفسك لدينك أو من دينك لنفسك حتى يستقيم بك الأمر على عبادةٍ تطيقها.
وعن معاوية بن حرمل قال: قدمت المدينة، فلبثت في المسجد ثلاثاً لا أطعم، قال: فأتيت عمر فقلت: يا أمير المؤمنين تائبٌ من قبل أن تقدر عليه، قال: من أنت؟ قلت: أنا معاوية بن حرمل، قال: اذهب إلى حبر المؤمنين فانزل عليه، وكان تميم الداري إذا صلى ضرب بيده عن يمينه وعن شماله فأخذ رجلين فذهب بهما، فصليت إلى جنبه، فضرب يده وأخذ بيدي فذهب بي فأتينا بطعام، فأكلت أكلاً شديداً وما شبعت من شدة الجوع.
قال: فبينا نحن ذات يوم، إذ خرجت نارٌ بالحرة، فجاء عمر إلى تميم فقال: قم إلى هذه النار، فقال: يا أمير المؤمنين، ومن أنا وما أنا؟! قال: فلم يزل به حتى قام معه، قال: وتبعتهما، فانطلقا إلى النار، فجعل تميم يحوشها بيده حتى دخلت الشعب ودخل تميم خلفها، قال: فجعل عمر يقول: ليس من رأى كمن لم ير؛ قالها ثلاثاً.
وعن أنس: أن تميماً الداري صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشترى رداءً بألف درهم، وكان يصلي بأصحابه فيه.
وقال محمد بن سيرين: إن تميم الداري اشترى حلةً بألف درهم، فكان يقوم فيها بالليل إلى الصلاة.
وعن السائب بن يزيد، قال: لم يكن يقص على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا أبي بكر، ولا عمر؛ كان أول من قص تميمٌ الداري، استأذن عمر فأذن له فقص قائماً.
وعن حميد بن عبد الرحمن: أن تميم الداري استأذن عمر في القصص سنين، فأبى أن يأذن له، فاستأذنه في يوم واحد، فلما أكثر عليه قال له: ما تقول؟ قال: أقرأ عليهم القرآن وآمرهم بالخير، وأنهاهم(5/321)
عن الشر؛ قال عمر: ذلك الذبح، ثم قال: عظ قبل أن أخرج في الجمعة.
فكان يفعل ذلك يوماً واحداً في الجمعة، فلما كان عثمان استزاده، فزاده يوماً آخر.
قيل:
إن تميم الداري استأذن عمر بن الخطاب في القصص، فقال له عمر: أتدري ما تريد؟ إنك تريد الذبح، ما يؤمنك أن ترفع نفسك حتى تبلغ السماء، ثم يضعك الله.
وفي حديث أن عمر أذن لتميم، وجلس إليه يوماً فقال تميم في قوله: اتقوا زلة العالم.
فكره عمر أن يسأله عنه فيقطع بالقوم، وحضر منه قيامٌ، فقال لابن عباس: إذا فرغ فسله: ما زلة العالم؟ ثم قام عمر، فجلس ابن عباس فغفل غفلة، ففرغ تميم وقام يصلي، وكان يطيل الصلاة، فقال ابن عباس: لو رجعت فقلت: ثم أتيته فرجع، وطال على عمر، فأتى ابن عباس فسأله فقال: ما صنعت؟ فاعتذر إليه فقال: انطلق، فأخذ بيده حتى أتى تميم الداري، فقال له: ما زلة العالم؟ قال: العالم يزل بالناس فيؤخذ به، فعسى أن يتوب منه العالم، والناس يأخذون به.
وعن ميسرة قال: رأى عمر بن الخطاب تميم الداري يصلي بعد العصر فضربه بدرته على رأسه.
فقال له تميم: يا عمر تضربني على صلاةٍ صليتها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! قال عمر: يا تميم ليس كل الناس تعلم ما تعلم.
وعن ابن عمر أن تميم الداري سأل عمر بن الخطاب عن ركوب البحر وكان عظيم التجارة في البحر، فأمر بتقصير الصلاة.
قال: يقول الله عز وجل " هو الذي يسيركم في البر والبحر " قال أبو سعيد الخدري: أول من أسرج في المساجد تميم الداري.(5/322)
قال الكلابي: تميم الداري أبو رقية، لا عقب له، مات بالشام.
تميم بن بشر الأنصاري
كان من أصحاب معاوية، ووجهه رسولاً إلى القسطنطينية.
قال هشام بن عروة: أسلم جبلة بن الأيهم بن جفنة الغساني، وكان آخر ملوكهم إسلاماً.
ونزل المدينة في خلافة عمر، وذكر تنصره ولحوقه بأرض الروم، فلما غلب معاوية على الملك بعث رجلاً من الأنصار يقال له تميم بن بشر إلى قيصر، فلما دخل عليه سأله عن معاوية، وعن العرب، وعن الشام، فأخبره، ثم قال: هل لك إلى رجلٍ من العرب تلقاه من أهل بيت ملك وشرف؟ قال: نعم.
قال تميم: فأرسل معي إليه، فدخلت عليه في كنيسة، فذكر قصته.
قال تميم: ثم سألني عن حسان فقال: ما فعل ابن الفريعة؟ قلت: صالح وقد ذهب بصره، قال: فإني باعثٌ معك إليه بكسوة وصلة مرتفعة، فإن ذلك رجلاً كان لنا مداحاً، فبعث إليه معي أربع مائة دينار هرقلية، وسبعة أثواب بزيون، ثم قال: قل لمعاوية إن أنكحتني ابنتك، أو عقدت لي الخلافة من بعدك، جئت فدخلت في دينك.
قال: فقدمت المدينة، فلقيت حسان بن ثابت بقباء، فسلمت عليه، فقال: من هذا؟ فقلت: تميم بن بشر قال: كيف أنت يا بن أخي، أين كنت؟ قلت: بالشام، ثم إلى أرض الروم بعثني معاوية إلى قيصر.
قال: هل لك علمٌ بصديق لي هناك؟ قلت: من هو؟ قال: جبلة بن الأيهم.
قلت نعم.
وهو يقرئك السلام.
قال حسان: ما أهدى إلي معك؟ وقد كان جبلة جعل له أن لا يلقى جبلة أحداً يعرف حساناً إلا بعث إليه معه صلةً، فمن هناك قال حسان: هات ما أهدى إلي معك.
قال: وأخبرت معاوية، قلت: رجلٌ قال كذا وكذا.
قال: ذاك جبلة بن الأيهم، وما علي أن أخرجه مما هو فيه بما طلب مني.
قال: فبعثني إليه، فلما انتهيت إلى باب القسطنطينية إذا بجنازةٍ معها القسيسون، قلت: من هذا؟ قالوا: جبلة مات، فرجعت إلى معاوية، فأخبرته الخبر.(5/323)
تميم بن محمد بن طمغاج
أبو عبد الرحمن الطوسي.
حدث تميم بن محمد عن أبي كامل بسنده عن أنس بن مالك قال: وقت لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قص الشارب، وحلق العانة، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط، أن لا يترك أكثر من أربعين ليلةٍ.
وحدث عن سليمان بن سلمة الحمصي بسنده عن عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أربعٌ لا يشبعن من أربع: عينٌ من نظر، وأرضٌ من مطر، وأنثى من ذكر، وعالمٌ من علم ".
تميم بن نصر بن تميم بن منصور بن حية
أبو السعد التميمي السندي.
حدث عن أبي الحسن بن أبي القاسم بسنده عن علي بن أبي طالب.
قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قرأ القرآن، فحفظه واستظهره، أدخله الله الجنة، وشفعه في عشرةٍ من أهله، كلهم قد وجبت له النار ".
توبة بن أبي أسد واسم أبي أسد كيسان
أبو المورع العنبري البصري، مولى بني العنبر.
حدث توبة العنبري قال: سمعت الشعبي يقول:
أرأيت فلاناً حين يروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد جالست ابن عمر سنتين ونصف فما سمعته يروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً، إلا أنه ذكر أنهم كانوا في سفرٍ فأصابوا ضباً، فجعلوا يأكلونها، فقالت امرأةٌ من أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ضب، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلوا فإنه حلال، وإنه لا بأس به، ولكنه ليس من طعام قومي ".
وحدث توبة العنبري عن مورق العجلي قال: قال رجلٌ لابن عمر: أخبرني عن صلاة الضحى، أتصليها؟ قال: لا، قال: فصلاها(5/324)
عمر؟ قال: لا، قال: فصلاها أبو بكر؟ قال: لا، قال: فصلاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: لا إخال.
قال توبة العنبري: كان ابن عمر ينزل برجلٍ يقال له حمران، وكان ينفق نفقاتٍ عظاماً، فقال ابن عمر: يا حمران، أمن مالك تنفق هذا من أمانتك؟ قال: لا، بل من مالي.
قال: فاحفظ عني ثلاثاً لا تدعهن: لا تموتن وعليك دينٌ لا تدع من يكافئك به؛ ولا تنتفينّ من ولدك لتفضحه؛ فيفضحك الله عز وجل يوم القيامة؛ وركعتين قبل الصبح لا تدعهما، فإن فيهما الرغائب.
قال توبة العنبري: أرسلني صالح بن عبد الرحمن إلى سليمان بن عبد الملك، فقدمت عليه، فقلت لعمر بن عبد العزيز: هل لك حاجةٌ إلى صالح؟ فقال: قل له: عليك بالذي يبقى لك عند الله عز وجل، فإن ما بقي لك عند الله، بقي لك عند الناس، وما لم يبق عند الله عز وجل، لم يبق عند الناس.
وقيل: إنه لما وفد إلى سليمان بن عبد الملك سأله عن حاجته، فأثبت له عيلين في العطاء، وأذن له أن يتخذ حماماً بالبصرة، ويحتفر بئراً بالبادية، فأجابه إلى ذلك؛ وكان لا يفعل ذلك أحدٌ إلا بإذن الخليفة، فاتخذ حماماً إلى جانب منزله في بني العنبر الرابية، وحفر بئراً بالبادية بالخرنق، وبين الخرنق، والبصرة ثلاث مراحل.
ووفد توبة أيضاً على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فلما وفد عليه رأى بناته حوله يلعبن وعليهن التبابين.
وجهد قومٌ من بني العنبر بتوبة أن يدعي فيهم فأبى، وجهد به أخواله بنو نمير أن يدعي فيهم فأبى؛ وكان صاحب بداوة، ومات بضبع، وهي من البصرة على يومين، فدفن هناك وعمر أربعٌ وسبعون سنة.(5/325)
قال توبة: أكرهني يوسف بن عمر على العمل، فلما رجعت حبسني وقيدني، فكنت في السجن حتى لم يبق في رأسي شعرةً سوداء، فأتاني آتٍ في المنام، عليه ثياب بيض، فقال: يا توبة قد أطالوا حبسك! قلت: أجل.
قال: قل اسأل الله العفو والعافية والمعافاة في الدنيا والآخرة.
فقلتها ثلاثاً؛ فاستيقظت، فقلت: يا غلام هات السراج والدواة، فكتبت هذا الدعاء؛ ثم إني صليت ما شاء الله أن أصلي، فما زلت أدعو به حتى صليت الصبح، فلما صليت جاء حرسيٌّ فضرب باب السجن، ففتحوا له، ثم قال: أين توبة العنبري؟ فقالوا: هذا.
فحملوني بقيودي حتى وضعوني بين يدي يوسف وأنا أتكلم به، فقال: يا توبة، قد أطلت حبسك، قلت: أجل، قال: أطلقوا عنه قيوده وخلوه.
فعلمته رجلاً في السجن، فقال لي صاحبي: لم أدع إلى العذاب قط فقلتهن إلا خلي عني؛ قال: فجيء به يوماً إلى العذاب، فجعلت أتذكرهن فلم أذكرهن، حتى جلدت مائة سوط، ثم إني ذكرتهن، فقلتهن، فخلي عني.(5/326)
أسماء النساء على حرف التاء
تجيفة زوج أبي عبيدة بن الجراح
لم تنسب، كانت مع أبي عبيدة بدمشق، وشهدت وفاته.
حدث عياض بن غطيف قال: دخلنا على أبي عبيدة بن الجراح نعوده، فإذا وجهه نحو الحائط وعنده امرأته تجيفة، فقلنا: كيف بات أبو عبيدة؟ فقالت: بات بأجرٍ، فالتفت إلينا، فقال: ما بت بأجر.
قال: فسكتنا، فقال: ألا تسلوني عما قلت! فقلنا والله ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه.
فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من أنفق نفقةً فاضلة في سبيل الله فبسبع مائة، ومن أنفق على نفسه وأهله، أو عاد مريضاً أو أماط أذىً عن الطريق فحسنة بعشر أمثالها؛ الصوم جنةٌ ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله ببلاءٍ في جسده فهو له حطة ".
وكان سفيان صحف اسم امرأة أبي عبيدة فقال: حفتة بالحاء.
قال سليمان بن عامر: لما قدم عمر بن الخطاب الجابية، جلس في أمر الناس والقضاء بينهم حتى إذا حان الانصراف فقال: قم يا أبا عبيدة نحو منزلك.
فقال مرحباً وأهلاً بأمير المؤمنين، وتقدم إلى منزله، فقال لأهله: هذا أمير المؤمنين، ثم دخل عمر، فقالت امرأة أبي عبيدة: مرحباً بك يا أمير المؤمنين وأهلاً، قال عمر: أفلانة؟ قالت: نعم يا أمير المؤمنين.
قال عمر: أما والله لأسوءنك، قالت: إياي تعني يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
والذي نفسي بيده لأسوءنك، قالت: والله ما تقدر على ذلك، فقال عمر: لا؟ قالت: لا والله.
فأشفق أبو عبيدة أن تبدر منه إليها بادرة، فقال: بلى والله يا أمير المؤمنين، إن شئت لتفعلن.
فقالت: كلا(5/327)
والله ما هو على ذلك بقادر.
فقال عمر لكأنك تدلين! قالت: إنك لا تستطيع تسلبني الإسلام، قال: لا والله.
قالت: فوالله ما أبالي ما كان بعد ذلك.
قال عمر: استغفر الله، ثم سلم.
قال صفوان: فسألت سليمان بن عامر ما الذي أغضب عمر عليها؟ قال: بلغه أن امرأة طاغية الروم حين فتحت دمشق أهدت لها عقد خرزٍ ولؤلؤ وشيءٍ من ذهب، لعله أن يساوي ثلاث مائة درهم.
وقد روي أنه لما قدم عمر نزل على أبي عبيدة، فخرجت بنت أبي عبيدة، وهي جويرية من داخل إلى عمر، فجعل عمر يسترسلها الكلام، ما حليك؟ قالت: كذا وكذا، قال عمر: حليك الذي تخرجين به؟ فسمعت أمها من داخل البيت، فقالت: كأنك تريد التاج، نعم، وقد أهدي له تاج، فقسمه أبو عبيدة بين المسلمين ولم يجعل لنا منه شيئاً.
تماضر بنت الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة
ابن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب بن هبل الكلبية زوج عبد الرحمن بن عوف من أهل دومة الجندل من أطراف دمشق، سكنت المدينة، وأدركت سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن الفقيه.
بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل فتخلف عن الجيش حتى غدا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليه عمامةٌ حرقانية سوداء.
فقال له: " ما خلفك عن أصحابك؟ " قال: أحببت أن أكون آخرهم عهداً بك، فأجلسه، فنقض، عمامته، وعممه بيده، وأسدلها بين كتفيه قدر شبر، وقال: " هكذا فاعتم يا بن عوف، اغد بسم الله، فجاهد في سبيل الله تقاتل من كفر بالله، إذا لقيت شرفاً فكبر، وإذا ظهرت فهلل، وإذا هبطت فاحمد واستغفر، وأكثر من ذكري عسى أن يفتح بين يديك، فإن فتح على يديك، فتزوج بنت ملكهم ".
وقال بعضهم: " بنت شريفهم ".
وكان الأصبغ بن ثعلبة شريفهم، فتزوج(5/328)
بنته تماضر، فلما قدم بها المدينة رغب القرشيون في جمالها، فجعلوا يسترشدونها، فترشدهم إلى بنات أخواتها وبنات إخوتها.
وتماضر أول كلبيةٍ نكحها قرشي، ولم تلد لعبد الرحمن بن عوف غير أبي سلمة.
قال عبد الرحمن بن عوف: لا تسلني امرأةٌ لي طلاقاً إلا طلقتها، فأرسلت إليه تماضر تسأل طلاقها، فقال للرسولة: قولي لها إذا حضت فلتؤذني، فحاضت، فأرسلت إليه، فقال للرسولة: قولي لها: إذا طهرت فلتؤذني، فطهرت، فأرسلت إليه في مرضه فقال: وأيضاً، وغضب، فقال: هي طالق البتة لا أرجع لها.
فلم تمكث إلا يسيراً حتى مات، فقال عبد الرحمن بن عوف: لا أورث تماضر شيئاً.
فرفع ذلك إلى عثمان، فورثها، وكان ذلك في العدة، فصالحوها من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفاً وما وفوها.
وكن له أربع نسوة.
حدث ابن أبي مليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق المرأة فيبينها ثم يموت وهي في عدتها؟ فقال عبد الله بن الزبير: طلق عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ الكلبية فبتها، ثم مات، وهي في عدتها، فورثها عثمان.
قال ابن الزبير: وأما أنا فلا أرى أن ترث مبتوتة.
ومن شعر عمر بن أبي ربيعة: " من الطويل "
ألا يا لقومي قد سبتني تماضر ... جهاراً وهل يسبيك إلا المجاهر
أرتك ذراعي بكرة بحريةً ... من الأدم لم تقطع مطاها العوابر
فبلغ الشعر تماضر، فتعلقت بثوبه، وهو يطوف بالبيت، فقالت: سبيتني، واجتمع الناس عليها، فقال: إني والله ما سبيتها ولا أعرفها ولا رأيتها قط قبل ساعتي هذه.
قالت: صدق عدو الله، اشهدوا على كذبه، فإنه قال لي كذا وكذا.
ولما طلق عبد الرحمن بن عوف امرأته الكلبية تماضر حممها جاريةً سوداء، يقول: متعها إياها.
أسماء الرجال على(5/329)
حرف الثاء المثلثة
ثابت بن أحمد بن الحسين
أبو القاسم البغدادي، قدم دمشق حاجاً.
حدث ثابت
أنه رأى رجلاً بمدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذن الصبح عند قبر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال فيه: الصلاة خيرٌ من النوم، فجاءه خادمٌ من خدم المسجد، فلطمه حين سمع ذلك فبكى الرجل وقال: يا رسول الله في حضرتك يفعل بي هذا الفعال، ففلج الخادم في الحال وحمل إلى داره، فمكث ثلاثة أيام ومات.
ذكر ثابتٌ أنه ولد في مستهل محرم سنة إحدى وأربع مائة، وتوجه للحج في سنة سبعٍ وسبعين وأربع مائة، ولم يعلم خبره بعد ذلك.
ثابت بن أحمد بن أبي الفوارس
أبو نصر البوشنجي الصوفي، شيخ الصوفية.
حدث عن أبي الحسن بن أبي القاسم بن عبيد الله الحوراني بسنده عن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان يصبح جنباً من الوقاع لا من احتلام، فيصوم يومه ذلك.
سقط منه ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(5/330)
ثابت بن أقرم بن ثعلبة بن عدي
ابن الجد بن عجلان بن حارثة بن ضبيعة بن حرام بن جعل بن عمرو بن جشم بن ودم بن ذبيان بن هميم بنت ذهل بن هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة العجلاني البلوي، حليف الأنصار، له صحبة شهد بدراً ومؤتة.
لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمة رئيت قط في كل وجه، ثم إن المسلمين تراجعوا، فأقبل ثابت بن أقرم من الأنصار، فأخذ اللواء، وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يتواثبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل، وهو يقول: إلي أيها الناس، فاجتمعوا إليه، قال: فنظر ثابتٌ إلى خالد بن الوليد، فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه أنت أحق به، أنت رجلٌ لك سن، وقد شهدت بدراً.
قال ثابت: خذه أيها الرجل، فوالله ما أخذته إلا لك.
فأخذه خالد، فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه، - فثبت حتى تكركر المشركون وحمل أصحابه، ففض جمعاً من جمعهم، ثم ذهب منهم بشرٌ كثير، فانحاش بالمسلمين فانكشفوا راجعين فروي عن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة فلما رأينا المشركين رأينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة ما لك كأنك ترى - جموعاً كثيرة؟ قلت: نعم، قال: لم تشهدنا ببدر إنا لم ننصر بالكثرة.
قال محمد بن إسحاق: وثابت بن أقرم ليس له عقب، وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج مع خالد بن الوليد إلى أهل الردة في خلافة أبي بكر.(5/331)
وقتل مع عكاشة يوم طليحة الأسدي ببزاخة.
وروى عروة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سريةً قبل العمرة من نجد أميرهم ثابت بن أقرم فأصيب فيهم ثابت بن أقرم.
حدث عميلة الفزاري قال: خرج خالد بن الوليد على الناس يعترضهم في الردة، فكلما سمع أذاناً للوقت كف، وإذا لم يسمع أذاناً أغار، فلما دنا خالدٌ من طليحة وأصحابه بعث عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم طليعةً أمامه يأتيانه بالخبر، وكانا فارسين، عكاشة على فرس، يقال له الرزام، وثابت على فرس يقال له المحبر، فلقيا طليحة وأخاه سلمة بن خويلد طليعةً لمن وراءهما من الناس، فانفرد طليحة بعكاشة، وسلمة بثابت، فلم يلبث سلمة أن قتل ثابت بن أقرم، وصرخ طليحة بسلمة: أعني على الرجل فإنه قاتلي، فكر سلمة على عكاشة فقتلاه جميعاً، ثم كرا راجعين إلى من وراءهما من الناس فأخبراهم، فسر عينية بن حصن، وكان مع طليحة، وكان قد خلفه على عسكره، وقال: هذا الظفر.
وأقبل خالدٌ معه المسلمون فلم يرعهم إلا ثابت بن أقرم قتيلاً تطؤه المطي، فعظم ذلك على المسلمين، ثم لم يسيروا إلا يسيراً حتى وطئوا عكاشة قتيلاً، فثقل القوم على المطي كما وصف واصفهم حتى ما تكاد المطي ترفع أخفافها.
قال أبو واقد الليثي: كنا نحن المقدمة مائتي فارس وعلينا زيد بن الخطاب، وكان ثابت بن أقرم وعكاشة بن محصن أمامنا، فلما مررنا بهما سيء بنا، وخالد والمسلمون وراءنا بعد، فوقفنا عليهما حتى طلع خالدٌ يسير، فأمرنا فحفرنا لهما، ودفناهما بدمائهما وثيابهما، ووجدنا بعكاشة جراحاتٍ منكرة.
وفي حديث آخر:
فسار خالد إلى بزاخة، فلقي طليحة ومعه عيينة بن حصن بن مالك الفزاري، وقرة بن هبيرة القشيري، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فهزم الله سبحانه طليحة، وهرب إلى(5/332)
الشام، وأسر عيينة وقرة بن هبيرة، فبعث بهما خالد إلى أبي بكر، فحقن دماءهما، فتفرق الناس عن بزاخة، وكانت وقعة بزاخة سنة اثنتي عشرة.
ثابت بن ثوبان
حدث عن أبيه ثوبان بسنده عن معاذ بن جبل قال: إن آخر كلام فارقت عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قال لي: " أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عز وجل ".
وحدث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يمنعن جارٌ جاره أن يضع خشبةً في حائطه ".
وحدث ثوبان عن مكحول بسنده، عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تعالى ليغفر للعبد ما لم يغرغر ".
قال يحيى بن معين: ابن ثوبان خراسانيٌ نزل الشام.
وروى عن مكحول، وهو ثقةٌ لا بأس به.
ثابت بن جعفر بن أحمد
أبو طاهر النهاوندي حدث عن أبي علي الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي بسنده، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب، فليكثر الدعاء في الرخاء ".
حدث في سنة سبعٍ وستين وأربع مائة عن أبي علي الأهوازي بجزء لطيف.(5/333)
ثابت بن الحسين بن محمد بن عيسى
ابن حبيب بن مروان، أبو نصر البغدادي قدم دمشق، وحدث بها.
روى عن عيسى بن علي بن عيسى بسنده، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فليقل: سبحانك اللهم، بك وضعت جنبي، وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي، فاغفر لها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ".
ثابت بن سرج أبو سلمة الدوسي
من أهل دمشق.
حدث عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: كان من دعاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذرف الدموع من خشيتك، قبل أن يكون الدمع دماً والأضراس جمراً ".
ثابت بن سعد أبو عمرو الطائي الحمصي
شهد صفين مع معاوية، ووفد على عبد الملك بن مروان.
حدث عن جبير بن نفير الحضرمي، عن أبي بكر الصديق، قال: قام في المدينة إلى جانب منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عليه، فذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبكى، ثم قال: قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مقامي هذا عام الأول، فقال: " أيها الناس سلوا الله العافية، سلوا الله العافية، سلوا الله العافية - ثلاث مرات - فإنه لم يؤت أحد مثل العافية بعد اليقين ".
سأل عبد الملك بن مروان ثابت بن سعد: أي يومٍ رأيت أشد؟ قال: رأيتنا يوم صفين والأسنة في صدور هؤلاء وهؤلاء، حتى لو أن إنساناً أراد أن يمشي عليها لمشى.(5/334)
ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام
ابن خويلد بن أسد بت عبد العزى بن قصي أبو مصعب.
ويقال: أبو حكم الأسدي الزبيري.
وفد على عبد الملك بن مروان، ثم وفد على سليمان بن عبد الملك، فأدركه أجله في رجوعه.
حدث ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن سعد بن أبي وقاص قال: لقد رأيتني مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ماءٍ من السماء وأني لأدلك ظهره وأغسله.
قال الزبير بن بكار: كان ثابت بن عبد الله بن الزبير لسان آل الزبير خلداً وفصاحةً وبياناً.
قال: وحدثني مصعب بن عبد الله قال: لم يزل بنو عبد الله بن الزبير خبيب وحمزة وعباد وثابت عند جدهم أبي أمهم منظور بن زبان بالبادية يرعون عليه الإبل كما يفعل عبيده حتى تحرك ثابت، فقال لإخوته: انطلقوا بنا نلحق بأبينا، فركبوا بعض الإبل حتى قدموا على أبيهم، واتبعهم منظور بن زبان، فقدم على آثارهم، فقال لعبد الله بن الزبير: اردد علي أعبدي هؤلاء، فقال: إنهم قد كبروا واحتاجوا أن نعلمهم القرآن، ولا سبيل إليهم، قال: أما إن الذي صنع بهم الصنيع ابنك هذا، مازلت أخافها منه مذ كبر، يعني ثابتاً.
قال: وقال عمي مصعب: فزعموا أن ثابتاً جمع القرآن أو أتم جمعه في ثمانية أشهر، وزوجه عبد الله بن الزبير قبلهم بنت ابن أبي عتيق عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، فولدت له جاريتين يقال لإحداهما حكمة، وكان يكنى أبا حكمة، وكان أبوه يكنيه أبا حكمة يشبه لسانه بلسان زمعة بن الأسود، وكان زمعة يكنى أبا حكيمة، وكان ثابتٌ يشهد القتال مع أبيه، ويبارز بين يديه، وكان حمزة بن عبد الله بن الزبير قال لبني عبد الله: لا تطلبوا أموالكم من عبد الملك حين قبضها، وأنا أنفق عليكم، فأتى ثابت بن عبد الله، وقدم على(5/335)
عبد الملك بن مروان، فدخل عليه، فأكرمه، ورد على ولد عبد الله بعض أموالهم بكلامه.
وانصرف بها ثابتٌ معه.
قال سليمان بن عبد الملك لثابت بن عبد الله: من أفصح الناس؟ قال: أنا، قال: ثم من؟ قال: أنا، قال: ثم من؟ قال: أنا، قال: ثم من؟ قال: ثم أنت، فرضي بذلك سليمان منه بعد مكثٍ، وكان سليمان فصيحاً.
قال مسور بن عبد الملك: كنا نأتي مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ينزعنا إليه إلا استماع كلام ثابت بن عبد الله.
حدث مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال: قال لي أبي: يا بني تعلم العلم، فإنك إن تكن ذا مالٍ يكن لك العلم كمالاً، وإن تكن غير ذي مالٍ يكن لك العلم مالاً.
قال جويرية بن أسماء: أتى عبد الله بن الزبير بابنه ثابت في قيوده فقال: أما والله لو ساف من والدٍ قتل ولده لقتلته.
قال: فبينا هو كذلك إذ حمل عليه أهل الشام حتى دخلوا المسجد، فقال: يا ثابت، قمفرد هؤلاء عني، فقام وإنه لفي ثوبين، فتناول سيفاً وجحفةً، فردهم ولم يرجع حتى دمي سيفه ثم رجع فقعد، فعاد أهل الشام فدخلوا المسجد فقال: يا ثابت قم فردهم عني، فقام فردهم حتى أخرجهم من المسجد.
فلما قتل ابن الزبير لحق ثابتٌ بعبد الملك بن مروان، فأكرمه، ثم قال له يوماً: فيم غضب عليك أبوك؟ قال: أشرت عليه أن يخرج من مكة، فعصاني وغضب علي.
وكان عبد الملك قد فبض أموال ابن الزبير، فقال له ثابت: إن رأيت أن ترد علي حصتي من ميراث أبي فافعل، فردها عليه، فقال ثابت لحمزة: كيف ترى أبا بكر كان صانعاً لو رأى هؤلاء قد سلموا إلي حصتي من ميراثه من بني ولده، وكنت أبغضهم إليه؟ فقال: تالله إن كان يحاكمهم إلا بالسيف.
دخل ثابت بن عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان، وهو صبي صغير، فقال(5/336)
له عبد الملك ألا تنبئني عنك لمَ كان أبوك يشتمك ويبعدك، إني لأحسبه كان يعلم منك ما تستحق منه أن يفعل ذلك بك؟ فقال: إذن أخبرك يا أمير المؤمنين: كنت أشير عليه فيستصغرني، ويرد نصيحتي، من ذلك أني نهيته أن يقاتل بأهل مكة، وقلت له: لا تقاتل بقومٍ أخرجوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخافوه، فلما جاؤوا إلى الإسلام أخرجهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعرض بجده الحكم بن أبي العاص حين نفاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونهيته عن أهل المدينة، وذكرته أنهم خذلوا أمير المؤمنين عثمان، وتقاعدوا عنه حتى قتل بين ظهرانيهم - يعرض ببني أمية وأبيه مروان - فقال عبد الملك: اسكت لعنك الله، فأنت كما قال الأول:
شنشنةٌ أعرفها من أخزم
قال ثابت: إني لكذلك في حلمي السلف، غير جبان ولا غدار - يعرض بغدره بعمرو بن سعيد بن العاص - وإني لكما قال كعب بن زهير: " من الطويل "
أنا ابن الذي لم يخزني في حياته ... ولم أخزه لما تغيب في الرجم
أقول شبيهاتٍ بما قال عالمٌ ... بهن ومن أشبه أباه فما ظلم
فأشبهته من بين من وطئ الثرى ... ولم ينتزعني شبه خالٍ ولا ابن عم
مات ثابت بن عبد الله بن الزبير بسرغ من طريق الشام، منصرفاً من عند سليمان بن عبد الملك إلى المدينة، وهو ابن سبعٍ أو ثمان وسبعين سنة.
وقيل توفي بمعان من طريق الشام؛ وموته بسرغ أثبت.(5/337)
ثابت بن عجلان أبو عبد الله
الحمصي سمع بدمشق.
حدث ثابت بن عجلان، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله يقول: يا بن آدم، إني إذا أخذت إراءة كريمتيك، فصبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى، لم أرض لك ثواباً دون الجنة ".
قال ثابت بن عجلان:
أدركت أنس بن مالك، وابن المسيب، والحسن البصري وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وطاووساً، ومجاهداً، وعبد الله بن أبي مليكة، والزهير، ومكحولاً، والقاسم أبا عبد الرحمن، وعطاء الخراساني، وثابت البناني، والحكم بن عيينة، وأيوب السختياني، وحماداً، ومحمد بن سيرين، وأبا عامر - وقد أدرك أبا بكرٍ الصديق - ويزيد الرقاشي، وسليمان بن موسى كلهم يأمرني بالصلاة في الجماعة، وينهاني عن أصحاب الأهواء، ثم بكى وقال: يا بن أخي ما من عملٍ أرجى لي، ولا أوثق في نفسي من مشيٍ إلى هذا المسجد، يعني مسجد الباب.
قال ثابت بن عجلان: رأيت أنس بن مالك يعتم بعمامة سوداء ولا يرخي من خلفه.
وقال ثابت بن عجلان: إن الله عز وجل يريد بأهل الأرض عذاباً، فإذا سمع الصبيان يتعلمون الحكمة صرف ذلك عنهم.
ثابت بن قيس بن الخطيم
واسمه ثابت بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر وهو كعب بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الظفري.
له صحبة، وشهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً وما بعدها، وصحب علياً عليه السلام، وولاه المدائن، ووفد على معاوية، وكان قيس بن الخطيب لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، فدعاه إلى الإسلام، فاستنظره حين يقدم عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة،(5/338)
فقتل قيسٌ قبل قدوم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو بقي الأديعج وفى ".
ومن ولده يزيد بن قيس وبه كان يكنى، وجرح ثابت بن قيس يوم أحد اثنتي عشرة جراحةً، وسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاسراً، وجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يا حاسر أقبل، يا حاسر أدبر ".
وهو يضرب بسيفه بين يديه، وشهد المشاهد بعدها، ومات أيام معاوية.
وكان ثابت بن قيس شديد النفس، وكان له بلاءٌ مع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، واستعمله على المدائن.
فلم يزل عليها حتى قدم المغيرة بن شعبة الكوفة، وكان معاوية يبغي مكانه.
انصرف ثابت بن قيس إلى منزله، فيجد الأنصار مجتمعةً في مسجد بني ظفر يريدون أن يكتبوا إلى معاوية في حقوقهم أول ما استخلف وذلك أنه حبسهم سنتين أو ثلاثاً لم يعطهم شيئاً، فقال: ما هذا؟ فقالوا: نريد أن نكتب إلى معاوية، فقال: ما تصنعون أن يكتب إليه جماعة يكتب إليه رجلٌ منا؛ فإن كانت كائنةٌ برجلٌ منكم خيرٌ من أن تقع بكم جميعاً، وتقع أسماؤكم عنده، فقالوا: فمن ذلك الذي يبذل نفسه لنا؟ قال: أنا، قالوا: فشأنك.
فكتب إليه وبدأ بنفسه، فذكر أشياء منها: نصرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغير ذلك، وقال: حبست حقوقنا، واعتديت علينا وظلمتنا، ومالنا إليك ذنبٌ إلا نصرتنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فلما قدم كتابه على معاوية دفعه إلى يزيد، فقرأه ثم قال له: ما الرأي؟ فقال: تبعث فتصلبه على بابه، فدعا كبراء أهل الشام فاستشارهم، فقالوا: لتبعث إليه حتى تقدم به هاهنا وتقفه لشيعتك ولأشراف الناس حتى يروه ثم تصلبه، فقال: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: لا، فكتب إليه: قد فهمت كتابك، وما ذكرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد علمت أنها كانت ضجرةً لشغلي وما كنت فيه من الفتنة التي شهرت فيها نفسك، فأنظرني ثلاثاً.
فقدم كتابه على ثابت، فقرأه على قومه، وصبحهم العطاء في اليوم الرابع.
قيل: ثم أتاه بعد، فأقام عنده فمكث عنده نحواً من شهرين لا يلتفت إليه، ثم استأذنه الخروج، فبعث إليه بمائة ألف درهم، فوضعها في منزله وتركها وخرج.
ثابت بن قيس بن منفع
أبو المنفع النخعي كوفي.
حدث ثابت بن قيس عن أبي موسى يرفعه قال: أبردوا بالظهر، فإن الذي تجدون من الحر من فيح جهنم.(5/339)
ثابت بن معبد أخو عطية بن معبد
كان والياً على الساحل.
حدث ثابت عن أبي إدريس عائذ الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا وضع الطعام فليبدأ أمير القوم، أو صاحب الطعام، أو خير القوم ".
ثم أخذ بيد أبي عبيدة.
قال: فكانوا يرون أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان صائماً.
قال سليمان بن حبيب المحاربي:
خرجت غازياً، فلما مررت بحمص خرجت إلى السوق لأشتري ما لا غناء للمسافر عنه، فلما نظرت إلى باب المسجد قلت: لو أني دخلت فركعت ركعتين، فلما دخلت نظرت إلى ثابت بن معبد وابن أبي زكريا ومكحول في نفرٍ من أهل دمشق، فلما رأيتهم، فجلست إليهم، فتحدثوا شيئاً ثم قالوا: إنا نريد، أبا أمامة الباهلي، فقاموا وقمت معهم فدخلنا عليه، فإذا شيخٌ قد رق وكبر، فإذا عقله ومنطقه أفضل مما ترى من منظره، فكان أول ما حدثنا أن قال: إن مجلسكم هذا من بلاغ الله إياكم وحجته عليكم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغ ما أرسل به، فإن أصحابه قد بلغوا ما سمعوا، فتبلغوا ما تسمعون: ثلاثةٌ كلهم ضامنٌ على الله عز وجل: رجل خرج في سبيل الله فهو ضامنٌ على الله حتى يدخله الجنة، أو يرجعه بما نال من أجرٍ أو غنيمة؛ ورجلٌ دخل بيته بسلام.
وذكر الثالث.
حدث ثابت بن معبد قال: قال موسى عليه السلام: رب؛ أي الناس أتقى؟ قال: " الذي يذكر ولا ينسى ".
قال: رب، أي الناس أغنى؟ قال: " الذي يقنع بما يؤتى ".
قال: رب، أي الناس أعلم؟ قال: " الذي يأخذ من علم الناس إلى علمه ".
قال: رب، أي الناس أحكم؟ قال: " الذي يحكم للناس كما يحكم نفسه ".
قال: رب، أي الناس أعز؟ قال: " الذي يغفر بعدما يقدر ".
وقال ثابت بن معبد: ثلاثة أعينٍ لا تمسها النار: عينٌ حرست في سبيل الله، وعين سهرت بكتاب الله، وعين بكت في سواد الليل من خشية الله عز وجل.(5/340)
ثابت بن يحيى بن إسار
أبو عباد الرازي كاتب المأمون، وكان يصحبه في سفره وحضره، وكان قدم معه دمشق، وكان من الكفاة.
حدث أبو عباد، وذكر المأمون فقال: كان والله أحد ملوك الأرض الذي يجب له هذا الاسم بالحقيقة، ثم أنشأ يحدث قال: كان يلزم بابي رجلٌ لا أعرفه، فلما طالت ملازمته قلت له بسوء لقائي: يا هذا ما لزومك بابي؟ قال: طالب حاجة، قلت: وما هي؟ قال: توصلني إلى أمير المؤمنين، أو توصل لي رقعة، قلت: ما يمكنني ما تريد في أمرك.
فانصرف ولم يرد علي شيئاً؛ وجعل يلزم الباب فما يفارقه، فإذا انصرف فرآني نشيطاً تصدى لي، فأراني وجهه فقط، فإن رآني بغير تلك الحال كمن ناحية، فما زالت تلك حاله صابراً علينا حتى رفقت عليه، فقلت له يوماً وقد انصرفت من الدار: مكانك، فأقام، فقلت للغلام: أدخل هذا الرجل، فأدخله، فقلت: يا هذا إني أرى لك مطالبةً جميلة، وأظن أنك ترجع إلى محتدٍ كريم، وأدبٍ بارع، قال: أما المحتد فرجلٌ من الأعاجم، وأما الأدب فأرجو أن تجده إن طلبته، قلت: إن عندي منه علماً، قال: وما هو أدام الله عزك؟ قلت: صبرك على المطالبة الجميلة، قال: ذاك أقل أحوالي أعزك الله.
قال: فدخلتني له جلالة، فقلت: حاجتك؟ قال: ضيعة صارت لأمير المؤمنين أيده الله كانت لسعيد بن جابر وكنا شركاءه فيها.
فجاء وكيله فضرب منارة على حدودنا وحدوده، وهذه ضيعةٌ كنا نعود بفضلها على الغريب والصديق والجار الأخ؛ قلت: فمعك رقعة؟ قال: نعم.
فأخرج رقعة من خفه فيها مظلمته، فلما قرأتها ووضعتها، قام فانصرف، فخف على قلبي، وأحببت نفعه، فأدخلته على المأمون مع خمسةٍ من أصحاب الحوائج فاتفق أن كان أول من تكلم منهم، فاستنطق رجلاً فصيحاً، حسن العبارة لسناً، فقال: تكلم بحاجتك، فتكلم، فقال: يا ثابت وقع له بقضائها، ثم قال: ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أرضٌ غلبني(5/341)
عليها ابن البختكان بالأهواز بقوة السلطان، فأخرجها عن يدي، ودعاني إلى أخذ بعض ثمنها، فقال: يا ثابت وقع له بالكتاب إلى القاضي هناك يأمره بإنصافه وإخراج يد ابن البختكان منه وأخذها من الرجل بحكمه.
ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قطيعة كان المنصور أقطعها أبي، فأخذت من أيدينا بسبب البرامكة، قال: وقع برد عليه هذه موفورة وينظر ما أخرجت منذ قبضت عنهم إلى هذه الغاية فيدفع إليهم حاصل غلاتهم.
ثم قال: ألك حاجة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، علي دين قد كظني وأزلني بكثره، وقوى علي أربابه، قال: وكم دينك؟ قال: أربع مائة ألف دينار، قال: وقع يا ثابت بقضاء دينه.
قال: فسأل سبع حوائج قيمتها ألف ألف درهم؛ فوالله ما إن زالت قدمه عن مقرها حتى قضيت.
فامتلأت غيظاً، وفرت فور المرجل حتى لو أمكنت من لحمه لأكلته.
ثم دعا للمأمون وخرج.
فقال: يا ثابت، أتعرف هذا الرجل؟ قلت: فعل الله به وفعل، فما رأيت والله رجلاً أجهل منه، ولا أوقح وجهاً! فقال: لا تقل ذاك فتظلمه، فما أدري متى خاطبت رجلاً هو أعقل منه، ولا أعرف بما يخرج من رأسه.
فقصصت عليه قصته أولها وآخرها، فقال: هذا من الذي قلت لك، ثم قال: وأزيدك أخرى ولا أحسبك فهمتها، قال: قلت: وما هي؟ قال: أما رأيت خاتمه في إصبعه اليمنى؟ قال: " ولتعرفنهم في لحن القول ".
ثابت بن يوسف بن الحسين
أبو الحسن الورثاني حدث عن عبد الله بن محمد بن عبد الله الحافظ بسنده عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما أنا لكم مثل الوالد، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، وإذا استطاب فلا يستطب بيمينه ".
وكان يأمر بثلاثة أحجار، وينهى عن الروث والرمة.(5/342)
ثروان أبو علي مولى عمر بن عبد العزيز
قال ثروان: دخل عمر بن عبد العزيز وهو غلام اصطبل أبيه، فضربه فرسٌ على وجهه، فأتي به أبوه يحمل، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول: لئن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد.
وفي رواية: أن عمر بن عبد العزيز رمحته دابةٌ وهو غلام بدمشق وذكر الحديث.
ثريا بن أحمد بن الحسن بن ثريا
أبو القاسم الألهاني البزار.
حدث عن أبي علي الحسين بن إبراهيم بن جابر الفرائضي بسنده، عن ابن عمر، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا تسافر المرأة ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرمٍ لا تحل له ".
ثعلب بن جعفر بن أحمد بن الحسين
أبو المعالي بن أبي محمد السراج.
حدث عن أبي القاسم الحنائي بسنده عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع سارقاً في مجنٍ قيمته ثلاثة دراهم.
توفي ثعلب في ربيع الأول سنة أربعٍ وعشرين وخمس مائة.
ثمامة بن حزن بن عبد الله بن سلمة
ابن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان القشيري البصري، أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يره، وقيل: بل له صحبة، وقدم دمشق وسمع من أبي الدرداء.(5/343)
حدث ثمامة قال: سألت عائشة عن النبيذ، فدعت جاريةً حبشية، فقالت: سل هذه فإنها كانت تنبذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألتها، فقالت: كنت أنبذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقاءٍ من الليل وأوكيه، فإذا أصبح شرب منه.
وحدث قال: أتيت عائشة فسألتها عن النبيذ، فحدثتني أن وفد عبد القيس سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبيذ، فنهاهم أن يشربوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم، فدعت عائشة جاريةً حبشية، وساق تتمته بمعنى الحديث الأول.
وذكر مسلم بن الحجاج من أدرك الجاهلية ولم يلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكنه صحب الصحابة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم ثمامة بن حزن القشيري.
وقال بعض الملح الأدباء: المخضرم اشتقاقه من أهل الجاهلية كانوا يخضرمون آذان الإبل أي يقطعونها لتكون علامةً لإسلامهم إن أغير عليها أو حوربوا.
ثمامة بن عدي القرشي أمير صنعاء
له صحبة.
حكى عنه أبو الأشعث الصنعاني أن ثمامة كان على صنعاء، وكان من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما جاء نعي عثمان بكى بكاءً شديداً، فلما أفاق قال: هذا حين انتزعت خلافة النبوة من آل محمدٍ وصارت ملكاً وجبرية، من غلب على شيءٍ أكله.(5/344)
وفي بعض الروايات: كان على صنعاء الشام، ورواه خليفة بن خياط على صنعاء.
قال الحافظ: وهذا القول من خليفة يدل على أنها صنعاء اليمن.
قال: وذلك هو الصواب.
ثميل بن عبد الله الأشعري
من أهل دمشق.
كان من أصحاب أبي الدرداء.
وحدث عن أبي الدرداء، قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " إن الجنة لا تحل لعاصٍ، من أتى الله وهو ناكث يبعث يوم القيامة وهو أجذم، ومن خرج من الطاعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، ومن أصبح ليس لأمير جماعة عليه طاعة بعثه الله يوم القيامة من ميتةٍ جاهلية، ولواء الغادر عند استه يوم القيامة ".
ثوابة بن أحمد بن عيسى بن ثوابة
ابن مهران بن عبد الله أبو الحسين الموصلي، سمع بدمشق.
حدث عن أبي يعلى أحمد بن علي بن المثنى بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" ثلاثةٌ لا ترى أعينهم النار يوم القيامة: عين بكت من خشية الله، وعينٌ حرست في سبيل الله؛ وعينٌ غضت عن محارم الله ".
توفي ثوابة بمصر في المحرم سنة ثمانٍ وخمسين وثلاث مائة.(5/345)
ثواب بن إبراهيم بن أحمد
أبو الحسن الأنصاري حدث عن عبد الله بن محمد بن إبراهيم الإمام بسنده عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن أحدكم إذا مات عرض على مقعده بالغداة والعشي؛ إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، ثم يقال: هذا مقعدك حتى تبعث يوم القيامة ".
ثوبان بن جحدر ويقال ابن يجدد
أبو عبد الله ويقال: أبو عبد الرحمن مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل اليمن أصابه سباء فأعتقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحدث عنه.
قال سالم بن أبي الجعد: قيل لثوبان: حدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كذبتم علي وقلتم ما لم أقل! قالوا: حدثنا، قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من عبدٍ يسجد لله سجدةً إلا رفع الله له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ".
وعنه قال: أتاه أناسٌ فقالوا: حدثنا فقد ذهب أصحابك، وافتقرنا إلى ما عندك، فحدثنا ما ينفعنا ولا يضرك، قال: عليكم بكتاب الله عز وجل، فإنه أحسن الحديث، وأبلغ الموعظة.
قالوا: صدقت، ولكن حدثنا بما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " تلقوني بجنبات الحوض أزود أهل اليمن بعصاي حتى يرفض عنهم ".
فقال رجل: من أهل اليمن؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم أهل اليمن ".
فقال رجل:(5/346)
كم طوله؟ قال: " من مقامي إلى عمان - وهو يومئذٍ بالمدينة - شرابه أطيب من اللبن وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها حتى يفرغ من الحساب - أو كما ذكر - له ميزابان يصبان فيه من ورق ".
حدث أبو الدرداء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاء فأفطر، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فقال: أنا صببت عليه وضوءه.
كان ثوبان من العرب من حكم بن سعد، كان يسكن بالرملة، وكانت له هناك دار، ولا عقب له، وكان من ناحية اليمن.
ومات ثوبان بمصر سنة أربعٍ وخمسين، وقيل: مات بحمص، وله بها دار صدقة، حبسٌ على مهاجري فقراء ألهان.
ولثوبان في اليمن نسب.
ولما أعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا ثوبان، إن شئت أن تلحق بمن أنت منه فعلت، فأنت منهم، وإن شئت أن تثبت فأنت منا أهل البيت ".
فثبت على ولاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى قبض بحمص.
وشهد ثوبان فتح مصر واختط بها داراً.
قال يوسف بن عبد الحميد: لقيت ثوبان فرأى علي ثياباً، فقال: ما تصنع بهذه الثياب؟ ورأى علي خاتماً فقال: ما تصنع بهذا الخاتم؟ إنما الخواتيم للملوك.
قال: فما اتخذت خاتماً بعد.
قال: فحدثني ثوبان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا أهله، فذكر علياً وفاطمة وغيرهما، قال: قلت: يا رسول الله، أمن أهل البيت أنا؟ فسكت، ثم قلت: يا رسول الله أمن أهل البيت أنا؟ فسكت.
فقال في الثالثة: " نعم، على أن لا تقف على باب سدة ولا تأتي أميراً ".(5/347)
وعن ثوبان أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من يتكفل لي أن لا يسأل شيئاً وأتكفل له بالجنة؟ " قال ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا.
قال: " فكان يعلم أن ثوبان لا يسأل أحداً شيئاً.
قال معمر: وبلغني أنا عائشة كانت تقول: تعاهدوا ثوبان فإنه لا يسأل أحداً شيئاً، فكان يسقط منه العصا والسوط، فما يسأل أحداً أن يناوله إياه حتى ينزل فيأخذه.
قال أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي، قال: قوله " من يطع الله والرسول " قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان شديد الحب له، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا ثوبان ما غير لونك؟ " فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك فاستوحشت وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أن لا أراك هنالك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلةٍ أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
قال شريح بن عبيد:
مرض ثوبان بحمص وعليها عبد الله بن قرط الأزدي فلم يعده، فدخل على ثوبان رجلٌ من الكلاعيين عائداً له، فقال له ثوبان: أتكتب؟ فقال: نعم، فقال: أكتب، فكتب: للأمير عبد الله بن قرط من ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما لعد، فإنه لو كان لموسى وعيسى صلى الله عليهما مولى بحضرتك لعدته.
ثم طوى الكتاب، وقال له: أتبلغه إياه؟ فقال: نعم.
فانطلق الرجل بكتابه فدفعه إلى ابن قرط، فلما قرأه قام فزعاً، فقال الناس: ما شأنه؟ أحدث أمر؟ فأتى ثوبان حتى دخل عليه، فعاده وجلس عنده ساعةً، ثم قام، فأخذ ثوبان بردائه وقال جالس حتى أحدثك حديثاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سمعته يقول: " ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً، لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً ".(5/348)
قال محمد بن زياد الألهاني: كان ثوبان جاراً لنا، وكان يدخل الحمام فقلت له، فقال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل الحمام، قال: وكان يتنور.
ثوبان بن شهر الأشعري
قال ثوبان بن شهر: كنا عند عبد الملك في سطح بدير المران عنده كريب بن أبرهه، فذكروا الكبر، فقال كريب: سمعت أبا ريحانة يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا يدخل الجنة من الكبر شيء ".
قال أبو ريحانة: فقلت: يا رسول الله إني أحب الجمال حتى في جلازي وشراك نعلي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ليس ذلك من الكبر، إن الله جميلٌ يحب الجمال، إنما الكبر من سفه الحق وغمص الناس بعيبه ".
ثوب ويقال ثوب بن تلدة الوالبي الأسدي
أحد المعمرين المخضرمين، وفد على معاوية بن أبي سفيان.
قال ثوب بن تلدة الوالبي: أدركت ثلاث والبات، وكان قد بلغ مائتي سنة وأربعين سنة، يقول: كل ثمانين سنة قرن من بني والبة.(5/349)
هو ثوب بن تلدة، ويقال: ثوب، بفتح التاء وسكون الواو، وقيل: تلدة أمه وأبوه ربيعة، وهو القائل: " من الطويل "
وإن امرءاً قد عاش عشرين حجةً ... إلى مائتين كلها هو دائب
كرهن لأحداث المنايا وإنما ... تلهته في الدنيا مناه الكواذب
قال الكلبي: أدرك ثوب بن تلدة معاوية فدخل عليه، فقال له: ما أدركت، وكم عمرك؟ قال: لا أدري.
إلا أني أدركت بني والبة ثلاث مرات - يريد أفنيت ثلاثة قرون - قال: فكيف بصرك اليوم؟ قال: أحد ما كان قط، كنت أرى الشخص واحداً، فأنا أراه اليوم شخصين.
قال: فكيف مشيك؟ قال: أمشي ما كنت قط، كنت امشي تائداً فأنا اليوم أهرول هرولةً، فقال: أدركت أمية بن عبد شمس؟ قال: نعم، وهو أعمى وعبد له يقوده، قال له معاوية: كف فقد جاء غير ما ذكرت، ثم قال معاوية: ليس في البيت إلا أموي، فانظر أي هؤلاء أشبه بأمية؟ ثم قال: هذا، لعمرو بن سعيد بن العاص وهو عمرو الأشدق، وقيل له: ((الأشدق، لأنه كان خطيباً مفلقاً.
وفي رواية أخرى من حديث: ولقد رأيتني وأمية بن عبد شمس نطوف بالبيت، ما أدري أنا أكبر أم هو.
ثور بن يزيد بن زياد أبو خالد
الكلاعي ويقال: الرحبي الحمصي.
قدم دمشق وحج منها مع مكحول.
حدث عن خالد بن معدان عن أبي أمامة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رفع العشاء من بين يديه قال: " الحمد لله كثيراً طيباً ماركاً فيه غير مكفورٍ ولا مودعٍ ولا مستغنىً عنه ربنا ".
حدث عن خالد بن معدان عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح الشهداء في طير كزرازير ترد أنهار الجنة حتى يردها الله عز وجل في أجسادها.(5/350)
قال محمد بن راشد: خرجنا مع مكحول إلى مكة فكان ثور بن يزيد يؤذن له، قال: فكان يأمره أن لا ينادي بالعشاء حتى تذهب الحمرة، ويقول: هو الشفق.
مات أبو خالد ببيت المقدس سنة ثلاثٍ وخمسين ومائة وهو ابن بضعٍ وستين سنة، وقيل: مات سنة خمسٍ وخمسين ومائة.
وكان ثقةً في الحديث، ويقال: إنه كان قدرياً، وذ (ان جد ثور بن يزيد قد شهد صفين مع معاوية، وقتل يومئذ، وكان ثور إذا ذكر علياً قال: لا أحب رجلاً قتل جدي.
لقي ثور الأوزاعي، فمد ثورٌ يده، فأبى الأوزاعي أن يمد يده إليه، وقال: يا ثور إنه لو كانت الدنيا كانت المقاربة ولكن الدين، يقول: لأنه كان قدرياً.
قال أبو مسلم الفزاري:
ما سمعت الأوزاعي يقول في أحدٍ من الناس إلا في ثور بن يزيد ومحمد بن إسحاق، قال: ذلت له: يا أبا عمرو حدثنا ثور بن يزيد، قال: فغضب علي غضبةً ما رأيت مثلها، ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ستةٌ لعنتهم فلعنهم الله وكل نبيٍ مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله ".
ثور بن يزيد أحدهم، تأخذ دينك عنه! وأما محمد بن إسحاق فكان يرى الاعتزال، قال: فجئت إلى كتابي الذي سمعته من ثور ومحمد بن إسحاق، فألقيته في التنور.
وقد روي عنه أنه تبرأ من القول بالقدر.(5/351)
أسماء النساء على حرف الثاء المثلثة
الثريا بنت عبد الله بن الحارث
ويقال بنت علي بن عبد الله بن الحارث، ويقال: بنت عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث ابن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية المكية.
وفدت على الوليد بن عبد الملك - بعد موت سهيل بن عبد الرحمن زوجها - في دينٍ عليها، وهي التي ذكرها عمر بن أبي ربيعة في شعره.
تزوج سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الثريا بنت عبد الله بن الحارث، فحملت إليه من مكة إلى الشام، فقال عمر بن أبي ربيعة: " من الخفيف "
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يجتمعان
هي شاميةٌ إذا ما استقلت ... وسهيلٌ إذا استقل يماني
فلما وفدت على الوليد دخل عليها وهي عند أم البنين بنت عبد العزيز، فقال: من هذه يا بنت عبد العزيز؟ قالت: هذه الثريا بنت عبد الله، جاءتك في دينٍ ركبها، فأقبل الوليد على الثريا فقال: هل تروين من شعر عمر شيئاً؟ فقالت: نعم، أما إنه رحمه الله كان عفيف الشعر أروي قوله: " من الخفيف "
ما على الرسم المرس لو ب ... ين رجع التسليم أو لو أجابا
فإلى قصر ذي العشيرة فال ((مأ ... لف أمسى من الأنيس جوابا
ربما قد أرى به حي صدقٍ ... طاهر العيش نعمةً وشبابا
وحساناً مثل المها خفراتٍ ... حافظاتٍ عند الهوى الأحبابا
لا يكثرن في الحديث فلا يت ... بعن ينعقن بالبهام الضرابا(5/352)
فلما خلا الوليد مع أم البنين قال لها: لله در ثريا! أما تدرين ما أرادت بإنشادها الذي أنشدتني من قول ابن أبي ربيعة؟ قالت: لا، قال: لما عرضت لها به عرضت لي بأن أأعرابية.
قال إسحاق الموصلي: بلغني أن الثريا كانت من أكمل النساء، وأحسنهم خلقاً، فكانت تأخذ جرةً من ماء فتفرغها على رأسها فلا تصيب باطن فخذها قطرةٌ من عظم كفلها.
قال أبو سفيان بن العلاء: بصرت الثريا بعمر بن أبي ربيعة وهو يطوف حول البيت فتنكرت وفي كفها خلوق فرجمته، فأثر الخلوق في ثوبه، فجعل الناس يقولون: يا أبا الخطاب، ما هذا زي المحرم.
فأنشأ يقول: " من الخفيف "
أدخل الله رب موسى وعيسى ... جنة الخلق من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحاً رفيقا
فقال له عبد الله بن عمر: مثل هذا القول تقول في مثل هذا الموضع!؟ فقال له: يا أبا عبد الرحمن قد سمعت مني ما سمعت، فورب هذه البنية ما حللت إزاري على حرامٍ قط.
قال الزبير بن بكار: لما صرمت الثريا عمر بن أبي ربيعة اشتد وجده بها، دعا غلاماً له، ثم كتب معه في قرطاس: " من الخفيف "
من رسولي إلى الثريا فإني ... ضقت ذرعاً بهجرها واجتنابي
وهي مكفوفة تحير منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
ذكرتني من بهجة الشمس لما ... طلعت بين دجنةٍ وسحاب
دميةٌ عند راهبٍ قسيسٍ ... صوروها في مذبح المحراب
فارجحنت في حسن خلقٍ عميمٍ ... تتهادى في مشيها كالحباب(5/353)
ثم قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً ... عدد الرمل والحصى والتراب
سلبتني محاجر الماء عقلي ... فسلوها بما يحل اغتصابي
ثم قال للغلام: انطلق بهذا الكتاب إلى ابن أبي العتيق بالمدينة؛ فلما قرأ ابن أبي عتيق الكتاب قال: أنا والله رسوله إليها، فسار من فوره لا يعلم به أهله حتى قدم مكة، فأتى منزل عمر، فوجده غائباً، فنزل عن دابته وركب دابة لعمر، وقال لغلامه: دلني على منزل الثريا؛ فمضى معه، فلما انتهى إلى منزلها وجدها قد خرجت إلى البادية على رأس أميالٍ من مكة، فخرج نحوها، فلما دنا من الحي صهل البرذون، فعرفت الثريا صوته، فقالت لجواريها: هذا برذون الحبيب، ثم دعت براحلة، فرحلتها وركبتها وخرجت تلقاه، فإذا هي بابن أبي عتيق، فقالت: مرحباً، قد آن لك أن نراك يا عم ما جاء بك؟ قال: أنت والعاشق جئتما بي، فقالت: أما والله لو بغيرك تحمل ما أجبناه وليس لك مدفع امرر بنا نحوه.
قال فأقبل نحو منزل عمر وقد كان بعض غلمانه صار إليه فأعلمه أن رجلاً قد صار إليهم من صفته كذا وكذا، قال: ويحك هو ابن أبي عتيق اسبقني إليه فقل له: هذا مولاي يأتيك الساعة.
ثم انصرف مسرعاً فصار إلى منزله فسأل عن ابن أبي عتيق فأخبر أنه قد توجه إلى الثريا، فلم يلبث إلا يسيراً حتى وافاه ابن أبي عتيق، فخرج إليه فقبل يديه ورجليه، ثم قال: انزل جعلني الله فداك، فقال ابن أبي عتيق: مكة علي حرام إن أقمت بها ساعتي هذه، ثم دعا بدابته فتحول عنها، وشخص إلى المدينة راجعاً.
أسماء الرجال على(5/354)
حرف الجيم
جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب
أبو خالد، ويقال أبو عبد الله السوائي.
صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال جابر: صلى بنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر فجعل يهوي بيده بين يديه وهو في الصلاة، فسأله القوم حين انصرف، فقال: " إن الشيطان جاءني يلقي علي شرر النار ليفتنني فتناولته، فلو أخذته ما انفلت مني حتى يناط بساريةٍ من سواري المسجد ينظر إليه ولدان أهل المدينة ".
وحدث جابر أيضاً قال: مات رجلٌ على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتاه رجلٌ فقال: يا رسول الله، مات فلان، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لم يمت ".
فأتاه الثانية، فقال مثل ذلك، ثم أتاه الثالثة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كيف مات؟ " قال: نحر نفسه بمشقصٍ عنده، فلم يصل عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وحدث أيضاً قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي نحواً من صلاتكم، ولكنه كان يخفف الصلاة، كان يقرأ في صلاة الفجر بالواقعة ونحوها من السور.
وحدث أيضاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في الصبح بقاف والقرآن المجيد، ورأيت صلاته بعد تخفيفاً.(5/355)
وحدث جابر بن سمرة قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم.
ثم يفشو الكذب، حتى يشهد الرجل وما يستشهد وحتى يحلف الرجل وإن لم يستحلف، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ألا فمن سرته حسنته، وساءته سيئته فهو مؤمن ".
قال محمد بن سعد: وممن نزل الكوفة سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير، صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وابنه جابر بن سمرة وهم حلفاء في بني زهرة، وابتنى بها داراً في بني سواءة، وتوفي بها في خلافة عبد الملك في ولاية بشر بن مروان على الكوفة.
وأم جابر بن سمرة خالدة أخت سعد بن أبي وقاص.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب بن حجير بن رئاب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.
قال جابر بن سمرة: جالسته أكثر من مائة مرة - يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبته الأولى ثم يقعد قعدةً ثم يقوم فيخطب خطبته الأخرى.
قال جابر بن سمرة: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمر بنا فيمسح خدودنا، فمر ذات يومٍ فمسح بخدي، فكان الذي مسحه أحسن من الآخر.(5/356)
توفي جابر سنة ثلاثٍ وسبعين.
قال: والمحفوظ سنة ست وسبعين في ولاية بشر بن مروان.
جابر بن عبد الله بن عمرو
ابن حرام بن ثعلبة بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن ساردة بن تزيد بن جشم بن الخزرج، أبو عبد الله ويقال: أبو عبد الرحمن ويقال: أبو محمد الأنصاري الخزرجي السلمي الحرامي المدني.
صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث جابرٌ قال: ولد لرجلٍ منا غلام، فسماه القاسم فقلنا: لا نكنيك أبا القاسم، ولا تنعم عيناً.
فأتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر ذلك له فقال: " سم ابنك عبد الرحمن ".
وحدث جابرٌ قال: دخلت المسجد ضحىً، فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد، فقال: " قم فصل ركعتين ".
وعن جابرٍ قال: كنت في الجيش الذين مع خالد بن الوليد الذين أمد بهم أبو عبيدة بن الجراح وهو محاصرٌ دمشق، فلما قدمنا عليهم، قال لخالد: تقدم فصل فأنت أحق بالإمامة، لأنك جئت تمدني، فقال خالد: ما كنت لأتقدم رجلاً سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لكل أمةٍ أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح ".
جابر بن عبد الله شهد العقبة مع السبعين من الأنصار، وكان أصغرهم يومئذ.
وشهد المشاهد كلها إلا بدراً وأحداً، وأراد شهود بدر فخلفه أبوه على أخواته، وكنّ تسعاً، وخلفه أيضاً حين خرج إلى أحدٍ، وشهد ما بعد ذلك من المشاهد.
واستشهد أبوه يوم أحد.(5/357)
وقال جابر: كنت أميح أصحابي الماء يوم بدر.
وأنكر محمد بن عمر أن يكون جابرٌ شهد بدراً.
قال جابر: غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحدى وعشرين غزوةً بنفسه، شهدت منها تسع عشرة غزوةً.
وذهب بصر جابرٍ أخيراً.
قال جابر: غزوت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع عشرة غزوة.
قال: لم أشهد بدراً ولا أحداً، منعني أبي، قال: فلما قتل عبد الله يوم أحد لم أتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوةٍ قط.
قال جابر بن عبد الله: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة، وأخرجني خالي وأنا لا أستطيع أن أرمي بحجر.
قال جابر: حملني خالي جد بن قيس وما أقدر أن أرمي بحجر في سبعين راكباً من الأنصار الذين وفدوا على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: فخرج إلينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه العباس بن عبد المطلب، فقال: " يا عم خذ لي على أخوالك ".
قالوا: يا محمد سل لربك ولنفسك ما شئت، قال: " أما الذي أسأل لربي، فتعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأما الذي أسأل لنفسي، فتمنعوني مما تمنعون منه أموالكم وأنفسكم ".
قالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال: " الجنة ".
سئل جابر بن عبد الله: كم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سبعاً وعشرين غزوةً، غزا بنفسه وغزوت معه منها ست عشرة غزوةً، لم أقدر أن أغزو حتى قتل أبي - رحمه الله - بأحد.
وكان يخلفني على أخواتي، وكنّ تسعاً، فكانت أول عزوةٍ غزوتها معه حمراء الأسد إلى آخر مغازيه.(5/358)
قال موسى بن عقبة: وأمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه وبهم أشد القرح بطلب العدو وليسمعوا بذلك، وقال: " لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال ".
يعني: بأحد، فقال عبد الله بن أبي: أنا راكب معك، فقال: " لا "، فاستجابوا لله ولرسوله على الذي بهم من البلاء، فانطلقوا، فقال الله عز وجل في كتابه: " الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجرٌ عظيم ".
قال: وأقبل جابر بن عبد الله السلمي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله إن أبي رجعني وقد خرجت معك لأشهد القتال، فقال: ارجع.
وناشدني أن لا أترك نساءنا، وإنما أراد حين أوصاني بالرجوع رجاء الذي كان أصابه من القتل، فاستشهده الله فأرادني للبقاء لتركته، ولا أحب أن تتوجه وجهاً إلا كنت معك، وقد كرهت أن تطلب معك إلا من شهد القتال، فأذن لي، فأذن له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العدو حتى بلغ حمراء الأسد، ونزل القرآن في طاعة من أطاع، ونفاق من نافق، وتعزية المسلمين، وشأن مواطنهم كلها، ومخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ غدا، فقال جل ثناؤه: " وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، والله سميعٌ عليم " ثم ما بعد الآية في قصة أمرهم.
وعن جابرٍ قال: كنا يوم الحديبية ألفاً وأربع مائة، فقال لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنتم خير أهل الأرض. ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة ".
قال جابر:
كنا يوم الحديبية ألفاً وأربع مائة فبايعنا وعمر آخذ بيده، تحت شجرةٍ وهي سمرة، قال: بايعنا على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت.
وعن جابرٍ في قوله: " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " قال: بايعنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(5/359)
على الموت.
وعن جابرٍ: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: " يا جابر هل تزوجت؟ " قلت: نعم يا رسول الله قال: " بكرٌ أو ثيب؟ " قلت: بل ثيب.
قال: " فهلا بكراً تضاحكها وتضاحكك ".
فقلت: يا نبي الله، إنها وإنها، وإنما أردتها لتقوم عليهن، ويأخذوا من آدابها، قال: " أصبت أرشدك الله ".
قال جابر بن عبد الله: لما انصرفنا راجعين - يعني في غزوة ذات الرقاع - فكنا بالشقرة قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جابر ما فعل دين أبيك؟ " فقلت: عليه، انتظرت يا رسول الله أن يجذ نخله، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا جذذت فأحضرني ".
قال: قلت: نعم.
قال: " من صاحب دين أبيك؟ " قلت: أبو الشحم اليهودي، له على أبي سقة من تمر.
فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فمتى تجذها؟ " قال: قلت: غداً.
قال: " يا جابر فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان التمر على حدتها ".
قال: ففعلت، فجعلت الصيحاني على حدة، وأمهات الجرادين على حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جماعٍ من التمر، مثل نخبة وقرن وشقمة، وغيرها من الأنواع، وهو أقل التمر، فجعلته حبلاً واحداً، ثم جئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرته، فانطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه علية أصحابه فدخلوا الحائط، وحضر أبو الشحم.
قال: فلما نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى التمر مصنفاً قال: " اللهم بارك له ".
ثم انتهى إلى(5/360)
العجوة فمسها بيده وأصناف التمر، ثم جلس وسطها، ثم قال: " ادع غريمك "، فجاء أبو الشحم، فقال: " اكتل ".
فاكتال حقه كله من حبلٍ واحد وهو العجوة، وبقية التمر كما هو، فقال: " يا جابر هل بقي على أبيك شيء؟ " قال: لا، وبقي سائر التمر، فأكلنا منه دهراً، وبعنا منه حتى أدركت الثمر من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما على أبي من الدين، فقضى الله ما على أبي من الدين؛ فلقد رأيتني والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لي: " ما فعل دين أبيك؟ " فقلت: قد قضاه الله.
قال: " اللهم اغفر لجابر "، فاستغفر لي في ليلة خمساً وعشرين مرة.
قال جابر: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستعينه في دينٍ كان على أبي.
قال: فقال: " آتيكم ".
قال: فرجعت، فقلت للمرأة: لا تكلمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تسأليه.
قال: فأتانا، فذبحنا له داجناً كان لنا، فقال: " يا جابر كأنكم عرفتم حبنا اللحم! " قال: فلما خرج قالت له المرأة: صل علي وعلى زوجي، أو صل علينا.
قال: فقال: " اللهم صل عليهم ".
قال: قلت لها: أليس قد نهيتك؟ قالت: ترى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل علينا ولا يدعو لنا!.
وعن جابرٍ قال: أردفني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلفه، فجعلت فمي على خاتم النبوة فجعل ينفح علي مسكاً، وقد حفظت منه تلك الليلة سبعين حديثاً ما سمعها معي أحد.
قال جابر بن عبد الله: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فقال: " مرحباً بك يا جابر، جزاكم الله معشر الأنصار خيراً، آويتموني إذ طردني الناس، ونصرتموني إذ خذلني الناس، فجزاكم الله خيراً ".
قال: قلت: بل جزاك الله عنا خيراً، هدانا الله إلى الإسلام، وأنقذنا من شفا حفرة النار، فبك نرجو الدرجات العلا من الجنة.
ثم قال: " يا جابر! هؤلاء الأعنز أحد عشر عنزاً في الدار أحب إليك أم كلمات علمنيهنّ جبريل عليه السلام آنفاً تجمع لك خير الدنيا والآخرة؟ " قال: فقلت: والله يا رسول الله إني لمحتاج وهؤلاء الكلمات أحب إلي، قال: " قل اللهم أنت الخلاق العظيم، اللهم إنك سميع عليم، اللهم إنك غفور رحيم، اللهم إنك رب العرش العظيم، اللهم إنك أنت الجواد الكريم، فاغفر لي وارحمني وعافني وارزقني واسترني واجبرني(5/361)
وارفعني واهدني ولا تضلني وأدخلني الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين ".
قال: فطفق يرددهن علي حتى حفظتهن، ثم قال لي: " تعلمهن وعلمهن عقبك من بعدك ".
ثم قال: " استقهن معك ".
قال: فسقتهن معي.
وعن جابر قال:
عادني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر في بني سلمة، فوجدني لا أعقل، فدعا بماء فتوضأ ثم رش علي منه، فأفقت فقلت: كيف أصنع في مالي يا رسول الله؟ قال: فأنزلت " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ".
وفي حديثٍ آخر: فقلت يا رسول الله إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية الفرائض.
وفي رواية: فلم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً حتى نزلت آية الميراث يرونها " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة " يقول: فهذه نزلت فيه.
روى عبد الرحمن بن سعيد قال: جئت جابر بن عبد الله الأنصاري في فتيانٍ من قريش، فدخلنا عليه بعد أن كف بصره، فوجدنا حبلاً معلقاً في السقف وأقراصاً مطروحةً بين يديه أو خبزاً فكلما استطعم مسكين قام جابر إلى قرصٍ منها وأخذ الحبل حتى يأتي المسكين فيعطيه ثم يرجع بالحبل حتى يقعد، فقلت له عافاك الله نحن إذا جاء المسكين أعطيناه، فقال: إني أحتسب المشي في هذا، ثم قال: ألا أخبركم شيئاً سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالوا: بلى، قال: سمعته يقول: " إن قريشاً أهل أمانة لا يبغيهم العثرات أحد إلا أكبه الله عز وجل لمنخريه ".
وعن جابر بن عبد الله قال: هلاك بالرجل أن يدخل عليه الرجل من إخوانه فيحتقر ما في بيته أن يقدمه إليه وهلاكٌ بالقوم أن يحتقروا ما قدم إليهم.(5/362)
وعن جابر بن عبد الله قال: تعلموا العلم، ثم تعلموا الحلم، ثم تعلموا العلم، ثم تعلموا العمل بالعلم، ثم أبشروا.
حدث عباس بن سهل الساعدي عن أبيه قال: كنا بمنى فجعلنا نخبر جابر بن عبد الله ما نرى من إظهار قطف الخز والوشي - يعني السلطان وما يصنعون - فقال: ليت سمعي قد ذهب كما ذهب بصري حتى لا أسمع من حديثهم شيئاً ولا أبصره.
وعن جابر بن عبد الله قال: لما قدم بسر بن أرطاة المدينة أخذ الناس بالبيعة، قال: فجاءت بنو سلمة وتغيب جابر فقال: لا أبايعكم حتى يجيء جابر، قال: فانطلق جابر إلى أم سلمة فسألها، فقالت: هذه بيعة لا أرضاها، إذهب فبايع تحقن بها دمك.
قال أبو الحويرث: هلك جابر بن عبد الله فحضرنا بابه في بني سلمة، فلما خرج بسريره من حجرته إذا حسن بن حسن بين عمودي السرير، فأمر به الحجاج بن يوسف أن يخرج من بين العمودين فيأبى عليهم حتى تعاطوه، فسأله بنو جابر إلا خرج، فخرج، وجاء الحجاج حتى وقف بين العمودين حتى وضع فصلى عليه ثم جاء إلى القبر، فإذا حسن بن حسن قد نزل في قبره، فأمر به الحجاج أن يخرج، فأبى، فسأله بنو جابر بالله فخرج، فاقتحم الحجاج الحفرة حتى فرغ منه.
وكان جابرٌ آخر من مات بالمدينة من أصحاب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومات سنة ثمانٍ وسبعين، وقيل غير ذلك، وهو ابن أربعٍ وتسعين سنة وصلى عليه أبان بن عثمان وهو والي المدينة.(5/363)
جابر بن عبد الله بن عصمة المحاربي
حدث الأوزاعي قال: قال جابر بن عبد الله بن عصمة لثابت بن معبد، وهو ومن قومه: يا ثابت هل راعك ما راعني؟ قال: وما هو؟ قال: لقد أتى علي زمانٌ لو قيل لي: هل تعرف في قومك امرأ سوء؟ لوقفت أتذكر، فهذا أنا الآن لو قيل لي: هل تعرف في قومك رجلاً صالحاً لوقفت أتذكر.
جارية بن قدامة بن مالك بن زهير
ويقال ابن قدامة بن زهير بن الحصين بن رزاح بن أبي سعد واسمه أسعد بن بجير بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم بن مر، أبو أيوب، ويقال: أبو قدامة، ويقال: أبو يزيد التميمي ثم السعدي، وقيل اسمه جويرية.
له صحبة، وقيل لا صحبة له، وروى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثاً واحداً، وشهد صفين مع علي أميراً، وقدم دمشق على معاوية.
حدث الأحنف بن قيس عن عم له وهو جارية بن قدامة قال: قلت: يا رسول الله، قل لي قولاً وأقلل لعلي أعقله قال: " لا تغضب ".
فرددت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين أو ثلاثاً، كل ذلك يرد علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تغضب ".
صحب جارية أمير المؤمنين علياً، وكان يقال له محرق لأنه أحرق ابن الحضرمي بالبصرة، وكان ابن الحضرمي وجه به معاوية إلى البصرة ينعى قتل عثمان ويستنفر أهل البصرة على قتال علي، فوجه عليٌ جارية بن قدامة إليه، فتحصن منه ابن الحضرمي بدار تعرف بدار سنبل، فأضرم جارية الدار عليه، فاحترقت بمن فيها، وكان جارية شجاعاً مقداماً فاتكاً.
وكان عم الأحنف بن قيس.(5/364)
وكان معاوية في سنة أربعين بعث بسر بن أرطاة أحد بني عامر بن لؤي إلى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس، فتنحى عبيد الله وأقام بسرٌ عليها، فبعث عليٌ جارية بن قدامة السعدي فهرب بسر، ورجع عبيد الله بن عباس إليها، فلم يزل عليها حتى قتل عليٌ رضي الله عنه.
قال عبد الملك بن عمير: قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية، ومع معاوية على سريره الأحنف بن قيس والحتات المجاشعي، فقال له معاوية: من أنت؟ قال: جارية بن قدامة - قال: وكان قليلاً - قال: وما عسيت أن تكون؟ هل أنت إلا نحلة؟ قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فقد شبهتني بها حامية اللسعة، حلوة البساق، والله ما معاوية إلا كلبةٌ تعاوي الكلاب، وما أمية إلا تصغير أمة، قال معاوية: لا تفعل، قال: إنك فعلت، قال: إذاً فاجلس معي على السرير، قال: لا، قال: لمَ؟ قال: رأيت هذين قد أماطاني عن مجلسك فلم أكن لأشركهما، قال: إذاً أسارك، فدنا، قال: إني اشتريت من هذين دينهما.
قال: ومني فاشتر يا أمير المؤمنين، قال: لا تجهر.
قال الفضل بن سويد: وفد الأحنف بن قيس، وجارية بن قدامة، والحتات بن يزيد المجاشعي على معاوية، فقال لجارية: أنت الساعي مع علي بن أبي طالب والموقد النار في شعلك، تجوس قرى عربية بسفك دمائهم.
قال جارية: يا معاوية دع عنك علياً، فما أبغضنا علياً منذ أحببناه، ولا غششناه منذ نصحناه، قال: ويحك يا جارية، ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية.
قال: أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية، قال: لا أم لك، قال: أم ما ولدتني، إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا، قال: إنك لتهددني! قال: إنك لم تملكنا قسرة ولم تفتتحنا عنوة، ولكن أعطيتنا عهوداً ومواثيق، فإن وفيت لنا وفينا لك، وإن نزعت إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالاً مداداً، وأذرعاً شداداً وأسنةً حدداً، فإن بسطت إلينا فتراً من غدر، دلفنا إليك بباعٍ(5/365)
من ختر.
قال معاوية: لا كثر الله في الناس أمثالك.
قال: قل معروفاً يا أمير المؤمنين فقد بلونا قريشاً فوجدناك أوراها زنداً وأكثرها رفداً، فارعنا رويداً، فإن شر الرعاء الحطمة.
ولما خرج عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ومعه لواء معاوية جعل يقاتل ويرتجز:
أنا ابن سيف الله ذاكم خالد ... أضرب كل قدمٍ وساعد
بصارمٍ مثل الشهاب الواقد ... أنصر عمي إن عمي والدي
بالجهد لا بل فوق جهد الجاهد
فخرج إليه جارية بن قدامة وهو يقول: " من مشطور الرجز "
اثبت لصدر الرمح يا بن خالد ... اثبت لليث ذي فلولٍ حارد
من أسد خفان شديد الساعد ... ينصر خير راكعٍ وساجد
من أسد خفان كحق الوالد
ثم اطعنا فلم يصنعا شيئاً، وانصرف كل واحد منهما عن صاحبه.
حدث أحمد بن عبيد قال: بين الأحنف في الجامع بالبصرة، إذا رجل قد لطمه، فأمسك الأحنف يده على عينه وقال: ما شأنك؟ فقال: اجتعلت جعلاً على أن ألطم سيد بني تميم، فقال: لست سيدهم، إنما سيدهم جارية بن قدامة - وكان جارية في المسجد - فذهب الرجل فلطمه، قال: فأخرج جارية من حقه سكيناً وقطع يده وناوله، فقال الرجل: ما أنت قطعت يدي، إنما قطعها الأحنف بن قيس.(5/366)
جامع بن بكار بن بلال
أبو عبد الرحمن العاملي حدث عن يحيى بن أيوب بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال وهو قائم على المنبر: " من جاء منكم الجمعة فليغتسل ".
وحدث عن محمد بن راشد بسنده عن بلال مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " امسحوا على الموقين والخمار ".
قال جامع بن بكار: سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: لما قتل علي بن أبي طالب عليه السلام حملوه ليدفنوه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبينا هم في مسيرهم إذ ند الجمل الذي حملوا عليه علياً فلم يدروا أين ذهب، ولم يقدر عليه.
قال: فلذلك يقول أهل العراق: هو في السحاب.
جانوش بن بك أبو الحسن الفرغاني
حدث بدمشق عن أبي يحيى الفضل بن يحيى الوراق بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ستكون فتن ".
قيل: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: " عليكم بالشام ".
سمع بدمشق سنة ست عشرة وثلاث مائة.
جبرون بن عبد الجبار بن واقد
الليثي الدمشقي.
حدث عن سفيان عن الزهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان آخر الزمان حرم فيه دخول الحمام على ذكور أمتي بمئازرها ".
قالوا: يا رسول الله لمَ ذاك؟ قال: " لأنهم يدخلون على قومٍ عراة، ويدخل عليهم أقوام عراة، ألا وقد لعن الله الناظر والمنظور إليه ".(5/367)
جبريل بن يحيى بن قرة
ابن عبيد الله بن عتبة بن سلمة بن خويلد بن عامر بن عائذ بن كلب بن عمرو بن لؤي بن رهم بن معاوية بن أسلم أحمس بن الغوث أبو غالب البجلي الجرجاني.
شهد حصار دمشق مع عبد الله بن علي، وولي بعض مغازي الروم في أيام المنصور، وولاه المهدي سمرقند.
وفي سنة أربعين ومائة كتب أمير المؤمنين أبو جعفر إلى صالح بن علي يأمره ببناء مدينة المصيصة، فوجه جبريل بن يحيى فرابط بها حتى بناها، وفرغ منها سنة إحدى وأربعين ومائة.
وقيل: إن صالح بن علي وجه جبريل بن يحيى الخراساني في سنة اثنتين وأربعين ومائة في جماعة من أهل خراسان إلى المصيصة، فبنى مدينتها القديمة وعمرها وأنزلها الناس.
جبلة بن الأيهم بن جبلة
ابن الحارث بن أبي شمر، واسمه المنذر بن الحارث، وهو ابن مارية ذات القرطين، وهو ابن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، واسمه كعب بن عامر بن جارية بن امرئ القيس، ومارية هي بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة، ويقال جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، أبو المنذر الغساني الجفني.
أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقيل: إنه أرسل إليه شجاع بن وهب يدعوه إلى الإسلام وكان منزله الجولان وغيره من أعامل دمشق، ودخل دمشق غير مرة، وأسلم ثم تنصر ولحق ببلاد الروم، وكان آخر ملوك غسان، وقيل: إنه لم يسلم قط.(5/368)
روي في أحاديث دخل بعضها في بعض قالوا: وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم، وكتب بإسلامه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلماً حتى كان في زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذا وطئ رجلاً من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقال: هذا لطم جبلة.
قال: فيلطمه.
قالوا: أوما يقتل؟ قال: لا، فقالوا: أفما تقطع يده؟ قال: لا، إنما أمر الله بالقود، قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي نداً لوجه جديٍّ جاء من عمق؟! بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانياً، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم، فبلغ ذلك عمر، فشق عليه، وقال لحسان بن ثابت: أبا الوليد أما علمت أن صديقك جبلة بن الأيهم ارتد نصرانياً؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون ولمَ؟ قال: لطمه رجل من مزينة.
قال: وحق له، فقام إليه عمر بالدرة فضربه بها.
وقيل إن جبلة أقام على نصرانيته إلى أن شهد اليرموك مع الروم في خلافة عمر، ثم أسلم بعد ذلك.
وقيل: إن جبلة لم يسلم البتة، وإنما سأل عمر أن لا يأخذ منه الجزية، ويقبل منه الصدقة، فامتنع عليه، فلحق بالروم، والأظهر أنه أسلم ثم تنصر.
وقال سعيد بن عبد العزيز: قال عمر بن الخطاب لجبلة: يا جبيلة! فلم يجبه، ثم قال: يا جبلة! فلم يجبه مرتين، ثم قال: يا جبلة! فأجابه.
قال: اختر مني إحدى ثلاث: إما أن تسلم فيكون لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم، وإما أن تؤدي الخراج، وإما أن تلحق بالروم.
قال: فلحق بالروم.
قال الكلبي: ذكروا أنه لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني من ملوك جفنة في خلافة عمر بن الخطاب، كتب إلى عمر يعلمه بإسلامه ويستأذنه في القدوم عليه، فلما وصل كتابه إلى عمر سره ذلك، وكتب إليه يأذن له في القدوم عليه، فخرج جبلة في خمسين ومائة رجل من أهل(5/369)
بيته حتى إذا كانوا من المدينة على ميلين عمد إلى أصحابه فحملهم على الخيل وقلدهم قلائد الفضة وألبسهم الديباج وسرق الحرير، ولبس تاجه فيه قرطا مارية وهي جدته.
قال: وبلغ عمر بن الخطاب، فبعث إليه بالنزل هناك، ثم دخل المدينة في هيئته.
قال: فلم تبق بكر ولا عانس إلا خرجت تنظر إلى جبلة وموكبه، فأقبل حتى دخل على عمر بن الخطاب، فسلم عليه ورحب به عمر، وسر بإيلامه وقومه، ثم أقام أياماً، وأراد عمر الحج من عامة ذلك، فخرج جبلة معه مشهوراً بالموسم ينظر إليه الناس ويتعجبون من هيئته وكماله.
قال: فبينا جبلة يطوف بالبيت إذ وطئ رجل من بني فزارة إزاره من خلفه فانحل، فما ورع جبلة أن رفع يده فهشم أنف الفزاري، فولى الفزاري والدماء تشخب من أنفه حتى استعدى عليه عمر بن الخطاب، فبعث إلى جبلة فأتاه، فقال له: يا جبلة هشمت أنف الرجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، اعتمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بالسيف بين عينيه، فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإلا أقدته منك، قال: تصنع ماذا؟ قال عمر: إما أن يهشم أنفك كما هشمت أنفه، وإما أن ترضيه.
قال جبلة: أو خطير هو لي؟ قال: تعم.
قال: وكيف وأنا ملك وهو سوقة؟ قال عمر: الإسلام قد جمعك وإياه، فلست تفضله إلا بالعافية.
قال جبلة: والله لقد ظننت يا أمير المؤمنين أن سأكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية.
قال عمر: هو ما ترى إما أن تقيده أو ترضيه.
قال جبلة: إذاً أتنصر.
قال عمر: إن فعلت قتلتك.
قال: لمَ؟ قال: لأنك قد دخلت في الإسلام فإن ارتددت قتلتك.
قال: فلما رأى جبلة أن عمر لا تأخذه في الله لومة لائم وليست له حيلة، واجتمع من حي الفزاري وحي جبلة على باب عمر جمعٌ كثير حتى كادت تكون فتنة عظيمة، فقال: أنا أنظر في هذا الأمر ليلتي هذه، وانصرف إلى منزله، وتفرق الناس فلما ادلهم الليل عليهم تحمل جبلة في أصحابه من ليلته إلى الشام، وأصبحت المدينة منه ومن قومه بلاقع، ثم أتى الشام فتحمل في خمس مائة أهل بيت من عكٍّ وجفنة حتى دخل القسطنطينية في زمن هرقل فتنصر هو وقومه فلما رأى ذلك هرقل أقطعه حيث شاء وأجرى عليه من النزل ما شاء، وجعله من سماره ومحدثيه، وظن أنه فتحٌ من الفتوح عليه عظيم، فمكث دهراً، ثم إن عمر بدا له أن(5/370)
يكتب إلى هرقل كتاباً يدعوه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، فكتب إليه ووجه به مع رجلٍ من أصحابه، فأتى هرقل، فأعطاه كتاب عمر، فسر به وأجاب إلى كل خير من غير أن يجيب إلى الإسلام، ولما أراد صاحب عمر الخروج من عنده، قال هرقل يا عربي قال: قل ما تشاء؟ قال: هل لقيت ابن عمك؟ قال: من ابن عمي؟ قال: جبلة بن أيهم الغساني.
قال: لا، قال: فالقه وانظر إلى حاله، قال صاحب عمر: فأتيت جبلة بن أيهم، فما إخالني رأيت بباب هرقل من السرور والبهجة ما رأيت بباب جبلة، فلما استأذنت عليه أذن لي، فدخلت، فقام إلي ورحب بي وألطفني وعانقني وعاتبني في ترك النزول عليه.
قال: وإذا هو في بهوٍ عظيم فيه من التماثيل والهول ما لا أحسن أصفه، وإذا هو في جماعة على سريرٍ من ذهب وأربع قوائمه أسد من ذهب، وإذا هو رجلٌ أصهب ذو سبال، وإذا هو قد أمر بالذهب الأحمر فسحك فذر في لحيته، واستقبل مجلسه ذلك عين الشمس، فما أحسبني رأيت شيئاً قط أحسن منه، ثم أجلسني على شيءٍ لم أتبينه فلما تبينته إذا هو كرسيٌ من ذهب، فانحدرت عنه، فقال: ما لك؟ قلت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن هذا وشبهه، قال: وسألني عن الناس، وألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يتنهد حتى عرف الحزن فيه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك وإلى الإسلام؟ قال: بعد الذي كان! قلت: نعم، وكان الأشعث بن قيس الكندي ارتد عن الإسلام فضربهم بالسيف ومنعهم الزكاة ثم دخل في الإسلام وزوجه أبو بكر الصديق، فقال: دع هذا عنك، ثم أومأ إلى وصيفٍ قائمٍ على رأسه فولى يحضر فما شعرنا إلا بالصناديق يحملها الرجال، فوضعت أمامنا مائدةٌ من ذهب فاستعفيت منها، فأمر بمائدة خلنجٍ فوضعت أمامي، وسعى علينا من كل حارٍ وبارد في صحاف ذهبٍ وفضة، قال: وأداروا علينا الخمر فاستعفيت منها، فأمر برفعها، فلما فرغنا من الطعام، أتي بطشتٍ من ذهب وإبريق من ذهب فتوضأ، ثم أومأ إلى وصيفٍ له فولى يحضر، فما كان إلا هنيهة حتى أقبل عشرة جوارٍ فقعد خمسٌ على يمينه وخمسٌ عن يساره على كراسي العاج، قال: ثم سمعت وشوشةً خلفي، فإذا عشرٌ أخر لم أر مثلهنّ حسناً وجمالاً أفضل من الأول، فقعد خمسٌ عن يمينه وخمسٌ عن يساره على كراسي الخز والوشي، ثم أقبلت جارية من أحسن ما تكون من الجواري بطائرٍ(5/371)
أبيض مؤدب، في يدها اليمنى جام ذهبٍ فيه مسكٌ وعنبر سحينان وفي يدها اليسرى جام من فضة فيه ماء ورد وزنبق لم أشم مثله فنفرت بالطائر فانحدر في جام الماورد والزنبق، فأعقب بين ظهره وبطنه وجناحيه فلم يدع منه شيئاً إلا احتمله، ثم نفرت به حتى سقط على صليبٍ في تاج جبلة، ثم رفرف بجناحيه فلم يبق عليه شيء إلا كان على جبلة على رأسه ولحيته.
قال: ثم دعا بمكوكٍ طويل من ذهب شرب فيه خمسة خمراً أعدها عداً، ثم استهل واستبشر ثم قال للجواري: أطربنني قال: فخفقنا بعيدانهن، واندفعن يغنين: " من الكامل "
لله در عصابةٍ نادمتهم ... يوماً بجلق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم ... صهبا تصفق بالرحيق السلسل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
قال: فطرب ثم قال: هل تعرف هذا الشعر؟ قلت: لا، قال: قاله ابن الفريعة حسان بن ثابت شاعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينا وفي ملكنا، قال: قلت: نعم أما إنه ضرير كبير، قال: ثم سكت هنية ثم قال: أطربنني، فخفقن بعيدانهن واندفعن يغنين: " من الخفيف "
لمن الدار أقفرت بمعان ... بين فرع اليرموك فالصمان
فالقريات من بلاس فداري ... افسكاء فالقصور الدواني
فحمى جاسم إلى مرج ذي الصف ... ر مغنى قبائلٍ وهجان(5/372)
تلك دار العزيز بعد ألوفٍ ... وحليلٍ عظيمة الأركان
صلوات المسيح في ذلك الدي ... ر دعاء القسيس والرهبان
ذاك مغنى لآل جفنة في الده ... ر محاه تعاقب الأزمان
قال: هل تعرف هذه المنازل ومن قائلها؟ قلت: لا، قال: يقولها ابن الفريعة فينا وفي ملكنا ومنازلنا بأكناف غوطة دمشق حسان بن ثابت.
قال: ثم سكت طويلاً، ثم قال: بكينني.
قال: فوضعن عيدانهن، ونكسن رؤوسهن، واندفعن يقلن: " من الطويل "
تنصرت الأشراف من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني فيها لجاجٌ ونخوةٌ ... وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة ... وقد يصبر العود الكبير على الدبر
قال: وانصرف الجواري وجعل يده على وجهه يبكي حتى نظرت إلى دموعه تحول لحيته كأنها فصيص اللؤلؤ.
قال: وبكيت معه، ثم نشف دموعه بكمه ومسح وجهه، ثم قال: يا جارية هاتي، فأتته بخمس مائة دينار هرقلية، قال: ادفع به إلى حسان بن ثابت وأقرئه مني السلام، ثم قال: يا جارية هاتي، فأتته بخمس مائة دينار هرقلية قال: خذها صلة لك، فأبيت عليه، قلت: لا أقبل صلة رجلٍ ارتد عن الإسلام وأمير المؤمنين عليه ساخط، فحرص بي، فأبيت عليه، ثم ودع وقال: أقرئ عمر بن الخطاب مني والمسلمين السلام، ثم خرجت من عنده فأتيت عمر، فقال: هيه ما يصنع هرقل؟ فخبرته، ثم قال: هل لقيت جبلة بن أيهم الغساني؟ قلت: نعم قال: وتنصر؟ قلت: نعم.
ال: أو رأيته يشرب الخمر؟ قلت: نعم، قال: أبعده الله، تعجل فانية بباقية فما ربحت تجارته، فما الذي سرح به معك؟ قلت: وجه إلى حسان بن ثابت خمس مائة دينار،(5/373)
واقتصصت عليه القصة من أولها إلى آخرها قال: هاتها، فدفعتها إليه، فقال: يا غلام ادع لي حسان بن ثابت، فدعي، فلما دخل عليه وكان ضريراً ومعه قائده، قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين إني لأجد روائح آل جفنة عندك.
قال: نعم، قد أتاك الله من جبلة بمعونة، ونزع لك منه على رغم أنفه، قال: فأخذها وولى وهو يقول: " من الكامل "
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ ... لم يغذهم أباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ هو ربها ... لا لا ولا متنصراً بالروم
يعطي الجزيل ولا يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم
وأتيته يوماً فقرب مجلسي ... وسقى فرواني من الخرطوم
وقيل إن جبلة توفي في أول خلافة معاوية بأرض الروم سنة أربعين من الهجرة.
جبلة بن سحيم أبو سويرة
ويقال: أبو سريرة - براءين - التيمي، ويقال الشيباني الكوفي.
قال جبلة: سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشهر هكذا وهكذا وهكذا "، وقبض إبهامه في الثالثة.
قال جبلة بن سحيم: دخلت على معاوية بن أبي سفيان وهو في خلافته وفي عنقه حبل وصبيٌ يقوده فقلت: يا أمير المؤمنين أتفعل هذا وأنت على أربع؟! فقال: يا لكع اسكت، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من كان له صبي فليتصاب له ".
توفي جبلة بن سحيم في فتنة الوليد بن يزيد.
وقال: وتوفي سنة خمسٍ وعشرين ومائة.(5/374)
جبلة بن مطر
قال جبلة بن مطر: سمعت فضالة بن عبيد يقول: كل ما رد عليك سيفك وصويلجانك.
قال عبد الله بن يوسف: الصويلجان: المقراض.
جبير بن الحويرث بن نقيذ
ابن بجير بن عبد بن قصي بن كلاب، ويقال: الحويرث بن نقيذ بن عبد بن قصي القرشي.
له رؤية وإدراك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليست له رواية عنه.
حدث جبير بن الحويرث قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة ".
قال جبير بن الحويرث: رأيت أبا بكر رضي الله عنه واقفاً على قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا، أيها الناس أصبحوا، ثم دفع وإني لأنظر إلى فخذه قد انكشفت مما يخرش بعيره بمحجنه.
وفي حديث آخر: يعني من جمع.
وقزح جبل المزدلفة.
ويخرش أو يجرش بالجيم.
قالوا: الخرش: الكد والاستحثاث، والمحجن: العصا المعوجة للرأس.
وقد يكون المحجن الصولجان، والخرش أن يضربه بالمحجن ثم يجتذبه إليه يريد بذلك تحريكه للإسراع والسير.
قال جبير بن الحويرث: حضرت يوم اليرموك المعركة، فلا أسمع للناس كلمة ولا صوتاً إلا نقف الحديد بعضه(5/375)
بعضاً، إلا أني قد سمعت صائحاً يصيح يقول: يا معشر المسلمين يوم من أيام الله أبلوا فيه بلاء حسناً، وإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد بن أبي سفيان.
قال الزبير بن بكار: والحويرث بن نقيذ بن بجير بن عبد بن قصي، كان ممن أهدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه يوم فتح مكة، وكان مؤذياً لله ورسوله.(5/376)
نجز الجزء الخامس ويتلوه في السادس إن شاء الله تعالى جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل.
/(5/377)
جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب. أبو محمد - ويقال أبو عدي القرشي المكي له صحبة
ورواية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدث جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يدخل الجنة قاطع ".
وحدث جبير قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في المغرب بالطور، قال: فلما سمعته يقرأ: " أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون ". إلى قوله: " فليأت مستمعهم بسلطان مبين "، كاد قلبي يطير. وعن جبير قال: قدمت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في فداء الأسرى، فاضطجعت في المسجد بعد العصر وقد أصابني الكرى فنمت، فأقيمت صلاة المغرب، فقمت فزعا بقراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المغرب: " والطور وكتاب مسطور ". فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد، فكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي.
قال جبير بن مطعم: لما بعث الله عز وجل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وظهر أمره بمكة، خرجت إلى الشام، فلما كنت(6/5)
ببصرى أتتني جماعة من النصارى، قالوا: أمن الحرم أنت؟ قلت: نعم. قالوا: فتعرف هذا الذي تنبأ فيكم؟ قلت: نعم. قال: فأخذوا بيدي، فأدخلوني ديرا لهم فيه تماثيل وصور، فقالوا لي: انظر، هل ترى صورة هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فنظرت فلم أر صورته، قلت: لا أرى صورته، فأدخلوني ديرا أكبر من ذلك الدير، وإذا فيه تماثيل وصور أكثر مما في ذلك الدير، فقالوا لي: انظر، هل ترى صورته؟ فنظرت فإذا أنا بصفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصورته، وإذا أنا بصفة أبي بكر وصورته، وهو آخذ بعقب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقالوا لي: هل ترى صفته؟ قلت: نعم، فقلت: لا أخبرهم حتى أعرف ما يقولون، قالوا: أهو هذا قلت؟ وأشاروا إلى صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: اللهم اشهد أنه هو، قالوا: أتعرف هذا الذي أخذ بعقبه؟ قلت: نعم، قالوا: نشهد أن هذا صاحبكم، وأن هذا الخليفة من بعده وحدث جبير أيضاً قال: كنت أكره أذى قريش لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. لما ظننت أنهم سيقتلونه خرجت حتى لحقت بدير من الديارات، فذهب أهل الدير لرأسهم، فأخبروه فقال: أقيموا له حقه الذي ينبغي له ثلاثاً. فلما مرت ثلاث رأوه لم يذهب، فانطلقوا إلى صاحبهم فأخبروه فقال: قولوا له: قد أقمنا لك حقك الذي ينبغي لك، فإن كنت وصباً فقد ذهب وصبك، وإن كنت واصلاً فقد نأل لك أن تذهب إلى من تصل، وإن كنت تاجراً فقد نأل لك أن تخرج إلى تجارتك، قال: ما كنت واصلاً ولا تاجراً وما أنا بنصب، فذهبوا إليه فأخبروه فقال: إن له لشأناً فسلوه ما شأنه؟ قال: فأتوه فسألوه فقال: لا والله إلا أني في قرية إبراهيم، وابن عم يزعم أنه نبي فآذاه قومه وتخوفت أن يقتلوه، فخرجت لئلا أشهد ذلك. قال: فذهبوا إلى صاحبهم فأخبروه بقولي، قال: هلموا، فأتيته فقصصت عليه قصتي، فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم، قال: وتعرف شبهه لو تراه مصوراً؟ قلت: نعم، عهدي به قريب، فأراه صوراً مغطاة، فجعل يكشف صورة صورة ثم يقول:(6/6)
أتعرف؟ فأقول: لا، حتى كشفت صورة مغطاة، فقلت: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من هذه الصورة به، كأنه طوله وجسمه وبعد ما بين منكبيه، فقال: فتخاف أن يقتلوه؟ قال: أظنهم قد فرغوا منه. قال: والله لا يقتلوه ولنقتلن من يريد قتله، وإنه لنبي، وليظهرنه الله، ولكن قد وجب حقك علينا، فامكث ما بدا لك وادع بما شئت، قال: فمكثت عندهم حيناً ثم قلت: لو اطلعتهم فقدمت مكة فوجدتهم قد أخرجوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة. فلما قدمت قامت إلي قريش فقالوا: قد تبين لنا أمرك وعرفنا شأنك، فهلم أموال الصبية التي عندك استودعكها أبوك، فقلت: ما كنت لأفعل حتى تفرقوا بين رأسي وجسدي، ولكن دعوني أذهب فأدفعها إليهم، فقالوا: إن عليك عهد الله وميثاقه ألا تأكل من طعامه. قال: فقدمت المدينة وقد بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر فدخلت عليه، فقال لي فيما يقول: إني لأراك جائعاً، هلموا طعاماً. قلت: لا آكل حتى أخبرك، فإن رأيت أن آكل أكلت، قال: فحدثته بما أخذوا علي، قال: فأوف بعهدك ولا تأكل من طعامنا ولا تشرب من شرابنا.
قال عبد الله بن أبي بكر بن حزم وغيره: كان من إعطاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المؤلفة قلوبهم من أصحاب المئين من بني نوفل بن عبد مناف: جبير بن مطعم مئة من الإبل.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة قريب مكة في غزوة فتح:
إن بمكة أربعة نفر من قريش أربأ بهم عن الشرك وأرغب لهم في الإسلام، فقيل: وما هم يا رسول الله؟ قال: عتاب بن أسيد، وجبير بن مطعم، وحكيم بن حزام، وسهيل بن عمرو.
وعن جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أدخلوا علي ولا تدخلوا علي إلا بني عبد المطلب، فدخل جبير من تحت القبة فأخذوا برجله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرسلوه فإن ابن أخت القوم منهم.
وعن جبير بن مطعم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: يا جبير، أتحب إذا خرجت سفراً أن تكون من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زاداً؟(6/7)
فقلت: نعم بأبي أنت وأمي، قال: فاقرأ هذه السورة: قل يا أيها الكافرون، وإذا جاء نصر الله والفتح، وقل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، وافتح كل سورة ببسم الله الرحمن الرحيم. قال جبير: وكنت غير كثير المال، فكنت أخرج مع من شاء الله في السفر، فكنت أبذهم هيئة أقلهم زاداً، فما زلت منذ علمنيهن وقرأتهن أكون أحسنهم هيئة وأكثرهم زاداً حتى في سفري ذلك وفي إقامتي، وما كان من أصحابي أحد أقل ديناً مني.
كان جبير ابن مطعم من أنسب قريش لقريش وللعرب قاطبة، وكان يقول: إنما أخذت النسب من أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه من أنسب العرب.
ولما أتي عمر بن الخطاب بسيف النعمان بن المنذر، دعا جبير بن مطعم فسلحه إياه ثم قال: يا جبير، ممن كان النعمان؟ قال: كان رجلاً من أشلاء قنص بن معد، وكان جبير أنسب العرب للعرب.
كان مطعم بن عدي - أبو جبير - من أشراف قريش، وكان كافاً عن أذى سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أسارى بدر: " لو كان مطعم بن عدي حياً لوهبت له هؤلاء النتنى "، وذلك ليد كانت لمطعم عند سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان أجاره حين رجع من الطائف، وقام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم حين حصروا في الشعب، وكان مبقياً على نفسه، لم يكن يشرف لعداوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولإيذائه ولا يؤذي أحداً من المسلمين كما كان يفعل غيره، ومدحه أبو طالب في قصيدة له.
وتوفي مطعم بن عدي بمكة بعد هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنة واحدة، ودفن بالحجون، مقبرة أهل مكة، وكان يوم توفي ابن بضع وتسعين سنة. وكان يكنى أبا وهب. ورثاه حسان بن ثابت بقصيدته التي يقول فيها:(6/8)
فلو كان مجد يخلد اليوم واحداً ... من الناس أنجى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما لبى ملب وأحرما
تزوج جبير بن مطعم امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها، فقرأ: " إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ". قال: أنا أحق بالعفو منها، فسلم لها المهر كاملاً فأعطاها إياه.
توفي جبير بن مطعم سنة ثمان وخمسين. وقيل سنة تسع وخمسين.
جبير بن نفير بن مالك بن عامر
أبو عبد الرحمن ويقال أبو عبد الله الحضرمي من أهل حمص. أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقدم دمشق وسمع بها.
حدث جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تبارك وتعالى ضرب مثلاً صراطاً مستقيماً على كنفي الصراط، سوران لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وداع يدعو على رأس الصراط وداع من فوقه، والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فالأبواب التي على كنفي الصراط حدود الله، لا يقع أحد في حدود الله حتى يكشف ستر الله، والذي يدعو من فوقه واعظ الله تبارك وتعالى ".
حدث جبير بن نفير عن المقداد بن الأسود قال: جاءنا المقداد بن الأسود لحاجة له فقلنا: اجلس عافاك الله حتى نطلب لك حاجتك، فجلس فقال: العجب من قوم مررت بهم آنفاً يتمنون الفتنة، يزعمون ليبتليهم الله فيها بما ابتلى رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وأيم الله، لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن(6/9)
السعيد لمن جنب الفتن، يوردها ثلاث مرات وإن ابتلي وصبر، وايم الله، لا أشهد لأحد أنه من أهل الجنة حتى أعلم ما يقول عليه "، بعد حديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لقلب ابن آدم أسرع انقلاباً من القدر إذا استجمعت غلياً ".
قال جبير بن نفير: دخلت على أبي الدرداء بدمشق وبين يديه جفنة من لحم، فقال لي: ياجبير، اجلس فأصب من هذا اللحم، فإن كنيسة في ناحيتنا أهدى لنا أهلها مما ذبحوا لها، فجلست فأكلت معه.
وقيل إن جبير بن نفير لم يلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه صحب الصحابة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل إنه أسلم في خلافة أبي بكر، وكان ثقة قيما يروي من الحديث.
وحدث جبير بن نفير قال: أدركت الجاهلية وأتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باليمن فأسلمنا. في حديث طويل.
وحدث جبير بن نفير قال: قد استقبلت الإسلام من أوله، فلم أزل أرى في الناس صالحا وطالحا.
حدث جبير بن نفير: أن يزيد بن معاوية كتب إلى معاوية فذكر أن جبير بن نفير قد نشر في أهل مصري حديثا، فقد تركوا القرآن، قال: فبعث إلى جبير، فقرأ عليه كتاب يزيد، فعرف بعضه، وأنكر بعضه، فقال معاوية: لأضربنك ضربا أدعك لمن بعدك نكالا، قال جبير: يامعاوية لاتطغ في، يامعاوية، إن الدنيا قد انكسرت عمادها، وانخسفت أوتادها، وأحبها أصحابها، قال: فجاء أبو الدرداء فأخذ بيد جبير فقال: والذي نفس أبي الدرداء بيده لئن كان تكلم به جبير لقد تكلم به أبو الدرداء، ولو شاء جبير أن يخبر أنه إنما(6/10)
سمعه من أبي الدرداء لفعل، ولو ضريتموه يامعاوية لضربكم الله بقارعة تحل بدياركم فتتركها منكم بلاقع.
وعن جبير بن نفير قال: خمس خصال قبيحة في أصناف من الناس: الحدة في السلطان، والحرص في القراء، والفتوة في الشيوخ، والشح في الأغنياء، وقلة الحياء في ذوي الأحساب توفي جبير بن نفير سنة خمس وسبعين. وقيل سنة ثمانين.
جحاف بن حكيم بن عاصم بن قيس
ابن سباع بن خزاعي بن محارب بن هلال بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور السلمي.
قال الجحاف بن حكيم: دخلت على عبد الملك بن مروان وهو خليفة فقال لي: ما قلت في حرب قيس وتغلب؟ قال: قلت:
صبرت سليم للطعان وعامر ... وإذا جزعنا لم نجد من يصبر
قال: كذبت من يصبر كثير. قال: ثم قلت:
نحن الذين إذا غلوا لم يضجروا ... يوم الطعان وإن علوا لم يفخروا
قال: صدقت، كذلك حدثني أبي عن أبي سفيان قال: لما انهزم الناس ورجعوا أشرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على وادي حنين فبصر ببني سليم في أيديهم الجحف والرماح والسيوف ولم ينهزموا، فلما نظر إليهم على تلك الحال قال: أنا ابن العواتك من سليم ولا فخر.(6/11)
قال الجحاف: وقد قال شاعرنا لبني هاشم:
اذكروا حرمة العواتك منا ... يابني هاشم بن عبد مناف
قد ولدنا كم ثلاث ولادا ... ت خلطنا الأشراف بالأشراف
قال الحسن بن علان: الجحاف بن حكيم السلمي الذكواني الذي وقع ببني تغلب الوقعة المشهورة بالبشر فبقر بطون النساء، ثم خرج هاربا لعظم ما أتى إليهم، فحمل الحجاج بن يوسف تلك الحمالة لبني تغلب عنه، يقال إنه لم تكن حمالة قط أعظم منها.
وروي أن عبد الله بن عمر رأى الجحاف وهو يطوف بالبيت ويقول: اللهم اغفر لي، وما أراك تفعل، فقال له: يا عبد الله، لو كنت الجحاف ما زدت على ما تقول، قال: فأنا الجحاف.
حدث عمر بن عبد العزيز بن مروان: أنه حضر الجحاف بن حكيم السلمي والأخطل عند عبد الملك بن مروان والأخطل ينشد:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
قال: فقيض وجهه في وجه الأخطل ثم قال:
نعم سوف نبكيهم بكل مهند ... ونبكي عميراً بالرماح الخواطر
يعني عمير بن الحباب السلمي، ثم قال: لقد ظننت يابن النصرانية أنك لم تكن تجترئ علي، ولو رأيتني لك مأسورا، وأوعده، فما زال الأخطل من موضعه حتى حم، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه. قال: هذا أجرتني منه يقظان فمن يجيرني منه دائماً؟ فضحك عبد الملك.(6/12)
وفي رواية: أن الجحاف كان عند عبد الملك بن مروان فدخل عليه الأخطل فأنشده:
ألا أبلغ الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
قال: وهم يأكلون تمرا، قال: فجعل الجحاف يأخذ التمرة ويجعلها في عينه من الغضب، ثم نهض وقد سقط رداؤه من جانب، وهو يجره، فقال عبد الملك للأخطل:
ويحك إني أخشى أن تكون قد سقت إلى قومك شراً، فخرج الجحاف حتى أتى قومه وقد أوسق بغالا، فيها حصا في الأحمال يوهم أنها مال، ثم نادى في قومه فاجتمعوا إليه على أخذ الجائزة، فلما اجتمعوا كشف عما فيها فإذا هو الحصا، وقال: انما أردت أن أجمعكم لهذا، ثم أنشدهم قول الأخطل. قال: فمن أراد أن يتبعني فليتبعني، فاتبعه منهم عدة آلاف، فسار. فلما أمسى قال: من كان منكم مضعفا فليرجع، فرجع قوم ثم مضى فقال: من كان يكره الموت فليرجع، فرجع عنه قوم، فسار مسيرة أربع في يوم وليلة حتى صبح حي الأخطل، فأغار عليهم فقتل النساء والصبيان والماشية، وذبح الدجاج والكلاب، وأفلت الأخطل هاربا، فقال
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعول
وإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستماز ومزحل
قال: فقيل له: إلى أين؟ قال: إلى النار، فقال له عبد الملك: يابن اللخناء أيكون عن قريش مستماز ومزحل؟ قال: ثم إن الجحاف خاف من عبد الملك، فخرج إلى بلاد الروم فقبله صاحب الروم، ثم إن عبد الملك وجه الصائفة فلقيهم الروم ولقيهم الجحاف مع الروم، فهزمت الصائفة. فلما رجعوا سأل عبد الملك عن الخبر فقالوا: أتينا من الجحاف، فبعث إليه عبد الملك يؤمنه فرجع وعرض عليه صاحب الروم النصرانية والمقام عنده ويعطيه ما شاء فأبى وقال: لم أخرج رغبة عن الإسلام، إنما خرجت حمية، فلما رجع تفكر فيما صنع وندم فدعا مولى له أو اثنين فركبا وركب معهما وقد لبس أكفانا حتى أتى إلى البشر إلى حي الأخطل، فلم يرعهم حتى جاءهم، فقالوا: قد أتى الجحاف فقالوا:(6/13)
ما جاء بك؟ قال: أعطي القود من نفسي فإن شئتم فاقتلوا، فتسرع بعضهم، وقال مشايخهم: تجبذون عنقه في الحبل وتقتلونه أسيرا؟ لا كان هذا أبداً، فتركوه وعفوا عنه.
قالوا: وقيل: إن الجحاف لما سار في جماعة من قومه إلى بني جشم بن بكر رهط الأخطل وأوقع بهم وقتل مقتلة عظيمة فيهم أبو الأخطل، وقع الأخطل في أيديهم وعليه عباءة دنسة، فسألوه فذكر أنه عبد فأطلقوه فقال:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة
جدار بن جدار العذري الصنعاني
صنعاء دمشق. كانت له بدمشق دار.
حدث بسنده عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من هاله الليل أن يكابده، وبخل بالمال أن ينفقه، وجبن عن العدو أن يقاتله فليكثر أن يقول: سبحان الله وبحمده، فإنها أحب إلى الله من جبل ذهب وفضة ينفقان في سبيل الله.
وحدث جدار أيضا أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول سمعت أبا الدرداء يقول: لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يعلم أن للقرآن وجوها.
جد بن قيس أحد العباد
كان يكون بجبل لبنان من أعمال دمشق.
قال جد بن قيس: كان أول عبادتي أني قعدت على جبل لبنان، فإذا أنا بثلاثة قبور على ارتفاع من الأرض فإذا على أحدها مكتوب:(6/14)
وكيف يلذ العيش من كان موقناً ... بأن إله الخلق لا بد سائله
فيأخذ منه ظلمه لعباده ... وتجزيه بالخير الذي هو فاعله
ورأيت على القبر الثاني مكتوبا:
وكيف يلذ العيش من كان صائراً ... إلى جدث تبلي الشباب منازله
ويذهب رسم الوجه من بعد حسنه ... فأين منه جسمه ومفاصله
ورأيت على القبر الثالث مكتوبا:
وكيف يلذ العيش من كان موقناً ... بأن المنايا بغتة ستعاجله
وتسلبه ملكا عظيما ونخوة ... وتسكنه البيت الذي هو آهله
جراح بن عبد الله بن جعادة
ابن أفلح بن الحارث بن درة بن حدقة بن مظة، واسمه سفيان بن سليم بن الحكم بن سعد العشيرة بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ، أبو عقبة الحكمي من قواد أهل الشام من دمشق. ولي البصرة في أيام الوليد بن عبد الملك للحجاج، ثم ولي العراق في أيام سليمان خلافة ليزيد بن المهلب، ثم ولي خرا سان وسجستان لعمر بن عبد العزيز، وولي عدة جهات وكان قارئا غازيا.
قال الجراح بن عبد الله: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.(6/15)
وفي رواية: تركت الذنوب حياء من الناس أربعين سنة. فلما جاوزت الأربعين أدركني الورع. فتركتها حياء من الله عز وجل.
قال الوليد بن مسلم: كان الجراح بن عبد الله الحكمي إذا مشى في مسجد الجامع بدمشق يميل رأسه عن القناديل من طوله.
قال أبو عمرو: بعث الحجاج إذ كان يقاتل مصعباً والحرورية بالعراق إلى صاحب أهل دمشق، فلما أتاه قال له: اطلب لي من أصحابك رجلاً جليداً بئيساً ذا رأي وعقل، فقال: أصلح الله الأمير، ماأحسبني إلا وقد أصبته، إن في أصحابي رجلا من حكم بن سعد يقال له الجراح، جلدا صحيح العقل يعد ذلك من نفسه، يعني البأس، قال: فابعث إليه، فلما رآه الحجاج قال له: ادن يا طويل، فلم يزل يقول له ذلك ويشير إليه بيده حتى لصق به أو كاد، ثم قال: اقعد فقعد تحك ركبته وليس عنده غيره، ثم قال له: قم الساعة إلى فرسك فاحسسه واعلفه وأصلح منه، ثم خذ سرجه ولجامه وسلاحك فضعه عند وتد فرسك، ثم ارقب أصحابك حتى إذا أخذوا مضاجعهم ونوموا فاشدد على فرسك سرجه ولجامه، واصبب عليك سلاحك وخذ رمحك، ثم اخرج حتى تأتي عسكر أعداء الله فتعاينهم، وتنظر إلى حالاتهم وماهم عليه، ثم تصحبني غداً، ولاتحدثن شيئا حتى تنصرف، فإذا انصرفت إلى أصحابك الساعة فلا تخبرهم بما عهدته إليك، فنهض الجراح. فلما أتى أصحابه وهم متشوقون له سألوه عن أمره فقال: سألني الأمير عن أمر أهل دمشق واعتل لهم، ثم فعل ما أمره الحجاج، ثم خرج من العسكر يريد عسكر القوم، فلما كان في المنصف من العسكرين لقي رجلا في مثل حاله، فعلم الجراح أنه عين للعدو يريد مثل الذي خرج له، فتوافقا وتساءلا ثم شد عليه الجراح فقتله وأوثق فرسه برجله، ثم نفر إلى المعسكر الذي فيه القوم فعاينه وعرف من حاله وحال أهله ما أمر به، ثم انصرف إلى القتيل فاحتز رأسه وأخذ سلاحه(6/16)
وجذب فرسه وعلث الرأس في عنق فرسه، ثم أقبل. وصلى الحجاج صلاة الصبح وقعد في مجلسه وأمر بالأستار فرفعت، وتشوف منتظراً الجراح وجعل يومئ بطرفه إلى الناحية التي يظن أنه يقبل منها. فبينا هو كذلك إذ أقبل الجراح يجذب الفرس، والرأس منوط في لبان فرسه، فأقبل الحجاج يقول ويقلب كفيه: فعلت ما أمرتك به؟ قال: نعم، ومالم تأمرني، حتى وقف بين يديه، فسلم ثم نزل. وحدث الحجاج بما صنع وما عاين من القوم، فلما فرغ من حديثه زبره الحجاج وانتهره وقال له: انصرف، فانصرف فبينا هو في رحله إذ أقبل فراشون يسألون عن الجراح معهم رواق وفرش وجارية وكسوة، فدلوا على رحله، فلم يكلموه حتى ضربوا له الرواق وفرشوا له فرشاً وأقعدوا فيه الجارية، ثم أتوه فقالوا: انهض إلى صلة الأمير وكرامته. فلم يزل الجراح بعدها يعلو ويرتفع حتى ولي أرمينية واستشهد، قتلته الخزر سنة خمس ومئة.
قال أبو حاتم: الجراح مولى مسكان أبي هانئ أبي أبي نواس، عني أبو نواس بقوله:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
قال الصلت بن دينار: رأيت في المنام كأن رجلا قطعت يداه ورجلاه وآخر صلب، فغدوت على ابن سيرين فأخبرته بذلك فقال: إن صدقت رؤياك نزع هذا الأمير وقدم أمير آخر قال: فلم نمس من يومنا حتى نزع قطن بن مدرك وقدم الجراح بن عبد الله.
كتب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عامله على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي يأمره أن يدعو أهل الجزية إلى الإسلام، فإن أسلموا قبل إسلامهم ووضع الجزية عنهم، وكان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فقال له رجل من أشراف أهل خراسان: إنه والله ما يدعوهم إلى الإسلام إلا أن توضع عنهم الجزية، فامتحنهم بالختان،(6/17)
فقال: أنا أردهم عن الإسلام بالختان؛ هم لو قد أسلموا كانوا إلى الطهرة أسرع، فأسلم على يده نحو من أربعة آلاف.
قال السائب بن محمد: كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: سلام عليك، وبعد. فإن أهل خراسان قوم قد ساءت رعيتهم، وإنه لا يصلحهم إلا السيف والسوط، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في تلك فعل. قال: فكتب إليه عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى الجراح بن عبد الله: سلام عليك، أما بعد؛ فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم، وأنه لايصلحهم إلا السيف والسوط، وتسألني أن آذن لك فقد كذبت، بل يصلحهم العدل والحق، فابسط ذلك فيهم والسلام.
وقتل الجراح لثمان بقين من رمضان سنة اثنتي عشرة ومئة، وغلبت الخزر على أذربيجان وساحت خيولهم حتى بلغوا قريباً من الموصل.
وذكر الواقدي: أن البلاء كان بمقتل الجراح على المسلمين عظيما، فبكي عليه في كل جند من أجناد العرب ومصر من أمصار المسلمين.
حدث إسماعيل بن عبيد الله مولى الحارث بن هشام، قال: قدمت علينا امرأة يمانية عليها ثياب اليمن فقالت: هل تعرفون أبا المقدام رجاء بن حيوة؟ قلنا: نعم. قالت: رأيت رجلا في النوم فقال: أنا أبو المقدام رجاء بن حيوة فقلت: ألم تمت؟ قال: بلى، ولكن نودي في أهل الجنة أن يتلقوا روح الجراح بن عبد الله الحكمي، وذلك قبل أن يأتيهم نعي الجراح، فكتبوا الوقت، فجاءهم أن الجراح قد قتل يومئذ بأرمينية، جاشت عليه الخزر فقتلوه.
قال أبو مسهر: قال الجراح يوم قتل لأصحابه: أيها القواد وأمراء الأجناد، فيم اهتمامكم؟! غدوتم(6/18)
أمراء وتروحون شهداء، اللهم اذ رفعت عنا النصر فلا تحرمنا الصبر والأجر ثم قال:
لم يبق إلا حسبي وكفني ... وصارم تلذه يميني
وقاتل حتى قتل.
وأنشد أبو مسهر للفرزدق من أبيات:
لقد صبر الجراح حتى مشت به ... إلى رحمة الله السيوف الصوارم
جرجة بن عبد الله الرومي
أسلم على يدي خالد بن الوليد يوم اليرموك وحسن إسلامه، وقاتل الروم فاستشهد في يومه. وكان قائدا من قواد الروم وخرج يوم اليرموك حتى كان بين الصفين، ونادى: ليخرج إلي خالد، فخرج إليه خالد وأقام أبا عبيدة مكانه، فوافقه بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن أحدهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد، اصدقني ولا تكذبني، فان الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل بالله، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على جند أبدا إلا هزمتهم؟ فقال: لا. قال: فبم سميت سيف الله؟ فقال: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعانا فنفرنا منه ونأينا عنه جميعا، ثم إن بعضنا صدقه وتابعه، وبعضنا كذبه وباعده، فلما ناوأنا كنا على ذلك، فكنت فيمن كذبه وباعده وقاتله، ثم إن الله عز وجل أخذ بقلوبنا ونواصينا إليه، فهدانا به فتابعناه فقال: أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين. قال: صدقتني. ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرني إلام تدعون؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله والإقرار بما جاء من عند الله. قال: فمن لم يجبكم؟ قال: فالجزية ونمنعكم. قال: فمن لم يعط هذا؟ قال: نؤذنه بحرب ثم نقاتله.(6/19)
قال: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟ قال: منزلتنا واحدة فيما افترض الله عز وجل علينا، شريفنا ووضيعنا، أولنا وآخرنا. ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، هل لمن دخل فيكم اليوم مثل مالكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل. قال: وكيف يساوى بكم وقد سبقتموه؟ فقال: إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو حي بين أظهرنا تأتينا أخبار السماء، ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحق لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يسلم ويبايع، وإنكم أنتم لم تروا ما رأينا، ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب، فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا منزلة. قال جرجة بالله لقد صدقتني ولم تخادعني ولم تألفني؟ فقال: بالله لقد صدقتك ومالي إليك، ولا إلى أحد منكم وحشة، وإن الله لولي ما سألت عنه. فقال: صدقتني، وقلب الترس ومال مع خالد وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه فشن عليه قربة، ثم صلى به ركعتين.
وحملت الروم مع انقلابه إلى خالد، وهم يرون أنها حملة، فأزالوا المسلمين عن مواقفهم إلا المحامية، عليهم عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام، وركب خالد ومعه جرجة، والروم خلال المسلمين فتنادى الناس وثابوا، وتراجعت الروم إلى مواقفهم، فزحف بهم خالد حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالداً وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما.
جرول بن أوس بن جؤية
ويقال: جرول بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض ابن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر - أبو مليكة العبسي، المعروف بالحطيئة:
والحطيئة يهمز ولا يهمز، فمن همزه جعله تصغير الحطأة وهي الضربة باليد، ومن لم يهمزه جعله من الحطأة وهي القملة الصغيرة، شبه بها لقصره وقربه من الأرض. وكان جوالا في الآفاق يمتدح الأماثل ويستجديهم.(6/20)
وقدم حوران ممتدحا لعلقمة بن علاثة فمات علقمة قبل أن يصل إليه ولما أطلق عمر بن الخطاب الحطيئة من حبسه قال له: يا أمير، المؤمنين، اكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري، فقال: لا أفعل. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك علقمة ليس بعاملك فتخشى أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين، قال: فشفع له إليه، فكتب له ما أراد. فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات، والناس منصرفون عن قبره، فوقف عليه ثم أنشده قوله:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت ... فما في حياة بعد موتك طائل
وما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
فقال له ابنه: كم ظننت علقمة يعطيك؟ قال: مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها. فأعطاه إياها.
وقيل إنه بلغه أنه في الطريق يريده، فأوصى له بمثل سهم من سهام ولده.
قال محمد بن سلام: قال الحطيئة لكعب بن زهير: قد علمت انقطاعي إليكم أهل البيت وروايتي إليك ولك، فشرفني بأبيات تقولها فيّ. فقال كعب بن زهير:
فمن للقوافي بعدنا من يقيمها ... إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
يقول فلا يعيا بشيء يقوله ... ومن قائليها من يسيء ويعمل
جرول هو الحطيئة، والجرول: الحجر وهو الجراول. ويقال أرض جرلة.
قال الأصمعي: قيل للحطيئة: من أشعر الناس؟ فأخرج لسانه وقال: هذا إذا طمع.(6/21)
قال الشعبي: كان الحطيئة وكعب عند عمر رضي الله عنه فأنشد الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال كعب: هي والله في التوراة، لا يذهب العرف بين الله وبين خلقه.
أراد الحطيئة المضي إلى بعض ملوك اليمن لقصيدة كان امتدحه، فأمر أهله فشدوا رحله على ناقته، ثم ركبها وأنشأ يقول:
عدي السنين إذا خرجت لغنية ... ودعي الشهور فإنهن قصار
فأجابته بنية له في الخدر فقالت:
اذكر تحنننا إليك وضعفنا ... وارحم بناتك إنهن صغار
قال: فحط رحله وأمسك عن ذكر الأسفار.
نزل الحطيئة برجل من العرب ومعه ابنته مليكة، فلما جنه الليل سمع غناء فقال لصاحب المنزل: كف هذا عني، قال له: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائد من رائدة الفجور، ولا أحب أن تسمعه هذه - يعني ابنته - فإن كففته، وألا خرجت عنك.
قالت مليكة بنت الحطيئة لأبيها: ما أصارك إلى القصار في الشعر بعد الطوال؟ قال: لأنها في الآذان أولج، وفي المحافل أجول، وعلى القلوب أسهل، وبأفواه الرجال أعلق.
قال حماد الراوية: أفضل بيت روي من أشعار العرب بيت الحطيئة حيث يقول:
يقولون تستغني ووالله ما الغنى ... من المال إلا ما يعفو وما يكفي(6/22)
وأنشد أحمد بن عباد التميمي للحطيئة يعدد محاسن قوم، قيل: إنه يعني آل منظور بن زبان بن سيار بن عمر الفزاريين:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا
يسوسون أحلاماً بعيداً أناتها ... وإن غضبوا جاء الحفيظة والحقد
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
لما نزل بعبد الله بن شداد الموت، دعا ابناً له يقال له محمد فأوصاه، وكان فيما أوصاه أن قال: يا بني أرى دواعي الموت لا تقلع، ومن مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع. وإني أوصيك بوصية فاحفظها: عليك بتقوى الله، وليكن أولى الأمر بك الشكر لله وحسن الثناء عليه في السر والعلانية، واعلم أن الشكور مزيد والتقوى خير زاد، فكن يا بني كما قال الحطيئة العبسي:
ولست أرى السعادة جمع مال ... ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً ... وعند الله للأتقى مزيد
وما لا بد أن يأتي قريب ... ولكن الذي يمضي بعيد
كان سبب هجائه للزبرقان أنه صادفه بالمدينة وكان قدمها على عمر، فقال الحطيئة: وددت أني أصبت رجلاً يحملني وأصفيه مديحي وأقتصر عليه. قال الزبرقان: قد أصبته، تقدم على أهلي فإني على إثرك. فتقدم فنزل بحماه، وأرسل الزبرقان إلى امرأته أن أكرمي مثواه. وكانت ابنته مليكة جميلة، فكرهت امرأته مكانها فظهرت منها لهم جفوة - وبغيض بن عامر بن لأي بن شماس - أحد بني قريع بن عوف، ينازع يومئذ الزبرقان الشرف، والزبرقان أحد بني بهدلة بن عوف، أرسخ في الشرف من الزبرقان،(6/23)
وقد ناوأه الزبرقان ببدنه حتى ساواه بل اعتلاه، فاغتنم بغيض وأخواه علقمة وهوذة ما فيه الحطيئة من الجفوة، فدعوه إلى ما عندهم فأسرع، فبنوا عليه قبة ونحروا له وأكرموه كل الإكرام وشدوا بكل طنب من أطناب خبائه جلة من برني هجر. قال: والمخبل شاعر مفلق وهو ابن عمهم يلقاهم إلى أنف الناقة، وهو جعفر بن قريع. قال: وقدم الزبرقان أسيفاً عاتباً على امرأته، مدح بني قريع وذم الزبرقان، فاستدعى عليه الزبرقان إلى عمر فأقدمه عمر وقال للزبرقان: ما قال لك؟ قال: قال لي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
قال عمر لحسان: ما تقول؟ أهجاه؟ وعمر يعلم من ذلك ما يعلم حسان، ولكنه أراد الحجة على الحطيئة، فقال: ذرق عليه. فألقاه عمر في حفرة اتخذها محبساً فقال الحطيئة:
ماذا تقول لأفراخ بذي أمج...........
قال أسلم: أرسل عمر إلى الحطيئة الشاعر وأنا عنده، وقد كلمه عمرو بن العاص وغيره من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخرجه من السجن فقال:
ماذا تقول لأفراخ بذي أمج ... زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فاغفر هداك مليك الناس يا عمر(6/24)
أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ... ألقت إليك مقاليد النهى البشر
لم يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الأثر
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم ... بين الأباطح يغشاهم بها القرر
أهلي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض داوية تعيا بها الخبر
قال: فبكى عمر حين قال له:؟؟؟ ماذا تقول لأفراخ بذي أمج.............
فقال عمرو: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة، فقال عمر: علي بالكرسي، فوضع له فجلس عليه وقال: أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجر ويشبب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بما ليس فيهم، ما أراني إلا قاطعاً لسانه. ثم قال: علي بالطست فأتي به، ثم قال: علي بالمخصف، علي بالسكين، علي بالموسى، فقالوا: لا يعود يا أمير المؤمنين، وأشاروا عليه قل. لا أعود يا أمير المؤمنين، فقال لا أعود يا أمير المؤمنين. قال له: النجاء. فلما أدبر قال: يا حطيئة، كأني بك وأنت عند فتى من فتيان قريش، قد بسط لك نمرقة وكسر لك أخرى وأنت تغنيه بأعراض المسلمين! قال أسلم: فدخلت على عبيد الله بن عمر بعد أن توفي عمر وعنده الحطيئة، وقد بسط له نمرقة وكسر له أخرى وهو يغنيه. فقلت: يا حطيئة، أما تذكر ما قاله عمر؟ قال: فارتاع لها وقال: رحم الله ذلك المرء، لو كان حياً ما فعلنا هذا. فقال عبيد الله: وما قال؟ قلت: قال: كذا وكذا، فكنت أنت ذلك الفتى.
ولما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص يا أبا مليكة، قال: نعم، أخبروا الشماخ أنه أشعر غطفان. قالوا: فأوص في مالك، قال: نعم، ما لي للذكور دون الإناث. قالوا: فأوص للمساكين. قال: أوصيهم بإلحاف المسألة. قالوا: فأعتق غلامك يساراً. قال: اشهدوا أنه(6/25)
مملوك ما بقي. قالوا: فما توصينا بشيء؟ قال: بلى، احملوني على حمار، فإنه لم يمت عليه كريم قط، فلعلي لا أموت. قالوا: يا أبا مليكة، أي العرب أشعر؟ قال: هذا الجحير إذا طمع في خير، وأشار إلى فيه ولسانه، ثم استعبر وبكى، فقالوا: ما يبكيك؟؟ أفزعاً من الموت؟ سوءة لك؟ قال: لا، ولكني أبكي للشعر من راوية السوء. ثم لم يلبث أن مات، فبلغ ذلك الشماخ فقال:
ليبك على الشعر الرواة فقد مضى ... وفارق إذ مات الحطيئة جرول
وأودى فما أبقى مقالاً لشاعر يقوم ليبلى من يشا أو يعدل
مضى ذا وهذا والسلام عليهما ... وكل عليه سوف يبكي ويعول
جرول بن جنفل
ويقال: ابن جنقل بالقاف، والأول أصح - أبو توبة النميري الحراني المعلم، قدم دمشق وحدث بها.
روى عن سعيد بن سنان الحمصي عن عمرو بن عريب عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في قوله تعالى: " وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم " قال: " هم الجن، ولن تخبل الجن رجلاً في داره فرس عتيق ".
وحدث عن خليد بن دعلج الموصلي عن قتادة بن دعامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا ادهن أحدكم فليبدأ بحاجبيه فإنه يذهب بالصداع ". أو قال ينفع من الصداع.
قدم جرول بن جنفل حمص، فأتى بقية بن الوليد فقال له: ما اسمك؟ قال: جرول. قال: ابن من؟ قال ابن جنفل. قال: أبو من؟ قال: أبو تيفل. فقال له:(6/26)
تب إلى الله تعالى من هذه الأسماء. قال: قد تبت فكنني، قال: أنت أبو توبة فكان يكنى بها.
جرير بن عبد الله بن جابر
ابن مالك بن نصر بن ثعلبة بن جشم بن عويف بن خزيمة بن حرب بن علي بن مالك بن سعيد بن مالك بن نذير بن قسر، وهو مالك بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث ابن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أبو عمرو وقيل أبو عبد الله البجلي القسري.
صحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وروى عنه أحاديث صالحة. قدم دمشق رسولاً من علي عليه السلام إلى معاوية، وقدم على معاوية مرة أخرى في خلافته.
حدث جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على النصح لكل مسلم.
حدث جرير بن عبد الله قال: بعثني علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان يأمره أن يبايع هو ومن قبله، قال: فخرجت لا أرى أحداً سبقني إليه حتى قدمت على معاوية، وإذا هو يخطب الناس وهم حوله يبكون حول قميص عثمان، وهو معلق في رمح، فدفعت إليه كتاب علي، ومثل رجل إلى جنبي كان يسير بمسيري، ويقوم بمقامي لا أشعر به فقال لمعاوية:
إن بني عمك عبد المطلب ... هم قتلوا شيخكم غير كذب
وأنت أولى الناس بالوثب فثب ... واغضب معاوي للإله وارتقب
بادر بخيل الأمه الغار الأشب ... بجمع أهل الشام ترشد وتصب
وسر مسير المحزئل المتلئب ... وهزهز الصعدة للبأس الشغب(6/27)
قال ثم دفع إليه كتاباً من الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأمه فإذا فيه:
معاوي إن الملك قد جب غاربه ... وأنت بما في كفك اليوم صاحبه
أتاك كتاب من علي بخطة ... هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه
فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه ... فقبح ممليه وقبح كاتبه
وإن كنت تنوي ترك رجع جوابه ... فأنت بأمر لا محالة راكبه
فألق إلى الحي اليمانين كلمة ... تنال بها الأمر الذي أنت طالبه
تقول أمير المؤمنين أصابه ... عدو وما لا هم عليه أقاربه
وكنت أميراً قبل بالشام فيكم ... وحسبي من الحق الذي هو واجبه
فجيئوا ومن أرسى ثبيراً مكانه ... ندافع بحراً لا ترد غواربه
فأكثر وأقلل ما لها الدهر صاحب ... سواك فصرح لست ممن تواربه
قال: فقال: أقم، فإن الناس قد نفروا عند قتل عثمان حتى يسكنوا. قال: فأقمت أربعة أشهر، ثم جاءه كتاب من الوليد بن عقبة فيه:
ألا أبلغ معاوية بن حرب ... فإنك من أخي ثقة مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق وما تريم
فإنك والكتاب إلى علي ... كرابعة وقد حلم الأديم
فلو كنت القتيل وكان حياً ... لشمر لا ألف ولا سؤوم
فلما جاءه كتابه وصل ما بين طومارين، ثم طواهما أبيضين، وكتب عنوانهما: من(6/28)
معاوية بن أبي سفيان، إلى علي بن أبي طالب، ودفعهما إلي، وبعث معي رجلاً من عبس، لا أدري ما مع العبسي، قال: فقدمنا الكوفة فاجتمع الناس إلى علي في المسجد، ولا يشكون أنها بيعة أهل الشام، فلما فتح الكتاب لم يوجد شيء، وقام العبسي فقال: من ها هنا من أفناء قيس، إني أخص من قيس غطفان، وأخص من غطفان عبساً، وإني أحلف بالله لقد تركت تحت قميص عثمان أكثر من خمسين ألف شيخ، خاضبي لحاهم بدموع أعينهم متعاقدين متحالفين ليقتلن قتلته، وإني أحلف بالله ليقتحمنها عليكم ابن أبي سفيان بأكثر من أربعة آلاف من خصيان الخيل، في ظنكم بعد بما فيها من الفحول! فقال له قيس بن سعد: يا أخا عبس لا نبالي بخصيان خيلك ولا ببكاء كهولك، ولا يكون بكاؤه بكاء يعقوب على يوسف. ثم دفع العبسي كتاباً من معاوية فيه:
أتاني أمر فيه للناس غمة ... وفيه اجتداع للأنوف أصيل
مصاب أمير المؤمنين وهذه ... تكاد لها صم الجبال تزول
فلله عينا من رأى مثل هالك ... أصيب بلا ذنب وذاك جليل
دعاهم فصموا عنه عند دعائه ... وذاك على ما في النفوس دليل
ندمت على ما كان من تبع الهوى ... وحسبي منه حسرة وعويل
سأبغي أبا عمرو بكل مهند ... وبيض لها في الدار عين صليل
فأما التي فيها المودة بيننا ... فليس إليها ما حييت سبيل
سألقحها حرباً عواناً ملحة ... وإني بها من عامها لكفيل
قال: فأمر علي قيس بن سعد أن يجيبه في كتابه، فكتب إليه قيس:
معاوي لا تعجل علينا معاويا ... فقد هجت بالرأي السخيف الأفاعيا
وحركت منا كل شيء كرهته ... وأبقيت حزات النفوس كما هيا
بعثت بقرطاسين صفرين ضلة ... إلى خير من يمشي بنعل وحافيا
مضى أو بقي بعد النبي محمد ... عليه سلام الله عوداً وباديا
ألا ليت شعري والأماني ضلة ... على أي ما تنوي أردت الأمانيا(6/29)
على أن فينا للموارث مطمعاً ... وأنك متروك بشامك عاصيا
أبى الله إلا أن ذا غير كائن ... فدع عنك ما منتك نفسك خاليا
وأكثر وأقلل إن شامك شحمة ... يعجلها طاه يبادر شاويا
من العام أو من قابل كل كائن ... قريب وأبعد بالذي ليس جائيا
حدث قيس قال: قال جرير لعبد الله بن رباح: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ". فكتب معاوية: أن أرسل إلي جريراً على المربد فأتاه فقال: أنت سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله "؟ قال: نعم. قال: لا جرم لا أغزي جيشاً وراء الدرب في شتاء أبداً. وبعث إليهم بطعام ولحف.
قيل إن جريراً تنقل من الكوفة إلى قرقيسياء وقال: لا أقيم ببلدة يشتم فيها عثمان. وتوفي في زمن معاوية بعد الخمسين، يقال سنة إحدى وخمسين. وقيل: مات سنة أربع وخمسين. وكان سيداً في قومه، وبسط له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثوباً ليجلس عليه وقت مبايعته له، وقال لأصحابه: " إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه "، وجهه إلى الخلصة طاغية دوس فهدمها. ودعا له حين بعثه إليها، وشهد جرير مع المسلمين يوم المدائن وله فيها أخبار مأثورة. وجرير هذا هو الذي يقول له الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيله
قال جرير: لما دنوت من مدينة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنخت راحلتي وحللت عيبتي فلبست(6/30)
حلتي، فدخلت ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فسلم علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرماني الناس بالحدق فقلت لجليسي: يا عبد الله، هل ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أمري شيئاً؟ قال: نعم، ذكرك بأحسن الذكر، بينا هو يخطب إذ عرض له في خطبته قال: " إنه سيدخل عليكم من هذا الباب، أو من هذا الفج، من خير ذي يمن، وإن على وجهه لمسحة ملك ". قال: فحمدت الله على ما أبلاني.
قال جرير: ما رآني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا تبسم في وجهي. في حديث.
حدث عبد الله بن ضمرة أنه بينما هو ذات يوم عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جماعة من أصحابه أكثرهم اليمن، إذ قال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سيطلع عليكم من هذه الثنية خير ذي يمن "، فبقي القوم كل رجل منهم يرجو أن يكون من أهل بيته، فإذا هم بجرير بن عبد الله قد طلع عليهم من الثنية، فجاء حتى سلم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى أصحابه، فردوا عليه بأجمعهم السلام، ثم بسط له عرض ردائه وقال له: على ذا يا جرير فاقعد. فقعد معهم ثم قام وانصرف. فقال جماعة أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد رأينا اليوم منك منظراً لجرير ما رأينا منك لأحد، قال: " نعم، هذا كريم قوم. إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
وقال عدي بن حاتم: لما دخل جرير على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألقى له وسادة فجلس على الأرض، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أشهد أنك لا تبغي علواً في الأرض ولا فساداً "، فأسلم. من حديث.
وفي حديث: قال جرير: فبسط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده فبايعني وقال: " على أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتنصح المسلم، وتطيع الوالي، وإن كان عبداً حبشياً ". فقال: نعم. قال: فبايعه.
حدث عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الفجر لم يرم مجلسه حتى تطلع الشمس، فقال لنا ذات يوم حين طلعت الشمس: " يطلع عليكم من هذا الفج خير ذي يمن، على وجهه مسحة(6/31)
ملك ". فطلع جرير بن عبد الله البجلي ثم القسري على راحلته حتى نزل على باب المسجد، ثم دخل فقال: يا معشر قريش، أين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: هذا هو، يعني نفسه عليه السلام، ثم التفت إلى أصحابه فقال لهم: " أتاكم أهل اليمن، وهم أرق أفئدة. الإيمان يمان والحكمة يمانية والغلظة والقسوة والكبرياء والفخر والجفاء عند أصحاب الوبر والصوف، نحو هذا المشرق في ربيعة ومضر ".
فلما جلس جرير بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: ما اسمك؟ قال: أنا جرير بن عبد الله البجلي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا جرير، إنك لن تدرك شريعة الإسلام، ولن تدرك حقيقة الإيمان حتى تترك عبادة الأوثان ". قال جرير: يا رسول الله، قد أسلمت، فادعوا الله أن يشرح قلبي للإسلام. قال: " اللهم، اشرح قلبه للإيمان، ولا تجعله من أهل الردة، ولا تكثر له فيطغى، ولا تملي عينيه فينسى "، قال جرير: يا رسول الله، حدثني عما جئت أسألك عنه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تسأل عن حق الوالد على ولده، وحق الولد على والده. وإن من حق الوالد على ولده أن يخشع له عند الغضب، ويؤثره عند الشكاية والوصب، فإن المجافي ليس بالواصل، ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها. ومن حق الولد على والده أن لا يجحد نسبه، وأن يحسن أدبه ". قال جرير: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هذا - والله الذي بعثك نبياً - الذي جئت له، وأنا أريد أن أسألك عنه، آمنت بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين منزلك يا جرير؟ قال: نحن بأكناف بيشة بين سلم وأراك وسهل ودكداك وحمض وعلاك،(6/32)
في نخلة وضالة ونجمة وأثلة، ونجل وتالة. ربيعنا مريع، وشتاؤنا ربيع، وماؤنا نبيع، لا يقام ماتحها ولا يحسر مائحها ولا يعزب سارحها، فقال رسول الله صلى اله عليه وسلم: " خير الماء الشبم، وأفضل الأموال الغنم، وأجود المراعي الأراك والسلم. وإذا أخلف كان لجينا، وإذا سقط كان درينا، وإذا أكل كان لبينا.
قال جرير: يا رسول الله، أخبرني عن السماء الدنيا والأرض السفلى. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وماء، ثم رفعها وجعل فيها سراجاً مضيئاً، وقمراً منيراً، وزينها بمصابيح النجوم، وجعلها رجوماً للشياطين، وحفظها من كل شيطان رجيم. وأما الأرض السفلى، فإن الله تعالى خلقها من الزبد الجفاء والماء الكباء، حملها على ظهر حوت، تحته ملك على صخرة يتفجر منها الماء، لو انخرق منها خرق لأذهب من على ظهر الأرض سبحان خالق النور.
قال جرير: يا رسول الله، ابسط يدك أبايعك على الإسلام فقال: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتسمع وتطيع الوالي وإن كان حبشياً، قال جرير: نعم(6/33)
يا رسول الله. فبايعه، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جرير ما فعل قومك؟ قال: يا رسول الله، ليس ينتظرون أحداً غيري. قال: فانطلق فادعهم إلى الإسلام. فخرج جرير حتى أتى بلاد قومه فسار فيهم حياً حياً، ودعاهم إلى الإسلام، وأمرهم بالهجرة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أول من أجابه إلى ذلك قيس بن غزية الأحمسي ثم الذهني، وهو أبو عروة.
وروي عن جرير بن عبد الله قال: كنت لا أثبت على الخيل، فشكوت ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً، فما قلعت عن فرسي بعد ذلك.
وفي حديث آخر: فقال لي بعد إسلامي: يا جرير، إن ربي قد أعلمني أن إبليس قد أيس من أن تعبد الأصنام في أرض العرب، فتهيأ حتى تسير إلى بيت قومك خثعم ذي الخلصة فتدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وعلى أن تكسر أصنامهم وتحرق بيتهم، قال: فقلت: يا رسول الله؛ إني رجل قلع: لا أثبت في السرج، قال: فادن إلي، قال: فدنوت إليه، فضرب في صدري وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً. قال: ثم ندب الناس معي فانتدب معي مئتان جلهم من أحمس، وانطلقت.
حدث إبراهيم قال: توضأ جرير ثم مسح على خفيه، فقيل له: أتمسح على خفيك! قال: ومالي لا أمسح، وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح! قال: فكان حديث جرير أوثق حديث في المسح، لأنه أسلم في العام الذي قبض فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد نزول المائدة.
وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منذ أسلمت، ولا رآني إلا ضحك.(6/34)
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تسبوا جرير بن عبد الله، إن جريراً منا أهل البيت.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جرير بن عبد الله منا أهل البيت ظهر لبطن ظهر لبطن ظهر لبطن.
وعن جرير قال: بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ما بايعت عليه النساء، لمن مات منا ولم يأت شيئاً ضمن له الجنة، ومن مات منا وأتى شيئاً منهن فأقيم عليه الحد فهو كفارته، ومن مات منا وأتى شيئاً منهن فستر عليه فعلى الله عز وجل حسابه.
وروي عن جرير أنه كان إذا باع رجلاً قال له: إن الذي آخذ منك أحب إليك من الذي أعطيك، فقال له بنوه: إذا فعلت لم ترتفع إلى بيع سلعة، فقال: إني بايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الإسلام والنصح لكل مسلم.
وعن جرير قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك امرؤ قد حسن الله خلقك فأحسن خلقك.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: إن جريراً يوسف هذه الأمة، يعني حسنه.
وعن عبد الملك بن عمير قال: رأيت جرير بن عبد الله وكأن وجهه شقة قمر.
وقال عبد الله بن عمير: رأيت جرير بن عبد الله يخضب لحيته بالزعفران.
وحدث ابن لجرير قال: كان نعل جرير بن عبد الله طولها ذراع.(6/35)
وعن جرير قال: تنفس رجل ونحن خلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصلي، وفي رواية يعني: أحدث، فلما انصرف قال: اعزم على صاحبها إلا قام فتوضأ وأعاد الصلاة، قال: فلم يقم أحد. قال جرير: فقلت: يا أمير المؤمنين لا تعزم عليه، ولكن اعزم علينا كلنا فتكون صلاتنا تطوعاً وصلاته الفريضة، قال عمر: فإني أعزم عليكم وعلى نفسي قال: فتوضأ وأعادوا الصلاة.
وفي حديث بمعناه فقال: يرحمك الله، نعم السيد كنت في الجاهلية، ونعم السيد أنت في الإسلام.
وفي رواية فقال: رحمك الله إن كنت لسيداً في الجاهلية، فقيها في الإسلام.
وعن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له - والناس يتحامون العراق وقتال الأعاجم -: سر بقومك، فما غلبت عليه فلك ربعه، فلما جمعت الغنائم غنائم جلولاء. ادعى جرير أن له ربع ذلك كله، فكتب سعد رضي الله عنه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكتب عمر رضي الله عنه: صدق جرير، قد قلت ذلك له، فإن شاء أن يكون قاتل هو وقومه على جعل فأعطوه جعله، وأن يكون إنما قاتل لله ولدينه وجاهد فهو رجل من المسلمين له مالهم وعليه ماعليهم. وكتب عمر رضي الله عنه بذلك إلى سعد رضي الله عنه، فلما قدم الكتاب على سعد دعا جريراً فأخبره ما كتب به إليه عمر، فقال جرير: صدق أمير المؤمنين، لاحاجة لي به، بل أنا رجل من المسلمين لي مالهم وعلي ماعليهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: جرير بن عبد الله ذهبت عينه بهمذان حيث وليها في زمان عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ومات جرير سنة إحدى وخمسين.(6/36)
وعن محمد بن سلام قال: قال جرير بن عبد الله - وسأله رجل حاجة فقضاها فعاتبه بعض أهله فقال -: المال ودائع الله في الدنيا ونحن وكلاؤها، فمن غرثان نشبعه، ومن ظمآن نرويه.
وقيل: مات جرير سنة أربع وخمسين، وقيل: سنة ست وخمسين.
جرير بن عبد الله بن عنبسة
أظنه ابن سعيد بن العاص بن سعيد العاص بن أمية بن عبد شمس المدني، وفد على هشام بن عبد الملك.
حدث جرير بن عبد الله قال: خرجت مع أبي إلى هشام بن عبد الملك فقدمنا عليه، فبعث إلى أبي بألطاف فيها شراب، وكتب إليه رقعة يصف له الشراب ومنفعته ويقول: شراب عمل لي يدعى الرساطون. قال: فلما خرجت رسله الذين حلوا الألطاف قال أبي: إنا لله، خدع والله أمير المؤمنين بها، فأمر بالقوارير فكدرت في البلاعة.
جرير بن عبد المسيح بن عبد الله
ابن زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد ابن عدنان الضبعي المتلمس شاعر مشهور جاهلي. قدم دمشق هارباً من عمرو بن هند. وذكر دمشق وبصرى في شعره.(6/37)
والمتلمس خال طرفة بن العبد، وكان سيداً، وإنما سمي المتلمس لقوله:
فهذا أوان العرض جن ذبابه ... زنابيره والأزرق المتلمس
روى أبو مسلم الخطابي في حديث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كتب لعيينة بن حصين كتاباً. فلما أخذ كتابه قال: يا محمد، أتراني حاملا إلى قومي كتابا كصحيفة المتلمس. يقول: لا أحمل إلى قومي كتابا لاعلم لي بمضمونه.
وكان من قصة المتلمس وصحيفته أنه وطرفة بن العبد كانا ينادمان عمرو بن هند ملك الحيرة فهجواه. وفي حديث: فبينما طرفة يوما يشرب معه في يده جام من ذهب فيه شراب أشرفت أخت عمرو فرأى طرفة خيالها في الإناء فقال:
ألا يا بأبي الظبي الذي يبرق شنفاه ... ولولا الملك القاعد قد ألثمني فاه
فسمعها عمرو فاصطنعها عليه، وأمسكها في نفسه، وقد كان هجاه فمما قاله فيه:
وليت لنا مكان الملك عمرو ... رغوثاً حول قبتنا تخور
وكان المتلمس قال في عمرو أيضاً شعراً كان يتوعده فيه، فبلغ ذلك عمراً، فهم عمرو بقتل المتلمس وطرفة، ثم أشفق من ذلك وأراد قتلهما بيد غيره، وكان على طرفة أحنق، فأراد قتله فعلم أنه إن فعل هجاه المتلمس، فكتب لهما كتابين إلى البحرين وقال لهما: إني قد كتبت لكما بصلة فخرجا من عنده والكتابان في يديهما، فمرا بشيخ جالس على ظهر الطريق متكشفاً لقضاء الحاجة، وهو مع ذلك يأكل ويتفلى. فقال أحدهما لصاحبه: هل رأيت أعجب من هذا الشيخ! فسمع الشيخ مقالته فقال: ما ترى من عجبي؟ أخرج خبيثاً وأدخل طيباً وأقتل عدواً، وإن أعجب مني لمن يحمل حتفه بيده وهو لايدري. فأوجس المتلمس في(6/38)
نفسه خيفة، وارتاب بكتابه. ولقيه غلام من أهل الحيرة فقال له: أتقرأ يا غلام؟ فقال: نعم. ففض خاتم كتابه ودفعه إلى الغلام فقرأه عليه، فإذا فيه: إذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه واصلبه حياً. وأقبل على طرفة فقال: تعلم والله لقد كتب فيك بمثل هذا، فادفع كتابك إلى الغلام يقرأه. فقال: كلا، ما كان يجسر على بمثل هذا. وألقى المتلمس كتابه في نهر الحيرة؛ ومضى طرفة بكتابه إلى صاحب البحرين، فأمر به المعلى بن حنش العبدي فقتله، وهرب المتلمس فلحق ببلاد الشام وهجا عمراً، وبلغ شعره عمراً فآلى إن وجده بالعراق ليقتلنه، فقال المتلمس من أبيات:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ... والحب يأكله في القرية السوس
فضرب المثل بصحيفة المتلمس.
قال الخليل بن أحمد: أحسن ما قاله المتلمس:
وأعلم علم حق غير ظن ... لتقوى الله من خير العتاد
فحفظ المال أيسر من بغاه ... وضرب في البلاد بغير زاد
وإصلاح القليل يزيد فيه ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
قال أبو عمرو بن العلاء: كانت العرب إذا أرادت أن تنشد قصيدة المتلمس توضؤوا لها:
تعيرني أمي رجال ولن ترى ... أخا كرم إلا بأن يتكرما
جرير ويقال حريز بن عتبة
ابن عبد الرحمن الحرستاني من أهل دمشق.
قال جرير: سمعت أبي يحدث الأوزاعي وأنا جالس قال: سمعت القاسم مولى يزيد بن معاوية يحدث عن أبي أمامة رضي الله عنه قال:(6/39)
كنت قاعداً مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رهط، فذكروا الشام ومن فيها من الروم. قال فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ستظهرون بالشام وتغلبون عليها وتصيبون من سيف بحرها حصناً يقال له أنفة يبعث الله منه يوم القيامة اثني عشر ألف شهيد. قال: فسمعت الأوزاعي يقول لأبي: لقد سمعت منك حديثاً جيداً ياشيخ.
جرير بن عطية بن الخطفى
واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة ابن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار أبو حزرة الشاعر بالحاء المهملة البصري قدم دمشق غير مرة، وامتدح يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان، وأمره في ذلك مشهور، وامتدح الوليد وسليمان ابني عبد الملك، وقدم على عمر بن عبد العزيز، وعلى يزيد بن عبد الملك.
قال عثمان البتي: رأيت جريراً وما تضم شفتاه من التسبيح فقلت: ما ينفعك هذا وأنت تقذف المحصنة! فقال: سبحان الله والحمد لله ولا اله إلا الله والله أكبر ولله الحمد، إن الحسنات يذهبن السيئات، وعد من الله حق.
قال ابن مناذر: قلت لابن هرمة: من أشعر الناس؟ قال: من إذا لعب لعب، وإذا جد جد. قلت: مثل من؟ قال: مثل جرير حيث يقول:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا(6/40)
قال الفرزدق لامرأته نوار: أنا أشعر أم ابن المراغة؟ قالت: غلبك على حلوه، وشركك في مره.
قال ابن سلمة: سألت الأسيدي - أخا بني سلمة - عن جرير والفرزدق فقال: بيوت الشعر أربعة، فخر ومديح وهجاء ونسيب، وفي كلها غلب جرير، فالفخر قوله:
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا
والمدح قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
والهجاء قوله:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
والنسيب قوله:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
قال الكلبي: أتى أعرابي عبد الملك بن مروان، فمدحه فأحسن المدحة، فأعجب به عبد الملك فقال له: من أنت يا أعرابي؟ قال: رجل من عذرة. قال: أولئك أفصح الناس. هل تعرف أهجا بيت في الإسلام؟ قال: قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فقال عبد الملك: أحسنت فهل تعرف أمدح بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح(6/41)
قال عبد الملك: أصبت وأحسنت، فهل تعرف أرق بيت قيل في الإسلام؟ قال: نعم، قول جرير:
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا
قال: أحسنت يا أعرابي، فهل تعرف جريراً؟ قال: لا والله، وإني إلى رؤيته لمشتاق، قال: فهذا جرير، وهذا الأخطل، وهذا الفرزدق، فأنشأ الأعرابي يقول:
فحيا الإله أبا حزرة ... وأرغم أنفك يا أخطل
وجد الفرزدق أتعس به ... ودق خياشيمه الجندل
فأنشأ الفرزدق يقول:
قد أرغم الله أنفاً أنت حامله ... يا ذا الخنا ومقال الزور والخطل
ما أنت بالحكم المرضى حكومته ... ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدل
ثم أنشأ الأخطل يقول:
يا شر من حملت ساق على قدم ... ما مثل قولك في الأقوام يحتمل
إن الحكومة ليست في أبيك ولا ... في معشر أنت منهم إنهم سفل
فقام جرير مغضباً وهو يقول:
شتمتما قائلاً بالحق مهتدياً ... عند الخليفة والأقوال تنتضل
أتشتمان سفاهاً خيركم حسباً ... ففيكما وإلهي الزور والخطل
شتمتماه على رفعي ووضعكما ... لا زلتما في انحطاط أيها السفل
قال: ثم وثب فقبل رأس الأعرابي وقال: يا أمير المؤمنين، جائزتي له. قال: وكانت(6/42)
جائزة جرير خمسة عشر ألفاً كل سنة. فقال عبد الملك: وله مثلها من مالي. فقبضها وخرج.
قال مروان بن أبي حفصة: جلس عبد الملك بن مروان يوماً للناس على سرير، وعند رجل السرير محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف، وجعل الوفود يدخلون عليه ومحمد بن يوسف يقول: يا أمير المؤمنين هذا فلان، هذا فلان، إلى أن دخل جرير بن الخطفى فقال: يا أمير المؤمنين هذا جرير بن الخطفى، قال فلا حيا الله القاذف المحصنات، العاضة لأعراض الناس، فقال جرير: يا أمير المؤمنين، دخلت فاشرأب الناس نحوي، ودخل قوم فلم يشرأب الناس إليهم، فقدرت أن ذلك لذكر جميل ذكرني به أمير المؤمنين. فقال عبد الملك: لما ذكرت لي قلت: لا حيا الله القاذف المحصنات، العاضة لأعراض الناس. فقال جرير: والله يا أمير المؤمنين، ما هجوت أحداً حتى أخبره غرضي سنة، فإن أمسك أمسكت، وإن أقام استعنت عليه وهجوته. فقال: هذا صديقك أبو مالك سلم عليه لهو الأخطل، فاعتنقه وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما هجاني أحد كان هجاؤه علي أشد من أمك. قال جرير: صدقت وخنازير أمك. فقال عبد الملك: أحضروا جامعة، فأحضرت، وغمز الوليد الغلام أن تأخر بها. فقال عبد الملك للأخطل: أنشد فأنشد:
تأبد الربع من سلمى بأحفار ... وأقفرت من سليمى دمنة الدار
حتى ختمها. فقال له عبد الملك: قضينا لك أنك أشعر من مضى ومن بقي.
واستأذنت قيس عبد الملك في أن ينشد جرير فأبى، ولم يزل مقيماً دهراً يلتمس إنشاد عبد الملك، وقيس تشفع له، وعبد الملك يأبى إلى أن أذن له يوماً فأنشد:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح ... عشية هم صحبك بالرواح(6/43)
فقال له عبد الملك: بل فؤادك يا بن اللخناء. فلما اتهى إلى قوله:
تعزت أم حزرة ثم قالت ... رأيت الموردين ذوي لقاح
تعلل وهي ساغبة بنيها ... بأنفاس من الشبم القراح
فقال عبد الملك: لا أروى الله غلمتها. فلما انتهى إلى قوله:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
قال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا هكذا. فلما ختمها أمره بإعادتها، فلما أنشد:
أتصحوا أم فؤادك غير صاح.............
لم يقل له ما قال في المرة الأولى. فلما ختمها، أمر له بمئة ناقة بأداتها ورعاتها. فقال جرير: يا أمير المؤمنين، اجعلها من إبل كلب - وإبل كلب سود كرام - فأجابه.
حدث محمد بن خطاب الأزدي أن الأخطل أنشد عبد الملك بن مروان وجرير خلفه:
وإني لقوام مقاوم لم يكن ... جرير ولا مولى جرير يقومها
فقال: أجل، صدق والله إنه ليقوم إلى الخمر فيشربها، وإلى الخنزير فيذبحه، وإلى الصليب فيقبله ويسجد له، وما أفعل ذلك ولا مولاي.
دخل جرير على بشر بن مروان والأخطل جالس عنده، فقال له بشر: أتعرف هذا يا أبا حزرة؟ قال: لا، فمن هو؟ قال الأخطل: أنا الذي شتمت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك، أنا الأخطل. فقال له جرير: أما قولك: شتمت عرضك، فما يضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك: أسهرت ليلك، فلو تركتني(6/44)
أنام لكان خيراً لك، وأما قولك: آذيت قومك، فكيف تؤذي قوماً أنت تؤدي لهم الجزية!.
قال عوانة بن الحكم: لما استخلف عمر بن عبد العزيز، وفد إليه الشعراء وأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينا هم كذلك يوماً وقد أزمعوا على الرحيل، إذ مر بهم رجاء بن حيوة، وكان من خطباء أهل الشام، فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشد:
يا أيها الرجل المرخي عمامته ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً. ثم مر بهم عدي بن أرطاة، فقال له جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن أنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي، ما لي وللشعراء! قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد امتدح وأعطى، ولك في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة، فقال: كيف! قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه. قال: أفتروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، فأنشده من أبيات:
رأيتك يا خير البرية كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا ... عن الحق لما أصبح الحق مظلما(6/45)
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم؟ قال: عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة. قال: أليس هو الذي يقول:
ثم نبهتها فهبت كعاباً ... طفلة ما تطيق رجع الكلام
ساعة ثم إنها بعد قالت ... ويلتا قد عجلت يا بن الكرام
أعل غير موعد حيث تسري ... تتخطى إلى رؤوس النيام
ما تجشمت ما ترين من الأمر ... ولا جئت طارقاً لخصام
فلو كان عدو الله إذ فجر كتم على نفسه. لا يدخل والله علي أبداً. فمن بالباب سواه؟ قال: همام بن غالب - يعني الفرزدق - قال: أوليس هو الذي يقول:
هما دلتاني من ثمانين قامة ... كما انقض باز أقتم الرأس كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيل نحاذره
لا يطأ والله بساطي، فمن بالباب منهم؟ قال: الأخطل. قال: هو الذي يقول:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بزائر بيتاً بعيداً ... بمكة أبتغي فيه صلاحي
ولست بقائم كالعير أدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد عند منبلج الصباح
والله لا يدخل علي وهو كافر أبداً. فهل بالباب سوى من ذكرت؟ قال: نعم، الأحوص. قال: أليس هو الذي يقول:
الله بيني وبين سيدها ... يفر مني بها وأتبعه(6/46)
عد عنه، فما هو بدون من ذكرت. فمن ها هنا؟ قلت: جميل بن معمر. قال: هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا جميعاً وإن نمت ... يوافق في الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ... إذا قيل قد سوى عليها صفيحها
فلو كان عدو الله تمنى لقاءها في الدنيا ليعمل بعد ذلك صالحاً. والله لا يدخل علي أبداً. فهل سوى من ذكرت أحد؟ قال: نعم، جرير بن عطية. قال: هو الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فأن كان لا بد فهو. قال: فأذن لجرير، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووفاؤه ... حتى ارعوى وأقام ميل المائل
إني لأرجو منك خيراً عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير، اتق الله ولا تقل إلا حقاً. فأنشأ جرير يقول:
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني ما بلغت من خبري
كم باليمامة من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن به ... خبلاً من الجن أو مساً من النشر
خليفة الله ماذا تأمرون بنا ... لسنا إليكم ولا في دار منتظر(6/47)
ما زلت بعدك في هم يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال: يا جرير: ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين، أنا ابن سبيل ومنقطع بي، فأعطاه من صلب ماله مئة درهم.
وذكر أنه قال له: ويحك يا جرير! لقد ولينا هذا الأمر وما نملك إلا ثلاث مئة درهم، فمئة أخذها عبد الله، ومئة أخذتها أم عبد الله. يا غلام، أعطه المئة الثالثة. فأخذها وقال: والله لهي أحب ما اكتسبته إلي.
قال: ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين، وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض. وأنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وفي سنة إحدى عشرة ومئة توفي الفرزدق بن غالب الشاعر بالبصرة، وتوفي بعده بأربعين يوماً جرير بن الخطفى. وقيل في سنة عشر.
قال الأصمعي: حدثني أبي قال: رأى رجلاً جريراً في المنام فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بتكبيرة كبرتها على ظهر المقر. قال: ما حول الفرزدق؟ قال: إيهاً، وأهلكه قذف المحصنات. قال الأصمعي: ما تركه جرير في المحيا ولا في الممات.(6/48)
جرير بن غطفان بن جرير أبو القاسم
حدث عن عفان بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي ".
وحدث عنه بسنده إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من سأل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار ".
توفي جرير بن غطفان بدمشق، ليلة السبت مستهل المحرم، سنة ست وستين ومئتين.
جسر بن الحسن
من أهل اليمامة قدم الشام.
حدث عن نافع عن ابن عمر قال: كنا نفضل على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر وعمر وعثمان ثم لا نفضل أحداً على أحد.
وحدث جسر عن الحسن البصري أن رجلاً لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: مرحباً بسيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السيد الله تبارك وتعالى ".
قال جسر بن الحسن: رأيت عمر بن عبد العزيز يبكي حتى نفد الدمع، ثم رأيته يبكي الدم. ضعفه قوم.(6/49)
جعثل بن هاعان بن عمرو بن البثوث
أبو سعيد الرعيني القتاني المصري قاضي إفريقية. وفد على هشام بن عبد الملك، وتوفي في خلافته قريباً من سنة خمس عشرة ومئة.
روى عن أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر، أن أخت عقبة نذرت في ابن لها أن تحج حافية بغير خمار، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لتخرج راكبة مختمرة، ولتطعم ".
وفي حديث بمعناه: ولتصم ثلاثة أيام.
في رواية أخرى، فقال: مرها فلتركب، فإن الله عن تعذيب أختك لغني.
كان قاضي الجند بإفريقية لهشام بن عبد الملك، وكان عمر بن عبد العزيز أخرجه من مصر إلى المغرب ليقرئهم القرآن، وكان أحد القراء الفقهاء.
جعد بن درهم
أول من قال بخلق القرآن. كان يسكن دمشق، وله بها دار، وهو الذي ينسب إليه مروان بن محمد، لأنه كان معلمه. وقيل إنه كان من أهل حران، هو الذي قتله خالد بن عبد الله القسري بالكوفة يوم الأضحى، وكان أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد، فطلبه بن أمية فهرب من دمشق وسكن الكوفة، ومنه تعلم الجهم بن صفوان بالكوفة(6/50)
خلق القرآن، وهو الذي تنسب الجهمية إليه، وقتله سلم بن أحوز بأصبهان.
سئل أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الغسيلي: من أين كان جهم؟ قال: من ترمذ، وكان يذهب في بدء أمره، ثم صار صاحب جيش الحارث بن سريج بمرو، فقتله سلم بن أحوز في المعركة وقبره بمرو. وسئل: ممن أخذ ابن أبي دؤاد؟ فقال: من بشر المريسي، وبشر المريسي أخذه من جهم بن صفوان، وأخذه جهم من الجعد بن درهم، وأخذه جعد بن درهم من أبان من طالوت ابن أخت لبيد وختنه، وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم، اليهودي الذي سحر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان لبيد يقرأ القرآن، وكان يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان طالوت زنديقا وأفشى الزندقة، ثم أظهره جعد بن درهم، فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة، وكان خالد واليا عليها، أتي به في الوثاق حتى صلى وخطب، ثم قال في آخر خطبته: انصرفوا وضحوا تقبل الله منا ومنكم، فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم، فإنه يقول ما كلم الله موسى تكليما، ولا اتخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علواً كبيراً، ثم نزل وحز رأسه بيده بالسكين.
جعفر بن أحمد بن الحسين أبو الفضل
المقرئ المعروف بابن كرار الضرير الثقفي مولى بني هبار. وبنو هبار موالي أبي الخليل، وبنو أبي الخليل موالي بني ثقيف.
حدث عن محمد بن إسماعيل بن علية بسنده عن أنس " أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رآى نخامة في قبلة المسجد فحكها بيده، فرئي في وجهه شدة(6/51)
ذلك عليه فقال: إن أحدكم إذا صلى فإنما يناجي ربه إن ربه فيما بينه وبين القبلة، فإذا بصق أحدكم فليبصق عن يساره أو تحت قدمه، أو يفعل هكذا، ثم يبصق في ثوبه ويدلك بعضه ببعض. " وحدث أيضاً عن محمد بن عبد الرحمن بسنده عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
في قوله عز وجل: " وإبراهيم الذي وفى " قال: صلاة أربع ركعات من أول النهار. وفي قوله " إن الإنسان لربه لكنود " قال: لكفور.
جعفر بن أحمد بن الحسين
أبو محمد، القارئ المعروف بالسراج البغدادي حدث عن الحسن بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يهرم ابن آدم وتبقى منه اثنتان الحرص والأمل.
ولد سنة ست عشرة، أو سبع عشرة وأربع مائة، وتوفي سنة خمس مائة، وقبل سنة إحدى، وقيل: سنة اثنتين وخمس مائة.
وله شعر وتصانيف.(6/52)
جعفر بن أحمد بن عاصم بن الروّاس
أبو محمد الأنصاري الدمشقي حدث عن هشام بن عمار بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " كان فيما قبلكم رجل يأتي وكر طائر إذا أفرخ، فيأخذ فرخيه، فشكا ذلك الطير إلى الله عز وجل ما يصنع ذلك الرجل، فأوحى الله إليه إن عاد فسأهلكه، فلما أفرخ خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، وأسند سلما، فلما كان في طرف القرية لقيه سائل فأعطاه رغيفا من زاده، ومضى حتى أتى ذلك الوكر فوضع سلمه، ثم صعد فأخذ الفرخين وأبواهما ينظران، فقالا: ألا يا رب، إنك وعدتنا أن تهلكه إن عاد، وقد عاد فأخذهما ولم تهلكه، فأوحى الله إليهما: أولم تعلما أني لا أهلك أحداً تصدق في يوم بصدقة ذلك اليوم بميتة سوء؟ ".
توفي جعفر بن أحمد بن عاصم سنة سبع وثلاث مئة.
جعفر بن أحمد بن أبي عبد الرحمن
أبو محمد الشاماتي النيسابوري من أهل ربع الشامات من أرباع رستاق نيسابور. رحل وسمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بدمشق بسنده عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً أتى بابنته إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: هذه ابنتي تأبى أن تزوج، فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أطيعي أباك. فقالت: لا، حتى تخبرني ما حق الزوج على زوجته، تعني؛ فقال: لو كانت به قرحة فلحستها ما أدت حقه. قالت: والذي بعثك بالحق ما أتزوج أبدا. فقال: لا تنكحوهن إلا بإذنهن. " قال جعفر بن أحمد الشاماتي: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن كتب الحديث(6/53)
قويت حجته، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
توفي جعفر بن أحمد الشاماتي في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وقيل: سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
جعفر بن أحمد بن علي بن بنان
ابن زيد بن شبابة أبو الفضل الغافقي المصري قدم دمشق.
حدث عن يحيى بن عبد الله بن بكر المخزومي بسنده عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله.
وحدث عن سعيد بن عفير بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة طعمة. " قال أبو أحمد بن عدي: وهذا الحديث مع أحاديث أخر بهذا الإسناد، مقدار عشرين حديثا " حدثنا بها جعفر كلها غير محفوظة، وكنا نتهمه بوضعها.
وكان جعفر رافضيا كذابا خبيثا، وكان قليل الحياء في دعاويه على قوم لعلة لم تلحقه، وكان يضع الحديث على أهل البيت، وكان يعرف بابن الماسح.(6/54)
جعفر بن أحمد ويقال ابن محمد
أبو محمد ويقال أبو الفضل المروروذي.
حدث عن عبد العزيز بن بندار الشيرازي قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن الخضر القارىء رحمه الله يقول: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم، فعلمني هذا الدعاء، وأمرني أن أعلم الناس، وهو هذا: إلهي بثبوت الربوبية، وبعظمة الصمدانية، وبسطوات الإلهية، وبعزة الفردانية إلا غفرت لي ياأرحم الراحمين.
أنشد جعفر بن محمد المروروذي قال: أنشدنا أحمد بن محمد بن ابراهيم قال: أنشدنا أبو بكر بن مالك القطيعي لبعضهم:
ما أكثر الناس لابل ما أقلهم ... الله يعلم أني لم أقل فندا
إني لأفتح عيني حين أفتحها ... على كثير ولكن لا أرى أحدا
جعفر بن إياس أبو بشر ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي
حدث عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو محرم على بعير فوقصه بعرفات. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اغسلوه بماء، وسدر، وكفنوه في ثوبيه خارجا رأسه، ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا.
وحدث عنه أيضا له قال: مر ابن عمر بفتيان قد نصبوا طائراً وهم يرمونه، وقد جعلوا لصاحبه كل خاطئة من(6/55)
نبلهم، فلما رأوا ابن عمر تفرقوا فقال ابن عمر: من فعل هذا؟! لعن الله من فعل هذا، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا.
وحدث عنه أيضا عن ابن عباس قال: أتى رجل الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وأنها ماتت يعني ولم تحج. قال: أرأيت لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فالله أحق بالوفاء.
قال أبو بشر: سمعت يزيد بن أبي كبشة يخطب بالشام، قال: سمعت رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث عبد الملك بن مروان أنه قال في الخمر: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الخمر: إن شربها فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، ثم إن عاد الرابعة فاقتلوه.
توفي جعفر بن إياس سنة خمس وعشرين ومائة، وكان ثقة، كثير الحديث، وقيل: سنة ثلاث وعشرين، وقيل: أربع وعشرين، وقيل خمس عشرة ومائة، وقيل: كان ساجدا خلف المقام حين مات.
جعفر بن برقان أبو عبد الله الكلابي مولاهم الرقي
حدث عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تظهر الفتن ويكثر الهرج. قلنا: وما الهرج؟ قال: القتل القتل، ويقبض العلم. فسمعها عمر بن الخطاب من أبي هريرة يأثرها عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: إن قبض العلم ليس بشيء ينتزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء.
وحدث بسنده عنه أيضا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لقد هممت أن آمر بالصلاة، ثم آمر فتيتي فيجمعوا حزم الحطب، ثم أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة.
وحدث عن الزهري، عن سالم، عن أبيه قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن لبستين: الصماء وهو أن يلتحف الرجل في الثوب الواحد، ثم(6/56)
يرفع جانبه عن منكبه، ليس عليه ثوب غيره، ويحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس بينه وبين السماء، يعني: سترا. ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن نكاحين: أن تتزوج المرأة على عمتها أو على خالتها. ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مطعمين: الجلوس على مائدة يشرب عليها الخمر، أو يأكل الرجل وهو مسطح على بطنه. ونهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن بيعتين: عن المنابذة وعن الملامسة وهي بيوع كانوا يتبايعون بها في الجاهلية.
قال كثير: سألت جعفراً: ما المنابذة والملامسة؟ قال: المنابذة إذا نبذت إليك هو لك بكذا وكذا، والملامسة أن يغطي الرجل الشيء ثم يلمسه المشتري بيده وهو مغطى لا يراه.
وحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدرتني إليه حفصة وكانت بنت أبيها فقالت: يا رسول الله، كنا صائمتين اليوم، فعرض لنا طعام اشتهيناه فأكلنا منه. فقال: اقضيا يوما آخر.
كان جعفر ثقة صدوقا، له رواية وفقه وفتوى، وكان ينزل الرقة، ومات بها سنة أربع وخمسين ومائة، في خلافة أبي جعفر. وكان أميا لا يكتب، فليس هو مستقيم الحديث. وكان ضعيفا في روايته عن الزهري.
جعفر بن الحسن بن العباس بن الحسن
ابن الحسين وهو أبو الحسن بن علي بن محمد بن علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي أبو القاسم بن محمد الحسيني المعروف بولي الدولة.
حدث عن سهل بن بشر بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.(6/57)
ولد أبو القاسم في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربع مائة، وتوفي في ربيع الأول سنة خمس وعشرين وخمس مائة.
جعفر بن الحسين أبو الفضل الصيداوي
يعرف بابن الخراساني حدث عن أبي الحسن علي بن الحسن بن عمر الثمانيني القرشي، بسنده عن ابن عباس ن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من قبل بين عيني أمه كان له سترا من النار.
توفي في شوال سنة ثمان وستين وأربع مئة.
جعفر بن حميد بن عبد الكريم
ابن فروخ بن ديزح بن بلال بن سعد الأنصاري الدمشقي حدث عن جده لأمه عمر بن أبان بن مفضل المدني قال: أراني أنس بن مالك أخذ ركوة فوضعها عن يساره، وصب على يده اليمنى فغسلها ثلاثاً، ثم أراد الركوة على يده اليمنى، فتهيأ فتوضأ ثلاثاً، ومسح برأسه ثلاثاً، وأخذ ماءً جديدا لسماخيه فمسح سماخه، فقلت له: قد مسحت أذنيك، فقال: ياغلام، إنهما من الرأس ليس هما من الوجه. ثم قال: يا غلام، هل رأيت وفهمت أم أعيد عليك؟ فقلت: قد كفاني، وقد فهمت. فقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ.(6/58)
جعفر بن الزبير الحنفي
ويقال الباهلي دمشقي سكن البصرة.
حدث عن القاسم عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس مجلساً فأراد أن يقوم، استغفر عشراً إلى خمس عشرة، وحدث عنه أيضاً أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أسلم على يدي رجل فله ولاؤه.
وحدث عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله خلق الخلق، وقضى القضية، وأخذ ميثاق النبيين، وعرشه على الماء، فأهل الجنة أهلها، وأهل النار أهلها.
وحدث عنه أيضاً قال: أعتق رجل في وصيته ستة أرؤس لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتغيظ عليه، ثم أسهم عليهم فأخرج ثلثهم.
قال يزيد بن هارون: كان جعفر بن الزبير وعمران بن جرير في مسجد واحد مصلاهما، وكان الزحام على جعفر بن الزبير، وليس عند عمران أحد، وكان شعبة يمر بهما فيقول: يا عجبا للناس! اجتمعوا على أكذب الناس، يعني جعفراً، وتركوا أصدق الناس، يعني: عمران. قال يزيد: فما أتى علينا إلا القليل حتى رأيت ذلك الزحام على عمران، وتركوا جعفراً وليس عنده أحد.
قال غندر: رأيت شعبة راكبا على حمار، فقيل له: أين تريد يا أبا بسطام؟ قال: أذهب فأستعدي على هذا، يعني: جعفر بن الزبير، وضع على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مائة حديث كذب، خذوا به، فإنه يكذب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/59)
حدث معاذ بن معاذ قال: حدثني قرة بن خالد قال: عندنا امرأة في الحي عرج بروحها، فمكثت سبعاً لا ترجع، إلا أنهم يجدون عرقا ضارباً من وريدها. قال: ثم رجعت. قال: وقد كان جعفر بن الزبير مات في تلك الأيام. قالت: رأيته في سماء الدنيا وأهل الأرض والملائكة يتباشرون به أعرفه في أكفانه، وهم يقولون: قد جاء المحسن. قال لي قرة: اذهب فاسمعه منها. قلت: وما أصنع إن أسمعه منها وقد حدثتنيه!.
قال: وكان جعفر صاحب عهر وهو شاب، فلما أسن وكبر اجتهد في العبادة.
جعفر بن سعيد بن جعفر البعلبكي
حدث عن أبي عمرو بن أبي غرزة بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
من أكل الطين حوسب على مانقص من لونه، ونقص من جسمه.
جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله
ابن العباس بن عبد المطلب الهاشمي ولد بالشراة من أرض البلقاء، وولي إمرة المدينة في خلافة المنصور، ثم عزله بالحسن بن زيد بن الحسن بن علي، ثم ولي مكة والمدينة واليمامة والطائف، ثم ولي البصرة للرشيد.
قال الأصمعي: ما رأيت أكرم أخلاقاً، ولا أشرف أفعالاً من جعفر بن سليمان.
حدث عن أبيه، عن أبي قلابة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من أخذ بركاب رجل لا يرجوه ولا يخافه غفر له ".(6/60)
وحدث عن أبيه بسنده عن أبيه عن جده عن أبيه علي بن عبد الله بن العباس قال: سمعت أبي يقول: سألت علي بن أبي طالب: لم لم يكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان، وبراءة أنزلت بالسيف ليس فيها أمان.
حدث احمد بن القاسم أن جعفر بن سليمان الهاشمي قال: حدثني أبي قال: عطست بين يدي جدك جعفر بن سليمان. قال فشمتني، فقلت: يغفر الله لك. فقال لي: يا بني لا تفعل، أخبرني أبي علي بن عبد الله بن عباس أنه عطس بين يدي أبيه عبد الله بن عباس فشمته، فقال له: لا تفعل، فإن ابن عباس قال: عطست بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت يغفر الله لك، فقال: لا تفعل. فقلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قل يهديكم الله ويصلح بالكم.
قال الزيادة: كان الخليل بن أحمد صديقاً لجعفر بن سليمان الهاشمي، فجاء يوما ايدخل إليه فوجد على بابه الشعراء قد أنشدوه، وقبل أشعارهم وما جهز جوائزهم، فشكوا ذلك غليه وسألوه تذكاره، فدخل إليه وأنشده:
لا تقبل، الشعر ثم تعقه ... فتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم يبقى على الأيام
وقد رويت هذه الأبيات لابن الرومي.
قال أبو خليفة: كان جعفر بن سليمان الهاشمي له بالبصرة كل يوم غلة ثمانين ألف درهم، فبعث إلى علماء أهل البصرة يستشيرهم في امرأة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة العدوية فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الذي هو ملكي من غلة الدنيا في كل يوم ثمانون ألف درهم، وليس يمضي إلا القليل حتى أتمها مائة ألف إن سألته. وأنا أخطبك نفسك، وقد بذلت لك من الصداق مائة ألف. وأنا مصير إليك من بعده أمثالها فأجيبي.
فكتبت إليه: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب(6/61)
والبدن، والرغبة فيها يورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي فهيئ زادك، وقدم لمعادك، وكن وصي نفسك، ولا تجعل وصيك غيرك، وصم دهرك، واجعل الموت فطورك، فما يسرني أن الله عز وجل خولني أضعاف ما خولك، فيشغلني بك عنه طرفة عين والسلام.
قال الأصمعي: سمعت جعفر بن سليمان يقول: ماساد منا إلا سخي على الطعام. قال: كنت أتغذى مع جعفر على مائدته فجاء الطباخ بصحفة ليضعها واستعجل الطباخ، فزلقت الصحفة من يده في حجر جعفر بن سليمان وعليه جبة خز نفيسة، قال: فكان بعض من كان على المائدة أغرى بالطباخ فقال جعفر: ما أراد البائس إلا خيرا إنما أراد أن يتقرب إلى قلوبنا، خذ يا غلام الجبة، ودفعها إليه.
كان جعفر بن سليمان حيا إلى سنة أربع وسبعين ومئة.
جعفر بن أبي طالب عبد مناف
ابن عبد المطلب بن هاشم الطيار ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسلم وهاجر الهجرتين، واستعمله نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على غزوة مؤتة بعد زيد بن حارثة، واستشهد بها. ومؤتة بأرض البلقاء.
قالت أم سلمة: لما ضاقت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، وأوذي أصحابه، وقنتوا، ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحداً عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه، فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش ظلماً. فلما رأت قريش أنا قد أصبنا داراً وأمناً، اجتمعوا(6/62)
على أن يبعثوا إليه فينا ليخرجونا من بلاده، وليردنا عليهم. فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، فجمعوا له هدايا ولبطارقته، فلم يدعوا منهم رجلاً إلا بعثوا له هدية إلى حدة، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا فيهم، ثم ادفعوا إليه هدايا، وإن استطعتما أن يردهم عليكم قبل أن يكلمهم فافعلوا. فقدما عليما، فلم يبق بطريق من بطارقته إلا قدموا إليه هديته، فكلموه، فقالوا له: إنا قدمنا على هذا الملك في سفهاء من سفهائنا، فارقوا أقوامهم في دينهم، ولم يدخلوا في دينكم فبعثنا قومهم ليرهم الملك عليهم، فإذا نحن كلمناه فأشيروا عليه بأن يفعل، فقالوا: نفعل. ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، فكان من أحب ما يهدى إليه من مكة الأدم. فلما أدخلوا عليه هداياه فقالوا له: أيها الملك إن فتية منا سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه، وقد لجؤوا إلى بلادك فبعثنا إليك فيهم عشائرهم، آباؤهم وأعمامهم وقومهم لترهم عليهم، فهم أعلى بهم عينا. فقالت بطارقته: صدقوا أيها الملك، ولو رددتهم عليهم كانوا هم أعلى بهم، فإنهم لم يدخلوا في دينك فيمنعهم أملك. فغضب، ثم قال: لا لعمر الله، لا أردهم عليهم حتى أدعوهم وأكلمهم وأنظر ما أمرهم، قوم لجؤوا إلى بلادي، واختاروا جواري على جوار غيري، فإن كانوا كما تقولون رددتهم عليهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم، ولم أدخل بينهم وبينهم، ولم أنعمهم عينا. فأرسل إليهم النجاشي فجمعهم، ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة من أن يسمع كلامهم، فلما جاءهم رسول النجاشي اجتمع القم فقال: ماذا تقولون؟ فقالوا: وماذا نقول! نقول والله ما نعرف وما نحن عليه من أمر ديننا، وما جاء به نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائن من ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه كان الذي يكلمه منهم جعفر بن أبي طالب، فقال له النجاشي: ما هذا الدين الذي أنتم عليه؟ فارقتم دين قومكم ولم تدخلوا في يهودية ولا نصرانية فما هذا الدين؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا قوما على الشرك نعبد الأوثان نأكل الميتة، ونسيء الجوار، ونستحلّ المحارم بعضنا من بعض في سفك الدماء وغيرها، لانحلّ شيئاً ولا نحرّمه، فبعث الله إلينا نبياً من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته، فدعانا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونصل الرحم، ونحسن الجوار، ونصلّي لله تعالى، ونصوم له،(6/63)
ولا نعبد غيره. قال: فقال: هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم فنشروا المصاحف حوله، فقال له جعفر: نعم. فقال: هلمّ فاتل عليّ ما جاء به. فقرأ عليه صدراً من " كهيعص " فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم. ثم قال: إن هذا الكلام ليخرج من المشكاة التي جاء بها المشكاة التي جاء بها موسى؛ انطلقوا راشدين، لا والله لا أردهم عليهم، ولا أنعمكم عينا. فخرجنا من عنده، وكان أتقى الرجلين فينا عبد الله بن أبي ربيعة. فقال عمرو بن العاص: والله لأثنينه غداً بما أستأصل به خضراءهم، فلأخبرنه أنهم يزعمون أن إلهه الذي يعبد عيسى بن مريم عبد، فقال له عبد الله بن أبي ربيعة: لا تفعل، فإنهم وإن كانوا خلفونا فإن لهم رحماً ولهم حقاً، فقال: والله لأفعلن. فلما كان الغد دخل عليه فقال: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عنه، فبعث إليهم ولم ينزل بنا مثلها. فقال بعضنا لبعض8: ماذا تقولون له في عيسى إن هو سألكم عنه؟ فقال: نقول والله الذي قاله الله تعالى، والذي أمرنا به نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نقول فيه؛ فدخلوا عليه وعنده
بطارقته، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي - والشيوم الآمنون - من سبّكم غرم، ثم من سبّكم غرم، ثم من سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دبرا وأني آذيت رجلاً منكم - والدبر بلسانهم الذهب - فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي. فرجعا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به. فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار. هـ، فقال: ما تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر: نقول: هو عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول، فدلى النجاشي يده إلى الأرض، فأخذ عوداً بين أصبعيه فقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العويد، فتناخرت بطارقته، فقال: وإن تناخرتم والله، اذهبوا، فأنتم شيوم في أرضي - والشيوم الآمنون - من سبّكم غرم، ثم من سبّكم غرم، ثم من سبّكم غرم، فأنا ما أحب أن لي دبرا وأني آذيت رجلاً منكم - والدبر بلسانهم الذهب - فوالله ما أخذ الله تعالى مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لي بها، واخرجا من بلادي. فرجعا مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به. فأقمنا مع خير جار، وفي خير دار.
فلم ينشب أن خرج عليه رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فوالله ما علمنا حزناً حزنّا قط كان أشد منه فرقاً من أن يظهر ذلك الملك عليه، فيأتي ملك لا يعرف من حقنا ما كان يعرفه، فجعلنا ندعو الله ونستنصره للنجاشي، فخرج إليه سائراً فقال أصحاب(6/64)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض: من رجل يخرج فيحضر الوقعة حتى ننظر على من تكون؟ فقال الزبير وكان من أحدثهم سناً: أنا، فنفخوا له قربة، فجعلها في صدره، ثم خرج يسبح عليها في النيل حتى خرج من شقه الآخر إلى حيث التقى الناس، فحضر الوقعة، فهزم الله ذلك الملك وقتله، وظهر النجاشي عليه. فجاءنا الزبير فجعل يليح إلينا بردائه ويقول: ألا أبشروا، فقد أظهر الله تعالى النجاشي، فوالله ما علمنا فرحنا بشيء قط فرحنا بظهور النجاشي، ثم أقمنا عنده حتى خرج من خرج منا راجعاً إلى مكة، وأقام من أقام.
ومعنى قوله: ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه، حدثت عائشة: أن أباه كان ملك قومه، وكان له أخ من صلبه له اثنا عشر رجلاً، ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنا قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإن له اثني عشر رجلاً من صلبه، فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة دهراً طويلاً لايكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملّكوا أخاه، فدخل النجاشي لعمه حتى غلب عليه فلا يدبر أمره غيره، وكان لبيباً. فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه، فما يأمن أن يملكه علينا، وعرف أنا قد قتلنا أباه، فإن فعل لم يدع منا شريفاً إلا قتله، فكلموه فيه فليقتله أو ليخرجنه من بلادنا، فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رابنا مكان هذا الفتى منك، وقد عرفت أنا قد قتلنا أباه وجعلناك مكانه، فلا نأمن إن تملك علينا فيقتلنا فإما أن تقتله، وإما أن تخرجه من بلادنا. قال: فقال: ويحكم، قتلتم أباه بالأمس، وأقتله اليوم! بل أخرجه من بلادكم، فخرجوا به فوقفوه بالسوق، وباعوه من تاجر من التجار، فقذفه في سفينة بست مائة درهم أو بسبع مائة درهم فانطلق به، فلما كان العشيّ هاجت سحابة من سحاب الخريف، فخرج عمه يتمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته، ففزعوا إلى ولده فإذا هم محمقين ليس في واحد منهم خير، فمرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم: تعلمون والله أن ملككم الذي لا يصلح أمركم غيره الذي يعتم الغداة، فإن كان لكم بأمر الحبشة حاجة فأدركوه قبل أن يذهب، فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فردوه، فعقدوا عليه تاجه وأجلسوه على سريره وملكوه، فقال التاجر:(6/65)
ردوا عليّ مالي كما أخذتم مني غلامي؛ فقالوا: لانعطيك. فقال: إذاً والله أكلمه فقالوا: وإن. فمشى إليه فكلمه فقال: أيها الملك إني ابتعت غلاماً فقبض مني الذي باعونيه ثمنه، ثم عدوا على غلامي فنزعوه من يدي ولم يردوا علي مالي، فكان أول ما خبر من صلابة حكمه وعدله أن قال: لتردّن عليه ماله، فأعطوه إباه. فلذلك يقول: ما أخذ الله مني الرشوة فآخذ الرشوة فيه حين ردّ علي ملكي، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.
وجعفر وعلي وعقيل بنو أب طالب، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وكنيته أبو عبد الله، وهو ذو الجناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء صاحب الهجرتين، اسلم بعد أحد وثلاثين إنساناً، يقال له: جعفر الطيار، قتل يوم مؤتة شهيداً.
وروي عن الحسن بن زيد: أن علياً عليه السلام أول ذكر أسلم، ثم أسلم زيد بن حارثة رضي الله عنه حبّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان أبو بكر رضي الله عنه الرابع في الإسلام أو الخامس.
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: بينما أنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حير لأبي طالب أصلي أشرف علينا أبو طالب فنظر إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا عم ألا تنزل فتصلي معنا؟ فقال؟ يا بن أخي، إني لأعلم أنك على الحق، ولكن اكره أن أسجد فيعلو استي، ولكن انزل يا جعفر فصل جناح ابن عمك. قال: فنزل فصلى عن يساري. فلما قضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته التفت إلى جعفر فقال: أما إن الله تعالى قد وصلك بجناحين تطير بهما في الجنة، كما وصلت جناح ابن عمك.
حدث صلصال بن الدّلهمس قال: كان أبي يعني الدلهمس لأبي طالب ولده، فكان الذي بينهما في الجاهلية عظيم، قكان أبي يبعثني إلى مكة لأنصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي طالب قبل إسلامي، فكنت(6/66)
أقيم بمكة الليالي عند أبي طالب لحراسة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قومه، فإني يوم من الأيام جالس بالقرب من منزل أبي طالب في الظهيرة وشدة الحر، إذ خرج أبو طالب شبيها بالملهوف فقال لي: يا أبا العصيفر، هل رأيت هذين الغلامين فقد ارتبت بإبطائهما عليّ، فقلت: ما أحسست لهما خبرا منذ جلست، فقال: انهض بنا فنهضت وإذا جعفر بن أبي طالب يتلو أبا طالب، قال: فاقتصصنا الأثر حتى خرج بنا من أبيات مكة، قال: ثم علونا جبلاً من جبالها فأشرفنا منه على أكمة دون ذلك التل، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليا قائما عن يمينه، ورأيتهما يركعان ويسجدان قبل أن أعرف الركوع والسجود، ثم انتصبا قائمين فقال أبو طالب لجعفر: أي بني، صل جناح ابن عمك، قال: فمضى جعفر مسرعاً حتى وقف بجنب علي. فلما أحس به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخرهما وتقدم، وأقمنا موضعنا حتى انقضى ما كانوا فيه من صلاتهم، ثم التفت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرآنا بالموضع الذي كنا فيه، فنهض ونهضنا معه مقبلين، فرأينا السرور يتردد في وجه أبي طالب ثم انبعث يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي ... عند مهم الأمور والكرب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما ... وابن أمي من بينهم وأبي
والله لا أخذل النبي ولا ... يخذله من بني ذو حسب
قال: فلما آمنت به ودخلت في الإسلام، سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تيك الصلاة فقال: نعم، يا صلصال هي أول جماعة كانت في الإسلام.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر بن أبي طالب: " إن الله تعالى أوحى إلي أنه شكرك على أربع خصال، كنت عليهن مقيما قبل أن يبعثني الله، فماهن؟ " قال له جعفر: بأبي أنت وأمي، لولا أن الله أنبأك بهن ما أنبأتك عن نفسي كراهية التزكية، إني كرهت عبادة الأوثان لأني رأيتها لا تضر ولا تنفع، وكرهت الزناء لأني رأيتها ... أن ... إلي، وكرهت شرب الخمر لأني رأيتها منقصة للعقل، وكنت إلى أن أزيد في عقلي أحب إلي من أن أنقصه، وكرهت الكذب لأني رأيته دناءة.(6/67)
وعن محمد بن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خلق الناس من أشجار شتى، وخلقت أنا وجعفر من طينة واحدة ".
وعنه قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجعفر يوم بدر بسهمه وأجره.
وعن علي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن لكل نبي سبعة نقباء نجباء يعني: وإني أعطيت أربعة عشر، فعدني، وابني، وحمزة، وجعفراً، وأبا بكر وعمر، وابن مسعود، وحذيفة، والمقداد، وسلمان، وعماراً، وبلالاً، وأبا ذر ".
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نحن بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر ذو الجناحين، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين ".
وفي رواية أخرى: " نحن سبعة بنو عبد المطلب سادات أهل الجنة، أنا، وعلي أخي، وعمي حمزة، وجعفر، والحسن والحسين، والمهدي ".
وعن علي رضي الله عنه قال: قدم جعفر من أرض الحبشة في يوم فتح خيبر، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين عينيه وقال: " ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً، أبفتح خيبر أم بقدوم جعفر ".
قال علي بن يونس المديني: كنت جالساً في مسجد مالك بن أنس، حتى إذا استأذن عليه سفيان بن عينية قال مالك: رجل صالح وصاحب سنة، أدخلوه. فلما دخل، سلم ثم قال: السلام خاص وعام، السلام عليك أبا عبد الله ورحمة الله وبركاته. فقال له مالك: وعليك السلام أبا محمد ورحمة الله وبركاته، وقام إليه وصافحه وقال: لولا أنه بدعة لعانقتك. قال سفيان: قد عانق من هو خير مني من هو خير مني ومنك. فقال له مالك: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعفراً؟ قال له سفيان: نعم، فقال مالك ذاك حديث خاص ليس بعام. فقال له:(6/68)
ما عم جعفراً يعمنا، وما خصه يخصنا، إذا كنا صالحين، ثم قال له سفيان: يا أبا عبد الله أتأذن لي أن أحدث في مجلسك؟ فقال له مالك: نعم، فقال: سفيان: اكتبوا: حدثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس أن جعفر بن أبي طالب لما قدم من أرض الحبشة، تلقاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعتنقه، وقبل ما بين عينيه وقال: " مرحباً بأشبههم بي خلقاً وخلقاً ".
وعن جابر رضي الله عنه قال: لما قدم جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة، تلقاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما نظر جعفر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجل - مشى على رجل واحدة - إعظاماً منه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين عينيه وقال: " يا حبيبي، أنت أشبه الناس بخلقي وخلقي، وخلقت من الطينة التي خلقت منها ". حدثني ببعض عجائب أرض الحبشة قال: نعم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، بينا أنا سائر في بعض طرقاتها إذا بعجوز على رأسها مكتل، فأقبل شاب يركض على فرس له فرجمها فألقاها لوجهها وألقى المكتل عن رأسها، فاسترجعت قائمة، وأتبعته النظر وهي تقول: الويل لك غداً إذا جلس الملك على كرسيه فاقتص للمظلوم من الظالم. قال جابر، فنظرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن دموعه على لحيته مثل الجمان، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا قدس الله أمة لا تأخذ للمظلوم حقه من الظالم غير متعتع ".
وكان قدوم جعفر من الحبشة سنة سبع.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما صدرنا من مكة إذا ابنة حمزة تنادي: يا عم يا عم، فتناولها فأخذها، فقال لفاطمة: دونك ابنة عمك فحملتها، فاختصم فيها علي وجعفر وزيد، قال علي: أنا آخذ بها وهي ابنة عمي، قال جعفر: ابنة عمي وخالتها عندي، وقال زيد: ابنة أخي. فقضى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخالتها وقال: " الخالة بمنزلة الأم. وقال لعلي: أنت مني وأنا منك. وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي. وقال: يا زيد، أنت أخونا ومولنا ". قال علي: يا رسول الله، ألا تزوج ابنة حمزة قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنها ابنة أخي من الرضاعة ".(6/69)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أسمح أمتي جعفر.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما احتذى البغال، ولا انتعل، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكور بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من جعفر. وزاد في رواية أخرى يعني في الجود والكرم.
وأنشد أبو هريرة لحسان بن ثابت من أبيات:
رأيت خيار المؤمنين توادوا ... شعوب وقد خلفت فيمن يؤخر
فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا ... جميعاً ونيران الحروب تسعر
غداة غدا بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
وكنا نرى في جعفر من محمد ... وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر
وما زال للإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا تزال ومفخر
بهاليل منهم جعفر وابن أمه ... علي ومنهم أحمد المتخير
وحمزة والعباس منهم ومنهم ... عقيل وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرج اللأواء في كل مأزق ... عماس إذا ما ضاق بالأمر مصدر
وهم أولياء الله نزل حكمه ... عليهم وفيهم والكتاب المطهر
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا ندعو جعفر بن أبي طالب أبا المساكين، وكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما حضر فأتيناه يوماً فلم نجد عنده شيئاً، فأخرج إلينا جرة من عسل فكسرها فجعلنا نلعق منها.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
إني كنت لأسأل الرجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الآيات، لأنا أعلم بها منه لا أسأله إلا ليطعمني شيئاً، قال: فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب، لم يجبني حتى(6/70)
يذهب معي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء أطعمينا، فإذا طعمنا أجابني. وكان جعفر يحب المساكين ويجلس إليهم ويحدثهم ويحدثونه.
وفي رواية: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكنيه أبا المساكين.
حدث أبو قتادة فارس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيش الأمراء وقال: " عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة الأنصاري، فوثب جعفر فقال: بأبي أنت يا نبي الله وأمي فإني ما كنت أرهب أن تستعمل علي زيداً، قال: امضوا فإنك لا تدري أي ذلك خير ". قال: فانطلق الجيش فلبثوا ما شاء الله، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد المنبر وأمر أن ينادي بالصلاة جامعة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ناب خيراً أم باب خير ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي، إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو، فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب، فشد على الناس حتى قتل شهيداً، أشهد له بالشهادة فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فقاتل حتى قتل شهيداً فاستغفروا له، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء، هو أمر نفسه، فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبعيه وقال: " اللهم هو سيف من سيوفك فانصره "، وقيل: فانتصر بهفيومئذ سمي خالد سيف الله. ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد "، فنفر الناس في حر شديد مشاة وركباناً.
قال عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً.
قال أحد بني مرة بن عوف رضي الله عنه: لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرس له شقراء(6/71)
فعقرها، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قال ابن إسحاق: فهو أول من عقر في الإسلام وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها ... علي إن لاقيتها ضرابها
فلما قتل أخذ الراية عبد الله ين رواحة.
وعن سعيد بن المسيب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثلوا لي في الجنة في خيمة من درة، كل واحد منهم على سريره، فرأيت زيداً وابن رواحة في أعناقهما صدوداً، وأما جعفر فهو مستقيم ليس فيه صدود، قال: فسألت، أو قال: قيل لي: إنهما حين غشيهما الموت، كأنهما أعرضا، أو كأنهما صدا بوجوههما. وأما جعفر فإنه لم يفعل ".
قال ابن عيينة: فذلك حين يقول ابن رواحة:
أقسمت يا نفس لتنزلنه ... بطاعة منك لتكرهنه
فطالما قد كنت مطمئنه ... جعفر ما أطيب ريح الجنه
ولما أخذ جعفر بن أبي طالب الراية، جاءه الشيطان فمناه الحياة والدنيا، وكره إليه الموت فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا، ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا له، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " استغفروا لأخيكم جعفر فاستشهد وقد دخل الجنة، وهو يطير فيها بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة ". قال ابن عمر: كان فيما أقبل من جعفر تسعين، من ضربة بسيف وطعنة برمح.
قال عمرو بن ثابت: سمعت أبي قال: سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فقال رجل: أنا والله أنظر إليه حين طعنه رجل، فمشى إليه في الرمح فضربه فماتا جميعاً، فدمعت عين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الحكم بن عيينة: لما أصيب جعفر بن أبي طالب عليه السلام جاء رجل فنعاه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاشتد ذلك عليه(6/72)
فأقيمت الصلاة، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاته قال: " أين هو؟ فجاءه فقال: كيف صنع جعفر؟ فقال: قاتل يا رسول الله على فرسه، حتى إذا اشتد القتال نزل فقاتل حتى قتل. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " لقد رأيته، أو قال: لقد أريته ملكا ذا جناحين، مضرجاً بالدماء مصبوغ القوادم ". ثم أرسل إلى امرأة جعفر أسماء ابنة عميس، وكان لها منه ثلاثة، بنون، فقال: " انظري بني أخي فاستوصي بهم خيراً، واكتحلي ولا تسلتي، ولا تبكيه بعد اليوم " قالت أسماء بنت عميس: لما أصبي جعفر وأصحابه أتاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولقد هيأت أربعين مناً من أدم وعجنت عجيني، وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم، فدخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه، فضمهم إليه وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله لعله بلغك عن جعفر شيء فقال: نعم، قتل اليوم ". قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء، قالت: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يا أسماء، لا تقولي هجراً، ولا تضربي صدراً ". قالت: فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل على ابنته فاطمة، وهي تقول: واعماه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " على مثل جعفر فلتبك الباكية "، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم ".
وعن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بعد قتل جعفر: " لقد مر بي الليلة جعفر يقتفي نفراً من الملائكة، له جناحان متخضبة قوادمهما بالدم، يريدون بيشة "، بلداً باليمن.
وعن ابن عباس قال: بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس وأسماء بنت عميس قريباً منه، إذ رد السلام. قال: " يا أسماء، هذا جعفر - يعني ابن أبي طالب - مع جبريل وميكائيل والملائكة عليهم السلام، مروا فسلموا علينا، فردوا عليهم السلام، وأخبرني أنه لقي المشركين يوم كذا وكذا "، قبل ممره(6/73)
على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث أو أربع فقال: لقيت المشركين فأصبت في جسدي من مقاديمي ثلاثة وسبعين من طعنة وضربة، ثم أخذت اللواء بيدي اليمنى فقطعت، ثم أخذته بيدي اليسرى فقطعت، فعوضني الله من يدي جناحين أطير بهما مع جبريل وميكائيل، أنزل من الجنة حيث شئت، وآكل من ثمارها ما شئت. قالت أسماء: هنيئاً لجعفر ما رزقه الله من الخير، لكني أخاف أن لا يصدق الناس، فاصعد المنبر فأخبر به الناس. فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس، إن جعفر بن أبي طالب مر مع جبريل وميكائيل وله جناحان، عوضه الله من يديه فسلم علي ". ثم أخبرهم كيف كان أمره حيث لقي المشركين. فاستبان الناس من بعد ذلك اليوم الذي أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جعفراً لقيهم، فلذلك سمي الطيار في الجنة.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دخلت الجنة البارحة فنظرت، فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكىءعلى سرير. وذكر ناساً من أصحابه.
وعن علي رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: عرفت جعفراً في رفقة من الملائكة يبشرون أهل بيشة بالمطر. وبيشة قرية باليمن.
وعن عامر الشعبي قال: أصيب جعفر بن أبي طالب بالبلقاء يوم مؤتة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم اخلف جعفراً في أهله، كأفضل ما خلفت عبدا من عبادك الصالحين.
قال الواقدي وغيره: خرج جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة سنة خمس من مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقدم سنة سبع من الهجرة، وقتل سنة ثمان من الهجرة بمؤتة هو وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة. وعمر جعفراً ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل: قتل وهو ابن خمس وعشرين سنة.(6/74)
جعفر بن عبد الجبار
ويقال ابن عبد الرزاق بن محمد بن جبير بن عبد الرحمن أبو محمد القراطيسي حدث عن يحيى بن أيوب بسنده عن هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من سأله جاره أن يغرز خشبة في جداره فلا يمنعه.
مات أبو محمد جعفر سنة ثلاث وعشرين وثلاث مئة.
جعفر بن عبد الرزاق بن عبد الوهاب
ابن عبد الرزاق أبو الحسين المهندس
من موالي يحيى بن الحكم بن أبي العاص أخي مروان بن الحكم.
روى عن محمد بن أحمد بن عمارة بسنده عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الدعاء هو العبادة، ثم قرأ " وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي ".
توفي أبو الحسن جعفر في جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وثلاث مئة.
جعفر بن عبد الواحد بن جعفر
ابن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القاضي روى عن روح بن عبادة، بسنده عن علي بن أبي طالب قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تنظر إلى فخذ حي ولاميت، فإن الفخذ عورة.
كان جعفر بن عبد الواحد كذاباً، يضع الحديث، وفي سنة خمسين ومائتين نفي عن قضاء القضاة إلى البصرة، بسبب كلام روي عنه إلى المستعين، وكان من حفاظ الحديث،(6/75)
وكانت له بلاغة ولسن، وكان بخيلاً، وكان بسر من رأى يستهدي الرطب، وكان له صديق يوجه كل يوم بسلة رطب مع غلام له، فقال له: إن الغلام يشعث السلة فاختمها، ففعل، فوجدها قد تشعثت فقال له: إن أردت أن تبرني بها فاختمها بعد أن تودعها زنبورين يكونان فيها، فكان يجيئه بها، فإذا فتحها طار الزنبوران، وعلم أن اليد لم تدخل فيها وتوفي جعفر بن عبد الواحد سنة ثمان وخمسين، وقيل سنة ثمان وستين ومئتين.
وقال أبو أحمد الحسن بن محمد يرثي عمه القاضي جعفر بن عبد الواحد:
ما اختص أهلوك بالرزايا ... كل على فقدك المرزا
وما المعزي عليك أولى ... من المعزى بأن يعزى
جعفر بن عمرو بن أمية
ابن خويلد بن عبد الله بن إياس بن عبد بن ناشرة بن كعب بن جدي بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة الضمري المديني حدث عن أبيه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحتز من كتف، فيأكل منها، فدعي إلى الصلاة فقام، وطرح السكين فصلى ولم يتوضأ.
وحدث عن أبيه قال: قلت يا رسول الله، أرسل وأتوكل، أو أقيد وأتوكل؟ قال: بل قيد وتوكل.
وكان جعفر أخا عبد الملك بن مروان من الرضاعة، فوفد على عبد الملك بن مروان في خلافته فجلس في مسجد دمشق، وأهل الشام يعرضون على ديوانهم، قال: وتلك اليمانية حوله يقولون: الطاعة الطاعة، فقال جعفر: لا طاعة إلا لله فوثبوا عليه، وقالوا: توهن الطاعة، طاعة أمير المؤمنين! حتى ركبوا الأسطوان عليه، قال: فما أفلت إلا بعد جهد، وبلغ الخبر عبد الملك فأرسل إليه فأدخل عليه، فقال: أرأيت؟ هذا من عملك، أما والله(6/76)
لو قتلوك، ما كان عندي مثل شيء، ما دخولك في أمر لا يعنيك! ترى قوما يشدون ملكي وطاعتي، فتجيء فتوهنه أنت، إياك إياك.
ومات جعفر بن عمرو في خلافة الوليد بن عبد الملك، سنة خمس أو ست وتسعين.
جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد
ابن موسى بن الحسن بن الفرات أبو الفضل المعروف بابن حنزابة البغدادي الوزير سكن مصر ووزر بها لكافور الإخشيدي، وكان أبوه وزيراً للمقتدر، واجتاز أبو الفضل بدمشق وسمع بها.
حدث عن إبراهيم بن محمد بن أبي عباد بسنده عن عبيدة السلماني أن علياً ذكر أهل النهروان فقال: فيهم رجل متدردر اليد، أو مثدن اليد، أو مخدج اليد، لولا أن ينظروا لأنبأتكم بما وعد الله الذين قتلوهم على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال عبيدة: فقلت لعلي: أنت سمعته؟ قال: إي ورب الكعبة.
ومن شعر أبي الفضل جعفر بن حنزابة:
من أخمل النفس أحياها وروحها ... ولم يبت طاوياً منها على ضجر
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها ... فليس ترمي سوى العالي من الشجر
أملى الحديث بمصر، وبسببه خرج أبو الحسن الدارقطني إلى هناك، وأقام عنده مدة يصنف له المسند، وحصل له من جهته مال كثير، ولم يزل في أيام عمره يصنع أشياء من المعروف عظيمة، وينفق نفقات كثيرة على أهل الحرمين من الأشراف وغيرهم، إلى أن تم له أن اشترى بالمدينة داراً إلى جانب المسجد، من أقرب الدور إلى القبر، ليس بينه وبين القبر إلا الحائط وطريق في المسجد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر عند(6/77)
الأشراف ذلك فسمحوا له بذلك وأجابوا إليه، فلما مات وحمل تابوته من مصر إلى الحرمين، خرجت الأشراف من مكة والمدينة لتلقيه والنيابة في حمله، إلى أن حجوا به وطافوا ووقفوا بعرفة، ثم ردوه إلى المدينة ودفنوه في الدار التي أعدها لذلك.
ولد أبو الفضل جعفر بن الفرات في ذي الحجة سنة ثمان وثلاث مائة وتوفي قيل: سنة تسعين. قالوا: وهو الصحيح، وقيل: توفي سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة.
جعفر بن محمد بن أحمد بن حماد
ابن صبيح بن زياد التميمي والد الفضل بن جعفر روى عن محمود بن خالد بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ".
وفي رواية عن أبي أمامة أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنه لا يلبس الحرير في الدنيا إلا من لا خلاق له في الآخرة ".
جعفر بن محمد بن بكر أبو العباس البالسي
روى عن الحكم بن موسى بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالماً، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ".
وروى عن هشام بن عمار بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو تعلمون ما أنتم لاقون بعد الموت ما أكلتم طعاماً على شهوة أبداً، ولا شربتم شراباً على شهوة أبداً، ولا دخلتم بيتاً تستظلون به، ولمررتم إلى الصعدات تكدمون صدوركم وتبكون على أنفسكم ". ثم قال حين حدث بهذا الحديث: " لوددت أني شجرة أعضد في كل عام فأوكل ".(6/78)
جعفر بن محمد بن جعفر بن رشيد
أبو الفضل الكوفي حدث بدمشق عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا يقول أحدكم: صمت رمضان، وقمت رمضان، ولا صنعت في رمضان كذا وكذا، فأن رمضان اسم من أسماء الله العظام. ولكن قولوا: شهر رمضان، كما قال ربكم في كتابه ".
جعفر بن محمد بن جعفر بن هشام
ابن عبد ربه بن زيد بن خالد بن قيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن الحارث، - أبو عبد الله الكندي - المعروف بابن بنت عدبس، أخو هشام بن محمد الكندي أصله من الكوفة.
روى عن يزيد بن محمد بن عبد الصمد بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ".
توفي في سنة سبع وأربعين وثلاث مئة. وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومئتين، وكان سنه قد نيف على الثمانين.
جعفر بن محمد بن الحارث
أبو محمد المراغي أحد الرحالين في طلب الحديث وجمعه، سمع بدمشق وغيرها، كتب الحديث بأصابعه نيفاً وستين سنة، ولم يزل يكتب إلى أن توفاه الله، وكان من أعرف الناس فيه، وأثبتهم، رحمة الله عليه.
حدث جعفر بن محمد عن أبي الأزهر جماهر بن محمد الغساني بسنده عن الأوزاعي قال: كانوا يستحبون أن يحدثوا أهل الشام بفضائل أهل البيت، ليرجعوا عما كانوا عليه.
أنشد جعفر بن الحارث المراغي لمنصور الفقيه:(6/79)
لي حيلة فيمن ينم ... وليس في الكذاب حيله
من كان يكذب ما يري ... د مخيلتي فيه قليله
وأنشد له أيضاً:
الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسه
ممن ينازع في الرئا ... سة قبل أوقات الرئاسه
توفي أبو محمد المراغي في رجب سنة ست وخمسين وثلاث مائة، وهو ابن نيف وثمانين سنة.
جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض
أبو بكر الفريابي القاضي قدم دمشق وسمع بها.
حدث عن عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي سنة ثمان وتسعين ومئتين، بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بشاة - يعني ميتة - فقال: " هلا استمتعتم بجلدها؟ قالوا: يا رسول الله، إنها ميتة، قال: إنما حرم أكلها ".
ورو عن صفوان ابن صالح بسنده عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: غزونا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك، فجهد الناس جهداً شديداً، فشكوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما بظهرهم من الجهد، فتخير لهم مضيقاً سار الناس فيه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " مروا باسم الله ". فمروا، فجعل ينفخ بظهرهم وهو يقول: " اللهم احمل عليها في سبيلك، فإنك تحمل على القوي والضعيف، والرطب واليابس، في البر والبحر " قال: فما بلغنا المدينة حتى جعلت تنازعنا أزمتها. قال فضالة: فقلت هذه دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على القوي والضعيف، فما بال الرطب واليابس؟ قال: فلما قدمنا الشام غزونا غزوة قبرس في البحر، ورأيت السفن وما تحمل فيها، عرفت دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولد الفريابي في سنة سبع ومئتين.(6/80)
قال جعفر بن محمد الفريابي: انصرفت من مجلس عبيد الله بن معاذ بالبصرة، فإذا بحلقة وبجماعة من الناس قيام، فنظرت فإذا بشاب مجنون، فقيل لي: يا فتى، تؤذن في أذنه؟ فقلت: أمسكوا يده ورجله، وأذنت في أذنه، فلما بلغت: أشهد أن محمد رسول الله، قال لي على لسان المجنون بصوت يسمعه الحاضرون: من لسوم محمد مكن يعني أنا انصرف ولا تذكر محمداً.
قال أبو أحمد بن عدي: رأيت مجلس الفريابي تجوز فيه خمسة عشر ألف محبرة وكنا نحتاج أن نبيت في موضع المجلس، لنجد من الغد موضع مجلس.
مات الفريابي ببغداد، سلخ ذي الحجة، سنة ثلاث مائة، والمحفوظ سنة إحدى وثلاث مئة. وولد سنة سبع ومائتين، وكان عمره أربعاً وتسعين سنة.
جعفر بن محمد بن حماد أبو الفضل القلانسي
من أهل الرملة: سكن عسقلان، وحدث بدمشق.
روى عن أحمد بن يونس بسنده عن داود بن علي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صوموا عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوماً وبعده يوماً ".
توفي في الرملة سنة إحدى وثمانين ومئتين، وقيل: سنة ثمانين.(6/81)
جعفر بن محمد بن سعيد بن شعيب
ابن عبد الله بن عبد الغفار وقيل ابن شعيب بن ذكوان بن أبي أمية أبو عبد الله العبدري مولى بني عبد الدار من أهل بج حوران من إقليم باناس.
روى عن أبي عبد الله أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة بسنده عن أنس ابن مالك قال: مطرت السماء برداً، فقال أبو طلحة: ناولني من ذلك البرد، فناولته، فجعل يأكل وهو صائم وذلك في رمضان - قال أبو سليمان: أشك في رمضان وحده - قال: قلت: ألست صائماً؟ قال: بلى إن هذا ليس بطعام ولا شراب، وإنه بركة نزلت من السماء نطهر به بطوننا. قال أنس: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكرت ذلك له فقال: " خذ عن عمك " قال عبد الوارث: سمعته من علي بن زيد وإلا فصمتا، وقال كل راو كذلك إلى ابن عساكر.
وحدث عن أحمد بن نجدة أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: عاش فرعون أربع مئة سنة، وكان طوله ستة أشبار، وكان اسمه الوليد بن مصعب، وكانت كنيته أبو مرة.
توفي سنة تسع وعشرين وثلاث مئة.
جعفر بن محمد بن سوار بن سنان
أبو محمد النيسابوري الحافظ حدث عن قتيبة بن سعيد بسنده عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " والذي نفس محمد بيده، لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً ".(6/82)
وبإسناده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قال الله عز وجل: أنفق أنفق عليك ".
توفي جعفر بن سوار سنة ثمان وثمانين ومئتين.
جعفر بن محمد بن عبد الله
ابن أحمد بن العباس بن إدريس بن محمد بن جعفر بن إبراهيم بن علي بن عبد الله بن جعفر ابن أبي طالب أبو محمد الجعفري النيسابوري قدم دمشق وحدث بها.
روى عن أحمد بن محمد الغزال بطوس بسنده عن أنس بن مالك، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من وعده الله على عمل ثواباً، فهو منجزه له، ومن وعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار ".
جعفر بن محمد بن علي بن يزيد
ابن عبد الله أبو محمد الهمداني المعروف بالمليح سمع بدمشق حدث عن هلال بن العلاء بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من جلس في مجلس كثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم: سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك ثم أتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه.(6/83)
جعفر بن محمد بن الفضل
ابن عبد الله أبو القاسم البغدادي الدقاق المعروف بابن المارستاني نزيل مصر. قرأ بصيدا وببغداد، وولد سنة ثمان وثلاث مئة.
حدث عن الحسين بن الخضر بسنده عن أبي هند الداري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال الله عز وجل: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي، فمن ذكرني وهو مطيع فحق علي أن أذكره مني بمغفرتي، ومن ذكرني وهو لي عاص فحق علي أن أذكره بمقت ".
قال محمد بن علي الصوري: كان كذاباً، ومات بمصر في سنة سبع وثمانين وثلاث مئة.
جعفر بن محمد بن الفضيل
أبو الفضل الجزري الرسعني سمع بدمشق حدث عن سعيد بن أبي مريم بسنده عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من رآني، فقد رأى الحق، فإن الشيطان لا يتلون بي ".
جعفر بن محمد بن محمد
ويقال جعفر بن محمد بن خالد البرذعي روى عن هشام بن خالد بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شهر رمضان شهر الله، وشهر شعبان شهري، وشعبان المطهر، ورمضان المكفر ".(6/84)
جعفر بن محمد بن موسى
أبو محمد النيسابوري الأعرج الحافظ سكن حلب.
حدث عن محمد بن يحيى بسنده عن أنس قال: " كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد الحاجة لم يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض. " وحدث عن إدريس بن يونس الحراني بسنده عن أبي الدرداء قال: " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان وصلة لأخيه المسلم إلى ذي سلطان في مبلغ بر أو إدخال السرور رفعه الله في الدرجات العلى من الجنة ".
كان جعفر ثقة، حافظاً، عالماً، عارفاً. توفي بحلب سنة سبع وثلاث مئة.
جعفر بن محمد بن الوليد
حدث عن الوليد بن ميلم عن ابن جابر قال: " شكت أم عمر بن المنكدر إلى أخيه محمد بن المنكدر ما يلقاه من كثرة بكائه بالليل، فاستعان محمد عليه بأبي حازم، فدخلوا عليه فقال أبو حازم: يا عمر، ما هذا البكاء الذي شكته أمك! قال: إنه إذا جن علي الليل هالني فأستفتح القرآن، فما تنقضي عني عجيبة، حتى إن الليل ينقضي، وما قضيت نهمتي. قال: فما الذي أبكاك؟ قال: آية في كتاب الله عز وجل هي التي أبكتني: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ".
جعفر المتوكل بن محمد المعتصم
ابن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بويع بالخلافة بعد موت أخيه هارون الواثق بمشاورة في ذلك.(6/85)
قال محمد بن شجاع الأحمر: دخلت على المتوكل وبين يديه نصر بن علي الجهضمي، فجعل نصر يحض المتوكل على الرفق، ويمدح الرفق، ويوصي به، والمتوكل ساكت، فلما سكت نصر قال المتوكل، والتفت إلى يحيى بن أكثم القاضي فقال له: أنت يا يحيى حدثتني بسندك عن جرير بن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " من حرم الرفق حرم الخير. " ثم أنشأ يقول:
الرفق يمن والأناة سعادة ... فاستأن في رفق تلاق نجاحا
لا خير في حزم بغير روية ... والشك وهن إن أردت سراحا
لما مات الواثق أجمع وصيف التركي وأحمد بن أبي دؤاد ومحمد بن عبد الملك وأحمد بن خالد المعروف بابن أبي الوزير وعمر بن فرج، فعزم أكثرهم على تولية محمد بن الواثق، فأحضروه وهو غلام أمرد، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أما تتقون الله! كيف تولون مثل هذا الخلافة؟! فأرسلوا بغا الشرابي إلى جعفر بن المعتصم فأحضروه، فقام ابن أبي دؤاد فألبسه الطويلة ودراعة، وعممه بيده على الطويلة، وقبل بين عينيه وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم غسل الواثق، وصلى عليه المتوكل ودفن.
وكان المتوكل رأى في النوم كأن سكراً سليماً نيئاً سقط عليه من السماء، مكتوبا عليه: جعفر المتوكل على الله. فلما صلى على الواثق قال محمد بن عبد الملك: نسميه المنتصر، وخاض الناس في ذلك، فحدث المتوكل أحمد بن أبي دؤاد بما رآه في منامه، فوجده موافقا، فأمضى وكتب بذلك للآفاق.
ولد المتوكل سنة سبع ومائتين، وقيل خمس، وبويع بسر من رأى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكان أسمر، حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، إلى القصر أقرب، كنيته أبو الفضل، وأمه أم ولد يقال لها شجاع، من سروات النساء سخاء وكرماً، ولما بويع أظهر السنة وبسطها ونصر أصحاب السنة.
ودخل دمشق في صفر سنة أربع وأربعين ومائتين، وكان من لدن شخص من سامراء إلى أن دخلها سبعة وسبعون يوما، وعزم على المقام بها ونقل دواوين الملك إليها، وأمر بالبناء بها، فتحرك الأتراك في أرزاقهم وأرزاق عيالاتهم، فأمر لهم بما أرضاهم، ثم استوبأ(6/86)
البلد وذلك أن الهواء بها بارد ندي، والماء ثقيل، والريح تهب فيها مع العصر، فلا تزال تشتد حتى تمضي عامة الليل، وهي كثيرة البراغيث، وغلت عليه الأسعار، وحال الثلج بين السابلة والميرة، وسير المتوكل بغا لغزو الروم، وغزا الصائفة. وأقام المتوكل بدمشق شهرين وأياماً، ثم رجع إلى سر من رأى.
وكان السبب الذي عزم به المتوكل على الشخوص إلى دمشق أن خرج إلى الموضع المعروف بالمحمدية بسامراء في بعض نزهه التي كان يخرج فيها، وذكروا بحضرته البلدان وهواء كل بلد وطيبه، وما فيه مما يفضل به على غيره، وذكر إسرائيل بن زكريا المتطبب المعروف بالطيفوري دمشق، واعتدال الهواء بها وطيبها في الصيف، وقلة حرها وبرد مياهها، وكثرة البساتين والأشجار بها، وأنها من البلدان التي يصلح لأمير المؤمنين سكناها وتلائم بدنه، وتنحل عنه فيها العلل التي لا تزال تعرض له في العراق عند حلول الصيف، ووافق ذلك مجيء كتاب عامل سميساط بمصير الروم إلى القرى التي بالقرب من المدينة وإخرابهم إياها، فأمر المتوكل بالأهبة للسفر.
ولما نزل دمشق بنى بأرض داريا قصراً عظيماً، ووقعت من قلبه بالموافقة، فخرج يوماً يتصيد فأجمع قوم من جنده على الفتك به، واتصل ذلك به فرحل إلى سامراء، وقتل بها.
قال علي بن الجهم السامي: وجه إلي المتوكل فأتيته، فقال لي: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الساعة في المنام، فقمت إليه فقال لي: تقوم إلي وأنت خليفة فقلت له: أبشر يا أمير المؤمنين، أما قيامك إليه فقيامك بالسنة، وقد عدك من الخلفاء. قال: فسر بذلك.
كان إبراهيم بن محمد التميمي قاضي البصرة يقول: الخلفاء ثلاثة: أبو بكر الصديق، قاتل أهل الردة حتى استجابوا له، وعمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية، والمتوكل محا البدع، وأظهر السنة.(6/87)
قال محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب: جعلت دعائي في المشاهد كلها للمتوكل، وذلك أن عمر بن عبد العزيز جاء الله به يرد المظالم، وجاء الله بالمتوكل يرد الدين.
قال هشام بن عمار: سمعت المتوكل يقول: واحسرتي على محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، كنت أحب أن أكون في أيامه فأراه، وأشاهده، وأتعلم منه، فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام ثلاث ليال متواليات وهو يقول: يا أيها الناس، إن محمد بن إدريس المطلبي قد صار إلى رحمة الله، وخلف فيكم علماً حسناً فاتبعوه تهتدوا، فإن كلام المطلب سنتي، يا أيها الناس، من ترحم على محمد بن إدريس الشافعي غفر الله تعالى له ما أسر وما أعلن. ثم قال المتوكل: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه، وارحم محمد بن إدريس رحمة واسعة، وسهل علي حفظ مذهبه، وانفعني بذلك.
حكى علي بن الجهم عن المتوكل، كلاماً، وقد بلغه أن رجلا أنكر على رجل ينتمي إلى التشيع وقال قولا أغرق فيه من مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فغضب المتوكل وقال: الناسب هذا المادح إلى الغلو جاهل، وهو إلى التقصير أقرب، وهل أحد بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أئمة الإسلام أحق بكل ثناء حسن من علي! وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم له غير أحمد بن المعذل فقال المتوكل لعبيد الله: إن هذا لا يرى بيعتنا. فقال له: بلى، يا أمير المؤمنين، ولكن في بصره سوء. فقال أحمد بن المعذل: يا أمير المؤمنين، ما في بصري سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار " فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه.(6/88)
قال يزيد المهلبي: قال لي المتوكل يوماً: يا مهلبي، إن الخلفاء كانت تتصعب على الرعية لتطيعها، وأنا ألين لهم ليحبوني فيطيعوني.
قال عبد الأعلى بن حماد الزينبي: قدمت على المتوكل بسر من رأى، فدخلت عليه يوماً فقال: يا أبا يحيى، قد كنا هممنا لك بأمر فتدافعت الأيام به، فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت مسلم بن خالد المكي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة وأنشدته:
لأشكرنك معروفاً هممت به ... إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا أذمك إن لم يمضه قدر ... فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
فجذب الدواة فكتبها. ثم قال: ننجز لأبي يحيى ما كنا هممنا له به، وهو كذا ونضعف لخبره هذا.
دخل علي بن الجهم على جعفر المتوكل وبيده درتان يقلبهما، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
وإذا مررت ببئر عر ... وة فاسقني من مائها
قال: فدحا بالدرة التي في يمينه فقبلتها، فقال لي: تستنقص بها! وهي والله خير من مائة ألف. قلت: لا والله، مااستنقصت، ولكن فكرت في أبيات أعملها آخذ التي في يسارك. فقال لي: قل، فأنشأت أقول:
بسر من را إمام عدل ... تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل خطب ... كأنه جنة ونار(6/89)
الملك فيه وفي بنيه ... ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان ... عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيئاً ... إلا أتت مثله اليسار
قال: فدحا بالتي في يساره وقال: خذها لا بارك الله لك فيها. وقد رويت هذه الأبيات للبحتري في المتوكل.
قال الفتح بن خاقان: دخلت يوماً على المتوكل فرأيته مطرقاً يتفكر فقلت: ما هذا الفكر يا أمير المؤمنين! فوالله ما على ظهر الأرض أطيب منك عيشاً ولا أنعم منك بالاً. فقال: يا فتح، أطيب عيشاً مني رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه.
قال المتوكل لعلي بن الجهم وكان يأنس به ولا يكتمه شيئاً من أمره: يا علي، إني دخلت على قبيحة الساعة فوجدتها قد كتبت على خدها بغالية - جعفر -، فوالله ما رأيت شيئاً أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذلك الخد، فقل في هذا شيئاً. قال: وكانت محبوبة جالسة من وراء الستارة تسمع الكلام، قال: إذ دعي لعلي بالدواة والدرج، وأخذ يفكر، قالت على البديهية:
وكاتبة بالمسك في الخد جعفراً ... بنفسي محط المسك من حيث أثرا
لئن كتبت في الخد سطراً بكفها ... لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا
فيا من لمملوك لملك يمينه ... مطيع له فيما أسر وأظهرا
ويا من مناها في السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفراً
وبقي علي بن الجهم واجماً لا ينطق بحرف، وأمر المتوكل عريباً فغنت في هذا الشعر.
وفي رواية أخرى: أن المتوكل لما رآها أنشد هو هذه الأبيات.(6/90)
قال علي بن الجهم: لما أفضت الخلافة إلى المتوكل على الله أهدى إليه عبد الله بن طاهر من خراسان جواري، فكانت فيهن جارية يقال لها محبوبة، وكانت قد نشأت في الطائف، وكان لها مولى مغرى بالأدب، وكانت قد أخذت عنه وروت الأشعار، وكان المتوكل بها معجباً، فغضب عليها ومنع جواري القصر من كلامها، فكانت في حجرتها لا يكلمها أحد أياماً، فرأته في المنام كأنه قد صالحها. قال علي: فلما أصبح دخلت عليه فقال: يا علي، أشعرت أني رأيت محبوبة في منامي كأني قد صالحتها وصالحتني! فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، إذاً يقر الله عينك، ويسرك، فوالله إنا لفيما نحن فيه من حديثها، إذ جاءت وصيفة لأمير المؤمنين فقالت: يا سيدي، سمعت صوت عود من حجرة محبوبة، فقال أمير المؤمنين: قم بنا يا علي ننظر ما هذا الأمر! فنهضنا حتى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب بالعود وتقول:
أدور في القصر لا أرى أحداً ... أشكو إليه ولا يكلمني
حتى كأني أتيت معصية ... ليست لها توبة تخلصني
فهل شفيع لنا إلى ملك ... قد رآني في الكرى فصالحني
حتى إذا ما الصباح لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني
قال: فصاح أمير المؤمنين وصحت معه، فسمعت فتلقت أمير المؤمنين، وأكبت على رجليه تقبلهما فقالت: يا سيدي، رأيتك في ليلتي هذه كأنك قد صالحتني. فقال: وأنا والله قد رأيتك، فردها إلى مرتبتها كأحسن ما كانت.
فلما كان من أمر المتوكل ما كان، تفرقن وصرن إلى القواد، ونسين أمير المؤمنين، فصارت محبوبة إلى وصيف الكبير، فما كان لباسها إلا البياض، وكانت تنتحب وتشهق، إلى أن جاس وصيف يوماً للشرب، وجلس جواري المتوكل يغنينه، فما بقيت منهن واحدة إلا تغنت غيرها. فقالت: إن رأى الأمير أن يعفيني فأبى. فقال لها الجواري: ل وكان في الحزن فرج لحزنا معك. وجيء بالعود فوضع في حجرها فأنشأت تقول:(6/91)
أي عيش يطيب لي ... لا أرى فيه جعفراً
ملك قد رأته عي ... ني جريحاً معفرا
كل من كان ذا هيا ... م وسقم فقد برا
غير محيوية التي ... لو ترى الموت يشترى
لاشترته بما حوت ... هـ جميعاً لتقبرا
فاشتد ذلك على وصيف.
وفي رواية: فهم بقتلها، فاستوهبها منه بغا وكان حاضراً.
وفي هذه الرواية: فأمر بإخراجها فصارت إلى قبيحة، ولبست الصوف، وأخذت ترثيه وتبكيه حتى ماتت.
قال عمرو بن شيبان الحلبي: رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل فيما يرى النائم حين أخذت مضجعي كأن آتياً أتاني فقال:
يا نائم العين في أوطار جثمان ... أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلوا ... بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلوماً فضج له ... أهل السموات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة ... توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وارثوا خليقتكم ... فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال: فأصبحت فإذا الناس يخبرون أن جعفراً المتوكل قد قتل في هذه الليلة.
قال أبو عبد الله: ثم رأيت المتوكل بعد هذا بأشهر كأنه بين يدي الله تعالى، فقلت: ما فعل بك ربك؟(6/92)
قال: غفر لي. قلت: بماذا؟ قال: بالقليل من السنة تمسكت بها. قلت: فما تصنع ها هنا؟ قال: أنتظر محمداً ابني، أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم.
حدث إسماعيل بن داود: أن المتوكل وصف له سيف بمصر، فأنفذ رسولاً قاصداً في طلبه، وكتب له إلى عامل مصر، فلما وصل إليه سأله عن السيف فأخبر أن السيف بدمشق، فركب الرسول إلى دمشق وسأل عن السيف، فأخبر أنه صار إلى الحجاز، فعاد الرسول إلى المتوكل فأخبره بذلك، فأنفذ رسولاً إلى الحجاز بكتابه إلى عامله بها، فبحث عن السيف فأخرج إليه، فأخذه ومضى به إلى المتوكل وهو بسر من رأى. فلما رآه المتوكل لم يعجب به ورآه وحشاً واستزراه وتصفح وجوه الغلمان الذين حوله فرأى غلاماً تركياً يقال له ياغر وكان سمجاً، فقال له: أنت وحش وهذا السيف وحش فخذه، فلما صار عنده ومضت مدة دخل ياغر في ليلة من الليالي بالسيف فقتل به المتوكل، وكان من أمره ما كان به.
بويع جعفر المتوكل في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقتل ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين، فكانت خلافته أربع عشرة سنة وتسعة أشهر ويوماً واحداً، وأمه أم ولد تركية يقال لها شجاع، وكنيته أبو الفضل، وصلى عليه المنتصر، وكان عمره أربعين سنة، ومولده سنة سبع ومائتين.
قال أبو أيوب جعفر بن أبي عثمان الطيالسي: أخبرني بعض الزمازمة الذين يحفظون زمزم قال: غارت زمزم ليلة من الليالي، فأرخناها فجاءنا الخبر أنها كانت الليلة التي قتل فيها جعفر المتوكل.
كان يزيد بن محمد المهلبي من ندماء المتوكل، فلما قتل قال يزيد:
لما اعتقدتم أناساً لا حفاظ لهم ... ضعتم وضيّعتم ما كان يعتقد
ولو جعلتم على الأحرار نعمتكم ... حمتكم الذادة المنسوبة الحسد
قوم هم الجذم والأرحام تجمعكم ... والمجد والدين والإسلام والبلد
إن العبيد إذا ذللتهم صلحوا ... على الهوان وإن أكرمتهم فسدوا(6/93)
ما عند عبد لمن يرجوه محتمل ... ولا على العبد عند الخوف معتمد
فاجعل عبيدك أوتاداً تشحجها ... لا يثبت البيت حتى يثبت الوتد
جعفر بن محمد بن هشام بن ملاس
ابن قاسم النميري حدث عن سلم بن ميمون الخواص بسنده عن أبي ثعلبة الخشني قال: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل النساء والولدان.
جعفر بن محمد بن يزدين
أبو الفضل ابن السوسي سكن مكة، وسمع بدمشق.
روى عن كثير بن عبيد بسنه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عال مقتصد قط.
وحدث عن إسحق الفروي بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله احتجز التوبة عن كل صاحب بدعة.
جعفر بن محمد أبو عبد الله المعّري المغربي
حدث بدمشق. ومن شعره مما أنشده بدمشق:
إذا أراد الله أمراً بامرىء ... وكان ذا علم ورأي وبصر
وحيلة يعملها في كل ما ... يأتي به مكروه أشتات القدر(6/94)
أغراه بالجهل وأعمى قلبه ... وسلّه من رأيه سلّ الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... ردّ عليه عقله ليعتبر
جعفر بن محمود الكاتب
قدم دمشق صحبة المتوكل، واستوزره المستعين سنة ثمان وأربعين ومائتين، ثم استوزره المعتز بالله. ولما عزل من الوزارة واستوزر بعده عيسى بن فرخان شاه أنشد محمد بن غياث لنفسه:
في غير حفظ الله يا جعفر ... زلت فزال الجور والمنكر
بلغت أمراً لست من أهله ... باعك عمّا دونه يقصر
كنت كثوب زانه طيّه ... حيناً فأبدى عيبه المنشر
ماينفع المنظر من جاهل ... بأمره ليس له مخبر
بل مثل عيسى لا انقضى عمره ... يخص بالعرب ويستوزر
حلم وعلم ثاقب زنده ... بمثله من مثله يفخر
تذكره الأشعار إن أنشدت ... وأنت منسيّ فما تذكر
توفي جعفر بن محمود في سنة ثمان وستين ومائتين.
جعفر بن موسى
حدث بدمشق عن عبد الرحمن بن خالد بن نجيح المصري بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أراد هوان قريش أهانه الله.(6/95)
جعفر بن ميسر بن يغنم أبو محمد
أنشد أبو محمد جعفر بن يغنم بصيدا لمحمد بن عمر الأنباري يرثي نصير الدولة أبا طاهر بن بقية وزير عز الدولة بختيار، حين صلبه عضد الدولة ببغداد سنة تسع وأربع مائة:
علو في الحياة وفي الممات ... بحق أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
كأنك قائم فيهم خطيبا ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم اقتفاء ... كمدهما إليهم بالهبات
ولمل ضاق بطن الأرض عن أن ... تضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحفاظ وحراس ثقات
وتشعل حولك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالبا لك بالتراب
وصير دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
ركبت مطيةً من قبل زيد ... علاها في السنين الذاهبات
وتلك فضيلة فيها تأس ... تباعد عنك أسباب الدنات
وكنت لمعشر سعداً فلما ... مضيت تمزقوا بالمنحسات
غليلي باطن لك في فؤادي ... يخفف بالدموع الجاريات
ولو أني قدرت على قيامي ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم المراثي ... ونحت بها خلاف النائحات(6/96)
ولكني أصبر عنك نفسي ... مخافة أن أعد من الجناة
ومالك تربة فأقول تسقى ... لأنك نصب هطل الهاطلات
عليك تحية الرحمن تترى ... برحمات روائح غاديات
ولما أمر عضد الدولة بقتل الوزير محمد بن بقية وصلبه بمدينة السلام في سنة سبع وثلاث مائة كان له صديق يعرف بأبي الحسن الأنباري، فرثاه بهذه الأبيات، فرثاه بهذه الأبيات، فكتبها ورمى بها في شوارع بغداد، فتداولها الأدباء إلى أن اتصل الخبر بعضد الدولة، فلما أنشدت بين يديه تمنى أن يكون هو المصلوب دونه، فقال: علي بهذا الرجل فطلب سنة كاملة، واتصل الخبر بالصاحب إسماعيل بن عباد بالري فكتب له الأمان. فلما سمع بذكر الأمان قصد حضرته فقال له: أنت القائل هذه الأبيات؟ قال: نعم. قال: أنشدنيها. فلما أنشده:
ولم أر قبل جذعك قط جذعا ... تمكن من عناق المكرمات
قام الصاحب فعانقه وقبل فاه، وأنفذه إلى حضرة عضد الدولة. فلما مثل بين يديه قال له: ما الذي حملك على مرثية عدوي؟ فقال: حقوق سلفت وأياد مضت، فجاش الحزن في قلبي فرثيت، فقال: هل يحضرك شيء في الشموع؟ - والشموع تزهر بين يديه - فأنشأ يقول:
كأن الشموع وقد أظهرت ... من النار في كل رأس سنانا
أصابع أعدائك الخائفين ... تضرع تطلب منك الأمانا
فلما أنشده هذين البيتين خلع عليه، وحمله على فرس وأعطاه بدرة.
وكان جعفر هذا أديبا فاضلا، وصدرا كاملا، رثاه القاص أبو الحسن بن هندي بقصيدة غراء ثلاثة وتسعون بيتا منها:
يا من كأن الدهر يعشق ذكره ... فلسانه من وصفه لا يفتر
بأبي ثراك وما تضمنه الثرى ... كل يموت وليس كل يذكر(6/97)
جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك
أبو الفضل البرمكي وزير الرشيد هارون، ولاه هارون دمشق وقدمها سنة ثمانين ومائة.
حدث عن أبيه يحيى بسنده إلى زيد بن ثابت كاتب الوحي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبين السين فيه.
وقال جعفر بن يحيى البرمكي لهرون الرشيد: يا أمير المؤمنين، قال لي أبي يحيى: إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط، فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأعط، فإنها لا تبقى.
قال جعفر: وأنشدنا أبي:
لا تبخلن بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
ولما ثارت العصبية بالشام في سنة ثمانين ومائة وتفاقم أمرها اغتم الرشيد فعقد لجعفر بن يحيى على الشام، وقال له: إما أن تخرج أنت أو أخرج أنا، فقال له جعفر: بل أقبل بنفسي، فشخص في جلة القواد والكراع والسلاح، فأتاهم فأصلح بينهم، وقتل زواقيلهم والمتلصصة منهم، ولم يدع بها رمحا ولا قوسا، فعادوا إلى الأمن والطمأنينة، وأطفأ النائرة.
وكان جعفر بن يحيى من علو القدر، ونفاذ الأمر، وعظم المحل، وجلالة المنزلة عند هرون بحلة انفرد بها ولم يشارك فيها، وكان سمح الأخلاق طلق الوجه، ظاهر البشر. وأما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فكان أشهر من أن يذكر، وكان أيضا من ذوي الفصاحة واللسن والبلاغة.
يقال: إنه وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ونظر في جميعها فلم(6/98)
يخرج بشيء منها عن موجب الفقه. وكان أبوه يحيى بن خالد قد ضمه إلى أبي يوسف القاضي حتى علمه وفقهه. وغضب الرشيد عليه في آخر عمره فقتله، ونكب البرامكة لأجله.
كان أبو علقمة الدمشقي - صاحب الغريب - عند جعفر بن يحيى في بعض لياليه التي يسمر فيها، فأقبلت خنفساءة إلى أبي علقمة فقال: أليس يقال إن الخنفساء إذا أقبلت إلى الرجل أصاب خيراً! قالوا: بلى، قال جعفر بن يحيى: يا غلام، أعطه ألف دينار، قال: فنحوها عنه فعادت إليه، فقال: يا غلام، أعطه ألف دينار، فأعطاه ألفي دينار.
خرج عبد الملك بن صالح مشيعاً لجعفر بن يحيى البرمكي، فعرض عليه حاجاته فقال له: قصارى كل مشيع الرجوع، وأريد أعز الله الأمير أن تكون لي كما قال بطحاء العذري:
وكوني على الواشين لداء شغبة ... فإني على الواشي ألد شغوب
فقال جعفر: بل أكون لك كما قال جميل:
وإذا الواشي وشى يوما بها ... نفع الواشي بما جاء يضر
كان أحمد بن الجنيد الإسكافي أخص الناس بجعفر بن يحيى، فكان الناس يقصدونه في حوائجهم إلى جعفر، فكثرت رقاع الناس في خف أحمد بن الجنيد، ولم يزل كذلك إلى أن تهيأ
له الخلوة بجعفر فقال له: قد كثرت رقاع الناس معي وأشغالك كثيرة وأنت اليوم خال، فإن رأيت أن تنظر فيها. فقال له جعفر: على أن تقيم عندي اليوم، فقال له أحمد: نعم، فصرف دوابه، فلما تغدوا جاءه بالرقاع، فقال له جعفر: هذا وقت ذا؟! دعنا اليوم، فأمسك عنه أحمد، وانصرف في ذلك اليوم ولم ينظر في الرقاع. فلما كان بعد أيام خلا به فأذكره الرقاع فقال: نعم، على أن تقيم عندي اليوم، فأقام عنده ففعل به مثل الفعل الأول، حتى فعل به ثلاثا، فلما كان في آخر يوم أذكره فقال: دعني الساعة وناما، فانتبه جعفر قبل أحمد فقال لخادم له: اذهب إلى خف أحمد بن الجنيد فجئني بكل رقعة فيه، وانظر لا تعلم أحمد، فذهب الخادم وجاء(6/99)
بالرقاع، فوقع جعفر فيها عن آخرها بخطه بما احب أصحابها ووكد ذلك، ثم أمر الخادم أن يردها في الخف فردها، وانتبه أحمد وأخذوا في شأنهم ولم يقل له فيها شيئا، وانصرف أحمد، فركب يعلل أصحاب الرقاع بها أياما، ثم قال لكاتب له: ويلك، هذه الرقاع قد أخلقت في خفي، وهذا - يعني جعفراً - ليس ينظر، فخذها تصفحها وجدد ما خلق منها، فأخذها الكاتب فيها فوجد الرقاع موقعا فيها بما سأل أهلها وأكثر، فتعجب من كرمه ونبل أخلاقه، وأنه قضى حاجته ولم يعلمه بها، لئلا يظن أنه اعتد بها عليه.
حدث مهذب حاجب العباس بن محمد، صاحب قطيعة العباس والعباسة قال: نالت العباس إضافة، وكثر غرماؤها والمطالبون له، فأخرج سفطا فيه جوهر، شراؤه ألف ألف درهم، أعده ذخراً لبناته، فحمله إلى جعفر بن يحيى، فتلقاه جعفر وسط الصحن وجلس بين يديه، فقال له العباس: نالني ما ينال الأحرار من الإضافة، وهذا سفط شراؤه علي ألف درهم، فامر بعض تجارك أن يقبضه ويقرضني عليه خمس مائة ألف درهم فإذا وردت الغلة رددتها إليه، وأخذت السفط، قال: أفعل. وختم السفط ودفعه إلى غلام بين يديه، وأوعز إليه بسرار ثم قال: الحاجة توافيك العشية وتتفضل بالغداء عندي ففعل، فقال له: ثيابي لا تصلح على الأمير، وهذه عشرة تخوت، ومهري لين الركوب، ينصرف الأمير عليه، فانصرف وذلك بين يديه، فوجد السفط في بيته ومعه ألف ألف درهم قد وصله بها جعفر.
قال مهذب: فما بات وعليه درهم واحد، فقال لي: نبكر غداً على الرجل شاكرين له، فبكرنا فقيل لنا: هو عند أخيه الفضل، فجئنا إلى دار الفضل فقالوا: هما في دار أمير المؤمنين، فصرنا إلى دار أمير المؤمنين، فدخل مولاي فوجدهما في الصحن لم يؤذن لهما، فقال له جعفر: حدثت أخي بقصتك فأمر أن يحمل لك خازنك ألف ألف درهم، وما أشك أنها في دارك، ونحن نكلم أمير المؤمنين أعز الله نصره الساعة في أمرك، فدخلا إلى الخليفة فأمر له بثلاث مائة ألف دينار، فلم يكن في بيت المال منها حاضر إلا مائتي ألف دينار(6/100)
فدفعت إليه، وقيل له اختر أين نسيب لك بهذا المال؟ قال: إلى مصر، فما كانت إلا أيام حتى أتت السفائح من مصر.
قال إبراهيم الموصلي: حج الرشيد ومعه جعفر بن يحيى البرمكي وكنت معهم، فلما صرنا إلى مدينة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لي جعفر: انظر لي جارية ولا تتق غاية في حذافتها بالغناء والضرب، والكمال في الظرف والأدب، وجنبني قولهم صفراء. قال: فأرشدت إلى جارية لرجل فدخلت عليه، فرأيت رسوم النعمة، وأخرجها إلي فلم أر أجمل منها ولا أصبح ولا أدب. قال: ثم تغنت لي أصواتا فأجادتها. قال: فقلت لصاحبها: قل ما شئت. قال: أقول لك قولا لا أنقص منه درهما. قلت: قل. قال: أربعين ألف دينار. قلت: قد أخذتها وأشترط عليك نظرة. قال: ذلك لك. قال: فأتيت جعفر بن يحيى فقلت: قد أصبت حاجتك، على غاية الكمال والظرف والأدب والجمال ونقاء اللون وجودة الضرب والغناء، وقد اشترطت نظرة، فاحمل المال ومر بنا، فحملنا المال على حمالين، وجاء جعفر مستخفياً، فدخلنا على الرجل وأخرجها. فلما رآها جعفر أعجب بها، وعرف أن قد صدقته. ثم غنته فازداد بها عجبا، فقال لي: اقطع أمرها، فقلت لمولاها: هذا المال قد نقدناه ووزناه، فإن قنعت وإلا فوجه إلى من شئت لينتقده، قال: لا بل أقنع بما قلتم قال: فقالت الجارية: يا مولاي في أي شيء أنت! فقال: قد عرفت ما كنا فيه من النعمة وما كنت فيه من انبساط اليد، وقد انقبضت عن ذلك لتغير الزمان علينا، فقدرت أن تصيري إلى هذا الملك فتنبسطي في شهواتك ولذاذتك، فقالت الجارية: والله يا مولاي لو ملكت منك ما ملكت مني ما بعتك بالدنيا وما فيها. وبعد، فاذكر العهد وقد كان حلف لها أن لا يأكل لها ثمنا قال فتغرغرت عين المولى وقال: اشهدوا أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها وأمهرتها داري، فقال جعفر: انهض بنا، قال: فدعوت الحمالين ليحملوا المال، فقال جعفر: لا والله لا يصحبنا منه درهم، ثم أقبل على مولاها وقال: هو لك مبارك لك فيه أنفقته.(6/101)
قال الأصمعي: كنت عند جعفر بن يحيى ودخل عليه رجل فقال: أعذني أيها الأمير. قال: هو ذاك، صاحب شرطتي على الباب. فقال: أعذني أيها الأمير. قال: ويحك، ما أعذتك! قال: على الفقر. قال: نعم، يا غلام، أعطه ألف دينار.
ولما غضب على البرامكة وجد في خزانة لجعفر بن يحيى في جرة ألف دينار، في كل دينار مائة دينار، على جانبيها مكتوب:
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحداً ... متى تعطه معسراً يوسر
كان جعفر بن يحيى أمر أن تضرب له دنانير، في كل دينار ثلاث مائة مثقال، وتصور عليها صورة وجهه، فضربت، وبلغ أبا العتاهية فأخذ طبقا فوضع عليه بعض الألطاف ووجهه إلى جعفر، وكتب إليه رقعة في آخرها:
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر
ثلاث مئين يكن وزنه ... متى يلقه معسر ييسر
فأمر بقبض ما على الطبق، وصير عليه ديناراً من تلك الدنانير ورده إليه.
قال الأصمعي: كان رجل له انقطاع إلى جعفر بن يحيى، فعتب على جعفر لجفوة إليه منه، فلزم منزله زمانا لا يأتيه، فمر يوما على ظهر الطريق، فوقف عليه واستبطأه في تأخره عنه، فعرفه سبب غيبته وقال له: أيها الوزير، لو أتيناك لما كان عجبا، لعلم الناس بحاجتنا إليك، ولو أتيتنا لكان تفضلاً، لعلم الناس بغناك عنا. فاعتذر جعفر، وجعل على نفسه أن لا يغيب عنه أحد من أصحابه أو يتخلف عنه بسبب إلا أتاه. وأقام رجلاً يتعرف أخبار المتخلفين عنه، ويعرفه السبب في ذلك، وأجرى عليه الرزق لهذا الباب فقط.
حدث جعفر بن يحيى أباه يحيى بن خالد، في بعض ماكان يخبره به من خلواته مر الرشيد، قال له بأنه أخذ أمير المؤمنين بيدي، ثم أقبل في حجر يخترقها، حتى(6/102)
انتهى إلى حجرة مغلقة ففتحت له، ثم رجع من كان معنا من الخدم، ثم صرنا إلى حجرة مغلقة ففتحها بيده، ودخلنا معاً وأغلقها من داخلها بيده، ثم صرنا إلى رواق ففتحه وفي صدره مجلس مغلق، فقعد على باب المجلس ونقر الباب نقرات، فسمعت حساً، ثم أعاد النقر فسمعت صوت عود، ثم أعاد النقر الثالثة فغنت جارية، ما ظننت والله أن الله خلق مثلها في حسن الغناء وجودة الضرب، فقال أمير المؤمنين لها: غني صوتي فغنته:
ومحبب شهد الزفاف وقبله ... غنى الجواري حاسراً ومنقبا
لبس الدلال وقام ينقر دفه ... نقراً أقر به العيون فأطربا
إن النساء رأينه فعشقنه ... وشكون شدة ما بهن فكذبا
قال: فطربت والله طربا هممت معه أن أنطح برأسي الحائط، ثم قال لها: غني صوتي الآخر فغنت:
طال تكذيبي وتصديقي ... لم أجد عهداً لمخلوق
إن ناساً في الهوى حدثوا ... أحدثوا نقض المواثيق
قال: فرقص الرشيد ورقصت معه، ثم قال: امض بنا، فإنني أخشى أن يبدو ما هو أكثر من هذا، فمضينا. فلما صرنا في الدهليز قال وهو قابض على يدي: أعرفت هذه المرأة؟ قلت: لا، يا أمير المؤمنين، قال: فإني أعلم أنك ستسأل عنها ولا تكتم ذلك، وأنا أخبرك بها، هي علية، والله إن لفظت به بين يدي أحد وبلغني لأقتلنك، قال: فقال له أبوه قد والله لفظت به، ووالله ليقتلنك فاصنع ما أنت صانع.
قال أبو القاسم النصراني: دخلت على جعفر بن يحيى البرمكي في يوم بارد، فأصابني البرد فقال: يا غلام، اطرح عليه كساء من أكسية النصارى، فطرح علي كساء خز قيمته ألف، قال: فانصرفت إلى منزلي، فأردت أن ألبسه في يوم عيد، فلم أصب له في منزلي ثوبا يشاكله، فقالت لي بنية لي: اكتب إلى الذي وهبه لك حتى يرسل إليك بما يشاكله من الثياب، فكتبت إليه:
أبا الفضل لو أبصرتنا يوم عيدنا ... رأيت مباهاة لنا في الكنائس
فلو كان ذاك المطرف الخرّ جبة ... لباهيت أصحابي بها في المجالس
فلا بد لي من جبة من حبابكم ... ومن طيلسان من جياد الطيالس(6/103)
ومن ثوب قوهي وثوب غلالةً ... ولا بأس إن أتبعت ذاك بخامس
إذا تمت الأثواب في العيد خمسةً ... كفتك فلم تحتج إلى لبس سادس
لعمرك ما أفرطت فيما سألته ... وما كنت إذ أفرطت فيه بآيس
وذلك أن الشعر يزداد شدةً ... إذا ما البلى أبلى جديد الملابس
فبعث إليه حين قرأ الشعر بتخوت خمسة، من كل نوع تختاً.
فبعث إليه حين قرأ الشعر بتخوت خمسة، من كل نوع تختاً قال: فوالله ما انقضت الأيام حتى قتل جعفر بن يحيى، وصلب وحبس الفضل، فرأينا أبا قابوس قائما تحت جذعه يزمزم، فأخذه صاحب الخبر فأدخله على الرشيد، فقال له: ما كنت قائلاً تحت جذع جعفر؟ فقال: أينجيني منك الصدق؟ قال: نعم. قال: ترحمت عليه وقلت في ذلك:
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرضا فيه قوياً ... على الله الزيادة والتمام
نذرت علي منه صيام حول ... فإن وجب الرضا وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أقول له وقمت لديه نصاً ... إلى أن كاد يفضحني القيام
أما والله لولا خوف واش ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالركن استلام
فأطرق هارون ملياً ثم قال: رجل أولى جميلاً فقال فيه جميلاً: يا غلام ناد بأمان أبي قابوس، وألا يعرض له أحد، ثم قال لحاجبه: إياك أن تحجبه عني صر متى شئت إلينا في مهمك.
وقيل: إن هذه الأبيات للرقاشي، وإنه وقف لما صلب جعفر وقال هذه الأبيات، وفي آخرها:(6/104)
فما أبصرت قبلك يابن يحيى ... حساما فله السيف الحسام
على اللذات والدنيا جميعاً ... لدولة آل برمك السلام
فقيل ذلك للرشيد، فأحضره وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: تحركت نعمته في قلبي فلم أصبر، قال: كم كان أعطاك؟ قال: كان يعطيني في كل سنة ألف دينار. فأمر له بألفي دينار.
قال محمد بن عبد الرحمن الهاشمي صاحب صلاة الكوفة: دخلت على أمي في يوم أضحى وعندها امرأة برزة جلدة في أثواب دنسة رثة، فقالت لي: أتعرف هذه؟ قلت: لا. قالت: هذه عبادة أم جعفر بن يحيى؛ فسلمت عليها ورحبت بها، وقلت لها: يا فلانة، حدثيني ببعض أمركم، قالت: أذكر لك جملة كافية فيها اعتبار لمن اعتبر، وموعظة لمن فكر، لقد هجم علي مثل هذا العيد وعلى رأسي أربع مائة وصيفة، وأنا أزعم ان ابني جعفراً عاق بي، وقد أتيتكم في هذا اليوم والذي يقنعني جلدا شاتين، أجعل أحدهما شعاراً والآخر دثاراً.
قال ثمامة بن أشرس: بت ليلة عند جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، فانتبهت ببكائه فقلت: ما يبكيك، لا أبكى الله عينيك؟ قال: رأيت في منامي كأن شيخاً قد أتاني، فأخذ بعضادتي باب البيت الذي أنا فيه فقال:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فقلت مجيباً له:
بلى نحن كنا أهلها وأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
قال: فلما رأيته على هذه الحال انصرفت إلى منزلي، فلما أصبحت غدوت إلى دار السلطان فإذا بجثته عند الجسر، وإذا خلق كثير حولها. فقلت: ما هذا؟ فقالوا: وجه السلطان إلى جعفر بن يحيى في الليل من ضرب عنفه، وقد أمر بصلبه. فمضيت لحاجتي ورجعت، فإذا هو مصلوب فقلت:
في آل برمك للورى عظة ... لو كان يعمل فيهم الفكر
منحتهم الدنيا خزائنها ... واختصهم بصفائه الدهر(6/105)
حتى إذا بلغوا السها شرفا ... حقا وقصر عنهم الفخر
عز الزمان بهم فجعفرهم ... بعد الحجاب محله الجسر
وتمزقوا من بين مصطلم ... ومكبل قد ضمه الأسر
قال اسحق الموصلي: قال لي الرشيد بعد قتل جعفر وصلبه: اخرج بنا لننظر إلى جعفر فلما وصل إليه جعل ينظره ويتأمله، وأنشأ يقول:
تقاضاك دهرك ما أسلفنا ... وكدر عيشك بعد الصفا
فلا تعجبن فن الزمان ... رهين بتفريق ما ألفا
قال: فنظرت غليه ثم قلت: إن كنت يا جعفر أصبحت آية، فلقد كنت في الجود غاية، قال: فنظر إلي الرشيد كالجمل الصؤول وهو مغضب وأنشأ يقول:
ما يعجب العالم من جعفر ... ما عاينوه فبنا كانا
من جعفر أو من أبوه ومن ... كانت بنو برمك لولانا؟؟
ثم حول وجه فرسه وانصرف.
ولما بلغ سفيان بن عيينة قتل جعفر بن يحيى وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إلى الكعبة وقال: اللهم، إنه قد كان كفاني مؤنة الدنيا، فاكفه مؤنة الآخرة.
قال الأصمعي: كنت أجالس الرشيد وأسامره، فوجه إلي ليلة في ساعة يرتاب فيها البريء، فتناولت أهبة الدخول عليه فمنعت من ذلك وأعجلت، فدخلني من ذلك رعب شديد وخوف، وجعلت أتذكر ذنباً فلا أجده، وجعلت نفسي تظن الظنون. فلما دخلت عليه سلمت ومثلت بين يديه قائما وهو مطرق، فرفع رأسه إلي، فلما رآني أمرني بالجلوس، فجلست، فقال: يا عبد الملك، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال:(6/106)
لو أن جعفر خاف أسباب الردى ... لنجا بمهجته طمر ملجم
ولكان من حذر المنون بحيث لا ... يرجو اللحاق به الغراب القشعم
لكنه لما تقارب يومه ... لم يدفع الحدثان عنه منجم
وكان بين يديه طست مغطى بمنديل، فأمر بكشفه فكشف، فإذا رأس جعفر بن يحيى البرمكي، ثم قال: الحق بأهلك يابن قريب، فنهضت ولم أجر جوابا للرعب. فلما أفرخ روعي فكرت في ذلك، فوجدته أحب أن يعلمني مكره ونكره ودهاءه ليتحدث به عنه. قال الأصمعي: فخرجت وأنا أقول:
أيها المغرور هل لك ... عبرة في آل برمك
عبرة لم ترها أنت ... ولا قبل آت لك
قتل جعفر بن يحيى في صفر سنة سبع وثمانين ومائة، وهو ابن سبع وثلاثين سنة. وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة.
جعونة بن الحارث بن خالد
ويقال: ابن جعونة بن قرة النميري العامري من أهل الرها، روى عن عمر بن عبد العزيز، واستعمله عمر بن عبد العزيز على الدروب.
حدث عن هاشم الأوقص، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اشترى ثوبا بعشرة دراهم، منه درهم حرام، لم يقبل الله له صلاة ما دام عليه.(6/107)
وفي رواية: ثم أدخل أصبعيه في أذنيه ثم قال: صمتا إن لم أكن سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين أو ثلاثا.
قال جعونة: ولى عمر بن عبد العزيز عمرو بن قيس السكوني الصائفة فقال: اقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم، ولا تكن في أولهم فتقتل، ولا في آخرهم فتفشل، ولكن كن وسطاً حيث يرى مكانك ويسمع صوتك.
دخل جعونة بن الحارث على عمر بن عبد العزيز فقال: ياجعونة، إني قد ومقتك فإياك أن أمقتك، أتدري ما يحب أهلك منك؟ قال: نعم، يحبون صلاحي. قال عمر: لا، ولكنهم يحبون ما قام لهم سوادك، وأكلوا في غمارك، وتزودوا على ظهرك. فاتق الله ولا تطعمهم إلا طيبا.
ونسبه بعض ولده فقال: هو جعونة بن الحارث بن خالد بن سعد بن مالك بن نضلة بن عبد الله بن كليب بن عمرو بن عامر بن ببيعة بن عامر بن صعصعة.
وذكروا أن أباه الحارث لما هاجر إلى الجزيرة نزل وادي بني عامر، ثم انتقل منه إلى الرها فاتخذها منزلا، وعظم قدر جعونة بها حتى اختصه عمر بن عبد العزيز. وكان ابنه منصور بن جعونة أحد عدد عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس ووجوه قواده، فلما سار إلى كفر توثا لمرافقة أبي مسلم خلف أمواله ونقلته بالرها عند منصور، فلما هزم عبد الله وانحل أمره امتنع منصور على أبي مسلم بالرها بالرها، فحاصره مدة، فلم تكن له فيه حيلة إلا بالأمان، فإنه أمنه على نفسه وماله. فلما حصل في يد المنصور نقله عنها إلى ملطية، وهدم سور مدينة الرها وسائر سيران الجزيرة من أجل ما كان من امتناع منصور بها وذلك سنة أربعين ومائة.(6/108)
قال أبو سهل الرازي النحوي: قال أبو جعفر المنصور يوماً: ألا تحمدون الله إذ رفع عنكم الطاعون في ولايتنا؟ فقال له جعونة: الله أعدل من أن يجمعك علينا والطاعون. فقتله.
قال الحافظ: يعني إذ كان المنصور والياً على الجزيرة قال: ولا أرى جعونة بقي إلى أيام السفاح، ولعله ابنه منصور بن جعونة.
جماهر بن محمد بن أحمد بن أحمد
ابن حمزة بن سعيد بن عبيد الله بن وهيب بن عباد بن سماك بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سينا بن يشجب بن يعرب بن قحطان الغساني من أهل زملكا ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من يتزود في الدنيا ينفعه في الآخرة. " كان ثقة مأموناً. توفي في المحرم سنة ثلاث عشرة وثلاث مئة.
جمال بن بشر العامري الكلابي
قيل: ممن غزا مع مسلمة بن عبد الملك.
قال أبو محمد عبد الله بن سعد القطربلي:
اجتمع قوم فذكروا الكذب فذموه، فقال شيخ منهم: لربما نفع الكذب ونعم الشيء(6/109)
هو فاستعملوه. قال: فعجب القوم لقوله ونظروا إليه فقال: سأخبركم بذلك؛ إني كذبت كذبتين فسرقت بإحداهما واستغنيت بالأخرى؛ كنت في الأمداد الذين وجهوا إلى مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم، فالتقى المسلمون والعدو ذات يوم فوقفت مع الناس وراء مسلمة، ورجل من المسلمين يقاتل العدو قتالاً شديداً، ويبلي بلاء حسناً، فقال مسلمة، من الرجل جزاه الله خيراً عن الإسلام؟ فقلت من ورائه: هذا جمال بن بشر الكلابي أصلح الله الأمير، فسميت نفسي إذ لم يحضر من يعرفني ولا يعرف الرجل، فجعل مسلمة يقول: جزاك الله يا جمال عن الإسلام خيرا. فلما انصرف، وكان العشي رأيت وجوه أصحابي يتهيؤون للمصير إليه فتهيأت، ثم صرت إلى الباب فزبرني الحاجب ومنعني من الدخول فناديت بأعلى صوتي: أنا جمال بن بشر الكلابي أصلح الله الأمير. فقال مسلمة: أدخلوه أدخلوه، جزاك الله خيراً يا جمال عن الإسلام، أتدرون ما صنع هذا؟ فأحسن الثناء. فلما رأى ذلك أصحابي أطنبوا في الثناء علي، وشايعوه على غير معرفة منهم، فألحقني في شرف العطاء، فسرقت بهذه. ثم صرنا بعد ذلك إلى أمير المؤمنين، فأوفد رجلين إلى خالد بن عبد الله القسري أنا أحدهما، والآخر روح بن زنباع الجذامي، فلما وصلنا إلى خالد قدم ابن عمه علي وفضله في المجلس واللقاء والجائزة وانصرفنا، وقد كنت أخالط أقواما بالكوفة يعرفون بالتجارة، فأبضعوا معي بضائع من مال وبرود وغير ذلك، فأصابتنا السماء في الطريق، فلما نزلت المنزل حللت ما كان معي وسررت الثياب، وأخرجت المال فخلطت بعضها ببعض فنظر إلي روح، فدخله من ذلك حسد فقال: ما هذا يا أخا بني عامر؟؟ قلت: ما كنت احب أن تعلم بهذا، فألح علي في المسألة فقلت: ابن عملك فضلني في الجائزة واستحياك فاستكتمني، فتغيظ عليه وبسط لسانه فيه يسبه ويتنقصه ويشكوه عند وجوه قومه، وجعلت أحسن الثناء عليه وأظهر الشكر له، فكتب إليه بذلك، فكتب: إني والله ما فعلت، ولقد فضلت روحا على العامري في جميع حالاته، ولكن العامري رجع إلى شرف وكرم ورجع روح إلى لؤم، وقد وجهت بألف دينار إلى العامري فأوصلوها إليه. قال: فاستغنيت بها. فنعم الشيء الكذب.
قال الحافظ: إن كان حفظ اسم روح في هذه الحكاية فهي كذبة ثالثة من جمال الكلابي، فإن روحاً مات في آخر أيام عبد الملك، قيل أن يلي خالد القسري العراق، فإنه إنما وليه لهشام بن عبد الملك، إلا أن يكون ابن روح أو رجلا من قبيلة روح. والله أعلم.(6/110)
جمح بن القاسم بن عبد الوهاب
ابن القاسم بن عبد الوهاب بن أبان بن خلف أبو العباس الجمحي المؤذن المعروف بابن أبي الحواجب حدث عن إسماعيل بن محمد أبي قصي بسنده عن عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو كلب ضاري، نقص من أجره كل يوم قيراط. القيراط مثل أحد ".
وحدث عنه أيضا بسنده إلى كعب بن عجرة. أنه مر به سلمان الفارسي وهو مرابط في بعض أرض فارس، فسأله سلمان: مالك هاهنا؟ قال: مرابط. قال: أفلا أخبرك بأمر سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رباط يوم في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجير من فتنة القبر، وأجري عليه صالح عمله إلى يوم القيامة ".
ولد جمح بن القاسم في سنة ثمان وتسعين ومائتين، وتوفي بدمشق سنة ثلاث وستين وثلاث مائة في شعبان. وكان ثقة نبيلاً.
جميل بن أحمد بن فضالة بن الصقر
ابن فضالة ابن سالم بن جميل بن عمرو بن ثوابة بن الأخنس بن مالك بن النعمان بن امرىء القيس أبو حارثة اللخمي أنشد جميل بن أحمد لبعض أهل العلم:
وما لمت في الإنفاق نفسي لأنني ... رأيت بخيل القوم أهونهم فقدا
فلا تعجبي يا سلم إن قل درهم ... فما قل حتى قل من يطلب الحمدا(6/111)
وليس الفتى المرزوق من زاد ماله ... ولكنما المرزوق من رزق الرشدا
جميل بن تمام بن علي
أبو الحسن المقدسي الطحان كان حافظا للقرآن، وسمع الحديث.
حدث بدمشق عن أبي الحسن علي بن طاهر، بسنده عن عبد الله بن السائب قال:
شهدت العيد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما قضيت الصلاة قال: " قد قضينا الصلاة، فمن شاء أن يشهد الخطبة فليشهد، ومن أحب أن ينصرف فلينصرف ".
توفي جميل بن تمام في صفر سنة ست وثلاثين وخمس مائة.
جميل بن عبد الله بن معمر
ابن صباح بن ظبيان بن حن بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد أبو عمرو العذري الشاعر المعروف بجميل بن معمر صاحب بثينة حدث عن أنس بن مالك، ووفد على الوليد بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز، وقد اختلف في نسبه، ومنهم من لم يذكر صباح في نسبه.
وحن بحاء مهملة مضمومة بعدها نون.
وبثينة هي بنت حبا بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة.
قال: والحني بضم الحاء المهملة وكسر النون، هو جميل بن عبد الله بن معمر الشاعر الحني.(6/112)
كان جميل مع الوليد بن عبد الملك في سفر والوليد على نجيب، فرجز به ابن العذري فقال:
يا بكر هل تعلم من علاكا ... خليفة الله على ذراكا
فقال الوليد لجميل انزل فارجز، وظنه يمدحه، فنزل فقال:
أنا جميل في السنام من معد ... في الذروة العلياء والركن الأشد
فقال له: اركب لا حملك الله. ولم يمدح جميل أحد قط.
قال أدهم التميمي: لقيني كثير عزة فقال: لقيني جميل بن معمر في هذا الموضع الذي لقيتك به فقال: من أين أقبلت؟ فقلت: من عند أبي الحبيبة - يعني أبا بثينة - ثم قال لي: وإلى أين تريد؟ فقلت إلى الحبيبة - أعني عزة - فقال لي: لا بد من أن ترجع عودك على بدئك، فتسجد لي موعداً. فقلت: إن عهدي بها الساعة، وأنا أستحيي. قال: لابد من ذلك. قال: قلت: فمتى آخر عهدك بهم؟ قال: بالدوم وهم يرحضون ثيابهم. قال: فأتيت أباها فقال: ما ردك يا بن أخي؟ فقلت: أبيات عرضت لي أحببت أن أعرضها عليك. قال: هات. فأنشدته:
فقلت لها يا عز أرسل صاحبي ... على نأي دار والموكل مرسل
بأن تجعلي بيني وبينك موعداً ... وأن تأمريني بالذي فيك أفعل
وآخر عهدي منك يوم لقيتني ... بأسفل وادي الدوم والثوب يغسل(6/113)
قال: فضربت بثينة جانب الخدر وقالت: إخسأ اخسأ. فقال أبوها، مهيم يا بثينة! قالت: كلب يأتينا إذا الناس نوم الناس من وراء الرابية. قال: فأتيته، فأخبرته أن قد وعدته إذا نوم الناس من وراء الرابية.
ولما استعدى آل بثينة مروان بن الحكم على جميل، وطلبه ربعي بن دجاجة العبدي صاحب تيماء، هرب إلى أقاصي بلاده، فأتى رجلاً من بني عذرة شريفاً وله بنات سبع كأنهن البدور جمالاً، فقال: يا بناتي تحلين بجيد حليكن، والبسن جيد ثيابكن، ثم تعرضن لجميل، فإني أنفس على مثل هذا من قومي، فكان جميل إذا مر بهن ورآهن أعرض بوجهه فلا ينظر إليهن، ففعل ذلك مراراً، وفعله جميل، فلما علم ما أريد بهن أنشأ يقول:
حلفت لكي تعلمن أني صادق ... وللصدق خير في الأمور وأنجح
لتكليم يوم من بثينة واحد ... ورؤيتها عندي ألذّ وأملح
من الدهر لو أخلو بكنّ وإنما ... أعالج قلباً طامحاً حيث يطمح
قال: فقال لهن أبوهن: ارجعن فوالله لا يفلح هذا أبداً.
قال محمد بن أحمد بن جعفر الأهوازي: قدم جميل بن عبد الله بن معمر على عبد العزيز بن مروان بمصر، فدخل حماماً لهم، فإذا في الحمام شيخ من أهل مصر، وكان جميل رجلا جسيماً حسناً وسيماً، فقال له الشيخ: يا فتى، كأنك لست من أهل هذه البلدة! قال: أجل. قال: فمن أين أنت؟ قال: من الحجاز. قال: من أي أهل الحجاز؟ قال: رجل من بني عذرة. قال: فما اسمك؟ قال: جميل بن عبد الله بن معمر. قال صاحب بثينة؟ قال: نعم. قال: فما رأيت فيها يا ابن أخي! فوالله لقد رأيتها ولو ذبح بعرقوبها طائر لانذبح. فقال له جميل: يا عم، إنك لم(6/114)
ترها بعيني، ولو نظرت إليها بعيني لأحببت أن تلقى الله وأنت زان.
قال: ومرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه، فدخل عليه العباس بن سهل الساعدي وهو يجود بنفسه، فقال له جميل: يا عباس، ما تقول في رجل لم يقتل نفساً، ولم يزن قطّ، ولم يسرق، ولم يشرب خمراً قطّ، أترجو له؟ فقال العباس: إي والله. قال: فقال جميل: إني لأرجو أن أكون ذلك الرجل. قال العباس: فقلت له سبحان الله! وأنت تتبع بثينة منذ ثلاثين سنة. فقال: يا عباس؛ إني لفي آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، لا نالتني شفاعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن كنت وضعت يدي عليها قطّ. قال: ومات رحمه الله.
وقيل: إن هذه الحكاية جرت له بالشام، وفيها: إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط. ثم مات.
وحدث هارون بن عبد الله القاضي قال: قدم جميل بن معمر مصر على عبد العزيز بن مروان ممتدحاً له، فأذن له وسمع مدائحه، وأحسن جائزته، وسأله عن حبه بثينة، فذكر وجداً فوعده في أمرها موعداً، وأمره بالمقام، وأمر له بمنزل وما يصلحه، فما أقام إلا يسيراً حتى مات هناك، وذلك في سنة اثنتين وثمانين.
جميل بن يوسف بن إسماعيل
أبو علي البادرائي العراقي نزل بانياس سمع بدمشق وقدمها سنة خمس وستين وأربع مائة.
حدث عن القاضي أبي الحسن محمد بن محمد بن حامد بن بنبق بسنده عن أبي أيوب أن رجلاً قال: يا رسول الله، عظني وأوجز. قال: إذا كنت في صلاتك فصلّ صلاة مودّع وإياك وما يعتذر منه، واجمع اليأس مما في أيدي الناس.
توفي جميل بالأكواخ من بانياس سنة أربع وثمانين وأربع مائة.(6/115)
جناح بن الوليد
حدث أبو مسهر عن سعيد قال: قال رجل لجناح بت الوليد: أدام الله فرحكم. قال: " إن الله لا يحب الفرحين ".
قال الحافظ: كذا قال الراوي: وإنما هو جناح مولى الوليد الذي يذكر بعد هذا.
جناح أبو مروان
مولى الوليد بن عبد الملك وكاتبه على الرسائل، وصاحب خاتمه.
روى عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ليس للمرأة أن تنتهك شيئاً من مالها، إلا بإذن زوجها.
جنادة بن حنيفة الصنعاني
حدث عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا جاء نصر الله والفتح، قال: وجاء أهل اليمن رقيقة أفئدتهم، لينة طباعهم، سخية قلوبهم، عظيمة خشيتهم، دخلوا في دين الله أفواجا.
جنادة بن أبي خالد أبو الخطاب
قيل: إنه دمشقي سكن الرّها، كان على الطراز في أيام هشام، وكان اسمه على الرقم.(6/116)
حدث عن أبي شيبة قال: قلنا لعمرو بن عنبسة. حدثنا حديثاً ليس فيه وهم ولا نسيان قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: والله ما كذبت ولا وهمت ولا نسيت وهو يقول: من توضأ خرجت خطاياه كما يخرج من بطن أمه، ومن رمى بسهم في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة، ومن صام يوماً في سبيل الله باعده الله من النار سبعين خريفاً.
وحدث جنادة عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني عن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد، آتاه الله نوراً يوم القيامة.
جنادة بن عمرو بن الجنيد
ابن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة ابن غيظ بن مرة المري
حدث عن أبيه عن جده الجنيد بن عبد الرحمن قال: دخلت من حوران آخذ عطائي، فصليت الجمعة، ثم خرجت إلى باب الدرج، وإذا عليه شيخ يقال له أبو شيبة القاصّ، يقصّ على الناس، فرغّب فرغبنا، وخوّف فبكينا. فلما انقضى حديثه قال: اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب، فلعنوا أبا تراب عليه السلام. فالتفت عن يميني فقلت له: ومن أبو تراب؟ فقال: علي بن أبي طالب، ابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج ابنته، وأول الناس إسلاماً، وأبو الحسن والحسين. فقلت: ما أصاب هذا القاص! فقمت إليه وكان ذا وفرة، فأخذت وفرته بيدي، وجعلت ألطم وجهه وأنطح برأسه الحائط، وصاح واجتمع أعوان المسجد، فوضعوا ردائي في رقبتي، وساقوني حتى أدخلوني على هشام بن عبد الملك وأبو شيبة يقدمني، فصاح: يا أمير المؤمنين، قاصّك وقاصّ آبائك وأجدادك أتى إليه اليوم أمر عظيم. فقال: من فعل بك هذا؟ فالتفتّ إلى هشام وعنده أشراف الناس فقال: أبو يحيى، متى قدمت؟ فقلت:(6/117)
أمس، وكنت على المصير إلى أمير المؤمنين فأدركتني الجمعة، فصليت، وخرجت إلى باب الدرج، فإذا هذا الشيخ قائم يقصّ، فجلست إليه فقرأ فسمعنا، ورغّب فرغبنا، وحذّر فبكينا، ودعا فأمّنّا، وقال في آخر كلامه، اختموا مجلسنا بلعن أبي تراب. فسألت: من أبو تراب؟ فقيل: علي بن أبي طالب، أول الناس إسلاماً، وابن عم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وزوج ابنته، وأبو الحسن والحسين، فوالله يا أمير المؤمنين لو ذكر هذا قرابة لك بمثل هذا الذكر ولعنه هذه اللعنة لأحللت به الذي أحللت به، فكيف لا أغضب لصهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزوج ابنته؟! قال: فقال هشام: بئس ما صنع. ثم عقد لي على السّند. ثم قال لبعض جلسائه: مثل هذا لا يجاورني هاهنا فيفسد علينا البلد فباعدته إلى السند. فقال لنا بشر بن عبد الوهاب: وهو ممثّل على باب السند، بيده اليمنى سيف وبيده اليسرى كيس يعطي منه.
ومات الجنيد بالسند فقال فيه الشاعر:
ذهب الجود والجنيد جميعاً ... فعلى الجود والجنيد السّلام
جنادة بن كبير وكنية كبير أبو أمية
الدّوسي الأزدي لأبيه صحبة، وأدرك وفاة سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وله صحبة أيضاً. سكن الأردن، وقدم دمشق.
روى أبو عبد الله الصنابحي أن جنادة بن أبي أمية أمّ قوماً. فلما قام من الصلاة التفت عن يمينه فقال:(6/118)
أترضون؟ قالوا: نعم، ثم فعل ذلك عن يساره، ثم قال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أمّ قوماً وهم له كارهون، فإنّ صلاته لا تجاوز ترقوته.
وروى أبو الخير أن جنادة بن أبي أمية حدثه، أنّ رجالاً من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال بعضهم: إن الهجرة قد انقطعت فاختلفوا في ذلك، قال: فانطلقت إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله، إن أناساً يقولون: إن الهجرة قد انقطعت، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الهجرة لا تنقطع ما كان الجهاد.
وروى حذيفة الأزدي عن جنادة الأزدي أنهم ولجوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم ثمانية رهط وهو ثامنهم يوم الجمعة، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطعام، فقال لرجل: كل. فقال: صائم، قال لآخر: كل. قال: صائم. حتى سألهم جميعاً فقال: صمتم أمس؟ قالوا: لا. قال: أصيّام غداً؟ قالوا: لا. فأمرهم أن يفطروا.
وروى جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من تعارّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، سبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: رب اغفر لي - أو قال: ثم دعا - استجيب له. فإن عزم فتوضأ ثم صلى تقبّلت صلاته.
توفي جنادة سنة ثمانين، وقيل: سنة سبع وستين، وقيل: سنة خمس وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين. وشهد فتح مصر، وولي البحر لمعاوية.
حدث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين(6/119)
عاماً ". فلما رأى ذلك جنادة بن أبي أمية، وكان معاوية أراد أن يدعيه قال جنادة: إنما أنا سهم من كنانتك، فارم بي حيث شئت.
حدث سفيان بن سليم عن جنادة بن أبي أمية الأزدي: أن معاوية كتب إليه يأمره بالغارة على جزيرة البحر بمن معه، وذلك في الشتاء بعد إغلاق البحر. فقال جنادة: اللهم، إن الطاعة علي وعلى هذا البحر، اللهم، إنا نسألك أن تسكنه وتسيرنا فيه. فزعموا أنه ما أصيب به أحد.
قال الليث: في سنة ست وخمسين غزوة عابس بن سعيد ومالك بن عبد الله الخثعمي اصطاذنة. جعل عابس على أهل مصر، وجنادة بن أبي أمية على أهل الشام، ومالك بن عبد الله على الجماعة، فشتوا بأقريطش سنة الجوع من بعد مرجعهم من اصطاذنة، وفي سنة تسع وخمسين غزوة جنادة بن أبي أمية هو وعلقمة بن جنادة الحجري وعلقمة بن الأجثم رودس.
قال جنادة بن أبي أمية: أول خطيئة كانت الحسد، أمر إبليس أن يسجد لآدم، فحسده فلم يسجد له.
جنادة بن محمد بن أبي يحيى
أبو عبد الله ويقال أبو يحيى المري الدمشقي.
حدث عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين، بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قلب ابن آدم شاب في حب اثنتين، حب المال وطول الأمد ". توفي في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومئتين.(6/120)
جندب بن زهير بن الحارث بن كثير
ابن جشم بن سبيع بن مالك بن ذهل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة بن الدؤل بن سعد مناة بن غامد وهو عمرو بن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، ويقال جندب بن عبد الله بن زهير الغامدي الأزدي.
يقال: إن له صحبة، وهو من أهل الكوفة، وكان ممن سيره عثمان من الكوفة إلى دمشق، وشهد مع علي صفين أميراً على الأزد.
قال ابن عباس: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لقالة الناس، فلا يريد به الله عز وجل. فنزل في ذلك: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً ".
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: خرج إلينا رجل من أصحاب علي يوم الجمل فقال: يا معشر شباب قريش، اكفونا أنفسكم، فإن لم تفعلوا فقد أنذرتكم رجلين، فإنهما نهمتان في الحرب. أما أحدهما، فجندب بن عبد الله الغامدي، وسأصفه لكم: هو رجل طويل، طويل الرمح يحتزم على درعه حتى تقلص عن ساقيه. وأما الآخر فمالك بن الحارث، وسأصفه لكم: هو رجل طويل الرمح، يسحب درعه سحباً عند النزال.
فبينا أنا أقاتل أقبل جندب فعرفته بصفته، فأردت أن أحيد عنه فقلت: والله ما حدت عن قرن قط، فدفع إلي وطعن برمحه في وجه حديد كان علي، فزلق عند الرمح فقال: أي عدو، قد عرفتك، ولولا خالتك لقتلتك. ثم نظرت إليه قد طعن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فعدله عن فرسه كالنحلة السحوق متعطفاً ببرد حبرة. ثم قاتلت ساعة، فأقبل مالك فعرفته بصفته، فأردت أن أحيد عنه فقلت: والله، ما حدت(6/121)
عن قرن قط، فدفع إلي فتطاعنا برمحينا، كأنهما قصبتان، ثم اضطربنا بسيفينا كأنهما مخراقان، ثم احتملني وكان أقوى مني فضرب بي الأرض وأخذ برجلي فقال: أما والله لولا خالتك ما شربت البارد أبداً.
قتل جندب مع علي بصفين، وكان على الرجالة.
جندب بن عبد الله ويقال ابن كعب
ابن عبد الله بن جزء بن عامر بن مالك بن عامر بن دهمان بن ثعلبة بن ظبيان بن غامد واسمه عمرو بن عبد الله بن كعب له صحبة.
حدث عن سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان ممن قدم دمشق في المسيرين من أهل الكوفة في خلافة عثمان.
حدث أبو عثمان النهدي: أن ساحراً كان يلعب عند الوليد بن عقبة، فكان يأخذ سيفه فيذبح نفسه ولا يضره، فقام جندب إلى السيف فأخذه فضرب عنقه، ثم قرأ: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ".
وروى الحسن عن جندب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " حد الساحر ضربة بالسيف ".
قال ابن منده: جندب بن كعب قاتل الساحر عداده في أهل الكوفة.
حدث علي قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسير، فنزل فساق بأصحابه الركاب، فجعل يقول: "(6/122)
جندب وما جندب؟ والأقطع الخير زيد وجعل يعيد ذلك ليلته ". فقال له القوم: يا رسول الله، ما زال هذا قولك منذ الليلة قال: " رجلان من أمتي يقال لأحدهما جندب، يضرب ضربة يفرق بين الحق والباطل، والآخر يقال له زيد، يسبقه عضو من أعضائه إلى الجنة، ثم يتبعه سائر جسده ".
قال: فأما جندب فإنه أتي بساحر عند الوليد بن عقبة وهو يريهم أنه يسحر، فضربه بالسيف فقتله، وأما زيد فقطعت يده في بعض مشاهد المسلمين، ثم شهدا جميعاً مع علي. فقتل زيد يوم الجمل مع علي.
وفي حديث آخر: فلما ولي عثمان، ولى الوليد بن عقبة الكوفة، فصلى بهم الغداة ركعتين ثم قال: اكتفيتم أو أزيدكم؟ فقالوا: لا تزدنا. قال: ثم أجلس رجلاً يسحر، يريهم أنه يحيي ويميت، فأتى جندب الصياقلة، فقال: ابغونا صفيحة لا ترد علي، فجاء بسيف تحت برنسه، ثم ضرب به عنق الساحر فقال: أحي نفسك الآن. فقال الناس: خارجي فقال: لست بخارجي، من عرفني فأنا الذي أعرف، ومن لم يعرفني فأنا جندب. فرفع إلى عثمان فقال: شهرت سيفاً في الإسلام، لولا ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيك لضربتك بأجود صفيحة بالمدينة. ثم أمر به إلى جبل الدخان.
وأما زيد فقطعت يده بالقادسية، وقتل يوم الجمل. فقال: ادفنوني في ثيابي فإني مخاصم، أتيناهم في دارهم، وطعنا على خليفتهم، فيا ليتنا إذ ابتلينا صبرنا.
وقيل: إن الوليد أمر بجندب ديناراً صاحب السجن، وكان رجلاً صالحاً فسجنه، فأعجبه نحو الرجل فقال: أفتستطيع أن تهرب؟ قال: نعم: قال: فاخرج، لا يسألني الله عنك أبداً.(6/123)
حدث محمد بن مخنف قال: كان أول عمال عثمان أحدث منكراً الوليد بن عقبة، كان يدني السحرة، ويشرب الخمر، وكان يجالسه على شرابه أبو زبيد الطائي، وكان نصرانياً، وكان صفياً له، فأنزله دار القبطي وكانت لعثمان بن عفان، اشتراها من عقيل بن أبي طالب، فكانت لأضيافه، وكان يجالسه على شرابه عبد الرحمن بن خنيس الأسدي، فكان الناس يتذاكرون شربهم وإسرافهم على أنفسهم، فخرج بكير بن حمدان الأحمري من القصر، فأتى النعمان بن أوس المزني وجرير بن عبد الله البجلي، فأسر إليهما أن الوليد يشرب الساعة. فقاما ومعهما رجل من جلسائهما، فمروا بحذيفة بن اليمان فأخبروه الخبر، فقال: ادخلا عليه فانظرا إن أحببتما، فمضيا حتى دخلا عليه فسلما، ونظر إليهما الوليد فأخذ كل شيء كان بين يديه فأدخله تحت السرير، فأقبلا حتى جلسا، فقال لهما: ما جاء بكما؟ قالا: ما هذا الذي تحت السرير؟ ولم يريا بين يديه شيئاً، فأدخلا أيديهما تحت السرير، فإذا هو طبق عليه قطف من عنب قد أكل عامته، فاستحييا وقاما، فأخذا يظهران عذره ويردان الناس عنه، ثم لم يرعهما من الوليد إلا وقد أخرج سريره فوضعه في صحن المسجد، وجاء ساحر يدعى بطروني، وكان ابن الكلبي يسميه اليشتابي من أهل بابل، فاجتمع إليه الناس فأخذ يريهم الأعاجيب، يريهم حبلاً في المسجد مستطيلاً وعليه فيل يمشي، وناقة تخب، وفرس تركض، والناس يتعجبون مما يرون. ثم يدع ذلك فيريهم حماراً يجيء، يشتد، حتى يدخل من فيه فيخرج من دبره، ثم يعود فيدخل من دبره فيخرج من فيه. ثم يريهم رجلاً قائماً، ثم يضرب عنقه، فيقع رأسه جانباً، ويقع الجسد جانباً، ثم يقول له: قم. فيرونه يقوم وقد عاد حياً كما كان.
فرأى جندب بن كعب ذلك فخرج إلى معقل مولى لصقعب بن زهير بن أنس الأزدي، وكانت عنده سيوف وكان معقل صيقلاً، فقال: أعطني سيفاً قاطعاً. فأعطاه إياه، فأقبل فمر على معضد التيمي من بني تيم الله بن ثعلبة فقال له: أين تريد يا أبا عبد الله؟ قال: أريد أن أقتل هذا الطاغوت الذي الناس عليه علوق. قال: من تعني؟ قال: هذا العلج الساحر، الذي سحر أميرنا الفاجر العاتي، فإني والله لقد مثلت الرأي فيهما، فظننت أني إن قتلت الأمير سيوقع بيننا فرقة تورث عداوة، فأجمع رأيي على قتل الساحر. قال: فاقتله ولا تل في نيتك فأنت على هدى وأنا شريكك.(6/124)
فجاء حتى انتهى إلى المسجد والناس فيه مجتمعون على الساحر، وقد التحف على السيف بمطرف كان عليه، فدخل بين الناس فقال: أفرجوا أفرجوا، فأفرجوا له، فدنا من العلج فشد عليه فضربه بالسيف فأذرى رأسه، ثم قال: أحي نفسك. فقال الوليد: علي به، فأقبل به إليه عبد الرحمن بن خنيس الأسدي وهو على شرطة، فقال: اضرب عنقه. فقام مخنف بن سليم في رجال من الأزد فقالوا: سبحان الله! أتقتل صاحبنا بعلج ساحر! لا يكون هذا أبداً. فحالوا بين عبد الرحمن وبين جندب. فقال الوليد: علي بمضر. فقام إليه شبيب بن ربعي فقال: لم تدعو مضر! تريد أن تستعين بمضر على قوم منعوا أخاهم منك أن تقتله بعلج ساحر كافر من أهل السواد! لا تجيبك والله مضر إلى الباطل، ولا إلى ما لا يحل! قال الوليد: انطلقوا به إلى السجن حتى أكتب فيه إلى عثمان. قالوا: أما السجن فإنا لا نمنعك أن تحبسه. فلما حبس جندب أقبل ليس له عمل إلا الصلاة الليل كله وعامة النهار، فنظر إليه رجل يدعى دينار ويكنى أبا سنان، وكان صالحاً مسلماً، وكان على سجن الوليد فقال له: يا أبا عبد الله ما رأيت رجلاً قط خيراً منك، فاذهب رحمك الله حيث أحببت، فقد أذنت لك. قال: فإني أخاف عليك هذا الطاغية أن يقتلك. قال أبو سنان: ما أسعدني إن قتلني، انطلق أنت راشداً. فخرج فانطلق إلى المدينة. وبعث الوليد إلى أبي سنان، فأمر به فأخرج إلى السبخة فقتل، وانطلق جندب بن كعب فلحق بالحجاز فأقام بها سنين.
ثم إن مخنفاً وجندب بن زهير قدما على عثمان فأتيا علياً فقصا عليه قصة جندب بن كعب، فأقبل علي فدخل معهما على عثمان فكلمه في جندب بن كعب، وأخبره بظلم الوليد له. فكتب عثمان إلى الوليد: أما بعد، فإن مخنف بن سليم وجندب بن زهير شهدا عندي لجندب بن كعب بالبراءة وظلمك إياه، فإذا قدما عليك فلا تأخذن جندباً بشيء مما كان بينك وبينه، ولا الشاهدين لشهادتهما، فإني والله أحسبهما قد صدقا، ووالله لئن أنت لم تعتب وتنيب، لأعزلنك عنهم عاجلاً والسلام.(6/125)
جندب بن عمرو بن حممة بن الحارث
ابن رفاعة بن ثعلبة بن لؤي بن عامر بن غنم بن دهمان بن منهب بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد الدوسي الأزدي: له صحبة شهد يوم اليرموك أميراً على بعض الكراديس، واستشهد بأجنادين سنة ثلاث عشرة. ويقال باليرموك.
قال أبو حذيفة إسحاق بن بشر: وثبت جندب بن عمرو - يعني يوم اليرموك - ورفع رايته وهو يقول: يا معشر الأزد، إنه لا يبقى ولا ينجو من القتل والعدو والإثم إلا من قاتل، ألا وإن المقتول الشهيد والخائب من تولى ثم أخذ يقول: يا معشر الأزد، إنه لا يمنع الراية إلا الأبطال. فقاتل حتى قتل.
وفي رواية: ونادى أبو هريرة الدوسي: يا مبرور يا مبرور، فطافت به الأزد.
جنيد بن حكيم بن الجنيد أبو بكر
الأزدي البغدادي الدقاق سمع بدمشق.
حدث عن منصور بن أبي مزاحم بسنده عن أنس قال: كناني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببقلة كنت أجتنيها.
توفي جنيد بن حكيم سنة ثلاث وثمانين ومائتين.(6/126)
جنيد بن خلف بن حاجب بن الوليد
ابن جنيد أبو يحيى السمرقندي الفقيه قدم دمشق وحدث بها.
روى عن أبي هشام المؤمل بن هشام العسكري بسنده عن أبي هريرة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: هل من رجل يأخذ مما فرض الله ورسوله كلمة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فيجعلهن في طرف ردائه فيعمل بهن ويعلمهن؟ قال: قلت: أنا، وبسطت ثوبي، وجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحدث بحديث، حتى سكت، فضممت ثوبي إلى صدري. فإني لأرجو أن أكون لم انس حديثاً سمعته منه بعد.
جنيد بن عبد الرحمن بن عمرو
ابن الحارث بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف ابن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان أبو يحيى المري من أهل دمشق. استعمله هشام بن عبد الملك على السند وخراسان فمات بها، وكان من الأجواد.
روى عنه ابن ابنه جنادة بن عمرو بن الجنيد بن عبد الرحمن حكاية مذكورة فيما تقدم في ترجمة جنادة.
قال أبو القلمّس:
كان الشعراء يغشون الجنيد بن عبد الرحمن المري، فقال رجل منهم يوماً والجنيد مغتم: أيها الأمير، إما أن تصلني أو تضرب لي موعداً، قال موعدك الحشر. فمر الشاعر راجعاً. فلما كان بعد أيام دنا من الجنيد شاعر آخر فقال:
أرحني بخير منك إن كان آتياً ... وإلا فواعدني كميعاد زابل
وزابل هو الشاعر الأول الذي وعده الحشر فقال له الجنيد: ويحك، وما وعدت(6/127)
زابلاً؟ قال: الحشر. فقال الجنيد لصاحبه شرطه: إن فاتك زابل فهيئ نفسك فأتبع زابل على البريد، فلحق بالطريق بهمذان، فرد إلى الجنيد بمرو، فأعطاه الجنيد مائة ألف، وأعطى المذكر به الشاعر خمسين ألفاً. قال: وبين مرو وهمذان نحو ثلاث مائة فرسخ.
وكان الجنيد بن عبد الرحمن تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب، فغضب هشام على الجنيد وولى عاصم بن عبد الله خراسان، وكان الجنيد سقي بطنه فقال هشام لعاصم: إن أدركته وبه رمق فأزهق نفسه، فقدم عاصم وقد مات الجنيد.
وذكروا أن جبلة بن أبي رواد دخل على الجنيد عائداً فقال: يا جبلة، ما يقول الناس؟ قال: قلت: يتوجعون للأمير. قال: ليس عن هذا أسألك، ما يقولون؟ وأشار نحو الشام. قال: قلت: يقدم على خراسان يزيد بن شجرة الرهاوي. قال: ذلك سيد أهل الشام. قال: ومن؟ قلت: عصمة أو عصام. وكنيت عن عاصم. قال: إن قدم عاصم قعد وجاهد، لا مرحباً به ولا أهلاً. قال: فمات في مرضه وذلك في المحرم سنة ست وعشرة ومائة، واستخلف عمارة بن خريم، وكانت وفاته بمرو فقال أبو الجويرية عيسى بن عصبة يرثيه:
ذهب الجود والجنيد جميعاً ... فعلى الجود والجنيد السلام
أصبحا ثاويين في بطن مرو ... ما تغنى على الغصون الحمام
كنتما نهزة الكرام فلما ... مت مات الندى ومات الكرام
ثم أتى أبو الجويرية بعد ذلك خالد بن عبد الله وامتدحه فقال له خالد: ألست القائل: ذهب الجود والجنيد جميعاً اذهب إلى الجود حيث دفنته فاستخرجه.
وفي رواية: مالك عندنا شيء. فخرج فقال:
تظل لامعة الآفاق تحملنا ... إلى عمارة والقود السراهيد(6/128)
قصيدة امتدح بها عمارة بن خريم ابن عم الجنيد، وعمارة هو جد أبي الهيذام صاحب العصبية بالشام. قال: وقدم عاصم بن عبد الله، فحبس عمارة بن خريم وعمال الجنيد وعذبهم، وقيل: إن الجنيد مات سنة خمس عشرة.
عن ضمرة بن ربيعة قال: جاء مؤذن الجنيد بن عبد الرحمن إليه في مرضه الذي مات فيه فسلم عليه بالإمارة، فقال: يا ليتها لم تقل لنا.
جون بن قتادة بن الأعور بن ساعدة
ابن عوف بن كعب بن عبد شمس بن سعد بن زيد مناه بن تميم العبشمي قيل: إن له صحبة.
حدث جون بن قتادة قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض أسفاره، فمر بعض أصحابه بسقاء معلق فيه ماء، فأراد أن يشرب فقال صاحب السقاء: إنه جلد ميتة، فأمسك حتى لحقهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكروا ذلك له فقال: اشربوا فإن دباغ الميتة طهورها.
هكذا روي. وقيل: ليس لجون صحبة، وإنما هو يرويه جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق. قال: وهو الصواب.
عن جون عن سلمة بن المحبق أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا في غزوة تبوك بماء من عند امرأة، فقالت ما عندي ماء إلا في قربة غير ذكي، فقال: أليس دبغتها؟ قالت: نعم. قال: فإن دباغها ذكاتها ".
وفي رواية: فإن الأديم طهوره دباغه.(6/129)
وحدث شعبة عن قتادة عن الحسن عن جون بن قتادة، عن سلمة بن المحبق، أن رجلا من صحابة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يزال يسافر ويغزو، وأن امرأته بعثت معه جارية لها فقالت: تغسل رأسك وتخدمك، وتحفظ عليك. ولم تجعلها له، وإنه طال سفره في وجهة فوقع بالجارية، فلما قفل أخبرت الجارية مولاتها بذلك، فغارت غيرة شديدة فغضبت، فأتت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته يالذي صنع فقال لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كان استكرهها فهي عتيقة وعليه مثلها، وإن كان أتاها عن طيب نفس منها ورضاها فهي له، وعليه مثل ثمنها لك. ولم يقم فيه حداً.
حدث جون بن قتادة قال: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير، وكانوا يسلمون على الزبير بالإمرة. فقال: السلام عليك أيها الأمير؛ فقال: وعليك السلام. قال: هؤلاء القوم قد أتوا إلى مكان كذا وكذا، قال: فلم أر قوماً أرث سلاحاً ولا أقل عدداً ولا أرعب قلوباً من قوم أتوك، ثم انصرف.
جوية بن عائذ ويقال بن عاتك
ويقال ابن أبي إياس ويقال ابن عبد الواحد النصري من بني نصر بن معاوية ويقال الأسدي النحوي الكوفي وفد على معاوية قال: لما قدمت على معاوية بن أبي سفيان قال لي: يا جوية ما القرابة؟ قلت: المودة. قال: فما السرور؟ قلت: المواتاة. قال: فما الراحة؟ قلت: الجنة. قال: صدقت.(6/130)
قال الفراء في قوله تعالى: " قل أوحي إلي " قال القراء مجمعون على أوحي وقرأها جوية قل أحي إلي، من وحيت، فهمز الواو لأنها انضمت. كما قال: " وإذا الرسل أقتت " قال: وأهل الحجاز يقولون: أوحيت. وأسد: وحيت. وقال بعض بني كلاب: إنه ليحى إلي وحياً ما أعرفه.
جيش بن خمارويه بن أحمد بن طولون
ولي إمرة دمشق بعد أبيه أبي الجيش مدة يسيرة، ثم خرج متوجهاً إلى مصر فقتل قبل أن تطول مدته.
بويع جيش بدمشق في ذي الحجة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وخرج إلى مصر، واستخلف على دمشق طغج بن جفّ.
حدث ربيعة بن أحمد بن طولون قال: لما توفي خمارويه قبض علّ وعلى مضر وشيبان ابني أحمد بن طولون جيش بن خمارويه وحبسنا بدمشق. فلما قفل إلى مصر حبسنا في حجرة من الميدان معه، وكانت تأتينا في كل يوم مائدة نجتمع عليها، وكان في الحجرة رواق وبيتان وجلوسنا في الرواق، فوافى خادم له، فأدخلوا أخانا مضر في البيت فانفصل عنا، فكانت المائدة تقدم إلينا ونمنع أن نلقي إليه منها شيئا، فقام خمسة أيام لا يطعم ولا يستغيث، ثم وافانا ثلاثة من أصحاب جيش فقالوا: ما مات أخوكم بعد! فقلنا: ما نسمع له حسّاً، ففتحوا الباب فوجدوه حيّاً، ورام القيام فلم يصل إليه، فرماه الثلاثة بثلاثة أسهم في مقاتله فطعن، وكانت ليلة الجمعة وأخرجوه وأغلقوا الباب علينا، وأقمنا يوم الجمعة والسبت ولم يقدم إلينا طعام، فظننا أنهم يسلكون بنا طريقه، فلما كان يوم الأحد سمعنا صارخة في الدار، وفتح باب الحجرة(6/131)
وأدخل إلينا جيش بن خمارويه. فقلنا: ما خبرك؟ فقال: غلب أخي على أمري، وتولى إمارة البلد هارون بن خمارويه؛ فقلنا: الحمد لله الذي قبض يدك وأضرع خدك. فقال: ما كان عزمي إلا أن أحقكما بأخيكما. وأنفذ إلى جماعتنا مائدة. فلما طعمنا بعث إلينا خادماً أن جيشاً قد كان عزم على قتلكما كما قتلأخاكما، فاقتلاه وخذا بثأركما منه وانصرفا على أمان، وبعث إلينا خدماً فتسرعوا إليه فقتل، وانصرفنا إلى منازلنا وقد كفينا عدونا.
وكان جيش لما صار إلى مصر وثب بعمه أبي العشائر فقتله، فتحرك الناس بمصر لقتله، ووقع بمصر نهب وحريق، ووثب هارون بن خمارويه على جيش بن خمارويه فقتله، وصار الأمر إلى هارون في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وكانت مدة جيش تسعة أشهر. وقيل ستة أشهر.(6/132)
أسماء النساء على حرف الجيم
جويرية بنت أبي سفيان صخر بن حرب
أخت أم حبيبة ويزيد ومعاوية بني أبي سفيان أسلمت بعد الفتح وبايعت سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت اليرموك، وسكنت دمشق، وأمهم جميعاً هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
دخلت جويوية بنت أبي سفيان على أخيها معاوية تشكو إليه الأرق. فقال: ولم ذاك يا أخته؟ قالت: أم والله إنه لمن غير ألم، وما هو إلا تفكر فيك وفي علي بن أبي طالب، وتفضيل الناس علياً عليك، وأنت ابن صخر بن حرب بن أمية، وكان أمية من قريش لنابها الذي تقضى عنده آرابها، وأنت ابن صخر بن حرب بن أمية، القائل الفاعل. ابن ماء المزن الحلاحل، وأنت بعد ذلك كاتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذو صهره من أمته ونجيبه من عترته. فقال لها معاوية: فعلى عليّ تعوّلين بالشرف! وهو ابن عبد المطلب، المطعم في الكرب، الفرّاج للكرب، مع ما كان له من الفواضل والسوابق مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما إني سأريك التي حاولت وحاولت، حتى تعلمي فضل رأيي وحلمي، فادخلي القبة، وأرخي عليك السجف.
ثم قال لآذنه: انظر من بالباب. فإذا هو بأربعة من بني تميم، الأحنف بن قيس، وزيد بن جلبة، وجارية بن قدامة، وسماك بن مخرمة، فقال: ائذن للأحنف بن قيس فدخل وقضى سلامه فقال: إيهاً يا حنيف بني قيس! قال: مهلاً يا أمير المؤمنين، بل(6/133)
الأحنف بن قيس. قال: أأنت المطلع غدراً، الناظر في عطفيه شزراً، تحمل قومك على مدلهمات الفتن، وتذكرهم بقديمات الإحن، مع قتلك أمير المؤمنين عثمان، وخذلانك أم المؤمنين، ورودك عليّ بالخيل يوم صفين! فقال: والله يا أمير المؤمنين، إن منه ما أعرف، ومنه ما أنكر، فأما قولك قتل أمير المؤمنين، فأنتم معشر قريش نحرتم ودجه، وسقيتم الأرض دمه. وأما قولك خذلاني أم المؤمنين عائشة، فإني نظرت في كتاب الله فلم أر لها عليّ حقاً إلا أن تقر في بيتها وتستتر بسترها. فلما برزت عطّلت ما كان لها عليّ من حق. وأما قولك ورودي عليك بالخيل يوم صفين، حين أردت أن تقطع أعناقهم عطشاً وتقتلهم غرثاً. وايم الله لو أحد الأعجمين غلب كانوا أنكى شوكة وأشد كلبا. قال: اخرج عني.
ثم قال: ائذنوا لزيد بن جلبة. فدخل وقضى سلامه. فقال له: إيهاً يازييد بني جليبة! قال: مهلاً يا أمير المؤمنين، بل زيد بن جلبة يا أمير المؤمنين. إنا فررنا قريشاً كلها، فوجدناك آمنها عهداً، وأوفاها عقداً، فإن تف فأهل الوفاء أنت، وإن تغدر فإنا خلّفنا خلفنا خيلاً جيادا، وأذرعة شدادا، وأسنة حدادا، وإن شئت لتصفين روعة صدورنا بفضل رأيك وحلمك. قال: إذاً نفعل. قال: إذاً نقبل. قال: اخرج عني.
ثم قال: ائذن لجارية بن قدامة. فدخل وقضى سلامه، فقال له: إيهاً يا جويرية بني قدامة! قال مهلاً يا أمير المؤمنين، بل جارية بن قدامة يا أمير المؤمنين. إنا كنا نصار حرب يوم الفجار، حين حزمتم الغبار، وهمت قريش بالفرار. فقال له مه، لا أرضى لك، أنت الذي قريت أهل الشام ظباة السيوف وأطراف الرماح، قال: إي والله يا أمير المؤمنين إني لأنا هو، ولو كنت بالمكان الذي كان فيه أهل الشام لقريتك بمثل ما قريتهم به، قال: فحاجتك يا أبا فندش؟ قال: أما إنها إليك غير طويلة، تقر الناس في بيوتهم فلا توفدهم إليك، إنما يوفد إليك الأغنياء وتذرون الفقراء.
قال: ائذن لسماك بن مخرمة. فدخل وقضى سلامه. فقال: إيهاً يا سميك بني مخرمة! قال: مهلا يا أمير المؤمنين، بل سماك بن خرمة، والله يا أمير المؤمنين ما أحببناك(6/134)
منذ أبغضناك، ولا أبغضنا علياً منذ أحببناه، وإن السيوف التي ضربناك بها لعلى عواتقنا، وإن القلوب التي قاتلناك بها لبين جوانحنا، ولئن قدمت إلينا شبرا من غدر، لنقدمن إليك باعاً من ختر، قال: اخرج عني.
ثم قال لأخته: الذي عانيت من قبيله واحدة، فماذا رأيت! قالت: والله يا أمير المؤمنين لقد ضاق بي مجلسي حتى أردت أن أكلمهم لنا كلموك به. قال: إذاً والله كانوا إليك أسرع، وعليك أجراً، هم العرب لا تفروها.
جرباء بنت عقيل بن علفة بن الحارث
ابن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان المرية شاعرة، تزوجها يحيى بن الحكم بن أبي العاص زوجه إياه أبوه، ثم طلقها فأقبل إليها عقيل ومعه ابناه العملس وحزام، فحملها، فقال في ذلك عقيل:
قضت وطراً من دير يحيى وطالما ... على عجل ناطحنه بالجماجم
فأصبحن بالموماة ينقلن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال: أجز يا حزام، فأرتج عليه، فقالت الجرباء:
كأن الكرى يسقيهم صرخدية ... عقاراً تمشت في القرى والتوائم
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة، وشد عليها بالسيف، فطرح حزام نفسه عليها، فضربها، فأصاب حزاماً. وقيل: إن الذي حال بينه وبينها عملس.
أسماء الرجال على(6/135)
حرف الحاء المهملة
حابس بن سعد ويقال ابن ربيعة
ابن المنذر بن سعد بن يثربي بن عبد رضى بن قمران بن ثعلبة بن عمرو بن ثعلبة بن حيان ابن جرم وهو ثعلبة بن عمرو بن الغوث بن طيىء الطائي اليماني.
يقال إن له صحبة. وكان فيمن وجهه أبو بكر الصديق إلى الشام، فنزل حمص، وولاه عمر قضاء حمص، وقدم دمشق، وشهد مع معاوية حرب صفين، وجعله على الرجالة.
حدث حابس اليماني، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله، فلا تخفروا الله في عهده، فمن قتله طلبه الله حتى يكبه في النار على وجهه ".
حدث عبد الله بن غابر فال: دخل حابس بن سعد المسجد من السحر. وقد أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأى الناس يصلون في المسجد، فقال المراؤون: أرعبوهم فمن أرعبهم فقد أطاع الله ورسوله، فقام الرجل إلى الرجل من خلفه فوخزه من صدر المسجد وقال: إن الملائكة تصلي من السحر في مقدم المسجد.
قال الحارث بن يزيد: لما كان يوم صفين اجتمع أبو مسلم الخولاني وحابس الطائي وربيعة الجرشي، وكانوا مع معاوية فقالوا: ليدع كل إنسان منكم بدعوة، فقال أبو مسلم: اللهم، اكفنا وعافنا. وقال حابس: اللهم، اجمع بيننا وبينهم، ثم احكم بيننا وبينهم. وقال ربيعة: اللهم، اجمع بيننا(6/136)
وبينهم، ثم ابلنا بهم وابلهم بنا. فلما التقوا قتل حابس، وفقئت عين ربيعة، وعوفي أبو مسلم. فقال في ذلك شاعر أهل العراق:
نحن قتلنا حابساً في عصابة ... كرام ولم نترك بصّفين معصبا
قال عبد الواحد بن أبي عون: مرّ علي بن أبي طالب عليه السلام وهو متكىء على الأشتر، فإذا حابس اليماني مقتول، فقال الأشتر: إنا لله وإنا إليه راجعون، حابس اليماني معهم يا أمير المؤمنين، عليه علامة معاوية، أما والله لقد عهدته مؤمناً، فقال علي بن أبي طالب: والآن هو مؤمن قال: وكان حابس رجلا من أهل اليمن، من أهل العبادة والاجتهاد.
قتل حابس بصفين سنة سبع وثلاثين، وبين الجمل وبين صفين شهران أو نحوه.
حاتم بن شفيّ بن يزيد ويقال مرثد
ويقال ابن نبيه أبو فروة الهمذاني كان يخضب بحمرة.
حدث أبو فروة حاتم قال: رأيت مكحولاً يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع، ويرفع يديه قليلاً من تحت الرواح ويقول: ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرضين السبع، وملء ما فيهن من شيء بعد، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، ونرجو رحمتك، ونخاف عذابك الجد، إن عذابك بالكافرين ملحق.
وحدث حاتم بن شفي بن مرثد ابن أخت يزيد بن مرثد قال: رأيت مكحولاً يعتمّ على قلنسوة، ويرخي لها من خلفها شبراً، أو أقل من الشبر، بعمامة بيضاء.(6/137)
حاتم بن عبد الله بن سعد
ابن الحشرج امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث ابن طيئ واسمه جلهمة أبو سفانة الطائي الجواد شاعر جاهلي، قدم دمشق يخطب ماوية بنت حجر بن النعمان الغسانية.
قال جميل بن زياد النخعي: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا سبحان الله، ما أزهد كثيراً من الناس في خير! عجباً لرجل يجيئه أخوه المسلم في الحاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عذاباً لكان ينبغي أن يسارع في مكارم الأخلاق، فإنها تدل على سبيل النجاح. فقام إليه رجل وقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، أسمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وما هو خير منه، لما أتي بسبايا طيىء، وقعت جارية حمراء لعساء ذلفاء عيطاء شمّاء الأنف، معتدلة القامة والهامة، درماء الكعبين، خدلّجة الساقين، لفّاء الفخذين، خميصة الخصرين، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين، قال: فلما رأيتها أعجبت بها وقلت: لأطلبن إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجعلها في قبتي فلما تكلمت أنسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها، فقالت: يا محمد، إن رأيت أن تخلي عنا ولا تشمت بي أحياء العرب، فإني ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يحمي الذّمار، ويفك العاني، ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضيف، ويطعم الطعام ويفشي السلام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم طيىء. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه، خلّوا عنها، فإن أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق. فقام(6/138)
أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله، والله يحب مكارم الأخلاق؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده لا يدخلن الجنة أحد إلا بحسن الخلق.
وعن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، إن أبي كان يقري الضيف، ويحب الضيافة وذكر أشياء من مكارم الأخلاق. قال: إن أباك أراد أمراً فأدركه. قال سماك: يقول الذكر.
ذكر أعرابيّ حاتم الطائي فقال: كان والله إذا قاتل غلب، وإذا غلب أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب القداح سبق، وإذا أسر أطلق.
قيل لنوار امرأة حاتم: حدثينا عن حاتم. قالت: كل أمره كان عجباً، أصابتنا سنة خصّت كل شيء، فاقشعرت لها الأرض، واغبرّت لها السماء، وضنت المراضع على أولادها، وراحت الإبل حدباء حدابير ما تبض بقطرة، وحلق المال. وإنا لفي ليلة صنبرة، بعيدة ما بين الطرفين، إذ تضاغى الأصبية من الجوع عبد الله وعدي وسفانة، فوالله إن وجدنا شيئاّ نعلّلهم به. فقام إلى أحد الصبيين فحمله، وقمت إلى الصبيّة فعلّلتها، فوالله إن سكتا إلا بعد هدأة من الليل. ثم عدنا إلى الصبي الآخر فعللناه حتى سكت وما كاد. ثم افترشنا قطيفة لنا شامية ذات خمل، فأضجعنا الصبيان عليها، ونمت أنا وهو في حجرة، والصبيان بيننا. ثم أقبل عليّ يعللني لأنام، وعرفت ما يريد فتناومت فقال: مالك، أنمت! فسكتّ. فقال: ما أراها إلا قد نامت، وما بي نوم. فلما أدلهمّ الليل، وتهوّرت النجوم، وهدأت الأصوات، وسكت الرحل، إذا جانب البيت قد رفع فقال: من هذا؟ فولّى، حتى إذا قلت: قد أسحرنا أو كدنا عاد، فقال: من هذا؟ فقالت: جارتك فلانة يا أبا عدي، ما وجدت على أحد معوّلاً غيرك، أتيتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئب من الجوع، قال: أعجليهم عليّ. قالت النوار: فوثبت فقلت: ماذا صنعت! فوالله لقد تضاغى أصبيتك فما وجدت ما تعللهم به، فكيف بهذه وبولدها!(6/139)
فقال: اسكتي فوالله لأشبعنك وإياهم إن شاء الله. قال: فأقبلت تحمل اثنين، ويمشي جنبيها أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فوجاً بحربته في لبته، ثم قدح زنده وأورى ناره، ثم جاء بمدية فكشط عن جلده، ثم دفع المدية إلى المرأة، ثم قال: دونك، ثم قال: ابغي صبيانك فبغيتهم، ثم قال نسوة: أتأكلون شيئاً دون أهل الصّرم! فجعل يطوف فيهم حتى هبوا، فأقبلوا عليه، والتفع ببتّه، ثم اضطجع ناحية ينظر إليها، لا والله ما ذاق مزعة وإنه لأحوجهم إليه، فأصبحنا وما على الأرض منه إلا عظم أو حافر، وأنشأ حاتم يقول:
مهلاّ نوار أقلّي اللوم والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
قالت امرأة حاتم لحاتم: يا أبا سفانة، إني لأشتهي أن آكل أنا وأنت طعاماً وحدنا ليس عليه أحد، قال: أو اشتهيت ذلك؟ قالت: نعم. قال: فوجّهي وبرّزي خيمتك حيث اشتهيت، فحولت الخيمة من الجماعة على فرسخ، وأمرت بالطعام فهيىء وهي مرخاة ستورها عليها وعليه. فلما قارب نضج الطعام كشف عن رأسه وقال:
فلا تطبخي قدري وسترك دونها ... عليّ إذن ما تطبخين حرام
ولكن بها ذاك اليفاع فأوقدي ... بجزل إذا أوقدت لا بضرام
وكشف الستور، وقدم الطعام، ودعا الناس، فأكل وأكلوا، فقالت: ما أتممت لي بما قلت. فأجابها بأني لا تطاوعني نفسي، ونفسي أكرم عليّ من أن تثني عليّ هذا، وقد سبق لي السخاء وقال:
أمارس نفسي البخل حتى أعزّها ... وأترك نفس الجود لا أستشيرها
ولاتشتكيني جارتي غير أنها ... إذا غاب عنها بعلها لا أزورها
سيبلغها خيري ويرجع بعلها ... إليها ولم تقصر عليّ ستورها(6/140)
قال الوضاح بن معبد الطائي: وفد حاتم الطائي على النعمان بن المنذر فأكرمه وأدناه، ثم زوده عند انصرافه حملين ذهباً وورقاً غير ما أعطاه من طرائف بلده، فرحل. فلما أشرف على أهله تلقته أعاريب طيىء، فقالت: جاء حاتم، أتيت من عند الملك بالغنى، وأتينا من عند أهالينا بالفقر. فقال حاتم: هلم فخذوا ما بين يدي فتوزعوه، فوثب القوم إلى ما بين يديه من حباء النعمان فاقتسموه، فخرجت إلى حاتم طريفة جاريته فقالت له: اتق الله، وأبق على نفسه، فما يدع هؤلاء ديناراً ولا درهماً، ولا شاة ولا بعيراً. فأنشأ حاتم يقول:
قالت طريفة ما تبقى دراهمنا ... وما بنا سرف فيها ولا خرق
إن يفن ما عندنا فالله يرزقنا ... ممن سوانا ولسنا نحن نرتزق
ما يألف الدّرهم الكاريّ خرقتنا ... إلا يمرّ علينا ثمّ ينطلق
إنا إذا اجتمعت يوماً دراهمنا ... ظلّت إلى سبل المعروف تستبق
قال أبو بكر بن عباس: قال رجل لحاتم: هل في العرب أجود منك؟ قال: كل العرب أجود مني. ثم قال: نزلت على غلام من العرب يتيم ذات ليلة، وكانت له مائة من الغنم، فذبح لي منها شاة وأتاني بها، فلما قرّب إلي دماغها قلت: ما أطيب هذا الدماغ! قال: فذهب فلم يزل يأتيني منه حتى قلت قد اكتفيت، قال: فلما أصبحت فإذا هو قد ذبح المائة شاة، وبقي لا شيء له. قال الرجل: فقلت: ما صنعت به؟ قال: ومتى أبلغ شكره، ولو صنعت به كل شيء! قال: على كل حال؟ قال: أعطيته مائة ناقة من خيار إبلي.
قال أبو عبد الله بن الأعرابي: كان حاتم الطائي أسيراً في عنزة، فقالت له امرأة يوماً: قم فافصد لنا هذه الناقة - وكان الفصد عندهم أن يقطع عرق من عروق الناقة، ثم يجمع الدم فيشوى - فقام حاتم إلى الناقة فنحرها، فلطمته المرأة فقال حاتم: لو غير ذات سوار لطمتي. فذهب قوله: لو غير ذات سوار لطمتني مثلا، وقال له النسوة: إنما قلنا لك تفصدها. فقال: هكذا فصدي أنه - يريد: أنا وهي لغة طيىء -.(6/141)
وفي أنا أربع لغات: " أن قائم " بإسقاط الألف في الوصل. " وأنا قائم " بإثباتها. " وأنه " بإدخال هاء السكت. " وأن قائم " بإسكان النون. يراد بها أنا قائم.
وقوله لو غير ذات سوار لطمتني صارت مثلا، يقولها القائل عند عدو الرقيق الحسب على من هو فوقه، وحين يهتضم الرفيع ذا القدر من هو دونه.
ويروى أن حاتماً قال في هذا الخبر: هكذا فزدي أنه.
وإشمام الصاد الساكنة الزاي إذا وليتها الدال لغة للعرب معروفة جيدة، قد قرأ بها القرآن عدد من القراء، كقوله " يصدفون "، و" يصدر الناس " و" يصدر الرعاء ".
وكانت أم حاتم أيضاً من أسخى الناس. قالوا: كانت عتبة بنت عفيف بن عمرو بن امرئ القيس أم حاتم الطائي لا تمسك شيئاً، سخاء وجوداً، وكان إخوتها يمنعونها فتأبى، وكانت موسرة، فحبسوها في بيت سنة يطعمونها قوتها، لعلها تكف عما تصنع. ثم أخرجوها بعد سنة، وقد ظنوا أنها قد تركت ذلك الخلق، فدفعوا إليها صرمة من مالها وقالوا: استمتعي بها، فأتتها امرأة من هوزان كانت تغشاها، فسألتها، فقالت: دونك هذه الصرمة، فقد مسني من الجوع ما آليت ألا أمنع سائلا شيئاً. ثم قالت:
لعمري لقدماً عضني الجوع عضة ... فآليت ألا أمنع الدهر جائعا
فقولا لهذا اللائمي اليوم أعفني ... فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عسيتم أن تقولوا لأختكم ... سوى عذلكم أو منع من كان مانعا
ومهما ترون اليوم إلا طبيعة ... فكيف بتركي يا بن أم الطبائعا(6/142)
قال أبو عبيدة: لما بلغ حاتم طيىء قول المتلمس:
قليل المال يصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وحفظ المال خير من فناه ... وعسف في البلاد بغير زاد
قال: ماله - قطع الله لسانه - حمل الناس على البخل! فهلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس مالاً بعيش مقتر ... لكل غد رزق يعود جديد
ألم تر أن المال غاد ورائح ... وأن الذي يعطيك غير بعيد
قال أبو الفرج المعافى بن زكريا: لقد أحسن حاتم في قوله:
وإن الذي يعطيك غير بعيد
ولو كان مسلماً، لرجي له بما أتى من هذا ما يغتبط به في معاده، وقد أتى كتاب الله تعالى في هذا بما يعجز المخلوقون عن دركه، قال الله تعالى: " واسألوا الله من فضله " وقال تعالى " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان " قال عدي بن حاتم: شهدت أبي يكيد بنفسه، فقال لي: أي بني، إني أعهد من نفسي ثلاث خلال: والله ما خاتلت جارة لي لربية قط، ولا اؤتمنت على أمانة إلا أديتها، ولا أتي أحد قط من قبلي بسوء.
قال محرز بن أبي هريرة: مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم طيىء، فنزلوا قريباً منه، فقام إليه بعضهم فجعل(6/143)
يركض قبره برجله ويقول: يا أبا الجعواء، أقرنا. فقال له بعض الصحابة: ما تخاطب من رمة قد بليت! وأجنهم الليل فنوموا، فقام صاحب القول فزعاً. فقال: يا قوم، عليكم مطيكم، فإن حاتماً أتاني في النوم وأنشدني شعراً وقد حفظته يقول:
أبا خيبري وأنت امرؤ ... ظلوم العشيرة شتامها
أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدى حفرة صخب هامها
تبغي لي الذنب عند المبيت ... وحولك طي وأنعامها
فإنا سنشبع أضيافنا ... وتأتي المطي فنعتامها
قال: وإذا ناقة صاحب القول تكوس فنحروها، وباتوا يشتوون ويأكلون، فقالوا: والله لقد أضافنا حاتم حياً وميتاً. وأصبح القول وأردفوا صاحبهم وساروا، فإذا رجل ينوه بهم، راكبا على جمل يقود آخر فقال: أيكم أبو الخيبري؟ قال: أنا. قال: إن حاتماً أتاني في النوم فأخبرني أنه قرى أصحابك ناقتك، وأمرني أن أحملك، وهذا بعير فخذه فدفعه إليه.
ويحقق هذا الحديث عند العرب، قول ابن دارة الغطفاني، وأتى عدي بن حاتم ليمدحه فقال له: أخبرك بمالي، فإن رضيت فقل. فقال: وما مالك؟ قال: مائتا صائية وعبد وأمه وفرس وسلاح، فذلك كله لك إلا الفرس والسلاح، فإنهما في سبيل الله عز وجل. قال: قد رضيت. قال: فقل، فقال ابن دارة:
أبوك أبو سفانة الخير لم يزل ... لدن شب حتى مات في الخير راغبا
به تضرب الأمثال في الجود ميتاً ... وكان له إذ كان حياً مصاحبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به ... ولم يقر قبر قبله الدهر راكبا(6/144)
حاتم بن يونس أبو محمد
المعروف بالمخضوب الجرجاني حدث عن هشام بن عمار، بسنده عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تطلق الأمة بطلقتين، وتعتد حيضتين.
حاجب بن مالك بن أركين
أبو العباس الزكي الفرغاني سكن دمشق وحدث.
روى عن عبد الرحمن بن بشر، بسنده عن جابر قال: طفنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوافاً واحداً، وسعينا سعياً واحداً لحجنا وعمرتنا.
توفي بدمشق سنة ست وثلاث مائة.
حارثة بن بدر بن حصين بن قطن
ابن مالك بن غدانة بن يربوع أبو العبيس الغداني التميمي البصري واسم غدانة أشرس وغدانة لقب واشتقاقه من التغدن، وهو التثني والاسترخاء، ويربوع هو أبو حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة.
وفد حارثة على الوليد بن عبد الملك.
قال الشعبي: كان حارثة بن بدر التميمي أفسد في الأرض وحارب، فأتى سعد بن قيس، فانطلق سعد إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين، ما جزاء من حارب وسعى في الأرض فساداً؟ قال: "(6/145)
أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ". قال: فإن تاب قبل أن نقدر عليه؟ قال: تقبل توبته. قال: فإنه حارثة بن بدر، فأتاه به فأمنه، وكتب له كتاباً.
دخل حارثة بن بدر الغداني على زياد وبوجهه أثر، وكان حارثة صاحب شراب، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال: أصلح الله الأمير، ركبت فرساً أشقر فحملني حتى صدم بي الحائط. فقال زياد: أما إنك لو ركبت الأشهب لم يصبك مكروه.
أراد حارثة بالأشقر أنه شرب الخمر صرفاً، وأراد زياد بالأشهب الممزوج.
حارثة بن قطن بن زابر بن حصن
ابن كعب بن عليم الكلبي ثم العليمي من أهل دومة الجندل. وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحمل بن سعدانة بن حارثة بن معقل بن كعب بن عليم فأسلما، وعقد لحمل بن سعدانة لواء، فشهد بذلك اللواء صفين مع معاوية، وكتب لحارثة بن قطن كتاباً فيه: هذا كتاب من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأهل دومة الجندل وما يليها من طوائف كلب مع حارثة بن قطن، لنا الضاحية من البعل ولكم الضامنة من(6/146)
النخل، على الجارية العشر، وعلى الغائرة نصف العشر، لا تجمع سارحتكم، ولا تعد فاردتكم. تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، لا يحظر عليكم النبات، ولا يؤخذ منكم عشر البتات، لكم بذلك العهد والميثاق، ولنا عليكم النصح والوفاء وذمة الله ورسوله. شهد الله ومن حضر من المسلمين.
الضامنة: التي لا يترطب بسرها، والجارية: الماء الجاري، والغائرة: ماء لا يجري.
الحارث بن بدل وقيل ابن سليم
ابن بدل النّصري من أهل دمشق. قيل: إنه أدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث الحارث بن بدل قال: شهدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، فانهزم أصحابه أجمعون إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث، فرمى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجوهنا بقبضة من الأرض فانهزمنا، فما خيّل إليّ أنّ شجراً ولا حجراً إلا وهو في آثارنا.
وفي رواية عن الحارث بن بدل عن رجل من قومه شهد ذاك يوم حنين. قال الثقفي: فأعجزت على فرسي حتى دخلت الطائف.(6/147)
الحارث بن الحارث أبو المخارق الغامدي
له صحبة، سكن الشام، وشهد وقعة راهط.
حدث الحارث بن الحارث الغامدي قال: قلت لأبي ونحن بمنى: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء قوم اجتمعوا على صابئ. قال: فتشرفنا، فإذا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به، وهم يردون عليه قوله ويؤذونه حتى ارتفع النهار، وانصدع عنه الناس، وأقبلت امرأة قد بدا نحرها تبكي، تحمل قدحاً فيه ماء ومنديلاً، فتناوله منها وشرب وتوضأ، ثم رفع رأسه إليها فقال: يا بنيه خمري عليك نحرك، ولا تخافي على أبيك غلبة ولا ذلاً. فقلنا: من هذه؟ قالوا: هذه زينب ابنته.
حدث أبو أمامة والحارث بن الحارث وعمير بن الأسود في نفر من الفقهاء: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نادى في قريش فجمعهم، ثم قام فيهم فقال: ألا إن كل نبي بعث إلى قومه، وإني بعثت إليكم، ثم جعل يستقرئهم رجلاً رجلاً، ينسبه إلى آبائه، ثم يقول: " يا فلان عليك بنفسك فإني لن أغني عنك من الله شيئاً ". حتى خلص إلى فاطمة عليها السلام، ثم قال لها مثل ما قال لهم، ثم قال: يا معشر قريش، لا ألقين أناساً يأتوني يجرون الجنة، وتأتوني تجرون الدنيا. اللهم، لا أجعل لقريش أن يفسدوا ما أصلحت أمتي. ثم قال: ألا إن خيار أمتكم خيار الناس، وشرار قريش شرار الناس، وخيار الناس تبع لخيارهم، وشرار الناس تبع لشرارهم.
وعن الحارث بن الحارث وكثير بن مرة وعمرو بن الأسود وأبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خيار أئمة قريش خيار أئمة الناس ".
الحارث بن حرمل بن تغلب بن ربيعة
ابن نمر الحضرمي ويقال الرهاوي حدث عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: يا أهل العراق، لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم اللأبدال.(6/148)
قال رجاء بن حيوة: اذكر لي رجلين من أهل بيسان، فإنه بلغني أنه اختص بيسان برجلين من الأبدال، لا يقبض الله رجلاً منهم إلا بعث الله مكانه رجلاً ولا تذكر لي متماوتاً ولا طعاناً على الأئمة، فإنه لا يكون منهم الأبدال.
وعن رجاء بن أبي سلمة قال: قال الحارث بن حرمل لرجاء: حدثني عن رجالات بيسان، فإنا كنا نتحدث أنه لا يزال بها رجل أو اثنان من الأبدال، ولا تحدثني عن متماوت ولا طعان.
الحارث بن الحكم بن أبي العاص
ابن أمية بن عبد شمس الأموي أخو مروان قال يعمر بن عبد الله: كنت عند أبي هريرة فجاءه الحارث بن الحكم فجلس على وسادة أبي هريرة، فظن أبو هريرة أنه جاء لحاجة، فجاء رجل فجلس بين يدي أبي هريرة فقال له أبو هريرة: مالك! قال: أستعدي على الحارث بن الحكم. فقال أبو هريرة: قم يا حارث فاجلس مع خصمك، فتلكأ الحارث. فقال أبو هريرة: قم يا حريث، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر إذا جلس الحاكم فلا يجلس خصمان إلا بين يديه، ومضت السنة بذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن أئمة الهدى أبي بكر وعمر. فقام الحارث، فجلس مع خصمه بين يدي أبي هريرة فقال أبو هريرة: الآن درست. يقول: الآن صحيح.
قال سليمان بن يسار: تزوج الحارث بن الحكم امرأة، فقال عندها فرآها خضراء، فطلقها ولم يمسها، فأرسل مروان إلى زيد بن ثابت فسأله. فقال زيد: لها الصداق كاملاً. قال: إنه ممن لا يتهم. فقال: أرأيت يا مروان لو كانت حبلى، أكنت مقيماً عليها الحد؟ قال: لا.(6/149)
الحارث بن سعيد بن حمدان
أبو فراس ابن أبي العلاء التغلبي الحمداني الأمير الشاعر فارس كان يسكن منبج، ويتنقل في بلاد الشام في دولة ابن عمه أبي الحسن سيف الدولة بن حمدان.
من شعر أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان:
يا معجباً بنجومه ... لا النحس فيك ولا السعاده
الله ينقص ما يشا ... ء ومنه إتمام الزياده
دع ما تريد لما يري ... د فإن لله الإراده
وله:
لم أؤاخذك إذ جنيت لأني ... واثق منك بالإخاء الصحيح
فجميل العدو غير جميل ... وقبيح الصديق غير قبيح
وله:
لطيرتي بالصداع نالت ... فوق منال الصداع منى
وجدت فيه اتفاق سوء ... صدعني مثل صدعني
وله:
ألزمني ذنباً بلا ذنب ... ولج في الهجران والعتب
أحاول الصبر على هجره ... والصبر محظور على الصب
وأكتم الوجد وقد أصبحت ... عيناي عينيه على قلبي
قد كنت ذا صبر وذا سلوة ... فاستشهدا في طاعة الحب
قتل أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان في سنة سبع وخمسين وثلاث مائة، قتله قرغويه يعني غلام سيف الدولة المتغلب على حلب، أمر غلاماً له بالتركية فضربه بلت وقطع رأسه، وقلعت أمه سخينة عينها لما بلغها قتله. وذكر ثابت بن سنان أن أبا فراس قتل عند ضيعة تعرف بصدد، في حرب كانت بين شريف بن سيف الدولة وبين أبي فراس.(6/150)
الحارث بن سعيد الكذاب
ويقال الحارث بن عبد الرحمن بن سعد المتنبي دمشقي مولى أبي الجلاس العبدري القرشي، ويقال مولى مروان بن الحكم.
قال عبد الرحمن بن حسان: كان الحارث الكذاب من أهل دمشق، وكان مولى لأبي الجلاس، وكان له أب بالحولة، فعرض له إبليس، وكان رجلا متعبداً زاهداً، لو لبس جبة من ذهب لرئيت عليه زاهدة، قال: وكان إذا أخذ في التحميد، لم يسمع السامعون إلى كلام أحسن من كلامه. قال: فكتب إلى أبيه وهو بالحولة، يا أبتاه، أعجل علي، فإني قد رأيت أشياء أتخوف أن يكون الشيطان قد عرض لي، قال: فزاده أبوه عناء، فكتب إليه أبوه: يا بني، أقبل على ما أمرت به، إن الله يقول: " تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم ". ولست بأفاك ولا أثيم، فامض لما أمرت به. وكان يجيء إلى أهل المسجد رجلاً فيذاكرهم أمره، ويأخذ عليهم بالعهد والميثاق إن هو رأى ما يرضى قبل، وإلا كتم عليه؟ قال: وكان يريهم الأعاجيب، كان يأتي إلى رخامة في المسجد فينقرها بيده فتسبح؛ قال: وكان يطعمهم فاكهة الصيف في الشتاء، وكان يقول لهم: اخرجوا حتى أريكم الملائكة. قال: فيخرجهم إلى دير المران، فيريهم رجالاً على جبل. فتبعه بشر كثير، وفشا الأمر في المسجد وكثر أصحابه، حتى وصل الأمر إلى القاسم بن مخيمرة. قال: فعرض على القاسم وأخذ عليه العهد والميثاق، إن هو رضي أمراً قبله، وإن كرهه كتم عليه. فقال له: إني نبي، فقال له القاسم: كذبت يا عدو الله، ما أنت بنبي، ولا لك عهد ولا ميثاق. قال: فقال له أبو إدريس: بئس ما صنعت إذ لم تلين حتى تأخذه، الآن يفر. قال: وقام من مجلسه حتى دخل على عبد الملك فاعلمه بأمر حارث، فبعث عبد الملك في طلبه فلم يقدر عليه، وخرج عبد الملك فنزل الصنبرة. قال: فاتهم عامة عسكره بالحارث أن يكونوا يرون رأيه.(6/151)
وخرج الحارث حتى أتى بيت المقدس فاختفى فيها، وكان أصحابه يخرجون يلتمسون الرجال يدخلونهم عليه، وكان رجل من أهل البصرة قد أتى بيت المقدس، فأتاه رجل من أصحاب الحارث فقال له: هاهنا رجل يتكلم، فهل لك أن تسمع من كلامه؟ قال: نعم - قال الوليد: وأهل البصرة يشتهون الكلام - فقال: نعم. فانطلق معه حتى على الحارث، فأخذ في التحميد. قال: فسمع البصري كلاماً حسناً، ثم أخبره بأمره وأنه نبي مبعوث مرسل. فقال له: إن كلامك لحسن، ولكن في هذا نظر. قال: فانظر. فخرج البصري ثم عاد إليه فرد عليه كلامه، فقال: إن كلامك لحسن وقد وقع في قلبي، وقد آمنت بك، هذا الدين المستقيم. قال: فأمر أن لا يحجب. قال: فأقبل البصري يتردد إليه، وعرف مداخله ومخارجه، وأين يهرب وأين يذهب، حتى صار من أخص الناس به. ثم قال له: إئذن لي قال: إلى أين؟ قال: إلى البصرة، أكون أول داعية لك بها. قال: فأذن له فخرج مسرعاً إلى عبد الملك وهو بالصنبرة، فلما دنا من سرادقه صاح: النصيحة النصيحة. فقال أهل العسكر: وما نصيحتك؟ قال: نصيحة لأمير المؤمنين. حتى دنا من أمير المؤمنين، فأمر عبد الملك أن يأذنوا له، فدخل وعنده أصحابه فصاح: النصيحة. قال: وما نصيحتك؟ قال: أخلني، لا يكون عندك أحد. قال: أخرج من في البيت. وكان عبد الملك قد اتهم أهل عسكره أن يكون هواهم معه، ثم قال له: أدنني. فقال: ادن فدنا وعبد الملك على السرير. فقال: ما عندك؟ قال: الحارث. فلما ذكر الحارث طرح نفسه من السرير. ثم قال: أين هو؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ببيت المقدس، وقد عرفت مداخله ومخارجه، فقص عليه قصته وكيف صنع به. فقال: أنت صاحبه، وأنت أمير بيت المقدس، وأمير ما هناك، فمرني بما شئت. قال: يا أمير المؤمنين، ابعث معي قوماً لا يفقهون الكلام. فأمر أربعين رجلاً من فرغانة، فقال: انطلقوا مع هذا، فما أمركم به من شيء فأطيعوه. قال: وكتب إلى صاحب بيت المقدس أن فلاناً أمير عليك حتى يخرج فأطعه فيما أمرك به، قال: فلما قدم بيت المقدس أعطاه الكتاب فقال: مرني بما شئت. فقال: اجمع إن قدرت كل شمعة ببيت المقدس، وادفع كل شمعة إلى رجل ورتبهم على أزقة بيت المقدس وزواياها بالشمع، فإذا قلت أسرجوا، فأسرجوا جميعاً. قال: فرتبهم في أزقة بيت المقدس وفي زواياها بالشمع، وتقدم البصري وحده إلى منزل الحارث فأتى الباب. فقال للحاجب: استأذن لي على نبي الله. فقال: في(6/152)
هذه الساعة! ما يؤذن عليه حتى يصبح. قال: أعلمه أني إنما رجعت شوقاً إليه قبل أن أصل. قال: فدخل عليه فأعلمه كلامه وأمره. قال: ففتح الباب ثم صاح البصري: أسرجوا، فأسرجت الشمع حتى كانت بيت المقدس كأنها النهار، ثم قال: من مر بكم فاضبطوه. قال: ودخل كما هو إلى الموضع الذي يعرفه، فنظر فإذا لا يجده، فطلبه فلم يجده، فقال أصحابه: هيهات تريدون أن تقتلوا نبي الله! قد رفع إلى السماء. قال: فطلبه في شق قد كان هيأه سرياً، قال: فأدخل البصري يده في ذلك الشق فإذا بثوبه، فاجتره فأخرجه إلى خارج، ثم قال للفرغانيين: اضبطوه فربطوه، فبينا هم يسيرون به البريد إذ قال: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله " الآية، فقال أهل فرغانة: أولئك العجم: " هذا كراننا فهات كرانك أنت " فسار به حتى أتى به عبد الملك.
فلما سمع به أمر بخشبة فنصبت، فصلبه، وأمر بحربة، وأمر رجلاً فطعنه، فأصاب ضلعاً من أضلاعه، فكعب الحربة، فجعل الناس يصيحون: الأنبياء لا يجوز فيهم السلاح. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين تناول الحربة، ثم مشى بها إليه، ثم أقبل يتحسس حتى وافى بين ضلعين فطعنه بها، فأنفذها فقتله.
قال الوليد بن مسلم:
بلغني أن خالد بن يزيد بن معاوية دخل على عبد الملك فقال: لو حضرتك ما أمرتك بقتله. قال: ولم؟ قال: إنما كان به المذهب. فلو جوعته ذهب ذلك عنه. وقيل: إن الحارث لما حمل على البريد وجعلت في عنقه جامعة من حديد فجمعت يداه إلى عنقه، فأشرف على عقبة بيت المقدس، فتلا هذه الآية: " قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ". قال: فتقلقلت الجامعة، ثم سقطت من يده ورقبته إلى الأرض، فوثب إليه الحرس الذين كانوا معه فأعادوها عليه، ثم(6/153)
ساروا به. فلما أشرف على عقبة أخرى قرأ آية لا أحفظها، فسقطت من رقبته ويده إلى الأرض، فأعادوها عليه. فلما قدموا على عبد الملك حبسه، وأمر رجالاً كانوا معه في السجن من أهل الفقه والعلم أن يعظوه، ويخوفوه الله، ويعلموه أن هذا من الشيطان، فأبى أن يقبل منهم، فأتوا عبد الملك فأخبروه بأمره، فأمر به فصلب. وجاء رجل بحربة فطعنه فانثنت الحربة، فقال الناس: ما ينبغي لمثل هذا أن يقتل، ثم أتاه حرسي برمح دقيق فطعنه بين ضلعين من أضلاعه، ثم هزه فأنفذه.
قال الراوي: وسمعت غير واحد ولا اثنين يقولون: إن الذي طعن الحارث بالحربة فانثنت قال له عبد الملك: أذكرت الله حين طعنته؟ قال: نسيته أو قال: لا - قال: فاذكر اسم الله ثم اطعنه. قال: فطعنه فأنفذها.
قال العلاء بن زياد العدوي: ما غبطت عبد الملك بشيء من ولايته إلا بقتله حارثاً؛ حدثت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون، دجالون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي. فمن قاله فاقتلوه. ومن قتل منهم أحداً فله الجنة ".
الحارث بن سليم بن عبيد بن سفيان
ابن مسعود بن سكين ويقال الحارث بن عبيد الهجيمي البصري والد خالد بن الحارث وفد على سليمان بن عبد الملك.
حدث أبو عبيدة النحوي قال: كنا نأتي رؤبة بن العجاج، فربما أعوزنا مطلبه، فطلبته مظانه، وكان للحارث بن سليم الهجيمي - وهو أبو خالد بن الحارث - غدائرلف، وكان رؤبة ربما أتاه، فطلبته(6/154)
يوماً فأتيت مجلس الحارث بن سليم، فتحدث القوم، وتحدث الحارث بن سليم. قال: شهدت مجلس سليمان بن عبد الملك، فأتى سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان فقال: يا أمير المؤمنين، أتيتك مستعدياً. قال: من بك؟ قال: موسى شهوات. قال: وماله! قال: سمّع بي واستطال في عرضي. قال: يا غلام، علي موسى. فأتي به فقال: أسمّعت به واستطلت في عرضه؟ قال: ما فعلت يا أمير المؤمنين، ولكني مدحت ابن عمه فغضب هو. قال: وما ذلك؟ قال: يا أمير المؤمنين، علقت جارية لم يبلغ ثمنها جدتي فأتيته وهو صديقي فشكوت ذلك إليه، فلم أصب عنده في ذلك شيئاً، فأتيت ابن عمه سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، فشكوت إليه ما شكوت إلى هذا، قال: تعود إلي، فتركته ثلاثاً ثم أتيته، فسهل من إذني، فما استقر المجلس حتى قال: يا غلام، قل لقيّمي: وديعتي، ففتح باباً بين بابين، فإذا أنا بالجارية. فقال لي: هذه بغيتك؟ قلت: نعم، فداك أبي وأمي. قال: اجلس. يا غلام، قل لقيمي: طيّبة نفقتي، فأتى بطيبة فنثرت بين يديه، فإذا فيها مائة دينار وليس فيها غيرها، فردت في الطيبة، ثم قال: عتيدتي التي فيها طيبي، فأتي بها فقال: ملحفة فراشي، فأتي بها. فضرب الطيبة وما في العتيدة حواشي الملحفة وقال لي: شأنك فهو لك واستعن بهذا عليه. فقال سليمان فذلك حين تقول ماذا؟ فقال:
أبا خالد اعني سعيد بن خالد ... اخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنّني اعني ابن عائشة الذي ... أبو أبويه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به النّدى ... وإن مات لم يرض النّدى بعقيد
دعوه دعوه، أنكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
فقال: يا غلام، علي بسعيد بن خالد، فأتي به فقال: يا سعيد، لأحق ما وصفك به موسى! قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ فأعاد عليه فقال: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال: فما طوقك ذلك، قال: الكلف. قال: فما حملتك الكلف؟ قال: دين والله يا أمير(6/155)
المؤمنين، ثلاثون ألف دينار. قال: قد أمرت لك بمثلها وبمثلها وبمثلها، وثلاث مثلها.
فلقيت سعيد بن خالد بعد حين، فأخذت بعنان دابته فقلت: بأبي وأمي، ما فعل المال الذي أمر لك به سليمان؟ قال: ما علمك به؟ قال: أنا والله حاضر المجلس يومئذ. قال: والله ما أصبحت أملك ديناراً ولادرهماً. قال: فما اغتاله؟ قال: خلة من صديق، أو فاقة من ذي رحم.
كان خالد بن الحارث يقول: كان أبي يقول: إن الرجل ليثني لي عنان دابته فأشكرها له.
ولما هزم بنو المهلب أيام هلال بن احوز بلغ أبي ذلك فأرسل إلى وليهم بأربعة آلاف درهم كانت عنده، لكل رجل منهم مائة درهم، وكانوا بأربعين. فقال: تبلّغوا بها البصرة. وكان الحارث بن سليم من أشراف قومه ووجوههم، وفيه يقول رؤبة:
وأنت يا حارث نعم الحارث
وشهد سليم بن عبيد الهجيمي الجمل مع عائشة.
الحارث بن عبّاس
حدث الحارث قال: قلت لأبي مسهر: هل تعرف أحداً يحفظ على هذهالأمة أمر دينها؟ قال: لا أعلمه، إلا شاب في ناحية المشرق. يعني أحمد بن حنبل.(6/156)
الحارث بن عبد الله
ابن أبي ربيعة ذي الرمحين واسمه عمرو بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان اسم عبد الله بجيراً، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله، المخزومي القرشي المعروف بالقباع المكي كان قد استعمله ابن الزبير على البصرة، فمر بالسوق فرأى مكتالاً فقال: إن مكتالكم هذا لقباع، فسماه أهل البصرة القباع.
قال: وأم الحارث بن عبد الله بنت أبرهة حبشية.
روى عن عائشة وغيرها وولي البصرة لابن الزبير، ثم وفد على عبد الملك بنمروان.
قال عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته فقال عبد الملك: ما أظن ابن الزبير سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها. قال الحارث: بلى، سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: قالت عائشة: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قومك استقصروا من شأن البيت، وإني لولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه، وتعالي لأريك ما تركوا منه. فأراها قريباً من سبعة أذرع.
وفي حديث آخر: وجعل لها بابين موضوعين في الأرض شرقياً وغربياً. وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟ قالت: فقلت: لا. قال: تعززاً لئلا يدخلها إلا من أرادوه، كان الرجل إذا كرهوا أن يدخلها، يدعونه حتى يرتقي، حتى إذا كان يدخل، دفعوه فسقط. قال عبد الملك للحارث: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم. قال: فنكت بعصاه ساعة، ثم قال: وددت أني تركته وما تحمّل.(6/157)
وفي حديث بمعناه قال: لو سمعت هذا قبل أن انقصه لتركته على ما بنى ابن الزبير.
حدث عبد الله بن صفوان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيعوذ بهذا البيت - يعني الكعبة - قوم ليس لهم منعة ولا عدد ولا عدة، فيبعث إليه جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم. قال يوسف بنماهك: وأهل الشام يومئذ يتجهزون إلى مكة، فقال عبد الله بن صفوان: أما والله ما هو بهذاالجيش.
وروى الحارث بن أبي ربيعة، عن أم المؤمنين مثل هذا الحديث، غير انه لم يذكر الجيش الذي ذكرهم عبد الله بن صفوان. قالوا: وأم المؤمنين هذه هي أم سلمة، بدليل حديث آخر.
قال عبيد الله بن القبطية: دخلت أنا والحارث بن أبي ربيعة ورجل آخر إلى أم سلمة، فقال لها الحارث: يا أم المؤمنين، حدثينا بحديث الجيش الذي خسف به. فقالت: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يعوذ عائذ بالبيت، فيبعث إليه جيش، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم. فقلت: كيف بمن كان كارهاً أو مكرهاً؟ قال: يبعث على ما كان في نفسه. قال عبد العزيز: فقلت لأبي جعفر: إنها قالت ببيداء من الأرض؟ قال: والله إنها لبيداء المدينة.
حدث ابن شهاب: أن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ذكر أن معاوية قضى أنه أيّما رجل وهب امرأته لأهلها، وجعل أمرها بيدها أو يد وليّها، فطلقت نفسها ثلاث تطليقات فقد برئت.
حدث المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة قال: سبى عبد الله بن أبي ربيعة سبحاء الحبشية وكانت نصرانية، وسبى معها ست مائة من الحبش، وهو عامل على اليمن لعثمان بن عفان، فقالت: لي إليك ثلاث حوائج. قال: ما هي؟ قالت: تعتق هؤلاء الضعفاء الذين معك. قال: ذلك لك. فأعتق لها ست مائة(6/158)
من الجيش. فقالت: ولا تمسني حتى تصير إلى بلدك ودارك. ففعل. قالت: ولا تحملني على أن أغير ديني. قال: وذلك لك. فقدم بها. فولدت الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة. فلما ماتت حضر القرشيون وغيرهم من الناس لشهودها، فقال: أدى الله الحق عنكم، إن لها أهل ملّة هم أولى بها منكم، فانصرفوا عنها.
وقال مصعب بن عبد الله: لم يكن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة يدري أن أمه على النصرانية حتى ماتت، وحضر لها الناس، فخرجت إليه موالاة له، فسارته وقالت: اعلم أنا وجدنا الصليب في رقبة أمك حين جردناها لغسلها. فقال للناس: انصرفوا أدى الله عنكم، فإن لها أهل ملة هم أولى بها منكم. فانصرف الناس، وكبر الحارث بما فعل من ذلك عند الناس.
قالوا: أول من وضع وزن سبعة الحارث بن أبي ربيعة، يعني العشرة عدداً، سبعة وزناً.
الحارث بن عبدة
ويقال عبيدة بن رباح الغساني حدث الحارث بن عبيدة عن أبيه عبيدة - وقال الطبراني: حدث عبدة بن رباح، عن منيب بن عبد الله - قال: تلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا هذه الآية: " كل يوم هو في شأن " قلنا: يا رسول الله، ما ذلك؟ قال: أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين.(6/159)
الحارث بن عميرة الزبيدي الحارثي
حدث الحارث بن عميرة عن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ".
وعن الحارث بن عميرة قال: قدمت إلى سلمان إلى المدائن، فوجدته في مدبغة له يعرك إهاباً بكفيه، فلما سلمت عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قال الحارث: والله ما أراك تعرفني، أنا عبد الله. قال: بلى، قد عرفت روحي روحك، قبل أن أعرفك، فإن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها في الله عز وجل ائتلف، وما كان في غير الله اختلف.
حدث عبد الرحمن بن غنم، عن حديث الحارث بن عميرة الحارثي:
انه قدم مع معاذ من اليمن، فبت معه في داره وفي منزله، فأصابهم الطاعون، فطعن معاذ بن جبل وأبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة وأبو مالك، جميعاً في يوم واحد، وكان عمرو بن العاص حين أحس بالطاعون فرق فرفقاً شديداً فقال: يا أيها الناس، تبددوا في هذه الشعاب وتفرقوا، فإنه قد نزل بكم أمر من الله لا أراه إلا رجزاً أو الطوفان. قال شرحبيل بن حسنة: قد صاحبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنت أضل من حمار أهلك قال: عمرو: صدقت. قال معاذ بن جبل لعمرو بن العاص: كذبت. ليس بالطوفان ولا بالرجز، ولكنها رحمة ربكم، ودعوة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبض الصالحين قبلكم، اللهم ائت آل معاذ النصيب الأوفر من هذه الرحمة، فما أمسى حتى طعن عبد الرحمن ابنه الذي كان يكنى به بكره وأحب الخلق إليه، فرجع معاذ من المسجد فوجده مكروباً. فقال: يا عبد الرحمن، كيف أنت؟ فاستجاب له فقال: يا أبه، الحق من ربك فلا تكن من الممترين فقال معاذ: وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين. فأمسكه ليلته ثم دفنه من الغد. فأخذ بامرأتيه جميعاً فأراد أن يقرع بينهما أيهما تجيء قبل الأخرى فقال الحارث بن عميرة: جهزهما جميعاً أبا عبد الرحمن ونحفر لهما قبراً واحداً، فشق لإحداهما والحد للأخرى. فما عدا أن فرغ(6/160)
منهما، فطعن، فأخذ معاذ يرسل الحارث بن عميرة إلى أبي عبيدة بن الجراح، يسأله كيف هو؟ فأراه أبو عبيدة طعنة خرجت من كفه، فتكاثر شأنها في نفس الحارث، وفرق منها حين رآها، فأقسم له أبو عبيدة: ما يحب أن له مكانها حمر النعم، فرجع الحارث إلى معاذ فوجده مغشياً عليه، فبكى الحارث واشتكى عليه ساعة، ثم إن معاذاً أفاق فقال: يا بن الحميرية لم تبكي علي! أعوذ بالله منك أن تبكي علي. فقال الحارث: والله ما عليك أبكي. قال معاذ: فعلام تبكي؟ قال: أبكي على ما فاتني منك العصرين الغدو والرواح. قال معاذ: أجلسني، فأجلسه الحارث في حجره. قال: اسمع مني فإني أوصيك بوصية؛ إن الذي تبكي علي زعمت من غدوك ورواحك إلي، فإن العلم مكانه لمن أراد بين لوحي المصحف، فإن أعيا عليك تفسيره فاطلبه بعدي عند ثلاثة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود بن أم عبد - وفي رواية: وابن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " هو عاشر عشرة في الجنة " - وأحذرك زلة العالم، وجدال المنافق، واحذر طلبة القرآن.
قال: سمعته يحدث أن معاذاً اشتد عليه النزع نزع الموت فنزع نزعاً لم ينزعه أحد، فكان كلما أفاق من غمرة فتح طرفه ثم قال: اخنقي خنقك، فوعزتك ربي إنك لتعلم أن قلبي يحبك.
فلما أن قضى نحبه انطلق الحارث حتى أتى أبا الدرداء بحمص، فمكث عنده ما شاء الله أن يمكث، ثم قال الحارث: إن أخي معاذاً قد أوصاني بك وبسلمان الفارسي وبابن أم عبد، فلا أراني إلا منطلقاً قبل العراق. فقدم الحارث الكوفة ثم أخذ يحضر مجلس ابن أم عبد بكرة وعشياً، فبينما هو كذلك في المجلس يوماً قال ابن أم عبد: ممن أنت بابن أخي؟ قال الحارث: امرؤ من أهل الشام. فقال ابن أم عبد: نعم الحي أهل الشام لولا واحدة. فقال الحارث: وما تلك الواحدة؟ فقال: لولا أنهم يشهدون على أنفسهم أنهم من أهل الجنة. فاسترجع الحارث مرتين أو ثلاثاً ثم قال: صدق معاذ ما قاله لي. قال ابن أم عبد: ما قال لك معاذ يابن أخ؟ قال: حذرني زلة العالم، قال: والله ما أنت يابن مسعود إلا أحد رجلين، إما رجل أصبح علي يقين من الله ويشهد أن لا إله ألا الله فأنت من أهل الجنة، أم رجل مرتاب لا تدري أين منزلك. قال ابن مسعود صدقت يابن أخي إنها زلة(6/161)
مني فلا تؤاخذني بها. فأخذ ابن مسعود بيد الحارث فانطلق به إلى رحله، فمكث عنده ما شاء الله أن يمكث.
ثم قال الحارث: لابد لي من أطلع أبا عبد الله سلمان إلى المدائن، فانطلق الحارث حتى قدم على سلمان في المدائن، فوجده في مدبغة له يعرك الأهب بكفيه. فلما أن سلم عليه قال: مكانك حتى أخرج إليك. قال الحارث: والله ما أراك تعرفني يا عبد الله. قال: بلى، قد عرفت روحي روحك قبل أن أعرفك، فإن الأرواح عند الله جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما كان في غير الله اختلف. فمكث عنده ما شاء الله أن يمكث ثم رجع إلى الشام.
فأولئك الذين كانوا يتعارفون في الله ويتزاورون فيه، اللهم اجعلنا منهم برحمتك.
مات الحارث بن عميرة زمن يزيد بن معاوية.
الحارث بن عمير الأزدي
له صحبة. بعثه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً إلى صاحب بصرى، فقتل بمؤتة، فوجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أهل مؤتة جيشاً.
قال عمرو بن الحكم: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحارث بن عمير الأزدي ثم أحد بني لهب، إلى ملك بصرى بكتاب. فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال الشام. قال: لعلك من رسل محمد! قال: نعم، أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً، ولم يقتل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول غيره.
فبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر فاشتد عليه وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف. وكان ذلك سبب خروجهم إلى غزوة مؤتة. ومؤتة بأدنى البلقاء، والبلقاء دون دمشق.(6/162)
الحارث بن عمير أبو الجودي
الأسدي الشامي سكن واسط.
حدث أبو الجودي بواسط أيام الحجاج عن أبي ذر قال: أوصاني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أنظر من هو أسفل مني، ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أحب المساكين، وأن أدنو منهم، وأن أصل رحمي وإن قطعوني وجفوني، وأن أقول الحق وإن كان مراً، وألا أخاف في الله لومة لائم، وألا أسأل أحداً شيئاً، وأن أستكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها من كنز الجنة.
روى أبو الجودي عن بلج، عن أبي شيبة المهري قال: قلنا لثوبان: حدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاء فأفطر.
حدث أبو الجودي الأسدي قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: نعم الذخيرة للمرء المسلم عند الله يوم القيامة اصطناع المعروف. قال: فقال لي عمر: يا أبا الجودي اغتنم الدمعة تسبلها على خدك لله عز وجل.
الحارث بن محمد بن الحارث بن خسرو
أبو الليث الهروي الصياد العابد حدث أبو الليث بدمشق عن عمرو بن عثمان بسنده عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي أبو القاسم ألا أترك صلاة الضحى في حضر ولا سفر، ولا أنام إلا على وتر، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر.
وحدث أبو الليث عن يحيى بن عثمان بسنده عن بهز قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستاك عرضا، ويشرب مصاً، ويتنفس ثلاثاً. ويقول: هو أهنأ وأمرأ وأبرأ.(6/163)
الحارث بن مخمر أبو حبيب الظهري الحمصي
قاضي عمان وحمص. وولي قضاء دمشق للوليد بن يزيد.
حدث أبو حبيب عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من مؤمن يصيبه صداع في رأسه، أو شوكة فتؤذيه، أو ما سوى ذلك من الأذى، إلا رفع الله له.
وفي رواية: إلا رفعه الله بها يوم القيامة درجة، وكفر عنه بها خطيئة.
وحدث الحارث عن أبي الدرداء قال: الإيمان يزداد وينتقص.
قال صفوان بن عمرو: كتب عبد الملك بن مروان إلى أبي حبيب قاضي حمص يسأله: كم عقوبة اللوطي؟ فكتب إليه: أن يرمى بالحجارة، كما رجم قوم لوط. قال الله تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ". فقبل عبد الملك ذلك منه، وحسنه من رأيه.
هو أبو حبيب بالحاء المهملة. والظهري: قبيلة من حمير. توفي في أيام يزيد بن الوليد.(6/164)
الحارث بن مسلم بن الحارث
ويقال مسلم بن الحارث وهو الصحيح حدث الحارث بن مسلم التميمي عن أبيه قال: بعثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية، فلما هجمنا على القوم تقدمت أصحابي على فرس، فاستقبلنا النساء والصبيان يعجون، فقلنا لهم: تريدون أن تحرزوا منهم؟ قالوا: نعم. قلت: قولوا نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. فقالوها، فجاء أصحابي فلاموني وقالوا: أشرفنا على الغنيمة فمنعتنا! ثم انصرفنا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبروه بالذي صنعت. فقال: أتدرون ما صنع! لقد كتب الله له بكل إنسان كذا وكذا من الأجر. ثم أدناني منه فقال: إذا صليت صلاة الغداة فقل قبل أن تكلم: اللهم أجرني من النار، سبع مرات، فإنك إن مت من يومك ذاك كتب لك جوار من النار. فإذا صليت المغرب قبل أن تكلم أحداً، فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات فإنك إن مت من ليلتك تلك، كتب الله تعالى لك بها جوازاً من النار.
وفي حديث آخر ثم قال: أكتب لك كتاباً أوصي به أئمة المسلمين بعدي. قال: فكتب لي كتاباً، وختمه. فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتيت أبا بكر بالكتاب، ففضه وأعطاني شيئاً ثم ختمه. فلما قبض أبو بكر أتيت عمر بن الخطاب بالكتاب، ففضه وأعطاني شيئاً ثم خنمه. فلما استخلف عثمان أتيته بالكتاب، ففضه فقرأه فأعطاني شيئاً ثم ختمه. فلما استخلف عمر بن عبد العزيز بعث إلى الحارث بن مسلم فأتاه، فأعطاه شيئاً وقال: لو أردت لوصلت إليك، ولكنني أردت أن تحدثني بحديثك عن أبيك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحدثه به.
سئل أبو زرعة عن مسلم بن الحارث أو الحارث بن مسلم؟ فقال: الصحيح: الحارث بن مسلم بن الحارث عن أبيه.
توفي الحارث بن مسلم في خلافة عثمان بن عفان. فالوافد إذاً على عمر بن عبد العزيز مسلم بن الحارث.(6/165)
الحارث بن معاوية الكندي الأعرج
أي بلال بن رباح بدمشق وروى عن عمر بن الخطاب.
حدث الحارث بن معاوية أنه قدم على عمر بن الخطاب فقال: إني قدمت أسألك عن الوتر في أول الليل أو في وسطه أو في آخره؟ فقال عمر: كل ذلك قد عمل به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حدث الحارث الكندي، أنه ركب إلى عمر بن الخطاب فسأله عن ثلاث خلال قال: فقدم المدينة فسأله عمر: ما أقدمك؟ قال: لأسألك عن ثلاث. قال: وما هن؟ قال: ربما كنت أنا والمرأة في بناء ضيق، فتحضر الصلاة، فإن صليت أنا وهي كانت بحذائي، وإن صلت خلفي خرجت من البناء. فقال عمر: تستر بينك وبينها بثوب، ثم تصلي بحذائك. فقال عمر: تستر بينك وبينها بثوب، ثم تصلي بحذائك إن شئت. وعن الركعتين بعد العصر. فقال: نهاني عنهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن القصص فإنهم أرادوني على القصص فقال: ما شئت. كأنه كره أن يمنعه. قال: إنما أردت أن أنتهي إلى قولك. قال: أخشى عليك أن تقص فترتفع عليهم في نفسك، ثم تقص فترتفع حتى يخيل إليك أنك فوقهم بمنزلة الثريا، فيضعك الله عز وجل تحت أقدامهم يوم القيامة بقدر ذلك.
حدث الحارث بن معاوية الكندي قال: كنت أتوضأ أنا وأبو جندل بن سهيل على المطهرة فذكرنا نزع الخفين، ومر بنا بلال مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا أبا عبد الرحمن، كيف سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في نزع الخفين؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " امسحوا على الموق والخمار "، فرد أبو جندل عقبه في الخف، بعد أن كان أخرجه. وذكر مكحول أن المطهرة عند الجب في مسجد دمشق.
وحدث الحارث عن بلال قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " تمسحوا على الأمواق والنصف ". والنصيف: الخمار.(6/166)
وحدث الحارث عن بلال قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على الخفين والعمامة.
وفي حديث آخر فقال بلال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسح على الخفين والخمار.
قدم الحارث بن معاوية على عمر بن الخطاب فقال له: كيف تركت أهل الشام؟ فأخبره عن حالهم، فحمد الله ثم قال: لعلكم تجالسون أهل الشرك. فقال: لا يا أمير المؤمنين. قال: إنكم إن جالستموهم أكلتم وشربتم معهم، ولن تزالوا بخير ما لم تفعلوا ذلك.
قال مسلم بن مشكم: قال الحارث بن معاوية الكندي: إن شئتم لأحلفن لكم أن أبا الدرداء لم يحمله شغل أن يؤخر الصلاة.
الحارث بن أبي وجرة
واسم أبي وجرة تميم بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي قدم الشام مع عمر بن الخطاب، وشهد خطبته بالجابية. ووجرة بالجيم والراء.
حدث إسماعيل بن عبيد الله قال: لما سار عمر إلى الشام قال: لأعرفن ما مدحتم خالد بن الوليد، فإنه رجل يهتز عند المدح، وأنت يا بن أبي وجرة فلأعرفن ما مدحته. قال: فلما قدموا الشام أقبل ابن أبي وجرة وعمر في مجلسه، وعنده خالد بن الوليد متقنع بردائه، فسلم ابن أبي وجرة وقال: أفيكم خالد بن الوليد هو والله ما علمت أجملكم وجهاً، وأجرأكم مقدماً، وأبذلكم يداً، فلما انصرف خالد بن الوليد بعث إلى ابن أبي وجرة بمئة دينار وراحلة. فلما انصرف عمر قال: يابن أبي وجرة ألم أنهك عن مدح خالد بن الوليد! قال ابن أبي وجرة: من أعطانا منكم مدحناه، ومن منعنا سببناه سباب العبد سيده. قال: وكيف يسب العبد سيده؟ قال: حيث لا يسمع. فضحك عمر.
وقيل: إن المادح لخالد هو أبو وجرة. وسيذكر في موضعه.
وعاش أبو وجرة ثمانين ومئتي سنة، حتى أقعد عن رجليه.(6/167)
الحارث بن وداعة الحميري
ممن شهد صفين مع معاوية، وبارز علي بن أبي طالب عليه السلام فقتله علي يومئذ.
روى مجالد عن عامر الشعبي قال: سئل عن أهل الجمل وأهل صفين فقال: أهل الجنة لقي بعضهم بعضاً، فاستحيوا أن يفر بعضهم من بعض.
الحارث بن هانئ بن مدلج
ابن المقداد بن زمل بن عمرو العذري حدث أبو الحارث محمد بن الحارث بن هانئ بن الحارث بن هانئ بن مدلج بن المقداد بن زمل بن عمرو العذري قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن أبيه عن جده عن أبيه عن زمل بن عمرو العذري قال: كان لبني عذرة صنم يقال له: حمام، وكانوا يعظمونه، وكان في بني هند بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة، وكان سادنه رجل يقال له طارق، وكان يعترون عنده فلما ظهر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعنا صوتاً: يا بني هند بن حرام، ظهر الحق وأودى حمام، ودفع الشرك الإسلام قال: ففزعنا لذلك وهالنا، فمكثنا أياماً، ثم سمعنا صوتاً وهو يقول: يا طارق يا طارق، بعث النبي الصادق، بوحي ناطق، صدع صادع بأرض تهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع مني إلى يوم القيامة، قال زمل: فوقع الصنم لوجهه. قال زمل: فاتبعت راحلة ورحلت حتى أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع نفر من قومي، وأنشدته شعراً قلته:
إليك رسول الله أعملت نصها ... أكلفها حزناً وفوراً من الرمل
لأنصر خير الناس نصراً مؤزراً ... وأعقد حبلاً من حبالك في حبلي
وأشهد أن الله لا شيء غيره ... أدين له ما أثقلت قدمي نعلي(6/168)
قال: فأسلمت وبايعته وأخبرناه بما سمعنا فقال: ذلك من كلام الجن ثم قال: يا معشر العرب، إني رسول الله إلى الأنام كافة، أدعوهم إلى عبادة الله وحده، وأني رسوله وعبده، وأن يحجوا البيت، ويصوموا شهراً من اثني عشر شهراً، وهو شهر رمضان، فمن أجابني فله الجنة نزلاً وثواباً، ومن عصاني فله النار منقلباً. قال: فأسلمنا وعقد لنا لواء وكتب لنا كتاباً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله، لزمل بن عمرو ومن أسلم معه خاصة، إني بعثته إلى قومه عامة، فمن أسلم ففي حزب الله ورسوله، ومن أبى فله أمان شهرين. شهد علي بن أبي طالب، ومحمد بن مسلمة الأنصاري.
قال: غريب جداً.
الحارث بن هشام بن المغيرة
ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم أبو عبد الرحمن المخزومي له صحبة. أسلم يوم الفتح، ثم حسن إسلامه. وخرج إلى الشام مجاهداً وحبس نفسه في الجهاد. ولم يزل بالشام إلى أن قتل باليرموك. ويقال: مات بطاعون عمواس.
حدث عبد الرحمن بن سعد المقعد عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أنه قال: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به. قال: املك عليك هذا. وأشار إلى لسانه. قال عبد الرحمن: فرأيت ذلك يسيراً، وكنت قليل الكلام، فلم أفطن له، وإذا ليس شيء أشد منه.
حدث عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته، وهو واقف على راحلته، وهو يقول: " والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلي، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت ". قال: فقلت ولم أبين: يا ليتنا لم نفعل فارجع إليها، فإنها منبتك ومولدك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني سألت ربي فقلت: اللهم إنك أخرجتني من أحب أرضك إلي، فأنزلني أحب أرضك إليك، فأنزلني المدينة ".(6/169)
وشهد الحارث بن هشام بدراً مع المشركين، وكان فيمن انهزم فعيره حسان بن ثابت فقال:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
فقال الحارث يعتذر من فراره يومئذ:
القوم اعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
فعلمت أني إن أقاتل واحداً ... أقتل، ولا ينكي عدوي مشهدي
فصددت عنهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
ثم غزا أحداً مع المشركين، ولم يزل متمسكاً بالشرك حتى أسلم يوم فتح مكة.
روى سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد:
" اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحارث، اللهم العن صفوان بن أمية ". فنزلت: " ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون " فتاب عليهم وأسلموا وحسن إسلامهم.
وعن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم الفتح ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة أرسل إلى صفوان بن أمية بن خلف، وإلى أبي سفيان بن حرب، وإلى الحارث بن هشام قال عمر: فقلت قد أمكن الله منهم، أعرفهم ما صنعوا، حتى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثلي ومثلكم كما قال يوسف لأخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " قال عمر: فانتضحت حياء من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كراهية أن يكون قد بدر مني شيء، وقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال.(6/170)
قال عبد الله بن عكرمة: لما كان يوم الفتح دخل الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة على أم هانئ بنت أبي طالب فاستجارا بها، وقالا: نحن في جوارك. فأجارتهما فدخل علي بن أبي طالب فنظر إليهما، فشهر عليهما السيف. قالت: فألقيت عليهما واعتنقته وقلت: تصنع هذا بي من بين الناس! لتبدأن بي قبلهما. قال: تجيرين المشركين! فخرج ولم يكد، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله ما لقيت من ابن أمي علي، ما كدت أفلت منه، أجرت حموين لي من المشركين، فتفلت عليهما ليقتلهما. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما كان ذلك له، قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت ". فرجعت إليهما فأخبرتهما، فانصرفا إلى منزلهما. فقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة جالسان في ناديهما يتفضلان في الملاء المزعفر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا سبيل إليهما قد أمناهما " قال الحارث بن هشام: وجعلت أستحيي أن تركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأذكر رؤيته إياي في كل موطن موضعاً مع المشركين، بما ذكر بره ورحمته وصلته، فألقاه وهو داخل المسجد فيلقاني بالبشر، ووقف حتى جئته وسلمت عليه وشهدت شهادة الحق. فقال: الحمد لله الذي هداك، م كان مثلك يجهل الإسلام. قال الحارث بن هشام: فوالله ما رأيت مثل الإسلام جهل.
وشهد الحارث بن هشام مع سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنيناً، وأعطاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم حنين مائة من الإبل، ولم يزل الحارث بن هشام مقيماً بمكة بعد أن أسلم، حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو غير مغموص عليه في إسلامه، فلما جاء كتاب أبي بكر الصديق رضي الله عنه يستنفر المسلمين إلى غزوة الروم، قدم الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو على أبي بكر الصديق رضي الله عنه المدينة، فأتاهم في منازلهم فرحب بهم وسلم عليهم وسر بمكانهم، ثم خرجوا مع المسلمين غزاة إلى الشام. فشهد الحارث بن هشام فحل وأجنادين، ومات بالشام في طاعون عمواس سنة ثمان عشرة، فتزوج عمر بن الخطاب ابنته أم حكيم بنت الحارث، وهي أخت عبد الرحمن بن الحارث. فكان عبد الرحمن بن الحارث يقول: ما رأيت ربيباً خيراً من عمر بن الخطاب.(6/171)
وقيل: إن الحارث بن هشام استشهد يوم اليرموك، وقيل: إنه كان عمي قبل وفاته.
ولما خرج الحارث بن هشام من مكة جزع أهل مكة جزعاً شديداً، فلم يبق أحد يطعم إلا خرج يشيعه، حتى إذا كان بأعلى البطحاء، أو حيث شاء الله من ذلك وقف، ووقف الناس حوله يبكون، ولما رأى جزع الناس قال: يا أيها الناس إني والله ما خرجت رغبة بنفسي عن أنفسكم، ولا اختيار بلد عن بلدكم، ولكن كان هذا الأمر فخرجت فيه رجال من قريش، والله ما كانوا من ذوي أنسابها ولا في بيوتاتها، فأصبحنا والله لو أن جبال مكة ذهباً فأنفقناها في سبيل الله عز وجل ما أدركنا يوماً من أيامهم، والله لئن فاتونا به في الدنيا لنلنمسن أن نشاركهم في الآخرة فاتقى الله امرؤ. فتوجه غازياً إلى الشام، واتبعه ثقله فأصيب شهيداً.
قال معمر بن المثنى: نزل هشام بن المغيرة بحران، وبها أسماء بنت مخربة النهشلي، نهشل بن دارم، قد هلك عنها زوج لها، وكانت امرأة لبيبة عاقلة ذات جمال. فقيل له: يا أبا عثمان، إن هاهنا امرأة من قومك، وأثنوا عليها، فأتاها فلما رآها رغب فيها، فقال: هل لك أن أتزوجك، وأنقلك إلى مكة؟ قالت: ومن أنت؟ قال: أنا هشام بن المغيرة. قالت: فإني لا أعرفك، ولكني أنكحك نفسي، وتحملني إلى مكة، فإن كنت هشاماً فأنا امرأتك. فعجب من عقلها، وازداد رغبة فيها، فحملها فلما قدمت مكة أعلمت أنه هو هشام، فنكحها فولدت له عمراً، الذي كناه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا جهل، والحارث بن هشام، ثم فارقها فخلف عليها أخوه أبو ربيعة بن المغيرة.
قال إسحاق بن بشر: ثم إن عمر قسم الأموال بين الناس، فآثر أهل بدر على غيرهم من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان آثر الناس عنده في القسم بعد أهل بدر أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم من قتل أبوه مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهيداً، ثم الذين اتبعوهم بإحسان، وكان ذلك القسم أول فيء قدم على عمر. فلما بلغ القسم سهيل بن عمرو والحارث هشام بن المغيرة ولم يبلغ بهما عمر في القسم ما بلغ بأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا عمر لا تؤثرن علينا أحدا، فإنا قد آمنا بالله ورسوله(6/172)
وشهدنا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. فقال لهما عمر: إني لم أوثر عليكما من آثرت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إلا أنهم سبقوكم بالهجرة ولو كنتما من المهاجرين الأولين لم أوثر عليكما أحدا قال: وإن كنا سبقنا بالهجرة فإنا لم نسبق بالجهاد في سبيل الله عز وجل.
قال: ثم تكلم الحارث بن هشام فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم صلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: يا أمير المؤمنين، حق على كل مسلم النصيحة لك والاجتهاد في أداء حقك، لما أفضى إليك من أمر هذه الأمة التي وليت، فعليك بتقوى الله في أمرك كله سره وعلانيته، والاعتصام بما تعرف من أمر الله الذي شرع لك وهداك له، فإن كل راع مسؤول عن رعيته، وكل مؤتمن مسؤول عن أمانته، والحاكم أحوج إلى العدل من المحكوم عليه، فتسأل الله لمن ولك التقوى وللعامة، وتمام النعمة في الدنيا والآخرة، ونستودعك الله. فقال عمر: هداك الله وأعانك وصحبك، عليكما بتقوى الله في أمركما كله، ف " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ". فأمر عمر لكل واحد منهم بأربعة آلاف عونا على جهازهما. فخرجا إلى الشام فلم ير إلا مجاهدين، فقتل الحارث بن هشام يوم اليرموك شهيدا، وتوفي سهيل بن عمرو في طاعون عمواس من أرض فلسطين.
حدث حبيب بن أبي ثابت: أن الحارث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وعياش بن أبي ربيعة ارتثوا يوم اليرموك، فدعا الحارث بماء ليشربه، فنظر غليه عكرمة فقال الحارث: ادفعوه إلى عكرمة، فنظر إليه عياش بن أبي ربيعة فقال عكرمة: ادفعوه إلى عياش، فما وصل إلى عياش ولا إلى أحد منهم حتى ماتوا وما ذاقوه.
وروى جماعة من أهل العلم والسيرة: أن عكرمة بن أبي جهل قتل يوم أجنادين، شهيداً في خلافة أبي بكر الصديق والاختلاف بينهم في ذلك. وأما عياش بن أبي ربيعة فمات بمكة، وأما الحارث بن هشام فمات بالشام في طاعون عمواس، سنة ثمان عشرة، وقيل: إن الحارث بن هشام استشهد في(6/173)
أجنادين ومرج الصفر، سنة ثلاث عشرة، وقيل: إنه بقي إلى زمن عثمان.
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن، أن الحارث بن هشام كاتب عبداً له، في كل أجل شيء مسمى. فلما فرغ من كتابته أتاه العبد بماله كله، فأبى الحارث أن يأخذه وقال: لي شرطي ثم إنه رفع ذلك إلى عثمان بن عفان عليه السلام فقال عثمان: هلم المال اجعله في بيت المال، ونعطيه في كل أجل ما يحل، وأعتق العبد قال أبو موسى: هذا قول مالك وأهل المدينة.
الحارث بن يمجد الأشعري القاضي
ولي القضاء بدمشق في أيام الوليد بن يزيد بن عبد الملك. يمجد أوله ياء مضمومة والميم ساكنة وبعدها جيم مكسورة ودال.
حدث الحارث بن يمجد عن عبد الله بن عمرو قال:
الناس في الغزو جزآن، فجزء خرجوا يكثرون ذكر الله عز وجل والتذكر به، ويجتنبون الفساد في المسير، ويواسون الصاحب، وينفقون كرام أموالهم؛ فهم أشد اغتباطاً بما أنفقوا من أموالهم منهم بما استفادوا من دنياهم. فإذا كانوا في مواطن القتال استحيوا من الله عز وجل في تلك المواطن أن يطلع على ريبة في قلوبهم، أو خذلان للمسلمين. فإذا وردوا على الغلول طهروا منه قلوبهم وأعمالهم، فلم يستطع الشيطان أن يفتنهم ولا يكلم قلوبهم. فبهم يعز الله دينه ويكيد عدوه. وأما الجزء الآخر، فخرجوا فلم يكثروا ذكر الله عز وجل ولا التذكر به، ولم يجتنبوا الفساد، ولم ينفقوا أموالهم إلا وهم كارهون، وما أنفقوا من أموالهم رأوه مغرماً، وحدثهم به الشيطان. فإذا كانوا عند مواطن القتال كانوا مع الآخر الآخر، والخاذل الخاذل، واعتصموا برؤوس الجبال ينظرون ما يصنع الناس، فإذا فتح الله(6/174)
عز وجل للمسلمين كانوا أشدهم تخاطباً بالكذب، فإذا قدروا على الغلول اجترؤوا فيه على الله عز وجل، وحدثهم الشيطان أنها غنيمة، إن أصابهم رخاء بطروا، وإن أصابهم خدش فتنهم الشيطان بالعرض. فليس لهم من أجر المؤمنين شيء غير أن أجسادهم مع أجسادهم ومسيرهم مع مسيرهم، دنياهم وأعمالهم شتى حتى يجمعهم الله عز وجل يوم القيامة، ثم يفرق بينهم.
قال عبد الحكيم بن سليمان بن أبي غيلان: بعث عمرو بن عبد العزيز يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان الناس في البدو، وأجرى عليهما رزقا، فأما يزيد فقبل، وأما الحارث فأبى أن يقبل، فكتب إلى عمرو بن عبد العزيز بذلك، فكتب عمر: إنا لا نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث بن يمجد.
حازم بن مالك بن بسطام الدمشقي
حدث حازم عن عبد العزيز بن الحصين قال: بلغني أن عيسى بن مريم قال: من كثر كذبه ذهب جماله، ومن لاحى الرجال سقطت كرامته، ومن كثر همه سقط جسده، ومن ساء خلقه عذب نفسه.
حامد بن أحمد بن محمد بن أحمد
أبو أحمد المروزي ويعرف بالزيدي الحافظ عرف بذلك لأنه كان يجمع حديث زيد بن أبي أنيسة.
حدث عن محمد بن عمران بن موسى بسنده عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث: الوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، والغسل يوم الجمعة.(6/175)
وحدث عن أبي العباس محمد بن نصر بسنده عن انس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله تعالى يقول كل يوم: أنا ربكم العزيز، فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز.
توفي أبو احمد اليزيدي الحافظ سنة ثمان وعشرين وثلاث مائة وقيل: كان مولده سنة اثنتين وثمانين.
حامد بن سهل بن الحارث أبو محمد البخاري
سمع بدمشق وغيرها.
حدث حامد بن سهل الثغري عن هشام بن عمار بسنده عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال: يا رسول الله، ادع الله أن يرزقني مالاً فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم ذكر الحديث بطوله.
توفي حامد بن سهل سنة سبع وتسعين ومائتين.
حامد بن محمد بن حامد بن بحر
أبو العباس النسوي سكن دمشق وحدث بها.
حدث عن أبي نصر أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن الليث الخطيب بشيراز بسنده عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: من يتواضع لله تعالى درجة يرفعه الله تعالى درجة، ومن يتكبر على الله تعالى درجة يضعه الله تعالى درجة، حتى يجعله في أسفل السافلين.
وحدث أبو العباس النسوي عن أبي نصر الواعظ بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رضى الله في رضى الوالد، وسخط الله في سخط الوالد ".(6/176)
توفي أبو العباس حامد النسوي في ربيع الأول سنة أربع وستين وأربع مائة، ودفن بباب الصغير.
حامد بن يوسف بن الحسين
أبو احمد التغلبي قدم دمشق زائراً لبيت المقدس، وحدث بدمشق وحلب سنة اثنتين وثمانين وأربع مائة.
روى عن أبي حكيم عبد الله بن إبراهيم الفرضي بسنده عن أنس أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أحب فلاناً في الله عز وجل قال: فأخبرته؟ قال: لا. قال: قم فأخبره. قال: فلقيه فقال: إني أحبك في الله يا فلان. فقال له: أحبك الذي أحببتني له.
حبان بن موسى بن حبان بن موسى
أبو محمد الكلابي
حدث عن زكريا بن يحيى السجزي بسنده عن سعد: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يمسح على الخفين.
حبان بكسر الحاء، الدمشقي، متأخر. توفي سنة إحدى وثلاثين وثلاث مائة في ربيع الأول.(6/177)
حبيب بن أوس بن الحارث
ابن الأشج بن يحيى بن مزينا بن سهم بن خلجان الكاتب بن مروان، بن رفافة بن موسى بن سعد بن كاهل بن عامر - ويقال: ابن عمرو - ابن عدي بن عمرو بن طيء، أبو تمام الطائي الشاعر من أهل قرية جاسم من حوران. وكان أبوه أوس نصرانياً. مدح الخلفاء والأمراء فأحسن، وحدث عن جماعة، وكان أسمر طويلا فصيحاً حلو الكلام، فيه تمتمة يسيرة. ولد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقيل: سنة تسعين ومائة.
حدث عن صهيب بن أبي الصهباء الشاعر، عن الفرزدق همام بن غالب الشاعر، عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الشاعر، عن حسان بن ثابت الشاعر قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا حسان، اهجهم وجبريل معك. وقال: إن من الشعر حكمة. وقال: إذا حارب أصحابي بالسلاح، فحارب أنت باللسان.
قال أبو بكر الخطيب: حبيب بن أوس شامي الأصل، كان بمصر في حداثته يسقي الماء في المسجد الجامع، ثم جالس الأدباء وأخذ منهم، وكان فطناً فهماً، وكان يحب الشعر، فلم يزل يعاينه حتى قال الشعر فأجاد، وشاع ذكره، وسار شعره، وبلغ المعتصم خبره فحمله إليه، وهو بسر من رأى، فعمل أبو تمام فيه قصائد عدة، وأجازه المعتصم وقدمه على شعراء وقته، وقدم بغداد فجالس بها الأدباء وعاشر العلماء، وكان موصوفاً بالظرف وحسن الأخلاق وكرم النفس.
قال يحيى بن صالح أبو الوليد: رأيت أبا تمام الطائي بدمشق غلاماً يعمل مع قزاز، وكان أبوه خماراً بها، وقيل إن أبا تمام هو حبيب بن تدوس النصراني، فغير فصير أوساً.(6/178)
قال علي بن الجهم: كان الشعراء يجتمعون كل جمعة في القبة المعروفة بهم من جامع المدينة، يتناشدون الشعر، يعرض كل واحد منهم على صاحبه ما أحدث بعد مفارقتهم في الجمعة التي قبلها، فبينا أنا في جمعة من تلك الجمع ودعبل وأبو الشيص وابن أبي فنن مجتمعون، والناس يستمعون إنشاد بعضنا بعضاً، أبصرت شاباً في أخريات الناس جالساً في زي الأعراب وهيئتهم، فلما قطعنا الإنشاد قال لنا: قد سمعت إنشادكم منذ اليوم فاسمعوا إنشادي. قلنا: هات، فأنشدنا:
فحواك عين على نجواك يا مذل ... حتام لا يتقضى قولك الخطل
فإن أسمج من تشكو إليه هوى ... كمن كان أحسن شيء عنده العذل
ما أقبلت أوجه اللذات سافرة ... مذ أدبرت باللوى أيامنا الأول
إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
ثم مر فيها حتى انتهى إلى قوله في مدح المعتصم:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
فعقد أبو الشيص عند هذا البيت خنصره، ثم مر فيها إلى آخرها فقلنا: زدنا، فأنشدنا بمدح المأمون:
دمن ألم بها فقال سلام ... كم حل عقدة صبره الإلمام
فأنشدها إلى آخرها، فاستزدناه، فأنشدنا:
قدك اتئب أربيت في الغلواء ... كم تعذلون وأنتم سجرائي
إلى آخرها. فقلنا له: لمن هذا الشعر؟ قال: لمن أنشدكموه. قلنا: ومن تكون؟ قال: أبو تمام حبيب بن أوس الطائي. فقال له أبو الشيص: تزعم أن هذا الشعر لك وتقول:
تغاير الشعر فيه إذ سهرت له ... حتى ظننت قوافيه ستقتتل
قال: نعم، لأني سهرت في مدح ملك، ولم أسهر في مدح سوقة، فرفعناه حتى(6/179)
صار معنا في موضعنا، ولم نزل نتهاداه بيننا، وجعلناه كأحدنا، واشتد إعجابنا به لدماثته وظرفه وكرمه وحسن طبعه وجودة شعره، وكان ذلك اليوم أول يوم عرفناه فيه، ثم تراقت حاله حتى كان من أمره ما كان.
قال الحسين بن إسحاق: قلت للبحتري: الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام. قال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوا، ولكني والله تابع له، لائذ به، آخذ منه، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه.
قال أبو العباس عبد الله بن المعتز: حدثت إبراهيم بن المدبر - ورأيته يستجيد شعر أبي تمام ولا يوفيه حقه - بحديث حدثنيه أبو عمرو بن أبي الحسن الطوسي وجعلته مثلاً له، قال: بعثني أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بشعر أبي تمام، فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت عليه أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذله ... فظن أني جاهل لجهله
حتى أتممتها فقال: اكتب لي هذه: فكتبتها له ثم قلت له: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها. قلت: إنها لأبي تمام. قال: خرق خرق.
قال ابن المعتز: وهذا الفعل من العلماء مفرط القبح، لأنه يجب ألا يدفع إحسان محسن عدواً كان أو صديقاً، وأن تؤخذ الفائدة من الرفيع والوضيع، فإنه يروى عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: الحكمة ضالة المؤمن، فخذ ضالتك ولو من أهل الشرك. ويروى عن بزرجمهر قال: أخذت من كل شيء أحسن ما فيه حتى انتهيت إلى الكلب والهر والخنزير والغراب. فقيل له: وما أخذت من الكلب؟ قال: إلفه لأهله وذبه عن حريمه، قيل: فمن الهر؟ قال: حسن مرفقها عند المسألة ولين صياحها. قيل له: فمن الخنزير؟(6/180)
قال: بكوره في إرادته. قيل له: فمن الغراب؟ قال: شدة حذره.
قدم عمارة بن عقيل إلى بغداد، فاجتمع الناس إليه، وكتبوا شعره، وسمعوا منه، وعرضوا عليه الأشعار، فقال له بعضهم: هاهنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طراً، ويزعم غيرهم أنه ضد ذلك. فقال: أنشدوني، فأنشدوه:
غدت تستجير الدمع خوف نوى عد ... وعاد قتاداً عندها كل مرقد
وأنقذها من عمرة الموت أنه ... صدود فراق لا صدود تعمد
فأجرى لها الإشفاق دمعاً مورداً ... من الدم يجري فوق خد مورد
هي البدر يغنيها تودد وجهها ... إلى كل من لاقت وإن لم تودد
ثم قطع المنشد. فقال له عمارة: زدنا من هذا. فوصل نشيده وقال:
ولكنني لم أحو وفراً مجمعاً ... ففزت به إلا بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوماً مسكناً ... ألذ به إلا بنوم مشرد
فقال عمارة: لله دره، لقد تقدم في هذا المعنى جميع من سبقه، على كثرة القول فيه حتى تحبب الاغتراب، هيه، فأنشده:
وطول مقام المرء بالحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
فقال عمارة: كمل، والله إن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني واطراد المراد، واستواء الكلام فصاحبكم هذا أشعر الناس، وإن كان بغيره فلا أدري.
قال موسى بن حماد: سمعت علي بن الجهم وقد ذكر دعبلاً فكفره ولعنه، وقال: كان قد أغري بالطعن على أبي تمام، وهو خير منه ديناً وشعراً، فقال له رجل: لو كان أبو تمام أخاك ما زاد على كثرة وصفك له، فقال: إلا يكن أخاً بالنسب، فإنه أخ بالأدب والدين والمروءة، أو ما سمعت قوله في طيئ:(6/181)
إن يكد مطرف الإخاء فأننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه فقام الوالد
ومن شعر أبي تمام حبيب:
رددت إفرند وجهي في صفحتيه ... رد الصقال بماء الصارم الخذم
وما أبالي وحر القول أصدقه ... حقنت من ماء وجهي أو حقنت دمي
ولد أبو تمام سنة ثمان وثمانين ومئة، ومات سنة إحدى وثلاثين ومئتين ودفن بالموصل، وقيل: ولد سنة تسعين ومئة، ومات سنة اثنتين وثلاثين ومئتين، وقيل: مات سنة ثمان وعشرين ومئتين بسر من رأى.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه، وهو حينئذ وزير:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لما ألم مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائي
وقال الحسن بن وهب يرثيه:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائي
ماتا معاً فتجاورا في حفرة ... وكذلك كانا قبل في الأحياء
حبيب بن أبي حبيب من أهل دمشق
حدث عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: وبلغها أن ابن عمر يحدث عن أبيه: أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: يرحم الله ابن عمر وعمر، والله ما هما بكاذبين ولا متزايدين، ولكنهما وهما، إنما مر(6/182)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجل من اليهود وهم يبكون على قبره، فقال: إنهم ليبكون عليه، وإن الله يعذبه في قبره.
وحدث حبيب بن أبي حبيب الدمشقي عن يزيد الخراساني قال: بينما أنا ومكحول، إذ قال مكحول: يا وهب بن منبه، ما شيء بلغني عنك في القدر؟ قال: والذي اكرم محمداً بالنبوة، لقد اقترأت من الله اثنين وسبعين كتاباً منه ما يسر وما يعلن، ما فيه كتاب إلا وجدت فيه: من أضاف إلى نفسه شيئاً من قدر الله فهو كافر بالله. قال مكحول: الله اكبر.
حبيب بن الشهيد
أبو مرزوق التجيبي ثم القتيري المصري حدث عن فضالة بن عبيد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا ذات يوم بشربة، فقيل: يا رسول الله، عن هذا يوم كنت تصومه. فقال: أجل، ولكن قئت فأفطرت.
وحدث أبو مرزوق مولى تجيب، عن حنش الصنعاني قال: غزونا مر رويفع الأنصاري فافتتحنا قرية يقال لها جربة، فقام خطيباً فقال: إني لا أقول إلا ما سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يوم خيبر، قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماؤه زرع غيره يعني إتيان الحبالى من الفيء ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يصيب امرأة من السبي ثيباً حتى يستبرئها ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر يبيع مغنماً حتى يقسم، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوباً من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه رده فيه.(6/183)
وحدث محمد بن القاسم المرادي عن أبي مرزوق حبيب بن الشهيد أنه قال لامرأته: لست مني بسبيل البتة. فاختلف عليه العلماء في ذلك، فركب إلى عمر بن عبد العزيز فدينه في ذلك.
قال فتيان بن أبي السمح: كان أبو مرزوق حبيب مولى عقبة بن بحرة يفتي أهل أنطابلس وهي برقة، كما يفتي يزيد بن أبي حبيب بمصر.
قال ابن الوزير: توفي أبو مرزوق سنة تسع ومئة، وله وفادة على عمر بن عبد العزيز، وكان فقيهاً، وكان ينزل أطرابلس المغرب.
حبيب بن عبد الرحمن بن سلمان
ابن أبي الأعيس الخولاني حدث عن أبيه أبي الأعيس قال: الجن والإنس عشرة أجزاء، فالإنس من ذلك جزء، والجن تسعة أجزاء.
حبيب بن عبد الملك بن حبيب
والد الحسن بن حبيب قال حبيب بن عبد الملك: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: كان أبو سليمان زميلي إلى مكة، فذهبت منا الإداوة في طريق مكة، فقلت له: ذهبت الإداوة، فأخرج يده من الخربست، ثم قال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، يا هادي كل ضال ويا راد الضلال، رد علينا ضالتنا، وصل على محمد وعلى آل محمد. فما(6/184)
أدخل يده إلى الخربست إذا إنسان يصيح: يا صاحب الإداوة. فقال لي: خذها يا أحمد، إذا سألت الله عز وجل حاجة فابدأ بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسل حاجتك، ثم اختم بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهما دعوتان لا يردهما، ولم يكن ليرد ما بينهما.
حبيب بن قليع
ويقال عمر بن حبيب بن قليع المدني حدث عبد الله بن جعفر عن حبيب بن قليع قال: ضقت بالمدينة ضيقاً شديداً، فكنت أخرج من منزلي بسحر، ولا أرجع إلا بعد ليل، من الدين، فجلست مع ابن المسيب يوماً، فجاءه رجل فقال: يا أبا محمد، إني رأيت في النوم كأني أخذت عبد الملك بن مروان فوتدت في ظهره أربعة أوتاد. قال: ما أنت رأيت ذلك، أخبرني من رآها: قال: أرسلني إليك ابن الزبير بهذه الرؤيا، رآها في عبد الملك. قال: إن صدقت رؤياه قتل عبد الملك ابن الزبير، وخرج من صلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة.
فركبت إلى عبد الملك فدخلت عليه في الخضراء، فأخبرته الخبر، فسر وسألني عن ابن المسيب وعن حاله، وسألني عن ديني فقلت أربع مئة، فأمر بها لي من ساعته، وأمر لي بمئة دينار، وحماني طعاماً وزيتاً وكساً، فانصرفت بذلك راجعاً إلى المدينة.
وقد روي هذا عن عمر بن حبيب بن قليع.
حبيب بن محمد أبو محمد العجمي
بصري من الزهاد. قدم الشام، وبها لقي الفرزدق.
حدث عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر قال: إن الله عزّ وجلّ يقول: " يا جبريل، انسخ من قلب عبدي المؤمن الحلاوة التي كان يجدها، فيصير العبد المؤمن والهاً، طالباً للذي كان يعهد من نفسه، نزلت به مصيبة لم(6/185)
تنزل به مثلها، فإذا نظر الله إليه على تلك الحال قال: يا جبريل ردّ إلى قلب عبدي ما نسخت منه فقد ابتليته فوجدته صادقاً، وسأمدّه من قبلي بزيادة. وإذا كان عبداً كذاباً لم يكترث ولم يبال ".
حدث أبو محمد حبيب، أنه سمع الحسن قال: الأوّاه الذي قلبه معلق عند الله.
قال حبيب أبو محمد: رأيت الفرزدق بالشام فقال: قال لي أبو هريرة: إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله فلا تيأس.
قال أبو جعفر السائح: كان حبيب تاجراً يعير الدراهم، فمر ذات يوم بصبيان يلصّون، فقال بعضهم: قد جاء آكل الربا، فنكس رأسه وقال: يا رب، أفشيت سرّي إلى الصبيان، فرجع فلبس مدرعة من شعر، وغل يده، ووضع ماله بين يديه، وجعل يقول: يا رب، غني أشتري نفسي منك بهذا المال فأعتقني، فلما أصبح تصدق بالمال كله وأخذ في العبادة، فلم ير إلا صائماً أو قائماً أو ذاكراً أو مصلياً، فمر ذات يوم بأولئك الصبيان الذين كانوا عيّروه بأكل الربا، فلما نظروا إلى حبيب قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيب العابد، فبكى وقال: يا رب، أنت تذم مرة وتحمد مرة، فكل من عندك.
وبلغ من فضله أنه كان يقال: إنه مستجاب الدعاء. وأتاه الحسن هارباً من الحجاج فقال الحسن: يا أبا محمد، احفظني من الشرط على إثري، فقال: استحييت لك يا أبا سعيد، ليس بينك وبين ربك من الثقة ما تدعو فيسترك من هؤلاء، ادخل البيت فدخل، ودخل الشرط على إثره فقالوا: يا أبا محمد، دخل الحسن هاهنا؟ قال: هذا بيتي فادخلوا، فدخلوا فلم يروا الحسن في البيت. وذكروا ذلك للحجاج، فقال: بلى، كان في بيته، ولكن الله طمس على أعينكم فلم تروه.
قال عبد الواحد بن زيد: كان في حبيب العجمي خصلتان من خصال الأنبياء: النصيحة والرحمة.(6/186)
قال عبد الواحد بن زيد: كنا عند مالك بن دينار ومعنا محمد بن واسع وحبيب أبو محمد، فجاء رجل فكلم مالكاً فأغلظ له في قسمة قسمها، وقال: وضعتها في غير حقها، وتتبعت بها أهل مجلسك ومن يغشاك، لتكثر غاشيتك وتصرف وجوه الناس إليك. قال: فبكى مالك وقال: والله ما أردت هذا. قال: بلى، والله لقد أردته، فجعل مالك يبكي والرجل يغلظ له، فلما كثر ذلك عليهم رفع حبيب يديه إلى السماء ثم قال: اللهم إن هذا قد شغلنا عن ذكرك، فأرحنا منه كيف شئت. قال: فسقط والله الرجل على وجهه ميتاً فحمل إلى أهله على سرير. وكان يقال: إن أبا محمد مجاب الدعوة.
قال الحسن بن أبي جعفر: مرّ الأمير يوماً، فصاحوا: الطريق. ففرج الناس، وبقيت عجوز كبيرة لا تقدر أن تمشي،، فجاء بعض الجلاوزة فضربها بسوط ضربة. فقال حبيب أبو محمد: اللهم اقطع يده. فما لبثنا إلا ثلاثاً حتى مرّ بالرجل قد أخذ في سرقة، فقطعت يده.
حدث مسلم أن رجلاً أتى حبيباً أبا محمد فقال: إن لي عليك ثلاث مائة درهم. قال: من أين صارت لك عليّ؟ قال: لي عليك ثلاث مائة درهم. قال حبيب: اذهب إلى غد، فلما كان من الليل توضأ وصلى وقال: اللهم إن كان هذا صادقاً فأدّ إليه، وإن كان كاذباً فابتله في يده، قال: فجيء بالرجل من غد قد حمل، وقد ضرب شقّه الفالج فقال: مالك؟ قال أنا الذي جئتك أمس لم يكن لي عليك شيء، وإنما قلت: يستحي من الناس فيعطيني فقال له: تعود؟ قال: لا. قال: اللهم إن كان صادقاً فألبسه العافية. فقام الرجل على الأرض كأن لم يكن به شيء.
قال حبيب: أتانا سائل وقد عجنت عمرة، وذهبت تجيء بنار تخبزه. فقلت للسائل: خذ(6/187)
العجين. قال: فاحتمله. فجاءت عمرة فقالت: أين العجين؟ فقلت: ذهبوا يخبزونه. فلما أكثرت عليّ أخبرتها، فقالت: سبحان الله، لا بد لنا من شيء نأكله، قال: فإذا رجل قد جاء بجفنة عظيمة مملوءة خبزاً ولحماً. فقالت عمرة: ما أسرع ما ردوه عليك، قد خبزوه وجعلوا معه لحماً.
قال ابن المبارك: كان حبيب العجمي يضع كيسه خالياً، فيجده ملآن.
قال السّري بن يحيى: كان حبيب أبو محمد يرى بالبصرة عشية التروية، ويرى بعرفات عشية عرفات.
قال جعفر بن سليمان: سمعت حبيباً يقول: أتى زوّر لنا وقد طبخنا سمكاً وكنا نريد أن نأكله، فأبطأ الزوّر في القعود، فلما قام قلت لعمرة: هاتي حتى نأكله، قال: فجاءت به فإذا هو دم عبيط، فألقيناه في الحشّ.
قال عبد العزيز بن محمد: مرّ حبيب بمصلوب بالبصرة، فوقف عنده فقال: بأبي ذلك اللسان الذي كنت تقول: لا إله إلا الله، اللهم هب لي دينه. قال: وكان صلب ووجهه إلى الشرق، فأصبحت خشبته قد استدارت إلى القبلة.
قال داود بن رشيد: قيل لحبيب الفارسي في مرضه الذي مات فيه: ما هذا الجزع الذي ما كنا نعرفه منك! فقال: سفري بعيد بلا زاد، وينزل بي في حفرة من الأرض موحشة بلا مؤنس وأقدم على ملك جبار قد قدم إلى العذر.
قال عبد الواحد بن زيد: إن حبيباً أبا محمد جزع جزعاً شديداً عند الموت، فجعل يقول بالفارسية: أريد أن أسافر سفراً ما سافرته قط، أريد أن أسلك طريقاً ما سلكته قط، أريد أن أزور سيّدي ومولاي ما رأيته قط، أريد أن أشرف على أهوال ما شاهدت مثلها قط، أريد أن أدخل تحت التراب، فأبقى إلى يوم القيامة، ثم أوقف بين يدي الله عز وجل، فأخاف أن يقول(6/188)
لي: يا حبيب، هات تسبيحة واحدة سبحتني في ستين سنة لم يظفر بك الشيطان فيها بشيء. فماذا أقول وليس لي حيلة؟ أقول: يا رب هو ذا، قد أتيتك مقبوض اليدين إلى عنقي. قال عبد الواحد: هذا عبد الله ستين سنة مشتغلاً به، ولم يشتغل من الدنيا بشيء قط. فأي شيء يكون حالنا! واغوثاه يا الله، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر
ابن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن أبو عبد الرحمن ويقال أبو مسلمة ويقال أبو سلمة الفهري صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد صفين مع معاوية.
قال حبيب بن مسلمة: شهدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفل الربع في البداءة، والثلث في الرجعة.
وأنكر بعض العلماء أن يكون حبيب بن مسلمة غزا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويقولون: إنه كان في غزاة تبوك، وهي آخر غزاة غزاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ابن إحدى عشرة سنة، وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحبيب بن مسلمة ابن اثنتي عشرة سنة.
وعن حبيب بن مسلمة: أنه أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالمدينة، فأدركه أبوه فقال: يا نبي الله، يدي ورجلي. فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع معه فإنه يوشك أن يهلك. قال: فهلك في تلك السنة.
روى عبد الله بن أبي مليكة: أن حبيب بن مسلمة قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة غازياً، وأن أباه أدركه بالمدينة، فقال مسلمة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نبي الله، إني ليس لي ولد غيره، يقوم في مالي وضيعتي وعلى أهل بيتي، وأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده معه. وقال: لعلك أن يخلو لك وجهك في عامك، فارجع يا حبيب مع أبيك. فرجع، فمات مسلمة في ذلك العام، وغزا حبيب فيه.(6/189)
وكان يقال له: حبيب الروم لكثرة دخوله عليهم وجهاده لهم، ومات بالشام، ويقال بأرمينية، سنة اثنتين وأربعين، وكان يجول، ونزل بالشام، ولم يزل مع معاوية بن أبي سفيان في حروبه في صفين وغيرها، ووجهه إلى أرمينية والياً عليها، فمات بها سنة اثنتين وأربعين، ولم يبلغ خمسين سنة.
قال مكحول: سألت الفقهاء: هل كانت لحبيب صحبة؟ فلم يثبتوا ذلك. وسألت قومه، فأخبروني أنه قد كانت له صحبة.
حدث سعيد بن عبد العزيز: أن حبيب بن مسلمة كان يلي الصوائف في خلافة عمر بن الخطاب، ويبلغ عمر عنه ما يحب، فلم يكن عمر يثبته معرفة، حتى قدم عليه حبيب في حجة، فسلم عليه، فقال له عمر: إنك لفي قناة رجل، قال: إني والله وفي سنانه. قال عمر: افتحوا له الخزائن فليأخذ ما شاء، قال: ففتحوها له، فعدل عن الأموال وأخذ السلاح.
حدث سعيد بن عبد العزيز: أن حبيب بن مسلمة كان يلي الصوائف في خلافة عمر بن الخطاب، ويبلغ عمر عنه ما يحب، فلم يكن عمر يثبته معرفة، حتى قدم عليه حبيب في حجة، فسلم عليه، فقال له عمر: إنك لفي قناة رجل، قال: إني والله وفي سنانه. قال عمر: افتحوا له الخزائن فليأخذ ما شاء، قال: ففتحوها له، فعدل عن الأموال وأخذ السلاح.
حدث سعيد بن عبد العزيز: أنه بلغ الروم مكان حبيب بن مسلمة والمسلمين بإرمينية الرابعة في ستة آلاف من المسلمين، فوجهوا إليهم موريان الرومي في ثمانين ألفاً، فبلغ ذلك حبيباً، فكتب إلى معاوية، فكتب معاوية إلى عثمان، فكتب عثمان إلى صاحب الكوفة يمده، فأمده بسلمان الباهلي في ستة آلاف، وأبطأ على حبيب المدد، ودنا منه موريان الرومي، فخرج مغتماً بلقاه ومكيدته، فغشي عسكره وهم يتحدثون على نيرانهم، إذ سمع قائلاً يقول لأصحابه: لو كنت ممن يسمع حبيب مشورته لأشرت عليه بأمر، يجعل الله لنا ولدينه نصراً وفرجاً إن شاء الله، فاستمع حبيب لقوله فقال أصحابه: وما مشورتك؟ قال: كنت مشيراً عليه ينادي في الخيول يتقدمها، ثم يرتحل بعسكره يتبع خيله فتوافيهم الخيل في جوف الليل، وينشب القتال، ويأتيهم حبيب بسواد عسكره مع الفجر، فيظنون أن المدد قد جاءهم فيرعبهم الله، فيهزمهم بالرعب. فانصرف ونادى في الخيول فوجهها في ليلة مقمرة(6/190)
مطيرة، فقال: اللهم خل لنا قمرها، واحبس عنا مطرها، واحقن لي دماء أصحابي، واكتبهم عندك شهداء. قال سعيد: فحبس الله عنهم مطرها، وخلى لهم قمرها، ووافقهم من السحر. قال سعيد: وتواعد عتبة بن جحدم والجلندح العبسي حجرة موريان، فشدا ووجدا قتيلين على باب حجرة موريان.
وفي حديث آخر: أن المدد ساروا يريدون غياث حبيب مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فلم يبلغوهم حتى لقي حبيب وأصحابه العدو، ففتح الله لهم، فلما قدم سلمان وأصحابه على حبيب، سألوهم أن يشركوهم في الغنيمة، وقالوا: قد أمددناكم، وقال أهل الشام: لم يشهدوا القتال، فليس لكم معنا شيء، فأبى حبيب أن يشركهم، وحوى هو وأصحابه على غنيمتهم، فتنازع أهل الشام وأهل العراق، حتى كاد يكون بينهم في ذلك كون، فقال بعض أهل العراق:
إن تقتلوا سلمان تقتل حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
قال أبو بكر بن أبي فهم: سمعت من يقول: فهي أول عداوة وقعت بين أهل الشام وبين أهل العراق.
وكان حبيب بن مسلمة يستحب إذا لقي عدواً أو ناهض حصناً قول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإنه ناهض يوماً حصناً فانهزم الروم، فقالها المسلمون، فانصدع الحصن.
وعن حبيب بن مسلمة الفهري، وكان مستجاباً أنه أمر على جيش بدرب الدروب. فلما لقي العدو قال للناس: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يجتمع ملأ فيدعو بعضهم ويؤمن بعضهم إلا أجابهم الله. ثم إنه حمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: اللهم أحقن دماءنا، واجعل أجورنا أجور الشهداء. فبيناهم على ذلك إذ نزل الهنباط، أمير العدو فدخل على حبيب سرادقه.
قال الطبراني: الهنباط بالرومية: صاحب الجيش.
وكان حبيب رجلاً تام البدن.(6/191)
قال الأسود بن قيس: لقي الحسن بن علي حبيب بن مسلمة فقال له: يا حبيب، رب مسير لك في غير طاعة الله. فقال: أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك. قال: بلى، ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة، فلئن كان قام بك في دنياك، لقد قعد بك في دينك، ولو كنت إذ فعلت سراً قلت خيراً، كان ذلك كما قال الله عز وجل: " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً "، ولكنك كما قال الله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ".
دخل الضحاك بن قيس على حبيب بن مسلمة في مرضه الذي قبض فيه، فقال: ما كان بدء مرضك؟ قال: دخلت الحمام فأوتيت غفلة، فجعلت على نفسي ألا أخرج منه حتى أذكر الله كذا وكذا مرة، فمرضت.
ومات حبيب هو وعمرو بن العاص في عام واحد، فقال معاوية لامرأته قرظة وغيرها: قد كفاني الله مؤنة رجلين، أما أحدهما فكان يقول الإمرة الإمرة، وأما الآخر فكان يقول السنة السنة يعني حبيب بن سلمة.
حبيب الأعور
مولى عروة بن الزبير الأسدي حدث عن مولاه عروة بن الزبير، عن أبي مراوح الغفاري عن أبي ذر قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وجهاد في سبيله. قال: فأي العتاقة أفضل قال أنفسها. قال: أفرأيت إن لم أجد؟ قال: فتعين الضائع أو تصنع لأخرق. قال: أفرأيت إن لم أستطع؟ قال: فدع الناس من شرك، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك.
قال حبيب: أراني عروة قاتل عبد الله بن الزبير في عسكر الوليد، قتله واحتز رأسه، فجاء إلى(6/192)
الحجاج فأوفدهما إلى عبد الملك، فأعطى كل واحد منهما خمس مئة دينار، وفرض لكل واحد منهما في كل سنة مئتي دينار.
حبيب المؤذن
كان يؤذن في مسجد سوق الأحد.
حدث حبيب المؤذن في مسجد ابن أبي الخليل في سوق الأحد، عن أبي زياد الشعباني وأبي أمية الشعباني قالا: كنا بمكة فإذا رجل في ظل الكعبة، فإذا هو سفيان الثوري، فسأله رجل فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصلاة في هذه البلدة؟ قال: بمئة ألف صلاة. قال: ففي مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بخمسين ألف صلاة. قال: في مسجد بيت المقدس؟ قال: بأربعين ألف صلاة. قال: في مسجد دمشق؟ قال: بثلاثين ألف صلاة.
حبيش بن دلجة القيني
أحد وجوه أهل الشام. شهد صفين مع معاوية، وكان على قضاعة الأردن يومئذ، وولاه يزيد بن معاوية على أهل الأردن، يوم وجههم إلى الحرة من زيزا - قرية من قرى البلقاء من كورة دمشق - وكان في أهل الشام جليلاً، وكان قد قدم عند مروان قدم صدق، فدخل به يوماً على مروان وكان يجلسه على السرير معه، فرأى روح بن زنباع في موضعه من السرير معه، فأمر حملته ألا يضعوه وقال: إن رددتم علينا موضعنا وإلا انصرفنا عنكم. قال مروان: مهلاً فإن لأبي زرعة مثل سنك، وبه مثل علتك - يعني النقرس - فقال حبيش: أوله مثل يدي عندك؟ قال: وله مثل يدك عندي، إلا أن يده غير مكدرة بمن. قال: إني لأظنك يا مروان أحمق. قال: أظن أيها الشيخ ظننته أم يقين استيقنته؟ قال: بل ظن ظننته. قال: فإن أحمق ما يكون الشيخ إذا أعجب بظنه.(6/193)
قال صالح بن حسان البصري: رأيت حبيش بن دلجة على منبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل من مكتله تمراً، ويطرح نواه في وجوه القوم. وقال: والله إني لأعلم أنه ليس بموضع أكل، ولكنني أحببت أن أذلكم لخذلانكم لأمير المؤمنين. قال ابن دريد: وهو أول أمير أكل على المنبر، منبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال علي بن محمد: إن الذي قتل حبيش بن دلجة يوم الربذة يزيد بن سياه الأسواري، رماه بنشابه فقتله، فلما دخلوا المدينة وقف يزيد بن سياه على برذون أشهب وعليه ثياب بياض، فما لبث أن اسودت ثيابه مما مسح الناس به، ومما صبوا عليه من الطيب.
قالوا: وبايع أهل الشام مروان بن الحكم فسار إلى الضحاك بن قيس الفهري وهو في طاعة ابن الزبير يدعو له، فلقيه بمرج راهط فقتله وفض جمعه، ثم رجع فوجه حبيش بن دلجة القيني في ستة آلاف وأربع مئة إلى ابن الزبير، فسار حتى نزل بالجرف في عسكره، ودخل المدينة، فنزل في دار مروان، دار الإمارة، واستعمل على سوق المدينة رجلاً من قومه يدعى مالكاً، وأخاف أهل المدينة خوفاً شديداً، وآذاهم، وجعل يخطبهم فيشتمهم ويتوعدهم، وينسبهم إلى الشقاق والنفاق والغش لأمير المؤمنين. فكتب عبد الله بن الزبير إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وهو واليه على البصرة أن يوجه إلى المدينة جيشاً، فبعث الحنيف بن السجف التميمي في ثلاثة آلاف، فخرجوا ومعهم ألف وخمس مئة فرس وبغال وحمولة، وبلغ الخبر حبيش بن دلجة فقال: نخرج من المدينة فنلقاهم، فإنا لا نأمن أهل المدينة أن يعينوهم علينا فخرج، وخلف على المدينة ثعلبة الشامي، فالتقوا بالربذة عند الظهر، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل حبيش بن دلجة، وقتل من أصحابه خمس مئة، وانهزم الباقون أسوأ هزيمة، ففرح أهل المدينة بذلك، وقدم الأسارى فحبسوا في قصر حل، فوجه إليهم عبد الله بن الزبير مصعب بن الزبير، فضرب أعناقهم جميعاً.
قال أبو يزيد المديني: خرج حبيش بن دلجة، قلنا: هذا الجيش الذي يخسف بهم بالبيداء، جيش حبيش بن دلجة.
وقتل حبيش بن دلجة في سنة خمس وستين.(6/194)
حبيش بن عمر أبو المنهال
من أهل دمشق، طباخ المهدي.
حدث عن أبي عمرو الأوزاعي، عن أبي معاذ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عما في أيدي الناس ".
حبيش بن محمد بن حبيش
أبو القاسم الموصلي
حدث عن علي بن موسى السمسار، بسنده عن عبد الرحمن بن سمرة قال: سالت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صومه فقال: " ثلاثة عشرة وأربعة عشر وخمسة عشر ". وسألته عن الصلاة بالليل فقال: " ثمان ركعات وأوتر بثلاث ". فقلت: ما تقرأ فيها؟ فقال: " سبح اسم ربك الأعلى " و" قل يا أيها الكافرون " و" قل هو الله أحد ".
الحجاج بن الريان
حدث الحجاج بن الريان في سنة أربع وستين ومئتين - وفيها مات - بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: يخرج رجل من ولد حسن من قبل المشرق، ولو استقبل به الجبال لهدها، فلا يجد فيها طريقاً.(6/195)
الحجاج بن سهل الدمشقي
قال حجاج بن سهل: كان لي أخ، وكنا في بلاد الروم في الشتاء، فقال لي: اشتهت نفسي عنباً. فقلت له: من أين! فإذا بصخرة مملوءة عنباً.
حدث حجاج بن سهل عن إبراهيم بن أدهم قال: قلت لمحمد بن كثير وعلي بن بكار: تريان ألا أرفع غداء لعشاء ولا عشاء لغداء، أو يكون ثم فضلة، فإن كان سقم أو فتنة أغلقت علي بأبي، وأكلت من تلك الفضلة، واستغنيت بها عن مأكلة السوء؟ فقالا: إن الذي يعرفك في الصحة، هو الذي يعرفك في السقم، والذي يعرفك في الرخاء، يعرفك في الشدة. قال: فلقيت أبا إسحاق الفزاري ويوسف بن أسباط فقلت لهما: ما تريان لي، لا أرفع غداء لعشاء وعشاء لغداء، أو يكون ثم فضلة، فإن كان سقم أو فتنة أغلقت علي بابي، وأكلت من تلك الفضلة، واستغنيت بها عن مأكلة السوء؟ فقالا لي: بل يكون ثم فضلة. قال: فقلت لهما: الذي يعرفني في الصحة هو يعرفني في السقم، والذي يعرفني في الرخاء هو يعرفني في الشدة.
قال: فقال لي يوسف: يا بن أدهم أين تذهب؟ أخبرني عن شيء أسألك عنه. قال: قلت: سل عما بدا لك. قال: فهل أصبحت في دهرك تحدث نفسك بالصيام، فغلبتك نفسك فأفطرت؟ قال: قلت: قد كان ذلك. قال: فنفسك في الرخاء غلبتك، فهي في الشدة أغلب. قال: فرجعت إلى قول يوسف.
الحجاج بن عبد الله
ويقال ابن سهيل النصري قيل إن له صحبة.
حدث الحجاج بن عبد الله النصري قال: النفل حق، نفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/196)
حدث مكحول قال: لما كان يوم بدر قاتلت طائفة من المسلمين، وثبتت طائفة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجاءت الطائفة التي قاتلت بالأسلاب وأشياء أصابوها، فقسمت الغنيمة بينهم، ولم تقسم للطائفة التي لم تقاتل، فقالت الطائفة التي لم تقاتل: اقسموا لنا فأبت، وكان بينهم في ذلك كلام، فأنزل الله عز وجل: " يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم "، فكان صلاح ذات بينهم أن ردوا الذي كانوا أعطوا ما كانوا أخذوا.
قال مكحول: حدثني بهذا الحديث الحجاج بن سهيل النصري، فما منعني أن أسأله عن إسناده إلا هيبته.
الحجاج بن علاط بن خالد بن ثويرة
ابن جسر بن هلال بن عبد بن ظفر بن سعد بن عمرو بن تيم بن بهز بن امرئ القيس بن بهثة ابن سليم أبو كلاب ويقال أبو محمد ويقال أبو عبد الله السلمي ثم البهزي له صحبة، وأسلم عام خيبر.
عن أنس قال: لما افتتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر قال الحجاج بن علاط: يا رسول الله: إن لي بمكة مالاً، وإن لي بها أهلاً، وإني أريد أن آتيهم، أفأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئاً؟ فأذن له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول ما شاء. فأتى امرأته حين قدم فقال: اجمعي لي ما كان عندك، فإني أريد أن أشتري من غنائم محمد وأصحابه، فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم. قال: وفشا ذلك بمكة فانقمع المسلمون، وأظهر المشركون فرحاً وسروراً، قال:(6/197)
وبلغ الخبر العباس عليه السلام فعقر، وجعل لا يستطيع أن يقوم، قال: فأخذ ابناً له يقال له: قثم، واستلقى، فوضعه على صدره وهو يقول:
حبي قثم، شبيه ذي الأنف الأشم
نبي ذي النعم، برغم من رغم
قال أنس: ثم أرسل غلاماً له إلى الحجاج بن علاط: ويلك ما جئت به، وماذا تقول؟! فما وعد الله تبارك وتعالى خير مما جئت به. قال الحجاج بن علاط لغلامه: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له: فليخل لي في بعض بيوته لآتيه، فإن الخبر على ما يسره. فجاء غلامه. فلما بلغ باب الدار قال: أبشر يا أبا الفضل، قال: فوثب العباس فرحاً حتى قبل بين عينيه، فأخبره ما قال الحجاج، فأعتقه، قال: ثم جاءه الحجاج فأخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد افتتح خيبر، وغنم أموالهم، وجرت سهام الله عز وجل في أموالهم، واصطفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية بنة حيي فاتخذها لنفسه، وخيرها أن يعتقها وتكون زوجته أو تلحق بأهلها، فاختارت أن يعتقها وتكون زوجته. ولكني جئت لمال كان لي هاهنا، أردت أن أجمعه فأذهب به، فاستأذنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأذن لي أن أقول ما شئت، فأخف عني ثلاثاً، ثم اذكر ما بدا لك.
قال: فجمعت امرأته ما كان عندها من حلي أو متاع فجمعته، فدفعته إليه، ثم انشمر به؛ فلما كان بعد ثلاث أتى العباس امرأة الحجاج فقال: ما فعل زوجك؟ فأخبرته أنه قد ذهب يوم كذا وكذا، وقالت: لا يخزيك الله يا أبا الفضل، لقد شق علينا الذي بلغك. قال: أجل لا يخزيني الله، ولم يكن بحمد الله إلا ما أحببنا، فتح الله خيبر على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجرت فيها سهام الله عز وجل، واصطفى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية لنفسه، فإن كانت لك حاجة في زوجك فالحقي به، وقالت: أظنك والله صادقاً. قال: فإني صادق والأمر على ما أخبرتك، ثم ذهب حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذا مر بهم:(6/198)
لا يصيبك إلا خير يا أبا الفضل. قال: لم يصبني إلا خير بحمد الله، قد أخبرني الحجاج بن علاط أن خيب فتحها الله على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجرت فيها سهام الله واصطفى صفية لنفسه، وقد سألني أن أخفي عنه ثلاثاً، وإنما جاء ليأخذ ماله وما كان له من شيء هاهنا ثم يذهب، قال: فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، وخرج المسلمون من كان دخل بيته مكتئباً حتى أتوا العباس عليه السلام فأخبرهم الخبر فسر المسلمون، ورد الله من كان من كآبة أوغيظ أو حزن على المشركين.
قال واثلة بن الأسقع: كان إسلام الحجاج بن علاط البهزي ثم السلمي، أن خرج في ركب من قومه يريد مكة، فلما جن عليهم الليل وهم في واد وحش مخيف قفر، فقال له أصحابه: يا أبا كلاب، قم فاتخذ لنفسك ولأصحابك أماناً، فقام الحجاج فجعل يطوف حولهم ويكلؤهم ويقول:
أعيذ نفسي وأعيذ صحبي ... من كل جني بهذا النقب
حتى أؤوب سالماً وركبي
قال: فسمع صوت قائل يقول: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا ولا تنفذون إلا بسلطان " قال: فلما قدموا مكة خبر بذلك في نادي قريش فقالوا: صدقت والله يا أبا كلاب، إن هذا مما يزعم محمد أنه أنزل عليه. قال: قد والله سمعته وسمعه هؤلاء معي، فبينا هم كذلك إذ جاء العاص بن وائل فقالوا له: يا أبا هشام، أما تسمع ما يقول أبو كلاب! قال: وما يقول؟ فخبروه بذلك. فقال: وما يعجبكم من ذلك، إن الذي سمع هناك هو الذي ألقاه على لسان محمد، فنهنه ذلك القوم عني، ولم يزدني في الأمر إلا بصيرة، فسألت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأخبرت أنه قد خرج من مكة إلى المدينة، فركبت راحلتي وانطلقت حتى أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فأخبرته بما سمعت فقال: " سمعت والله الحق، هو والله من كلام ربي عز وجل الذي أنزل علي، ولقد سمعت حقاً يا أبا كلاب "، فقلت: يا رسول الله، علمني الإسلام. فشهدني كلمة الإخلاص وقال: سر إلى قومك فادعهم إلى مثل ما أدعوك إليه، فإنه الحق.(6/199)
ونزل الحجاج بن علاط حمص ومنزله بها، وهي الدار المعروفة بدار الخالديين.
وهو أبو نصر بن حجاج صاحب المتمنية التي قالت فيه:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
وهو أول من بعث بصدقته إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من معدن بني سليم، عداده في أهل الحجاز. والحجاج مدفون بقاليقلا من أرض الروم.
الحجاج بن يوسف بن الحكم
ابن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتّب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف ابن ثقيف واسمه قسيّ بن منبه بن بكر بن هوازن أبو محمد الثقفي ولاه عبد الملك الحجاز فقتل ابن الزبير: وعزله عنها وولاه العراق، وقدم دمشق وافداً على عبد الملك، وكانت له بدمشق آدر، منها دار الزاوية التي بقرب قصر ابن أبي الحديد.
قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج بن يوسف فذكر القبر فما زال يقول: إنه بيت الوحدة وبيت الغربة حتى بكى وأبكى من حوله، ثم قال: سمعت أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان بن عفان فقال في خطبته: ما نظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قبر وذكره إلا بكى.(6/200)
قال مالك بن دينار: دخلت يوماً على الحجاج فقال لي: يا أبا يحيى، ألا أحدثك بحديث حسن عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: بلى، فقال: حدثني أبو بردة، عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كانت له إلى الله حاجة فليدع بها دبر صلاة مفروضة.
قال أبو موسى بن أبي عبد الرحمن: أخبرني أبي قال: أبو محمد، حجاج بن يوسف الثقفي ليس بثقة ولا مأمون.
ولد الحجاج بن يوسف سنة تسع وثلاثين، وقيل سنة أربعين، وقيل سنة إحدى وأربعين.
حدث محمد بن إدريس الشافعي قال: سمعت من يذكر أن المغيرة بن شعبة نظر إلى امرأته وهي تتخلل من أول النهار فقال: والله لئن كانت باكرت الغداء إنها لرغيبة، وإن كان شيء بقي من فيها من البارحة إنها لقذرة، فطلقها فقالت: والله ما كان شيء مما ذكرت، ولكنني باكرت ما تباكره الحرّة من السواك، فبقيت شظية في فيّ، قال: فقال المغيرة بن شعبة ليوسف أبي الحجاج بن يوسف: تزوجها، فإنها لخليقة أن تأتي بالرجل يسود، فتزوجها، قال الشافعي: فأخبرت أن أبا الحجاج لما بنى بها واقعها فنام، فقيل له في النوم: ما أسرع ما ألقحت بالمبير.
حدث ابن حمدان عن أبيه قال: دخل الحجاج خربة فدعاني، فقال: أفرغ علي من الإداوة فأفرغت عليه، فإذا عضيدتان وجنيبان.
قال ابن عون: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ، عرفت أنه طالما درس القرآن.
قال أبو محمد الحناني: عملناه - يعني تجزئة القرآن في أربعة أشهر - وكان الحجاج يقرأه في كل ليلة.(6/201)
قال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أحداً أفصح من الحسن ومن الحجاج. فقيل: فأيهما كان أفصح؟ قال: الحسن.
قال عتبة بن عمرو: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض، إلا الحجاج وإياس بن معاوية، فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس.
حدث عبد الله بن كثير ابن أخي إسماعيل بن جعفر المديني: أن الحجاج بن يوسف صلى مرة إلى جنب سعيد بن المسيب. قال: فجعل يرفع قبل الإمام ويضع قبله، فلما سلم الإمام أخذ سعيد بثوب الحجاج، قال: وسعيد في شيء من الذكر كان يقوله بعدما يصلي، قال: فجعل الحجاج يجاذبه عن ثوبه ليقوم فينصرف، قال: وسعيد يجذبه ليجلسه، حتى فرغ سعيد مما كان يقول من الذكر، قال: ثم جمع بين نعليه فرفعهما على الحجاج وقال: يا سارق، يا خائن، تصلي هذه الصلاة! لقد هممت أن أضرب بهما وجهك قال: ثم مضى الحجاج وكان حاجاً، ففرغ من حجه ورجع إلى الشام، ثم رجع والياً على المدينة، فلما دخلها مضى كما هو إلى المسجد قاصداً نحو مجلس سعيد بن المسيب، فقال الناس ما جاء إلا لينتقم منه، قال: فجاء فجلس بين يدي سعيد فقال له: أنت صاحب الكلمات؟ قال: فضرب سعيد صدر نفسه بيده وقال: أنا صاحبها. فقال له الحجاج: جزاك الله من معلم ومؤدب خيراً، ما صليت بعدك صلاة إلا وأنا أذكر قولك، ثم قام فمضى.
حدث سفيان فقال: كانوا يرمون بالمنجنيق من أبي قبيس وهم يرتجزون ويقولون:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... أرمي بها عواذ هذا المسجد
قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال:(6/202)
ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قرباناً، فجاءت نار فأكلتها علموا أنه قد تقبل منهم، وإن لم تأكلها قالوا: لم تقبل. قال: فلم يزل يخدعهم حتى عادوا فرموا.
قال عطاء بن أبي رباح: كنت مع ابن الزبير في البيت، فكان الحجاج إذا رمى ابن الزبير بحجر وقع الحجر على البيت، فسمعت للبيت أنيناً كأنين الإنسان: أوه.
روي عن معاذ بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال: لما قتل الحجاج بن يوسف ابن الزبير ارتجت مكة بالبكاء، فأمر الناس فجمعوا في المسجد، ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال بعقب حمد ربه: يا أهل مكة، بلغني إكثاركم واستفظاعكم قتل ابن الزبير، ألا وإن ابن الزبير كان من أخيار هذه الأمة، حتى رغب في الخلافة ونازع فيها أهلها، فخلع طاعة الله واستكن بحرم الله، ولو كان شيء مانع للعصاة لمنعت آدم حرمة الجنة، لأن الله خلقه بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته وأباحه كرامته وأسكنه جنته، فلما أخطأ أخرجه من الجنة بخطيئته، وآدم على الله أكرم من ابن الزبير، والجنة أعظم حرمة من الكعبة. اذكروا الله يذكركم.
وعن أبي الصديق الناجي: أن الحجاج بن يوسف دخل على أسماء بنت أبي بكر بعدما قتل ابنها عبد الله بن الزبير فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله أذاقه من عذاب أليم، وفعل به وفعل. فقالت: كذبت كان براً بالوالدين، صواماً قواماً، والله لقد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيخرج من ثقيف كذابان الآخر منهما شر من الأول، وهو مبير.
وفي رواية أنها قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يخرج من ثقيف رجلان، مبير وكذاب، فأما الكذاب فابن أبي عبيد - يعني المختار - وأما المبير فأنت.
قال سعد بن حذافة: خطبنا الحجاج في الجمعة الثانية من مقتل ابن الزبير فقال: الحمد لله الرافع(6/203)
للمتواضعين، الواضع للمتكبرين، وصلى الله على خير رسول دل على خير سبيل، أيها الناس، إن الراعي مسؤول عن رعيته، فإن أحسن فله، وإن أساء فعليه، وأنه يخيل إلي أنكم لا تعرفون حقاً من باطل، وإني أسألكم عن ثلاث خصال، فإن أجبتم عنها وإلا ضربت عليكم خمس الجزية، وكنتم لذلك مستأهلين. أسألكم عن شيء لا يستغني عنه شيء، وعن شيء لا يعرف إلا بكنيته، وعن والد لا والد له فقام إليه جبير بن حية الثقفي فقال: لولا عزمتك أيها الأمير لم أجبك. أما الشيء الذي لا يستغني عنه شيء فالاسم، لأن الله خلق الأشياء فجعل لكل شيء اسماً يدعى به ويدل عليه. وأما الشيء الذي لا يعرف إلا بكنيته فأم الحبين. وأما الولد الذي لا والد له فعيسى بن مريم. قال: من أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا جبير بن حية الثقفي. قال: الآن ضل صوابك، ما بطأ بك عني مع قرب قرابتك؟ قال: أيها الأمير، إنك لا تبقي لقومك ولا يدوم عزك، لأن الدهر دول ولا نحب أن نصيب اليوم ما يصاب منا مثله في غد. قال: فأمر له بجائزة.
روى نافع: أن ابن عمر اعتزل بمنى في قتال ابن الزبير والحجاج، فصلى مع الحجاج.
قال مكحول الأزدي: شهدت الحجاج بمكة فخطب الناس يوم جمعة، حتى كاد أن يذهب وقت الصلاة. فقام ابن عمر فقال: أيها الناس، قوموا لصلاتكم فقال الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما فرغ قال: من هذا؟ قال: قالوا: ابن عمر. قال: لولا أن به لمماً لعاقبته.
وفي رواية: فنزل الحجاج فصلى ثم دعا به فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنما تجيء للصلاة فإذا حضرت الصلاة فصل الصلاة لوقتها، ثم بقبق بعد ذلك ما شئت من بقبقة.
قال القعقاع بن المهلب: خطب الحجاج فقال: إن ابن الزبير غير كتاب الله، فقال ابن عمر: ما له سلطه الله على ذلك ولا أنت معه، ولو شئت أن أقول: كذبت، لفعلت.(6/204)
وعن عبد الله بن جعفر: أنه زوج ابنته من الحجاج بن يوسف فقال لها: إذا دخل بك فقولي: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، وزعم أن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا حزبه أمر قال هذا. قال حماد: فظننت أنه قال، فلم يصل إليها.
قال محمد بن إدريس الشافعي: لما تزوج الحجاج بن يوسف ابنة عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتركت الحجاج يتزوج ابنة عبد الله بن جعفر؟ قال: نعم، وما بأس بذلك؟ قال: أشد البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على ابن الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير، قال: فكأنه كان نائماً فأيقظه قال: فكتب إليه يعزم عليه في طلاقها فطلقها.
قال سعيد بن أبي عروبة: حج الحجاج، ونزل بعض المياه بين مكة والمدينة، ودعا بالغداء فقال لحاجبه: انظر من يتغدى معي، وأسأله عن بعض الأمر، فنظر نحو الجبل فإذا هو بأعرابي بين شملتين من شعر، نائم، فضربه برجله وقال: ائت الأمير، فأتاه. فقال له الحجاج: اغسل يدك وتغد معي، فقال: إنه دعاني من هو خير منك فأجبته، قال: ومن هو؟ قال: الله تبارك وتعالى، دعاني إلى الصوم فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟ قال: نعم، صمت ليوم هو أشد حراً من هذا اليوم، قال: فأفطر، وتصوم غداً. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إلي. قال: فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه! قال: إنه طعام طيب؛ قال: لم تطيبه أنت ولا الطباخ، ولكن طيبته العافية.
قال عبيد الله بن يزيد بن أبي مسلم الثقفي عن أبيه قال: كان الحجاج عاملاً لعبد الملك على مكة، فكتب إليه بولايته على العراق، قال: فخرج وخرجت معه في نفر ثمانية أو تسعة على النجائب، فلما كنا بماء قريب من الكوفة نزل، فاختضب وتهيأ، وذلك في يوم جمعة، ثم راح معتماً قد ألقى عذبة العمامة بين كتفيه، متقلداً سيفه حتى نزل عند دار الإمارة عند مسجد الكوفة، وقد أذن المؤذن بالأذان الأول لصلاة الجمعة، وخرج عليهم الحجاج وهم لا يعلمون، فجمع بهم، ثم صعد المنبر فجلس عليه،(6/205)
فسكت وقد اشرأبوا إليه وجثوا على الركب، وتناولوا الحصى ليقذفوه بها ويخرجوه عنهم - قال: وقد كانوا حصبوا عاملاً قبله فخرج عنهم - فسكت سكتة أبهتهم بها، وأحبوا أن يسمعوا كلامه. قال: فكان بدء كلامه أن قال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق، ويا أهل النفاق، والله إن كان أمركم ليهمني قبل أن آتيكم، ولقد كنت أدعو الله أن يبتليكم بي وأن يبتليني بكم، فأجاب دعوتي. ألا إني أسريت البارحة، فسقط مني سوطي فاتخذت هذا، - وأشار إليهم بسيف مكانه - فوالله لأجرنه فيكم جر المرأة ذيلها، ولأفعلن ولأفعلن. قال يزيد: حتى رأيت الحصى متساقطاً من بين أيديهم. قال: قوموا إلى بيعتكم. فقامت القبائل قبيلة قبيلة تبايع فيقول: من؟ فتقول: بنو فلان. حتى جاءته قبيلة قال: ومن؟ قالوا: النخع. قال: منكم كميل بن زياد؟ قالوا: نعم. قال: ما فعل؟ قالوا: أيها الأمير، شيخ كبير، قال: لا بيعة لكم عندي ولا تقربون حتى تأتوني به، قال: فأتوه به منعوشاً في سرير، حتى وضعوه إلى جانب المنبر. فقال: ألا إنه لم يبق ممن دخل على عثمان الدار غير هذا، فدعا بنطع فضرب عنقه.
قال أبو بكر الهذلي: حدثني من شهد الحجاج بن يوسف حين قدم العراق، فبدأ بالكوفة قبل البصرة، ونودي للصلاة جامعة، فأقبل الناس إلى المسجد والحجاج يتقلد قوساً عربية، وعليه عمامة خز حمراء متلثماً، فقعد وعرض القوس بين يديه، ثم لم يتكلم حتى امتلأ المسجد. فقال محمد بن عمير: فسكت حتى ظننت أنما يمنعه العي، وأخذت في يدي كفاً من حصى، أردت أن أضرب به وجهه، قال: فقام فوضع نقابه، وتقلد قوسه، وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العمامة تعرفوني
إني لأرى رؤوساً قد أينعت، وحان قطافها، كأني أنظر إلى الدماء بين العمائمواللحى.
ليس بعشك فادرجي
قد شمرت عن ساقها فشمري(6/206)
قد لفها الليل بسواق حطم ... ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي ... مهاجر ليس بأعرابي
إني والله ما أغمز غمز التين، ولا يقعقع لي بالشنان، ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وجريت من الغاية. فإنكم يا أهل العراق طالما أوضعتم في الضلالة، وسلكتم سبيل الغواية، أما والله لألحينكم لحي العود، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، ألا إن أمير المؤمنين نكب كنانته بين يديه، فعجم عيدانها فوجدني أمرها عوداً، وأصلبها مكسراً، فوجهني إليكم، فاستقيموا ولا يميلن منكم مائل، واعلموا أني إذا قلت قولاً وفيت به. من كان من بعث المهلب فليلحق به، فإني لا أجد أحداً بعد ثالثة إلا ضربت عنقه، وإياي وهذه الزرافات، فإني لا أجد أحداً يسير في زرافة إلا سفكت دمه، واستحللت ماله. ثم نزل.
قال محمد بن صالح الثقفي وغيره: فأتاه عمير بن ضابئ بعد ثالثة معه ابنه فقال: هذا ابني، هذا أشد بني تميم يداً وبطشاً وظهراً، وأعدّهم سلاحاً، وأنا شيخ كبير، وهو خير لك مني قال: صدقت، من يشهد على تزمينك؟ فقام قوم فشهدوا أن بشراً أزمنه؛ وأخذ عطاءه، وقال: إنك لمعذور، ولكني أكره أن أطمع الناس فيّ، أنت بعد ابن ضابىء قاتل عثمان، فأنت كأبيك فأمر بقتله. وقيل: إن عنبسة بت سعيد قال: هذا ابن ضابىء الذي يقول:(6/207)
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
فقال: أخروه، أما أمير المؤمنين عثمان فتغزوه بنفسك، وأما الأزارقة فتبعث بديلاً! فأمر به فقتل.
وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
أقول لعبد الله لما لقيته ... أرى الأمر أمسى هالكاً مذ تشعبا
تخيّر فإمّا أن تزور ابن ضابىء ... عميراً وإمّا أن تزور المهلّبا
فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ... مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا
هما خطّتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حوليّاً من الثلج أشهبا
فحال، ولو كانت خراسان خلتها ... عليه مكان السوق أو هي أقربا
وفي رواية أنه قال: والله ما أقول إلا وقيت، ولا أهمّ إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت. وإن أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم، وأن أوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلاً تخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه. يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين، سلام عليكم. فلم يقل أحد شيئاً. فقال الحجاج: اكفف يا غلام. ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئاً! هذا أدب ابن نهية. أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب، أو لتستقيمن. اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين، فقرأ. فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم، لم يبق في المسجد أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام.
ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبراً فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولي ابن هو أقوى على الأسفار مني، أفتقبله مني(6/208)
بديلاً؟ فقال له الحجاج: نفعل أيها الشيخ. فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي، الذي يقول أبوه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولاً، فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه، فلما رد قال الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بديلاً يوم الدار! إن قتلك أيها الشيخ صلاح للمسلمين. يا حرسي اضربا عنقه.
فجعل الرجل يضيق عليه بعض أمره فيرتحل، وبأمر وليه أن يلحقه بزاده.
حدث عمران الضبعي أنه رأى في منامه كأن الحجاج بن يوسف على بغل، وكأنه على حائط كلس، وكأنه يستف التراب، قال: فقصها على غير واحد من أصحابه، فكلهم يقول خيراً حتى قصها على أبي قلابة، فقال له: هاتها ما كانت. فقال أبو قلابة: أما البغل فليس في الدواب أطول عمراً من البغل، وأما حائط كلس فليس في البناء أثبت من كلس، وأما سفه التراب فأكله أموالكم.
قال حفص بن النضر السلمي: خطب الحجاج الناس يوماً فقال: أيها الناس، الصبر عن محارم الله أشد من الصبر على عذاب الله. فقام إليه رجل فقال: يا حجاج، ويحك ما أصفق وجهك وأقل حياءك! تفعل ما تفعل، ثم تقول مثل هذا. فأمر به فأخذ، فلما نزل عن المنبر دعا به فقال له: لقد اجترأت علي. فقال له: يا حجاج، أنت تجترئ على الله قلا تنكره على نفسك، وأجترئ أنا عليك فتكثره علي! فخلى سبيله.
قال الهيثم بن عدي: دخل الأبي بن الإباء على الحجاج بن يوسف فقال: أصلح الله الأمير، موسوم بالميل، مشهور بالطاعة، خرج أخي مع ابن الأشعث فخلق على اسمي، وحرمت عطائي، وهدم منزلي، فقال: أما سمعت ما قال الشاعر:
جانيك من يجني عليك وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب(6/209)
ولرب مأخوذ بذنب قرينه ... ونجا المقارف صاحب الذنب
قال: أيها الأمير، سمعت الله يقول غير هذا. قال: وما قال جل ثناؤه؟ قال: " قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون ". قال: يا غلام، اردد اسمه، وابن داره، وأعطه عطاءه، ومر منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
قال ابن عياش: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أما بعد، إذا ورد عليك كتابي هذا فابعث إلي برأس أسلم بن عبد البكري، لما قد بلغني عنه. قال: فلما ورد عليه كتاب أحضره، فقال: أعز الله الأمير، أمير المؤمنين الغائب وأنت الحاضر، قال الله تعالى: " يا أيها الذين أمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ". وما بلغه عني فباطل، فاكتب إليه: إني أعول أربعاً وعشرين امرأة، ما لهن بعد الله كسب غيري. فقال: ومن لنا بتصديق ذلك؟ قال: هن بالباب أصلح الله الأمير. فأمر بإحضارهن فلما دخلن عليه جعل يسائلهن، فهذه تقول: عمته، والأخرى تقول: خالته، والأخرى: زوجته، إلى أن انتهى إلى جارية فوق الثمانية ودون العشارية فقال لها: من أنت منه؟ قالت: ابنته أصلح الله الأمير، ثم جثت بين يديه وأنشأت تقول:
أحجاج لم تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج كم تقتل به إن قتلته ... ثمانً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلاً أن تزدنا تضعضعاً
أحجاج إما أن تجود بنعمة ... علينا وإما أن تقتلنا معا
قال: فما استتمت كلامها حتى أسبل الحجاج دمعه من البكاء، وقال: والله لا أعنت الدهر عليكن، فلا زدتكن تضعضعا، وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية، فكتب(6/210)
إليه عبد الملك: إن كان كما ذكرت فأحسن له الصلة، وتفقد الجارية، وعجل بسراحهن ففعل ما أمره.
قال المدائني: أتي الحجاج بأسيرين ممن كان مع الأشعث، فأمر بضرب أعناقهما، فقال أحدهما: أصلح الله الأمير، إن لي عندك يداً. قال: ما هي؟ قال: ذكر ابن الأشعث يوماً أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم بذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر. فسأله الحجاج فقال: قد كان ذلك. فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: أينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال: لبغضك وبغض قومك. قال الحجاج: خلوا عن هذا لصدقه، وعن هذا لفعله.
قال الحجاج ليحيى بن يعمر الليثي: أتسمعني ألحن على المنبر؟ قال يحيى: الأمير أفصح الناس. - قال يونس: فصدق، كان أفصح الناس إلا أنه لم يكن يروي الشعر - قال: تسمعني ألحن؟ قال: حرفاً. قال: في أي؟ قال: في القرآن. قال: فذاك أشنع له. قال: ما هو؟ قال: تقول: " إن كان آباؤكم وأبناؤكم " الآية " أحب إليكم من الله ورسوله " بالرفع. قال: فبعث به إلى خراسان، وبها يزيد بن المهلب، فكتب يزيد إلى الحجاج: إنا لقينا العدو ففعلنا وفعلنا، واضطررناهم إلى عرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب وهذا الكلام! فقيل له: إن ابن يعمر عنده. فقال: ذلك إذاً أحرى.
وفي حديث آخر بمعناه: أن يحيى بن يعمر كان كاتب المهلب بخراسان فجعل الحجاج يقرأ كتبه فيتعجب منها، فقال: من هذا؟ فأخبر، فكتب فيه، فقدم، فرآه فصيحاً فقال: أنى ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فما هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ في تنوخ، فأخذت ذلك عنه. قال: أخبرني عن عنبسة بن سعد يلحن؟ قال: كثيراً. قال: فأنا ألحن؟ قال: لحناً(6/211)
خفياً، قال: أين؟ قال: تجعل إن أن، وأن إن، أو نحو ذلك. قال: لا تساكني ببلد، أخرج. وكان يحيى بن يعمر من عدوان، وعدوان من قيس.
قال عاصم بن بهدلة: اجتمعوا عند الحجاج، فذكر الحسين بن علي فقال الحجاج: لم يكن من ذرية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعنده يحيى بن يعمر، قال: كذبت أيها الأمير، فقال: لتأتيني على ما قلت ببينة ومصداق من كتاب الله عز وجل، وإلا قتلتك قال: " ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون " إلى قوله " وزكريا ويحيى وعيسى " فأخبره الله عز وجل إن عيسى من ذرية آدم بأمه، والحسين بن علي من ذرية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمه، قال: صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي؟ قال: ما أخذ الله على الأنبياء " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " قال الله عز وجل " فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً " قال: فنفاه إلى خراسان.
قال الأصمعي: أخبرت أن الحجاج بن يوسف لما فرغ من أمر عبد الله بن الزبير بن العوام وصلبه، قدم المدينة فلقي شيخاً خارجاً من المدينة، فلما رآه الحجاج قال: يا شيخ من أهل المدينة أنت؟ قال: نعم. قال الحجاج: من أيهم أنت؟ قال: من بني فزارة. قال: كيف حال أهل المدينة؟ قال: شر حال. قال: ومم؟ قال: لما لحقهم من البلاء بقتل ابن حواري رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له الحجاج: من قتله؟ قال: الفجر اللعين حجاج بن يوسف، عليه لعائن الله وبهلته من قليل المراقبة لله. فقال له الحجاج: وقد استشاط غضباً: وإنك يا شيخ ممن حزنه ذلك وأسخطه؟ قال الشيخ: إني والله أسخطني ذلك، فأسخط الله الحجاج وأخزاه. فقال الحجاج: أوتعرف الحجاج إن رأيته؟ قال: أي والله إني به لعارف، فلا عرفه الله خيراً، ولا وقاه ضيراً. فكشف الحجاج لثامه وقال: هذا والله العجب،(6/212)
أما والله يا حجاج لو كنت تعرفني، ما قلت هذه المقالة. أنا والله يا حجاج العباسي بن أبي ثور، أصرع في كل يوم خمس مرات. فقال الحجاج: انطلق فلا شفى الله الأبعد من جنونه ولا عافاه.
قال محمد بن إدريس الشافعي: قال الوليد بن عبد الملك للغازي بن ربيعة. إني سأدعوك وأدعو الحجاج فتتحدثان عني، فإذا قمت وخلوت به فسله عن هذه الدماء: هل يحيك في نفسه منها شيء، أو يتخوف لها عاقبة؟ قال: فتحدثا عن الوليد، ثم خرجا فألقي لهما وسادة في الجبل أو في القصر، وقام الحجاج ينظر إلى الغوطة. قال: واستحييت أن أجلس فقمت معه، فقلت: يا أبا محمد، أرأيت هذه الدماء التي أصبت، هل يحييك في نفسك منها شيء، أو تتخوف لها عاقبة؟ قال: فجمع يده فضرب بها في صدري، ثم قال: يا غاز ارتبت في أمرك، أو شككت في طاعتك! والله ما أود أن لي لبنان وسنير ذهباً مقطعاً أنفقها في سبيل الله مكان ما أبلاني الله من الطاعة.
حدث أبو المضرجي قال: أمر الحجاج محمد بن المستنير ابن أخي مسروق بن الأجدع أن يعذب أزادمرد بن الهربد، فقال له أزادمرد: يا محمد، إن لك شرفاً قديماً وإن مثلي لا يعطي على الذل شيئاً، فاستأدني وثق بي، فاستأداه في جمعة ثلاث مئة ألف، فغضب الحجاج وأمر معداً صاحب العذاب أن يعذبه، فدق يديه ورجليه، فلم يعطهم شيئاً. قال محمد: فإني لأسير بعد ثلاثة أيام، إذا أنا بأزدامرد معترضاً على بغل، قد دقت يداه ورجلاه. فقال لي: يا محمد. فكرهت أن آتيه فيبلغ الحجاج، وتذممت من تركه إذ دعاني، فدنوت منه فقلت: حاجتك؟ فقال: قد وليت مني مثل هذا وأحسنت إلي، ولي عند فلان مئة ألف درهم، فانطلق فخذها. قلت: لا والله لا آخذ منها درهماً وأنت على هذه الحال، قال: وإني أحدثك حديثاً سمعت من أهل دينك يقولون: إذا أراد الله تعالى بالعباد خيراً أمطرهم في(6/213)
أوانه، واستعمل عليهم خيارهم، وجعل المال عند سمائحهم. وإذا أراد بهم شراً أمطروا في غير إبانه، واستعمل عليهم شرارهم، وجعل المال في أحشائهم، ومضى فأتيت منزلي فما وضعت ثيابي حتى جاءني رسول الحجاج، فأتيته وقد اخترط سيفه فهو في حجره فقال: ادن فدنوت قليلاً، ثم قال: ادن. فقلت: ليس لي دنو وفي حجر الأمير ما أرى، فأضحكه الله تعالى لي وأغمد السيف فقال: ما قال لك الخبيث؟ فقلت: والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا كذبتك منذ صدقتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني. فأخبرته بما قال: فلما أردت ذكر الرجل الذي عنده المال، صرف وجهه وقال: لا تسمه. وقال: لقد سمع عدو الله الأحاديث!
قال عوف: خرجت يوم عيد فقلت: لأسمعن الليلة خطبة الحجاج، فجئت فجلست على الدكان، وجاء الحجاج يتمايل حتى صعد المنبر فتكلم، وكان إذا أكثر وضع يده على فيه حتى يفهمنا كلامه، ثم قال: يا أهل الشام إنكم حاججتم الناس ففلجتم عليهم بالسيف، وأن حكم الدنيا والآخرة فيكم واحد، وهو عدل لا يجوز فكما فلجتم عليهم في الدنيا كذلك تفلجون عليهم في الآخرة ثم قال: من كان سائلاً عن هذا الخليفة فليسأل الله عنه، كان لا يشاقه أحد ولا ينازعه إلا أتي برأسه وهو على فراشه مع أهله وولده، فمن كان سائلاً عنه أحداً منالناس فليسأل الله عز وجل عنه. تزعمون يا أهل العراق أن خبر السماء قد انقطع عن أمير المؤمنين وكذبتم والله يا أهل العراق، والله ما انقطع خبر السماء عنه إن عنده منه كذا وعنده منه كذا.
حدث بزيغ بن خالد الضبي قال: سمعت الحجاج يخطب فقال في خطبته: رسول أحدكم في حاجته أكرم عليه أم خليفته في أهله! فقلت في نفسي: لله علي ألا أصلي خلفك صلاة أبداً، وإن وجدت قوماً يجاهدونك لأجاهدنك معهم.
قال عاصم: سمعت الحجاج وهو على المنبر يقول: اتقوا الله ما استطعتم، ليس فيها مثوبة.(6/214)
واسمعوا وأطيعوا، ليس فيها مثوبة لأمير المؤمنين عبد الملك، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دمائهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي لله حلالاً، ويا عذيري من عبد هذيل، يزعم أن قرآنه من عند الله، والله ما هي إلا رجز من رجز الأعراب، ما أنزلها الله عز وجل على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعذيري من هذه الحمر، أيزعم أحدهم أنه يرمي بالحجر فيقول: إلا أن يقع الحجر حدث أمر، فوالله لأدعنهم كالأمس الدابر.
قال عاصم والأعمش: سمعنا الحجاج بن يوسف على المنبر يقول: عبد هذيل يعني ابن مسعود يقرأ القرآن رجزاً كرجز الأعراب، ويقول هذا القرآن. أما لو أدركته لضربت عنقه. وفي رواية: يا عجباً من عبد هذيل، يزعم أنه يقرأ قرآناً من عند الله، والله ما هو إلا رجز من رجز الأعراب، والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه.
قال عوف: سمعت الحجاج يخطب وهو يقول إن مثل عثمان عند الله، كمثل عيسى بن مريم ثم قرأ هذه الآية يقرأها ويفسرها: " إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا " يشير إلينا بيده وإلى أهل الشام.
قال عتاب بن أسيد بن عتاب: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلت أم أيمن تبكي ولا تستريح من البكاء. فقال أبو بكر لعمر: قم بنا إلى هذه المرأة، فدخلا عليها فقالا: يا أم أيمن ما يبكيك! قد أفضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ما هو خير له من الدنيا. فقالت: ما أبكي لذلك، إني لأعلم أنه قد أفضى إلى ما هو خير من الدنيا، ولكن أبكي على الوحي انقطع. فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف فقال: كذبت أم أيمن، ما أعمل إلا بوحي.(6/215)
قال عوانة: خطب الحجاج الناس بالكوفة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل العراق، تزعمون أنا من بقية ثمود! وتزعمون أني ساحر! وتزعمون أن الله عز وجل علمني اسماً من أسمائه، أقهركم وأنتم أولياؤه بزعمكم! وأنا عدوه! فبيني وبينكم كتاب الله تعالى، قال عز وجل: " فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً والذين آمنوا معه ". فنحن بقية الصالحين إن كنا من ثمود. وقال عز وجل: " إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى ". والله أعدل في حكمه أن يعلم عدواً من أعدائه اسماً من أسمائه يهزم به أولياءه. ثم حمي وكثر كلامه فتحامل على رمانة المنبر فحطمها، فجعل الناس يتلاحظون بينهم وهو ينظر إليهم فقال: يا أعداء الله، ما هذا الترامز! أنا حديا الظبي السانح، والغراب الأبقع، والكوكب ذي الذنب. ثم أمر بذلك العود فأصلح قبل أن ينزل من المنبر.
قوله: أنا حديا الظبي. أراد، إنا لثقتنا بالغلبة والإستعلاء نتحدى ارتفاع الظبي سانحاً، وهو أحمد ما يكون في سرعته ومضائه، والغراب الأبقع في تحذره وذكائه ومكره وخبثه ودهائه، وذا الذنب من الكواكب فيما تنذر به من عواقب مكروه بلائه. والله ذو البأس الشديد بالمرصاد له ولحزبه وأوليائه.
قال أبو حفص الثقفي: خطب الحجاج يوماً فأقبل عن يمينه فقال: إن الحجاج كافر، ثم أطرق فقال: إن الحجاج كافر ثم أطرق وأقبل عن يساره فقال: ألا إن الحجاج كافر. فعل ذلك مراراً ثم قال: كافر يا أهل العراق باللات والعزى.
قال أبو شوذب: ما رئي مثل الحجاج لمن أطاعه، ولا مثله لمن عصاه.
قال الأصمعي: مثل فتى بين يدي الحجاج فقال: أصلح الله الأمير، مات أبي وأنا حمل، وماتت(6/216)
أمي وأنا رضيع، فكفلني الغرباء حتى ترعرعت، فوثب بعض أهلي على مالي واجتاحه، وهو هارب مني ومن عدل الأمير. فقال الحجاج: الله، مات أبوك وأنت حمل، وماتت أمك وأنت رضيع، وكفلك الغرباء، فلم يمنعك ذلك من أن فصح لسانك وأنبأت عن إرادتك. اطردوا المؤدبين عن أولادي.
قال محمد بن إدريس الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج بن يوسف: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين، أنا لجوج حقود حسود. فقال عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: يا أمير المؤمنين، إن الشيطان إذا رآني سالمني. ثم قال الشافعي: الحسد إنما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البنية وضعف عقد العقل، والحاسد طويل الحسرات عادم الراحات.
قال سلم بن قتيبة: عددت أربعاً وثمانين لقمة من خبز الماء، في كل لقمة رغيف، وملء كفه سمك طري، يعني على الحجاج.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب، فأخبره أن أهل العراق قد حصبوا أميرهم، فخرج غضبان، فصلى لنا صلاة فسها فيها حتى جعل الناس يقولون: سبحان الله، سبحان الله. فلما سلم أقبل على الناس فقال: من هاهنا من أهل الشام؟ فقام رجل، ثم قام آخر. قال الراوي: ثم قمت أنا ثالثاً أو رابعاً. فقال: يا أهل الشام استعدوا لأهل العراق، فإن الشيطان قد باض فيهم وفرخ، اللهم إنهم قد لبسوا علي فالبس عليهم، وعجل عليهم بالغلام الثقفي، يحكم فيهم بحكم الجاهلية، لا يقبل من محسنهم، ولا يتجاوز عن مسيئهم.
حدث الحسن، أن علياً كان على المنبر فقال: اللهم، إني ائتمنتهم فخانوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم، فسلط عليهم غلام ثقيف، يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية. فوصفه وهو(6/217)
يقول: الزبال مفجر الأنهار، يأكل خضرتها، ويلبس فروتها. قال: فقال الحسن. هذه والله صفة الحجاج.
وفي حديث آخر قال: يقول الحسن: وما خلق الحجاج يومئذ.
حدث حبيب بن أبي ثابت قال: قال علي لرجل: لا مت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين، ما فتى ثقيف! قال: ليقالن له يوم القيامة: اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة، لا يدع لله تعالى معصية إلا ارتكبها، حتى لو لم يبق إلا معصية واحدة فكان بينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
قال العتبي: قال الحجاج لرجل وأراد أن ينفذه في بعض أموره: أعندك خير؟ قال: لا، ولكن عندي شر. قال: إياه أردت. وأنفذه فيه.
قال محمد بن عائشة: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة، فخطب الناس فقال: يا أهل البصرة، إني أريد الخروج إلى مكة، وقد استخلفت عليكم محمداً ابني، أوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم: ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة. وإني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة.
قال إسحاق بن يزيد: رأيت أنس بن مالك مختوماً في عنقه ختمة الحجاج، أراد أن يذله بذلك. قال محمد بن عمر: وقد فعل ذلك بغير واحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يريد أن يذلهم بذلك، وقد مضت العزة لهم بصحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/218)
قال سماك بن موسى الضبي: أمر الحجاج أن توجأ عنق أنس بن مالك، وقال: أتدرون من هذا؟ هذا خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أتدرون لم فعلت به هذا؟ قالوا: الأمير أعلم. قال: لأنه تبنى البلاء في الفتنة الأولى. عاش الصدر في الفتنة الآخرة.
قال عوانة بن الحكم الكلبي: دخل أنس بن مالك على الحجاج بن يوسف، فلما وقف بين يديه سلم عليه فقال: إيه إيه يا أنيس، يوم لك مع علي، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصلنك كما تستأصل الشأفة، ولأدمغنك كما تدمغ الصمغة. قال أنس: إياي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك، سك الله سمعك. قال أنس: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أي قتلة قتلت، ولا أي ميتة مت. ثم خرج من عند الحجاج، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك. فلما قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً، وصفق عجباً، وتعاظمه ذلك من الحجاج. وكان كتاب أنس إلى عبد الملك بن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، من أنس بن مالك. أما بعد، فإن الحجاج قال لي هجراً، وأسمعني نكراً، ولم أكن لذلك أهلاً، فخذ لي على يديه، فإني أمت بخدمتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله.
فبعث عبد الملك إلى إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر، وكان مصادقاً للحجاج فقال له: دونك كتابي هذين، فخذهما واركب البريد إلى العراق، فابدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وادفع كتابه إليه، وأبلغه مني السلام، وقل له: يا أبا حمزة، قد كتبت إلى الحجاج الملعون كتاباً، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك. وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما بعد، فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت من شكاتك الحجاج، وما سلطته عليك، ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها فاكتب إلي بذلك، أنزل به عقوبتي، وتحسن لك معونتي. والسلام. فلما قرأ أنس كتابه(6/219)
وأخبره برسالته قال: جزى الله أمير المؤمنين عني خيراً، وعافاه وكافأه عني بالجنة، فهذا كان ظني به، والرجاء منه. فقال إسماعيل بن عبيد الله لأنس: يا أبا حمزة، إن الحجاج عامل أمير المؤمنين، وليس بك عنه غنى ولا بأهل بيتك، ولو جعل لك في جامعة ثم دفع إليك، لقدر أن يضر وينفع. فقاربه وداره. فقال أنس: أفعل إن شاء الله.
ثم خرج إسماعيل من عنده فدخل على الحجاج. فلما رآه الحجاج قال: مرحباً برجل أحبه وكنت أحب لقاءه. فقال له إسماعيل: أنا والله كنت أحب لقاءك في غير ما أتيتك به. قال: وما أتيتني به؟ قال: فارقت أمير المؤمنين وهو أشد الناس عليك غضباً، ومنك بعداً. قال: فاستوى الحجاج جالساً مرعوباً، فرمى إليه إسماعيل بالطومار، فجعل الحجاج ينظر فيه مرة ويعرق، وينظر إلى إسماعيل أخرى. فلما نفضه فال: قم بنا إلى أبي حمزة نعتذر إليه ونترضاه. فقال له إسماعيل: لا تعجل. قال: كيف لا أعجل، وقد أتيتني بأمره؟ وكان في الطومار إلى الحجاج بن يوسف: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، إلى الحجاج بن يوسف، أما بعد، فإنك عبد طمت به الأمور، فسموت فيها، وعدوت طورك، وجاوزت قدرك، وركبت داهية أذىً، وأردت أن تبورني، فإن سوغتكها مضيت قدماً، وإن لم أسوغكها رجعت القهقرى، فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقوص الجاعرتين، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار، ونقلهم الصخور على ظهورهم في المناهل، يا بن المستفرمة بعجم الزبيب! والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب، وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أظهرنا فلم تقبل له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته، جرأة منك على الرب عز وجل، واستخفافاً منك بالعهد، والله لو أن اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عزيز بن عذرة وعيسى بن مريم، لعظمته وشرفته وأكرمته فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خدمه ثمان سنين يطلعه على سره، ويشاوره في أمره، ثم هو هذا بقية من بقايا أصحابه. فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خفه ونعله، وإلا أتاك(6/220)
مني سهم مثكل بحتف قاض. و" لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون ".
قال الزبير بن عدي: أتينا أنس بن مالك نشكو إليه الحجاج. فقال: لا يأتي عليكم عام إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم. سمعت ذلك من نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال الشعبي: والله لئن بقيتم لتمنون الحجاج.
وقال الشعبي: يأتي على الناس زمان يصلون فيه على الحجاج.
قال الأصمعي: قيل للحسن: إنك كنت تقول الآخر شر. وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج! فقال الحسن: لا بد للناس من متنفسات.
قال ميمون بن مهران: بعث الحجاج إلى الحسن وقد هم به، فلما دخل عليه فقام بين يديه قال: يا حجاج، كم يتلو من آدم من أب؟ قال: كثير. قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه، وخرج الحسن.
وعن أيوب بن أبي تميمة أن الحجاج بن يوسف أراد قتل الحسن بن أبي الحسن مراراً، فعصمه الله منه مرتين، وكان اختفى مرة في بيت علي بن زيد بن جدعان سنتين، ومرة في طاحنة في بيت أبي محمد البزاز، فعصمه الله من شره، حتى إذا كان يوم من أيام الصيف شديد القظة والرمدة، أرسل إليه نصف النهار فتغفله في ساعة لم يحسب أن يرسل إليه فيها، دخل عليه ستة من الحرس فأخذوه وأتعبوه إتعاباً شديداً. قال أيوب: وبلغنا ذلك، فسعيت أنا وثابت البناني وزياد النميري وسويد بن حجير الباهلي نحو القصر معنا الكفن والحنوط، لا نشك في قتله،(6/221)
فجلسنا بالباب، فخرج علينا وهو يكثر مبتسماً، فلما لحظناه حمدنا الله على سلامته. قال الحسن: العجب والله لهذا العبد، دخلت عليه وهو في مثنية رقيقة متوشح بها ذات علم، في جنبذة من خلاف سقفها الثلج، فهو يقطر عليه، فوجدت القر، وسلمت عليه وفي يده القضيب فقال: أنت القائل يا حسن ما بلغني عنك؟ قال: وما الذي بلغك؟ قال: أنت القائل: اتخذوا عباد الله خولاً، وكتاب الله دغلاً، ومال الله دولاً، يأخذون من غضب الله، وينفقون في سخط الله، والحساب عند البيدر؟ والله يقول: " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين " فيكفي بها إحصاء. قال: نعم، أنا القائل ذلك. قال: ولم؟ قال: لما أخذ الله ميثاق الفقهاء في الأزمنة كلها: " لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم " الآية. قال: فنكت بالقضيب ساعة وفكر، ثم قال: يا جارية، الغالية، قال: فخرجت جارية ذات قصاص، معها مدهن من فضة. فقال: أوسعي رأس الشيخ ولحيته ففعلت، ثم قال: يا حسن، إياك والسلطان أن تذكرهم إلا بخير، فإنهم ظل الله في الأرض، من نصحهم اهتدى، ومن غشهم غوى. فقلت له: أصلحك الله، هكذا بلغني عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " وقروا السلطان وأجلوهم، فإنهم عز الله في الأرض، وظله، ومن نصحهم اهتدى، ومن غشهم غوى، إذا كانوا عدولاً ". قال الحجاج: لا والله ما فيه إذا كانوا عدولاً، ولكنك زدت يا حسن، انصرف إلى أصحابك، فنعم المؤدب أنت.
وفي رواية، في حديث الحسن: أن الحجاج أرسل إليه، فأدخل عليه. فلما خرج من عنده قال: دخلت على أحيول يطرطب شعرات له، فأخرج إلي ثياباً قصيرة. قلما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله.
قوله: يطرطب شعرات له: أن ينفخ شفتيه في شاربه غيظاً له أو كبراً.(6/222)
قال سليمان بن علي الربعي: لما كانت فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الحوراء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائه، فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد، ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام، وأخذ المال الحرام، وترك الصلاة، وفعل وفعل؟ قال: وذكروا من فعال الحجاج. قال: فقال الحسن: أرى ألا تقاتلوه، فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادّي عقوبة الله بأسيافكم، وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج! قال: وهم قوم عرب. وخرجوا مع ابن الأشعث. قال: فقتلوا جميعاً.
قال أبو التياح: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض. ثم قال سعيد، فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً، فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين، ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعماله الحجاج فاعزله عنا. فلما فرغ سعيد من كلامه، تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم بالسكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظنّي بأهل الشام، فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجاج دنياه، لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم.
قال عمر بن عبد العزيز لعنبسة بن سعيد: أخبرني ببعض ما رأيت من عجائب الحجاج فقال: كنا جلوساً عنده ذات ليلة قال: فأتي برجل فقال: ما أخرجك في هذه الساعة؛ وقد قلت: لا آخذ فيها أحداً إلا فعلت به وفعلت؟! قال: أما والله لا أكذب الأمير، أغمي على أمي منذ ثلاث فكنت عندها، فأفاقت الساعة فقالت: يا بني، مذ كم أنت عندي فقلت لها: منذ ثلاث، قالت: أعزم عليك إلا رجعت إلى أهلك، فإنهم مغمومون بتخلفك عنهم، فكن عندهم الليلة وتعود إليّ غداً. فخرجت فأخذني الطائف. فقال: ننهاكم وتعصونا! اضربوا عنقه. ثم أتي برجل آخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ فقال: والله لا أكذبك، لزمني غريم لي على(6/223)
بابه؛ فلما كانت الساعة أغلق بابه دوني وتركني على بابه، فجاءني طائفك وأخذني. فقال: اضربوا عنقه. ثم أتي بآخر فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟ قال: كنت مع شربة أشرب، فلما سكرت خرجت فأخذني الطائف، فذهب عني السكر فزعاً. فقال: يا عنبسة، ما أراه إلا صادقاً، خليا سبيله.
فقال عمر بن عبد العزيز لعنبسة: فما قلت له شيئاً؟ فقال: لا، فقال عمر لآذنه: لا تأذن لعنبسة علينا، إلا أن تكون له حاجة.
قال ابن عائشة: أتي الوليد برجل من الخوارج فقيل له: ما تقول في أبي بكر؟ قال: خيراً قال: فما تقول في عمر؟ قال: خيراً. قال: فعثمان؟ قال: خيراً. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: الآن جاءت المسألة، ما أقول في رجل الحجاج خطيئة من خطاياه! قال علي بن مسلم الباهلي: أتي الحجاج بن يوسف بامرأة من الخوارج، فجعل يكلمها ولا تكلمه معرضة عنه، فقال بعض الشرط: الأمير يكلمك وأنت معرضة! فقالت: إني لأستحي أن أنظر إلى من لا ينظر الله إليه، فأمر بها فقتلت.
قال العتبي: كانت امرأة من الخوارج من الأزد يقال لها فراشة، وكانت ذات نبه في رأي الخوارج، تجهّز أصحاب البصائر منهم، وكان الحجاج تطلّبها طلباً شديداً فأعجزته، ولم يظفر بها، وكان يدعو الله أن يمكنه من فراشة أو بعض من جهّزته. فمكث ما شاء الله، ثم جيء برجل: فقيل: هذا ممن جهزته فراشة، فخرّ ساجداً ثم رفع رأسه فقال له: يا عدو الله؟ قال: أنت أولى بها يا حجاج. قال: أين فراشة؟ قال: مرت تطير منذ ثلاث. قال: أين تطير؟ قال: تطير ما بين السماء والأرض. قال: أعن تلك سألتك عليك لعنة الله! قال: عن تلك أخبرتك عليك غضب الله. قال: سألتك عن المرأة التي جهزتك وأصحابك. قال: وما تصنع بها؟ قال: دلنا عليها. قال: تصنع بها ماذا؟ قال: أضرب(6/224)
عنقها. قال: ويلك يا حجاج ما أجهلك! تريد أن أدلك وأنت عدو الله على من هي ولي الله " قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين " قال: فما رأيك في أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: على ذلك الفاسق لعنة الله ولعنة اللاعنين. قال: ولم لا أم لك؟ قال: إنه أخطأ خطيئة طبقت ما بين السماء والأرض. قال: وما هي؟ قال: استعماله إياك على رقاب المسلمين. فقال الحجاج: ما رأيكم فيه؟ قالوا: نرى أن نقتله قتلة لم يقتل مثلها أحد قال: ويلك يا حجاج، جلساء أخيك كانوا أحسن مجالسة من جلسائك. قال: وأي إخوتي تريد؟ قال: فرعون، حين شاور في موسى فقالوا: " أرجه وأخاه "، وأشار عليك هؤلاء بقتلي. قال: فهل حفظت القرآن؟ قال: وهل خشيت فراره فأحفظه! قال: هل جمعت القرآن؟ قال: ما كان متفرقاً فأجمعه. قال: قرأته ظاهراً؟ قال: معاذ الله، بل قرأته وأنا إليه، قال: فكيف تراك تلقى الله إن قتلتك؟ قال: ألقاه بعملي، وتلقاه بدمي. قال: إذاً أعجلك إلى النار. قال: لو علمت أن ذلك إليك، أحسنت عبادتك، وأيقنت عذابك، ولم أبغ خلافك، ومناقضتك. قال: إني قاتلك. قال: إذاً أخاصمك لآن الحكم يومئذ إلى غيرك. قال: نقمعك عن الكلام السيئ، يا حرسي اضرب عنقه، وأومأ إلى السيّاف ألا يقتله. فجعل يأتيه من بين يديه ومن خلفه ويروعه بالسيف، فلما طال ذلك عليه رشح جبينه. قال: جزعت من الموت يا عدو الله! قال: لا، يا فاسق، ولكن أبطأت علي بما لي فيه راجية. قال: يا حرسي، أعظم جرحه. فلما أحس بالسيف قال: لا إله إلا الله، والله لقد أتمها ورأسه على الأرض.
قال جعفر بن أبي المغيرة: كان حطيط صواماً قواماً، يختم في كل يوم وليلة ختمة، ويخرج من البصرة ماشياً حافياً إلى مكة في كل سنة، فوجّه الحجاج في طلبه فأخذ، فأتي به الحجاج فقال له: إيهاً، قال: قل، فإني قد عاهدت الله إن سئلت لأصدقن، ولئن ابتليت لأصبرن، ولئن عوفيت لأشكرن، ولأحمدن الله على ذلك. قال: ما تقول فيّ؟ قال: أنت عدو الله، تقتل على الظنّة. قال: فما قولك في أمير المؤمنين؟ قال: أنت شررة من شرره، وهو(6/225)
أعظم جرماً منك. قال خذوا ففظعوا عليه العذاب، ففعلوا، فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه، فأتوه فأخبروه، فأمر بالقصب فشقق ثم شد عليه، وصب عليه الخلّ والملح، وجعل يستل قصبة قصبة، فلم يقل حساً ولا بساً، فأتوه فأخبروه قال: أخرجوه إلى السوق فاضربوا عنقه. قال جعفر: فأنا رأيته حين أخرج، فأتاه صاحب له فقال: لك حاجة؟ قال: شربة من ماء، فأتاه بماء فشرب ثم ضربت عنقه. وكان ابن ثمان عشرة سنة.
قال سالم الأفطس: أتي الحجاج بسعيد بن جبير، وقد وضع رجله في الركاب فقال: لا أستوي على دابتي حتى تبوّأ مقعدك من النار. فأمر به فضربت عنقه. قال: فما برح حتى خولط. قال: قيودنا قيودنا. فأمر برجليه فقطعتا، ثم انتزعت القيود منه.
قال علي بن نديمة: ختم الدنيا بقتل سعيد بن جبير، وافتتح الآخرة بقتل ماهان.
قال قتادة: قيل لسعيد بن جبير: خرجت على الحجاج. قال: إني والله ما خرجت عليه حتى كفر.
حدث مبشر بن بشر أن رجلاً هرب من الحجاج، فمر بساباط فيه كلب بين جبّين يقطر عليه ماؤهما. فقال: يا ليتني كنت مثل هذا الكلب، فما لبث أن مر بالكلب في عنقه حبل، فسأل عنه فقالوا: جاء كتاب الحجاج يأمر بقتل الكلاب.
قال هشام بن حسان: أحصوا ما قتل الحجاج صبراً، فبلغ مئة ألف وعشرين ألفاً.
قال الهيثم بن عدي: مات الحجاج بن يوسف وفي سجنه ثمانون ألف محبوس، منهم ثلاثون ألف امرأة. ووجد في قصة رجل بال في الرحبة وخري في المسجد. فقال أعرابي:
إذا نحن جاوزنا مدينة واسط ... خرينا وصلّينا بغير حساب(6/226)
قال صالح بن سليمان: قال زياد بن الربيع الحارثي لأهل السجن: يموت الحجاج في مرضه هذا، في ليلة كذا وكذا. فلما كان تلك الليلة لم ينم أهل السجن فرحاً، جلسوا ينتظرون، حتى سمعوا الداعية. وذلك ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان.
قال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجئنا بالحجاج لغلبناهم، وما كان يصلح لدنيا ولا آخرة. لقد ولي العراق وهو أوفر ما يكون من العمارة، فأخسّ به حتى صيره إلى أربعين ألف ألف، ولقد أدي إلي في عامي هذا ثمانون ألف ألف، وإن بقيت إلى قابل رجوت أن يؤدي إلي ما أدي إلى عمر بن الخطاب، مئة ألف ألف، وعشرة آلاف ألف.
قال مخذم: جبى عمر بن الخطاب العراق مئة ألف ألف، وتسعة وكذا وكذا ألف ألف، وجباها عمر بن عبد العزيز مئة ألف وأربعة عشر ألف ألف، وجباها الحجاج ثمانية عشر ألفألف.
قال يحيى بن يحيى الغساني: قال لي عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بأبي محمد لفتناهم، فقال له رجل من آل أبي معيط: لا تقل ذلك، فوالله إن وطّأ لكم هذا الأمر الذي أصبحتم فيه غرّة فقال عمر: أتحب أن يدخلك الله مدخلك الحجاج؟ قال: إي والله، إني لأحب أن يدخلني الله مدخله ولا يدخلني مدخلك. فقال عمر: أمّنوا، اللهم أدخله مدخل الحجاج.
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: بلغني أنك تستنّ بسنن الحجاج، فلا تستن بسنته، فإنه كان يصلي الصلاة لغير وقتها، ويأخذ الزكاة من غير حقها، وكان لما سوى ذلك أضيع.(6/227)
قال مالك بن دينار: كنا إذا صلينا خلف الحجاج فإنا نلتفت ما بقي علينا من الشمس؟ فيقول: إلام تلتفتون أعمى الله أبصاركم! أنا لا أسجد لشمس ولا لقمر ولا لحجر ولا لوثن.
قال الريان بن مسلم: بعث عمر بن عبد العزيز بآل أبي عقيل أهل الحجاج إلى صاحب اليمن وكتب إليه: أما بعد، فإني بعثت بآل أبي عقيل، وهم شر بيت في العرب، ففرقهم في عملك على قدر هوانهم على الله تعالى وعلينا، وعليك السلام. وإنما نفاهم، رحمه الله.
قال الأعمش: اختلفوا في الحجاج فقالوا: بمن ترضون؟ فقال بعضهم: بمجاهد. فأتوه فسألوه، فقال: تسألوني عن الشيخ الكافر؟!
قال الأجلح: اختلفت أنا وعمر بن قيس الماصر في الحجاج فقلت أنا: الحجاج كافر، وقال عمر: الحجاج مؤمن ضال. قال: فأتينا الشعبي فقلت: يا أبا عمرو، إني قلت: إن الحجاج كافر، وقال عمر: الحجاج مؤمن ضال. قال: فقال الشعبي: يا عمرو، شمرت ثيابك، وحللت إزارك، وقلت: إن الحجاج مؤمن ضال، فقال: فكيف يجتمع في رجل إيمان وضلال؟! الحجاج مؤمن بالجبت والطاغوت، كافر بالله العظيم.
قال الأوزاعي: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: كان الحجاج ينقض عرى الإسلام.
قال عاصم بن أبي النجود: ما بقيت لله تعالى حرمة، إلا وقد انتهكها الحجاج.
قال العيزار بن جرول: خرجت مع راذان إلى الجبال يوم العيد نصلي، وستور الحجاج ترفعها الرياح فقال: هذا والله المفلس. فقلت له: تقول مثل هذا وله مثل هذا؟! فقال: هذا المفلس من دينه.(6/228)
وقال طاوس: عجبت لإخواننا من أهل العراق، يسمون الحجاج مؤمناً.
قال منصور: سألنا إبراهيم النخعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله: " ألا لعنة الله على الظالمين ".
قال سلام بن أبي مطيع: لأنا أرجى للحجاج بن يوسف مني لعمرو بن عبيد، إن الحجاج بن يوسف إنما قتل الناس على الدنيا، وإن عمرو بن عبيد أحدث بدعة، فقتل الناس بعضهم بعضاً.
قال الزبرقان: كنت عند أبي وائل فجعلت أسب الحجاج وأذكر مساوئه، فقال: لا تسبه وما يدريك لعله قال: اللهم اغفر لي فغفر له.
قال عوف: ذكر الحجاج عند محمد بن سيرين قال: مسكين أبو محمد، إن يعذبه الله عز وجل فبذنبه، وإن يغفر له فهنيئاً، وإن يلق الله عز وجل بقلب سليم فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال: فقلت لمحمد بن سيرين: وما القلب السليم؟ قال: أن تعلم أن الله عز وجل حق، وأن الساعة حق قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
قال رباح بن عبيدة: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فذكر الحجاج فشتمته ووقعت فيه. قال: فنهاني عمر وقال: مهلاً يا رباح، فإنه بلغني أن الرجل يظلم بالمظلمة، ولا يزال المظلوم يشتم الظالم وينتقصه، حتى يستوفي حقه، ويبقى للظالم الفضل عليه.
قال السري بن يحيى: مر الحجاج في يوم جمعة، فسمع استغاثة فقال: ما هذا؟ فقيل له: أهل السجون،(6/229)
يقولون: قتلنا الحر. قال: قولوا لهم: " اخسأوا فيها ولا تكلمون " قال: فما عاش بعد ذلك، إلا أقل من جمعة حتى مات.
قال الأصمعي: ولي الحجاج العراق عشرين سنة، صار إليها في سنة خمس وسبعين، وكانت ولايته أيام عبد الملك إحدى عشرة سنة، وفي أيام الوليد تسع سنين، وبنى واسط في سنتين، وفرغ منها في السنة التي مات فيها عبد الملك سنة ست وثمانين، ومات الوليد بعد الحجاج بتسعة أشهر.
قال الصلت بن دينار: مرض الحجاج فأرجف به أهل الكوفة. فلما تماثل من علته صعد المنبر وهو يتثنى على أعواده، فقال: يا أهل الشقاق والنفاق والمراق، نفخ الشيطان في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، مات الحجاج، فمه، والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت، وما رضي الله الخلود لأحد من خلقه إلا لأهونهم عليه إبليس، وقد قال العبد الصالح سليمان بن داود عليه السلام: " رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " فكان ذلك ثم اضمحل، فكأن لم يكن يأتيها الرجل، وذلكم ذلك الرجل كأني بكل حي ميت، وبكل رطب يابس، وبكل امرئ في ثياب طهوره إلى بيت حفرته، فخد له في الأرض خمسة أذرع طولاً في ذراعين عرضاً، فأكلت الأرض من لحمه، ومصت من صديده ودمه، وانقلع الحبيبان يقاسم أحدهما صاحبه من ماله، أما إن الذين يعلمون يعلمون ما أقول، والسلام.
حدث الأحوص بن حكيم العبسي عن أبيه عن جده قال: حضرت نزيع الحجاج بن يوسف، فلما حضره الموت جعل يقول: ما لي ولك يا سعيد بن جبير.(6/230)
قال عمر: ما حسدت الحجاج عدو الله عن شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
قال الأصمعي: لما حضرت الحجاج الوفاة أنشأ يقول:
يا رب قد حلف الأعداء واجتهدوا ... بأنني رجل من ساكني النار
أيحلفون على عمياء وحيهم ... ما علمهم بكثير العفو غفار
فأخبر بذلك الحسن فقال: بالله، إن نجا فبهما.
قال أحمد بن عبد الله التيمي: لما مات الحجاج بن يوسف لم يعلم بموته حتى أشرفت جارية فبكت فقالت: ألا إن مطعم الطعام، ومفلق الهام، وسيد أهل الشام قد مات. ثم أنشأت تقول:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا ... واليوم يأمننا من كان يخشانا
قال ابن طاوس: دخل رجل على أبي فقال: مات الحجاج بن يوسف. فقال له أبي: اربعوا على أنفسكم، حبس رجل عليه لسانه، وعلم ما يقول. فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن، برح الخفاء، هذه نساء وافد بن سلمة قد نشرن أشعارهن، وحرقن ثيابهن، ينحن عليه. قال: أفعلوا؟ قال: نعم. قال: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " قال علي بن يزيد: كنت عند الحسن، فجاءه رجل فقال: مات الحجاج. فسجد الحسن.(6/231)
قال ابن شوذب: لما مات الحجاج قال الحسن البصري: اللهم قد أمته فأمت عنا سننه، ثم قال: إن الله عز وجل قال لموسى عليه السلام: ذكر بني إسرائيل أيام الله، وقد كانت عليكم أيام كأيام القوم.
وتوفي الحجاج لأربع وعشرين من رمضان سنة خمس وتسعين.
قال ابن شوذب: ولي الحجاج العراق وهو ابن ثلاث وثلاثين، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، وقيل: ابن أربع وخمسين سنة.
قال علي بن المديني: مات الحجاج سنة خمس وتسعين، وفيها مات إبراهيم، وقبلها قتل سعيد بن جبير.
قال سماك بن حرب: قيل لي في النوم: إياك والغيبة، إياك والنميمة، إياك وأكل أموال اليتامى، إياك والصلاة خلف الحجاج، فإني أقسمت أن أقصمه، كما قصم عبادي.
قال أبو معشر: مات رجل عندنا بالمدينة، فلما وضع على مغتسله ليغسل استوى قاعداً، ثم أهوى بيده على عينيه فقال: بصر عيني، بصر عيني، بصر عيني إلى عبد الملك بن مروان، وإلى الحجاج بن يوسف يسحبان أمعاءهما في النار، ثم عاد مضطجعاً كما كان.
روى الأصمعي عن أبيه قال: رأيت الحجاج في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: قتلني بكل قتلة قتلت بها(6/232)
إنساناً، ثم رأيته بعد الحول فقلت: يا أبا محمد، ما صنع الله بك؟ فقال: يا ماص بظر أمه، أما سألت عن هذا عام أول! قال أبو يوسف القاص: كنت عند الرشيد، فدخل عليه رجل فقال: رأيت الحجاج البارحة في النوم. قال: في أي زي رأيته؟ قال: قلت: في زي قبيح، فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: ما أنت وذاك يا ماص بظر أمه! قال: هرون صدقت، والله أنت رأيت الحجاج حقاً، ما كان أبو محمد ليدع صرامته حياً وميتاً.
قال أشعب المدائني: رأيت الحجاج في منامي بحال سيئة، فقلت: يا أبا محمد، ما صنع بك ربك؟ قال: ما قتلت أحداً قتلة إلا قتلني بها. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أمر بي إلى النار. قلت: ثم مه؟ قال: ثم أرجو ما يرجو أهل لا إله إلا الله. قال: فكان ابن سيرين يقول: إني لأرجو له. قال: فبلغ ذلك الحسن. قال: فقال الحسن: أم والله ليجعلن الله عز وجل رجاءه فيه. يعني: ابن سيرين.
قال أبو سليمان الداراني: كان الحسن البصري لا يجلس مجلساً إلا ذكر الحجاج، فدعا عليه، قال: فرآه في منامه فقال: أنت الحجاج؟ قال: أنا الحجاج. قال: ما فعل الله بك؟ قال: قتلت بكل قتلة قتلة، ثم عزلت مع الموحدين. قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه.(6/233)
الحجاج بن يوسف
بن أبي منيع عبيد الله بن أبي زياد أبو محمد الرصافي حدث عن جده عبيد الله بن أبي زياد عن الزهري عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم، كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي الشجر، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به، فوجدتهما نائمين، فتحرجت أن أوقظهما، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فقمت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر فاستيقظا، فشربا غبوقهما. اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه - قال حجاج: من هم هذه الصخرة - فانفرجت انفراجاً لا يستطيعون الخروج منه ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وقال الآخر: اللهم، كانت لي ابنة عم أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة - قال حجاج: جهدت فيه من السنين - فجاءتني فأعطيتها عشرين ومئة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها. اللهم، فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه - قال حجاج: من هم هذه الصخرة - فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها ".
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثم قال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم إلا(6/234)
رجلاً واحداً منهم، ترك الذي له وذهب، فثّمرت حتى كثرت الأموال فارتعجت، فجاءني بعد حين فقال لي: يا عبد الله، أد لي أجري. فقلت: كل ما ترى من أجرتك من الإبل والبقر والغنم والرقيق. فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي. فقلت له: إني لا أستهزئ بك. فأخذ ذلك كله، فاستاقه فلم يترك منه شيئاً. اللهم، فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه - قال حجاج: من هم هذه الصخرة - فانفرجت، فخرجوا من الغار يمشون.
قال هلال بن العلاء: كان الحجاج بن أبي منيع من أعلم الناس بالأرض وما أنبتت، وأعلم الناس بالفرس من ناصيته إلى حافره، وأعلم الناس بالبعير من سنامه إلى خفه، وكان مع بني هاشم في الكتاب. هو شيخ ثقة.
حجر بن عدي الأدبر بن جبلة
ابن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن ثور، وهو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد ابن كهلان بن سبأ وسمي أبوه الأدبر لأنه طعن مولياً فسمي الأدبر أبو عبد الرحمن الكندي من أهل الكوفة، وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغزا الشام في الجيش الذين افتتحوا عذراء، وشهد صفين مع علي أميراً، وقتل بعذراء من قرى دمشق، ومسجد قبره بها معروف.
حدث حجر بن عدي قال: سمعت شراحيل بن مرة قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أبشر يا علي حياتك وموتك معي ".(6/235)
وقال حجر بن عدي: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: الوضوء نصف الإيمان.
وفي رواية: الطهور نصف الإيمان.
شهد حجر القادسية، وهو الذي افتتح مرج عذراء وشهد الجمل وصفين مع علي عليه السلام، وكان في ألفين وخمس مئة من العطاء، وقتله معاوية بن أبي سفيان وأصحابه بمرج عذراء، وابناه عبيد الله وعبد الرحمن ابنا حجر قتلهما مصعب بن الزبير صبراً، وكانا يتشيعان. وكان حجر ثقة معروفاً، وكان مع علي بصفين حجر الخير وحجر الشر، فأما حجر الخير فهذا، وأما حجر الشر فهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة.
قال أبو معشر: كان حجر بن عدي رجلاً من كندة، وكان عابداً. قال: ولم يحدث قط إلا توضأ، ولم يهرق ماء إلا توضأ، وما توضأ إلا صلى.
قال عبد الكريم بن رشيد: كان حجر بن عدي يلمس فراش أمه بيده، فيتهم غلظ يده، فينقلب على ظهره، فإذا أمن أن يكون عليه شيء أضجعها.
قال يونس بن عبيد: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: إني قد احتجت إلى مال فأمدني، قال: فجهز المغيرة إليه عيراً تحمل المال؛ فلما فصلت العير بلغ حجراً وأصحابه، فجاء حتى أخذ بالقطار فحبس العير. قال: لا والله، حتى يوفى كل ذي حق حقه، فبلغ المغيرة ذلك أنه قد رد العير معه. فقال شباب ثقيف: ائذن لنا أصلحك الله فيه فنأتيك برأسه الساعة. قال: لا والله، ما كنت لأركب هذا من حجر أبداً، فبلغ معاوية فاستعمل زياداً وعزل المغيرة.
قال أبو معشر: فتعترف به معاوية وأمره على العراقين - يعني زياداً - فلما قدم الكوفة، دعا حجر بن الأدبر فقال: يا أبا عبد الرحمن، كيف تعلم حبي لعلي؟ قال: شديداً. قال:(6/236)
فإن ذلك قد انسلخ أجمع فصار بغضاً، فلا تكلمني بشيء أكرهه، فإني أحذرك. فكان إذا جاء إبان العطاء قال حجر لزياد: أخرج العطاء فقد جاء إبانه، فكان يخرجه، وكان لا ينكر حجر بن زياد شيئاً إلا رآه عليه، فخرج زياد إلى البصرة واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، فصنع عمرو شيئاً كرهه حجر، فناداه وهو على المنبر، فرد عليه ما صنعه، وحصبه هو وأصحابه. قال: فأبرد عمرو مكانه بريداً إلى زياد، وكتب إليه بما صنع حجر؛ فلما قدم البريد على زياد، ندم عمرو بن حريث وخشي أن يكون من سطواته ما يكره، وخرج زياد من البصرة إلى الكوفة، فتلقاه عمرو بن حريث في بعض الطريق فقال: إنه لم يك شيء يكرهه، وجعل يسكنه، فقال زياد: كلا والذي نفسي بيده، حتى آتي الكوفة فأنظر ماذا أصنع، فلما قدم الكوفة سأل عمراً عن البينة، وسأل أهل الكوفة، فشهد شريح في رجال معه على أنه حصب عمراً وردّ عليه، فاجتمع حجر وثلاثة آلاف من أهل الكوفة فلبسوا السلاح، وجلسوا في المسجد، فخطب زياد الناس وقال: يا أهل الكوفة، ليقم كل رجل منكم إلى سفيهه فليأخذه، فجعل الرجل يأتي ابن أخيه وابن عمه وقريبه فيقول: قم يا فلان، قم يا فلان، حتى بقي حجر في ثلاثين رجلاً. فدعاه زياد فقال: أبا عبد الرحمن، قد نهيتك أن تكلمني، وإن لك عهد الله ألاّ تراب بشيء حتى تأتي أمير المؤمنين فتكلمه، فرضي بذلك حجر وخرج إلى معاوية.
وفي حديث ابن سيرين قال: لما قدم زياد الكوفة لم يكن له هم إلا حجراً، وأصحابه، فتكلم يوماً زياد وهو على المنبر فقال: إن من حق أمير المؤمنين، إن من حق أمير المؤمنين؛ مراراً. فقال: كذبت ليس كذلك، فسكت زياد ونظر إليه، ثم عاد في كلامه فقال: إن من حق أمير المؤمنين، إن من حق أمير المؤمنين. مراراً. قال حجر: كذبت ليس كذلك، فسكت زياد ونظر إليه، ثم عاد في كلامه فقال: إن من حق أمير المؤمنين، إن من حق أمير المؤمنين. مراراً. نحواً من كلامه. فأخذ حجر كفاً من حصى فحصبه وقال: كذبت، عليك لعنة الله. قال: فانحدر زياد من المنبر فصلى، ثم دخل الدار، وانصرف حجر فبعث إليه زياد الخيل والرجال، أجب، قال حجر: إني والله ما أنا بالذي يخاف، ولا آتيه أخاف على نفسي.(6/237)
قال ابن سيرين: لو مال لما أهل الكوفة معه، ولكن كان رجلاً ورعاً فأبى زياد أن تقلع عنه الخيل والرجال، حتى اصطلحا أن يقيده بسلسلة، ويرسله في ثلاثين من أصحابه إلى معاوية؛ فلما خرج أتبعه زياد برداً بالكتب بالركض إلى معاوية، إن كان لك في سلطانك حاجة أو في الكوفة حاجة فاكفني حجراً، وجعل يرفع الكتب إلى معاوية حتى ألهفه عليه، فقدم فدخل عليه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال: وأمير المؤمنين أنا! قال: نعم ثلاثاً. فأمر بحجر وبخمسة عشر رجلاً من أصحابه قد كتب زياد فيهم وسمّاهم، وأخرج حجراً وأصحابه الخمسة عشر، وأمر بضرب أعناقهم. فال حجر للذي أمر بقتله: دعني فلأصل ركعتين. قال: صله. قال: فصلى ركعتين خفيفتين، فلما سلم أقبل على الناس فقال: لولا أن تقولوا جزع من القتل لأحببت أن تكون ركعتان أنفس ما كانتا، وايم الله لئن لم تكن صلاتي فيما مضى تنفعني ما هاتان بنافعيّ شيئاً. ثم أخذ برده فتحزم به، ثم قال لمن يليه من قومه: لا تحلوا قيودي، ولا تغسلوا عني الدم، فإني أجتمع أنا ومعاوية غداً على المحجّة.
وفي حديث فيل مولى زياد قال: لما قدم زياد الكوفة أميراً أكرم حجر بن الأدبر وأدناه، فلما أراد الانحدار إلى البصرة دعاه فقال: يا حجر، إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تخلف بعدي، فعسى أن أبلغ عنك شيئاً فيقع في نفسي، فإذا كنت معي، لم يقع في نفسي من ذلك شيء، فقد علمت رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأيي فيه قبلك على مثل رأيك. فلما رأيت الله صرف ذلك الأمر عنه إلى معاوية لم أتهم الله ورضيت به، وقد رأيت إلى ما صار أمر عليّ وأصحابه، وإني أحذر كأن تركب أعجاز أمور هلك من ركب صدورها. فقال له حجر: إني مريض ولا أستطيع الشخوص معك. قال: صدقت والله إنك لمريض، مريض الدين، مريض القلب، مريض العقل، وايم الله إن بلغني عنك شيء أكرهه لأحرضن على قتلك، فانظر لنفسك أو دع. فخرج زياد فلحق بالبصرة.
واجتمع إلى حجر قرّاء أهل الكوفة، فجعل عامل زياد لا ينفذ الأمر ولا يريد شيئاً إلى منعوه إياه، فكتب إلى زياد: إني والله ما أنا في شيء، وقد منعني حجر(6/238)
وأصحابه كل شيء، فأنت أعلم. فركب زياد بعماله حتى اقتحم الكوفة، فلما قدمها تغيب حجر، فجعل يطلبه فلا يقدر عليه، فبينا هو جالس يوماً وأصحاب الكراسي حوله، فيهم الأشعث بن قيس، إذ أتى الأشعث ابنه محمد فناجاه، وأخبره أن حجراً قد لجأ إلى منزله. فقال له زياد: ما قال لك ابنك؟ قال: لا شيء. قال: والله لتخبرني ما قال لك حتى اعلم أنك قد صدقت، أو لا تبرح مجلسك حتى أقتلك. فلما عرف الأشعث أخبره. فقال لرجل من أهل الكوفة من أشرافهم: قم فأتني به. قال: اعفني من ذلك، ابعث غيري. قال: لعنة الله عليك خبيثاً مخبثاً، والله لتأتيني به أو لأقتلنك. فخرج الرجل حتى دخل عليه، فأخذه وأخبر حجراً الخبر، فقال له: ابعث إلى جرير بن عبد فليكلمه فيك، فإني أخاف أن يعجل عليك. فدخل جرير على زياد فكلمه فقال: هو أمن من أن أقتله، ولكن أخرجه، فأبعث به إلى معاوية، فجاءه على ذلك، فأخرجه من الكوفة ورهطاً معه، وكتب إلى معاوية أن اغن عني حجراً، إن كان لك فيما قبلي حاجة، فبعث معاوية فتلقاه بعذراء، فقتل هو وأصحابه. وملك زياد العراق خمس سنين، ثم مات سنة ثلاث وخمسين.
وفي حديث آخر، أن عائشة رضي الله عنها بلغها الخبر، فبعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي إلى معاوية، تسأله أن يخلي سبيل حجر وأصحابه. فقال عبد الرحمن بن عثمان الثقفي: يا أمير المؤمنين، جذاذها جذاذها لاتعنّ بعد العام أبراً. فقال معاوية: لا أحب أن أراهم، ولكن اعرضوا علي كتاب زياد، فقرئ عليه الكتاب، وجاء الشهود فشهدوا. فقال معاوية: أخرجوهم إلى عذراء فاقتلوهم هنالك. قال: فحملوهم إلى عذراء. فقال حجر: ما هذه القرية؟ قالوا: عذراء. قال: الحمد لله، أما والله إني لأول مسلم نبح كلابها في سبيل الله، ثم آتي إليها اليوم مصفوداً. وقد عبد الرحمن بن الحارث بن هشام على معاوية برسالة عن عائشة وقد قتلوا قال: يا أمير المؤمنين، أين غرب عنك حلم أبي سفيان؟ فقال: غيبة مثلك عني من قومي.(6/239)
وقد كانت هند ابنة زيد من مخرّبة الأنصارية قالت حين سير حجراً إلى معاوية:
ترفع أيها القمر المنير ... ترفّع هل ترى حجراً يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ... ليقتله كما زعم الخبير
تجبّرت الجبابر بعد حجر ... وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له محولاً ... كأن لم يحيها يوم مطير
ألا يا حجر حجر بن عدي ... تلقتك السلامة والسرور
أخاف عليك ما أردى عدياً ... وشيخاً في دمشق له زئير
فإن تهلك فكل عبيد قوم ... إلى هلك من الدنيا يصير
وقد رويت هذه الأبيات لهند أخت حجر بن عدي، وزيد فيها بيت قبل البيت الأخير وهو:
يرى قتل الخيار عليه حقاً ... له من شرّ أمته وزير
وفي شعر أخته:
يسير إلى معاوية بن حرب ... فيقتله كما زعم الأمير
وكان حجر بن عدي عند زياد وهو يومئذ على الكوفة، إذ جاءه قوم قد قتل منهم رجل، فجاء أولياء القتيل وأولياء المقتول فقالوا: هذا قتل صاحبنا. فقال أولياء القاتل: صدقوا، ولكن هذا نبطي وصاحبنا عربي، ولا يقتل عربي بنبطي. فقال زياد: صدقتم، ولكن أعطوهم الدية. فقالوا: لا حاجة لنا في الدية، إنا كنا نرى أن الناس فيه سواء. فقام حجر بن عدي فقال: نعطيك كتاب الله عز وجل، أو سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا حجر، لتقتلنه أو لأضربن بسيفي حتى أموت والإسلام عزيز. قال: فوالله ما برح حتى وضع السكين على حلقه.
وكان يقال: أول ذلّ دخل على الكوفة قتل حجر بن عدي.(6/240)
قال أبو معشر: وركب إليهم معاوية إلى مرج العذراء، حتى أتاهم فسلّم عليهم وسألهم: من أنت؟ من أنت؟ حتى انتهى إلى حجر فقال: من أنت؟ قال: حجر بن عدي. قال: كم مر بك من السنين؟ قال: كذا وكذا. قال: كيف أنت والشتاء اليوم؟ فأخبره. قال: كيف أنت والطعام اليوم؟ فاخبره.
ثم انصرف وأرسل إليهم رجلاً أعور، معه عشرون كفناً، فلما رآه حجر تفاءل وقال: يقتل نصفكم ويترك نصفكم، فجعل الرسول يعرض عليهم التوبة والبراءة من علي، فأبى عدة وتبرأ عدة فقتل الذين أبوا، وترك الذين تبرأوا، وحفر لهم قبوراً، فجعل يقتلهم ويدفنهم. فلما انتهى إلى الحجر جعل حجر يرعد فقال له أراد قتله: مالك ترعد! قال: قبر محفور وكفن منشور وسيف مشهور. قال: تبرأ مني علي؟ قال: لا أتبرأ منه. فضرب عنقه ودفنه.
ولما حج معاوية دخل على عائشة فقالت له: يا معاوية، قتلت حجر بن الأدبر. قال: أقتل حجراً، أحب إلي من أن أقتل معه مئة ألف.
وفي حديث: أنه استأذن عليها فأبت أن تأذن له، فلم يزل حتى أذنت له، فلما دخل عليها قالت: أنت الذي قتلت حجراً! قال: لم يكن عندي أحد ينهاني.
قال أبو الأسود: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء، حجر وأصحابه؟ فقال: يا أم المؤمنين، إني رأيت قتلهم صلاحاً للأمة، وأن بقاءهم فساد للأمة. فقالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيقتل بعذراء ناس يغضب الله لهم وأهل السماء.
وعن علي بن أبي طالب قال: يا أهل الكوفة، سيقتل منكم سبعة نفر خياركم، مثلهم كمثل أصحاب الأخدود، منهم حجر بن الأدبر وأصحابه. قتلهم معاوية بالعذراء من دمشق كلهم من أهل الكوفة.
وروي أن الحسن بن علي أتاه ناس من أهل الكوفة من السبعة، فشكوا إليه ما صنع(6/241)
زياد بحجر وأصحابه، وجعلوا يبكون عنده، وقالوا: نسأل الله أن يجعل قتله بأيدينا. فقال: مه، إن في القتل كفارات، ولكن نسأل الله أن يميته على فراشه.
قال مروان بن الحكم: دخلت مع معاوية على أم المؤمنين عائشة فقالت: يا معاوية: قالت حجراً وأصحابه، وفعلت الذي فعلت، أما خشيت أن أخبأ لك رجلاً فيقتلك! فقال: لا، إني في بيت أمان، سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الإيمان قيد الفتك. لا يفتك مؤمن يا أم المؤمنين، كيف أنا فيما سوى ذلك من حاجاتك وأمرك؟ قالت: صالح. قال: فدعيني وحجراً حتى نلتقي عند ربنا عزّ وجلّ.
قال سفيان الثوري: قال معاوية: ما قتلت أحداً إلا وأنا اعلم فيم قتلته، وما أردت به، إلا حجر بن عدي، فإني لا أعرف فيم قتلته.
وكان قتل حجر بن عدي سنة إحدى وخمسين، وقيل: قتل سنة ثلاث وخمسين، وفيها مات زياد بن أبي سفيان.
قال أبو بكر بن عياش: دخل عبد الله بن يزيد بن أسد على معاوية وهو في مرضه الذي مات فيه، فرأى منه جزعاً فقال: ما يجزعك يا أمير المؤمنين إن مت؟ قال: الجنة. وإن عشت، فقد علم الله حاجة الناس إليك. قال: رحم الله أباك إن كان لناصحاً، نهاني عن قتل ابن الأدبر يعني حجراً، ثم عاده عبد الله بن يزيد فعاد معاوية مثل ذلك القول.
وقد تقدم في ترجمة أرقم بن عبد الله الكندي حديث طويل في ترجمة حجر وأصحابه.(6/242)
حجوة بن مدرك الغساني
أصله من الكوفة، سكن دمشق، وروى عن جماعة.
حدث عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الجار أحق بشفعة جاره ينتظر به وإن كان غائباً، إذا كان طريقهما واحداً.
وحدث حجوة بن مدرك أيضاً بسنده عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولو كان خبيثاً لم يعطه.
حديج
خصي كان لمعاوية بن أبي سفيان.
قال عوانة: حدثني حديج خصي لمعاوية، رأيته في زمن يزيد بن عبد الملك في ألفين من العطاء قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب، فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول: هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثم قال: لا، ادع لي ربيعة بن عمرو الجرشي وكان فقيهاً، فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذلك وذلك، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. قال: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإنها لا تصلح له. قال: نعم ما رأيت. ثم قال: ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري، فدعوته - وكان آدم شديد الأدمة - فقال: دونك هذه بيض بها ولدك. وهو عبد الله بن مسعدة بن حكمة بن بدر.
قال عوانة: وكان في سبي فزارة، فوهبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابنته فاطمة، فأعتقه، كان غلاماً ربته فاطمة وعلي عليهما السلام وأعتقته، وكان بعد ذلك مع معاوية، أشد الناس على علي.(6/243)
حدير أبو فوزة
وقيل أبو فروة الأسلمي ويقال السلمي مولاهم يقال: إن له صحبة. سكن حمص.
قال عثمان بن أبي العاتكة: حدث أخ لي يقال له زياد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا رأى الهلال قال: " اللهم، بارك لنا في شهرنا هذا الداخل ". فذكر الحديث وقال: توالى على هذا الدعاء ستة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعوه منه، والسابع صاحب الفرس الجرموز والرمح الثقيل حدير أبو فوزة السلمي.
قال أبو نصر بن ماكولا: أما أبو فروة بتقديم الراء فجماعة، وأما بتقديم الواو فهو أبو فوزة حدير السلمي.
قال بكر بن سوادة: دخل حدير الأسلمي على أبي الدرداء يعوده وعليه جبة من صوف، وقد عرق فيها وهو نائم على حصير، فقال: يا أبا الدرداء، ما يمنعك أن تلبس من الثياب التي يكسوك معاوية، وتتخذ فراشاً! قال: إن لنا داراً لها نعمل، وإليها نظعن، والمخف فيها خير من المثقل.
قال أبو فوزة حدير السلمي: خرج بعث الصائفة فاكتتب فيه كعب، فلما نفر البعث خرج كعب وهو مريض، وقال: لأن أموت بحرستا أحب إلي من أن أموت بدمشق، ولأن أموت بدومة أحب إلي من أن أموت بحرستا، هكذا قدماً في سبيل الله. قال: فمضى. فلما كان بفج معلولا قلت: أخبرني. قال: شغلتني نفسي. قلت: أخبرني. قال: سيقتل رجل يضيء دمه لأهل السماء. ومضينا حتى إذا كنا بحمص توفي بها. فدفناه هنالك بين ربيويات بأرض حمص. ومضى البعث، فلم يقفل حتى قتل عثمان.(6/244)
قال الجريري: حدثت أن أبا الدرداء ترك الغزو عاماً، فأعطى رجلاً صرة فيها دراهم فقال: انطلق فإذا رأيت رجلاً يسير من القوم، في هيئة بذاذة، فادفعها إليه. قال: ففعل. فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم لم تنس حديراً لا ينساك. قال: فرجع إلى أبي الدرداء فأخبره، فقال: ولي النعمة ربها.
حدير بن كريب
أبو الزاهرية الحميري ويقال الحضرمي الحمصي قال أبو الزاهرية: كنت مع عبد الله بن بسر صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء رجل يتخطى رقاب الناس، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فقال: " اجلس فقد آنيت وآذيت ".
روى أبو الزاهرية، عن جبيربن نفير، عن ثوبان قال: ذبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أضحيته ثم قال: " يا ثوبان أصلح لهم هذه الأضحية ". فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة.
قال حدير بن كريب وابن عبد الله بن بسر: إنهما رأيا عبد الله بن بسر وأبا أمامة وغيرهما من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبغون لحاهم.
حدث أبو الزاهرية قال:
أغفيت في صخرة بيت المقدس، فجاءت السدنة فأغلقوا علي الباب، فما انتبهت إلا بتسبيح الملائكة، قال: فوثبت مذعوراً، فإذا البيت صفوف، فدخلت معهم في الصف، فإذا رجل قائم على الصخرة يقول: سبحان الدائم القائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الله وبحمده، سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، سبحان ربي العلي الأعلى، سبحانه(6/245)
وتعالى، قال: فيجيبه أسفل منه. قال: ثم ترتج الصفوف بهذا التسبيح. فنظر إلي الذي يليني فقال: آدمي أنت! فقصصت عليه قصتي. فلما استأنست إليه قلت: بعزة من قواكم لما أرى من عبادته، من القائم على الصخرة؟ قال: ذاك جبريل. قلت: بعزة من قواكم لما أرى من عبادته، من الذي يرد عليه؟ قال: ذلك ميكائيل عليه السلام. قلت: بعزة من قواكم لما أرى من عبادته فمن أنتم؟ قال: نحن ملائكة الله عز وجل. قلت: بعزة من قواكم لما أرى من عبادته فما لمن يقولها؟ قال: من قالها سنة في كل يوم مرة، أو في يوم بعدد أيام السنة، لم يخرج من الدنيا حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له.
قال الحافظ: رواه غيره عن شهاب بن خراش، فأسنده إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن أبان، عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من قال كل يوم مرة سبحان القائم الدائم، سبحان الحي القيوم، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الله العظيم وبحمده. سبوح قدوس رب الملائكة والروح، سبحان ربي العلي الأعلى، سبحانه وتعالى، لم يمت حتى يرى مكانه من الجنة، أو يرى له ".
وكان أبو الزاهرية أمياً لا يكتب؛ وتوفي في خلافة عمر بن عبد العزيز.
قال أبو الزاهرية: ما رأيت قوماً أعجب من أصحاب الحديث، يأتون من غير أن يدعوا، ويزورون من غير شوق، ويبرمون بالمساءلة، ويملون بطول الجلوس.
قال أبو عبيد: توفي أبو الزاهرية سنة مئة بالشام، وقيل: توفي سنة سبع وعشرين ومئة، وقيل: سنة تسع وعشرين في خلافة مروان بن محمد. وكان ثقة كثير الحديث؛ وكذا قال أبو بكر أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري.(6/246)
حدير بن جعفر بن محمد
أبو نصر الأنباري الرماني روى عن أبي الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدة القرشي، بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لله تبارك وتعالى تسعة وتسعين اسماً، مئة غير واحد، الله وتر يحب الوتر، من أحصاها دخل الجنة ".
حذيفة بن أسيد
ويقال ابن أمية بن أسيد أبو سريحة الغفاري صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ممن بايع تحت الشجرة، وهو أول مشهد شهده مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشهد فتح دمشق مع خالد بن الوليد، وأغار على عذراء، واستوطن الكوفة بعد ذلك.
قال حذيفة بن أسيد الغفاري: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين أو بخمس وأربعين ليلة، فيقول: أي رب، ذكر أو أنثى؟ قال: فيقول الله ويكتب الملك. قال: فيقول: أي رب، أشقي أو سعيد؟ قال: فيقول له ويكتب. قال: ثم يكتب عملاه ورزقه وأجله وأثره، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص.
وقيل: إن أول مشاهد حذيفة بن أسيد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديبية.
أسيد السين مكسور، والياء ساكنة.
وهو حذيفة بن أسيد بن خالد بن الأعوس ين الوقيعة بن حرام بن غفار. وقيل: حذيفة بن أسيد بن الأعور بن واقعة بن حرام بن غفار بن مليل، وقيل: حذيفة بن أمية بن أسيد بن الأعوز.(6/247)
حذيفة بن اليمان
وهو حذيفة بن حسيل، ويقال: حسل بن جابر بن أسيد بن عمرو بن مالك ويقال: اليمان بن جابر بن عمرو بن ربيعة بن جروة بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث، أبو عبد الله العبسي حليف بني عبد الأشهل، صاحب سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصاحب سره من المهاجرين. وحسل كان يقال له اليمان.
حدث حذيفة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل، يشوص فاه بالسواك.
حدث زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم قال: سمعت عمر بن الخطاب بالمدينة وهو يقول: تقاتلون الروم باليرموك وذكر اهتمامه بخبرهم وأمرهم والله إني لأقوم إلى الصلاة فما أدري، أفي أول السورة أنا أم في آخرها، ولأن لا تفتح قرية في الشام، أحب إلي من أن يهلك أحد من المسلمين بمضيعة.
قال أسلم: فبينا أنا ذات يوم مقابل الثنية بالمدينة إذ أشرف منها ركب من المسلمين فيهم حذيفة بن اليمان، فقام إليهم من يليهم من المسلمين، فاستخبروهم فأسمعهم يقولون: أبشروا معشر المسلمين بفتح الله عز وجلّ ونصره. قال أسلم: فانطلقت أسعى حتى أتيت عمر بن الخطاب فقلت: أبشر يا أمير المؤمنين بفتح الله وبنصره. فخر عمر ساجداً. قال الوليد: فذاكرت عبد الله بن المبارك سجدة الفتح، وحدثته بهذا الحديث، فقال عبد الله بن المبارك: بهذا حدثك عبد الرحمن بن زيد؟ فقلت: نعم. فقال: ما سمعت في سجدة الشكر والفتح بحديث أثبت من هذا.
وفي نسبه اختلاف، وقيل فيه: جروة بن اليمان، من ولده حذيفة، وإنما قيل اليمان لأنّ جروة أصاب دماً في قومه، فهرب إلى المدينة فحالف بني عبد الأشهل، فسمّاه قومه اليمان لأنه حالف اليمانية.(6/248)
وأم حذيفة الرّباب بنت كعب بن عدي بن كعب بن عبد الأشهل. لم يشهد بدراً وشهد أحداً. وقتل أبوه يومئذ، قتله المسلمون ولا يعرفونه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، وجاءه نعي عمار وه بالمدائن، وتوفي بها سنة ست وثلاثين. وحضر حذيفة ما بعد أحد من الوقائع، وكان صاحب سرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لقربه منه وثقته به، وعلو منزلته عنده. وولاه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب المدائن، فأقام بها إلى حين وفاته.
قال حذيفة بن اليمان: ما منعني أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل، فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمداً فقلنا: ما نريد إلا المدينة، فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرناه الخبر فقال: نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليم.
وعن حذيفة قال: خيّرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الهجرة والنصرة، فاخترت النصرة.
ومن حديث آخر: أن أبا حذيفة قتل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد، أخطأ به المسلمون، فجعل حذيفة يقول لهم: أبي، أبي، فلم يفهموا حتى قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فزادت حذيفة عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيراً، وأمر به فأوري، أو قال: فأودي.
قال حذيفة: سألت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كل شيء، حتى عن مسح الحصا فقال: واحدة أو دع.
قال حذيفة: لقد حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يكون حتى تقوم الساعة، غير أني لم أسأله ما يخرج أهل المدينة منها.(6/249)
قال حذيفة: أنا أعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسرّ إلي شيئاً لم يحدّث به غيري، وكان ذكر الفتن في مجلس أنا فيه، فذكر ثلاثاً لا يذرن شيئاً، فما بقي من أهل ذلك المجلس غيري.
قال حذيفة: قام فينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقاماً ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنهليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأذكره.
وفي رواية: فأذكر كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه.
وعن حذيفة قال: كنتم تسألون عن الرخاء، وكنت أسأله عن الشدة لأتقيها، ولقد رأيتني وما من يوم أحب إلي من يوم يشكو إلي فيه أهل الحاجة، إن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، يا موت، غظ غيظك وشدّ شدك، أبى قلبي إلا حبك.
قال حذيفة بن اليمان: سألتني أمي: منذ متى عهدك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فقلت لها: منذ كذا كذا. قال: فنالت مني وسبتني. قال: فقلت لها: دعيني حتى آتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأصلي معه المغرب، ثم لا أدعه حتى يستغفر لي ولك. قال: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصليت معه المغرب، فصلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العشاء، ثم انفتل فتبعته، فعرض له عارض فناجاه، ثم ذهب فاتبعته، فسمع صوتي فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة. فقال: ما لك؟ فحدثته بالأمر. فقال: غفر الله لك ولأمك، ثم قال: أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل؟ قال: قلت: بلى. قال: فهو ملك من الملائكة، لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم عليّ، ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.(6/250)
وعن حذيفة قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي توفاه الله فيه فقلت: يا رسول الله، كيف أصبحت بأبي أنت وأمي؟ قال: فرد عليّ بما شاء الله، ثم قال: يا حذيفة، ادن مني. قال: فدنوت من تلقاء وجهه. قال: يا حذيفة، إنه من ختم الله به بصوم يوم، أراد به الله تعالى أدخله الله الجنة، ومن أطعم جائعاً، أراد به الله أدخله الله الجنة، ومن كسا عارياً، أراد به الله أدخله الله الجنة. قال: قلت: يا رسول الله، أسرّ هذا الحديث أم أعلنه؟ قال: بل أعلنه. قال: فهذا آخر شيء سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من نبي إلا قد أعطي سبعة نجباء رفقاء، وأعطيت أنا أربعة عشر: سبعة من قريش؛ علي، والحسن، والحسين، وحمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وسبعة من المهاجرين: عبد الله بن مسعود، وسلمان، وأبو ذر، وحذيفة، وعمار، والمقدار، وبلال، رضوان الله عليهم.
ومن حديث آخر، عن علي بن أبي طالب قال: قام إليه رجل فقبّل رأسه وقال: أخبرني عن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نجباء أمته فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لكل نبيّ من أمته نجباء، ونجبائي من أمتي: الحسن، والحسين، وحمزة، وجعفر، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وسلمان، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود وبلال.
وعن حذيفة قال: قالوا: يا رسول الله، ألا تستخلف لنا؟ قال: إني إن أستخلف عليكم فعصيتموه نزل عليكم العذاب، ولكن ما أقرأكم ابن مسعود فاقرؤوه، وما حدثكم حذيفة فاقبلوه.
قال علقمة: قدمت الشام فسألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً، فجلست إلى أبي الدرداء. فقال لي: من أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: أو ليس فيكم صاحب سواد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني عبد الله بن مسعود - أو ليس فيكم صاحب سرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي لا يعلمه غيره - يعني حذيفة - أليس فيكم من أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(6/251)
يعني عمّار بن ياسر - ثم قال: كيف سمعت عبد الله بن مسعود يقرأ " والليل إذا يغشى "؟ فقلت " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى " فقال: هكذا سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأها فأراد هؤلاء أن يستزلوني.
قال خيثمة بن أبي سبرة الجعفي: أتيت المدينة، فسألت الله عز وجلّ أن ييسر لي جليساً صالحاً، فيسّر لي أبو هريرة، فجلست إليه فقلت: إني سألت الله أن ييسر لي جليساً صالحاً فوقعت لي. فقال: من أنت؟ فقلت: من أهل الكوفة، جئت ألتمس العلم والخير. قال: أو ليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة؟ وعبد الله بن مسعود صاحب طهور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونعليه وحذيفة بن اليمان صاحب سرّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وعمار بن ياسر الذي أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وسلمان صاحب الكتابين! قال قتادة: والكتابان الإنجيل والفرقان.
وعن قيس بن أبي حازم قال: سئل علي بن أي طالب عن عبد الله بن مسعود فقال: قرأ القرآن، فوقف عند متشابهه، فأحل حلاله، وحرم حرامه. وسئل عن عمار بن ياسر فقال: مؤمن نسي، وإذا ذكر ذَكر، قد حشي ما بين فيه إلى كعبه إيماناً. وسئل عن حذيفة فقال: أعلم الناس بالمنافقين. فقالوا: أخبرنا عن سلمان. قال: أدرك العلم الأول والعلم الآخر، منا أهل البيت. قالوا: أخبرنا عن أبي ذر. قال: وعى علماً. قالوا: أخبرنا عن نفسك. قال: إيّاها أردتم، كنت إذا سكت ابتديت، وإذا سألت أعطيت، وإن بين دفتيّ علماً جماً.
قلت لإسماعيل بن خالد: ما بين دفتيه؟ قال: جنبيه.
وفي حديث، عن النزال بن سبرة الهلالي قال: وافقنا من علي بن أبي طالب ذات يوم طيب نفس ومراح، فقلنا: يا أمير المؤمنين، حدثنا عن أصحابك. وذكر الحديث وفيه قلنا: فحدثنا عن حذيفة. قال: ذاك امرؤ علم المعضلات والمفصّلات، وعلم أسماء المنافقين، إن تسألوه عنها تجدوه بها عالماً.(6/252)
وعن حذيفة قال: مر بي عمر بن الخطاب وأنا جالس في المسجد فقال لي: يا حذيفة، إن فلاناً قد مات فاشهده. قال: ثم مضى حتى إذا كاد أن يخرج من المسجد التفت إلي فرآني وأنا جالس فعرف، فرجع إليّ فقال: يا حذيفة، أنشدك الله أمن القوم أنا؟ قال: قلت: اللهم لا، ولن أبرئ أحداً بعدك. قال: فرأيت عيني عمر جاءتا.
وعن نافع بن جبير بن مطعم قال: لم يخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأسماء المنافقين الذين بخسوا به ليلة العقبة بتبوك غير حذيفة، وهم اثنا عشر رجلاً ليس فيهم قرشي، وكلهم من الأنصار، أو من حلفائهم.
وعن حذيفة بن اليمان قال: صليت ليلة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رمضان، فقام يغتسل وسترته، ففضلت منه فضلة في الإناء فقال: إن شئت فأرقه، وإن شئت فصبّ عليه. قال: قلت: يا رسول الله، هذه الفضلة أحب إلي مما أصب عليه. قال: فاغتسلت به وسترني قال: قلت: لا تسترني. قال: بل لأسترنك كما سترتني.
حدث إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاتلت معه وأبليت معه، فقال حذيفة: أنت كنت تفعل ذلك! لقد رأيتنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الأحزاب، وأخذتنا ريح شديدة، وقرّ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة. قال: فسكتنا فلم يجبه منا أحد، ثم قال: ألا رجل يأتينا بخبر القوم، جعله الله معي يوم القيامة. قال: فسكتنا فلم يجبه منا أحد. ثم قال: فسكتنا. فقال: قم يا حذيفة - أراه قال: فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم - قال: اذهب فائتنا بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار، فوضعت سهماً في كبد القوس فأردت أن أرميه، فذكرت قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تذعرهم علي، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته خبر القوم وفرغت قررت، فألبسني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها، فلم أزل نائماً حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: قم يانومان.(6/253)
وفي حديث آخر بمعناه، عن حذيفة قال: فقمت وإن جنبيّ ليضربان من البرد فمسح رأسي ووجهي ثم قال: ائت هؤلاء القوم حتى تأتينا بخبرهم، ولا تحدثن حدثاً حتى ترجع، ثم قال: اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته حتى يرجع. قال: فلأن يكون أرسلها كان أحب إلي من الدنيا وما فيها. الحديث.
وعن حذيفة قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية وحدي.
وعن زيد بن أسلم قال: قال رجل لحذيفة: أشكو إلى الله صحبتكم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنكم أدركتموه ولم ندركه، ورأيتموه ولم نره. قال حذيفة: ونحن نشكو إلى الله إيمانكم به ولم تروه. والله ماتدري لو أنك أدركته كيف كنت تكون! لقد رئينا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الخندق، ليلة باردة مطيرة، إذ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، جعله الله رفيق إبراهيم يوم القيامة؟ فما قام منا أحد. ثم قال: هل من رجل يذهب فيعلم لنا علم القوم، أدخله الله الجنة؟ قال: فوالله ما قام منا أحد. قال: هل من رجل يذهب، فيعلم لنا علم القوم جعله الله رفيقي في الجنة؟ فما قام منا أحد. فقال أبو بكر: يا رسول الله، ابعث حذيفة. قال حذيفة: فقلت: دونك، فوالله ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا حذيفة، حتى قلت: يا رسول الله بأبي وأمي أنت، والله ما بي أن أقتل، ولكني أخشى أن أؤسر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك لن تؤسر. فقلت: يا رسول الله، مرني بما شئت. فقال: اذهب حتى تدخل في القوم، فتأتي قريشاً فتقول: يا معشر قريش، إنما يريد الناس أن يقولوا غداً: أين قريش؟ أين قادة الناس؟ أين رؤوس الناس؟ تقدموا، فتقدموا، فتضلوا بالقتال، فيكون القتل بكم، ثم ائت كنانة فقل: يا معشر كنانة، إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا(6/254)
بالقتال، فيكون القتل بكم. ثم ائت قيساً فقل: يا معشر قيس، إنما يريد الناس غداً أن يقولوا: أين قيس؟ أين أحلاس الخيل؟ أين فرسان الناس؟ تقدموا، فتقدموا فتضلوا بالقتال، ويكون القتل بكم. ثم قال لي: ولا تحدث في سلاحك شيئاً.
قال حذيفة: فذهبت فكنت بين ظهراني القوم أصطلي معهم على نيرانهم، وأذكر لهم القول الذي قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أين قريش؟ أين كنانة؟ أين قيس؟ حتى إذا كان وجه السحر، قام أبو سفيان يدعو باللات والعزى ويشرك، ثم قال: نظر رجل من جليسه؟ قال: ومعي رجل يصطلي، قال: فوثبت عليه مخافة أن يأخذني فقلت: من أنت؟ قال: أنا فلان. قلت: أولى. فلما رأى أبو سفيان الصبح، قال أبو سفيان: نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ أين قادة الناس؟ تقدموا. قالوا هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. ثم قال: أين كنانة؟ أين رماة الحدق؟ تقدموا. فقالوا: هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. ثم قال: أين قيس: أين فرسان الناس؟ أين أحلاس الخيل؟ تقدموا فقالوا: هذه المقالة التي أتينا بها البارحة. قال: فخافوا فتخاذلوا، وبعث الله عليهم الريح، فما تركت لهم بناء إلا هدمته، ولا إناء إلا أكفته، وتنادوا بالرحيل. قال حذيفة: حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له معقول، فجعل يستحثه للقيام ولا يستطيع القيام لعقاله. قال حذيفة: فوالله لولا ما قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تحدث في سلاحك شيئاً لرميته من قريب. قال: وسار القوم، وجئت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته، فضحك حتى رأيت أنيابه.
وفي حديث آخر بمعناه، عن حذيفة: ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون: يا آل عامر، الرحيل الرحيل لا مقام لكم، وإذا الريح في معسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم، الريح تضربهم بها، ثم خرجت نحو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انتصف الطريق أو نحو ذلك إذا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتّمين فقالوا: أخبر صاحبك أن الله تعالى كفاه القوم، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو(6/255)
مشتمل في شملة يصلي، فوالله ما غدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأوحى إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده وهو يصلي، فدنوت منه، فأسبل علي شملته، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر صلى، فأخبرته خبر القوم، وأخبرته أني تركتهم يترحلون، فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " الآية.
وعن حذيفة قال: تعودوا الصبر - وفي رواية: تعودوا البلاء - فيوشك أن ينزل بكم البلاء، مع أنه لا يصيبكم أشد مما أصابنا، ونحن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن مسلم بن مخراق قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من هذا؟ قال: أنا عمار بن ياسر قال: ونظر خلفه قال: من هذا؟ قال: أنا حذيفة. قال: بل أنت كيسان ".
وعن بريدة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل حذيفة بن اليمان على بعض الصدقة. فلما قدم قال: " يا حذيفة، هل رزئ من الصدقة شيء؟ قال: لا يا رسول الله، أنفقنا بقدر إلا أن ابنة لي أخذت جدياً من الصدقة. قال: كيف بك يا حذيفة إذا ألقي في النار وقيل لك ائتنا به! فبكى حذيفة، ثم بعث إليها فجيء بها فألقاها في الصدقة ".
قال محمد بن سيرين: كان عمر بن الخطاب إذا بعث عاملاً كتب في عهده: أن اسمعوا له، وأطيعوا ما عدل فيكم. قال: فلما استعمل حذيفة على المدائن كتب في عهده: أن اسمعوا له وأطيعوا، وأعطوه ما سألكم. قال: فخرج حذيفة من عند عمر على حمار موكف، وعلى الحمار زاده. فلما قدم المدائن استقبله أهل الأرض والدهاقين، وبيده رغيف وعرق من لحم على حمار(6/256)
على إكاف. قال: فقرأ عهده عليهم، فقالوا: سلنا ما شئت. قال: أسألكم طعاماً آكله وعلف حماري هذا ما دمت فيكم، مرتين. قال: فأقام فيهم ما شاء، ثم كتب إليه عمر أن اقدم. فلما بلغ عمر قدومه كمن له على الطريق في مكان لا يراه. فلما رآه عمر على الحال التي خرج من عنده عليها، أتاه فأكرمه وقال: أنت أخي، وأنا أخوك.
وفي حديث آخر عنه قال: كان عمر بن الخطاب إذا بعث أميراً كتب إليهم: إني قد بعثت إليكم فلاناً وأمرته بكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا، فلما بعث حذيفة إلى المدائن كتب إليهم: إني قد بعثت إليكم فلاناً فأطيعوه، فقالوا: هذا رجل له شأن، فركبوا ليتلقوه، فلقوه على بغل تحته إكاف، وهو معترض عليه، رجلاه من جانب واحد، فلم يعرفوه فأجازوه، فلقيهم الناس فقالوا: أين الأمير؟ قالوا: هو الذي لقيتم. قال: فركضوا في أثره، فأدركوه وفي يده رغيف وفي الأخرى عرق وهو يأكل، فسلموا عليه، فنظر إلى عظيم منهم فناوله العرق والرغيف. قال: فلما عقل ألقاه. أو قال: أعطاه خادمه.
قال أبو عبيدة: ومضى حذيفة بن اليمان - يعني سنة اثنتين وعشرين. بعد نهاوند إلى مدينة نهاوند، فصالحه دينار على ثماني مئة ألف درهم كل سنة. وغزا حذيفة مدينة الدينور فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت لسعد، ثم انتقضت، ثم غزا حذيفة ما سبذان فافتتحها عنوة، وقد كانت فتحت لسعد، فانتقضت.
قال خليفة: وقد قيل في ماه غير هذا: يقال: أبو موسى فتح ماه دينار، ويقال: السائب بن الأقرع.
قال أبو عبيدة: ثم غزا حذيفة همذان، فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، ثم غزا الري(6/257)
فافتتحها عنوة، ولم تكن فتحت قبل ذلك، وإليها انتهت فتوح حذيفة.
وقال أبو عبيدة: فتوح حذيفة هذه كلها في سنة اثنتين وعشرين.
ويقال: همذان، افتتحها المغيرة بن شعبة سنة أربع وعشرين، ويقال: جرير بن عبد الله افتتحها بأمر المغيرة.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: جمعت مع حذيفة المدائن، فسمعته يقول: إن الله يقول: " إقتربت الساعة وانشق القمر " ألا إن القمر انشق على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ألا إن الساعة قد اقتربت، ألا إن المضمار اليوم والسبق غداً، قال: فقلت لأبي: غداً مجرى الخيل. قال: إنك لغافل، حتى سمعته يقول: السابق من سبق إلى الجنة، والغاية النار.
قال أبو هريرة: قال حذيفة بن اليمان: لأقومن الليلة، فلأمجدن ربي عز وجل. قال: فسمعت صوتاً ورائي لم اسمع صوتاً قط أحسن منه. قال: اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وإليك يرجع الأمر كله، علانيته وسره، اغفر لي ما سلف مني، واعصمني فيما بقي من أجلي.
وعن حذيفة بن اليمان أنه قال: إن أقر أيامي لعيني يوم أرجع فيه إلى أهلي، فيشكون إلي الحاجة، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: عن الله ليتعاهد عبده بالبلاء، كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإن الله تعالى ليحمي عبده المؤمن الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام.
وعن حذيفة قال: بحسب المرء من العلم أن يخشى الله عز وجل، وبحسبه من الكذب أن يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ثم يعود.(6/258)
قال أبو البحتري: قال حذيفة: لو حدثتكم بحديث لكذبني ثلاثة أثلاثكم، فقال: ففطن له شاب فقال: من يصدقك إذا كذبك ثلاثة أثلاثنا! فقال: إن أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يسألون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر. قال: فقيل له: ما حملك على ذلك؟ فقال: إنه من اعترف بالشر، وقع في الخير.
قال قتادة: قال حذيفة: لو كنت على شاطئ نهر، وقد مددت يدي لأغرف، فحدثتكم بكل ما أعلم ما وصلت يدي إلى فمي حتى أقتل.
وعن حذيفة أنه قال: خذوا عنا، فإنا لكم ثقة، ثم خذوا عن الذين يأخذون عنا، فإنهم لكم ثقة، ولا تأخذوا عن الذين يلونهم. قالوا: لم؟ قال: لأنهم يأخذون حلو الحديث، ويدعون مره، ولا يصلح حلوه إلا بمره.
وقال حذيفة بن اليمان: عن الحق ثقيل، وهو مع ثقله مريء، وإن الباطل خفيف، وهو مع خفته وبيء، وترك الخطيئة خير من طلب التوبة، ورب شهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً.
وعن جابر بن عبد الله قال: قال لنا حذيفة: إنا حملنا هذا العلم، وإنا نؤديه عليكم، وإن كنا لا نعمل به.
قال البيهقي: قوله: وإن كنا لا نعمل به، يريد والله أعلم فيما يكون ندباً واستحباباً، فلا يظن بهم أنهم كانوا يتركون الواجب عليهم ولا يعملون به، إذ كانوا أعمل الناس بما وجب عليهم، ويحتمل أن يكون ذهب مذهب التواضع في ترك التزكية.
وعن أبي الطفيل قال: قال حذيفة:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الأحياء(6/259)
فقيل له: يا أبا عبد الله، وما ميت الأحياء؟ قال: الذي لا يعرف المعروف بقلبه، ولا ينكر المنكر بقلبه.
عن حذيفة، أنه سئل عن ميت الأحياء قال: هو الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه.
قال حذيفة لأبي هريرة: إني أراك إذا دخلت الكنيف أبطأت في مشيك، وإذا خرجت أسرعت. قال: إني أدخل وأنا على وضوء، وأخرج وأنا على غير وضوء، فأخاف أن يدركني الموت قبل أن أتوضأ. قال له حذيفة: إنك لطويل الأمل، لكني أرفع قدمي، فأخاف ألا أضع الأخرى حتى أموت.
وعن حذيفة قال: لوددت أن لي من يصلح لي في مالي، فأغلق علي بابي فلا يدخل علي أحد، حتى ألحق بالله عز وجل.
قال فضيل بن عياض: قيل لحذيفة: مالك لا تتكلم؟ قال: إن لساني سبع، أتخوف إن تركته يأكلني.
قال حذيفة: ليس خياركم من ترك الدنيا للآخرة، ولا خياركم من ترك الآخرة للدنيا، ولكن خياركم من أخذ من كل.
وعن حذيفة بن اليمان أنه قال لرجل: أيسرك أن تغلب شر الناس؟ قال: إنك إن تغلبه تكن شراً منه.
قال ابن سيرين: سئل حذيفة عن شيء فقال: إنما يفتي أحد ثلاثة: من عرف الناسخ والمنسوخ، أو رجل ولي سلطاناً فلا يجد من ذلك بداً، أو متكلف.
قال النزال بن سبرة: كنا مع حذيفة في البيت فقال له عثمان: يا أبا عبد الله، ما هذا الذي بلغني عنك؟(6/260)
قال: ما قلته. فقال عثمان: أنت أصدقهم وأبرهم، فلما خرج قلت: يا أبا عبد الله، ألم تقل ما قلته؟ قال: بلى، ولكني أشتري ديني ببعضه: مخاف أن يذهب كله.
قال بلال بن يحيى: بلغني أن حذيفة كان يقول: ما أدراك هذا الأمر أحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا قد اشترى بعض دينه ببعض، قالوا: فأنت؟ قال: وأنا، والله إني لأدخل على أحدهم وليس أحد إلا وفيه محاسن ومساوئ، فأذكر من محاسنه وأعرض عما سوى ذلك، وربما دعاني أحدهم إلى الغداء فأقول: إني صائم ولست بصائم.
قال ربعي بن خراش: لما كانت الليلة التي حضر فيها حذيفة، جعل يقول، أي الليل هذا؟ قال: فقلنا له وجه السحر. فاستوى جالساً ثم قال: اللهم، إني أبرأ إليك من دم عثمان، والله ما شهدت ولا قتلت ولا مالأت على قتله.
وعن خالد بن ربيع العبسي قال: سمعنا توجع حذيفة، فركب إليه أبو مسعود الأنصاري في نفر أنا فيهم إلى المدائن، قال: فأتيناه في بعض الليل فقال: أي الليل ساعة هذه؟ قلنا: بعض الليل. لوجود الليل. قال: هل جئتم بأكفاني؟ قلنا: نعم. قال: فلا تغالوا بكفني، فإن يكن لصاحبكم عند الله خير يبدل خيراً من كسوتكم، وإلا تسلب سلباً سريعاً. قال: ثم ذكر عثمان فقال: اللهم لم أشهد، ولم أقتل، ولم أرض.
وعن ربعي بن خراش أنه حدثهم أن أخته وهي امرأة حذيفة قالت: لما كان ليلة توفي حذيفة، جعل يسألنا أي الليل هو؟ فنخبره، حتى كان السحر. قالت: فقال: أجلسوني. فأجلسناه، قال: وجهوني. فوجهناه، قال: اللهم إني أعوذ بك من صباح النار ومن مسائها.
قال ربعي بن خراش: قال حذيفة عند الموت: رب يوم أتاني الموت لم أسأل، أما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري علام أنا فيها؟ قال: وأوصى أبا مسعود فقال: عليك بما تعرف ولا تلون في أمر الله عز وجل.(6/261)
وعن صالح بن حسان، أن حذيفة لما نزل به الموت قال: هذه آخر ساعة من الدنيا، اللهم، إنك تعلم أني أحبك، فبارك لي في لقائك. ثم مات.
قال أسد بن وداعة: لما مرض حذيفة مرضه الذي مات فيه قيل له: ما تشتهي؟ قال: أشتهي الجنة. قالوا: فما تشتكي؟ قال: الذنوب. قالوا: أفلا ندعو لك الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، لقد عشت فيكم على خلال ثلاث: الفقر فيكم أحب إلي من الغنى. والضعة فيكم أحب إلي من الشرف، وإن من حمدني منكم ولامني في الحق سواء. ثم قال: أصبحنا؟ أصبحنا؟ قالوا: نعم. قال: اللهم، إني أعوذ بك من صباح النار، حبيب جاء على فاقة، فلا أفلح من ندم.
حدث جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال حذيفة حين حضره الموت: مرحباً بالموت وأهلاً، مرحباً بحبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إني لم أحب الدنيا لحفر الأنهار ولا لغرس الأشجار، ولكن لسهر الليل وظمأ الهواجر، وكثرة الركوع والسجود، والذكر لله عز وجل كثيراً، والجهاد في سبيله، ومزاحمة العلماء بالركب.
وعن زياد مولى ابن عياش عن بعض أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: دخلت على حذيفة في مرضه الذي مات فيه فقال: اللهم، إنك تعلم لولا أني أرى أن هذا اليوم أول يوم من أيام الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا لم أتكلم بما أتكلم به، اللهم، إنك تعلم أني كنت أختار الفقر على الغنى، وأختار الذلة على العز، وأختار الموت على الحياة، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم. ثم مات.
وتوفي حذيفة بعد عثمان بأربعين يوماً. وقيل: مات سنة ست وثلاثين. وقيل: قبل عثمان بأربعين ليلة.
قال حفص بن غياث: رأيت أبا حنيفة في المنام فقلت له: أي الآراء وجدت أفضل أو أحسن؟ قال: نعم الرأي رأي عبد الله، ووجدت حذيفة بن اليمان شحيحاً على دينه.(6/262)
وقيل: إنه مات سنة خمس وثلاثين. وقولهم: قبل قتل عثمان خطأ، لأن عثمان قتل في آخر سنة خمس وثلاثين.
حرام بن حكيم بن خالد بن سعد
ابن حكم الأنصاري ويقال: حرام بن معاوية من أهل دمشق.
حدث حرام عن عمه عبد الله بن سعد قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة في بيتي والصلاة في المسجد. فقال: " لقد ترى ما أقرب بيتي من المسجد، ولأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد، إلا أن تكون صلاة مكتوبة.
وحدث عنه أيضاً عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: إنكم أصبحتم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، قليل سؤّاله، كثير معطوه، العمل فيه خير من العلم، وسيأتي زمان قليل فقهاؤه، كثير خطباؤه، كثير سؤّاله، قليل معطوه، العلم فيه خير من العمل.
وحدث حرام بن حكيم، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول، في يوم الجمعة والفطر: من كان خارجاً من المدينة فبدا له فليركب، فإذا جاء المدينة فليمش إلى المصلى، فإنه أعظم أجراً، وقدّموا قبل خروجكم زكاة الفطر، فإن على كل نفس مدّين من قمح أو دقيق.
وعن حرام بن حكيم قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: حدثوا عني كما سمعتم ولا حرج، إلا من افترى علي كذباً متعمداً بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار.
وفي حديث آخر بمعناه: إلا من افترى علي كذباً متعمداً ليضل به الناس، فليتبوأ مقعده من النار.(6/263)
حدث عمرو بن مهاجر، عن عمر بن عبد العزيز أنه كان لا يجيز على رؤية الهلال إلا رجلين عدلين. كان بلغه أنّ محمدا بن سويد الفهري ضحّى بدمشق قبل الناس بيوم، فكتب إليه عمر: ما حملك أن خالفت المسلمين؟ فكتب إليه محمد بن سويد يذكر: إنما فعلته من أجل حرام بن حكيم، شهد عندي بذلك. فكتب إليه عمر: حرام بن حكيم أذو اليدين هو! إنكاراً يعني أنّ تجاز شهادته وحده، دون أن يكونا رجلين.
قال القاسم: لعله أراد ذو الشهادتين!
حرب بن إسماعيل بن محمد الكرماني
سمع بدمشق حدث أبو محمد حرب بن إسماعيل بسنده عن عباد بن تميم أن عويمر بن أشقر ذبح قبل الصلاة يوم العيد، فأمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعيد.
حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية
ابن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية كان جواداً ممدحاً ذا قدر ونبل، وأمه أم ولد.
وعن حرب بن خالد قال: قال معاوية لابن عباس: يا عجباً من وفاة الحسن، شرب عسلاً بماء رومة فقضى نحبه، لا يحزنك الله ولا يسؤك في الحسن. فقال: لا يسوءني الله ما أبقاك، فأمر له بمائة ألف وكسوة.(6/264)
قال: ويقال إنّ معاوية قال لابن عباس يوماً: أصبحت سيد قومك. قال: ما بقي أبو عبد الله فلا.
وعن حرب بن خالد قال: قال معاوية يوماً لحسين: يا حسين؛ فقال عبد الله بن الزبير: يا أبا عبد الله إياك يريد. فقال له معاوية: أردت أن تغريه في أني سميته وأنك كنيته؛ أما والله ما أولع شيخ قوما قط بالرتاج إلا مات بينهما. قال: الرتاج: الغلق والباب.
قال حرب بن خالد: سألت زيد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب: وفي كم كان علي بن أبي طالب؟ قال: في مائة الف. يعني يوم صفين.
قال وهب بن حسن مولى الربيع بن يونس، وكان عالماً فاضلاً عاقلاً قال: خرج داود بن سلم حتى قدم على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، فلما نزل به قام غلمانه إلى متاعه، فأدخلوه وحطوا على راحلته، ثم دخل عليه فأنشده قوله:
ولمّا دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حرباً لقيت النجاحا
وجدناه يحمده المجتدون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا
فأنزله وأكرمه، وأجازه بجائزة عظيمة، ثم استأذنه للخروج فأذن له، وأعطاه ألف دينار وقال: لا إذن لك علي، فودعه وخرج من عنده وغلمانه جلوس، فلم يقم إليه منهم أحد ولم يعنه، فظن أن حرب بن خالد ساخط عليه فرجع إليه، فقال له: إنك على موجدة؟ قال: لا، وما ذاك؟ فأخبره أن غلمانه لم يعينوه على رحله. فقال له: ارجع إليهم فسلهم، فرجع إليهم فسألهم فقالوا: إنا ننزل من جاءنا، ولا نرحل من خرج من عندنا. فلما قدم المدينة سمع الغاضري بحديثه وجاءه فقال: إني أحب أن أسمع الحديث من فيك، فحدثه به وأنشده الأبيات. فقال: هو يهودي، وهو نصراني إن لم يكن الذي فعل الغلمان أحسن من شعرك.(6/265)
حرب بن محمد بن حرب بن عامر
أبو الفوارس السلمي الحراني حدث بدمشق، عن أبي القاسم الخضر بن أحمد الحراني بسنده عن عبد الله بن قيس قال: قال رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أحد أصبر على أذى يسمعه من الله عز وجل، يجعلون له نداً، ويجعلون له ولداً، وهو مع ذلك يرزقهم ويعطيهم.
حرب بن محمد بن علي بن حيان
ابن مازن بن الغضوبة الطائي الموصلي والد علي بن حرب، استقدمه المأمون إلى دمشق لأجل المساحة.
روى عن المعافى بن عمران، بسنده عن النعمان بن بشير قال: كنا إذا صلينا خلف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: سمع الله لمن حمده، لم يحن أحد منا ظهره، حتى نرى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد سجد.
وروى عن محمد بن الحسن، بسنده عن فضالة بن عبيد قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يقسم للمملوكين.
وروى عن المعافى بن عمران، بسنده عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يقول الله عز وجل: " حسنة ابن آدم عشر وأزيد، والسيئة واحدة أو أغفرها، ومن لقيني بقراب الأرض خطايا لقيته بمثلها مغفرة، ما لم يشرك بي شيئاً.
كان حرب بن محمد رجلاً نبيلاً ذا همة رحل في طلب العلم، وكتب عن مالك بن أنس ونظرائه. وتوفي سنة ست وعشرين ومئتين.(6/266)
قال علي بن حرب الموصلي: في سنة أربع عشرة ومائتين قدم عبد الله المأمون دمشق، ففرق المعدلين يعني المساح في أجناد الشام في تعديلها يعني مساحتها ووجه في ذلك إلى رؤساء أهل الجزيرة والموصل والرقة، فقدم عليه جماعة، منهم حرب بن عبد الله الطائي وسفيان بن عبد الملك الخولاني، فاستعفوه من التعديل فأعفاهم وصرفهم، واجتلب لتعديل الشام المساح من العراق والأهواز والري، وأقام بدمشق تلك الشتوة على التعديل.
حرملة بن المنذر بن معد يكرب
ابن حنظلة بن النعمان بن حية بن سعنة ويقال ابن سعد بن الغوث بن الحارث، ويقال ابن الحويرث بن ربيعة بن مالك بن صقر بن هنيء بن عمرو بن الغوث بن الحارث بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أبو زبيد الطائي: شاعر مشهور مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام ولم يسلم وكان نصرانياً، وفد على الحارث بن أبي شمر الغساني، وكان ينزل بنواحي دمشق.
وكان أبو زبيد من زوار الملوك ولملوك العجم خاصة، وكان عالما بسيرهم، وكان عثمان بن عفان يقربه على ذلك ويدني مجلسه، وكان نصرانياً، فحضر ذات يوم عثمان وعنده المهاجرون والأنصار فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها، فالتفت عثمان إلى أبي زبيد، فقال: يا أخا تبع المسيح، أسمعنا بعض قولك فقد أنبئت أنك تجيد، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا ... أن الفؤاد إليهم شيق ولع
ووصف فيها الأسد، فقال عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت! والله إني(6/267)
لأحسبك جباناً هدانا، قال: كل يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتجدد في قلبي، ومعذور أنا بذلك يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان: وأنى كان ذلك؟ قال: خرجت في صيابة أشراف من أفناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة، ترتمي بنا المهاري بأكسائها، والقيروانات على قنو البغال تسوقها العبدان، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه وأذكت الجوزاء المعزاء وذاب الصيهد وصر الجندب وضاف العصفور الضب في جحره أو قال في وجاره وقال قائلنا: أيها الركب، غوروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا كثير الدغل دائم الغلل، شجراؤه مغنة وأطياره مرنة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات، فأصبنا من فضالات المزاود، واتبعناها الماء البارد، فإنا لنصف حر يومنا ذلك ومماطلته إذ صر أقصى الخيل أذنيه، وفحص الأرض بيديه، فوالله، ما لبث أن جال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الذي يليه واحد فواحد، فتضعضعت الخيل(6/268)
وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال، فمن ناد بشكاله وناهض بعقاله، فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع، ففزع كل امرئ منا إلى سيفه، فاستله من جربانه، ثم وقفنا زردقا. فأقبل يتظالع من بغيه كأنه مجنوب أو في هجار مسحوب، لصدره نحيط، ولبلاعيمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض، كأنما يخبط هشيماً، أو يطأ صريماً، وإذا هامة كالمجن، وخد كالمسن، وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان، وقصرة ربلة ولهزمة رهلة، وكتد مغبط، وزور مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول، وكف شثنة البراثن إلى مخالب كالمحاجن، فضرب بيديه فأرهج، وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول، مصقولة غير مفلولة، وفم أشدق كالغار(6/269)
الأخوق، ثم تمطى فأشرع بيديه، وحفز وركيه برجليه حتى صار ظله مثليه، ثم أقعى فاقشعر ثم تميل فاكفهر، ثم جهز فازبأر. فلا والذي بيته في السماء ما اتقينا بأول أخ لنا من بني فزارة كان ضخم الجزارة، فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه، وجعل يلغ في دمه، فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا، فهجهجنا به فكر مقشعراً بزبرته، كأن به شيهماً حولياً، فاختلج رجلاً أعجر ذا حوايا، فنفضه نفضة تزايلت مفاصله، ثم نهم ففرفر، ثم زفر فبربر ثم زار فجرجر ثم لحظ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت الأضلاع، وأرتجت الأسماع وحمجت العيون،(6/270)
وألحقت الظهور بالبطون، وانخزلت المتون، وساءت الظنون.
فقال عثمان: اسكت، قطع الله لسانك! فقد رعبت قلوب المؤمنين.
وقال يصف الأسد:
فباتوا يذلجون وبات يسري ... بصير بالدجى هاد هموس
إلى أن عرسوا وأغب عنهم ... قريباً ما يحس له حسيس
خلا أن العتاق من المطايا ... حسن به فهن إليه شوس
فلما أن رآهم قد تدانوا ... أتاهم وسط أرجلهم يميس
فثار الزاجرون فزاد منهم ... تقراباً وواجهه ضبيس
بنصل السيف ليس له مجن ... فصد ولم يصادفه جسيس
فيضرب بالشمال إلى حشاه ... وقد نادى فأخلفه الأنيس
يشمر كالمحالق في قنوت ... تقيه قضة الرض الدخيس
فخر السيف واختلفت يداه ... وكان بنفسه وقيت نفوس
فطار القوم شتى والمطايا ... وغودر في مكرهم الرسيس
وجال كأنه فرس صنيع ... يجر جلاله ذيل شموس
كأن بنحره وبساعديه ... عبيراً بات تعبؤه عروس
فذلك إن تلاقوه نفادوا ... ويحدث بينكم أمر شكيس
وكان أبو زبيد الطائي منقطعاً إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان الوليد يكنى بوهب. فقال أبو زبيد:
من يرى العيس لابن أروى على ظه ... ر المرورى حداهن عجال(6/271)
مصعدات والبيت بيت أبو وه ... ب خلاء تحن فيه الشمال
يعرف الجاهل المضلل أن الده ... ر فيه النكراء والزلزال
بعدما تعلمين يا أم وهب ... كان فيهم عيش لنا وجمال
ووجوه تودنا مشرقات ... ونوال إذا يراد النوال
فلعمر الإله لو كان للسي ... ف مصال أو للسان مقال
ما تناسيتك الصفاء ولا الو ... د ولا حال دونك الأشغال
ولحرمت لحمك المتعصي ... ضلة ضل حلمهم ما اقتالوا
أصبح البيت قد تبدل بالحي ... وجوهاً كأنها الأقتال
غير ما طالبين ذحلاً ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
قولهم بشرب الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال
وأبى ظاهر العداوة إلا ... طغياناً وقول ما لا يقال
من يخنك الصفاء أو يتبدل ... أو يزل مثلما تزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الود ... حياتي حتى تزول الجبال
كان أبو زبيد جاهلياً إسلامياً، وأقام في الإسلام علة النصرانية وعاش مائة وخمسين سنة، وكان يحمل في كل يوم أحد إلى البيعة مع النصارى فيظل يومه يشرب، فبينا هو في بعض تلك الآحاد يشرب، وحوله النصارى وفي يده الكأس إذ وقع بصره إلى السماء فنظر نظراً شديداً طويلاً، ثم رمى بالكأس من يده وقال:
إذا جعل المرء الذي كان حازماً ... يحل به حل الحوار ويحمل
فليس له في العيش خير يريده ... وتكفينه ميتا أعف وأجمل
ثم مات.(6/272)
وزاد في رواية بيتاً آخر:
أتاني رسول الموت يا مرحباً به ... لآتيه وسوف والله أفعل
ثم مات.
حريث بن أبي حريث
ويقال زيد بن جارية القرشي، مولاهم: من أهل دمشق.
حدث حريث بن أبي حريث أنه سأل ابن عمر قلت: رجل أراد أن يأتي مصر فقال لصاحبه: أعطني مائة دينار تجوز بمصر، وأعطيك مائة مما يجوز هاهنا وزناً، فوضعاها في الميزان حتى استوت، فكانت الدنانير التي أخذ مائة دينار عدداً، وكانت الدنانير التي أعطى دينارين ومائة. فقال عبد الله: وزناً بوزن؟ قلت: نعم: قال: فإذا اختلف العدد فقد فسدا، رباً خبيث فلا تقربها.
قال البخاري: حريث بن أبي حريث؛ سمع ابن عمر، روى عنه ابن حليس في الصرف، قاله أبو المغيرة عن الأوزاعي، لا يتابع على حديثه. وأدخل البخاري حديث ابن أبي حريث في كتاب الضعفاء فقال: تحول اسمه من هناك، يكتب حديثه ولا يحتج به.(6/273)
حريث بن زيد الخيل الطائي
وفد على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تنصر وهرب إلى أرض الروم.
كتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى يوحنا بن رؤبة وسروات أهل أيلة: سلم أنتم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، فإني لم أكن لأقاتلكم حتى أكتب إليكم، فأسلم أو أعط الجزية، وأطع الله ورسوله ورسل رسوله وأكرمهم، واكسهم كسوة حسنة غير كسوة الغزاء، واكس زيداً كسوة حسنة، فمهما رضيت رسلي فإني قد رضيت، وقد علم الجزية، فإن أردتم أن يأمن البحر والبر فأطع الله ورسوله، ويمنع عنكم كل حق كان للعرب والعجم، إلا حق الله وحق رسوله، وإنك إن رددتهم ولم ترضهم لا آخذ منكم شيئا حتى أقاتلكم، فأسبي الصغير وأقتل الكبير، فإني رسول الله بالحق، أومن بالله وكتبه ورسله والمسيح بن مريم أنه كلمة الله، وإني أومن به أنه رسول الله، وائت قبل أن يمسكم الشر، فإني قد أوصيت رسلي بكم، وأعط حرملة ثلاثة أوسق شعيراً، وإن حرملة شفع لكم، وإني لولا الله وذلك لم أراسلكم شيئاً حتى ترى الخميس، وإنكم إن أطعتم رسلي فإن الله لكم جار ومحمد، وإن رسلي شرحبيل وأبي وحرملة وحريث بن زيد الطائي، فإنهم مهما قاضوك عليه فقد رضيته، وإن لكم ذمة الله وذمة محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والسلام عليكم إن أطعتم، وجهزوا أهل مقنا إلى أرضهم.
وكان لزيد من الولد مكنف بن زيد الخيل، وبه كان يكنى، وقد أسلم وصحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد قتال أهل الردة مع خالد بن الوليد، وكان له بلاء. وحريث بن زيد وكان فارساً، وقد صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد الردة مع خالد بن الوليد وكان شاعراً. وعروة بن زيد شهد القادسية.(6/274)
حريث بن ظهير الكوفي
قدم الشام.
روى عن عبد الله بن مسعود قال: لا يموت مسلم إلا في الإسلام ثلمة لا تجبر بعده أبداً.
وعن حريث بن ظهير قال: قال عبد الله بن مسعود: أيها الناس، قد أتى علينا زمان لسنا نقضي ولسنا هنالك، وإن الله عز وجل قد بلغنا ما ترون، فمن عرض له منكم قضاء بعد اليوم فليقض فيه بما في كتاب الله عز وجل، فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله عز وجل ولم يقض به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليقض بما قضى به الصالحون، فإن أتاه أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه. ولا يقولن أحدكم: إني أخاف، وإني أرى، فإن الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهة، فدع ما يريبك إلى ما لايريبك.
حريث مولى معاوية بن أبي سفيان
كان فارساً بطلاً، وكان معاوية يعتمد عليه في حربه، وشهد معه صفين، وقتل يومئذ، وكان فارسه الذي يعده للمبارزة، وكان يلبس سلاح معاوية متشبهاً به، فإذا قاتل قال الناس: ذاك معاوية. وإن معاوية قال له: يا حريث، اتق علياً، ثم ضع رمحك حيث شئت. فقال له عمرو بن العاص: إنك والله يا حريث لو كنت قرشياً لأحب معاوية أن تقتل علياً، ولكن كره أن يكون لك حظها، فإن رأيت منه فرصة فاقتحم عليه، فلما خرج الناس إلى القتال وتصافوا خرج علي أمام أصحابه قالوا: وخرج حريث مولى معاوية يوم صفين، فدعا علياً إلى المبارزة فقال: هلم يا أبا الحسن إلى المبارزة، فخرج إليه علي وهو يقول:
أنا علي وابن عبد المطلب ... أنا وبيت الله أولى بالكتب(6/275)
أهل اللواء والمقام والحجب ... نحن نصرناه على جل العرب
ثم حمل عليه علي عليه السلام، فطعنه فدق ظهره.
وجزع معاوية على حريث جزعاً شديداً، وعاتب عمراً فيما أشار عليه من لقاء علي فأنشأ يقول:
حريث ألم تعلم وعلمك ضائر ... بأن علياً للفوارس قاهر
وأن علياً لم يبارزه فارس ... من الناس إلا قصدته الأظافر
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فجدك إذ لم تقبل النصح عاثر
حريز بن عثمان بن جبر بن أحمد
ابن أسعد أبو عثمان، ويقال: أبو عون الرحبي الحمصي: وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال حريز: سألت عبد الله بن بسر: أشاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. وأومأ إلى عنفقته.
وقال حريز: قلت لعبد الله بن بسر: هل كان في رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شيب؟ قال: كان في رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعرات بيض، كان إذا ادهن تتغير.
وحدث حريز بن عثمان قال:
رأيت عبد الله بن بسر المازني صاحب رسوا الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحمص، والناس يسألونه، فدنوت منه وأنا غلام. قال: قلت: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. فقلت له: شيخاً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم شاباً؟ فتبسم وقال: رأيت هاهنا وأشار بيده إلى ذقنه شعرات بيض.(6/276)
قال حريز بن عثمان: رأيت مؤذني عمر بن عبد العزيز يسلمون عليه في الصلاة، السلام عليك أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الصلاة قد تقاربت.
وحدث حريز قال: صليت مع عمر بن عبد العزيز العيدين، فكان يكبر فيهما سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة، يبدأ فيكبر ثم يقرأ، ويركع ثم يقوم. فيكبر، ثم يقرأ ويركع.
وحدث حريز قال: صليت خلف عمر بن عبد العزيز فسلم تسليمة.
توفي حريز سنة ثلاث وستين ومائة، ومولده سنة ثمانين، وتوفي وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، وكان قدم بغداد وسمع بها منه العراقيون، وكان ابيض الرأس واللحية، وكان له جمة إلى شحمة أذنيه.
وقال معاوية بن عبد الرحمن الرحبي الحمصي: سمعت حريز بن عثمان يقول: لا تعاد أحداً حتى تعلم ما بينه وبين الله، فإن يكن محسناً، فإن الله لا يسلمه لعداوتك إياه، وإن يكن مسيئاً فأوشك بعلمه أن يكفيكه.
وكان حريز بن عثمان ينتقص علياً وينال منه.
قال أبو اليمان: كان حريز يتناول من رجل يعني علياً ثم ترك.
قال الخطيب: ولم يكن لحريز كتاب، وكان يحفظ حديثه، وكان ثقة ثبتاً، وحكي عنه من سوء المذهب وفساد الاعتقاد ما لم يثبت عليه.
قال معاذ: ولا أعلمني رأيت شامياً أفضل منه.
وقال أحمد: ليس بالشام أثبت من حريز. وقال في أثناء الحديث: لم يكن يرى القدر.(6/277)
ويقال في حريز مع ثبته: إنه كان سفيانياً.
وقال أبو حفص: حريز بن عثمان ثبت شديد التحامل على علي عليه السلام، وكان يشتم علياً على المنابر، وكان يقول: لا أحبه قتل آبائي. يعني علياً.
قال الحسن بن علي: قلت ليزيد بن هارون: هل سمعت من حريز بن عثمان شيئاً تنكره عليه من هذا الباب؟ قال: إني سألته ألا يذكر لي شيئاً من هذا، مخافة أن أسمع منه شيئاً يضيق على الرواية عنه. قال: فأشد شيء سمعته يقول: لنا أمير ولكم أمير. يعني لنا معاوية ولكم علي. فقلت ليزيد: فقد آثرنا على نفسه. قال: نعم.
قال إسماعيل بن عياش: عادلت حريز بن عياش من مصر إلى مكة، فجعل يسب علياً ويلعنه.
وقال يزيد بن هارون: قال حريز بن عثمان: لا أحب من قتل لي جدين.
حدث عبد الوهاب بن الضحاك عن إسماعيل بن عياش قال: سمعت حريز بن عثمان قال: هذا الذي يرونه الناس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى حق، ولكن أخطأ السامع. قلت: فما هو؟ فقال: إنما هو أنت مني بمكان قارون من موسى. قلت: عمن ترويه؟ قال: سمعت الوليد بن عبد الملك يقوله وهو على المنبر.
قال الخطيب: عبد الوهاب بن الضحاك كان معروفاً بالكذب في الرواية، فلا يصح الاحتجاج بقوله.
قال يحيى بن صالح الوحاظي وقيل: لم لم تكتب عن حريز بن عثمان؟ قال: كيف أكتب عن رجل صليت معه الفجر سبع سنين، فكان لا يخرج من المسجد حتى يلعن علياً سبعين لعنة كل يوم.
قال أحمد بن سنان: سمعت يزيد بن هارون يقول: رأيت رب العزة تبارك وتعالى فقال لي: يا يزيد تكتب من حريز بن عثمان!(6/278)
فقلت: يا رب، ما علمت منه إلا خيراً. فقال لي: يا يزيد، لا تكتب منه شيئاً، فإنه يسب علياً.
قال حوثرة بن محمد المنقري البصري: رأيت يزيد بن هارون الواسطي في المنام بعد موته بأربع ليال فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: تقبل مني الحسنات، وتجاوز عن السيئات، ووهب لي التبعات. قلت: وما فعل بك بعد ذلك؟ قال: وهل يكون من الكريم إلا الكرم، غفر لي ذنوبي وأدخلني الجنة. قلت: بم نلت الذي نلت؟ قال: بمجالس الذكر، وقولي الحق، وصدقي الحديث، وطول قيامي في الصلاة، وصبري على الفقر. قلت: منكر ونكير حق؟ قال: إي والله الذي لا إله إلا هو، لقد أقعداني وسألاني، فقالا لي: من ربك؟ وما ذنبك؟ ومن نبيك؟ فجعلت أنفض لحيتي البيضاء من التراب، فقلت: مثلي يسأل! أنا يزيد بن هارون الواسطي، وكنت في دار الدنيا ستين سنة أعلم الناس. قال أحدهما: صدق، هو يزيد بن هارون، نم نومة العروس، فلا روعة عليك بعد اليوم. قال أحدهما: أكتبت عن حريز بن عثمان؟ قال: نعم. وكان ثقة في الحديث. قال: ثقة، ولكنه كان يبغض علياً، ابغضه الله.
وقد روي أنه قد رجع عن ذلك.
قال علي بن عياش، وسأله رجل من أهل خراسان ن حريز، هل كان يتناول علياً؟ فقال علي بن عياش: أنا سمعته يقول: إن أقواماً يزعمون أني أتناول علياً، معاذ الله أن أفعل ذلك، خيبهم الله.
قال علي بن عياش: سمعت حريز بن عثمان يقول لرجل: ويحك، أما خفت الله عز وجل، حكيت عني أني أسب علياً، والله ما أسبه وما سببته قط.(6/279)
الحر بن سليمان بن حيدرة
أبو شعيب الأطرابلسي حدث عن سعد بن عبد الله بن الحكم، بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق، فلا شفعة.
الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم
ابن أبي العاص بن أمية أمره هشام بن عبد الملك على مصر سنة ست ومائة، فلم يزل عليها إلى أن وفد عليه سنة ثمان ومائة، فعزله عنها، ويقال: وفد عليه في شوال سنة سبع ومائة.
حدث موسى بن أيوب: أن الحر بن يوسف أمير مصر سأل عبد الرحمن بن عتبة عن أمة اشتراها رجلان، فوطئاها في طهر واحد، فحملت. فقال: سلا ابن خدام يعني عبد الله بن يزيد وهو قاضي المصر. فسأله، فقال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في مثل ذلك فكتب إلي عمر قال: يرثهما الولد ويرثانه. وعاقبهما.(6/280)
حزام بن هشام بن حبيش ين خالد
ابن الأشعر الخزاعي القديدي من أهل الرقم بادية بالحجاز، وفد على عمر بن عبد العزيز مع أبيه.
حدث حزام بن هشام صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتيل البطحاء يوم الفتح، عن أبيه عن جده حبيش بن خالد وهو أخو عاتكة بنت خالد، وكنيتها أن معبد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خرج من مكة خرج منها مهاجراً إلى المدينة، هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة دليلهم الليثي عبد الله بن الأريقط، فنزلوا خيمتي أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء القبة، ثم تسقي وتطعم، فسألوها لحماً وتمراً ليشتروه منها، فلم يصيبوا عندها من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين. فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شاة في كسر الخيمة قال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلّفها الجهد عن الغنم. قال: هل من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، نعم إن رأيت بها حلباً فاحلبها. فدعا بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمسح بيده ضرعها، وسمّى الله، ودعا لها في شاتها فتفاجت عليه ودرّت واجترت ودعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجّاً حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم أراضوا، ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء، حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وبايعها، فارتحلوا عنها.
فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد، يسوق أعنزاً عجافاً يتساوكن هزلاً، فلما أن رأى عند أم معبد اللبن عجب وقال: من أين لك هذا اللبن يا أم معبد، والشاء عازب، ولا خلوف في البيت؟! قالت: لا والله، إلا أنه مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا،(6/281)
فقال: صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به سفلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي لحيته كثاثة، أزج أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، حلو المنطق فصل، لا نزر ولا هذر، كأنما منطقه خرزات نظم يتحدّرن، لا تشنؤوه عين من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون، إن قال أنصتوا له، وإن أمر بادروا إلى أمره، محفود محشود.
قال أبو معبد: هو الله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر بمكة، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً، فأصبح صوت بمكة عالياً يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه يقول:
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين قالا خيمتي أمّ معبد
هما نزلاها بالهدى واهتدت به ... فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيا لقصيّ ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا يجاري وسؤدد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلّبت ... عليه صريحاً ضرّة الشاة مزبد(6/282)
فغادرها رهناً لديها لحالب ... يردّدها في مصدر ثم مورد
فلما سمع حسان بن ثابت الأنصاري الهاتف يهتف، أنشد يجاوب الهاتف ويقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيّهم ... وقدّس من يسري إليهم ويغتدي
ترحّل عن قوم فضلت عقولهم ... وحلّ على قوم بنور مجدد
هداهم به الضلالة ربهم ... وأرشدهم. من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا ... عمايتهم هاد به كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب ... ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد
ليهن أبا بكر سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ليهن بني كعب مقام فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قال حزان: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى أبي يوماً، فدعا أبي براحلة له فركب عليه، وأنا إذ ذاك غلام أعقل الكلام، فدعاني أبي فحملني خلف رجله، فخرجنا حتى إذا نحن بعمر بن عبد العزيز في جماعة من أصحابه. فسلم عليه أبي بالخلافة، فرد عليه عمر السلام. ثم قال له عمر: يا أبا حزام، أين نحن من القوم؟ فقال له أبي: كل يعمل على شاكلته، أشهد يا عمر بن عبد العزيز، لأرسل إلي عمر بن الخطاب في منزلك هذا، فرأيته في جماعة من أصحابه نزل عن راحلته، ثم حط رحله، ثم قيد راحلته كرجل من أصحابه، ثم حس ركاب القوم فوجد فيها راحلة مقارباً لها من قيدها، فأرخى لها عمر بن الخطاب، ثم أقبل يتغيظ، قال: بئس الغيظ في وجهه فقال: أيكم صاحب الراحلة، فقال رجل من القوم: أنا أمير المؤمنين. قال: بئس ما صنعت، تبيت على فؤاده تضرب صدره، حتى إذا حان رزقه جمعت بين عظمين من عظامه، فهلا كنت فاعلاً هذا يا عمر بن عبد العزيز! فبكى عند ذلك عمر بن عبد العزيز بكاء شديداً.(6/283)
وحدث حزام أيضا قال: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي، فانطلقت معه إليه، فقال له عمر: أين ترانا من القوم؟ قال: كل يعمل على شاكلته. قال: فأخبرنا عن القوم؟ قال: شهدت عمر بن الخطاب، وأتاه صاحب الصدقة فقال: إن إبل الصدقة قد كثرت، فقام عمر بناس معه، فنادى عمر على فريضة فيمن مر يزيد، وأخذ عقلها فشد به حقوه، ثم مر على المساكين، فجعل يتصدق به عليهم.
وكان حزام ينزل قديداً.
وأسلم خالد الأشعر قبل فتح مكة، وشهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الفتح، فسلك هو وكرز بن جابر غير طريق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي دخل منها مكة، فأخطأ الطريق، ولقيتهم خيل المشركين فقتلا شهيدين. وكان الذي قتل خالد الأشعر، ابن أبي الجذع الجمحي.
حزوّر ويقال نافع
ويقال سعيد ابن الحزوّر أبو غالب البصري مولى عبد الرحمن بن الخضرمي ويقال مولى خالد بن عبد الله القسري ويقال مولى بني أسد سمع بدمشق أبا أمامة الباهلي وغيره قال أبو غالب: كان أبو أمامة يسكن حمص، وكان لي صديقاً، وكان مسكني دمشق، وكان إذا جاء لحاجة بدأ فصلى في المسجد ركعتين إلى جنبي، ثم أخذ بيدي فخرجنا من المسجد، فتلقانا ستة وعشرون رأساً من رؤوس الخوارج، فيهم رأس عبد رب الصغير، ففاضت عبرته فقال: كلاب النار، وكلاب النار، شر قتلى تحت ظل السماء. ثلاث مرات.(6/284)
خير قتلى من قتلهم هؤلاء. ثلاثاً. قلت: فاضت عبرتك قال: رحمة لهم، إنهم كانوا مؤمنين. قلت: أكانوا مؤمنين؟؟؟! قال: نعم، أما تعلم الآية التي في آل عمران، إن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ وفتنة فزيغ بهم، ألا تعلم التي بعد المائة " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " فهم هؤلاء؟ قال: نعم. قلت: أشيء من رأيك أم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: إني إذاً لجريء. ثلاث مرات. سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " تفترق هذه الأمة على اثنتين أو ثلاث وسبعين فرقة شك أبو غالب كلها في النار، ليست سواد الأعظم. قلت: فقد ترى ما في سواد الأعظم؟ قال: عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم، وإن تطيعوه تهتدوا، وما على الرسول إلا البلاغ المبين. قال: الجماعة خير من الفرقة، إن هؤلاء يغضبون عليكم فيقتلونكم، أما إنكم من أهل بلدهم، فأعاذك الله أن تكون منهم.
وروى أبو غالب عن أبي أمامة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوتر بتسع حتى بدن وكثر لحمه أوتر بسبع، وصلى ركعتين وهو جالس يقرأ فيهما ب " إذا زلزلت " و" قل يا أيها الكافرون ".
وكان أبو غالب صاحب أبي أمامة يعرف بصاحب المحجن، وهو أبو حزور، بفتح الحاء المهملة والزاي وتشديد الواو.
قال أبو غالب: كنت أختلف إلى الشام في تجارة، وعظم ما كنت أختلف من أجل أبي أمامة، فإذا فيها رجل من قيس من خيار الناس، فكنت أنزل عليه، ومعنا ابن أخ له مخالف لأمره ينهاه ويضربه، فلا يطيعه، فمرض الفتى، فبعث إلى عمه فأبى أن يأتيه، فأتينا به حتى أدخلته عليه، فأقبل يشتمه ويقول: أي عدو الله الخبيث، ألم تفعل كذا؟! ألم تفعل(6/285)
كذا؟! قال: أفرغت أي عم؟ قال: نعم. قال: أرأيت لو أن الله دفعني إلى والدتي، ما كانت صانعة بي؟ قال: إذاً والله كانت تدخلك الجنة. قال: فوالله لله أرحم بي من والدتي. فقبض الفتى. فخرج عليه عبد الملك بن مروان، فدخلت القبر مع عمه، فخطوا له خطاً ولم يلحدوه. قال: فقلنا باللبن فسوينا. قال: فسقطت منها لبنة، فوثب عمه متأخر، قلت ما شأنك؟ قال: ملئ قبره نوراً، وفسح له مد البصر.
وحدث أبو غالب قال: خرجت من الشام في ناس، فنزلنا منزلاً بحضرة قرية عظيمة خربة، فدخلتها لأنظر فيها، فرأيت بيتاً مسقفاً، فيه روزنة، في الروزنة سلة، ورأيت جرة فيها ماء، ورأيت أثر وضوء. قلت لتفسي: إن لهذا البيت عامراً، هذا رجل يكون بالنهار في الجبل، ويأوي بالليل إلى هذا البيت. فقلت لأصحابي: إن لي حاجة أحب أن تبيتوني الليلة في هذا المكان. قالوا: نعم. فتأهبت حتى إذا صليت مع أصحابي المغرب. قال: فقمت وجئت حتى دخلت ذلك البيت، وجلست في ناحية البيت، حتى اختلط الظلام، فإذا أنا بشخص إنسان يجيء من نحو الجبل، فجعل يدنو حتى قام على باب البيت، فوضع يديه على عضادتي البيت، فحمد الله بمحامد حسنة، ثم سلم ودخل، فجلس ثم تناول السلة فأخذها، فوضعها بين يديه، ففتحها وأخرج منها شيئا، فوضع، ثم سمى فأكل، وجعل يحمد الله ويأكل، حتى فرغ. فلما فرغ أعاد السلة مكانها، ثم قام فأذن، ثم أقام، ثم صلى، وصليت بصلاته. فلما قضى صلاته وضع رأسه فنام غير كثير، ثم قام فخرج يتباعد، ثم رجع فاخذ الجرة فحلها، ثم جاء فأعادها مكانها، ثم توضأ، ثم جاء فقام في المسجد فكبر، ثم استعاد فقرأ، وقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة قراءة لم أسمع مثلها قط من أحد أحزن، ولا يمر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف وسأل الله الجنة، ولا يمر بآية فيها ذكر النار إلا وقف وبكى وتعوذ بالله من النار، ثم أوتر وأصبح. لما أصبح إذ ركع ركعتي الغداة، وركعت أنا، ثم أقام وصلى الغداة، وصليت بصلاته.
قال أبو غالب: ثم قمت رويداً فخرجت لم يشعر بي، ثم جئت وسلمت، فرد علي السلام قال: قلت(6/286)
أدخل؟ قال: أدخل. قال: فدخلت. فقلت له: أجنيّ أنت أم أنسي؟ قال: سبحان الله بل إنسي. قلت: فما أنزلك هاهنا؟ قال: ما لك ولذلك؟ قال: كلمته وقلبته، فجعل يكتمني أمره. قال: قلت إني بت الليلة معك في بيتك. قال: خنتني. قلت: ما خنتك. قال: قد فعلت. قلت: يرحمك الله، إني لم أصنع ذلك لبأس، إني أخوك، وإني طاب خير، وليس عليك من بأس، قال: فسكن. قلت: حدثني ممن أنت؟ قال: أنا من أهل الكوفة. قلت: مذ كم مكثت هنا؟ قال: من سبع سنين. قلت: فما عيشك؟ قال: الله يرزقني. قلت: على ذلك ما عيشك؟ قال: لا أشتهي شيئاً بالنهار إلا وجدته في سلتي. قلت: والطري؟ يعني السمك قال: والطري. قلت: كيف تصنع؟ قال: أكون في النهار في الجبل، فإذا كان الليل أويت إلى هذا البيت من السباع ومن القر. قلت: فرضيت بهذا العيش؟! قال: فكأنه غضب وقال: إن كنت لأحسبك أفقه مما أرى، ومن أعطي أفضل مما أعطيت؟! قد كفاني مؤنتي هذه، ثم أقبل علي فقال: يسرك أن لك بيديك مئة ألف؟ قلت: لا. قال: يسرك أن لك برجليك مئة ألف؟ قال: قلت: لا. قال: يسرك أن لك بعينيك مئة ألف؟ قلت: لا. قال: يسرك أن لك بسمعك مئة ألف؟ قلت: لا. قال: فمن أعطي أفضل مما أعطيت؟! قال: إن مكانك هذا منقطع من الناس، أخاف لو مرضت أو مت أن تضيع، وقد مررت بجبل كذا وكذا فرأيت فيه غاراً، وعند الغار عين تجري، وهو من القرى قريب نحو من فرسخين، فلو تحولت إليهما احب لك من مكانك هذا، وكنت تجمع بين المسلمين، ولو مرضت لم تضع، ولو مت لم تضع، قلت له: فإن عندي جبة مدرعة أحب أن تأخذها فتلبسها. قال: ما شئت. فجئت بالجبة فدفعتها إليه، فأخذها. قال: فتحول إلى المكان الذي نعته. قال: وكاتبني سبع سنين، ثم انقطع كتابه.
حسان بن أبان البعلبكي
شاعر.
قال حسان بن أبان: لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوار(6/287)
كلهن في مثل زيها تطلب صلته. فلما وقفن بين يديه قال: أيتكن حرقة؟ قلن: هذه. فقال لها: أنت حرقة؟ قالت: نعم، فما تكرارك استفهامي، إن الدنيا دار زوال، وإنها لا تدوم على حال، تنتقل بأهلها انتقالاً، وتعقبهم بعد حال حالاً، إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك، يجبى غلينا خرجه، ويطيعنا أهله، مدى المدة وزمان الدولة. فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر، فصدع عصانا، وشتت ملأنا، وكذلك الدهر يا سعد، إنه ليس من قوم عبرة إلا والدهر معقبهم عبرة. ثم أنشأت تقول:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
فأف لدنيا لا يدوم سرورها ... تقلب تارات بنا وتصرف
فقال سعد رضي الله عنه: قاتل الله عدي بن زيد، كأنه كان ينظر إليهما حيث يقول:
إن للدهر صولة فاحذرنها ... لا تبيتن قد أمنت الشرورا
قد يبيت الفتى معافى فيرزا ... ولقد كان آمناً مسرورا
وأكرمها سعد، وأحسن جائزتها. فلما أرادت فراقه قالت له: حتى أحييك بتحية أملاكنا بعضهم بعضاً، لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة، ولا زالت لكريم عندك حاجة، ولا نزع من عبد صالح نعمة إلا جعلك سبباً لردها عليه. فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر فقلن لها: ما صنع بك الأمير؟ قالت:
حاط لي ذمتي وأكرم وجهي ... إنما يكرم الكريم الكريم
وقد روي أن المغيرة بن شعبة خطب حرقة هذه، فقالت له: إنما أردت أن يقال: تزوج ابنة النعمان بن المنذر، وإلا فأي حظ لأعور في عمياء؟! ولحسان بن أبان يفخر:
نهضنا سمواً إلى المكرمات ... فصرنا سناءً بها للسناء
وأدنى مواقع أقدامنا ... إذا ما وطئنا عنان السماء
فإن شئت فاغد بنا للقراع ... وإن شئت فاغد بنا للحباء(6/288)
حسان بن تميم بن نصر
أبو الندى الصيرفي ويعرف أبوه بتميم الزيات. وكان قد ترك الصرف قبل أن يموت بمدة، وحج وحسنت طريقته، ولازم صلاة الجماعة.
حدث أبو الندى بسنده عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر أنه قال: صليت خلف أبي هريرة فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: آمين. فقال الناس: آمين، يقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، فإذا سلم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي حسان ودفن في العشرين من رجب، سنة ستين وخمس مئة.
حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام
ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وهو تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج، أبو الوليد، ويقال أبو عبد الرحمن، ويقال أبو الحسام الأنصاري الخزرجي النجاري.
شاعر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفد على عمرو بن الحارث بن أبي شمر، ووفد على جبلة بن الأيهم، ووفد على معاوية حين بويع سنة أربعين.
وأم حسان الفريعة بنت خالد بن خنيس بن لوذان بن عبد ود بن(6/289)
زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن كعب بن ساعدة، وكان حسان يعرف بابن الفريعة، وهي أمه.
حكى محمد بن سعد قال: عاش في الجاهلية ستين سنة، وفي الإسلام ستين سنة، ومات في خلافة معاوية، وهو ابن عشرين ومئة سنة.
وكان حسان بن ثابت قديم الإسلام، ولم يشهد مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشهدا، وكان يجبن. وقال بعض الناس: توفي قبل الأربعين.
عن حسان بن ثابت قال: إني والله لغلام يفعة، ابن سبع سنين أو ثمان سنين، أعقل كل ما سمعت يعني إذ سمعت يهودياً يصرخ على أطم يثرب: يا معشر يهود، إذ اجتمعوا إليه قالوا: ويلك مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي به ولد.
قال ابن إسحق: فسألت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان: ابن كم كان حسان بن ثابت مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة؟ قال: ابن ستين. وقدمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، فسمع حسان ما سمع وهو ابن سبعين.
حدث سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب مر على حسان، وهو ينشد في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانتهره عمر، فأقبل حسان فقال: كنت أنشد فيه من هو خير منك، فانطلق عمر حينئذ، وقال حسان لأبي هريرة: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يا حسان، أجب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللهم أيده بروح القدس؟ قال: اللهم، نعم.
روى البراء بن عازب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان بن ثابت: اهجهم وهاجهم وجبريل معك.(6/290)
وفي رواية عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحسان: إن روح القدس معك ما هاجيتهم.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد، ينشد عليه قائماً، ينافح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال جابر بن عبد الله: لما كان يوم الأحزاب، وردّ الله المشركين بغيظهم لم ينالوا خيراً قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يحمي أعراض المسلمين؟ قال كعب بن مالك: أنا. وقال ابن رواحة: أنا يا رسول الله. قال: إنك لحسن الشعر. وقال حسان بن ثابت: أنا، يا رسول الله. قال: نعم، اهجهم أنت، وسيعينك عليهم روح القدس.
وعن عروة قال: سببت ابن فريعة عند عائشة فقالت: يا ابن أخي، لأقسم عليك لما كففت عنه، فإنه كان ينافح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال عطاء بن أبي رباح: دخل حسان بن ثابت على عائشة بعدما عمي، فوضعت له وسادة، فدخل عبد الرحمن بن أبي بكر فقال: أجلسته على وسادة، وقد قال ما قال! فقالت: إنه - تعني كان يجيب عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويشفي صدره من أعدائه - وقد عمي، وإني لأرجو ألا يعذّب في الآخرة.
وعن عائشة قالت: مشت الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا رسول الله إن قومك قد تناولوا منا، فإن أذنت لنا أن نرد عليهم فعلنا. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أكره أن تنتصروا ممن ظلمكم، وعليكم بابن أبي قحافة، فإنه أعلم القوم بهم. قال: فمشوا إلى عبد الله بن رواحة، فقالوا: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذن لنا أن ننتصر من قريش فقل، فقال عبد الله بن رواحة في ذلك شعراً، فلم يبلغ منهم الذي أرادوا. فأتوا كعب بن مالك فقالوا له: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذن لنا أن ننتصر من قريش، فقال كعب في ذلك شعراً، هو أمتن من شعر عبد الله بن(6/291)
رواحة، فلم يبلغ منهم الذي أرادوا. فأتوا حسان بن ثابت فقالوا له، إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أذن لنا أن ننتصر من قريش، فقل: فقال حسان: لست فاعلاً حتى أسمع ذلك من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلق معهم حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله، أنت أذنت لهؤلاء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أكره أن ينتصروا ممن ظلمهم، وأنت يا حسان لن تزال مؤيداً بروح القدس ما نافحت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث الترمذي: ما كافحت.
وفي رواية أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لحسان: إني أخاف أن تصيبني معهم، تهجو من بني عمي - يعني أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب - فقال حسان: لأسلّنّك منهم سلّ الشعرة من العجين، ولي مقول ما أحب أنّ لي به مقول أحد من العرب، وإنه ليفري ما لا تفريه الحربة. قال: ثم أخرج لسانه، فضرب به أنفه، كأنه لسان شجاع، بطرفه شامة سوداء، ثم ضرب به ذقنه. قال: فأذن له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي رواية فهجاهم حسان، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد شفيت يا حسان واشتفيت.
وعن محمد بن بركة عن أمه عن عائشة أنها طافت بالبيت، فقرنت بين ثلاثة أسابيع، ثم صلت بعد ذلك ست ركعات، قالت - وذكر لها حسان بن ثابت في الطواف - قالت: فابتدرنا نسبّه، فقالت عائشة: مه، وبرأته أن يكون فيمن قال عليها، وقالت: إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بقوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فإنّ أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء(6/292)
فأنشدت عائشة هذين البيتين وهي تطوف بالبيت.
وعن مسروق قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها، وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعراً..... بأبيات له فقال:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت عائشة: لكنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له يدخل عليك؟ وقد قال الله عز وجل: " والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " فقالت: فأي عذاب أشد من العمى؟ وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن هشام بن عروة، عن أبيه أن حسان بن ثابت ذكر عند عائشة رضي الله عنها، فانتبهت فقالت: من تذكرون؟ فقالوا: حسان. قال: فنهتهم وقالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يحبه إلا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق.
وعن حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع عائشة تقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: حسان حجاز بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافق ولا يبغضه مؤمن.
وعن سعيد بن جبير قال: قيل لابن عباس: قد قدم حسان اللعين. قال: فقال ابن عباس: ما هو بلعين، قد جاهد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفسه ولسانه.
وعن محمد بن عباد عن أبيه قال: لما أنشد حسان بن ثابت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
عفت ذات الأصابع فالجواء........(6/293)
فانتهى إلى قوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جزاؤك على الله الجنة ياحسان.
وعن يزيد بن عياض بن جعدبة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة تناولته قريش بالهجاء، فقال لعبد الله بن رواحة: رد عني فذهب في قديمهم وأولهم، ولم يصنع في الهجاء شيئاً، فأمر كعب بن مالك فذكر الحرب فقال:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ... قدماً ونلحقها إذا لم تلحق
ولم يصنع في الهجاء شيئاً، فدعا حسان بن ثابت فقال: اهجهم وائت أبا بكر يخبرك بمعايب القوم، فأخرج حسان لسانه حتى ضرب به على صدره وقال: والله ما أحب أن لي به مقولاً في العرب، فصب على قريش منه شآبيب شر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اهجهم كأنك تنضحهم بالنبل.
وعن عبد الله بن بريدة: أن جبريل أعان حسان بن ثابت على مدحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبعين بيتاً.
وعن عروة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تسبوا حساناً، فإنه ينافح عن الله وعن رسوله ".
قال محمد بن المكرم: في الأصل هنا، حديث جابر بن عبد الله الأنصاري: لما جاءت بنو تميم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاعرهم وبخطيبهم، وأمر ثابت يا قيس أن يجاوب خطيبهم، وأمر حسان بن ثابت أن يجاوب شاعرهم. وقد تقدم هذا الحديث مستوفى في ترجمة الأقرع بن حابس، في حرف الألف. والله أعلم.(6/294)
حدث أبو هريرة قال: جاء الحارث الغطفاني المري إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، شاطرني تمر المدينة، ولأملأنها عليك خيلاً ورجالاً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حتى أستأذن السعود. فدعا سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة فقال: ها قد تعلمون أن العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وهذا الحارث الغطفاني يسألكم أن تشاطروه تمر المدينة فادفعوها إليه إلى يوم ما، قالوا: يا رسول الله، إن كان هذا أمراً من أمر الله عز وجل فالتسليم لأمر الله، وإن كان هذا أمراً من أمرك أو هوى من هواك، فأمرنا لأمرك تبع وهوانا لهواك تبع، وإلا فوالله لقد كنا نحن وهم في الجاهلية على سواء، ما كانوا ينالون تمرة ولا بسرة، إلا شرى أو قرى، فكيف وقد أعزنا الله بك وبالإسلام! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ها يا حارث قد تسمع. فقال: يا محمد، عذرت فأنشأ حسان يقول:
يا حار من يغدر بذمة جاره ... منكم فإن محمداً لم يغدر
وأمانة المري حيث لقيتها ... كسر الزجاجة صدعها لا يجبر
إن تغدروا فالغدر من عاداتكم ... واللؤم ينبت في أصول السخبر
قالوا: يا محمد اكفف عنا لسانه، فوالله لو مزج بماء البحر مازجه.
والسخبر حشيش ينبت حول المدينة.
حدث معن بن عيسى قال: بينما حسان بن ثابت في أطمه فارع، وذلك في الجاهلية، إذ قام من جوف الليل فصاح: يا آل الخزرج، فجاؤوه وقد فزعوا: فقالوا: مالك يابن الفريعة؟ قال: بيت قلته، فخشيت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني قالوا: وما قلت؟ قال: قلت:(6/295)
رب حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطى عليه النعيم
وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج وقد رش حسان فناء أطمه، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماطين، وبينهم جارية لحسان يقال لها شيرين، ومعها مزهر لها تغنيهم، وهي تقول في غنائها:
هل علي ويحكم ... إن لهوت من حرج
فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: لا حرج.
وعن خارجة بن زيد بن ثابت وغيره، يزيد بعضهم على بعض، وهذا لفظ ابن دريد قال: كانت مأدبة في زمن عثمان، فدعي لها الناس، وكان فيهم عدة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيهم زيد بن ثابت وخارجة بن زيد وحسان بن ثابت وعبد الرحمن بن حسان، وقد كف حسان وثقل سمعه، وكان إذا دعي قال: أخرس أم عرس أم إعذار؟ ثم يجيب. قال خارجة: فأتينا بالطعام، فجعل حسان يقول لابنه: أطعام يد أم طعام يدين؟ فإذا قيل طعام يد أكل، وإذا قيل طعام يدين أمسك. فلما فرغ القوم، بنيت له وسادة، وأقبلت الميلاء وهي يومئذ شابة، فوضع في حجرها مزهر فضربت، ثم غنت فكان أول ما بدأت بشعر حسان:
انظر حبيبي بباب جلق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
أجمال شعثاء إذ هبطن من ال ... محضر بين الكثبان فالسند
يحملن حور العيون يرفلن في الري ... ط حسان الوجوه كالبرد
من دون بصرى، وخلفها جبل الثل ... ج عليه السحاب كالقدد(6/296)
إني وأيدي المخيسات وما ... يقطعن من كل سربخ جدد
والبدن إذ قربت لمنحرها ... حلفة بر اليمين مجتهد
ما حلت عن عهد ما علمت ولا ... أحببت حبي إياك من أحد
تقول شعثاء لو صحوت عن ال ... خمر لأصبحت مثري العدد
أهوى حديث الندمان في وضح ال ... فجر وصوت المسامر الغرد
لا أخدش الخدش بالنديم ولا ... يخشى نديمي إذا انتشيت يدي
يأبى لي السيف والسنان وقو ... م لم يضاموا كلبدة الأسد
فطرب حسان وبكى وقال: لقد أراني هناك سميعاً بصيراً، وعيناه تنضحان على خديه، وهو مصغ لها. وجعل عبد الرحمن يشير إليها ويقول: أعيدي وأسمعي الشيخ. قال خارجة: فيعجبني لعمر الله ما يعجب عبد الرحمن من بكاء أبيه.
قال أبو غزية: لحسان بن ثابت مواضع، هو شاعر الأنصار، وشاعر اليمن، وشاعر أهل القرى، وأفضل ذلك كله هو شاعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير مدافع.
قال محمد بن يونس: كنا عند الأصمعي فسئل: ما أراد حسان بقوله:
أولاد جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
ما في هذا ما يمدحهم به! قال: أراد أنهم ملوك حلول في موضع واحد، وهم أهل مدر وليسوا بأهل عمد ينتقلون.
قال هشام بن محمد الكلبي: قال حسان بن ثابت الأنصاري: خرجت أريد عمرو بن الحارث بن أبي شمر الغساني، فلما كنت في بعض الطريق(6/297)
وقفت على السعلاة في جوف الليل فقالت: أين تريد يابن الفريعة؟ فقلت لها: أريد الملك. قالت: أتعرفني؟ قلت لها: لا. قالت: أنا السعلاة صاحبة النابغة، وأختي المعلاة صاحبة علقمة بن عبدة، وإني مقترحة عليك بيتاً، فإن أنت أجزته شفعت لك إلى أختي، وإن لم تجزه قتلتك. فقلت: هات. قالت:
إذا ما ترعرع فينا الغلام ... فما إن يقال له من هوه
قال: فتبعتها من ساعتي فقلت:
فإن لم يسد قبل شد الإزار ... فذلك فينا الذي لاهوه
ولي صاحب من بني الشيصبان ... فحيناً أقول وحيناً هوه
فقالت أولى لك نجوت، فاسمع مقالتي واحفظها: عليك بمدارسة الشعر، فإنه أشرف الآداب وأكرمها وأنورها، به يسخو الرجل، وبه يتظرف، وبه يجالس الملوك، وبه يخدم، وبتركه يتضع. ثم قالت: إنك إذا وردت على الملك وجدت عنده النابغة، وسأصرف عنك معرته، وعلقمة بن عبدة، وسأكلم المعلاة أختي حتى ترد عنك سورته. قال حسان: فقدمت على عمرو بن الحارث، فاعتاص علي الوصول إليه فقلت للحاجب بعد مدة: إن أنت أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها، ثم انتقلت عنها. فأذن عليه، فلما وقفت بين يديه وجدت النابغة جالساً عن يمينه، وعلقمة جالساً عن يساره، فقال لي: يابن الفريعة قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع، فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وأنت اليوم لا تحسن أن تقول:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ... يحيون بالريحان يوم السباسب
فقلت: لا بد منه. فقال: ذلك إلى عميك؛ فقلت: أسألكما بحق الملك الحراب، إلا ما قدمتماني عليكما. فقالا: قد فعلنا. فقال: هات. فأنشأت أقول والقلب وجل:(6/298)
أسالت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل
حتى أتيت على آخرها، فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن مجلسه سروراً، حنى شاطر البيت وهو يقول: هذه والله البتارة، التي قد بترت المدائح، هذا وأبيك الشعر، لا ما تعللاني به منذ اليوم، يا غلام، ألف دينار مرموجة. فأعطيت ألف دينار، في كل دينار عشرة دنانير، ثم قال: لك مثلها في كل سنة، قم يا زياد بن ذبيان، فهات الثناء المسجوع. فقام النابغة فقال: ألا انعم صباحاً أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك والأرض وطاؤك، ووالدي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك، والحكماء وزراؤك، والعلماء جلساؤك، والمقاول سمارك، والحلم دثارك، والسكينة مهادك، والصدق رداؤك، واليمن حذاؤك، والبر فراشك، وأشرف الآباء آباؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأعف النساء حلائلك، وأعلى البنيان بنيانك، وأكرم الأجداد أجدادك، وأفضل الأخوال أخوالك، وأنزه الحدائق حدائقك، وأعذب المياه مياهك، قد لازم الردن أوقك، وحالف الإضريج عاتقك، ولاوم المسك مسكك، وقابل الصرف ترائبك، العسجد قواريرك، واللجين صحافك، والشهاد إدامك، والخرطوم شرابك، والأبكار مستراحك، والصبر سواسك، والخير بفنائك، والشر في ساحة أعدائك، والذهب عطاؤك، وألف دينار مرموجة إيتاؤك، والنصر منوط بأبوابك، زين قولك فعلك، وطحطح عدوك غضبك، وهزم مغايبهم مشهدك، وسار في الناس عدلك، وسكن تباريح البلاء ظفرك، أيفاخرك ابن المنذر اللخمي! فوالله لقفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولصمتك خير من كلامه، ولأمك خير من أبيه،(6/299)
ولخدمك خير من علية قومه. فهب لي أسارى قومي، واسترهن بذلك شكري، فإنك من أشراف قحطان، وأنا من سروات عدنان.
فرفع عمرو بن الحارث رأسه إلى جارية كانت على رأسه قائمة فقالت: مثل ابن الفريعة فليمدح الملوك، ومثل زياد فليثن على الملوك.
وهذه القصيدة:
أسألت رسم الدار أم لم تسأل ... بين الجوابي فالبضيع فحومل
فالمرج مرج الصفرين فجاسم ... فديار بثنى درّساً لم تحلل
دار لقوم قد أراهم مرة ... فوق الأعزة عزّهم لم ينقل
لله درّ عصابة نادمتهم ... يوماً بجلّق في الزمان الأول
أولاد جفنة عند قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
مارية: أمهم. المفضل: الذي يفضل ما ملك. ومعنى حول قبر أبيهم: أي هم آمنون، لا يبرحون ولا يخافون كما يخاف العرب، وهم مخصبون لا ينتجعون.
يسقون من ورد البريص عليهم ... برداً يصفّق بالرّحيق السّلسل
برداً: أراد ثلجاً. يصفق: يمزج. الرحيق: الخمرة البيضاء. السلسل: تنسل في الحلق تذهب ويروى: بردى - ممال - وهو نهر.
يسقون درياق المدام ولم تكن ... تغدو ولائدهم لنقف الحنظل
أي شرابهم في الأشربة بمنزلة الدرياق في الدواء. ولم تكن تغدو ولائدهم لنقف الحنظل: أي هم ملوك يخدمون، وهم في سعة، لا يحتاجون إلى ما يحتاج إليه العرب من نقف الحنظل وغيره.(6/300)
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل
يقول: هم أصحاب كبر وتيه. والأشم: المرتفع. وإنما خص الأنف بذلك، لأن الأنفة والحمية والغضب فيه. ولم يرد بذلك طول الأنف. والعرب تقول: شمخ بأنفه. فيضرب المثل بالأنف للكبر والعزة. ومنه قوله عز وجل: " سنسمه على الخرطوم ". ومن الطراز الأول: يقول هم مثل آبائهم الأشراف المتقدمين، الذين لا تشبه خلائقهم وأفعالهم هذه الأفعال المحدثة.
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
يقول: إن منازلهم لا تخلو من الضياف والطراق والعفاة، فكلابهم لا تهر على من يقصد منازلهم. وقوله: لا يسألون عن السواد المقبل: أي هم في سعة لا يبالون كم نزل بهم من الناس، ولا يهولهم الجمع الكبير وهو السواد، إذا قصدوا نحوهم.
فلبثت أزماناً طوالاً فيهم ... ثم ادّكرت كأنني لم أفعل
أي: بقيت دهراً فيهم، ثم انتقلت فتذكرت ما كنت فيه، فكأنه شيء لم يكن، فلم يبق إلا الحديث والذكر.
إما تري رأسي تغير لونه ... شمطاً فأصبح كالثغام الممحل
يخاطب امرأة. والثغامة: شجرة بيضاء نورها وورقها كأنها القطن. شبه الشيب بها. والثغامة إذا قل المطر كان أشد لبياضها، لأنها تيبس وتجف، فيخلص بياضها ولا تخضر.
فلقد يراني الموعدي وكأنني ... في قصر دومة أو سواء الهيكل
يقول: كان يراني الذي يتوعدني ويتهددني في العز والمنعة، كأنني مع أولاد جفنة في دومة الجندل وهو منزل بالشام وأصحاب الحديث يقولونه بفتح الدال: دومة الجندل.(6/301)
وأهل الأعراب: بضم الدال. وقوله: سواء الهيكل: أي وسط الهيكل. والهيكل: بيت للنصارى يعظمونه.
ولقد شربت الخمر في حانوتها ... صهباء صافية كطعم الفلفل
يسعى عليّ بكأسها متنطف ... فيعلني منها وإن لم أنهل
المتنطف: الذي في أذنه قرط. ويروى: متنطق: أي في وسطه منطقة. فيعلني: يسقيني مرة بعد مرة. والنهل: الري هاهنا. والعلل: الشرب الثاني.
إن الذي عاطيتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
قتلت: أي صب فيها الماء فمزجت، فهاتها صرفاً غير ممزوج.
كلتاهما حلب العصير فعاطني ... بزجاجة أرخاهما للمفصل
كلتاهما: يعني، الخمر والماء. أرخاهما للمفصل: أي الصرف. والمفصل بكسر الميم: اللسان، والمفصل: واحد المفاصل.
بزجاجة رقصت بما في جوفها ... رقص القلوص براكب مستعجل
المعنى رقص مافي جوفها. ويروى قعرها.
حسبي أصيل في الكرام ومذودي ... تكوي مراسمه جنوب المصطلي
مذوده: لسانه. يقول: من اصطلى بناري، أي من يعرض لي وسمت جنبه بلساني، أي بهجائي.
ولقد تقلدنا العشيرة أمرها ... ونسود يوم النائبات ونعتلي
أي إن عشيرتهم تفوض أمرها إليهم وتطيعهم. والتقليد هاهنا: الطاعة.
ويسود سيدنا جحاجح سادة ... ويصيب قائلنا سواء المفصل
الجحاجح: السادة. فقال: سادة سادة تأكيداً. وقائلهم: خطيبهم. وسواء المفصل: وسط المفصل. والسواء: الوسط.
وتزور أبواب الملوك ركابنا ... ومتى نحكم في العشيرة نعدل(6/302)
وفتى يحب الحمد يجعل ماله ... من دون والده وإن لم يسأل
يعطي العشيرة حقها ويزيدها ... ويحوطها في النائبات المعضل
وعن صفية بنت عبد المطلب: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما خرج إلى أحد، جعل نساءه في أطم يقال له فارع، وجعل معهن حسان بن ثابت. فكان حسان ينظر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا شد على المشركين شد معه وهو في الحصن، فإذا رجع رجع، وأنه قال: فجاء إنسان من اليهود فرقي في الحصن حتى أطل علينا، فقلت لحسان: قم فاقتله. فقال: ما ذاك فيّ، لو كان فيّ ذاك كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت صفية: فقمت إليه فضربته حتى قطعت رأسه، فلما طرحته قلت لحسان: قم إلى رأسه فاطرحه على اليهود وهم أسفل الحصن. فقال: والله ما ذاك فيّ. قالت: فأخذت رأسه فرميت به عليهم فقالوا: قد والله علمنا أن هذا لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهم أحد. قالت: فتفرقوا فذهبوا.
قال: قوله يوم أحد: وهم إنما كان ذلك يوم الخندق، كما روي من وجه آخر عن صفية.
وروى ابن الكلبي: أن حسان بن ثابت كان لسنا شجاعاً، فأصابته علة أحدثت فيه الجبن، فكان بعد ذلك لا يقدر أن ينظر إلى قتال ولا يشهده.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: سنة أربع وخمسين، فيها توفي حكيم بن حزام، وحويطب بن عبد العزى، وسعد بن يربوع المخزومي، وحسان بن ثابت الأنصاري، ويقال: إن هؤلاء الأربعة ماتوا وقد بلغ(6/303)
كل واحد منهم عشرين ومئة سنة.
وقيل: توفي حسان سنة أربعين.
وقال المداتني: توفي حسان بن ثابت وهو ابن مئة وأربع سنين محجوباً.
حسان بن سليمان أبو علي الساحلي
قال حسان بن سليمان:
كنت رفيقاً لسفيان الثوري زماناً، فحبب إلي الرباط فقلت له: يا أبا عبد الله، إنه قد حبب إلي الرباط، وقد أحببت أن ترداد لي موضعاً، أحبس فيه نفسي بقية أيامي فقال لي: إن الأوزاعي بالشام فأته، فإنه لن يدخر عنك نصيحة. فأتيت بيروت فبت بها، فلما صليت الغداة مع الجماعة قلت لرجل إلى جانبي: أيهم الأوزاعي؟ فأشار إلي بيده، وكان مستقبل القبلة، وكان إذا صلى لم يلتفت عن القبلة حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت أسند ظهره إلى القبلة، فمن سأله عن شيء أجابه. فقال: إن يكن عند أحد خبر من سفيان فعند هذا الرجل، فتقدمت فسلمت عليه فقال لي: كيف تركت أخي سفيان؟ فقلت له: بخير، وهو يقرئك السلام. فقلت له: يا أبا عمرو، إني كنت رفيقاً لسفيان زماناً، وإنه حبب إلي الرباط، فسألت أن يرتاد لي موضعاً أحبس فيه نفسي بقية أيامي فقال لي: إن الأوزاعي بالشام فأته، فإنه لن يدخر عنك نصحته، فأتيتك لترتاد لي موضعاً أحبس فيه نفسي بقية أيامي. فقال: عليك بصور، فإنها مباركة، مدفوع عنها الفتن، يصبح فيها الشر فلا يمسي، ويمسي فيها الشر فلا يصبح، بها قبر نبي في أعلاها. فقلت له: يا أبا عمرو، تشير علي بسكنى صور وقد سكنت بيروت! فقال لي: سبق المقدور، ولو أني استقبلت ما استدبرت ما عدلت بها.(6/304)
حسان بن عطية
أبو بكر المحاربي مولاهم حدث حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي: أنه سأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا نكون في أرض فتصيبنا المخمصة، فنصيب الميتة فما يحل لنا منها؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا لم تغتبقوا ولم تصطحبوا ولم تجتفئوا بقلاً فشأنكم بها.
قال أبو شعيب: ليس هو كما قال تجتفئوا، وإنما هو تختفئوا بقلاً، أي تظهروه. وقد قرئ " أكاد أخفيها " أي أظهرها.
وحدث حسان بن عطية عن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الحياء والعي شعبتان من الإيمان.
وزاد في رواية: " والبذاء والبيان شعبتان من النفاق ".
كان حسان بن عطية من أهل الساحل، من أهل بيروت، مولى لمحارب، وكان قدرياً.
روي عن حسان بن عطية أنه قال: ما ابتدع قوم في ديتهم بدعة إلا نزع الله عز وجل منهم مثلها من السنة، ثم لا يردها عليهم إلى يوم القيامة.
وروى الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: امش ميلاً وعد مريضاً، امش ميلين وأصلح بين اثنين، امش ثلاثة وزر في الله.(6/305)
قال العباس بن الوليد بن صبح السلمي الدمشقي: قلت لمروان بن محمد: لا أرى سعيد بن عبد العزيز روى عن عمير بن هانئ شيئاً ولا عن حسان بن عطية؟! فقال: كان عمير بن هانئ وحسان بن عطية أبغض إلى سعيد من النار. قلت: ولم؟ قال: أو ليس هو القائل على المنبر حين بويع ليزيد يعني ابن الوليد: سارعوا إلى هذه البيعة، إنما هما هجرتان هجرة إلى الله وإلى رسوله وهجرة إلى يزيد. قال: وأما حسان بن عطية، فكان سعيد يقول: هو قدري. قال مروان: فبلغ الأوزاعي كلام سعيد في حسان فقال الأوزاعي: ما أعز سعيداً بالله، ما أدركت أحداً أشد اجتهاداً ولا أعمل منه.
وقال رجاء بن سلمة: سمعت يونس بن سيف يقول: ما بقي من القدرية إلا كبشان أحدهما حسان بن عطية.
روى الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: من أطال قيام الليل هون الله عليه قيام يوم القيامة.
وقال الأوزاعي: ما رأيت أحداً أكثر عملاً منه في الخير. يعني حسان بن عطية.
وقال الأوزاعي: كان حسان بن عطية ينتحي إذا صلى العصر في ناحية المسجد، فيذكر الله حتى تغيب الشمس.
وقال الأوزاعي: كانت لحسان غنم، فلما سمع في المنايح الذي سمع، تركها. قال الراوي: قلت للأوزاعي: كيف الذي سمع؟ قال: يوم له ويوم لجاره.
وروى الأوزاعي، عن حسان أنه كان يقول: اللهم، إني أعوذ بك من شر الشيطان، ومن شر ما تجري به الأقلام، وأعوذ بك أن(6/306)
تجعلني عبرة لغيري، وأعوذ بك أنت تجعل غيري أسعد بما آتيتني مني، وأعوذ بط أن أتغوث بشيء من معصيتك عند ضر ينزل بي، وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك، وأعوذ بك أن أقول قولاً أبتغي به غير وجهك، اللهم اغفر لي فإنك بي عالم، ولا تعذبني فإنك علي قادر.
قال الأوزاعي: قال حسان بن عطية: ما عادى عبد ربه بشيء، أشد عليه من أن يكره ذكره أو من يذكره.
سئل يحيى بن معين عن حسان بن عطية: كيف حاله؟ فقال: ثقة.
حسان بن فروخ
من أهل البصرة وفد على عمر بن عبد العزيز.
قال حسان بن فروخ: سألني عمر بن عبد العزيز عما يقول الأزارقة، فأخبرته. فقال: ما يقولون في الرجم؟ قلت: يكفرون به. قال: الله أكبر، كفروا بالله ورسوله. ثم ذكر حديث ماعز بن مالك.(6/307)
حسان بن كريب بن ليشرح
ابن عبد كلال بن عريب بن شرحبيل بن يريم بن فهد بن معد يكرب بن أبي شمّر بن أبي كرب بن شراحيل بن معد يكرب بن فهد بن عريب بن شمّر بن يرعش بن مالك بن مرثد بن نتوف بن هاعان بن شراحيل بن الحارث بن زيد بن ذي شوب أبو كريب الرّعيني المصري.
حدث حسان بن كريب قال: سمعت أبا ذر، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيكون بمصر رجل من قريش أخنس، يلي سلطاناً، ثم يغلب عليه - أو ينزع منه، فيفرّ إلى الروم، فيأتي بهم إلى الإسكندرية، فيقاتل أهل الإسلام بها، فتلك أولى الملاحم.
وفي رواية: سيكون بمصر رجل من بني أمية أخنس، يلي سلطاناً. وساق الحديث.
حدث حسان بن كريب، عن علي بن أبي طالب، أنه كان يقول: القائل الفاحشة والذي يسمع لها في الإثم سواء.
حدث حسان بن كريب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأله: كيف تحسبون نفقاتكم؟ قال: قلنا: إذا قفلنا من الغزو وعددناها بسبع مئة، وإذا كنا في أهلينا عددنا بعشرة. فقال عمر: قد استوجبتموها بسبع مئة، إن كنتم في الغزو وإن كنتم في أهليكم.
هاجر حسان بن كريب في خلافة عمر بن الخطاب، وشهد فتح مصر.(6/308)
حسان بن مالك بن بحدل بن أنيف
ابن دلجة بن قنافة بن عدي بن زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف ابن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة أبو سليمان الكلبي زعيم بني كلب ومقدمهم. شهد صفين مع معاوية، وكان على قضاعة دمشق يومئذ، وكان له مقدار ومنزلة عند بني أمية، وهو الذي قام بأمر البيعة لمروان بن الحكم، وقد كان يسلم عليه بالإمرة قبل ذلك أربعين ليلة، وكان له شعر، وداره بدمشق، وهي قصر البحادلة التي تعرف اليوم بقصر ابن أبي الحديد، أقطعه إياها معاوية.
قال خليفة بن خياط: مات يزيد يعني ابن معاوية وعلى الأردن حسان بن مالك بن بحدل، وضمّ إليه فلسطين، فولى حسان بن مالك روح بن زنباع فلسطين.
حدث عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: سلّم على حسان بن مالك بن بحدل أربعين ليلة بالخلافة، ثم سلمها إلى مروان وقال:
فإلاّ يكن منّا الخليفة نفسه ... فما نالها إلاّ ونحن شهود
وقال بعض الكلبيين:
نزلنا لكم عن منبر الملك بعدما ... ظللتم وما إن تستطيعون منبرا
قال عبد الله بن صالح: كان يقال: لم تهيّج الفتن بمثل ربيعة، ولم تطلب التّرات بمثل تميم، ولم يؤيّد الملك بمثل كلب، ولم ترع الرعايا بمثل ثقيف، ولم يجب الخراج بمثل اليمن.(6/309)
قال رجاء بن أبي سلمة: خاصم حسان بن مالك عجم أهل دمشق إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسة، كان فلان - وسمى رجلاً من الأمراء - أقطعه إياها. فقال عمر: إن كانت من الخمس عشرة كنيسة التي في عهدهم فلا سبيل إليها.
الحسن بن أحمد بن جعفر
أبو القاسم البغدادي الصوفي سمع بدمشق وببغداد حدث عن أبي بكر عبد الله بن محمد بن زياد الخراساني قال: سمعت المزني يقول: سمعت الشافعي يقول: من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلم اللغة رقّ طبعه، ومن تعلم الحساب تجزل رأيه، وكتب الحديث قويت حجته، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه.
الحسن بن أحمد بن أبي حازم
حدث بدمشق عن محمد بن يوسف الفريابي بسنده إلى ابن عباس قال: شرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ماء زمزم وهو قائم.
الحسن بن أحمد بن الحسن
ابن أحمد بن ربيعة بن سلام بن عبيد الله أبو علي الهمذاني المقرئ المعروف بأبي الناغس حدث عن أبي عمرو محمد بن عبد الله السوسي بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: الصلوات والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر.
توفي أبو الناغس في دمشق في شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة.(6/310)
الحسن بن أحمد بن أبي سعيد
الجنّابي القرمطي واسمه الحسن بن بهرام ويقال الحسن بن أحمد بن الحسن بن يوسف بن كوذربار يقال أصله من الفرس أبو محمد القرمطي المعروف بالأعصم
ولد بالأحساء في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومئتين، وغلب على الشام في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وثلاث مئة، وولى على دمشق وشاحاً السلمي، ثم رجع إلى الأحساء في صفر سنة ثمان وخمسين وثلاث مئة، ثم خرج إلى الشام بابنه فدخل دمشق في ذي القعدة سنة ستين، وكسر جيش جعفر بن فلاح وقتل جعفراً الذي كان افتتح دمشق للمصريين، ورحل عنها في ذي القعدة الدلجة، وتوجه إلى مصر فحصرها في ربيع الأول سنة إحدى وستين شهوراً، واستخلف على دمشق ظالم بن مرهوب العقيلي، ثم توجه راجعاً إلى الأحساء في ربيع الأول سنة إحدى وستين، ثم رجع إلى الشام، ومات بالرملة في رجب سنة ست وستين وثلاث مئة، وهو إذ ذاك يظهر طاعة عبد الكريم الطائع لله بن المطيع.
قال أبو عبد الله الحسين بن عثمان الخرقي الفارقي الحنبلي التميمي: كنت بالرملة سنة ست وخمسين وثلاث مئة، وقد ورد إليها أبو علي القرمطي القصير الثياب، فاستدناني منه وقربني إلى خدمته، فكنت ليلة عنده إذ أحضر الفراشون الشموع، فقال لأبي نصر بن كشاجم - وكان كاتبه - يا أبا نصر، ما يحضرك في صفة هذه الشموع، فقال: إنما نحضر في مجلس السيد لنسمع من كلامه ونستفيد من أدبه. فقال أبو علي في الحال بديهاً:
ومجدولة مثل صدر القناة ... تعرت وباطنها مكتس(6/311)
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على هيئة البرنس
إذا غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
وإن رنقت لنعاس عرا ... وقطت من الرأس لم تنعس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياء يجلي دجى الحندس
فنحن من النور في أسعد ... وتلك من النار في أنحس
فقام أبو نصر بن كشاجم، وقبل الأرض بين يديه، وسأله أن يأذن له في إجازة الأبيات فأذن له، فقال:
وليلتنا هذه ليلة ... تشاكل أشكال إقليدس
فيا ربة العود حثي الغناء ... ويا حامل الكأس لا تحبس
فتقدم بأن يخلع عليه، وحمل إليه صلة سنية، وإلى كل واحد من الحاضرين.
ومن مختار شعر الحسن بن أحمد الأعصم:
يا ساكن البلد المنيف تعززاً ... بقلاعه وحصونه وكهوفه
لا عز إلا للعزيز بنفسه ... وبخيله وبرجله وسيوفه
وبقبة بيضاء قد ضربت على ... شرف الخيام لجاره وحليفه
قرم إذا اشتد الوغى أردى العدا ... وشفى النفوس بضربه ووقوفه
لم يرض بالشرف التليد لنفسه ... حتى أشاد تليده بطريفه
وقوله في علته:
ولو أني ملكت زمام أمري ... لما قصرت عن طلب النجاح
ولكني ملكت فصار حالي ... كحال البدن في يوم الأضاحي
يقدن إلى الردى فيمتن كرهاً ... ولو يسطعن طرن مع الرياح(6/312)
الحسن بن أحمد بن الحسن بن سعيد
أبو محمد الصيداوي البزاز سمع بدمشق.
حدث بصيدا، عن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أحمد بن طبيز الحلبي، بسنده عن أم سلمة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، قاتلك في النار.
الحسن بن أحمد بن الحسين
ويقال ابن الحسن أبو علي المصيصي الوراق الخواص حدث في مسجد باب الجابية قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمر الغلقي بجامع طرسوس قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهاشمي الرقي بالرملة قال: دخلت في بلاد الهند إلى بعض قراها، فرأيت شجر ورد أسود، يتفتح عن وردة كبيرة طيبة الرائحة سوداء، عليها مكتوب - كما تدور - بخط أبيض: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق، عمر الفاروق. فشككت في ذلك وقلت: إنه عمل معمول، فعمدت إلى جنبذة لم تفتح، ففتحتها فكان فيها وردة سوداء، فيها مكتوب خط أبيض، كما رأيت في سائر الورود، وفي البلد منه شيء كثير عظيم، وأهل تلك القرية يعبدون الحجارة، لا يعرفون الله عز وجل.(6/313)
الحسن بن أحمد بن صالح
أبو محمد السبيعي الكوفي الحافظ قدم دمشق وذاكر بها.
حدث عن عبد الله بن إسحق بن أبي مسلم الصفري، بسنده عن أبي موسى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها فرطاً وسلفاً بين يديها، وإذا أراد هلاكها عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره ".
توفي أبو محمد السبيعي يوم الاثنين سابع عشر ذي الحجة، سنة إحدى وسبعين وثلاث مئة.
الحسن بن أحمد بن عبد الواحد
ابن محمد بن أحمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان أبو عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الحديد السلمي الخطيب المعدل حكم بين الناس بدمشق حين عزل القاضي الغزنوي، إلى حين وصول الشهرستاني من الحج، أيام تاج الدولة.
حدث عن أبي الحسن علي بن موسى بن الحسن بن السمسار بسنده أن أبا يونس مولى عائشة أخبر: أنه سمع عائشة تقول: أتى رجل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله، فقالت عائشة: وأنا وراء الباب أسمع: فقال: يا رسول الله، إني أدركتني صلاة الصبح وأنا جنب، وكنت أريد الصيام، أفأصوم؟ فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، " قد تدركني صلاة الصبح وأنا جنب، ثم أغتسل وأصبح صائماً ". فقال: يا رسول الله، إني لست كهيئتك، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعرفكم بما أتقي ".(6/314)
ولد القاضي أبو عبد الله الخطيب في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربع مئة، وتوفي سنة اثنتين وثمانين وأربع مئة بدمشق في ذي الحجة.
الحسن بن أحمد بن عمير بن يوسف
ابن جوصا أبو محمد بن أبي الحسن حدث الحسن بن أحمد سنة خمس وأربعين وثلاث مئة عن أحمد بن أنس بسنده عن ابن عباس أنه قال: تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حراماً وبنى بها حلالاً وماتت بسرف فذلك قبرها تحت السقيفة. يعني ميمونة.
الحسن بن أحمد بن غطفان بن جرير
أبو علي الفزاري حدث عن عمه جرير بن غطفان، بسنده عن أبي هريرة، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا اختلفتم في طريق، فعرضه سبعة أذرع ".
وحدث الحسن بن أحمد، عن أبي عتبة أحمد بن الفرج، بسنده عن عمير بن هانئ العبسي قال: سمعت ابن عمر يقول: توشك المنايا أن تسبق الوصايا.
وحدث الحسن بن أحمد عن ربيعة بن الحارث، بسنده عن عبادة بن نسي قال: حج عيسى بن مريم على ثور.
توفي أبو علي الحسن بن أحمد بدمشق، سنة اثنتين وعشرين وثلاث مئة.(6/315)
الحسن بن أحمد بن محمد بن بكار
ابن بلال أبو علي العاملي حدث عن جده محمد بن بكار بن بلال، بسنده عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الولاء.
وفي حديث آخر، أراه قال: وعن هبته.
توفي الحسن بن أحمد في صفر، سنة خمس وسبعين ومئتين.
الحسن بن أحمد بن محيميد
أبو محمد الحمصي حدث عن بعض شيوخه، عن شيخ له: أنه خرج في نزهة ومعه صاحب له، فبعثه في حاجة، فأبطأ عليه فلم يره إلى الغد، فجاء إليه وهو ذهل العقل، فكلموه فلم يكلمهم إلا بعد وقت، فقالوا له: ما شأنك وما قصتك؟ فقال: إني دخلت إلى بعض الخراب أبول فيه، فإذا حية فقتلتها، فما هو إلا أن قتلتها حتى أخذني شيء فأنزلني في الأرض، واحتوشتني جماعة فقالوا: هذا قتل فلاناً. فقالوا: نقتله. فقال بعضهم: امضوا به إلى الشيخ. فمضوا بي إليه، فإذا شيخ حسن الوجه كبير اللحية أبيضها، فلما وقفنا قدامه قال: ما قصتكم؟ فقصوا عليه القصة. فقال: في أي صورة ظهر؟ قالوا: في حية. فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لنا ليلة الجن: " ومن تصور منكم في صورة غير صورته فقتل فلا شيء على قاتله ". خلوه. فخلوني.(6/316)
الحسن بن أحمد بن أبي البختري
وهب بن وهب القرشي الصيداوي خطيب صيدا.
حدث على باب منزله سنة خمس وثلاث مئة إملاء من حفظه، عن يونس بن عبد الأعلى، بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرزق إلى بيت فيه السخاء أسرع من الشفرة إلى سنام البعير.
الحسن بن أحمد أبو علي القلانسي
قال: سمعت ابن الطرائفي يدور بدمشق وأنا صبي، فيترحم على أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويذكر الفضيل، ويذكر عائشة، ومعاوية ويترحم عليهما، ويقول: الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والقرآن كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، والخير والشر من الله، وإن الله عز وجل يرى في القيامة لا يشكون في رؤيته، ولا يضامون في رؤيته، وإن نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطى الشفاعة في المذنبين من أمته.
الحسن بن إبراهيم بن الأصبغ
أبو علي البجلي العكاوي حدث بصيدا، عن أبي الدرداء عبد الوهاب بن محمد بن أبي قرة مولى عثمان بن عفان العكي، بسنده عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لعثرة في كد حلال على عيل محجوب أفضل عند الله من ضرب بسيف حولاً كاملاً لا يجف دماً مع إمام عادل.(6/317)
الحسن بن إبراهيم بن عثمان
أبو محمد العماني القاضي قدم دمشق وسمع بها، سنة ست وثمانين وثلاث مئة.
حدث عن محمد بن عبد الله الربعي، بسنده عن ابن عمر، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار.
وفي رواية: ينفقه في طاعة الله عز وجل.
الحسن بن إبراهيم بن محمد
ابن عبد الله بن أحمد أبو علي السلمي الصائغ: حدث عن أبي الحسن أحمد بن محمد بن سلامة الطحان بسنده عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: أنا أول من سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينهى أن تستقبل القبلة بغائط أو بول. قال: فخرجت إلى الناس فأخبرتهم.
الحسن بن إبراهيم بن يوسف بن حلقوم
أبو علي المقرئ حدث عن إبراهيم بن هشام الغساني بسنده عن أبي الدرداء قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فإن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعبد الله بن رواحة.(6/318)
وحدث عنه أيضاً بسنده عن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر.
وحدث أيضاً عن هشام بن عمار بسنده عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو أن أحدكم إذا عاد مريضاً لم يحضر أجله قال: أسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، إلا شفاه الله عزّ وجلّ.
وفي حديث عن عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عاد مريضاً وضع يده على بعضه وقال: أذهب الباس ربّ الناس، واشف أنت الشافي شفاء لا يغادر سقماً.
الحسن بن أسامة بن زيد بن حارثة
ابن شراحيل الكلبي يعد في أهل المدينة.
حدث عن أبيه قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشتملاً على الحسن والحسين وهو يقول: هذان ابناي وابنا فاطمة، اللهم إنك تعلم أني أحبهما فأحبهما.
وفي حديث آخر يرويه عن أبيه أيضاً قال: طرقت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة لحاجة، فخرج وهو مشتمل على شيء لا أدري ما هو. فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فإذا هو حسن وحسين على وركيه فقال: هذان ابناي وابنا ابنتي. اللهم، إنك تعلم أحبهما فأحبهما. ثلاث مرات.
أخرجه الترمذي في جامعه.
خرج أسامة إلى وادي القرى إلى ضيعة له فتوفي بها، وخلّف في المزة ابنة له يقال لها فاطمة، ولم تزل مقيمة إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز، فجاءت فدخلت عليه،(6/319)
فقام من مجلسه وأقعدها فيه. وقال لها: حوائجك يا فاطمة. قالت: تحملني إلىأخي. فجهزها وحملها، وخلفت قوماً من بني الشجب في ضيعتها، إلى أن قدم الحسن بن أسامة فباعها.
قال محمد بن عمر: خاصم ابن أبي الفرات مولى أسامة بن زيد الحسن بن أسامة بن زيد ونازعه، فقال له ابن أبي الفرات في كلامه: يا بن بركة - يريد أم أيمن - فقال الحسن: اشهدوا. ورفعه إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو يومئذ قاضي المدينة، أو وال لعمر بن عبد العزيز، وقصّ عليه قصته. فقال أبو بكر لابن أبي الفرات: ما أردت إلى قولك بابن بركة؟ قال: سميتها باسمها. قال أبو بكر: إنما أردت بهذا التصغير بها، وحالها من الإسلام حالها، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لها: يا أمّه، ويا أم أيمن لا أقالني الله إن أقلتك. فضربه سبعين سوطاً.
الحسن بن إسحاق بن إبراهيم بن زيد
أبو محمد الأصبهاني المعدل رحّال اجتاز بدمشق أو بساحلها، وسمع ببيت المقدس وبحمص.
حدث عن الفضل بن مهاجر ببيت المقدس بسنده عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على كل مسلم في كل يوم صدقة. قلنا: ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: السلام على المسلم صدقة، وعيادتك المريض صدقة، وصلاتك على الجنازة صدقة، وإماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وعونك الضعيف صدقة.
توفي أبو محمد المعدل سنة سبعين وثلاث مئة في ذي الحجة.(6/320)
الحسن بن إسحاق بن إبراهيم
أبو الفتح البرجي الأصبهاني المستملي سمع بدمشق وبأصبهان وبالعراق والحجاز.
حدث عن أحمد بن محمد بن إسماعيل الدمشقي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن العبد ليعمل الذنب، فإذا ذكره أحزنه، وإذا نظر الله إليه قد أحزنه غفر له ما صنع، قبل أن يأخذ في كفارته بلا صلاة ولا صيام ".
توفي بعد السبعين وثلاث مئة.
الحسن بن إسحاق بن بلبل
أبو سعيد المعرّي القاضي سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن أبي عبد الله السوابيطي محمد بن أحمد بن موسى بسنده عن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه أعزّ من ثلاثة: أخ يستأنس به، أو سنّة يعمل بها، أو درهم حلال.
وحدث عن السريّ بن سهل بسنده عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من اشتاق إلى الجنة سارع إلى الخيرات، ومن أشفق من النار لها عن الشهوات، ومن ترقب الموت هانت عليه اللذات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات.
كان ابن بلبل حيّاً سنة إحدى وخمسين وثلاث مئة.(6/321)
الحسن بن أشعث بن محمد بن علي
أبو علي المنبجي سمع ببعلبك.
حدث الحسن بن أشعث المنبجي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مطل الغني ظلم.
الحسن بن إلياس أبو عليّ
حدث عن أبي أمية بسنده عن ابن ثوبان قال: ما ينبغي أن يكون أحد أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرون من حسن مسجدهم.
الحسن بن بلال نسب إلى جد أبيه
وهو الحسن بن محمد بن بكار بن بلال حدث عن هشام بن عمار بسنده أن عمر بن الخطاب كتب إلى معاذ بن جبل بكتاب، فأجابه معاذ بن جبل، فكان كتابه إليه: " من معاذ بن جبل إلى عمر بن الخطاب.
وحدث عن محمد بن بكار بسنده عن أنس بن مالك، أن ثمانية نفر من عكل اجتووا المدينة، فشكوا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرهم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة، فيشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فلما صحّوا وسمنوا قتلوا رعاتها، واستاقوها فلحقوا بالمشركين، فأنزل الله فيهم ما أنزل، فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم تركهم ولم يحبسهم.(6/322)
الحسن بن بلال أبو علي المقرئ
حدث عن أحمد بن علي بن سعيد القاضي بسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرّ على بغلة شهباء بحائط لبني النجار، فحاصت البغلة، فإذا بقبر يعذّب صاحبه فقال: لولا ألا تدافنوا لدعوت الله عز وجلّ أن يسمعكم عذاب القبر
الحسن بن جرير بن عبد الرحمن
أبو علي الصوري البزار الزّنبقي قدم دمشق سنة ثلاث وثمانين ومئتين.
حدث عن سعيد بن منصور بسنده عن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خياركم من تعلم القرآن وعلمه. " وأخذ بيدي فأجلسني في مكاني هذا.
وحدث عن أبي الجماهر بسنده عن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بالهدية صلة بين الناس ويقول: " لو قد أسلم الناس تهادوا من غير جوع.
الحسن بن جعفر بن حمزة بن المحسّن
ابن عثمان بن الحسن بن الحسن بن أبي سعيد أبو محمد الأنصاري البعلبكي المعروف بابن بريك ذكر أنه من ولد النعمان بن بشير قدم دمشق غير مرة، وعاد إلى بعلبك.
ومن شعره:(6/323)
قابل البلوى إذا ... حلّت بصبر ومسرّه
فلعلّ الله أن يو ... ليك بعد العسر يسره
كم عهدنا نكبة حلّ ... ت فولّت بعد فتره
لن ينال الحازم النّد ... ب منى نفس بقدره
لا ولا يدفع عنه ... من صروف الدّهر ذرّه
كلّ يوم آب من دن ... ياك بؤس ومضرّه
والليالي ناتجات ... للورى هما وحسره
كان بعض أهل بعلبك يتهم أبا محمد بمذهب الروافض، فحدث أنه رأى في جمادى الأول سنة وأربعين وخمس ومئة، كأن الحاجب عطاء في الميدان الأخضر، خارج باب همذان ببعلبك، وحوله من جرت العادة بحضورهم، وهو في جملة الناس، وكان قد أتي ببساط، فبسط له، وطرح عليه طراحة فجلس عليها، فإذا بأربعة مشايخ قد حضروا، فجلس اثنان عن يمين الحاجب عطاء، واثنان عن شماله بعد أن سلموا عليه وأقبلوا بوجوههم إليه، وكأنه قد أتي بكرسي شبيه بكرسي الوعظ، فأخذوا بيد الحاجب ورفعوه عليه، فلما استقر على الكرسي حمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتأم في الميدان خلق لا يحصى، فقال: " معاشر الناس، الدنيا فانية والآخرة باقية ". فدخلت ريح تحت الكرسي فرفعته، ثم تكلم بكلام لم أحفظه، والناس يضجون بالدعاء ويكثرون البكاء، ثم نزل الكرسي، وأنزل الحاجب عنه، فقعد دون المرتبة، وجلس الشيوخ عليها. فسألت بعض الشيوخ عن أحدهم فقال: هذا هو المشرع، وأومأ بيده إلى رجل حسن الصورة، ثم أخذ بيدي فقال: مدّ يدك فصافحه، فصافحته ثم قلت: يا شيخ، - للذي سألته - من هؤلاء القوم؟ فقال: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وهذا محمد بن إدريس الشافعي. فما استتم كلامه حتى حضر شيخ عليه سكينة ووق (ار، فنهضوا له ورفعوا قدره، فسألت الشيخ عنه فقال: هذا علي بن أبي طالب. فأومأ المشرع إلى الحاجب عطاء، فتقدم إليه، ثم تحدث معه فالتفت إلي وقال: يا فلان، ألم تقل: إن هؤلاء القوم كانوا مختلفين بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: بلى. فأومأ إليهم فقال: ألم يكن كذلك؟ فقالو بأجمعهم: لا. ثم(6/324)
أومأوا إليّ فقالوا: عليك بمذهب الشيخ، عليك بمذهب الشيخ، ولازم الماء والمحراب والسلام. ثم انتبهت وكأنني مرعوب، ثم شكرت الله بعد ذلك شكراً زائداً، ولزمت ما قال، والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً.
توفي أبو محمد في المحرم سنة اثنتين وخمسين وخمس مئة.
الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد
ابن الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد أبو محمد الديبلي ثم البغدادي الأديب قدم دمشق وحدث بها وبمصر.
حدث عن علي بن محمد بن سعيد الموصلي، بسنده أن عمر بن الخطاب قال: لو أتيت براحلتين، راحلة شكر وراحلة صبر، لم أبال أيّهما ركبت.
وحدث عنه أيضاً بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من عمّره الله عز وجل ستين سنة، فقد أعذر إليه في العمر.
ذكر الحسن بن حامد، أن المتنبي لما قدم بغداد نزل عليه، وأنّه كان القيم بأموره، وأن المتنبي قال له: لو كنت مادحاً تاجراً لمدحتك.
وكان الحسن بن حامد صدوقاً، وكان تاجراً مموّلاً، وإليه ينسب خان ابن حامد الذي في درب الزعفراني ببغداد.
توفي الحسن بن حامد في شوال سنة سبع وأربع مئة.
ومن شعره:
شربت المعالي غير منتظر بها ... كساداً ولا سوقاً يقوم لها أخرى
وما أنا من أهل المكاس وكلّما ... توفّرت الأثمان كنت لها أشرى(6/325)
الحسن بن حبيب بن عبد الملك
ابن حبيب أبو علي الفقيه الشافعي المعروف بالحصائري إمام مسجد باب الجابية، أحد الثقات الأثبات. سمع بمصر وبالشام وبمكة.
قال الحسن بن حبيب: قرئ على العباس بن مزيد بسنده قال: قالت عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لو رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أحدث النساء بعده، لمنعهن الخروج إلى المساجد، كما منعه نساء بني إسرائيل ".
ولد الحسن بن حبيب سنة اثنتين وأربعين ومئتين، وتوفي سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة. وكان حافظاً لمذهب الشافعي رحمه الله، وحدث بكتاب الأمّ كلّه.
الحسن بن حجاج بن غالب بن عيسى
ابن جرير بن حيدرة أبو علي الطبراني الزيات سكن أنطاكية وحدث بدمشق وبمصر.
حدث عن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حبّ علي يأكل الذنوب، كما تأكل النار الحطب.
وحدث عن محمد بن عمران بن سعيد الأشقاتي بأنطاكية بسنده عن أحمد بن عبد الله العامري قال:
سألت راهباً على عمود فقلت له: يا راهب، ما أقعدك على هذا العمود، في قفر على عمود صخر، لا أنيس لك؟ قال: فقال لي: يا عربي بل الله ساكن السماء هو يعلم موضع المذنبين من خلقه، أو ليس هو صاحب يوسف في قعر الجب، وصاحب إبراهيم في(6/326)
النار، ينظر إليها الجهال ناراً تأجج، وأهل السماء ينظرون إليها روضة خضراء! ثم سكت.
قدم دمشق من أنطاكية سنة سبع وأربعين وثلاث مئة.
الحسن بن الحرّ بن الحكم
أبو محمد ويقال أبو الحكم النخعي ويقال الجعفي الكوفي ويقال إنه مولى بني الصيداء وهم من بني أسد بن خزيمة قدم دمشق لأجل التجارة وحدّث بها، وهو ابن أخت عبيدة بن أبي لبابة وخال حسين بن علي الجعفي.
روى الحسن بن الحر عن القاسم بن مخيمرة أنه سمعه يقول: أخذ علقمة بيدي، وأخذ ابن مسعود بيد علقمة، وأخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيد ابن مسعود في التشهد: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال ابن مسعود: إذا فرغت من هذا، فقد فرغت من صلاتك، فإن شئت فاثبت، وإن شئت فانصرف.
قال أبو أسامة: استقرض معاوية أبو زهر من الحسن بن الحر أو الحر خمسة آلاف درهم، فلما تيسرت عنده أتاه بها، فأبى أن يقبلها فقال له: يا أخي، ما المذهب في هذا وأنا عنها غني؟ قال: العق بها زبداً وعسلاً.
قال أبو أسامة: أوصى عبدة بن أبي لبابة للحسن بن الحر بجارية كانت له عند موته، قال: فمكثت عند الحسن دهراً لا يطأها، فقيل له في ذلك فقال: إني كنت أنزل عبدة مني بمنزلة الوالد، فأنا أكره أن أطلع مطلعاً اطلعه.(6/327)
قال حسين بن علي الجعفي: كان الحسن بن الحر يجلس على بابه، فإذا مرّ به البائع يبيع الملح أو الشيء اليسير لعل الرجل يكون رأسماله درهماً أو درهمين، فيدعوه فيقول: كم رأسمالك؟ وكم عيالك؟ فيخبره. فيقول: درهم أو درهمان أو ثلاثة. فيقول: إن أعطاك إنسان خمسة دراهم تأكلها؟ فيقول: لا. فيعطيه خمسة دراهم، فيقول: هذه اجعلها رأس مالك واشتر بها وبع. ويعطيه خمسة أخرى فيقول: اشتر بهذه لأهلك دقيقاً ولحماً وتمراً، وأوسع عليهم حتى يأكلوا ويشبعوا، ويعطيه خمسة أخرى فيقول: هذه اشتر بها قطناً لأهلك، ومرهم فليغزلوا، وبع بعضه واحبس بعضه، حتى يكون لهم به مرفق أيضاً. أو كما قال، وإذا مر به إنسان مخرق الجيب قال له: يا هذا، هاهنا، ثم دعا له إبرة وخيطاً، فخيط بها جيبه. وإن كان مقطوع الشراك دعا له بإشفى، فأصلحه.
وكان الحسن بن الحر ثقة.
قال محرز بن حريث: كتب الحسن بن الحر إلى عمر بن عبد العزيز: إني كنت أقسم زكاتي في إخواني، فلما وليت رأيت أن أستأمرك. قال: فكتب إليه أما بعد، فابعث إلينا بزكاة مالك، وسم لنا إخوانك نعنهم عنك، والسلام عليك.
توفي الحسن بن الحر بمكة سنة ثلاث وثلاثين ومئة.
الحسن بن الحسن بن أحمد
أبو الفضائل بن أبي علي الكلابي المؤدب الماسح إمام مسجد سوق اللؤلؤ، كان يكتب له في تسميعاته: الطائي، ثم كتب الكلابي بأخرة، وكان ثقة صدوقاً عالماً بالحساب ومساحة الأرضين، وعليه كان الاعتماد في القسمة.(6/328)
روى عن أبي بكر الخطيب بسنده عن ابن عباس قال: إنما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأن يعير أحدكم أخاه أرضه، خير له من أن يأخذ عليها كذا وكذا لشيء معلوم ".
ولد الحسن بن الحسن سنة إحدى وأربعين وأربع مئة بدمشق، وتوفي في رجب سنة سبع عشرة وخمس مئة.
الحسن بن الحسن بن علي
ابن أبي طالب عليه السلام أبو محمد الهاشمي المديني حدث الحسن بن الحسن عن أبيه، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه.
وحدث أن رجلاً وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو لله ويصلي عليه، فقال حسن للرجل: لا تفعل، فإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني ".
وحدث الحسن بن الحسن عن فاطمة عليها السلام قالت:
دخل عليّ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكل عرقاً، فجاء بلال بالأذان فقام ليصلي، فأخذت بثوبه فقلت: يا أبه ألا تتوضأ! فقال: مم أتوضأ يا بنية؟ فقلت: مما مست النار. فقال لي: أو ليس أطيب طعامكم ما مسته النار!.
وأم حسن بن حسن بن علي خولة بنت منظور بن زبان بن سيار من بني فزارة، كان الحسن بن علي خلف على خولة حين قتل محمد بن طلحة، زوّجه إياها عبد الله بن الزبير، وكان عنده أختها لأمها وأبيها تماضر بنت منظور بن زبّان، وهي أم بنيه حبيب(6/329)
وحمزة وعباد وثابت بني عبد الله بن الزبير، فبلغ ذلك منظور بن زبّان فقال: مثلي يفتأت عليه ببنيته! فقدم المدينة فركز راية سوداء في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يبق قيسي بالمدينة إلا دخل تحتها، فقيل لمنظور: أين يذهب بك تزوجها الحسن بن علي، وزوجها عبد الله بن الزبير. فملكه الحسن أمرها، فأمضى ذلك التزويج. وفي ذلك يقول حفير العبسي:
إن الندى من بني ذبيان قد علموا ... والجود في آل منظور بن سيار
الماطرين بأيديهم ندىً ديماً ... وكل غيث من الوسمي مدرار
تزور جارتهم وهناً هديتهم ... وما فتاهم لها وهنا بزوار
ترضى قريش بهم صهراً لأنفسهم ... وهم رضىً لبني أخت وأصهار
قال الزبير بن بكار: كان الحسن بن الحسن وصي لأبيه، وولي صدقة علي بن أبي طالب في عصره، وكان حجاج بن يوسف قال له يوماً، وهو يسايره في موكبه بالمدينة، وحجاج يومئذ أمير المدينة: أدخل عمك عمر بن علي معك في صدقة علي، فإنه عمك وبقية أهلك، قال: لا أغير شرط علي، ولا أدخل فيها من لم يدخل. قال: إذاً أدخله معك. فنكص عنه الحسن حتى قفل الحجاج، ثم كان وجهه إلى عبد الملك حتى قدم عليه، فوقف ببابه يطلب الإذن، فمرّ به يحيى بن الحكم، فلما رآه يحيى عدل إليه فسلم عليه، وسأله عن مقدمه وخبره وتحفّى به، ثم قال: إني سأنفعك عند أمير المؤمنين - يعني عبد الملك - فدخل الحسن على عبد الملك فرحب به، وأحسن مساءلته، وكان الحسن بن الحسن قد أسرع إليه الشيب، فقال له عبد الملك: لقد أسرع إليك الشيب، ويحيى بن الحكم في المجلس. فقال له يحيى: وما يمنعه يا أمير المؤمنين! شيبه أماني أهل العراق، كل عام يقدم عليه منهم ركب يمنّونه الخلافة، فأقبل عليه الحسن بن الحسن فقال: بئس والله الرفد رفدت، وليس كما قلت، ولكنا أهل بيت يسرع إلينا الشيب، وعبد الملك يسمع، فأقبل عليه عبد الملك فقال: هلم ما قدمت له. فأخبره بقول الحجاج فقال: ليس ذلك له، اكتبوا له كتاباً لا يجاوزه، فوصله وكتب له. فلما خرج من عنده لقيه يحيى بن الحكم فعاتبه الحسن على سوء محضره وقال: ما هذا بالذي وعدتني! فقال له يحيى: إيهاً عنك، والله لا يزال يهابك، ولولا هيبته إياك ما قضى لك حاجة، وما ألوتك رفداً.(6/330)
حدث أبو مصعب، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى عامله بالمدينة هشام بن إسماعيل، أنه بلغني أن الحسن بن الحسن يكاتب أهل العراق، فإذا جاءك كتابي هذا فابعث إليه، فليؤت به. قال: فجيء به إليه وشغله شيء. قال: فقام إليه علي بن حسين فقال: يا بن عم، قل كلمات الفرج لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين. قال: فجلى للآخر وجهه، فنظر إليه وقال: أرى وجهاً قد قشب بكذبة، خلوا سبيله وليراجع فيه أمير المؤمنين.
قال فضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن يقول لرجل من الرافضة: والله إن قتلك لقربة إلى الله عز وجل، فقال له الرجل: إنك تمزح. فقال: والله ما هذا بمزاح، ولكنه مني الجد.
قال: وسمعته يقول لرجل يغلو فيهم: ويحكم أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وإن عصينا فأبغضونا، فلو كان الله نافعاً أحداً بقرابته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير طاعة الله لنفع بذلك أباه وأمه، قولوا فينا الحق، فإنه أبلغ فيما تريدون، ونحن نرضى به منكم. قال الزبير: وكان عبد الملك بن مروان قد غضب غضبة له، فكتب إلى هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن الوليد بن المغيرة، وهو عامله على المدينة، وكانت بنت هشام بن إسماعيل زوجة عبد الملك، وأم ابنه هشام، فكتب إليه أن أقم آل علي يشتمون علي بن أبي طالب، وآل عبد الله بن الزبير يشتمون عبد الله بن الزبير. فقدم كتابه على هشام فأبى آل علي وآل عبد الله بن الزبير، وكتبوا وصاياهم، فركبت أخت لهشام إليه، وكانت جزلة عاقلة فقالت: يا هشام، أتراك الذي تهلك عشيرته على يده! راجع أمير المؤمنين، قال: ما أنا بفاعل. قالت: فإن كان لا بد من أمر، فمر آل علي يشتمون آل(6/331)
الزبير، ومر آل الزبير يشتمون آل علي. قال: هذه أفعلها. فاستبشر الناس بذلك، وكانت أهون عليهم، فكان أول من أقيم إلى جانب المرمر الحسن بن الحسن، وكان رجلاً رقيق البشرة، عليه يومئذ قميص كتان رقيقه، فقال له هشام: تكلم بسب آل الزبير. فقال: إن لآل الزبير رحماً أبلها ببلالها، وأربها بربابها، يا قوم، مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار! فقال هشام لحرسي عنده: اضرب. فضربه سوطاً واحداً من فوق قميصه، فخلص إلى جلده، فشرخه حتى سال دمه تحت قدمه في المرمر. فقام أبو هاشم عبد الله بن محمد بن علي فقال: أنا دونه أكفيك أيها الأمير، فقال في آل الزبير وشتمهم، ولم يحضر علي بن الحسين، كان مريضاً أو تمارض، ولم يحضر عامر بن عبد الله بن الزبير، فهم هشام أن يرسل إليه، فقيل له: إنه لا يفعل أفتقتله! فأمسك عنه، وحضر من آل الزبير من كفاه، وكان عامر يقول: إن الله لم يرفع شيئاً فاستطاع الناس خفضه، انظروا إلى ما صنع بنو أمية يخفضون علياً ويغرون بشتمه، وما يزيده الله بذلك إلا رفعة.
حدث فضيل بن مرزوق عن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: سمعته يقول لرجل من الرافضة: والله لئن أمكننا الله منكم لنقطعن أيديكم وأرجلكم، ثم لا نقبل منكم توبة. فقال له رجل: لم لا تقبل منهم توبة؟ قال: نحن أعلم بهؤلاء منكم، إن هؤلاء إن شاؤوا صدقوكم، وإن شاؤوا كذبوكم، وزعموا أن ذلك يستقيم لهم في التقية، ويلك إن التقية إنما هي باب رخصة للمسلم، إذا اضطر إليها وخاف من ذي سلطان أعطاه غير ما في نفسه، يدرأ عن ذمة الله عز وجل، وليس بباب فضل، إنما الفضل في القيام بأمر الله وقول الحق، وايم الله ما بلغ من أمر التقية أن يجعل بها لعبد من عباد الله أن يضل عباد الله.
قال الفضيل بن مرزوق: سمعت الحسن بن الحسن أخا عبد الله بن الحسن، وهو يقول لرجل ممن فعلوا فيهم:
ويحكم أحبونا لله، فإن أطعنا الله فأحبونا، وأن عصينا الله فأبغضونا، قال: فقال له الرجل: إنكم ذوو قرابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأهل بيته. فقال: ويحكم، لو كان الله نافعاً بقرابة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغير عمل بطاعته لنفع بذلك من هو أقرب إليه منا: أباه وأمه،(6/332)
والله إني لأخاف أن يضاعف الله للعاصي منا العذاب ضعفين، والله إني لأرجو أن يؤتى المحسن منا أجره مرتين. قال: ثم قال: لقد أساءتنا آباؤنا وأمهاتنا إن كان ما تقولون من دين الله، ثم لم يخبرونا به ولم يطلعونا عليه ولم يرغبونا فيه، فنحن والله كنا أقرب منهم قرابة منكم، وأوجب عليهم حقاً، وأحق بأن يرغبونا فيه منكم، ولو كان الأمر كما تقولون: إن الله ورسوله اختار علياً لهذا الأمر والقيام على الناس بعده. إن كان علي لأعظم الناس في ذلك حظية وحرماً، إذ ترك أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوم فيه كما أمره، ويعذر فيه إلى الناس. فقال له الرافضي: ألم يقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه. قال: أم والله، أن لو يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك الإمرة والسلطان والقيام على الناس لأفصح لهم بذلك، كما أفصح لهم بالصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج البيت، ولقال لهم: أيها الناس، إن هذا ولي أمركم من بعدي، فاسمعوا له وأطيعوا، فما كان من وراء هذا؟ فإن أنصح الناس كان للمسلمين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
توفي الحسن بن الحسن، فأوصى إلى إبراهيم بن محمد بن طلحة، وهو أخوه لأمه.
الحسن بن الحسين بن محمد
ابن الحسين بن رامين أبو محمد الأستراباذي القاضي سمع بدمشق وبجرجان وبخراسان وبالبصرة وببغداد، وسكنها ومات بها سنة اثنتي عشرة وأربع مئة.
حدث عن القاضي أبي بكر يوسف بن القاسم الميانجي بسنده إلى سويد بن سعيد قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شربة، ثم استقبل الكعبة فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قال: " ماء زمزم لما شرب له. وهذا أشربه لعطش يوم القيامة. ثم شربه ".(6/333)
الحسن بن الحسين بن يحيى
ابن زكريا بن أحمد بن يحيى خت بن موسى أبو محمد ابن البلخي حدث عن جده يحيى بن زكريا بسنده عم مصعب سمع أنساً يقول: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهل بالحج والعمرة جميعاً.
توفي أبو محمد الحسن بن الحسين البلخي القاضي سنة إحدى وأربعين وأربع مئة.
الحسن بن حفص بن الحسن
أبو علي البهراني الأندلسي رحل إلى المشرق، وسمع وقدم دمشق.
حدث بدمشق عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن حمويه السرخسي، بسنده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ألا إنكم وفيتم سبعين أمّة، انتم خيرها وأكرمها على الله.
وحدث أبو علي الحسن بن حفص بسنده عن مالك بن دينار قال: قرأت في التوراة " ردّوا أبصاركم عليكم ولاتهدوها إلى غيركم، فإن لكم فيها شغلاً ".
وحدث بسنده إلى مالك بن أنس قال: لا يحمل العلم عن أهل البدع كلهم، ولا يحمل العلم عمن لم يعرف بالطلب ومجالسة أهل العلم، ولا يحمل العلم عمن يكذب في حديث الناس، وإن كان في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادقاً، لأن الحديث والعلم إذا سمع من العالم فإنما قد جعل حجة بين الذي سمعه وبين الله تبارك وتعالى.(6/334)
الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك
أبو علي الحضاري الكاتب أصله من جرجرايا، شاعر جيّد الشعر، قليله، وولي أبوه إمرة دمشق في أيام المعتصم، فوثب عليه علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ فقتله، وكان الحسن مع أبيه إذ ذاك ففرّ عنه، فذكر ذلك البحتري في شعره، وذكر محمد بن داود بن الجراح هذه الأبيات، وذكر أنها لأبي الفضل بن الحسن بن سهل في الحسن بن رجاء والله أعلم.
قال علي بن يونس:
كنت أكتب لرجاء بن أبي الضحاك، وإن علي بن إسحاق لما قتل رجاء أمر بحبسي، قال: فحبست في يدي سجان كان جاراً لي، فكان يجيئني بالخبر ساعة بساعة فدخل إلي وقال: قد أخرج رأس صاحبك على قناة، ثم جاءني فقال: قد قتل متطببه، ثم قال: قد قتل ابن عمه، ثم قال: قد قتل كاتبه فلان، ثم قال: والساعة يدعى بك. فنالني جزع شديد، وغشيني نعاس، ودعي بي فقال السجان ليدفع عني: المفتاح مع شريكي فبعث ليطلبه، ورأيت في منامي كأني ارتطمت في طين كثير، وكأني قد خرجت منه وما بلّ قدمي منه شيء، فاستيقظت وتأولت الفرج، وسمعت حركة شديدة، فدخل السجان بعقبها فقال: أبشر، قد أخذ الجند علي بن إسحاق فحبسوه، ولم ألبث أن جاؤوني فأخرجوني، وجاؤوا بي إلى مجلس علي بن إسحاق، إلى الفرش الذي كان جالساً عليه، وقدامه دواة وكتاب كتبه إلى المعتصم في تلك الساعة، يخبره بقتل رجاء ويسمّيه المجوسي والكافر، فأبطلته وكتبت أنا بالخبر ولم أزل أدبر أمر العمل، إلى أن تسلمه مني وحمل علي ابن إسحاق إلى حضرة المعتصم، فأظهر الوسواس، إلى أن تكلم فيه ابن أبي دؤاد فأطلق.
وقد ذكر الجاحظ أن علي بن إسحاق كان موسوساً على الحقيقة، لأنه ذكر أنه قال:(6/335)
أرى الخطأ قد كثر في الدنيا، والدنيا كلها في جوف الفلك وإنما تؤتى منه، وقد تخرّم وتخلخل وتزايل واعترته عوادي الهرم، وسأحتال الصعود إليه، فإني إن نجرته ورندجته وسويته انقلب هذا الخطأ كله إلى الصواب.
قال مهدي بن سابق: دخل المأمون يوماً ديوان الخراج، فمر بغلام جميل على أذنه قلم، فأعجبه ما رأى من حسنه فقال: من أنت يا غلام؟ قال: أنا الناشئ في دولتك، وخريج أدبك، والمتقلب في نعمتك، والمؤمل لخدمتك، الحسن بن رجاء. فقال له المأمون: يا غلام، بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول. ثم أمر أن يرفع عن مرتبة الديوان، وأمر له بمئة ألف درهم.
الحسن بن زيد أبو علي
الكازروني الصوفي حدث عن أبي العباس أحمد بن العباس بن حوّى بسنده عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يجمع بنيه فيقول: يا بني تعلّموا، فإن تكونوا صغار قوم فعسى أن تكونوا كبار آخرين.
توفي الحسن بن زيد سنة أربع وخمسين وأربع مئة.
الحسن بن سعيد بن جعفر بن الفضل
أبو العباس العباداني المقرئ حدث عن أبي خليفة بسنده عن عبد الله عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار.
وفي رواية: من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار.(6/336)
وروي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار.
الحسن بن سعيد بن محمد بن سعيد
أبو عليّ العطار الشاهد كان مقدم الشهود بدمشق.
حدث عن أبي الحسن أحمد بن محمد العتيقي بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيأتي على أمتي ما أتى على بني إسرائيل مثلاً بمثل حذو النعل بالنعل وإنهم تفرقوا على ثنتين وسبعين ملّة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملّة، كلها في النار غير واحدة. فقيل: يا رسول الله، وما تلك الواحدة؟ قال: هو ما نحن عليه اليوم وأصحابي.
توفي أبو علي الحسن بن سعيد سنة ست وستين وأربع مئة.
الحسن بن سفيان بن عامر
ابن عبد العزيز بن النعمان بن عطاء أبو العباس الشيباني النسوي الحافظ صاحب المسند، سمع بدمشق.
حدث الحسن بن سفيان عن صفوان بن صالح بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: في بيضة نعام صيام يوم، أو إطعام مسكين.
وحدث عن عبد الله بن محمد بن أسماء بسنده عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أعتق شركاً له في مملوك، فقد وجب عليه أن يعتق ما بقي منه، إن كان له من(6/337)
المال ما يبلغ ثمنه، يقام في ماله قيمته، قيمة عدل، فيدفع إلى أصحابه حصتهم، ويخلى سبيل المعتق.
وحدث الحسن بن سفيان عن محمد بن عبد الله بن عمّار الموصلي بسنده عن سلمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها في الله ائتلف، وما تناكر منها في الله اختلف، إذا ظهر القول وخزن العمل، وائتلفت الألسن وتباغضت القلوب، وقطع كل ذي رحم رحمه، فعند ذلك لعنهم الله، فأصمّهم وأعمى أبصارهم.
قال الحسن بن سفيان:
لما قدمت على علي بن حجر، وكان من آدب الناس، وكان لا يرضى قراءة أصحاب الحديث، فغاب القارئ عنه يوماً فقال: هاتوا من يقرأ، فقمت فقلت: أنا. فقال: اجلس. ثم قال في الثانية: من يقرأ؟ قلت: أنا. فقال: اجلس. وزبرني، إلى أن قال الثالثة، فقلت: أنا. فقال كالمغضب: هات. فقرأت ذلك المجلس وهو ذا يتأمل، ويجهد أن يأخذ علي شيئاً في النحو واللغة، فلم يقدر عليه. فلما فرغت قال لي: يا فتى، ما اسمك؟ قلت: الحسن. قال: ما كنيتك؟ قلت: لم أبلغ رتبة الكنية. فاستحسن قولي، قال: كنّيتك أبا العباس. قال: فكان الحسن بن سفيان يفتخر أن علي بن حجر كنّاه.
قال أبو بكر محمد بن داود بن سليمان: كنا عند الحسن بن سفيان ببالوز، دخل عليه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو عمرو أحمد بن محمد الحيري، وأبو بكر أحمد بن علي الرازي الحافظ، في جماعة أصحاب أبي بكر المطوعة، وهو متوجهون إلى فراوة. فقال له أبو بكر بن علي: قد كتبت للأستاذ أبي بكر محمد بن إسحاق هذا الطبق من حديثك، فقال: هات اقرأ. فأخذ يقرأ، فلما قرأ(6/338)
أحاديث أدخل إسناداً منها في إسناد، فرده الحسن إلى الصواب. فلما كان بعد ساعة أدخل أيضاً إسناداً في إسناد، فرده إلى الصواب، فلما كان في الثالثة قال له الحسين: ما هذا! لا تفعل، فقد احتملتك مرتين، وهذه الثالثة، وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة. فقال أبو بكر محمد بن إسحاق: لا تؤذ الشيخ. فقال أبو بكر: إنما أردت أن يعلم الأستاذ أن أبا العباس يعرف حديثه.
حدث الفقيه أبو الحسن الصفار قال: كنا عند الشيخ الإمام الحسن بن سفيان النسوي، وقد اجتمع لديه طائفة من أهل الفضل ارتحلوا إليه من أطباق الأرض، مختلفين إلى مجلسه لاقتباس العلم، وكتبة الحديث، فخرج يوماً إلى مجلسه الذي كان يملي فيه الحديث فقال: اسمعوا ما أقول لكم قبل أن نشرع في الإملاء، قد علمنا أنكم طائفة من أبناء النعم وأهل الفضل، هجرتم أوطانكم وفارقتم دياركم وأصحابكم في طلب العلم واستفادة الحديث، فلا يخطرن ببالكم أنكم قضيتم بهذا التجشم للعلم حقاً، أو أديتم بما تحملتم من الكلف والمشاق من فروضه فرضاً، فإني أحدثكم ببعض ما تحملته في طلب العلم من المشقة والجهد، وما كشف الله سبحانه وتعالى عني وعن أصحابي ببركة العلم وصفوة العقيدة من الضيق والضنك.
اعلموا أني كنت في عنفوان شبابي ارتحلت من وطني لطلب العلم واستملاء الحديث، فاتفق حصولي بأقصى المغرب وحلولي بمصر في تسعة نفر من أصحابي طلبة العلم وسامعي الحديث، وكنا نختلف إلى شيخ كان أرفع أهل عصره في العلم منزلة، وأدراهم للحديث، وأعلاهم إسناداً، وأصحهم رواية، فكان يملي علينا كل يوم مقداراً يسيراً من الحديث، حتى طالت المدة وخفت النفقة، ودفعت الضرورة إلى بيع ما صحبنا من ثوب وخرقة، إلى أن لم يبق لنا ما كنا نرجو حصول قوت يوم منه، وطوينا ثلاثة أيام بلياليها جوعاً وسوء حال، وأصبحنا بكرة اليوم الرابع بحيث لا حراك بأحد من جملتنا من الجوع وضعف الأطراف، وأحوجت الضرورة إلى كشف قناع الحشمة، وبذل الوجه للسؤال، فلم تسمح أنفسنا بذلك ولم تطب قلوبنا به، وأنف كل واحد منا عن ذلك، والضرورة تحوج إلى(6/339)
السؤال على كل حال، فوقع اختيار الجماعة على كتبة رقاع بأسامي كل واحد منا، وإرسالها قرعة، فمن ارتفع اسمه من الرقاع كان هو القائم بالسؤال واستماحة القوت لنفسه ولأصحابه، فارتفعت الرقعة التي فيها اسمي، فتحيرت ودهشت، ولم تسامحني نفسي بالمسألة واحتمال المذلة، فعدلت إلى زاوية من المسجد أصلي ركعتين طويلتين، قد اقترن الاعتقاد فيهما بالإخلاص، أدعو الله سبحانه بأسمائه العظام وكلماته الرفيعة، لكشف الضر وسياقة الفرج، فلم أفرغ بعد عن إتمام الصلاة، حتى دخل المسجد شاب حسن الوجه، نظيف الثوب، طيب الرائحة، يتبعه خادم في يده منديل فقال: من منكم الحسن بن سفيان؟ فرفعت رأسي من السجدة فقلت: أنا الحسن بن سفيان، فما الحاجة؟ فقال: إن الأمير ابن طولون صاحبي يقرئكم السلام والتحية، ويعتذر إليكم في الغفلة عن تفقد أحوالكم، والتقصير الواقع في رعاية حقوقكم، وقد بعث بما يكفي نفقة الوقت، وهو زائركم غداً بنفسه، ويعتذر بلفظه إليكم ووضع بين يدي كل واحد منا صرة فيها مئة دينار.
فتعجبنا من ذلك جداً، وقلنا للشاب: ما القصة في هذا؟ فقال: أنا أحد خدم الأمير ابن طولون المختصين به، دخلت عليه بكرة يومي هذا مسلماً في جملة من أصحابي، فقال لي وللقوم: أنا أحب أن أخلو يومي هذا فانصرفوا أنتم إلى منازلكم، فانصرفت أنا والقوم. فلما عدت إلى منزلي أتاني رسول الأمير مسرعاً مستعجلاً يطلبني حثيثاً، فأجبته مسرعاً فوجدته منفرداً في بيته، واضعاً يمينه على خاصرته لوجع ممضّ اعتراه في داخل جسده، فقال لي: أتعرف الحسن بن سفيان وأصحابه؟ فقلت: لا. فقال: اقصد المحلة الفلانية والمسجد الفلاني، واحمل هذه الصرر وسلمها في الحين إليه وإلى أصحابه، فإنهم منذ ثلاثة أيام جياع بحالة صعبة، ومهّد عذري لديهم وعرّفهم أني صبيحة الغد زائرهم، ومعتذر شفاهاً إليهم فقال الشاب: سألته عن السبب الذي دعاه إلى هذا فقال: دخلت هذا البيت منفرداً علّي أن أستريح ساعة. فلما هدأت عيني رأيت في المنام فارساً في الهواء، متمكناً تمكّن من يمشي على بساط الأرض، وبيده رمح، قضيت العجب من ذلك، وكنت أنظر إليه متعجباً، حتى نزل إلى باب هذا البيت، ووضع سافلة رمحه على خاصرتي فقال: قم فأدرك الحسن بن سفيان وأصحابه، قم وأدركهم، قم وأدركهم، فإنهم منذ ثلاثة جياع في المسجد الفلاني. فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا رضوان صاحب الجنة. ومنذ أصاب سافلة رمحه خاصرتي أصابني وجع شديد لا حراك بي له، فعجل إيصال هذا المال ليزول هذا الوجع عني.(6/340)
قال الحسن: فتعجبنا من ذلك، وشكرنا الله سبحانه وتعالى، وأصلحنا أمورنا، ولم نطب نفساً بالمقام، حتى لا يزورنا الأمير ولا يطلع الناس على أسرارنا، فيكون ذلك سبب ارتفاع اسم وانبساط جاه، ويتصل ذلك بنوع من الرياء والسمعة، وخرجنا تلك الليلة من مصر، وأصبح كل واحد منا واحد عصره وفريد دهره في العلم والفضل. فلما أصبح ابن طولون أتى المسجد لزيارتنا وطلبنا، وأحسّ بخروجنا، وأمر بابتياع تلك المحلة بأسرها، ووقفها على ذلك المسجد وعلى من ينزل به من الغرباء وأهل الفضل وطلبة العلم نفقة لهم، حتى لا تختل أمورهم، ولا يصيبهم من الخلل ما أصابنا، وذلك كله بقوة الدين وصفوة الاعتقاد. والله سبحانه ولي التوفيق.
وكان الحسن بن سفيان النسوي من قرية بالوز، وهي على ثلاثة فراسخ من بلد نسا. وهو محدّث خراسان في عصره، مقدم في البيت والكثرة والرحلة والفهم والفقه والأدب. تفقه عند أبي ثور إبراهيم بن خالد، وكان يفتي على مذهبه وصنف المسند الكبير والجامع والمعجم وغير ذلك.
وتوفي سنة ثلاث وثلاث مئة.
الحسن بن سليمان بن داود
ابن عبد الرحمن بن سوس أبو محمد البعلبكي بن أخي أبي السري الفارسي حدث عن أبي علي وصيف بن عبد الله الأنطاكي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً.
وفي زيادة ابن حنبل: فإن عجل بك شيء فصل ركعتين في المسجد، وركعتين إذا رجعت.
قال ابن إدريس: لا أدري؛ هذا في حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟(6/341)
الحسن بن سليمان بن سلام
أبو علي الفزاري المصري المعروف بقبيطة أصله من البصرة وسكن العسكر بمصر، سمع بدمشق وبمصر وبحمص وبالعراق.
حدث عن المعافى بن سليمان الحراني بسنده عن أبي موسى الأشعري قال: علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة وقال: " إذا قرأ الإمام فأنصتوا ".
وحدث عن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بسنده عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من خبّب عبداً على مولاه فليس منّا.
توفي أبو علي الحافظ المعروف بقبيطة في جمادى الآخرة سنة إحدى وستين ومئتين.
الحسن بن شجاع بن رجاء
أبو علي البلخي الحافظ رحل في طلب العلم إلى الشام والعراق ومصر.
حدث عن إسماعيل بن خليل بسنده عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا ادري أكذلك كان أم بعد النفخة.
كان الحسن بن شجاع من أئمة الحديث، أدركته المنية قبل الخمسين. روى عنه البخاري في صحيحه.
وتوفي الحسن بن شجاع في شوال سنة أربع وأربعين وقيل سنة ست وستين ومئتين، وهو ابن تسع وأربعين سنة. والله أعلم.(6/342)
الحسن بن صالح بن غالب القيسراني
حدث عن أبي يعقوب إسحاق بن محمد الأنصاري بصيدا قال: سألت يموت بن المزرّع بن يموت بصيدا قلت: يا أستاذ، كيف لم يستخلف علياً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستخلف أبو بكر! فقال: سألت الجاحظ عن هذا فقال الجاحظ: سألت إبراهيم النظام عن هذا، فقال إبراهيم: قال الله عزّ وجلّ: " وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " الآية. وكان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحدث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الوحي، كما يحدث الرجلُ الرجلَ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل من هؤلاء الذين استخلفهم الله في الأرض؟ فقال جبريل: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ولم يكن بقي من عمر أبي بكر إلا سنتين، فلو استخلف علياً لم يلحق أبو بكر ولا عمر ولا عثمان من الخلافة شيئاً، ولكن الله عزّ وجلّ رتبهم لعلمه بما بقي من أعمارهم، حتى تم ما وعدهم الله تبارك وتعالى به.
الحسن بن أبي طاهر بن الحسن
أبو علي الختّلي الفقيه سكن دمشق وحدث بها.
روى الحافظ حديثاً مسلسلاً قال: حدثنا علي بن المسلّم أبو الحسن قال: حدثنا عبد العزيز بن أحمد صاحب العلم الحسن قال: حدثني أبو علي الحسن بن أبي طاهر الخراساني صاحب المذهب الحسن قال: حدثني الشيخ أبو سعيد فضل الله بن أحمد الإمام في الخلق الحسن، حدثنا أبو العباس المستغفري النّسفي إملاء بحديث حسن، حدثنا أبو العباس بن أبي الحسن، حدثني أبي أبو الحسن، حدثنا محمد بن زكريا الغلابي وجلّ حديثه حسن حدثنا الحسن عن الحسن عن الحسن عن الحسن أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن احسن الحسن الخلق الحسن.
قال الشيخ: أما الحسن الأول فهو الحسن بن حسان السمتي، والحسن الثاني الحسن بن(6/343)
دينار، والحسن الثالث الحسن بن أبي الحسن البصري، والحسن الرابع هو الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
توفي أبو علي الحسن الختلي الشافعي القاضي الفقيه إمام الجامع بدمشق في شعبان سنة ستين وأربع مئة.
الحسن بن عبد الله بن الحسن
أبو علي الختلّي الشافعي الفقيه إمام جامع دمشق.
حدث عن أبي عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني بسنده إلى سهل بن سعد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليدخلنّ الجنة من أمتي سبعون ألفاً، أو سبع مئة ألف - لا يدري أبو حازم أيهما قاله - متماسكون، وقال الصابوني: متماسكين آخذ بعضهم بعضاً، لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم، وجوههم على صورة القمر ليلة البدر.
توفي أبو علي الحسن الختلي الإمام في شعبان سنة ستين وأربع مئة.
الحسن بن عبد الله بن سعيد
ابن عبيد الله أبو علي الكندي الحمصي الفقيه نزيل بعلبك.
حدث عن محمد بن جعفر الحمصي، بسنده عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد، مسجدي الذي أسس على التقوى، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى.(6/344)
الحسن بن عبد الله بن منصور
ابن حبيب بن إبراهيم أبو علي الأنطاكي المعروف بالبالسي حدث بدمشق ومصر، وقدم إلى مصر سنة ثمان وخمسين ومئتين.
روى عن الهيثم بن جميل بسنده عن أبي وائل عن سلمان، أنه أضافه قوم فقال: لولا أني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تكلّفوا للضيف لتكلفنا لكم ".
قال الحافظ: وقد رويناه على الصواب أعلى من هذا من غير شك في إسناده، عن شقيق بن سلمة قال: دخلت على سلمان الفارسي، فأخرج إلي خبزاً وملحاً فقال لي: " لولا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهانا أن يتكلف أحد لأحد لتكلفت لك.
وحدث الحسن بن عبد الله الأنطاكي عن محمد بن كثير بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا وطئ أحدكم الأذى بخفّه أو نعله فطهورهما التراب.
الحسن بن عبد الله
ويقال ابن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم السلمي حدث عن أبيه بسنده، أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله ". فكان عبد الله يرى لصلاة العصر فضيلة بالذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها، ويرى أنها هي الصلاة الوسطى.
وحدث أيضاً عن أبيه عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من جاء إلى الجمعة فليغتسل.(6/345)
الحسن بن عبيد الله بن أحمد
ابن عبدان بن أحمد بن زياد بن ورد ازاد بن غند بن شبّه بن عبد الله أبو علي الأزدي الصفّار أخو عقيل والحسين حدث الحسن والحسين ابنا عبيد الله بن أحمد بن عبدان الأزدي الصفّار بدمشق، عن أبي بكر محمد بن أحمد بن يزيد الكوفي بسنده عن حسين بن علي عن أبيه عن جده قال: أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً أن يغسله. فقال علي: يا رسول الله، أخشى ألا أطيق ذلك. فقال: إنك ستعان. قال: فقال علي: فوالله ما أردت أن أقلب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عضواً إلا قلب.
ولد الحسن والحسين ابنا عبيد الله في يوم الأحد، لخمس بقين من جمادى الآخرة، سنة أربع وثلاثين وثلاث مئة، وتوفي الحسن بعد التسعين وثلاث مئة.
الحسن بن عبد الواحد بن عبد الأحد
ابن معدان أبو عبد الله الحراني الشاهد.
حدث عن القاضي أبي بكر يوسف بن القاسم الميانجي بسنده إلى ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا إلاّ بيع الخيار.(6/346)
الحسن بن عثمان بن حماد بن حسّان
ابن عبد الرحمن بن يزيد أبو حسان الزيادي البغدادي القاضي سمع بدمشق.
حدث عن سعيد بن زكريا المدائني بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن تركها كان أوفى لدينه وعرضه، ومن قارفها كان كالمرتعي إلى جانب الحمى، يوشك أن يقع فيه.
وحدث الحسن بن عثمان الزيادي عن شعيب بن صفوان بسنده عن عبد الله بن عمرو عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان في بني إسرائيل جدي ترضعه أمه فترويه، فأفلت فارتضع الغنم ثم لم يشبع، قال: فأوحي إليهم، أو إلى رجل منهم أن مثل هذا كمثل قوم يأتون من بعدكم، يعطى الرجل منهم ما يكفي الأمة والقبيلة، ثم لا يشبع.
كان أبو حسان الزيادي أحد العلماء الأفاضل، من أهل المعرفة والثقة والأمانة، صالحاً، ديّناً، له معرفة بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريماً واسعاً مفضالاً.
قال ابن أبي الدنيا: كنت في الجسر واقفاً وقد حضر أبو حسان الزّيادي القاضي، وقد وجه إليه المتوكل من سرّ من رأى بسياط جدد في منديل دبيقي مختومة، وأمره أن يضرب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم - وقيل أحمد بن محمد بن عاصم صاحب خان عاصم - ألف سوط، لأنه شهد عليه الثقات وأهل السّتر أنه شتم أبا بكر وعمر وقذف عائشة، فلم ينكر ذلك، ولم يتب، وكانت السياط بثمارها، فجعل يضرب بحضرة القاضي وأصحاب السوط قيام، فقال: أيها القاضي، قتلتني. فقال له أبو حسان: قتلك الحق، لقذفك زوجة الرسول، ولشتمك الخلفاء الراشدين المهديين. وقيل: لما ضرب ترك في الشمس حتى مات، ثم رمي به في دجلة.(6/347)
قال إسحاق الحربي: بلغني أن أبا حسان الزيادي رأى رب العزة تبارك وتعالى في النوم، قال: فلقيته، فقلت: بالذي أراك ما أراك إلاّ حدثتني بالرؤيا. قال: نعم. رأيت نوراً عظيماً لا أحسن أصفه، ورأيت فيه شخصاً يخيل إلي أنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يشفع إلى ربه في رجل من أمته، وسمعت قائلاً يقول: ألم يكفك أني أنزلت عليك في سورة الرعد: " وإنّ ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم " ثم انتبهت.
قال أبو حسان الزيادي: ضقت ضيقة بلغت فيها إلى الغاية حتى ألحّ علي القصّاب والبقال والخباز وسائر المعاملين، ولم تبق لي حيلة. فإني على تلك الحال وأنا مفكر في الحيلة إذ دخل علي الغلام فقال حاجيّ بالباب يستأذن، فقلت: ائذن له، فدخل الخراساني فسلم وقال: ألست أبا حسان؟ قلت: نعم، فما حاجتك؟ قال: أنا رجل غريب وأريد الحج، ومعي عشرة آلاف درهم، واحتجت أن تكون قبلك إلى أن أقضي حجي وأرجع. فقلت: هاتها. فأحضرها، وخرج بعد أن وزنها وختمها. فلما خرج فككت الخاتم على المكان، ثم أحضرت المعاملين فقضيت كل من له عليّ دين واتسعت وأنفقت وقلت: أضمن هذا المال للخراساني فإلى أن يجيء قد أتى الله عزّ وجلّ بفرج من عنده. فكنت يومي ذلك في سعة، وأنا لا أشك في خروج الخراساني. فلما أصبحت من غد ذلك اليوم، دخل إلي الغلام فقال: الخراساني الحاج بالباب يستأذن، فقلت: ائذن له فدخل، فقال: إني كنت عازماً على ما أعلمتك، ثم ورد علي الخبر بوفاة والدي، وقد عزمت على الرجوع إلى بلدي، فتأمر لي بالمال الذي أعطيتك أمس. فورد علي أمر لم يرد علي مثله قط، فلم أدر بما أجيبه، وتحيرت وفكرت وقلت: ماذا أقول للرجل؟ ثم قلت له: نعم، عافاك الله، منزلي هذا ليس بالحريز، ولما أخذت مالك وجهت به إلى من هو قبله، فتعود في غد فتأخذه، فانصرف وبقيت متحيراً، لا أدري ما اعمل، إن جحدته قدمني واستحلفني،(6/348)
وكانت الفضيحة في الدنيا والآخرة والهتك، وإن دافعته صاح وهتكني وغلظ الأمر عليّ جداً. وأدركني الليل وفكرت في بكور الخراساني إلي فلم يأخذني النوم، ولا قدرت على الغمض فقمت إلى الغلام فقلت: أسرج البغلة فقال: يا مولاي، هذه العتمة بعد، وما مضى من الليل شيء! فإلى أين تمضي؟ فرجعت إلى فراشي فإذا النوم ممتنع، فلم أزل أقوم إلى الغلام، وهو يردني، حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، وأنا لا يأخذني القرار.
وطلع الفجر فأسرج البغلة وركبت، وأنا لا أدري أين أتوجه؟ وطرحت عنان البغلة، وأقبلت أفكر وهي تسير، حتى بلغت الجسر فعدلت بي إليه، فتركتها فعبرت ثم قلت: إلى أين أعبر؟ وإلى أين أمضي؟ ولكن إن رجعت وجدت الخراساني على بابي، أدعها تمضي حيث شاءت. فلما عبرت الجسر، أخذت بي يمنة نحو دار المأمون، فتركتها إلى أن قاربت باب المأمون، والدنيا بعد مظلمة، فإذا فارس يلقاني فنظر في وجهي، ثم سار وتركني، ثم رجع إلي فقال: ألست بأبي حسان الزيادي؟ قلت: بلى. قال: أجب الأمير الحسن بن سهل. فقلت في نفسي: وما يريد الحسن بن سهل مني؟ ثم سرت معه حتى حضرنا إلى بابه، واستأذن لي عليه فدخلت، فقال: أبا حسان، ما خبرك؟ وكيف حالك؟ ولم انقطعت عنا؟ فقلت: لأسباب. وذهبت لأعتذر. فقال: دع هذا عنك، أنت في لوثة، أو في أمر، فما هو؟ فإني رأيتك البارحة في النوم في تخليط كثير. فابتدأت فشرحت له قصتي من أولها إلى أن لقيني صاحبه ودخلت عليه. فقال لي: لا يغمّك الله يا أبا حسان، قد فرّج الله عنك، هذه بدرة للخراساني مكان بدرته، وبدرة أخرى لك تتسع بها، وإذا نفدت أعلمتنا. فرجعت من مكاني فقضيت الخراساني واتسعت، وفرج الله عزّ وجلّ، وله الحمد.
قال يعقوب بن شيبة: أظل عيد من الأعياد رجلاً يومى إليّ أنه من أهل عصره، وعنده مئة دينار لا يملك سواها، فكتب إليه أخ من إخوانه يقول له: قد أظلنا هذا العيد ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، ونستدعي منه ماننفقه. فجعل المئة دينار في صرة، وختمها وأنفذها إليه، فلم تلبث الصرة عند الرجل إلا يسيراً، حتى وردت عليه رقعة من أخ من إخوانه يذكر إضاقته في العيد، ويستدعي منه مثلما استدعاه هو، فوجه بالصرة إليه بختمها، وبقي الأول لا شيء(6/349)
عنده، فكتب إلى صديق له وهو الثالث الذي صارت الدنانير إليه، يذكر حاله ويستدعي منه ما ينفقه في العيد، فأنفذ إليه الصرة بخاتمها. فلما عادت إليه صرته التي أنفذها بحالها، ركب إليه ومعه الصرة وقال له: ما شأن هذه الصرة التي أنفذتها إلي؟ فقال له: إنه أظلنا العيد ولا شيء عندنا ننفقه على الصبيان، فكتبت إلى فلان أخينا أستدعي منهما ننفقه فأنفذ إلي هذه الصرة. فلما وردت رقعتك علي أنفذتها إليك، فقال: لتقم بنا إليه، فركبا جميعاً إلى الثاني ومعهما الصرة، فتفاوضوا الحديث، ثم فتحوها واقتسموها أثلاثاً. قال: والثلاثة: يعقوب بن شيبة، وأبو حسان الزيادي القاضي، وأنسي الثالث.
مات أبو حسان الزيادي في رجب سنة اثنتين وأربعين ومئتين، وله تسع وثمانون سنة.
الحسن بن عطية الله بن الحسين
ابن محمد بن زهير أبو الفضل الصوري الخطيب.
سمع بدمشق.
حدث عن أبي القاسم الحسين بن محمد بن إبراهيم الحنائي، بسنده عن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما امرأة استعطرت ثم خرجت ليوجد ريحها فهي زانية. وكل عين زانية.
الحسن بن علي بن إبراهيم
أبو محمد الأصبهاني حدث بدمشق.
روى عن أبي العباس الفضل بن الخصيب بن العباس بن نصر الأصبهاني بسنده عن أنس بن مالك الكعبي قال: أغارت علينا خيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يأكل فقال: " أصب من هذا الطعام " قلت: إني صائم. قال: هلم، أخبرك أن الله تعالى وضع عن المسافر نصف الصلاة،(6/350)
أو شطر الصلاة، والصوم أو الصيام، وعن الحبلى أو المرضع ". والله لقد قالهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو أحدهما. فيا لهف نفسي ألا أكون أصبت من طعام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد
ابن هرمز بن شاهوه أبو علي الأهوازي المقرئ.
سكن دمشق فقدمها في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاث مئة، وقيل سنة أربع وتسعين وثلاث مئة.
حدث عن أبي القاسم نصر بن أحمد بن محمد الخليل المرجئ بسنده عن أنس قال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحدثكموه أحد بعدي! إنه سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، وتشرب الخمر، ويفشو الربا، ويقل الرجال، ويكثر الزنا، حتى يكون لخمسين امرأة القيّم الواحد.
وحدث الحسن بن علي الأهوازي عن أبي زرعة أحمد بن محمد بن عبد الله بن سعيد القشيري بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كانت عشية عرفة، هبط الله عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا فيطّلع إلى أهل الموقف فيقول: مرحباً بزواري والوافدين إلى بيتي، وعزتي لأنزلن إليكم، ولأساوي مجلسكم بنفسي. فينزل إلى عرفة فيعمهم بمغفرته، ويعطيهم ما يسألون، إلا المظالم. ويقول: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم، ولا يزال كذلك إلى أن تغيب الشمس، ويكون أمامهم إلى المزدلفة. ولا يعرج إلى السماء تلك الليلة، فإذا أسفر الصبح وقفوا عند المشعر الحرام غفر لهم حتى المظالم، ثم يعرج إلى السماء. وينصرف الناس إلى منى.
قال الحافظ: هذا حديث منكر، وللأهوازي أمثاله في كتاب جمعه في الصفات سمّاه: كتاب البيان في شرح عقود أهل الإيمان. أودعه أحاديث منكرة، كحديث: إن الله(6/351)
تعالى لما أراد أن يخلق نفسه، خلق الجيل فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق. مما لا يجوز أن يروى، ولا يحلّ أن يعتقد.
وكان مذهبه مذهب السالمية يقول بالظاهر، ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوي له رأيه. وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل، فيقبله بعض من لا عقل له. ورواه، وهو مما يقطع ببطلانه شرعاً وعقلاً.
ولد أبو علي الأهوازي في المحرم سنة اثنتين وستين وثلاث مئة، وتوفي في ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربع مئة، وكان قد أكثر من الروايات في القرآن، فاتهم في ذلك وتكلموا فيه، وظهر له تصانيف، زعموا أنه كذب فيها.
الحسن بن علي بن الحسن بن الحكم
أبو عليّ المرّي المعروف بالشحيمة.
روى عن جماهر بن محمد الزملكاني، بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين - وأشار بإصبعه المبشرة والوسطى - كفرسي رهان، استبقا فسبق أحدهما صاحبه بإذنه، جاء الله سبحانه، جاءت الملائكة، جاءت الجنة، يا أيها الناس، استجيبوا لربكم، وألقوا إليه السلم.
الحسن بن علي بن الحسن بن سلمة
أبو القاسم المزيّ المعروف بابن الطيري.
ينسب إلى قرية الطيرة - بكسر الطاء وإسكان الياء باثنتين من تحتها - من قرى دمشق.(6/352)
حدث عن محمد بن أحمد بن فياض، بسنده عن أبي هريرة:
أن امرأة مرت به يعصف ريحها طيباً فقال: يا أمة الجبار، المسجد تريدين! قالت: نعم. قال: فارجعي فاغتسلي، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما من امرأة تخرج إلى المسجد يعصف ريحها فيقبل الله عزّ وجلّ منها صلاة، حتى ترجع فتغتسل.
الحسن بن علي بن الحسن بن شوّاش
أبو علي الكناني المقرئ المعدّل أصله من أرتاح مدينة من أعمال حلب تولى الإشراف على وقوف جامع دمشق.
روى عن القاضي أبي بكر يوسف بن القاسم الميانجي، بسنده عن عامر بن سعد عن سعد، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى. فأحببت أن أشافه سعداً فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وإلا فاصطكتا.
ورواه من طريق أخر، أن سعيد بن المسيب سأل سعد بن أبي وقاص: هل سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي؟ قال: نعم. قلت: أنت سمعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فأدخل إصبعيه في أذنيه، قال: نعم، وإلا فاستكتا.
توفي أبو علي في ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وأربع مئة.(6/353)
الحسن بن علي بن الحسين بن أحمد
ابن محمد بن الحسين أبو محمد بن أبي الحسن بن صصرى التغلبي حدث عن أبي الحسن علي بن موسى، بسنده أن عائشة رضي الله عنها، كانت تحدث أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: يا رسول الله، فما شأنك؟ قال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة. قالت: فبينا أنا على ذلك إذا سمعنا صوت السلاح. قال: من هذا؟ قال: أنا سعد بن مالك. قال له: ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك. قالت: فسمعت غطيط رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نومه.
الحسن بن علي بن خلف
ابن عبد الجبار بن بهرام ويقال: ابن خلف بن عبد الواحد أبو محمد ويقال أبو علي الصيدلاني الصرّار روى عن سليمان بن عبد الرحمن، بسنده عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بما يحل لي وبما يحرم عليّ. قال: فصعّد فيّ البصر وصوّبه وقال: نويبتة. قلت: يا رسول الله، نويبتة خير أو نويبتة شر؟ قال: بل نويبتة خير، لا تأكل الحمار الأهلي، ولا ذا ناب من السّبع.
وروى عنه أيضاً، بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر، أنه توضأ يوماً وعائشة تنظر إليه، فأساء الوضوء فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ويل للأعقاب من النار ".
توفي الحسن بن علي الصرّار سنة تسع وثمانين ومئتين.(6/354)
الحسن بن علي بن روح بن عوانة
أبو علي الكفربطناني من أهل كفر بطنا.
حدث في جامع دمشق عن هشام بن خالد الأزرق، بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم.
وروى عنه أيضاً بسنده عن الوليد بن مسلم بسنده عن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن عجين وقع فيه قطرة من دم، فنهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكله.
قال الوليد: لأن النار لا تنشف الدم.
الحسن بن علي بن سعيد بن الحسين
ابن أحمد أبو علي الكرخي القاضي الفقيه الشافعي قدم دمشق حاجاً وحدث بها.
روى عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن إدريس بن بحر التستري، أنه حدث بها في المحرم سنة ست وتسعين وثلاث مئة بسنده عن وائل عن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تباشر المرأة المرأة وتنعتها لزوجها، كأنه ينظر إليها، ولا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه.(6/355)
الحسن بن علي بن شبيب
أبو علي المعمري البغدادي الحافظ صاحب كتاب اليوم والليلة، له رحلة.
حدث عن هشام بن عمار بسنده عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا عجل به السير جمع بين الصلاتين.
سئل أحمد بن حنبل عن المعمري فقال: لا يتعمد الكذب، ولكن أحسب أنه صحب قوماً يوصّلون الحديث، وقد وثّقه قوم، وجرّحه آخرون.
توفي أبو علي المعمري في المحرم سنة خمس وتسعين ومئتين، وكان في الحديث وجمعه وتصنيفه إماماً ربانياً، وكان قد شد أسنانه بالذهب، ولم يغير شيبه. وقيل: بلغ اثنتين وثمانين سنة، وكان يكنى بأبي القاسم، ثم اكتنى بأبي علي، كره أن يذكر بكنيته، فيسب فنزه الكنية عن ذلك والله أعلم.(6/356)
/الحسن بن علي بن أبي طالب أبو محمد سبط سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وريحانته، وأحد سيدي شباب أهل الجنة. ولد نصف شعبان، وقيل: نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة. وفد على معاوية غير مرة.
قال أبو الجوزاء: قلت للحسن بن علي: ما تذكر من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أذكر من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أني أخذت تمرة من تمر الصدقة. فجعلتها في فيّ. قال: فنزعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلعابها فجعلها في التمر، فقيل: يا رسول الله، ما كان عليك من هذه التمرة لهذا الصبي؟! قال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة.
قال: وكان يقول: دع ما يربيك إلى مالا يربيك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة.
وكان يعلمنا هذا الدعاء: اللهم، اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت.
وفي حديث أن الحسن قال: علمني جدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلمات أقولهن في قنوت الوتر وذكر الدعاء: رب اهدني فيمن هديت، إلى آخره.(7/5)
قال عبد الله بن بريدة: قدم الحسن بن علي بن أبي طالب على معاوية فقال: لأجيزنك بجائزة ما أجزت بها أحداً قبلك، ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأعطاه أربع مئة ألف.
حدث أبو المنذر هشام بن محمد عن أبيه قال: أضاق الحسن بن علي، وكان عطاؤه في كل سنة مئة ألف، فحبسها عنه معاوية في إحدى السنين؛ فأضاق إضاقة شديدة. قال: فدعوت بدواة لأكتب إلى معاوية لأذكره بنفسي، ثم أمسكت، فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقال لي: كيف أنت يا حسن؟ فقلت: بخير يا أبه. وشكوت إليه نأخر المال عني فقال ادعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكرة ذلك قلت: نعم يا رسول الله فكيف أصنع؟. قال: اللهم اقذف في قلبي رجاءك واقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجو أحداً غيرك، اللهم وما ضعفت عنه قوتي وقصر عنه عملي ولم تنته إليه رغبتي ولم تبلغه مسألتي، ولم يجر على لساني مما أعطيت أحداً من الأولين والآخرين من اليقين، فخصني به يا رب العالمين.
قال: فوالله ما ألححت به أسبوعاً حتى بعث إلي معاوية بألف ألف وخمس مئة ألف. فقلت: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، ولا يخيب من دعاه.
فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقال: يا حسن كيف أنت؟ فقلت: بخير يا رسول الله وحدثته حديثي. فقال: يا بني، هكذا من رجا الخالق ولم يرج المخلوق.
وعن سودة بنت مسرح قالت: كنت فيمن حضر فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ضربها المخاض. قالت: فأتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كيف هي، كيف هي ابنتي، فديتها؟.
قالت: قلت: إنها لتجهد يا رسول الله. قال: فإذا وضعت فلا تسبقيني به بشيء. قالت: فوضعت فسررته ولففته في خرقة صفراء. فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما فعلت ابنتي فديتها، وما حالها؟ وكيف بني؟ فقلت: يا رسول الله، وضعته وسررته وجعلته في خرقة صفراء. فقال: لقد عصيتني.(7/6)
قالت: قلت: أعوذ بالله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من معصية، سررته يا رسول الله ولم أجد من ذلك بداً. قال: ائتني به. قالت: فأتيته به فألقى عنه الخرقة الصفراء، ولفه في خرقة بيضاء وتفل في فيه، وألبأه بريقه.
قالت: فجاء علي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما سميته يا علي؟ قال: سميته جعفراً يا رسول الله. قال: لا، ولكنه حسن، وبعده حسين، وأنت أبو الحسن والحسين.
وفي رواية: وأنت أبو الحسن الخير.
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه سمى ابنه الأكبر حمزة وسمى حسيناً بعمه جعفر. قال: فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً فقال: إني قد غيرت اسمي ابني هذين، قال: الله ورسوله أعلم، فسمى حسناً وحسيناً.
وعن علي عليه السلام قال: لما ولد الحسن جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أروني ابني. ما سميتموه؟ قلت: سميته حرباً. قال: بل هو حسن. فلما ولد الحسين قال: أروني ابني. ما سميتموه؟ قلت: سميته حرباً. قال: بل هو حسين. فلما ولد الثالث جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلت: حرباً. قال: هو محسن، ثم قال: إني سميتهم بأسماء ولد هرون: شبر وشبير ومشبر.
قال عمران بن سليمان:
الحسن والحسين اسمان من أسماء أهل الجنة لم يكونا في الجاهلية.
وأم الحسين سيدتنا فاطمة بنت سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأم فاطمة سيدتنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى.
وولد الحسن محمداً الأكبر، وبه كان يكنى.(7/7)
وعن عقبة بن الحارث قال: خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بليال وعلي يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان فاحتمله على رقبته وهو يقول: من منهوك الرجز
وا بأبي شبه النبي ... ليس شبيهاً بعلي
قال: وعلي يضحك.
وعن ابن أبي مليكة قال: كانت فاطمة تنقز الحسن بن علي وتقول: من منهوك الرجز
بأبي شبه النبي ... ليس شبيهاً بعلي
قال البهي مولى الزبير: تذاكرنا من أشبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهله، فدخل علينا عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله إليه وأحبهم إليه: الحسن بن علي؛ رأيته يجيء وهو ساجد فيركب رقبته أو قال: ظهره، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل، ولقد رأيته يجيء وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر.
وقل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه ريحانتي من الدنيا، وإن ابني هذا سيد، وعسى الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين.
وقال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه.
وسئل الحسن: ماذا سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشر ريبة، وإن الخير طمأنينة.(7/8)
وحفظت عنه: أني بينا أنا أمشي معه إلى جنب جرين للصدقة تناولت تمرة فألقيتها في فمي، فأدخل أصبعه فاستخرجها بلعابها فألقاها، وقال: إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة.
وعقلت عنه الصلوات الخمس، وعلمني كلمات أقولهن عند انقضائهن: اللهم، اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت.
وعن أنس بن مالك قال: ما كان منهم يعني أهل البيت أشبه برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الحسن بن علي.
قال أو جحيفة: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيض قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه.
وعن علي عليه السلام قال: كان الحسن أشبه الناس برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجهه إلى سرته، وكان الحسين أشبه الناس برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أسفل من ذلك.
وعن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذ بيد الحسن والحسين ثم يقول: اللهم إني أحبهما فأحبهما.
وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى ثم يضمنا، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما.(7/9)
وعن البراء قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاملاً الحسن بن علي وهو يقول: اللهم، إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه.
وعنه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حامل الحسن أو الحسين على عاتقه، وهو يقول: اللهم، إني أحبه فأحبه.
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من أحب الحسن والحسين فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
وعن أبي هريرة قال: ما رأيت الحسن بن علي إلا فاضت عيناي دموعاً رحمة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً فوجدني في المسجد، فأخذ بيدي، فاتكأ علي، ثم انطلقت معه حتى جئنا سوق بني قينقاع، فما كلمني، فطاف فيه، ونظر ثم رجع، ورجعت معه، فجلس في المسجد فاحتبي ثم قال: ادع لي لكاع، فأتى حسن بشدة حتى وقع في حجره، فجعل يدخل يده في لحية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفتح فمه ويدخل فمه في فمه، ويقول: اللهم إني أحبه فأحبه، وأحب من يحبه. ثلاثاً.
وفي حديث آخر عنه: والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل لسانه في فمه، أو لسان الحسن في فمه.
وعنه قال: سمعت أذناي هاتان، وأبصرت عيناي هاتان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو آخذ بكفيه جميعاً، يعني حسناً أو حسيناً، وقدماه على قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يقول: من الرجز
حزقة حزقة ... ترق عين بقسه(7/10)
فيرقى الغلام حتى يضع قدميه على صدر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال له: افتح فاك، ثم قبله، ثم قال: اللهم، أحبه فإني أحبه.
قال أبو نعيم: الحزقة: المتقارب الخطا والقصير الذي يقرب خطاه. وعين بقة: أشار إلى البقة ولا شيء أصغر من عينها لصغرها.
وقيل: أراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبقة فاطمة، فقال له: ترق ياقرة عين بقة.
وعن علي قال: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أين لكع؟ ههنا لكع؟ قال: فخرج إليه الحسن بن علي، وعليه سخاب قرنفل، وهو ماد يده، قال: فمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده فالتزمه وقال: بأبي أنت وأمي من أحبني فليحب هذا.
وعن علي عليه السلام: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة.
وعن زهير بن الأقمر، قال: بينما الحسن بن علي يخطب بعدما قتل علي، إذ قام رجل من الأزد آدم طوال فقال: لقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واضعه في حبوته يقول: من أحبني فليحبه، فليبلغ الشاهد الغائب، ولولا عزمة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما حدثتكم.(7/11)
وعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومه حسن وحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة ويلثم هذا مرة، حتى انتهى إلينا. فقال له رجل: يا رسول الله، إنك لتحبهما. فقال: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني.
وعن زر بن حبيش عن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذان ابناي، من أحبهما فقد أحبني.
وعنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا أرادوا أن يمنعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما صلى وضعهما في حجره ثم قال: من أحبني فليحب هذين.
وعن أبي بكرة قال: كان الحسن والحسين يثبان على ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصلي فيمسكهما بيده حتى يرفع صلبه، ويقومان على الأرض، فلما فرغ أجلسهما في حجره، ثم قال: إن ابني هذين ريحانتي من الدنيا.
وعن أم سلمة أنها قالت: بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيتي يوماً إذ قالت الخادم: إن علياً وفاطمة بالسدة قالت: فقال لي: قومي فتنحي لي عن أهل بيتي، قالت: فقمت فتنحيت في البيت قريباً، فدخل علي وفاطمة ومعهما الحسن والحسين وهما صبيان صغيران، فأخذ الصبيين فوضعهما في حجره فقبلهما. قالت: واعتنق علياً بإحدى يديه وفاطمة باليد الأخرى، فقبل فاطمة وقبل علياً فأغدق عليهم خميصة سوداء فقال: اللهم إليك لا إلى النار، أنا وأهل بيتي. قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله. فقال: وأنت.(7/12)
وعنها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة: ائتني بزوجك وابنيك فجاءت بهم، فألقى عليهم كساء فدكيا ثم وضع يديه عليه فقال: اللهم إن هؤلاء آل محمد فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمد فإنك حميد مجيد. قالت: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه وقال: إنك على خير.
وعن أم سلمة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة فدخلت بها عليه فقال لها: ادعي زوجك وابنيك. قالت: فجاء علي وحسن وحسين، فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامة له، على دكان تحته كساء خيبري. قالت: وأنا في الحجرة أصلي، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: " إنّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً " قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج بيده فألوى بها إلى السماء، ثم قال: اللهم، هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، اللهم، هؤلاء أهل بيتي وحامتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنك إلى خير، إنك إلى خير.
وعن أبي سعيد قال: نزلت هذه الآية في خمسة نفر، وسماهم: " إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً " في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلي وفاطمة والحسن والحسين.
وعن حذيفة قال:
قالت لي أمي: متى عهدك بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: مالي به عهد مذ كذا وكذا.(7/13)
فقالت: متى؟ فقلت لها: دعيني فإني آتيه وأصلي معه المغرب، وأسأله أن يستغفر لي. قال: فأتيته وهو يصلي المغرب. فقال: ما رأيت العارض الذي عرض بي؟ قلت: بلى. قال: فذلك ملك لم يهبط إلى الأرض قبل الساعة، استأذن ربه عز وجل في السلام علي فسلم علي، وبشرني بأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.
وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما.
وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة فلينظر إلى الحسن بن علي.
وعن يعلى بن مرة قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذ أحدهما فضمه إلى إبطه، وأخذ الآخر فضمه إلى إبطه الآخر، وقال: هذان ريحانتاي من الدنيا، من أحبني فليحبهما. ثم قال: الولد مبخلة مجبنة مجهلة.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة العشاء، وكان الحسن والحسين يثبان على ظهره، فلما صلى قال أبو هريرة: يا رسول الله ألا أذهب بهما إلى أمهما؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا، فبرقت برقة فما زالا في ضوئها حتى دخلا إلى أمهما.
وعن بريدة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهما، فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر، فقال: صدق الله " إنِّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةً "، رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما. ثم أخذ في خطبته.(7/14)
وعن زيد بن أرقم قال: خرج الحسن بن علي وعليه بردة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب، فعثر الحسن فسقط، فنزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنبر، وابتدره الناس فحملوه، وتلقاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فحمله ووضعه في حجره، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الولد لفتنة ولقد نزلت إليه وما أدري أين هو.
وعن أنس بن مالك قال: لقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحسن على ظهره، فإذا سجد نحاه، فإذا رفع رأسه، يعني أعاده.
وعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى صلاتي العشي، الظهر أو العصر، وهو حامل حسناً أو حسيناً، فتقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضعه، ثم كبر في الصلاة، فسجد بين ظهري صلاته سجدة أطالها. قال أبي: فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو ساجد، فرجعت في سجودي، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلاة، قال الناس: يا رسول الله، إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر وأنه يوحى إليك، قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته.
وعن جابر بن عبد الله قال: دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حامل الحسن والحسين على ظهره، وهو يمشي بهما فقلت: نعم الجمل جملكما، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الراكبان هما.
وعنه قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحسن والحسين على ظهره، وهو يمشي بهما على أربع، وهو يقول: نعم الجمل جملكما، ونعم العدلان أنتما.
وعن ابن عباس قال: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حامل الحسن على عاتقه فقال له رجل: يا غلام نعم المركب ركبت. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ونعم الراكب هو.(7/15)
وعن زيد بن أرقم قال: إني لعند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مر علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم.
وعن المقدام بن معد يكرب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: الحسن مني والحسين من علي.
وعن البراء بن عازب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للحسن أو الحسين: هذا مني وأنا منه وهو يحرم عليه ما يحرم علي.
وعن عمير بن إسحاق قال: كنت أمشي مع الحسن بن عي قي بعض طرق المدينة فلقيه أبو هريرة فقال له: أرني أقبل منك حيث رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل. قال: فقال بقميصه فكشف عن سرته فقبلها.
وعن معاوية قال:
رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمص لسانه أو قال: شفته يعني الحسن بن علي وإنه لن يعذب لسان أو شفتان مصهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن ابن جعفر قال: بينما الحسن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ عطش فاشتد ظمؤه، فطلب له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماء فلم يجد، فأعطاه لسانه، فمصه حتى روي.
وعن أبي هريرة: أن مروان بن الحكم أتى أبا هريرة في مرضه الذي مات فيه، فقال مروان لأبي هريرة: ما وجت عليك في شيء منذ اصطحبنا إلا في حبك الحسن والحسين. قال: فتحفز أبو هريرة فجلس فقال:(7/16)