بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
[التاريخ]
باب اشتقاق اسم التاريخ والفائدة بالعناية به
قال الله تعالى: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج "، بالأهلة يدرك عدد الأعوام، وتعرف أوقات الحج والصيام، ويعتبر بها انقضاء عدد النساء من بعولتهن ومدة حملهن ووضع أجنتهن، ووقت محل الديون اللازمة، وتصرم مدد عقود الأجائر. واختلاف الفصول: وبها تحد حوادث الأمم الخالية.
وفي كتاب الخراج لقدامة قال: تأريخ كل شيء آخره، وهو في الوقت غايته والموضع الذي انتهى إليه. يقال: فلان تأريخ قومه، أي إليه ينتهي شرفهم. ويقال: ورخت الكتاب توريخاً، لغة تميم، وأرخته تأريخاً، لغة قيس. ولكل مملكة وأهل ملة تاريخ. وجماع القول في تواريخهم أنهم يؤرخون بالوقت الذي تحدث فيه حوادث مشهورة هامة.
بإسنادنا عن المصنف عن مشايخه عن ابن عباس: في قوله " يسألونك عن الأهلة " قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عنمة وهما رجلان من الأنصار، قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما(1/25)
كان، لا يكون على حال واحد؟! فنزلت: " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس " في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدة نسائهم والشروط التي تنتهي إلى أجل معلوم.
وبسنده عن قتادة في هذه الآية قال: فجعلها الله سبحانه لصوم المسلمين وإفطارهم وحجهم ومناسكهم وعدد نسائهم ومحال ديونهم في أشياء، والله أعلم بما يصلح خلقه. وقال عز وجل: " هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ".(1/26)
باب في مبتدأ التاريخ واصطلاح الأمم عليه
وبسنده عن مشايخه عن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جبريل حدثه قال: مضى من الدنيا ستة آلاف وسبع مئة سنة. قال: وكل قطرة مطر تنزل من السماء يوكل بها ملك من الملائكة يضعها موضعها قال: ونبأ في الأرض من الأنبياء مئة ألف وأربعون ألفاً وثلاث مئة من المرسلين حتى جاء سيدنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء لا نبي بعده. قال: وما بقي من الدنيا إلا كما بقي من النهار إذا غابت الشمس وبقي حمرة الشمس على الحيطان.
وبسنده عن ابن عباس قال: كانت فترتان: فترة بين إدريس ونوح عليهما السلام، وفترة بين عيسى ومحمد صلوات الله عليهما، فكان أول نبي بعث إدريس بعد آدم، فكان بين موت آدم وبين أن بعث إدريس مئتا سنة، لأن آدم عاش ألف سنة إلا أربعين عاماً، وولد إدريس وآدم حي فمات آدم وإدريس ابن مئة سنة، فجاءته النبوة بعد موت آدم بمئتي سنة، وكان في نبوته مئة سنة وخمس سنين، فرفعه الله وهو ابن أربع مئة سنة وخمس سنين، وكان الناس من آدم إلى إدريس أهل ملة واحدة متمسكين بالإسلام وتصافحهم الملائكة، فلما رفع إدريس اختلفوا وفتر الوحي فيما بين إدريس ونوح مئة سنة، وكانت نبوة نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً وعمر بعد الغرق خمسين عاماً، ويقال مئتي عام والله أعلم. وكان سام بن نوح بعدما مات نوح ابن مئة سنة وعاش بعده مئتي سنة. وكان بين نوح وهود ثمان مئة سنة وعاش هود أربع مئة سنة وأربعاً وستين سنة. وكان لبين هود وصالح مئة سنة. وعاش صالح ثلاث مئة سنة إلا عشرين عاماً. وكان بين صالح وبين إبراهيم ست مئة سنة وثلاثون سنة.(1/27)
وعاش إبراهيم مئة سنة وخمساً وسبعين سنة، وقيل مئتي سنة وسنة. وعاش إسماعيل مئة سنة وتسعاً وثلاثين سنة. وعاش إسحاق مئة سنة وثمانين سنة. وعاش يعقوب بن إسحاق مئة سنة وتسعاً وأربعين سنة. وكان بين موسى وإبراهيم سبع مئة سنة وكان الأنبياء بين موسى وعيسى متواترة وكذلك بين نوح إلى موسى. قال عز وجل: " ثم أرسلنا رسلنا تترى " بعضها على إثر بعض " كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضاً " إلى قوله: " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون " فمن زعم أنه يعلم عدتهم وأسماءهم إلا الله فقد كذب، إن الله يقول لنبيه: " ومنهم من لم نقصص عليك ". وكان بين موسى وعيسى فيما روي عن كعب ست مئة سنة، وفيما روي عن ابن عباس خمس مئة سنة.
وبإسناده عن محمد بن إسحاق بن يسار قال:
كان من آدم إلى نوح ألف ومئتا سنة، ومن نوح إلى إبراهيم ألف ومئة واثنتان وأربعون سنة، ومن إبراهيم إلى موسى خمس مئة وخمس وستون سنة، ومن موسى إلى داود خمس مئة وتسع وستون سنة، ومن داود إلى عيسى ألف وثلاث مئة وست وخمسون سنة، ومن عيسى إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست مئة سنة، فذلك خمسة آلاف وأربع مئة واثنتان وثلاثون سنة، وهذا الإجمال صحيح.
وبإسناده عن عكرمة قال: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وعن ابن عباس قال: كان بين موسى بن عمران وعيسى بن مريم ألف سنة وتسع مئة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وإنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم وكان بين ميلاد عيسى والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس مئة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاث أنبياء وهو قوله عز وجل: " إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث " والذي عزز به(1/28)
شمعون، وكان من الحواريين، وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولاً أربع مئة سنة وأربعا وثلاثين سنة وإن حواريي عيسى بن مريم كانوا اثني عشر رجلاً، وكان قد تبعه بشر كثير ولكنه لم يكن فيهم حواري إلا اثنا عشر رجلاً، وكان من الحواريين القصار والصياد، وكانوا عمالاً يعملون بأيديهم، وإن الحواريين من الأصفياء، وإن عيسى حين رفع كان ابن اثنتين وثلاثين سنة وستة أشهر، وكانت نبوته ثلاثين شهراً، وإن الله رفعه بجسده، وإنه حي الآن، وسيرجع إلى الدنيا فيكون فيها ملكاً ثم يموت كما يموت الناس، وقرية عيسى تسمى ناصرة، وأصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى: الناصري، فلذلك سميت النصارى.
وبالإسناد عن أبي الوليد هشام بن عمار قال: بلغني أن من آدم إلى يوم غرقت الأرض ألفي سنة ومئتي سنة واثنتين وأربعين سنة، ومن يوم غرقت الأرض إلى أن ظهر إبراهيم ألف سنة وخمس عشرة سنة، ومن أيام إبراهيم إلى خروج بني إسرائيل من مصر أبع مئة سنة وثمانين سنة، ومن خروج بني إسرائيل إلى بنيان بنت المقدس سبع مئة سنة وستاً وأربعين سنة، ومن بنيان بيت المقدس إلى أن سباهم بخت ناصر أربع مئة سنة وعشرين سنة، ومن بخت ناصر إلى خروج عيسى بن مريم ست مئة سنة وثلاثين سنة وستة أشهر، ومن عيسى إلى أن بعث الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق ست مئة سنة وإحدى وعشرين سنة.
وبسنده عن ابن شهاب: أن قريشاً كانت تعد قبل عدد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من زمن الفيل، كانوا يعدون بين الفيل وبين الفجار أربعين سنة، وكانوا يعدون بين الفجار وبين وفاة هشام بن المغيرة ست سنين، وكانوا يعدون بين وفاة هشام وبين بنيان الكعبة تسع سنين، وكانوا يعدون بين بنيان الكعبة وبين أن خرج سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة خمس عشرة سنة، منها خمس سنين قبل أن ينزل عليه ثم كان العدد بعد.(1/29)
وبه عن كعب قال: بدأ الله خلق السماوات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة ثم جعل مع كل يوم ألف سنة.
وبإسناده عن الزهري والشعبي قالا:
لما هبط آدم من الجنة وانتشر ولده أرخ بنوه من هبوط آدم، فكان ذلك التاريخ حتى بعث الله نوحاً فأرخوا ببعث نوح، حتى كان الغرق فهلك من هلك ممن كان على وجه الأرض، فلما هبط نوح وذريته وكل من كان في السفينة إلى الأرض قسم الأرض بين ولده أثلاثاً: فجعل لسام وسطاً من الأرض، وفيها بيت المقدس والنيل والفرات ودجلة وسيحان وجيحان وقيسون وذلك ما بين قيسون إلى شرقي النيل وما بين منخر ريح الجنوب إلى منخر الشمال، وجعل لحام قسمة غربي النيل فما وراءه إلى منخر ريح الدبور، وجعل قسم يافث في قيسون فما وراءه إلى منخر ريح الصبا. فكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم. فلما كثر ولد إسماعيل افترقوا: فأرخ بنو إسحاق من نار إبراهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى، ومن مبعث عيسى إلى مبعث سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم إلى بناء البيت حين بناه إبراهيم وإسماعيل ثم أرخوا من بناء البيت حتى تفرقت معد، فكان كلما خرج قوم من تهامة أرخوا مخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني إسماعيل يؤرخون من خروج معد وفهر وجهينة من بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي، فأرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل، فكان التاريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثمان عشرة.
وبسندنا عنه عن مشايخه عن عبد العزيز بن عمران قال: لم يزل للناس تأريخ، كانوا يؤرخون في الدهر الأول من هبوط آدم من الجنة لم يزل ذلك حتى بعث الله نوحاً فأرخوا من دعاء نوح على قومه، ثم أرخوا من الطوفان، ثم لم يزل كذلك حتى حرق إبراهيم فأرخوا من تحريق إبراهيم، وأرخت بنو(1/30)
إسماعيل من بنيان الكعبة، ولم يزل كذلك حتى مات كعب بن لؤي فأرخوا من موته فلم يزل كذلك حتى كان عام الفيل فأرخوا عمن عام الفيل. ثم أرخ المسلمون بعد من مهاجر سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد كان للعرب أيضاً تأريخ.
وقال أبو عبيدة: لم يزل لفارس تأريخ يعرفون أمورهم به، وتأريخ حسابهم منذ هلك يزدجرد بن شهريار.
قال: ولبني إسرائيل تأريخ آخر بسني ذي القرنين.(1/31)
ذكر اختلاف الصحابة في التاريخ
وما نقل فيه من الاتفاق منهم
وبإسنادنا عنه عن مشايخه عن الزهري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرخ التأريخ حين قدم المدينة في شهر ربيع الأول.
قال أبو حفص: وقدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الاثنين ارتفاع النهار لثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
وعن ابن شهاب أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بالتأريخ يوم قدم المدينة في شهر ربيع.
وقد روي ابتداء التأريخ، ولم يبين من أمر به.
قال: والمحفوظ أن الآمر بالتأريخ عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وروي عن ابن عباس قال: كان التأريخ في السنة التي قدم فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة.
وفي رواية عن محمد بن سهل البخاري: وفيها ولد عبد الله بن الزبير.
وبسنده عن عمرو بن دينار قال: كان التأريخ في عشر سنين من سني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي تلك السنة ولد ابن الزبير.(1/32)
وبسنده عن سهل بن سعد قال: أخطأ الناس العدد، لم يعدوا من مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يعدوا من متوفاه، إنما عدوا من مقدمه المدينة.
وكان تأريخ قريش في الجاهلية بمكة من متوفي هشام بن المغيرة.
وبسنده عن ميمون بن مهران قال: وقع إلى عمر رضي الله عنه صك محله في شعبان فقال عمر: أي شعبان هذا؟ الذي مضى أو الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ ثم جمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لهم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه فقال قائل: اكتبوا على تأريخ الروم، فقيل: إنه يطول، وإنهم يكتبون من عدد ذي القرنين، وقال قائل: اكتبوا على تأريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فوجدوه أقام بها عشر سنين فكتب أو فكتب التأريخ على هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبسنده عن ابن سيرين:
أن رجلاً من المسلمين قدم من أرض اليمن فقال لعمر: رأيت شيئاً يسمونه التأريخ، يكتبون من عام كذا وشهر كذا، فقال عمر: إن هذا لحسن فأرخوا، فلما أجمع على أن يؤرخ شاور، فاقل قوم: مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال قوم: بالمبعث، وقال قائل: حين خرج مهاجراً من مكة وقال قائل: الوفاة حين توفي. فقال: أرخوا خروجه من مكة إلى المدينة. ثم قال: بأي شهر نبدأ فنصيره أول السنة؟ فقالوا: رجب، فإن أهل الجاهلية كانوا يعظمونه، وقال آخرون: شهر رمضان، وقال بعضهم: ذو الحجة فيه الحج، وقال آخرون: الشهر الذي خرج من مكة، وقال آخرون: الشهر الذي قدم فيه. فقال عثمان: أرخوا المحرم أول السنة، وهو شهر حرام، وهو أول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس عن الحج، فصيروا أول السنة المحرم فكان أول ما أرخ في الإسلام من مهاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال الناس: سنة إحدى وسنة اثنتين إلى يومنا هذا، وكان التأريخ في سنة سبع عشرة، ويقال في سنة ست عشرة في ربيع الأول.(1/33)
وعن ابن المسيب قال: أول من كتب التاريخ عمر، لسنتين ونصف من خلافته، فكتبه لست عشرة من المحرم، بمشورة من علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما.
وعن محمد بن عمر قال: حج عمر في سنة ست عشرة وخلف على المدينة زيد بن ثابت، وفيها كتب التأريخ في شهر ربيع الأول، يعني أن في ربع الأول كتب التأريخ لا أنه جعل ابتداء التأريخ من ربيع الأول، وإنما جعل من المحرم.(1/34)
ذكر تاريخ الهجرة
وبإسناده عن أبي حفص الفلاس: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الاثنين، ارتفاع النهار لثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقام بمكة عشراً، وخرج منها في صفر، وقدم المدينة في شهر ربيع الأول.
وقال ابن القواس: كان أول المحرم سنة الهجرة، يوم الخميس اليوم السابع عشر من أفروردين ماه سنة ثلاث وثلاثين لكسرى أبرواز، واليوم الثامن من أيار سنة ثلاث وثلاثين وتسع مئة لذي القرنين.(1/35)
القول في اشتقاق تسمية الأيام والشهور
وعن ابن عباس قال: إن الله تعالى خلق يوماً فسماه الأحد ثم خلق ثانياً فسماه الاثنين ثم خلق ثالثاً فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعاً فسماه الأربعاء ثم خلق خامساً فسماه الخميس. فخلق الأرض يوم الأحد والاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، ولذلك يقول الناس: يوم ثقيل، وخلق موضع القرى والأشجار يوم الأربعاء، وخلق الطير والوحش والسباع والهوام والآفة يوم الخميس، وخلق الإنسان يوم الجمعة، وفرغ من الخلق يوم السبت.
وعن أبي عمرو بن العلاء المقرئ: كانت العرب في الجاهلية يسمون الأحد أول، والاثنين أهون، والثلاثاء دبار، والأربعاء جبار، والخميس مؤنس، والجمعة عروبة، والسبت شيار.
قال: وكان أبو عمرو بن العلاء يقول: إنما سمي المحرم لأن القتال حرم فيه، وصفر لأن العرب كانت تنزل فيه بلاداً يقال لها صفر، وشهرا ربيع كانوا يربعون فيهما، وجماديان كان يجمد الماء فيهما، ورجب كانوا يرجبون فيه النخل، وشعبان تشعبت فيه القبائل، ورمضان رمضت فيه الفصال من الحر، وشوال شالت الإبل بأذنابها للضراب، وذو القعدة قعدوا فيه عن القتال، وذو الحجة كانوا يحجون فيه. فأما أول السنة فالمحرم.(1/36)
وبسنده عن ابن عباس في قوله: " والفجر وليال عشر " قال: هو المحرم فجر السنة.
وبسنده عن عبيد بن عمير قال: المحرم شهر الله، وهو رأس السنة، فيه يكسى البيت، ويؤرخ التاريخ، ويضرب فيه الورق، وفيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم.(1/37)
السبب الذي حمل الأئمة على أن قيدوا المواليد وأرخوا التواريخ
وبسندنا عنه عن مشايخه عن أبي عمر الخراساني قال: قال سفيان الثوري: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ. أو كما قال أبو عمر.
وبسنده عن حفص بن غياث قال: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين، يعني احسبوا سنة وسن من كتب عنه.
وقال حسان بن زيد: لم نستعن على الكذابين بمثل التاريخ، نقول للشيخ: سنة كم ولدت؟ فإذا أقر بمولده عرفنا صدقه من كذبه.
قال أبو حسان الراوي: فأخذت في التاريخ، فأنا أعمله من ستين سنة.
قال الحسن بن الربيع:
قدمت بغداد فلما خرجت شيعني أصحاب الحديث، فلما برزت إلى خارج، قال لي أصحاب الحديث: توقف فإن أحمد بن حنبل يجيء، فتوقفت، فجاء أحمد بن حنبل، فقعد فأخرج ألواحه فقال: يا أبا علي أمل علي وفاة عبد الله بن المبارك، في أي سنة مات؟ فقلت: سنة إحدى وثمانين، فقيل له: ما تريد بهذا؟ فقال: أريد الكذابين.(1/38)
قال أبو الفضل صالح بن أحمد بن محمد التميمي الحافظ: ينبغي لطالب الحديث ومن عني به أن يبدأ بكتب حديث بلده، ومعرفة أهله، وبفهمه وضبطه حتى يعلم صحيحه وسقيمه، ويعرف أهل الحديث به وأحوالهم معرفة تامة إذا كان في بلده علم وعلماء قديماً وحديثاً، ثم يشتغل بعد بحديث البلدان والرحلة فيه.(1/39)
[دمشق والشام]
ذكر أصل اشتقاق تسمية الشام
وبإسنادنا عنه عن مشايخه عن هشام بن محمد عن أبيه قال: كان الذي عقد لهم يعني ولد نوح عليه السلام الألوية ببابل يوناطن بن نوح، فنزل بنو سام المجدل سرة الأرض، وهو فيما بين ساتيدما إلى البحر، وفيما بين اليمن إلى الشام، وجعل الله النبوة والكتاب والجمال والأدمة والبياض فيهم، ونزل بنو حام مجرى الجنوب والدبور ويقال لتلك الناحية الداروم، وجعل الله فيهم أدمة وبياضاً قليلاً وأعمر بلادهم وسماءهم ورفع عنهم الطاعون، وجعل في أرضهم الأثل والأراك والعشر والغاف والنخل، وجرت الشمس والقمر في سمائهم. ونزل بنو يافث الصفون مجرى الشمال والصبا، وفيهم الحمرة والشقرة، وأخلى الله أرضهم فاشتد بردها، وأجلا سماءها، فليس يجري فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية، لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين، وابتلوا بالطاعون، ثم لحقت عاد بالشحر، فعليه هلكوا بواد يقال له مغيث، فلحقت بعدهم مهرة بالشحر، ولحقت عبيل بموضع يثرب، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء ثم انحدر بعضهم إلى يثرب فأخرجوا منها عبيلاً فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل سيل فاجتحفهم فذهب بهم فسميت الجحفة. ولحقت ثمود الحجر وما يليه فهلكوا ثم. ولحقت طسم وجديس باليمامة، وإنما سميت اليمامة بامرأة منهم، فهلكوا. ولحقت أميم بأرض أبار فهلكوا بها وهي يمين اليمامة والشحر ولا يصل إليها اليوم أحد، غلبت عليها الجن، وإنما سميت أبار بأبار بن أميم. ولحقت بنو يقطن بن عامر باليمن فسميت اليمن حيث تيامنوا إليها. ولحق قوم من بني كنعان بن حام بالشام فسميت الشام حين تشاءموا إليها، وكانت الشام يقال لها أرض بني كنعان، ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها، ونفوهم عنها، فكانت(1/40)
الشام لبني إسرائيل، ووثبت الروم على بني إسرائيل، فقتلوهم وأجلوهم إلى العراق إلا قليلاً منهم. وجاءت العرب فغلبوا على الشام.
وكان فالغ وهو فالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح هو الذي قسم الأرض بين بني نوح كما سمينا في الكتاب.
قال: ويقطن هو قحطان بن عابر بن شالخ. وطسم وأميم وعمليق وهو غريب بنو لوذ بن سام بن نوح. وثمود وجديس ابنا جاثر بن إرم بن سام بن نوح. وعاد وعبيل ابنا عوص بن إرم بن سام بن نوح. والروم بنو لنطن بن يونان بن يافث بن نوح عليه السلام.
قال أبو الجلد: الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، منها ألف فرسخ للعرب، ولسائر الناس البقية.
قال: والشام فيه وجهان: يجوز أن يكون مأخوذاً من اليد الشؤمى: وهي اليسرى، ويجوز أن يكون فعلى من الشؤم، وقد أشأم: أتى الشام.
وقال أبو الحسين بن فارس: أما الشام فهو فعل من اليد الشؤمى: وهي اليسرى، يقال: أخذ شأمة أتى على يساره، وشأمت القوم ذهبت على شمالهم. وقال قوم: هو من شوم الإبل وهي سودها وحضارها هي البيض. ورجل شآم من أهل الشام.
وقال ابن المقفع: سميت الشام بسام بن نوح، وسام اسمه بالسريانية شام وبالعبرانية شيم.(1/41)
وقال الكلبي: سميت الشام بشامات لها حمر وسود وبيض، ولم ينزلها سام قط.
وقيل: سميت الشام لأنها عن شمال الأرض كما أن اليمن أيمن الأرض.
وقالوا: تشاءم للذين نزلوا الشام.
وقال بعض الرواة: اسم الشام الأول سورية، وكانت أرض بني إسرائيل، قسمت على اثني عشر سهماً فصار لكل قسم تسعة أسباط ونصف في مدينة يقال لها شامرين وهي من أرض فلسطين، فصار إليها متجر العرب في ذلك الدهر، ومنها كانت ميرتهم فسموا الشام بشامرين ثم حذفوا فقالوا الشام.(1/42)
ذكر تاريخ مدينة دمشق ومعرفة من بناها
قال إسحاق بن أيوب القرشي:
جيرون من بناء سليمان بن داود، بنته الشياطين، وكان الشيطان الذي بناه يدعى جيرون، وهي سقيفة مستطيلة على عمد، وسقائف على عمد وحوله مدينة تطيف بجيرون.
وقال خصيف: لما هبط نوح من السفينة وأشرف من جبل حسمى رأى تل حران بين نهرين: جلاب وديصان فأتى حران فخطها، ثم أتى دمشق فخطها. فكانت حران أول مدينة خطت بعد الطوفان، ثم دمشق.
وقيل: إن أصحاب الرس كانوا بحضور فبعث الله إليهم نبياً يقال له حنظلة بن صفوان فكذبوه وقتلوه، فسار عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح بولده من الرس فنزل الأحقاف، وأهلك الله أصحاب الرس. وانتشر ولد عاد في اليمن كله، وفشوا مع ذلك في الأرض، حتى نزل جيرون بن سعد بن عاد بن عوص دمشق وهي مدينتها، وسماها جيرون وهي إرم ذات العماد. وليس أعمدة الحجارة في موضع أكثر منها بدمشق، فبعث الله هود بن عبد الله بن رباح بن خالد بن الجلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح نبياً إلى عاد يعني إلى أولاد عاد بالأحقاف فكذبوه فأهلكهم الله.(1/43)
وقيل: جيرون وتبريد كانا أخوين، وهما ابنا سعد بن لقمان بن عاد، وهما اللذان يعرف جيرون وباب البريد بدمشق بهما.
وقال منصور بن يحيى بن سعيد الموصلي: المدن القديمة: الكعبة ومصر ودمشق والجزيرة والأبلة نينوى وحران والسوس الأقصى.
وقال وهب بن منبه: دمشق بناها العازر غلام إبراهيم الخليل، وكان حبشياً وهبه له نمرود بن كنعان حين خرج إبراهيم من النار، وكان اسم الغلام دمشق، فسماها على اسمه، وذلك بعد الغرق، وكان إبراهيم جعله على كل شيء له، وسكنها الروم بعد ذلك بزمان.
وحكي: أن بيوراسب الملك الكيوناني بنى مدينة بابل، ومدينة صور، ومدينة دمشق.
وحكى الدمشقيون قالوا: كان في زمن معاوية بن أبي سفيان رجل صالح بدمشق وكان يقصده الخضر عليه السلام في أوقات يأيته فيها، فبلغ معاوية بن أبي سفيان ذلك فجاء إليه راجلاً فقال له: بلغني أن الخضر ينقطع إليك فأحب أن تجمع بيني وبينه عندك، فقال له: نعم، فجاءه الخضر عليه السلام، فسأله الرجل ذلك فأبى عليه وقال: ليس إلى ذلك سبيل. فعرف الرجل ذلك لمعاوية فقال: قل له: قد قعدنا مع من هو خير منك وحدثناه وخاطبناه وهو محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن سله عن ابتداء بناء دمشق، كيف كان؟ فقال: نعم، صرت(1/44)
إليها فرأيت موضعها بحراً مستجمعاً فيه المياه، ثم غبت عنها خمس مئة سنة، ثم صرت إليها فرأيتها غيضة، ثم غبت عنها خمس مئة سنة، ثم صرت إليها فرأيتها بحراً كعادتها الأولى، ثم غبت عنها خمس مئة عام، وصرت إليها فرأيتها قد ابتدئ فيها بالبناء، ونفر يسير فيها.
وقال أبو البختري: ولد إبراهيم على رأس ثلاثة آلاف ومئة وخمسين سنة من جملة الدهر الذي هو سبعة آلاف سنة. قال: وذلك بعد بنيان دمشق بخمس سنين.
وقيل: إن دمشق بناها دمسقس غلام الإسكندر.
قالوا: لما رجع ذو القرنين من المشرق وعمل السد بين أهل خراسان وبين يأجوج ومأجوج وسار يريد المغرب، فلما أن بلغ الشام وصعد على عقبة دمر أبصر هذا الموضع الذي فيه اليوم مدينة دمشق وكان هذا الوادي الذي يجري فيه نهر دمشق غيضة أرز. والأرزة التي وقعت في سنة ثلاث مئة وثلاث عشرة من بقايا تلك الغيضة. فلما نظر ذو القرنين إلى تلك الغيضة وكان هذا الماء الذي في هذه الأنهار اليوم مفترق مجتمعاً في واد واحد. فأخذ الإسكندر، ذو القرنين، يتفكر كيف يبني فيه مدينة، وكان أكثر فكره وتعجبه أنه نظر إلى جبل يدور بذلك الموضع وبالغيضة كلها، وكان له غلام يقال له دمسقس على جميع ملكه. ولما نزل ذو القرنين من عقبة دمر سار حتى نزل في موضع القرية المعروفة بيلدا من دمشق على ثلاثة أميال، فلما نزل ذو القرنين أمر أن يحفر له في ذلك الموضع خفيرة، فلما فعلوا ذلك أمر أن يرد التراب الذي أخرج منها إليها، فلما رد التراب إليها لم تمتلئ الحفيرة: فقال لغلامه دمسقس: ارحل فإني كنت نويت أن أؤسس في هذا الموضع مدينة، فأما إذ بان لي منه هذا فما يصلح أن يكون هاهنا مدينة. فقال له: لم؟ قال: إن بني هاهنا مدينة فإنها ما يكون يكفي أهلها زرعها.
قال:
وعلامة ذلك أن أهل غوطة دمشق لا تكفيهم غلاتهم حتى يشتروا لهم من المدينة ورحل ذو القرنين حتى صار إلى البثنية وحوران، وأشرف على تلك السعة، ونظر إلى تلك التربة الحمراء، فأمر أن يناول من ذلك التراب، فلما صار في يده أعجبه، فأمر أن(1/45)
ينزل هناك، وأمر أن يحفر في ذلك الموضع حفيرة، فلما حفروا أومر أن يرد ذلك التراب الذي حفروا إلى المكان الذي أخرج منه، فردوه ففضل منه تراب كثير، فقال ذو القرنين لغلامه دمسقس: ارجع إلى الموضع الذي فيه الأرز إلى ذلك الوادي فاقطع ذلك الشجر وابن على حافة الوادي مدينة وسمها على اسمك، فهناك يصلح أن يكون مدينة، وهذا الموضع بحرها ومنه ميرتها يعني البثنية وحوران فرجع دمسقس ورسم المدينة وبناها وعمل لها حصناً، والمدينة التي كانت رسم دمسقس هي المدينة الداخلة، وعمل لها ثلاثة أبواب جيرون، مع ثلاثة أبواب البريد، مع باب الحديد الذي في سوق الأساكفة، مع باب الفراديس الداخلة. هذه كانت المدينة، إذا أغلقت هذه الأبواب فقد أغلقت المدينة، وخارج هذه الأبواب كان مرعى فبناها دمسقس وسكنها، ومات فيها. وكان قد بنى هذا الموضع الذي هو المسجد الجامع اليوم، كنيسة يعبد الله فيها إلى أن مات.
وقيل: إن الذي بنى دمشق بناها على الكواكب السبعة، وأن المشتري بيته دمشق، وجعل لها سبعة أبواب، وصور على كل باب أحد الكواكب السبعة، وصور على باب كيسان زحل، فخربت الصور كلها التي كانت على الأبواب إلا باب كيسان، فإن صورة زحل عليه باقية إلى الساعة.
وقيل: باب كيسان لزحل، باب شرقي للشمس، باب توما للزهرة، باب الصغير للمشتري، باب الجابية للمريخ، باب الفراديس لعطارد، باب الفراديس الآخر المسدود للقمر.
ولما قدم عبد الله بن علي دمشق وحاصر أهلها، فلما دخلها هدم سورها، فوقع منها حجر، عليه مكتوب باليونانية، فأرسلوا خلف راهب، فقالوا له: تقرأ ما عليه؟ فقال: جيئوني بقير فطبعه على الحجر فإذا عليه مكتوب: " ويك إرم الجبابرة من رامك بسوء قصمه الله، إذا وهي منك جيرون الغربي من باب(1/46)
البريد، ويلك من الخمسة أعين، نقض سورك على يديه، بعد أربعة آلاف سنة تعيش رغداً، فإذا وهي منك جيرون الشرقي أديل لك ممن تعرض لك ".
قال: فوجدنا الخمسة أعين: عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب.
ويقال: إن ملك دمشق بنى حصن دمشق الذي حول المسجد داخل المدينة على مسحة مسجد بيت المقدس، وحمل أبواب مسجد بيت المقدس فوضعها على أبوابه، فهذه الأبواب التي على الحصن هي أبواب مسجد بيت المقدس.(1/47)
اشتقاق تسمية دمشق
وأما اشتقاق تسمية دمشق فقيل: دمشق فعل، من قول العرب: ناقة دمشق اللحم، إذا كانت خفيفة. ويقال: إن سيف الدولة سأل عن دمشق: هل يقال فيها دمشقة أم لا؟ فأجيب إنها لا يقال إلا بغير هاء، فأعاد الجواب: إن عبد الرحمن بن حنبل الجمحي قال وهو بعسكر يزيد بن أبي سفيان عند حصارهم دمشق: الطويل
أبلغ أبا سفيان عنا بأننا ... على خير حال كان جيش يكونها
وأنا على بابي دمشقة نرتمي ... وقد حان من بابي دمشقة حينها
وقيل: إن رجلاً من حكماء الروم قال: إنما سميت دمشق بالرومية وإن أصل اسمها دوومسكس أي مسك مضاعف لطيبها لأن دوو للتضعيف ومسكس هو المسك، ثم عربت، فقيل: دمشق.
ويقال: إنه ولد لإسماعيل بن إبراهيم اثنا عشر رجلاً، فسماهم، قالا: ودما، وهو ديما، وبه سميت دومة الجندل.
وولد للوط أربعة بنين وابنتان، فأما البنون فاسمهم: مآب وعمان وجلان، وملكان، والبنات زغر والرية، فعمان مدينة البلقاء سميت بعمان بن لوط، ومآب البلقاء سميت بمآب بن لوط، وعين زغر سميت بزغر بنت لوط، والرية سميت بالرية بنت لوط.(1/48)
ويقال: سميت صيدا التي بالشام بصيدون بن صدقا بن كنعان بن حام بن نوح، وهو أول من ولده إرم، وسميت أريحا التي بالشام بأريحا بن مالك بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وسميت البلقاء ببالق بن عمان بن لوط لأنه بناها وسكنها.
ويقال: البلقاء من عمل دمشق سميت ببلقاء بن شويرة من بني عمان بن لوط، وهو بناها.
ويقال: ولد للوط أربعة، رجلان مآب وعمان، وامرأتان: زغر والرية. فعمان مدينة البلقاء سميت بعمان بن لوط، ومآب من مدائن البلقاء سميت بمآب بن لوط، وزغر سميت بزغر ابنة لوط، والرية برية بنت لوط.
ويقال: إن الكسوة إنما سميت بذلك لأن غسان قتلت بها رسل ملك الروم إليه لأخذ الجزية منهم واقتسمت كسوتهم.
وأما مؤتة مهموزة والهمزة ساكنة فهي الأرض التي قتل فيها جعفر بن أبي طالب. وجيرون: من قولك: جرن الشيء إذا أملاس، والجارن: الأملس من كل شيء.
وجلق من قولك: جلق رأسه إذا حلقه.
والجابية: من الجابية وهي الحوض، والجمع جواب.
وأذرح من قولك: هو ذريحي، أي شديد الحمرة.
والبلقاء: من البلق.
وتدمر من قولك: دمر أي دخل.
وبيروت: فيعول من البرت وهو الرجل الدليل.
وجبلة: من الجبل، وكل شيء اجتمع وعظم فهو جبل.
وصور: جمع من جمع صورة، ويقال: هو من صاره يصوره أي أماله.
وعكا من قولك: عككته: أي حبسته، والعكة: شدة الحر.(1/49)
حث النبي أمته على سكنى الشام وإخباره بتكفل الله عز وجل لمن سكنه من أهل الإسلام
وبإسنادنا عن المصنف عن مشايخه عن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنكم ستجندون أجناداً، جنداً في الشام، وجنداً في العراق، وجنداً باليمن "، قال: قلت: يا رسول الله: خر لي. قال: " عليكم بالشام، فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستق من غدره، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله ".
قال سعيد بن عبيد العزيز: وكان ابن حوالة رجلاً من الأزد، وكان مسكنه الأردن، وكان إذا حدث بهذا الحديث، قال: وما تكفل الله به فلا ضيعة عليه.
وفي رواية عبد الله بن الأسقع قال: عليك بالشام فإنها صفوة الله من بلاده، يسوق إليها صفوته من عباده.
وفي حديث آخر عن عبد الله بن حوالة الأزدي أنه قال: يا رسول الله، خر لي بلداً أكون فيه، فلو علمت أنك تبقى لم أختر على قربك، قال: " عليك بالشام، ثلاثاً ". فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كراهيته إياها قال: " هل تدري ما يقول الله في الشام؟ إن الله يقول: يا شام يدي عليك، يا شام أنت صفوتي من بلادي، أدخل فيك خيرة من عبادي، أنت سوط نقمتي وسوط عذابي، أنت الأندر، وإليك المحشر، ورأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة، قلت: ما تحملون؟ قالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، بينا أنا نائم إذا رأيت الكتاب(1/50)
اختلس من تحت وسادتي، فظننت أن الله قد تخلى من أهل الأرض، فأتبعته بصري، فإذا هو بين يدي حتى وضع بالشام. فمن أبى فليلحق بيمنه، وليستق من غدره، فإن الله قد توكل لي بالشام وأهله ".
وعن عبد الله بن حوالة قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فشكونا إليه العري والفقر وقلة الشيء، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ابشروا، فوا لله لأنا من كثرة الشيء أخوفني عليكم من قلته، والله لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح الله أرض فارس وأرض الروم وأرض حمير حتى تكونوا أجناداً ثلاثة: جنداً بالشام، وجنداً باليمن، وجنداً بالعراق، وحتى يعطى الرجل المئة فيتسخطها ".
قال ابن حوالة: قلت: يا رسول الله، ومن يستطيع الشام وبه الروم ذوات القرون؟ قال: " والله ليفتحنها الله عليكم وليستخلفنكم فيها حتى تظل العصابة البيض منهم قمصهم، المحلقة أقفاؤهم، قياماً على الرويجل الأسود منكم المحلوق، وما أمرهم من شيء فعلوه، وإن بها اليوم رجالاً لأنتم أحقر في أعينهم من القردان في أعجاز الإبل ".
قال ابن حوالة: فقلت: يا رسول الله، اختر لي إن أدركني ذلك. قال: " إني أختار لك الشام، فإنه صفوة الله من بلاده، وإليه يجتبى صفوته من عباده. يا أهل اليمن، عليكم بالشام فإن صفوة الله من أرضه الشام، ألا فمن أباه فليسق من غدر اليمن فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله ".
قال أبو علقمة: فسمعت عبد الرحمن بن جبير يقول: فعرف أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعت هذا الحديث في جزء بن سهيل السلمي وكان على الأعاجم في ذلك الزمان، كان إذا راحوا إلى مسجد نظروا إليه وإليهم قياماً حوله فعجبوا لنعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وفيهم.(1/51)
قال أبو علقمة: أقسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث ثلاث مرات، لا نعلم أنه أقسم في حديث مثله.
وعن العرباض بن سارية السلمي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنه قام يوماً في الناس فوعظهم موعظة بليغة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقال: أيها الناس، يوشك أن تكونوا أجناداً مجندة، جند بالشام، وجند بالعراق، وجند باليمن، فقام عبد الله بن حوالة فقال: يا رسول الله، إن أدركني ذلك فاختر لي، قال " إني أختار لك الشام فإنه عقر دار المسلمين وصفوة الله من بلاده، يجتبي إليها صفوته من خلقه، وأما أنتم فعليكم بينكم اسقوا من غدركم، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله ".
وعن عبد الله بن حوالة قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر فقال: " يا بن حوالة، كيف أنت إذا أدركتك فتنة تفور في أقطار الأرض كأنها صياصي بقر "؟! قلت: ما تأمرني يا رسول الله؟ قال: عليك بالشام.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ستخرج نار من حضرموت، أو من بحر حضرموت، نار قبل يوم القيامة تحشر الناس ". قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: " عليكم بالشام ".
وفي رواية: ستخرج نار من حضرموت تسوق الناس إلى المحشر تقيل إذا قالوا، وتسير إذا ساروا.
وعن كعب قال: توشك نار تخرج من اليمن تسوق الناس إلى الشام، تغدو معهم إذا غدوا وتروح معهم إذا راحوا، فإذا سمعتم بها فاخرجوا إلى الشام.(1/52)
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي ذر: " إذا رأيت البناء قد بلغ سلعاً فعليك بالشام ". قال: فإن حيل بيني وبين ذاك أفأضرب بسيفي من حال بيني وبين ذلك؟ قال: " لا، ولكن اسمع وأطع ولو لعبد حبشي مجدع ".
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي، ما تأمرني؟ خر لي، قال: " هاهنا، ونحا بيده نحو الشام، إنكم محشورون رجالاً وركباناً تجرون على وجوهكم ".
وعن حكيم بن معاوية عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تحشرون هاهنا وأومأ بيده إلى الشام مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، تعرضون على الله، على أفواهكم الفدام، فأول ما يعرب عن أحدكم فخذه ".
وعن معاوية بن حيدة القشيري أنه قدم على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: والذي بعثك بالحق ما خلصت إليك حتى حلفت لقومي عددها يعني أنامل كفيه تالله لا أتبعك ولا أومن بك ولا أصدقك، وإني أسألك بالله: بم بعثك ربك؟ قال: بالإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم وجهك لله، وتخلي له نفسك. قال: فماحق أزواجنا علينا؟ قال: أطعم إذا طعمت، واكس إذا أكسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت، وكيف " وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً " ثم أشار قبل الشام فقال: هاهنا تحشرون، هاهنا تحشرون ركباناً ورجالاً، وعلى وجوهكم وأفواهكم الفدام، وأول شيء يعرب عن أحدكم فخذه.(1/53)
وعن عبد الله بن عباس قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني أريد الغزو في سبيل الله، فقال: " عليك بالشام، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله. الزم من الشام عسقلان، فإنها إذا دارت الرحا في أمتي كان أهلها في راحة وعافية ".
وعن أبي أمامة قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول خيار أهل العراق إلى الشام، ويتحول شرار أهل الشام إلى العراق. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بالشام.
وعن إياس بن معاوية قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قد تكفل لي بالشام وأهلها، وإن إبليس أتى العراق فباض فيها وفرخ، وأتى مصر فبسط عبقريه واتكأ، وقال: جبل الشام جبل الأنبياء ".
قال: وهذا الحديث مرسل ومنقطع بين رواته.
وعن أبي الضحاك قال: أتيت ابن عمر فسألته أين أنزل فقال: إن الناصية الأولى من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساروا بأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلوا الشام، ثم نزلوا حمص خاصة، فانظر ما كانوا عليه فأته.
وعن عطاء الخراساني قال:
لما هممت بالنقلة من خراسان شاورت من بها من أهل العلم أين يرون أن أنزل بعيالي، كلها يقول لي عليك بالشام، ث أتيت البصرة فشاورت من بها: أين يرون لي أن أنزل بعيالي؟ كلهم يقول: عليك بالشام. ثم أتيت الكوفة فشاورت من بها من أهل العلم أين يرون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول لي: عليك بالشام. ثم أتيت مكة فشاورت من بها من أهل العلم أين يرون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول لي: عليك بالشام. ثم أتيت(1/54)
المدينة فسألت من بها من أهل العلم: أين يرون لي أن أنزل بعيالي؟ فكلهم يقول: عليك بالشام.
وعن عبد الرحمن بن سابط الجمحي قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إن لي رحماً وقرابة وإن منزلي قد نبا بي بالعراق والحجاز فخر لي فقال: أرضى لك ما أرضى لنفسي ولولدي. عليك بدمشق ثم عليك بمدينة الأسباط بانياس، فإنها مباركة السهل والجبل، نقل الله عنها أهلها حين بدلوا تطهيراً لها.(1/55)
بيان أن الإيمان يكون بالشام عند وقوع الفتن والملاحم
عن عبد الله بن عمرو قال: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أريت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فذهب به إلى الشام، فأولته الملك.
وزاد في حديث آخر: ألا وإن الإيمان، إذا وقعت الفتن، بالشام.
وعن مدرك بن عبد الله الأزدي قال: غزونا مع معاوية مصر فنزلنا بلبيس فقال عبد الله بن عمرو لمعاوية: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أقوم على فرسي في الناس؟ فأذن، فقام على فرسه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " رأيت في منامي أن عمود الكتاب حمل من تحت وسادي، فأتبعته بصري فإذا هو كالعمود من النور، فعمد به إلى الشام. ألا وإن الإيمان، إذا وقعت الفتن، بالشام " ثلاث مرات.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: هب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نومه مذعوراً وهو يرجع فقلت: مالك بأبي أنت وأمي؟ فقال: سل عمود الإسلام من تحت رأسي فأوحشني، ثم رميت ببصري فإذا هو قد غرز في الشام. فقيل لي: يا محمد، إن الله قد اختار لك الشام ولعباده، فجعلها لكم عزاً ومحشراً ومنعة(1/56)
وذكراً. من أراد الله به خيراً أسكنه الشام، وأعطاه نصيباً منها. ومن أراد به شراً أخرج سهماً من كنانته، وهي معلقة في وسط الشام وزاد في رواية: فرماه بها فلم يسلم في دنيا ولا آخرة.
وعن عبد الله بن حوالة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة، فقلت: ما تحملون؟ فقالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام. وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت وسادتي فظننت أن الله قد تخلى من أهل الأرض فأتبعته بصري، وإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام ".
فقال ابن حوالة: يا رسول الله، خر لي، فقال: عليك بالشام.
وعن عبد الله بن حوالة قال: فخرتم يا أهل الشام أن قذف الله بالفتن عن أيمانكم وعن شمائلكم، والذي نفس أبي حوالة بيده ليقذفنكم الله بفتنة يخرج منها زيافكم.
وعن ابن شوذب قال: تذاكرنا الشام. قال: فقلت لأبي سهل: أما بلغك أنه يكون بها كذا؟ قال: بلى، ولكن ما كان بها فهو أيسر مما يكون بغيرها.
وقال كعب: لن تزال الفتنة مراماً بها ما لم تبد من قبل الشام.(1/57)
ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الشام عند وقوع الفتن عقر دار المؤمنين
عن سلمة بن نفيل الكندي، وكان قومه بعثوه وافداً إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بينا أنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمس ركبتي ركبته، مستقبل الشام بوجهه، مولياً إلى اليمن ظهره وفي حديث: مولياً ظهره إلى اليمن إذ أتاه رجل فقال: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وزعموا أن الحرب قد وضعت أوزارها. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كذبوا بل الآن جاء القتال. لا يزال قوم من أمتي يقاتلون على أمر الله عز وجل، يزيغ الله قلوب أقوام، وينصرهم عليهم، حتى تقوم الساعة، أو حتى يأتي أمر الله. الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. وهو يوحي إلي أنني مقبوض غير ملبث، وأنكم متبعي أفناداً، وعقر دار المؤمنين بالشام ".
وعن كلثوم بن زياد أنه سمع سليمان بن حبيب يخبر
أن أبا الدرداء كان ممن تقدم إلى حمص، فبلغ عمر أنه أحدث بها بناء، فكتب برده إلى دمشق، فرده فكان بها. فلما قتل عمر أتاه جلساؤه من أهل حمص يسألونه الرجعة إلى حمص، فتأبى عليهم فاستشفعوا عله بمعاوية، فقال أبو الدرداء: يا معاوية، أتأمرني بالخروج من عقر دار الإسلام؟! عقر الشيء: أصله.(1/58)
ما جاء في أن الشام صفوة الله من بلاده
وإليها يجتبي خيرته من عباده
عن أبي أمامة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صفوة الله من أرضه الشام، وفيها صفوته من خلقه وعباده، وليدخلن الجنة من أمتي ثلة لا حساب عليهم ولا عذاب.
وعن أبي أمامة أيضاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الشام صفوة الله من بلاده، يجتبي إليها صفوته من عباده. فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطة، ومن دخلها من غيرها فبرحمة ".
وعن أنس بن مالك قال: قلت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا رسول الله، أين الناس يوم القيامة؟ فقال: " في خير أرض الله وأحبها إليه: الشام، وهي أرض فلسطين والإسكندرية من خير الأرضين المقتولون فيها لا يبعثهم إلى غيرها، فيها قتلوا ومنها يبعثون، ومنها يحشرون، ومنها يدخلون الجنة.
وعن علقمة قال: قدم كعب على عمر المدينة فقال له عمر: يا كعب، ما يمنعك من النزول بالمدينة فإنها مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبها مدفنه. قال: يا أمير المؤمنين، إني وجدت في كتاب الله المنزل في التوراة أن الشام كنز الله في أرضه، وبها كنز الله من عباده. وأراد عمر العراق، فقال له كعب: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من العراق، فإنها أرض مكر وأرض السحر، وبها تسعة أعشار الشر، وبها كل داء عضال، وبها كل شيطان مارد.(1/59)
وعن كعب قال: أحب يعني البلاد إلى الله تعالى الشام، وأحب الشام إلى الله القدس، وأحب القدس إلى الله جبل نابلس. ليأتين على الناس زمان يتماسحونه بالحبال بينهم.
وعن كعب أنه كان يقول: يا أهل الشام، إن الناس يريدون أن يضعوكم، والله يرفعكم. وإن الله يتعاهدكم كما يتعاهد الرجل نبله في كنانته، لأنها أحب أرضه إليه، يسكنها أحب خلقه إليه، من دخلها مرحوم، ومن خرج منها فهو مغبون.
وعن كعب أنه قال: مكتوب في التوراة أن الشام كنز الله جل وعز من أرضه، بها كنز الله عز وجل من عباده. يعني بها قبور الأنبياء: إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
وعن وهب بن منبه قال: إني لأجد ترداد الشام في الكتب حتى كأنه ليس لله حاجة إلا بالشام.
وعن ثابت بن معبد قال: قال الله: يا شام، أنت خيرتي من بلادي، أسكنك خيرتي من عبادي.(1/60)
اختصاص الشام ببسط ملائكة الرحمة أجنحتها عليها
عن زيد بن ثابت قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نؤلف القرآن في الرقاع، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " طوبى للشام. فقلنا: لأي ذلك؟ قال: إن ملائكة الرحمن وفي رواية: ملائكة الرحمة باسطة أجنحتها عليها ".
وفي حديث آخر عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن عنده: طوبى للشام. فقلنا: ما باله يا رسول الله؟ قال: إن الرحمن لباسط رحمته عليه.
وعن واثلة بن الأسقع قال: إن الملائكة تغشى مدينتكم هذه، يعني دمشق، ليلة الجمعة، فإذا كان بكرة افترقوا على أبواب دمشق براياتهم وبنودهم فيكونون سبعين رجلاً، ثم ارتفعوا. ويدعون الله لهم: اللهم اشف مريضهم، ورد غائبهم.(1/61)
دعاء النبي للشام بالبركة
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي صاعنا وفي مدنا، وفي يمننا وفي شامنا "، فقال رجل: يا رسول الله: وفي عراقنا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم بارك لنا في مدينتنا وفي صاعنا وفي مدنا، وفي يمننا وفي شامنا "، فقال رجل: يا رسول الله: وفي عراقنا؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " بها الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان " وفي رواية: قرنا الشيطان.
وعن عبد الله بن عمر قال:
صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر ثم انفتل، فأقبل على القوم فقال: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا "، فقال رجل: والعراق يا رسول الله؟ فسكت، ثم أعاد فقال: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنافي مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا. " قال: قال رجل: والعراق يا رسول الله؟! قال: فسكت ثم أعاد فقال: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا. اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا ". قال: قال رجل: والعراق يا رسول الله! قال؟! " من ثم يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن ".
وعن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا "، قال: قالوا: وفي نجدنا؟ قال: " هنالك الزلازل والفتن وبها يخرج قرن الشيطان ".(1/62)
وعن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم بارك لنا في مكتنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في شامنا، وبارك لنا في يمننا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا "، فقال رجل: يا رسول الله، العراق ومصر؟! فقال: " هناك ينبت قرن الشيطان، وثم الزلازل والفتن ".
وعن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا "، فقال رجل: وفي مشرقنا يا رسول الله؟! قال: " من هناك يطلع قرن الشيطان، وبها تسعة أعشار الشر ".
وعن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي صاعنا ومدنا، ويمننا وشامنا، ثم استقبل مطلع الشمس فقال: من هاهنا يطلع قرن الشيطان، من هاهنا الزلازل والفتن " في رواية: والفدادون.
وعن معاذ بن جبل قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وفي شامنا وفي يمننا وفي حجازنا ". قال: فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله، وفي عراقنا؟! فأمسك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فلما كان في اليوم الثاني قال مثل ذلك. فقام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، وفي عراقنا؟! فأمسك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فلما كان في اليوم الثالث قام إليه الرجل فقال: يا رسول الله، وفي عراقنا؟! فأمسك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه فولى الرجل وهو يبكي، فدعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: " أمن العراق أنت؟ قال: نعم، قال: إن أبي إبراهيم عليه السلام هم أن يدعو عليهم فأوحى الله تعالى إليه: لا تفعل، فإني جعلت خزائن علمي فيهم، وأسكنت الرحمة قلوبهم ".
وعن ابن عباس قال: دعا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، وبارك لنا في مكتنا(1/63)
ومدينتنا، وبارك لنا في شامنا ويمننا "، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، وعراقنا؟! فقال: " إن هنا يطلع قرن الشيطان وتهيج الفتن، وإن الجفاء بالمشرق ".
وعن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا "، فقال له رجل: يا رسول الله، فالعراق؟! فإن فيها ميراتنا وفيها حاجاتنا. قال: فسكت، ثم أعاد عليه فسكت، فقال: " بها يطلع قرنا الشيطان، وهناك الزلازل والفتن ".(1/64)
بيان أن الشام أرض مباركة
عن زهير بن محمد قال: حدثت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات، وخص فلسطين بالتقديس " يعني التطهير.
وعن أبي بن كعب: " ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها " قال: الشام. وما من ماء عذب إلا يخرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس.
وعن ابن عباس في قول الله عز وجل " وجعلنا بينهم " يعني بين مساكنهم " وبين القرى التي باركنا فيها " يعني: الأرض المقدسة " قرى " فيما بين منازلهم والأرض المقدسة " ظاهرة " يعني: عامرة مخصبة " وقدرنا فيها السير " يعني: فيما بين مساكنهم وبين أرض الشام " سيروا فيها " يعني: إذا ظعنوا من منازلهم إلى أرض الشام من المقدسة.
وقال معاوية بن أبي سفيان: إن ربك قال لإبراهيم: اعمر من العريش إلى الفرات الأرض المباركة. وكان أول من اختتن وقرى الضيف. واختتن وهو ابن ثمانين سنة.
وعن سفيان
في قول الله عز وجل " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض(1/65)
ومغاربها " قال: الشام. وفي رواية عن الحسن قال: مشارق الشام ومغاربها.
وعن قتادة في قوله تعالى " مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها " قال: التي بارك الله فيها: الشام.
وعنه في قوله تعالى: " ولقد بوأ بني إسرائيل مبوأ صدق " قال: بوأهم الله تبارك وتعالى الشام وبيت المقدس.
وعن كعب الأحبار قال: إن الله تعالى بارك في الشام من الفرات إلى العريش.
وعن كعب قال: جاء إليه رجل فقال: إني أريد الخروج أبتغي فضل الله. قال: عليك بالشام، فإنه ما نقص من بركة الأرضين يراد بالشام.
وعن أبي عبد الملك الجزري قال: إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط كان الشام في رخاء وعافية، وإذا كان الشام في بلاء وقحط كانت فلسطين في رخاء وعافية، وإذا كانت فلسطين في بلاء وقحط كانت بيت المقدس في رخاء وعافية. وقال: الشام مباركة، وفلسطين مقدسة، وبيت المقدس قدس القدس.
وروي أن ذا القرنين لما أتى العراق استنكر قلبه، فبعث إلى تراب الشام فأتى به فجلس عليه فرجع إليه ما كان يعرف من نفسه.(1/66)
ما جاء في أن الشام الأرض المقدسة المذكورة في القرآن
عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن عمه قال: لقيت أبا ذر بالربذة فقال: كنت نائماً في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر بي فضربني برجله ثم قال: لا أراك نائماً فيه، فقلت: بأبي وأمي، غلبتني عيني فنمت، قال: كيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: ألحق بالأرض المقدسة أرض الشام. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منها؟ قال: قلت: أرجع إليه. قال: فكيف تصنع إذا أخرجت منه؟ قال: قلت: أخذ سيفي ثم أضرب به. قال: أوتصنع خيراً من ذلك وأقرب رشداً؟ قال: تسمع لهم وتطيع وتنساق حيثما ساقوك. قال: فوا لله لألقين الله وأنا مطيع لعثمان رضي الله عنه.
وعن أبي ذر قال: جعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتلو علي هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً " حتى فرغ من الآية. ثم قال: يا أبا ذر، لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. قال: فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست. ثم قال: يا أبا ذر، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة أنطلق حتى أكون حمامة من حمام مكة. قال: فكيف تصنع إن أخرجت من مكة؟ قال: قلت: إلى السعة والدعة إلى الشام والأرض المقدسة. قال: فكيف تصنع إن أخرجت من الشام؟ قال: قلت: إذن والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي. قال: أو خير من ذلك؟ قال: تسمع وتطيع وإن كان عبداً حبشياً.
وعن عروة قال: كان في كتاب أبي بكر رضي الله عنه إلى خالد بن الوليد: أن اعجل إلى إخوانكم(1/67)
بالشام، فوا لله لقرية من قرى الأرض المقدسة يفتحها الله علينا أحب إلي من رستاق من رساتيق العراق.
وعن قيس بن سكن قال: سمعت علياً ونحن بمسكن يقول: يا معشر المسلمين المهاجرين " ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " قال: فتلكؤوا. قال: فلما رأى ذلك، قال: أف لكم، إنها سنة جرت عليكم.
وعن أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر قال: قوله " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة ". قال قتادة: هي الشام كلها. وقال عكرمة والسدي: هي أريحا. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين. ومعنى المقدسة: المطهرة، وتلك الأرض طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً وقراراً للأنبياء.
وعن ثور بن يزيد قال: قدس الأرض الشام، وقدس الشام فلسطين، وقدس فلسطين بيت المقدس، وقدس بيت المقدس الجبل، وقدس الجبل المسجد، وقدس المسجد القبة.
وعن وهب أنه كان يقول: إن الله كتب للشام: إني قدستك وباركتك، جعلت فيك مقامي وأنت صفوتي من بلادي، وأنا سائق إليك صفوتي من عبادي، فاتسعي لهم برزقك ومساكنك كما يتسع الرحم إن وضع فيه اثنان وسعة، وإن ثلاثة مثل ذلك، وعيني عليك بالظل والمطر، من أول السنين إلى آخر الدهر، فلن أنساك حتى أنسى يميني، وحتى تنسي ذات الرحم ما في رحمها.
وعن الوليد بن صالح قال: في الكتاب الأول: إن الله عز وجل يقول: يا شام، أنت الأندر، ومنك المنشر، وإليك المحشر. فيك ناري ونوري، ومن دخلك رغبة فيك فبرحمتي، ومن خرج رغبة عنك فبسخطي، تتسع لأهلها كما تتسع الرحم للولد.(1/68)
إعلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمته أن بالشام تسعة أعشار الخير
عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخير عشرة أعشار: تسعة بالشام، وواحد في سائر البلدان، والشر عشرة أعشار: واحد بالشام، وتسعة في سائر البلدان. وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ".
وعن عبد الله بن مسعود قال: إنكم بحيث تبلبلت الألسن بين بابل والحيرة. وإن تسعة أعشار الخير بالشام، وعشر بغيرها، وإن تسعة أعشار الشر بغيرها، وعشر بها، وفي زيادة: وسيأتي عليكم زمان يكون أحب مال الرجل فيه أحمرة ينتقل عليها إلى الشام.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان سنة خمس وثلاثين ومئة خرج مردة الشياطين، كان حبسهم سليمان بن داود في جزائر البحور، فذهب منهم تسعة أعشار إلى العراق يجادلونهم، وعشر بالشام، وفي بعض الروايات: يجادلونهم بالقرآن.
وعن كعب قال: الخير عشرة أجزاء: فتسعة أجزاء الخير في الشام، وجزء في سائر الأرضين.
وعن أبي إدريس قال: قدم علينا عمر بن الخطاب الشام فقال: إني أريد آتي العراق، فقال له كعب الأحبار: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك. قال: وما تكره من ذلك؟ قال: بها تسعة أعشار الشر وكل داء عضال، وعصاة الجن، وهاروت وماروت وبها باض إبليس وفرخ.(1/69)
ما جاء في أن الشام مهاجر إبراهيم الخليل
وأنه من المواضع المختارة لإنزال التنزيل
عن شهر بن حوشب قال: لما جاءتنا بيعة يزيد بن معاوية قدمت الشام، فأخبرت بمقام يقومه نوف فجئته، إذ جاء رجل فانتبذ الناس، عليه خميصة، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص. فلما رآه نوف أمسك عن الحديث، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنها ستكون هجرة بعد هجرة، ينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم، لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها، تلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، تحشرهم النار مع القردة والخنازير تبيت معهم إذا باتوا، وتقيل معهم إذا قالوا، وتأكل من تخلف.
قال: وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم. كلما خرج منهم قرن قطع. كلما خرج منهم قرن قطع. حتى عددها زيادة على عشر مرات، كلما خرج منهم قرن قطع حتى يخرج الدجال في بقيتهم.
وعن شهر بن حوشب أيضاً قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: لقد رأيتنا، وما صاحب الدينار والدرهم بأحق من أخيه المسلم، ثم لقد رأيتنا بأخرة نهان، وللدينار والدرهم أحب إلى أحدنا من أخيه المسلم. ولقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لئن اتبعتم أذناب البقر، وتبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ليلزمنكم الله عز وجل مذلة في أعناقكم، لا تنزع منكم حتى ترجعوا إلى ما كنتم عليه، وتتوبوا إلى الله عز وجل.(1/70)
وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لا يبقى في الأرضين إلا شرار أهلها، وتلفظهم أرضوهم، وتقذرهم روح الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير، تقيل حيث يقيلون، وتبيت حيث يبيتون، وما سقط منها فلها.
ولقد سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يخرج من أمتي قوم يسيئون الأعمال، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يحقر أحدكم عمله مع عملهم، يقتلون أهل الإسلام. فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. فطوبى لمن قتلهم، وطوبى لمن قتلوه. كلما طلع منهم قرن قطعه الله تبارك وتعالى. فردد ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين مرة أو أكثر، وأنا أسمع.
وفي حديث آخر: حتى يخرج في أخراهم الدجال.
وعن قتادة في قوله تعالى: " إني مهاجر إلى ربي " قال: إلى الشام كان مهاجرة.
وعن كعب الأحبار قال: يوشك بالرعد والبرق أن يهاجر إلى الشام، حتى لا تكون رعدة ولا برقة إلا ما بين العريش والفرات.
وعن الأوزاعي قال: يهاجر الرعد والبرق إلى مهاجر إبراهيم، حتى لا تبقى قطرة إلا فيما بين العريش والفرات.
وعن شريح بن سراج الحنفي عن عباد بن منصور قال: كنا عنده فنشأت سحابة برعد وبرق وظلمة فقال: حدثنا أبو قلابة أن الرعد والبرق سيهاجر من أرض العراق إلى أرض الشام، حتى لا يبقى بها رعد ولا برق.(1/71)
وعن ضمرة بن ربيعة قال: سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام. فإن لم يكن منها أسري به إليها.
وعن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أنزلت علي النبوة في ثلاثة أمكنة: بمكة وبالمدينة وبالشام ".
وفي رواية أخرى قال: " أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة والمدينة والشام ".
قال الوليد: يعني بيت المقدس.(1/72)
اختصاص الشام بالإضاءة عند مولد النبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن أبي أمامة قال: قيل: يا رسول الله ما كان بدء أمركم؟ قال: " دعوة أبي إبراهيم وبشرى أخي عيسى عليه السلام، ورأت أمي كأنما خرج منها شيء أضاءت له قصور الشام ".
وعن عرباض بن سارية قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني عبد الله وخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين ".
قال في رواية: وإن أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأت حين وضعته نوراً أضاءت له قصور الشام.
وعن عتبة بن عبد أنه حدثهم أن رجلاً سأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كيف كان أول شأنك يا نبي الله؟ فقال: " كانت حاضنتي من بني بكر بن سعد، فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زاداً، فقلت لأخي: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند أمنا فذهب أخي، ومكثت أنا عند البهم، فأقبل إلي طيران أبيضان كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهو هو؟ فقال الآخر: نعم. قال فأقبلا يبتدراني، فأخذاني فبطحاني للقفا. فشقا بطني فاستخرجا قلبي، فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين، فقال أحدهما لصاحبه: ائتني بماء ثلج، فغسلا به جوفي، ثم قال: ائتني بماء برد فغسلا به قلبي. ثم قال: ائتني بالسكينة، فذرها في قلبي ثم أطبقه. قال:(1/73)
أحدهما لصاحبه: حصه فحاصه، وختم عليه بخاتم النبوة. فقال أحدهما لصاحبه: اجعله في كفة، واجعل ألفاً من أمته في كفة فإذا أنا أنظر إلى الألف فوقي، أشفق أن يخر علي بعضهم. فقال أحدهما لصاحبه: لو أن أمته وزنت به لمال بهم. ثم انطلقا وتركاني، وفرقت فرقاً شديداً، ثم انطلقت إلى أمي فأخبرتها بالذي لقيت، فأشفقت أن يكون قد التبس بي، فقالت: أعيذك بالله، فرحلت بعيراً لها فحملتني على الرحل، وركبت خلفي حتى بلغنا إلى أمي، فقالت: قد أديت أمانتي وذمتي، وحدثتها بالحديث الذي لقيت، فلم يرعها ذلك وقالت: إني رأيت خرج مني نور أضاء له قصور الشام ".
وعن عثمان بن أبي العاتكة وغيره أن آمنة بنت وهب لما وضعته كفأت عليه برمة حتى تتفرغ له. قالوا: فوجدت البرمة قد انشقت عن نور أضاءت منه لها عن قصور كثيرة من قصور الشام.
وعن الضحاك وهو ابن مزاحم الهلالي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أنا دعوة إبراهيم، قال وهو يرفع القواعد من البيت: " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم " حتى أتم الآية ".
قال البيهقي: إنما أراد، والله أعلم، أنه كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون آدم عليه السلام. وأما دعوة إبراهيم عليه السلام فإنه لما أخذ في بناء البيت دعا الله تعالى فقال: " ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم " فاستجاب الله دعاءه في نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما بشارة عيسى عليه السلام به فهو أن الله تعالى أمر عيسى عليه السلام فبشر به قومه، فعرفه بنو إسرائيل قبل أن يخلق.
الشام أرض المحشر والمنشر(1/74)
ما جاء في أن الشام أرض المحشر المنشر
عن أبي ذر قال: قيل: يا رسول الله، صلاة في بيت المقدس أفضل أم صلاة في مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: " صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو أرض المحشر والمنشر، وليأتين على الناس زمان ولبسطة قوسه من حيث يرى منه بيت المقدس أفضل وخير من الدنيا جميعاً ".
وعن أسماء أن أبا ذر الغفاري كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا فرغ من خدمته أوى إلى المسجد، وكان هو بيته، فجلس إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: " كيف أنت إذا أخرجوك منه؟ قال إذن ألحق بالشام، فإن الشام أرض الهجرة وأرض المحشر وأرض الأنبياء " وذكر الحديث.
وعن حكيم بن معاوية عن أبيه قال:
أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: ما أتيتك حتى حلفت عدد أصابعي هذه ألا آتيك أرانا عفان وطبق كفيه فبالذي بعثك بالحق ما الذي بعثك به؟ قال: الإسلام. قال: وما الإسلام؟ قال: أن تسلم قلبك لله عز وجل، وأن توجه وجهك إلى الله، وتصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل الله جل وعز من أحد توبة أشرك بعد إسلامه. قلت: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت. قال: تحشرون هاهنا وأومأ بيده نحو الشام مشاة وركباناً وعلى وجوهكم، وتعرضون على الله، وعلى أفواهكم الفدام، فأول ما يعرب عن أحدكم فخذه، وقال: ما من مولى يأتي(1/75)
مولى له فيسأله من فضل عنده فيمنعه إلا جعله الله عليه شجاعاً ينهشه قبل القضاء.
قال عفان: يعني بالمولى ابن عمه.
قال: وقال: إن رجلاً ممن كان قبلكم رغسه الله مالاً وولداً، حتى ذهب عصر وجاء آخر. فلما احتضر قال لولده: أي أب كنت لكم؟ قالوا: خير أب، فقال: هل أنتم مطيعي وإلا أخذت مالي منكم، انظروا إذا أنا مت أن تحرقوني حتى تدعوني حمماً، ثم اهرسوني بالمهراس، وأدار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده حذاء ركبتيه. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ففعلوا والله وقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده هكذا ثم أذروني في يوم راح لعلي أضل الله ففعلوا والله ذاك، فإذا هو قائم في قبضة الله تعالى فقال: يا ابن آدم، ما حملك على ما فعلت؟ قال: من مخافتك. قال: فتلافاه الله عز وجل بها.
وفي رواية عند قوله: وأول ما يعرب عن أحدكم فخذه: وتلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ".
وعن عبد الرحمن بن غنم.
أن اليهود أتوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام، فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء. فصدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قالوا، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة: " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً " إلى قوله: " تحويلا " فأمره الله بالرجوع، إلى المدينة وقال: فيها محياك ومماتك، ومنها تبعث.(1/76)
وعن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حاصرهم يعني بني النضير حتى بلغ منهم كل مبلغ، فأعطوه ما أراد منهم، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام. وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء. والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أخرى.
وعن ابن عباس قال: من شك أن المحشر هاهنا يعني الشام فليقرأ هذه الآية: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر " قال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: " اخرجوا. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر ".
وفي حديث الجارود: لما قدم على عمر قال له الجارود: أما أن تسيرني إلى الشام فأرض المحشر والمنشر.
وعن ابن عمر: أن مولاة له أتته فقالت: إني قد اشتد علي الزمان، وأنا أريد أن أخرج إلى العراق. قال: فهلا إلى الشام أرض المحشر، اصبري لكاع فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من صبر على شدتها ولأوائها كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة ".
وعن خليد وسعيد عن قتادة قال: أنجاهما الله إلى الشام أرض المحشر والمنشر، وبها يجمع الناس رأساً واحداً، وبها ينزل عيسى بن مريم، وبها يهلك الله المسيح الكذاب.
وعن الصنابحي يرفعه قال: شكت الشام إلى الرحمن عز وجل فقالت: أي رب، جعلتني أضيق الأرض وأوعرها، وجعلتني لا أشرب الماء إلا عاماً إلى عام. فأوحى الله تعالى إليها: إنك داري وقراري، وأنت الأندر، وأنت منبت أنبيائي، وأنت موضع قدسي، وأنت موضع موطئي، وإليك(1/77)
أسوق خيرتي من خلقي، وإليك محشر عبادي، ولم تزل عيني عليك من أول يوم من الدهر إلى آخر يوم من الدهر بالظل والمطر، وإذا يعجز أهلك المال لم يعجزهم الخبز والماء.
وعن الحسن قال:
نزلت قريظة على حكم سعد بن معاذ، فقتل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم ثلاث مئة وقال لبقيتهم: " انطلقوا إلى أرض المحشر، فأنا في آثاركم " يعني أرض الشام فسيرهم إليها.
وعن بلال بن سعد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا وقعت الفتن فهاجروا إلى الشام، فإنها من الله بمنظر، وهي أرض المحشر.
وعن الحسن قال: الشام أرض المحشر والمنشر.(1/78)
ما جاء في أن بالشام يكون ملك أهل الإسلام
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الخلافة بالمدينة والملك بالشام ".
وعن علي بن أبي طالب أن يهودياً كان يقال له جير يجرة كان له على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دنانير، فتقاضى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: يا يهودي، ما عندي ما أعطيك. قال: فإني لا أفارقك يا محمد حتى تعطيني مالي. فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذن أجلس معك "، فجلس معه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتهددونه ويتوعدونه. ففطن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " ما الذي تصنعون به "؟ قالوا: يا رسول الله، يهودي يحتبسك؟! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " منعني ربي أن أظلم معاهداً ولا غيره ". فلما ترحل النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت الذي فعلت بك إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة: " محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهجره بطيبة، وملكه بالشام، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا متزين بالفحش، ولا قوله الخنا. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أراك الله. وكان اليهودي كثير المال.(1/79)
وعن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذا الأمر كائن بعدي بالمدينة ثم بالشام ثم بالجزيرة ثم بالعراق ثم بالمدينة ثم ببيت المقدس. فإذا كان ببيت المقدس فثم عقر دارها، ولن يخرجها قوم فتعود إليهم أبداً ".
يعني بقوله: بالجزيرة أمر مروان بن محمد الحمار. وبقوله بالمدينة بعد العراق يعني به المهدي الذي يخرج في آخر الزمان. ثم ينتقل إلى بيت المقدس، وبها يحاصره الدجال، والله أعلم.
وعن كعب قال: أجد في التوراة: أحمد عبد المختار، لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، مولده بكا، وهجرته طابا، وملكه بالشام، وأمته الحمادون يحمدون الله على كل حال، ويسبحونه في كل منزلة، ويوضئون أطرافهم، ويأتزرون على أنصافهم، وهم رعاة الشمس، وصفهم في الصلاة، وصفهم في القتال سواء، رهبان بالليل أسد بالنهار، لهم دوي كدوي النحل، يصلون الصلاة حيثما أدركتهم.
وفي حديث آخر: تسمع مناديهم في جو السماء.
وفي حديث آخر: قلوبهم أناجيلهم.
وعن كعب أنه قال: إنا نجد في كتاب الله محمداً سلطانه بالشام.(1/80)
ما جاء من أن الشام سرة الدنيا
عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: المدينة بين عيني السماء، عين بالشام وعين باليمن، وهي أقل الأرض مطراً.
وعن عبد الله بن عمرو قال: صورت الدنيا على خمسة أجزاء، على أجزاء الطير: الرأس والصدر والجناحين والذنب. رأس الدنيا الصين، والجناح الأيمن الهند، والجناح الأيسر الخزر، وخلف الهند أمة يقال لها: واق واق، وخلف واق واق منسك، وخلف منسك ناسك، وخلف ناسك يأجوج ومأجوج من الأمة ما لا يعلمه إلا الله. والجانب الآخر من الخزر ليس خلفه إلا البحر. ووسط الدنيا العراق والشام والحجاز ومصر، وذنب الدنيا من ذات الحمام إلى المغرب، وشر شيء في الطير الذنب.
وعن كعب الأحبار قال: نجد صفة الأرض في كتاب الله يعني التوارة على صفة النسر: فالرأس الشام، والجناحان المشرق والمغرب، والذنب اليمن. فلا يزال الناس بخير ما لم يفدغ الرأس، فإذا فدغ الرأس هلك الناس. وأيم الذي نفس كعب بيده، ليأتين على الناس زمان لا تبقى جزيرة من جزائر العرب أو قال: مصر من أمصار العرب إلا وفيهم مقنب خيل من الشام، يقاتلونهم عن الإسلام، لولاهم لكفروا.
وعن كعب قال:
إن الله خلق الدنيا بمنزلة الطائر: فجعل الجناحين المشرق والمغرب، وجعل الرأس(1/81)
الشام، وجعل رأس الرأس حمص وفيها المنقار، فإذا نقف المنقار يتأفف الناس، وجعل الجؤجؤ دمشق وفيها القلب، فإذا تحرك القلب تحرك الجسد، وللرأس ضربتان ضربة من الجناح الشرقي، وهي على دمشق. وضربة من الجناح الغربي، وهي على حمص، وهي أثقلهما. ثم يقبل الرأس على الجناحين، فينتفهما ريشة ريشة.
وقال كعب: ويل للجناحين من الرأس، وويل للرأس من الجناحين، يرددها ثلاثاً. فالرأس الشام، والجناحان المشرق والمغرب.
وعن قتادة قال: إن الرأس الشام، وإن مصر الذنب، وإن العراق الجناح. وكان يقال: ويل للجناحين من الرأس.
وعن إياس بن معاوية قال: مثلت الدنيا على طائر: فمصر والبصرة الجناحان، والجزيرة الجؤجؤ، والشام الرأس، واليمن الذنب.
روى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم قال: خلق الله الأرض على صورة الطير: فرأسها الشام، وجؤجؤها مكة ومنها دحيت الأرض وسائر أطرافها جميع الأرضين. وخلقت مكة قبل بيت المقدس بأربعين عاماً. وكان موضع الكعبة ربوة حمراء على وجه الماء. فلما أن خلق الله الأرض خلقها سبع أرضين، غلظ كل أرض مسيرة خمس مئة عام، وفيما بين كل أرض إلى التي تليها فتق يمسك بعضها بعضاً.
وذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة، وأن الهند رستمها، فجعلت صفة الأقاليم كأنها حلقة مستديرة يكتنفها ست دوائر: فالدائرة الوسطى هي إقليم بابل، والدوائر الست المحدقة بالدائرة الوسطى، كل دائرة منها إقليم من الأقاليم الستة. فالإقليم الأول منها إقليم بلاد الهند، والإقليم الثاني إقليم الحجاز، والإقليم الثالث إقليم مصر، والإقليم الرابع إقليم بابل، وهو الممثل بالدائرة الوسطى التي اكتنفتها سائر الدوائر وهو أوسط الأقاليم وأعمرها، وفيه جزيرة العرب، وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا، وحد هذا الإقليم مما يلي(1/82)
أرض الحجاز وأرض نجد: الثعلبية من طريق مكة، وحده مما يلي الشام: وراء مدينة نصيبين من ديار ربيعة بثلاثة عشر فرسخاً. وحده مما يلي أرض خراسان: وراء نهر بلخ. وحده مما يلي الهند: خلف الديبل بستة فراسخ، وبغداد في وسط هذا الإقليم. والإقليم الخامس بلاد الروم والشام. والإقليم السادس بلاد الترك. والإقليم السابع بلاد الصين.
الشام يبقى عامراً بعد خراب الأمصار(1/83)
ما جاء من أن الشام يبقى عامراً بعد خراب الأمصار
عن عوف بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " تخرب الأرض قبل الشام بأربعين سنة ".
قال أبو عبد رب: سمعت تبيعاً أكثر من ثلاثين مرة يقول: تخرب الأرض وتعمر الشام حتى تكون من العمران كالرمانة، ولا يبقى فيها خربة في سهل ولا جبل إلا عمرت. وليغرسن فيها من الشجر ما لم يغرس في زمان نوح، وتبنى فيها القصور اللائحة في السماء، فإذا رأيت ذلك فقد نزل بك الأمر.
قال أبو عبد رب: فإن كنت صدقت بالحديث حين سمعته، ولم أصدق بالأمر حين رأيته فما أنا بمؤمن.
وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاصي ضد ذلك فقال: أول الأرض خراباً الشام.
وعن بشر بن غنم قال: لتهدمن مدينة دمشق حجراً حجراً.
قال: لعله أراد بذلك ما وجد من هدم عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس سورها حين افتتحها.
وعن حسن بن القاسم الأزرقي قال: وقف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ثنية تبوك فقال: ما هاهنا شام، وأشار بيده إلى جهة الشام، وما هاهنا يمن وأشار إلى جهة المدينة.(1/84)
وعن أبي الأعيس القرشي، وكان قد أدرك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سئل عن البركة التي بورك في الشام: أين مبلغ حده؟ قال: أول حدوده عريش مصر، والحد الآخر طرف الثنية، والحد الآخر الفرات، والحد الآخر جبل فيه قبر هود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم.
وعن أبي حاتم محمد بن حبان بن محمد بن حبان بن أحمد البستي قال: أول الشام بالس، وآخره عريش مصر.(1/85)
باب تمصير الأمصار
عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص يوم جمعة لنعرض على مصحفه مصحفاً، فلما حضرت الجمعة أمر لنا بماء فاغتسلنا وطيبنا. ثم رحنا إلى الجمعة، فجلسنا إلى رجل يحدث، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فتحولنا إليه فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
" يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام. فيفزع الناس ثلاث فزعات فيخرج الدجال ". وذكر الحديث.
وعن جابر قال: سمعت عمر بن الخطاب سنة عشرين يقول: الأمصار سبعة: فالمدينة مصر، والشام مصر، ومصر والجزيرة والبحرين والبصرة والكوفة.
قال أبو حاتم السجستاني: لما كتب عثمان رضي الله عنه المصاحف حين جمع القرآن كتب سبعة مصاحف، فبعث واحداً إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحداً.
وقال إبراهيم: قال رجل من أهل الشام: مصحفنا ومصحف أهل البصرة أحفظ من مصحف أهل الكوفة. قال: قلت: لم؟ قال: إن عثمان لما كتب المصاحف بلغة قراءة أهل الكوفة على حرف عبد الله، فبعث به إليهم قبل أن يعرض. وعرض مصحفنا ومصحف أهل البصرة قبل أن يبعث به.
وعن الحسن أنه قال: لا جمعة إلا في الأمصار. فقلت له: يا أبا سعيد، ما الأمصار؟ قال: المدينة والبصرة والكوفة والبحرين والجزيرة والشام ومصر.
فضل دمشق من القرآن(1/86)
ما ورد في فضل دمشق من القرآن
وعن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه تلا هذه الآية: " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ". قال: " هل تدرون أين هي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هي بالشام، بأرض يقال لها الغوطة، يقال لها دمشق، هي خير مدائن الشام ".
وقال ابن عباس: هي أنهار دمشق.
وعن سعيد بن المسيب قال: هي دمشق ذات قرار ومعين، الغوطة.
وعن يزيد بن شجرة قال: دمشق هي الربوة المباركة.
وعن محمد بن خالد بن أمية الهاشمي قال: ثم إن الله تبارك وتعالى أمر عيسى بن مريم عليهما السلام وأمه أن يسكنا دمشق، وهي إرم ذات العماد.
وقال الحسن: في قوله: " ذات قرار ومعين " ذات معيشة تقوتهم وتحملهم، وماء جار. قال: هي الربوة، هي دمشق.
وقال الحسن البصري: " ذات قرار ومعين " قال: ذات ثمار وكثرة ماء. قال: هي دمشق.(1/87)
وعن سعيد بن جبير: " ربوة ذات قرار " قال: الربوة النشز من الأرض. والقرار: المستوي.
قال منصور بن أبي مزاحم: وهذا التفسير موجود في صفة ربوة دمشق، فلا يمتنع أن يكون هو الحق. وقيل: إن الربوة الرملة.
وحدث مرة البهزي في خلاء وجماعة أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق، ظاهرين على من ناوأهم، وهم كالإناء بين الأكلة، وحتى يأتي أمر الله وهم كذلك قال: فقلنا: يا رسول الله، من هم؟ وأين هم؟ قال: بأكناف بيت المقدس ".
قال: وحدثني أن الرملة هي الربوة، وذلك أنها تسيل مغربة ومشرقة.
وعن الأقرع بن شفي العكي قال: دخل علي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرض فقلت: لا أحسب إلا أني ميت من مرضي، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلا لتبقين، ولتهاجرن إلى أرض الشام، وتموت وتدفن بالربوة، من أرض فلسطين ".
وروي في حديث آخر أنه قال له: إنك لا تموت إلا بالربوة. فمات ودفن بالرملة. فكانت عك إذا مات الرجل منهم بالأردن له طرق، حمل فدفن بالرملة، لمكان الأقرع.
وقال أبو هريرة: " ربوة ذات قرار ومعين " هي الرملة من فلسطين، وقيل إنها بيت المقدس.
وقال قتادة: وقيل إنها الإسكندرية.(1/88)
وعن زيد بن أسلم: وقيل إنها مصر.
وقيل وهب بن منبه: وقيل إنها الكوفة.
وقال أبو جعفر: " ربوة ذات قرار ومعين ": الكوفة. والمعين: الفرات.
وعن محمد بن مسلم قال: سألت الصادق عن قول الله عز وجل: " وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " قال: الربوة: النجف، والقرار: المسجد، والمعين: الفرات.
ثم قال: إن نفقة بالكوفة الدرهم الواحد يعدل بمئة درهم في غيرها، والركعة بمئة ركعة. ومن أحب أن يتوضأ بماء الجنة، ويشرب من ماء الجنة، ويغتسل بماء الجنة، فعليه بماء الفرات، فإن فيه مثعبين من الجنة، ويشرب من ماء الجنة، ويغتسل بماء الجنة، فعليه بماء الفرات، فإن فيه مثعبين من الجنة، وينزل من الجنة كل ليلة مثقالان من مسك في الفرات. وكان أمير المؤمنين علي يأتي النجف ويقول: وادي السلام، ومجمع أرواح المؤمنين، ونعم المضجع للمؤمن هذا المكان. وكان يقول: اللهم اجعل قبري بها.
قال أبو الغنائم: في النجف ماء طيب تنزله العرب، يقال له السلام.
وعن أنس قال:
لما نزلت سورة التين على سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرح بها فرحاً شديداً حتى تبين لنا شدة فرحه، فسألنا ابن عباس عن تفسيرها فقال: " والتين ": بلاد الشام، " والزيتون ": بلاد فلسطين، " وطور سينين ": الذي كلم الله موسى عليه. " وهذا البلد الأمين ": مكة، " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ": محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " ثم رددنا أسفل سافلين ": عبدة اللات والعزى. " إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير(1/89)
ممنون " أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، " فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين " إذ بعثك فيهم نبياً، وجمعك على التقوى يا محمد.
وعن كعب قال: " والتين ": مسجد دمشق، " والزيتون ": بيت المقدس، " وطور سنين ": جبل موسى.
وعن خالد بن معدان: في قوله " لم يخلق مثلها في البلاد " قال: يعني دمشق.
وقال الحسن: " التين والزيتون ": جبال ومساجد بالشام.
وعن قتادة: في قوله تعالى: " والتين والزيتون " قال: " التين " الجبل الذي عليه دمشق، " والزيتون ": الذي عليه بيت المقدس " وطور سنين ": جبل بالشام مبارك حسن.
وقوله: " إرم ذات العماد " قال المقبري: هي دمشق.
دمشق من مدن الجنة(1/90)
ما ورد في أن دمشق من مدن الجنة
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع مدائن من مدائن الجنة، وأربع مدائن من مدائن النار. فأما مدائن الجنة: فمكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق. وأما مدائن النار: فالقسطنطينية وطبرية وأنطاكية المحترقة وصنعاء ".
قال أبو عبد الله السقطي: ليس هي صنعاء اليمن، إنما هي صنعاء بأرض الروم.
وذكر البلاذري أن أنطاكية المحترقة ببلاد الروم، أحرقها العباس بن الوليد بن عبد الملك.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله اختار من الملائكة أربعة: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. واختار من النبيين أربعة: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم. واختار من المهاجرين أربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. واختار من الموالي أربعة: سلمان الفارسي وبلال الأسود، وصهيب الرومي وزيد بن حارثة. واختار من النساء أربعاً: خديجة بنت خويلد ومريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد واسية بنت مزاحم. واختار من الأهلة أربعة: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. واختار من الأيام أربعة: يوم الجمعة ويوم الفطر ويوم النحر ويوم عاشوراء. واختار من الليالي أربعاً: ليلة القدر وليلة النحر وليلة الجمعة وليلة نصف شعبان. واختار من الشجر أربعاً: السدرة، والنخلة، والتينة، والزيتونة. واختار من المدائن أربعاً: مكة وهي البلدة، والمدينة وهي النخلة، وبيت المقدس وهي الزيتونة، ودمشق وهي التينة. واختار من الثغور أربعة: اسكندرية مصر وقزوين(1/91)
خرسان، وعبادان العراق، وعسقلان الشام. اختار من العيون أربعاً: يقول في محكم كتابه: " فيهما عينان تجريان " وقال: " فيهما عينان نضاختان " فأما اللتان تجريان فعين بيسان وعين سلوان، وأما النضاختان فعين زمزم وعين عكا. واختار من الأنهار أربعة: سيحان وجيحان والنيل والفرات. واختار من الكلام أربعاً: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعن كعب الأحبار أنه قال: خمس مدائن من مدائن الجنة: بيت المقدس، وحمص، ودمشق، وبيت جبرين، وظفار اليمن. وخمس مدائن من مدائن النار: القسطنطينية، والطوانة، وأنطاكية، وتدمر، وصنعاء صنعاء اليمن.
وفي حديث آخر: عمورية بدل الطوانة.
وعن عبد الله بن عمرو قال: الجنة مطوية في قرون الشمس بدمشق في كل عام.
دمشق مهبط عيسى بن مريم(1/92)
ما جاء في أن دمشق مهبط عيسى بن مريم
عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ينزل عيسى بن مريم على المنارة البيضاء شرقي دمشق ".
وزاد في حديث آخر: بين مهرودتين وتفسيره بين ممصرتين.
وعنه أيضاً أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
" أريت أن ابن مريم عليه السلام يخرج من يمنة المغارة البيضاء شرقي دمشق واضعاً يده على أجنحة الملكين، بين ريطتين ممشقتين، إذا أدنى رأسه قطر، وإذا رفع رأسه تحادر منه جمان كاللؤلؤ، يمشي عليه السكينة، والأرض تقبض له، ما أدرك نفسه من كافر مات، ويدرك نفسه حيثما أدرك بصره، حتى يدرك بصره في حصونهم وقرياتهم، حتى يدرك الدجال عند باب لدفيموت. ثم يعمد إلى عصابة من المسلمين عصمهم الله بالإسلام ويترك الكفار ينتفون لحاهم وجلودهم. فتقول النصارى: هذا الدجال الذي أنذرناه، وهذه الآخرة، ومن مسى ابن مريم كان من أرفع الناس قدراً، ويعظم مسه، ويمسح على وجوههم، ويحدثهم بدرجاتهم من الجنة. فبينا هم فرحون بما هم فيه خرجت يأجوج ومأجوج، فيوحي إلى المسيح عليه السلام أني قد أخرجت عباداً لي لا يستطيع قتلهم إلا أنا، فأحرز عبادي إلى الطور، فيمر صدر يأجوج ومأجوج على بحيرة الطبرية فيشربونها، ثم يقبل آخرهم فيركزون رماحهم فيقولون: لقد كان هاهنا مرة ماء، حتى إذا كانوا حيال بيت المقدس قالوا: قد قتلنا من في الأرض فهلموا لنقتل من في السماء، فيرمون نبلهم إلى السماء، فيردها الله مخضوبة بالدم، فيقولون: قد قتلنا من في السماء ويتحصن ابن مريم وأصحابه(1/93)
حتى يكون رأس الثور ورأس الجمل خيراً من مئة دينار اليوم.
قال: كذا قال: المغارة. قال: وهو تصحيف وإنما هو المنارة.
وعن ابن عياش الحضرمي قال: يخرج عيسى بن مريم عند المنارة عند باب الشرقي ثم يأتي مسجد دمشق حتى يقعد على المنبر، ويدخل المسلمون المسجد، والنصارى واليهود، كلهم يرجوه حتى لو ألقيت شيئاً لم يصب إلا رأس إنسان من كثرتهم. ويأتي مؤذن المسلمين فيقوم، ويأتي صاحب بوق اليهود وصاحب ناقوس النصارى. فيقول صاحب اليهود: أقرع، فيكتب سهم المسلمين وسهم النصارى وسهم اليهود، ثم يقرع عيسى فيخرج سهم المسلمين، فيقول صاحب اليهود القرعة ثلاث فيقرع فيخرج سهم المسلمين. ثم يقرع الثانية فيخرج سهم المسلمين، فيؤذن المؤذن، ويخرج اليهود والنصارى من المسجد ثم يخرج يتبع الدجال بمن معه من أهل دمشق، ثم يأتي بيت المقدس، وهي مغلقة قد حصرها الدجال فيأمر بفتح الأبواب، ويتبعه حتى يدركه بباب لد، ويذوب كما يذوب الشمع، ويقول عيسى: إن لي فيك ضربة فيضربه فيقتله الله عز وجل على يديه، فيمكث في المسلمين ثلاثين سنة أو أربعين سنة، الله أعلم أي العددين. فيخرج على أثره يأجوج ومأجوج، فيهلك الله يأجوج ومأجوج على يديه، ولا يبقى منهم عين تطرف وتزد إلى الأرض بركتها، حتى إن العصابة ليجتمعون في العنقود، وعلى الرمانة، وينزع من كل وذكر كلاماً انقطع من الكتاب معناه من كل ذات حمة حمتها، يعني سمها، حتى إن الحية تكون مع الصبي، والأسد مع البقرة، لا تضره شيئاً، ثم يبعث الله عز وجل ريحاً طيبة تقبض روح كل مؤمن، ويبقى شرار الناس تقوم عليهم الساعة.
وعن كعب قال: يهبط المسيح عليه السلام عند القنطرة البيضاء، على باب دمشق الشرقي، تحمله غمامة، واضعاً يديه على منكبي ملكين عليه ريطتان، مؤتزر إحداهما، مرتد الأخرى، إذا أكب رأسه يقطر منه الجمان.(1/94)
ما جاء في أن دمشق فسطاط المسلمين
وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها الغوطة، فيها مدينة يقال لها دمشق، خير منازل المسلمين يومئذ ".
وعن إبراهيم بن الجنيد قال: سمعت يحيى بن معين وقد ذكروا عنده أحاديث من ملاحم الروم فقال يحيى: ليس من حديث الشاميين شيء أصح من حديث صدقة بن خالد عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " معقل المسلمين أيام الملاحم دمشق ".
وعن عوف بن مالك قال:
أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في بناء له، فسلمت عليه، فقال لي: " عوف؟ فقلت: نعم، فقال لي: ادخل. فقلت: أكلي أم بعضي؟ قال: بل كلك، فقال لي: يا عوف، اعدد ستاً بين يدي الساعة: أولهن موتي، فاستبكيت حتى جعل يسكنني، ثم قال لي: قل إحدى، قلت إحدى. قال: والثانية فتح بيت المقدس، قل ثنتان، فقلت: ثنتان. قال: والثالثة: موتان يكون في أمتي يأخذهم مثل قعاص الغنم، قل ثلاث. فقلت: ثلاث. قال: والرابعة فتنة تكون في أمتي وعظمها، ثم قال: قل أربع، فقلت: أربع، قال: والخامسة يفيض فيكم المال حتى إن الرجل ليعطي المئة دينار فيتسخطها، قل خمس، فقلت: خمس. قال: والسادسة هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر فيسيرون إليكم على ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً. ففساط المسلمين يومئذ في أرض يقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها دمشق ".(1/95)
وفي رواية أخرى: راية في الموضعين.
وفي رواية عند ذكر الروم: فيغدرون فيوافونكم على ثمانين غياية.
وفي رواية: غابة.
والغاية: الراية، والغياية بياءين: السحابة. والغابة ينقطة واحدة: السحابة.
وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ستفتح عليكم الشام، فإذا خيرتم المنازل منها، فعليكم بمدينة يقال لها دمشق، فإنها معقل المسلمين من الملاحم وفسطاطهم منها بأرض يقال لها الغوطة ".
وعن سعيد بن عبد العزيز أن من أدرك من علمائنا كانوا يقولون: يخرج أهل مصر من مصرهم إلى ما يلي المدينة، ويخرج أهل فلسطين والأردن إلى مشارف البلقاء وإلى دمشق، ويخرج أهل الجزيرة وقنسرين وحمص إلى دمشق. وذلك لما كان حدثنا به سعيد عن مكحول عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: فسطاط المؤمنين يوم الملحمة الكبرى بالغوطة مدينة يقال لها: دمشق.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ستفتح الشام، فعليكم بمدينة يقال لها: دمشق، فإنها خير مدائن الشام، وهي معقل المسلمين من الملاحم، وفسطاط المسلمين بأرض منها يقال لها: الغوطة، ومعقلهم من الدجال: بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج: الطور ".
وعن الأوزاعي قال: قدمت المدينة في خلافة هشام، فقلت: من هاهنا من العلماء؟ قالوا: هاهنا(1/96)
محمد بن المنكدر، ومحمد بن كعب القرظي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: والله لأبدأن بهذا قبلهم، قال: فدخلت المسجد، فسلمت فأخذ بيدي فأدناني فقال: من أي إخواننا أنت؟ فقلت له: رجل من أهل الشام. قال: من أي أهل الشام؟ قلت: رجل من أهل دمشق. قال: نعم، أخبرني أبي عن جدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " للناس ثلاث معاقل، فمعقلهم من الملحمة الكبرى التي تكون بعمق أنطاكية: دمشق، ومعقلهم من الدجال: بيت المقدس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج: طور سيناء ".
وعن حسان بن عطية قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " كيف يحوز الأعداء أمته من بلد إلى بلد ". فقال: يا رسول الله، فهل من شيء؟ قال: " نعم، الغوطة، مدينة يقال لها دمشق، هي فسطاطهم ومعقلهم من الملاحم، لا ينالها عدو إلا منها ".
قال حفص، أحد رواة الحديث: يقول لا ينالهم عدو لهم إلا منها من الأمة.
قال: وهو يوم دخلها عبد الله بن علي بجنوده.
وعن يزيد بن أبي حبيب عن أبي سالم الجيشاني قال: انطلقت إلى المدينة أسأل عن علم الأحداث، فقيل لي: أين أنت عن عبد الله بن عمرو بن العاص؟ فإنه كان صعلوكاً فرغه أبوه لذلك. قال: فقدمت فأخبرت عبد الله بن عمرو بذلك، قال: نعم: فسلوني عما شئتم أخبركم به، فوا لله لو شئت لأخبرتكم بالسنة التي يخرجون فيها من مصر. قلت: يا أبا محمد، أخبرني وخر لي. قال: نعم، إنك لن تبرح مؤاماً بك ما لم يأت أهل المشرق أهل المغرب، فإذا كان ذلك خفق الدين وخفقت السنة، ووقعت بين العرب البغضاء، فأقل المؤمنين من يحجزه إيمانه، وأقل المعاهدين من يكفه ساعيه، فإن استطعت أن تسكن السروات فكن بها، وإن عجزت(1/97)
فالإسكندرية، فإن عجزت فالطور أو سوق مازن فإذا أقشعت شيئاً أبيت اللعن وأصاب المأمومة، وذات الأصابع ذناباتها، فعليك بالفحص.
قال عبد الرحمن بن شريح: سمعت أبا قبيل يزعم أن المأمومة أبيت الأشاعر بدمشق يوماً بها، وذا الأصابع حرلان.
ثم رجع الحديث إلى يزيد بن أبي حبيب في الفحص. قال: وهي الغوطة. قال: فإنها فسطاط المسلمين، فإذا أمتعت الحمراء والبيضاء، وظن الأولياء عن الأولياء فعليك بمدينة الأسباط، فإن العافية تحوزها كما يحوز السيل الدمن. لو أرى أني أدرك ذلك لسبق رحيلي خبري، ولا أنت تدركه.
يعني بمدينة الأسباط: بانياس.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ما أود أن لي مصر وكورها بعد الخمسين والمئة أسكنها، ولدمشق خير لو كنتم تعلمون.
وعن نافع بن كيسان الدمشقي قال: لقيت يزيد بن شجرة الرهاوي فقلت: إني أردت أن آتي فلسطين. قال: لا تفعل، فإني أحدثك في دمشق أحاديث ليشت في غيرها، إن حبل الناس إذا اضطرب كانت عصمتهم، وإن أهلها مدفوع عنهم، وإنه لا ينزل بأرض جوع، ولا بلاء ولا فتنة إلا خفف ذلك عنهم.
وعن عمرو بن جابر الحضرمي قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: من سكن دمشق نجا، فقلت: أعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فعن رأيي أحدثك؟!.
وعن ابن محيريز قال: قال رويفع بن ثابت الأنصاري، وكان من أصحاب الشجرة: اسكن فلسطين ما استقامت العرب. فإذا نادوا بشعار الجاهلية فاسكن دمشق، وشرقها خير من غربها.(1/98)
وعن عقبة بن نافع بن عبد الحارث: أنه أوصى بنيه حين حضرته الوفاة قال: يا بني احفظوا ما أوصيكم به تنتفعوا: ألا تدانوا وإن لبستم العباء، ولا يدخل أحد منكم في بيعة الرايات السود طائعاً إن أدركتموها، ولا تدعن حظكم من دمشق وإن لم تصيبوا البيت إلا بدية.
وعن كعب قال: معقل المسلمين من الملاحم دمشق، ومعقلهم من الدجال نهر أبي فطرس، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور.
وعنه أيضاً قال: معاقل المسلمين ثلاثة: فمعقلهم من الروم دمشق، ومعقلهم من الدجال الأردن، ومعقلهم من يأجوج ومأجوج الطور.
وعن مكحول قال: لتمخرن الروم الشام أربعين صباحاً، لا يمتنع منها إلا دمشق وعمان.
وعن أبي الأعيس عبد الرحمن بن سلمان الخولاني قال: سيأتي ملك من ملوك العجم يظهر على المدائن كلها إلا دمشق.
وعن يزيد بن شريح التيمي عن كعب قال: يهلك ما بين حمص وثنية العقاب سبعون ألفاً، من الوغى. قلت: ما الوغى؟ قال: العطش.
وعن كعب قال: لن تزالوا بخير ما لم يركب أهل الجزيرة أهل قنسرين، وأهل قنسرين أهل حمص، فيومئذ تكون الجفلة ويفزع الناس إلى دمشق.(1/99)
باب في أن البركة في دمشق مضعّفة
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: النفقة في أرض الهجرة مضاعفة بسبع مئة ضعف، وأنتم المهاجرون أهل الشام لو أن رجلاً اشترى بدرهم لحماً من السوق فأكله وأطعم أهله كان له بسبع مئة.
وعن سعيد بن سفيان القاري قال: توفي أخي وأوصى بمئة دينار في سبيل الله، فوافق ذلك صلح ابن فرعون فلم يكن عامئذ غازية، فقدمت المدينة في حج أو عمرة، فدخلت على عثمان بن عفان، وعنده رجل قاعد، وعلي قباء من بزيون وكان أصاب من الغنيمة بأرض الروم وكان جيبه وفروجه مكفوفة بحرير. فلما رآني ذلك الرجل أقبل علي يجاذبني قبائي ليخرقه. فلما رأى ذلك عثمان قال: دع الرجل فتركني ثم قال: لقد عجلتم. فسألت عثمان فقلت: يا أمير المؤمنين، توفي أخي وأوصى بمئة دينار في سبيل الله فوافق ذلك صلح ابن فرعون فلم تجئنا غازية، فما تأمرني؟ قال: هل سألت أحداً قبلي؟ قلت: لا. قال: لئن استفتيت أحداً قبلي فأفتاك غير الذي أفتيتك به ضربت عنقه. إن الله عز وجل أمرنا بالإسلام فأسلمنا كلنا فنحن المسلمون. وأمرنا بالهجرة فهاجرنا فنحن المهاجرون أهل المدينة، ثم أمرنا بالجهاد فجاهدتم. فأنتم المجاهدون أهل الشام. أنفقها على نفسك، أو على أهلك وعلى ذوي الحاجة ممن حولك فإنك لو خرجت بدرهم ثم اشتريت به لحماً فأكلت أنت وأهلك كتب لك بسبع مئة درهم.
فخرجت من عنده فسألت عن الرجل الذي جاذبني، فقيل: هو علي بن أبي طالب(1/100)
عليه السلام. فأتيته في منزله، فقلت: ما رأيت مني؟ فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " أوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير "، وهذا أول حرير رأيت على أحد من المسلمين، فخرجت من عنده فبعته من الخياط.
وعن عبد الرحمن بن ساباط الجمحي قال:
قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: إن لي رحماً وقرابة، وإن منزلي قد نبا بي بالعراق والحجاز. قال: أرضى لك ما أرضى به لنفسي ولولدي، عليك دمشق، عليك دمشق، ثم عليك بمدينة الأسباط بانياس، فإنها مباركة السهل والجبل، يعيش أهلها بغير الحجرين: الذهب والفضة، نقل الله عنها أهلها حين بدلوا، تطهيراً لها، وإن البركة عشر بركات خص الله بانياس من ذلك ببركتين، لا يعيل ساكنها، يعيش من برها وبحرها، وإذا وقعت الفتن كانت بها أخف منها في غيرها، فاتخذها وارتد بها، فوا لله لفدان بها أحب إلي من عشرين بالوهط. والوهط بالطائف.
قال عبد الوهاب بن نجدة الحوطي: أتيت صدقة بن حبيب، شيخاً كان عندنا، فسمعته يقول: سمعت أبا الكوثر يقول: كنت بدار يوحنا بحمص، وقد بسط فيها لمعاوية بن أبي سفيان، فإذا رجل قد جاء من نحو زقاق اللقانق، فسلم على معاوية فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له: ادن يا أبا إسحاق، ما ترى في حمص وطيبها؟ فقال: بلى يا أمير المؤمنين، لموضع من دمشق صغير أحب إلي من دار بحمص. قال: ولم ذاك يا أبا إسحاق؟ قال: لأنها معقل الناس في الملاحم. قال معاوية: لا جرم، لا تركت بها حرمة.
وعن ربيعة بن عبد الهدير قال: منزل في دمشق خير من عشرة منازل في غيرها من أرض حمص، ومنزل داخل دمشق خير من عشرة منازل بالفراديس، وإياك وأرباضها، فإن في سكناها الهلاك.(1/101)
وعن يونس بن ميسرة بن حلبس أن رجلاً سكن طبرية بعياله شهراً فكفاهم بها عشرة أمداد من قمح، ثم تحول إلى دمشق فكفاهم خمسة أمداد قمح.
وعن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت لأبي سلام الأسود: ما نقلك من حمص إلى دمشق قال: ما سألني عن هذا عربي قبلك. قال: لأن البركة فيها مضاعفة.
وفي رواية قال: بلغني أن البركة تضعف بها ضعفين.
وعن مكحول: أنه سأل رجلاً: أين تسكن؟ قال: الغوطة. قال له مكحول: ما يمنعك أن تسكن دمشق، فإن البركة فيها مضعفة.
وحدث يحيى بن يحيى قال: قال لي عبيد بن يعلى وهو رجل من أهل بيت المقدس، كان بعسقلان وكان عالماً ارحل من فلسطين، والحق بدمشق، فإن بركات الشام كلها مسوقات إلى دمشق.
وعن كعب الأحبار قال: كل بناء بناه العبد يحاسب عليه إلا بناء دمشق.
حدث أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري قال: وجدت عملاً لما كان يحمل إلى بيت المال بمدينة السلام من جميع النواحي، فمن ذلك من دمشق أربع مئة ألف وعشرون ألف دينار.
وذكر المدائني أن وظيفة دمشق التي وظفها معاوية أربع مئة ألف دينار، وهذا بعد صرف ما لا بد من صرفه في ديوان الجند والولاة، وأرزاق الفقهاء والمؤذنين والقضاة. وهذا يدل على كثرة دخلها وعظم البركة في مستغلها. والله أعلم.(1/102)
ما جاء في أن أهل دمشق لا يزالون على الحق
عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها، لا يضرهم خذلان من خذلهم، ظاهرين على الحق، إلى يوم القيامة ".
ومن حديث آخر: أنه قال: " لا يزال بدمشق عصابة يقاتلون على الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون ".
وعن أبي هريرة: عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب بيت المقدس وما حولها، وعلى أبواب أنطاكية وما حولها، وعلى باب دمشق وما حولها، وعلى أبواب الطالقان وما حولها ظاهرين على الحق، لا يبالون من خذلهم ولا من نصرهم حتى يخرج الله كنزه من الطالقان، فيحيي به دينه كما أميت من قبل ".
قال: وهذا الإسناد غريب، وألفاظ غريبة جداً.
وعن أبي هريرة: عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا يزال لهذا الأمر أو على هذا الأمر عصابة على الحق، لا يضرهم خلاف من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله ".
وروي أن أبا هريرة وابن السمط كانا يقولان: لا يزال المسلمون في الأرض حتى تقوم الساعة، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تزال من أمتي عصابة قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها، تقاتل أعداء الله، كلما(1/103)
ذهب حرب نشب حرب قوم آخرين، يزيغ الله قلوب قوم ليرزقهم منه، حتى تأتيهم الساعة كأنهم قطع الليل المظلم، فيفزعون لذلك حتى يلبسوا له أبدان الدروع.
وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هم أهل الشام "، ونكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإصبعه، يومئ بها إلى الشام، حتى أوجعها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لن تبرح هذه الأمة منصورين أينما توجهوا، لا يضرهم من خذلهم من الناس حتى يأتي أمر الله، أكثرهم أهل الشام ".
وفي رواية: " لن تبرح هذه الأمة منصورة تقذف كل مقذف، منصورين أينما توجهوا لا يضرهم من خذلهم من الناس، هم أهل الشام ".
وفي رواية: لا يبالون من خالفهم حتى ينزل عيسى بن مريم عليه السلام.
قال أبو عمرو يفصل فيه: فحدثت بهذا الحديث قتادة فقال: لا أعلم أولئك إلا أهل الشام.
عن عمير بن هانئ قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. فقام مالك بن يخامر السكسكي فقال: يا أمير المؤمنين، سمعت معاذ بن جبل يقول: وهم أهل الشام، فقال معاوية ورفع صوته: هذا مالك يزعم أنه سمع معاذاً يقول: وهم أهل الشام.
وفي رواية مسلم بن هرمز: أنه سمع معاوية يقول في خطبته وذكر الحديث وقال في آخره: وأنا أرجوا أن تكونوا أنتم يا أهل الشام.(1/104)
وفي رواية يونس بن حلبس الجندي: ثم نزع بهذه الآية: " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي، ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك " يا محمد " فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ".
وعن عبد الله بن عمر: عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا هلك أهل الشام فلا خير في أمتي " وذكر باقي الحديث.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، يقذف الله بهم كل مقذف، يقاتلون فضول الضلالة، لا يضرهم من خالفهم حتى يقاتلوا الأعور الدجال، وأكثرهم أهل الشام ".
وعن ثوبان أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها. وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكهم بسنة، ولا يسلط عليهم عدواً من غيرهم فيستبيحهم، ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يفني بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً. وإنه سترجع قبائل من أمتي إلى الشرك وعبادة الأوثان، وإن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون، وإنهم إذا وضعوا السيف فيهم لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة. وإنه سيخرج من أمتي دجالون كذابون قريب من ثلاثين، وإني خاتم النبيين، لا نبي بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله ".
وعن ابن عون الأنصاري: أن النعمان بن بشير خطب يوماً على المنبر فقال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لا يبالون من خالفهم حتى يأتي أمر الله ". قال النعمان: فمن قال: إني أقول عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لم يقل فإن تصديق ذلك في كتاب الله. إن الله عز وجل يقول: " يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ".(1/105)
باب غناء أهل دمشق في الملاحم
وتقديمهم في الحروب
عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كانت الملاحم خرج من دمشق بعث من الموالي هم خيار عباد الله، أبعثهم فرساً وأجودهم سلاحاً ".
وفي رواية أخرى: إذا وقعت الملاحم بعث الله من دمشق بعثاً من الموالي، هم أكرم العرب فرساً، وأجوده سلاحاً، يؤيد الله بهم الدين.
وفي رواية عطية بن قيس: خرج بعث من دمشق، هم خيار عباد الله الأولين والآخرين.
وعن ابن محيريز قال: خير فوارس تظل السماء فوارس من قيس، يخرجون من غوطة دمشق، يقاتلون الدجال.
قال الوليد: أخبرني إسماعيل وغيره أنه كان في كتاب معاوية إلى عبد الله بن قرط: بلغني كتابك في مواضع رايات الأجناد المعلومة، فهي على مواضعها الأولى. فإذا حضر أهل الشام جميعاً فأهل دمشق وحمص ميمنة الإمام.
قال الوليد بن مسلم.
وحدثني شيخ من قدماء الجند ممن كان يلزم الجهاد في الزمان الأول أن(1/106)
أهل الشام كانوا إذا غزوا الصوائف كانوا ينزلون أجناداً، كما كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسيرهم، إذا ساروا إلى الشام ينزلون أرباعاً. قال الشيخ: وكما كانت بنو إسرائيل مع موسى عليه السلام ثم بعده تنزل في عساكرها أسباطاً. وكان بين كل جندين فرجة، وطريق للعامة، ومجال للخيل، ومركز لها، إن كانت فزعة من ليل أو نهار. قلت: فأين كان ينزل والي الصائفة؟ وفيمن؟ قال: كان ينزل بخاصته ورهطه في القلب، في أهل دمشق، ثم ينزل أجناد الشام يمنة ويسرة.
قال: وحدثني شيخ من قدماء المشيخة ممن كان يلزم الجهاد أنهم كانوا إذا كان اللقاء تقدم ربع قريش من أهل دمشق حتى يكونوا عند راية الأمير والجماعة، ثم ربع كندة من جند دمشق عن يمنتهم.
قال الوليد: وقالوا يريد المشيخة لأن دمشق كانت عند سير أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الشام وجه الشام، إليها ساروا، وبها بدؤوا، فلما فتحوا كان غيرها من مدائن الشام لها تبعاً. قال: فاتخذها أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داراً وفسطاطاً ومجتمعاً، وفيها منزل واليهم الأعظم وبيت مالهم.
قال سليمان بن أبي شيخ: سألت أبا سفيان الحميري: كم كان جند بني أمية؟ قال: ثلاث مئة ألف، وخمسون ألفاً من أهل الشام. ومئة وخمسون ألفاً من أهل العراق.(1/107)
ما جاء في أن أهل دمشق يعرفون في الجنة بالثياب الخضر
عن عروة بن رويم أن رجلاً لقي كعب الأحبار فسلم عليه ودعا له، فسأله كعب: ممن هو؟ قال: من أهل الشام. قال: لعلك من الجند الذين يدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بغير حساب ولا عذاب؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل حمص. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين يعرفون في الجنة بالثياب الخضر؛ قال: ومن هم؟ قال: أهل دمشق. قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين هم تحت ظل عرش الرحمن؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل أردن، قال: لست منهم. قال: فلعلك من الجند الذين ينظر الله إليهم في كل يوم مرتين؟ قال: ومن هم؟ قال: أهل فلسطين. قال: نعم، أنا منهم.
وفي رواية: في أهل حمص الذين يشفع شهيدهم بسبعين.(1/108)
دعاء النبي لأهل الشام أن يهديهم الله ويقبل بقلوبهم إلى الإسلام
عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر نحو الشام فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم، ثم نظر نحو اليمن فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ثم نظر نحو العراق فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ثم قال: اللهم بارك لنا في ثمرة أرضنا، وبارك لنا في صاعنا ومدنا ".
وعنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر قبل العراق والشام واليمن، قال: لا أدري بأيتهن بدأ ثم قال: " اللهم أقبل بقلوبهم إلى طاعتك، وأحط من ورائهم ".
وعن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً وهو على المنبر نظر قبل الشام فقال: " اللهم أقبل بقلوبهم، اللهم أقبل بقلوبهم ". ونظر قبل العراق فقال نحو ذلك، " وقبل كل أفق فقال مثل ذلك ". وقال: " اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض، وبارك لنا في مدنا وصاعنا. وقال: مثل المؤمن كمثل السنبلة تخر مرة وتستقيم مرة، ومثل الكافر كمثل الأرزة لا تزال تستقيم حتى تخر ولا تشعر ".(1/109)
ما روي أن أهل الشام مرابطون
وأنهم جند الله الغالبون
عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله، فمن احتل منها مدينة فهو في رباط. ومن احتل منها ثغراً من الثغور فهو في جهاد ".
وعن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيفتح على أمتي من بعدي الشام وشيكاًن فإذا فتحها فاحتلها فأهل الشام مرابطون إلى منتهى الجزيرة، رجالهم ونساؤهم وصبيانهم وعبيدهم، فمن احتل سلاحاً من تلك السواحل فهو في جهاد، ومن احتل بيت المقدس وما حوله فهو في رباط ".
وعن أرطاة بن المنذر
أن عمر قال لجلسائه: أي الناس أعظم أجراً؟ قال: فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة. قال: ويقولون: فلان وفلان بعد أمير المؤمنين. فقال: ألا أخيركم بأعظم الناس أجراً ممن ذكرتم، ومن أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى. قال: رويجل بالشام آخذ بلجام فرسه، يكلأ من وراء، بيضة المسلمين، لا يدري أسبع يفترسه، أم هامة تلدغه، أو عدو يغشاه؟ فذلك أعظم أجراً ممن ذكرتم، ومن أمير المؤمنين.
وعن إبراهيم اليماني قال: قدمت من اليمن فأتيت سفيان الثوري فقلت: يا أبا عبد الله، إني جعلت في نفسي أن أنزل جدة فأرابط بها كل سنة، واعتمر في كل شهر عمرة، وأحج في كل سنة(1/110)
حجة، وأقرب من أهلي، أحب إليك أم آتي الشام؟ فقال لي: يا أخا أهل اليمن. عليك بسواحل الشام، عليك بسواحل الشام. فإن هذا البيت يحجة في كل عام مائة ألف، ومئة ألف وثلاث مئة ألف، وما شاء الله من التضعيف، لك مثل حجهم وعمرهم ومناسكهم.
وعن مالك بن أنس قال: قال لي أبو جعفر المنصور يوماً: ما على ظهرها أحد أعلم منك؟ قلت: بلى. قال: فسمهم لي. قلت: لا أحفظ أسماءهم. قال: قد طلبت هذا الشأن في زمان بني أمية فقد عرفته. أما أهل العراق فأهل إفك وباطل وزور. وأما أهل الشام فأهل جهاد وليس فيهم كثير علم. وأما أهل الحجاز ففيهم بقية العلم، وأنت عالم الحجاز.
وعن خريم بن فاتك الأسدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أهل الشام سوط الله تبارك وتعالى في أرضه ينتقم بهم ممن يشاء من عباده، حرام على منافقيهم أن يظهروا على مؤمنيهم، ولا يموتون إلا غماً وهماً.
وعن عطاء بن السائب قال: سمعت عبد الرحمن الحضرمي، أيام ابن الأشعث يخطب، وهو يقول: يا أهل الشام، أبشروا فإن فلاناً أخبرني أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يكون قوم من آخر أمتي يعطون من الأجر مثل ما يعطى أولهم، ويقاتلون أهل الفتن، ينكرون المنكر، وأنتم هم.
وعن قتادة في قوله تعالى: " وإن جندنا لهم الغالبون " قال: هم أهل الشام.
وعن كعب قال: أهل الشام سيف من سيوف الله، ينتقم الله بهم ممن عصاه في أرضه.
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: قرأت فيما أنزل الله عز وجل على بعض الأنبياء أن الله يقول: أهل الشام كنانتي، فإذا غضبت على قوم رميتهم منها بسهم.
وعن(1/111)
أبي كبر النهشلي قال: كنت في الجمع يعني جمع الكوفة يوم جاء أهل الشام يقاتلون أهل الكوفة، فإذا شيخ حسن الخضاب، حسن الهيئة، على دابة له، وهو يقول: اللهم لا تنصرنا عليهم، اللهم فرق بيننا وبينهم، اللهم، اللهم. قال: قلت: يا عبد الله، ألا تتقي الله؟ ألا تخرج ترى قوماً قد جاؤوا يريدون يقاتلون مقاتلتنا ويسبون ذرارينا، وأنت تقول: اللهم لا تنصرنا عليهم، اللهم، اللهم. قال: ويحك، إني سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يغلب أهل الشام إلا شرار الخلق.
وعن زيد بن واقد قال: سمعت مكحولاً يقول: الحمد لله الذي أطعمنا الطعام، وأسقانا الشراب، وجعلنا من أهل الشام، ويا رب لا تبقني بعد هشام.(1/112)
ما جاء أن بالشام تكون الأبدال
عن شريح بن عبيد قال: ذكر الشام عند علي بن أبي طالب وهو بالعراق فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين. قال: لا، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألأبدال يكونون بالشام، وهم أربعون رجلاً، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلاً، فيسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويصرف عن أهل الشام بهم العذاب ".
وعن شهر بن حوشب قال: لما فتحت مصر سبوا أهل الشام، فأخرج عوف بن مالك رأسه من برنسه ثم قال: يا أهل مصر، أنا عوف بن مالك، لا تسبوا أهل الشام، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: فيهم الأبدال، وبهم تنصرون، وبهم ترزقون.
وعن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " البدلاء أربعون: اثنان وعشرون بالشام، وثمانية عشر بالعراق. كلما مات منهم واحد أبدل الله تبارك وتعالى مكانه آخر، فإذا جاء الأمر قبضوا كلهم، فعند ذلك تقوم الساعة ".
وعن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " دعائم أمتي عصائب اليمن، وأربعون رجلاً من الأبدال بالشام، كلما مات رجل أبدل الله مكانه، أما إنهم لن يبلغوا ذلك بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصيحة للمسلمين ".
وعن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل(1/113)
الشام، وعصائب أهل العراق فيبايعونه. ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب، فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم، وذلك بعث كلب، والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب، فيقسم المال، ويعمل فيهم بسنة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويلقى الإسلام بجرانه إلى الأرض، فيمكث سبع سنين، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون.
وفي رواية تسع سنين.
وعن ابن عباس يرفعه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مكة آية الشرف، والمدينة معدن الدين، والكوفة فسطاط الإسلام، والبصرة فخر العابدين، والشام معدن الأبرار، ومصر عش إبليس وكهفه ومستقره، والسند مداد إبليس، والزاني في الزنج، والصدق في النوبة، والبحرين منزل مبارك، والجزيرة معدن القتل، وأهل اليمن أفئدتهم رقيقة، ولا يعدمهم الرزق، والأئمة من قريش، وسادة الناس بنو هاشم.
وعن علي رضي الله عنه قال: قبة الإسلام بالكوفة، والهجرة بالمدينة، والنجباء بمصر، والأبدال بالشام، وهم قليل.
قال كعب: الأبدال ثلاثون.
وفي حديث آخر: الأبدال بالشام، والنجباء بالكوفة.
وفي آخر: والأخيار من أهل العراق.
وعن علي عليه السلام قال: إذا قام قائم آل محمد جمع الله له أهل المشرق وأهل المغرب، فيجتمعون كما يجتمع قزع الخريف، فأما الرفقاء فمن أهل الكوفة، وأما الأبدال فمن أهل الشام.(1/114)
وعن علي أنه قال وهو بالكوفة: ما أشد بلايا الكوفة، لا تسبوا أهل الكوفة، فوا لله إن فيهم لمصابيح الهدى، وأوتاد ذكر، ومتاعاً إلى حين، والله ليذقن الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبداً. إن مكة حرم إبراهيم، والمدينة حرم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والكوفة حرمي. وما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة، أو هواه لينزع إليها. إلا إن الأوتاد من أبناء الكوفة، وفي مصر من الأمصار، وفي أهل الشام أبدال.
وعن الحسن البصري قال: لن تخلو الأرض من سبعين صديقاً، وهم الأبدال، لا يهلك منهم رجل إلا أخلف مكانه مثله، أربعون بالشام، وثلاثون في سائر الأرضين.
وعن أم عبد الله بنة خالد بن معدان عن أبيها قالت: قالت الأرض للرب تبارك وتعالى: كيف تدعني وليس علي نبي؟ قال: سوف أدع عليك أربعين صديقاً بالشام.
وقال الفضيل بن فضالة: الأبدال بالشام: في حمص خمسة وعشرون رجلاً، وفي دمشق ثلاثة عشر، وببيسان اثنان.
وقال الحسن بن يحيى: بدمشق من الأبدال سبعة عشر نفساً، وببيسان أربعة.
وعن ابن شوذب قال: الأبدال سبعون: فستون بالشام، وعشرة بسائر الأرضين.
وعن عثمان بن عطاء عن أبيه عطاء قال: الأبدال أربعون إنساناً. قال: قلت له: أربعون رجلاً؟ قال: لا تقل أربعين رجلاً، ولكن قل أربعين إنساناً، لعل فيهم نساء.(1/115)
وقال أبو سليمان: المجتهدون بالبصرة، والفقهاء بالعراق، والزهاد بخراسان، والبدلاء بالشام.
وقال الكتاني: النقباء ثلاث مئة، والنجباء سبعون، والبدلاء أربعون، والأخيار سبعة، والعمد أربعة، والغوث واحد. فمسكن النقباء المغرب، ومسكن النجباء مصر، ومسكن الأبدال الشام، والأخيار سياحون في الأرض، والعمد في زوايا الأرض، ومسكن الغوث مكة. فإذا عرضت الحاجة من أمر العامة، ابتهل فيها النقباء ثم النجباء ثم الأبدال ثم الأخيار ثم العمد. فإن أجيبوا، وإلا ابتهل الغوث، فلا تتم مسألته حتى تجاب دعوته.
حديث شيخ من أهل صنعاء من جلساء وهب بن منبه قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام، فقلت: يا رسول الله، أين بدلاء أمتك؟ فأومأ بيده نحو الشام. قال: قلت: يا رسول الله، أما بالعراق منهم أحد؟ قال: بلى، محمد بن واسع، وحسان بن أبي سنان، ومالك بن دينار الذي يمشي في الناس بمثل زهد أبي ذر في زمانه.
وعن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: خيار أمتي خمس مئة، والأبدال أربعون. كلما مات بديل أدخل الله مكانه من الخمس مئة، وأدخل في الأربعين مكانهم، فلا الخمس مئة ينقصون، ولا الأربعون ينقصون.
قالوا: يا رسول الله، دلنا على أعمال هؤلاء. قال: يعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويواسون فيما آتاهم الله، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ".
وفي رواية آخرى: خيار أمتي في كل قرن.
وعن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله عز وجل في الخلق ثلاث مئة، قلوبهم على قلب آدم عليه السلام، ولله تعالى في(1/116)
الخلق أربعون، قلوبهم على قلب موسى عليه السلام. ولله في الخلق سبعة، قلوبهم على قلب إبراهيم عليه السلام، ولله تعالى في الخلق خمسة، قلوبهم على قلب جبريل عليه السلام، ولله تعالى في الخلق ثلاثة، قلوبهم على قلب ميكائيل عليه السلام، ولله في الخلق واحد، قلبه على قلب إسرافيل عليه السلام. فإذا مات الواحد أبدل الله مكانه من الثلاثة، وإذا مات من الثلاثة أبدل الله مكانه من الخمسة، وإذا مات من الخمسة أبدل الله مكانه من السبعة، وإذا مات من السبعة أبدل الله مكانه من الأربعين، وإذا مات من الأربعين أبدل الله مكانه من الثلاثة مئة، فإذا مات من الثلاثة مئة أبدل الله مكانه من العامة. فبهم يحيي ويميت ويمطر ويقيت، ويدفع البلاء.
قيل لعبد الله بن مسعود: كيف بهم يحيي ويميت؟ قال: لأنهم يسألون الله عز وجل إكثار الأمم فيكثرون، ويدعون على الجبابرة فيقصمون، ويستسقون فيسقون، ويسألون فتنبت لهم الأرض، ويدعون فتدفع بهم أنواع البلاء.
وعن أبي الزناد قال: لما ذهبت النبوة، وكانوا أوتاد الأرض أخلف الله مكانهم أربعين رجلاً من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال لهم الأبدال، لا يموت الرجل منهم حتى ينشئ الله مكانه آخر يخلفه، وهم أوتاد الأرض، قلوب ثلاثين منهم على مثل يقين إبراهيم، لم يفضلوا الناس بكثرة الصلاة ولا بكثرة الصيام، ولا بحسن التخشع، ولا بحسن الحلية، ولكن بصدق الورع، وحسن النية، وسلامة القلوب، والنصيحة لجميع المسلمين، ابتغاء مرضاة الله، بصبر دجير، ولب حليم، وتواضع في غير مذلة. واعلم أنهم لا يلعنون شيئاً، ولا يؤذون أحداً، ولا يتطاولون على أحد تحتهم، ولا يحقرونه، ولا يحسدون أحداً فوقهم، ليسوا بمتخشعين ولا متماوتين، ولا معجبين، لا يحيون لدنيا، ولا يحبون الدنيا، ليسوا اليوم في وحشة، وغداً في غفلة.
نفي الخير عند فساد أهل الشام(1/117)
ما جاء في نفي الخير عند فساد أهل الشام
عن معاوية بن قمرة عن أبيه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا هلك أهل الشام فلا خير في أمتي، ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتلوا الدجال.
وفي رواية عنه: إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، ولن تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة.
وعن الحسن أنه قال: خيار أهل الشام خير من خياركم، وشرار أهل الشام خير من شراركم. قالوا: لم تقول هذا يا أبا سعيد؟ قال: لأن الله تعالى قال: " ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ".(1/118)
ما جاء من أن بالشام تكون بقايا العرب
عن أبي هريرة قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقبل معاذ بن جبل أو سعد بن معاذ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين رآه: إني لأرى في وجهه لأحيى طالع. قال: فجاء حتى سلم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أبشر يا رسول الله، فقد قتل الله كسرى. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لعن الله كسرى، ثلاثاً، ثم قال: إن أول الناس فناء، أو هلاكاً، فارس، ثم العرب من ورائها، ثم أشار بيده قبل الشام، إلا بقية هاهنا ".
وفي رواية: أول الناس هلاكاً فارس، ثم العرب، إلا بقايا هاهنا يعني الشام.(1/119)
باب انحياز بقية المؤمنين آخر الزمان إلى الشام
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: مد الفرات على عهد عبد الله بن مسعود، فكره الناس ذلك، فقال عبد الله: يا أيها الناس لا تكرهوا مده فإنه يوشك أن يلتمس فيه ملء طست من ماء فلا يوجد، وذلك حين يرجع كل ماء إلى عنصره. ويكون الماء وبقية المؤمنين بالشام.
وعن عبد الله بن عمرو قال: يأتي على الناس زمان، لا يبقى على الأرض مؤمن إلا لحق بالشام.
وعن أبي أمامة قال: لا تقوم الساعة حتى يتحول أشرار الناس إلى العراق، وخيار أهل العراق إلى الشام، حتى تكون الشام شاماً والعراق عراقاً.
وعن شرحبيل بن مسلم عن أبيه قال: بلغنا أنه لن تقوم الساعة حتى يخرج خيار أهل العراق إلى الشام، ويخرج شرار أهل الشام من الشام إلى العراق، فأكره أن يدركني أجلي وأنا بالعراق.(1/120)
ما ذكر من تمسك أهل الشام بالطاعة
عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: دخل إبليس العراق فقضى حاجته منها، ثم دخل الشام فطردوه حتى بلغ بساق، ثم دخل مصر فباض فيها وفرخ وبسط عبقريه.
وفي رواية: حتى بلغ جبل بساق.
وعن ابن عمر قال: نزل الشيطان بالمشرق فقضى قضاء، ثم خرج يريد الأرض المقدسة الشام، فمنع، فخرج على بساق، حتى جاء المغرب فباض بيضة، وبسط بها عبقريه.
وعن محرز أبي حارثة القيني وأبي عثمان الغساني يعني: يزيد بن أسيد قالا: لما قدم كتاب عثمان إلى أهل الشام في القراءة قالوا: سمعنا وأطعنا، وما اختلف في ذلك اثنان. انتهوا إلى ما اجتمعت عليه الأمة، وعرفوا فضله.
وعنهما: أن معاوية قال لابن الكواء: أخبرني عن أهل الأحداث من أهل الأمصار. فذكره إلى أن قال: وأما أهل الأحداث من أهل الشام فأطوع الناس لمرشدهم، وأعصاهم لمغويهم.
وعن أم الدرداء قالت: قدم أبو الدرداء على عثمان حاجاً، فقال له عثمان: يا أبا الدرداء، إني قد استنكرت من يليني، ولم أسأل أحداً من أهل الآفاق عمن يليه إلا وقد وجدته استنكر من(1/121)
يليه، فما أعرف شيئاً، فكيف بكم؟ فقال: ما يعصينا أهل بلادنا ولا يستبدون علينا.
قال: فلزمها، فوا لله لنقلن الله الأمر إليكم، فقد استنكرت الأشياء، فما تعرف إلا الصلاة يا أبا الدرداء، وإنها من آخر ما ينكر من هذا الأمر.
وعن عبد الملك بن عمير قال: كان عامة خطبة يزيد بن أبي سفيان وهو على الشام: عليكم بالطاعة والجماعة، فمن ثم لا يعرف أهل الشام إلا الطاعة.
وعن زهير بن الأرقم قال: خطبنا علي بن أبي طالب فقال: ألا إن بسراً قد طلع من قبل معاوية، ولا أرى هؤلاء القوم إلا سيظهرون عليكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبطاعتهم أميرهم ومعصيتكم أميركم، وبأدائهم الأمانة وبخيانتكم. استعملت فلاناً فغل وغدر، وحمل المال إلى معاوية، واستعملت فلاناً فخان وغدر، وحمل المال إلى معاوية حتى لو ائتمنت أحدكم على قدح خشيت على علاقته. اللهم إني قد أبغضتهم وأبغضوني، فأرحهم مني، وأرحني منهم.
وعن خباب بن عبد الله.
أن معاوية بعث خيلاً فأغارت على هيت والأنبار، فاستنفر علي الناس، فأبطؤوا وتثاقلوا، فخطبهم فقال: أيها الناس، المجتمعة أبدانهم المتفرقة أهواؤهم، ما عزت دعوة من دعاكم، ولا استراح قلب من قاساكم، كلامكم يوهي الصم الصلاب، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم، فإذا دعوتكم إلى المسير أبطأتم وتثاقلتم، وقلتم: كيت وكيت، أعاليل أباطيل. سألتموني التأخير دفاع ذي الدين المطول، حيدي حياد، لا يمنع الضيم الذليل، ولا يدرك الحق إلا بالجد والصدق، فأي دار بعد داركم تمنعون؟ ومع أي إمام بعدي تقاتلون؟ المغرور والله من غررتموه، ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، أصبحتم والله لا أصدق قولكم، ولا أطمع في نصركم. فرق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم، وأعقبكم مني من هو شر لكم مني(1/122)
أما إنكم ستلقون بعدي ثلاثاً: ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثرة قبيحة، يتخذها فيكم الظالمون سنة، فتبكي لذلك أعينكم ويدخل الفقر بيوتكم. وستذكرون عند تلك المواطن، فتودون أنكم رأيتموني، وهرقتم دماءكم دوني، فلا يبعد الله إلا من ظلم. والله لوددت أني أقدر أن أصرفكم صرف الدينار بالدراهم، عشرة منكم برجل من أهل الشام.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنا وإياك كما قال الأعشى: البسيط.
علقتها غرضاً وعلقت رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
علقنا بحبلك، وعلقت أنت بأهل الشام، وعلق أهل الشام معاوية.
وعن دغفل قال: قال المال: أنا أسكن العراق، فقال الغدر: أنا أسكن معك. وقالت الطاعة: أنا أسكن الشام، قال الجفاء: أن أسكن معك. قال العيش: أنا أسكن مصر، قال الموت: أنا أسكن معك. وقالت المروءة: أنا أسكن الحجاز، فقال الفقر: وأنا أسكن معك.
قال أبو زكريا - يعني يحيى بن عثمان بن صالح: وسمعت أنه كان مكتوباً على صخرة بباب العريش يقرؤه من دخل مصر: ادخل إلى بلد وفي، وعيش رخي، وموت وحي.
وعن إسماعيل بن يسار قال:
لو أنزل أخوان من حصن، فسكن أحدهما الشام، وسكن الآخر العراق، ثم لقيت الشامي لوجدته يذكر الطاعة وأمر الطاعة والجهاد، ولو لقيت الآخر لوجدته يسأل عن السنة، يقول: كيف سنة كذا وكذا؟ وكيف الأمر في كذا وكذا؟ قال أبو هانئ المكتب: سئل عامر عن قتال أهل العراق وأهل الشام، فقال عامر: لا يزالون يظهرون علينا(1/123)
أهل الشام لأنهم جهلوا الحق واجتمعوا، وعلمتم وتفرقتم. فلم يكن الله ليظهر أهل فرقة على جماعة أبداً.
وعن سليمان بن موسى قال: إذا كان علم الرجل حجازياً، وخلقه عراقياً، وطاعته شامية فقد كمل.
وعن سليمان بن موسى قال: إذا وجدت الرجل علمه علم حجازي، وسخاؤه سخاء عراقي، واستقامته استقامة شامي فهو رجل.
وعن عبد الله بن الربيع قال: قال أبو جعفر لإسماعيل بن عبد الله: صف لي الناس، فقال: أهل الحجاز مبتدأ الإسلام وبقية العرب، وأهل العراق ركن الإسلام ومقاتلة عن الدين، وأهل الشام حصن الأمة وأبنية الأئمة، وأهل خراسان فرسان الهيجاء وأعنة الرجاء، والترك منابت الحصون وأبناء المغازي، وأهل الهند حكماء، استغنوا ببلادهم فاكتفوا بها عما سواها، والروم أهل كتاب وتدين نحاهم من القرب إلى البعد، والأنباط كان ملكهم قديماً فهم لكل قوم عبيد. قال: فأي الولاة أفضل؟ قال: الباذل للعطاء، والمعرض عن السيئة. قال فأيهم أخرق؟ قال: أنهكهم للرعية، وأتعبهم لها بالخرق والعقوبة. قال: فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة؟ قال: يا أمير المؤمنين، الطاعة عند الخوف تسر الغدر، وتتابع عند المعاينة. والطاعة على المحبة تضر الاجتهاد، وتنابع عند الغفلة. قال: فأي الناس أولاهم بالطاعة؟ قال: أولاهم بالمضرة والمنفعة، قال: ما علامة ذلك؟ قال: سرعة الإجابة وبذل النفس. قال: فمن ينبغي للملك أن يتخذه وزيراً؟ قال: أسلمهم قلباً، وأبعدهم من الهوى.
قال أبو الحسن الميموني: ذكر أبو عبد الله كورة من نحو الشام، فقال: قدرية، ويتكلمون به في مساجدهم، ويتعرضون للناس. ولكن أهل دمشق وأهل حمص خاصة أصحاب سنة، وهم إن رأوا الرجل يخالف السنة أخرجوه من بينهم. كانت حمص مسكن ثور بن يزيد. فلما عرفوه بالقدر أخرجوه من بينهم، فسكن بيت المقدس.(1/124)
ذكر توثيق أهل الشام بالرواية وعلمهم
قال جبير بن نفير: دخلنا على عبد الله بن عمر نسأله ونسمع منه، فقال لنا: إن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيراً ونذيراً، فاتبعته ناصية من الناس. كان الرجل يخرج من بين أبويه فيبايعه، فقاتلوا على الدين حتى أمن الله الناس، وحتى لزموا كلمة الحق. فلما مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشايع الناس وتحزبوا، فقامت تلك الناصية، فقاتلوا الناس حتى ردوا الناس إلى كلمة الإسلام، وحتى قالوا: لا إله إلا الله وإن نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حق. فلما اجتمعوا انطلق تلك الناصية براية محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعهم الشرائع التي جاء بها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والهجرة، مهاجرين حتى نزلوا الشام وتركوا الناس أعراباً. فمن رآهم فلم يتعلم من هديهم وينتهي إليه، وعمي عنه ثم ابتغاه من الأعراب فهو أقل علماً وأشد عمى.
وعن الزهري قال: قالت عائشة: يا أهل العراق، أهل الشام خير منكم، خرج إليهم نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير، فحدثونا بما نعرف، وخرج إليكم نفر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قليل فحدثتمونا بما نعرف وما لا نعرف.
قال: وقال الزهري: إذا سمعت بالحديث العراقي فاردد به، ثم اردده.
وقال البيهقي: فأرود به، ثم أرود به. وهو الصواب.
قال الوليد بن مسلم: دخلت الشام عشرة آلاف عين رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/125)
وعن إبراهيم قال: لقيني شامي فقال: إن مصحفنا ومصحف أهل البصرة أثبت من مصحف أهل الكوفة. قال: قلنا: لم؟ قال: لأن أهل الكوفة عوجلوا، ويقرؤون على قراءة عبد الله فعوجل مصحفهم قبل أن يعرض ومصحفنا ومصحف أهل البصرة لم يبعث به حتى عرض.
وعن أبي عبيد الله مسلم بن مشكم قال: قال لي أبو الدرداء:
اعدد من يقرأ عندنا، يعني في مجلسنا هذا، قال أبو عبيد الله: فعددت ألفاً وست مئة ونيفاً، فكانوا يقرؤون ويتسابقون عشرة عشرة، لكل عشرة منهم مقرئ. وكان أبو الدرداء قائماً يستفتونه في حروف القرآن يعني المقرئين فإذا أحكم الرجل من العشرة القراءة تحول إلى أبي الدرداء. وكان أبو الدرداء يبتدئ في كل غداة إذا انفتل من الصلاة، فيقرأ جزاً من القرآن، وأصحابه محدقون به يسمعون ألفاظه، فإذا فرغ من قراءته جلس كل رجل منهم في موضعه، وأخذ على العشرة الذين أضيفوا إليه، وكان ابن عامر مقدماً فيهم.
وعن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: كان أبو الدرداء يأتي المسجد ثم يصلي الغداة ثم يقرأ في الحلقة ويقرئ، حتى إذا أراد القيام قال لأصحابه: هل من وليمة نشهدها أو عقيقة أو فطرة؟ فإن قالوا: نعم قام إليها، وإن قالوا لا قال: اللهم إني أشهدك أني صائم.
وإن أبا الدرداء هو الذي سن هذه الحلق يقرأ فيها.
وقال الشيخ، وهو أبو عمرو الكلبي: عهدت المسجد الجامع يعني بدمشق وإن عند كل عمود شيخاً، وعليه الناس يكتبون العلم.
وقال الأوزاعي: كانت الخلفاء بالشام، فإذا كانت بلية سألوا عنها علماء أهل الشام وأهل المدينة، وكانت أحاديث العراق لا تجاوز جدر بيوتهم.
وقال سفيان بن عيينة: من أراد المناسك فعليه بأهل مكة، ومن أراد مواقيت الصلاة فعليه بأهل المدينة،(1/126)
ومن أراد السير فعليه بأهل الشام، ومن أراد شيئاً لا يعرف حقه من باطله فعليه بأهل العراق.
وفي حديث آخر عنه قال: من أراد الإسناد والحديث الذي يسكن إليه فعليه بأهل المدينة، ومن أراد المناسك والعلم بها والمواقيت فعليه بأهل مكة، ومن أراد المقاسم وأمر الغزو فعليه بأهل الشام، ومن أراد شيئاً لا يعرف حقه من باطله فعليه بأهل العراق.
وقال الشافعي: إن أردت الصلاة يعني فعليك بأهل المدينة، وإن أردت المناسك فعليك بأهل مكة، وأن أردت الملاحم فعليك بأهل الشام، والراي عن أهل الكوفة.
وقال ابن المبارك: ما دخلت الشام إلا لاستغني عن حديث أهل الكوفة.
وقال موسى بن هارون: أهل البصرة يكتبون لعشر سنين، وأهل الكوفة لعشرين، وأهل الشام لثلاثين.
وقال أبو عبد الله الزبيري: نسخت كتب الحديث في العشرين لأنها مجتمع العقل. قال: وأحب أن يشتغل دونها بحفظ القرآن والفرائض.
وقال عطاء الخراساني: ما رأيت فقيهاً أفقه إذا وجدته من شامي.
قال صدقة بن خالد: قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كان يقال: من أراد العلم فلينزل بداريّا بين عنس وخولان.
زاد غيره عن يزيد بن محمد، قال يزيد: عنس وخولان قريتان بدمشق، فيهما مسجدان. يتجمع في واحد عنس وفي واحد خولان. فإذا كان هذا في أهل داريّا وهي قرية من قرى دمشق فما ظنك بأهل البلد الكبير الذي يحوي الخلق؟.(1/127)
باب صفة أهل الشام بالدين والثقة
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: باعت امرأة طستاً في سوق الصفر بدمشق، فوجده المشتري ذهباً فقال لها: أما إني لم أشتره إلا على أنه صفر وهو ذهب، فهو لك. فقالت: ما ورثناه إلا على أنه صفر، فإن كان ذهباً فهو لك. قال: فاختصما إلى الوليد بن عبد الملك، فاحضر رجاء بن حيوة فقال: انظر فيما بينهما. فعرضه رجاء على المرأة فأبت أن تقبله، وعرضه على الرجل فأبى أن يقبله. فقال: يا أمير المؤمنين، أعطها ثمنه واطرحه في بيت مال المسلمين.
وعن يزيد بن جابر قال: رأيت سواراً من ذهب، وزنه ثلاثون مثقالاً، معلقاً في قنديل من قناديل مسجد دمشق أكثر من شهر، لا يأتيه أحد فيأخذه.
وعن جعفر بن محمد، قال: كنت مع أبي، محمد بن علي بمكة في ليالي العشر قبل التروية بيوم أو يومين، وأبي قائم يصلي في الحجر وأنا جالس وراءه، فجاءه رجل أبيض الراس واللحية، جليل العظام، بعيد ما بين المنكبين، عريض الصدر، عليه ثوبان غليظان، في هيئة المحرم، فجلس إلى جنبه، فعلم أبي أنه يريد أن يخفف الصلاة، فسلم ثم أقبل عليه فقال له الرجل: يا أبا جعفر، أخبرني عن بدء خلق هذا البيت كيف كان؟ فقال له أبو جعفر محمد بن علي ممن أنت؟ قال: رجل من أهل الشام، فقال له محمد بن علي: إن أحاديثنا إذا سقطت إلى الشام جاءتنا صحاحاً، وإذا سقطت إلى العراق جاءتنا وقد زيد فيها ونقص ثم قال له: بدء خلق هذا البيت. وذكر الحديث.(1/128)
باب النهي عن سب أهل الشام
عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: تكون في آخر الزمان فتنة، يحصل فيها الناس كما يحصل الذهب في المعدن، فلا تسبوا أهل الشام، ولكن سبوا شرارهم، فإن فيهم الأبدال. يوشك أن يرسل على أهل الشام سيب من السماء فيفرق جماعتهم، حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم، فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات، المكثر يقول: هم خمسة عشر ألفاً، والمقل يقول: هم اثنا عشر ألفاً، أمارتهم: أمت أمت، يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك، فيقتلهم الله جميعاً، ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم ونعمتهم، وقاصيهم ودانيهم.
وعنه أيضاً قال: يا أهل العراق لا تسبوا أهل الشام، فإن فيهم الأبدال.
قال رجاء بن حيوة: اذكر لي رجلين من أهل بيسان، فإنه بلغني أنه اختص بيسان برجلين من الأبدال، لا يقبض الله رجلاً منهم إلا بعث الله مكانه رجلاً. ولا تذكر لي متماوتاً ولا طعاناً على الأئمة، فإنه لا يكون منهم الأبدال.
وعن صفوان بن عبد الله بن صفوان: أن رجلاً قال يوم صفين: اللهم العلن أهل الشام، فقال علي: لا تسبوا أهل الشام جماً غفيراً، فإن فهيم قوماً كارهين لما يرون، وإن فيهم يكون الأبدال.
وعن أبي هريرة قال: لا تسبوا أهل الشام، فإنهم جند الله المقدم.
من قتل من أهل الشام بصفين(1/129)
ما ورد فيمن قتل من أهل الشام بصفين
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أربع ملاحم في الجنة: الجمل في الجنة، وصفين في الجنة، وحرة في الجنة "، وكان يكتم الرابعة.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: سمع علي يوم الجمل أو يوم صفين رجلاً يغلو في القول، يقول الكفرة. قال: لا تقولوا، فإنهم زعموا أنا بغينا عليهم، وزعمنا أنهم بغوا علينا.
وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: رأيت علياً بعد صفين، وهو آخذ بيدي ونحن نمشي في القتلى، فجعل علي يستغفر لهم حتى بلغ قتلى أهل الشام فقلت له: يا أمير المؤمنين، إنا في أصحاب معاوية، فقال علي: إنما الحساب علي وعلى معاوية.
وعن عبد الرحمن بن نافع القارئ قال: قدمت العراق فدخلت دار علي بن أبي طالب التي كان يسكن، فإذا الموالي حلقتان يتحدثون، فجلست معهم. فخرج علي وهم يذكرون قتلى علي ومعاوية، فقالوا: قبلتنا واحدة، وإلهنا واحد، ونبينا واحد، فأين قتلانا وقتلاهم؟ فأقبل علي، فلما رآهم قصد إليهم فسكتوا، فقال علي: ما كنتم تقولون؟ فسكتوا. فقال علي: عزمت عليكم لتخبرني، فقالوا: ذكرنا قتلانا وقتلى معاوية، وأن قبلتنا واحدة، وإلهنا واحد، وديننا واحد، فقال علي: فإني أخبركم عن ذلك، إن الحساب علي وعلى معاوية.
وعن سعد بن إبراهيم قال: خرج علي بن أبي طالب ذات يوم ومعه عدي بن حاتم الطائي، فإذا رجل من طيء قتيل، قد قتله أصحاب علي، فقال عدي: يا ويح هذا، كان أمس مسلماً واليوم كافراً. فقال علي: مهلاً، كان أمس مؤمناً وهو اليوم مؤمن.(1/130)
وعن مكحول: أن أصحاب علي سألوه عمن قتلوا من أصحاب معاوية. قال: هم المؤمنون.
وعن عقبة بن علقمة اليشكري قال: شهدت مع علي صفين، فأتي بخمسة عشر أسيراً من أصحاب معاوية، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه.
وعن عبد الرحمن بن جندب قال: سئل علي عن قتلاه وقتلى معاوية، قال: يؤتى بي وبمعاوية يوم القيامة، فنجتمع عند ذي العرض، فأينا فلج، فلج أصحابه.
وعن علي رضي الله عنه قال: من كان يريد وجه الله منا ومنهم نجا يعني صفين.
قال عبد الله بن عروة: حدثني رجل شهد صفين قال: رأيت علياً خرج في بعض تلك الليالي، فنظر إلى أهل الشام فقال: اللهم اغفر لي ولهم. قال: فأتى عمار فأخبر، فقال: جروا له الحصير ما جره لكم.
وعن عبد الله بن رباح أن عماراً قال: لا تقولوا كفر أهل الشام، ولكن قولوا: فسقوا أو ظلموا.
وعن رباح بن الحارث قال: قال رجل من أهل الكوفة: كفر أهل الشام ورب الكعبة، فقال عمار: لا تقل كفروا، ولكنهم قووم مفتونون، بغوا علينا، فحق علينا قتالهم.
وعنه قال: كنت إلى جنب عمار بن ياسر بصفين، وركبتي تمس ركبته، فقال رجل: كفر أهل الشام فقال عمار: لا تقل ذلك: نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة، ولكنهم قوم مفتونون، جاروا عن الحق، فحق علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه.(1/131)
ذكر ما ورد في ذم أهل الشام
عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " الجفاء والبغي في الشام ".
قال: هذا حديث لا يمكن الاعتماد عليه لضعف إسناده.
وعن أنس أنه سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا ركب الناس الخيل ولبسوا القباطي ونزلوا الشام، واكتفى الرجال بالرجال والنساء بالنساء عمهم الله بقعوبة من عنده.
ذكر في إسناده عمرو بن زياد الثوبي، وقال: كان منكر الحديث، يسرق الحديث ويحدث بالبواطيل.
عن أبي هريرة قال: سينعق الشيطان بالشام نعقة يكذب ثلثاهم بالقدر.
قال ابن أبزى: بلغ عمر أن أناساً تكلموا في القدر فقام خطيباً فقال: يا أيها الناس، إنما هلك من كان قبلكم في القدر، والذي نفسي بيده لا أسمع برجلين تكلما فيه إلا ضربت أعناقهما. قال: فأمسك الناس عنه، حتى نبغت نابغة أو نبغة بالشام.
وعن الشيباني قال: قال لي الأوزاعي: يا أبا زرعة هلك عبادنا وخيارنا في هذا الرأي، يعني القدر.
كان المتكلم في القدر بالشام: غيلان القدري، وتبعه على ذلك أتباع، فأخذه(1/132)
هشام بن عبد الملك فصلبه، وكفى أهل الشام أمره. وقد كانت القدرية بالبصرة أكثر، وضررهم على أهل السنة أكبر، فإنهم صنفوا في نفيه التصانيف، وألف أهل الاعتزال فيه التآليف، فأفناهم الله وأبادهم.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل خلق أربعة أشياء وأردفها أربعة أشياء: خلق الجدب، وأردفه الزهد، وأسكنه الحجاز، وخلق العفة، وأردفها الغفلة، وأسكنها اليمن، وخلق الزيف، وأردفه الطاعون، وأسكنه الشام، وخلق الفجور، وأردفه الدرهم، وأسكنه العراق.
قال: وهذا حديث فيه مجاهيل لا يحتج به.
وعن سليمان بن يسار قال: كتب عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار أن اختر لي المنازل فكتب إليه: يا أمير المؤمنين، إنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت فقال السخاء: أريد اليمن، فقال حسن الخلق: أنا معك. وقال الجفاء: أريد الحجاز، فقال الفقر: وأنا معك، وقال البأس: أريد الشام، فقال السيف: وأنا معك. وقال العلم: أريد العراق، فقال العقل: وأنا معك. وقال الغني: أريد مصر، فقال الذل: وأنا معك. فاختر لنفسك يا أمير المؤمنين.
فلما ورود الكتاب على عمر بن الخطاب قال: فالعراق إذاً، فالعراق إذاً.
ورواه بن عائشة أيضاً: قال ابن عساكر: والمحفوظ عن كعب سوء القول في العراق، وضعف هذه الأحاديث.
وعن أنس بن مالك قال: لما حشر الله الخلائق إلى بابل بعث إليهم ريحاً شرقية وغربية وقبلية وبحرية، فجمعتهم إلى بابل، فاجتمعوا يومئذ ينظرون، لما حشروا له إذ نادى مناد: من جعل المغرب عن يمينه والمشرق عن يساره، واقتصد إلى البيت الحرام بوجهه، فله كلام أهل السماء. فقام يعرب بن قحطان فقيل له: يا يعرب بن قحطان بن هود: أنت هو. فكان أول من تكلم بالعربية ولم يزل المنادي ينادي: من فعل كذا وكذا فله كذا(1/133)
وكذا، حتى افترقوا على اثنين وسبعين لساناً. وانقطع الصوت وتبلبلت الألسن، فسميت بابل. وكان اللسان يومئذ بابلياً. وهبطت ملائكة الخير والشر، وملائكة الحياء والإيمان، وملائكة الصحة والشفاء، وملائكة الغنى، وملائكة الشرف، وملائكة المروءة، وملائكة الجفاء، وملائكة الجهل، وملائكة السيف، وملائكة اليأس، حتى انتهوا إلى العراق، فقال بعضهم لبعض: افترقوا. فقال ملك الإيمان: أنا أسكن المدينة ومكة، فقال ملك الحياء: أنا معك، فأجمعت الأمة على أن الإيمان والحياء ببلد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال مالك الشقاء: أنا أسكن البادية، فقال ملك الصحة: وأنا معك، فأجمعت الأمة على أن الصحة والشقاء في الأعراب. وقال ملك الجفاء: أنا أسكن المغرب، فقال ملك الجهل: أنا معك، فأجمعت الأمة على أن الجفاء والجهل في البربر. وقال ملك السيف: أنا أسكن الشام، فقال له ملك البأس: أنا معك. وقال ملك الغنى: أنا أقيم هاهنا، فقال له ملك المروءة: أناملك البأس: أنا معك. وقال ملك الغنى: أنا أقيم هاهنا، فقال له ملك المروءة: أنا معك. فقال ملك الشرف: وأنا معكما، فاجتمع ملك الغنى والمروءة والشرف بالعراق.
وعن حكيم بن جابر قال:
أخبرت أن الإسلام قال: أنا لا حق بأرض الشام، قال الموت: وأنا معك. قال الملك: وأنا لا حق بأرض العراق قال القتل: وأنا معك. قال الجوع: وأنا لاحق بأرض العرب، قالت الصحة: وأنا معك.
قال: إنما أراد بذلك كثرة ما كان بها من الطاعون، أو القتل في الجهاد، وكلاهما شهادة. وذلك مدح ليس بذم.
قال الجاحظ: أشياء اتفقت ثمانية أزواج ستة عشر صنفاً، ثم اتفقت أزواجاً فصارت ثمانية أزواج: فقال الدين: أسكن الحرمين مكة والمدينة، قالت الأمانة: أنا معك. قال الغني واليسار: أسكن مصر، قال الذل: أنا معك. قال السخاء: أسكن الشام، قالت الشجاعة: وأنا معك. قال العقل: أسكن العراق، قالت المروءة: وأنا معك. قال العلم: أسكن خراسان، قال الورع: وأنا معك. قالت التجارة: أسكن خوزستان وأصبهان، قالت النذالة: وأنا معك. قال الجفاء: أسكن المغرب، قال الجهل: وأنا معك. قال الفقر: أسكن اليمن، قالت القناعة: وأنا معك.
وهذا مدح ليس بذم.(1/134)
وعن عبد الله بن أبي الهذيل: أن عمر رضي الله عنه أتي برجل قد أفطر في رمضان. فلما رفع إليه عثر، فقال: على وجهك، أو بوجهك. تفطر وصبياننا صيام؟ فضربه الحد، وكان إذا غضب على إنسان سيره إلى الشام، فسيره إلى الشام.
لم يكن عمر رضي الله عنه ينفي إلى الشام لدناءة حال أهله عنده، وإنما كان ينفي إليها لكثرة ما كان بها من الطاعون رجاء أن يكفيه الطاعون أمر من يغصب عليه، فينفيه إليها ليكون الطاعون شهادة له، ومكفراً عنه ما فرط منه.
وعن أبي عسيب مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام. فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم، ورجس على الكافر.
وعن علي بن زيد بن جدعان قال: قال رجل لعمرو بن العاص: صف لي الأمصار. قال: أهل الشام أطوع الناس للمخلوق وأعصاهم للخالق، وأهل مصر أكيسهم صغاراً، وأحمقهم كباراً، وأهل الحجاز أسرع الناس إلى الفتنة وأعجزهم فيها، وأهل العراق أطلب الناس للعلم وأبعدهم منه.
قدم عبد الله بن الكواء على معاوية، فقال له معاوية: أخبرني عن أهل البصرة. قال: يقاتلون معاً، ويدبرون شتى. قال: فأخبرني عن أهل الكوفة. قال: أنظر الناس في صغيرة وأوقعه في كبيرة. قال: فأخبرني عن أهل المدينة. قال: أحرص الناس على الفتنة، وأعجزه فيها. قال: فأخبرني عن أهل مصر قال: لقمة آكل. قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين مدينتين. قال: فأخبرني عن أهل الموصل: قال: فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال: كناسة بين مدينتين. قال: فأخبرني عن أهل الموصل: قال: قلادة وليدة، فيها من كل خرزة. قال: فأخبرني عن أهل الشام. قال: جند أمير المؤمنين، ولا أقول فيهم شيئاً. قال: لتقولن. قال: أطوع الناس لمخلوق وأعصاهم لخالق، ولا يحسبون للسماء ساكناً.(1/135)
وفي حديث آخر: أطوع الناس لمخلوق في معصية الخالق، وأجرؤهم على الموت لا يدري ما بعده. دمشقيهم يشتمل ولا يدري، وحمصيهم يسمع ولا يعي.
قال: والمراد في هذه الحكايات ما كان عليه أهل الشام من طاعة أئمتهم وأمرائهم، واقتدائهم في الفتن والحروب بآرائهم، من غير نظر في عواقب الفتن كما فعلوا في سالف الزمن من قتالهم علي بن أبي طالب، وهو الإمام المرتضى، وفعلهم يوم الحرة، وحصار ابن الزبير. وتلك أمور قد خلت، وفتن قد مضت، عصم الله منها.
وابن الكواء لا يعتمد على ما يرويه، فكيف يعتمد على ما يقوله عن نفسه؟ قال أبو المخيس: كنت جالساً عند الأحنف، فأتاه كتاب من عبد الملك بن مروان يدعوه إلى نفسه، فقال: يدعوني ابن الزرقاء إلى طاعة أهل الشام؟! ولوددت أن بيننا وبينهم جبلاً من نار، من أتانا منهم احترق، ومن أتاهم منا احترق.
وهذا، لما كان يجري بين أهل الشام والعراق من الحروب، وأما الآن فقد آلف الله بين القلوب.
وعن الأوزاعي قال: لا نأخذ من قول أهل العراق خصلتين، ولا من قول أهل مكة خصلتين، ولا من قول أهل المدينة خصلتين، ولا من قول أهل الشام خصلتين: فأما أهل العراق فتأخير السحور وشرب النبيذ، وأما أهل مكة فالمتعة والصرف، وأما أهل المدينة فإتيان النساء في أدبارهن والسماع، وأما أهل الشام فبيع العصير وأخذ الديون.
قال: وهذان الأمران قد ذهبا. أما بيع العصير فليس في الشام اليوم عالم يبيحه، وأما الديوان فقد منعهموه السلطان.(1/136)
وعن النعمان بن المنذر الغساني قال: كنت مع مكحول بالصائفة قال: فأتاه فتيان من أهل العراق قال: فجعلوا يسألونه، قال: فجعل يخبرهم قال: فقالوا له: عمن ومن حدثك، قال: فنشط لهم مكحول، فجعل يسند لهم، قال: فلما تهيأ قيامه ضحك، ثم قال: هكذا ينبغي لكم يا أهل العراق، لا يصلحكم إلا هذا، وأما أصحابنا هؤلاء أهل الشام فيأخذون كما تيسر. قال: ثم قام.
قال الأعمش: كنا إذا جاءنا الحديث وأنكرناه قلنا: شامي وقيل لعبد الرحمن بن مهدي: أي الحديث أصح؟ قال: حديث أهل الحجاز، قيل: ثم من؟ قال: حديث أهل البصرة، قيل: ثم من؟ قال: حديث أهل الكوفة، قالوا: فالشام؟ قال: فنفض يده.
في هذه الحكاية نظر، والعدوي، بعض رواتها، كذاب، ويحتمل إن كان صحيحاً أنه إنما قال ذلك لأن الغالب على أحاديث أهل الشام أحاديث الفتن والملاحم.
وأما إذا جاء الحديث مسنداً من رواية ثقاتهم، بعضهم عن بعض فهو صحيح، تلزم به الحجة كما يلزم بأحاديث غيرهم.
قال حميد بن إبراهيم: سألت عمرو بن عبيد عن هذه الآية: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " قال: قلت: هم أهل الشام؟ قال نعم.
عمرو هو العدوي لا يحتج بما يرويه عن غيره، فكيف بما يقوله برأيه في كتاب الله مما لا يعضده بالحجة؟ قال الأوزاعي: كانوا يستحبون أن يحدثوا أهل الشام بفضائل أهل البيت، ليرجعوا عما كانوا عليه.
وقال الثوري: إذا كنت بالشام فحدث بفضائل علي، وإذا كنت بالعراق فحدث بفضائل عثمان.(1/137)
وهذا، لما كان في أهل الشام من الانحراف عن أهل بيت الرسول، وأما الآن فقد أمن ذلك، لما وقفوا عليه من فضائلهم.
حدث أبو يحيى السكري قال: دخلت مسجد دمشق فرأيت في مسجدهما حلقاً، فقلت: هذا بلد قد دخله جماعة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم، وملت إلى حلقة في المسجد في صدرها شيخ جالس فجلست إليه، فسأله رجل ممن بين يديه فقال: يا أبا المهلب: من علي بن أبي طالب؟ قال: خناق كان بالعراق، اجتمعت إليه جمعية فقصد أمير المؤمنين يحاربه فنصره الله عليه. قال: فاستعظمت ذلك وقمت، فرأيت في جانب المسجد شيخاً يصلي إلى سارية، حسن السمت والصلاة والهيئة فقصدت إليه فقلت له: يا شيخ، أنا رجل من أهل العراق جلست إلى تلك الحلقة. وقصصت عليه القصة، فقال لي: في هذا المسجد عجائب. بلغني أن بعضهم يطعن على أبي محمد حجاج بن يوسف فعلي بن أبي طالب من هو؟ وقد روي مثل معنى هذه الحكاية عن أهل حمص. وكلتا الحكايتين ضعيف.
وأما ما تحكيه العامة من تأخير معاوية صلاة الجمعة إلى يوم السبت ورضي أهل الشام بذلك فأمر مختلق لا اصل له، ومعاوية ومن كان في عصره بالشام من الصحابة والتابعين أتقى لله وأشد محافظة على أداء فريضة، وأفقه في دينه من أن يخفى عنهم أن ذلك لا يجوز.
قال: ولم أجد لذلك أصلاً في شيء من الروايات. وإنا يحكى بإسناد منقطع أن بعض مغفلي أهل الشام امتحن بذكر ذلك في العراق في زمن الحجاج، فلعل بعض الناس بلغه ذلك فعزاه إلى أهل الشام.
قال: كان للحجاج قاض في الكوفة من أهل الشام يقال له أبو حمير، فحضرت الجمعة فمضى يريدها فلقيه رجل من أهل العراق فقال: أبا حمير، أين تذهب؟ قال: إلى الجمعة، قال: أما بلغك أن الأمير قد أخر الجمعة اليوم؟ فانصرف راجعاً إلى بيته. فلما(1/138)
كان من الغد قال له الحجاج: أين كنت يا أبا حمير لم تحضر معنا الجمعة؟ قال: لقيني بعض أهل العراق فأخبرني أن الأمير أخر الجمعة فانصرفت. قال: فضحك الحجاج وقال: أبا حمير أما علمت أن الجمعة لا تؤخر؟ قال: وهذه الحكاية إن صحت تدل على بطلان ما يدعى على معاوية من ذلك، لأنه لو كان تقدم ذلك من معاوية لما خفي على أبي حمير حتى كان يقول للحجاج: فقد فعل مثل هذا معاوية، ولا على الحجاج حتى يقول لأبي حمير: هذا كما قال معاوية لأهل الشام. والله يعيذنا من إشاعة الكذب في السلف، ويمن علينا بالثبات على الحق.
قال: وإنما يتم من الأمر ما هذا سبيله على من اشتهر منه تغفيله.
كما روي عن أبي علي محمد بن سعيد بن عبد الرحمن القشيري قال: سألت أبا عمرو هلالاً يعني: ابن العلاء. عن أبي بكر بن بدر قال:
ذكروا أنه خرج يوم خميس قد لبس ثيابه يريد الجمعة، فمر بميمون بن مهران فقال له: أين تريد: فقال: الجمعة، فقال له ميمون: قد أخروها إلى غد، فرجع إلى أهله فقال لهم: قال لي ميمون بن مهران إنهم قد أخروا الجمعة إلى غد.
فأما ما كان في عصر معاوية من الصحابة والتابعين فلا يجوز أن يلحق بهم ما لا يليق. وقد كان معاوية يأمر بحضور الجمعة أهل القرى القاصية، فكيف يظن به أنه أخرها عن حاضرتها؟! كما روي عن يونس بن حنبس قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان على هذا المنبر منبر دمشق يقول: يا أهل قردا، يا أهل زاكية، يا أداني البثنية، الجمعة الجمعة، وربما قال: يا أهل قين، يا أقاصي الغوطة، الجمعة الجمعة، لا تدعوها.
أخبار ملوك الشام قبل الإسلام(1/139)
ذكر ما جاء من أخبار ملوك الشام قبل الإسلام
عن ابن عباس قال: كان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لأنهم أهل كتاب. وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أهل أوثان. فذكر ذلك المسلمون لأبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما إنهم سيظهرون ". فذكر أبو بكر لهم ذلك فقالوا: اجعل بيننا وبينكم أجلاً، إن ظهروا كان لك كذا وكذا، وإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، فجعل بينهم أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ألا جعلته أراه قال: دون العشرة قال: فظهرت الروم بعد ذلك، فذلك قوله: " ألم غلبت الروم في أدنى الأرض، وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بعضع سنين " قال: فغلبت الروم ثم غلبت بعد: " لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ".
قال سفيان: وسمعت أنهم ظهروا يوم بدر.
وعن عبد الله بن عباس.
أنه سمع عمر بن الخطاب يسأل الهرمزان عظيم الأهواز، وكان نزل على حكم عمر(1/140)
فأسلم فعفا عنه، فسأل عمر عن جيوش فارس التي بعث كسرى مع شهربراز، وما الذي كشف فارس عنهم فقال الهرمزان: كان كسرى بعث شهربراز وبعث معه جنود فارس، فملك الشام ومصر وخرب عامة حصون الروم، وطال زمانه بالشام ومصر وتلك الأرض، فطفق كسرى يستبطئه ويكتب إليه: إنك لو أردت أن تفتح مدينة الروم فتحتها، ولكنك رضيت بمكانك فأردت طول السلطان، فأكثر إليه كسرى من الكتب في ذلك وأكثر شهربراز مراجعته واعتذارا إليه، فلما طال ذلك على كسرى كتب إلى عظيم من عظماء فارس مع شهربراز يأمره بقتل شهربراز ويلي أمر الجنود، فكتب إليه ذلك العظيم يذكر أن شهربراز جاهد ناصح وأنه هو أنبل، وهو أمثل بالحرب منه، فكتب إليه كسرى يعزم عيه ليقتلنه، فكتب أيضاً يراجعه، ويقول إنه ليس لك عبد مثل شهربراز، وإنك لو تعلم ما يوازي من مكابدة الروم عذرته. فكتب إليه كسرى يعزم عليه ليقتلنه وليلين أمر الجنود، فكتب إليه يراجعه أيضاً فغضب كسرى، فكتب إلى شهربراز يعزم عليه ليقتلن ذلك العظيم، فأرسل شهربراز إلى ذلك العظيم من فارس فأقرأه كتاب كسرى فقال له: راجع في، فقال له: قد علمت أن كسرى لا يراجع وقد علمت محبتي إياك، ولكنه قد جاءني مالاً أستطيع تركه، فقال له ذلك الرجل: أفلا تدعني أرجع إلى أهلي فآمرهم بأمري، وأعهد إليهم عهدي؟ فقال بلى، وذلك الذي أملك لك فانطلق إلى أهله، فأخذ صحائف كسرى الثلاث التي كتب إليه، فجعلهن في كمه، ثم جاء حتى دخل على شهربراز ودفع إليه الصحيفة الأولى فاقترأها شهربراز فقال له شهربراز: أنت خير مني، ثم دفع إليه الصحيفة الثالثة فاقترأها. فلما فرغ شهربراز من قراءته قال: أقسم بالله لأسوأن كسرى. فأجمع شهربراز المكر بكسرى، وكاتب هرقل وذكر له أن كسرى قد أفسد فارس، وجهز بعوثها، وابتليت بملكه، وسأله أن يلقاه بمكان نصف يحكمان فيه الأمر ويتعاهدان، ثم يكشف عنه شهربراز جنود فارس ويخلي بينه وبين السير إلى كسرى.
فلما جاء كتاب شهربراز دعا رهطاً من عظماء الروم فقال لهم حين جلسوا؛ أنا اليوم أحزم الناس، أو أعجز الناس، وقد أتاني أمر لا تحسبونه، وسأعرض عليكم فأشيروا(1/141)
علي فيه، ثم قرأ عليهم كتاب شهربراز، فاختلفوا عليه في الرأي، فقال بعضهم: هذا مكر من كسرى، وقال بعضهم: أراد هذا العبد أن يلقاك كسرى فيشمت بك ثم لا يبالي ما لقي. فقال هرق: إن الرأي ليس حيث ذهبتم، إنه لعمري ما طابت نفس كسرى بأن يشتم هذا الشتم الذي أجد في كتاب شهربراز، وما كان شهربراز ليكتب بهذا الكتاب وهو ظاهر على عامة ملكي إلا لأمر حدث بينه وبين كسرى، وإني والله لألقينه، فكتب إليه هرقل إنه قد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وإني لاقيك، فموعدك كان كذا وكذا، فاخرج بأربعة آلاف من أصحابك فإني خارج في مثلهم، فإذا بلغت مكان كذا وكذا فضع ممن معك خمس مئة، فإني سأضع بمكان كذا وكذا مثلهم، ثم ضع بمكان كذا خمس مئة، فإني سأضع بمكان كذا مثلهم، حتى نلتقي أنا وأنت في خمس مئة. وبعث هرقل الرسل من عنده إلى شهربراز فأمرهم أن يقوموا على ذلك، فإن فعل شهربراز لم يرسلوا إليه، وإن أبى ذلك عجلوا إليه بكتاب، فرأى رأيه، فافعل ذلك شهربراز. وسار هرقل في أربعة آلاف ومع شهربراز خمس مئة، فلما رآهم شهربراز أرسل إلى هرقل: أغدرت؟ فأرسل إليه هرقل: لم أغدر ولكن خفت الغدر من قبلك، وأمر هرقل بقبة ديباج فضربت لهما بين الصفين، فنزل هرقل فدخلها وأدخل ترجمانه، وأقبل شهربراز حتى دخل عليه، فانتحيا ومعهما ترجمان حتى أحكما أمرهما، واستوثق كل واحد منهما بالعهد والمواثيق، حتى إذا فرغا من أمرهم خرج هرقل، فأشار إلى شهربراز أن يقتل الترجمان لكي يخفى أمرهم وسرهما، فقتله شهربراز ثم انكشف شهربراز فجيش الجنود، وسار جيش هرقل إلى كسرى حتى أغاروا على كسرى ومن بقي معه، فكان ذلك أول هلكة كسرى، ووفى هرقل لشهربراز بما أعطاه من ترك أرض فارس وسببها، فانكشف حين ولى، وقتلت فارس كسرى، ولحق شهربراز بفارس والجنود التي معه.
حدث محمد بن مهاجر الأنصاري، وذكر مسير هرقل إلى بيت المقدس فقال: إن كسرى وفارساً ظهرت على الروم بالشام وما دون خليج القسطنطينية، وسار(1/142)
بجنوده حتى نزل بخليجها وأخذ في كبسه بالحجارة والكلس ليتخذوا طريقاً يبساً، فبينما هو على ذلك إذ بلغه أن ملك الهند الخزر قد خلفاه في بلاده من العراق. فانصرف عن القسطنطينية وخلف على ما ظهر عليه من مدائن الشام عاملاً في حكمه من أساورته وخيولهم فنزل ذلك العامل حمص وضبط له ما خلفه عليه، ومضى كسرى إلى عراقه، فإذا الحرب قد نشبت بني ملك الهند وبين ملك الخزر، فكتبا إليه كلاهما يسألانه النصرة على كل واحد منهما على أن يرد من والاه على صاحبه جميع ما استباح وسبى من بلاده ويزيده كذا وكذا، فرأى كسرى وأساورته أن يظاهر ملك خزر على ملك الهند لجواره ملك خزر، ومقارعته إياه في كل يوم، ولجرأة ملك الهند عليه، وتناوله الفرصة منه إذا أمكنته من بعد. فوالى كسرى ملك خزر على ملك الهند وقهراه، واستنقذا ما كان أصاب من بلاده من سبي أو غير ذلك. وزاده هدية ثلاثين ألف مملوك، وانصرف عنه جنوده فملك كسرى على الثلاثين ألف مملوك الذين خلفهم ملك خزر عنده، رجلاً، وسيرهم إلى ما خلف القسطنطينية، وأسكنهم تلك البلاد وهي يومئذ خراب.
قال محمد بن مهاجر: فهم اليوم برجان.
وعن العلاء بن الزبير الكلابي عن أبيه قال: رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارساً، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم، وظهورهم بالشام والعراق، وكل ذلك في خمس عشرة سنة.(1/143)
باب تبشير النبي أمته بافتتاح الشام
عن سفيان بن أبي زهير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يفتح اليمن فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهلهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، ثم تفتح العراق فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهاليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون ثم تفتح الشام فيأتي قوم يبسون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم من لو كانوا يعلمون ".
وعن بسر بن سعيد أنه سمع في مجلس الشنئيين يذكرون أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم:
أن فرسه أعيت عليه بالعقيق، وهم في بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع إليه يسحتمله، فزعم سفيان كما ذكروا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يبتغي له بعيرا. فلم يجده إلا عند أبي جهم بن حذيفة العدوي فسامه: فقال أبو جهم: لا أبيعكه يا سول الله، ولكن خذه فاحمل عليه من شئت. فزعم أنه أخذه منه، ثم خرج حتى إذا بلغ بئر الإهاب زعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يوشك البنيان أن يبلغ هذا المكان، ويوشك الشام أن يفتح فيأتيه رجال من أهل هذا البلد، ويعجبهم ريفه ورخاؤه، فيسيرون والمدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون، إن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة، وإني أسأل الله أن يبارك لنا في صاعنا ومدنا، وأن يبارك لنا في مدينتنا بما بارك لأهل مكة ".
وعن أبي ذر قال: استعيذوا بالله من زمن التباغي وزمن التلاعن. قالوا: وما ذاك؟ قال: لا تقوم الساعة حتى يكون قتال قوم دعوتهم دعوى جاهلية، فيقتل بعضهم بعضاً، ولا تقوم(1/144)
الساعة حتى توقف العربية التي تنسب إلى سبعة أباء، بالأسواق، لا يمنع الرجل أن يبتاعها إلا حموشة ساقيها، وكان يقال: المحروم من حرم غنيمة كلب.
قال: وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أول الناس هلاكاً قريش، وأول قريش هلاكاً أهل بيتي ".
قال: ويقال: اشتكي إليه وباء المدينة فقال: اللهم انقل وباءها إلى مهيعة، اللهم حببنها إلينا ضعف ما حببت إلينا مكة.
قال: ويقال: استقبل الشام فقال: يفتح ما هاهنا فيبس الناس إليه بساً، ويفتح المشرق فيبس الناس إليه بساً، والمدينة خير لهم، لو كانوا يعلمون، وبورك لهم في صاعهم ومدهم.
وقال: من صبر على لأوائها وشدتها له شهيداً يوم القيامة.
وعن أبي زغب الإيادي قال: نزل بي عبد الله بن حوالة صاحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد بلغنا أنه فرض له في المئتين فأبى إلا مئة. قال: قلت: أحق ما بلغنا أنه فرض لك في مئتين فأبيت إلا مئة؟ فوا لله ما منعه وهو نازل علي أن يقول: لا أم لك، أو لا تكفي ابن حوالة مئة في كل عام؟ ثم أنشأ يحدثنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثنا على أقدامنا حول المدينة لنغنم، فقدمنا ولم نغتم شيئاً. فلما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي بنا من الجهد قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم لا تكلهم إلي فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى الناس فيهونوا عليهم ويستأثروا عليهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولكن توحد بأرزاقهم، ثم قال: لتفتحن لكم الشام، ثم لتقسمن لكم كنوز فارس والروم، وليكونن لأحدكم من المال كذا وكذا، وحتى إن أحدكم ليعطى مئة دينار فيتسخطها، ثم وضع يده على رأسي فقال: يا بن حوالة، إذا رأيت الخلافة قد نزلت(1/145)
الأرض المقدسة فقد أتت الزلازل والبلابل والأمور العظام. والساعة أقرب إلى الناس من يدي هذه إلى رأسك.
وعن البراء بن عازب قال: لما كان حيث أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفر الخندق عرضت لنا في بعض الخندق صخرة عظيمة شديدة، لا تأخذ فيها المعاول، فاشتكينا ذلك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما رآها ألقى ثوبه وأخذ المعول فقال: بسم الله ثم ضرب ضربة فكسر ثلثها وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة، ثم ضرب الثالثة وقال: بسم الله فقطع بقية الحجر وقال: الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء في كاني هذا الساعة.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله استقبل بي الشام، وولى ظهري اليمن فقال لي: يا محمد: إني جعلت ما وراءك مدداً لك، وجعلت ما تجاهك عصمة لك ورزقاً، ثم قال: والذي نفسي بيده، لا يزال الله يزيد الإسلام وأهله، وينقص الشرك وأهله حتى يسير الراكب بين النطفتين لا يخشى إلا جوراً، يعني جور السلطان. قيل: يا رسول الله، وما النطفتان؟ فقال: بحر المشرق والمغرب. قال: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والذي نفسي بيده، والذي نفسي بيده ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل.
وعن عبد الله بن بسر قال:
أهديت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاة والطعام يومئذ قليل، فقال لأهله: اطبخوا هذه الشاة، وانظروا إلى هذا الدقيق فاخبزوه، واطبخوا واثردوا عليه. قال: وكانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قصعة يقال لها: الغراء، يحملها أربعة رجال، فلما أصبح وسبح الضحى أتى بتلك القصعة والتقوا عليها، فإذا كثر الناس جثا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له أعرابي: ما هذه الجلسة! فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن الله جعلني عبداً كريماً ولم يجعلني جباراً عنيداً، ثم قال: كلوا من جوانبها ودعوا ذروتها يبارك الله فيها. ثم قال: خذوا فكلوا، فو الذي نفس محمد بيده لتفتحن عليكم أرض فارس والروم حتى يكثر الطعام. ولا يذكر اسم الله تعالى عليه.(1/146)
وعن سليمان قال: كنت جالساً مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عصابة من أصحابه فجاءت عصابة فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا قريب عهد بالجاهلية، كنا نصيب من الزنى فائذن لنا في الخصاء، فكره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسألتهم، حتى عرف ذلك في وجهه، ثم جاءت عصابة أخرى فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا قريب عهد بالجاهلية كنا نصيب من الآثام، فائذن لنا في الجلوس في البيوت نصوم ونقوم حتى يدركنا الموت، فسر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمسألتهم حتى عرف البشر في وجهه وقال: إنكم ستجندون أجناداً، وستكون لكم ذمة وخراج وأرض يفتحها الله لكم، منها ما يكون على شفير البحر، ومدائن وقصور، فمن أدرك ذلك منكم، فاستطاع منكم أن يحبس نفسه في مدينة من تلك المدائن أو قصر من تلك القصور حتى يدركه الموت فليفعل.
وعن عوف بن مالك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأصحابه: الفقر تخافون أو العوز أو تهمكم الدنيا؟ إن الله عز وجل فاتح لكم أرض فارس والروم، ويصب عليكم الدنيا صباً حتى لا يزيغكم إلا هي.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إنها ستفتح عليكم الشام وتجدون فيها بيوتاً يقال لها الحمامات، وهي حرام على رجال أمتي إلا بأزر، وعلى نساء أمتي إلا نفساء أو سقيمة ".
وعن معاذ بن جبل سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ستهاجرون إلى الشام فتفتح لكم، ويكون فيكم داء كالدمل أو كالحرة يأخذ بمراق الرجل يستشهد الله به أنفسهم، ويزكي به أعمالهم ".
وعن أبي أيوب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " سيفتح عليكم الشام، وستضرب عليكم بعوث يكره الرجال فيها البعث، ثم يتخلف عن قومه ثم يتبع القبائل فيقول: من أكفيه من أكفيه؟ ألا وذاك الأجير إلى آخر قطرة من دمه ".(1/147)
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تنزلون منزلاً يقال له الجابية أو الجويبة يصيبكم فيه داء مصل غدة الجمل يستشهد الله به أنفسكم وذراريكم ويزكي به أموالكم ".
وعن سهل بن سعد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اتقوا الله يا عباد الله، فإنكم إن اتقيتم الله أشبعكم من خير الشام وزيت الشام ".
وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل: " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " إلى قوله: على كل شيء قديراً " المغانم: فتوح من لدن خيبر. " تأخذونها " تلونها وتغنمون ما فيها. عجل لكم من ذلك خيبر " وكف أيدي الناس ": قريش، " عنكم " بالصلح يوم الحديبة، " ولتكون آية للمؤمنين " شاهداً على ما بعدها، ودليلاً على إنجازها، " وأخرى لم تقدروا عليها ": على علم وقتها، أفيئها عليكم، فارس والروم، " قد أحاط الله بها " قضى الله بها أنها لكم، منها الأيام والقوادس والواقوصة والمدائن والحمر بالشام ومصر والضواحي. فاجتمعت هذا الصفات فيمن قاتل فارس والروم وسائر أعاجم ذلك الزمان.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: " وأثابهم فتحاً قريباً " قال: خيبر، قال: " وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها " قال: فارس والروم.
وعن الواقدي: قال: ويقال: مكة.(1/148)
وعن ابن عباس في هذه الآية: " وأخرى لم تقدروا عليها " قال: ما فتح الله من هذه الفتوح.
وعن مجاهد في قوله: " أولي بأس شديد " قال: هم فارس والروم.(1/149)
باب سرايا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وبعوثه وهي غزوة دومة الجندل وذات أطلاح وغزوة مؤتة وذات السلاسل
ذكر الواقدي:
أن غزوة دومة الجندل أول غزوات الشام، وهي من المدينة على ثلاث عشرة مرحلة، ومن الكوفة على عشر مراحل في برية مرث، ومن دمشق على عشر مراحل، وهي أرض مخل وزرع، يسقون على النواضح، وحولها عيون قليلة، وزرعهم الشعير وهي مدينة عليها سور، ولها حصن عادي مشهور في العرب يدعى مارد.
والثانية مؤتة، والغزوة الثالثة تبوك، والغزوة الرابعة غزوة أسامة بن زيد يبنى من أرض فلسطين في سنة عشر، والغزوة الخامسة غزوة أسامة ابن زيد آبل الزيت في سنة إحدى عشرة، وهي التي أمره عليها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مريض، فغزاها بعد وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: ولم يفرق أحد بين غزوة يبنى وبين غزوة آبل الزيت غير الواقدي. وعندي أنهما غزوة واحدة أغار فيها على الموضعين جميعاً. والله أعلم.
عن ابن عمر قال: دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن بن عوف قال: تجهز فإني باعثك في سرية من يومك هذا أو من غد إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغداة فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر(1/150)
وعمر وناس من المهاجرين، فيهم عبد الرحمن، وإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل، فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السفر، فهم معسكرون بالجرف، وكانوا سبع مئة رجل فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك وعلي ثياب سفري. قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه. قال ابن عمر: فدعاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقعده بين يديه فنفض عمامته بيده ثم عممه بعمامة سوداء، فأرخى بين كتفيه منها ثم قال: هكذا فاعتم يا بن عوف، قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحة، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغز بسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليداً ". قال ابن عمر: ثم بسط يده فقال: أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم، ما نقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين، ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عنهم، قطر السماء. ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه، فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أبوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي وكان نصرانياً وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره بذلك، وبعث رجلاً من جهينة يقال له: رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قد أراد أن يتزوج فيهم فكتب إليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تزوج ابنة الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها ثم أقبل بها. وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وأما سرية ذات أطلاح فروي عن الزهري قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كبيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم، ورشقوهم بالنبيل. فلما رأى ذلك أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا فأفلت منهم رجل كان جريحاً في(1/151)
القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم بالبعثة إليهم فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
وأما غزوة مؤتة فكان سببها فيما روى عمر بن الحكم قال: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحارث بن عمير الأزدي، ثم أحد بني لهب إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام قال: لعلك من رسل محمد، قال: نعم، أنا رسول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأوثق رباطاً ثم قدمه فضرب عنقه صبراً، ولم يقتل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول غيره، فبلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر، فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمراء، فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظهر جلس، وجلس أصحابه حوله، وجاء النعمان بن مهض اليهودي فوقف على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الناس، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " زيد بن حارثة أمير الناس فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم "، فقال النعمان بن مهض: أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا: إن أصيب فلان، فلو سمى مئة أصيبوا جميعاً، ثم جعل اليهودي يقول لزيد بن حارثة، اعهد، فلا ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبياً، فقال زيد: فأشهد أنه نبي صادق بار. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة لواء أبيض مشى الناس إلى أمراء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون؛ دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين.
قال البيهقي: فلما ودعوا عبد الله بن رواحة بكى، فقالوا: ما يبكيك يا بن رواحة؟ قال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة إليها، ولكني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: " وإن منكم(1/152)
إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورد.
ثم خرج القوم حتى نزلوا معان، فبلغهم أن هرقل قد نزل بمآب في مئة ألف من الروم ومئة ألف من المستعربة، فأقاموا بمعان يومين. وقالوا: نبعث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنخبره بكثيرة عدونا. فإما أن يمدنا، وإما أن يأمرنا أمراً، فشجع الناس عبد الله بن رواحة، قال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم لها، إياها تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا كثرة، وإنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فإن يظهرنا الله به فربما فعل، وإن تكن الأخرى فهي الشهادة، وليست بشر المنزلتين، فقال الناس: والله لقد صدق ابن رواحة، فانشمر الناس وهم ثلاثة آلاف حتى لقوا جموع الروم بقرية من قرى البلقاء يقال لها: شراف ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق أحساء.
وقيل: كانوا ستة آلاف من المهاجرين والأنصار وغيرهم.
قال عطاف بن خالد المخزومي: وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيعاً لهم حتى بلغ ثنية الوداع فوقف ووقفوا حوله، فقال: اغزوا باسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون بها رجالاً في الصوامع معتزلين الناس فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين، للشياطين في رؤوسهم مفاحيص، فافلقوا هامهم بالسيوف، ولا تقتلن امرأة ولا صغيراً ضرعاً، ولا كبيراً فانياً، ولا تعزقن نخلاً، ولا تقطعن شجراً ولا تهدموا بناء.
وعن أبي هريرة قال: شهدت مؤتة. فلما رأينا المشركين رابنا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت بن أقرم: يا أبا هريرة، مالك، كأنك ترى جموعاً كثيرة! قلت: نعم، قال: لم تشهدنا ببدر أنا لم ننصر.(1/153)
وعن عبد الله بن أبي بكر قال:
لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر، وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أخذ الراية زيد بن حارثة فجاءه الشيطان فحبب إيه الحياة وكره إليه الموت، وحبب إليه الدنيا " فقال: الآن؟ أحين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين، تحبب إلي الدنيا؟! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: استغفروا له، وقد دخل الجنة وهو يسعى، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فجاءه الشيطان فمناه الحياة، وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن؟ حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودعا له. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " استغفروا لأخيكم فإنه شهيد دخل الجنة، فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث شاء من الجنة ". ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة فاستشهد ثم دخل الجنة معترضاً، فشق ذلك على الأنصار، قيل: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع فاستشهد فدخل الجنة، فسري عن قومه.
وروي أنه لما قتل عبد الله بن رواحة انهزم القوم أسوأ هزيمة رأيتها قط، في كل وجه، ثم إن المسلمين تراجعوا فأقبل رجل من الأنصار، يقال له ثابت بن أقرم فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجه، وهم قليل، وهو يقول: إلي أيها الناس، فاجتمعوا إليه، قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن وقد شهدت بدراً، قال ثابت: خذه أيها الرجل، فوا لله ما أخذته إلا لك فأخذه خالد، فحمله ساعة وجعل المشركون يحملون عليه فتثبت حتى تكركر المشركون، وحمل بأصحابه، ففض جمعاً من جمعهم، ثم دهمه منهم بشر كثير وانحاش بالمسلمين فانكشفوا راجعين.
قال عطاف بن خالد: لما قتل ابن رواحة مساء بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدوا، وقد جعل مقدمته(1/154)
ساقة، وساقته مقدمة، وميمنته ميسرة، وميسرته ميمنة، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرعبوا، فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قوم.
وروي أن زيد بن حارثة سار بهم على حبال بين الشراة والبلقاء على ريفها وعمارتها فمر بقرية من قرى حبال يقال لها اكبث، فشد أهلها على ساقة المسلمين، فأصابوهم بجراحة، وقتلوا رجلاً من المسلمين فبلغ ذلك جماعة الجيش، فاستأذنوا زيد بن حارثة في الرجعة إليهم والانتقام منهم، فقال زيد: لا أرى ذلك، لأن عدوكم أمامكم قد جمعوا لكم، ودنوا منكم، فأكره أن يفلوا حدكم ونشاطكم بقتال غيرهم، ثم لا آمن أن يجمعوا لكم فيكونوا من ورائكم، فتكونوا بين عسكرين، فمضى زيد ومن معه حتى لقوا عدوهم بين قريات ثلاث: بين مؤتة، والعمقة، وزقوقين فصافوهم هنالك.
وروي أن خالداً لما أخذ الراية قاتلهم قتالاً شديداً ثم انحاز الفريقان كل عن كل قافلاً عن غير هزيمة، فقفل المسلمون على طريقهم التي أبدوا منها حتى مروا بتلك القرية والحصن الذين كانوا شدوا على ساقتهم، وقتلوا رجلاً منهم، فحاصروهم في حصنهم حتى فتحه الله عليهم عنوة، فقتل خالد بن الوليد مقاتلتهم في نقيع إلى جانب حصنهم صبراً. فبها سمي ذلك النقيع نقيع الدم إلى اليوم، وهدموا صنهم هدماً لم يعمر بعده إلى اليوم.
وفي حديث أبي قتادة: ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد، ولم يكن من الأمراء. قال: فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبعيه فقال: اللهم هو سيف من سيوفك، فانتصر به. قال: فيومئذ سمي خالد: سيف الله. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انفروا فأمدوا إخوانكم ولا يتخلفن أحد. قال: فنفر الناس في حر شديد مشاة وركباناً.
قال عوف بن مالك الأشجعي "
خرجت مع زيد بن حارثة في عزوة مؤتة فوافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه فنحر رجل من المسلمين جزوراً، فسأله المددي طائفة من جلده فأعطاه إياه،(1/155)
فاتخذ كهيئة الدرقة، ومضينا، فلقينا جموع الروم. قال: وفيهم رجل على فرس له، أشقر، عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين وقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر، وعلاه فقتله فحاز فرسه وسلاحه. فلما فتح الله عز وجل على المسلمين بعث خالد بن الوليد فأخذ من السلب. قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته، قال عوف: فقلت: لتردنه أو لأعرفنكها عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأبى أن يرده عليه، قال عوف: فاجتمعنا فقصصت عليه قصة المددي وما فعله خالد، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خالد، ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله، استكثرته، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رد عليه ما أخذت منه، فقلت: دونك يا خالد. ألم أقل لك! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ذاك؟ فأخبرته، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: يا خالد، لا ترد عليه، هل أنتم تاركو لي أمرائي، لكم صفوة أمركم وعليهم كدره.
وأما غزوة ذات السلاسل فهي بعد غزوة مؤتة، وقال ابن إسحاق: إنها قبل غزوة مؤتة.
روي أنه بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن جمعاً من بلي وقضاعة قد تجمعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، وجعل معه راية سوداء، وبعثه في سراة المهاجرين والأنصار في ثلاث مئة عامر بن ربيعة وصهيب بن سنان وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسعد بن أبي وقاص، ومن الأنصار: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر، وسلمة بن سلامة، وسعد بن عبادة، وأمره أن يستعين بمن مر به من العرب، وهي بلاد بلي وعذرة وبلقين. وذلك أن عمرو بن العاص كان ذا رحم بهم: كانت أم العاص بن وائل بلوية، فأراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتألفهم بعمرو، فسار، وكان يكمن النهار، ويسير الليل، وكانت معه ثلاثون فرساً. فلما دنا من القوم بلغه أن لهم جمعاً كثيراً، فنزل قريباً منه عشاء، وهم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا، وهي أرض باردة، فمنعهم فشق ذلك عليهم حتى كلمه في ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: قد أمرت أن تسمع لي(1/156)
وتطيع، قال: نعم، قال: فافعل، وبعث رافع بن مكيث الجهني إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره أن لهم جمعاً كبيراً، ويستمده بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجراح وعقد له لواء وبعث معه سراة المهاجرين: أبو بكر وعمر، والأنصار وأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يلحق عمرو بن العاص فخرج أبو عبيدة في مئتين وأمره أن يكونا جميعاً ولا يختلفا، فساروا حتى لحقوا بعمرو بن العاص، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمراً، فقال له عمرو: إنما قدمت مدداً لي، وليس أن تؤمني وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلي مدداً، فقال المهاجرون: كلا بل أنت أمير أصحابك، وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف وكان حسن الخلق لين الشيمة قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس، فآب إلى عمرو جمع فصاروا خمس مئة، فسار الليل والنهار حتى وطئوا بلاد بلي ودوخها، وكلما انتهى إلى موضع بلغه أنه قد كان بهذا الموضع جمع، فلما سمعوا به تفرقوا حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلي وعذرة وبلقين، في آخر ذلك جمعاً ليس بالكثير، فتقاتلوا ساعة وتراموا بالنبل، ورمي يومئذ عامر بن ربيعة بسهم فأصيب ذراعه، وحمل المسمون عليهم فهربوا وأعجزوا هرباً في بالبلاد وتفرقوا، ودوخ عمرو ما هناك، وأقام أياماً لا يسمع لهم بجمع ولا بمكان صاروا فيه، وكان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء والنعم، وكانوا ينحرون ويذبحون، فلم يكن في ذلك أثر من ذلك. لم يكن غنائم تقسم إلا ما لا ذكر له.
وفي بعض روايات هذا الخبر: حتى إذا كان على ماء بأرض جذام يقال لها السلاسل، فبذلك سميت هذه الغزوة: ذات السلاسل.
وفي هذه الرواية أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إني لأؤمر الرجل على القوم فيهم من هو خير منه، لأنه أيقظ عيناً، وأبصر بالحرب.
وفي رواية: أن أبا عبيدة لما أطاع عمرو بن العاص وجد عمر من ذلك وقال: أتطيع ابن(1/157)
النابغة وتؤمره على نفسك وعلى أبي بكر وعلينا؟! ما هذا الرأي. فقال أبو عبيدة لعمر: يا بن أم، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد إلي وإليه ألا نتعاصيا، فخشيت إن لم أطعه أن أعصي عمر بن الخطاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيدخل بيني وبين الناس، وإني والله لأطيعنه حتى أقفل. ففما قفلوا كلم عمر نب الخطاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكا إليه ذلك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن أؤمر عليكم بعدها إلا منكم يريد المهاجرين. فكانت تلك غزوة ذات السلاسل، أسر فيها ناس كثير من العرب وسبوا.
قال عمرو بن العاص: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على جيش ذات السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر، فحدثت نفسي أنه لم يبعثني على أبي بكر وعمر إلا لمنزلة لي عنده، قال: فأتيته حتى قعدت بين يديه، وقلت: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قلت: إني لست أسألك عن أهلك. قال: فأبوها. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. قلت: ثم من؟ حتى عدد رهطاً. قال: قلت في نفسي: لا أعود أسأل عن هذا.
ولما بعث عمرو بن العاص في ذات السلاسل سأله أصحابه أن يأذن لهم أن يوقدوا ناراً ليلاً فمنعهم. فكلموا أبا بكر فكلمه في ذلك فأباه. فقال: قد أرسلوك إلي! لا يوقد أحد منهم ناراً إلا ألقيته فيها.
قال: فلقوا العدو فهزموهم، فأرادوا أن يتبعوهم فمنعهم. فلما انصرف ذلك الجيش ذكر ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشكوه إليه، فقال: يا رسول الله إني كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد فيعطفوا عليهم، فأحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره. قال: يا رسول الله، من أحب الناس إليك؟ قال: لم؟ قال: لأحب من تحب. قال: عائشة. قال: من الرجال؟ قال: أبو بكر.(1/158)
باب غزوة تبوك
قال ابن عباس: لبث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد خروجه من الطائف ستة أشهر، ثم أمره الله بغزوة تبوك، وهي التي ذكر الله ساعة العسرة، وذلك في حر شديد، وقد كثر النفاق، وكثر أصحاب الصفة، والصفة بيت كان لأهل الفاقة يجتمعون فيه فتأتيهم صدقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمين، وإذا حضر غزو عمد المسلمون إليهم فاحتمل الرجل الرجل أو ما شاء الله بشبعة فجهزوهم وغزوا معهم واحتسبوا عليهم، فأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين بالنفقة في سبيل الله والحسبة، فأنفقوا احتساباً، وأنفق رجال غير محتسبين، وحمل رجال من فقراء المسلمين، وبقي أناس. وأفضل ما تصدق به يومئذ أحد عبد الرحمن بن عوف، تصدق بمئتي أوقية، وتصدق عمر بن الخطاب بمئة أوقية، وتصدق عاصم الأنصاري بتسعين وسقاً من تمر. وقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، إني لا أرى عبد الرحمن إلا قد اترب، ما ترك لأهله شيئاً، فسأله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل تركت لأهلك شيئاً؟ قال: نعم، أكثر مما أنفقته وأطيب، قال: كم؟ قال: ما وعد الله ورسوله من الرزق والخير. وجاء رجل من الأنصار يقال له أبو عقيل بصاع من تمر فتصدق.
وعمد المنافقون حين رأوا الصدقات، فإذا كانت صدقة الرجل كثيرة تغامزوا به وقالوا: مراء، وإذا تصدق الرجل بيسير طاقته من تمر، قالوا: هذا أحوج إلى ما جاء به، فلما جاء أبو عقيل بصاعه من تمر قال: بت ليلتي أجر بالجرير على صاعين والله ما كان عندي من شيء غيرهما وهو يعتذر ويستحي، فأتيت بأحدهما وتركت الآخر لأهلي، فقال(1/159)
المنافقون: هذا أفقر إلى صاعه من غيره، وهم في ذلك ينتظرون يصيبون من الصدقات غنيهم وفقيرهم، فلما أزف خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثروا الاستئذان وشكوا شدة الحر وخافوا، زعموا الفتنة إن غزوا، ويحلفون بالله على الكذب، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأذن لهم لا يدري ما في أنفسهم، وبنى طائفة منهم مسجد النفاق يرصدون به الفاسق أبا عامر، وهو عند هرقل قد لحق به، وكنانة بن عبد ياليل وعلقمة بن علاثة العامري، وسورة براءة تنزل في ذلك أرسالاً. ونزلت فيها آية ليست فيها رخصة لقاعد. فلما أنزل الله عز وجل: " انفروا خفافاً وثقالاً ". اشتكى الضعيف الناصح لله ورسوله والمريض والفقير إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالوا: هذا أمر لا رخصة فيه. وفي المنافقين ذنوب مستورة لم تظهر حتى كان بعد ذلك، وتخلف رجال غير مستيقنين ولا ذوي علة ونزلت هذه السورة بالبيان والتفصيل في شأن رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسار بمن اتبعه حتى بلغ تبوك، فبعث منها علقمة بن مجزز المدلجي إلى فلسطين، وبعث خالد بن الوليد إلى دومة الجندل، فقال: أسرع لعلك أن تجده خارجاً يتقنص فتأخذه، فوجده فأخذه وأرجف المنافقون في المدينة بكل خبر سوء. فإذا بلغهم أن المسلمين أصابهم جهد وبلاء تباشروا به وفرحوا، وقالوا: قد كنا نعلم ذلك ونحذر منه، وإذا أخبروا بسلامة منهم وخير أصابوه حزنوا وعرف ذلك منهم فيهم كل عدو لهم بالمدينة، فلم يبق أحد من المنافقين أعرابي ولا غيره إلا استخفى بعمل خبيث ومنزلة خبيثة واستعلن، ولم يبق ذو علة إلا هو ينتظر الفرج فيما ينزل الله في كتابه، ولم تزل سورة براءة تنزل حتى ظن المؤمنون الظنون، وأشفقوا أن لا ينفلت منهم كبير أحد أذنب في شأن التوبة قط ذنباً إلا أنزل فيه أمر بلاء حتى انقضت، وقد وقع بكل عامل تبيان منزله من الهدى والضلالة.
وعن كعب بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا أراد المسير في الغزاة أذن في المسلمين بالجهاز، وكتمهم أين يجاهدون مكيدة للعدو، وما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤذن بالجهاز إلا وعندي بعير فأقوى به على الخروج معه حتى كانت تبوك، فكانت في حر شديد وحين أقبلت الثمرة، فأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجهاز(1/160)
إلى تبوك وبينها للمسلمين ووافق ذلك عندي بعيرين، فرأيت أني قوي على الخروج، فتجهز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، وأغدو أنا لأتجهز، فوا لله لكأنما أربط فأرجع وما قطعت شعرة وعندي بعيران، وأنا أرى أني قوي على الخروج إذا أردت. فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون، ثم ذهبت أنظر، فإذا ما أرى رجلاً تخلف إلا رجلاً مغموصاً عليه في دينه، غير أني قد رأيت رجلين من الأنصار صحيحين كدت أسكن إليهما: هلال بن أمية الواقفي ومرارة العمري، حتى إذا أيست من الخروج قلت: أعتذر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا رجع.
قال ابن إسحاق:
ثم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الخميس، واستخلف على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري. فلما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب عسكره على ثنية الوداع، ومعه زيادة على ثلاثين ألفاً من الناس، وضرب عبد الله بن أبي عدو الله على ذي حدة عسكراً أسفل منه نحواً من كذا وكذا، وما كان فيما يزعمون بأقل العسكرين. فلما سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب، وخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب عليه السلام على أهله وأمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا استثقالاً له وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب رضي الله عنه سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نازل بالجرف، فقال: يا رسول الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني تستثقلني وتخفف مني. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كذبوا، ولكني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فأخلفني في أهلي وأهلك، ألا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع إلى المدينة، ومضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسفره.
وعن كعب بن مالك قال: لم أتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عزوة غزاها، حتى كانت غزوة تبوك إلا بدراً ولم يعاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحداً تخلف عن بدر، إنما خرج يريد العير فخرجت قريش مغوثين لعيرهم، فالتقوا عن غير موعد كما قال الله عز وجل. ولعمري إن أشرف مشاهد(1/161)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الناس لبدر، وما كنت أحب أني شهدتها مكان بيعتي ليلة العقبة حيث توافقنا على الإسلام، ولم أتخلف بعد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها، حتى كانت غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها، فأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالرحيل وأراد أن يتأهبوا أهبة عدوهم، وذلك حين طاب الظلال وظابت الثمار، فكان قلما أراد غزوة إلا ورى بغيرها، وكان يقول: الحرب خدعة، فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك أن يتأهب الناس أهبته، وأنا أيسر ما كنت، قد جمعت راحلتين، وأنا أقدر شيء في نفسي على الجهاد وخفة الحاذ، وأنا في ذلك أصغوا إلى الظلال وطيب الثمار. فلم أزل كذلك حتى قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غادياً بالغداة، وذلك يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس.
وعن محمد بن مسلم الزهري قال: ثم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك وهو يريد الروم وكفار العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة ولقيه بها وفد أذرح ووفد أيلة، فصالحهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجزية، ثم قفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك ولم يجاوزها.
وفي حديث غيره فبينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم في جهازه في غزوة تبوك إذ قال للجد بن قيس: يا جد، هل لك في بنات بني الأصفر؟ قال: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد علم قومي أنه ليس من أحد أشد عجباً بالنساء مني، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتني، فائذن لي يا رسول الله. فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: قد أذنت، فأنزل الله تعالى " ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا " يقول: ما وقع فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورغبته بنفسه عن نفسه أعظم مما يخاف من فتنة نساء بني الأصفر " وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " يقول لمن وراءه. وقال رجل من جملة المنافقين: لا تنفروا في الحر. فأنزل الله عز وجل: " قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا(1/162)
يفقهون " ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جد في سفره، وأمر الناس بالجهاز وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى وأحسنوا، وأنفق عثمان رضي الله عنه في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد أعظم منها وحمل على مئتي بعير.
ومما جمع من أحاديث تبوك قالوا:
كانت الضافطة وهم الأنباط يقدمون المدينة بالدرمك والزيت في الجاهلية وبعد أن دخل الإسلام، فإنما كانت أخبار الشام عند المسلمين كل يوم لكثرة من يقدم عليهم من الأنباط. فقدمت منهم قادمة، وذكروا أن الروم قد جمعت جموعاً كثيرة بالشام، وأن هرقل قد رزق أصحابه لسنة، وأجليت معه لخم وجذام وغسان وعاملة، وزحفوا وقدموا مقدماتهم إلى البلقاء وعسكروا بها، وتخلف هرقل بحمص. ولم يكن ذلك، وإنما ذلك شيء قيل لهم فقالوه، ولم يكن عدو أخوف عند المسلمين منهم، وذلك لما عاينوا منهم، إذ كانوا يقدمون عليهم تجاراً، من العدد والعدة والكراع، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يغزو غزوة إلا ورى بغيرها لئلا تذهب الأخبار بأنه يريد كذا وكذا: حتى كانت غزوة تبوك فغزاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حر شديد، واستقبل سفراً بعيداً، واستقبل غزواً وعدداً كبيراً، فجلا للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبة عدوهم وأخبرهم بالوجه الذي يريد. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث إلى أسلم بريدة بن الحصيب، وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه أن يطلبهم ببلادهم. وخرج أبو واقد الليثي في قومه، وخرج أبو جعد الضمري في قومه بالساحل، وبعث رافع بن مكيث وجندب بن مكيث في جهينة، وبعث نعيم بن مسعود في أشجع، وبعث في بني كعب بن عمرو عدة: بديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان، وبعث في سليم عدة منهم العباس بن مرداس.
وحض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسلمين على الجهاد، ورغبهم فيه، وأمرهم بالصدقة، فحملوا صدقات كبيرة، فكان أول من حمل أبو بكر الصديق جاء بماله كله أربعة آلاف درهم فقال له(1/163)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أبقيت لأهلك شيئاً قال: الله ورسوله أعلم، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أبقيت شيئاً؟ قال: نعم نصف ما جئت به. وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر الصديق فقال: ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقني إليه، وحمل العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالا، وحمل طلحة بن عبيد الله إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالاً، وحمل عبد الرحمن بن عوف إليه مالاً مئتي أوقية، وحمل سعد بن عبادة إليه مالاً وحمل محمد بن مسلمة إليه مالاً، وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقاً تمراً، وهز عثمان بن عفان ثلث ذلك الجيش، وكان من أكرمهم نفقة حتى كفى ثلث ذلك الجيش مؤونتهم، حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة حتى كفاهم شنق أسقيتهم فيقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يومئذ: ما يضر عثمان ما فعل بعد هذا. ورغب أهل الغنى في الخير والمعروف. واحتسبوا في ذلك الخير وقوى ناس دون هؤلاء من هو أضعف منهم، حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، حتى إن كان النساء ليعن بكل ما قدرن عليه.
لقد قالت أم سنان الأسلمية: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت عائشة فيه مسكة ومعاضد وخلاخل وأقرطة وخواتيم وخدمات مما يبعث به النساء يعن به المسلمين في جهازهم، والناس في عسرة شديدة، وحين طابت الثمار وأحبت الظلال، فالناس يحبون المقام ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه. وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالانكماش والجد، وضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عسكره بثنية الوداع، والناس كثير لا يجمعهم كتاب قل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله عز وجل. فلما استمر برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفره، وأجمع المسير استخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري، ويقال محمد بن مسلمة، لم يتخلف عنه في غزوة غيرها، ويقال ابن أم مكتوم وأثبتهم محمد بن مسلمة. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: استكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما دام منتعلاً. فلما سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تخلف ابن أبي عن(1/164)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمن تخلف من المنافقين وقال: يغزو محمد بني الأصفر مع جهد الحال والحر والبلد البعيد إلى ما لا قبل له به! يحسب محمد أن قتال بني الأصفر العب؟! ونافق ممن هو معه على مثل رأيه ثم قال ابن أبي: والله لكأني أنظر إلى أصحابه غداً مقرنين في الحبال، إرجافاً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه.
فلما رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ثنية الوداع إلى تبوك وعقد الألوية والرايات، فدفع لواءه الأعظم إلى أبي بكر، ورايته العظمى إلى الزبير، ودفع راية الأوس إلى أسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، ويقال إلى الحباب بن المنذر بن الجموح. قال: ومضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة فصبح ذا خشب فنزل تحت الدومة، وكان دليله إلى تبوك علقمة بن الفغواء الخزاعي، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحت الدومة، فراح منها ممسياً حيث أبرد، وكان في حر شديد.
قالوا: وكان الناس مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثين ألفاً. ومن الخيل عشرة آلاف فرس، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل بطن من الأنصار أن يتخذوا لواء أو راية. والقبائل من العرب فيها الرايات والألوية، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دفع راية بني مالك بن النجار إلى عمارة بن حزم. فأدرك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن ثابت فأعطاه الراية. قال عمارة: يا رسول الله، لعلك وجدت علي، قال: لا والله، ولكن قدموا القرآن. وكان زيد أكثر أخذاً للقرآن منك. والقرآن مقدم، وإن كان عبداً أسود مجدعاً، وأمر في الأوس والخزرج أن يحمل راياتهم أكثرهم أخذاً للقرآن. وكان أبو زيد يحمل راية بني عمرو بن عوف، وكان معاذ بن جبل يحمل راية بني سلمة.
قال: وكان هرقل قد بعث رجلاً من غسان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إلى صفته وإلى علاماته، إلى حمرة في عينيه وإلى خاتم النبوة بين كتفيه. وسأل فإذا هو لا يقبل الصدقة، فوعى أشياء من حال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم انصرف إلى هرقل يذكر ذلك له، فدعا قومه إلى التصديق به فأبوا حتى خافهم على ملكه وهو في موضعه لم يتحرك ولم يزحف.(1/165)
وكان الذي خبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تعبئة أصحابه ودنوه إلى أدنى الشام باطلاً لم يرد ذلك ولم يهم به، وشاور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه في التقدم، فقال عمر بن الخطاب: إن كنت أمرت بالمسير فسر، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو أمرت به ما استشرتكم فيه، قال: يا رسول الله. فإن للروم جموعاً كثيرة وليس بها أحد من أهل الشام، وقد دنوت منهم حيث ترى، وقد أفزعهم دنوك، فلو رجعت هذه السنة حتى ترى أو يحدث الله تعالى لك في ذلك أمراً.
وعن معاذ بن جبل قال:
إنهم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام غزوة تبوك، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوماً ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعاً. ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً ثم قال: إنكم ستأتون غداً إن شاء الله عين تبوك. وإنكم لن تأتوها حتى يضحى النهار، فمن جاءها فلا يمس من مائها شيئاً حتى آتي، قال: فجئناك وقد سبق إليها رجلان، والعين مثل الشراك، تبض بشيء من ماء فسألهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل مسستما من مائها شيئاً قالا: نعم. فسبهما وقال لهما ما شاء الله أن يقول، ثم غرفوا من العين بأيديهم قليلاً قليلاً حتى اجتمع في شيء، ثم غسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه وجهه ويديه، ثم أعاده فيها، فجرت العين بماء كثير، فاستقى الناس. ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جناناً.
وعن سعيد بن أبي راشد مولى لآل معاوية قال: قدمت الشام فقيل لي: في هذه الكنيسة رسول قيصر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فدخلنا الكنيسة فإذا أنا بشيخ كبير: فقلت له: أنت رسول قيصر إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: نعم. قلت: حدثني عن ذلك. قال: إنه لما غزا تبوكاً كتب إلى قيصر كتاباً وبعث به مع رجل يقال له دحية بن خليفة. فلما قرأ كتابه وضعه معه على سريره، وبعث إلى بطارقته ورؤوس أصحابه فقال: إن هذا الرجل ق بعث إليكم رسولاً، وكتب إليكم كتاباً يخيركم إحدى ثلاث: إما أن تتبعوه على دينه، أو تقروا له بخراج يجري عليكم ويقركم على هيئتكم في بلادكم، أو أن تلقوا إليه بالحرب. قال فنخروا نخرة حتى خرج بعضهم من برانسهم وقالوا: لا نتبعه على دينه، وندع ديننا ودين آبائنا، ولا نقر له(1/166)
بخراج يجري له علينا، ولكن نلقي إليه الحرب. فقال: قد كان ذاك ولكني كرهت أن أفتات دونكم بأمر، قال عباد: فقلت لابن خثيم: أوليس قد كان قارب وهم بالإسلام فيما بلغنا؟ قال: بلى لولا أنه رأى منهم. قال: فقال: ابغوني رجلاً من العرب أكتب معه إليه جواب كتابه. قال: فأتيت وأنا شاب وانطلق بي إليه فكتب جوابه وقال لي،: مهما نسيت من شيء فاحفظ عني ثلاث خلال: انظر إذا هو قرأ كتابي هذا هل يذكر الليل والنهار، وهل يذكر كتابه إلي، وانظر هل ترى في ظهره علماً، قال: فأقبلت حتى أتيته وهو بتبوك في حلقة من أصحابه منتحين. فسألت فأخبرت به فدفعت إليه الكتاب، فدعا معاوية فقرأ عليه الكتاب. فلما أتى على قوله: دعوتني إلى جنة عرضها السموات والأرض فأين النار؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جاء الليل فأين النهار؟ قال: فقال: إني كتبت إلى النجاشي فحرقه، فحرقه الله محرق الملك. قال عباد: فقلت لابن خثيم أليس قد أسلم النجاشي ونعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة إلى أصحابه فصلى عليه؟ قال: بلى. ذاك فلا بن فلا وهذا فلان بن فلان قد ذكرهما ابن خثيم جميعاً ونسيتهما وكتبت إلى كسرى كتاباً فمزقه، فمزقه الله، ممزق الملك. وكتبت إلى قيصر كتاباً فأجابني فيه، فلن يزال الناس يخشون منهم بأساً ما كان في العيش خير. ثم قال لي: ممن أنت؟ قلت: من تنوخ. قال: يا أخا تنوخ، هل لك في الإسلام؟ قلت: لا، إني أقبلت من قبل قوم وأنا فيهم على دين، ولست مستبدلاً بدينهم حتى أرجع إليهم فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو تبسم. فلما قضيت حاجتي قمت، فلما وليت دعاني فقال: يا أخا تنوخ، هلم فامض للذي أمرت به، قال: وكنت نسيتها فاستدرت من وراء الحلقة وألقى بردة كانت عليه عن ظهره، فرأيت على غضروف كتفه مثل المحجم الضخم.
وفي رواية: فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني حين دعاه إلى الإسلام، فأبى أن يسلم، وتلا هذه الآية: " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " ثم قال رسو(1/167)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنك رسول قوم وإن لك حقاً، ولكن جئتنا ونحن مرملون، فقال عثمان بن عفان: أنا أكسوه حلة صفورية وقال رجل من الأنصار: علي ضيافته.
قال ابن إسحاق:
فلما انتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب أيلة فصالح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعطاه الجزية، وأتاه أهل جرباء وأذرح فأعطوه الجزية، وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم كتاباً فهو عندهم. فكتب ليحنة بن رؤبة: بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمنة من الله ومحمد النبي ورسوله ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة أساقفهم وسائرهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معه من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس وأنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقاً يريدونه من بر أو بحر. هذا كتاب جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: وكتب لأهل جرباء وأذرح: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي لأهل أذرح: إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وإن عليهم مئة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان إلى المسلمين. ومن لجأ إليهم من المسلمين. وذكر باقي الحديث.
وأعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل أيلة برده مع كتابه الذي كتب لهم أماناً لهم، فاشتراه أبو العباس عبد الله بن محمد بثلاث مئة دينار.
ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا خالد بن الوليد فبعثه إلى أكيدر دومة.
وعن قيس بن النعمان السكوني قال: خرجت خيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمع بها أكيدر دومة الجندل فانطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/168)
فقال: يا رسول الله، إنه بلغنا أن خيلك انطلقت، وإني خفت على أرضي ومالي فاكتب كتاباً لا يعرضوا من شيء لي، فإني مقر بالذي علي من الحق، فكتب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم إن أكيدر أخرج قباء من ديباج منسوج مما كان كسرى يكسوهم فقال: يا رسول الله، أقبل عني هذا فإني أهديته لك. فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع بقبائك فإنه ليس يلبس هذا في الدنيا إلا حرمة يعني في الآخرة فرجع به حتى أتى منزله، وإنه وجد في نفسه أن يرد عيه هديته فقال: يا رسول الله، إنا أهل بيت يشق علينا أن ترد علينا هديتنا، فاقبل مني هديتي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انطلق فادفعه إلى عمر بن الخطاب قال: وقد كان عمر قد سمع ما قال رسول الله فبكى، فدمعت عيناه. وظن أنه قد لحقه شيء. فانطلق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، أحدث في أمر؟ قلت في هذا القباء ما قلت ثم بعثت به إلي، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى وضع يده أو ثوبه على فيه. ثم قال: ما بعثت به إليك لتلبسه. ولكن تبيعه وتستعين بثمنه.(1/169)
ذكر بعث النبي أسامة بن زيد
وأمره بشن الغارة على مؤتة ويبنى وآبل الزيت
عن أبي مويهبة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة بعدما قضى حجة التمام، فتحلل به السير وضرب على الناس بعثاً، وأمر عليهم أسامة بن زيد، وأمره أن يوطئ آبل الزيت من مشارف الشام بالأردن، فقال المنافقون في ذلك، ورد عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه لخليق لها، أي حقيق بالإمارة، ولئن قلتم فيه لقد قلتم في أبيه من قبله وإن كان لها لخليقاً. وطارت الأخبار لتحلل السير بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اشتكى، ووثب الأسود باليمن ومسيلمة باليمامة. وجاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر عنهما، ثم وثب طليحة في بلاد بني أسد بعدما أفاق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم اشتكى في المحرم وجعه الذي توفاه جل وعز فيه.
وعن ابن عباس قال:
كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ضرب بعث أسامة ولم يستتب لوجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولخلع مسيلمة والأسود، وقد أكثر المنافقون في تأمير أسامة حتى بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج عاصباً رأسه من الصداع، لذلك من الشأن، ولبشارة أريها في بيت عائشة. وقال: إني أريت البارحة فيما يرى النائم في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا. فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة، وصاحب اليمن، وقد بلغني أن أقواماً يقولون في إمرة أسامة، ولعمري لئن قالوا في إمارته لقد قالوا في إمارة أبيه من قبله، وإن كان أبوه لخليقاً لها، وإنه لهها لخليق، فأنفذوا بعث أسامة. وقال: لعن الله الذين يتخذون قبور أنبيائهم مساجد.(1/170)
فخرج أسامة فضرب بالجرف، وأنشأ الناس في العسكرة، ونجم طليحة، وتمهل الناس. وثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يستتم الأمر. انتظر أولهم آخرهم حتى توفي الله عز وجل نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعن أسامة بن زيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان وجهه وجهاً، فقبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يتوجه في ذلك الوجه.
ثم استخلف أبو بكر، فقال بأبو بكر لأسامة: ما الذي عهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: عهد إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أغير على أبنى صباحاً وأحرق.
وعن الحسن بن أبي الحسن قال: ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثاً قبل وفاته على أهل المدينة ومن حولهم، وفيهم عمر بن الخطاب، وأمر عليهم أسامة بن زيد. فلم يجاوز أخرهم الخندق حتى قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر: ارجع إلى خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذنه يأذن لي فأرجع بالناس فإن فعي وجوه الناس وحدهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأثقال المسلمين أن تيخطفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبى إلا أن تمضي فأبلغه عنا، واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلاً أقدم سناً من أسامة. فخرج عمر بأمر أسامة فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة. فقال أبو بكر: لو اختطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فوثب أبو بكر وكان جالساً فأخذ بلحية عمر وقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب، استعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتأمرني أن أنزعه؟! فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت فقي سببكم اليوم من خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب. وعبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر، فقال له(1/171)
أسامة: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا تنزل، ووالله لا أركب. وما علي أن أغير قدمي ساعة في سبيل الله. فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبع مئة حسنة، تكتب له، وسبع مئة درجة ترفع له، وتمحى عنه سبع مئة خطيئة. حتى إذا انتهى قال له: إن رأيت أن تعينني بعمر بن الخطاب، فافعل. فأذن له. وقال: يا أيها الناس، فقوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحو شاة ولا بقرة، ولا بعيراً إلا لمآكله. وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. وسوف تقدمون على أقوام يأتونكم بآنية فيها ألوا الطعام، فإذا أكلتم منها شيئاً بعد شيء فاذكروا اسم الله عليها. وسوف تلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيوف خفقاً. اندفعوا باسم الله. أفناكم الله بالطعن والطاعون.
وفي رواية:
فلما ثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقاموا حتى شهدوه. فلما فرغوا أنفذه أبو بكر رضي الله عنه على ما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخرج أبو بكر إلى الجرف فاستنفر أسامة وبعثه، وسأله عمر فأذن له، وقال له: اصنع ما أمر به نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابدأ ببلاد قضاعة ثم ائت آبل، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده، فمضى أسامة مغذاً على ذي المروة، والوادي. وانتهى إلى ما أمره به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بث الخيول في قبائل قضاعة والغارة على آبل، فسلم وغنم، وكان فراغه في أربعين يوماً سواى مقامه ومقيله راجعاً.
وحدث زيد بن أسلم قال: مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعماله على قضاعة: على كلب امرؤ القيس بن الأصبغ الكلبي من بني عبد الله. وعلى القين عمرو بن الحكم. وعلى سعد هذيم معاوية بن فلان الوائلي. فارتد وديعة الكلبي فيمن آزره من كلب، وبقي امرؤ القيس على دينه وارتد زميل بن قطبة القيني(1/172)
فيمن أزره من بني القين وبني عمرو، وارتد معاوية فيمن أزره من سعد هذيم. فكتب أبو بكر إلى امرئ القيس بن فلان وهو جد سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما فثار بوديعة، وإلى عمرو فأقام لزميل وإلى معاوية العذري فأقام لمعاوية، فلما توسط أسامة بلاد قضاعة بث الخيول قبلهم، وأمرهم أن ينهضوا من أقام على الإسلام إلى من رجع عنه، فخرجوا هراباً حتى أرزوا إلى دومة، واجتمعوا إلى وديعة، ورجعت خيول أسامة إليه فمضى فيها أسامة حتى أغار على الحمقتين، فأصاب في بني الضبيب من جذام. وفي بني حيليل من لخم ولفها من القبيلتين. وجازهم من آبل، ثم انكفأ سالماً غانماً.
وعن عروة قال: لما فرغوا من البيعة واطمأن الناس قال أبو بكر لأسامة: امض لوجهك الذي بعثك له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكلمه رجال من المهاجرين والأنصار، وقالوا: أمسك أسامة وبعثه، فإنا نخشى أن تميل علينا العرب إذا سمعوا بوفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال أبو بكر وكان أحزمهم أمراً: أنا أحبس جيشاً بعثهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! لقد اجترأت على أمر عظيم، والذي نفسي بيده لأن تميل علي العرب أحب إلي من أن أحبس جيشاً بعثهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. امض يا أسامة في جيشك للوجه الذي أمرت به. ثم اغز حيث أمرك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ناحية فلسطين، وعلى أهل مؤتة، فإن الله سيكفي ما تركت، ولكن إن رأيت أن تأذن لعمر بن الخطاب فأستشره واستعن به، فإنه ذو رأي ومناصح للإسلام فافعل، ففعل أسامة. ورجع عامة العرب عن دينهم وعامة أهل المشرق وغطفان وبنو أسد وعامة أشجع، ومسكت طيء بالإسلام. وقال عامة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمسك أسامة وجيشه ووجههم نحو من ارتد عن الإسلام من غطفان وسائر العرب، فأبى ذلك أبو بكر أن يحبس أسامة، وقال: إنكم قد علمتم أنه قد كان من عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم في المشورة فيما لم تمض من نبيكم فيه سنة، ولم ينزل عليكم به كتاب، وقد أشرتم. وسأشير عليكم. فانظروا أرشد ذلك فائتمروا به. فإن الله لن يجمعكم عن ضلالة. والذي نفسي بيده. ما أرى من أمر أفضل في(1/173)
نفسي من جهاد من منع منا عقالاً كان يأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانقاد المسلمون لرأي أبي بكر ورأوا أنه أفضل من رأيهم، فبعث أبو بكر أسامة بن زيد لوجهه الذي أمره به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأصاب في العدو مصيبة عظيمة، وسلمه الله وغنمه هو وجيشه، وردهم صالحين، وخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار حين خرج أسامة حتى بلغ نقعاً حذاء نجد وهربت الأعراب بذراريهم. فلما بلغ المسلمين هرب الأعراب كلموا أبا بكر وقالوا: ارجع إلى المدينة وإلى الذراري والنساء، وأمر رجلاً من أصحابك على الجيش. واعهد إليه أمرك فلم يزل المسلمون بأبي بكر حتى رجع. وأمر خالد بن الوليد على الجيش. فقال له: إذا أسلموا وأعطوا الصدقة فمن شاء منكم أن يرجع فليرجع. ورجع أبو بكر إلى المدينة.
قال الواقدي: قالوا:
لم يزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذكر مقتل زيد بن حارثة وجعفر وأصحابه ووجد عليهم وجداً شديداً، فلما كان يوم الاثنين لأربع ليال بقين من صفر سنة إحدى عشرة أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الناس بالتهيؤ لغزو الروم، وأمرهم بالانكماش في غزوهم فتفرق المسلمون من عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم مجدون في الجهاد. فلما أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغد يوم الثلاثاء لثلاث ليال بقين من صفر دعا أسامة بن زيد فقال: يا أسامة، سر على اسم الله وبركته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فاغز صباحاً على أهل أبني وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الخبر، فإن أظفرك الله فأقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون أمامك والطلائع. فلما كان يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر بدئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصدع وحم. فلما أصبح يوم الخميس لليلة بقيت من صفر عقد له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده لواء ثم قال: يا أسامة، اغز باسم الله، في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة ولا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم تبتلون بهم، ولكن قولوا: اللهم اكفناهم، واكفف بأسهم عنا، فإن لقوكم قد أجلبوا وصبحوا فعليكم بالسكينة والصمت، " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " وقولوا: اللهم، إنا نحن عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تغلبهم أنت. واعلموا أن الجنة تحت البارقة.(1/174)
وعن أسامة بن زيد: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بأن يغير على أهل أبنى صباحاً وأن يحرق. قالوا: ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأسامة: امض على اسم الله. فخرج بلواثه معقوداً، فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي، فخرج به إلى بيت أسامة، وأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة فعسكر بالجرف، وضرب عسكره في موضع سقاية سليمان اليوم، وجعل الناس يؤخذون بالخروج إلى العسكر، فيخرج من فرغ من حاجته إلى معسكره ومن لم يقض حاجته فهو على فراغ، ولم يبق أحد من المهاجرين الأولين إلا انتدب في تلك الغزوة: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة، وسعيد بن أبي وقاص، وأبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، في رجال من المهاجرين. والأنصار عدة: قتادة بن النعمان، وسلمة بن أسلم بن حريش.
فقال رجال من المهاجرين، وكان أشدهم في ذلك قولاً عياش بن أبي ربيعة: يستعمل هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فكثرت القالة في ذلك، فسمع عمر بن الخطاب بعض ذلك القول، فرده على من تكلم به، وجاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بقول من قال، فغضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضباً شديداً، فخرج قد عصب رأسه عصابة وعليه قطيفة ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟! والله لئن طعنتم في إمارتي أسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله، وأيم الله، إن كان للإمارة لخليق، وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي. وإن هذا لمن أحب الناس إلي، وإنهما لمخيلان لكل خير، فاستوصوا به خيراً، فإنه من خياركم، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر ليال خلون من ربيع الأول.
وجاء المسلمون الذين يخرجون مع أسامة يودعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم عمر بن الخطاب، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: أنفذوا وبعث أسامة. ودخلت أم أيمن فقالت: أي رسول الله، لو تركت أسامة يقيم في معسكره حتى تماثل، فإن أسامة إن خرج على حاله هذه لم ينتفع بنفسه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنفذوا بعث أسامة، فمضى الناس إلى المعسكر، فباتوا ليلة الأحد. ونزل أسامة يوم الأحد، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثقيل مغمور وهو(1/175)
اليوم الذي لدوه فيه. فدخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيناه تهملان، وعنده العباس والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يصبهما على أسامة. قال أسامة: فأعرف أنه كان يدعو لي.
قال أسامة: فرجعت إلى معسكري، فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره وأصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفيقاً، فجاءه أسامة فقال: اغد على بركة الله، فودعه أسامة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفيق مريح مفيق، وجعل نساؤه يتماشطن سروراً براحته. ودخل أبو بكر فقال: يا رسول الله، أصبحت مفيقاً بحمد الله. واليوم يوم ابنة خارجة فإذن لي، فأذن له، فذهب إلى السنح وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر فانتهى إلى معسكره ونزل، وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار، فبينا أسامة بن يزد يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن وهي أمه تخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت، فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فانتهوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسوله الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت.
فتوفي عليه السلام حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول. ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغرزه عنده.
فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهل باللواء إلى بيت أسامة ولا يحله أبداً حتى يغزوهم أسامة، فقال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت به إلى بيت أسامة ثم خرجت به إلى الشام معقوداً مع أسامة ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال معقوداً في بيت أسامة حتى توفي أسامة.
فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتد من ارتد منها عن الإسلام قال أبو بكر لأسامة: انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخذ الناس بالخروج وعسكروا(1/176)
في موضعهم الأول وخرج بريدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول، فشق على كبار المهاجرين الأولين، ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً. اجعلها عدة لأهل الردة، ترمي بهم في نحورهم. وأخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها، وفيها الذاراري والنساء، فلوا استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه، أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ. فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا. فلما استوعب أبو بكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا. قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أسامة، ولكن خصلة، أكلم أسامة في عمر يخلفه يقيم عندنا، فإنه لا يغنى بنا عنه. والله ما أدري يفعل أسامة أم لا؟ والله إن أبى لا أكرهه، فعرف القوم أن أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أسامة. ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر ففعل أسامة، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة نعم. قال: وخرج فأمر مناديه ينادي: عزمة مني ألا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإني لن أوتي بأحد أبطأ الخروج معه إلا ألحقته به ماشياً وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أسامة فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد.
وخرج أبو بكر يشيع أسامة والمسلمين. فلما ركب أسامة من الجرف في أصحابه وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس، فسار أبو بكر إلى جانب أسامة ساعة ثم قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج سريعاً، فوطئ بلاداً هادئة لم يرجعوا عن الإسلام: جهينة وغيرها من قضاعة. فلما نزل وادي القرى قدم عيناً له من بني عذرة يدعى حريثاً، فخرج على صدر راحلته أمامه مغذاً حتى انتهى إلى أبنى، فنظر إلى ما هناك، وارتاد الطريق، ثم رجع سريعاً حتى لقي اليوم الذي لدوه فيه. فدخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعيناه تهملان، وعنده العباس والنساء حوله، فطأطأ عليه أسامة فقبله ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يصبهما على أسامة. قال أسامة: فأعرف أنه كان يدعو لي.
قال أسامة: فرجعت إلى معسكري، فلما أصبح يوم الاثنين غدا من معسكره وأصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفيقاً، فجاءه أسامة فقال: اغد على بركة الله، فودعه أسامة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مفيق مريح، وجعل نساؤه يتماشطن سروراً براحته. ودخل أبو بكر فقال: يا رسول الله، أصبحت مفيقاً بحمد الله. واليوم يوم ابنة خارجة فائذن لي. فأذن له، فذهب إلى السنح وركب أسامة إلى معسكره، وصاح في أصحابه باللحوق إلى العسكر فانتهى إلى معسكره ونزل، وأمر الناس بالرحيل، وقد متع النهار، فبينا أسامة بن زيد يريد أن يركب من الجرف أتاه رسول أم أيمن وهي أمه تخبره أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت، فأقبل أسامة إلى المدينة معه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فانتهوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يموت.
فتوفي عليه السلام حين زاغت الشمس يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول، ودخل المسلمون الذين عسكروا بالجرف إلى المدينة، ودخل بريدة بن الحصيب بلواء أسامة معقوداً حتى أتى به باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغرزه عنده.
فلما بويع لأبي بكر أمر بريدة أن يذهب باللواء إلى بيت أسامة ولا يحله أبداً حتى يغزوهم أسامة، فقال بريدة: فخرجت باللواء حتى انتهيت به إلى بيت أسامة ثم خرجت به إلى الشام معقوداً مع أسامة ثم رجعت به إلى بيت أسامة فما زال معقوداً في بيت أسامة حتى توفي أسامة.
فلما بلغ العرب وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتد من ارتد منها عن الإسلام قال أبو بكر لأسامة: انفذ في وجهك الذي وجهك فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول وخرج بريدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول، فشق على كبار المهاجرين الأولين، ودخل على أبي بكر عمر وعثمان وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالوا: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن العرب قد انتقضت عليك من كل جانب وإنك لا تصنع بتفريق هذا الجيش المنتشر شيئاً. اجعلهم عدة لأهل الردة، ترمي بهم في نحورهم. وأخرى لا تأمن على أهل المدينة أن يغار عليها، وفيها الذراري والنساء، فلوا استأنيت لغزو الروم حتى يضرب الإسلام بجرانه ويعود أهل الردة إلى ما خرجوا منه، أو يفنيهم السيف، ثم تبعث أسامة حينئذ. فنحن نأمن الروم أن تزحف إلينا. فلما استوعب أبو بكر كلامهم قال: هل منكم أحد يريد أن يقول شيئاً؟ قالوا: لا. قد سمعت مقالتنا. فقال: والذي نفسي بيده، لو ظننت أن السباع تأكلني بالمدينة لأنفذت هذا البعث، ولا بدأت بأول منه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينزل عليه الوحي من السماء يقول: أنفذوا جيش أسامة، ولكن خصلة، أكلم أسامة في عمر يخلفه يقيم عندنا، فإنه لا غنى بنا عنه. والله ما أدري يفعل أسامة أم لا؟ والله إن أبى لا أكرهه، فعرف القوم أن أبا بكر قد عزم على إنفاذ بعث أسامة. ومشى أبو بكر إلى أسامة في بيته فكلمه في أن يترك عمر ففعل أسامة، وجعل يقول له: أذنت ونفسك طيبة؟ فقال أسامة: نعم. قال: وخرج فأمر مناديه ينادي: عزمة مني ألا يتخلف عن أسامة من بعثه من كان انتدب معه في حياة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإني لن أوتى بإحد أبطأ الخروج معه إلا ألحقته به ماشياً وأرسل إلى النفر من المهاجرين الذي كانوا تكلموا في إمارة أسامة فغلظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلف عن البعث إنسان واحد.
وخرج أبو بكر يشيع أسامة والمسلمين. فلما ركب أسامة من الجرف في أصحابه وهم ثلاثة آلاف رجل وفيهم ألف فرس، فسار أبو بكر إلى جانب أسامة ساعة ثم قال: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك، إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصيك، فانفذ لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني لست آمرك ولا أنهاك عنه، إنما أنا منفذ لأمر أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخرج سريعاً، فوطئ بلاداً هادئة لم يرجعوا عن الإسلام: جهينة وغيرها من قضاعة. فلما نزل وادي القرى قدم عيناً له من بني عذرة يدعى حريثاً، فخرج على صدر راحلته أمامه مغذاً حتى انتهى إلى أبنى، فنظر إلى ما هناك، وارتاد الطريق، ثم رجع سريعاً حتى لقي(1/177)
أسامة على مسيرة ليلتين من أبنى، فأخبره أن الناس غارون ولا جموع لهم، وأمره أن يسرع للسير قبل أن تجتمع الجموع وأن يشنها غارة.
وروى المنذر بن جهم قال:
قال بريدة لأسامة: يا أبا محمد، إني شهدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أباك أن يدعوهم إلى الإسلام، فإن أطاعوه خيرهم إن أحبوا أن يقيموا في ديارهم ويكونوا كأعراب المسلمين فلا شيء لهم في الفيء ولا في الغنيمة، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، وإن تحولوا إلى دار الإسلام كان لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين. قال أسامة: هكذا وصية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي؟ ولكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمرني، وهو آخر عهده إلي أن أسرع السير وأسبق الأخبار وأن أشن الغارة عليهم بغير دعاء فأحرق وأخرب. فقال بريدة: سمعاً وطاعة لأمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما انتهى إلى أبنى فنظر إليها منظر العين عبأ أصحابه وقال: اجعلوها غارة، ولا تمنعوا في الطلب ولا تفترقوا واجمعوا، وأخفوا الصوت واذكروا اسم الله في أنفسكم، وجردوا سيوفكم وضعوها فيمن أشرف لكم. ثم دفع عليهم الغارة. فما نبح كلب، ولا تحرك أحد، ولا شعروا إلا بالقوم قد شنوا عليهم الغارة ينادون بشعارهم: يا منصور أمت، فقتل من أشرف له وسبى من قدر عليه، وحرق في طوائفها بالنار، وحرق منازلهم وحروثهم ومخلهم، فصارت أعاصير من الدخاخين، وأقام الخيل في عرصاتهم، ولم يمعنوا في الطلب. أصابوا ما قرب منهم، وأقاموا يومهم ذلك في تعبئة ما أصابوا من الغنائم. وكان أسامة خرج على فرس أبيه الذي قتل عليها أبوه يوم مؤتة، كنت تدعى سبحة، وقتل قاتل أبيه في الغارة. خبره به بعض من سبي، وأسهم للفرس سهمين ولصاحبه سهماً وأخذ لنفسه مثل ذلك. فلما أمسوا أمر الناس بالرحيل، ومضى ومضى الدليل أمامه حريث العذري، فأخذوا الطريق الذي جاء منها، ودأبوا ليلتهم حتى أصبحوا بأرض بعيدة ثم طوى البلاد حتى انتهوا إلى وادي القرى في تسع ليال، ثم قصد يغذ السير إلى المدينة وما أصيب من المسلمين أحد فبلغ ذلك هرقل وهو بحمص، فدعا بطارقته فقال: هذا الذي حذرتكم فأبيتم أن تقبلوه مني، قد صارت العرب تأتي من مسيرة شهر، فتغير عليكم ثم تخرج من ساعتها ولم تكلم. قال أخوه يناق: فابعث رابطة تكون بالبلقاء فبعث رابطة واستعمل(1/178)
عليهم رجلاً من أصحابه، فلم يزل مقيماً حتى قدمت البعوث إلى الشام في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
قالوا: واعترض لأسامة في منصرفه قوم من أهل كثكث، قرية هناك، وقد كانوا اعترضوا لأبيه في بدأته، فأصابوا من أطرافه فناهضهم أسامة بمن معه، فظفر بهم وخرق عليهم وساق من نعمهم وأسر منهم أسيرين فأوثقهما وهرب من بقي، فقدم بهما المدينة، فضرب أعناقهما.
وعن يحيى بن النضر أن أسامة بن زيد بعث بشيره من وادي القرى بسلامة المسلمين وأنهم قد أغاروا على العدو وأصابوهم. فلما سمع المسلمون بقدومهم خرج أبو بكر في المهاجرين وخرج أهل المدينة حتى العواتق، وبشروا بسلامة أسامة ومن معه من المسلمين، ودخل يومئذ على فرسه سبحة، كأنما خرجت من ذي خشب، عليه الدرع واللواء أمامه، يحمله بريدة، حتى انتهى به إلى المسجد فدخل فصلى ركعتين وانصرف إلى بيته معه اللواء. وكان مخرجه من الجرف لهلال شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة. فغاب خمسة وثلاثين يوماً سار عشرين في بدائه، وخمس عشرة في رجعته.
وعن أبي هريرة قال: والذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استخلف ما عبد الله، ثم قال الثانية ثم قال الثالثة، فقيل له يا أبا هريرة! فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجه أسامة بن زيد في سبع مئة إلى الشام، فلما نزل بذي خشب قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب حول المدينة فاجتمع إليه أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا له: يا أبا بكر، ردها ولا توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة، فقال: والذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل الناس ما رددت جيشاً وجهه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حللت لواء عقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فوجه أسامة. فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم، ورجعوا سالمين فثبتوا على الإسلام.(1/179)
ذكر اهتمام أبي بكر بفتح الشام
وحرصه عليه
قال ابن إسحاق: كان فتح اليمامة واليمن والبحرين، وبعث الجنود إلى الشام في سنة ثنتي عشرة.
وقال أيضاً:
إن أبا بكر لما حدث نفسه بأن يغزو الروم فلم يطلع عليه أحداً إذ جاءه شرحبيل بن حسنة، فجلس إليه فقال: يا خليفة رسول الله، أتحدث نفسك أن تبعث إلى الشام جنداً؟ فقال: نعم، قد حدثت نفسي بذلك، وما أطلعت عليه أحداً. وما سألتني عنه إلا لشيء. قال: أجل، إني رأيت يا خليفة رسول الله فيما يرى النائم كأنك تمشي في الناس فوق خرشفة من الجبل، ثم أقبلت تمشي حتى صعدت فيه من القنان العالية، فأشرفت على الناس ومعك أصحابك، ثم إنك هبطت من تلك القنان إلى أرض سهلة دمثة، فيها الزرع والقرى والحصون، فقلت للمسلمين: شنوا الغارة على أعداء الله وأنا ضامن لكم بالفتح والغنيمة، فشد المسلمون وأنا فيهم معي راية، فتوجهت بها إلى أهل قرية، فسألوني الأمان فأمنتهم ثم جئت، فأجدك قد انتهيت إلى حصن عظيم، ففتح الله لك، وألقوا إليك السلم. ووضع الله لك مجلساً فجلست عليه، ثم قيل لك يفتح الله عليك وتنصر فاشكر ربك واعمل بطاعته، ثم قرأ " إذا جاء نصر الله والفتح " إلى آخرها. ثم انتبهت، فقال له أبو بكر: نامت عيناك، خيراً رأيت، وخيراً يكون إن شاء الله، ثم قال: بشرت بالفتح ونعيت إلي نفسي، ثم دمعت عينا أبي بكر ثم قال: أما الخرشفة التي رأيتنا نمشي عليها حق صعدنا إلى القنة العالية، فأشرفنا على الناس، فإنا نكابد من أمر هذا الجند والعدو مشقة ويكابدونه، ثم نعلو بعد ويعلو أمرنا، وأما نزولنا من القنة العالية إلى الأرض السهلة الدمثة والزرع والعيون والقرى والحصون فإنا ننزل إلى أمر أسهل مما كنا فيه من الخصب(1/180)
والمعاش. وأما قولي للمسلمين: شنوا على أعداء الله الغارة، فإني ضامن لكم الفتح والغنيمة فإن ذلك دنو المسلمين إلى بلاد المشركين، وترغيبي إياهم على الجهاد والأجر والغنيمة التي تقسم لهم، وقبولهم. وأما الراية التي كانت معك، فتوجهت بها إلى قرية من قراهم ودخلتها، واستأمنوا فأمنتهم فإنك تكون أحد أمراء المسلمين ويفتح الله على يديك. وأما الحصن الذي فتح الله لي، فهو ذلك الوجه الذي يفتح الله لي، وأما العرش الذي رأيتني عليه جالساً فإن الله يرفعني ويضع المشركين. قال الله تبارك وتعالى: " ورفع أبويه على العرش " وأما الذي أمرني بطاعة الله وقرأ علي السورة فإنه نعى إلي نفسي، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعى الله إليه نفسه حين نزلت هذه السورة، وعلم أن نفسه قد نعيت إليه، ثم سألت عينا فقال: لآمرن بالمعروف ولأنهين عن المنكر ولأجهدن فيمن ترك أمر الله، ولأجهزن الجنود إلى العادلين بالله في مشارق الأرض ومغاربها حتى يقولوا: الله أحد أحد لا شريك له، أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون. هذا أمر الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا توفاني الله عز وجل لا يجدني الله عاجزاً ولا وانياً ولا في ثواب المجاهدين زاهداً. فعند ذلك أمر الأمراء. وبعث إلى الشام البعوث.
وعن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي قال: لما أراد أبو بكر غزو الروم دعا علياً وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وأبا عبيدة بن الجراح، ووجوه المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم فدخلوا عليه. قال عبد الله بن أبي أوفي وأنا فيهم فقال: إن الله عز وجل لا تحصى نعماؤه ولا يبلغ جزاء الأعمال، فله الحمد، قد جمع الله كلمتكم وأصلح ذات بينكم وهداكم إلى الإسلام ونفى عنكم الشيطان، فليس يطمع أن تشركوا به ولا تتخذوا إلهاً غيره، فالعرب اليوم بنو أم وأب، وقد رأيت أن أستنفر المسلمين إلى جهاد الروم بالشام ليؤيد الله المسلمين، ويجعل الله كلمته العليا مع أن للمسلمين في ذلك الحظ الوافر لأنه من هلك منهم هلك شهيداً. وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش عاش مدافعاً عن الدين مستوجباً على الله ثواب المجاهدين، وهذا رأيي الذي رأيت، ما شار امرؤ علي برأيه، فقام عمر بن(1/181)
الخطاب فقال: الحمد لله الذي يخص بالخير من يشاء من خلقه. والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي رأيت. فما قضى أن يكون حتى ذكرته، فقد أصبت أصاب الله فيك سبيل الرشاد، سرب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال بعد الرجال، والجنود تتبعها الجنود. فإن الله ناصر دينه، ومعز الإسلام وأهله.
ثم إن عبد الرحمن بن عوف قام فقال: يا خليفة رسول الله، إنها الروم وبنو الأصفر، حد حديد وركن شديد، ما أرى أن تقحم عليهم إقحاماً. ولكن نبعث الخيل فنغير في قواصي أرضهم ثم نرجع إليك. فإذا فعلوا ذلك بهم مراراً أضروا بهم وغنموا من أدنى أرضهم فقووا بذلك على عدوهم، ثم تبعث إلى أرضي أهل اليمن وأقاصي ربيعة ومضر ثم تجمعهم جميعاً إليك، فإن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك وإن شئت أغزيتهم ثم سكت وسكت الناس. قال: فقال لهم أبو بكر: ماذا ترون؟ فقال عثمان بن عفان: إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا تراه لعامتهم صلاحاً فاعزم على إمضائه، فإنك غير ظنين. فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار: صدق عثمان، ما رأيت من رأي فأمضه، فإنا لا نخالفك، ولا نتهمك. وذكروا هذا وأشباهه، وعلي في القوم لم يتكلم. قال أبو بكر: ماذا ترى يا أبا الحسن؟ فقال: أرى أنك إن سرت إليهم بنفسك أو بعثت إليهم نصرت عليهم إن شاء الله فقال: بشرك الله بخير! ومن أين علمت ذلك؟ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يزال هذا الدين ظاهراً على كل من ناوأه حتى يقوم الدين وأهله ظاهرون. فقال: سبحان الله ما أحسن هذا الحديث. لقد سررتني به سرك الله.
ثم إن أبا بكر رضي الله عنه قام في الناس فذكر الله بما هو أهله وصلى على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: أيها الناس، إن الله قد أنعم عليكم بالإسلام، وأكرمكم بالجهاد وفضلكم بهذا الدين على كل دين فتجهزوا عباد الله إلى غزو الروم بالشام، فإني مؤمر عليكم أمراء، وعاقد لكم، فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمراءكم لتحسن نيتكم وشربكم وأطعمتكم. ف " إن الله مع الذين(1/182)
اتقوا والذين هم محسنون " فسكت القوم، فوا لله ما أجابوا فقال عمر: يا معشر المسلمين، مالكم لا تجيبون خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد " دعاكم لما يحييكم ". أما إنه " لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً " لابتدرتموه. فقام عمرو بن سعيد فقال: يا بن الخطاب، ألنا تضرب الأمثال أمثال المنافقين؟! فما منعك مما عبت علينا فيه أن تبتدئ به؟! فقال عمر: إنه يعلم أني أجيبه لو يدعوني، وأغزو لو يغزيني. قال عمرو بن سعيد، ولكن نحن لا نغزو لكم إن غزونا، إنما نغزو لله. فقال عمر: وفقك الله فقد أحسنت. فقال أبو بكر لعمرو: اجلس رحمك الله فإن عمر لم يرد بما سمعت أذى مسلم ولا تأنيبه، إنما أراد بما سمعت أن ينبعث المتثاقلون إلى الأرض إلى الجهاد فقام خالد بن سعيد فقال: صدق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اجلس ابن أخي. فجلس. وقال خالد: الحمد لله الذي لا إله إلا هو الذي بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. فالله منجز وعده ومظهر دينه ومهلك عدوه، ونحن غير مخالفين ولا مختلفين، وأنت الوالي الناصح الشفيق، تنفر إذا استنفرتنا ونطيعك إذا أمرتنا. ففرح بمقالته أبو بكر وقال: جزاك الله خيراً من أخ وخليل، فقد كنت أسلمت مرتغباً وهاجرت محتسباً، وقد كنت هربت بدينك من الكفار لكيما يطاع الله ورسوله وتعلو كلمته، وأنت أمير لناس، فسر يرحمك الله ثم إنه نزل، ورجع خالد بن سعيد فتجهز، وأمر أبو بكر بلالاً فأذن في الناس أن انفروا أيها الناس إلى جهاد الروم بالشام، والناس يرون أن أميرهم خالد بن سعيد، وكان الناس لا يشكون أن خالد بن سعيد أميرهم، وكان أول خلق الله عسكر، ثم إن الناس خرجوا إلى معسكرهم من عشرة وعشرين وثلاثين وأربعين وخمسين ومئة، كل يوم، حتى اجتمع أناس كثير. فخرج أبو بكر ذات يوم. ومعه رجال من الصحابة حتى انتهى إلى عسكرهم فرأى عدة حسنة لم يرض عدتها للروم، فقال لأصحابه: ما ترون في هؤلاء؟ أن نشخصهم إلى الشام في هذه العدة؟ فقال عمر: ما أرضى هذه العدة لجموع بني الأصفر. فقال لأصحابه: ماذا ترون فقالوا: نحن نرى ما رأى عمر، فقال: ألا(1/183)
أكتب كتاباً إلى أهل اليمن ندعوهم إلى الجهاد فنرغبهم في ثوابه، فرأى ذلك جميع أصحابه. قالوا: نعم ما رأيت. افعل. فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم: من خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى من قرئ عليه كتابي هذا من المؤمنين والمسلمين من أهل اليمن: سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد. فإن الله تعالى كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا خفافاً وثقالاً ويجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله. والجهاد فريضة مفروضة، والثواب عند الله عظيم، وقد استنفرنا المسلمين إلى جهاد الروم بالشام وقد سارعوا إلى ذلك. وقد حسنت في ذلك نيتهم وعظمت حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى ما سارعوا إليه ولتحسن نيتكم فيه، فإنكم إلى إحدى الحسنيين، إما الشهادة وإما الفتح والغنيمة، فإن الله تبارك وتعالى لم يرض من عباده بالقول دون العمل، ولا يزال الجهاد لأهل عداوته حتى يدينوا بدين الحق ويقروا بحكم الكتاب. حفظ الله لكم دينكم، وهدى قلوبكم، وزكا أعمالكم، ورزقكم أجر المجاهدين الصابرين. وبعث بهذا الكتاب مع أنس بن مالك رضي الله عنه.
قال ابن حزم: ولما أجمع أبو بكر أن يبعث الجيوش إلى الشام كان أول من سار من عماله عمرو بن العاص وأمره أن يسلك على أيلة عامداً لفلسطين، فقدم عمرو أمامه مقدمة عليهم سعيد بن الحارث السهمي ودفع لواءه إلى الحجاج بن الحارث السهمي وكان جند عمرو الذين خرجوا معه من المدينة ثلاثة آلاف فيهم ناس كثير من المهاجرين والأنصار. وخرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يمشي إلى جنب راحلة عمرو بن العاص وهو يوصيه ويقول: يا عمرو اتق الله في سر أمرك وعلانيته. واستحيه فإنه يراك ويرى عملك، وقد رأيت تقديمي إياك على من هو أقدم سابقة منك، ومن كان أعظم غناء عن الإسلام وأهله منك، فكن من عمال الآخرة. وأرد بما تعمل وجه الله. وكن والداً لمن معك ولا تكشفن الناس عن أستارهم، واكتف بعلانيتهم. وكن مجداً أمرك، واصدق اللقاء إذا لاقيت، ولا تجبن،(1/184)
وتقدم في الغلول وعاقب عليه، وإذا وعظت أصحابك فأوجز وأصلح نفسك تصلح كل رعيتك. في وصية له طويلة وعهد عهده إليه يعمل به.
وفي رواية: قال أبو بكر لعمرو بن العاص: إني قد استعملتك على من مررت به من مررت به من بلي وعذرة وسائر قضاعة ومن سقط هناك من العرب، فاندبهم إلى الجهاد في سبيل الله ورغبهم فيه، فمن تبعك منهم فاحمله وزوده. ورافق بينهم، فاندبهم إلى الجهاد في سبيل اله ورغبهم فيه، فمن تبعك منهم فاحمله وزوده. ورافق بينهم، واجعل كل قبلية على حدتها ومنزلتها.
وبعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه ثلاثة أمراء إلى الشام: عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة. فكان عمرو هو الذي يصلي بالناس إذا اجتمعوا، وإن تفرقوا كان كل رجل منهم على أصحابه. وكان أمر الناس إلى عمرو بن العاص يوم أجنادين ويوم فحل، وفي حصار دمشق حتى فتحت.
ورد في الأصل: فحل بكسر الحاء. قال: والمحفوظ بسكونها.
ولما رأى عمرو بن العاص كثرة الجموع بالشام كتب إلى أبي بكر يذكر أمر الروم وما جمعوا ويستمده، فشاور أبو بكر من عنده من المسلمين. فقال عمر بن الخطاب: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكتب إلى خالد بن الوليد، يسير بمن معه إلى عمر بن العاص فيكون له مدداً، ففعل أبو بكر. وكتب إلى خالد بن الوليد. فلما أتاه كتاب أبي بكر قال: هذا عمل عمر. حسدني على فتح العراق. وأن يكون على يدي، فأحب أن يجعلني مدداً لعمرو بن العاص وأصحابه فأكون كأحدهم فإن كان فتح شركنا فيه، أو أن أكون تحت يدي بعضهم فإن كان فتح كان ذكره له دوني، وكتب أبو بكر الصديق إلى عمرو بن العاص أني كتبت إلى خالد بن الوليد يسير إليك مدداً لك. فإذا قدم عليك فأحسن مصاحبته، ولا تطاول عليه، ولا تقطع الأمور دونه لتقديمي إياك عليه، وعلى غيره. وشاورهم ولا تخالفهم.
وعن موسى بن عقيبة قال:
ثم بعث أبو بكر ثلاثة أمراء إلى الشام: خالد بن سعيد على جند، وعمرو بن العاص السهمي على جند، وشرحبيل بن حسنة على جند. ثم نزع خالد بن سعيد وأمر على جنده(1/185)
يزيد بن أبي سفيان، فأدركه بذي المروة، فكأن عمراً وجد على خالد بن سعيد. ولما فرغ خالد بن الوليد من اليمامة جاءه كتاب أبي بكر يأمره بالمسير إلى الشام، فمضى خالد على وجهه وسلك على عين التمر فمر بدومة فأغار عليها فقتل بها رجالاً، وهزمهم وسبى ابنه الجودي، ثم مضى حتى قدم الشام به فمر بدومة فأغار عليها فقتل بها رجالاً، وهزمهم وسبي ابنة الجودي، ثم مضى حتى قدم الشام وبه يومئذ أبو عبيدة بن الجراح على جند، ويزيد بن أبي سفيان على جند، وعمرو بن العاص على جند وشرحبيل بن حسنة على جند، فقدم عليهم خالد بن الوليد فأمدهم يوم أجنادين وهزم الله عدوه.
وحج أبو بكر في خلافته سنة ثنتي عشرة. فلما قفل من الحج جهز الجيوش إلى الشام فبعث عمرو بن العاص قبل فلسطين، فأخذ الطريق المغربة على أيلة، وبعث يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة وأمرهم أن يسلكوا التبوكية من علياء الشام. ولما بعث أبو بكر الجيوش لقتال أهل الردة وأتته وفود العرب مقرة بما كانت أنكرت راجعة إلى ما كانت خرجت منه، ورأى أبو بكر حسن خلافة ربه نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تركته وجماعة أمته ومنه عليهم بنصره وكفايته مؤونته على كل مرتد ومرتاب، وقوته عليهم جميعاً واجتماع كلمتهم على الإيمان بالله والعمل بفرائضه دعاهم إلى جهاد قيصر وكسرى ومن يليهما من أهل ملكهما، وإقامة فريضة الله عليهم بذلك، والعمل بسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كان من مسيره بنفسه وجماعة أمته إلى قيصر ومن يليهم، فأجابه إلى ذلك جماعة من المهاجرين والأنصار ومهاجرة الفتح وأمداد أهل العالية واليمن فاجتمع ل منهم أربعة وعشرون ألفاً. وولى عليهم الأمراء، وعقد لهم الألوية وجهزهم بما قدر عليه من الأموال والظهر. ولم يرض ببعثه السرايا ولا الاقتصار عليها فمضوا لما وجههم له، فوليهم الله بحسن الصحبة في العاقبة وسعة الرزق والتمكين في البلاد والنصر والفلج والظهور على من تعرض قتالهم بأجنادين ثم فحل ثم مرج الصفر ثم نزلوا على دمشق وحاصروا أهلها.
وأمر أبو بكر خالداً أن ينزل تيماء ولا يبرحها، وأن يدعو من حوله بالانضمام إليه وألا يقبل إلا ممن لم يرتد، ولا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره. فأقام واجتمع إليه جموع كثيرة. وبلغ الروم عظم ذلك العسكر فضربوا على العرب الضاحية البعوث بالشام إليهم.(1/186)
فكتب خالد بن سعيد إلى أبي بكر بذلك وبنزول من استنفرت الروم، ونفر إليهم من بهراء وكلب وسلح وتنوخ ولخم وجذام وغسان من دون زيزاء بثلاث، فكتب إليه أبو بكر أن أقدم ولا تحجم، واستنصر الله، فسار إليهم خالد. فلما دنا منهم تفرقوا وأعروا منزلهم. فنزله خالد. ودخل عامة من كان تجمع له في الإسلام.
وكتب خالد إلى أبي بكر بذلك. فكتب إليه أبو بكر: أقدم ولا تقتحمن حتى لا تؤتى من خلفك، فسار فيمن كان خرج معه من تيماء وفيمن لحق به في طرف الرمل حتى نزلوا فيما بين آبل وزيزاء والقسطل، فسار إليه بطريق منن بطارقة الروم يدعى باهان، فهزمه وقتل جنده. وكتب بذلك إلى أبي كبر واستنفره. وقدم على أبي بكر أوائل مستنفري اليمن ومن بين مكة وبين اليمن وفيهم ذو الكلاع. وقدم عليه عكرمة قافلاً وغازياً فيمن كان معه من تهامة وعمان والبحرين والسرو، فكتب لهم أبو بكر إلى أمراء الصداقات أن يبدلوا من استبدل، فكلهم استبدل، فسمي ذلك الجيش جيش البدال. وقدموا على خالد بن سعيد، وعند ذلك اهتاج أبو بكر للشام، وعناه أمره. وقد كان أبو بكر رد عمرو بن العاص على عمالة كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاها إياه من صدقات سعد هذيم، وعذرة ومن لفهم من جذام وحدس قبل ذهابه إلى عمان، فخرج إلى عمان وهو على عدة من عمله إذا هو رجع، فخرج إلى عمان فأنجز له ذلك أبو بكر. فكتب أبو بكر عند اهتياجه للشام إلى عمرو أني قد كنت رددتك إلى العمل الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولاكه مرة وسماه لك أخرى، مبعثك إلى عمان إنجازاً لمواعيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد وليته ثم وليته وقد أحببت، أبا عبد الله، أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك، فكتب إليه عمرو: إني سهم منن سهام الإسلام. وإنك بعد الله للرامي بها، والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم به شيئاً إن جاءك من ناحية من النواحي، وكتب إلى الوليد نحو ذلك فأجابه بإيثار الجهاد.(1/187)
قال سعيد بن المسيب: لما بعث أبو بكر الجنود نحو الشام: يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة قال: لما ركبوا مشى أبو بكر مع أمراء جنوده يودعهم حتى بلغ ثنية الوداع فقالوا: يا خليفة رسول الله، أتمشي ونحن ركبان؟! فقال: إني احتسبت خطاي هذه في سبيل الله. وفي رواية: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار ". ثم جعل يوصيهم فقال: أوصيكم بتقوى الله. اغزوا في سبيل الله فقاتلوا من كفر بالله، فإن الله ناصر دينه ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تجبنوا ولا تفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون، فإذا لقيتم العدو من المشركين إن شاء الله فادعوهم إلى ثلاث خصال فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفوا عنهم: ادعوهم إلى الإسلام. فإن هم أجابوكم فاقبلوا منهم وكفوا عنهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن هم فعلوا فأخبروهم أن لهم مثل ما للمهاجري، وعليهم ما على المهاجرين. وإن هم دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم على دار المهاجرين فأخبروهم أنهم كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي فرض على المؤمنين، وليس لهم في الفيء الغنائم شيء حتى يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا أن يدخلوا في الإسلام فادعوهم إلى الجزية، فإن هم فعلوا فاقبلوا منهم وكفوا عنهم. وإن هم أبوا فاستعينوا بالله عليهم فقاتلوهم. إن شاء الله، ولا تعزقن نخلاً ولا تحرقنها، ولا تعقروا بهيمة، ولا شجرة تثمر، ولا تهدموا بيعة، ولا تقتلوا الولدان ولا الشيوخ ولا النساء، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فقدعوهم وما حبسوا أنفسهم له، وستجدون آخرين اتخذ الشيطان في أوساط رؤوسهم أفحاصاً، فإذا وجدتم أولئك فاضربوا أعناقهم إن شاء الله.(1/188)
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير وقال لي: هل تدري لم فرق أبو بكر وأمر بقتل الشمامسة يلقون القتال فيقاتلون، وأن الرهبان رأيهم ألا يقاتلوا. وقد قال تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ".
وقال إسحاق بن أبي قروة: إن خالداً ومن معه هبطوا من ثنية الغوطة، تقدمهم راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوداء التي يقال لها العقاب، فبها سميت يومئذ ثنية العقاب.
قال ابن إسحاق: وسار خالد حتى أغار على غسان بمرج راهط ثم سار حتى نزل على قناة بصرى، وعليها أبو عبيدة بن الجراح، وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان فاجتمعوا فرابطوها، حتى صالحت بصرى على أخذ الجزية، وفتحها الله على المسلمين فكانت أول مدينة من مدائن الشام فتحت في خلافة أبي بكر.
قال: وصالح خالد في وجهه ذلك أهل تدمر، ومر على حوارين فقتل وسبى.
وعن عبد الرحمن بن جبير أن أبا بكر الصديق كان جهز بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيوشاً على بعضها شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، فساروا حتى نزلوا الشام فجمعت لهم الروم جموعاً عظيمة. فحدث أبو بكر بذلك فأرسل إلى خالد بن الوليد وهو بالعراق، وكتب أن انصرف بثلاثة آلاف فارس فأمد إخوانك بالشام، والعجل العجل، فأقبل خالد مغذاً جواداً، فاشتق الأرض بمن معه حتى خرج إلى ضمير فوجد المسلمين معسكرين بالجابية، وتسامع الأعراب الذين كانوا في مملكة الروم بخالد ففزعوا له، ففي ذلك يقول قائلهم: من الطويل:(1/189)
ألا يا اصبحينا قبل خيل أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري
فنزل خالد على شرحبيل بن حسنة ويزيد وعمرو فاجتمع هؤلاء الأربعة أمراء. وسارت الروم من أنطاكية وحلب وقنسرين وحمص وما دون ذلك، وخرج هرقل كراهية لمسيرهم متوجهاً نحو الروم وسار باهان الرومي أبي الرومية إلى الناس بمن كان معه.
روي عبد الحميد بن جعفر عن أبيه أن المسلمين ساروا وعليهم هؤلاء الأمراء: يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وأبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة. كل على عسكر، ومن كانت الواقعة مما يلي عسكره فهو على أصحابه، وساروا، معهم النساء والذرية بالخيل والسلاح، ليس معهم حمار ولا شاة، فأخذوا على طريق فلسطين حتى نزلوا بقرية يقال لها: ثادن من قرى غزة. ومما يلي الحجاز، فلقيهم بها بطريق من بطارقة الروم فأرسل إليهم أن يخرجوا إليه أحد القواد ليكلمه. قال: فتواكلوا ذلك وقالوا لعمرو بن العاص: أنت لذلك. فخرج إليه عمرو فرحب به البطريق ومت إليه بقرابة العيص بن إسحاق بن إبراهيم. وقال: ما الذي جاء بكم، فقد كانت الآباء اقتسمت الأرض، فصار لكم ما يليكم، وصار لنا ما يلينا، وقد عرفنا أنم إنما أخرجكم من بلادكم الجهد، وسنأمر لكم بمعروف، وتنصرفون. فقال عمرو: أما القرابة فهي على ما ذكرت، وأما القسمة فإنها كانت قسمة شططاً علينا، فنحن نريد أن نزاد حتى تكون قسمة معتدلة، لنأخذ نصف ما في أيديكم من الأنهار والعمارة ونعطيكم نصف ما في أيدينا من الشوك الحجارة. وأما ما ذكرت من الجهد الذي أخرجنا، فإنا قدمنا فوجدنا في هذه البلاد شجرة يقال لها الحنطة، فعذقنا منها طعاماً لا نفارقكم حتى نصيركم عبيداً أو تقتلونا تحت أصول هذه الشجرة. قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: صدقوا، وافترقا، فاقتتلوا فكانت بينهم معركة انصرف القوم على حامية، ومضى المسلمون في آثارهم حتى طووهم عن فلسطين والأردن إلا ما كان من إيلياء وقيسارية تحصن فيها أناس فتركوهم ومضوا إلى ناحية البثينة ودمشق.
وحدث أبو عثمان الصنعاني شراحيل بن مرثد قال: بعث أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته خالد بن الوليد إلى أهل اليمامة، وبعث يزيد بن أبي سفيان إلى الشام. قال: فكنت ممن سار مع خالد إلى اليمامة. فلما(1/190)
قدمنا قاتلنا قتالاً شديداً وظفرنا بهم، وهلك أبو بكر واستخلف عمر بن الخطاب فبعث أبا عبيدة بن الجراح إلى الشام، فقدم دمشق فاستمد أبو عبيدة عمر، فكتب عمر إلى خالد أن سر إلى أبي عبيدة بالشام فدعا خالد بن الوليد الدليل فقال: في كم نأتي إلى الحيرة؟ فقال: في كذا وكذا. قال: فعطش خالد الإبل ثم سقاها، واستقى وسقى الخيل، ثم كعم أفواه الإبل وأدبارها، وقال له الدليل: إن أنت أصبحت عند الشجرة نجوت ونجا من معك، وإن أصبحت دون الشجرة فقد هلكت وهلك من معك فسار خالد بمن معه فأصبح عند إضاءة الفجر عند الشجرة فنحر الإبل، وسقى ما في بطونها الخيل، وأطعم لحومها المسلمين، وسقى المسلمين من المزاد التي كانت تحمل معه، ثم أتى الحيرة أو الكوفة، فصالحه أسقفها.
قال ابن عساكر: كذا قال، وإنما كان هذا بعد رجوعه عن الحيرة. وأبو عبيدة كان بالشام في أيام أبي بكر.
وكان أبو بكر قد وجه خالد بن الوليد إلى العراق وأوصاه بمثل الذي أوصى به خالداً. وإن خالد بن سعيد سار حتى نزل على الشام ولم يقتحم، واستجلب الناس وعز فهابته الروم وأحجموا عنه، فلم يصبر عليه بعدما أمن، فوافقوا ابنه سعيد بن خالد مستمطراً فواقعوه فقتلواه ومن معه، وأتى الخبر خالداً فخرج هارباً حتى أتى البر فتنزل منزلاً، واجتمعت الروم إلى اليرموك فنزلوا به. وقالوا: والله لنشغلن أبا بكر في نفسه عن تورد بلادنا بخيوله. وكتب خلاد بن سعيد إلى أبي بكر بالذي كان، فكتب أبو بكر إلى عمرو بن العاص وكان في بلاد قضاعة بالسير إلى بلاد اليرموك ففعل. وبعث أبا عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وأمر كل واحد منهما بالغارة. وألا تغلوا حتى لا يكون وراءكم أحد من عدوكم. وقدم عليه شرحبيل بن حسنة بفتح من فتوح خالد فسرحه نحو الشام في جند، وسمى لكل رجل من أمراء الأجناد كورة من كور الشام، فتوافوا باليرموك. فلما رأت الروم توافيهم ندموا على الذي ظهر م (نهم،(1/191)
ونسوا لذي كانوا يتواعدون أبا بكر به، واهتموا وهمتهم أنفسهم وأشجوهم وشجوا بهم. ثم نزلوا الواقوصة، وقال أبو بكر: والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد. فكتب اله بالمسير إلى أبي عبيدة بالشام، وأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس. فإذا فتح الله على المسلمين الشام فارجع إلى عملك بالعراق.
وبعث خالد بالأخماس إلا ما نفل منها مع عمير بن سعد الأنصاري، وبمسيره إلى الشام، ودعا خالد الأدلة، فارتحل من الحيرة سائراً إلى دومة ثم طعن في البر إلى قراقر ثم قال: كيف لي بطريق أخرج فيه من وراء جموع الروم؟ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين، فكلهم قال: لا نعرف إلا طريقاً لا تحمل الجيوش يأخذه الفذ والراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين. فعزم عليه ولم يجبه إلى ذلك إلا رافع بن عميرة على تهيئة شديدة. فقال له خالد وللمسلمين: لا يهولنكم، فإنا عباد الله، وفي سبيل الله، وعلى طاعة خليفة رسول الله، ونحن وإن كثرنا بعد أن نتزود كالقليل المنكمش، فناشدوه فثاب فيهم فقال: لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وإن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله له، فقالوا له: أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فشأنك فطابقوه ونووا واحتسبوا واشتهوا مثل الذي اشتهى خالد.
ولما سار خالد من الحيرة يمد أهل الشام استعمل على الضعفاء عمير بن سعد، واستعمل على من أسلم بالعراق المثنى بن حارثة الشيباني، ثم سار حتى نزل عين التمر وأغار على أهلها، ورابط حصونها مقاتلة كانت لكسرى وضعهم فيها حتى استنزلهم، فضرب أعناقهم وسبى من عين التمر بشراً كثيراً، فبعث بهم إلى أبي بكر. وذلك أول سبي قدم المدينة. من ذلك السبي أبو عمرة جد عبد الله بن أبي عمرة وعبيد مولى المعلى وأبو عبيد الله مولى بني زهرة وخير مولى أبي داود ويسار مولى قيس بن مخرمة.
قال ابن إسحاق:
وكان فيهم عمير بن زيتون الذي ببيت المقدس، ويسار مولى أبي بن كعب، وهو أبو الحسن بن أبي الحسن البصري، وأفلح مولى أبي أيوب الأنصاري. ووجدوا في(1/192)
كنيسة اليهود صبياناً يتعلمون الكتابة في قرية من قرى عين التمر يقال لها نقيرة. وكان فيهم حمران بن أبان مولى عثمان، وقتل هلال بن عطية بن بشر النمري وصلبه. ثم سار ففوز من قراقر وهو ماء لكلب إلى سوى وهو ماء لبهراء بينهما خمس ليلا، فلم يهتد الطريق، فطلب دليلاً فدل على رافع بن عميرة الطائي، فأتاه رافع فاستدله على الطريق فقال: أنشد الله في نفسك وجيشك، فإنها مفازة خمس ليال ليس فيها ماء مع مضلتها، وإن الراكب المنفرد يسلكها فيخاف على نفسه التهلكة، وما يسلكها إلا مغرور. ما علمت رأيك ونصيحتك. ومرنا بأمرك. قال رافع: فابغني عشرين من الإبل سمان عظام، فأتي بهن فظمأهن حتى جهدن، فأوردها الماء فشربن حتى تملأن ثم أمر بمشافرها فقطعن ثم كعمهن كيلا تجتررن، ثم حل أذنابهن، ثم قال لخالد: تزود واحمل من أطاق أن يصر على أذن ناقته ماء فليفعل فإنها المهالك، ففعل، وساروا فسار معهم وسار خالد معه بالخيول والأثقال. فكلما سار يوماً وليلة اقتطع منهن أربعة فأطعم لحمانها. وسقى ما في أكراشها الخيل، وشرب الناس ما كانوا حملوا. وبقي منزل واحد ونفدت الإبل وخشي خالد على أصحابه في آخر يوم، فأرسل خالد إلى رافع أن الإبل قد نفدت فما ترى؟ قال: قد انتهيت إلى الري فلا بأس عليك. اطلبوا شجرة بمثل قعدة الرجل، فعندها الماء. ورافع يومئذ رمد، فطلبوها فلم يصيبوها فرجعوا إلى رافع، فقالوا: إنا لم نصبها، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. هلكتم وهلكت لا أبا لكم. اطلبوها فطلبوها فأصابوها قد قطعت الشجرة وقد بقي منها بقية، فكبر وكبر الناس. فقال: احتفروا فاحتفروا عيناً عذبة مروية، فتزودوا وسقوا وحملوا. فقال رافع: إن هذه المفازة ما سلكتها قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام.
وفي رواية: فقال رافع. والله ما وردت هذا الماء مذ ثلاثين سنة. فقال شاعر من المسلمين: قيل هو أبو أحيحة القرشي: من الرجز
لله عينا رافع أن (ى اهتدى ... فوز من قراقر إلى سوى
خمساً إذا ما سارها الجبس بكى ... ما سارها من قبله إنس يرى(1/193)
ثم إن خالد بن الوليد أغار على أهل سوى، وهو ماء بهراء، قبل الصبح، وهم يشربون شراباً لهم في جفنة قد اجتمعوا عليهم ومغنيهم يقول: من الطويل
ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب وما ندري
فزعوا أن ذلك المغني قتل تحت الغارة، فسال دمه في الجفنة.
ثم استقام بخالد الطريق فتواصلت به امياه، حتى إذا أغار على مرج العذراء وبه ناس من غسان فأصاب منهم، ثم مضى حتى نزل مع أبي عبيدة بن الجراح ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة على قناة بصرى فنزل معهم حتى صالحت بصرى على الجزية، وكانت أول جزية وقعت بالشام في عهد أبي بكر.
وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد: أما بعد. فدع العراق وخلف أهله فيه الذين قدمت عليهم وهم فيه. ثم امض مخففاً في أهل القوة من أصحابنا الذين قدموا معك العراق من اليمامة، وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقي أبا عبيدة بن الجراح، ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.(1/194)
ما روي من توقع المشركين
لظهور دولة المسلمين
عن عبد الله بن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره
أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجاراً بالشام في المدة التي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه، وهو بإيلياء. فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم وترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم به نسباً، فقال: أدنوه مني، وقربوا أصحابه فجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه قل لهم: إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذب فكذبوه، قال أبو سفيان: فوا لله لولا الحياء أن يأثروا علي كذباً لكذبته عه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول الذي قال؟ قال: قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه. قال: فماذا يأمركم؟ قال: يقول: اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة وبالصدقة والعفاف والصلة، فقال: للترجمان قل له: إني سألتك عن نسبه.(1/195)
فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك: هل قال أحد منكم هذا القول؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحد منكم قال هذا القول قبله قلت: رجل يأتم بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان من آبائه ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله عز وجل. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب. وسألتك: هل يغدر؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئاً. وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة وبالصدقة والعفاف والصلة، فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وهو نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولكن لم أكن أظن أنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، ثم دعا بكتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا هو: بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بداعية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإريسين " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً " الآية.
قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمُرَ أمرُ ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي(1/196)
الإسلام، وكان ابن قاطور وهو صاحب إيلياء وهرقل سقفه على نصارى الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: لقد أنكرنا هيئتك، فقال ابن قاطور: وكان هرقل رجلاً حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمم؟ قالوا: ليس يختتن غير اليهود، فلا يهمنك شأنهم واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبيناهم على أمرهم ذلك أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان بخبره عن خبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا مختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن. فسأله عن العرب أيختتنون؟ فقال: نعم هم يختتنون، فقال: هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، فكتب هرقل إلى صاحب له برومية، وكان نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص، فلم يرم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق هرقل على خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبواهبا فغلقت ثم اطلع فقال لهم: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم؟ تتبعوا هذا الرجل. فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد أغلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم وأيس من إيمانهم فقال: ردوهم علي، وقال: إني إنما قلت مقالتي التي قلت لكم أنفاً أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت الذي أحب فسجدوا له ورضوا عنه، فكان ذلك آخر شأن هرقل.
المحفوظ ابن الناظور، ويقال بالطاء المهملة.
وقد كان أمير جند الروم باليرموك قد بعث عيناً من عرب الشام فدخل على المسلمين عسكرهم، فرجع إليه فأخبرهم أنهم بالليل رهبان وبالنهار فرسان، هم فيما بينهم كالعبيد وعلى من سواهم كالأسود، إذا قالوا صدقوا، وإذا عاهدوا أوفوا، يأخذون لله حقوقه ولو من أنفسهم، فقال: أف لك، لئن كنت صادقاً للموت خير من الحياة، وليمرن علينا منهم شر طويل.
وفي رواية: ولو سرق ملكهم قطعوا يده، ولو زنى رجموه.
وقد كان هرقل قبل مهزم خالد بن سعيد حج بيت المقدس، فبينما هو مقيم به أتاه الخبر بقرب الجنود منه، فجمع الروم وقال: أرى من الرأي أن لا تقاتلوا هؤلاء القوم وأن(1/197)
تصالحوهم فوا لله لئن تعطوهم نصف ما أخرجت الشام، وتأخذون نصفاً، وتبقى لكم جبال الروم خير لكم من أن يغلبوكم على الشام ويشاركوكم في جبال الروم، فنخر أخوه ونخر ختنه وتصدع عنه من كان حوله. فلما اجتمع المسلمون أمرهم بمنزل جامع واسع حصين، فنزلوا بالواقوصة وخرج فنزل حمص. فلما بلغه أن خالداً قد طلع على سوى فانتسف أهله وأمواله وعمد إلى بصرى فافتتحها وأباح عذراً قال لجلسائه: ألم أقل لكم لا تقاتلوهم فإنه لا قوام لكم مع هؤلاء القوم، إن دينهم دين جديد يجدد لهم ثبارهم ولا يقوم لهم أحد حتى يبلى، فقالوا له: قاتل عن دينك ولا تجبن الناس واقض الذي عليك. قال: وأي شيء أطلب بهذا إلا توفير دينكم؟ ولما نزلت جنوج المسلمين اليرموك بعث إليه المسلمون: إنا نريد كلام أميركم وملاقاته، أفتدعونا نأتيه نكلمه، فأبلغوه فأذن لهم فأتاه أبو عبيدة كالرسول ويزيد بن أبي سفيان كالرسول والحارث بن هشام وضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهيل، ومع أخي الملك يومئذ في عسكره ثلاثون رواقاً وثلاثون سرادقاً كلها من ديباج، فلما انتهوا إليها أبوا أن يدخلوا عليه فيها، وقالوا: لا نستحل الحرير فابرز لنا فنزل إلى فرش له ممهدة وبلغ ذلك هرقل فقال: ألم أقل لكم هذا أول الذل. أما الشام فلا شام، وويل للروم من المولود المشؤوم، ولم يتأت بينهم وبين المسلمين صلح فرجع أبو عبيدة وأصحابه واتعدوا، فكان القتال حتى جاء الفتح.
حدث رجلان من غسان. قال:
لما كان المسلمون بناحية الأردن تحدثنا بيننا أن دمشق ستحاصر، فقال أحدنا لصاحبه: هل لك أن ندخل المدينة فنتبين من سوقها قبل حصارها، فبينا نحن فيها نتسوق إذ أتانا رسول بطريقها اصطراخيه، فذهب بنا إليه، فقال: أنتما من العرب؟ قلنا: نعم. قال: وعلى النصرانية؟ قلنا: نعم، قال: ليذهب أحدكما إلى هؤلاء فليتحسس لنا من خيرهم ورأيهم، وليثبت الآخر على متاع صاحبه، ففعل ذلك أحدنا فلبث لبثاً ثم جاءه فقال: جئتك من عند رجال دقاق يركبون خيولاً عتاقاً، أما الليل فرهبان، وأما(1/198)
النهار ففرسان، يريشون النبيل ويبرونها ويثقفون القنا، لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر، فالتفت إلى أصحاب فقال: أتاكم منهم ما لا طاقة لكم به.
قال ابن إسحاق: كان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يثبت لهم العدو فواقاً عند اللقاء، فقال هرقل وهو على أنطاكية لما قدمت منهزمة الروم، قال لهم: أخبروني ويلكم عن هؤلاء القوم الذين يقاتلونكم أليسوا هم بشر مثلكم؟ قالوا: بلى، قال: فأنتم أكثر أم هم، قالوا: بل نحن أكثر منهم أضعافاً في كل موطن، قال: فما بالكم تهزمون كما لقيتموهم، فقال شيخ من عظمائهم: من أجل أنهم يقومون بالليل، ويصومون بالنهار، ويوفون بالعهد، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويتناصفون بينهم، ومن أجل أنا نشرب الخمر ونزني ونركب الحرام وننقض العهد ونغصب ونظلم، ونأمر بما يسخط الله وننهي عما يرضي الله، ونفسد في الأرض. قال: أنت صدقتني.(1/199)
ذكر ظفر جيش المسلمين بأجنادين وفحل ومرج الصفر
قال ابن شهاب: كانت وقعة أجنادين وفحل في سنة ثلاث عشرة: أجنادين في جمادى، وفحل في ذي القعدة.
قالوا: وكانت وقعة أجنادين يوم السبت صلاة الظهر لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة.
قال ابن إسحاق: استخلف عمر على رأس اثنتي عشرة سنة وثلاثة أشهر واثنين وعشرين يوماً من مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان الناس بالشام إلى خالد بن الوليد، والأمراء على منازلهم، فساروا قبل فحل من الأردن، وكانت فحل في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة، وعلى رأس ستة أشهر من خلافة عمر، وقيل إن فحل كانت في رجب.
قال الواقدي: وفي سنة أربع عشرة كان فتح مرج الصفر، فأقام المسلمون بها خمس عشرة من المحرم، وفيها زحف المسلمون إلى دمشق في المحرم فحاصروها ستة أشهر إلا يوماً.
وقال ابن إسحاق: وقعة مرج الصفر يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة. والأمير خالد بن الوليد.(1/200)
حدث سعيد وابن جابر قالا: ثم كانت بعد أجنادين وقعة مرج الصفر. قال سعيد: التقوا على النهر عند الطاحونة، فقتلت الروم يومئذ حتى جرى النهر، وطحنت طاحونتها بدمائهم، فأنزل الله على المسلمين نصره، وقتلت يومئذ أم حكيم أربعة من الروم بعمود فسطاطها.
حدث عبد الله بن عمرو بن العاص في بيت المقدس، قال: شهدنا أجنادين ونحن يومئذ عشرون ألفاً، وعلى الناس يومئذ عمرو بن العاص، فهزمهم الله، ففاءت فئة إلى فحل في خلافة عمر. فسار إليهم في الناس عمرو بن العاص فنفاهم إلى فحل. فأهل الشام قاطبة وعامة رواتنا يقولون إن أجنادين كانت قبل فحل، وهي في ولاية أبي بكر، وكانت فحل في ذي القعدة في خلافة عمر على رأس خمسة أشهر من خلافته. وكانت أجنادين أول وقعة بين المسلمين والروم نصر الله المسلمين، وهي إحدى ملاحم الروم التي أبيروا فيها.
قال الواقدي: كانت أجنادين في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وبشر بها أبو بكر رضي الله عنه وهم بآخر رمق.
قال: ومضى خالد بن الوليد إلى أصحابه حتى نزل على قناة بصرى، فيجد الأمراء مقيمين لم يفتحوا شيئاً قال: ما مقامكم بهذا الموضع؟ أنهضوا، فنهضوا بأهل بصرى فما أمسوا ذلك اليوم حتى دعوا إلى الصلح فصالحوهم وكتبوا بينهم كتاباً، فكانت أول مدينة فتحت من الشام صلحاً. وفيها مات سعد بن عبادة، وكان فتحها لخمس بقين من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة، وأهل الشام يقولون: إن فحل كانت قبل فتح دمشق.
وذكر سيف بن عمر التميمي: أنها كانت بعد فتح دمشق. والله أعلم.
وخلف الناس بعد فتح دمشق يزيد بن أبي سفيان في خيله في دمشق وساروا نحو فحل، فكان على الناس شرحبيل بن حسنة، فبعث خالداً على المقدمة وأبا عبيدة وعمراً على مجنبتيه، وعلى الخيل ضرار، وعلى الرجل عياض، وكرهوا أن يصمدوا لهرقل وخلفهم(1/201)
ثمانون ألفاً، وعلموا أن بإزاء فحل جند الروم وإليهم ينظرون، وأن الشام بعدهم سلم، فلما انتهوا إلى أبي الأعور فقدموه إلى طبرية فحاصروهم، ونزلوا على فحل من الأردن، وقد كان أهل فحل حين نزل بهم أبو الأعور تركوه وأرزوا إلى بيسان فنزل شرحبيل بالناس فحلاً، والروم ببيسان، وبينهم وبين المسلمين تلك المياه والأوحال، وكتبوا إلى عمر بالخبر، وهم يحدثون أنفسهم بالمقام ولا يريدون أن يريموا فحل حتى يرجع جواب كتابهم من عند عمر، ولا يستطيعون الإقدام على عدوهم في مكانهم لما دونهم من الأوحال، وكانت العرب تسمي تلك الغزاة فحل، وذات الردغة وبيسان، وأصاب المسلمون من ريف الأردن أفضل ما ترك فيه المشركون: مادتهم متواصلة، وخصبهم رغد، فاغترهم القوم، وعلى الروم سقلار بن محرق، ورجوا أن يكونوا على غرة فأتوهم والمسلمون لا يأمنون مجيئهم فهم على حذر، وكان شرحبيل لا يبيت ولا يصبح إلا على تعبئة. فلما هجموا على المسلمين فغافصوهم فلم يناظروهم، فاقتتلوا بفحل كأشد قتال اقتتلوه قط ليلتهم ويومهم إلى الليل فأظلم عليهم الليل وقد حاروا فانهزموا وهم حيارى وقد أصيب رئيسهم سقلار بن محراق والذي يليه فيهم نطورس، وظفر المسلمون أحسن ظفر وأهناه، وركبوهم وهم يرون على أنهم على قصد وجد، فوجدوهم حيارى لا يعرفون ما حدهم، فأسلمتهم هزيمتهم وحيرتهم إلى الوحل فركبوه، ولحق أوائل المسلمين بهم وقد وحلوا، فركبوهم وما يمنعون يد لامس فوخزوهم بالرماح فكانت الهزيمة في فحل، وكانت مقتلتهم في الرداغ، فأصيب الثمانون ألفاً لم يفلت إلا الشريد، وكن الله عز وجل ليزدادوا بصيرة، وجدوا واقتسموا ما أفاء الله عز وجل عليهم، وانصرف أبو عبيدة بخالد من فحل إلى حمص، وصرفوا بشير بن كعب من اليرموك معهم، ومضوا بذي كلاع ومن معه، وخلفوا شرحبيل ومن معه.(1/202)
باب كيف كان أمر دمشق في الفتح
فتحت دمشق في سنة أربع عشرة في رجب، وقدم عمر بن الخطاب الشام سنة ست عشرة، فولاه الله فتح بيت المقدس على صلح ثم قفل، وكانت اليرموك سنة خمس عشرة، وعلى المسلمين أبو عبيدة بن الجراح.
قال ابن إسحاق: ثم ساروا إلى دمشق، على الناس خالد، وقد كان عمر عزله وأمر أبا عبيدة، فرابطوها حتى فتح الله عز وجل. فلما قدم الكتاب على أبي عبيدة بإمرته وعزل خالد استحيا أن يقرئ خالداً الكتاب حتى فتحت دمشق في سنة أربع عشرة في رجب. قال: فأظهر أبو عبيدة إمرته وعزل خالد ثم شتى أبو عبيدة شتيته وفي نسخة: شتيه بدمشق.
قال ابن الكلبي: كان الصلح يوم الأحد النصف من رجب سنة أربع عشرة، صالحهم أبو عبيدة بن الجراح. وقد حاصرهم أبو عبيدة رجب وشعبان وشهر رمضان وشوال، وتم الصلح في ذي القعدة. ومنهم من قال: حاصروها أربعة عشرة شهراً.
قال أبو عثمان الصنعاني: لما فتح الله علينا دمشق خرجنا مع أبي الدرداء في مسلحة برزة ثم تقدمنا مع أبي عبيدة بن الجراح ففتح الله بنا حمص، ثم تقدمنا مع شرحبيل بن السمط فأوطأ الله بنا ماء دون النهر، يعني الفرات وحاصرنا عانات وأصابنا لأواء، وقد علينا سليمان في مدد لنا.
وقال أبو عثمان أيضاً:
حاصرنا دمشق، فنزل يزيد بن أبي سفيان على باب الصغير، ونزل أبو عبيدة بن الجراح على باب الجابية، ونزل خالد بن الوليد على باب الشرقي، وكان أبو الدرداء في مسلحة برزة. قال: فحاصرناها أربعة أشهر. قال: وكان راهب دمشق قد طلب من(1/203)
خالد بن الوليد الصلح. قال: فشرط عليه خالد بن الوليد أشياء أبي الراهب أن يجيب إليها. قال: فدخلها يزيد بن أبي سفيان قسراً من باب الصغير حتى ركبها. قال: وذهب الراهب كما هو على الحائط فأتى خالد بن الوليد ولا يعلم خالد أن يزيد قد دخلها قسراً. فقال له: هل لك في الصلح؟ قال: وتجيبني إلى ما شرطت عليك؟ قال: نعم. فأشهد عليه ففتح له باب الشرقي، فدخل يزيد فبلغ المقسلاط فالتقى هو وخالد عند المقسلاط، فقال هذا: دخلتها عنوة. وقال هذا: دخلتها صلحاً فأجمع رأيهم على أن جعلوها صلحاً. قالوا: ونظروا فإذا ما بين باب الشرقي إلى المقسلاط أبعد مما بين باب الصغير إلى المقسلاط.
قال الأوزاعي: كنت عند ابن سراقة حين أتاه أهل دمشق النصارى بعهدهم فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل دمشق، إني أمنتهم على دمائم وأموالهم وكنائسهم ألا تسكن ولا تهدم، شهد يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وقضاعي بن عامر. وكتب في رجب من سنة أربع عشرة.
قالوا: ولما نشب أصحاب خالد بن الوليد القتال دنا رجل منهم وفي يده اليمنى سيف، وفي اليسرى الدرقة فنادى بالبراز فقالوا: ما يقول؟ قيل: يقول إنه يدعو للمبارزة، فأنزلوا حبشياً كالبعير مستلثماً، في سلاحه، فتدانى فضربه المسلم فقتله، ثم نادى بالبراز، فأنزلوا إليه صاحب بندهم، أجلسوه على باب دلوه فتدانى فضربه المسلم فقتله، ثم نادى بالبراز، فقال: قل للشيطان يبارزك.
وقيل: إن أبا عبيدة بن الجراح دخلها من باب الجابية بالأمان، ودخل خالد بن الوليد من باب الشرقي عنوة بالسيف يقتل، فالتقيا عند سوق الزيت فلم يدروا أيهما كان أول العنوة أو الأمان، فأجتمعوا فقالوا: والله لئن أخذنا ما ليس لنا سفكنا الدماء وأخذنا الأموال لنأثمن، ولئن تركنا بعض مالنا لا نأثم. قال: فاجتمعوا على أن أمضوه صلحاً.
قال عباس بن سهل بن سعد: تولى أبو عبيدة حصار دمشق، وولي خالد بن الوليد القتال على الباب الذي كان عليه(1/204)
وهو الباب الشرقي، فحاصر دمشق بعد موت أبي بكر حولاً كاملاً وأياماً، ثم إنه لما طال على صاحب دمشق انتظار مدد هرقل ورأى المسلمين لا يزدادون إلا كثرة وقوة، وأنهم لا يفارقونه أقبل يبعث إلى أبي عبيدة بن الجراح يسأله الصلح، وكان أبو عبيدة أحب إلى الروم وسكان الشام من خالد، وكان يكون الكتاب منه أحب إليهم، فكانت رسل صاحب دمشق إنما تأتي أبا عبيدة بن الجراح وخالد يلح على أهل الباب الذي يليه فأرسل صاحب الرجال إلى أبي عبيدة فصالحه، وفتح له باب الجابية، وألح خالد بن الوليد على الباب الشرقي ففتحه عنوة، فقال خالد لأبي عبيدة: اسبهم فإني قد فتحتها عنوة، فقال أبو عبيدة إني قد أمنتهم فتمم لهم أبو عبيدة الصلح، وكتب لهم كتاباً وهذا كتابه.
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب لأبي عبيدة بن الجراح ممن أقام بدمشق وأرضها وأرض الشام من الأعاجم، إنك حين قدمت بلادنا سألناك الأمان على أنفسنا وأهل ملتنا، إنا شرطنا لك على أنفسنا ألا نحدث في مدينة دمشق ولا فيما حولها كنيسة ولا ديراً ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب من كنائسنا ولا شيئاً منها ما كان في خطط المسلمين، ولا نمنع كنائسنا من المسلمين أن ينزلوها في الليل والنهار، وأن توسع أبوابها للمارة وابن السبيل، ولا نؤوي فيها ولا في منازلها جاسوساً، ولا نكتم على من غش المسلمين، وعلى ألا نضرب بنواقيسنا إلا ضرباً خفياً في جوف كنائسنا، ولا نظهر الصليب عليها، ولا نرفع أصواتنا في صلاتنا وقراءتنا في كنائسنا، ولا نخرج صليبنا ولا كتابنا في طريق المسلمين، ولا نخرج باعوثاً ولا شعانين، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر(1/205)
النيران معهم في أسواق المسلمين، ولا نجاورهم بالخنازير، ولا نبيع الخمور، ولا نظهر شركاً في نادي المسلمين، ولا نرغب مسلماً في ديننا، ولا ندعو إليه أحداً، وعلى ألا نتخذ شيئاً من الرقيق الذين جرت عليهم سهام المسلمين، ولا نمنع أحداً من قرابتنا إن أرادوا الدخول في الإسلام، وأن نلزم ديننا حيث ملكنا، لوات نتشبه بالمسلمين في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم، ولا نتكلم بكلامهم ولا نتسمى بأسمائهم، وأن نجز مقادم رؤوسنا، ونفرق نواصينا، ونشد الزنانير على أوساطنا، ولا ننقش في خواتمنا بالعربية، ولا نركب السروج، ولا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نجعله في بيوتنا، ولا نتقلد السيوف، وأن نوقر المسلمين في مجالسهم، ونرشدهم للطريق ونقوم لهم من المجالس إذا أرادوا المجالس، ولا نطلع عليهم في منازلهم، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نشارك أحداً من المسلمين إلا أن يكون للمسلم أمر التجارة، وأن نضيف كل مسلم عابر سبيل من أوسط ما نجد، ونطعمه فيها ثلاثة أيام، وعلى ألا نشتم مسلماً، ومن ضرب منا مسلماً فقد خلع عهده. ضمنا ذلك لك على أنفسنا وذرارينا وأزواجنا ومساكننا، وإن نحن غيرنا أو خالفنا عما اشترطنا على أنفسنا وقبلنا الأمان عليه فلا ذمة لنا، وقد حل لك منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. على ذلك أعطينا الأمان لأنفسنا وأهل ملتنا، وأقرونا في بلادكم التي أورثكم الله عز وجل عليها. شهد الله على ما شرطنا لكم على أنفسنا، وكفى به شهيداً.
وقيل: إن يزيد بن أبي سفيان دخل دمشق هو ومن معه من باب الصغير قسراً. فكان يقتل هو والمسلمون ويسبون. فلما رأى ذلك الروم دلوا أسقفهم من باب الشرقي في قفة إلى خالد بن الوليد فأخذ لهم الأمان من خالد فأعطاهم وفتحوا له باب الشرقي فدخل خالد ومن معه حتى انتهوا إلى المقسلاط. وأجاز أبو عبيدة أمان خالد وأمضاه.
قالوا: وكان صالح أهل دمشق على شيء مسمى لا يزداد عليهم إن استغنوا، ولا يحط عنهم إن افتقروا، فكان صالح أهل دمشق على دينارين دينارين وشيء من طعام، وبعضهم على الطاقة، إن زاد المال زاد عليهم، وإن نقص ترك ذلك عنهم، وكان اشترط على أهل الذمة بأرض الشام أن عليهم إرشاد الضال، وأن يبنوا قناطر أبناء السبيل من أموالهم، وأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام، ولا يشتموا مسلماً ولا يضربوه، ولا يرفعوا في(1/206)
نادي أهل الإسلام صليباً، ولا يخرجوا خنزيراً من منازلهم إلى أفنية المسلمين، ولا يمروا بالخمر في ناديهم، وأن نوقد النيران للغزاة في سبيل الله عز وجل، ولا يدلوا للمسلمين على عورة، وألا يحدثوا بناء كنيسة، ولا يضربوا بناقوسهم قبل أذان المسلمين وألا يخرجوا الرايات في عيدهم، وألا يلبسوا السلاح في عيدهم، وألا ينحروا في بيوتهم، فإن فعلوا شيئاً من ذلك عوقبوا، وأخذ منهم فحسب لهم في جزيتهم.
ومنهم من قال: وقد كان أبو بكر توفي قبل فتح دمشق وكتب عمر إلى أبي عبيدة بالولاية على الجماعة وعزل خالد، فكتم أبو عبيدة الكتاب من خالد وغيره حتى انقضت الحرب. فكتب خالد الأمان لأهل دمشق وأبو عبيدة الأمير وهم لا يدرون. قال: فكان كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بنعي أبي بكر واستعماله أبا عبيدة وعزله خالداً:
بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبيدة بن الجراح. سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد. فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ورحمة الله وبركاته على أبي بكر الصديق العامل بالحق والآمر بالقسط والآخذ بالعرف، اللين السير، الوادع، السهل القريب الحليم، ونحتسب بمصيبتنا فيه ومصيبتكم ومصيبة المسلمين عامة عند الله، وأرغب إلى الله في العصمة والتقى برحمته والعمل بطاعته ما أحيانا، والحلول في جنته إذا توفانا، فإنه لعلى كل شيء قدير. وقد بلغنا حصاركم لأهل دمشق وقد وليتك جماعة الناس، فاثبت سراياك في نواحي أرض حمص ودمشق، وما سواها من أرض الشام، وانظر في ذلك برأيك ومن حضرك من المسلمين، ولا يحملنك قولي هذا على أن تغري عسكرك فيطمع فيك عدوك، ولكن من استغنيت عنه فسيره، ومن احتجت إليه في حصارك فاحتبسه، وليكن فيمن تحتبس خالد بن الوليد فإنه لا غنى بك عنه.
قالوا: فدفع ذلك الكتاب إلى خالد بن الوليد بعد فتح دمشق بنحو من عشرين ليلة فأقبل حتى دخل على أبي عبيدة فقال: يغفر الله لك، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية فلم تعلمني، وأنت تصلي خلفي والسلطان سلطانك؟! فقال له أبو عبيدة: وأنت(1/207)
يغفر الله لك، ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من غيري. وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كله، ثم قد كنت أعلمك إن شاء الله. وما سلطان الدنيا أريد وما للدنيا أعمل، وأن ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع، وإنما نحن إخوان وقوام بأمر الله عز وجل، وما يضير الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه. بل يعلم الوالي أنه كاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة وأوقعهما في الخطيئة لما يعرض من الهلكة إلا من عصم الله، وقليل ما هم. ودفع أبو عبيدة عند ذلك إلى خالد بن الوليد الكتاب.
قال أبو حذيفة: وولي أبو عبيدة حصار دمشق وولي خالد بن الوليد القتال على باب الشرقي وولاه الخيل إذا كان يوم يجتمع فيه المسلمون للقتال، فحاصروا دمشق بعد هلاك أبي بكر حولاً كاملاً وأياماً. وساق الحديث.
وكان أهل دمشق قد بعثوا إلى قيصر وهو بأنطاكية رسلاً أن العرب قد حاصرونا وليست لنا بهم طاقة، وقد قاتلناهم مراراً فعجزنا عنهم فإن كان لك فينا وفي السلطان علينا حاجة فأمددنا وأعنا، وإلا فإنا في ضيق وجهد، فاعذرنا، وقد أعطانا القوم الأمان ورضوا منا بالجزية اليسيرة، فسرح إليهم أن تمسكوا بحصنكم وقاتلوا عدوكم على دينكم، فإنكم إن صالحتموهم وفتحتم حصنكم لهم لم يفوا لكم وجبروكم على دينهم واقتسموكم بينهم، وأنا مسرح إليكم الجيش في إثر رسولي هذا، فانتظروا جيشه فأبطأ عليهم. وكتب عمر إلى أبي عبيدة يأمره بالمناهضة.
وذكر سيف بن عمر: إن فتح دمشق كان بعد وقعة اليرموك.
وقيل في حديث آخر: فلما أيقن أهل دمشق أن الأمداد لا تصل إليهم فشلوا ووهنوا وأيسوا، وازداد المسلمون طمعاً فيهم، وقد كانوا يرون أنها كالغارات قبل ذلك، إذا هجم البرد قفل الناس، وسقط النجم والقوم مقيمون. فعند ذلك انقطع رجاؤهم وندموا على دخول دمشق. وولد للبطريق الذي على أهل دمشق مولود فصنع عليه، فأكل القوم وشربوا وغفلوا عن مواقفهم ولا يشعر بذلك أحد من المسلمين إلا ما كان من خالد. فإنه كان لا ينام ولا ينيم(1/208)
ولا يخفى عليه من أمورهم شيء، عيونه ذاكية وهو معني بما يليه قد اتخذ حبالاً كهيئة السلاليم وأوهاقاً.
فلما أمسى من ذلك اليوم نهد ومن معه من جنوده الذين قدم بهم عليهم، وتقدمهم هو والقعقاع بن عمرو ومذعور بن عدي وأمثاله من أصحابه في أول نومة، وقال: إذا سمعتم تكبيرنا على السور فارقوا البناء، وانهدوا إلى الباب. فلما انتهى إلى الباب الذي يليه هو وأصحابه المتقدمون رموا بالحبال الشرف، وعلى ظهورهم القرب التي قطعوا بها خندقهم، فلما ثبت لهم وهقان تسلق فيهما القعقاع ومذعور ثم لم يدعا أحبولة إلا أثبتاها، والأوهاق بالشرف، وكان المكان الذي اقتحموا منه أحصن مكان يحيط بدمشق، أكثره ماء وأشده مدخلاً، وتوافوا لذلك فلم يبق بمن قدم معه أحد إلا رقي أو دنا من الباب حتى إذا استووا على السور حدر عامة أصحابه، وانحدر معهم، وخلف من يحمي ذلك المكان لمن يرتقي، وأمرهم بالتكبير، فكبر الذين على رأس السور فنهد المسلمون إلى الباب، ومال إلى الحبال بشر كثير فوثبوا فيها، وانتهى خالد إلى أول من يليه فأقامهم وانحدر إلى الباب فقتل البوابين، وثار أهل المدينة وفزع سائر النسا، فأخذوا مواقفهم ولا يدرون ما الشأن وتشاغل أهل كل ناحية بما يليهم، فقطع خالد بن الوليد ومن معه أعلاق الباب بالسيوف، وفتحوا للمسلمين، فأقبلوا عليهم من داخل حتى ما بقي مما يلي باب خالد مقاتل إلا أنم. ولما شد خالد على من يليه وبلغ منهم الذي أراد عنوة وأرز من أفلت إلى أهل الأبواب التي تلي غيره، وقد كان المسلمون دعوهم إلى المشاطرة فأبوا وأبعدوا، فلم يفجأهم إلا وهم يبوحون لهم بالصلح، فأجابوهم وقبلوا منهم، وفتحوا لهم الأبواب، وقال: ادخلوا وامنعونا من أهل ذلك الباب فدخل أهل كل باب بصلح مما يليهم، ودخل خالد مما يليه عنوة. فالتقى خالد والقواد في وسطها هذا استعراضاً وانتهاباً، وهؤلاء صلحاً وتسكيناً، فأجروا ناحية خالد مجراهم وقالوا: قد فروا إلينا ودخلوا معنا، فأجاز لهم ذلك عمر رضي الله عنه، فأجرى النصف الذي أخذ عنوة مجرى الصلح فصار صالحاً. وكان صلح دمشق على المقاسمة، الديار والعقار ودينار عن كل رأس، واقتسموا الأسلاب، فكان أصحاب خالد فيها كأصحاب سائر القواد، وجرى على الديار ومن بقي في الصلح جريب(1/209)
من كل جريب أرض، ووقف ما كان للملوك ومن صوب معهم فيئاً وبعثوا بالبشارة إلى عمر، وقدم على أبي عبيدة كتاب عمر بأن اصرف جند العراق إلى العراق وأمرهم بالحث إلى سعد بن مالك، فأمر علي جند العراق هاشم بن عتبة، وعلى مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى مجنبتيه عمرو بن مالك الزهري وربعي بن عامر، فصرفوا بعد دمشق نحو سعد، فخرج هاشم نحو العراق في جند أهل العراق. وخرج علقمة ومسروق إلى إيلياء فنزلا على طريقها وبقي بدمشق مع يزيد بن أبي سفيان من قواد أهل اليمن عدد، وبعث يزيد بن أبي سفيان دحية بن خليفة الكلبي في خيل بعد فتح دمشق إلى تدمر وأبا الزهراء القشيري إلى البثنية وحوران فصالحوهما على صلح دمشق، ووليا القيام على فتح ما بعثا إليه. وكان أخو أبي الزهراء قد أصيبت رجله بدمشق يوم دمشق.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: مدينة دمشق افتتحها خالد بن الوليد صلحاً، وعلى هذا مدن الشام كانت كلها صلحاً دون أرضيا على يدي يزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وأبي عبيدة بن الجراح.
وبينما المسلمون على حصار مدينة دمشق إذا أقبلت خيل عظيمة مخمرة بالحرير هابطة من ثنية السليمة فرآهم المسلمون وهم منحدرون منها، فخرج إليهم جماعة من المسلمين فيما بين بيت لهيا والثنية التي هبطوا منها، فهزمهم الله وطلبهم المسلمون، يترحل هؤلاء وينزل هؤلاء حتى وقفوا على باب حمص، فظن أهلها أنهم لم يأتوا حمص إلا وقد صالحوا أهلها، فقالوا: نحن على ما صالحتم عليه أهل دمشق ففعلوا.
وعن عقبة بن عامر الجهني أنه قال: بعثني بعض أمراء الشام إلى عمر بن الخطاب فقدمت عليه في يوم الجمعة، وعلي خفان فقال: متى أولجت خفيك؟ قال: قلت له: يوم الجمعة الخالية، قال: ثم لم تنزعهما بعد؟ قال: قلت: ثم لم أنزعهما بعد. قال: أصبت.
قال ليث: وذلك رأينا.
وفي رواية أخرى: فقال عمر: أصبت السنة.(1/210)
وعن عبد الرحمن بن جبير:
أن المسلمين لما افتتحوا مدينة دمشق بعثوا أبا عبيدة بن الجراح وافداً إلى أبي بكر ومبشراً بالفتح، فقدم المدينة فوجد أبا بكر قد توفي رحمة الله عليه واستخلف عمر بن الخطاب، فأعظم أن يأتمر أحد من أصحابه عليه، فولاه جماعة الناس، فقدم عليهم فقالوا: مرحباً بمن بعثناه بريداً فقدم علينا أميراً.
وقال مكحول: إن الذي أبرد بفتح دمشق رجل من الصحابة ليس بأبي عبيدة بل هو عقبة بن عامر. وهو أصح وعليه الناس.
قال: وفي حديث عبد الرحمن بن جبير خطأ في مواضع ثلاثة: أحدها قوله: إن دمشق فتحت في خلافة أبي بكر، وإنما حوصرت في حياته، ولم تفتح إلا بعد وفاته. والثاني قوله: إن عمر ولى أبا عبيدة بالمدينة. وإنما ولاه وهو مقيم بالشام. فبعث إليه بكتاب توليته وهم محاصرو دمشق، فكتمه أبو عبيدة خالداً حتى تم الفتح. والثالث قوله: إن أبا عبيدة كان البريد بفتح البلد، وإنما كان البريد عقبة بن عامر. ويدل عليه أيضاً إجماع أهل التواريخ على أن فتح دمشق كان سنة أربع عشرة، وبلا خلاف إن أبا بكر توفي سنة ثلاث عشرة في جمادى الآخرة. والله أعلم.
عن المغيرة قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه وذلك بأمر أبي عبيدة. وبعث أبو عبيدة خالد بن الوليد فغلب على أرض البقاع، وصالحه أهل بعلبك وكتب لهم كتاباً.
وقال المغيرة: صالحهم على أنصاف منازلهم وكنائسهم ووضع الخراج.
وقال ابن إسحاق وغيره: في سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحاً على يدي أبي عبيدة في ذي القعدة.
قال شباب: ويقال في سنة خمس عشرة.(1/211)
ذكر تاريخ وقعة اليرموك
ومن قتل بها
تواردت الروايات وقعة اليرموك في سنة خمس عشرة.
وقال ابن الكلبي: كانت يوم الاثنين لخمس مضين من رجب.
وهذه الأقوال هي المحفوظة في تاريخ اليرموك.
وقال سيف بن عمر: إنها كانت قبل فتح دمشق، في أول خلافة عمر سنة ثلاث عشرة. ولم يتابع على ذلك.
وشهد اليرموك ألف رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم نحو من مئة من أهل بدر.
وقال سعيد بن عبد العزيز: إن المسلمين كانوا أربعة وعشرين ألفاً، وعليهم أبو عبيدة بن الجراح. والروم عشرون ومئة ألف، عليهم باهان وسقلان يوم اليرموك.
وعن كعب قال: إن لله عز وجل في اليمن كنزين جاء بأحدهما يوم اليرموك، قال: وكانت الأردن يومئذ ثلث الناس. ويجيء بالآخر يوم الملحمة الكبرى سبعون ألفاً، حمائل سيوفهم المسد.
قال محمد بن إسحاق: مات المثنى بن حارث فتزوج سعد امرأته سلمى بنة حفص في سنة أربع عشرة. وأقام تلك الحجة للناس عمر بن الخطاب. ودخل أبو عبيدة في تلك السنة دمشق فشتا بها. فلما ضاقت الروم سار هرقل في الروم حتى نزل أنطاكية ومعه من المستعربة لخم وجذام وبلقين(1/212)
وبلي وعاملة، وتلك القبائل من قضاعة وغسان بشر كثير، معه من أهل أرمينية مثل ذلك بشر كثير،. فلما نزلها أقام بها. وبعث الصقلان، خصياً له، فسار في مئة ألف مقاتل، معه من أهل أرمينية اثنا عشر ألفاً عليهم جرجة، ومعهم من المستعربة من غسان وتلك القبائل اثنا عشر ألفاً، عليهم جبلة بن الأيهم الغساني، وسائرهم من الروم وعلى جملة الناس الصقلان، خصي هرقل. وسار المسلمون إليهم وهم أربعة وعشرون ألفاً، عليهم أبو عبيدة بن الجراح، فالتقوا باليرموك في رجب سنة خمس عشرة، فاقتتل الناس قتالاً شديداً حتى دخل عسكر المسلمين وقاتل نساء من قريش بالسيوف حتى دخل العسكر، منهن أم حكيم بنت الحارث بن هشام حتى سايفن الرجال.
وعن عبد الرحمن بن جبير
أن أمراء الأجناد اجتمعوا في خباء يزيد بن أبي سفيان وهم بالجابية يسمعون خبر عين لهم من قضاعة يخبرهم بكثرة القوم ومنزلهم على نهر الرقاد ومرج الجولان إذا طاف بهم أبو سفيان فقال: ما كنت أظن أني أبقى حتى أرى غلمة من قريش يذكرون أمر حربهم ويكيدون عدوهم بحضرتي لا يحضرونيه، فقالوا: هل لكم إلى رأي شيخكم؟ فقالوا: ادخل أبا سفيان، فدخل فقال: ما عندكم؟ فأخبروه بخبر القضاعي فقال: إن معسكركم هذا ليس بمعسكر إني أخاف أن يأتيكم أهل فلسطين والأردن فيحلوا بينكم وبين مددكم من المدينة فتكونوا بين عسكرهم، فارتحلوا حتى تجعلوا أذرعات خلف ظهوركم، يأتيكم المدد والخير، فقبلوا ذلك من رأيه. فقال: إذ قبلتم هذا من رأيي فأمروا خالد بن الوليد على الخيول ومروه بالوقوف فيما بين العسكرين وبين الخيول، فإنه سيكون لرحيل العسكر من السخر أصوات عالية تحدث لعدوكم فيكم طمعاً، فإن أقبلوا يريدون ذلك لقيتهم الخيول فكفتها. وإن كانت للخيول جولة وزعت عنها المرامية، فقبلوا ذلك من رأيه. ونادوا من السحر بالرحيل، فتنادت الروم إلى العرب قد هربت، فأقبلت فلقيتها الخيول وكفتها حتى سار العسكر وتبعتها المرامية وساقتها الخيول حتى نزلوا خلف اليرموك، وجعلوا أرعات خلف ظهورهم، ونزلت الروم فيما بني دير أيوب إلى ما يليها من نهر اليرموك، بينهم النهر، فعسكروا هنالك أياماً، فبعث باهان صاحبهم إلى خالد بن الوليد(1/213)
إن رأيت أن تخرج إلى في فوارس وأخرج إليك في مثلهم أذاكرك أمراً لنا ولكم فيه صلاح وخير، ففعل خالد بن الوليد فوافقه ملياً فكان فيما عرض عليه أن قال: قد علمت أن الذي أخرجكم من بلادكم غلاء السعر وضيق الأمر بكم وإني قد رأيت أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وراحلة، تحمل حملها من الطعام والكسوة والأدم، فترجعون بها إلى بلادنا الجوع ولا ضيق الأمور ولكنا معشر العرب نشرب الدماء، فحدثنا ألا دماء أحلى من دماء الروم، فأقبلنا نهريق دماءكم ونشربها. قال: فنظر أصحابه بعضهم إلى بعض فقالوا: هذا ما كنا نحدث به عن العرب من شربها الدماء.
قالوا: ثم زحف يعني باهان إلى المسلمين، فخرج بهم أبو عبيدة وقد جعل على ميمنته معاذ بن جبل، وعلى ميسرته قباثة بن أسامة الكناني، وعلى الرجالة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد. وكان الأمراء عمرو بن العاص على ربع، ويزيد بن أبي سفيان على ربع. وشرحبيل بن حسنة على ربع، وكان أبو عبيدة على ربع. وخرج الناس على راياتهم فيها أشراف رجال من العرب، فيها الأزد وهم ثلث الناس، وفيها حمير وهمدان ومذحج وخولان وخثعم، وفيها كنانة وقضاعة ولخم وجذام وكندة وحضرموت، وليس فيها أسد ولا تميم ولا ربيعة، ولم تكن دارهم، إنما كانت دارهم عراقية. فقاتلوا أهل فارس بالعراق. فلما برزوا لهم وسار أبو عبيدة بالمسلمين وهو يقول: عباد الله، انصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم، يا معشر المسلمين، اصبروا فإن الصبر منجاة من الكفر ومرضاة للرب، ومدحضة للعار. ولا تبرموا مصافكم، ولا تخطوا إليهم خطوة، ولا تبدؤوهم بالقتال، وأشرعوا الرماح، واستتروا بالدرق، والزموا الصمت إلا من ذكر الله عز وجل في أنفسكم حتى آمركم إن شاء الله.(1/214)
قالوا: وخرج معاذ بن جبل على الناس فجعل يذكرهم ويقول: يا أهل القرآن، ومستحفظي الكتاب، وأنصار الهدى والحق، إن رحمة الله لا تنال وجنته لا تدخل بالأماني، ولا يؤتى الله المغفرة والرحمة الواسعة إلا للصادق والمصدق ألم تسمعوا لقول الله عز وجل " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات " إلى آخر الآية. فاستحيوا رحمكم الله من ربكم أن يراكم فراراً عن عدوكم وأنتم في قبضته، وليس لكم ملتحد من دونه، ولا عز بغيره. يمشي في الصفوف ويذكرهم، حتى إذا بلغ من ذلك ما أحب ورأى من الناس الذي سره بهم، ثم حرضهم، وانصرف إلى موقفه رحمه الله.
وسار في الناس عمرو بن العاص وهو أحد الأمراء كمسير أخيه معاذ بن جبل، فجعل يحرضهم ويقول: يا أيا المسلمون، غضوا الأبصار واجثوا على الركب، وأشرعوا الرماح، فإذا حملوا عليكم فأمهلوهم حتى إذا ركبوا أطراف الأسنة فثبوا في وجوههم وثبة الأسد، فوالذي يرضى الصدق ويثيب عليه، ويمقت الكذب ويجزي بالإحسان إحساناً لقد سمعت أن المسلمين سيفتحونها كفراً كفراً، وقصراً قصراً، فلا يهولنكم جموعهم ولا عددهم، فإنكم لو صدقتموهم الشد تطايروا تطاير أولاد الحجل. قالوا: ثم رجع فوقف في موقفه معهم أيضاً.
قالوا: ثم رجع أبو سفيان بن حرب وهو متطوع يومئذ، إنما استأذن أمير المؤمنين عمر أن يخرج متطوعاً مدداً للمسلمين متطوعين، فجعل الله في مخرجه بركة، فسار في صف المسلمين وهو يقول: يا معشر المسلمين، أنتم العرب وقد أصبحتم في دار العجم منقطعين عن الأهل نائين عن أمير المؤمنين وإمداد المسلمين، وقد والله أصبحتم بإزاء عدو كثير عدده، شديد عليكم حنقه، وقد وترتموهم في أنفسهم وبلادهم ونسائهم، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم ولا يبلغ رضوان الله غداً إلا بصدق اللقاء والصبر في المواطن المكروهة، ألا إنها سنة لازمة، وإن الأرض وراءكم وبينكم وبين أمير المؤمنين وجماعة المسلمين صحارى وبراري ليس لأحد فهيا معقل ولا معقول إلا الصبر ورجاء ما وعد الله فهو خير معقول، فامتنعوا بسيوفكم، وتعاونوا بها ولتكن هي الحصون.(1/215)
قالوا: ثم رجع أبو سفيان إلى النساء اللواتي مع المسلمين، وكان كثير من المهاجرات قد حضرن يومئذ مع أزواجهن وأبنائهن فأجلسهن خلف صفوف المسلمين وأمر بالحجارة فألقيت بين أيديهن، ثم قال لهن: لا يرجع إليكن أحد من المسلمين إلا رميتنه بهذه الحجارة وقلتن: من يرجوكم بعد الفرار عن الإسلام وأهله وعن النساء بأرض العدو؟ فالله الله.
قال: ثم رجع أبو سفيان فنادى المسلمين فقال: يا معشر أهل الإسلام حضر ما ترون، فهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والجنة أمامكم، والشيطان والنار خلفكم ثم وقف موقفه.
قالوا: وزحفت الروم مكانها إلى المسلمين يدفون دفيفاً معهم الصلبان وأقبلوا بالأساقفة، والقسيسين، والرهبان والبطارقة، لهم زجل كزجل الرعد وقد تبايع عظماؤهم على الموت، ودخل منه ثلاثون ألفاً، كل عشرة في سلسلة لئلا يفروا.
قالوا: فلما نظر إليهم خالد مقبلين أقبل يركض حتى قطع صف المسلمين إلى نساء المسلمين وهن على تل مرتفع من العسكر حين وضعهن أبو سفيان فقال: يا سناء المسلمين، إيما رجل أقبل إليكن منهزماً فاقتلنه. ثم انصرف. فأتى أبا عبيدة فقال: إن هؤلاء قد أقبلوا بعدة زجل وفرح، وإن لهم عدة لا يردها شيء وليست خيلي بالكثيرة، ولا والله لا قامت خيلي لشدة خيلهم ورجالهم أبداً. وخيله يومئذ أما صفوف المسلمين ثلاثة. فقال خالد: قد رأيت أن أفرق خيلي فأكون في إحدى الخيلين، وقيس بن هبيرة في الخيل الأخرى ث تقف خيلنا من وراء الميمنة والميسرة، فإذا حمل على الناس ثبت الله أقدامهم. وإن كانت الأخرى حملنا خيولنا عليهم وهي جامة. وهم قد انتهت شدتهم وتفرقت جماعتهم فأرجو عندها أن يظفر الله بهم ويجعل الدائرة عليهم. وقد رأيت أن يجلس سعيد بن زيد مجلسك هذا وتقف من ورائه بحذائه في مئتين أو ثلاث مئة يكون للناس ردءاً.
قالوا: فقبل أبو عبيدة مشورته وقال: افعل ما أراك الله، وأنا فاعل ما أردت. فأجلس أبو عبيدة سعيد بن زيد مكانه وفعل ما أمره به خالد، فركب فرسه وأقبل(1/216)
يسير في الناس ويحرضهم ويوصيهم بتقوى الله والصبر، ثم انصرف، فوقف من خلف الناس ردءاً لهم.
قيل: إن رجلاً من المسلمين أقبل يومئذ عند وصاة أبي عبيدة هذه. فقال له: إني قد أردت أن أقضي شأني فهل لك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجة؟ فقال له أبو عبيدة نعم: تقرئه مني السلام وتخبره أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. ثم تقدم الرجل فكان أول من استشهد رحمة الله عليه.
قال: وأقبلت الروم إليهم كأنه سحابة منقضة إلى المسلمين حتى دنا طرفهم من ميمنة المسلمين. قال: فبرز معاذ بن جبل فنادى المسلمين: يا معشر أهل الإسلام إنهم قد تهيؤوا للشدة، ولا والله لا يردهم إلا الصدق عند اللقاء والصبر عند القراع.
قالوا:
ثم نزل عن فرسه فقال: من يريد فرساً يركبه ويقاتل عليه؟ قال: فوثب ابنه عبد الرحمن وهو غلام حين احتلم فأخذه، فقال: يا أباه إني لأرجو أن لا يكون فارساً أعظم غناء في المسلمين مني فارس، وأنت يا أبه راجل أعظم غناء منك فارس. الرجالة هم عظم المسلمين، فإذا رأوك حافظاً مترجلاً صبروا إن شاء الله وحافظوا. قال: فقال أبوه: وفقني الله وإياك يا بني. قال: ثم إن الروم تداعوا وتحاضوا وذركهم الأساقفة والرهبان. قال: فجعل معاذ إذا سمع كلامهم يقول: اللهم زلزل أقدامهم وأرعب قلوبهم، وأنزل علينا السكينة وألزمنا كلمة التقوى وحبب إلينا اللقاء ورضنا بالقضاء.
قال: وخرج باهان صاحب الروم فجال فيهم حتى وقف وأمرهم بالصبر والقتال دون ذراريهم وأموالهم وسلطانهم. ثم بعث إلى صاحب الميسرة أن احمل وهو الدرنيجان وكان عدو الله متنسكاً. فقال للبطارقة والرؤوس الذين معه: قد أمركم أميركم أن تحملوا. قال: فتهيأت البطارقة فشدت على الميمنة وفيها الأزد ومذحج وحضرموت وحمير وخولان، فثبتوا حتى صدقوا أعداء الله فقاتلوهم قتالاً شديداً طويلاً. ثم إنه ركبهم من الروم أمثال(1/217)
الجبال. فزال المسلمون من الميمنة إلى ناحية القلب وانكشف طائفة من الناس إلى العسكر. وثبت صدر من المسلمين عظيم يقاتلون تحت راياتهم، وانكشفت زبيد يومئذ وهي في الميمنة، وفيهم الحجاج بن عبد يغوث، فتنادوا فترادوا واجتمعوا جميعاً. واجتمعوا وهم خمس مئة رجل فشدوا شدة نهنهوا من قبلهم من الروم وشغلوهم عن اتباع من انكشف من الميمنة. وتراد أيضاً جماعة من الميمنة المتحيزة، فشدت حمير وحضرموت وخولان بعد ما زالوا حتى وقفوا مواقفهم في الصف، واستقبل النساء سرعان من انهزم من المسلمين، معهن عمد البيوت وأخذن يضربن وجوههن ويرمين بالحجارة، فتراد الناس وثبت النساء على مواقفهن، واستحر القتال في الأزد فأصيب منهم ما لم يقتل من القبيائل، وقتل يومئذ عمرو بن الطفيل الدوسي، وحقق الله رؤيا والده الطفيل رحمه الله، فإنه رأى يوم مسيلمة أن امرأة لقيته ففتحت له فرجها فدخله، وطلبه ابنه هذا وحبس عنه. فقال: أولت رؤياي أن أقتل، وإن المرأة التي أدخلتني في فرجها الأرض، وإن ابني ستصيبه جراحة ويوشك أن يلحقني. فقتل هذا يوم اليرموك وهو يقول: يا معشر الأزد، لا يؤتين المسلمون من قبلكم. فقاتل حتى قتل. وثبت جندب بن عمرو بن حممة، وقاتل حتى قتل.
وبرز أبو هريرة إلى الأزد يعاونا، وهو أحد الرؤوس من الأزد، وأطافت به الأزد، ثم اضطربوا حتى صارت الروم تجول في مجال واحد، كما تدور الرحى.
قالوا: ولقلما رأى يوماً أكثر قحفاً ساقطاً ومعصماً نادراً، وكفاً طائرة من ذلك الموطن. والناس يضطربون تحت القسطل. قالوا: وجل القبائل في الميمنة حتى القلب. قالوا: والقلب في نحو ما فيه الميمنة.
قالوا:
وحمل عليهم خالد بن الوليد على الميسرة التي دخلت العسكر واضطرت ميمنة المسلمين إلى القلب، فصارت الميمنة والقلب شيئاً واحداً، فقتل هو وخيله نحواً من ستة آلاف. ودخل سائرهم بيوت المسلمين في العسكر مجرحين. وخرج خالد بن الوليد في خيله يطره من كان من الروم قريباً من العسكر حتى إذا أرادوا أن يمكروا به نادى عند ذلك: يا أهل الإسلام، لم يبق عند القوم من الجلد والقتال إلا ما رأيتم، الشدة الشدة، فوالذي نفسي(1/218)
بيده، إني لأرجو أن يمنحكم الله أكتافهم. قالوا: فاعترض صفوف الروم وإن في جانبه الذي يستقبل لمئة ألف من الروم، فحمل عليهم، وما هو إلا في نحو من ألف فارس. قالوا: فوالله ما بلغتهم الحملة حتى فض الله جمعهم، وشد المسلمون على من يليهم من رجالهم فانكشفوا وأتبعهم المسلمون ما يمتنعون من قتل ميمنتهم ولا ميسرتهم. ثم إن خالداً انتهى في تلك الحملة إلى الدرنيجان. وقد قال لأصحابه: لفوني في الثياب، فلف في الثياب وقال: وددت أن الله كان عافاني من حرب هؤلاء القوم فلم أرهم ولم يروني، ولم أنصر عليهم ولم ينصروا علي. وهذا يوم شر. ولم يقاتل حتى غشيه القوم فقتلوه. قالوا: وقال: أيضاً قباطر وهو في ميمنة الروم لجرجين صاحب أرمينية: احمل، فقال له: أنت تأمرني أن أحمل، وأنا أمير مثلك؟ فقال له قباطر: أنت أمير وأنا أمير، وأنا فوقك، وقد أمرت بطاعتي، فاختلفا، ثم إن قباطر حمل حملة شديدة على كنافة وقيس وخثعم وجذام وقضاعة وعاملة وغسان، وهم فيما بين ميسرة المسلمين إلى القلب، فكشفوا المسلمين وزالت الميسرة عن مصافها، وثبت أهل الرايات، وأهل الحفائظ فقاتلوا، وركبت الروم أكتاف من انهزم حتى دخلوا معهم العسكر، فاستقبلهم نساء المسلمين بعمد الفساطيط يضربن بها وجوههم ويرمينهم بالحجارة ويقلن: أين أين عز الإسلام والأمهات والأزواج. قال: فتعطف هؤلاء الذين انهزموا إلى المسلمين، وتنادى الناس بالحفائظ والصبر وشد قبائه بن أسامة فقاتل قتالاً شديداً وكسر في القوم ثلاثة أرماح يومئذ وقطع سيفين، وأخذ يقول كلما قطع سيفاً أو كسر رمحاً: من يعير سيفاً أو رمحاً في سبيل الله رجلاً قد حبس نفسه مع أولياء الله، قد عاهد الله ألا يفر ولا يبرح حتى يقاتل المشركين حتى يظهر المسلمون أو يموت؟ فكان من أحسن الناس بلاء في ذلك اليوم.
ونزل أيضاً أبو الأعور السلمي فحرض على القتال، ثم إن الناس حيزوا إلى القلب. وفي القلب سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل حيث وضعه أبو عبيدة بن الجراح. فلما نظر سعيد إلى الروم وخافهم اقتحم إلى الأرض وجثا على ركبتيه حتى إذا دنوا منه طعن برايته أول رجل من القوم ثم ثار في وجوههم كأنه الليث فأخذ يقاتل ويعطف الناس إليه.
قالوا: وكان يزيد بن أبي سفيان يومئذ من أعظم الناس غناء. وكان مما يلي القلب. وشد(1/219)
طرف من الروم على عمرو بن العاص. فانكشف هو وأصحابه حتى دخلوا أول العسكر وهم في ذلك يقاتلون ويشدون ولم ينهزموا هزيمة ولوا فيها الظهر.
قال: فنزلت النساء من التل بعمدهن يضربن وجوه الرجال ونادت الناس ابنة العاص وقالت: قبح الله رجلاً يفر عن حليته، وقبح الله رجلاً يفر عن كريمته، قالوا: وسمع نسوة من نساء المسلمين يقلن: ولستم بعولتنا إن لم تمنعونا.
قال: فتراد المسلمون وزحف عمرو وأصحابه حتى عادوا إلى قريب من موقفهم. وقاتل أيضاً شرحبيل بن حسنة في ربعه الذي كان فيه. وكان وسطاً من الناس إلى جنب سعيد بن زيد، وانكشف عنه أصحابه فثبت وهو يقول: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ". أين الشارو أنفسهم لله ابتغاء مرضاة ربهم، وأين المشتاقون إلى جوار الله في جاره؟ قالوا: فرجع إليه ناس كثير وبقي القلب لم ينكشف أهله للمكان الذي كان فيه سعيد بن زيد. وكان أبو عبيدة من وراء ظهره ردءاً له وللمسلمين.
قالوا:
فلما رأى قيس بن هبيرة خيل المسلمين وراء صفهم مما يلي ميسرة المسلمين، وأن المسلمين قد دخلت ميسرتهم العسكر وأن الروم قد صمدت لهم، اعترض الروم بخيله تلك ينتظر خيل خالد بن الوليد، فتعطف بعضهم إلى بعض ورجع المسلمون في آثارهم فقاتلوهم، وحمل على من يليه من الروم، وهو في ميمنة المسلمين حتى اضطروهم إلى صفوفهم. فلما رأى خالد بن الوليد أن قيس بن هبيرة قد كشف من يليه وأن المسلمين قد رجعت راجعتهم إلى المسلمين حمل على من يليه من الروم فتعطف بعضهم على بعض، وزحف المسلمون إليهم رويداً حتى إذا دنوا منهم إذا هم ينتقضون، فبعث أبو عبيدة عند ذلك إلى سعيد بن زيد أن شد عيهم. وشد المسلمون بأجمعهم شدة واحدة وأظهروا التكبير، ثم صكوهم صكة واحدة فطعنوا بالرماح وضربوا بالسيوف، وأنزل الله تعالى نصره. وما وعد(1/220)
نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضرب الله وجوه أعدائه ومنح أكتافهم، وأنزل الله تعالى ملائكة يضربون وجوههم حتى ولوا المسلمين أكتافهم.
وقال سعيد بن المسيب عن أبيه أنه قال: لما جلنا هذه الجولة سمعنا صوتاً قد كاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، فتعطفنا عليه فإذا هو أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه، وشد خالد في سرعان الناس معه يقتلون كل قتلة، وركب بعضهم بعضاً حتى انتهوا إلى مكان مشرف على أهوية فأخذوا يتساقطون فيها، وهم لا يبصرون، وهو يوم ذو ضباب. وقيل: كان ذلك في الليل. فأخذ آخرهم لا يعلم ما يلقى أولهم، يتساقطون فيها حتى سقط فيها نحو من ثمانين ألفاً فما أحصوا إلا بالقصب.
وبعث أبو عبيدة شداد بن أوس ابن أخي حسان بن ثابت بعدهم، بعد ذلك اليوم بيوم واحد، فوجد من سقط في تلك الأهوية حتى عدهم بالقصب ثمانين ألفاً، يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، وسميت تلك الأهوية الواقوصة من يومئذ حتى اليوم لأنهم وقصوا فيها، وأخذوا وجهاً آخر، وقتل المسلمون في المعركة بعدما أدبروا ما لا يحصى. وغلبهم الليل فبات المسلمون. فلما أصبحوا نظروا فإذا هم لا يرون في الوادي شيئاً، فقالوا: كمن أعداء الله لنا، فلما بعثوا الخيول في الوادي تنظر هل لهم من كمين أو نزلوا بوطاء من الأرض، فإذا الرعاة يخبرونهم أنهم قد سقطوا في الواقوصة. فسألوا عن عظم الروم فقالوا: قد ترحل منهم البارحة نحو من أربعين ألفاً. ثم اتبعهم خالد بن الوليد على الخيل فقتلهم حتى مر بدمشق فخرج إليه رجال من أهل دمشق فاستقبلوه، فقالوا: نحن على عهدنا الذي كان بيننا وبينكم فقال لهم: نعم أنتم على عهدكم، ثم اتبعهم فقتلهم في القرى وفي كل وجه، حتى قدم دمشق فخرج إليه أهلها فسألوه التمام على ما كان بينهم ففعل، ومضى خالد يطلب عظم الناس حتى أدركهم بغوطة دمشق. فلما انتهوا إلى تلك الجماعة من الروم، وأقبلوا يرمونهم بالحجارة من فوقهم فتقدم إليهم الأشتر وهو في رجال من المسلمين فإذا أمامهم رجل من الروم جسيم عظيم، فمضى إليه حتى وثب عليه فاستوى هو والرومي على صخرة مستوية فاضطربا بسيفهما فأطن لأشتر كف الرومي، وضرب الرومي الأشتر بسيفه فلم يضره، واعتنق كل واحد منهما صاحبه فوقعا على الصخرة ثم انحدرا وأخذ الأشتر يقول وهو في ذلك ملازم العلج(1/221)
لا يتركه: " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين ". فلم يزل يقول ذلك حتى انتهى إلى مستوى في الجبل وقرار. فلما استقر وثب على الرومي فقتله وصاح في الناس أن جوزوا.
قال: فلما رأت الروم أن صاحبهم قد قتل خلوا الثنية وانهزموا. وكان الأشتر ذا بلاء حسن في اليرموك. قالوا: لقد قتل ثلاثة عشر. فركب خالد والمسلمون الثنية، ثم انحطوا مشرقين وأنكوا في سائر البلاد يطلبون أعداء الله في القرى والجبال، حتى وصلوا إلى حمص فخرج إليهم أهل حمص يسألونهم التمام على عهدهم وعقدهم وحريتهم، ففعل بهم خالد ما فعل بأهل دمشق، وأقام بها ينتظر رأي أبي عبيدة، ولما سار خالد بن الوليد من اليرموك في إثر من انهزم وقع أبو عبيدة في دفن المسلمين حتى غيبهم وكفاه دفن الكفار بالواقوصة التي وقعوا فيها، وقد كان مما يعملون أن يدفنوا الكفار بعد ما يدفنون المسلمين فكفاه الله الكفار بالواقوصة التي وقعوا فيها. فكتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يصف له أمرهم.
وكان أبو بكر قد سمى لكل أمير من أمراء الشام كورة، فسمى لأبي عبيدة بن عبد الله بن الجراح حمص، وليزيد بن أبي سفيان دمشق، ولشرحبيل بن حسنة الأردن، ولعمرو بن العاص ولعلقمة بن مجزز فلسطين، فإذا فرغا منها ترك علقمة وسار إلى مصر. فلما شارفوا إلى الشام دهم كل أمير منهم قوم كثير، وأجمع رأيهم أن يجتمعوا بمكان واحد وأن يلقوا جمع المشركين بجمع المسلمين.
قالوا: ولما رأى المسلمون خيل الروم قد توجهت للهرب أفرجوا لها ولم يحرجوها، فذهبت فتفرقت في البلاد، وأقبل خالد والمسلمون على الرجل يفضهم، فكأنما هدم بهم حائطاً فاقتحموا في خندقهم، واقتحموا عليهم فعمدوا إلى الواقوصة حتى هووا فيها، المقترنون وغيرهم، فمن صبر للقتال هوى به من جشعت نفسه فيهوي الواحد بالعشرة ولا يطيقونه. وكلما هوى اثنان كان البقية عنهم أضعف، وكان المقترنون أعشاراً فتهافت في الواقوصة عشرون ومئة ألف، ثمانون ألف مقترن وأربعون ألف مطلق، سوى من قتل في المعركة،(1/222)
من الخيل والرجل، فكان سهم الفارس يومئذ ألفاً وخمس مئة وتجلل القيقاز وأشراف من أشراف الروم برانسهم، وجلسوا وقالوا: لا نحب أن نرى يوم السوء إذا لم نستطع أن نرى يوم السرور، وإذا لم نستطع أن نمنع النصرانية فأصيبوا في تزملهم.
قالوا: وكان الكافرون أربعين ومئتي ألف، منهم ثمانون ألف مقيد، وأربعون ألف مسلسل للموت، وأربعون ألف مربوط بالعمائم، وثمانون ألف فارس، وثمانون ألف راجل. والمسلمون سبعة وعشرون ألفاً ممن كان مقيماً. إلى أن قدم عليهم خالد في التسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفاً ممن كان مقيماً. إلى أن قدم عليهم خالد في التسعة آلاف، فصاروا ستة وثلاثين ألفاً، وفتح الله على المسلمين آخر الليل، وقتلوهم حتى الصباح، ثم أصبحوا فاقتسموا الغنائم، ودفنوا قتلى المسلمين، وبلغوا ثلاثة آلاف، وصلى كل أمير قوم على قتلاهم.(1/223)
ذكر تاريخ قدوم عمر الجابية
قال يزيد بن عبيدة: فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة. وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية.
وقال الوليد بن مسلم: ثم عاد في العام المقبل، يعني سنة ثمان عشرة، حتى أتى الجابية، يعني بعد عوده من سرغ سنة سبع عشرة، فاجتمع إليه المسلمون، فدفع إليه أمراء الأجناد ما اجتمع عندهم من الأموال، فجند ومصر الأمصار ثم فرض الأعطية والأرزاق ثم قفل إلى المدينة.
وقال عبد الله بن صالح في حديثه: إن عمر قدم لجابية سنة ثمان عشرة. قال: وهذا يدل على أن عمر قدم الجابية مرتين.
وعن عبد العزيز بن مروان أنه قال لكريب بن أبرهة: أخضرت عمر بن الخطاب بالجابية؟ قال: لا. قال: فمن يحدثنا عنها؟ قال: كريب: إن بعثت إلى سفيان بن وهب الخولاني حدثك عنها، فأرسل إليه فقال: حدثني عن خطبة عمر بن الخطاب يوم الجابية قال سفيان: إنه لما اجتمع الفيء أرسل أمراء الأجناد إلى عمر بن الخطاب أن يقدم بنفسه فقدم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد: فإن هذا المال نقسمه على من أفاء الله بالعدل إلا هذين الحيين من لخم وحذام فلا حق لهم فيه، فقام إليه أبو حديدة الأجذمي فقال: ننشدك الله يا عمر في العدل. فقال عمر: العدل أريد. أنا أجعل أقواماً أنفقوا في الظهر وشدوا العرض، وساحوا في البلاد مثل قوم مقيمين في بلادهم؟! ولو أن الهجرة كانت بصنعاء أو بعدن ما هاجر إليها من لخم(1/224)
ولا جذام أحد. فقام أبو حديدة فقال: إن الله وضعنا من بلاده حيث شاء، وساق إلينا الهجرة في بلادنا فقبلناها ونصرناها، أفتلك تقطع حقنا يا عمر؟ ثم قال: لكم حقكم مع السمين ثم قسم. فكان للرجل نصف دينار. فإذا كانت معه امرأته أعطاه ديناراً. ثم دعا ابن قاطورا صاحب الأرض فقال: أخبرني ما يكفي الرجل من القوم في الشهر واليوم فأتى بالمدي والقسط فقال: يكيفيه هذان لمديان في الشهر وقسط زيت وقسط خل. فأمر عمر بمديين من قمح فطحنا ثم عجنا ثم أدمهما بقسطين زيتاً ثم أجلس عليهما ثلاثين رجلاً فكان كفاف شبعهم، ثم أخذ عمر المديين بيمينه والقسط بيساره ثم قال: اللهم لا أخلي لأحد أن ينقصهما بعدي. اللهم فمن ينقصهما فأنقص من عمره.
قال الهيثم بن عمر: إني سمعت جدي يقول:
لما ولي عمر بن الخطاب زار أهل الشام فنزل الجابية، وكانت دمشق تشتعل طاعوناً، فهم أن يدخلها فقال له أصحابه: أما علمت أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا حل بكم الطاعون فلا تهربوا منه ولا تأتوه حيث هو، وقد علمت أن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين معك قرحانون لم يصبهم طاعون قط، فأرسل عند ذلك رجلاً من جديلة ولم يدخلها هو إلى بيت المقدس فافتتحها صلحاً. ثم أتاها عمر ومعه كعب. فقال: أبا إسحاق، الصخرة، أتعرف موضعها؟ قال: إذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم كذا وكذا ذراعاً وهي مزبلة ثم احفر فإنك ستجدها، فحفروا فظهرت لهم. فقال عمر لكعب: أين ترى أن نجعل المسجد قال: اجعله خلف الصخرة فتجمع القبلتين قبلة موسى وقبلة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ضاهيت اليهودية والله يا أبا إسحاق، خير المساجد مقدمها، فبناه في مقدم المسجد.
فبلغ أهل العراق أنه زار أهل الشام فكتبوا إليه يسألونه أن يزورهم كما زار أهل الشام، فهم أن يفعل فقال له كعب؛ أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تدخلها. قال: ولم؟ قال: فيها عصاة الجن وهاروت وماروت يعلمان الناس السحر. وفيها تسعة أعشار الشر وكل داء معضل. فقال عمر: قد فهمت كل ما ذكرته غير الداء المعضل، فما هو؟ قال: كثرة الأموال هو الذي ليس له شفاء. فلم يأتها عمر.(1/225)
ونزل المسلمون الجابية وهم أربعة وعشرون ألفاً فوقع الطاعون فيهم، فذهب منهم عشرون ألفاً، وبقي أربعة آلاف فقالوا: هاذ طوفان وهذا رجز فبلغ ذلك معاذاً فبعث فوارس يجمعون الناس، وقال: اشهدوا المدراس اليوم عند معاذ. فلما اجتمعوا قام فيهم فقال: أيها الناس، والله لو أعلم أني أقوم فيكم بعد مقامي هذا ما تكلفت اليوم القيام لكم. وقد بلغني أنكم تقولون هذا الذي وقع فيكم طوفان ورجز، والله ما هو طوفان ولا رجز وإنما الطوفان والرجز كان عذب الله به الأمم. ولكنها شهادة أهداها الله لكم استجاب فيكم دعوة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ألا فمن أدرك خمساً فاستطاع أن يموت فليمت: أن يكفر الرجل بعد إيمانه، وأن يسفك الدم بغير حقه، وأن يعطى مال الله بأن يكذب أو يفجر، وأن يظهر التلاعن بينكم، أو يقول الرجل حين يصبح: والله إن حييت أو مت ما أدري ما أنا عليه.
وقوع هذا الطاعون والوباء مصداق ما روي عن معاذ بن جبل قال: ينزل المسلمون أرضاً يقال لها الجابية أو الجويبية فتكثر به أموالهم ودوابهم، فيبعث عليهم جرب كالدمل تزكو فيه أموالهم وتستشهد فيه أبدانهم.
وفي رواية: يصيبكم فيه داء مثل غدة الجمل، فيستشهد الله به أنفسكم وخياركم فيزكي أبدانكم.(1/226)
ما اشترط عند فتح الشام على الذمة
عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتب لعمر بن الخطاب حين صالح نصارى الشام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا ألا تحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها ولا نحيي ما كان منها من خطط المسلمين ولا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال نطعمهم، ولا نؤوي في كنائسنا ولا في منازلنا جاسوساً، لوا نكتم غشاً للمسلمين، ولا نعلم أولادنا القرآن، ولا نظهر شركاً ولا ندعو إليه أحداً، ولا نمنع من ذوي قراباتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه، وأن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نتكنى بكناهم، ولا نركب السرج، ولا نتقلد السيوف، لوا نتخذ شيئاً من السلاح، ولا نحمله معنا، ولا تنقش على خواتمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رؤوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كنا، وأن نشد زنانير على أوساطنا. وألا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر كتبنا في شيء من طرق المسلمين ولا أسوقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفياً، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من طريق المسلمين وأسواقهم، ولا نجاوزهم بموتانا، ولا نتخذ من الطريق ما جرى عليه سهام المسلمين، ولا نطع عليهم في منازلهم.
فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: ولا نضرب أحداً من المسلمين. شرطنا لكم ذلك على(1/227)
أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا عليه الأمان. فإن نحن خالفنا عن شيء مما شرطناه لكم وضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة في الشقاق.
وفي طريق آخر.
ولا نخرج شعانين ولا باعوثاً ولا نرفع أصواتنا مع أمواتا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طريق المسلمين وأسواقهم.
وروى عبد الله بن المغيرة عن أبيه قال: صالحهم أبو عبيدة على أنصاف كنائسهم ومنازلهم وعلى رؤوسهم، وألا يمنعوا من أعيادهم، ولا يهدمون شيئاً من كنائسهم. صالح على ذلك أهل المدينة وأخذ سائر الأرض عنوة.
وقيل: صالحوهم على من فيها من جماعة أهلها على جزية دنانير مسماة، لا تزاد عليهم إن كثروا، ولا تنقص منهم إن قلوا. وأن للمسلمين فضول الدور والمساكن عنهم، وأسواقها.
وقال ابن سراقة: كان في كتاب صلح دمشق: هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل دمشق أني أمنتكم على دمائكم وأموالكم ومساكنكم وكنائسكم أن تهدم أو تسكن ما لم تحدثوا حدثاً، أو تؤووا محدثاً مغيلة.
وعن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه قال: لما قدم عمر بن الخطاب الشام كان في شرطه على النصارى أن يشاطرهم منازلهم فيسكن فيها المسلمون، وأن يأخذ الحيز القبلي من كنائسهم لمساجد المسلمين.
وعن سالم عن أبيه أن عمر بن الخطاب أمر أن تهدم كل كنيسة لم تكن قبل الإسلام، ومنع أن تحدث كنيسة، وأمر ألا يظهر صليب خارجاً من كنيسة إلا كسر على رأس صاحبه.
وعن أسلم مولى عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء أهل الجزية ألا يضعوا الجزية إلا على من جرت أو(1/228)
مرت عليه المواسي وجزيتهم أربعون درهماً على أهل الورق منهم، وأربعة دنانير على أهل الذهب. وعليهم أرزاق المسلمين من الحنطة مديين وثلاثة أقساط زيت لكل إنسان كل شهر من كان من أهل الشام وأهل الجزيرة، ومن كان من أهل مصر إردب لكل إنسان كل شهر. ومن الودك والعسل شيء لم نحفظه، وعليهم من البز التي كان يكسوها أمير المؤمنين شيء لم نحفظه، ويضيفون من نزل بهم من أهل الإسلام ثلاث أيام، وعلى أهل العراق خمسة عشر صاعاً لكل إنسان. وكان عمر لا يضرب الجزية على النساء، وكان يختم في أعناق رجال أهل الجزية.
وفي حديث آخر: فلما قدم عمر الشام شكوا إليه وقالوا: يا أمير المؤمنين، إنهم يكلفونا ما لا نطيق، يكلفونا الدجاج والشاء. فقال: لا تطعموهم إلا مما تأكلون مما يحل لهم من طعامكم.
وعن عكرمة أن ابن عباس سئل: هل للعجم أن يحدقوا في أمصار العرب بنياناً أو شيئاً، فقال: أيما مصر مصرته العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه كنيسة، أو قال: بيعة. ولا يضربوا فيه ناقوساً، ولا يشربوا فيه خمراً، ولا يدخلوه خنزيراً، وأيما مصر مصره العجم ففتحه الله على العرب، فللعجم ما في عهدهم، وعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم.
وعن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى على أهل الذمة بضيافة ثلاثة أيام للمسلمين ما بصلحهم من طعام ولف دوابهم.
قال الأوزاعي: كتب عمر بن الخطاب في أهل الذمة أن من لم يطق منهم فخففوا عنه، ومن عجز فأعينوه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين.(1/229)
وعن ضمرة بن جندب قال: قال عمر بن الخطاب في أهل الذمة: سموهم ولا تكنوهم، وأذلوهم ولا تظلموهم، وإذا جمعتكم وإياهم طريق فألجئوهم إلى أضيقها.
وعن عبد الملك بن عمير أن عمر بن الخطاب اشترط على أنباط الشام للمسلمين أن يصيبوا من ثمارهم وتينهم ولا يحملوا.
وعن الأحنف بن قيس أن عمر بن الخطاب اشترط على أهل الذمة إصلاح القناطر، والضيافة يوم وليلة، وإن قتل رجل من المسلمين في أرضكم فعليكم ديته.
وعن ابن أبي نجيح قال: سألت مجاهداً: لم وضع عمر على أهل الشام الجزية أكثر مما وضع على أهل اليمن؟ فقال: لليسار.
وعن الحكم بن عمر الرعيني قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمصار الشام: لا يمشين نصراني إلا مفروق الناصية، ولا يلبسن قباء، ولا يمشين إلا بزنار من جلد، ولا يلبسن طيلساناً، ولا يلبسن سراويلاً ذات خدمة، ولا يلبسن نعلاً ذات عذبة، ولا يركبن على سرج، ولا يوجد في بيته سلاح إلا انتهب.(1/230)
ذكر حكم الأرضين وما جاء فيه
قال: لا خلاف بين الأئمة أن كل بلد صولح أهله على الخراج المعلوم أنه لا يجوز تغيير ما استقر عليه. وقد صح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أمضى لأهل مدينة دمشق الصلح، لكنه لما أشكل عليه الحال في الفتح وهل سبق من دخلها عنوة أو من دخلها بالصلح أمضاها كلها صلحاً لأهلها، وقبل منهم شروطاً بذلوها، فأما ما ظهر عليه المسلمون عنوة من أعمالها ونواحيها، وحووه بالقهر والغلبة من أرضيها فقد اختلف فيه: فذهب عمر وعلي ومعاذ بن جبل إلى أنها وقف على المسلمين، لا تقسم بين من غلب عليها من الغانمين، وتجري غلتهم عليهم وعلى من بعدهم. وذهب الزبير بن العوام وبلال بن رباح إلى أنها ملك للغانمين، فتقسم بينهم على ما يراه الإمام. وذهب أبو حنيفية وسفيان الثوري إلى أن الإمام في ذلك بالخيار، إن شاء وقفها، وإن شاء قسمها ووزعها على ما يراه بين من غنمها. وذهب مالك إلى أنها تصير وقفاً بنفس الاغتنام. ولا يكون فيها اختيار للإمام. وذهب الشافعي إلى أنه ليس للإمام أن يقفها بل يلزمه أن يقسمها إلا أن يتفق على وقفها المسلمون، فيرضى ببذلك من غنمها.
فأما ما روي عن عمر وعن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: لولا آخر المسلمين ما فتحت عليهم قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر.
وعنه أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بباناً ليس لهم شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، ولكن أتركها لهم حراثة.
ومعنى بباناً أي باجاً واحداً وشيئاً واحداً.
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: كتب عمر إلى سعد حين افتتح العراق: أما بعد. فقد بلغني كتابك، تذكر أن الناس(1/231)
سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عز وجل عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس به عليك إلى العسكر من كراع أو مال فاقسمه بن من حضر من المسلمين. واترك الأرضين والأنهار لعمالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بقي بعدهم شيء.
وعن إبراهيم السلمي قال: لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر: اقسمه بيننا فإنا فتحناه غنوة. فأبي وقال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ وأخاف إن قسمته أن تفاسدوا بينكم في المياه. قال: فأقر أهل السواد في أرضيهم، وضرب على رؤوسهم الجزية وعلى أرضيهم الطسق.
قال أبو عبيدة: يعني بالطسيق: الخراج.
وعن عتبة بن فرقد قال: اشتريت عشرة أجربة من أرض السواد على شاطئ الفرات لقضب لدوابي فذكرت ذلك لعمر فقال لي: اشتريتها من أصحابها؟ قلت: نعم. قال: رح إلي فرحت إليه فقال: يا هؤلاء، أبعتموه شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ابتغ مالك حيث وضعته.
وأما ما روي عن علي رضي الله عنه وعن حارثة بن مضرب عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد بني المسلمين فأمر أن يحصوا، فوجد الرجل يصيبه ثلاثة من الفلاحين، فشاور في ذلك فقال له علي بن أبي طالب: دعهم يكونوا مادة للمسلمين فتركهم. وبعث عليهم عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر، وبهذا كان يأخذ سفيان بن سعيد وهو معروف من قوله إلا أنه كان يقول: الخيار في أرض الغنوة إلى الإمام إن شاء جعلها غنيمة فخمس وقسم، وإن شاء جعلها فيئاً عاماً للمسلمين ولم يخمس ولم يقسم.
قال أبو عبيد: وليس الأمر عندي إلا على ما قال سفيان إن الإمام مخير في العنوة بالنظر للمسلمين والحيطة عليهم بين أن يجعلها غنيمة أو فيئاً.(1/232)
وأما ما روي عن معاذ ولما قدم عمر الجابية أراد قسم الأرضين فقال له معاذ: والله إذن ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم كان الربع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قوم يسدون من الإسلام مسداً وهم لا يجدون شيئاً. فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم. فسار عمر إلى قول معاذ.
وأما ما روي عن الزبير قال سفيان بن وهب الخولاني: لما افتتحنا مصر بغير عهد قام الزبير بن العوام فقال: يا عمرو بن العاص، أقسمها، فقال عمرو: لا أقسمها، فقال الزبير: والله لتقسمنها كما قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبير، قال عمرو: والله لا أقسمها حتى أكتب إلى أمير المؤمنين، فكتب إلى عمر فكتب إليه عمر أن أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.
وأما ما روي عن بلال وعن نافع مولى ابن عمر قال: أصاب الناس فتح الشام فيهم بلال، قال: وأظنه ذكر معاذ بن جبل فكتبوا إلى عمر بن الخطاب: إن هذا الفيء الذي أصبنا، لك خمسه، ولنا ما بقي، ليس لأحد منه شيء. كما صنع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، فكتب عمر: ليس علي ما قلتم، ولكني أقفها للمسلمين، فراجعوه الكتاب وراجعهم، يأبون ويأبى، فلما أبوا قام عمر فدعا عليهم فقال: اللهم، أكفني بلالاً وأصحاب بلال. قال: فما حال الحول عليهم حتى ماتوا جميعاً.
قال البيهقي: قوله إنه ليس علي ما قتم ليس يريد إنكار ما احتجوا به من قسمة خيبر، ويشبه أن يريد به: ليست المصلحة فيما قلتم، وإنما المصلحة في أن أقفها للمسلمين، وجعل يأبى قسمتها لما كان يرجو من تطييبهم ذلك له، وجعلوا يأبون لما كان لهم من الحق، فلما أبوا لم يبرم عليهم الحكم بإخراجها من أيديهم، ووقفها، ولكن دعا عليهم حيث خالفوه فيما رأى من المصلحة، وهم لو وافقوه وافقه أفناء الناس وأتباعهم.(1/233)
وفي رواية أن بلالاً قال: لتقسمنها أو لنضاربن عليها بالسيف، فقال عمر: لولا أني أترك الناس بباناً، لا شيء لهم ما فتحت قرية إلا قسمتها سهماناً كما قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر.
زاد البيهقي والخشنامي إلى آخر الحديث: ولكن أتركها لمن بعدهم جزية يقتسمونها.
قال البيهقي: وفي أحاديث عمر التي لم ير فيها القسمة دلالة على أن عمر كان يرى من المصلحة إقرار الأراضي، وكان يطلب استطابة قلوب الغانمين، وإذا لم يرضوا بتركها فالحجة في قسمه قائمة بما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسمة خيبر وقد خالف الزبير بن العوام وبلال وأصحابه، ومعاذ، على شك من الراوي، عمر فيما رأى. والله أعلم.
حدث أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو قال: حضرت عند أبي الحسن بن محمد بن مدبر، أحضر ذلك المجلس هشام بن عمار ودحيماً ومحمود بن خالد وعبد الله بن ذكوان وأحضرني فيمن أحضر فقال: إنكم لا تتهمون على الفيء، وإنما يتهم عليه أهل البدع، لأنكم تعلمون أنه ينفق في بيضة الإسلام وفي حج البيت ومجاهدة العدو وأمن السبل، فتكلم يومئذ أحمد بن محمد بن مدبر في ذلك فأبلغ، وقال: أخبروني عن مدائن الساحل: هل ترون من مستغلها حقاً للفيء؟ فقال: لا حق للفيء في مستغلها. وأعلموه أن دمشق فتحت صلحاً، وأن صلح حصونها بصلحها من أجل أنها الأم، وإن ساحلها تبع لها.
قال أبو زرعة: وأعلمته يومئذ أن بعلبك صلح، وأن الوليد بن مسلم قد أثبت صلحها عن إسماعيل بن عياش. فقال ابن مدبر للمشيخة: هكذا تقولن؟ قالوا: نعم، فقبل ذلك منهم.
قال أبو زرعة: وسألني أبى مدبر عن بيع الكلأ فأعلمته أن الأوزاعي يقول: الناس فيه أسوة، فتظلم إلى ابن مدبر رجل من الرعية على رجل رعى كلأ له، فلم يعده. وقال: فقيه أهل الشام لا يرى لك حقاً.(1/234)
قال أبو زرعة: ورأيت أحمد بن محمد بن مدبر شديداً في الأرض، مذهبه فيها مذهب السلف في إيقافها.
قال: فحدثته بحديث أرويه عن الهيثم بن عمران قال: كتب هشام بن عبد الملك إلى كلثوم بن عياض وبلغه أن خالداً القسري اشترى أرضاً من أرض الغوطة بغير إذنه فقال: أتشتري أرضاً بغير إذني؟ فأمر سالماً الكاتب أن يكتب إلى كلثوم بن عياض: عزمت عليك ألا تضع كتابي من يدك حتى تغرم الوليد بن عبد الرحمن عاملي على الغوطة أربع مئة دينار، وتبعث بها إلي إذا اشتريت أرض بغير إذنه، وكتب إلى كلثوم أن اضرب وكيلي القسري مئة مئة. وأطفء بهما، ومر من ينادي عليهما: هذا جزاء من اشترى أرضاً بغير إذن أمير المؤمنين. وذلك أنه وجد فيما وضع عمر بن عبد العزيز حين استخلف قال: هل نهت الولاة قبلي عن شراء الأرض من أهل الذمة؟ قالوا: لم ينهوا. قال: فإني قد سلمت لمن اشترى، ولكن من اليوم أنهى عن بيعها، إنها أرض المسلمين، دفعت إلى أهل الذمة على أن يأكلوا منها ويؤدوا خراجها، وليس لهم بيعها، ومن اشترى بعد اليوم. فيعاقب البيع والمشتري، وترد الأرض إلى النبطي، ويؤخذ الثمن من المسلم، فيجعل في بيت المال، لما انتهكوا من المعصية، ويدخل المال الذي أخذ النبطي بيت مال المسلمين لما وضع عمر في ذلك الديوان فهي المدة. ما كان قبل المدة، يعني قبل عمر بن عبد العزيز، وما كان بعد المدة، يعني بعد عمر.
قال أبو زرعة:
فاستحسن أحمد بن محمد بن مدبر هذا الحديث، وأنكر العقوبة، فقلت له: لا تبتذله رأيه، وأخبرته بحديث رويته عن إسحاق بن مسلم، وكان عاملاً لعمر بن عبد العزيز على خراج الأردن. فكتب إلى عمر: أما بعد. فإني وجدت أرضاً من أرض أهل الذمة بأيدي أناس من المسلمين فما يرى أمير المؤمنين فيها؟ فكتب إليه أن تلك أرض أوقفها أول المسلمين على آخرهم، فامنع ذلك البيع. إن شاء الله والسلام.
وحدثته ما رويته عن القاسم بن زياد وعن عاملاً لعمر بن عبد العزيز على الغوطة، فكتب إلى عمر: أما بعد: فإن قبلنا أرضاً من أرض أهل الذمة بأيدي ناس من المسلمين قد(1/235)
ابتاعوها منهم، وهم يؤدون العشر مما يخرج منها، أفضل مما كان عليها، فما يرى أمير المؤمنين؟ قال: وأنا أريد بدا وذات بدا، أرضاً من أرض الجبل اتخذها عمر، فكتب إليه عمر أن تلك أرض حبسها أول المسلمين على آخرهم، فليس لأحد أن يتمولها دونهم، فامنع ذلك البيع إن شاء الله.
قال أبو زرعة: فحدثت بهذا الحديث عبد الملك بن الأصبغ من أصحاب الوليد بن مسلم فأخبرني أن عمر بن عبد العزيز لم يمت عن ضيعة بقيت في يده غير بدا وحزين من أرض بعلبك، وأنه أورثها عشراً وعدلها على ذلك أبو جعفر المنصور فصارت بأيدي ورثة عمر.
قال أبو زرعة: فقال لي أحمد بن محمد بن مدبر: قد جاء فيها: من أخذ أرضاً بجزيتها فقد أتى بما يأتي به أهل الكتاب من الذل والصغار.
وأما قول الثوري فقد روي عن سفيان بن سعيد قال: إذا ظهر على بلاد العدو فالإمام بالخيار إن شاء قسم البلاد والأموال والسبي، بعد ما يخرج الخمس من ذلك، وإن شاء من عليهم فترك الأرض والأموال، وكانوا ذمة للمسلمين كما صنع عمر بن الخطاب بأهل السواد، فإن تركهم صاروا عهداً توارثوا وباعوا أرضهم.
قال يحيى بن آدم أحد رواة هذا الحديث: وسمعت حفص بن غياث يقول: تباع ويقضى بها الدين، وتقسم في المواريث.
وأما قول مالك فإنه ذهب إلى أن من أسلم من أهل الصلح فهو أحق بما له وأرضه، وأما أهل العنوة الذين أخذوا عنوة فمن أسلم منهم فإن أرضه وماله للمسلمين، لأن أهل العنوة قد غلبوا على بلادهم وصارت فيئاً للمسلمين، وأما أهل الصلح فإنهم قوم منعوا أموالهم وأنفسهم حتى صالحوا عليها، فليس عليهم إلا ما صلحوا عليه.(1/236)
وروى عنه يحيى بن عبد الله بن بكير قال: قال مالك: كل أرض فتحت صلحاً فهي لأهلها، لأنهم منعوا بلادهم حتى صالحوا عليها، وكل بلاد أخذت عنوة فهي فيء للمسلمين.
وقال يحيى بن آدم: كل أرض كانت لعبد الأوثان من العجم أو لأهل الكتاب من العجم أو العرب ممن يقبل منهم الجزية فإن أرضهم أرض خراج إن صالحوا على الجزية على رؤوسهم، والخراج على أرضيهم، فإن ذلك يقبل منهم، وإن ظهر عليهم المسلمون فإن الإمام يقسم جميع ما أجلبوا به في العسكر من كراع أو سلاح أو مال بعدما يخمسه، وهي الغنيمة التي لا يوقف شيء منها، وذلك قوله عز وجل: " ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه " وأما القرى والمدائن والأرض فهي فيء كما قال الله عز وجل: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " فالإمام بالخيار في ذلك: إن شاء وقفه وتركه للمسلمين، وإن شاء قسمه بين حضره.
قال أبو بكر الخطيب: اختلف الفقهاء في الأرض التي يغنمها المسلمون فيقهرون العدو عليها، فذهب بعضهم إلى أن الإمام بالخيار بين أن يقسمها على خمسة أسهم، فيعزل منها السهم الذي ذكره الله تعالى في آية الغنيمة فقال: " واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه " الآية. ويقسم السهام الأربعة الباقية بين الذين افتتحوها، فإن لم يختر ذلك وقف جميعها، كما فعل عمر بن الخطاب في أرض السواد.
وممن ذهب إلى هذا القول سفيان بن سعيد الثوري وأبو حنيفة النعمان بن ثابت.
وقال مالك: تصير الأرض وقفاً بنفس الاغتنام، ولا خيار فيها للإمام.(1/237)
وقال محمد بن إدريس الشافعي: ليس للإمام إيقافها. وإنما يلزمه قسمتها، فإن اتفق المسلمون على إيقافها ورضوا أن لا تقسم جاز ذلك، واحتج من ذهب إلى هذا القول بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قسم أرض السواد بين غانمها وحائزها، ثم استنزلهم بعد ذلك عنها، واسترضاهم منها، ووقفها.
فأما الأحاديث التي وردت عن عمر أنه لم يقسمها فإنه محمولة على أنه امتنع من إمضاء القسم واستدامته بأن انتزع الأرض من أيديهم، أو أنه لم يقسم بعض السواد وقسم بعضه، ثم رجع فيه.
قال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرضين بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها فهي لهم، وملك أيمانهم، وهي أرض عشر، لا شيء عليهم فيها غيره، وأرض افتتحت صلحاً على خراج معلوم فهي على ما صولحوا عليه، لا يلزمهم أكثر منه، وأرض أخذت عنوة فهي التي اختلف المسلمون فيها. فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة تخمس، وتقسم، فيكون أربعة أخماسها خططاً بني الذين افتتحوها خاصة، ويكون الخمس الباقي لمن سمى الله تعالى، وقال بعضهم: بل حكمها والنظر فيها للإمام: إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمسها ويقسمها كما فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، فتلك له، وإن رأى أن يجعلها فيئاً فلا يخمسها ولا يقسمها، ولكن تكون موقوفة على المسلمين عامة، ما بقوا كما صنع عمر بالسواد، فعل ذلك.
فأما حكم الدور التي هي داخل السور فقد روي عن بنت واثلة قالت: سمعت رجلاً يقول لواثلة: أرأيت هذه المساكن التي أقطعها الناس يوم فتحوا مدينة دمشق أماضية هي لأهلها؟ قال: نعم. قال: فإن ناساً يقولون هي لهم سكنى، وليس لهم بيعها ولا إتلافها بوجه من الوجوه، من صدقة ولا مهر ولا غير ذلك. فقال واثلة: ومن يقول ذلك! بل هي لهم ملك ثابت، يسكنون، ويمهرون، ويتصدقون.
وأما القطائع فقد روي عن عامر قال: لم يقطع أبو بكر ولا عمر ولا علي، وأول من أقطع القطائع عثمان، وبيعت الأرضون في خلافة عثمان.(1/238)
وروي عن أبي عمرو وغيره أن عمر وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمع رأيهم على إقرار ما كان بأيديهم من أرضهم يعمرونها ويؤدون منها خراجها إلى المسلمين، فمن أسلم منهم رفع عن رأسه الخراج، وصار ما كان في يده من الأرض وداره بين أصحابه من أهل قريته، يؤدون عنها ما كان يؤدى من خراجها، ويسلمون له ماله ورقيقه وحيوانه، وفرضوا له في ديوان المسلمين، وصار من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا يرون أنه وإن أسلم أولى بما كان في يديه من أرضه من أصحابه من أهل بيته وقرابته، لا يجعلونها صافية للمسلمين، وسموا من ثبت منهم على دينه وقريته ذمة للمسلمين، ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين شرى ما في أيديهم من الأرض كرهاً، لما احتجوا به على المسلمين من أن إمساكهم كان عن قتالهم وتركهم مظافرة عدوهم من الروم عليهم، فهاب لذلك أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاة الأمر قسمهم، وأخذوا ما كان في أيديهم من تلك الأرضين، وكرهوا للمسلمين أيضاً شراءها طوعاً لما كان من ظهور المسلمين على البلاد، وعلى من كان يقاتلهم عنها، ولتركهم، كان، البعثة إلى المسلمين وولاة الأمر في طلب الأمان قبل ظهورهم عليهم. قالوا: وكرهوا شراءها منهم طوعاً بما كان من إيقاف عمر وأصحابه الأرض محبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين المجاهدين لا تباع ولا تورث قوة على جهاد من لم يظهروا عليه بعد من المشركين، ولما ألزموه أنفسهم من إقامة فريضة الجهاد لقوله عز وجل: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة " إلى تمام الآية.
قال: فقلت لغير واحد من مشيختنا ممن كان يقول هذه المقالة: فمن أين جاءت هذه القطائع التي بين ظهراني القرى الراخية والمزارع التي بيد غير واحد من الناس؟ فقال: إن بدء هذه القطائع أن ناساً من بطارقة الروم إذا كانت ظاهرة على الشام كانت هذه القرى التي منها هذه القطائع، كانت من الأرضين التي كانت بأيدي أنباط القرى، فلما هزم الله الروم هربت تلك البطارقة عما كان في أيديها من تلك المزارع، فلحقت بأرض الروم، ومن قتل منها في تلك المعارك التي كانت بين المسلمين والروم فصارت تلك المزارع والقرى صافية للمسلمين موقوفة يقبلها والي المسلمين كما يقبل الرجل مزرعته.(1/239)
قالوا: فمنها أندركيسان يعني بدمشق. وقبيس بالبلقاء، وما على باب حمص من جبعاثا وغيرها.
قالوا: فلم تزل تلك المزارع موقوفة مقبلة، تدخل قبالتها بيت المال، فتخرج نفقة مع ما يخرج من الخراج، حتى كتب معاوية في إمرته على الشام إلى عثمان أن الذي أجراه عليه من الرزق في عمله ليس يقوم بمؤن من يقوم عليه من وفود الأجناد ورسل أمرائهم، ومن يقدم عليه من رسل الروم ووفودها، ووصف في كتابه هذه المزارع الصافية وسماها له، فسأله أن يقطعه إياها ليقوى بها على ما وصف له، وأنها ليست من قرى أهل الذمة ولا الخراج فكتب إليه عثمان بذلك كتاباً.
قالوا: فلم تزل بيد معاوية حتى قتل عثمان، وأفضى إلى معاوية الأمر، فأقرها على حالها، ثم جعلها من بعده حبساً على فقراء أهل بيته والمسلمين.
قالوا: ثم إن ناساً من قريش وأشراف العرب سألوا معاوية أن يقطعهم من بقايا تلك المزارع التي لم يكن عثمان أقطعه إياها، ففعل، فمضت لهم أموالاً يبيعون، ويمهرون، ويورثون.
فلما أفضى الأمر إلى عبد الملك بن مروان وقد بقيت من تلك المزارع بقايا لم يكن معاوية قد أقطع منها أحداً شيئاً سأله أشراف الناس القطائع منها ففعل.
قالوا: إن عبد الملك سئل القطائع، وقد مضت تلك المزارع لأهلها، فلم يبق منها شيء، فنظر عبد الملك إلى أرض من أرض الخراج قد باد أهلها، ولم يتركوا عقباً أقطعهم منها، ورفع ما كان عليها من خراجها عن أهل الخراج، ولم يحمله أحداً من أهل القرى وجعلها عشراً، ورآه جائزاً له مثل إخراجه من بيت المال الجوائز للخاصة.
قالوا: فلم يزل يفعل ذلك حتى لم يجد من تلك الأرض شيئاً. فسأل الناس عبد الملك والوليد وسليمان قطائع من أرض القرى التي بأيدي أهل الذمة، فأبوا ذلك عليهم، ثم سألوهم أن يأذنوا لهم في شرى الأرضين من أهل الذمة فأذنوا لهم على إدخال أثمانها بيت المال، وتقوية أهل الخراج به على خراج سنتهم مع ما ضعفوا عن أدائه، وأوقفوا ذلك في الأرضين، ووضعوا خراج تلك الأرضين عمن باعها منهم، وعن أهل قراهم، وصيروها لمن اشتراها يؤدي العشر، يبيعون ويمهرون ويورثون.(1/240)
قالوا: فلما ولي عمر بن عبد العزيز أعرض عن تلك القطائع التي أقطعها عثمان ومعاوية وعبد الملك والوليد وسليمان، فلم يردها عمر على ما كانت عليه صافية، ولم يجعلها خراجاً، وأبقاها لأهلها تؤدي العشر.
قال: وأعرض عمر عن تلك الأشرية بالإذن لأهلها فيها، لاختلاط الأمور فيها، لما وقع فيها من المواريث، ومهور النساء، وقضاء الديون، فلم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك. قال: وأعرض عن الأشرية التي اشتراها المسلمون بغير إذن ولاة الأمر، لما وقع في ذلك من المواريث واختلاط الأمور، وجعل الأشرية سواء، وأمضاه لأهله ولمن كان في يديه كالقطائع للأرض عشراً ليس عليها ولا على من صارت إليه بميراث أو شراء جزية.
قالوا: وكتب بذلك كتاباً قرئ على الناس في سنة مئة وأعلمهم أنه لا جزية عليها، وأنها أرض عشر. وكتب أن من اشترى شيئاً بعد سنة مئة فإن بيعه مردود، وسمي سنة مئة المدة، فسماها المسلمون بعده: المدة. فأمضى ذلك فبقية ولايته، ثم أمضاه يزيد وهشام ابنا عبد الملك.
قالوا: فتناهى الناس عن شراها بعد سنة مئة بسنيات، ثم اشتروا أشرية كثيرة كانت بأيدي أهلها، يؤدون العشر، ولا جزية عليها.
فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر عبد الله بن محمد أمير المؤمنين رفعت إليه تلك الأشرية وأنها تؤدي العشر، ولا جزية عليها، وأن ذلك أضر بالخراج وكسره، فأراد ردها إلى ألها. قيل له: قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها، فبعث المعدلين إلى كور الشام سنة أربعين أو إحدى وأربعين منهم: عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عياش إلى بعلبك، في أشباه لهم، فعدلوا تلك الأشرية على من هي بيده شرى أو ميراث أو مهر، فعدلوا ما بقي بأيدي الأنباط من بقية الأرض على تعديل مسمى، ولم تعدل الغوطة في تلك السنة، وكان من كان بيده شيء من تلك الأشرية من أهل الغوطة يؤدي العشر حتى بعث أمير المؤمنين عبد الله بن محمد، هضاب بن طوق،(1/241)
ومحرز بين زريق، فعدلوا الأشرية، وأمرهم ألا يضعوا على شيء من القطائع القديمة ولا الأشرية خراجاً، وأن يمضوها لأهلها عشرية، ويضعوا الخراج على ما بقي منها بيد الأنباط وعلى الأشرية المحدثة من بعد سنة مئة إلى السنة التي عدل فيها.
حدث سليمان بن عتبة
أن أمير المؤمنين عبد الله بن محمد سأله في مقدمة الشام سنة ثلاث أو أربع وخمسين ومئة عن سبب الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة، ويذكرون أنها قطائع لآبائهم قديمة، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الله تبارك وتعالى لما أظهر المسلمين على بلاد الشام، وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم وإثخانهم في عدو الله عسكروا في مرج بردى ما بين المزة وبين مرج شعبان جنبي بردى، وكانت مروجاً مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست لأحد منهم، فأقاموا بها، حتى أوطأ الله المشركين ذلاً، وقهراً، وأحيا كل قوم محلتهم، وهيؤوا فيها بناء، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمضاه لهم، فبنوا الدور، ونصبوا الشجر، ثم أمضاه عثمان، ومن بعده إلى ولاية أمير المؤمنين، فقال: قد أمضيناه لأهله.(1/242)
الصوافي التي استصفيت عن بني أمية
فقد روي عن همام بن مسلم قال: سئل مالك بن أسن عن دار من دور الصوافي، أسكنها؟ قال: ما أدري. وسألت ابن أبي ذئب فقال: ما أدري، وسئل عباد بن كثير فقال: في هذا ما فيه. وسئل سفيان الثوري فقال: لا تنزلها، فقال له الرجل: فإن أبي في صافية ويأبى أن يخرج منها فقال سفيان: فارق أباك، قيل: فإن كان فيها مسجد، قال: فلا تصل فيه. قال: فإن كان فيها مريض؟ قال: فلا تعده. قلت: فإن كنت أعرف أهلها أشتريها منهم؟ قال: نعم.
وروي عن سفيان الثوري قال: إن كانت، يعني الصوافي، لبني أمية حلالاً فهي على بني هاشم حرام، وإن كانت على بني أمية حراماً فهي على بني هاشم أحرم وأحرم.(1/243)
بعض ما ورد من الملاحم والفتن
يتعلق بدمشق
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مدها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم. قالها ثلاثاً. شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه.
قال أبو عبيد الهروي في هذا الحديث: قد أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما لم يكن، وهو في علم الله كائن، فخرج لفظه على لفظ الماضي لأنه ماض في علم الله عز وجل. وفي إعلامه بهذا قبل وقوعه ما دل على إثبات نبوته، ودل على رضاه من عمر ما وظفه على الكفرة من الجزي في الأمصار. وفي تفسير المنع وجهان: أحدهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أنهم سيسلمون فيسقط عنهم ما وظف عليهم بإسلامهم، فصاروا مانعين بإسلامهم ما وظف عليهم. والدليل على ذلك قوله في الحدث: وعدتم من حيث بدأتم، لأن بدا أهم في علم الله، وفيما قدر. وفيما قضى أنهم سيسلمون، فعادوا من حيث بدؤوا. وقيل في قوله: منعت العراق درهمها: إنهم يرجعون عن الطاعة. قال: وهذا وجه، والأول أحسن.
وعن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يغلب أهل المدي على مديهم، وأهل القفيز على قفيزهم، وأهل الإردب على إردبهم، وأهل الدينار على دينارهم، وأهل الدرهم على درهمهم، ويرجع الناس إلى بلادهم.(1/244)
قال أبو عبيد: فمعناه والله أعلم: إن هذا كائن. وإنه سيمنع بعد في آخر الزمان، فاسمع قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الدرهم والقفيز كما فعل عمر بأهل السواد، فهو عندي الثبت. وفي تأويل فعل عمر أيضاً حين وضع الخراج، ووظفه على أهله من العلم أنه جعله شاملاً عاماً على كل من لزمته المساحة وصارت الأرض في يده من رجل أو امرأة أو صبي أو مكاتب أو عبد، فصاروا متساوين فيها، لم يستثنى أحد دون أحد. ومما يبين ذلك قول عمر في دهقانة نهر الملك حين أسلمت فقال: دعوها في أرضها، تؤدي عنها الخراج، فأوجب عليها ما أوجب على الرجال.
وفي تأويل حديث عمر من العلم إنما جعل الخراج على الأرضين التي تغل من ذوات الحب والثمار، والتي تصلح للغلة من العامر والغامر، وعطل منها المساكن والدور، التي هي منازلهم، فلم يجعل عليهم فيها شيئاً.
وعن أبي نضرة قال: كنا عند جابر بن عبد الله فقال: يوشك أهل العراق ألا يجبى إليهم قفيز ولا درهم، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل العجم يمنعون ذلك. ثم قال: يوشك أهل الشام ألا يجبى إليهم دينار ولا مدي، قلنا: من أين ذلك؟ قال: من قبل الروم يمنعون ذلك، ثم أسكت هنيهة ثم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يكون في آخر الزمان خليفة يحثي المال حثيثاً، لا يعده عداً.
قال الجريري: فقلت لأبي نضرة وأبي العلاء: أتريانه عمر بن عبد العزيز؟ فقالا: لا.(1/245)
وعن عبد الله بن عمرو قال: تجيش الروم فيخرجون أهل الشام من منازلهم، فيستغيثون بكم، فتغيثونهم، فلا يتخلف عنهم مؤمن، فتقتتلون، فيكون بينكم قتل كثير ثم تهزمونهم فينتهون إلى أسطوانة، إني لا أعلم مكانها عليهم، عندها الدنانير، فيكالونها بالتراس فيلقاهم الصريخ. إن الدجال يحوش ذراريكم فيلقون ما في أيديهم، ثم يأتون.
وعن أبي الدرداء أنه قال: ليخرجنكم الروم من الشام كفراً كفراً حتى يوردوكم البلقاء. كذلك الدنيا تبيد وتفنى، والآخرة تدوم وتبقى.
وعن أبي هريرة قال: يا أهل الشام، ليخرجنكم الروم منها كفراً كفراً حتى تلحقوا بسنبك من الأرض. قيل: وما ذاك السنبك؟ قال: حسمي جذام، ولتسيرن الروم على كوادنها، متعلقي جعابها بين بارق ولعلع.
وعن خالد أنه قال: لا يذهب الليل والنهار حتى يطرد الروم أهل الشام من الشام، فيموت منهم ناس كثير من العيال بالفلاة جوعاً وعطشاً.
وعن الضحاك بن مزاحم قال: هلاك دمشق نزول السفياني بين أظهرهم، ثم الروم.
حدث الصنابحي أنه سمع كعباً يقول: سيعرك العراق عرك الأديم، وتفت مصر فت البعر.
وروي عن واهب المعافري أنه قال: وتشق الشام شق الشعرة.(1/246)
قال عمر بن يزيد النصري: يقتل أصيهب قريش في دمشق، ومعه سبعون صديقاً.
وكانوا يقولون: أسعد الناس بالرايات السود من أهل الشام أهل حمص، وأشقى الناس بالرايات السود من أهل الشام أهل دمشق، واسعد الناس بالرايات الصفر من أهل الشام أهل دمشق، وأشقى الناس بالرايات الصفر من أهل الشام أهل حمص.
قال خالد بن معدان: يهزم السفياني الجماعة مرتين ثم يهلك. وقال: لا يخرج المهدي حتى يخسف بقرية بالغوطة تسمى حرستا.(1/247)
ذكر بعض أخبار الدجال
وعن النواس بن سمعان الكلابي قال:
ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدجال فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة من النخل فقال: غير الدجال أخوفني عليكم، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه شاب قطط، عينه قائمة يشبه عبد العزي بن قطن، فمن رآه منكم فليقرأ فاتحة الكتاب وفاتحة سورة أصحاب الكهف، ثم قال: إنه يخرج من خلة ما بين الشام والعراق، فعاث يميناً وشمالاً، يا عباد الله اثبتوا، قلنا: يا رسول الله، ما لبثه في الأرض؟ قال: أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم قلنا: يا رسول الله، أرأيت ذلك اليوم الذي كالسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له. قلنا: يا رسول الله، ما إسراعه في الأرض؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون، ويستجيبون له فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت دراً، وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر، ثم يأتي على القوم فيدعوهم، ويردون عليه قوله، فينصرف عنهم تتبعه أموالهم، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء، يمر بالخربة فيقول لها: أخرجي كنوزك، فينطلق فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف، ويقطعه جزلين رمية الغرض، ثم يدعوه فيقبل، يتهلل وجهه ويضحك. فبينا هو كذلك إذ بعث المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، بين مهرودتين أو مبرودتين، واضع كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر. وإذا رفعه تحدر منه كجمان لؤلؤ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات. ونفسه ينتهي حين ينتهي طرفه، فيطلبه حتى يدركه عند باب لد، فيقتله الله. ثم يأتي عيسى بن مريم قوماً قد عصمهم الله منه، فيمسح عن وجوههم ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة. فبينا هو كذلك إذ أوحى الله إليه: يا عيسى، قد أخرجت(1/248)
عباداً لا يدان لأحد بقتالهم، فجوز عبادي إلى الطور، فيبعث الله يأجوج ومأجوج من كل حدب ينسلون، فيمر أوائلهم على بحيرة الطبرية فيشربون ما فيها، فيمر آخرهم فيقول: لقد كان في هذه ماء مرة، فيحصر نبي الله عليه السلام حتى يكون رأس الثور خيراً لأحدهم من مئة دينار لأحدكم اليوم، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم، فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة، فيهبط نبي الله عيسى عليه السلام وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدون موضع شبر إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم ودماؤهم، فيرغب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عيسى وأصحابه إلى الله عز وجل، فيرسل عليهم طيراً كأعناق البخت تحملهم فتطرحهم حيث شاء الله. ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر، يغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرك وردي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة، ويستظلون بقحفها، ويبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من البقر لتكفي القبيل، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ. فبينا هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة تأخذ تحت آباطاهم فتقبض روح كل مسلم، ويبقى شرار الناس يتهارجون كما تتهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة.
وعن أبي سعد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
إنه لم يكن نبي إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أنذركموه. إنه أعور ذو حدقة جاحظة ولا تخفى كأنها نخاعة في جنب جدار، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري، ومعه مثل الجنة والنار، فجنته غبراء ذات دخان، وناره روضة خضراء، وبين يديه رجلان ينذران أهل القرى، كلما خرجا من قرية دخل أوائلهم فيسلط على رجل، لا يسلط على غيره فيذبحه ثم يضربه بعصا وفي رواية: بعصاه ثم يقول: قم فيقوم، فيقول لأصحابه: كيف ترون ألست بربكم؟ فيشهدون له بالشرك. فيقول الرجل المذبوح:(1/249)
يا أيها الناس، ها إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيعود أيضاً فيذبحه ثم يضربه بعصاه فيقول له: قم فيقوم، فيقول لأصحابه: كيف ترون ألست بربكم؟ فيشهدون له بالشرك. فيقول المذبوح: يا أيها الناسن ها إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زادني هذا فيك إلا بصيرة، فيعود فيذبحه الثالثة ويضربه بعصاه فيقول: يا أيها الناس، إن هذا المسيح الدجال الذي أنذرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما زادني هذا فيك إلا بصيرة، ثم يعود فيذبحه الرابعة، فيضرب الله تعالى على حلقه بصفيحة من نحاس فلا يستطيع ذبحه.
قال أبو سعيد: فوالله ما دريت ما النحاس، إلا يومئذ. قال: فيغرس الناس بعد ذلك ويزرعون.
قال أبو سعيد: كنا نرى ذلك الرجل عمر بن الخطاب. لما نعلم من قوته وجلده.
وعن أبي أمامة الباهلي قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان أكثر خطبته ما يحدثنا عن الدجال ويحذرناه، فكان من قوله: يا أيها الناس، إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض أعظم من فتنة الدجال، إن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدحال، وأنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، وهو خارج فيكم لا محالة، فإن يخرج فيكم وأنا فيكم فأنا حجيج كل مسلم، وإن يخرج بعدي فكل امرئ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم. إنه يخرج من خلة بين الشام والعراق، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً. يا عباد الله، اثبتوا فإنه يبتدئ فيقول: أنا نبي، ولا نبي بعدي، ثم يبتدئ فيقول: أنا ربكم، ولن تروا ربكم حتى تموتوا، وإنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، وإنه مكتوب بين عينيه: كافر، يقرأه كل مؤمن، فمن لقيه منكم فليتفل في وجهه، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، فمن ابتلى بناره فليقرأ فواتح سورة الكهف، ويستغث باله تكن عليه برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن من فتنته أن معه شياطين تتمثل على صور الناس، فيأتي للأعرابي فيقول: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانه على صورة أبيه(1/250)
وأمه، فيقولان له: يا بني ابتعه فإنه ربك. وإن من فتنتة أن يسلط على نفس فيقتلها ثم يحييها، وأن يعود بعد ذلك وأن يصنع ذلك بنفس غيرها. يقول: انظروا إلى عبدي هذا، فإني أبعثه الآن يزعم أن له رباً غيري، فيبعثه فيقول له: من ربك؟ فيقول ربي الله وأنت عدو الله الدجال. وإن من فتنته أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك إبلك، أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم، فيتمثل له شيطانه على صورة إبله. وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت. وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبوه، فلا يبقى لهم سائمة إلا هلكت، ويمر بالحي فيصدقوه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم مواشيهم من يومها ذلك أعظم ما كانت وأسمنه خواصر، وأدره ضروعاً. وإن أيامه أربعون يوماً، فيوم كالسنة، ويوم دون ذلك، ويوم كالشهر، ويوم دون ذلك، ويوم كالجمعة ويوم دون ذلك، ويوم كالأيام، ويوم دون ذلك، وآخر أيامه كالشرارة في الجريدة، يضحي الرجل بباب المدينة، فلا يبلغ بابها الآخر حتى تغرب الشمس. قالوا: يا رسول الله، فكيف نصلي في تلك الأيام القصار؟ قال: تقدرون في هذه الأيام القصار كمنا تقدرون في الأيام الطوال ثم تصلون. وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وغلب عليه إلا مكة والمدينة، فإنه لا يأتيها من نقب من أنقابها إلا لقيه ملك مصلت بالسيف، فينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السبخة عند مجتمع السيول. ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج، فتنفي المدينة يومئذ خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد. يدعى ذلك اليوم يوم الإخلاص.
فقالت أم شريك
يا رسول الله، فأين المسلمون؟ فال: ببيت المقدس، يخرج حتى يحاصرهم، وإمام المسلمين يومئذ رجل صالح، فيقال له: صل الصبح، فإذا كبر ودخل في الصلاة نزل عيسى بن مريم. قال: فإذا رآه ذلك الرجل عرفه، فيرجع يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع يده بين كتفيه ثم يقول: صل، فإنما أقيمت الصلاة لك، فيصلي عيس عليه السلام وراءه، فيقول: افتحوا الباب فيفتحونه. ومع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذو سلاح وسيف محلى، فإذا نظر إلى عيسى عليه السلام ذاب كما يذوب الرصاص في النار، وكما يذب الملح في الماء، ثم يخرج هارباً فيقول عيسى: إن لي(1/251)
فيك ضربة لن تفوتني بها، فيدركه عند باب الشرقي فيقتله، فلا يبقى شيء مما خلق الله يتوارى به يهودي إلا أنطق الله عز وجل ذلك الشيء لا شجرة ولا حجر ولا دابة إلا قال: يا عبد الله المسلم، هذا يهودي فاقتله إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق قال الشيخ: شوك يكون بناحية بيت المقدس قال: ويكون عيسى في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويدق الصليب، ويضع الجزية، ولا يسعى على شاة ولا بعير ويرفع الشحناء والبغضاء التباغض، فتنزع حمة كل ذي دابة حتى تلقى الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها، ويملأ الأرض من الإسلام، ويسلب الكفار ملكهم، فلا يكون ملك إلا الإسلام وتكون الأرض كفاثور الفضة، ينبت نباتها كما كانت على عهد آدم عليه السلام، يجتمع النفر على القطف. فيشبعهم، ويجتمع النفر على الرمانة. ويكون الثور بكذا وكذا من المال، وتكون الفرس بالدريهمات.
وعن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص يوم جمعة لنعرض على مصحفه مصحفاً، فلما حضر الجمعة أمر لنا بماء فاغتسلنا، وطيبنا ثم، رحنا إلى الجمعة، فجلسنا إلى رجل يحدث، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فتحولنا إليه، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام. فيفزع الناس ثلاث فزعات فيخرج الدجال في أعراض جيش، فيهزم من قبل المشرق. فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين، فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تنزل بشامة وتنظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم ومعهم سبعون ألفاً عليهم السيجان، وأكثر تبعه اليهود والنساء حتى يأتي المصر الذي يليهم فيصير أهله ثلاث فرق: فرقة تقيم تنزل بشامة، وتنظر ما هو، وفرقة تلحق بالأعراب، وفرقة تلحق المصر الذي يليهم، ثم يأتي الشام فينحاز المسلمون إلى عقبة أفيق، فيبعث المسلمون بسرح لهم فيصاب سرحهم فيشهد عليهم، وتصيبهم مجاعة شديدة وجهد، حتى إن أحدهم ليحزق(1/252)
وتر قوسه فيأكله، فبينا هم كذلك إذ نادى مناد من السحر: أتاكم الغوث يا أيها الناس. فيقول بعضهم لبعض: إن هذا لصوت رجل شبعان، فينزل عيسى عليه السلام الفجر، فيقول له أمير الناس: تقدم يا روح الله فصل بنا، فيقول: إنكم معشر هذه الأمة أمراء بعضكم على بعض، فتقدم أنت فصل بنا، فيتقدم أمير الناس فيصلي لهم، فإذا انصرف أخذ عيسى عليه السلام حربته، ثم ذهب نحو الدجال، فإذا رآه ذاب كما يذوب الرصاص، وضع حربته بين ثندوته فيقتله فينهزم أصحابه، فليس شيء يومئذ يجن منهم حتى الشجرة تقول: يا مؤمن، هذا كافر.
وعن أسماء بنت يزيد بن السكن، وهي ابنة عم معاذ بن جبل قالت: أتاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من أصحابه وذكر الدجال. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قبل خروجه ثلاث سنين تمسك السماء قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إن دوابهم تسمن وتبطر مما تأكل لحومهم. أو كما قال.
وعن عبد الله بن مسعود قال:
لما أسري ليلة أسري بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقي إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، فتذاكروا الساعة، فبدؤوا بإبراهيم فسألوه عنها، فلم يكن عنده منها علم، ثم موسى، فلم يكن عنده منها علم، فتراجعوا الحديث إلى عيسى فقال عيسى: عهد الله إلي فيما دون وجبتها يعني: أما وجبتها فلا نعلمها. قال: فذكر من خروج الدجال فأهبط فأقتله، ويرجع الناس إلى بلادهم فيستقبلهم يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، فلا يمرون بماء إلا شربوه ولا يمرون بشيء إلا أفسدوه، فيحارون إلى الله تبارك وتعالى، فيدعو الله فيميتهم فتحار الأرض إلى الله من ريحهم، ويحارون إلي فأدعو، فترسل السماء بالماء فتحمل أجسامهم فتقذفها في البحر. ثم تنسف الجبال وتمد الأرض مد الأديم، فعهد الله عز وجل إلي إذا كان ذلك فإن الساعة من الناس كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفجأهم بولادها ليلاً أو نهاراً.(1/253)
قال عبد الله: فوجدت تصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: " حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق " الآية.
قال: وجمع الناس من كل مكان جاؤوا منه يوم القيامة فهو حدب.(1/254)
ذكر شرف جامع دمشق وفضله
قال يزيد بن ميسرة: أربعة أجبل مقدسة بين يدي الله عز وجل: طور زيتا، وطور سينا، وطور تينا، وطور تيمنانا. قال: فطور زيتا: بيت المقدس، وطور سينا: طور موسى، وطور تينا: مسجد دمشق، وطور تيمنانا: مكة.
وعن قتادة قال: أقسم الله تعالى بمساجد أربعة: قال: " والتين " وهو مسجد دمشق. " والزيتون " وهو مسجد بيت المقدس " وطور سنين " وهو حيث كلم الله موسى، " وهذا البلد الأمين " وهو مكة.
قال محمد بن شعيب: سمعت غير واحد من قدمائنا يذكرون أن التين مسجد دمشق، وأنهم أدركوا منه شجراً من تين قبل أن يبنيه الوليد.
قال عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر: كان خارج باب الساعات صخرة يوضع عليها القربان، فما تقبل منه جاءت نار فأخذته، وما لم يتقبل بقي على حاله.
وقد روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسري به صلى في موضع مسجد دمشق.
وعن القاسم أبي عبد الرحمن قال: أوحى الله تبارك وتعالى إلى جبل قاسيون أن هب ظلك وبركتك لجبل بيت المقدس، قال: ففعل. فأوحى الله إليه: أما إذا فعلت فإنني سأبني لي في حضنك بيتاً، أي(1/255)
في وسطك. وهو هذا المسجد، يعني: مسجد دمشق أعبد فيه بعد خراب الدنيا أربعين عاماً، ولا تذهب الأيام والليالي حتى أرد عليك ظلك وبركتك، قال: فهو عند الله بمنزلة المؤمن الضعيف المتضرع.
وقال كعب الأحبار: ليبنين في دمشق مسجد يبقى بعد خراب الدنيا أربعين عاماً.
قال عبد الرحمن بن إبراهيم: حيطان مسجد دمشق الأربعة من بناء هود عليه السلام، وما كان من الفسيفساء إلى فوق فهو من بناء الوليد بن عبد الملك.
ولما أمر الوليد عبد الملك ببناء مسجد دمشق وجدوا في حائط المسجد القبلي لوحاً من حجر فيه كتاب نقش، فأتوا به الوليد فبعث إلى الروم فلم يستخرجوه، ثم بعث إلى العبرانيين فلم يستخرجوه، ثم بعث إلى كل من كان بدمشق من بقية الأشبان فلم يستخرجوه، فدل على وهب بن منبه فبعث إليه، فلما قدم عليه أخبره بموضع ذلك اللوح فوجدوه في ذلك الحائط، ويقال: ذلك الحائط بناه هود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فلما نظر إليه وهب حرك رأسه، فإذا هو: بسم الله الرحمن الرحيم. ابن آدم، لو رأيت يسير ما بقي من أجلك لزهدت في طويل ما ترجو من أملك، وإنما تلقى ندمك لو قد زلت بك قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وانصرف عنك الحبيب، وودعك القريب، ثم صرت تدعى فلا تجيب، فلا أنت إلى أهلك عائد، ولا في عملك زائد، فاعمل لنفسك قبل يوم القيامة وقبل الحسرة والندامة، وقبل أن يحل بك أجلك، وتنزع منك روحك، فلا ينفعك مال جمعته، ولا ولد ولدته، ولا أخ تركته، ثم تصير إلى برزخ الثرى ومجاورة المولى، فاغتنم الحياة قبل الموت، والقوة قبل الضعف، والصحة قبل السقم، قبل أن تؤخذ بالكظم، ويحال بينك وبين العمل. وكتب في زمان سليمان بن داود عليهما السلام.
وعن زيد بن واقد قال:
وكلني الوليد على العمال في بناء جامع دمشق فوجدنا فيه مغارة، فعرفنا الوليد(1/256)
ذلك. فلما كان الليل وافى وبين يديه الشمع، فنزل فإذا هي كنيسة لطيفة ثلاث أذرع في ثلاث أذرع، وإذا فيها صندوق ففتح الصندوق فإذا فيه سفط، وفي السفط رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام مكتوب عليه: هذا رأس يحيى بن زكريا، فأمر به الوليد فرد إلى المكان، وقال: اجعلوا المود الذي فوقه مغيراً من الأعمدة. فجعل عليه عمود مسفط الرأس.
وعن زيد بن واقد قال: رأيت رأس يحيى بن زكريا حيث أرادوا بناء مسجد دمشق، أخرج من تحت ركن من أركان القبلة، وكانت البشرة والشعر على رأسه لم يتغير.
وسأل رجل الوليد بن مسلم: يا أبا العباس، أين بلغك رأس يحيى بن زكريا؟ قال: بلغني أنه ثم، وأشار بيده إلى العمود المسفط الرابع من الركن الشرقي.
وعن زيد بن واقد قال: حضرت رأس يحيى بن زكريا وقد أخرج من الليطة القبلية الشرقية التي عند مجلس بجيلة، فوضع تحت عمود للسكاسك.
وقد روي البلاطة بدل الليطة.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الرجل في بيته بصلاة، وصلاته بمسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة. وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمس مئة، وصلاته في المسجد الأقصى بخمسة آلاف، وصلاته في مسجدي بخمسين ألفاً، وصلاته في المسجد الحرام بمئة ألف.
وعن أبي زياد الشعباني أو أبي أمية الشعباني قال: كنا بمكة فإذا رجل في ظل الكعبة، وإذا هو سفيان الثوري فقال رجل: يا أبا عبد الله، ما تقول في الصلاة في هذه البلدة؟ قال: بمئة ألف صلاة. قال: ففي مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بخمسين ألف. قال: ففي بيت المقدس؟ قال: أربعين ألف صلاة. قال: ففي مسجد دمشق؟ قال: ثلاثين ألف صلاة.(1/257)
وعن معاوية بن قرة قال: قال عمر بن الخطاب: من صلى صلاة مكتوبة في مسجد مصر من الأمصار كانت له كحجة متقبلة، وإن صلى تطوعاً كانت له كعمرة مبرورة.
وعن كعب بمعناه، وزاد: فإن أصيب في وجهه ذلك حرم لحمه ودمه على النار أن تطعمه، وذنبه على من قتله. في المسجد، فلا تتركوا فيه أحداً حتى أصلي الليلة، ثم إنه أتى إلى باب الساعات فاستفتح الباب ففتح له، فدخل من باب الساعات فإذا برجل قائم بين باب الساعات وباب الخضراء الذي يلي المقصورة قائماً يصلي، وهو أقرب إلى باب الخضراء منه إلى باب الساعات، فقال القوام: ألم آمركم ألا تتركوا أحداً يصلي الليلة في المسجد؟ فقال له بعضهم: يا أمير المؤمنين، هذا الخضر عليه السلام يصلي في المسجد كل ليلة.
خرج واثلة بن الأسقع من باب المسجد الذي يلي باب جيرون فلقي كعب الأحبار فقال له: أين تريد؟ فقال له: واثلة بن الأسقع يريد بيت المقدس، فقال له: تعال حتى أريك موضعاً في هذا المسجد، من صلى فيه فكأنما صلى في بيت المقدس قال: فذهب به فأراه ما بين الباب الأصفر الذي يخرج منه الوالي إلى الحنية، يعني القنطرة الغربية. قال: من صلى فيما بين هذين فكأنما صلى في بيت المقدس.
قال واثلة: إنه لمجلسي ومجلس قومي. قال: هو ذاك.
قال أبو زرعة: مسجد دمشق خطه أبو عبيدة بن الجراح وكذلك مسجد حمص. وأما مسجد مصر فإنه خطه عمرو بن العاص زمن عمر.
قال أبو ثوبان: ما ينبغي أن يكون أحد أشد شوقاً إلى الجنة من أهل دمشق، لما يرون من حسن مسجدهما.(1/258)
لما قدم المهدي يريد بيت المقدس دخل مسجد دمشق ومعه أبو عبيد الله الأشعري كاتبه، فقال: يا أبا عبيد الله، سبقتنا بنو أمية بثلاث. قال: وما هن يا أمير المؤمنين؟ قال: بهذا البيت، يعني: المسجد، لا أعلم على ظهر الأرض مثله، وبنبل الموالي، فإن لهم موالي ليس لنا مثلهم، وبعمر بن عبد العزيز، لا يكون والله فينا مثله أبداً. ثم أتى بيت المقدس فدخل الصخرة فقال: يا أبا عبيد الله وهذه رابعة.
ولما دخل المأمون مسجد دمشق ومعه أبو إسحاق المعتصم ويحيى بن أكثم قال: ما أعجب ما في هذا المسجد؟ فقال له أبو إسحاق؛ ذهبه وبقاؤه. فإنا نهيئه في قصورنا فلا تمضي به العشرون سنة حتى يتغير. قال: ما ذاك أعجبني منه. فقال له يحيى بن أكثم: تأليف رخامه، فإني رأيت فيه عقداً ما رأيت مثلها. قال: ما ذاك أعجبني فقالا له: ما الذي أعجبك؟ قال: بنيانه على غير مثال متقدم.
قال المأمون لقاسم التمار:
اختر لي اسماً حسناً أسمي به جاريتي هذه. قال: سمها مسجد دمشق، فإنه أحسن شيء.
قال الشافعي: عجائب الدنيا خمسة أشياء: أحدها منارتكم هذه، يعني منارة ذي القرنين، والثاني أصحاب الرقيم الذين هم بالروم اثنا عشر رجلاً أو ثلاثة عشر رجلاً، والثالث مرآة ببلادة الأندلس معلقة على باب مدينتها الكبيرة، فإذا غاب الرجل من بلادهم على مسافة مئة فرسخ في مئة فرسخ فإذا جاء أهله إلى تلك المنارة فقعد تحتها ونظر في المرآة يرى صاحبه بمسافة مئة فرسخ، والرابع مسجد دمشق وما يوصف من الإنفاق عليه. والخامس الرخام والفسيفساء، فإنه لا يدرى له موضع، فيقال إن الرخام كلها معجونة. والدليل على ذلك أنه لو وضعت على النار لذابت.(1/259)
ما ذكر من هدم بقية كنيسة مريحنا وإدخالها في الجامع
عن كعب في قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " فقال: إذا هدمت كنيسة دمشق فبنيت مسجداً وظهر لبس القصب، فحينئذ تأويل هذه الآية. وهدمها الوليد بن عبد الملك.
وكان معاوية أراد أن يبني مسجد دمشق فقال له كعب: ذلك أخنس قريش وما اجتمع أبواه. فلما كان الوليد بن عبد الملك بعث إلى النصارى وقال لهم في كنيستهم وسألهم إياها فأبوا، فقال لهم: ائتونا بالعهد فأتوه به فقال لهم: قد رضيتم، فأنا أسجل البعض عليكم. فنظروا فإذا كنيسة كذا، وكنيسة كذا، وكنيسة كذا. ورضوا بأن أعطوا الكنيسة وكف عن كنائسهم.
قالوا: وكان معاوية بن أبي سفيان يخرج إلى الصلاة في المسجد من الموضع الذي يصلي فيه الغرباء عند باب جيرون من عند الزجاجة الخضراء فجعلت الزجاجة علامة لما سد الباب من شرق المسجد خارج الباب.
قال يعقوب بن سفيان: سألت هشام بن عمار عن قصة مسجد دمشق وهدم الكنيسة قال: كان الوليد قال للنصارى من أهل دمشق: ما شئتم، إنا أخذنا كنيسة توما غنوة وكنيسة الداخلة صلحاً، فأنا أهدم كنيسة توما. قال هشام: وتلك أكبر من هذه الداخلة. قال: فرضوا أن هدم(1/260)
كنيسة الداخلة، وأدخلها في المسجد. قال: وكان بابها قبلة المسجد، اليوم المحراب الذي يصلى فيه.
قال: وهدم الكنيسة في أول خلافة الوليد سنة ست وثمانين، وكانوا في بنيانه سبع سنين حتى مات الوليد ولم يتم بناؤه، فأتمه هشام من بعده.
وفي حديث آخر: لما هم بهدم الكنيسة، كنيسة مريحنا ليزيدها في المسجد، دخل الكنيسة، ثم صعد منارة ذات الأضالع المعروفة بالساعات، وفيها راهب يأوي في صومعة له فأحدره من الصومعة، فأكثر الراهب كلامه، فلم تزل يد الوليد في قفاه حتى أحدره من المنارة ثم هم بهدم الكنيسة، فقال له جماعة من نجاري النصارى: ما نجسر على أن نبدأ في هدمها يا أمير المؤمنين، ونخشى أن نعز أو يصيبنا شيء، فقال الوليد: تحذرون وتخافون! يا غلام، هات المعول، ثم أتى بسلم فنصبه على محراب المذبح، وصعد فضرب بيده المذبح حتى أثر فيه أثراً كبيراً، ثم صعد المسلمون فهدموه، وأعطاهم الوليد مكان الكنيسة التي في المسجد، الكنيسة التي تعرف بحمام القاسم بحذاء دار أم البنين في الفراديس، فهي تسمى مريحنا مكان هذه التي في المسجد. وحولوا شاهدها فيما يقولون إليها، إلى تلك الكنيسة.
وكان أراد أن يبني المسجد اسطوانات إلى الكوى يعني الطاقات فدخل بعض البنائين فقال: لا ينبغي أن يبنى كذا ولكن ينبغي أن تبنى فيه قناطر ويعقد أركانها بعضها إلى بعض ثم تجعل أساطين، ويجعل عمد، ويجعل فوق العمد قناطر تحمل السقف، ويخفف عن العمد البناء، ويجعل بين كل عمودين ركن. قال: فبني كذلك.
قالوا: ودخل المغيرة بن عبد الملك يوماً على الوليد بن عبد الملك بن مروان، فرآه مغموماً فقال له: يا أمير المؤمنين، ما سبيلك؟ قال: فأعرض عنه، ثم إنه عاوده فقال: يا أمير المؤمنين، ما سبيلك؟ قال: فقال له: يا مغيرة، إن المسلمين قد كثروا وقد ضاق بهم المسجد، وقد بعثت إلى هؤلاء النصارى أصحاب هذه الكنيسة لندخلها في المسجد فتأبوا علينا، وقد أقطعتهم قطائع كثيرة، وبذلت لهم مالاً فامتنعوا، فقال له المغيرة: يا أمير المؤمنين، لا تغتم قد دخل خالد من باب الشرقي بالسيف، وباب الجابية دخل منه أبو(1/261)
عبيدة بن الجراح في الأمان فماسحهم إلى أي موضع بلغ السيف، فإن يكن لنا فيه حق أخذناه، وإن لم يكن لنا فيه حق داريناهم حتى نأخذ باقي الكنيسة فندخله في المسجد فقال له: فرجت عني، فتول أنت هذا. قال: فتولاه، فبلغت المسحة إلى سوق الريحان حتى حاذى من القنطرة الكبيرة أربعة أذرع وكسر بالذراع القاسمي، فإذا باقي الكنيسة قد دخل في المسجد، فبعث إليهم فقال لهم: هذا حق قد جعل الله عز وجل لنا، لم يصل المسلمون في غصب ولا ظلم، بل نأخذ حقنا الذي جعله الله لنا، فقالوا: يا أمير المؤمنين، قد أقطعتنا أربع كنائس وبذلت لنا من المال كذا وكذا، فإن رأيت يا أمير المؤمنين أن تتفضل به علينا ففعل، فامتنع عليهم حتى سألوه وطلبوا إليه. قال: فأعطاهم كنيسة حميد بن درة، وكنيسة أخرى حيث سوق الجبن، وكنيسة مريم، وكنيسة المصلبة. ثم إن الوليد بعث إلى المسلمين حتى اجتمعوا لهدم الكنيسة، واجتمع النصارى فقال للوليد بعض الأقساء والفأس على كتفه وعليه قباء سفرجلي وقد شد برقبة قبائه فقال له: إني أخاف عليك من الشاهد يا أمير المؤمنين. قال: ويلك ما أضع فأسي إلا في رأس الشاهد، ثم إنه صعد، فأول من وضع فأسه في هدم الكنيسة الوليد. وسارع الناس في هدم الكنيسة، وكبر الناس ثلاث تكبيرات وزادها في المسجد.
وقيل: إنه قيل للوليد: لا يهدمها أحد إلا جن، فقام يزيد بن تميم فجع له وجوه أهل البلد حتى علا الكنيسة ثم التفت إلى يزيد فقال: أين الفأس فأتاه به فقال: إن هؤلاء الكفرة يزعمون أن أول من يهدمها يجن وأنا أول من يجن في الله، فأخذ برقبة قبائه فوضعها في منطقته ثم أخذ الفأس فضرب به ضربات، ثم تناوله القوم وكل من حضر، ولم يجدوا من ذلك بداً إذ فعله أمير المؤمنين، وصاح النصارى على الدرج وولولوا، ثم التفت إلى يزيد بن تميم وهو على خراجه فقال: ابعث إلى اليهود حتى يأتوا على هدمها. ففعل فجاء اليهود فهدموها.(1/262)
ما ذكر في بنائه واختيار موضعه
في كتاب أخبار الأوائل أن هذه الدار المعروفة بالخضراء مع الدار المعروفة بالمطبق مع الدار المعروفة بدار الخيل مع المسجد الجامع أقاموا وقت بنائها يأخذون الطالع لها ثمان عشرة سنة. وقد حفر أساس الحيطان، حتى وافاهم الوقت الذي طلع فيه الكوكبان اللذان أرادوا أن المسجد لا يخرب أبداً ولا يخلو من العبادة. وأن هذه الدار إذا بنيت لا تخلو من أن تكون دار الملك أو السلطنة والضرب والحبس وعذاب الناس والقتل ومأوى الجند والعساكر والبلاء والفتنة، فبني على هذا، والله أعلم. وكانت في ذلك الزمان كلها داراً واحدة.
ولما أراد الوليد بن عبد الملك بناء مسجد دمشق احتاج إلى صناع كثير، فكتب إلى الطاغية أن وجه إلي بمئتي صانع من صناع الروم فإني أريد أن أبني مسجداً لم يبنى من مضى قبلي ولا يكون بعدي مثله. فإن أنت لم تفعل غزوتك بالجيوش وأخربت الكنائس في بلدي وكنيسة بيت المقدس وكنيسة الرها وسائر آثار الروم في بلدي، فأراد الطاغية أن يفضه عن بنائه ويضعف عزمه، فكتب إليه: والله لئن كان أبوك فهمها فأغفل عنها إنها لوصمة عليه، ولئن كنت فهمتها وغيبت عن أبيك إنها لوصمة عليك، وأنا موجه إليك ما سألت. فأراد أن يعمل له جواباً فجلس له عقلاء الرجال في حظيرة المسجد يفكرون في ذلك، فدخل عليهم الفرزدق فقال: ما بال الناس! أراهم مجتمعين حلقاً، فقيل له: السبب كيت وكيت، فقال: أنا أجيبه من كتاب الله. قال الله تعالى: " ففهمناها سليمان، وكلاً أتينا حكماً وعلمناً " فسري عنهم.
وروى أبو حفص أن هود النبي صلى الله على نبينا وعليه وسلم أسس الحائط الذي قبلة دمشق.
ولما بنى الوليد بن عبد الملك القبة يعني: قبة مسجد دمشق فلما استقلت وتمت وقعت فشق ذلك عليه، فأتاه رجل من البنائين فقال له: أنا أتولى بنيانها على أن تعطيني(1/263)
عهد الله ألا يدخل معي أحد في بنيانها ففعل ذلك، فحفر موضع الأركان حتى بلغ الماء ثم بناها، فلما استقلت على وجه الأرض غطاها بالحصر وهرب عن الوليد، فأقام يطلبه ولا يقدر عليه. فلما كان بعد سنة لم يعلم الوليد إلا وهو على بابه فقال له: ما دعاك إلى ما صنعت! قال: تخرج معي حتى أريك، فخرج الوليد والناس معه حتى كشف الحصر فوجد البنيان قد انحط حتى صار مع وجه الأرض فقال: من هذا كنت تؤتى، ثم بناها بنيانها الذي عليه حتى قامت.
وقيل: لما حفر لأركانها حتى بلغ الحفر إلى الماء ألقى على الماء جران الكرم، وبني الأساس عليه.
قال إبراهيم بن أبى حوشب النصري وكان جده أحد قومة المسجد في بنائه قال: حدثت أن الوليد بن عب الملك بعث إليه يوماً عند فراغه من القبة الكبيرة، فلم يبق منها إلا عقد رأسها فقال له: إني عزمت أن أعمدها بالذهب قال: فقال له: يا أمير المؤمنين، اختلطت؟! هذا شيء تقدر عليه؟! قال له: يا ماجن تقول لي هذا؟! فأمر به فشق عنه وضرب خمسين سوطاً. قال: ثم قال: اذهب فافعل ما أمرت به قال: فذكر لي أنه عمل لبنة من ذهب فحملها إليه، فلما نظر إليه وعرف ما فيها وما تحتاج القبة إلى مثلها قال: هذا شيء لا يوجد في الدنيا، ورضي عنه وأمر له بخمسين ديناراً.
ولما قطع الوليد بن عبد الملك بالرصاص لمسجد دمشق لأهل الكور كانت كورة الأردن أكثرهم في ذلك، فطلبوا الرصاص من النواويس الغادية وانتهوا إلى قبر حجارة في داخله قبر من رصاص، فأخرجوا الميت الذي فيه فوضعوه فوق الأرض، فوقع رأسه في هوة من الأرض وانقطع عنقه فسأل من فيه دم. فهالهم ذلك، فسألوا عنه فكان فيمن سألوا عنه عبادة بن نسي الكندي فقال لهم: هذا القبر قبر طالوت الملك.
وقيل: إنه لما فرغ الوليد بن عبد الملك من بناء المسجد قال له بعض ولده: أتعبت الناس في طينه كل سنة ويخرب سريعاً، فأمر أن يسقف بالرصاص، فطلب الرصاص في(1/264)
كل بلد وصل إليه، فبقي عليه موضع لم يجد له رصاصاً، فكتب إلى عماله يحرضهم في طلبه، فكتب إليه بعض عماله أن قد وجدنا عند امرأة منه شيئاً، وقد أبت أن تبيعه إلا وزناً بوزن، فكتب إليه: خذه، وإن أبت إلا وزناً بوزن، فأخذه منها وزناً بوزن، فلما وفاها قالت له: هو هدية مني للمسجد. قال لها: أنت أبيت أن تبيعي إلا وزناً بوزن شحاً منك، فتهدينه للمسجد؟! فقالت: أنا فعلت ذلك ظننت أن صاحبكم يظلم الناس في بنائه ويأخذ رحالهم، فلا رأيت الوفاء منكم علمت أنه لم يكن يظلم فيه أحداً ثم، ويبتاع وزناً بوزن، فكتب إلى الوليد في ذلك، فأمر أن يعمل في صفائحه: لله، ولم يدخله في جملة ما عمله. فهو إلى اليوم مكتوب عليه: لله. طبع بطابع على السقف.
وقيل: إن المرأة كانت يهودية، وأنه كتب على الرصاص الذي أعطتهم: للإسرائيلية وذكر أنه رؤي منه شيء قبل الحريق عليه: للإٍسرائيلية.
ولما أراد الوليد بناء المسجد بدمشق كان سليمان بن عبد الله هو القيم مع الصناع.
وكان المشايخ يقولون: ما تم مسجد دمشق إلا بآداء الأمانة. لقد كان بفضل عند الرجال من القوام عليه الفأس ورأس المسمار، فيجيء فيضعه في الخزانة.
وقيل: إن قبة دمشق الرخام التي فيها فوارة الماء أقيمت في سنة تسع وستين وثلاث مئة.
وقيل: أنشئت الفوارة المنحدرة وسط جيرون في سنة ست عشرة وأربع مئة، وجرت ليلة الجمعة لسبع ليال خلون من شهر ربيع الأول من سنة سبع عشرة وأربع مئة، بما أمر بجر القصعة من ظاهر قصر حجاج إلى جيرون وإجراء مائها القاضي فخر الدولة أبو يعلى حمزة بن الحسن بن العباس الحسيني. جزاه الله على ذلك خيراً.
وتحته بخط محمد بن أبي نصر الحميدي: وسقطت في صفر من سنة سبع وخمسين وأربع مئة من جمال تحاكت بها، فأنشئت كرة أخرى، ثم سقطت عمدها وما عليها في حريق اللبادين ورواق دار الحجارة ودار خديجة، في شوال سنة اثنتين وستين وخمس مئة.(1/265)
كيفية ترخيمه ومعرفة المال المنفق عليه
قال إبراهيم بن هشام: ما في مسجد دمشق من الرخام شيء إلا رخامتا المقام، فإنه يقال إنهما من عرش سبأ، وأما الباقي فكله مرمر.
قيل: هو المقام الغربي.
وقيل: هما من عرش بلقيس.
وقيل: كان في مسجد دمشق اثنا عشر ألف مرخم.
وعن عمرو بن مهاجر، وكان على بيت مال الوليد بن عبد الملك أنهم حسبوا ما أنفق على الكرمة التي في قبلة مسجد دمشق فكان سبعين ألف دينار، وحسبوا ما أنفقوا على مسجد دمشق فكان أربع مئة صندوق في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار.
قال: وأتاه حرسيه فقال: يا أمير المؤمنين، إن أهل دمشق يتحدثون أن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، فنادى بالصلاة جامعة وخطب الناس فقال: إنه بلغني حرسي أنكم تقولون إن الوليد أنفق الأموال في غير حقها، ألا يا عمرو بن مهاجر، قم فأحضر ما قبلك من الأموال من بيت المال، قال: فأتت البغال تدخل بالمال وتصب في القبة على الأنطاع حتى لم يبصر من في الشام من في القبلة، ولا من في القبلة من في الشام.
وقال: الموازين، فوزنت الأموال. وقال لصاحب الديوان: أحضر من قبلك من يأخذ رزقنا، فوجدوا ثلاث مئة ألف ألف في جميع الأمصار، وحسبوا ما يصيبهم فوجدوا عند رزق ثلاث سنين. ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل وقال: إلى ما تذهب هذه الثلاث السنين أتانا الله بمثله، وبمثله، ألا وإني إنما رأيتكم أهل دمشق تفخرون على(1/266)
الناس بأربع خصال فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس. تفخرون على الناس بهوائكم ومائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم الخامس، فاحمدوا الله، فانصرفوا شاكرين داعين.
وقيل: إن الوليد بن عبد الملك اشترى العمودين الأخضرين الكبيرين اللذين تحت النسر من حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية بألف وخمس مئة دينار.
قال أبو مسهر: عملت المقصورة لسليمان بن عبد الملك حين استخلف.(1/267)
ذكر ما كان عمر بن عبد العزيز رده على النصارى عند طلبه
قال علي بن أبي حملة: لما ولي عمر بن عبد العزيز قال نصارى دمشق: يا أمير المؤمنين، قد علمت حال كنيستنا. قال: إنها صارت إلى ما ترون، فعوضهم كنيسة من كنائس دمشق لم تكن في صلحهم يقال لها: كنيسة توما.
وقيل: إن النصارى رفعوا إلى عمر بن عبد العزيز ما أخذوا عليه العهد في كنائسهم، لا تهدم ولا تسكن، وجاؤوا بكتابهم إليه فكلمهم عمر ورفع لهم في الثمن حتى بلغ مئة ألف، فأبوا، فكتب عمر إلى محمد بن سويد الفهري أن يدفع إليهم كنيستهم، إلا أن يرضهيم، فأعظمه ذلك وأعظم الناس وفيهم يومئذ بقية من أهل الفقه فشاورهم محمد بن سويد فقالوا: هذا أمر عظيم، ندفع إليهم مسجدنا وقد أذنا فيه بالصلاة، وجمعنا فيه، يهدم فيعاد كنيسة؟! فقال رجل منهم: هاهنا خصلة: لهم كنائس عظام حول مدينتهم: دير مران وباب توما والراهب وغيرها، إن أحبوا أن نعطيهم كنيستهم ولا يبقى حول مدينة دمشق كنيسة ولا بالغوطة إلا هدمت، وإن شاؤوا تركت لم كل كنيسة بالغوطة، ونسجل لهم بها سجلاً، وتركوا ما يطلبون. فدعاهم فعرض ذلك عليهم فقالوا: أنظرونا ننظر في أمرنا، فتركهم ثلاثاً، فقالوا: نحن نأخذ الذي عرضت علينا، وتكتب إلى الخليفة تخبره أنا قد رضينا بذلك، ويسجل الخليفة من قبله سجلاً منشوراً بأمان على ما بالغوطة من كنيسة أن تهدم أو تسكن. قالوا: نعم. فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بذلك، فسره وسجل لهم في كنائسهم التي خارج مدينة دمشق والغوطة، أنهم آمنون أن تخرب أو تسكن، وأشهد لهم شهوداً.(1/268)
قال عمرو بن مهاجر: سمعت عمر بن عبد العزيز، وذكر مسجد دمشق فقال:
رأيت أموالاً أنفقت في غير حقها، فأنا مستدرك ما أدركت منها فراده إلى بيت المال، أعمد إلى ذلك الفسيفساء والرخام فأقلعه وأطينه، وأنزع تلك السلاسل وأجعل مكانها حبالاً، وأنزع تلك البطائن فأبيع جميع ذلك وأدخله بيت المال، فبلغ ذلك أهل دمشق فاشتد عليهم، فخرج إليه أشرافهم فيهم خالد القسري فقال لهم خالد: ائذنوا لي حتى أكون أنا المتكلم، فأذنوا له. فلما أتوا دير سمعان استأذنوا على عمر فأذن لهم، فلما دخلوا سلموا عليه، فقال له خالد: يا أمير المؤمنين، بلغنا أنك هممت في مسجدنا بكذا وكذا، قال نعم، رأيت أموالاً أنفقت في غير حقها، وأنا مستدرك ما أدركت منها فرداه إلى بيت المال، فقال له: والله ما ذلك لك يا أمير المؤمنين، فقال عمر: لمن هو، لأمك الكافرة؟! وغضب عمر، وكانت أمه نصرانية، أم ولد، رومية، فقال خالد: إن تك كافرة فقد ولدت مؤمناً، فاستحيا عمر، وقال: صدقت، فما قولك: فما ذلك لي؟ قال: إنا كنا معشر أهل الشام وإخواننا من أهل مصر وإخواننا من أهل العراق نغزو فيفرض على الرجل منا أن يحمل من أرض الروم قفيزاً بالصغير من فسيفساء وذراعاً في ذراع من رخام، فيحمله أهل العراق وأهل حلب إلى حلب، ويستأجر على ما حملوا إلى دمشق، ويحمل أهل حمص إلى حمص، ويستأجر على ما حملوا إلى دمشق، ويحمل أهل دمشق، ومن وراءهم حصتهم إلى دمشق، فذلك قولي: ما ذلك لك، فسكت عمر، ثم جاءه بريد من مصر من واليها يخبره أن قارباً ورد عليه من رومية فيه عشرة من الروم، عليهم رجل منهم، يريدون الوفود إلى أمير المؤمنين، فكتب إليه أن وجههم إلي ووجه معهم عشرة من المسلمين، عليهم رجل منهم، كل منهم يحسن الكلام بالرومية، ولا يعلمونهم ذلك حتى يحملوا إلي كلامهم، فساروا حتى نزلوا دمشق خارج باب البريد، فسأل الروم رئيس العشرة من المسلمين أن يستأذن لهم الوالي في دخول المسجد، فأذن لهم، فمروا في الصحن حتى دخلوا من الباب الذي يواجه القبة، فكان أول ما استقبلوا المقام، ثم رفعوا رؤوسهم إلى القبة فخر رئيسهم مغشياً عليه، فحمل إلى منزله، فأقام ما شاء الله أن يقيم ثم أفاق. فقالوا له بالرومية: ما قصتك. عهدنا بك بالرومية، وما ننكرك، وصحبتنا في طريقنا هذه فما(1/269)
أنكرناك، فما الذي عرض لك حين دخلت هذا المسجد؟! قال: لأنا معشر أهل رومية نتحدث أن بقاء العرب قليل، فلما رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدة سيبلغونها، فلذلك أصابني الذي أصابني. فلما قدموا على عمر أخبروه بما سمعوا منه فقال عمر: ألا أرى مسجد دمشق غيظاً على الكفار. وترك ما كان هم به من أمره.
وقيل: إن عمر بن عبد العزيز لما استخلف أراد أن يجرد ما في قبلة مسجد دمشق من الذهب وقال: إنه يشغل الناس عن الصلاة، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إنه أنفق عليه غد فيء المسلمين وأعطياتهم، وليس يجتمع منه شيء فينتفع به، فأراد أن يبيضه بالجص فقيل له: تذهب النفقات فيه، فأراد أن يستره بالخزف فقيل له: تضاهي الكعبة، فبينما هو في ذلك إذ ورد عليه وفد الروم فاستأذنوا في دخول المسجد، فأذن لهم، وأرسل معهم من يعرف الرومية وقال: لا تعلموهم أنكم تعرفون الرومية، واحفظوا ما يقولون، فلما وقفا تحت القبة قال رئيسهم: كم للإسلام؟ قل: مئة سنة، قال: فكيف تصغرون أمرهم؟ ما بنى هذا البنيان إلا ملك عظيم. وأتى الرسول عمر فأخبره فقال: أما إذا هو غائظ للعدو فدعه.(1/270)
ذكر ما في الجامع من القناديل وما فيه وفي البلد من الطلسمات
كان مكحول إذا طفئت قناديل المسجد يعني مسجد دمشق يسد أنفه. وقال: يعتري من رائحته المسك.
قال عبد الرحيم الأنصاري: سمعت الأعراب وهم يزورون المسجد يقولون: لا صلاة بعد القليلة يعني الدرة. قلت له: أرأيت القليلة؟ فقال: نعم. كانت تضيء مثل السراج. قلت: من أخذها؟ قال: أما سمعت المثل: منصور سرق القلة وسليمان شرب المرة.
منصور الأمير، وسليمان صاحب الشرطة. سليمان هو الأمير وهو ابن المنصور، ومنصور صاحب شرطتة.
وذلك أن الأمين كان يحب البلور، فكتب إلى صاحب شرطة والي دمشق أن ينفذ إليه القليلة فسرقها ليلاً، فلما قتل المأمون الأمين رد القليلة إلى دمشق ليشنع بذلك على الأمين. وكانت هذه القليلة في محراب الصحابة، فلما ذهبت جعل موضعها برنية من زجاج. قال الراوي: رأيتها. ثم انكسرت بعد فلم يجعل في مكانها شيء.
وعن علي بن أبي حملة قال: كنا نستر مسجد دمشق في الشتاء بلبود أحسبه قال: في عهد الوليد فدخلته الريح فهزته، فثار الناس فحرقوا اللبود.(1/271)
قال أبو مروان عبد الرحيم وهو ابن عمر المازني: لما كان في أيام الوليد بن عبد الملك وبنائه المسجد احتفروا فيه موضعاً، فوجدوا باباً من حجارة مغلقاً، فلم يفتحوه، وأعلموا به الوليد، فخرج من داره حتى وقف عليه، وفتح بين يديه، فإذا داخله مغارة فيها تمثال إنسان من حجارة على فرس من حجارة في يد التمثال الواحد الدرة التي كانت في المحراب ويده الأخرى مقبوضة، فأمر بها فكسرت، فإذا فيها حبتان، حبة قمح وحبة شعير، فسأل عن ذلك فقيل له: لو تركت الكف لم تكسرها لم يسوس في هذه البلدة قمح ولا شعير.
وقيل: إنه لما دخل المسلمون دمشق وقت فتحها ووجدوا على العمود الذي في المقسلاط على السفود الحديد الذي في أعلاه صنماً ماداً يده بكف مطبقة فكسروه، فإذا في كفه حبة قمح، فسألوا عن ذلك فقيل لهم: هذه الحبة القمح جعلها حكماء اليونانيين في كف هذا الصنم طلسماً حتى لا يسوس القمح، ولو أقام سنين كثيرة.
وإنما سمي باب الجامع القبلي باب الساعات لأنه كان عمل هناك ساعات يعمل بها كل ساعة تمضي من النهار، عليها صورة عصافير وحية وغراب. فإذا تمت الساعة خرجت الحية، فصاحت العصافير وصاح الغراب، وسقطت حصاة في الطست.
قال أبو المفضل يحيى بن علي القاضي: إنه أدرك في الجامع قبل حريقه طلسمات لسائر الحشرات معلقة في السقف فوق البطائن مما يلي السبع، وإنه لم يكن يوجد في الجامع شيء من الحشرات قبل الحريق. فلما احترقت الطلسمات وجدت. وكان حريق الجامع ليلة النصف من شعبان بعد العصر، سنة إحدى وستين وأربع مئة.
حدث جماعة من شيوخ أهل دمشق قال: العمود الحجر الذي بين سوق الشعير وبين سوق أم حكيم عليه حجر مدور مثل الكرة كبير لعسر بول الخيل. إذا دار الفرس أو الحمار ثلاث مرات انطلق البول منه. عمله حكماء(1/272)
الروم من اليونانيين. مجرب. وكان على قنطرة باب سوق أم حكيم الذي بحضرة مسجد الطباخين صنم مكسور على القنطرة للحاجات. إذا دخل إنسان فيه لحاجة لم تقض.
وفي سقف مسجد الجامع طلاسم عملها الحكماء في السقف مما يلي الحائط القبلي. فمنها طلسم للصنونيات لا تدخله ولا تعشش فيه من جهة الأوساخ التي يكون منها ولا يدخله غراب. وطلسم للفأر والحيات والعقارب. وما أبصر الناس فيه من هذا شيئاً إلا الفأر. قال: ويوشك أن يكون تغير طلسمها، وطلسم للعنكبوت لا ينسج في زواياه، ويركبه الغبار والوسخ.(1/273)
ما ورد في أمر السبع وابتداء الحضور فيه
قال حسان بن عطية: الدراسة محدثة، أحدثها هشام بن إسماعيل المخزومي في قدمته على عبد الملك. فحجبه عبد الملك بعد الصبح في مسجد دمشق، وعبد الملك في الخضراء، فأخبر أن عبد الملك يقرأ بقراءة هشام، فقرأ بقراءته مولى له، فاستحسن ذلك من يليه من أهل المسجد، فقرؤوا بقراءته.
قال خالد بن دهقان: أول من أحدث الدراسة بدمشق هشام بن إسماعيل بن هشام بن المغيرة المخزومي، وأول من أحدث الدراسة في فلسطين الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، وكان يحضر الدراسة جماعة ممن يعرف بالعلم أو بالرئاسة، ومن القضاة ومن الفقهاء ومن المحدثين. وروي عن بعضهم أنه كره اجتماعهم وأنكره. ولا وجه لإنكاره.
وسئل عبد الله بن العلاء عن الدراسة فقال: كنا ندرس في مجلس يحيى بن الحارث في مسجد دمشق في خلافة يزيد بن عبد الملك إذ خرج علينا أميرنا الضحاك بن عبد الرحمن بن عرزب الأشعري من الخضراء، فأقبل علينا منكراً لما نصنع. فقال: ما هذا؟! أو ما أنتم فيه؟! فقلنا: ندرس كتاب الله، فقال: تدرسون كتاب الله عز وجل، إن هذا لشيء ما رأيته ولا سمعت أن كان قبل، ثم دخل الخضراء. وكان الضحاك بن عبد الرحمن أميراً على دمشق في خلافة عمر بن عبد العزيز.(1/274)
ذكر مساجد البلد وحصرها
عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ستكون دمشق أخر الزمان أكثر المدن أهلاً، وأكثره أبدالاً وأكثره مساجد، وأكثره زهاداً، وأكثره مالاً ورجالاً، وأقله كفاراً. وهي معقل لأهلها، وذكر عبيد الله الخولاني أنه سمع عثمان بن عفان حين بني مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنكم قد أكثرتم إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
من بنى مسجداً قال بكير، أحد رواته: حسبت أنه قال: يبتغي به وجه الله عز وجل بنى الله له مثله في الجنة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بنى بيتاً ليعبد الله فيه من حلال، بنى الله له بيتاً في الجنة من در وياقوت.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من بنى مسجداً ولو قدر مفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة. قالت: قلت يا رسول الله، وتلك المساجد التي في طريق مكة؟ قال: وتلك.
قال: فغدا الحض على المساجد وبنيانها يدل على خطر محلها وعظم شأنها. وقد عدد مساجد دمشق وذكرها، وعين أكثر أسمائها وخططها، وأسماء من بناها ووصف أكثرها، فكانت جملتها أربع مئة وخمسة وعشرين مسجداً على ما فصله بالتعريف والعدد، منها ما ذكره فقال: أوله من قبلة السوق وأنت داخل من باب الجابية، ومساجد الناحية الشامية عن يمنة الداخل من الباب الشرقي، وفي القلعة مئتان وواحد وأربعون مسجداً.(1/275)
قال: وأما ما عداها من المساجد التي في أرباضه وظاهره مما ليس في قرية مسكونة أو معمورة من ناحية القبلة ومن الشام ومن الشرق ومن الغرب مئة مسجد وأربعة وثمانون مسجداً.
قال: وهذا يدل على اهتمام أهلها بالدين وكثرة المصلين فيها والمتعبدين.
وروي عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: لما افتتح عمر بن الخطاب البلدان كتب إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة يأمره أن يتخذ للجماعة مسجداً. ويتخذ للقبائل مساجد، فإذا كان يوم الجمعة انضموا إلى مسجد الجماعة، فشهدوا الجمعة. وكتب إلى سعد بن أبي وقاص وهو على الكوفة بمثل ذلك. وكتب إلى عمرو بن العاص وهو على مصر بمثل ذلك. وكتب إلى أمراء أجناد الشام لا يتبدوا إلى القرى، وأن ينزلوا المدائن، وأن يتخذوا في كل مدينة مسجداً واحداً. ولا يتخذ القبائل مساجد كما اتخذ أهل الكوفة والبصرة وأهل مصر. وكان الناس متمسكين بأمر عمر وعهده.
وروى محمد بن عطاء عن أبيه قال: لما قدم عمر الشام أمر ألا يتخذ في المدينة مسجدان. قال: وإنما أراد عمر بذلك المسجد الأعظم الذي تقام فيه الجمع، وإنما فرق بين مدائن الشام وبين الكوفة والبصرة في الحكم، لأن مدائن الشام ممصرة قبل الإسلام، فلا تقام في مصر واحد أكثر من جمعة، فأما الكوفة والبصرة فكل منزل نزلته قبيلة واختطته فهو بمنزلة مصر مفرد. ولم يرد بذلك النهي عن اتخاذ المساجد التي لا تقام فيها الجمعة. فأما مصر فإنها إن كانت قبل الإسلام فإن المسلمين لما افتتحوها تفرقت القبائل فيها، واختطت بها خططاً نسبت إليها فأشبه حكمها حكم الكوفة والبصرة والله أعلم.(1/276)
ذكر فضل المساجد المقصودة بالزيارة
روي عن عبد الله بن عمرو أنه سمع يقول: ما من مسلم يأتي زيارة من الأرض أو مسجداً بني بأحجار فيصلي فيه إلا قالت الأرض: سل الله في أرضه، وأشهد لك يوم تلقاه.
وقد تقدم، فيما قلناه، أن ربوة دمشق هي التي سماها الله في كتابه بالربوة.
قال حسان بن عطية:
إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل حضره الموت، وأوصى بالملك لرجل حتى يدرك ابنه. فكانوا يؤملون أن يدرك ابنه فيملكوه، ويكون مكان أبيه. فأتي عليه فقبض. قال: فجزعوا عليه. فلما خرجوا بجنازته وفيهم عيسى بن مريم عليه السلام فدنا من أمه فقال: أرأيت إن أنا أحييت لك ابنك أتؤمنين بي وتتبعينني؟ قالت: نعم، فدعا الله عز وجل، فجعلت أكفانه تتحلل عنه حتى استوى جالساً، فقالوا: هذا عمل ابن الساحرة، وطلبوه حتى انتهى إلى شعب النيرب فاعتصم منهم بقلعة على صخرة متعالية، فأتاه إبليس لعنه الله، فقال: جئتك وما أعتذر إليك من شيء، هذا أنت لم تنافسهم في دنياهم ولا بشبر من الأرض، صنعوا بك ما صنعوا، فلو ألقيت نفسك من هذا المكان فتلقاك روح القدس، فيذهب بك إلى ربك، فتستريح منهم. فقال عيسى: يا غوي، الطويل الغواية، إني أجد فيما علمني ربي عز وجل ألا أجرب ربي حتى أعلم أراض عني أم ساخط علي. قال: وزجره الله عنه. قال: فأقبلت عليهم أم الغلام، فقالت: يا معشر بني إسرائيل، كنتم تبكون وتشقون ثيابكم جزعاً عليه. فلما أحياه الله لكم أردتم قتله. قالوا: فما تأمرينا به؟ قالت: ائتوه فآمنوا به، فأتوه، فقالوا: خصلة بيننا وبينك، إن أنت فعلتها آمناً بك وابتعناك، قال: وما هي؟ قالوا: تحيي لنا عزيراً، قال: دلوني على قبره، فنزل عيسى معهم حتى انتهوا إلى قبره، قال: فتوضأ وصلى ركعتين ودعا. قال:(1/277)
فجعل قبره ينفرج عنه التراب فخرج قد ابيض نصف رأسه ولحيته، وهو يقول: هذا فعلك يا بن مريم، فقال: لم أصنع بك، هذا فعل قومك، زعموا أنهم لا يؤمنون بي ولا يتبعوني حتى أحييك لهم، وهذا في هدى قومك يسير. قال: فأقبل عليهم يعظهم، ويأمرهم بالإيمان به واتباعه. قال: فقال له قومه: عهدناك وأنت أسود الرأس واللحية ما لنصف رأسك قد إبيض؟ قال: إني سمعت الصيحة فظننت أنها دعوة الداعية، حتى أدركني ملك فقال: إنها هي دعوة ابن مريم فانتهى الشيب إلى ما ترى.
ويروى أن النيرب مصلى الخضر عليه السلام وعن ابن عباس أنه ولد إبراهيم بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة، في جبل يقال له قاسيون.
وعن حسان بن عطية قال: أغار ملك نبط هذا الجبل على لوط فسباه وأهله، فبلغ ذلك إبراهيم خليل الله عليه السلام، فأقبل في طلبه في عدة أهل بدر ثلاث مئة وثلاثة عشر، فالتقى هو وملك الجبل في صحراء يعفور، فعبأ إبراهيم ميمنة وميسرة وقلباً. وكان أول من عبأ الحرب هكذا، فاقتتلوا فهزمه إبراهيم، واستنقذ لوطاً وأهله فأتى هذا الموضع الذي في برزة الذي ينسب إلى مسجد إبراهيم فصلى فيه.
وعن الزهري أنه قال: مسجد إبراهيم عليه السلام في قرية يقال لها برزة، فمن صلى فيه أربع ركعات خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ويسأل الله ما شاء فإنه لا يرده خائباً.
ومشايخ أهل دمشق يذكرون أن الآثارات التي بدمشق في برزة عند المسجد الذي يقال له مسجد إبراهيم عليه السلام التي في الجبل عند الشق أنه مكان إبراهيم. وأن الآثارات التي فوق الشق في الجبل هي موضع رأي إبراهيم الكوكب الذي ذكر الله في كتابه: " فلما رأى كوكباً قال: هذا ربي " أنه كان في الجبل في ذلك الموضع، وهو معروف، فمن(1/278)
قصده وصلى فيه ودعا أجابه الله في دعائه. وأن ذلك الجبل كان فيه لوط النبي وجماعة من الأنبياء. وآثارهم في مواضع من الجبل بالقرب من مسجد إبراهيم.
قال: وأدركت الشيوخ يقصدونه ويقيمون فيه ويصلون ويدعون الله. وهو نافع لقسوة القلوب وكثرة الذنوب، وإن بعض الشيوخ جاء من مكة فصلى في الموضع الذي فوق الشق، الموضع الذي يقال إنه رأى إبراهيم فيه الكوكب. وذكر أنه رأى في نومه إن أحببت أن ترى الموضع الذي رأى فيه إبراهيم الكوكب فاقصد دمشق، واقصد موضعاً يقال له برزة عند مسجد إبراهيم فوق الجبل فصل فيه ركعتين ثم ادع بما شئت تجب فقصدت الموضع.
قال أحمد بن صالح:
أدركت الشيوخ بدمشق قديماً وهم يفضلون مسجد إبراهيم الذي ببرزة ويقصدونه، ويصلون فيه ويقرؤون، ويدعون، ويذكرون أن الدعاء فيه مجاب. وهو موضع شريف عظيم، فهم يذكرون عن شيوخهم ومن أدركوا من أهل العلم أنهم يصححونه ويفضلونه ويقولون: إن مسجد إبراهيم عليه السلام، وإن الشق الذي في الجبل خارج باب المسجد هو الموضع الذي اختبأ فيه إبراهيم من النمروذ الذي كان ملك دمشق في وقت إبراهيم، والدعاء فيه مجاب، فمن قصد الله في ذلك الموضع ودعا فه بنية خالصة رأى الإجابة.
قال أبو الحسن الرازي: مسجدا إبراهيم أحدهما في الأشعريين والآخر في برزة.
وعن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسأله رجل عن دمشق وقيل: عن الآثارات بدمشق فقال: بها جبل يقال له قاسيون فيه قتل ابن آدم أخاه، وفي أسفله في الغرب ولد إبراهيم، وفيه آوى الله عيسى بن مريم وأمه من اليهود، وما من عبد أتى معقل روح الله فاغتسل وصلى ودعا لم يرده الله خائباً، فقال رجل: يا رسول الله، صفه لنا، قال: هو بالغوطة، مدينة يقال لها دمشق، وأزيدكم أنه جبل كلمه الله، وفيه ولد أبي إبراهيم، فمن أتى هذا الموضع فلا يعجز في الدعاء، فقام رجل قال: يا رسول الله، أكان ليحيى بن زكريا معقلاً؟ قال: نعم احترس فيه يحيى من هداد رجل من عاد في الغار الذي تحت دم ابن آدم المقتول، وفيه احترس إلياس النبي من ملك قومه، وفيه صلى إبراهيم ولوط وموسى(1/279)
وعيسى وأيوب فلا تعجزوا في الدعاء فيه، فإن الله أنزل علي: " ادعوني أستجب لكم " وربنا يسمع الدعاء. قالوا: كيف ذلك؟ فأنزل الله تعالى: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان ".
وعن كعب الأحبار أنه قال: إنه موضع الحاجات والمواهب من الله عز وجل لا يرد سائلاً فيه.
وروي عن مكحول أنه صعد مع عمر بن عبد العزيز إلى موضع الدم يسأل الله سقياناً فسقاناً.
قال مكحول: وسمعت كعب الأحبار يذكر: أنه موضع الحاجات والمواهب من الله، وأنه لا يرد سائلاً في ذلك الموضع.
قال هشام: وسمعت الوليد يقول: سمعت سعيد بن عبد العزيز قال: صعدنا في خلافة هشام إلى موضع قتل ابن آدم أخاه نسأل الله يسقينا، فأتى مطر فأقمنا في الغار الذي تحت الدم ثلاثة أيام. وفي رواية: فدعونا الله فارتفع عنا وقد رويت الأرض.
قال الوليد بن مسلم: سمعت ابن عباس يقول: كان أهل دمشق إذا احتبس عليهم القطر، أو غلا بيعهم أو جار عليهم سلطان، أو كانت لأحدهم حاجة صعدوا موضع ابن آدم المقتول فيسألون الله، فيعطيهم ما سألوا.
وروي عن أحمد بن كثير قال: صعدت إلى موضع دم ابن آدم عليهما السلام في جبل قاسيون بدمشق، فسألت الله عز وجل الحج فحججت، وسألته الجهاد فجاهد، وسألته الزيارة والصلة في بيت المقدس وعسقلان وعكا والرباط في جميع السواحل فرزقت ذلك كله، وسألته يغنيني عن الأسواق والبيع فرزقت. ولقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وهابيل بن آدم عليهما السلام فقلت له: أسألك بحق الواحد الصمد وبحق أبيك آدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا دمك؟ فقال: إي والواحد الصمد، هذا دمي، جعله الله آية للناس، وإني دعوت الله عز وجل(1/280)
فقلت: اللهم رب أبي وأمي حواء وهذا النبي المصطفى الأمي، اجعل دمي مستغاثاً لكل نبي وصديق، ومن دعا فيه فتجيبه، وسألك فتعطيه فاستجاب الله عز وجل وجعله طاهراً آمناً، وجعل هذا الجبل آمناً ومعقلاً ومعاشاً، ثم وكل الله به ملكاً يقال له عزرائيل وجعل معه من الملائكة بعدد نجوم السماء، يحفظونه ومن أتاه لا يريد إلا الصلاة فيه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد فعل وزاد كرماً وإحساناً، وإني آتيه كل خميس وصاحباي وهابيل نصلي فيه، فقلت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون مستجاب الدعوة وعلمني دعاء لكل ملمة وحاجة فقال لي: افتح فاك، قال: ففتحته، فتفل فيه، ثم قال: رزقت فالزم، رزقت فالزم.
وعن كعب أنه قال: إن إلياس اختبأ من ملك قومه في الغار الذي تحت الدم عشر سنين حتى أهلك الله الملك ووليهم غيره، فأتاه إلياس فعرض عليه الإسلام فأسلم، وأسلم من قومه خلق عظيم غير عشرة آلاف منهم، فأمر بهم فقتلهم عن آخرهم.
قال وهب بن منبه: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
اجتمع الكفار يتشاورون في أمري، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ليتني بالغوطة بمدينة يقال لها دمشق حتى أتي الموضع مستغاث الأنبياء حيث قتل ابن آدم أخاه فأسأل الله أن يهلك قومي فإنهم ظالمون، فأتاه جبريل قال: يا محمد، أئت بعض جبال مكة فأو بعض غارتها فإنها معقلك من قومك. قال: فخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر حتى أتيا الجبل، فوجدوا غاراً كثير الدواب ... فذكر الحديث.
وعن ابن عباس قال: موضع الدم في جبل قاسيون موضع شريف كان يحيى بن زكريا وأمه فيه أربعين عاماً، وصلى فيه عيسى بن مريم والحواريون، فلو كنت سألت الله أن يغفر لعبده ابن عباس يوم يحشر البشر، فمن أتى هذا الموضع فلا يقصر عن الصلاة والدعاء فيه فإنه موضع الحوائج. ومن أراد أن يرى " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " فليأت النيرب الأعلى بين النهرين وليصعد إلى الغار في جبل قاسيون فيصل فيه، فإنه بيت(1/281)
عيسى وأمه وهو كان معقلهم من اليهود. ومن أراد أن ينظر إلى إرم فليأت نهراً في حفر دمشق يقال له بردى، ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التي فيها مريم بنت عمران والحواريون فليأت مقبرة الفراديس.
وقال الزهري: لو يعلم الناس ما في مغارة الدم من الفضل ما هنأ بهم طعام ولا شراب إلا فيها.
ذكر أبو الفرج محمد بن عبد الملك بن المعلم أنه ابتدأ بناء الكهف في سنة سبعين وثلاث مئة قال: رأيت جبريل عليه السلام في المنام، فقال لي: إن الله سبحانه يأمرك أن تبني مسجداً يصلى فيه له ويذكر اسمه، وهو هذا، فقلت: وأني هذا الموضع؟ فسار إلى هذا الموضع الذي سميته أنا كهف جبريل. قلت: أنى لي بذلك؟ قال: إن الله سيوفق لك من يعينك عليه.
قال أبو الفرج: وإنما سميته كهف جبريل عليه السلام ومسجد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأني رأيتهما في المنام فيه. وموضع يرى فيه جبريل ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أجل بقاع الأرض. قال: وجبل دمشق هذا ما أنبت شجرة قط ولا ظهر فيه ثمرة، فلما رأيت جبريل ومحمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنبت الله عز وجل ببركتهما الشجر وظهر فيه الثمر وأكل الناس ما لم يؤكل فيه قط، وصار مسجداً من مساجد الله يذكر فيه اسمه، فمن كانت له حاجة فليغسل جسده بالماء، ويلبس ثوباً طاهراً ثم يقصد إلى الكهف فيصلي فيه ركعتين، يقرأ في كل ركعة بالحمد وسبع مرات قل هو الله أحد. فإذا فرغ من صلاته يقول: اللهم صل على جبريل الروح الأمين وعلى محمد خاتم النبيين سبع مرات، ويسجد فيقول: اللهم إني أتوسل إليك بجبريل الروح الأمين ومحمد خاتم النبيين إلا قضيت حاجتي ويذكرها، فإن الله سبحانه يقضيها له إن شاء الله.
ومما يرجى إجابة الدعاء فيه مسجد القدم عند القطيعة، يقال إن هناك قبر موسى بن عمران صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/282)
ومسجد الباب الشرقي للصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن فيه ينزل عيسى بن مريم عليه السلام.
ومسجد واثلة بن الأسقع داخل الزلاقة على النهر وهو مسجد صغير.
ومسجد فضالة بن عبيد في سوق الكبير جائز مسجد درب الريحان، وهو مسجد سفل صغير، وداره بذلك الموضع، ويعرف اليوم بدار التمارين.
ومسجد أوس بن أوس في درب القلي، وهو مسجد صغير.
والمسجد الذي على باب زقاق عطاف، كان مسجد أيمن بن خريم.
ومسجد سوق الريحان مسجد يزيد بن نبيشة وهو صحابي قرشي من بني عامر بن لؤي.
ودار أبي عبيدة بن الجراح في حجر الذهب، ومسجد بالسقيفة التي عند بني عبد الصمد.
ودار خالد بن الوليد، ومسجده عند باب توما.
وروي بسنده عن الشيخ أبي بكر بن سيد حمدوية قال: لما أراد بناء مسجده المعروف اليوم بأبي صالح وجد في المحراب لوح من فخار عليه مكتوب: هذا مسجد الأولياء، فأصبحنا ولم نره، وغيبه الشيخ وقال: هذا شهرة.(1/283)
ذكر فضل مواضع وجبال بظاهر دمشق وضواحيها
قال الوضين بن عطاء: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: من تكفل لي ببيت في الغوطة أتكفل له ببيت في الجنة.
قال: وهو حديث منقطع.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خلق الله عز وجل جمجمة جبريل عليه السلام على قدر الغوطة.
قال الوليد: وبلغني أن غنم يعقوب عليه السلام كانت ترعى في مرج بالغوطة.
وعن يونس بن ميسرة:
أشرف عيسى بن مريم على الغوطة فقال: يا غوطة وقال الأكفاني: الغوطة إن عجز الغني أن يجمع منك كنزاً لم يعجز المسكين أن يشبع منك خبزاً. ولم يقل ابن الأكفاني: منك، في الموضعين.
عن أبي مسهر، سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول: إنما سميت ثنية العقاب براية خالد بن الوليد حين أشرف عليها بالراية العقاب.
وعن إسحاق بن فروة أن راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوداء صارت إلى خالد بن الوليد، فقاتل بها بني حنيفة(1/284)
ومسلمة. ثم مضى إلى الجزيرة، ثم أتى الشام فقاتل بها في وقائع الشام.
حدثني ابن أبي الرجال عن محمد بن عمارة بن عامر بن عمرو بن حزم قال: كانت راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي يسير فيها تسمى العقاب، راية الأنصار فقلت له: يا عبد الملك، سوداء؟ قال: لا، ولكنها خضراء.
ذكر أبو بكر أحمد بن يحيى البلاذري هذا المعنى ثم قال: وقوم يقولون إنها سميت بعقاب من الطير كانت ساقطة عليها. وسمعت من يقول: كان هناك مثل عقاب من حجارة.
والخبر الأول أصح.
قال قتادة: وحدثني رجل عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن عمرو قال: أرواح المؤمنين تجمع بالجانبين، وأرواح الكفار تجمع ببرهوت وفي سبخة بحضرموت.
قال أبو حاتم: الجانبين: اليمن. وبرهوت. من ناحية اليمن. ولا أدري تفسير أبي حاتم للجانبين محفوظاً. والله أعلم.
عن سعيد بن المسيب قال: أرواح المؤمنين بأرض الجابية، وأرواح الكفار بسبخة حضرموت.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خلق الله تعالى آدم من طين الجابية، وعجنه بماء الجنة.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خلق الله تعالى آدم من طين الجنة، وعجنه بماء من ماء الجنة، وقال: من ماء زمزم.
وحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وغيره أن جند حمص الجند المتقدم، وإنها كانت يومئذ ثغراً، وإن الناس كانوا يجتمعون بالجابية لقبض العطاء، وإقامة البعوث من أرض دمشق، في زمن عمر وعثمان حتى نقلهم إلى(1/285)
معسكر دابق معاوية بن أبي سفيان لقربه من الثغور. قال: فكان والي الصائفة وإمام العامة في أهل دمشق، لأن من تقدمهم من أهل حمص وأهل قنسرين وأهل الثغور مقدمة لهم. وإلى أهلها يولون إن كنت لهم جولة من عدوهم.
وعن كثير المزني عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أربعة أجبل من جبال الجنة، وأربعة أنهار من أنهار الجنة، وأربعة ملاحم من ملاحم الجنة. قيل: فما الأجبل يا رسول الله؟ قال: أحد جبل يحبنا ونحبه جبل من جبال الجنة، وطور جبل من جبال الجنة، ولبنان جبل من جبال الجنة، وقاسيون جبل من جبال الجنة. والأنهار النيل والفرات وسيحون وجيحون. والملاحم بدر وأحد وخيبر والخندق.
عن ابن عباس أنه كتب إلى خالد يسأله عن أشياء من البيت فكتب إليه: إن البيت أسس على خمسة أحجار: حجر من أحد، وحجرين من طور سينا ولبنان، وحجر من ثبير، وحجر من حراء.
عن مجاهد قال: بني البيت من أربعة أجبل: من حراء، وطور زيتا، وطور سينا، ولبنان.
عن قتادة قال: ذكر لنا أن قواعد البيت من حراء. وذكر لنا أن البيت بني من خمسة أجبل: من حراء ولبنان والجودي وطور سينا وطور زيتا.
عن قتادة وذكر قول الله تبارك وتعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ".
قال قتادة: هذا حرم الله قد طاف به آدم ومن بعده، فلما كان إبراهيم أراه الله تعالى مكان البيت(1/286)
فأتبع منه أثراً قديماً فبناه من طور زيتا وطور سينا وجبل لبنان ومن أحد وحراء. وجعل قواعده من حراء. ثم قال: " وأذن في الناس بالحج " قال قتادة في قوله تبارك وتعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ".
قال قتادة: إنهما بنياه على أمر قديم كان قبلهما، فبنياه من خمسة أجبل: من حراء ولبنان، أو لدبنان، والجودي وطور سينا وطور زيتا، وبنيا القواعد من حراء.
عن ابن جريج قال: بني أساس الكعبة من خمسة أجبل: من طور سينا وطور زيتا، ومن لبنان ومن الجودي ومن حراء.
عن كعب قال:
أربعة أجبل: جبل الخليل ولبنان والطور والجودي، يكون كل واحد منهم يوم القيامة لؤلؤة بيضاء تضيء ما بين السماء والأرض، يرجعن إلى بيت المقدس حتى تجعل في زواياه ويضع الجبار جل جلاله عليها كرسيه حتى يقضي بين أهل الجنة والنار " وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين ".
عن كعب قال: جبل لبنان كان عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قال كعب: ولبنان أحد الثمانية أجبل تحمل العرش يوم القيامة.(1/287)
عن أبي الزاهرية قال: أنبئنا، جبل لبنا أحد حملة العرش الثمانية يوم القيامة.
عن الوضين بن عطاء أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: جبل الخليل جبل مقدس، وإن الفتنة لما ظهرت في بني إسرائيل أوحى الله تعالى إلى أنبيائهم أن يفروا بدينهم إلى جبل الخليل.
وحكى بعض أهل العلم قال: سمعت مشايخ أهل الشام يزعمون أن جبل الخليل إنما سمي بذلك لأن الله تبارك وتعالى لما أوحى إلى الجبل: إني أريد أن أتجلى إلى موسى على بعضك تطاولت وشمخت غير جبل الخليل فإنه استخزى وتطامن.
فسمي جبل الخليل.
وعن أبي هريرة وأبي الدرداء لقي أنس أبا الدرداء وأبا هريرة وابن مسعود مقبلين من سلسلة، وسلسلة حصن يكون في ساحل دمشق فيه منبر. قال: فأقمت بسلسلة، وذلك أن جبريل عرض على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر سواحل الشام فعرض عليه سلسلة فوجدها مكتوبة في أسكفة باب عدن وهي جنة المأوى.
قال عبد الله بن مسعود: أقمت فيها ثلاثاً فقصرت الصلاة، والمقصر فيها كمن أتم الصلاة سبعين سنة.
قال أبو الدرداء: فصليت فيها أربع ركعات قرأت في الركعة الأولى " الحمد وقل هو الله أحد " وفي الثانية " الحمد وإذا جاء نصر الله " وفي الثالثة " الحمد وقل يا أيها الكافرون " وفي الرابعة " الحمد وإذا زلزلت " وسمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكره وحدث به.
قال إبراهيم اليماني: قدمت من اليمن فأتيت سفيان الثوري فقلت: يا أبا عبد الله، إني جعلت في نفسي(1/288)
أن أنزل جدة فأرابط بها كل سنة وأعتمر في كل شهر عمرة، وأحج في كل سنة حجة وأقرب من أهلي أحب إليك أم آتي الشام فقال لي: يا أخا أهل اليمن، عليك بسواحل الشام، عليك بسواحل الشام، فإن هذا البيت يحجه في كل عام مئة ألف ومئتا ألف وثلاث مئة ألف، وما شاء الله من التضعيف إلى مثل حجتهم وعمرتهم ومناسكهم.
وعن كعب قال: يا أهل الشام، يا أهل الشام من أراد منكم الرفق في المعيشة مع العبادة فعليه ببيسان، ومن أراد منكم السعة في الرزق والسلامة في الدين فعليه بعرقه، ومن أراد منكم أن يجمع له دينه ودنياه فعليه بصور.(1/289)
كنائس أهل الذمة التي صالحوا عليها
قال عمر بن عبد العزيز: إنه كان في عهد أهل دمشق خمس عشرة كنيسة.
قال أبو مسهر: أقام بعد فتح دمشق من بطارقة الروم بدمشق اثنا عشر بطريقاً، فأقروا في منازلهم وكان لكل بطريق منهم في منزله يعني كنيسة فأقاموا بها حيناً، ثم بدا لهم فهربوا من دمشق وتركوا تلك المنازل، فأقطعها قوم من أشراف دمشق منهم ابن بحدل وابن مدلج العذري وغيرهما. فلما ولي عمر بن عبد العزيز أخرج أولادهم منها وردها على الأعاجم، فلما مات عمر ردت إلى أولاد الذين أقطعوها.
وقال رجاء بن أبي سلمة: خاصم النصارى حسان بن مالك الكلبي إلى عمر بن عبد العزيز في كنيسته بدمشق فقال له عمر: إن كانت من الخمس عشرة كنيسة التي في عهدهم فلا سبيل لك إليها.
قال علي بن أبي حملة: خاصمنا العجم في كنيسة بدمشق يقال لها كنيسة بني نصر، كان معاوية أطعهم إياها، فأخرجهم عمر بن عبد العزيز منها ودفعها إلى النصارى. فلما ولي يزيد ردها إلى بني نصر.
قال ابن المعلى:
قرأت كتاب سجل من يحيى بن حمزة لبنك نصارى قصبة دمشق أنهم ذكروا له أنه شجر بينهم وبين رئيسهم في دينهم وجماعتهم من أهل القرى وعتاقة العرب والغرباء(1/290)
اختلاف وفرقة وأنهم غلبوهم على كنائسهم، وسألوا الوفاء لهم بما في عهدهم وكتابهم الذي كتبه لهم خالد بن الوليد عند فتح مدينتهم، فدعوتهم بحجتهم فأتوني بكتاب خالد بن الوليد لهم فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى خالد بن الوليد أهل دمشق يوم فتحها، أعطاهم أماناً لأنفسهم ولأموالهم وكنائسهم لا نهدمنه ولا نسكننه، لهم على ذلك ذمة الله وذمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين ألا يعرض لهم أحد إلا بخير إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد هذا الكتاب يوم كتب عمرو بن العاص وعياض بن غنم ويزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح ومعمر بن عتاب وشرحبيل بن حنسة وعمير بن سعد، ويزيد بن نبيشة وعبد الله بن الحارث وقضاعي بن عامر. وكتب في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة.
وقرأت كتابهم فوجدته خاصة لهم، وفحصت عن أمرهم فوجدت فتحها بعد حصار، ووجدت ما وراء حيطانها لدفعة الخيل ومركز الرماح. ونظرت في جزيتهم فوجدتها وظيفة عليهم خاصة دون غيرهم، فقضيت لهم بكنائسهم حين وجدتهم أهل هذا العهد وأبناء البلد بنكاً تلداً ووجدت من نازعهم لفيفاً طرؤوا عليهم، وذلك لو أنهم أسلموا بعد فتحها كان لهم صرفها مساجد ومساكن فلهم في آخر الدهر ما في أوله، وقضيت لمن نازعهم بما كان لهم فيها من حلية أو آنية أو كسوة أو بناء أو عرصة أضافوا ذلك إليها يدفع ذلك إليهم بأعيانه إن قدر عليه أو قيمة عدل يوم ينظر فيه. شهد عدد كنائس النصارى التي دخلت في صلحهم بدمشق خمس عشرة كنيسة.(1/291)
بعض الدور التي هي داخل السور
لما استخلف عبد الملك بن مروان طلب من خالد بن يزيد بن معاوية شراء الخضراء، وهي دار الإمارة بدمشق، فابتاعها منه بأربعين ألف دينار وأربع ضياع بأربعة أجناد الشام اختارهن، فاختار من فلسطين عمواس، ومن الأردن قصر خالد، ومن دمشق أندركيسان، ومن حمص دير زكي.
ولما بنى معاوية الخضراء بدمشق وهي دار الإمارة بالطوب. فلما فرغ منها قدم عليه رسول ملك الروم فنظر إلها فقال له معاوية: كيف ترى هذا البنيان؟ قال: أما أعلاه فللعصافير، وأما أسفلة فللفأر، قال: فنقضها معاوية وبناها بالحجارة.
وعدد دوراً ليس في تعدادها كبير فائدة.
وأما ما كان من البنيان خارجاً عن السور فقد روي أن كعب الأحبار خرج من دمشق ومعه نفر يشيعونه، فخرج من باب الجابية حتى إذا كان عند الثنية من دير أو في وقف ثم نظر خلفه ثم سار حتى جاوز الكسوة فلما ودعوه سألوه عن ذلك فقال أما نظري حين خرجت من باب الجابية ووقوفي على الثنية. فإن البينان يتصل إليها حتى يسير السائر في ضوء السراج حتى ينتهي إليها.
وروي عن كعب أنه قال: يتصل العمران ما بين باب الجابية إلى البضيع.(1/292)
وروي عن مطر بن العلاء قال: إنه كان يعرف من رأس زقاق فذايا إلى قرية تعرف بواسط في الغوطة حوانيت ومنازل. وحكى عن شيوخه أن العمران يتصل بهذا حتى يصير سوق القمح في قرحتا.
وروي أنه كان على نهر بزيد رواشن مشرفة على النهر، وكان أكثر ظاهر البلد منازل القبائل وقرى متصلة وأبنية متقاربة، فخرب أكثر ذلك في الفتن والحروب والحصارات وباد أهلوه، وتمادى عليه الخراب إلى الآن، وقل موضع حفر إلا وجد فيه أثر العمارة من سائر نواحي البلد من قبليه وشرقيه وشاميه وغربيه. والله يحرس ما بقي منها ويحميه.(1/293)
الأنهار المحتفرة للشرب وسقي الزرع
ذكر وهب بن منبه أن في ربض الجنة نهراً من أنهار الجنة، فهو أصل أنهار الأرض كلها التي أظهرها الله عز وجل حيثما أراد أن يظهرها، وأن النيل نهر العسل في الجنة، ودجلة نهر اللبن في الجنة، والفرات نهر الخمر في الجنة، وسيحان وجيحان نهران بأرض الهند وهما نهرا الماء في الجنة.
وذكر قصة نهر يزيد وأصله، وفصل ذلك تفصيلاً تماماً وما تفرع منه ومن غيره ثم قال: فهذه الأنهار التي ينتفع بها القاصي والداني، وينقسم منها الماء إلى البلد في القني فينتفع به الناس الانتفاع العام ويتفرق إلى البرك والحمامات، ويجري في الشوارع والسقايات وذلك من المرافق الهنية، والفضيلة العظيمة التي اعتدت من فضائل هذه المدينة، إذ الماء في أكثر البلاد لا ينال إلا بالثمن، وهو الذي تحصل به حياة النفوس.
وقد ورد في فضل سقي الماء ما روي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ليس صدقة أعظم أجراً من ماء.
وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله، ما لا يحل منعه؟ قال: الماء والملح والنار. يا عائشة، من سقى الماء حيث يوجد فكأنما أعتق نفساً، ومن سقى الماء حيث لا يوجد فكأنما أحيا نفساً، ومن أخذ من منزله ملح فطيب به طعام كان كمن تصدق بذلك الطعام على أهله، ومن أخذت من منزله نار لم ينتفع من تلك النار بشيء إلا كان له صدقة.
وعن أبي موسى قال: سألت ابن عباس: أي الصدقة أفضل؟ قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: اسق الماء. قال: ثم؟(1/294)
قال: ألم تر إلى أهل النار إذا استغاثوا يغاثوا بماء كالمهل قال: " أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ".
فهذه الأحاديث تدل على أن الصدقة بالماء من القرب الكبار.
وبدمشق قني لها أو قاف معينة مثبوتة عند متولي الأوقاف، وأكثرها ليس لها أوقاف ولكن يجريها المسلمون، فيحصل بها الانتفاع وتطيب بها الأسقاع. وعددها وفصلها بمواضعها وأسمائها. وعدد جملتها في داخل البلد مئة ونيف وثلاثون قناة. وفي ظاهر البلد تسع عشرة قناة.
فأما الحمامات ففيها وفي ظاهرها سبعة وخمسون حماماً سوى حمامات القرى.
مدح دمشق بطيب الهواء والماء(1/295)
ما ورد في مدح دمشق بطيب الهواء والماء
عن وهب بن منبه قال: لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض لم يسأل إلا عن غوطة دمشق وعن جنتي سبأ.
كان الرشيد يقول: الدنيا أربعة منازل، قد نزلت ثلاثة منها: أحدها الرقة، والآخر دمشق، والآخر الري في وسط نهر وعلى جنتيه أشجار ملتفة متصلة وفيما بينها سوق، والمنزل الرابع سمرقند، وهو الذي بقي علي لم أنزله، وأرجو ألا يحول الحول في هذا الوقت حتى أحل به.
فما كان بين هذا وبين أن توفي إلا أربعة أشهر فقط.
قال أحمد بن الخير الوراق الدمشقي: لم تزل ملوك بني العباس تخف إلى دمشق طلباً للصحة وحسن المنظر، منهم المأمون فإن أقام بها، وأجري إليها قناة من نهر منين في سفح جبلها إلى معسكر بدير مران وبنى القبلة التي بأعلى دير مران وصيرها مرقباً يوقد في أعلاها النار لكي ينظر إلى ما في معسكره إذا جن عليه الليل، وكان ضوؤها وضياؤها يبلغ إلى ثنية العقاب وإلى جبل الثلج.
وعن الفضل بن مروان أن المأمون صار إلى دمشق وهو رقيق فغلظ وأخذ بعض اللحم، وكان أكله قبل ذلك(1/296)
في كل يوم ثمان عشرة لقمة، فلما أقام بدمشق صار أكله في كل يوم أربعاً وعشرين لقمة بزياد الثلث.
ويقال: إن المأمون نظر يوماً من بناء كان فيه إلى أشجار الغوطة وبهائها فحلف بالله إنها خير مغنى على وجه الأرض.
قال يحيى بن أكثم القاضي: كنت بدمشق مع المأمون وحضرت طعامه، فقدم إليه طعام كثير من الفراريج، فجعل المأمون يأكل من تلك الفراريج ويتمطق ويتملظ ويتبسم، وأنا لا أدري ما مقصده بتلمظه، فلما استحكم له طعم الفراريج وبلغ نهاية الاستتمام إلى غايته في ذوقه نظر إلى الطباخ فقال: بأي شيء سمنت هذه الفراريج؟ وبم طيبتها؟ فقال الطباخ: هذه أرعية دمشق، لم تسمن ولم تطيب، فقال لي: ما طعم من طعام الطير ولا ريح من الروائح العذبة إلا وقد خيل لي أنه في هذه الفراريج، وهذا والله أرخس لحماً وأطيب طعماً وريحاً من مسمن كسكر. ثم قال: أو ما علمت أن فراريج كسكر فيها ثقل كسكر وروائح آجامها وكأنها من طير الماء فيها الطعم فإن لم تعالج بالأبازير وتطيب بالأفواه وتروى بالزيت المغسول لم يمكن النظر إليه فضلاً عن أكله، وهي إذا عوينت بما وصفت وعولجت ففيها بقايا سنخها ولئن رجعت إلى العراق لا ذقت منها شيئاً البتة.
قال ابن أبي داود: قال المعتصم بالله.
ما شبهت ساكن دمشق إلا بالصائم في شدة الكلف على الطعام فإنه جائع أبداً، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، فنعمت النعمة هذه. قال: نعم، خير بقاع الأرض إلا أنه يورث الشدة.(1/297)
قال الأصمعي: أحسن الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة، وغوطة دمشق، وسمرقند.
وقال: حشوش الدنيا ثلاثة: عمان وأردبيل وهيت.
وعن الأصمعي قال: جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق ونهر سمرقند ونهر الأبلة.
وقال غيره: في الدنيا ثلاث جنان: مرو من خراسان، ودمشق من الشام، وصنعاء من اليمن، وجنة هذه الجنان صنعاء.
وذكر بعض المغاربة قال: قال قوم من المشرقيين: إن الله أسكنه يعني آدم بناحية كيكدر من كورة الصين. قال: فهي التي تعرف في زماننا بمدينة لغبور. ويقولون: الصين أطيب البلاد. وأما الذي عليه العامة في الشق الغربي أن أطيب البلاد صنعاء من اليمن، ودمشق من الشام، والري من خراسان، ونجران من الحجاز.(1/298)
ذكر تسمية أبوابها ونسبتها
الباب القبلي المعروف بالباب الصغير، سمي بذلك لأنه كان أصغر أبوابها حين بنيت.
الباب الذي يليه من القبلية بشرق: باب كيسان، ينسب إلى كيسان مولى معاوية، وقيل: نسبته إلى كيسان مولى بشر بن عمارة بن حسان بن جبار بن قرط الكلبي. وهو الآن مسدود.
الباب الشرقي، سمي بذلك لأنه شرقي البلد، وكان ثلاثة أبواب باب كبير في الوسط وبابان صغيران من جانبيه سد منها الكبير والباب الصغير الذي من قبلته وبقي الصغير الشامي.
باب توما من شامي البلد، ينسب إلى عظيم من عظماء الروم واسمه توما، وكانت له على بابه كنيسة جعلت بعد مسجداً.
باب الجينيق من الشام أيضاً منسوباً إلى محلة الجينيق، وهو الآن مسدود.
باب السلامة من شام البلد أيضاً، سمي بذلك تفاؤلاً، لأنه لا يتهيأ القتال على البلد من ناحيته لما دونه من الأنهار والأشجار.
باب الفراديس من شآمه أيضاً. منسوب إلى محلة كانت خارج البلد تسمى الفراديس هي الآن خراب، وكان للفراديس باب آخر عند باب السلامة فسد، والفراديس بلغة الروم: البساتين.
باب الفرج من شآمه أيضاً، محدث، أحدثه الملك العادل نور الدين وسماه بهذا الاسم تفاؤلاً لما وجد من التفريج بفتحه، وكان بقربه باب يسمى باب العمارة، فتح عند عمارة القلعة ثم سد بعد، وأثره باق في السور.(1/299)
باب الحديد من شآمة أيضاً، وهو الآن خاص للقلعة التي أحدثت غربي البلد في دولة الأتراك، وسمي بذلك لأنه كل حديد فقيل الباب الحديد، ثم تركت الألف واللام تخفيفاً.
باب الجنان في غربي البلد، سمي بذلك لما يليه من الجنان وهي البساتين، وقد كان مسدوداً ثم فتح.
باب الجابية من غربي البلد، منسوب إلى قرية الجابية، لأن الخارج إليها يخرج منه لكونه مما يليها، وكان ثلاثة أبواب: الأوسط منها كبير ومن جانبيه بابان صغيران على مثال ما كان الباب الشرقي، وكان من الثلاثة أبواب ثلاثة أسواق ممتدة من باب الجابية إلى الباب الشرقي، كان الأوسط من الأسواق للناس، وأحد السوقين لمن يشرق بدابته، والآخر لمن يغرب بدابته، حتى إنه كان لا يلتقي فيها راكبان، فسد الباب الكبير والشامي منها، وبقي القبلي إلى الآن.
وفي السور أبواب صغار غير ما ذكرنا، تفتح عند وجود الحاجة إليها. منها: باب في حارة الحاطب يعرف بباب ابن إسماعيل.
وباب في المدبغة.(1/300)
فضل مقابر أهل دمشق
ومن بها من الأنبياء وغيرهم
كان كعب الأحبار يقول: في مقبرة باب الفراديس: يبعث منها سبعون ألف شهيد يشفعون في سبعين، كل إنسان في سبعين.
وعن كعب قال: بطرسوس من قبور الأنبياء عشرة، وبالمصيصة خمسة، وهي التي يغزوها الروم في آخر الزمان فيمرون بها فيقولون: إذا رجعنا من بلاد الشام أخذنا هؤلاء أخذاً، فيرجعون وقد تحلقت بين السماء والأرض.
قال كعب: وبالثغور وأنطاكية قبر حبيب النجار، وبحمص ثلاثون قبراً، وبدمشق خمس مئة قبر، وببلاد الأردن مثل ذلك.
وفي رواية أخرى مثله وزاد فيه: وبالثغور وبسواحل الشام من قبور الأنبياء ألف قبر، وقال بعد: وببلاد الأردن مثل ذلك، وبفلسطين مثل ذلك، وببيت المقدس ألف قبر، وبالعريش عشرة وقبر موسى بدمشق.
وعن عبد الله بن سلام قال: بالشام من قبور الأنبياء ألفا قبر وسبع مئة قبر، وقبر موسى بدمشق، وإن دمشق معقل الناس في آخر الزمان من الملاحم.(1/301)
وعن ابن عباس قال:
من أراد أن يرى الموضع الذي قال الله عز وجل: " وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين " فليأت النيرب الأعلى بدمشق بين النهرين، وليصعد الغار في جبل قاسيون فيصل فيه، فإنه بيت عيسى وأمه، وهو كان معقلهم من اليهود. ومن أراد أن ينظر إلى إرم فليأت نهراً في حفر دمشق يقال له بردى. ومن أراد أن ينظر إلى المقبرة التي فيها مريم بنت عمران والحواريون فليأت مقبرة الفراديس.
وفي مقبرة دمشق قبور من الصحابة الأخيار. وقد جاء في فضل المقابر التي يدفنون بها: ما روي عن أوس وهو ابن عبد الله بن بريدة عن أخيه أظنه عن أبيه قال: مات أبي بمرو وقبره بحصين.
قال: وقال لي أبي: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من مات من أصحابي بأرض فهو قائدهم يوم القيامة.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيما رجل من أصحابي مات ببلدة فهو إمامهم يوم القيامة.
وفي رواية أخرى عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أحد من أصحابي يموت بأرض إلا كان قائداً ونوراً لهم يوم القيامة.
وعن بريدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنها ستبعث بعوث فكن في بعث خراسان، ثم اسكن مدينة مرو، فإنه بناها ذو القرنين، ودعا لها بالبركة، ولا يصيب أهلها سوء أبداً.
وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات من أصحابي بأرض فهو شفيع لأهل تلك الأرض.(1/302)
وعن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يموت أحد من أصحابي ببلد من البلدان إلا كان لهم نوراً، وبعثه الله يوم القيامة سيد أهل تلك البلد.
قال الراوي: ثم قال لي موسى بن عبد الله: هذه فضيلة لكم يا أهل الكوفة، قد مات أمير المؤمنين ببلدكم.
وأول مقبرة دفن المسلمون فيها بدمشق ما روي أن المسلمين يومئذ نشبوا القتال من تلك الناحية، يعني من ناحية الباب الشرقي، يوم نزولهم على دمشق، فقتل ناس من المسلمين فدفنوا في مقبرة باب توما، فهي أول مقبرة بدمشق للمسلمين.
قال: وأهل العلم يذكرون أن بمقبرة دمشق من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بلال مولى أبي بكر، وسهل بن الحنظلية، وأبو الدرداء.
حدث الحافظ أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الكتاني قال: لم يتفق المسلمون على معرفة عين قبر نبي وصحابي غير قبر نبيناً محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبر صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: قال ابن الأكفاني: أراني الشيخ أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الكتاني قبور الصحابة الذين بظاهر دمشق بباب الصغير: معاوية بن أبي سفيان، وفضالة بن عبيد، وواثلة بن الأسقع، وسهل بن الحنظلية، وأوس بن أوس وهم داخل الحظيرة مما يلي القبلة. وأبو الدرداء خارج الحظيرة، وأم الدرداء خلف الحظيرة، وعبد الله بن أم حرام ويعرف بابن امرأة عبادة بن الصامت محاذ طريق الجادة، وجماعة يقولون إنه قبر أبي بن كعب. قال: وليس بصحيح، وأم حبيب بنة أبي سفيان، أخت معاوية، زوجة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبرها بلاطة مكتوب عليها اسمها رضي(1/303)
الله عنها في جنب حظيرة الصحابة وأختها على قبرها أيضاً بلاطة مكتوب عليها. وبلال بن رباح مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قبره بلاطة مكتوب عليها اسمه.
قال: وأراني قبر الوليد بن عبد الملك، وأخيه مسلمة خلف الحظيرة التي فيها قبور الصحابة مقابل مقبرة أمير الجيوش، على الجادة.
قال: وأراني قبر بريهة بنة الحسن بن علي بن أبي طالب في قبة، وقبر سكينة بنة الحسين بن علي بن أبي طالب في قبة.
وفي رواية أخرى: ووابضة بن معبد، وخريم بن فاتك، ومعبد بن فاتك، وسبرة بن فاتك.
وكان بلال بن رباح نزل داريا، فتزوج بها، ومات بداريا، وحمل حتى دفن هاهنا مع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومدرك بن زياد الفزاري قبره بقرية راوية من غوطة دمشق، وهو أول صحابي توفي بظاهر دمشق.
وسعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج، قبره بقرية المنيحة من غوطة دمشق. وقد اختلف في قبر معاوية: فيقال إنه قبر خلف حائط المسجد الجامع موضع دراسة السبع اليوم. قال: والأصح أن قبره خارج باب الصغير.
وأما قبر أم حبيبة فيمكن أن يكون قبرها هاهنا، لأنها قدمت الشام على أخيها معاوية، وذكرها أبو زرعة في طبقاته قال: والأصح أن قبرها بالمدينة.
وأما بلال فقيل قبره بباب الصغير، وهو أصح الأقاويل، وقيل بباب كيسان، وقيل بداريا، وقيل إنه بحلب وهو قول ضعيف.
وأما بريهة فلا أرى القول في نسبها يصح لأن أصحاب النسب لم يذكروا في ولد الحسن ابنة اسمها بريهة.(1/304)
وأما سكينة بنت الحسين فإنها تزوجت بالأصبغ بن عبد العزيز بن مروان الذي كان بمصر، ورحلت إليه، فمات قبل أن تصل إليه، فيحتمل أنها قدمت دمشق وماتت بها. قال: والصحيح أنها ماتت بالمدينة وأمرهم الوالي ألا يدفنوها حتى يحضرها، وركب إلى بعض أحواله بنواحي المدينة وكان اليوم حاراً، فتغيرت رائحتها، واشتري لها طيب كثير ليغلب الرائحة فلم يغلب، ثم بعث إليهم أن ادفنوها فإني مشغول، فدفنت ولم يحضر.
وسعد بن عبادة مات بحوران، فيحتمل أنه حمل ودفن في المنيحة.(1/305)
حرف الألف
ذكر من اسمه أحمد
أحمد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أحمد ومحمد والحاشر والمقفي والعاقب بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو القاسم المصطفى خاتم النبين وسيد المرسلين ونبي الرحمة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قدم البصرة من نواحي دمشق قبل أن يوحى إليه، وهو صغير، مع عمه أبي طالب، ومرة أخرى في تجارة لخديجة مع ميسرة غلامها.(2/5)
ذكر قدومه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصرى
عن أبي موسى قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أشياخ من قريش. فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم، فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت. قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين. فقال له أشياخ من قريش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً، ولا يسجدن لنبيٍ، وإني أعرفه، خاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة.
ثم رجع، فصنع لهم طعاماً، فلما أتاهم به وكان في رعية الإبل، فقال: أرسلوا إليه، فأقبل وعليه غمامة تظله، فقال: انظروا إليه، عليه غمامة، فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوا إلى فيء الشجرة، فلما جلي مال فيء الشجرة عليه فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه. قال: فبينا هو قائم عليهم، وهو يناشدهم ألا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فقتلوه، فالتفت فإذا هو بسبعة نفر قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا أن هذا النبي خارجٌ في هذا الشهر، فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناسٌ، وإنا أخبرنا خبره، بعثنا إلى طريقك هذا فقال لهم: هل خلفتم خلفكم أحداً هو خير منكم؟ قالوا: لا إنا أخبرنا خبره بطريقك هذا، قال: أفرأيتم أمراً أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا، قال: فتابعوه، وأقاموا معه، قال: فأتاهم فقال: أنشدكم بالله أيكم وليه؟ قالوا:(2/6)
أبو طالب، فلم يزل يناشده حتى رده وبعث معه أبو بكر بلالاً وزوده الراهب من الكعك والزيت.
وشب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه، ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريد به من كرامته، وهو على دين قومه، حتى بلغ أن كان رجلاً أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم مخالطة، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً وأمانة، وأصدقهم حديثاً، وأبعدهم من الفحش والأذى، ما رؤي ملاحياً ولا ممارياً أحداً، حتى سماه قومه الأمين لما جمع الله من الأمور الصالحة فيه، فلقد كان الغالب عليه بمكة الأمين. وكان أبو طالب يحفظه ويحوطه، ويعضده وينصره إلى أن مات.
قال ابن إسحاق: وكان أبو طالب هو الذي إليه أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد جده، فكان إليه ومعه. ثم إن أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً. فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير هب له رسول الله صلى الله عله وسلم فأخذ بومام ناقته وقال: يا عم، إلى من تكلني؟ لا أب لي ولا أم لي، فرق له أبو طالب وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني ولا أفارقه أبداً. أو كما قال.
قال: فخرج به معه، فلما نززلوا بظل شجرة قريباً(2/7)
منه، فنظر إلى الغمامة حتى أظلت الشجرة، وتهرصت أغصان الشجرة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى استظل تحتها. فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع، ثم أرسل إليهم فقال: إني قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش، وأنا أحب أن تحضروا كلكم صغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم فقال له رجل منهم: يا بحيرى، إن لك اليوم لشأناً، ما كنت تصنع هذا فيما مضى، وقد كنا نمر بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرى: صدقت، وقد كان ما تقول، ولكنكم ضيفٌ، وقد أحببت أن أكرمكم واصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلكم.
فاجتمعوا إليه، وتخلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بين القوم، لحداثة سنه، في رحال القوم تحت الشجرة. فلما نظر بحيرى في القوم لم يرى الصفة التي يعرف ويجد عنده، قال: يا معشر قريش، لا يتخلف أحدٌ منكم عن طعامي هذا، قالوا له: يا بحيرى، ما تخلف عنك أحدٌ ينبغي له أن يأتيك إلا غلام هو أحدث القوم سناً تخلف في رحالهم. قال: فلا تفعلوا، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجل من قريش مع القوم: واللات والعزى إن هذا للؤم بنا، يتخلف ابن عبد الله بن عبد المطلب عن الطعام من بيننا! ثم قام إليه فاحتضنه ثم أقبل به حتى أجلسه مع القوم، فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظاً شديداً، وينظر إلى أشياء من جسده، قد كان يجدها عنده في صفته، حتى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرقوا قام بحيرى فقال له: يا غلام، أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه، وإنما قال بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما، فزعموا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له: لا تسلني باللات والعزى شيئاً، فو الله ما أبغضت بغضهما شيئاً فقال له بحيرى: فبالله إلا أخبرتني عما أسألك عنه؟ فقال: سلني عما بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من حاله من نومه وهيئته وأموره، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبره فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته، ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. فلما فرغ منه أقبل على عمه أبي طالب فقال له: ما هذا الغلام منك؟ فقال: ابني، فقال له بحيرى؟ ما هو بابنك، ما ينبغي لهذا الغلام أن يكون أبوه حياً. قال: فما فعل(2/8)
أبوه؟ قال: مات وأمه حبلى به، قال: ارجع بابن أخيك إلى بلده وأحذر عليه اليهود، فو الله إن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن لابن أخيك هذا شان، فأسرع به إلى بلاده، فخرج به عمه أبو طالب سريعاً حتى أقدمه مكة حين فرغ من تجارته بالشام.
فزعموا فيما يتحدث الناس أن زبيراً وتماماً ودريساً وهم نفر من أهل الكتاب قد كانوا رأوا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك السفر الذي كان فيه مع عمه أبي طالب أشياء، فأرادوه، فردهم عنه بحيرى وذكرهم الله وما يجدون في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أجمعوا لما أرادوا لم يخلصوا إليه حتى عرفوا ما قال لهم وصدقوه بما قال فتركوه وانصرفوا.
وذكر أبو الحسن الوارق: أنه قدم مع أبي طالب لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من الفيل، وقدم الشام مع ميسرة لأربع عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة خمس وعشرين من الفيل، وكان الراهب الذي أخبر به في هذه القدمة اسمه نسطور الراهب.
روت نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية قالت: لما بلغ رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمساً وعشرين سنة قال له أبو طالب: أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وهذه عير قومك قد حضر خروجها إلى الشام، وخديجة بنت خويلد تبعث رجالاً من قومك في عيراتها، فلو جئتها فعرضت نفسك عليها لأسرعت إليك، وبلغ خديجة ما كان من محاورة عمه له فأرسلت إليه في ذلك وقالت: أنا أعطيك ضعف ما أعطي رجلاً من قومك. قال أبو طالب: هذا رزقٌ قد ساقه الله إليك، فخرج مع غلامها ميسرة، وجعل عمومته يوصون به أهل العير، حتى قدما بصرى من الشام فنزلا في ظل شجرة، فقال نسطور الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة قط إلا نبيٌ ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة؟ قال: نعم، لا تفارقه. قال: هو نبيٌ، وهو آخر الأنبياء.(2/9)
ثم باع سلعته، فوقع بينه وبين رجل تلاحٍ فقال له: آخذه باللات والعزى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حلفت بهما قط، وإني لأمر فأعرض عنهما، فقال الرجل: القول قولك، ثم قال لميسرة: هذا والله نبيٌ، تجده أحبارنا مبعوثاً في كتبهم.
وكان ميسرة إذا كانت الهاجرة واشتد الحر يرى ملكين يظلان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشمس فوعى ذلك كله. وكان الله قد ألقى عليه المحبة من ميسرة فكان كأنه عبد.
وباعوا تجارتهم وربحوا ضعف ما كانوا يربحون، فلما رجعوا فكانوا بمر الظهران قال ميسرة: يا محمد، انطلق إلى خديجة وأخبرها بما صنع الله لها على وجهك، فإنها تعرف لك ذلك، فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة وخديجة في علية لها فرأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على بعيره وملكان يظلان عليه، فأرته نساءها، فعجبن لذلك، ودخل عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخبرها بما ربحوا في وجههم، فسرت بذلك. فلما دخل ميسرة أخبرته بما رأت فقال ميسرة: قد رأيت هذا منذ خرجنا من الشام، وأخبرها بما قال الراهب نسطور وبما قال الآخر الذي خالفه في البيع. وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتجارتها فربحت ضعف ما كانت تربح، وأضعفت له ضعف ما سمت له.(2/10)
ذكر معرفة أسمائه وأنه خاتم رسل الله
وعن جبير بن مطعم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد. وقد سماه الله رؤوفاً رحيماً.
وفي رواية: والعاقب الذي ليس بعده نبي.
وفي رواية: وأنا العاقب الذي لا نبي بعدي.
وعن نافع بن جبير: أنه دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: أتحصي أسماء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي كان جبير بن مطعم يعدها؟ قال: نعم، هي ستة: محمد وأحمد وخاتم وحاشر والعاقب، وقيل: وعاقب وماحٍ. فأما حاشر فبعث مع الساعة بين عذاب شديدٍ، والعاقب عاقب الأنبياء. وماحٍ محى الله به سيئات من اتبعه.
وعن حذيفة قال: بينما أنا أمشي في طريق المدينة إذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي قال: سمعته يقول: أنا محمد وأحمد ونبي الرحمة ونبي التوبة والحاشر والمقفي ونبي الملاحم.
وعن أبي الطفيل قال: قال رسول الله صلىالله عليه وسلم: إن لي عند ربي عشرة أسماءٍ. قال أبو الطفيل: حفظت منها ثمانيةً: محمد وأحمد وأبو القاسم والفاتح والخاتم والعاقب والماحي والحاشر. وقيل إن الاسمين الباقيين يس وطه.(2/11)
وعن ابن عباس: في قوله عز وجل " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " يا رجل، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى. فكان يقوم الليل على رجليه. فهي لغة لعكٍ، إن قلت لعكيٍ: يا رجل، لم يلتفت، فإذا قلت له طه التفت إليك.
وعن الخليل بن أحمد: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين، محمد وأحمد نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعيسى المسيح، وإسرائيل، ويعقوب، ويونس، وذو القرنين، وإلياس، وذو الكفل.
ولنبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين خمسة أسماء في القرآن: محمد وأحمد وعبد الله وطه ويس قال الله تعالى في ذكر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " محمد رسول الله " وقال: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " وقال الله تعالى في ذكر عبد الله " وأنه لما قام عبد الله " يعني النبي صلى الله صلى عليه وسلم ليلة الجن " كادوا يكونوا عليه لبدا " وإنما كانوا يقعون على بعض كما أن اللبد يتخذ من الصوف فيوضع بعضه على بعض فيصير لبدا. وقال عز وجل " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى " والقرآن إنما نزل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون غيره. وقال الله عز وجل: " يس " يعني يا إنسان، والإنسان هاهنا العاقل وهو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " إنك لمن المرسلين " وزاده غيره فقال: سماه الله في القرآن رسولاً نبياً أمياً وسماه " شاهد ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً " وسماه رؤوفاً رحيماً. وسماه نذيراً مبيناً. وسماه مذكراً. وجعله رحمة ونعمة وهادياً وسماه عبداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثيراً.(2/12)
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
سيد بنى داراً واتخذ مأدبةً وبعث داعياً. فالسيد: الجبار، والمأدبة: القرآن، والدار: الجنة، والداعي: أنا، فأنا اسمي في القرآن محمد، وفي الأنجيل أحمد، وفي التوراة أحيد، وإنما سميت أحيد لأني أحيد أمتي عن نار جهنم، فأحبوا العرب بكل قلوبكم.
وعن ابن عباس قال: لما ولد النبي صلى الله صلى عليه وسلم عق عنه عبد المطلب بكبش وسماه محمداً فقيل له: يا أبا الحارث، ما حملك على أن سميته محمداً ولم تسمه باسم آبائه؟ قال: أردت أن يحمد الله عز وجل في السماء ويحمده الناس في الأرض.
قال علي بن زيد بن جدعان: تذاكروا أي بيتٍ من الشعر أحسن، فقال رجل: ما سمعنا بيتاً أحسن من قول أبي طالب: من الطويل
وشق له من اسمه ليجله ... فذوا العرش محمودٌ وهذا محمد(2/13)
ذكر معرفة كنيته
ونهيه أن يجمع بينها وبين اسمه
عن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بالبقيع فنادى رجل: يا أبا القاسم، فالتفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال الرجل: لست إياك أعني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي.
وعن جابر قال: ولد لرجل منا غلام فسماه محمداً. فقال له قومه: لا ندعك تسميه باسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانطلق بابنه حامله على ظهره فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي، فإنما أنا قاسم أقسم بينكم.
وعن جابر بن عبيد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي فأنا أبو القاسم أقسم بينكم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تجمعوا بين كنيتي واسمي أو بين اسمي وكنيتي، أنا القاسم، الله يعطي، وأنا أقسم.
وأما نهيه عن الجمع بينهما فقد روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من تسمى باسمي فلا يكتني بكنيتي.
وعنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تجمعوا بين اسمي وكنيتي.(2/14)
وقد روي: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرخص في الجمع بينهما لولد علي بن أبي طالب. كما روي عن ابن الحنفية أن علياً قال: يا رسول الله، إن ولد لي بعدك ولدٌ، أسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ فقال: نعم. فكانت رخصة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي.
وروي عنه ما يدل على إباحة الجمع بينهما مطلقاً فيما روي عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إني قد ولدت غلاماً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، فذكر لي أنك تكره ذلك. فقال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي؟ وذهب مالك إلى الأخذ بهذا فيما قال حمد بن زنجويه في كتاب الأدب قال: سألت ابن أبي أويس: ما كان مالك يقول في الرجل يجمع اسم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكنيته؟ فأشار إلى شيخ جالس معنا فقال: هذا محمد بن مالك، سماه محمداً وكناه القاسم. وكان يقول: إنما نهي عن ذلك في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كراهة أن يدعى أحدٌ باسمه أو كنيته فيلتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأما اليوم فلا بأس.
وذهب الشافعي أن ذلك لا يجوز كما روي عن الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول: لا يحل لأحد أن يكتني بأبي القاسم كان اسمه محمداً أو غيره.
قال: وقد كناه جبريل عليه السلام أبا إبراهيم.
كما روي عن أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لما ولد إبراهيم بن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم.(2/15)
ذكر نسبه والاختلاف فيه
عن أنس بن مالك وعن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا: بلغ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رجالاً من كندة يزعمون أنه منهم فقال: إنما كان يقول ذلك العباس وأبو سفيان بن حرب إذا قدما المدينة فيأمنا بذلك، وأنه لن ننتفي من آبائنا، نحن بنو النضر بن كنانة.
قال: وخطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار. وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما. فأخرجت من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية. وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي، فأنا خيركم نفساً، وخيركم أباً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقد فصل في رواية أخرى فقال: ابن نزار بن معد بن عدنان بن أدد.
قال محمد بن إدريس الشافعي: اسم عبد المطلب شيبة، واسم قصي زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، واسم مدركة عامر بن إلياس بن مضر.
وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا انتهى إلى معد بن عدنان أمسك. وقال: كذب النسابون.(2/16)
قال الله عز وجل: " وقروناً بين ذلك كثيراً " قال ابن عباس: لو شاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعلمه لعلمه.
وأم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. وعن عروة بن الزبير وسليمان بن أبي حثمة قالا: ما وجدنا في شعر شاعر ولا في علم عالم أحداً يعرف ما وراء معد بن عدنان بحقٍ لأن الله عز وجل يقول: " وقروناً بين ذلك كثيراً ".
وقد اختلفوا فيما بعد عدنان اختلافاً كثيراً.
واسم آمنة أم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب، واسم أم عبد الله أبي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب. وأم عبد المطلب جد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلمى بنت عدي بن زيد من بني النجار.
وحدث عبد الملك بن هشام عن زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق قال: معد بن عدنان بن أدد بن مقوم بن ناحور بن تيرح بن يعرب بن يشجب بن نابت بن إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن بن تارح وهو آزر بن ناحور بن شاروخ بن راغو بن فالج بن عيبر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ وهو إدريس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما يزعمون. والله أعلم، وكان أول نبي أعطي النبوة وخط بالقلم ابن يرد بن مهليل بن قتين بن يانش بن شيث بن آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/17)
معرفة أمه وجداته وعمومته ووعماته
عن ابن عباس: في قوله عز وجل: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " قال: ليس في العرب قبيلة إلا وقد ولدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضريها وربعيها ويمانيها.
قال محمد بن السائب الكلبي: أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة. وأمها برة بنت عبد العزى عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب.
وأمها أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.
وأمها برة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي.
وأمها قلابة بنت الحارث بن مالك بن حباشة بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة بن كعب بن هند بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر.
وأمها أميمة بنت مالك بن غنم بن لحيان بن عادية بن صعصعة.
وأمها دب بنت ثعلبة بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة.
وأمها عاتكة بنت غاضرة بن حطيط بن جشم بن ثقيف وهو قسي بن منبه بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان واسمه إلياس بن مضر.
وأمها ليلى بنت عوف بن قيس، وهو ثقيف.
وأم وهب بن عبد مناف بن زهرة جد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قيلة، ويقال: هند بنت أبي قيلة وهو وجر بن غالب بن الحارث بن عمرو بن ملكان بن أفصى بن حارثة من خزاعة.(2/18)
وأمها سلمى بنت لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. وأمها مارية بنت كعب بن اليقين من قضاعة.
وأم وجر بن غالب السلافة بنت واهب بن البكير بن مجدعة بن عمرو من بني عمرو بن عوف الأوس.
وأمها ابنة قيس بن ربيعة من بني مازن بن لؤي بن ملكان بن أفصى أخي أسلم بن أفصى. وأمها النعجة بنت عبيد بن الحارث من بني الحارث بن الخزرج.
وأم عبد مناف بن زهرة جمل بنت مالك بن قصية بن أسعد بن مليح ين عمرو بن خزاعة. وأم زهرة بن كلاب أم قصي وهي فاطمة بنت سعد بن سيل وهو جبر بن حمالة بن عوف بن عامر بن الحادر من الأزد.
وأم عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي عاتكة بنت عمرو بن سعد بن أسلم بن عوف الثقفي.
وأم عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم وهي أقرب الفواطم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأمها صخرة بنت عبد بن عمران بن مخزوم.
وأمها تخم بنت عبد بن قصي.
وأمها سلمى بنت عامر بن عمرو بن وديعة بن الحارث بن فهر.
وأمها عاتكة بنت عبد الله بن وائلة بن ظرب بن عباد بن عمرو بن بكر بن يشكر بن الحارث وهو عدوان بن عمرو بن قيس، ويقال: عبد الله بن حرب بن وائلة.
وأم هاشم بن عبد مناف بن قصي: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان بن(2/19)
ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان وهي أقرب العواتك إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعدد من الأمهات جماعة قال: والعواتك ثلاث عشرة، والفواطم عشر، والعاتكة في كلام العرب الطاهرة.
وعن قتادة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في بعض مغازيه:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
أنا ابن العواتك
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا ابن العواتك " من سليم. العواتك ثلاث نسوة من سليم تسمى كل واحدة منهن عاتكة: إحداهن عاتكة بنت هلال بن فالخ بن ذكوان وهي أم عبد مناف بن قصي.
والثانية: عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان وهي أم هاشم بن عبد مناف.
والثالثة: عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فالأولى من العواتك عمة الوسطى والوسطى عمة الأخرى.
وبنو سليم تفخر بأشياء: منها أن لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم هذه الولادات.
ومنها أنها ألفت معه يوم فتح مكة، وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم لواءهم على الألوية يومئذٍ وكان أحمر.
ومنها أن عمر بن الخطاب كتب إلى أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل مصر وأهل الشام أن ابعثوا إلي من كل بلد بأفضله رجلاً: فبعث أهل الكوفة عتبة بن فرقد السلمي، وبعث أهل البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، وبعث أهل مصر معن بن زيد بن الأخنس السلمي، وبعث أهل الشام أبا الأعور السلمي. فصار في هذه الأمصار كلهم لسليم.(2/20)
وروي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال يوم أحد: أنا ابن الفواطم: فأولاهن فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم وهي أم عبيد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
والثانية فاطمة بنت عبد الله بن رازم بن جحوش وهي أم عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم.
والثالثة فاطمة بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن عمرو بن عايذ بن يشكر بن عبد القيس بن عدوان وهي أم سلمى بنت عامر بن عمرة بن وديعة بن الحارث بن فهر.
والرابعة فاطمة بنت عوف بن عدي بن حارثة البارقي بارق الأزد وهي أم مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب.
والخامسة فاطمة بنت سعد بن سيل أحد الجدرة من خثعمة الأسد حلفاء في بني الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهي أم قصي بن كلاب وزهرة بن كلاب.
والسادسة فاطمة بنت عامر بن نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعي وهي أم حبي بنت جليل بن سلوان الخزاعي، وحبي بنت جليل أم عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد وتخم وبرة بني قصي بن كلاب.
والذي ثبت خمس من الفواطم.
قال أبو عبد الله العدوي: العواتك أربع عشرة: ثلاث قرشيات وأربع سلميات وعدوانيتان وهذلية وقحطانية وقضاعية وثقفية وأسدية، أسد خزيمة.
فالقرشيات من قبل أمه: آمنة بنت وهب وأمها ريطة بنت عبد العزى بن عثمان وأمها أم حبيب وهي عاتكة بنت أسد بن عبد العزى. وأمها ريطة بنت كعب، وكانت ريطة أول امرأة من قريش ضربت قباب الأدم بذي المجاز. وأمها قلابة بنت حذافة بن جمح الحظيا ويقال الخطيا.(2/21)
وكان داود بن مسور المخزومي يقول: الحظيا من طريق الكلام، وغيره يقول: الخطيا من طريق الخطوة وأمها آمنة بنت عامر الجان، ويقال لعامر الجان هو عامر بن غبشان من خزاعة، وأمه عاتكة بنت هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر. وأم أهيب بن ضبة محشية بنت محارب بن فهر. وأمها عاتكة بنت مخلد بن النضر بن كنانة وهي الثالثة.
وأما السلميات فولدنه من قبل هاشم بن عبد مناف بن قصي، ومن قبل وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج بن ذكوان، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت مرة بن عدي بن أسلم بن أفصى من خزاعة. ويقال: إن أم مرة بن هلال بن فالج هي عاتكة بنت جابر بن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس من سليم وهي الثانية. وأم هلال بن فالج بن ذكوان عاتكة بنت الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور وأم وهب بن عبد مناف بن زهرة عاتكة بنت الأوقص بن هلال بن فالج بن ذكوان. فهؤلاء العواتك السلميات.
وأما العدوانيتان فولدتاه من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب، ومن قبل مالك بن النضر. فأما التي ولدته من قبل أبيه عبد الله بن عبد المطلب وهي السابعة من أمهاته ويقال الخامسة فهي عاتكة بنت عبد الله بن ظرب بن الحارث بن وائلة العدواني، ومن قال إنها السابعة فهي عاتكة بنت عامر بن ظرب بن عمرو بن عايذ بن يشكر العدواني. ومن قبل مالك بن النضر فأم مالك عاتكة بنت عمرو بن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان.
وأما الهذلية فولدته من قبل هاشم بن عبد مناف أم هاشم عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج واسمها ماوية بنت حورة بن عمرو بن صعصعة بن بكر بن هوزان. وأم معاوية بن بكر بن هوزان عاتكة بنت سعد بن هذيل الهذلية.
وأما الأسدية فولدته من قبل كلاب بن مرة وهي الثالثة من أمهاته، وهي عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وأما الثقفية فهي عاتكة بنت عمرو بن سعد بن أسلم بن عوف الثقفي. وهي أم عبد(2/22)
العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وعبد العزى جد آمنة بنت وهب. وأم آمنة بنت وهب برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي.
وأما القحطانية فولدته من قبل غالب بن فهر، أم غالب بن فهر ليلى بنت سعد بن هذيل، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس، وأم سلمى عاتكة بنت الأزد بن الغوث. وعاتكة أيضاً هي الثالثة من أمهات النضر.
وأما القضاعية فولدته من قبل كعب بن لؤي وهي الثالثة من أمهاته. وهي عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
قال الزبير بن بكار: فولد عبد المطلب بن هاشم عبد الله أبا سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبا طالب واسمه عبد مناف، وفي حجره كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد جده عبد المطلب، وكان عليه رفيقا يمنعه من مشركي قريش وآل أبي طالب. أوصى عبد المطلب برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
والزبير بن عبد المطلب وكان من أشراف قريش ووجوهها. وعبد الكعبة وأم حكيم البيضاء وهي توأمة أبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعاتكة وهي صاحبة الرؤيا في بدر، وبرة وأميمة وأروى بنات عبد المطلب، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وحمزة بن عبد المطلب أسد الله، وأسد رسوله من المهاجرين الأولين، شهد بدراً وكان أسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأربع سنين واستشهد يوم أحد، والمقوم وحجلا، واسمه المغيرة، وصفية، هؤلاء الأربعة لأم. وصفية أسلمت وهاجرت وأمهم هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة.
والعباس بن عبد المطلب وكان أسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين وكان شريفاً عاقلاً مهيباً.(2/23)
وضرار بن عبد المطلب. وأم العباس وضرار نتلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر وهو الضحيان بن سعد بن الخزرج من تيم الله بن النمر بن قاسط بن دعمي بن ربيعة بن نزار من بني القرية، والقرية أم بني عمرو بن عامر، وكان ضرار من فتيان قريش جمالاً وسخاء.، ومات أيام أوحى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عقب له. والحارث بن عبد المطلب وهو أكبر ولده، وبه كان يكنى، وحفر مع أبيه زمزم. وقثم هلك صغيراً. وبه أسمى العباس ابنه قثم، وأمهما صفية بنت جندب بن جحش بن رياب بن حبيب بن سواءة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان.
وأبا لهب كناه عبد المطلب أبا لهب من حسنه. واسمه عبد العزى. وكنيته أبو عتبة وكان جواداً وأمه ليلى بنت هاجر بن عبد مناف بن ضاطر بن حبشية بن سلول من خراعة. والغيداق بن عبد المطلب.
قال مصعب بن عبد الله:
اسمه مصعب، وقال غيره من قريش: اسمه نوفل. وإنما سمي الغيداق أنه كان أجود قريش وأكثرهم طعاماً ومالاً، وأمه ممنعة بنت عمرو بم مالك بن مؤمل من خزاعة، وأخوه لأمه عوف بن عبد عوف بن عبد الحارث بن زهرة بن كلاب، وهو أبو عبد الرحمن بن عوف.(2/24)
قال الكلبي: فكم يكن العرب بنو أب مثل بني عبد المطلب أشرف منهم، ولا أجسم، شم العرانين، تشرف أنوفهم قبل شفاههم.
والعقب من بني عبد المطلب للعباس وأبي طالب والحارث وأبي لهب. وقد كان لحمزة والمقوم والزبير وحجل بني عبد المطلب أولاد لأصلابهم فهلكوا، والباقون لم يعقبوا، وكان العدد من بني هاشم في بني الحارث ثم تحول إلى بني أبي طالب ثم صار في بني العباس. ولما حضرت عبد المطلب الوفاة قال لبناته: ابكين علي حتى أسمع، وكن ست نسوة.
قال محمد بن سعد: عمات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صفية بنت عبد المطلب. وكان تزوجها في الجاهلية الحارث بن حرب بن أمية بن عبد شمس. فولدت له صفياً، رجل، ثم خلف عليها العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى فولدت له الزبير والسائب وعبد الكعبة، وأسلمت صفية وبايعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهاجرت إلى المدينة، وأطعمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعين وسقاً بخيبر. وقبر صفية بنت عبد المطلب بالبقيع بفناء دار المغيرة بن سعيد، وتوفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب، وروت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأروى بنت عبد الطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي وأمها فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم. تزوجها في الجاهلية عمرو بن وهب بن عبد قصي فولدت له طليباً، ثم خلف عليها أرطاة بن عبد شرحبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي فولدت له فاطمة، ثم أسلمت أروى بنت عبد المطلب بمكة وهاجرت إلى المدينة.
وقيل: ماتت صفية بنت عبد المطلب سنة عشرين. وقيل: توفيت في إمارة عثمان.
وروي أيضاً عن محمد بن سعد قال: عاتكة بنت المطلب تزوجها في الجاهلية أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن(2/25)
عمر بن مخزوم، فولدت له عبد الله وزهيراً وقريبة ثم أسلمت عاتكة بمكة، وهاجرت إلى المدينة.
وكان من عماته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ممن لم يدرك الإسلام أم حكيم وهي البيضاء بنت عبد المطلب، وكان تزوجها في الجاهلية كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، فولدت له عامراً وأروى وطلحة وأم طلحة.
فتزوج أروى بنت كريز عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، فولدت له عثمان بن عفان، ثم خلف عليها عقبة بن أبي معيط، فولدت له الوليد وخالداً وأم كلثوم، بني عقبة.
وبرة بنت عبد المطلب تزوجها في الجاهلية عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، فولدت له أبا سلمة بن عبد الأسد، شهد بدراً. وهو زوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم خلف على برة بعد الأسد أبو رهم بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، فولدت له أبا سبرة بن أبي رهم. شهد بدراً.
وأميمة بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف تزوجها في الجاهلية جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، حليف حرب بن أمية بن عبد شمس، فولدت له عبد الله، شهد بدراً، وعبيد الله وعبداً وهو أبو أحمد. وزينب بنت جحش زوج سيدنا محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحمنة بنت جحش.
وأطعم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أميمة بنت عبد المطلب أربعين وسقاً من تمر خيبر. قال: الصحيح هذا. أسلمت أميمة.(2/26)
ذكر طهارة مولده وطيب أصله
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ولدني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما ولدني إلا نكاح كنكاح الإسلام.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما ولدتني بغي قط مذ خرجت من صلب آدم. ولم تزل تنازعني الأمم كابراً عن كابر حتى خرجت من أفضل حيين من العرب: هاشم وزهرة.
وعن ابن عباس: (وتقلب في الساجدين) قال: من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبياً.
وقال عطاء بن أبي رباح قال: ما زال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتقلب في أصلاب النساء حتى ولدته أمه.
وعن الكلبي قال: كتبت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس مئة أم، فما وجدت فيهن سفاحاً ولا شيئاً مما كان من أمر الجاهلية.
وعن محمد بن جعفر العلوي قال: أشهد على أبي يحدثني عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ما أصابني من سفاح الجاهلية شيء.(2/27)
وروى جعفر بن محمد عن أبيه: في قوله تبارك وتعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم " قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. وروى ابن عباس قال: كانت امرأة الجاهلية من خثعم تعرض نفسها في مواسم الحج، وكانت ذات جمال وكان معها أدم أن تطوف بها كأنها تبيعها، فأتت على عبد الله بن عبد المطلب فأظن أنه أعجبها فقالت: إني والله، ما أطوف بهذا الأدم، ومالي بها وإلى ثمنها حاجة، وإنما أتوسم هل أجد كفؤاً، فإن كانت لك إلي حاجة فقم، فقال لها: مكانك أرجع إليك، فانطلق إلى رحله فبدأ فواقع أهله فحملت بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رجع إليها قال: ألا أراك ها هنا؟ قالت: ومن أنت؟ قال: الذي واعدتك. قالت: لا ما أنت هو، ولئن كنت هو لقد رأيت بين عينيك نوراً ما أراه الآن.
وفي رواية قالت: هل أتيت امرأة بعدي؟ قال: نعم، امرأتي آمنة بنت وهب. قال: فلا حاجة لي فيك. إنك مررت وبين عينيك نور ساطع إلى السماء، فلما وقعت عليها ذهب. فأخبرها أنها قد حملت خير أهل الأرض.
وقال ابن العباس: لما انطلق عبد المطلب بابنه عبد الله ليزوجه مر به على كاهنة من أهل تبالة متهودة، قد قرأت الكتب يقال لها فاطمة بنت مر الخثعمية، فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك ئة من الإبل؟ فقال عبد الله:
أما الحرام فالممات دونه ... والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه؟
فزوجه آمنة بنت وهب، فأقام عندها ثلاثاً، ثم إن نفسه دعته إلى ما دعته إليه(2/28)
الكاهنة فأتاها فقالت: يا فتى، ما صنعت بعدي؟ فأخبرها، فقالت: والله ما أنا بصاحبة ريبة، ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون في، وأبى الله تعالى أن يصيره إلا حيث أراد، وقالت في ذلك شعراً.
وقال ابن عباس: إن المرأة التي عرضت نفسها على عبد الله بن عبد المطلب ما عرضت امرأة من بني أسد بن عبد العزى، وهي أخت ورقة بن نوفل، قتيلة، وكانت تنظر وتعتاف، وقيل إنها قالت: مررت وبين عينيك غرة مثل غرة الفرس ورجعت وهو ليس في وجهك.
وقد روي أن التي عرضت نفسها على عبد الله لم تك بغياً، وإنما كانت زوجة لعبد الله مع آمنة، فمر بها وقد أصابه أثر من طين عمل به، فدعاها إلى نفسه فأبطأت عليه لما رأت به من أثر الطين، فدخل وغسل عنه أثر الطين ثم دخل عامداً إلى آمنة، ثم دعته صاحبته التي كان أراد إلى نفسه فأبى للذي صنعت به أول مرة، فدخل على آمنة فأصابها ثم خرج قد غشاها إلى نفسه فقالت: لا حاجة لي بك، مررت وبين عينيك غرة فرجوت أن أصيبها منك، فلما دخلت على آمنة ذهبت بها منك.
قال ابن عباس: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: فداك أبي وأمي: أين كنت وآدم في الجنة؟ قال: فتبسم حتى بدت نواجذه ثم قال: كنت في صلبه وركب بي السفينة في صلب أبي نوح، وقذف بي في صلب أبي إبراهيم، لم يلتق أبواي قط على سفاح. لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الحسنة إلى الأرحام الطاهرة صفي مهدي لا يتشعب شعبان إلا كنت في خيرهما، وقد أخذ الله بالنبوة ميثاقي وبالإسلام عهدي، ونشر في التوراة والإنجيل ذكري، وبين كل نبي صفتي، تشرق الأرض بنوري، والغمام لوجهي وعلمني كتابه وروى بي سحابه، وشق لي اسماً من أسمائه. فذو العرش محمود، وأنا محمد وعدني أن يحبوني بالحوض والكوثر، وأن يجعلني وأول مشفع، ثم أخرجني من خير قرن لأمتي وهم الحمادون،(2/29)
يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. فقال حسان بن ثابت في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الأبيات من المنسرح:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع يوم يخصف الورق
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحم الله حسان، فقال علي بن أبي طالب: وجبت الجنة لحسان ورب الكعبة.
قال: هذا حديث غريب. والمحفوظ أن هذه الأبيات للعباس رضي الله عنه.
كما روي عن خريم بن أوس بن جارية قال:
هاجرت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقدمت عليه منصرفه من تبوك فأسلمت فسمعت العباس بن عبد المطلب يقول: يا رسول الله، إني أريد أن أمتدحك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قل، لايفضض الله فاك، فأنشأ يقول:
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشرٌ ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفةٌ تركب السفين وقد ... ألجم نسراً وأهله الغرق
تنقل من صالبٍ إلى رحمٍ ... إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتولى بيتك المهين من ... خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت ... الأرض وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي الن ... ور وسبل الرشاد نخترق
قوله: لا يفضض الله فاك: أي لا يسقط ثغرك، والعوام تقول: لا يفضض. وهو خطأ. إنما هو بفتح الياء وضم الضاد الأولى. يقال: سقط فم فلان، فلم يبق له حاكم، إذا سقطت أسنانه.
وقول العباس: من قبلها طبت في الظلال يعني: ظلال الجنة. وأراد أنه كان(2/30)
طيباً في صلب آدم في الجنة قبل أن يهبط إلى الأرض، والجنة كلها ظل لا شمس فيها.
وقوله في مستودع يحتمل معنيين: أحدها أن يكون أراد بالمستودع: الموضع الذي جعل به آدم وحواء عليهما السلام من الجنة، واستودعاه. والآخر أن يكون أراد الرحم أو النطفة فيه.
قال أبو عبيدة: في قوله تعالى: " فمستقر ومستودع " قال: فمستقر في الصلب ومستودع في الرحم.
وقوله: حيث يخصف الورق أي في الجنة، حيث خصف آدم وحواء عليهما من ورق الجنة. والخصف هو أن تضم الشيء إلى الشيء وتشكه معه أو تلصقه به. وكأنهما كانا يضمان الورق إلى بعض ليكون لهما لبساً وستراً.
وقوله: ثم هبطت البلاد يريد أنه لما هبط آدم إلى الأرض هبطت إليه في صلبه، وهو إذ ذاك لا بشر ولا لحم ولا دم. يريد أنه نطفة لم ينتقل في هذه المراتب التي ينتقل فيها الجنين إلا نزله، يقول: بل نطفة تركب السفين: يريد ركوب نوح السفينة في وقت الطوفان، وهو في صلبه، وليس أحد الأصنام التي كانت لقوم نوح.
وقوله: تنقل من صالب يعني: الصلب. قال: ولم أسمعه بهذه اللغة إلا في هذا الحديث.
وقوله: إذا مضى عالم بدا طبق يريد: إذا مضى قرن بدا قرن. وإنما قيل للقرن طبق، لأنهم طبق الأرض ثم ينقرضون، ويأتي طبق آخر، أي ينقل من حال الشباب إلى الهرم.
والنطق: جمع نطاق وهو ما انتطقت به المرأة أي شدته في وسطها، وانتطق به(2/31)
الرجل أيضاً، ومنه سميت المنطقة. وضرب هذا مثلاً له في ارتفاعه وتوسطه في عشيرته ونجره، فجعله في علياء وجعلهم تحته نطاقاً له.
وقوله: وضاءت: أي أضاءت.
وعن أبي بكرة: أن جبريل عليه السلام ختن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين طهر قلبه.
وعن العباس بن عبد المطلب قال: ولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختوناً مسروراً، قال: وأعجب ذلك عبد المطلب وحظي عنده. وقال: ليكونن لابني هذا شأن. فكان له شأن.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كرامتي على الله أني ولدت مختوناً، ولم ير سوأتي أحد.(2/32)
ذكر مولده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ومعرفة من كفله وما كان من أمره قبل أن يوحى إليه
عن أبي قتادة قال: قال عمر: يا رسول لله، أرأيت رجلاً يصوم الاثنين. قال: ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي.
وروى المسيب بن شريك عن شعيب عن أبيه عن جده قال: حمل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عاشوراء المحرم، وولد يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان سنة ثلاث وعشرين من غزوة أصحاب الفيل.
وعن ابن عباس قال: ولد نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح مكة يوم الاثنين. ونزلت سورة المائدة يوم الاثنين " اليوم أكملت لكم دينكم "، ورفع الركن يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين.
وعن ابن عباس قال: ولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ربيع الأول، وأنزلت عليه النبوة في يوم الاثنين في أول شهر ربيع الأول، وأنزلت عليه البقرة يوم الاثنين في ربيع الأول. وهاجر إلى المدينة في ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين في ربيع الأول.
وفي رواية أخرى: وكان فتح بدر يوم الاثنين.(2/33)
قال: والمحفوظ أن نزول " اليوم أكملت لكم دينكم " ووقعة بدر كانا في يومي جمعة.
وعن مكحول: أنه كان يصوم يوم الاثنين والخميس، وكان يقول: ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وترفع أعمال بني آدم يوم الخميس.
وعن يزيد بن أبي حبيب قال: في يوم الاثنين ولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيه بعث، وفيه قبض، وهو يوم الفرقان، وفيه نزلت هذه الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ". وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد عام الفيل. وسميت قريش آل الله وعظمت في العرب. ولد لاثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول. ويقال: ولد في رمضان في اثنتي عشرة منه يوم الاثنين حين طلع الفجر. قال: وكان إبليس يخرق السموات السبع. فلما ولد عيس عليه السلام حجب من ثلاث سماوات فكان يصل إلى أربع، فلما ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجب من السبع، ورميت الشياطين بالنجوم. فقالت قريش: هذا قيام الساعة. فقال رجل من قريش يقال له: عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف: انظروا إلى العيوق فإن كان قد رمي به فهو قيام الساعة. في حديث طويل.
وقيل: ولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفيل وقيل: عام الفيل، وبين الفجار والفيل عشرون سنة. وسمي الفجار لأنهم فجروا وأحلوا أشياء كانوا يحرمونها. وكان بين الفجار وبين الكعبة خمس عشرة سنة. وبين بناء الكعبة وبين مبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس سنين. قال: فبعث نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربعين سنة.
وكانت عكاظ بعد الفيل بخمس عشرة سنة.
وقيل: ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين لعشر خلون من ربيع الأول، وكان قدوم الفيل للنصف من المحرم، فبين الفيل وبين مولد سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس وخمسون ليلة.
وقيل: كان بين الفيل وبين مولده عشر سنين. وقيل: ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة.(2/34)
وقيل: ولد بعد الفيل بثلاثين عاماً. وقيل: بعد الفيل بأربعين عاماً.
قال: والمجمع عليه: عام الفيل.
وعن محمد بن كعب وأيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قالا: خرج عبد الله بن عبد المطلب إلى الشام إلى غزة في عير من عيرات قريش يحملون تجارات. ففرغوا من تجاراتهم ثم انصرفوا، فمروا بالمدينة وعبد الله بن عبد المطلب يومئذٍ مريض فقال: أتخلف عند أخوالي بني عدي بن النجار، فأقام عندهم مريضاً شهراً ومضى أصحابه، فقدموا مكة فسألهم عبد المطلب عن عبد الله فقالوا: خلفناه عند أخواله عدي بن النجار وهو مريض، فبعث إليه عبد المطلب أكبر ولده الحارث فوجده قد توفي، ودفن في دار النابغة وهو رجل من بني عدي بن النجار في الدار التي إذا دخلتها فالدويرة عن يسارك. وأخبره أخواله بمرضه، وبقيامهم عليه وما ولوا من أمره، وأنهم قبروه فرجع إلى أبيه فأخبره، فوجد عليه عبد المطلب وأخوته وأخواته وجداً شديداً. ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ حمال، ولعبد الله يوم توفي خمس وعشرون سنة.
قال الواقدي: هذا أثبت الأقاويل والرواية في وفاة عبد الله بن عبد المطلب وسنه.
وقيل: توفي عبد الله بن عبد المطلب بعدما أتى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن شهرين. وماتت أمه وهو ابن أربع سنين. ومات جده عبد المطلب وهو ابن ثمان سنين، فأوصى به إلى أبي طالب. وقيل غير ذلك.
وقيل: إن عبد المطلب بعث عبد الله يمتار له تمراً من يثرب فتوفي بها.
قال عثمان بن أبي العاص حدثتني أمي: أنها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة ولدته قالت: فما شيء أنظر إليه في البيت إلا نور، وأني لأنظر إلى النجوم تدنو حتى إني لأقول: لتقعن علي.(2/35)
قالت آمنة بنت وهب: لقد علقت به يعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما وجدت له مشقة حتى وضعته. فلما فصل مني خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب. ثم وقع إلى الأرض معتمداً على يديه، ثم أخذ قبضة من تراب فقبضها ورفع رأسه إلى السماء. وقال بعضهم: جاثياً على ركبتيه وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام وأسواقها حتى رأيت أعناق الإبل تبصر بي، رافعاً رأسه إلى السماء.
وولد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مختوناً مسروراً، فأعجب جده عبد المطلب، وحظي عنده، وقال: ليكونن لابني هذا شأن. فكان له شأن.
قال أبو الحكم التنوخي: كان المولود إذا ولد في قريش دفعوه إلى نسوة في قريش إلى الصبح، فكفأن عليه برمة. فلما ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعه عبد المطلب إلى نسوة يكفأن عليه برمة، فلما أصبحن أتين فوجدن البرمة قد انفلقت عنه. فأتين فوجدنه مفتوح العينين شاخصاً ببصره إلى السماء، فأتاهن عبد المطلب فقلن له: ما رأينا مولوداً مثله. وجدناه قد انفلقت عنه البرمة، ووجدناه مفتوحةً عيناه شاخصاً ببصره إلى السماء. فقال: احفطنه فإني أرجو نصيب خيراً. فلما كان يوم السابع ذبح عنه، ودعا له قريشاً فلما أكلوا قالوا: يا عبد المطلب، أرأيت ابنك هذا الذي أكرمتنا على وجهه ما سميته؟ قال: سميته محمداً. قالوا: فما رغبت به عن أسماء أهل بيته؟! قال: أردت أن يحمده الله في السماء، وخلقه في الأرض.
وكانت آمنة بنت وهب أم سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدمت برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة على أخواله من بني عامر بن النجار ثم صدرت به راجعة إلى مكة، فتوفيت بالأبواء بين مكة والمدينة، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن ست سنين.
قال ابن إسحاق: كانت آمنة بنت وهب أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدث أنها أتيت حين حملت محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل(2/36)
لها: أنك قد حملت بسيد هذه الأمة فإذا وقع إلى الأرض فقولي:
أعيذه بالواحد ... من شر كل حاسد
في كل بر عامد ... وكل عبدٍ رائد
يرود غير زائد
فإنه عبد الحميد الماجد ... حتى أراه قد أتى المشاهد
وإن آية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشام، فإذا وقع فسميه محمداً، فإنه اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السماء وأهل الأرض، واسمه في الفرقان محمد، فسميه بذلك. فلما وضعته بعثت إلى عبد المطلب جاريتها، وقد هلك أبوه عبد الله وهي حبلى ويقال إن عبد الله هلك والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن ثمانية وعشرين شهراً فقالت: قد ولد الليلة لك غلام فانظر إليه. فلما جاءها عبد المطلب خبرته وحدثته بما رأت حين حملت به. وما قيل لها فيه. وما أمرت أن تسميه، فأخذه عبد المطلب فأدخله على هبل في جوف الكعبة فقام عبد المطلب يدعو الله ويتشكر لله عز وجل الذي أعطاه إياه فقال الرجز:
الحمد لله الذي أعطاني ... هذا الغلام الطيب الأردان
قد ساد في المهد على الغلمان ... أعيذه بالبيت ذي الأركان
حتى يكون بلغة الفتيان ... أعيذه من كل ذي شنآن
من حاسدٍ مضطرب العيان ... ذي همةٍ ليس له عينان
حتى أراه رافع البنيان ... أنت الذي سميت في الفرقان
في كتب ثابتة المثاني ... أحمد مكتوباً على اللسان
قال ابن عباس: كان بنو أبي طالب يصبحون غمصاً رمطاً، ويصبح محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صقيلاً دهيناً. قال:(2/37)
وكان أبو طالب يقرب إلى الصبيان بصحيفتهم أول البكرة فيجلسون وينتهبون ويكف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده لا يبتهب معهم. فلما رأى ذلك عمه عزل له طعامه على حدة. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون مع آمنة بنت وهب، فلما توفيت قبضه إليه جده عبد المطلب وضمه ورق عليه رقة لم يرقها على ولده، وكان يقربه منه ويدنيه ويدخل عليه إذا خلا أو نام. وكان يجلس على فراشه فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك: دعوا ابني إنه ليؤنس ملكاً.
وقال قوم من بني مدلج لعبد المطلب: احتفظ به فإنا لم نر قدماً أشبه بالقدم التي في المقام فيه، فقال عبد المطلب لأبي طالب: اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به. فقال عبد المطلب لأم أيمن وكانت تحضن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بركة لا تغفلي عن ابني فإني وجدته مع عثمان قريباً من السدرة، وإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة. فكان عبد المطلب لا يأكل طعاماً إلا قال: علي بابني فيؤتى به إليه، فلما حضرت عبد المطلب الوفاة أوصى أبا طالب بحفظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياطته، ومات عبد المطلب فدفن بالحجون.
وقبض أبو طالب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يكون معه:
وكان أبو طالب لا مال له، وكان يحبه حباً شديداً لا يحبه ولده، وكان لا ينام إلا إلى جنبه ويخرج فيخرج معه، وصب به أبو طالب صببابة لم يصب مثلها بشيء قط، وكان يخصه بالطعام، وكان إذا أكل عيال أبي طالب جميعاً أو فرادى لم يشبعوا، وإذا أكل معهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شبعوا، فكان إذا أراد أن يغديهم قال: كما أنتم حتى يحضر ابني فيأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأكل معهم، فكانوا يفضلون من طعامهم، وأن لم يكن معهم لم يشبعوا فيقول أبو طالب: إنك لمبارك.
وعن حليمة بنت الحارث أم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السعدية التي أرضعته قالت: خرجت في نسوة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء بمكة على أتان لي قمراء(2/38)
قد أذمت بالركب. وخرجنا في سنة شهباء لم تبق شيئاً، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى. قالت: ومعنا شارف لنا، والله إن تبض علينا بقطرة من لبن، ومعي صبي لي إن ننام ليلنا مع بكائه، ما في ثديي ما يغنيه وما في شارفنا من لبن نغذوه إلا أنا نرجو. فلما قدمنا مكة لم يبق منا امرأة إلا عرض عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتأباه، وإنما كنا نرجو كرامة رضاعةٍ من والد المولود، وكان يتيماً فكنا نقول: يتيم، ما عسى أن تصنع أمه، حتى لم يبق من صواحبي امرأة إلا أخذت صبياً غيري فكرهت أن أرجع ولم أجد شيئاً وقد أخذ، فقلت لزوجي: والله لأرجعن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه.
قالت: فأتيته فأخذته فرجعت إلى رحلي. فقال زوجي: قد أخذته؟ فقلت: نعم والله. ذلك أني لم أجد غيره. فقال: قد أصبت، فعسى الله أن يجعل فيه خيراً، قالت: فوالله ما هو إلا أن جعلته في حجري، قالت: فأقبل عليه ثديي بما شاء الله من اللبن، قالت: فشرب حتى روي وشرب أخوه يعني ابنها حتى روي، وقام زوجي إلى شارفنا من الليل فإذا هي حافلاً، فحلب لنا ما شئنا فشرب حتى روي. قالت: وشربت حتى رويت، فبتنا ليلتنا تلك بخير شباعاً رواء، وقد نام صبياننا قالت: يقول أبوه يعني زوجها: والله يا حليمة، ما أراك إلا قد أصبت نسمة مباركة قد نام صبينا وروي، قالت: ثم خرجنا فو الله لخرجت أتاني أمام الركب أمام الركب قد قطعتهن حتى ما تتعلق بأحد حتى إنهم ليقولون: ويحك يا بنت الحارث، كفى علينا، ألست هذه أتانك التي خرجت عليها؟ فأقول: بلى والله وهي قدامنا حتى قدمنا منازلنا من حاضر بني سعد بن يكر فقدمنا على أجدب أرض الله، فو الذي نفس حليمة بيده إن كانوا يسرحون أغنامهم إذا أصبحوا ويسرح راعي غنمي، فتروح غنمي بطاناً لبناً حفلاً، وتروح أغنامهم جياعاً هالكة ما لها من لبن. قالت: فنشرب ما شئنا من اللبن، ما من الحاضر أحد يطلب قطرة ولا يجدها فيقولون لرعاتهم: ويلكم ألا تسرحون حيث يسرح راعي حليمة؟! فيسرحون في الشعب الذي يسرح فيه راعينا فتروح أغنامهم جياعاً مالها من لبن وتروح غنمي لبناً حفلاً.(2/39)
قالت: وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشب في اليوم شباب الصبي في شهر، ويشب في الشهر شباب الصبي في سنة، فبلغ سنة، وفي رواية: سنتين وهو غلام جفر، قالت: فقدمنا على أمه، فقلت لها وقال لها أبوه: ردي علينا ابني فلنرجع به، فإنا نخشى عليه أوباء مكة. قالت: ونحن أضن شيء به، مما رأينا من بركته. قالت: فلم نزل بها حتى قالت: ارجعا به فرجعنا به، فمكث عندنا شهرين.
قالت: فبينا هو يلعب وأخوه يوماً خلف البيوت يرعيان بهماً لنا إذ جاءنا أخوه يشتد فقال لي ولأبيه: أدركا أخي القرشي قد جاءه رجلان فأضجعاه فشقا بطنه، فخرجنا نحوه نشتد، فانتهينا إليه وهو قائم منتقع لونه فاعتنقه أبوه واعتنقته، ثم قال: ما لك أي بني؟ قال: أتاني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني ثم شقا بطني فو الله ما أدري ما صنعا وفي رواية ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه ثم رداه كما كان. قالت: فاحتملناه فرجعنا به إلى بيوتنا. قالت: يقول أبوه والله يا حليمة، ما أرى هذا الغلام قد أصيب فانطلقي فلنرده إلى أهله قبل أن يظهر ما نتخوف عليه. قالت: فرجعنا به إليها. قالت: ما ردكما به وقد كنتما حريصين عليه؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا أنا كفلناه وأدينا الحق الذي يجب علينا فيه، ثم تخوفنا الأحداث عليه، فقلنا: يكون في أهله. قالت: فقالت آمنة: والله ما ذاك بكما فأخبراني خبركما وخبره، فو الله ما زالت بنا حتى أخبرناها خبره. قالت: فتخوفتما عليه؟! كلا والله، إن لابني هذا شأناً ألا أخبركما عنه: إني حملت به فلم أحمل حملاً قط كان أخف ولا أعظم بركة منه ثم رأيت نوراً كأنه شهاب خرج مني حين وضعته أضاءت لي أعناق الإبل ببصرى، ثم وضعته فما وقع كما يقع الصبيان، وقع واضعاً يده بالأرض رافعاً رأسه إلى السماء. دعاه والحقا بشأنكما.
وفي رواية: قالت: يعني آمنة أخشيتما عليه الشيطان؟! كلا والله ماللشيطان عليه سبيل.(2/40)
ما جاء في الكتاب من صفته وبشرت به الأنبياء من بعثته
عن ابن سلام: أنه لما سمع بمخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة فلقيه، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت ابن عالم أهل يثرب؟ قال: نعم. قال: فناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء هل تجد صفتي في كتاب الله الذي أنزل على موسى؟ قال عبد الله بن سلام: انسب ربك يا محمد، فارتج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له جبريل عليه السلام: " قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوراً أحد " فقال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وإن الله عز وجل مظهرك ومظهر دينك على الأديان وإني لأجد صفتك في كتاب الله تعالى " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً " زاد في حديث: وحرزاً للأميين أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظٍ ولا غليظٍ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله تعالى حتى تستقيم به الملة المعوجة حتى يقولوا لا إله إلا الله ويفتحوا أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً أن يقولوا لا إله إلا الله. وعن سهل مولى عثمة: أنه كان نصرانياً من أهل مريس وأنه كان يتيماً في حجر أمه وعمه وأنه كان يقرأ الإنجيل قال: فأخذت مصحفاً لعمي فقراته حتى مرت بي ورقة أنكرت أكنافها حين مرت بي ومسستها بيدي قال: فنظرت فإذا فضول الورقة ملصق بغراء قال: ففتقتها(2/41)
فوجدت فيها نعت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه لا قصير ولا طويل، أبيض ذو ضفرين، بين كتفيه خاتم النبوة، يكثر الاحتباء، ولا يقبل الصدقة، ويركب الحمار والبعير، ويحتلب الشاة، ويلبس قميصاً مرفوعاً، ومن فعل ذلك فقد برئ من الكبر وهو يفعل ذلك، وهو من ذرية إسماعيل، اسمه أحمد.
قال سهل: فلما انتهيت إلى هذا من ذكر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء عمي فلما رأى الورقة ضربني وقال: مالك وفتح هذه الورقة وقراءتها. فقلت: فيها نعت النبي أحمد فقال: إنه لم يأتي. وعن سالم بن عبد الله بن عمر قال: بينا رجلان يحدث أحدهما صاحبه، وكعب خلفهما يسمع، لا يعلمان بمكانه إذ قال أحدهما لصاحبه: رأيت الليلة أو قال: البارحة كل نبي في الأرض، مع كل نبي منهم أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله، ومع كل رجل ممن معه مصباح مصباح، إذ قام رجل منهم فأضاءت الأرض له، في شعرة في رأسه مصباح، ومع كل رجل ممن معه أربعة مصابيح: مصباح من بين يديه، ومصباح من خلفه، ومصباح عن يمينه، ومصباح عن شماله. قلت: من هذا؟ قالوا: محمد رسول الله. فقال كعب للمحدث: يا عبد الله، عمن تحدث؟ قال: عن رؤيا رأيتها البارحة، فقال كعب: والله، لكأنك نشرت التوراة فقرأت هذا فيها. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت من شهر ربيع الأول وقد استكمل عشر سنين من هجرته. قال: فلما كان صبيحة الخميس فإذا نحن بشيخ أبيض الرأس واللحية متلثم بعمامة على قعود له، حتى جاء فنزل فعقل قعوده بباب المسجد وأنشأ يقول وينادي: السلام عليكم ورحمة الله، هل فيكم محمد رسول الله؟ قال علي: أيها السائل عن محمد رسول الله ما تريد من محمد. قال: أنا حبر من أحبار بيت المقدس قد قرأت التوراة ثمانين سنة وتدبرتها أربعين صباحاً، فوجدت فيها ذكر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن الله تبارك وتعالى يقول في التوراة: ليس بكذاب ولا قوال للكذب. وقد خرجت أطلب الإسلام على يديه فقال علي: أيها السائل عن أبي القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أصبح القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/42)
بين أطباق الثرى. فوضع الجريدة على رأسه ونادى: وا انقطاع ظهراه، بأبي وأمي من لم أشهده ولم أره، يا محمد المصطفى، يا خير من ولدت النسائم. قال: بالله هل فيكم قرابة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال علي: يا بلال انطلق بهذا الرجل إلى منزل فاطمة عليها السلام، فانطلق به فقال لها الحبر: يا بنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا حبر من أحبار بيت المقدس، جئت أطلب الإسلام على يدي والدك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت فاطمة: يا حبر بيت المقدس، أن والدي قد مات. فنادى الحبر: وا انقطاع ظهراه بأبي وأمي من لم أره ولم أشاهد، بالله يا بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما عندك ثوب من ثياب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.؟ قالت فاطمة للحسين: هات الثوب الذي نشف فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاء به فأخذه الحبر فألقاه على وجهه وجعل ينشق ريحه ويقول: بأبي وأمي من جسد نشف في هذا الثوب ثم رفع رأسه فقال: يا علي، صف لي صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأني أنظر إليه. فبكى عليٌ بكاءً شديداً، قال: والله، إني كنت مشتاقاً إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنا أشوق إلى حبيبي منك ثم قال: بأبي وأمي، لم يكن بالطويل الذاهب ولا بالقصير، كان ربعة من الرجال، أبيض مشربٌ بحمرة، جعد المفرق، شعره إلى شحمة أذنيه، صلت الجبين، واضح الخدين، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، سبط الأشفار، أقنى الأنف، دقيق المسربة، مبلج الثنايا، كث اللحية، كأن عنقه إبريق فضة، كان الذهب يجري في تراقيه، عرقه في وجهه كاللؤلؤ، شثل الكعبين والقدمين، له شعرات ما بين لبته إلى صدره تجري كالقضيب، لم يكن على بطنه ولا على ظهره شعرات غيرها، تفوح منه رائحة المسك، إذا قام غمر الناس، وإذا مشى فكأنما يتقلع من صخرة، إذا التفت التفت جميعاً، وإذا انحدر كأنما ينحدر في صبب، أطهر الناس خلقاً، وأشجع الناس قلباً، وأسخى الناس كفاً، لم يكن قبله مثله، ولا يكون بعده مثله أبداً. قال الحبر: يا علي، إني أصبت في التوراة هذه الصفة. أيقنت أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله رسول الله.(2/43)
وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: " نعم. أنا دعوة أبي إبراهيم، وكان آخر من بشر بي عيسى بن مريم عليهم السلام ". وعن عبد الله رضي الله عنه قال: صاحبكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خامس خمسةٍ مبشر بهم قبل أن يكونوا: إسحاق ويعقوب عليهما السلام بقول الله تعالى: " فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب ". ويحيى: " إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً "، وعيسى بن مريم: " إن الله يبشرك بكلمة منه "، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول عيسى: " يأتي من بعدي اسمه أحمد " فهؤلاء أخبر بهم من قبل أن يكونوا. وعن وهب بن منبه: أن الله تعالى لما قرب موسى عليه السلام نجياً قال: رب، إني أجد في التوراة أمةً خير أمةٍ أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها، وكان من قبلهم يقرؤون كتبهم نظراً ولا يحفظونها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي. ب ". ويحيى: " إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً "، وعيسى بن مريم: " إن الله يبشرك بكلمة منه "، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قول عيسى: " يأتي من بعدي اسمه أحمد " فهؤلاء أخبر بهم من قبل أن يكونوا. وعن وهب بن منبه: أن الله تعالى لما قرب موسى عليه السلام نجياً قال: رب، إني أجد في التوراة أمةً خير أمةٍ أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله. فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة هم الآخرون من الأمم، السابقون يوم القيامة فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: يا رب، إني أجد في التوراة أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها، وكان من قبلهم يقرؤون كتبهم نظراً ولا يحفظونها فاجعلهم أمتي، قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في التوراة أمة يؤمنون بالكتاب الأول والآخر، ويقاتلون رؤوس الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الكذاب، فاجعلهم أمتي.
قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في التوراة أمةً يأكلون الصدقات في بطونهم، وكان من قبلهم إذا أخرج صدقته بعث الله عليها ناراً فأكلتها، فإن لم تقبل لم تقربها النار، فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، أني أجد في التوراة أمة إذا هم أحد بسيئة لم تكتب عليه فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة. وإذا هم بحسنة لم يعملها كتبت له(2/44)
حسنة، فإن عملها كتبت له عشرة أمثالها إلى سبع مئة ضعف فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: رب، إني أجد في التوراة أمة هم المستجيبون المستجاب لهم فاجعلهم أمتي. قال: تلك أمة أحمد. قال: ذكر وهب بن منبه في قصة داود النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أوحى إليه في الزبور: يا داود، إنه سيأتي من بعدك نبي اسمه أحمد ومحمد صادقاً سيداً، لا أغضب عليه أبداً، ولا يغضبني أبداً، وقد غفرت له قبل أن يغضبني ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأمته مرحومة أعطيتهم من النوافل مثلما أعطيت الأنبياء، وافترضت عليهم الفرائض التي افترضت على الأنبياء والرسل، حتى يأتون يوم القيامة ونورهم مثل نور الأنبياء، وذلك أني افترضت عليهم أن يتطهروا لكل صلاة، كما افترضت على الأنبياء قبلهم، وأمرتهم بالغسل من الجنابة كما أمرت الأنبياء قبلهم. يا داود، إني فضلت محمداً وأمته على الأمم كلها، أعطيتهم ست خصال لم أعطها غيرهم من الأمم: لا أؤاخذهم بالخطأ والنسيان، وكل ذنب ركبوه على غير عمد، إن استغفروني منه غفرته لهم، وما قدموا لآخرتهم من شيء طيبةً به أنفسهم عجلته لهم أضعافاً مضاعفة، ولهم في المدخور عندي أضعاف مضاعفة، وأفضل من ذلك. وأعطيتهم على المصائب في البلايا إذا صبروا وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون الصلاة والرحمة والهدى، إلى جنات النعيم، فإن دعوني استجب لهم، فإما أن يروه عاجلاً، وإما أن أصرف عنهم سوءاً، وإما أن أدخر لهم في الآخرة. يا داود، من لقيني من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد أن لا إله إلا الله أنا وحدي لا شريك لي صادقاً بها فهو معي في حبي وكرامتي. ومن لقيني وقد كذب محمداً وكذب بما جاء به واستهزأ بكتابي صببت عليه في القبر العذاب صباً، وضربت الملائكة في وجهه ودبره عند منشره من قبره، ثم أدخله في الدرك الأسفل من النار. وعن مقاتل بن حيان قال: أوحى الله تعالى إلى عيسى بن مريم عليه السلام: جد في أمري ولا تهزل، واسمع وأطع يا بن الطاهرة البكر البتول، إني خلقتك من غير فحل فجعلتك آية للعالمينن فإياي فاعبد وعلي فتوكل، فسر لأخل سوران بالسريانية، بلغ من بين يديك أني أنا الله الحي القيوم الذي لا أزول. صدقوا النبي الأمي صاحب الجمل والمدرعة والعمامة وهي التاج والنعلين والهراوة وهي القضيب، الجعد الرأس، الصلت الجبين، المقرون(2/45)
الحاجبين، الأنجل العينين، الأهدب الأشفار، الأدعج العينين، الأقنى الأنف، الواضح الخدين، الكث اللحية، عرقه في وجهه كاللؤلؤة، وريح المسك ينفح منه، كأن عنقه إبريق فضة، وكأن الذهب يجري في تراقيه، له شعرات من لبته إلى صرته، تجري كالقضيب، ليس على صدره ولا على بطنه شعر غيره، شثن الكف والقدم إذا جاء مع الناس غمرهم، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وينحدر في صبب، ذو النسل القليل. قال عمر بن الحكم بن رافع بن سنان وهو عم عبد الحميد بن جعفر حدثني بعض عمومتي وآبائي أنهم كانت عندهم ورقة يتوارثونها في الجاهلية حتى جاء الله تعالى بالإسلام وهي عندهم، فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة ذكروا له وأتوه بها. مكتوب فيها اسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب، هذا الذكر لأمة تأتي في آخر الزمان يسبلون أطرافهم، ويأتزرون على أوساطهم، ويخوضون البحور إلى أعدائهم، فيهم صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، وفي عاد ما أهلكوا بالريح، وفي هود ما أهلكوا بالصيحة. بسم الله وقوله الحق وقول الظالمين في تباب. كأنه استقبل قصة أخرى. قال: فعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قرئت عليه لما فيها.
إخبار الأحبار والرهبان والكهان بنبوته.
عن الفلتان بن عاصم قال: كنت جالساً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ شخص بصره إلى رجل، فإذا هو يهودي عليه قميص وسراويل ونعلان، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يكلمه وهو يقول: يا رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتقرأ التوراة؟ قال: نعم. قال: أتقرأ الإنجيل؟ قال: نعم. قال: والقرآن ولو تشاء قرأته. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فيما تقرأ التوراة والإنجيل، أتجدني نبياً؟ قال: إنا نجد نعتك ومخرجك، فلما خرجت رجونا أن تكون فينا، فلما رأيناك عرفنا أنك لست به. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولم(2/46)
يا يهودي؟ قال: إنا نجده مكتوباً أنه يدخل من أمته سبعون ألفاً بلا حساب، ولا نرى معك إلا نفراً يسيراً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمتي لأكثر من سبعين ألفاً وسبعين ألفاً. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بلغني أن إسرائيل لما أصابها ما أصابهم من ظهور بخت نصر عليهم وفرقتهم وذلتهم تفرقوا، وكانوا يجدون محمداً رسول الله منعوتاً في كتابهم، وأنه يظهر في بعض هذه القرى العربية في قرية ذات نخل.
فلما خرجوا من أرض الشام جعلوا يقترون كل قرية من تلك القرى العربية بين الشام واليمن يجدون نعتها نعت يثرب فتنزل بها طائفة منهم، ويرجون أن يلقوا محمداً فيتبعوه، حتى نزل من بني هارون ممن حمل التوراة بيثرب منهم طائفة، فمات أولئك الآباء وهم يؤمنون بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه جاءٍ ويحثون أبناءهم على إتباعه إذا جاء، فأدركه من أدركه من أبنائهم فكفروا به وهم يعرفونه. عن نملة بن أبي نملة عن أبيه قال: كانت يهود بني قريظة يدرسون ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتبهم ويعلمونه الولدان بصفته واسمه ومهاجره إلينا. فلما ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسدوه وبغوا عليه، وقالوا: ليس به. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سكن يهودي بمكة يبيع بها تجارات. فلما كانت ليلة ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في مجلس من مجالس قريش: هل كان فيكم من مولود هذه الليلة؟ قالوا: لا نعلمه. قال: أخطأت والله حيث كنت أكره، انظروا يا معشر قريش واحصوا ما أقول لكم، ولد الليلة نبي هذه الأمة أحمد الآخر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن أخطأكم فبفلسطين، به شامة بين كتفيه سوداء صفراء، فيها شعرات متواترات، فتتصدع القوم من مجالسهم وهم يتعجبون من حديثه. فلما صاروا في منازلهم ذكروا لأهاليهم فقيل لبعضهم: ولد لعبد الله بن عبد المطلب الليلة غلام وسماه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالتقوا بعد من يومهم فأتوا اليهودي في منزله فقالوا: أعلمت؟ إنه ولد فينا مولود، قال:(2/47)
أبعد خبري أم قبله؟ قالوا: قبله واسمه أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فاذهبوا بنا إليه، فخرجوا معه حتى دخلوا على أمه فأخرجته إليهم، فرأى الشامة في ظهره فغشي على اليهودي ثم أفاق، فقالوا: ويلك مالك؟ قال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، وخرج الكتاب من أيديهم، وهذا مكتوب بقتلهم وببير أحبارهم، فازت العرب بالنبوة، أفرحتم يا معشر قريش؟ أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج نماؤها من المشرق إلى المغرب. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المدارس فقال: أخرجوا إلي أعلمكم. فقالوا: عبد الله بن صوريا، فخلا به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فناشده بدينه وما أنعم الله به عليهم، وأطعمهم من المن والسلوى، وظللهم به من الغمام، أتعلمني رسول الله؟ قال: اللهم نعم، وإن القوم ليعرفون ما أعرف، وإن صفتك ونعتك لمبين في التوراة ولكنهم حسدوك. قال: فما يمنعك أنت؟ قال: أكره خلاف قومي، وعسى أن يتبعوك ويسلموا فأسلموا. وعن المسور بن مخرمة قال: كان عبد المطلب إذا ورد اليمن نزل على عظيم من عظماء حمير، فنزل عليه مرة من المرات فوجد عنده رجلاً من أهل اليمن، قد أمهل له في العمر وقد قرأ الكتب فقال له: يا عبد المطلب، تأذن لي أن أفتش مكاناً منك؟ قال: ليس كل مكان مني آذن لك في تفتيشه. قال: إنما هو منخريك. قال: فدونك. قال: فنظر إلى نار وهو الشعر في منخريه فقال: أرى نبوة وأرى ملكاً وأرى أحدهما في بني زهرة، فرجع عبد المطلب فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف بن زهرة، وزوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فولدت محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل الله في بني عبد المطلب النبوة والخلافة. والله أعلم حيث وضع ذلك.
وعن العباس قال: قال لي أبي عبد المطلب: قدمت اليمن في رحلة الشتاء فنزلت على حبر من اليهود فقال لي رجل من أهل اليهود: يا عبد المطلب، أتأذن لي أن أنظر إلى بدنك بعيني، فقلت: انظر ما لم تكن عورة. قال: ففتح أحد منخري فنظر فيه، ثم نظر في الآخر فقال: أشهد أن في إحدى يديك ملكاً وفي الأخرى نبوة، وإني أرى ذلك في بني زهرة فكيف ذلك؟(2/48)
فقلت: لا أدري. قال: هل لك من شاغة قال: فقلت: وما الشاغة؟ قال: زوجة. قلت: أما اليوم، فلا. قال: إذا قدمت فتزوج فيهم. ورجع عبد المطلب مكة فتزوج هالة بنت وهيب بن عبد مناف فولدت له حمزة وصفية، وزوج عبد الله بن عبد المطلب آمنة بنت وهب فولدت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت قريش حين تزوج عبد الله آمنة: ولج عبد الله على أبيه. حدث يحيى بن عروة عن أبيه أن نفراً من قريش منهم ورقة بن نوفل وعبيد الله بن جحش وعثمان بن الحويرث كانوا عند صنم لهم يجتمعون إليه، قد اتخذوا ذلك اليوم من كل سنة عيداً كانوا يعظمونه، وينحرون له الجزر، ثم يأكلون ويشربون الخمر ويعكفون عليه، فدخلوا عليه في الليل فرأوه مكبوباً على وجهه، فأنكروا ذلك فأخذوه فردوه إلى حاله، فلم يلبث أن انقلب انقلاباً عنيفاً، فأخذوه فردوه إلى حاله، فانقلب الثالثة. فلما رأوا ذلك اغتموا له وأعظموا ذلك. فقال عثمان بن الحويرث: ما له قد أكثر التنكس؟ إن هذا لأمر قد حدث. وذلك في الليلة التي ولد فيها سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعل عثمان يقول: من الطويل.
أيا صنم العيد الذي صف حوله ... صناديد وفد من بعيد ومن قرب
تكوست مغلوباً فما ذاك قل لنا ... أذاك سفيهٌ أم تكوست للعتب؟
فإن كان من مذنب أتينا فإننا ... نبوء بإقرارٍ ونلوي عن الذنب
وإن كنت مغلوباً تكوست صاغراً ... فما أنت في الأوثان بالسيد الرب
قال: فأخذوا الصنم فردوه على حاله، فلما استوى هتف بهم هاتف من الصنم، بصوت جهير وهو يقول: من الطويل
تردى لمولودٍ أنارت بنوره ... جميع فجاج الأرض بالشرق والغرب
وخرت له الأوثان طراً وأرعدت ... قلوب ملوك الأرض طراً من الرعب
ونار جميع الفرس باخت وأظلمت ... وقد بات شاه الفرس في أعظم الكرب
وصدت عن الكهان بالعتب جنها ... فلا مخبرٌ عنهم بحقٍ ولا كذب(2/49)
فيال قصي ارجعوا عن ضلالكم ... وهبوا إلى الإسلام والمنزل الرحب
فلما سمعوا ذلك خلصوا نجياً، فقال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم على بعض. فقالوا: أجل. فقال لهم ورقة بن نوفل: تعلمون والله ما قومكم على دين ولقد أخطؤوا المحجة وتركوا دين إبراهيم، ما حجر تطيفون به لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر؟! يا قوم التمسوا لأنفسكم الدين. قال: فخرجوا عند ذلك يضربون في الأرض ويسألون عن الحنيفية دين إبراهيم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما ورقة فتنصر وقرأ الكتاب حتى علم علماً. وأما عثمان بن الحويرث فصار إلى قيصر فتنصر وحسنت منزلته عندهم. وأما زيد بن عمر بن نفيل فأراد الخروج فحبس، ثم أنه خرج بعد ذلك فضرب في الأرض حتى بلغ الرقة من أرض الجزيرة فلقي بها راهباً عالماً فأخبره بالذي يطلب فقال له الراهب: إنك لتطلب ديناً ما تجد من يحملك عليه، ولكن قد أظلك زمان نبي يخرج من بلدك يبعث بدين الحنيفية. فلما قال له ذلك رجع يريد مكة، فغارت عليه لخم فقتلوه. وأما عبيد الله بن جحش فأقام بمكة حتى بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم خرج مع من خرج إلى أرض الحبشة، فلما صار بهم تنصر وفارق الإسلام فكان بها حتى هلك هنالك نصرانياً.
قال عبد الله بن محمد بن عقيل: أراد أبو طالب المسير إلى الشام فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي عم، إلى من تخلفني فما لي أم تكفلني ولا أحد يؤويني قال: فرق له ثم أردفه خافه، فخرج به فنزلوا على صاحب دير. فقال صاحب الدير: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو بابنك ولا ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم؟ قال: لأن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. قال: وما النبي؟ قال: الذي يوحى إليه من السماء فينبئ به أهل الأرض. قال: الله أجل مما تقول. قال: فاتق عله اليهود. قال: ثم خرج حتى نزل براهب أيضاً صاحب دير فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني. قال: ما هو بابنك وما ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم ذلك؟ قال: إن وجهه وجه نبي وعينه عني نبي. قال: وما النبي؟ قال: الذي يوحى إليه من السماء فينبىء به أهل الأرض. قال: الله أجل مما تقول. قال: فاتق عليه اليهود. قال: ثم خرج حتى نزل براهب أيضاً صاحب دير فقال: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني قال: ما هو بابنك ومل ينبغي أن يكون له أب حي. قال: ولم ذلك؟ قال: إن وجهه وجه نبي وعينه عين نبي. قال: سبحان الله الله أجل مما تقول، فقال: يا بن أخي ألا تسمع ما يقول؟ قال: أي عم لا تنكر لله قدرة.(2/50)
وعن شعيب بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان بمر الظهران راهب من الرهبان يدعى عيضاً من أهل الشام، وكان متخفراً بالعاص بن وائل، وكان الله قد أتاه علماً كثيراً وجعل فيه منافع كثيرة لأهل مكة من طب ورفق وعلم، وكان يلزم صومعة له ويدخل مكة في كل سنة فيلقى الناس ويقول: إنه يوشك أن يولد فيكم مولود يا أهل مكة، يدين له العرب ويملك العجم، هذا زمانه، ومن أدركه واتبعه أصاب حاجته، ومن أدركه وخالفه أخطأ حاجته. وتالله ما تركت أرض الخمر والخمير والأمن ولا حللت أرض البؤس والجوع والخوف إلا في طلبه، فكان لا يولد مولود بمكة إلا يسأل عنه فيقول: ما جاء بعد، فيقال: فصفه، فيقول: لا ويكتم ذلك، للذي قد علم أنه لاقٍ من قومه مخافةً على نفسه أن يكون ذلك داعية إلى أدنى ما يفضي إليه من الأذى يوماً. فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيضاً فوقف في أصل صومعته، ثم نادى يا عيض فناداه: من هذا؟ فقال: أنا عبد الله فأشرف عليه فقال: كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الاثنين، ويبعث يوم الاثنين ويموت يوم الاثنين. قال: فإنه قد ولد لي مع الصبح مولود. قال: فما سميته؟ قال: محمداً. فقال: والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه، فقد أتى عليهن منها إن نجمه طلع البارحة، وإنه يولد اليوم، وإن اسمه محمد. انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه ابنك، قال: فما يدريك أنه ابني، ولعله يولد يومنا مولودون عدة؟ قال: قد وافق ابنك الاسم، ولم يكن الله عز وجل ليشتبه على العلماء لأنه حجة، وآية ذلك أنه الآن وجع فيشتكي أياماً ثلاثة يظهر به الوجع ثلاثاً ثم يعافى. فاحفظ لسانك، فإنه لم يحسد حسده أحدٌ قط، ولم يبغ على أحدٍ كما يبغى عليه. وإن تعش حتى تبدو معالمه ثم يدعو، ثم يظهر لك من قومك ما لا تحتمله إلا على صبرٍ على ذلك، فاحفظ لسانك، ودار عنه. قال: فما عمره؟ قال: إن طال عمره أو قصر لم يبلغ السبعين يموت في وترٍ، دونها من السنين في إحدى وستين أو ثلاث وستين. الستون أعمار جل أمته.(2/51)
وعن عبد الله بن عباس قال: قدم الجارود بن عبد الله، وكان سيداً في قومه، عظيماً في عشيرته، مطاع الأمر، رفيع القدر، عظيم الخطر، ظاهر الأدب، شامخ الحسب، بديع الجمال، حسن الفعال، ذا منعةٍ ومالٍ في وفد عبد القيس من ذوي الأخطار والأقدار والفضل والإحسان والفصاحة والبرهان. كل رجل منهم كالنخلة السحوق على ناقة كالفحل العتيق قد جنبوا الجياد وأعدوا للجلاد مجدين في مسيرهم حازمين في أمرهم يسيرون ذميلاً، ويقطعون ميلاً فميلاً، حتى أناخوا عند مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل الجارود على قومه، والمشايخ من بني عمه، فقال: يا قوم، هذا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأغر سيد العرب، وخير ولد عبد المطلب، فإذا دخلتم عليه، ووقفتم بين يديه، فأحسنوا عليه السلام، وأقلوا عنده الكلام، فقالوا بأجمعهم: أيها الملك الهمام والأسد الضرغام لن نتكلم إذا حضرت، ولن نجاوز إذا
أمرت، فقل ما شئت فإنا سامعون، واعمل ما شئت فإنا تابعون. فنظر الجارود في كل كمي صنديد قد دوموا العمائم، وتردوا بالصوارم، يجرون أسيافهم ويسحبون أذيالهم، يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون مناقب الأخيار، لا يتكلمون طويلاً، ولا يسكتون عياً. إن أمرهم ائتمروا، وإن زجرهم ازدجروا، كأنهم أسد غيل يقدمها ذو لبدة مهول، حتى مثلوا بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما دخل القوم المسجد وأبصرهم أهل المسجد دلف الجارود أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسر أمامه، وأحسن سلامه ثم أنشأ يقول: من الخفيف فقل ما شئت فإنا سامعون، واعمل ما شئت فإنا تابعون. فنظر الجارود في كل كمي صنديد قد دوموا العمائم، وتردوا بالصوارم، يجرون أسيافهم ويسحبون أذيالهم، يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون مناقب الأخيار، لا يتكلمون طويلاً، ولا يسكتون عياً. إن أمرهم ائتمروا، وإن زجرهم ازدجروا، كأنهم أسد غيل يقدمها ذو لبدة مهول، حتى مثلوا بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما دخل القوم المسجد وأبصرهم أهل المسجد دلف الجارود أما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحسر أمامه، وأحسن سلامه ثم أنشأ يقول: من الخفيف
يا نبي الهدى أتتك رجالٌ ... قطعت فدفداً وآلاً فآلا(2/52)
وطوت نحوك الصحاصح طراً ... لا تخال الكلال فيك كلالا
كل دهماء يقصر الطرف عنها ... أرقلتها قلانصاً إرقالا
وطوتها الجياد تجمح فيها ... بكماة كأنجم تتلالا
تبتغي دفع بأس يومٍ عبوس ... أوجل القلب ذكره ثم هالا
فلما سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرح فرحاً شديداً، وقربه وأدناه، ورفع مجلسه، وحباه وأكرمه، وقال: يا جارود، لقد تأخر بك وبقومك الموعد، وطال بكم الأمد، قال: والله يا رسول الله لقد أخطأ من أخطأك قصده وعدم رشده، وتلك وأيم الله أكبر خيبة، وأعظم حوبة، والرائد لا يكذب أهله ولا يغش نفسه، لقد جئت بالحق، ونطقت بالصدق والذي بعثك بالحق نبياً واختارك للمؤمنين ولياً، لقد وجدت وصفك في الإنجيل. ولقد بشر بك ابن البتول وطول التحية لك والشكر لمن أكرمك وأرسلك لا أثر بعد عين ولا شك بعد يقين. مد يدك فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله. قال: فآمن الجارود وآمن من قومه كل سيد، فسر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سروراً، وابتهج حبوراً وقال: يا جارود، هل في جماعة وفد عبد القيس من يعرف لنا قساً؟ قال: كلنا نعرفه يا رسول الله. وأنا من بين قومي كنت أقفو أثره وأطلب خبره. كان قس سبطاً من أسباط العرب صحيح النسب، فصيحاً إذا خطب، ذا شيبةٍ حسنةٍ، عمر سبع مئة سنة، يتقفر القفار، لا تكنه دار، ولا يقره قرار يتحسى في تقفره بيض النعام ويأنس بالوحوش والهوام، يلبس المسوح، ويبيع السياج على منهاج المسيح لا يفتر من الرهبانية، مقر لله بالوحدانية، تضرب بحكمته الأمثال، وتكشف به الأهوال، وتتبعه الأبدال، أدرك رأس الحواريين شمعان. فهو أول من تأله من العرب، وأعبد من تعب في الحقب، وأيقن بالبعث والحساب، وحذر سوء المنقلب والمآب، ووعظ بذكر الموت، وأمر بالعمل قبل الفوت، الحسن الألفاظ الخاطب بسوق عكاظ العالم بشرق وغرب، ويابس ورطب،(2/53)
وأجاج وعذب، كأني أنظر إليه، والعرب بين يديه، يقسم بالرب الذي هو له ليبلغن الكتاب أجله، وليوفين كل عامل عمله. ثم أنشأ يقول: من الخفيف
هاج للقلب من جواه ادكار ... وليالٍ خلالهن نهار
ونجوم يحثها قمر اللي ... ل وشمس في كل يومٍ تدار
ضوؤها يطمس العيون وإرعا ... دٌ شديدٌ في الخافقين مطار
وغلامٌ وأشمطٌ ورضيعٌ ... كلهم في التراب يوماً يزار
وقصورٌ مشيدةٌ حوت الخي ... ر وأخرى خلت فهي قفار
وكثيرٌ مما تقصر عنه ... جوسة الناظر الذي لا يحار
والذي قد ذكرت دل على الل ... هـ نفوساً لها هدىً واعتبار
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلك يا جارود، فلست أنساه بسوق عكاظ على جمل له أورق، وهو يتكلم بكلام مؤنق ما أظن أني احفظه فهل فيكم يا معشر المهاجرين والأنصار من يحفظ لنا منه شيئاً؟ فوثب أبو بكر الصديق رضي الله عنه قائماً فقال: يا رسول الله، إني أحفظه، وكنت حاضراً ذلك اليوم بسوق عكاظ حين خطب فأطنب، ورغب ورهب وحذر وأنذر، وقال في خطبته: أيها الناس، اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت أت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وآباء وأمهات، وأحياء وأموات، جميعٌ وأشتات، وأنات بعد أنات إن في السماء لخبرا، إن في الأرض لعبرا، ليلٌ داج، وسماء ذات أبراج، وأرض ذات رتاج، وبحار ذات أمواج، ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا هناك فناموا، أقسم قس قسماً حقاً لا حانثاً فيه ولا أثماً إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبياً قد حان حينه، وأظلكم أوانه، وأدرككم إبانه، فطوبى لمن آمن به فهداه، وويل لمن خالفه وعصاه. ثم قال: تباً لأرباب الغفلة من الأمم الخالية والقرون الماضية، يا معشر إياد، أين الآباء والأجداد، وأين المريض والعواد، وأين الفراعنة الشداد، أين من بنى وشيد،(2/54)
وزخرف ونجد، وغره المال والولد، أين من بغى وطغى، وجمع فأوعى، وقال أنا ربكم الأعلى، ألم يكونوا أكثر منكم أموالا، وأبعد منكم آمالا، وأطول منكم آجالا، طحنهم الثرى بكلكله، ومزقهم بتطاوله، فتلك عظامهم بالية، وبيوتهم خاوية، عمرتها الذئاب العاوية، كلا بل هو الله الواحد المعبود، ليس بوالد ولا مولود، ثم أنشأ يقول: من مجزوء الكامل
في الذاهبين الأولي ... ن من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي ... ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر
قال: ثم جلس، فقام رجل من الأنصار بعده كأنه قطعة جبل، ذو هامة عظيمة وقامة جسيمة، قد دوم عمامته وأرخى ذؤابته، منيف أنوف، أشدق، حسن الصوت، فقال: يا سيد المرسلين، وصفوة رب العالمين، لقد رأين من قس عجباً، وشهدت منه مرغباً، فقال: وما الذي رأيته منه وحفظته عنه؟ فقال: خرجت في الجاهلية أطلب بعيراً لي شرد مني أقفو أثره، وأطلب خبره في تنائف ذات دعادع وزعازع ليس للركب فيها مقيل، ولا لغير الجن سيبل، وإذا بموئل مهول في طود عظيم، ليس به إلا البوم، وأدركني الليل فولجته مذعوراً لا آمن فيه حتفي، ولا أركن لغير سيفي. فبت بليلٍ طويل كأنه بليلٍ موصول، أرقب الكوكب، وأرمق الغيهب، حتى إذا عسعس الليل، وكاد الصبح أن يتنفس هتف بي هاتف: من الرجز
يا أيها الراقد في الليل الأحم ... قد بعث الله نبياً في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم ... يجلو وجنّات الدياجي والبهم
قال: فأدرت طرفي فما رأيت له شخصاً، ولا سمعت له فحصاً، وأنشأت(2/55)
أقول:
أيها الهاتف في داجي الظلم ... أهلاً وسهلاً بك من طيفٍ ألم
بين هداك الله في لحن الكلم ... ماذا تدعو إليه يغتنم
قال: فإذا أنا بنحنحة وقائل يقول: ظهر النور، وبطل الزور، وبعث الله عز وجل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحبور، صاحب النجيب الأحمر، والتاج والمغفر، والوجه الأزهر، والحاجب الأقمر والطرف الأحور، صاحب قول شهادة أن لا إله إلا الله، فذلك محمداً المبعوث إلى الأسود والأبيض أهل المدر والوبر، ثم أنشأ يقول: مجزوء الرجز
الحمد لله الذي ... لم يخلق الخلق عبث
لم يخلنا أبداً سدىً ... من بعد عيسى واكترث
أرسل فينا أحمداً ... خير نبي قد بعث
صلى عليه الله ما ... حج له ركبٌ وحث
قال: فذهلت عن البعير، واكتنفني السرور، ولاح الصباح، واتسع الإيضاح، فتركت المور، وأخذت الجبل، فإذا أنا بالغسق يشقشق إلى النوق، فملكت خطامه، وعلوت سنامه، فمرج طاعة، وهززته ساعة، حتى إذا لغب، وذل منه ما صعب، وحميت الوسادة، وبردت المزادة، وإذا الزاد قد هش له الفؤاد، بركته فبرك، وأذنت له فترك في روضة خضرة نضرة عطرة ذات حوذان وقربان وعبقران وعبيثران ونعنع وشيح وحلي وأقاح وجثجاث وبرار وشقائق وبهار، كأنما قد بات الجو بها مطيرا، أو باكرها المزن بكورا محلالها شجر، وقرارها نهر فجعل يرتع أبا وأصيد ضبا، حتى إذا أكلت وأكل، ونهلت ونهل وعللت وعل حللت عقاله، وعلوت جلاله وأوسعت محاله، فاغتنم الجملة ومر كالنبلة يسبق الريح، ويقطع عرض الفسيح، حتى أشرف بي على واد، وشجر من شجر عاد مورقة مونقة(2/56)
قد تهدلت أغصانها كأنما بريرها حب فلفل، فدنوت فإذا أنا بقس بن ساعدة في ظل شجرة بيده قضيب من أراك ينكب به الأرض وهو يترنم بشعر ويقول: من البسيط
يا ناعي الموت والملحود في جدثٍ ... عليهم من بقايا بزهم خرق
دعهم فإن لهم يوماً يصاح بهم ... فهم إذا انتبهوا من بعضهم فرقوا
حتى يعودوا لحالٍ غير حالهم ... خلقاً جديداً كما من قبله خلقوا
منهم عراةٌ ومنهم في ثيابهم ... منها الجديد ومنها المنهج الخلق
قال: فدنوت منه فسلمت عليه فرد علي السلام، وإذا أنا بعين خرارة في أرض خوارة، ومسجد بين قبرين، وأسدين عظيمين يلوذان به، ويتمسحان بأثوابه، فإذا أحدهما سبق الآخر إلى الماء فتبعه الآخر يطلب الماء فضربه بالقضيب في يده وقال: ارجع ثكلتك أمك حتى يشرب الذي ورد قبلك، فرجع ثم ورد بعده فقلت له: ما هذان القبران. فقال: هذان قبرا أخوين لي كانا يعبدان الله عز وجل معي في هذا الحال لا يشركان بالله عز وجل شيئاً فأدركهما الموت فقبرتهما، وها أنا بين قبريهما حتى ألحق بهما، ثم نظر إليهما فتغرغرت عيناه بالدموع، وانكب عليهما يقول: من الطويل
خليلي هبا طالما قد رقدتما ... أجدكما لا تقضيان كراكما
ألم تريا أني بسمعان مفردٌ ... وما لي فيها من خليل سواكما
مقيمٌ على قبريكما لست بارحاً ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
أبكيكما طول الحياة وما الذي ... يرد على ذي عولة إن بكاكما
فإنكما والموت أقرب غائبٍ ... بروحي في قبريكما قد أتاكما
أمن طول نومٍ لا تحسان داعياً ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
فلو جعلت نفسٌ لنفسٍ وقايةً ... لجدت بنفسي أن تكون فداكما
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحم الله قساً، إني أرجو أن يبعثه الله عز وجل أمة وحده. ولما ظهر سيف ذي يزن على الحبشة وذلك بعد مولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسنتين أتته(2/57)
وفود العرب وأمراؤها وشعراؤها تهنئه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، وأتاه وفد قريش، منهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس وعبد الله بن جدعان وأسد بن عبد العزى ووهب بن عبد مناف وقصي بن عبد الدار فدخل عليه آذنه وهو في رأس قصر يقال له غمدان، وهو الذي يقول فيه أمية بن أبي الصلت الثقفي: من البسيط
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان دارٌ فيك محلالا
واشرب هنيئاً فقد شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
قال: والملك متضمخ بالعبير يلصف وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه بردان أخضران مرتدياً بأحدهما متزراً بالآخر، سيفه بين يديه وعن يمينه وشماله الملوك والمقاول، فأخبر بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه، ودنا منه عبد المطلب، فاستأذنه في الكلام، فقال: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك.
فقال: إن الله عز وجل أحلك أيها الملك محلا رفيعاً شامخاً باذخاً وأنبتك نباتاً، طابت أرومته، وعظمت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أطيب موضع، وأكرم معدن. وأنت أبيت اللعن ملك العرب الذي له ينقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفك خبر سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن يهلك ذكر من أنت خلفه، ولن يخمل ذكر من أنت سلفه. نحن أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. قال له الملك: من أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال ابن أختنا؟ قال: نعم. قال: ادنه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحباً وأهلاً، وأرسلها(2/58)
مثلاً. وكان أول من تكلم بها، وناقة ورحلاً ومستناخاً سهلاً وملكاً ربحلا يعطي عطاء جزلاً. قد سمع الملك مقالتكم وعرف قرابتكم وقبل وسيلتكم، فإنكم أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحيا إذا ظعنتم، ثم أنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال، فأقاموا بذلك شهراً لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم في الانصراف، ثم انتبه إليهم انتباهة، وأرسل إلى عبد المطلب فأدناه، ثم قال: يا عبد المطلب، إني مفضٍ إليك من سر علمي أمراً لو غيرك يكون لم أبح لديه، ولكن رأيتك معدنه فأطلعتك طلعة فليكن عندك مخبأ حتى يأذن الله فيه: إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون الذي ادخرناه لأنفسنا، واحتجناه دون غيرنا خبراً عظيماً وخطراً جسيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاة، للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال له عبد المطلب: مثلك أيها الملك سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر، زمراً بعد زمر؟ قال: إذا ولد بتهامة، غلام بين يديه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة. قال عبد المطلب: أيها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإجلاله وإعظامه لسألته من ساره إياي ما ازداد به سرورا. قال له الملك: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد، اسمه محمد، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، قد ولدناه مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياؤه، ويذل بهم أعداؤه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، وتخمد النيران، ويكسر الأوثان، قوله فصل، وحكمه عدل، ويأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله. قال عبد المطلب: عز جدك، ودام ملكك، وعلا كعبك، فهل الملك ساري بإفصاح، فقد وضح لي بعض الإيضاح.(2/59)
قال له سيف ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك لجده يا عبد المطلب غير كذب. قال: فخر عبد المطلب ساجداً.
فقال له سيف ذي يزن: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست بشيء مما ذكرت لك؟ قال: نعم أيها الملك، إنه كان لي ابن، وكنت معجباً به، وعليه رفيقاً، وإني زوجته كريمة من كرائم قومي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فجاءت بغلام فسميته محمداً. مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه. فقال له ابن سيف ذي يزن:
إن الذي قلت لك كما قلت، فاحتفظ من ابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تتداخلهم النفاسة من أن يكون لكم الرئاسة، فينصبون له الحبائل، ويبغون له الغوائل، وهو فاعل ذلك، أو أبناء عمهم غير شك، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيل ورجلٍ حتى أصير بيثرب دار ملكي، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولأوطات على أسنان العرب كعبه، ولكني سأصرف ذلك إليك عن غير تقصير بمن معك، ثم دعا بالقوم فأمر لكل رجل منهم بعشرة أعبد سود وعسر إماء سود ومئة من الإبل وكرش مملوء عنبراً، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك. وقال: إذا حال الحول فأتني بخبره وما يكون من أمره. قال: فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول عليه الحول.(2/60)
قال: وكان كثيراً مما يقول عبد المطلب: يا معشر قريش، لا يغبطني منكم بجزيل عطاء الملك، وإن كثر، فإلى نفاد، ولكن يغبطني بما يبقى لي ولعقبي ذكره وفخره. فإذا قيل: وما هو؟ قال: سيعلم ما أقول ولو بعد حين. وعن مرداس بن قيس الدوسي قال: حضرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد ذكرت عنده الكهانة، وما كان من تغييرها عند مخرجه فقلت: يا رسول الله، قد كان عندنا من ذلك شيء، أخبرك أن جارية منا يقال لها خلصة لم نعلم عليها إلا خيراً، إذ جاءتنا فقالت " يا معشر دوس، العجب، العجب لما أصابني، هل علمتم إلا خيراً؟ قلنا وما ذاك؟ قالت: إني لفي غنمي إذ غشيتني ظلمة، ووجدت كحس الرجل مع المرأة، وخشيت أن أكون قد حبلت. حتى إذا دنت ولادتها وضعت غلاماً أغضف له أذنان كأذني الكلب، فمكث فينا، حتى إنه ليلعب مع الغلمان إذ وثب وثبة وألقى أزراره وصاح بأعلى صوته، وجعل يقول: يا ويله، يا ويله، يا غوله، يا غوله، يا ويل غنم، يا ويل فهم، من قابس النار، الخيل والله وراء العقبة، فيهن فتيان حسان نجبة. قال: فركبنا وأخذنا الأداة، وقلنا: ويلك ما ترى؟ قال: هل من جارية طامث؟ قلنا: من لنا بها؟ فقال شيخ منا: هي والله عندي عفيفة الأم. فقلنا: فعجلها، فأتى بالجارية، وطلع الجبل، وقال للجارية: اطرحي ثوبك، واخرجي في وجوههم وقال للقوم: اتبعوا أثرها، ثم صاح برجل منا يقال له أحمر بن حابس فقال: يا أحمر بن حابس، عليك أول فارس، فحمل أحمر فطعن أول فارس، فصرعه وانهزموا، وغنمناهم. قالوا: قالوا: فابتنينا عليه بيتاً، وسميناه ذا الخلصة، وكان لا يقول لنا شيئاً إلا كان كما يقول حتى إذا كان مبعثك يا رسول الله قال لنا يوماً: يا معشر قريش، نزلت بنو الحارث بن كعب فاركبوا فركبنا فقال لنا: اكدسوا الخيل كدساً، واحشوا القوم رمساً، ألقوهم غدية، واشربوا الخمر عشية، قال: فلقيناهم فهزمونا وفضحونا، فرجعنا إليه فقلنا: ما حالك وما الذي صنعت بنا؟! فنظرنا إليه، وقد احمرت عيناه، وانتصبت(2/61)
أذناه؟! وأبزم غضباً حتى كاد أن ينفطر ونام، فركبنا واغتفرنا هذه له. ومكثنا بعد ذلك حيناً ثم دعانا فقال: هل لكم في غزوة تهب لكم عزاً، وتحصل لكم حرزاً، وتكون في أيديكم كنزاً، قلنا: ما أحوجنا إلى ذلك. فقال: فاركبوا فركبنا، وقلنا: ما تقول: قال: بنو الحارث بن مسلمة، ثم قال: قفوا فوقفنا، ثم قال: عليكم بفهم ثم قال: ليس لكم فيهم دم، عليكم بمضر، هم أرباب خيل ونعم، ثم قال: لا، رهط دريد بن الصمة قليل العدد، وفي الذمة، ثم قال: لا، ولكن عليكم بكعب بن ربيعة، واشكروها صنيعة عامر بن صعصعة، فلتكن بهم الوقيعة، قال: فلقيناهم فهزمونا وفضحونا فرجعنا وقلنا: ويلك ماذا تصنع بنا؟! قال: ما أدري كذبني الذي كان يصدقني، اسجنوني في بيتي ثلاثاً، ثم ائتوني، ففعلنا به ذلك ثم أتيناه بعد ثالثة، ففتحنا عنه، فإذا هو كأنه جمرة نار، فقال: يا معشر دوس، حرست السماء، وخرج خير الأنبياء، قلنا أين. قال: بمكة، وأنا مت، فادفنوني في رأس جبل، فإني سوف أضطرم ناراً، وإن تركتموني كنت عليكم عاراً، وإذا رأيتم اضطرامي وتلهبي فاقذفوني بثلاثة أحجار، ثم قولوا مع كل جحر: باسمك اللهم، فإني أهدأ وأطفأ. قال: وإنه مات واشتعل ناراً، ففعلنا به ما أمر، وقذفناه بثلاثة أحجار، نقول مع كل حجر: باسمك اللهم، فخمد وطفئ
وأقمنا حتى قدم علينا الحاج، فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله. وعن ابن عباس: أن قريشاً أتو امرأة كاهنة فقالوا لها: أخبرينا يا شهنا بصاحب المقام، يعنون إبراهيم، فقالت: إن أنتم جرزتم كبشاً على هذه السهلة، ثم مشيتم عليها، أنبأتكم. قال: فجرزوا ثم مشى الناس عليها، فأبصرت أثر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: هذا أقربكم إليه شبهاً، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو ما شاء الله تعالى، ثم بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدث رجال من خثعم، قال: كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوماً نعبد الأوثان، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا(2/62)
إذ أقبل يتقاضون إليه، ويرجزن الفرج من عنده لشيء شجر بينهم إذ هتف هاتف من الصنم فجعل يقول: من الرجزقمنا حتى قدم علينا الحاج، فأخبرونا بمبعثك يا رسول الله. وعن ابن عباس: أن قريشاً أتو امرأة كاهنة فقالوا لها: أخبرينا يا شهنا بصاحب المقام، يعنون إبراهيم، فقالت: إن أنتم جرزتم كبشاً على هذه السهلة، ثم مشيتم عليها، أنبأتكم. قال: فجرزوا ثم مشى الناس عليها، فأبصرت أثر محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: هذا أقربكم إليه شبهاً، فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة أو ما شاء الله تعالى، ثم بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حدث رجال من خثعم، قال: كانوا يقولون: إن مما دعانا إلى الإسلام أنا كنا قوماً نعبد الأوثان، فبينا نحن ذات يوم عند وثن لنا إذ أقبل يتقاضون إليه، ويرجزن الفرج من عنده لشيء شجر بينهم إذ هتف هاتف من الصنم فجعل يقول: من الرجز
يا أيها الناس ذوو الأجسام ... من بين أشياخٍ إلى غلام
ما أنتم وطائش الأحلام ... ومسند الحكم إلى الأصنام
أكلكم في حيرة المنام ... أم لا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجى الظلام ... قد لاح للناظر من تهام
ذاك نبي سيد الأنام ... قد جاء بعد الكفر بالإسلام
أكرمه الرحمن من إمام ... ومن رسولٍ صادق الكلام
أعدل ذي حكمٍ من الحكام ... يأمر بالصلاة والصيام
البر والصلات للأرحام ... ويزجر الناس عن الآثام
والرجس والأوثان والحرام ... من هاشم في ذروة السنام
مستعلياً في البلد الحرام
قال: فلما سمعنا ذلك تفرقنا عنه، وأتينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمنا. وعن طلحة قال: وجد في البيت كتاب في حجر منقور في الهدمة الأولى فدعي رجلٌ فقرأه فإذا فيه: عبدي المنتخب المتمكن المنذر المختار، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، لا يذهب حتى يقيم السنة العوجاء، ويشهد أن لا إله إلا الله، أمته الحمادون يحمدون الله عز وجل بكل أكمة، يأتزرون على أوساطهم، ويظهرون أطرافهم. لما حضرت الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر الوفاة اجتمع إليه قومه من غسان فقالوا: إنه قد حضر من أمر الله عز وجل ما ترى، وقد كنا نأمرك بالتزويج في شبابك فتأبى، وهذا أخوك الخزرج له خمس بنين، وليس لك ولد غير مالك، فقال: لن يهلك هالك، ترك مثل مالك، إن الذي يخرج النار من الوثيمة قادر أن يجعل لمالك نسلا(2/63)
ورجالاً بسلاً، وكل إلى موت، ثم أقبل على مالك فقال: أي بني، المنية ولا الدنية، العقاب ولا العتاب، التجلد ولا التلذذ، القبر خير من الفقر، إنه من قل ذل، ومن كرم الكريم الدفع عن الحريم، والدهر يومان: فيوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصطبر، وكلاهما سينحسر، ليس ينفلت منها الملك المتوج ولا اللئيم المعلهج، سلم ليومك حيال ربك، ثم أنشأ يقول: من الطويل
شهدت السبايا يوم آل محرقٍ ... وأدرك عمري صيحة الله في الحجر
فلم أر ذا ملكٍ من الناس واحداً ... ولا سوقة إلا إلى الموت والقبر
فعل الذي أردى ثموداً وجرهماً ... سيعقب لي نسلاً على آخر الدهر
تقر بهم من آل عمرو بن عامر ... عيونٌ لذي الداعي إلى طلب الوتر
فإن تكن الأيام أبلين جدتي ... وشيبن رأسي والمشيب مع العمر
فإن لنا رباً علا فوق عرشه ... عليها بما تأتي من الخير والشر
ألم يأتي قومي أن لله دعوةً ... يقول بها أهل السعادة والبشر
إذا بعث المبعوث من آل غالبٍ ... بمكة فيما بين زمزم والحجر
هنالك فابغوا نصره ببلادكم ... بني عامرٍ إن السعادة في النصر
ثم قضى ساعته.(2/64)
باب صفة خَلقه ومعرفة خُلقه
عن علي بن أبي طالب قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضخم الرأس، عظيم العنق، مشرب العينين من حمرة، هدب الأشفار، كث اللحية، شثن الكفين والقدمين، أزهر اللون، إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعاً. وعن علي قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن، فإني لأخطب يوماً على الناس، وحبر من أحبار يهود واقف، في يده سفر ينظر فيه، فناداني فقال: صف لنا أبا القاسم فقال علي: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليس بالقصير ولا الطويل البائن، وليس بالجعد القطط ولا بالسبط، هو رجل الشعر، أسود، ضخم الرأس، مشرب لونه حمرةً، عظيم الكراديس، شثن الكفين والقدمين، طويل المسربة، وهو الشعر الذي يكون في النحر إلى السرة، هدب الأشفار، مقرون الحاجبين، صلت الجبين، بعيد ما بين المنكبي، إذا مشى يتكفأ كأنما ينزل من صبب، لم أرى قبله مثله، ولم أر بعده مثله. قال علي: ثم سكت، فقال لي الحبر: وماذا؟ قال علي: هذا ما يحضرني. قال الحبر: في عينيه حمرة، حسن اللحية، حسن الفم، تام الأذنين، يقبل جميعاً ويدبر جميعاً. فقال علي: هذه والله صفته، قال(2/65)
الحبر: وشيء آخر قال علي: ما هو؟ قال الحبر: وفيه جنأ. قال علي: هو الذي قلت لك كأنما ينزل من صبب. قال الحبر: فإني أجد هذه الصفة في سفر آبائي، ونجده يبعث من حرم الله وأمنه وموضع بيته، ثم يهاجر إلى حرم يحرمه هو، وتكون له حرمة الحرم الذي حرم الله، ونجد أنصاره الذين هاجر إليهم قوماً من ولد عمرو بن عامر أهل نخل وأهل الأرض، قبلهم يهود. قال: قال علي: هو هو رسول الله. فقال الحبر: فإني أشهد أنه نبي وأنه رسول الله إلى الناس كافةً، فعلى ذلك أحيا، وعليه أموت، وعليه أبعث إن شاء الله. قال: فكان يأتي علياً فيعلمه القرآن، ويخبره بشرائع الإسلام، ثم خرج عليٌ والحبر هناك حتى مات في خلافة أبي بكر، وهو مؤمن برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصدق به. وفي حديث آخر: أسود الحدقة: وعن رجل من الأنصار قال: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو محتب بحمالة سيفه في مسجد الكوفة، عن نعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيض اللون مشرباً حمرة، أدعج العينين، سبط الشعر دقيق المسربة، سهل الخد، كث اللحية، ذا وفرة كأن عنقه إبريق فضة، له شعر يجري من لبته إلى سرته كالقضيب ليس في بطنه ولا في صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدم، إذا مشى كأنما ينحدر من صبب، وإذا مشى كأنما يتقلع من صخر، وإذا التفت التفت جميعاً، ليس بالطويل ولا القصير، ولا الفاجر ولا اللئيم، كأن عرقه في وجهه اللؤلؤ، ولريح عرقه أطيب من المسك الأذفر، لم أر مثله قبله ولا بعده.
وفي رواية: كان ليس بالذاهب طولاً، وفوق الربعة، إذا جاء مع القوم غمرهم، أبيض شديد الوضح، ضخم الهامة، أغر أبلج. وفي حديث: ولم يكن بالمطهم ولا المكلثم، وكان في الوجه تدوير.(2/66)
وفي رواية: جليل المشاش والكتد. وفي حديث: بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم بذمة، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، من رآه بداهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله. وفي حديث: كان أزهر ليس بالأبيض الأبهق. وفي حديث: في عينيه شكلةٌ. وفي حديث آخر: كان شبح الذراعين. وعن زياد مولى سعد قال: سألت سعد بي أبي وقاص: هل خضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: لا، ولا هم به. قال: كان شيبه في غنفقته وناصيته، لو شاء أعدها لعددتها. قلت: فما صفته؟ قال: كان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير ولا بالأبيض الأبهق ولا بالأدم ولا بالسبط ولا بالقطط، وكانت لحيته حسنة وجبينه صلتاً. مشرب بحمرة، شثن الأصابع، شديد سواد الرأس واللحية.
وعن عبد الله بن مسعود قال: إن أول شيء علمته من أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قدمت مكة في عمومة لي فأرشدونا إلى العباس بن عبد المطلب فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فجلسنا إليه، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى أنصاف أذنيه، أقنى الأنف، براق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المسربة، شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر يمشي على يمينه غلام أمرد حسن(2/67)
الوجه مراهق أو محتلم تقفوه امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه، ثم استلم الغلام، ثم استلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعاً، والغلام والمرأة يطوفان معه. قلنا: يا أبا الفضل، إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم أو شيء حدث؟ قال: هذا ابن أخي محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة امرأته خديجة، ما على وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة. وعن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيه من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأن الأرض تطوى له، إنا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث. وكان أبو هريرة ينعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: كان شبح الذراعين، بعيد ما بين المنكبين، أهدب أشفار العينين، يقبل جميعاً، ويدبر جميعاً، بأبي وأمي، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ولا صخاباً في الأسواق. وعن الزهري قال: سئل أبي هريرة عن صفة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أحسن الصفة وأجملها، كان ربعة إلى الطول ما هو، بعيد ما بين المنكبين، أسيل الخدين، شديد سواد الشعر، أكحل العين، أهدب الأشفار، إذا وطئ بقدمه وطئ بكلها، ليس لها أخمص. إذا وضع رداءه عن منكبيه فكأنه سبيكة فضة، وإذا ضحك كاد يتلألأ في الخدر، لم أر قبله ولا بعده مثله. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شثن القدمين والكفين، ضخم الساقين، عظيم الساعدين ضخم العضدين ضخم المنكبين، بعيد ما بين المنكبين، رحب الصدر، رجل الرأس، أهدب العينين، حسن الفم، حسن اللحية، تام الأذنين، ربعة من القوم لا طويل ولا قصير أحسن الناس لوناً، يقبل معاً ويدبر معاً، لم أر مثله، ولم أسمع بمثله،(2/68)
وعنه من حديث: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنما صيغ من فضة، رجل الشعر، مفاض البطن. وفي حديث آخر عنه: ما مشى مع أحد إلا طالهومن حديث أنس بعث وهو ابن أربعين، فأقام بمكة عشراً، وبالمدينة عشر، ومات وهو ابن ستين، وفي رواية: ثلاث وستين، وليس في رأسه ولا في لحيته عشرون شعرة بيضاء. وفي حديث أنس: كثير العرق، حسن الوجه. وعن أنس قال: كل ريح طيب قد شممته، فما شممت قط أطيب من ريح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل شيء لين قد مسسته، فما مسست شيئاً قط ألين من كف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكل شيء حسن قد رأيت، فما رأيت شيئاً قط أحسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي حديث آخر: ولقد خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، فوالله ما قال لي أفٍ قط، ولم يقول لشيء فعلته: لو فعلت كذا، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
وفي حديث عنه أيضاً: إذا مشى كأنه يتوكأ. كان لون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسمر. قال: إنما كانت السمرة تعتري وجهه الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكثرة مقابلته للشمس. قال: وفي الحديث الصحيح أنه كان أبيض، وفي حديث آخر: كان أنور المتجرد أي أبيض الجسم.(2/69)
من حديث آخر عنه: أحسن الناس قواماً، وأحسن الناس وجهاً، واحسن الناس لوناً، وأطيب الناس ريحاً، وألين الناس كفاً. وعن أنس رضي الله عنه قال: أخذت أم سلم بيدي مقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة فقالت: يا رسول الله، هذا غلام كاتب يخدمك، قال: فخدمته تسع سنين، فما قال لشيء صنعت: أسأت ولا بئس ما صنعت. وعنه قال: كان آخر نظرة نظرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين كشف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر، فأشار إليهم أن امكثوا، وألقى السجف، وهلك من آخر يومه، فرأيت وجهه كأنه ورقة مصحف. وفي حديث آخر: الوجه أبيض، كث اللحية، ضخم القامة، أحمر المآقي.
وعن البراء قال: ما رأيت من ذي لمةٍ في حلة حمراء أحسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، له شعر يضرب منكبيه بعيد ما بين المنكبين ليس بالقصير وليس بالطويل. وقال رجل للبراء: كان وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديداً مثل السيف؟ فقال: لا ولكن كان مثل القمر. وعنه قال: ما رأيت أحسن شعراً، ولا أحسن بشراً في ثوبين أحمرين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن جابر بن سمرة قال: كان في ساقي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حموشة، وكان لا يضحك إلا تبسماً. وكنت إذا(2/70)
نظرت إليه قلت: أكحل العينين وليس بأكحل. وعن سماك قال: سألت جابر بن سمرة عن صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كان أشكل العين، ضليع الفم، منهوس العقب. وفي حديث: قلت لسماك: ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم. قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين، قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحم العقب. وعن سماك بن حرب أنه سمع جابر بن سمرة يقول: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد شمط مقدم رأسه ولحيته، فإذا ادهن وامتشط لم يتبين وإذا شعث رأسه تبين. وكان كثير شعر الرأس واللحية. وقال رجل: وجهه مثل السيف؟ قال: لا، وجهه كان مثل الشمس والقمر مستديراً. ورأيت عند غضروف كتفه مثل بيضة الحمامة تشبه جسده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن جابر بن سمرة قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة إضحيان، وعليه حلة حمراء، فكنت أنظر إليه وإلى القمر فهو كان في عيني أحسن من القمر. وعن جابر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " هبط علي جبريل فقال: يا محمد، إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول لك: حبيبي إني كسوت حسن يوسف من نور الكرسي، وكسوت حسن وجهك من نور عرشي. " وقال رجل من بني عامر بن صعصعة لأبي أمامة الباهلي: صف لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبيض تعلوه حمرة، أدعج العينين، أهدب الأشفار، شثن الأطراف، ذو مسربة، عظيم الهامة، كثير الشعر، كأن(2/71)
عرقه اللؤلؤ، أعنق الناس، آدم الوجه، لم أرى مثله قبله ولا بعده في الرجال من هو أطول منه، وفي الرجال من هو أقصر منه، إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعاً، منفتق الخاصرة، لا أخمص له، يطأ على قدمه كلها. عليه سحوليتان، إزاره تحت ركبتيه بأربع أصابع، ورداؤه إذا تعطف به لم يحط به فهو واضعه تحت إبطه، بين كتفيه خاتم النبوة، وهو أقرب إلى كتفه اليمنى. قال: فقدمت عرفات، قال: فبينا أنا أستقري الرجال إذا أنا بموكب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا هو قائم وفي يده سوط طويل، فأخذت بخطام راحلته فاستيقظ فضربني بالسوط ضربة، ونزل العباس فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئتك أبغيك سوءاً، قال: آلله؟ فقلت: آلله، فقرع راحلته فبركت، ثم نزل فوضع رداءه بين شعبتي الرحل، ثم أعطاني السوط، وقال: اقتد، قلت: منك، لا والذي بعثك بالحق، ما جئت إلا أسألك أي عمل يدخل الله تعالى به العبد الجنة؟ قال: تقول العدل، وتعطي الفضل. قلت: لا أطيق ذلك.
قال: فأفش السلام، وأطيب الكلام، قلت: ولا هذا أطيق، قال: فهل لك من ذود؟ قلت: نعم، لي ثلاثة ذود، قال: فخذ بعيراً منها، فاسق عليه أهل بيت لا يشربون الماء إلا غباً، قال: فلعلك لا ينضى بعيرك، ولا ينخرق سقاؤك حتى يدخلك الله الجنة. وفي رواية أخرى: فانطلق الرجل وهو يقول: والذي بعثك بالحق لأفعلن. فبلغني أن الرجل فعل ذلك، ثم قتل شهيداً في سبيل الله عز وجل. وعن أبي الطفيل قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق على الأرض أحد رآه غيري. قال: قلت: كيف(2/72)
رأيته؟ قال: رأيته أبيض مليحاً مقصداً إذا مشى كأنه يهوي في صبب. وعن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت أبا جحيفة يقول: رأيت رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان الحسن بن علي يشبهه، قال: وأمر لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث عشرة قلوصاً، وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن نقبضها، فأبوا أن يعطونا شيئاً، فأتينا أبا بكر رضي الله عنه فأعطاناها. قال إسماعيل: قلت لأبي جحيفة: صفه لي، يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: كان أبيض قد شمط. وعن شيخ من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: يا أيها الناس، قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا. قال: وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: يا أيها الناس، لا يغرنكم هذا عن دينكم فإنما يريد لتتركوا آلهتكم، ولتتركوا اللات والعزى. قال: وما يلتفت إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: قلنا: انعت لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: بين بردين أحمرين، مربوع، كثير اللحم، حسن الوجه، شديد سواد الشعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشعر. قال جهضم بن الضحاك: مررنا بالرجيح فرأيت بها شيخاً فقيل لي: هذا العداء بن خالد فقلت: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: نعم، قلت: صفه لي، فقال: كان حسن السبلة، وكانت العرب وأهل الجاهلية يسمون اللحية السبلة. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت قاعدة أغزل، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخصف نعله، فجعل جبينه يعرق، وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت، فنظر إلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما لك يا عائشة بهت؟ قلت: جعل جبينك يعرق، وجعل عرقك يتولد نوراً. ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره. قال: وما يقول أبو كبير، قالت: قلت: يقول:(2/73)
ومبرإ من كل غبر حيضةٍ ... وفساد مرضعةٍ وداءٍ مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلل
فقام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل بين عيني، وقال: " جزاك الله يا عائشة عني خيراً، ما سررت بشيء كسروري منك وفي رواية ما سررت بشيء كسروري بكلامك. " وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " استعرت من حفصة بنت رواحة إبرةً، كنت أخيط بها ثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسقطت عني الإبرة، فطلبتها فلم أقدر عليها، فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتبينت الإبرة بشعاع نور وجهه، فضحكت فقال: يا حميراء لم ضحكت؟ قلت: كان كيت وكيت، فنادى بأعلى صوته، يا عائشة الويل ثم الويل، ثلاثاً، لمن حرم النظر إلى هذا الوجه. ما من مؤمن ولا كافر إلا ويشتهي أن ينظر إلى وجهي. وعن أم هانئ رضي الله عنها قالت: ما رأيت بطن رسول الله صلى الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا ذكرت القراطيس المثني بعضها على بعض. وعن أبي معبد الخزاعي: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمتي أم معبد الخراعية، وكانت امرأة برزة جلدة تحتبي وتجلس بفناء الخيمة وتطعم وتسقي فسألوها لحماً أو تمراً، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وإذا القوم مرملون فقالت: لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى شاة في كسر خيمتها. فقال: " ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال: " هل بها من لبن " فقالت: هي أجهد من ذلك. فقال: " أتأذنين أن أحلبها؟ " قالت: نعم، بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلباً فاحلبها، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله وقال: " اللهم بارك لها في شاتها " فتفاجت(2/74)
ودرت واجترت، فدعا بإناء لها يربض الرهط فحلب فيها ثجاً حتى علته النهال فسقاها فشربت حتى رويت، ثم حلب وسقى أصحابه فشربوا حتى رووا وشرب آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم، فشربوا جميعاً عللاً بعد نهل حتى أراضوا ثم حلب فيها ثانياً عوداً على بدء، فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها فقل ما لبثت أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزاً عجافاً هزلاً مخهن قليل لا نقي بهن، فلما رأى اللبن قال: من أين لكم هذا والشاء عارقة؟ قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت، قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلب، صفيه لي يا أم معبد. قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة متبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة ولم تزر به صقلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صحل، أحور أكحل أزج أقرن، رجل، في عنقه سطع وفي لحيته كثاثة إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، فصل لا نزر ولا هذر، أزهر اللون يعني أجهر الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة لا تشنؤه من طول ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظراً وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود مشحود، لا عابس ولا مقبح. قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه ولأفعلنه إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. وأصبح صوتٌ بمكة بين السماء والأرض يسمعونه ولا يدرون من يقوله وهو يقول: من الطويل(2/75)
جزى الله رب الناس خير جزائه ... رفيقين حلاً خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى الله عنكم ... به من فعال لا تجارى وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاةٍ حائلٍ فتحلبت ... له بصريحٍ ضرة الشاة مزبد
فغادره رهناً لديها لحالبٍ ... لجرتها في مصدرٍ ثم مورد
فأصبح الناس قد فقدوا نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذوا على خيمتي أم معبد لحقوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأجابه حسان فقال: من الطويل
لقد خاب قومٌ زال عنهم نبيهم ... وقدس من يسري إليهم ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم ... وحل على قوم بنورٍ مجدد
وهل يستوي ضلال قومٍ تسفهوا ... عمىً وهداةٌ يهتدون بمهتد
نبي يرى مالا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في قومٍ مقالة غائبٍ ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكرٍ سعادة جده ... بصحبته من يسعد الله يسعد
ليهن بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قال عبد الملك: بلغني أن أم معبد أسلمت وهاجرت. وعن علي بن الحسين قال: قال الحسن بن علي عليهم السلام: سألت خالي هند بن أبي هالة عن حيلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان وصافاً، وأنا أرجو أن يصف لي منه شيئاً أتعلق به، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخماً مفخماً يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، أطول من المربوع، وأقصر من المشذب، عظيم الهامة، رجل الشعرة، إن انفرقت عقيصته فرق وإلا(2/76)
تجاوز شعره شحمة أذنه إذا هو وفره، أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرنين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج، سهل الخدين، ضليع الفم أشنب، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادن متماسك سواء البطن والصدر، فسيح الصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، أنور المتجرد، موصول ما بين اللبة والسرة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين مما سوى ذلك، أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، سابل الأطراف، سبط القصب، خصمان الأخمصين، مسيح القدمين، ينبو عنهما الماء، إذا زال زال تقلعاً، ويخطو تكفياً ويمشي هوناً، ذريع المشية، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعاً، خافض الطرف، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه ويبداً من لقي بالسلام. قلت: صف لي منطقه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، ولا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فصلاً لا فضول فيه ولا تقصير، دمثاً ليس بالجافي ولا المهين، يعظم النعمة وإن دقت، لايذم منها شيئاً، لم يكن يذم ذواقاً ولا يمدحه. ولا يقام لغضبه إذا تعرض للحق بشيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها فضرب بإبهامه اليمنى باطن راحته اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جل ضحكه التبسم، ويفتر عن مثل حب الغمام. فكتمتها الحسين بن علي زماناً ثم حدثته بها، فوجدته قد سبقني إليه وسأل أباه عن ترحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومخرجه ومجلسه وشكله فلم يدع منه شيئاً.(2/77)
قال الحسين: سألت أبي عليه السلام عن دخول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كان دخوله لنفسه مأذوناً له في ذلك، فكان إذا أوى إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزأ لله عز وجل، وجزأً لنفسه، وجزأً لأهله. ثم جزأ جزأه بينه وبين الناس فيرد ذلك على العامة بالخاصة ولا يدخر عنهم شيئاً، فكان سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم في الدين، منهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم، ويشغلهم فيما أصلحهم من مسألته عنهم، ويقول: ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة. لا يذكر عنده إلا ذلك ولا يقبل من أحد غيره يدخلون رواداً عن ذواق، يخرجون أدلة يعني فقهاء قلت: أخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخزن لسانه إلا مما يعينهم ويؤلفهم ولا يفرقهم، يكرم كريم كل قوم ويوليه عليهم، ويحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويصوبه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق ولا يجاوز إلى غيره، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
فسألته عن مجلسه عما كان يصنع فيه؟ قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى القوم جلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن أحداً أكرم عليه منه، من جالسه أو قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أباً، وصاروا عنده في الحق متقاربين(2/78)
يتفاضلون فيه بالتقوى، متواضعين يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويرفدون ذا الحاجة، ويرحمون الغريب. فسألته عن سيرته في جلسائه فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح، يتغافل عما لا يشتهي، ولا يوئس منه.
قد ترك نفسه من ثلاث: المراء، والإكثار، وما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولا يعيره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، وإذا سكت تكلموا لا يتنازعون عنده الحديث، من تكلم نصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في المنطق. ويقول: إذا رأيتم صاحب الحاجة يطلبها فارفدوه، ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بانتهاء أو قيام. قلت: فكيف كان سكوته؟ قال: كان سكوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أربع: على الحلم، والحذر، والتقرير، والتفكر. فأما تقريره ففي تسوية النظر والاستماع بين الناس، وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصبر، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه. وجمع له في الحذر أربع: أخذه بالحسن ليقتدي به، وتركه للقبيح ليتنهى عنه، واجتهاد الرأي فيما يصلح أمته، والقيام لهم فيما جمع لهم أمر الدنيا والآخرة. وعن سعيد بن المسيب قال: قال أنس رضي الله عنه: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأنا يومئذٍ ابن ثماني سنين فذهبت بي أمي إليه فقالت: يا رسول الله، إن رجال الأنصار ونساءهم قد أتحفوك، غيري، وإني لم أجد ما أتحفك به إلا ابني هذا، فتقبله مني يخدمك ما بدا لك. قال: فخدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين لم يضربني مرة قط، ولم يسبني، ولم يعبس في وجهي وفي حديث أنس بن مالك قال: لم(2/79)
يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سباباً ولا لعاناً ولا فحاشاً كان يقول لأحدنا عند المعاتبة: ما له ترب جبينه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عشر سنين، وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه، وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناولها إياه فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه، وإذا لقي أحداً من أصحابه فتناول أذنه ناولها فلم ينوعها حتى يكون هو الذي ينزعها عنه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسجد وعليه ثوب نجراني غليظ الضفة فأتاه أعرابي من خلفه فأخذ بجانب ردائه حتى أثرت الضفة في صفح عنق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد أعطنا من مال الله عز وجل الذي عندك، فالتفت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني فتبسم وأمر له. وعن خارجة بن زيد: دخل نفر على زيد بن ثابت رضي الله عنه فقالوا: حدثنا أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ماذا أحدثكم؟ كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي أرسل إلي فكتبت له، وكان إذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا. وكل هذا أحدثكم عنه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نقعد مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد بالغدوات، فإذا قام إلى بيته لم نزل قياماً حتى يدخل بيته، فقام يوماً، فلما بلغ وسط المسجد أدركه أعرابي فقال: يا محمد، احمل لي بعيري هذين، فإنك لا تحمل من مالك ولا من مال أبيك، وجبذه بردائه حتى أدركه فحمر رقبته، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا، وأستغفر الله، لا أحمل لك حتى(2/80)
تقيدني، قالها ثلاث مرات، ثم دعا رجلاً فقال: احمل له على بعيريه: على بعير شعير وعلى بعير تمر. " وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرب خادماً له ولا امرأة له قط، ولا ضرب بيده شيئاً إلا أن يجاهد في سبيل الله عز وجل، ولا نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن يكون لله، فإن كان لله انتقم، ولا عرض عليه أمران إلا أخذ الذي هو أيسر. حتى يكون إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه. وعنها رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منتصراً عن ظلامة ظلمها قط إلا أن ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك. ما خير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما. وعن سعد بن هاشم قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: ما كان خلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: قال الله تعالى: " إنك لعلى خلقٍ عظيم " فخلقه القرآن. وفي حديث أبي الرداء قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: خلقه القرآن، يرضى الناس لرضاه ويسخط لسخطه. وعن عطية: في قوله تعالى: " وإنك لعلى خلقٍ عظيم " قال: أدب القرآن. وعن عمرة قالت: سألت عائشة رضي الله عنها: كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خلا بنسائه. قالت:(2/81)
كان كالرجل من رجالكم إلا أنه كان أكرم الناس وأحسن الناس خلقاً، كان ضحاكاً بساماً. وروى الزهري عن بعض آل عمر بن الخطاب رضي الله عنهم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما كان يوم الفتح ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة أرسل إلى صفوان ابن أمية بن خلف وإلى أبي سفيان بن حرب وإلى الحارث بن هشام. قال عمر رضي الله عنه: قد أمكن الله منهم أعرفهم بما صنعوا حتى قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: " لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ".
قال عمر رضي الله عنه: فانتضحت حياءً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كراهية أن يكون بدر مني، فقد قال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما قال. وعن صفية بنت حيي رضي الله عنها قالت: أردفني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على عجز ناقته ليلاً قالت: فجعلت أنفس فيمسني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده فيقول: " يا هذه يا بني حيي، وجعل يقول: يا صفية، إني أعتذر إليك مما صنعت بقومك إنهم قالوا لي كذا، إنهم قالوا لي كذا ".(2/82)
باب تطهير قلبه من الغل
وعن أنس رضي الله عنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاه جبريل، وهو يلعب مع الغلمان، وأخذه فصرعه وشق عن قلبه فاستخرج القلب، فشق القلب فاستخرج منه علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه فأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه يعني ظئره قالوا إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه فرأوه منتقع اللون. قال أنس رضي الله عنه: فقد كنت أرى أثر المخيط في صدره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس رضي الله عنه: أن الصلاة فرضت بمكة وأن ملكين أتيا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهبا به إلى زمزم، فشقا بطنه، فأخرجا حشوته في طست من ذهب، فغسلاه بماء زمزم، ثم كبسا جوفه حكمة وعلماً.
وعن أبي العجفاء قال: حدثني شداد بن أوس قال: أقبل رجل من بني عامر شيخٌ كبير يتوكأ على عصاه حتى مثل بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إنك تفوه بأمر عظيم، تزعم أنك رسول الله، أرسلت إلى الناس كما أرسل موسى بن عمران وعيسى بن مريم والنبيون، وإنما أنت رجل من العريب ممن يعبد هذه الحجارة والتماثيل فما لك والنبوة؟ وإنما النبوة من بيتين، من بيت خلافة وبيت نبوة، ولست من هذا ولا هذا، ولكن لكل قول حقيقة ولكل بدو شأن، فحدثني بحقيقة قولك وبدو شأنك. قال: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حليماً لا يجهل، فقال له: " يا أخا بني عامر، إن للأمر الذي سألتني عنه قصصاً ونبأ، فاجلس حتى أنبئك بحقيقة قولي وبدء شأني "، قال فجلس العامري، وتهافت العرب حذواً بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال(2/83)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن والدي لما بنى بأمي حملت، رأت فيما يرى النائم أن نوراً خرج من جوفها، فجعلت تتبعه بصرها حتى ملأ ما بين السماوات والأرض نوراً، فقصت ذلك على حكيمة من أهلها، فقالت لها: والله لئن صدقت رؤياك ليخرجن من بطنك غلام يعلو ذكره بين السموات والأرض، وكان هذا الحي من بني سعد بن هوزان ينتابون نساء أهل مكة فيحضنون أولادهم، وينتفعون بخيرهم، وإن أمي ولدتني في العام الذي قدموا فيه، وهلك والدي فكنت يتيماً في حجر عمي أبي طالب، فأقبل النسوان يتدافعنني ويقلن: ضرع صغير لا أب له، فما عسانا أن ننتفع به من خير؟ وكانت فيهن امرأة يقال لها أم كبشة بنت الحارث، فقالت: والله لا أنصرف، عامي هذا، خائبة أبداً، فأخذتني وألقتني على صدرها، فدر لبنها فحضنتني، فلما بلغ ذلك عكي أبا طالب أقطعها إبلاً ومقطعات من الثياب ولم يبق عم من عمومتي إلا أقطعها وكساها، فلما بلغ ذلك النسوان أقبلن إليها فقلن: والله يا أم كبشة لو علمنا بركة هذا الغلام تكون هكذا ما سبقتنا إليه. قال: ثم ترعرعت وكبرت، وقد بغضت إلى أصنام قريش والعرب، فلا أقربها ولا آتيها، حتى إذا كان بعد زمين خرجت بين أتراب لي من العرب نتقاذف بالأجلة يعني البعر، فإذا بثلاثة نفر مقبلين، معهم طست من ذهب مملوء ثلجاً، فقبضوا علي من بين الغلمان، فلما رأى ذلك الغلمان انطلقوا هراباً، ثم رجعوا فقالوا: يا معشر النفر، إن هذا الغلام ليس منا ولا من العرب. وإنه لابن سيد قريش وبيضة المجد، وما من حي من أحياء العرب إلا لآبائه في رقابهم نعمة مجللة، فلا تصنعوا بقتل هذا الغلام شيئاً، فإن كنتم لا بد قاتليه فخذوا أحدنا فاقتلوه مكانه. قال: فأبوا أن يأخذوا مني فدية، فانطلقوا وأسلموني في أيديهم فأخذني أحدهم فأضجعني إضجاعاً رقيقاً فشق ما بين صدري إلى عانتي، ثم استخرج قلبي فصدعه، فاستخرج منه مضغة سوداء منتنة فقذفها ثم غسله في تلك الطست بذلك الثلج ثم رده، ثم أقبل الثاني فوضع يده على صدري إلى عانتي فالتأم ذلك كله، ثم أقبل الثالث وفي يده خاتم له شعاع فوضعه بين كتفي ويدي، فقد لبثت زماناً من دهري وأنا أجد برد ذلك الخاتم، ثم انطلقوا وأقبل الحي بحذافيرهم وأقبلت معهم أمي التي(2/84)
أرضعتني. فلما رأت ما بي التزمتني، قالت: يا محمد: قتلت لوحدتك وليتمك، وأقبل الحي يقبلون ما بين عيني إلى مفرق رأسي ويقولون: قتلت لوحدتك وليتمك، احملوه إلى أهله لا يموت عندنا، فحملت إلى أهلي. فلما رآني عمي أبو طالب قال: والذي نفسي بيده لا يموت ابن أخي حتى تسود به قريش جميع العرب، احملوه إلى الكاهن، فحملت إليه، فلما رآني قال: يا محمد حدثني ما رأيت، وما صنع بك فأنشأت أقص عليه القصص. فلما سمعه وثب علي فالتزمني وقال: يا للعرب اقتلوه، فو الذي نفسي بيده لئن بقي حتى يبلغ مبالغ الرجال ليشتمن موتاكم، وليسفهن رأيكم، وليأتينكم بدين ما سمعتم بمثله قط. قال: فوثبت عليه أمي التي أرضعتني فقالت: إن كانت نفسك قد غمتك فالتمس لها من يقتلها، فإنا غير قاتلي هذا الغلام، فهذا بدو شأني، وحقيقة قولي ". قال: فقال العامري: فما تأمرني يا محمد؟
قال: " آمرك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وتصلي الخمس بوقتهن، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا، وتؤدي زكاة مالك ". قال: فما لي إن فعلت ذلك؟ قال: " جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، وذلك جزاء من تزكى ". قال: يا محمد، فأي المستمعات أسمع؟ قال: " جوف الليل الدامس، إذا هدأت العيون، فإن الله حي قيوم يقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له ذنبه؟ هل من سائل فأعطيه سؤله؟ " قال: فوثب العامري فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.(2/85)
باب عصمة الله بالرسالة عما كان يرتكبه أهل الجهالة
عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ماهممت بقبيحٍ مما يهم أهل الجاهلية إلا مرتين من الدهر كلتاهما عصمني الله منهما: قلت ليلةً لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في غنم لأهلها يرعاها: أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت. فلما جئت أدنى دار من دور مكة سمعت غناءً وصوت دفوفٍ ومزامير فقلت: ما هذا؟ قالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بدلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني فنمت فما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ فأخبرته، ثم فعلت الليلة الأخرى مثل ذلك، فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فسمعت كما سمعت حتى غلبتني عيني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئاً. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمله أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته ". وفي حديث آخر: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما من نبي إلا ورعى الغنم قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا ". وعن جابر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه وأحدهما يقول لصاحبه: ألا تقوم خلف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فلم يعد أن يشهد مع المشركين مشاهدهم.
وعن أم أيمن قالت: كانت بوانة صنماً، تحضره قريش، تعظمه، تنسك له النسائك، ويحلقون رؤوسهم(2/86)
عنده، ويعكفون عنده يوماً إلى الليل، وذلك يوم في السنة، وكان أبو طالب يحضره مع قومه وكان يكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحضر ذلك العيد مع قومه، فيأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك حتى رأيت أبا طالب غضب عليه، ورأيت عماته غضبن عليه يومئذ أشد الغضب فجعلن يقلن: إنا لنخاف عليك مما تضع من أحساب آلهتنا، وجعلن يقلن: ما تريد يا محمد أن تحضر لقومك عيداً ولا تكثر لهم جمعاً. قالت: فلم يزالوا به حتى ذهب فغاب عنهم ما شاء الله ثم رجع إلينا مرعوباً فزعاً، فقالت عماته: ما دهاك؟ قال: إني أخشى أم يكون بي لمم، فقلن: ما كان الله ليبتليك بالشيطان، وفيك من خصال الخير ما فيك، فما الذي رأيته؟ قال: إني كلما دنوت من صنم منها تمثل لي رجل أبيض طويل يصيح: وراءك يا محمد لا تمسه، قالت: فما عاد إلى عيد لهم حتى نبئ. وعن علي رضي الله عنه قال: قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل عبدت وثناً قط؟ قال: لا، قالوا: هل شربت خمراً قط؟ قال: لا، وما زلت أعرف أن الذي هم عليه كفر، وما كنت أدري ما الكتاب وما الإيمان؟ وكذلك أنزل في القرآن: " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ". قال ابن عباس: كان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم مع بني عمته عند الصنم الذي عند زمزم واسم الصنم إساف. قال: فرفع رأسه يوماً إلى ظهر الكعبة ثم ولى ذاهباً. قال: فقال له بنو عمته: ما لك يا محمد؟ قال: إني نهيت أن أقوم عند هذا الصنم. وعن بريدة قال: دخل جبريل عليه السلام مسجد الحرام فطفق يتقلب فبصر بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائماً في ظل الكعبة. فأيقظه فقام ينفض رأسه ولحيته من التراب. فانطلق به نحو باب بني شيبة، فلقيهما ميكائيل، فقال جبريل لميكائيل: ما يمنعك أن تصافح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: أجد من يده ريح النحاس، فكأن جبريل أنكر ذلك، قال: أوقد فعلت؟ وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نسي ثم ذكر فقال: صدق أخي، مررت أول أمس على إساف ونائلة فوضعت يدي على أحدهما(2/87)
فقلت: إن قومي رضوا بكما إلهاً مع الله لقوم سوء. قال: وإساف ونائلة كانا شابين من قريش يطوفان بالكعبة فأصابا خلوة فأراد أحدهما صاحبه، فنكسهما الله نحاساً، فجاءتهما قريش فقالوا: لولا أن الله رضي أن يعبد هذان الإنسانان لما نكسهما نحاساً. قال ابن بريدة: أما إساف فرجل من وأما نائلة فامرأة من بني عبد الدار بن قصي. وعن ابن عباس قال: أول شيء رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النبوة أن قيل استتر، وهو غلام. قال: فما رأيت عورته منذ يومئذٍ. وعن العباس قال: كنا ننقل الحجارة إلى البيت حين بنت قريش، فكانت الرجال تنقل الحجارة والنساء تنقل الشيد؛ والشيد ما يجعل بين الصخر. قال العباس: كنت أنقل أنا وابن أخي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنا ننقل على رقابنا، ونجعل أزرنا تحت الصخرة، فإذا غشينا الناس اتزرنا فبينا أنا ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين يدي، إذ وقع فانبطح فجئت أسعى وألقيت الحجر فإذا هو ينظر إلى السماء فقلت له: ما شأنك؟ فقام فاتزر فقال: نهيت أن أمشي عرياناً، قال العباس: فكتمت ذلك عن الناس خيفة أن يروه جنوناً.(2/88)
كيف كان بدء نبوته وبعثه
عن أبي ذر الغفاري قال: قلت يا رسول الله، كيف علمت أنك نبي أول ما علمت حتى علمت ذلك واستيقنت؟ قال: " يا أبا ذر، أتاني ملكان وأن ببعض بطحاء مكة فوقع أحدهما بالأرض وكان الآخر بين السماء والأرض، فقال أحدهما لصاحبه: أه هو؟ قال: هو هو. فقال: زنه برجل، فوزنت برجل فرجحته، ثم قال: زنه بعشرة، فوزنوني بعشرة فوزنتهم، ثم قال: زنه بمئة، فوزنوني بمئة فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف، فوزنوني بألفٍ، فرجحتهم، فجعلوا ينتشرون علي من كفة الميزان، فقال أحدهما للآخر: لو وزنته بأمته لرجحها، ثم قال أحدهما لصاحبه: شق بطنه فشق بطني ثم قال أحدهما لصاحبه: أخرج قلبه، أو قال: شق قلبه، فشق قلبي فأخرج منه مغمز الشيطان وعلق الدم فطرحها، ثم قال أحدهما للآخر: اغسل بطنه غسل الإناء، واغسل قلبه غسل الملاءة، ثم دعا بسكينة كأنها درهرهة بيضاء فأدخلت قلبي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خط بطنه، فخاط بطني فجعلا خاتم النبوة بين كتفي، فما هو إلا أن وليا عني، فكأنما أعاين الأمر معاينة ". عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن إلهي جل وعز اختارني في ثلاثة من أهل بيتي على جميع أمتي، أنا سيد الثلاثة وسيد ولد آدم ولا فخر. اختارني وعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب، كنا رقوداً بالأبطح ليس منا إلا مسجى بثوبه، علي عن يميني، وجعفر عن يساري، وحمزه عند رجلي، فما نبهني من رقدتي غير حفيف أجنحة الملائكة وبرد ذراع علي عليه السلام تحت خدي، فانتبهت من رقدتي، وجبريل في ثلاثة أملاك، فقال له بعض الأملاك الثلاثة: يا جبريل إلى أي هؤلاء الأربعة أرسلت؟ فضربني برجله(2/89)
وقال: إلى هذا، وهو سيد ولد آدم، فقال: من هذا يا جبريل؟ قال: محمد بن عبد الله سيد النبيين، وهذا علي بن أبي طالب، وهذا حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء، وهذا جعفر له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء ".
وعن عائشة رضي الله عنها قال: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أول شأنه يرى في المنام، فكان أول ما رئي جبريل عليه السلام بأجياد، وإنه خرج لبعض حاجته فصرخ به يا محمد يا محمد فنظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، ثم نظر فلم ير شيئاً، فرفع بصره فإذا هو يراه ثانياً، إحدى رجليه على الأخرى على أفق السماء، فقال: يا محمد، جبريل جبريل، فهرب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل في الناس، فنظر فلم ير شيئاً، ثم خرج من الناس ثم نظر فرآه فدخل في الناس فلم ير شيئاً ثم خرج فنظر فرآه فذلك قوله تبارك وتعالى: " والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ". وعن عائشة رضي الله عناه قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغارٍ يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ فقال: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم "، فرجع بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترجف بوادره حتى دخل على خديجة(2/90)
فقال: زملوني. فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال لخديجة: أي خديجة مالي؟ وأخبرها الخبر، فقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت له خديجة: كلا، أبشر والله لا يخزيك الله أبداً، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي: ابن عم، اسمع من ابن أخيك، فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر ما أرى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى. يا ليتني فيها جذع. يا ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مخرجي هم؟ فقال ورقة بن نوفل: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني قومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي. وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيمل بلغنا، فغدا من أهله مراراً لكي يتردى من رؤوس شواهق الحرم، فكلما أوفى ذروة جبل لكي يلقي نفسه تبدى له جبريل فقال: يا محمد إنك رسول الله حقاً فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه ويرجع، فإذا طال عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى على ذروة جبل تبدى له جبريل فقال له: مثل ذلك. قال جابر بن عبد الله قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يحدث عن فترة الوحي قال في حديثه: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالساً على كرسي بين السماء والأرض. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجئت منه فرقاً، فرجعت(2/91)
فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فانزل الله تعالى: " يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر " وهي الأوثان. قال: ثم تتابع الوحي. قال عروة بن الزبير: وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أريت لخديجة بيتاً من قصب لا سخب فيه ولا نصب وهو قصب اللؤلؤ ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما أنا رحمة مهداة ". وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله بعثني رحمة مهداة، بعثت برفع قوم وخفض آخرين ". وعن ابن عباس في قول الله تعالى: " وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين " قال: من آمن بالله ورسوله كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي من تعجيل ما كان يصيب الأمم قبل ذلك من العذاب والفتن والخسف والقذف.(2/92)
ذكر الوقت الذي أوحي فيه إليه ومعرفة أول ما نزل من الوحي
عن ابن جعفر قال: نزل الملك على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحراء يوم الاثنين لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ابن أربعين سنة، وجبريل الذي كان ينزل عليه الوحي. وعن ابن إسحاق أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بعد بنيان الكعبة بخمس سنين ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ ابن أربعين سنة كملاً. وعن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة: أي القرآن نزل أول؟ قال: " يا أيها المدثر " فقلت: " اقرأ باسم ربك "؟ قال سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل أول؟ قال: " يا أيها المدثر " قلت: " اقرأ باسم ربك " قال جابر: لا أحدثكم إلا ما حدثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " جاورت شهراً بحراء فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحداً ثلاث مرات، ثم رفعت بصري إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء، فجئثت فأتيت خديجة فأمرتهم فدثروني فأنزل الله عز وجل " يا أيها المدثر "(2/93)
ذكر ما قاسى رسول الله من التعذيب والتكذيب
عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علي ما بين ثلاثين من يوم وليلة مالي طعام آكله إلا شيء يواريه إبط بلال ". عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: " لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله عز وجل إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، قال: فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قولك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له ".
قال عروة بن الزبير: سألت عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قلت: حدثني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أقبل عليه ابن أبي معيط، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عند الكعبة، فلوى ثوبه في عنقه(2/94)
يخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه فأخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم ". وعن عروة قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ما اكثر ما رأيت قريشاً أصابت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما كانت تظهره من عداوته؟ فقال: لقد رأيتهم وقد اجتمع أشرافهم يوماً في الحجر، فذكروا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا، فصبرنا منه على أمر عظيم، أو كما قالوا، فبينا هم في ذلك طلع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفاً بالبيت فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها، فعرفتها في وجهه، فمضى ثم مر الثالثة، فغمزوه بمثلها فوقف ثم قال: أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم من رجل إلا وكأنما على رأسه طائر واقع، وحتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً، فو الله ما أنت بجهول، فانصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا ناداكم بما تكرهون تركتموه. فبينا هم كذلك إذ طلع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأطاحوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا، لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم أنا الذي أقول ذلك، ولقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجامع ردائه، وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه يبكي دونه ويقول وهو يبكي: ويلكم " أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله ". ثم انصرفوا عنه وإن ذلك أكثر ما رأيت قريشاً بلغت منه قط. وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: أكثر ما نالت قريش من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أني رأيته يوماً، وذرفت عيناه حين ذكر ذلك، قال:(2/95)
كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطوف بالبيت، ويده في يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وفي الحجر ثلاثة نفر جلوس: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، فمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما حاذى بهم أسمعوه بعض ما يكره، فعرف ذلك في وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدنوت منه حتى وسطته، فكان بيني وبين أبي بكر، وأدخل أصابعه في أصابعي حتى طفنا جميعاً، فلما حاذاهم قال أبو جهل: والله لا نصالحك ما بل بحر صوفة وأنت تنهانا أن نعبد ما كان عبد آباؤنا، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا ذلك، ثم مضى عنهم، فصنعوا به في الشوط الثالث مثل ذلك، حتى إذا كان الشوط الرابع ناهضوه ووثب أبو جهل يريد أن يأخذ بمجمع ثوبه، فدفعت في صدره، فوقع على استه ودفع أبو بكر بن أمية بن خلف، ودفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عقبة بن أبي معيط، ثم انفرجوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو واقف، ثم قال لهم: أما والله لا تنتهون حتى يجل الله عقابه عاجلاً. قال عثمان: فوالله ما منهم رجل إلا وقد أخذه أفكل وهو يرتعد، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: بئس القوم أنتم لنبيكم. ثم انصرف إلى بيته، وتبعناه خلفه حتى إذا انتهى إلى باب بيته وقف على السدة ثم أقبل علينا بوجهه، وقال: أبشروا، فإن الله مظهر دينه، ومتم كلمته، وناصر نبيه، إن هؤلاء الذين ترون ممن يذبح الله بأيديكم عاجلاً. ثم انصرفنا إلى بيوتنا، فو الله لقد رأيتهم قد ذبحهم الله بأيدينا. وعن أبي صخرة جامع بن شداد قال: كان فينا رجل يقال له طارق، قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرتين: أول مرة رأيته بسوق ذي المجاز وقد دميت عرقوباه، وهو على دابة يقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ورجل من خلفه يرميه يقول: لا تسمعوا منه، هذا الكذاب.
قال: قلت: من هذا المقدم؟ قالوا: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا المؤخر عمه أبو لهب. ثم قدمنا بعد فنزلنا قرب المدينة، فخرج علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ممن القوم؟ قلنا: من محارب، قال: من أين؟ قلنا: من الزبدة، قال: هل معكم شيء تبيعونه؟ قلنا: نعم، هذا الجمل، قال:(2/96)
بكم؟ قلنا: بكذا وكذا وسقاً من تمر، قال: فأخذ برسنه ثم دخل المدينة، قلنا: أي شيء صنعنا؟ بعنا جملنا ممن لا نعرفه ومعنا ظعينة في جانب الحائط فقالت: لقد رأيت رجلاً كأن وجهه القمر لن يخيس بكم، أنا ضامنة ثمن البعير. فلما كان الغد جاءنا رجل فقال: أنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليكم يأمركم أن تأكلوا من هذا التمر حتى تشبعوا وتكتالوا حتى تستوفوا. قال: ففعلنا ذلك. قال: ثم دخلت المدينة فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً يخطب على المنبر، وهو يقول: يا أيها الناس، اليد العلا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك. فضج ناس من الأنصار حول المنبر فقالوا: يا رسول الله هاهنا ناس من بني ثعلبة بن يربوع أصابوا منا دماً في الجاهلية، فأذن لنا بثأرنا، قال: فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رافعاً بياض إبطيه، وهو يقول: ألا لا تجني أم على ولدها. وعن عبد الله قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في ظل الكعبة فقال أبو جهل وناس من قريش، وقد نحرت جزور في ناحية الكعبة، فبعثوا فجاؤوا من سلاها فطرحوه بين كتفيه، فجاءت فاطمة رضي الله عنها فطرحته عنه. فلما انصرف قال: وكان يستحب أن يدعو ثلاثاً. قال: اللهم عليك بقريش ثلاثاً، بأبي جهل بن هاشم، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وبأمية ابن خلف، وعقبة بن ابي معيط. قال عبد الله: فلقد رأيتهم قتلى في قليب بدر. قال أبو إسحاق أحد رواته: ونسيت السابع. وعن قيس بن أبي حازم أنه سمع خباباً يقول: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يومئذٍ متوسد برداً له في ظل الكعبة، وقد بلغ منه المشركون شدة ومشقة، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو لنا! قال: فجلس مغضباُ محمراً وجهه فقال: لقد من قبلكم، كان يمشط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم(2/97)
أو عصب، فلا يفتنه ذلك عن دينه، وإن من كان قبلكم يوضع عليه المنشار فيشق باثنين فلا يفتنه ذلك عن دينه ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله عز وجل وفي رواية والذئب على غنمه. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: رمي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد فكسرت رباعيته. وأدمي وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم عز وجل فأنزل الله عز وجل: " ليس لك من الأمر شيءٌ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ". وعن أبي حازم: أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أنا والله، إني لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن كان يسكب الماء. ومما روى قال: كانت فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تغسله وعلي كرم الله وجهه يسكب الماء بالمجن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فألصقتها، فاستمسك الدم، وكسرت رباعية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذٍ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين شر جارين؛ عقبة بن أبي معيط وبين أبي لهب، فكان يصبح على بابه الأرجام والفرث، فيدفعها بسية سيفه ويقول: يا معشر قريش، أي مجاورة هذه! وعن فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليها قالت: اجتمع مشركو قريش في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا ضربة، فسمعتهم فاطمة فدخلت على أبيها فقالت: يا أبه، اجتمع مشركو قريش في الحجر فقالوا: إذا مر محمد ضربه كل رجل منا.
فقال: يا بنية اسكتي، ثم خرج عليهم فدخل المسجد(2/98)
فرفعوا رؤوسهم ثم نكسوا فأخذ من تراب فرمى بها وجوههم ثم قال: شاهت الوجوه فما أصاب رجلاً منهم إلا قتل يوم بدر. وعن ابن عباس: في قول الله عز وجل: " إنا كفيناك المستهزئين " قال: المستهزئون: الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن المطلب أبو زمعة من بني أسد بن عبد العزى، والحارث بن عطيل السهمي والعاص بن وائل، فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأراه الوليد أبا عمرو بن المغيرة فأومأ جبريل إلى أبجلة فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته، ثم أراه الأسود بن عبد يغوث الزهري فأومأ إلى رأسه قال: ما صنعت؟ قال: كفيته، ثم أراه الحارث بن عطيل السهمي فأومأ إلى رأسه أو قال: إلى بطنه فقال: ما صنعت؟ قال: كفيته، ومر به العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه، قال: ما صنعت؟ قال: كفيته، فأما الوليد بن المغيرة فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلاً له، فأصاب أبجله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فعمي، ومنهم من يقول: نزل تحت شجرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعوا عني قد قتلت، فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً وجعل يقول: يا بني ألا تمنعون عني قد هلكت ها هوذا، أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون: ما نرى شيئاً فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه. وأما الأسود بن عبد يغوث الزهري فخرج في رأسه قروح فمات منها، وأما الحارث بن عطيل فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج خرؤه من فيه فمات منها. وأما العاص بن وائل فبينا هو كذلك يوماً إذ دخل في رأسه شبرقة حتى امتلأت فمات منها. وقيل: فركب إلى الطائف على حمار فربض به على شبرقة يعني شوكة فدخلت في أخمص قدمه شوكة فقتلته.(2/99)
ذكر بعض ما ورد في فضله من القرآن
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنا إذ أغفى إغفاءة أو غمي عليه فرفع رأسه متبسماً قال: إما قالوا له، وإما قال لهم: هل تدرون مم ضحكت؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم: إنا أعطيناك الكوثر " حتى ختم السورة فلما قرأها قال: " أتدرون ما الكوثر؟ قال: فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي، فيه خير كثير، لذلك النهر حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب فيختلج منهم العدد فأقول: رب إنه من أمتي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ". وعن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " قدر حوضي ما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق بعدد نجوم السماء ". وعن مجاهد قال: الكوثر خير الدنيا والآخرة. وعن عكرمة قال: الكوثر الخير الكثير: النبوة والكتاب. وعن ابن عباس قال: ما خلق الله عز وجل ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما سمعت الله عز وجل(2/100)
حلف بحياة أحد غيره. قال: " لعمرك، إنهم في سكرتهم يعمهون " وقال في حديث آخر: إنه وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا إنهم لفي سكرتهم يعمهون. وعن أبي سعيد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أتاني جبريل فقال: إن ربي وربك يقول كيف رفع ذكرك؟ قال: الله أعلم، قال: إذا ذكرت ذكرت معي " وعن أبي هريرة وأنس رضي اله عنهما عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن حديث ليلة أسري به قال: " لما انتهيت إلى سدرة المنتهى خررت ساجداً فرفعت رأسي فقلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً، وكلمت عيسى تكليماً، وآتيت داود زبوراً، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً، فقال: فإني قد رفعت لك ذكرك، فذكرك معي إذا ذكرت. ولا تجوز لأمتك خطبة حتى يشهدوا أنك وجعلت قلوب أمتك أناجيل، وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من تحت عرشي ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سألت ربي عز وجل مسألة وددت أني لم أكن سألتها من قبل قلت: يا رب، إنه كان قبلي منهم من كان يحيي الموتى، ومنهم من سخرت له الريح، قال: ألم أجدك ضالاً فهديتك؟ قلت: بلى يا رب، قال: ألم أجدك يتيماً فآويتك؟ قلت: بلى. قال: ألم نشرح صدرك؟ ألم أضع عنك وزرك الذي أنقض ظهرك؟ ألم أرفع لك ذكرك؟ قلت: بلى يا ربي ". وفي بعض الروايات زيادة: قال: فوددت أني لم أكثر مساءلته. وعن ابن عباس: في قول الله عز وجل: " ورفعنا لك ذكرك " قال: لا يذكرون الله عز وجل إلا ذكرت معه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/101)
وعن قتادة قال: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا متشهد إلا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وفي حديث آخر: ولا صاحب صلاة إلا ينادي فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. قال علي بن رباح: كنت عند مسلمة بن مخلد الأنصاري وهو يومئذٍ على مصر، وعبد الله بن عمرو بن العاص جالس معه، فتمثل مسلمة ببيتٍ من شعر أبي طالب فقال: لو أن أبا طالب رأى ما نحن فيه اليوم من نعمة الله وكرامته لعلم أن ابن أخيه سيد، قد جاء بخير كثير، فقال عبد الله بن عمرو: ويومئذٍ كان سيداً كريماً قد جاء بخير كثير. فقال مسلمة: ألم يقل الله تعالى: " ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى " فقال عبد الله بن عمرو: أما اليتيم فقد كان يتيماً من أبويه، وأما العيلة فكل مل كان بأيدي العرب إلى القلة. قال أبو سعيد: يقول: أن العرب أسلموا ودخلوا في دين الله أفواجاً، ثم توفاه الله قبل أن يتلبس منها بشيء ومضى وتركها ومن فتنتها. قالوا: فذلك معنى قوله " عائلاً فأغنى ". وكان الربيع بن خيثم يقول: نعم المرء محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان ضالاً فهداه الله، وعائلاً فأغناه الله، وشرح له صدره، ويسر له أمره، ثم يقول عرف وما عرف " من يطع الرسول فقد أطاع الله " فوض إليه فلا يأمر إلا بخير.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن(2/102)
نوح " قال: كنت أولهم في الخلق وآخرهم في البعث. وعن ابن عباس قال: إن الله عز وجل فضل محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أهل السماء وعلى الأنبياء قالوا: يا بن عباس، ما فضله على أهل السماء؟ قال: إن الله تعالى قال لأهل السماء: " ومن يقل منهم إني إلهٌ من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " وقال الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قالوا: يا بن عباس، فما فضله على الأنبياء؟ قال: إن الله سبحانه وتعالى يقول: " وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه " وقال الله تعالى لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً " فأرسله الله تعالى إلى الإنس والجن. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنزلت علي آية: " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً " قال: شاهد على أمتك ومبشراً بالجنة ونذيراً من النار وداعياً إلى شهادة أن لا إله إلا الله ". بإذنه: بأمره، وسراجاً منيراً: بالقرآن. وعن ابن عباس: " وشاهدٍ ومشهودٍ " قال: الشاهد محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمشهود يوم القيامة فذلك قوله: " فكيف إذا جئنا من كل أمةٍ بشهيدٍ "(2/103)
وعن حسين بن علي: في قوله تعالى: " ويتلوه شاهدٌ منه " قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو شاهد من الله عز وجل. وعن ابن عمر: في قول الله تبارك وتعالى: " كمشكاة " قال: المشكاة: جوف النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمصباح: النور الذي في قلبه، والزجاجة: قلبه " توقد من شجرة مباركةٍ " الشجرة: إبراهيم عليه السلام " زينونة لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ " قال: لا يهودي ولا نصراني. ثم قرأ: " ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ". وقيل في قوله عز وجل: " قد جاءكم برهان من ربكم " قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. " وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً " قال: الكتاب. قال عبد الله بن يزيد المقرئ: لم يقل هذا لنبي قبله ولا بعده. يعني قوله عز وجل: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " فبدأ بالعفو قبل العتاب.(2/104)
ما ورد في اصطفائه على العالمين وانتخابه من المرسلين
عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله تبارك وتعالى اختار العرب واختار منهم كنانة، أبو النضر بن كنانة ثم اختار منهم قريشاً، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم " صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة ولا فخر. " وفي حديث آخر: " وأنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر ". وفي حديث آخر عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيٍ يومئذٍ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر. إلا وأن الدنيا خضرة حلوة، وأن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، ألا وأن لكل غادر لواءٍ يوم القيامة، ألا وأن لواءه عند استه، ألا وأن أعظم الغدر إمام عامةٍ ".(2/105)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفع ولا فخر ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلحم، فدفع إليه الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة ثم قال: " أنا سيد الناس يوم القيامة فهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. قال: فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن(2/106)
ربي قد غضب مني اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، إنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه!؟ ألا ترى ما بلغنا!؟ فيقول لهم نوح: إن ربي قد غضب مني اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة على قومي، نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه!؟ ألا ترى ما بلغنا!؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله فضلك الله برسالاته وكلماته على الناس فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمة منه ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا قال: يقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فآتي تحت العرش فأقع ساجداً لربي، فيفتح الله لي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه بشيء لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: ربي أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب. فيقول أو يقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى. " وعن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام قال: كنا جلوساً عنده في المسجد يوم الجمعة فقال: إن أعظم أيام الدنيا عند الله عز وجل يوم الجمعة، فيه خلق الله آدم، وفيه تقوم الساعة، وإن أكرم خليقة الله أبو القاسم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه ".(2/107)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النبيين ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر "، وفي رواية أخرى: أنا قائد المسلمين. وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله عز وجل أعطى موسى عليه السلام الكلام، وأعطاني الرؤية، وفضلني بالمقام المحمود والحوض المورود ". وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين، واختار لي من أصحابي أربعة فجعلهم خير أصحابي، وفي كل خيرٌ: أبو بكر وعمر وعثمان وعي، واختار أمتي على سائر الأمم، فبعثني في خير قرن ثم الثاني ثم الثالث تترى ثم الرابع فرادى ". وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لسيد الناس يوم القيامة غير فخر ولا رياء، وما من الناس من أحد إلا وهو تحت لوائي يوم القيامة ينتظر الفرج، وإن بيدي للواء الحمد، فأمشي ويمشي الناس معه، حتى آتي باب الجنة فأستفتحه، فيقال: من هذا؟ فأقول: محمد. فإذا رأيت ربي عز وجل خررت له ساجداً شكراً له، فيقال: ارفع رأسك وقل تطع. واشفع تشفع. قال: فيخرج من النار من قد احترق، برحمة الله وبشفاعتي ". وعن حذيفة قال: قال أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إبراهيم خليل الله، وعيسى كلمة الله وروحه، وموسى كلمه الله تكليماً، فماذا أعطيت يا رسول الله؟ قال: " ولد آدم كلهم تحت رايتي يوم القيامة، وأنا أول من تفتح له أبواب الجنة ". وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إني لسيد الناس يوم القيامة ". وقال: " إن قذف المحصنة ليهدم عمل مئة سنة ". وعن عبيد الله قال: إن الله عز وجل اتخذ إبراهيم خليلاً، وإن صاحبكم خليل الله، وإن محمداً لسيد بني آدم يوم القيامة، ثم قرأ " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ".(2/108)
وعن عبد الله بن شقيق عن ابن أبي الجدعاء قال: قلت: يا رسول الله، متى جعلت نبياً؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى وجبت لك النبوة؟ قال: " بين خلق آدم ونفخ الروح فيه ". وعن ابن عباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله يوم خلق الخلق جعلني في خير خلقه، ثم حين فرقهم جعلني في خير
الفرقتين أو قال: الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسماً وذلك قوله: " وأصحاب اليمين وما أصحاب اليمين " " وأصحاب الشمال " وأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين. أو قال: الفريقين، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن الله قسم الخلق قسمين فجعلني في خيرهم قسماً وذلك قوله: " وأصحاب اليمين وما أصحاب اليمين " " وأصحاب الشمال " وأنا من أصحاب اليمين وأنا خير أصحاب اليمين.
ثم جعل القسمين أثلاثاً، فجعلني في خيرهم ثلثاً، فذلك قوله: " وأصحاب الميمنة " " والسابقون السابقون " فأنا من السابقين، وأنا خير السابقين. ثم جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرهم قبيلة؛ وذلك قوله تعالى " وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله أتقاكم " وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله عز وجل ولا فخر. ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فذلك قوله تعالى: " يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا ". زاد البيهقي وغيره: " فأنا وأهل بيتي مهطرون من الذنوب ".(2/109)
وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينتطرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فإذا بعضهم يقول: عجباً إن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله.
وقال آخر: ماذا بأعجب من أنه كلم موسى تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلم وقال: " قد سمعت كلامكم وعجبكم، إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيه وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة تحته آدم ومن دونه ولا فخر، وأنا أول شافع وأول مشفع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول من يحرك غلق الجنة ولا فخر، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: يا محمد، إن الله عز وجل أمرني أن آتي مشارق الأرض ومغاربها وبرها وبحرها وسهلها وجبلها فآتيه بخير أهل الدنيا، فأتيتها فوجدت خير أهل الدنيا العرب، ثم أمرني أن آتيه بخير العرب فوجدت خير العرب مضر، يعني، ثم أمرني أن آتيه بخير مضر فوجدت خير مضر قريش، ثم أمرني أن آتيه بخير قريش، فوجدت خير قريش بني هاشم، ثم أمرني أن آتيه بخير بني هاشم فوجدت خير بني هاشم بني عبد المطلب، ثم أمرني أن آتيه بخير بني عبد المطلب، يعني فوجدتك خير بني عبد المطلب، وما كنت في صنف من الناس إلا كانوا خيار أهل الدنيا ". عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال جبريل عليه السلام: " قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أر رجلاً أفضل من محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أبٍ أفضل من بني هاشم ". وعن عبد الله بن عمر قال: كنا جلوساً ذات يوم بفناء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمرت امرأة من بنات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعض القوم: هذه بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال أبو سفيان: إنما مثل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بني هاشم كمثل الريحانة في وسط التين، فسمعت تلك المرأة فأبلغته رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج أحسبه مغضباً(2/110)
فقعد على منبره فقال: " ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله خلق سماوات سبعاً فاختار العليا فسكنها، وأسكن سماواته من شاء من خلقه، وخلق أرضين سبعاً فاختار العليا فأسكنها خلقه، ثم اختار خلقه فاختار بني آدم، ثم اختار بني آدم فاختار العرب، ثم اختار العرب فاختار مضر، ثم اختار مضر فاختار قريشاً، ثم اختار قريشاً فاختار بني هاشم، ثم اختار بني هاشم فاختارني، فلم أزل خياراً من خيار كذا. فمن أحب العرب فبحبي أحبهم، ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم ". عن ابن عباس قال: لم يزل الله تعالى يتقدم في النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى آدم فمن بعده، ولم تزل الأمم تتباشر به وتستفتح به حتى أخرجه الله خير في خير أمة وفي خير قرن وفي خير أصحاب وخير بلد، فأقام به ما شاء الله وهو حرم إبراهيم ثم أخرجه إلى طيبة وهي حرم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان مبعثه من حرم إبراهيم ومهاجره إلى حرم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتي بالبراق ليلة أسرى به مسرجاً ملجماً.
فلما أراد أن يركب استصعب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا، فو الله ما ركبك أحد أكرم على الله منه، فارفض البراق عرقاً وفي رواية: وأقر. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لما خلق الله آدم خبره ببنيه، فجعل يرى فضائل بعضهم على بعض فرأى نوراً ساطعاً في أسفلهم، فقال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك أحمد، وهو أول وهو آخر، وهو أول مشفع وفي رواية: وهو أول شافع. وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذلك المقام المحمود ". وعن أبي كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر ".(2/111)
وعن انس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا نصتوا، وأنا شافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا أبلسوا. لواء الكرم بيدي ومفاتيح الجنة بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربه ولا فخر، يطوف علي ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اتخذ الله إبراهيم خليلاً وموسى نجياً، واتخذني حبيباً. ثم قال: وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي ". وعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " إني عبد الله في أم الكتاب وخاتم النبيين وإن آدم منجدل في طينته، وسوف أنبئكم بذلك، دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى عليه السلام، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات الأنبياء يرين ". وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سجد رسول الله يوماً فلم يرفع حتى ظننا أن نفسه قبضت فيها، فلما رفع قال: " إن ربي استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت: ما شئت يا رب، هم خلقك وعبادك، فاستشارني الثانية فقلت له كذلك، فاستشارني الثالثة فقلت لم كذلك، فقال تعالى: إني لن أخزيك في أمتك يا أحمد، فبشرني أن أول من يدخل الجنة معي من أمتي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب، ثم أرسل إلي: ادع تجب، وسل تعط، فقلت لرسوله: أو معطي ربي تعالى سؤالي؟ قال: ما أرسل إليك إلا ليعطيك. وقال: أعطاني من غير فخر، غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وأنا أمسي حياً صحيحاً، وأنه أعطاني ألا يخزي أمتي ولا تغلب، وأنه أعطاني الكوثر نهراً في الجنة يسيل في حوض، وأنه أعطاني القوة والنصر والرعب يسعى بين يدي شهراً، وأنه أعطاني أني أول الأنبياء دخولاً الجنة، وطيب لأمتي الغنيمة، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، ولم أجد لي شكراً غير هذه السجدة ". وعن عمرو بن قيس رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله أدرك بي الأجل المرجو واختارني اختياراً، فنحن الآخرون ونحن السابقون(2/112)
يوم القيامة. وإني قائل قولاً غير فخر: إبراهيم خليل الله، وموسى صفي الله، وأنا حبيب الله ومعي لواء الحمد يوم القيامة، وإن الله وعدني في أمتي، وأجارهم من ثلاث: لا يغمهم بسنة، ولا يستأصلهم عدو، ولا يجمعهم على ضلالة ". عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " خيار ولد آدم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخيرهم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".(2/113)
ذكر عروجه إلى السماء واجتماعه بالأنبياء
حدث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة وكان من قومه عن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: أتيت وأنا عند البيت بين النائم واليقظان فسمعت يقال: أحد الثلاثة بين الرجلين، فانطلق بي فشرح ما بين صدري إلى كذا وكذا. قال قتادة الراوي: فقلت للذي معي: ما يعني؟ قال يقول: إلى أسفل بطنه، أشار أنس بيده إلى أسفل بطنه، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب فيها من ماء زمزم فغسل ثم أعيد مكانه وحشي أو كنز إيماناً وحكمة، ثم أتيت بدابة أبيض فوق الحمار ودون البغل يقال له البراق، يقع خطوه عند أقصى طرفه، فحملت عليه، ثم انطلقت ومعي جبريل عليه السلام حتى انتهينا إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال:(2/114)
جبريل.
قيل ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتح لنا، وقالوا: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، قال: فأتيت على آدم عليه السلام، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم، فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثانية، فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل من هذا؟ قال: جبريل، قال: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتحوا لنا، وقالوا: مرحباً ولنعم المجيء جاء. قال: فأتيت على عيسى ويحيى ابني الخالة عليهما السلام فقلت يا جبريل، من هذان؟ قال: هذان عيسى ويحيى، فسلمت عليهما فقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قال: ثم انطلقنا حتى أتيا السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتحوا لنا، وقالوا: مرحباً ولنعم المجيء جاء. قال: فأتيت على يوسف عليه السلام. فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف أو هذا يوسف، قال: فسلمت عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قال: ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الرابعة فاستفتح جبريل علي السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتحوا لنا وقالوا: مرحباً به ولنعم المجيء جاء. قال: فأتيت على إدريس عليه السلام فقلت يا جبريل، من هذا؟ قال: هذا إدريس فسلمت عليه، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قال: ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم ففتح لنا، وقالوا مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على هارون عليه السلام، فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا هارون، فسلمت عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قال: ثم انطلقنا حتى أتينا السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال جبريل، قيل ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، ففتح لنا وقالوا: مرحباً به، ولنعم المجيء جاء، فأتيت على موسى عليه السلام، فقلت يا جبريل من هذا؟ قال: هذا موسى، أو أخوك موسى، فسلمت عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. قال: فلما جاوز به بكى، قال فنودي: ما يبكيك؟ فقال: ربي هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي.
ثم انطلقنا حتى أتينا السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: ففتح لنا، وقالوا: مرحباً به ولنعم المجيء جاء. قال: فأتيت على إبراهيم عليه السلام فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا إبراهيم أو قال: أبوك إبراهيم. فسلمت عليه فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. قال: ثم رفعت لنا سدرة المنتهى فحدث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نبقها مثل قلال هجر، وإن ورقها مثل آذان الفيل. وحدث نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو قال:(2/115)
رأيت أربعة أنهار يخرجن من أصلها. قلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات قال: وأوتيت بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن فعرضا علي، فاخترت اللبن فقيل لي: أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة، وأمرت بخمسين صلاة كل يوم أو فرضت علي خمسون صلاة كل يوم، فأقبلت حتى أتيت موسى عليه السلام فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة، قال: فقال: إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأل التخفيف لأمتك. قال: فرجعت إلى ربي عز وجل فحط عني خمساً فأقبلت حتى أتيت على موسى عليه السلام فقال: بما أمرت؟ قلت: بخمس وأربعين صلاة كل يوم، قال: فقال: إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فما زلت بين ربي عز وجل وبين موسى عليه السلام يحط عني خمساً خمساًحتى رجعت بخمس صلوات كل يوم فأتيت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم فقال: إني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة وإن أمتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال: فقلت: لقد رجعت إلى ربي عز وجل حتى لقد استحييت منه، ولكن أرضى وأسلم. قال: فنوديت أني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، وجعلت كل حسنة عشرة أمثالها. وفي حديث آخر: فلما علونا السماء الدنيا إذا رجل عن يمينه أسودة، وعن يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه تبسم، وإذا نظر قبل يساره بكى. قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح قال: قلت لجبريل عليه السلام: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه فأهل اليمين هم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى. وفي آخر الحديث: ثم انطلق بي حتى أتى بي سدرة المنتهى قال: فغشيها ألوان ما أدري ما هي. قال: ثم(2/116)
أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك. وفي رواية أخرى قال: فركبته يعني البراق فسار بي حتى أتيت على بيت المقدس فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فأتاني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فأخذت اللبن فقال: اخترت الفطرة، قال: ثم عرج بنا إلى السماء الدنيا. وذكر باقي الحديث. وفي آخره: ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن عملها كتبت عشراً، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب شيء وإن عملها كتبت سيئة واحدة. وفي حديث آخر عند قوله في مراجعة الصلاة: قد استحييت من ربي مما أختلف إليه.
قال: فاهبط باسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام. وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: لما جاء جبريل عليه السلام بالبراق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فكأنها صرت أذنيها فقال لها جبريل عليه السلام مه يا براق، فو الله إن ركبك مثله، فسار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا هو بعجوز تانٍ وقيل: تانىء على جانب الطريق، فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سر يا محمد، قال: فسار ما شاء الله أن يسير فإذا ثم شيء يدعوه فتنحى عن الطريق، هلم يا محمد فقال له جبريل: سر يا محمد، فسار ما شاء الله أن يسير قال: ثم لقي خلقاً من الخلق فقال: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، والسلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد السلام يا محمد، قال: فرد السلام، ثم لقيه الثاني فقال له مثل مقالة الأول، ثم لقيه الثالث قال له مقالة الأولين، حتى انتهى إلى بيت المقدس فعرض عليه الماء والخمر(2/117)
واللبن فتناول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللبن، فقال له جبريل عليه السلام: أصبت الفطرة ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت وغوت أمتك. ثم بعث له آدم عليه السلام ومن دونه من الأنبياء فأتاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الليلة.
ثم قال له جبريل: أما العجوز التي تانٍ أو تانىء على جانب الطريق، فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذلك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلموا عليك فذلك إبراهيم وموسى وعيسى صلى الله عليهم وسلم. وفي حديث عند انتهائه إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: فأوحي إلي اختر إن شئت نبياً عبداً، قال: نبياً عبداً. حدث أبو عبيدة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتاني جبريل بدابة فوق الحمار ودون البغل فحملني عليه ثم انطلق يهوي بنا. كلما صعد عقبه استوت رجلاه كذلك مع يديه وإذا هبط استوت يداه مع رجليه حتى إذا مررنا برجل طوال سبط آدم كأنه من رجال أزد شنوءة وهو يقول ويرفع صوته ويقول: أكرمته وفضله، فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام فقال: من هذا معك يا جبريل؟ قال: هذا أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال: مرحباً بالنبي الأمي العربي الذي بلغ رسالة ربه ونصح لأمته. قال: ثم اندفعنا فقلت: من هذا يا جبريل؟ فقال: هذا موسى بن عمران قال: إن الله قد عرف له حدته. قال: يعاتب ربه فيك قال: قلت: ويرفع صوته على ربه!!؟ قال: إن الله قد عرف له حدته.
قال: ثم اندفعنا حتى مررنا بشجرة كأن ثمرها السرح تحتها شيخ وعياله. قال: فقال لي جبريل: اغد إلى أبيك إبراهيم عليه السلام. قال: فدفعنا إليه فسلمنا عليه فرد السلام وقال إبراهيم عليه السلام: يا جبريل من هذا معك؟ قال: هذا ابنك أحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فقال: مرحباً بالنبي الأمي الذي بغل رسالة ربه ونصح أمته، يا بني إنك لاقٍ ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفهم، فإن استطعت أن تكون حاجتك أوجلها في أمتك فافعل. قال: ثم اندفعنا حتى انتهينا إلى المسجد الأقصى فنزلت وربطت الدابة بالحلقة التي في باب المسجد التي كانت الأنبياء تربط بها ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع(2/118)
وساجد، قال: ثم أتيت بكأسين من عسل ولبن، فأخذت اللبن فشربته فضرب جبريل عليه السلام منكبي وقال: أصبت الفطرة ورب محمد. قال: ثم أقيمت الصلاة فأممتهم ثم انصرفنا فأقبلنا. وعن عبد الله قال: لما أسرى برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انتهى إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة أو السادسة، إليها ينتهي ما يخرج من تحتها فيقبض منها، وإليها ما هبط من فوقها فيقبض منها " إذ يغشى السدرة ما يغشى " قال: فراش من ذهب، فأعطى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً: أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات. وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه قال له أصحابه: يا رسول الله، أخبرنا عن ليلة أسري بك فيها قال: قال الله عز وجل: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله " الآية. قال: فأخبرهم قال: بينما أنا نائم عشاء في المسجد الحرام إذ أتاني آتٍ فأيقظني فاستيقظت فلم أر شيئاً ثم عدت في النوم، ثم أيقظني فاستيقظت، فلم أر شيئاً، ثم عدت في النوم، ثم أيقظني فاستيقظت فلم أر شيئاً، فإذا أنا بكهيئة خيال فاتبعته ببصرى حتى خرجت من المسجد فإذا أنا بدابة أدنى شبهة بدوابكم هذه، بغالكم هذه مضطرب الأذنين، يقال له البراق، وكانت الأنبياء صلوات الله عليهم تركبه قبلي يقع حافره مد بصره فركبته،(2/119)
فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داعٍ عن يميني: يا محمد انظرني أسألك، يا محمد انظرني أسألك، فلم أجبه ولم أقم عليه. فبينما أنا أسير عليه إذ دعاني داع عن يساري: يا محمد انظرني أسألك، يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه ولم أقم عليه. فبينما أنا أسير عليه إذا أنا بامرأة حاسر عن ذراعيها وعليها من كل زينة خلقها الله، فقالت: يا محمد انظرني أسألك، فلم ألتفت إليها، ولم أقم عليها.
حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء توثقها به، فأتاني جبريل عليه السلام بإناءين أحدهما خمر والآخر لبن، فشربت اللبن وتركت الخمر فقال جبريل أصبت الفطرة، فقلت الله أكبر الله أكبر، فقال جبريل: ما رأيت في وجهك هذا؟ قال: فقلت: بينما أنا أسير إذ دعاني داع عن يميني، يا محمد انظرني أسألك فلم أجبه، ولم أقم عليه فقال: ذلك داعي اليهود أما إنك لو أجبته أو وقفت عليه لتهودت أمتك. قال: وبينما أنا أسير إذ دعاني داعٍ عن يساري فقال: يا محمد انظرني أسألك، فلم ألتفت إليه، ولم أقم عليه، قال: ذاك داعي النصارى، أما لو أنك أجبته لتنصرت أمتك. قال: فبينما أنا أسير إذا أنا بامرأة حاسرة عن ذراعيها عليها من كل زينة خلقها الله تقول: يا محمد انظرني أسألك، فلم أجبها، ولم أقم عليها قال: تلك الدنيا، أما إنك لو أجبتها أو أقمت عليها لاخترت أمتك الدنيا على الآخرة. قال: ثم دخلت أنا وجبريل عليه السلام بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، ثم أتيت بالمعراج الذي تعرج عليه أرواح بني آدم فلم ير الخلائق أحسن من المعراج، ما رأيتم الميت حين يشق بصره طامحاً إلى السماء، فإنما يشق بصره طامحاً إلى السماء عجبه بالمعراج. قال: فصعدت أنا وجبريل فإذا أنا بملك يقال له إسماعيل وهو صاحب سماء الدنيا وبين يديه سبعون ألف ملك، مع كل ملك جنده مئة ألف ملك، قال: وقال الله عز وجل: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " فاستفتح جبريل باب السماء قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل: أو قد بعث إليه؟ قال: نعم. فإذا(2/120)
أنا بآدم كهيئته يوم خلقه الله على صورته تعرض عليه أرواح ذرينه المؤمنين فيقول: روح طيبة ونفس طيبة اجعلوها في عليين، ثم عرض عليه أرواح ذريته الفجار فيقول: روح خبيثة ونفس خبيثة اجعلوها في سجين. ثم مضت هنية فإذا أنا بأخونه يعني بالخوان المائدة التي يؤكل عليها عليها لحم مشرح ليس يقربها أحد وإذا أنا بأخونة أخرى عليها لحم قد أروح ونتن، عندها أناس يأكلون منها قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء من أمتك يتركون الحلال ويأتون الحرام. قال: ثم مضت هنية فإذا بأقوام بطونهم أمثال البيوت. كلما نهض أحدهم خر يقول: اللهم لا تقم الساعة، قال: وهم على سابلة آل فرعون، قال: فتجيء السابلة فتطأهم. قال: فسمعتهم يضجون إلى الله عز وجل، وقلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء من أمتك الذين يأكلون الربا " لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ". قال: ثم مضت هنية فإذا أنا بأقوام مشافرهم كمشافر الإبل قال: ينفخ على أفواههم ويلقمون ذلك الحجر ثم يخرج من أسافلهم، فسمعتهم يضجون إلى الله فقال: قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء أمتك " الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً ". قال: ثم مضيت هنية فإذا أنا بنساء يعلقن بثديهن، فسمعتهن يضجون إلى الله عز وجل قلت: يا جبريل من هؤلاء النساء؟ قال: هؤلاء الزناة من أمتك. قال: ثم مضيت هنية فإذا أنا بأقوام يقطع من جنوبهم اللحم فيلقون فيقال له: كل ما كنت تأكل من لحم أخيك. قلت: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الهمازون من أمتك اللمازون. ثم صعدنا إلى السماء الثانية فإذا أنا برجل أحسن ما خلق الله قد فضل على الناس(2/121)
بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك يوسف عليه السلام ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي. ثم صعدت إلى السماء الثالثة فإذا أنا بيحيى وعيسى عليهما السلام ومعهما نفر من قومهما فسلمت عليهما وسلما علي.
ثم صعدت إلى السماء الرابعة فإذا أنا بإدريس عليه السلام قد رفعه الله مكاناً علياً فسلمت عليه وسلم علي. قال: ثم صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون عليه السلام ونصف لحيته بيضاء ونصفها أسود تكاد لحيته تضرب سوءته من طولها. قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا المحبب في قومه هذا هارون بن عمران، ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي. ثم صعد بي إلى السماء السادسة فإذا أنا بموسى بن عمران رجل آدم كثير الشعر لو كان عليه قمصان لنفذ شعره دون القميص، فإذا هو يقول: يزعم الناس أني أكرم على الله من هذا. بل هو أكرم على الله مني قال: قلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أخوك موسى بن عمران قال: ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي. ثم صعدت السماء السابعة فإذا أنا بأبينا إبراهيم خليل الرحمن سانده ظهره إلى بيت المعمور كأحسن الرجال فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك إبراهيم خليل الرحمن ومعه نفر من قومه فسلمت عليه وسلم علي. وإذا أنا بأمتي شطرين، شطر عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس، وشطر عليهم ثياب رمد، قال: فدخلت البيت المعمور ودخل معي الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم ثياب رمد، وهم على خير. فصليت أنا ومن معي في البيت المعمور ثم خرجت أنا ومعي. قال: والبيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة.
ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا كل ورقة فيها تكاد أن تغطي هذه الأمة، وإذا فيها عين تجري يقال لها سلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة،(2/122)
فاغتسلت فيه فغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر. ثم إني رفعت إلى الجنة فاستقبلتني جارية، فقلت: لمن أنت؟ قالت: لزيد بن حارثة، وإذا أنا بأنهار " من ماءٍ غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى " وإذا رمانها كأنه الدلاء عظماً، وإذا أنا بطيرها كأنها بختكم هذه.
فقال: عندها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الأنبياء: إن الله عز وجل قد أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر. قال: عرضت علي النار فإذا فيها غضب الله وزجره ونقمته لو طرح فيها الحجارة والحديد لأكلتها ثم أغلقت دوني. ثم إني إلى سدرة المنتهى فتغشى لي، وكان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى قال: ونزل على كل ورقة ملك من الملائكة. قال: وقال: فرضت علي خمسون وقال: لك بكل حسنة عشرة، وإذا هممت بالحسنة فلم تعملها كتبت لك حسنة وإذا عملتها كتبت لك عشراً، وإذا هممت بالسيئة فلم تعملها لم يكتب عليك شيء فإن عملتها كتبت عليك سيئة واحدة. ثم رفعت إلى موسى عليه السلام فقال: ما أمرك ربك؟ قلت بخمسين صلاة، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا يطيقون ذلك ومتى لا تطقه تكفر، فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم، فوضع عني عشراً وجعلها أربعين، فما زلت بين موسى وربي كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته حتى رجعت إليه فقال لي بم أمرت؟ فقلت: أمرت بعشر(2/123)
صلوات قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت إلى ربي فقلت: أي رب، خفف عن أمتي فإنها أضعف الأمم فوضع خمساً وجعلها خمساً.
فنادى ملك عندها: تمت فريضتي وخففت على عبادي فأعطيتهم بكل حسنة عشرة أمثالها ثم رجعت إلى موسى فقال: بم أمرت قلت: بخمس صلوات، قال: ارجع إلى ربك فسله التخفيف فإنه لا يؤوده شيء فسله التخفيف لأمتك فقلت: رجعت إلى ربي حتى استحييت. ثم أصبح بمكة يخبرهم بالعجائب ويقول إني رأيت البارحة بيت المقدس وعرج بي إلى السماء ورأيت كذا ورأيت كذا فقال أبو جهل بن هشام: ألا تعجبون مما يقول محمد، يزعم أنه أتى البارحة بيت المقدس ثم أصبح فينا، وأحدنا يضرب مطيته مصعدة شهراً ومنقلبة شهراً فهذا مسيرة شهرين في ليلة واحدة قال: فأخبرهم بعير لقريش: لما كنت في مصعدي رأيتها في مكان كذا وكذا، وإنها نفرت. فلما رجعت رأيتها عند العقبة، فأخبرهم بكل رجل وبعيره كذا وكذا ومتاعه كذا وكذا، فقال أبو جهل: يخبرنا بأشياء، فقال رجل من المشركين: أنا أعلم الناس ببيت المقدس وكيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل، فإن يكن محمد صادقاً فسأخبركم وإن يك كاذباً فسأخبركم، فجاءه ذلك المشرك فقال: يا محمد أنا أعلم الناس ببيت المقدس من فأخبرني كيف بناؤه وكيف هيئته وكيف قربه من الجبل؟ قال: فرفع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت المقدس من مقعده فنظر إليه كنظر أحدنا إلى بيته وجعل يقول: بناؤه كذا وكذا وهيئته كذا وكذا وقربه من الجبل كذا وكذا فقال الآخر: صدقت فرجع إلى أصحابه فقال: صدق محمد فيما قال أو نحواً من هذا الكلام. وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: في هذه الآية: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " قال: أتي بفرس فحمل عليه، قال: كان خطوه منتهى أقصى بصره فسار وسار معه جبريل عليه السلام فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله، يضاعف الله لهم الحسنة بسبع مئة ضعف وما انفصم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين. ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر، كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء فقال: يا جبريل، من هؤلاء؟ قال: قال: هؤلاء الذين تتثاقل(2/124)
رؤوسهم عن الصلاة. قال: ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع، وعلى أدبارهم رقاع. يسرحون كما تسرح الأنعام، عن الضريع والزقوم. ووصف جهنم وحجارتها قال: ما هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين لا يؤدون الصدقات عن أموالهم وما ظلمهم الله وما الله بظلام للعبد. ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون من الخبيث ويدعون النضيج الطيب فقال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هو الرجل يقوم وعنده امرأة حلال فتأتي امرأة خبيثة فتبيت معه حتى يصبح. ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها شيء إلا قصعته يقول الله تعالى " ولا تقعدوا بكل صراطٍ توعدون ". ثم مر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها قال: يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا رجل من أمتك عليه أمانة لا يستطيع أداءها وهو يزيد عليها. ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقارض من حديد. كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء قال: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء الفتنة.
ثم أتى على حجر صغير يخرج منه نور عظيم، فجعل النور يريد أن يدخل من حيث خرج ولا يستطيع. قال: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا الرجل يتكلم بالكلمة فيندم عليها فيريد أن يردها ولا يستطيع. ثم أتى على واد فوجد ريحاً باردة طيبة ريح المسك وسمع صوتاً فقال: يا جبريل ما هذه الريح الطيبة؟ وريح المسك؟ وما هو الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ائتني بأهلي وبما وعدتني فقد كثر غرفي وحريري وسندسي واستبرقي وعبقريي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأباريقي، وقواريري، وعسلي وخمري(2/125)
ولبني، فائتني بما وعدتني فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة ومن آمن بي ورسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً ولم يتخذ من دوني أنداداً، ومن خشي أمنته، ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته، ومن توكل علي كفيته، أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد " قد أفلح المؤمنون " إلى قوله " تبارك الله أحسن الخالقين: قالت: قد رضيت. ثم أتى على واد سمع صوتاً منكراً فقال: يا جبريل ما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: ائتني بأهلي وما وعدتني فقد كثر سلاسلي وأغلالي وسعيري وزقومي وحميمي وحجارتي وغساقي وغسليني، وقد بعد قعري واشتد حري، فائتني بما وعدتني فقال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة، وكل خبيث وخبيثة، وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب. قالت: قد رضيت. قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى صخرة ثم دخل فصلى مع الملائكة فلما قضيت قالوا: يا جبريل من هذا معك؟ قال: محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخاتم النبيين قالوا: وقد أرسل؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ وخليفة، فنعم الأخ والخليفة، ونعم المجيء جاء. قال: ثم أتى أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم. قال: فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذ إبراهيم خليلاً، وأعطاني ملكاً عظيماً، وجعلني أمة قانتاً يؤم بي، وأنقذني من النار وجعلها علي برداً وسلاماً.
قال: ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليماً، واصطفاني برسالته وكلماته، وقربني إليه نجياً ونزل علي التوراة، وجعل هلاك فرعون على يدي، ونجى بني إسرائيل على يدي. قال: ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي خولني ملكاً، وأنزل علي الزبور وألان لي الحديد، وسخر لي الطير والجبال، وآتاني الحكمة وفصل الخطاب.(2/126)
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح والجن والإنس، وسخر لي الشياطين يعملون ما شئت " من محاريب وتماثيل ".. إلى آخر الآية. وعلمني منطق الطير، وأسأل لي عين القطر وأعطاني ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي. ثم إن عيسى بن مريم عليهما السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي علمني التوراة والإنجيل وجعلني أبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذنه، ورفعني وطهرني من الذين كفروا فأعادني وأمي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثم أن محمداً عليه السلام أثنى على ربه فقال: كلهم أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً، وأنزل علي القرآن فيه تبيان لكل شيء، وجعل أمتي خير الأمم، وجعل أمتي أمة وسطاً، وجعل أمتي هم الأولون وهم الآخرون، وشرح صدري ووضع عني وزري، ورفع لي ذكري، وجعلني فاتحاً وخاتماً. فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: ثم أتي بآنية ثلاث مغطاة أفواهها فأتي بإناء فيه ماء فقيل له: اشرب فشرب منه يسيراً ثم رفع إليه إناء آخر فيع لبن فشرب منه حتى روي ثم رفع إليه إناء آخر فيه خمر فقال: قد رويت ولا أريده. فقيل له: قد أصبت أما إنه ستحرم على أمتك. ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا قليل. قال: ثم صعدنا إلى السماء فذكر الحديث بنحو مما تقدم إلى أن قال: ثم صعدنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل، فقيل: من هذا؟ قال: محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: وقد أرسل؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ وخليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء. فإذا برجل شمط جالس على كرسي عند باب الجنة، وعنده قوم بيض الوجوه وقوم سود الوجوه وفي ألوانهم شيء، فأتوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من أنوارهم شيء، ثم إنهم أتوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه وقد خلص من ألوانهم شيء ثم دخلوا النهر الثالث فخرجوا وقد خلصت ألوانهم مثل ألوان أصحابهم فقال: يا جبريل من هؤلاء(2/127)
بيض الوجوه وهؤلاء الذين في ألوانهم شيء فدخلوا النهر فخرجوا وقد خلصت ألوانهم؟ فقال: هذا أبوك إبراهيم هو أول رجل شمط على سطح الأرض، وهؤلاء بيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم قال: وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء " خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً " فتابوا فتاب الله عليهم، وأما النهر الأول فرحمة الله، وأما النهر الثاني فنعمة الله، وأما النهر الثالث " وسقاهم ربهم شراباً طهوراً ". ثم انتهى إلى سدرة المنتهى. فقيل لي: هي السدرة إليها ينتهي كل أحدٍ من أمتك ويخرج من أصلها: " أنهارٌ من ماء غير آسنٍ وأنهارٌ من لبن لم يتغير طعمه وأنهارٌ من خمرٍ لذة للشاربين وأنهارٌ من عسل مصفى " قال: وهي شجرة يسير الراكب في أصلها مئة عام ما يقطعها.
وإن الورقة منها مغطية الخلق، قال: فغشيها نور الخالق وغشيتها الملائكة فكلمه ربه عند ذلك قال له: سل. قال: إنك اتخذت إبراهيم خليلاً وأعطيته ملكاً عظيماً، وكلمت موسى تكليماً، وأعطيت داود ملكاً عظيماً وألنت له الحديد وسخرت له الجبال، وأعطيت سليمان ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده، علمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك وأعذته وأمه من الشيطان فلم يكن له عليهما سبيل.
فقال له ربه: قد اتخذتك خليلاً قال: وهو مكتوب في التوراة خليل الرحمن. وأرسلناك إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً، وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا ذكرت معي يعني الأذان وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس، وجعلت أمتك وسطاً وجعلت أمتك هم الأولون وهم الآخرون، وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم لا تجوز عليهم خطيئة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي، وجعلتك أول البشر خلقاً وآخرهم مبعثاً وآتيتك سبعاً من المثاني لم أعطها نبياً قبلك وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك، وجعلتك فاتحاً وخاتماً.(2/128)
قال: وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " فضلني ربي: أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً وألقى في قلوب عدوي الرعب مني مسيرة شهر، وأحل لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهرواً، وأوتيت فواتح الكلام وخواتيمه وجوامعه، وعرضت علي أمتي فلم يخف علي التابع والمتبوع، ورأيتهم أتوا على قوم ينتعلون الشعر، ورأيتهم أتوا على قوم عراض الوجوه صغار الأعين كأنما خزمت أعينهم بالمخيط فلم يخف علي ما هم لاقون ن بعدي، وأمرت بخمسين صلاة فرجعت إلى موسى ... فذكر الحديث بمعنى ما تقدم غير أنه قال في آخره: قال: فقيل له: اصبر على خمس فإنها تجزئ عنك بخمسين، كل خمس بعشرة أمثالها قال: فكان موسى اشتد عليه حين مر به، وخبرهم حين رجع إليه. وعن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة وغيره من رجاله قالوا: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من شهر رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائم في بيته ظهراً أتاه جبريل وميكائيل فقالا: انطلق إلى ما سألت إليه، فانطلقنا به إلى ما بين المقام وزمزم فأتي بالمعراج، فإذا هو أحسن شيء منظراً فعرجا به إلى السماوات سماء سماء فلقي فيها الأنبياء، وانتهى إلى سدرة المنتهى وأري الجنة والنار. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ولما انتهيت إلى السماء إلى السماء السابعة لم أسمع إلا صريف الأقلام وفرضت علي الصلوات الخمس فنزل جبريل فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصلوات في مواقيتها ". وعن أم هانئ وابن عباس وغيرهم دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا: أسري برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة من شعب أبي طالب إلى بيت المقدس.(2/129)
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " حملت على دابة بيضاء بين الحمار وبين البغل في فخذيها جناحان تحفز بهما رجليها، فلما دنوت لأركبها شمست فوضع جبريل عليه السلام يده على معرقها ثم قال: ألا تستحين يا براق مما تصنعين، والله ما ركب عليك عبد لله قبل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكرم على الله منه، فاستحيت حتى ارفضت عرقاً ثم أقرت حتى ركبها فعملت بأذنيها وقبضت الأرض حتى كان منتهى وقع حافرها طرفها، وكانت طويلة الظهر طويلة الأذنين، وخرج معي جبريل لا يقويني ولا أقويه حتى انتهى بي إلى بيت المقدس فانتهى البراق إلى موقفه الذي كان يقف فربطه وكان مربط الأنبياء قبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: رأيت الأنبياء جمعوا لي فرأيت إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام فظننت أنه لا بد من أن يكون لهم إمام فقدمني جبريل حتى صليت بين أيديهم وسألتهم فقالوا: بعثنا بالتوحيد ". وقال بعض الرواة: فقد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الليلة فتفرقت بنو عبد المطلب يطلبونه ويلتمسونه، وخرج العباس بن عبد المطلب حتى بلغ ذا طوى، فجعل يصرخ: يا محمد يا محمد، فأجابه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبيك، قال: يا بن أخي عنيت قومك منذ الليلة فأين كنت؟ قال: أتيت من بيت المقدس، قال: في ليلتك؟ قال: نعم قال: هل أصابك إلا خير؟ قال: ما أصابني إلا خير. وقالت أم هانئ بنة أبي طالب: ما أسري به إلا من بيتنا، نام عندنا تلك الليلة، صلى العشاء ثم نام. فلما كان الفجر أنبهناه للصبح فقام فلما صلى الصبح قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء كما رأيت بهذا الوادي، ثم قد جئت بيت المقدس فصليت فيه ثم صليت الغداة معكم ثم قام ليخرج فقلت: لا تحدث هذا للناس فيكذبوك ويؤذوك، فقال: والله لأحدثنهم فأخبرهم. فتعجبوا وقالوا: لم نسمع بمثل هذا قط. وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لجبريل: يا جبريل إن قومي لا يصدقوني، قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق، وافتتن ناس كثير كانوا قد وصلوا وأسلموا.
وقمت في الحجر فخيل إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن أثاثه وأنا أنظر إليه. فقال بعضهم: كم للمسجد من باب؟ ولم أكن(2/130)
عددت أبوابه فجعلت أنظر إليها وأعدها باباً باباً وأعلمهم. وأخبرتهم عن عيرات لهم في الطريق وعلامات فيها فوجدوا ذلك كما أخبرتهم. وأنزل الله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس " قال: كانت رؤيا عين رآها بعينه. وعن زر بن حبيش قال: أتاني حذيفة وأنا أحدث في بيت المقدس وأنا أقول أنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى فيه، فقال حذيفة: ما اسمك يا صلع؟ فإني أعرف وجهك ولا أدري ما اسمك، اقرأ القرآن فقرأت: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى " فلم أجد فيها أنه صلى. قال حذيفة: والله ما صلى فيه، ولو صلى فيه لكتبت عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم الصلاة في البيت العتيق. والله ما زايلا طهر البراق عودهما على بدئهما حتى رجعا. يزعمون ربطه، أو ليس سخره له قادر على أن يحبسه له، فسئل البراق فقال: دابة أبيض فوق الحمار خطوه مد البصر. وعن عبد الله بن سعد بن زرارة ما قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أسري بي في قفص من لؤلؤ فراشه من ذهب ".
ما خص وشرف به من بين الأنبياء(2/131)
ذكر ما خص به وشرف به من بين الأنبياء
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما عرج بي إلى السماء الدنيا مررت على نهر عجاج يطرد مثل السهم، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وحافتاه قباب من در مجوف، فضربت بيدي إلى حمأته فإذا هو مسك، وضربت بيدي إلى رضراضه فإذا هو در فقلت: يا جبريل، ما هذا؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك ". وعن أنس بن مالك قال: قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما الكوثر الذي أعطاك ربك؟ قال: نهر كمثل ما بين أيلة إلى صنعاء وأيلة من أرض الشام آنيته أكثر من عدد نجوم السماء، يرده طير لها أعناق كأعناق البخت، فقال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله إنها لناعمة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكلها أنعم منها. وعن عقبة بن عامر قال: آخر ما خطب لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه صلى على شهداء أحد ثم رقي المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني لكم فرط وأنا عليكم شهيد، وأنا أنظر إلى حوضي الآن وأنا في مقامي هذا، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أريت أني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، فأخاف عليكم أن تنافسوا فيها. وعن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله عز وجل يدخل من أمتي يوم القيامة سبعين ألفاً بغير حساب، مع كل ألف(2/132)
سبعون ألفاً وثلاث حثيات، فقال رجل: يا رسول الله، فم سعة حوضك؟ قال: ما بين عدن وعمان. قال: وأشار بيده وأوسع وأوسع، وفيه مثعبان من ذهب وفضة. قيل: يا رسول الله، فم شرابه؟ قال: أبيض من اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، من شرب منه لم يظمأ بعدها أبداً، ولن يسود وجهه أبداً ".
وعن أبي سعيد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لي حوض، طوله ما بين الكعبة إلى بيت المقدس، أشد بياضاً من اللبن، آنيته عدد النجوم، وكل نبي يدعو أمته، ولكل نبي حوض فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه النفر، ومنهم من يأتيه الرجلان والرجل، ومنهم من لا يأتيه أحد، فيقال: قد بلغت، وإني أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة ". وعن ابن عباس قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: فقلت لسعيد بن خيبر: فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال: النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا أول شفيع يوم القيامة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً يوم القيامة.
إن من الأنبياء لمن يأتي يوم القيامة وليس معه مصدق غير واحد ". وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة ". وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل نبي يوم القيامة منبراً من نور، وإني على أطولها وأنورها، فيجيء المنادي(2/133)
فينادي: أين النبي يعني فيقولون كلنا نبي الله فإلى أينا أرسلت؟ فيرجع فينادي: أين النبي الأمي العربي فينزل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يأتي باب الجنة ... " فذكر حديث الشفاعة بطوله. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعطيت فواتح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي، فذهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنتم تنتثلونها، وربما قال: تنفلونها. وعن حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فضلنا على الناس بثلاث: جعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وأتيت هؤلاء الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش، ولم يعط منه أحد قبلي ولا يعطي منه أحد بعدي ".وعن عوف بن مالك عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أعطينا أربعاً لم يعطهن أحدٌ كان قبلنا، وسألت ربي الخامسة فأعطانيها وهي ما هي: كان النبي يبعث إلى قرية لا يعدوها وبعثت كافة للناس، وأرهب مني عدونا مسيرة شهر، وجعلت الأرض لنا طهوراً ومسجداً، وأحل لنا الخمس ولم يحل لأحد قبلنا. وسألت ربي الخامسة فأعطانيها وهي ما هي، سألته عز وجل ألا يلقاه عبد يوحده إلا دخل الجنة، فأعطانيها ". وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعطيت خمساً لم يعطها نبي قبلي، ولا فخر؛ بعثت إلى الناس كافة، للأحمر والأسود وكان من قبلي يبعث إلى قومه، وأحل لكم الغنم وأطعمتموه، وكان قبلي يقربونه فتجيء نار فتأكله، ونصرت بالرعب يفرق مني العدو على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأهل الكتاب لا يصلون إلا في كنائسهم وبيعهم، وأعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي يوم اليقامة، وهي نائلة منهم من مات لا يشرك بالله شيئاً ".(2/134)
وفي حديث عن أبي موسى: وأعطيت الشفاعة، وإنه ليس من نبي إلا وقد قدم الشفاعة، وإني أخرت شفاعتي، جعلتها لمن مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً. وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أعطيت شيئاً لا أقولهن فخراً، لم يعطهن أحدٌ قبلي: غفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، وجعلت أمتي خير الأمم، وأحلت لي الغنائم ولم تحلل لأحد كان قبلي، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأعطيت الكوثر، ونصرت بالرعب. والذي نفسي بيده إن صاحبكم لصاحب لواء الحمد يوم القيامة ". وفي حديث غيره: وختم بي النبيون. وعن جابر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتيت بمقاليد الدنيا على فرس أبلق عليه قطيفة من سندس ". وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما أسري بي جبريل سمعت تسبيحاً في السماوات العلا، فرجف فؤادي، فقال جبريل: يا محمد، تقدم ولا تخف، فإن اسمك مكتوب على العرش: لا إله إلا الله محمد رسول الله ".
وعن حذيفة بن اليمان قال: غاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فلم يخرج حتى ظننا أن لن يخرج. فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نفسه قبضت فيها. فلما رفع رأسه قال: إن ربي استشارني في أمتي: ماذا أفعل بهم؟ قلت: ما شئت يا رب، هم خلقك وعبادك، فاستشار الثانية فقلت له كذلك. فقال: لم أجزك في أمتك يا محمد، وبشرني أن أول من يدخل الجنة نفر من أمتي سبعون ألفاً، مع كل ألف سبعون ليس علهم حساب، ثم أرسل إلي ربي: ادع تجب، وسل تعطه، فقلت لرسوله: أو يعطي ربي سؤلي؟ فقال: ما أرسل إليك إلا ليعطيك، ولقد أعطاني ربي غير فخر: إنه غفر لي ما تقدم وما تأخر، وشرح صدري، وأنه أعطاني ألا تجوع أمتي، ولا تغلب، وأنه أعطاني الكوثر نهراً في الجنة(2/135)
يسيل في حوضي، وأعطاني العز والنصر، وأرعب بين أمتي شهراً، وإنه أعطاني بأني أول الأنبياء دخولاً للجنة. وطيب لي لأمتي الغنيمة، وأحل كثيراً مما شدد على من قبلنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، فلم أجد أن أشكر إلا هذه السجدة. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما أسري بي إلى السماء قربني ربي عز وجل حتى كان بيني وبينه كقاب قوسين أو أدنى لا، بل أدنى، وعلمني السمات. قال: يا حبيبي يا محمد، قلت: لبيك يا رب. قال: هل غمك أن جعلتك آخر النبيين؟ قلت: يا رب، لا. قال: حبيبي، فهل غم أمتك أن جعلتهم آخر الأمم؟ قلت: يا رب، لا. قال: أبلغ أمتك عني السلام، وأخبرهم أني جعلتهم آخر الأمم لأفضح الأمم عندهم، ولا أفضحهم عند الأمم ". وعن سلمان قال: حضرت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، فإذا أعرابي جاء في رجل بدوي، قد وقف علينا فسلم فرددنا عليه، فقال: يا قوم، أيكم محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا محمد رسول الله، فقال الأعرابي: إني والله لقد آمنت بك قبل أن أراك، وأحببتك قبل أن ألقاك، وصدقتك قبل أن أرى وجهك، ولكني أريد أن أسألك عن خصال. فقال: سل عما بدا لك، فقال: فداك أبي وأمي، أليس الله عز وجل كلم موسى عليه السلام؟ قال: بلى. قال: وخلق عيسى عليه السلام من روح القدس؟ قال: بلى. قال: واتخذ إبراهيم عليه السلام خليلاً واصطفى آدم عليه السلام؟ قال: بلى، قال: بأبي أنت وأمي إيش أعطيت من الفضل، فأطرق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهبط عليه جبريل فقال: الله يقرؤك السلام، وهو يسألك عما هو أعلم به منك، الله يقول: يا حبيبي، لم أطرقت رأسك؟ ارفع رأسك ورد على الأعرابي جوابه. قال: أقول ماذا يا جبريل؟ قال: الله يقول: إن كنت اتخذت إبراهيم عليه السلام خليلاً فقد اتخذتك من قبل حبيباً، وإن كنت كلمت موسى عليه السلام في الأرض فقد كلمتك وأنت معي في السماء والسماء أفضل من الأرض وإن كنت خلقت عيسى عليه السلام من روح القدس فقد خلقت اسمك من قبل أن أخلق الخلق بألفي سنة، ولقد وطئت في السماء موطئاً لم يطأه أحد قبلك، ولا يطؤه أحد بعدك، إن كنت اصطفيت آدم عليه السلام فبك ختمت الأنبياء.
ولقد خلقت مئة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك. ومن يكون أكرم علي منك؟ وقد أعطيت الحوض والشفاعة والناقة(2/136)
والقضيب والميزان والوجه الأقمر والجمل الأحمر والتاج والهراوة والحجر والعمرة والقرآن وفضل شهر رمضان والشفاعة. كلها لك حتى ظل عرشي في القيامة على رأسك ممدود، وتاج الحمد على رأسك معقود، ولقد قرنت اسمك مع اسمي، فلا اذكر في موضع حتى تذكر معي، ولقد خلقت الدنيا وأهلها لأعرفهم كرامتك علي ومنزلتك عندي، ولولاك يا محمد ما خلقت الدنيا. وعن وهب قال: قرأت في زبور داود عليه السلام ذكر نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه يجوز من البحر إلى البحر، من لدن الأنهار إلى منقطع الأرض، وأنه يخر أهل الجزائر بين يديه على ركبهم، ويلحس أعداؤه التراب من تحت قدميه، وتدين له الأمم بالطاعة والانقياد، لأنه يخلص المضطهد ممن هو أقوى منه، ويرأف بالضعفاء والمساكين ويصلي عليه في كل وقت ويبارك عليه في كل يوم، ويدوم ذكره مع ذكر الله عز وجل إلى الأبد. وعن جابر قال: بين كتفي آدم مكتوب: محمد رسول الله خاتم النبيين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/137)
باب مختصر من دلائل نبوته
وما طهر من بركته
عن عبد الله قال: بينما نحن مع رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمنى إذ انفلق القمر فلقتين، فكانت فلقة من وراء الجبل وفلقة دونه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشهدوا. وفي رواية أخرى: فقال كفار أهل مكة: هذا سحر سحركم به ابن أبي كبشة، انظروا السفار، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق. وإن كان لم يروا ما رأيتم فهو سحر سحركم به. قال: فسئل السفار فقدموا من كل وجه فقالوا: رأينا. وعن أنس بن مالك: أن أهل مكة سألوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر مرتين. وعن عبد الله بن عمر: في قوله عز وجل " اقتربت الساعة وانشق القمر " قال: قد كان ذلك على عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، انشق القمر فلقتين، فلقة من دون الجبل، وفلقة من خلف الجبل فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشهدوا. وقال البيهقي: اللهم اشهد. وعن العباس بن عبد المطلب قال: قلت: يا رسول الله، دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوتك؛ رأيتك في المهد(2/138)
تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك، فحيث أشرت إليه مال. قال: إني كنت أجذبه ويجذبني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجنته تسجد تحت العرش. وعن ابن عباس قال: خرجت حليمة تطلب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد وجدت البهم تقيل، فوجدته مع أخته فقالت: في هذا الحر؟ فقالت أخته: يا أمه، ما وجد أخي حراً، رأيت غمامة تظل عليه إذا وقف وقفت، وإذا سار سارت معه، حتى انتهى إلى هذا الموضع. وعن علي بن أبي طالب قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة في بعض نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. وفي حديث آخر: ولا على شيء إلا سلم عليه.
وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن بمكة حجراً كان يسلم علي ليالي بعثت. إني لأعرفه إذا مررت عليه ". وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لما استعلن لي جبريل جعلت لا أمر بحجر ولا شجر إلا قال لي: السلام عليك يا رسول الله ". وعن ابن عباس قال: جاء رجل من بني عامر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يداوي ويعالج فقال له: أي محمد، إنك تقول أشياء، فهل لك أن أداويك؟ قال: إيه. قال: وعنده نخل وشجر، فدعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عذقاً منها فأقبل إليه وهو يسجد. يا رسول الله فقال لها: ارجعي، فرجعت فجلست على عروقها وفروعها كما كانت فقال الأعرابي: يا رسول الله، ائذن لي أن أقبل رأسك ورجليك، فأذن له، ثم قال: يا رسول الله، ائذن لي أن أسجد لك، قال: " لا يسجد أحد لأحد، ولو أمرت أن يسجد(2/139)
أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها ". وعن يعلى بن سيابة الثقفي قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا وديتين فأمرهما فاجتمعتا، فاستتر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهما، فلما قضى حاجته قال: ارجعا إلى مكانكما، فرجعتا، فانطلقت فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإداوة من ماء وتوضأ، إذ أقبل إليه ناضح عوذ وريم. فلما دنا منه برك، ثم جعل يحك بجرانه الأرض يخن حتى رأيت دموعه تسيل على الأرض، فقال: هل تدري ما يقول؟ قال: يشكو إلي صاحبه يريد أن تنحره اليوم. قال: نعم، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا تفعل، قال: نعم يا رسول الله. قال: وأحسن إليه، قال: لا والله يا رسول الله لا يكرم مالٌ لي كرامته. ثم انطلق إلى البقيع، فأتى على قبرين، فقال: يعذبان، فقالوا: وفيم يا رسول الله؟ قال: في غير كبير، أما أحدهما فكان لا يسنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس. ثم أخذ جريدتين فوضعهما عليهما، قال: عسى أن يرفه عنهما حتى ييبسا.
وعن أسامة بن زيد بن حارثة ما قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته التي حجها، فلما هبطنا بطن الروحاء عارضت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة معها صبي لها، فسلمت عليه، فوقف عليها فقالت: يا رسول الله، هذا ابني فلان، والذي بعثك بالحق ما زال في جنن واحد أو كلمة تشبهها منذ ولدته إلى الساعة، فاكتنع إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبسط يده فجعله بينه وبين الرحل، ثم تفل في فيه، ثم قال: " اخرج عدو الله فإني رسول الله، ثم ناولها إياه، فقال: خذيه فلن تري منه شيئاً يريبك بعد اليوم إن شاء الله ". قال أسامة: فقضينا حجنا ثم انصرفنا. فلما نزلنا الروحاء، فإذا تلك المرأة أم الصبي قد جاءت(2/140)
ومعها شاة مصلتة، فقالت: يا رسول الله، أنا أم الصبي الذي أتيتك به. قالت: لا والذي بعثك بالحق ما رأيت منه شيئاً يريبني إلى هذه الساعة. قال أسامة: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا سيم وهكذا كان يدعو به يحشمه، ناولني ذراعها، فامتلخت الذراع، فناولتها إياه فأكلها ثم قال: يا سيم، ناولني الذراع، فقلت: يا رسول الله، إنك قد قلت: ناولني فناولتكها فأكلتها، ثم قلت: ناولني فناولتكها، فأكلتها ثم قلت: ناولني الذراع، وإنما للشاة ذراعان، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أما إنك لو أهويت إليها ما زالت تجد فيها ذراعاً ما قلت لك. ثم قال: يا سيم قم، فاخرج فانظر هل ترى خمراً لمخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرجت فمشيت حتى حسرت، فما قطعت الناس وما رأيت شيئاً أرى أنه يواري أحداً، وقد ملأ الناس ما بين السدين.
قال: فهل رأيت شجراً أو رجماً، قلت: بلى، قد رأيت نخلات صغار إلى جانبهن رجم من حجارة، فقال: يا سيم، اذهب إلى النخلات فقل لهن: يأمركن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يلحق بعضكن ببعض حتى يكن سترة لمخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقل ذلك للرجم، فأتيت النخلات فقلت لهن الذي أمرني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فو الذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى تقافزهن بعروقهن وترابهن، حتى لصق بعضهن ببعض، وكن كأنهن نخلة واحدة، وقلت ذلك للحجارة، فو الذي بعث بالحق لكأني أنظر إلى تقازفهن حجراً حجراً حتى علا بعضهن بعضاً، فكن كأنهن جدار، فأتيته فأخبرته فقال: خذ الإداوة فأخذتها، ثم انطلقنا نمشي فلما دنونا منهن سبقته فوضعت الإداوة، ثم انصرفت إليه، فانطلق فقضى حاجته، ثم أقبل وهو يحمل الإداوة، فأخذتها منه ثم رجعنا. فلما رحل للخباء قال لي: يا سيم، انطلق إلى النخلات فقل لهن: يأمركن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ترجع كل نخلة منكن إلى مكانها، وقل ذلك للحجارة، فأتيت النخلات فقلت لهن الذي قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فو الذي بعثه بالحق لكأني أنظر إلى تقازفهن حجراً حجراً، حتى عاد كل حجر إلى مكانه، فأتيته فأخبرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/141)
وعن عبد الله بن جعفر قال: أردفني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم خلفه، فأسر إلي حديثاً لا أحدث به أحداً من الناس. قال: وكان أحب ما استتر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاجته هدف أو حائش نخل فدخل حائط رجل من الأنصار، فإذا جمل؛ فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حن وذرفت عيناه، فأتاه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمسح سراته وذفراه فسكن ثم قال: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، فقال: ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله عز وجل إياها؟! فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه.
وعن أبي سعيد الخدري قال: بينما راعٍ يرعى بالحرة شاءً إذ انتهر الذئب شاة من شائه، فحال الراعي بين الذئب والشاة، فأقعى الذئب على ذنبه ثم قال للراعي: ألا تتقي الله، تحول بيني وبين رزق ساقه الله إلي، فقال الراعي: العجب من الذئب مقع على ذنبه يتكلم بكلامٍ، كلام الإنس، فقال الذئب للراعي: ألا أحدثك بأعجب من هذا، رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الحرتين يحدث الناس بأنباء ما قد سبق، فساق الراعي النبأ حتى انتهى إلى المدينة فرواها في زاوية من زواياها، ثم دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثه بما قال الذئب، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الناس فقال للراعي: حدثهم، فقام الراعي فأخبر الناس بما قال الذئب، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق الراعي، ألا إن من أشراط الساعة كلام السباع للإنس، ويكلم الرجل نعله، وعذبة سوطه، ونخيزة فخذه بما فعل أهله بعده.
وعن المقداد بن عمرو الكندي قال: قدمت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعي رجلان من أصحابي، فطلبنا هل يضيفنا أحد، فلم يضفنا أحد، فأتينا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا رسول الله، أصابنا جوع وجهد، وإنا تعرضنا هل يضفنا أحد فلم يضفنا أحد، فدفع إلينا أربعة أعنز فقال: يا مقداد، خذ هذه فاحتلبها(2/142)
فجزئها أربعة أجزاء، جزءاً لي، وجزءاً لك، وجزأين لصاحبيك، فكنت أفعل ذلك. فلما كان ذات ليلة، شربت جزئي، وشرب صاحباي جزأيهما، وجعلت جزء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القعب وأطبقت عليه، فاحتبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت في نفسي: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دعاه أهل بيت من المدينة فتعشى معهم، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يحتاج إلى هذا اللبن، فلم تزل نفسي تزيدني حتى قمت إلى القعب فشربت ما فيه. فلما تقار في بطني أخذني ما قدم وما حدث، فقالت لي نفسي: يجيء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جائع ظمآن، فيرفع القعب فلا يجد فيه شيئاً، فيدعو عليك، فتسجيت كأني نائم، وما كان بي نوم، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسلم تسليمة أسمع اليقظان، ولم يوقظ النائم، فلما لم ير في القعب شيئاً رفع رأسه إلى السماء قالك اللهم أطعم من أطعمنا، واسق من سقانا، فاغتنمت دعوة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذت الشفرة وأنا أريد أن أذبح بعض تلك الأعنز فأطعمه، فضربت بيدي فوقعت على ضرعها فإذا هي حافل، ثم نظرت إليهن جميعاً فإذا هن حفل، فحلبت في القعب حتى امتلأ ثم أتيته، وأنا أبتسم فقال: هيه بعض سوآتك يا مقداد! فقلت: يا رسول الله، اشرب ثم أخبر، فسرب ثم شربت ما بقي منه ثم أخبرته، فقال: يا مقداد، هذه بركة كان ينبغي لك أن تعلمني حتى توقظ صاحبينا فنسقيهما من هذه البركة. قال: قلت: يا رسول الله، إذا شربت أنت وأنا البركة فما أبالي من أخطأت. وعن أبي بكر الصديق قال: خرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة، فانتهينا إلى حي من أحياء العرب، فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت منتحٍ فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة، فقالت: يا عبدي الله، إنما أنا امرأة وليس معي أحد، فعليمكا بعظيم الحي إن أردتما القرى، قال: فلم نجبها وذلك عند المساء، فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها، فقالت: يا بني انطلق بهذه العنز والشفرة إلى هذين الرجلين فقل لهما: تقول لكم أمي اذبحا هذه وكلا وأطعمانا. فلما جاء قال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انطلق بالشفرة وجيئني بالقدح. قال: إنها قد غربت وليس لها لبن، قال: فانطلق فجاء بقدح، فمسك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال:(2/143)
انطلق به إلى أمك فشربت حتى رويت ثم جاء به، فقال: انطلق بهذه وجيئني بأخرى، ففعل بها كتلك، ثم سقى الغلام، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك ثم سقا أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فبتنا ليلتنا ثن انطلقنا، فكانت تسمية المبارك. وكثرت غنمها حتى حلبت حلباً إلى المدينة، فمر أبو بكر فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أمه، إن هذا الرجل الذي كان مع المبارك فقامت إليه فقالت: يا عبد الله، من الرجل الذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو؟ قالت: لا. قال: هو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: فأدخلني عليه. قال: فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها. وعن نافع: أنه كان مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زهاء أربع مئة رجل، فنزل بنا على نمير ماء، فكأنه اشتد على الناس، ورأوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل فنزلوا إذ أقبلت عنز تمشي، حتى أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محددة القرنين.
قال: فحلبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فأروى الجند وروي. قال: ثم قال: يا نافع، املكها وما أراك تملكها، قال: فأخذت عوداً فركزته في الأرض قال: وأخذت رباطاً فربطت الشاة، فاستوثقت منها. قال: ونام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونام الناس، ونمت. قال: فاستيقظت، فإذا الحبل محلول وإذا لا شاة. قال: فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته. قال: قلت: الشاة ذهبت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا نافع، أوما أخبرتك أنك لا تملكها، إن الذي جاء بها هو الذي ذهب بها. وعن زيد بن أرقم قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض سكك المدينة. قال: فمررنا بخباء أعرابي وإذا ظبية مشدودة إلى الخباء فقالت الظبية: يا رسول الله، إن هذا الأعرابي قد اصطادني وإن لي خشفين في البرية وقد تعقد اللبن في أخلافي، فلا هو يريحني فأستريح، ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية. فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن تركتك، ترجعين؟ قالت: نعم، وإلا عذبني الله عذاب العشار قال: فأطلقها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يلبث(2/144)
أن جاءت تلمظ. فشدها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الخباء، وأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتبيعنيها؟ فقال: هي لك يا رسول الله، فأطلقها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسيح في البرية وهي تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن علي بن أبي طالب قال: بينما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مجلسه يحدث الناس بالثواب والعقاب، والجنة والنار، والبعث والنشور، إذ أقبل أعرابي من بني سليم، بيده اليمنى عظام نخرة، وفي يده اليسرى ضبٌ، فأقبل بالعظام فوضعها بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عركها برجله ثم قال: يا محمد، ترى ربك يعيدها خلقاً جديداً؟ فأراد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوابه ثم انتظر الإجابة من السماء فنزل جبريل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم قل يحيها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلقٍ عليم " فقرأها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأعرابي، فقال: واللات والعزى، ما اشتملت أرحام النساء ولا أصلاب الرجال على ذي لهجة أكذب منك ولا أبغض إلي منك، ولولا أن قومي يدعوني عجولاً لقتلتك، ولسررت بقتلك الأسود والأبيض من بني هاشم، فهم به علي بن أبي طالب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يا علي، أما علمت أن الحليم كاد أن يكون نبياً؟
فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أعرابي، بئس ما جئتنا به، وسوء ما تستقبلني به، والله إني لمحمود في الأرض، أمين في السماء عند الملائكة، فقام الأعرابي: ورمى الضب في حجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: والله لا أؤمن بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذنبه ثم قال: يا ضب، قال: لبيك يا زين من وافى يوم القيامة، قال: من تعبد؟ قال: أعبد الله الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة ثوابه، وفي النار عذابه، قال: من أنا؟ قال: أنت محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، حتى نسبه إلى إبراهيم عليه السلام، أنت رسول الله لا يحرم من صدقك، وخاب من صدقك، فولى الأعرابي وهو يضحك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لله وإنا به نستهدي فرجع إليه فقال: بأبي وأمي(2/145)
ليس الخبر كالمعاينة، أنا أشهد بلحمي ودمي وعظامي أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جئتنا كافراً وترجع مؤمناً، هل لك من مال؟ قال: والذي بعثك بالحق رسولاً ما في بني سليم أفقر مني ولا أقل شيئاً مني، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من عنده راحلة تحمل أخاه عليها؟ فقام عدي بن حاتم الطائي فقال: يا رسول الله، عندي ناقة وبراء حمراء عشراء إذا أقبلت دفت، وإذا أدبرت دفت، أهداها إلي أشعث بن وائل غداة قدمت معك من غزوة تبوك، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لك عندي ناقة من درة بيضاء. وفي حديث آخر: قال الأعرابي: لا أتبع أثراً بعد عين، والله لقد جئتك وما على ظهر الأرض أحد أبغض إلي منك، وإنك اليوم أحب إلي من والدي ومن عيني ومني، وإني لأحبك بداخلي وخارجي وسري وعلانيتي، وأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحمد لله الذي هداك بي، إن هذا الدين يعلو ولا يعلى عليه، ولا تقبل الصلاة إلا بقرآن، قال: فعلمني، فعلمه: " قل هو الله أحد " قال: زدني، فما سمعت في البسيط ولا الوجيز أحسن من هذا، قال: يا أعرابي، إن هذا لكلام الله تعالى، ليس بشعر، إنك إن قرأت " قل هو الله أحد " مرة كان لك كأجر من قرأ ثلث القرآن، وإن قرأت مرتين كان لك كأجر من قرأ ثلثي القرآن، وإذا قرأتها ثلاث مرات كان لك كأجر من قرأ القرآن كله.
قال الأعرابي: نعم الإله إلهنا، يقبل اليسير ويعطي الجزيل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألك مال؟ قال: ما في بني سليم قاطبة رجل هو أفقر مني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: أعطوه، قال: فأعطوه حتى أبطروه، فقام عبد الرحمن بن عوف وقال يا رسول الله، إن لي ناقة عشراء دون البختيّ، وفوق الأغراء، تلحق ولا تلحق، أهديت إليّ يوم تبوك، أتقرب بها إلى الله عز وجل وأدفعها إلى الأعرابي فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد وصفت ناقتك، فأصفُ ما لك عند الله تعالى يوم القيامة؟ قال: نعم. قال: لك ناقة من درة جوفاء، قوائمها من زبرجد أخضر، وعنقها من زبرجد أصفر، عليها هودج، وعلى الهودج السندس والاستبرق، وتمر بك على الصراط كالبرق الخاطف،(2/146)
يغبطك بها كل من رآك يوم القيامة، فقال عبد الرحمن: قد رضيت. فخرج الأعرابي فلقيه ألف أعرابي من بني سليم على ألف دابة، معهم ألف سيف وألف رمح، فقال لهم: أين تريدون؟ قالوا: نذهب إلى هذا الذي سفه آلهتنا فنقتله، قال: لا تفعلوا، أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فحدثهم الحديث، فقالوا بأجمعهم: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم دخلوا، فقيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتلقاهم بلا رداء، فنزلوا عن ركبهم يقبلون حيث ولوا منه وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم قالوا: يا رسول الله، مرنا بأمرك. قال: كونوا تحت راية خالد بن الوليد، فلم يؤمن من العرب ولا من غيرهم ألفٌ غيرهم. وعن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد الحاجة أبعد. قال: فذهب يوماً فقعد تحت شجرة فنزع خفيه ولبس أحدهما، فجاء طير فأخذ الخف الآخر فحلق به في السماء، فانسكب منه أسود سالخ، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هذه كرامة أكرمني الله تعالى بها، اللهم، إني أعوذ بك من شر من يمشي على رجلين، ومن شر من يمشي على أربع، ومن شر من يمشي على بطنه ".
وعن عائشة قالت: كان لآل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحش، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خرج لعب واشتد، وأقبل وأدبر، فإذا حس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد دخل ربض، فلم يترمرم ما دام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البيت مخافة أن يؤذيه. وعن معرض بن معقيب قال: حججت حجة الوداع، فدخلت داراً بمكة، فرأيت فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأن وجهه دارة القمر، وسمعت منه عجباً: جاءه رجل من أهل اليمامة بصبي يوم ولد قد لفه في خرقة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/147)
يا غلام، من أنا؟ قال: أنت رسول الله، قال: صدقت، بارك الله فيك، قال: ثم إن الغلام لم يتكلم بعدها حتى شب. قال: قال أبي: فكنا نسميه مبارك اليمامة.
وعن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجن وما رآهم. انطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فردعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟! قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهم عائدون إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، قال: فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا " إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً " فأوحى الله عز وجل إلى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ". وعن ابن عباس قال: كان لكل قبيلة من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه الوحي، وكان الوحي إذا نزل سمع له صوت كإمرار السلسلة على الصفوان، يعني: الحجر. فلا ينزل على سماء إلا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير، فإذا نزل الوحي إلى سماء الدنيا صعقوا، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، وهو العلي الكبير. قال: ثم يقال: يكون العام كذا، ويكون العام كذا، فتسمع الجن ذلك فتخبر به الكهنة، فتخبر الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا. قال: فلما بعث الله رسوله دحروا.
قال: فقالت العرب: هلك من في السماء. فجعل صاحب الإبل ينحر كل يوم بعيراً، وصاحب البقر يذبح كل يوم بقرة، وصاحب الشاء يذبح كل يوم شاة حتى أسرعوا في أموالهم. فقالت ثقيف وكانت أعقل العرب: يا أيها الناس. أمسكوا عليكم أموالكم، فإنه(2/148)
لن يهلك من في السماء، وإن هذا ليس بانتشار، أليس ترون إلى معالمكم من النجوم كما هي.
فقال إبليس: لقد حدث اليوم حدث. ائتوني من تربة الأرض، فأتوه من تربة كل أرض فجعل يشمها حتى أتي من تربة مكة فشمها، فقال: من هاهنا قد حدث الحدث فنظروا فإذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث. وعن أبي كعب قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إلى جزع، وكان المسجد عريشاً، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجال من أصحابه: يا رسول الله، نجعل لك شيئاً تقوم عليه يوم الجمعة حتى يراك الناس، ويسمع الناس خطبتك، فقال: نعم، فصنع له ثلاث درجات فقام عليها كما كان يقوم، فأصغى إليه الجذع فقال: اسكن، ثم التفت فقال: إن تشأ أن أعرشك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أن أعيدك رطباً كما كنت، فاختار الآخرة على الدنيا. فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع إلى أُبي، فلم يزل عنده حتى أكلته الأرضة. وفي رواية أخرى: فلما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقوم على المنبر مر إلى الجذع الذي كان يخطب إليه. فلما جاوز الجذع خار حتى تصدع وانشق، فنزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سمع صوت الجذع، فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر. وكان إذا صلى صلى عليه، فلما هدم المسجد وغير أخذ ذلك الجذع أبيُّ بن كعب. فكان عنده في بيته حتى بلي، وأكلته الأرضة، وعاد رفاتاً. وفي حديث جابر بن عبد الله: فحنث الخشبة حنين الناقة الخلوج. وفي رواية: حنين الناقة على ولدها. وفي رواية: وإن الجذع الذي كان يقوم عليه أن كما يئن الصبي، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن هذا يبكي لما فقد من الذكر.(2/149)
وفي رواية عن الحسن: فحن الجذع، فأتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاحتضنه فسكن، فقال عليه السلام: لولم أحتضنه لحن إلى يوم القيامة. وروى الحسن عن أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب يوم الجمعة إلى جنب خشبة مسنداً ظهره إليها. فلما كثر الناس قال: ابنوا لي منبراً، فبنوا له منبراً له عتبتان. فلما قدم على المنبر يخطب حنت الخشبة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أنس: وأنا في المسجد فسمعت الخشبة تخن. وفي رواية: حنت الواله، فما زالت تحن حتى نزل إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتضنها فسكنت. قال: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله، الخشبة تحن إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شوقاً إليه لمكانه من الله، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه. وعن عمر قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزاة فقلنا: يا رسول الله؛ إن العدو قد حضر، وهم شباع والناس جياع، فقالت الأنصار: ألا ننخر نواضخنا فنطعمها الناس؟ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان معه فضل طعامٍ فليجئ به، فجعل الرجل يجيء بالمد والصاع وأقل وأكثر، فكان جميع ما في الجيش بضعاً وعشرين صاعاً. فجلس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى جنبه فدعا بالبركة، وقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذوا ولا تنتهبوا، فجعل الرجل يأخذ في جرابه وغرارته، وأخذوا في أوعيتهم، حتى إن الرجل ليربط كم قميصه فيملأه. ففرغوا والطعام كما هو. ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يأتي بهما عبد محقّ إلا وقاه الله حر النار. وعن أنس بن مالك: أن أبا طلحة لما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاوياً جاء إلى أم سليم فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طاوياً. هل عندك شيء؟ قالت: عندنا نحو مدّ دقيق شعير. قال: فاعجنيه وأصلحيه عسى أن ندعو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأكل منه. قال: فعجنته وخبزته. قال: فجاء قرصاً، فقال لي: ادع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه ناس قال مبارك: أحسبه قال: بضعة وثمانون فقلت: يا رسول الله، أبو طلحة يدعوك، فقال لأصحابه: أجيبوا أبا(2/150)
طلحة، قال: فجئت مسرعاً حتى أخبرته أنه قد جاء وأصحابه. قال: فقال: والله لرسول الله أعلم بما في بيتي مني، فاستقبله أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، والله ما عندنا شيء إلا قريص رأيتك طاوياً، فأمرت أم سليم فجعلت لك قرصاً.
قال: فدعا بالقرص ودعا بجفنةٍ، فوضعه فيها فقال: هل من سمن؟ فقال أبو طلحة: قد كان في العكة شيء. قال: فجاء بها فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو طلحة يعصرانها حتى خرج شيء، فمسح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به سبابته، ثم مسح القرص ثم قال: بسم الله، فانتفخ القرص، فلم يزل يصنع ذلك والقرص ينتفخ، حتى رأيت القرص في الجفنة يتميع، فقال: ادع لي عشرة من أصحابي، فدعوت له عشرة، فوضع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده وسط القرص وقال: كلوا بسم الله، فأكلوا حوالي القرص حتى شبعوا، ثم قال: ادع لي عشرة أخرى. قال: فدعوت له عشرة أخرى، فقال: كلوا باسم الله، فأكلوا من حوالي القرص حتى شبعوا، فلم يزل يدعو عشرة عشرة، يأكلون من ذلك القرص، حتى أكلوا وأكل منه بضعة وثمانون رجلاً من حوالي القرص حتى شبعوا. قال: وأن وسط القرص حيث وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده كما هو. وعن ثابت قال: قلت لأنس: يا أنس، أخبرني بأعجب شيء رأيته. قال: نعم، يا ثابت، خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين فلم يعير علي شيئاً أسأت فيه، وإن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما تزوج زينب بنت جحش قالت لي أمي: يا أنس، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبح عروساً، ولا أدري وقيل: لا أرى أصبح له غداء فهلم تلك العكة، فأتيتها بالعكة وبتمر فجعلت له حيساً، فقالت: يا أنس، اذهب بهذا إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وامرأته. فلما أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتور من حجارة فيه ذلك الحيس قال: ضعه في ناحية البيت فادع أبا بكر وعمر وعلياً وعثمان، ونفراً من أصحابه. ثم قال: ادع لي أهل المسجد، ومن رأيت في الطريق. قال: فجعلت أتعجب من قلة الطعام ومن كثرة ما يأمرني أن أدعو الناس، فكرهت أن أعصيه حتى امتلأ البيت والحجرة، فقال: يا أنس، هل ترى من أحد؟ فقلت: لا يا نبي الله، قال: هات ذلك التور، فجئت بذلك التور، فوضعته قدامه فغمس ثلاث أصابع في التور نحو ما جئت به، قال: ضعه قدام زينب، فخرجت وأسقفت باباً من جريد. قال(2/151)
ثابت: قلنا لأنس: كم ترى كان الذين أكلوا من ذلك التور؟ قال: حسبت واحداً وسبعين أو اثنين وسبعين. وعن أنس بن مالك عن أمه قال: كانت لنا شاة، وفجمعت عن سمنها عكة، فملأت العكة ثم بعثت بها مع ربيبة فقالت: يا ربيبة، ابلغي هذه العكة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتأدم بها، فانطلقت بها ربيبة حتى أتت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، هذه سمن بعثت بها إليك أم سليم. قال: فرغوا لها عكتها، ففرغت العكة، فدفعت إليها، فانطلقت بها فجاءت وأم سليم ليست في البيت، فعلقت العكة على وتد، فجاءت أم سليم، فرأت العكة ممتلئة، تقطر، فقالت أم سليم، يا ربيبة، أليس أمرتك أن تنطلقي بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فقالت: قد فعلت، وإن لم تصدقيني فانطلقي فسلي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانطلقت أم سليم. ومعها ربيبة فقالت: يا رسول الله، إني بعث إليك معها بعكة فيها سمن. قال: قد فعلت، قد جاءت بها، فقالت: والذي بعثك بالهدى ودين الحق إنها ممتلئة تقطر سمناً، قال، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا أم سليم، أتعجبين أن كان الله أطعمك كما أطعمت نبيه؟ كلي وأطعمي.
قالت: فجئت إلى البيت فقسمت في قعبٍ لنا كذا وكذا، وتركت فيها ماائتدمنا به شهراً أو شهرين. وعن أبي أيوب الأنصاري قال: صنعت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر طعاماً قدر ما يكفيهما فأتيتهما به فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار قال: فشق ذلك علي، ما عندي شيء أزيده، قال: فكأني تثاقلت، فقال: اذهب فادع لي ثلاثين من أشراف الأنصار فدعوتهم فجاؤوا، فقال: اطعموا، فأكلوا حتى صدروا، ثم شهدوا أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم بايعوه قبل أن أن يخرجوا، ثم قال: اذهب فادعوا لي ستين من أشراف الأنصار. قال أبو أيوب: فوالله لأنا بالستين أحرد مني بالثلاثين قال: فدعوتهم، قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترفعوا، فأكلوا حتى صدروا ثم شهدوا أنه رسول الله، فبايعوه قبل أن يخرجوا. قال: فاذهب فادع لي تسعين من الأنصار.
قال: فلأنا أحرد بالتسعين والستين مني بالثلاثين،(2/152)
قال: فدعوتهم، فأكلوا حتى صدروا ثم شهدوا أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبايعوه قبل أن يخرجوا. قال: فأكل من طعامي ذلك مئة وثمانون رجلاً، كلهم من الأنصار. وعن أبي هريرة قال: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسير، فنفدت أزواد القوم. قال: حتى هم بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله، لو جمعت مابقي من أزواد القوم فدعوت الله عز وجل عليها، ففعل، فجاء ذو التمر بتمرة وذو البرببره وقال مجاهد: ورب النوى بنواه قال: فقلت: وما كانوا يصنعون بالنوى؟ قال: يمضغونه ويشربون عليه الماء. قال: فدعا عليها حتى ملأ القوم أزوادهم. قال: فقال عند ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله عبدٌ غير شاكٍّ فيها دخل الجنة. وعن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثين ومئة، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل مع أحدٍ منكم طعام؟ فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه. فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعانّ طويل بغنمٍ يسوقها. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ياذا، بيع أو عطية، أو قال: هبة. قال: لا، بل بيع، فاشترى منه شاة، وأمر بها فصنعت ثم أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسواد البطن أن يشوى، وايم الله، ما من الثلاثين والمئة إلا قد حز له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حزة من سواد بطنها، إن كان شاهداً أعطاه، وإن كان غائباً خبأ له. قال: وجعل منها قصعتين، فأكلنا أجمعون وشبعنا، وفضل في القصعتين فحمله على البعير. أو كما قال. وعن أبي رجاء قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار، فإذا هو يسنو فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسل: ما تجعل لي إن أرويت حائطك هذا؟ قال: إني أجهد أن أرويه، فما أطيق ذلك.
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تجعل لي مئة تمرة أختارها من تمرك؟ قال: نعم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغرب، فما لبث أن أرواه، حتى قال الرجل: غرقت حائطي. فاختار(2/153)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تمره مئة تمرة قال: فأكل هو وأصحابه حتى شبعوا ثم رد عليه مئة تمرة كما أخذها منه. وعن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً فقال: هل من ماء، هل من شن؟ قال: فجاؤوا بشنٍّ فوضع بين يديه، فوضع يده عليه السلام وفرق أصابعه، فنبع الماء من بين أصابع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا بلال، اهتف بالناس للوضوء، فأقبلوا يتوضؤون من بين أصابع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت همة ابن مسعود الشرب.
فلما توضأ صلى الصبح ثم قعد للناس، فقال: أيها الناس، من أعجب الخلق إيماناً؟ قالوا: الملائكة، قال عليه السلام: وكيف لا يؤمن الملائكة وهم يعلمون الأمر؟ قالوا: فالنبيون يا رسول الله، قال: وكيف لا يؤمن النبيون والوحي ينزل عليهم من السماء. قالوا: فأصحابك يا رسول الله، قال: وكيف لايؤمن أصحابي وهم يرون ما يرون؟ ولكن أعجب الناس إيماناً قوم يجيئون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني، ويصدقوني ولم يروني. أولئك إخواني. وعن ابن عباس قال: أصبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم، وليس في العسكر ماء، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ليس في العسكر ماء، قال: هل عندك شيء؟ قال: نعم، قال: فائتني به. قال: فأتاه بإناء فيه شيء من ماء قليل، قال: فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصابعه على فم الإناء، وفتح أصابعه قال: فانفجرت من بين أصابعه عيون، وأمر بلالاً، فقال: نادِ في الناس: الوضوء المبارك. وعن أنس: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان بالزوراء فأتي بإناء فيه ماء، لا يغمر أصابعه أو قال: ما يواري أصابعه فأمر أصحابه أن يتوضؤوا، ووضع كفه في الماء، فجعلنا نرى الماء ينبع من بين أصابعه حتى توضأ القوم. قلنا لأنس: كم كنتم يومئذ؟ قال: ثلاث مئة أو زهاء ثلاث مئة.(2/154)
وعن أبي قتادة قال: خطبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إنكم ستسيرون عشيتكم وليلتكم وتأتون الماء إن شاء الله غداً. فانطلق الناس لا يلوي أحد على أحد. قال أبو قتادة: فبينما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسير حتى ابهار الليل، وأنا إلى جنبه. قال: فنعس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمال عن راحلته، فأتيته، فدعمته من غير أن أوقظه، حتى اعتدل على راحلته، ثم سار حتى ابهار الليل، فمال عن راحلته. قال: ثم سار حتى إذا كان من آخر السحر مال ميلة هي أشد من الأوليين حتى كاد أن ينجفل فأتيته فدعمته فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قال: أبو قتادة. قال: متى كان هذا مسيرك مني؟ قلت: مازال هذا مسيري منك الليلة، فقال: حفظك الله بما حفظت به نبيه، قال: هل ترانا نخفى على الناس؛ ثم قال: هل ترى من أحد؟ قلت: هذا راكب، ثم قلت: هذا راكب آخر حتى اجتمعنا، فكنا سبعة ركب فعدل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الطريق فوضع رأسه ثم قال: احفظوا علينا صلاتنا. قال: وكان أول من استيقظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والشمس في ظهره، فقمنا فزعين ثم قال: اركبوا فركبنا، فسرنا حتى ارتفعت الشمس نزل، ثم دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء. قال: فتوضأ منها وضوءاً دون وضوء. قال: وبقي فيها شيء من ماء. قال: ثم قال لأبي قتادة: احفظ علينا ميضأتك فسيكون لها نبأ. ثم أذن بلال للصلاة، فصلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعتين ثم صلى الغداة، فصنع كما كان يصنع كل يوم.
قال: وركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وركبنا معه. قال: فجعل بعضنا يهمس إلى بعض: ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا. قال: أما لكم فيّ أسوة حسنة؟ ثم قال: إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى.
فمن فعل ذلك فليصلها حتى ينتبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها، ثم قال: ما ترون الناس صنعوا؟ ثم قال: أصبح الناس فقدوا نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال أبو بكر وعمر: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعدكم لم يكن ليخلفكم، وقال الناس: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أيديكم، فإن تطيعوا أبا بكر وعمر ترشدوا، وقال: فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار(2/155)
وحمي كل شيء وهم يقولون: يا رسول الله، هلكنا عطشاً، قال: لا هلك عليكم ثم قال: أطلقوا لي غمري. قال: ودعا بالميضأة فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصب، وأبو قتادة يسقيهم. قال: فلم يعد أن رأى الناس ما في الميضأة فتكابّوا عليها. فقال رسول الله: أحسنوا الملا، كلكم سيروى. قال: ففعلوا، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصب ويسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فعرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: اشرب، فقلت: لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله. قال: إن ساقي القوم آخرهم. قال: فشربت وشرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأتى الناس الماء جامين رواء. قال عبد الله بن رباح: إني لأحدث بهذا الحديث في المسجد الجامع إذ قال عمران بن حصين: انظر أيها الفتى كيف تحدث عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني أحد الَّركب تلك الليلة. قال: قلت: فأنت أعلم بالحديث. قال: فقال: ممن أنت؟ قلت: من الأنصار. قال: حدث فأنت أعلم بحديثكم. قال: فحدثت القوم فقال عمران بن حصين: لقد شهدت تلك الليلة، وما شعرت أن أحداً حفظه كما حفظته. وعن عمران بن حصين قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنا أسرينا ليلةً حتى إذا كان في آخر الليل وقعنا تلك الوقعة، ولا وقعة أحلى عند المسافر منها. قال: فما أيقظنا إلا حر الشمس، قال: وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء ونسيهم عوف قال: ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نام لم يوقظ حتى يستيقظ، لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه، فلما استيقظ عمر بن الخطاب رأى ما أصاب الناس. قال: وكان رجلاً أجوف جليداً. قال: فكبر ورفع صوته بالتكبير حتى استيقظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما استيقظ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكوا إليه الذي أصابهم. قال: لا ضير أو لا يضير ارتحلوا. قال:(2/156)
فارتحلوا، فسار غير بعيد، ثم نزل فدعا بوضوء فتوضأ، ثم نودى بالصلاة فصلى بالناس. فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل معتزل لم يصلِّ مع الناس، فقال: ما يمنعك يا فلان أن تصلي مع القوم؟ قال: يا رسول الله، أصابتني الجنابة ولا ماء.
قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. ثم سار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشتكى إليه العطش، ثم دعا فلاناً وكان يسميهم أبو رجاء ونسيه عوف ودعا علياً فقال: اذهبا وابغيا الماء. قال: فانطلقنا فتلقينا امرأة بين مزداتين أو سطيحتين، فقالا لها: أين الماء؟ قالت: عهدي بالماء أمس هذه الساعة ونفرنا خلوف. قال: فقالا: انطلقي. فقالت: إلى أين؟ قالا: إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت: هذا الذي يقال له الصابئ؟ قالا: هو الذي تعنين. فانطلقي، فجاآ بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحدثاه الحديث. قال: فاستنزلها عن بعيرها، ودعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإناء فأفرغ فيه من أفواه المزادتين، أو السطيحتين، ثم أوكأ أفواههما وأطلق العزالي ثم نادى في الناس أن استقوا واسقوا، قال: فسقى من شاء، واستقى من شاء. قال: وكان آخر ذلك أن أعطى من أصابته الجنابة إناء من ماء. قال: اذهب فأفرغه عليك. قال: والمرأة قائمة تنظر ما يفعل بمائها.
قال: وايم الله لقد أقلع عنها حين أقلع، وإنه ليخيل إلينا أنها أشد ملاً منها حين ابتدئ فيها. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجمعوا لها، فجمع لها من بين عجوة ودقيقة وسويقة، حتى جمعوا لها زاداً، فجعلوه في ثوب، فحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتعلمين والله إنا ما رزأناك من مائك شيئاً، ولكن الله هو سقانا. قال: فأتت أهلها، وقد احتبست عليهم فقالوا: ما حبسك يا فلانة؟ قالت: العجب، أتاني رجلان فذهبا بي إلى الذي يقال له الصابئ ففعل بمائي كذا وكذا، بالذي قد كان. فوالله إنه لأسحر من بين هذه وهذه بأصبعيها الوسطى والسبابة، ترفعها إلى السماء تعني السماء والأرض، أو أنه لرسول الله حقاً. قال: فكان المسلمون يغيرون على المشركين حولها ولا يصيبون الصرم الذي هي فيه. فقالت تومئ لقومها: ما أرى هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، هل لكم في الإسلام فأطاعوها، فجاؤوا جميعاً فدخلوا في الإسلام.(2/157)
وعن ثابت قال: قلت لأنس: حدثني بشيء من هذه الأعاجيب لا تحدثه عن غيرك قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوماً الظهر بالمدينة، ثم أتى المقاعد التي كان يأتيه عليها جبريل، فقعد عليها، فجاء بلال فنادى بالعصر، فقام من له أهلٌ بالمدينة يتوضؤون فيقضون حوائجهم، وبقي رجال من المهاجرين، لا أهل لهم بالمدينة، فأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقدح رحراح وقال ابن المقرئ: أروح فيه ماء فوضع أصابعه في القدح، فما وسع أصابعه كلها، فوضع هؤلاء الأربع وقال: هلموا، فتوضؤوا أجمعون، فقلت لأنس: كم تراهم؟ قال: ما بين السبعين إلى الثمانين. وفي رواية: فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه. وعن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ حصيات في يده، فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد أبي بكر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عمر فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في يد عثمان فسبحن حتى سمعنا التسبيح، ثم صيرهن في أيدينا رجلاً رجلاً فما سبحت حصاة منهنّ.
وعن أنس: أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة من بابٍ كان نحو دار القضاء، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم على المنبر يخطب، فاستقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائماً ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله أن يغيثنا. قال: فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحابٍ ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيتٍ ولا دار، فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس. فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال أنس: فلا والله ما رأينا السماء سبتاً. قال: ثم دخل رجل(2/158)
من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم يخطب، فاستقبله قائماً فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا. قال: فرفع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية، ومنابت الشجر. قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس. قال شريك: فسألت أنساً: أهو الرجل الأول فقال: لا أدري. وفي رواية: فتقشعت على المدينة فجعلت تمطر حواليها. قال: ولقد رأيت المدينة وإنها لفي مثل الإكليل. وعن أنس بن مالك قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، والله لقد أتيتك وما لنا بعير يئطّ، ولا صبي يصطبح وأنشده: الطويل
أتيناك والعذراء تدمى لثاتها ... وقد شغلت أمُّ الصبيِّ عن الطفل
وألقى بكفيه الفتى استكانةً ... من الجوع ضعفاً ما يمرُّ وما يحلى
ولا شيء مما يأكل الناس عندنا ... سوى الحنظل العاميّ والعلهز الفسل
وليس لنا إلاّ إليك فرارنا ... وأين فرار الناس إلاّ إلى الرسل
قال: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يجر رداءه حتى صعد المنبر، ثم رفع يديه نحو السماء، وقال: " اللهم اسقنا غيثناً مغيثاً، مرئياً مريعاً، غدقاً طبقا عاجلاً غير(2/159)
رائث، نافعاً غير ضار، تملأ به الضرع، وتنبت الزرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، " وكذلك تخرجون ". قال: فوالله ما ردّ يديه إلى نحره حتى ألقت السماء بأرواقها، وجاء أهل البطانة يصيحون: يا رسول الله، الغرق الغرق، فرفع يديه إلى السماء وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا "، فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بانت نواجذه ثم قال: " لله درّ أبي طالب، لو كان حياً قرت عيناه، من ينشدنا قوله "؟ فقام علي بن أبي طالب وقال: يا رسول الله، كأنك أردت: الطويل
وأبيض يستسقي الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمةٌ للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
كذبتم وبيت الله يبزى محمدٌ ... ولما نقاتل دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
قال: وقام رجل من كنانة فقال: المتقارب
لك الحمد والحمد ممن شكر ... سقينا بوجه النبي المطر
دعا الله خالقه دعوةً ... إليه وأشخص منه البصر
فلم يك إلاّ كإلقا الرداء ... أو أسرع حتى رأينا الدِّرر
دفاق العزاليّ جمّ البعاع ... أغاث به الله علينا مضر
وكان كما قاله عمه ... أبو طالبٍ أبيضٌ ذو غرر
به الله يسقي بصوب الغمام ... وهذا العيان كذاك الخبر
ومن يشكر الله يلق المزيد ... ومن يكفر الله يلق الغير(2/160)
فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن يك شاعر يحسن فقد أحسنت. حدث جلهمة بن عرفطة قال: إني لبالقاع من نمرة إذ أقبلت عير من أعلى نجد. فلما حاذت الكعبة إذا غلام قد رمى بنفسه من عجز بعير فجاء حتى تعلق بأستار الكعبة، ثم نادى: أيا رب البنيّة، أجرني، وإذا شيخ جندعي عشمة محدود قد جاء، فانتزع يده من أسجاف الكعبة، فقام إليه شيخ وسيم قسيم عليه بهاء الملك، ووقار الحكماء فقال: ما شأنك يا غلام، فأنا من آل الله وأجير من استجار به فقال: إن أبي مات وأنا صغير، وإن هذا استعبدني، وقد كنت أسمع أن لله بيتاً يمنع من الظلم. فلما رأيته استجرت به، فقال له القرشي: قد أجرتك يا غلام. قال وحبس الله يد الجندعي إلى عنقه. قال جلهمة بن عرفطة: فحدثت بهذا الحديث عمرو بن خارجة وكان في قعدد الحي فقال: إن لهذا الشيخ لنبأ، يعني: أبا طالب، قال: فهربت رحلي نحو تهامة، اكسع بها الخدود، وأعلو بها الكذّان حتى انتهيت إلى المسجد الحرام وإذا قريش عزين قد ارتفعت لهم ضوضاء يستسقون، فقائل منهم يقول: اعمدوا للاّت والعزىّ، وقائل منهم يقول: اعمدوا لمناة الثالثة الأخرى. فقال شيخ وسيم قسيم حسن الوجه: حبّذا الرأي، أنى تؤفكون وفيكم باقية إبراهيم وسلالة إسماعيل! قالوا له: كأنك عنيت أبا طالب، قال: إنها. فقاموا بأجمعهم وقمت معهم، فدفعنا عليه بابه، فخرج إلينا رجل حسن الوجه مضفر، عليه إزار قد اتشح به، فثاروا إليه فقالوا: يا أبا طالب، أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلمَّ، فاستسق، فقال: دونكم زوال الشمس، وهبوب الريح. فلما زاغت الشمس أو كادت خرج أبو طالب(2/161)
ومعه غلام كأنه شمس دجن تجلت عنه سحابة قتماء وحوله أغيلمة، فأخذه أبو طالب، فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأصبعة الغلام، وبصبصت الأغيلمة حوله وما في السماء قزعة، فأقبل السحاب من هاهنا وهاهنا، وأغدق واغدودق، وانفجر له الوادي، وأخصب البادي والنادي. ففي ذلك يقول أبو طالب: الطويل
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ربيع اليتامى عصمةٌ للأرامل
يطيف به الهلاّك من آل هاشمٍ ... فهم عنده في نعمةٍ وفواضل
وميزان عدلٍ لا يخيس شعيرةً ... ووزان صدقٍ وزنه غير عائل
وعن أبي عبد الرحمن الفهري قال: كنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة حنين، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر، فنزلنا تحت ظلال الشجر، فلما زالت الشمس لبست لأمتي، وركبت فرسي، فانطلقت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في فسطاطه فقلت: السلام عليك يا رسول الله، ورحمة الله، حان الرواح؟ فقال: أجل، فقال: يا بلال، فثار من تحت شجرة كأنّ ظلِّه ظل طائر فقال: لبيك وسعديك وأنا فداؤك، فقال: أسرج لي فرسي، فأخرج سرجاً دفتاه من ليفٍ فيهما أشر ولا بطر. قال: فأسرج. قال: فركب وركبنا فصاففناهم عشيتنا، فلبثنا، وتسامت الخيلان، فولى المسلمون مدبرين كما قال الله عز وجل، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عباد الله، أنا عبد الله ورسوله ثم قال: يا معشر المهاجرين، أنا عبد الله ورسوله. قال: ثم اقتحم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن فرسه فأخذ كفاً من تراب، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني: ضرب به وجوههم. قال: شاهت الوجوه، فهزمهم الله. قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: لم يبق منا إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض كإمرار الحديد على الطست الحديد.(2/162)
وعن أبي زيد بن أخطب قال: مسح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسي ولحيتي وقال: اللهم جمله، وأدم جماله، فلقد عاش بضعاً ومئة سنة. وما شاب رأسه ولحيته إلا نبذاً، ولقد كان وجهه منبسطاً لم ينقبض. وعن عكاشة بن محصن قال: انقطع سيفي في يوم بدر فأعطاني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوداً، فإذا هو سيف أبيض طويل، فقاتلت فيه حتى هزم الله المشركين. فلم يزل عنده حتى هلك. وعن عائذ بن عمرو قال: أصابتني رمية وأنا أقاتل بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، في جبهتي. فلما سالت الدماء على وجهي ولحيتي وصدري تناول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، فسكت ذلك الدم عن وجهي وصدري إلى ثندوتي ثم دعا لي قال: حسرح، كان يصف لنا من أثر يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منتهى ما كان يقول لنا، صدره فإذا غرة سائلة كغرة الفرس. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هل ترون قبلتي هاهنا، فوالله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم، إني لأراكم من وراء ظهري ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إني لأبصر من ورائي كما أبصر من بين يدي ". وعنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال للناس: " أحسنوا صلاتكم، فأني أراكم خلفي كما أراكم قدامي ".
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرى بالليل في الظلمة كما يرى بالنهار في الضوء. وعن عبد الله بن سرجس قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو جالس في أصحابه فدرت من خلفه، فعرف الذي أريد(2/163)
فألقى الرداء عن ظهره، فرأيت موضع الخاتم على نغض كتفه مثل الجمع حوله خيلان كأنها الثآليل، فرجعت حتى استقبلته، فقلت غفر الله لك يا رسول الله، فقال: ولك، فقال القوم: استغفر لك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، ولكم، ثم تلا الآية: " واستغفر لذنبك وللمؤمنين ". وعن جابر بن سمرة قال: رأيت خاتم النبوة بين كتفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كأنه بيضة حمامة. وعن السائب بن زيد قال: ذهبت بي خالتي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن ابن أختي وجع، فمسح برأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضأ فشربت من وضوئه، ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى أثر خاتمه بين كتفيه مثل زرّ الحجلة. وعن غياث البكري قال: كنا نجالس أبا سعيد الخدري بالمدينة، فسألته عن خاتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان بين كتفيه، فقال بأصبعه السبابة: هكذا، لحم ناشز بين كتفيه. وفي رواية قال: كان بضعة لحم على لون جسده. وعن ابن عمر قال: كان خاتم النبوة على ظهر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثل السرقة من لحم، عليه مكتوب: محمد رسول الله.(2/164)
ذكر إثبات شفاعته لأهل الكبائر من أمته
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته واختبأتُ دعوتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله يوم القيامة لمن مات لا يشرك بالله شيئاً ". وحدث أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أن لكل نبي شفاعة ودعوةً دعا بها في أمته فاستجيب له. وإني أريد إن شاء الله أن أدّخر دعوتي لأمتي يوم القيامة ". وعن أبي هريرة: في قول الله عز وجل: " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ". قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي ". وعن ابن عباس: في قوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً " قال: المقام المحمود: مقام الشفاعة. وعن أبي هريرة قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلت: يا رسول الله، ماذا ردّ إليك ربك في الشفاعة؟ قال: "(2/165)
والذي نفس محمد بيده، لقد ظننت أنك أول من يسألني من ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم، والذي نفس محمد بيده، لما يهمني من انقصافهم على أبواب الجنة أهم عندي من تمام شفاعتي لهم، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصاً، وأن محمداً رسول الله، يصدق لسانه قلبه، وقلبه لسانه ".
وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ". وعن معبد بن هلال العنزي قال: اجتمع رهط من أهل البصرة، وأنا فيهم، فأتينا أنس بن مالك وتشفعنا إليه بثابت البناني، فدخلنا عليه، فأجلس ثابتاً معه على السرير فقلت: لا تسلوه عن شيء غير هذا الحديث، فقال ثابت: يا أبا حمزة، إخوانك من أهل البصرة جاؤوا يسألونك عن حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشفاعة، فقال: حدثنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم في بعض، فيؤتى آدم فيقولون: يا آدم، اشفع لذريتك، فيقول: لست لها، ولكن ائتوا إبراهيم، فإنه خليل الله، فيؤتى إبراهيم فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيؤتى موسى صفوة الله فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيؤتى عيسى فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأوتى فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي عز وجل، فيؤذن لي عليه فأقوم بين يديه مقاماً، فيلهمني فيه محامد لا أقدر عليها الآن، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له(2/166)
ساجداً، فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أي ربِّ، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق فمن كان في قلبه مثقال برة أو مثقال شعيرة من إيمان فأخرجه.
فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال: يا محمد، ارفع رأسك وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: أي ربِّ، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه ذرة أو مثقال خردلة من إيمان فأخرجه منها، فأنطلق فأفعل، ثم أرجع، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفَّع، فأقول: أي ربِّ، أمتي أمتي، فيقال لي: انطلق، فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال خردلة من إيمان فأخرجه من النار. فلما رجعت من عند أنس قلت لأصحابي: هل لكم في الحسن؟ وهو مستخف في منزل أبي خليفة في عبد القيس. فأتيناه فدخلنا عليه، فقلنا: جئنا من عند أخيك أنس، فلم نسمع مثل ما حدثنا به في الشفاعة. قال: كيف حدثكم؟ قال: فحدثناه الحديث حتى إذا بلغنا قال: هيه. قلنا: لم يزدنا على هذا. قال: قد حدثنا هذا الحديث، وهو جميع، حدثني منذ عشرين سنة، ولقد ترك شيئاً، فلا أدري أنسي الشيخ أم كره أن يحدثكموه فتتكلوا، حدثني.. ثم قال في الرابعة: ثم أعود فأخر له ساجداً، ثم أحمد بتلك المحامد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: أي ربِّ، ائذن فيمن قال لا إله إلا الله، بها صادقاً. قال: فيقول: ليس لك، وعزتي وكبريائي وعظمتي. لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قال: فأشهد على الحسن لحدثنا بهذا الحديث يوم حدثنا به أنس. وعن أنس بن مالك قال: حدثني نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط إذ حياني عيسى. قال: فقال: هذه الأنبياء عليهم السلام قد جاءتك يا محمد ينسلون أو قال: يجتمعون إليك، فيدعون الله عز وجل أن يفرق جميع الأمم إلى حيث يسأل الله عز وجل لغم ما هم فيه، والخلق ملجمون في العرق.
فأما المؤمن فهو عليه كالزُّكمة. وأما الكافر فيغشى من الموت، قال: قال عيسى عليه السلام: انتظر حتى أرجع إليك، قال: ذهب نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام تحت العرش فلقي ما لم يلق ملك مصطفى، ولا نبي مرسل فأوحى الله تبارك وتعالى إلى جبريل عليه السلام أن اذهب إلى محمد فقل له. ارفع رأسك. سل تعط. واشفع تشفع. قال: فشفعت في أمتي أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنساناً واحداً. قال: فما زلت أتردد على(2/167)
ربي، فلا أقوم منه مقاماً إلا شفعت، حتى أعطاني الله عز وجل من ذلك أن قال: يا محمد، أدخل من أمتك من خلق الله من شهد أنه لا إله إلا الله يوماً واحداً، مخلصاً، ومات على ذلك ".
وعن ابن عمر قال: تصير الأمم جثىً، كل أمة مع نبيها فيجيء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أمته فيؤتى بهم على كوم مشرف على الأمم كلها فيقال: يا فلان: اشفع فيردها بعضهم إلى بعض حتى ينتهوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذلك قوله: " عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ". وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم. وقال: إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن. فبينما هم كذلك استعانوا بآدم فيقول: لست صاحب ذلك، ثم يأتون موسى فيقول كذلك، ثم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمده أهل الجمع كلهم ". وعن أبي نضرة قال: سمعت ابن عباس يخطب على منبر البصرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنه لم يكن نبي إلا وله دعوة ينجزها في الدنيا، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وأول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد، فآدم ومن دونه تحت لوائي يوم القيامة ولا فخر، ويطول يوم القيامة على الناس ويشتد حتى يقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى أبينا آدم أبي البشر ليشفع لنا إلى ربه، فيقضي بيننا، فينطلقون إلى آدم فيقولون: يا آدم، اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا، فيقول آدم: لست هناكم، إني أخرجت من الجنة بخطيئتي، وإنه لا يهمني اليوم إلا(2/168)
نفسي، ولكن ائتوا نوحاً، فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح، اشفع لنا إلى ربك فيقضي بيننا، فيقول: لست هناكم، إني دعوت دعوة أغرقت أهل الأرض، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول: لست هناكم، إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات قوله: " إني سقيم " وقوله: " بل فعله كبيرهم هذا " وقوله للملك حين مر به فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والله ما أرد بهن إلا عزة لدين الله فإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ولكن ائتوا موسى عبداً اصطفاه الله برسالته وكلمه، فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول: إني لست هناكم، إني قتلت نفساً بغير نفس، وإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا فيقول: إني لست هناكم، إني اتخذت إلهاً من دون الله، فإنه لا يهمني اليوم إلا نفسي، أرأيتم لو كان متاع في وعاء مختوم كان يقدر على ما فيه حتى يفض الخاتم؟ فيقولون: لا، فيقول: فإن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم النبيين وقد حضر، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون فيقولون: يا محمد، اشفع لنا إلى ربك فليقض بيننا، فأقول: أنا لها حتى يأذن الله لمن يشاء ويرضى. فإذا أراد الله أن يقضي من خلقه نادى منادٍ: أين أحمد وأمته؟ أين أحمد وأمته؟ فيجيئون فنحن الأولون الآخرون، آخر من يبعث وأول من يحاسب، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا، فنمضي غراً محجلين من آثار الطهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمم أن تكون أنبياء كلها ".
وعن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها، قال: ويبقى منبري لا أجلس عليه أو قال: لا أقعد عليه قائماً بين يدي ربي، منتصباً بأمتي مخافة أن يبعث بي إلى الجنة، وتبقى أمتي بعدي، فأقول: يا رب، أمتي أمتي. قال: فيقول الله عز وجل: يا محمد، وما تريد أن أصنع بأمتك؟ فأقول: يا رب، عجل حسابهم فيدعى بهم فيحاسبون، فنمهم من يدخل الجنة برحمة الله، ومنهم من يدخل الجنة بشفاعتي، فما أزال(2/169)
أشفع حتى أعطى صكاكاً برجال قد بعث بهم إلى النار، حتى إن مالكاً خازن النار يقول: يا محمد، ما تركت النار لغضب ربك في أمتك من نقمة ".
وعن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أعطيت خمساً ولا أقول فخراً: بعثت إلى الأحمر والأسود. وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً. وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد كان قبلي. ونصرت بالرعب، يسير من أمامي مسيرة شهر. وأعطيت الشفاعة، وادخرتها لأمتي إلى يوم القيامة. وهي إن شاء الله نائلةٌ من لا يشرك بالله شيئاً ". وعن أبي سعيد الخدري قال: سمعت نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ألا كل نبي أعطي عطية فتنجزها، وإني اختبأت عطيتي شفاعةً لأمتي يوم القيامة ". وعن عبد الله قال: أول من يشفع روح القدس جبريل ثم إبراهيم ثم موسى، ثم يقوم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رابعاً فيشفع فيما لا يشفع فيه أحد سواه. وعن عبد الله قال: يعذب الله قوماً من أهل الإيمان فتخرجهم شفاعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يبقى منهم إلا من ذكر الله منهم في القرآن: " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين " إلى قوله: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين " ثم قال: هؤلاء الذين لا تنفعهم شفاعة الشافعين. وعن عبد الله بن مسعود: يشفع نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رابع أربعة: جبريل ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه نبيكم، ثم النبيون ثم الصديقون ثم الشهداء. ويبقى قوم في جهنم فيقال لهم: " ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين " وإلى قوله: " فما تنفعهم شفاعة الشافعين ".(2/170)
قال ابن مسعود: فهؤلاء الذين يبقون في جهنم. وعن ابن عباس: في قوله عز وجل: " ولسوف يعطيك ربك فترضى ". قال: رضاه أن يدخل أمته كلهم الجنة.(2/171)
ما ضرب لنفسه من المثل وما ظهر من الإكمال للدين ببعثه
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون غيرها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، فتم بي البنيان، وختم بي الرسل ". وفي حديث آخر: " فأنا ذلك خاتم النبيين ولا نبي بعدي ". وعن جابر بن عبد الله قال: جاءت الملائكة إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نائم، فقال بعضهم لبعض: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: إن مثله كمثل رجل بنى داراً فجعل فيها مأدبة، وبعث داعياً: من أجاب الدعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة فقالوا: أوِّلوها له يفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان. قالوا: فالدار: الجنة، والداعي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن أطاع محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد أطاع الله ومن عصى محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد عصى الله، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق بين الناس. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مثلي كمثل رجل استوقد ناراً.
فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه ويتقحمن فيها، فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقتحمون فيها ".(2/172)
وعن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن مثل ما آتاني الله عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يعقل هدى الله الذي أُرسلت به ". وعن أبي موسى أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن مثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال: أني رأيت الجيش، يعني: وإني النذير، فالنجاء، فأطاعه طائفة من قومه، فارتحلوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبت طائفة منهم، فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثلي ومثل من أطاعني واتبع ما جئت به، ومثل من عصاني وكذّب بما جئت به من الحق ".
وروي عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قومٍ سلكوا مفازةً غبراء لا يدرون، ما قطعوا منها أكثر أم ما بقي منها؟ فحسر ظهرهم، ونفد زادهم، وسقطوا بين ظهراني المفازة، وأيقنوا بالهلكة، فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا: إن هذا لحديث العهد بالريف، فانتهى فقال: ما لكم يا هؤلاء؟ قالوا: ما ترى. حسر ظهرنا، ونفد زادنا، وسقطنا بين ظهراني المفازة، لا ندري ما قطعنا منه أكثر أم ما بقي علينا؟ قال: ما تجعلون لي إن أوردتكم ماء رواء ورياضاً خضراً؟ قالوا: نجعل لك حكمك. قال: تجعلون لي عهودكم ومواثيقكم ألا تعصوني؟ قال: فجعلوا له عهودهم ومواثيقهم ألا يعصوه، فمال بهم فأوردهم رياضاً خضراً وماء روىً. فمكث يسيراً ثم قال: هلموا إلى رياض أعشب من رياضكم وماء أروى من مائكم فقال رجلٌ من القوم: ما قدرنا على هذا حتى كدنا ألا نقدر عليه، وقالت طائفة منهم: ألستم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقكم ألا تعصوه، وقد صدقكم في أول حديثه، وآخر حديثه مثل أوله، فراح وراحوا معه، فأوردهم رياضاً خضراً وماء روىً، وأتى الأخرى العدو من تحت ليلتهم فأصبحوا بين قتيل وأسير ".(2/173)
ذكر إعزازه بالهجرة إلى المدينة
عن جرير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن الله تبارك وتعالى أوحى إلي: أي هؤلاء البلاد الثلاث نزلت فهي دار هجرتك: المدينة أو البحرين أو قنسرين ". قال أهل العلم: ثم عزم له على المدينة، فأمر أصحابه بالهجرة إليها. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُلمّ بمكة ثم أمر بالهجرة وأنزل عليه: " وقل رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ". وعن ابن عباس: في قوله تعالى: " وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ". قال: تشاورت قريش بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح أثبتوه بالوثاق، يريدون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال بعضهم: اقتلوه، وقال بعضهم: بل أخرجوه، فأطلع الله نبيه عليه السلام على ذلك، فبات علي على فراش النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلك الليلة، وخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون علياً، يحسبون أنه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما أصبحوا ثاروا إليه. فلما رأوا علياً ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟! قال: لا أدري، فاقتصوا أثره. فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل، فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج(2/174)
العنكبوت، فقالوا: لو دخل ههنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثاً.
وعن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين. ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طرفي النهار بكرة وعشياً. فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنّة وهو سيد القارة. فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، أريد أن أسيح في الأرض، فأعبد ربي عز وجل، فقال له ابن الدغنّة: فإن مثلك لا يُخرج، ولا يخرج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، فارجع فاعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة. فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش فقال لهم: إن أبا بكر لا يُخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! فلم تكذب قريش جوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مُر أبا بكر فليتعبد في داره، وليصل فيها، وليقرأ فيها ما شاء، ولا يؤذنا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخشى أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فقال ابن الدغنة ذلك لأبي بكر.
فلبث أبو بكر بذلك يعبد الله في داره، ولا يستعلن بصلاته ولا بقراءته في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فيقف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، فيتعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة، فقدم عليهم فقالوا: إنا كنا أجزنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد جاوز ذلك، فابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن بالصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا ونساءنا، فانهه، فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك فسله أن يرد إليك ذمتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقري لأبي بكر الاستعلان.(2/175)
قالت عائشة: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاهدت لك عليه، فأما أن تقتصر، وإما أن ترجع إلي ذمتي، فإني لا أحب تسمع العرب أني أُخفرت في رجلٍ عقدت له. فقال أبو بكر فإني أردّ إليك جوارك، وأرضى بجوار الله تبارك وتعالى. ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بمكة قد قال للمسلمين: قد رأيت أرض هجرتكم، أُريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قبل المدينة فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: على رسلك، فإني أرجو أن يؤذن لي. فقال أبو بكر: هل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للصحبة، وعلف راحلتين كانتا عنده، ورق السمر وهو الخبط أربعة أشهر. قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منقبعاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر.
قالت: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستأذن، فأُذن له فدخل، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فإني قد أُذن لي في الخروج. قال أبو بكر: للصحابة، بأبي وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم. فقال أبو بكر: فخذ بأبي أنت إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بالثمن. قالت عائشة: فجهزتهما أحث الجهاز، وصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنة أبي بكر نطاقها قطعتين، فربطت به على فم الجراب فبذلك سميت ذات النطاقين. ثم لحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر بغارٍ في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب لقن ثقيف فيدلج من عندهما السحر، فيصبح مع قريشٍ كبائبٍ،(2/176)
ولا يسمع أمراً إلا وعاه، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولىً لأبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين يذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل: وهو لبن منحتهما، حتى ينعق عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث. فاستأجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر رجلاً من بني الدئل وهو ابن عبد العزى بن عدي هادياً خرّيتاً والخريت: الماهر بالهداية قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليالٍ، فأتاهما براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، وأخذ بهم طريق الساحل. وفي حديث آخر: فحدث عن أسماء بنة أبي بكر أنها قالت: لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت إليهم، فقال: أين أبوك يا بنة أبي بكر؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي؟ قالت: فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة، فخرج منها قرطي. قالت: ثم انصرفوا، فمكثنا ثلاث ليالٍ، ما ندري أين توجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يغني بأبيات من شعر غناء العرب، وإن الناس ليتبعونه فيسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج من أعلى مكة يقول: الطويل
جزى الله ربُّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبرِّ وارتحلا به ... وأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا صوته عرفنا حيث وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأن وجهه إلى المدينة، وكانوا أربعة: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وعبد الله بن أُريقط دليلهما.(2/177)
وروى زيد بن أرقم بن شعبة وأنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الغار أمر الله شجرة فخرجت في وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستره، وأن الله بعث العنكبوت فنسجت ما بينهما، فسترت وجه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر الله حمامتين وحشيتين فأقبلا يدفان حتى وقعا بين العنكبوت وبين الشجرة. وأقبلت فتيان من قريش، من كل بطن منهم رجل، ومعهم عصيهم وقسيهم وهراوتهم حتى إذا كانوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قدر مئتي ذراع قال الدليل سراقة بن مالك بن جعشم المدلحجي: هذا الجحر ثم لا أدري أين وضع رجله؟ فقال الفتيان: أنت لم تخط منذ الليلة حتى أصبحنا فقال: انظروا في الغار، فاستقدم القوم حتى إذا كانوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قدر خمسين ذراعاً فإذا الحمامتان فرجع، فقالوا: ما ردك أن تنظر في الغار؟ قال: رأيت حمامتين وحشيتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد، فسمعها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرف أن الله تبارك وتعالى درأ عنهما بهما فسمت عليهما وأخذهما إلى الحرم، فأفرخا كما ترى.
وحدث أبو بكر رضي الله عنه قال: جاء رجل من المركز حتى استقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعورته يبول، قال: قلت: يا رسول الله، أليس الرجل يرانا؟ قال: لو رآنا لم يستقبلنا بعورته. يعني: وهما في الغار. وعن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر يستخفيان في الغار مرّا بعبد يرعى غنماً، فاستسقياه من اللبن، فقال: والله ما لي شاة تحلب، غير أن ههنا عتاقاً حملت أوان الشتاء فما بقي لها لبن، وقد افتجت فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائتنا بها، فدعا عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبركة، ثم حلب عشاء، فسقي أبا بكر، ثم حلب آخر فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال العبد: بالله من أنت؟ ما رأيت مثلك قط، قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو تراك إن أخبرتك تكتم عليّ؟ قال: نعم. قال: إني محمد رسول الله. قال: أنت الذي تزعم قريش أنك صابئ؟ قال: وإنهم ليقولون ذلك. قال: فإني أشهد أنك لرسول الله، وأن ما جئت(2/178)
به حق، وأنه ليس يفعل ما فعلت إلا نبي، ثم قال: أتبعك؟ قال: لا، حتى تسمع أنا قد ظهرنا، فإذا بلغك ذلك فاخرج. فتبعه بعدما خرج من الغار. وعن جابر بن عبد الله قال: لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر مهاجرين فدخلا الغار، فإذا في الغار جحر فألقمه أبو بكر عقبه حتى أصبح، مخافة أن يخرج على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه شيء. فأقاما في الغار ثلاث ليالٍ ثم خرجا حتى نزلا خيمات أم معبد، فأرسلت إليه أم معبد: إني أرى وجوهاً حساناً، وإن الحي أحرص على كرامتكم مني. فلما أمسوا عندها بعثت إليهم مع ابن لها بشفرة وشاة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا غلام، اردد الشفرة وهات لي فرقاً يعني: قدحاً فأرسلت إليه بأن لا لبن فيها ولا ولد. قال: هات لي فرقاً فجاؤوه بقدح، فضرب على ظهرها، فاجترت ودرت، وملأ القدح فنشرب وسقى أبا بكر، ثم حلب، فبعث به إلى أم معبد. وعن أنس بن مالك قال: أقبل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة وهو مردفٌ أبا بكر ويقول: يا أبا بكر، شيخ يعرف، ونبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شاب لا يعرف. قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل، فيحسب الحاسب إنما يهديه الطريق، وإنما يعني سبيل الخير. فالتفت أبو بكر فإذا هو بفارس قد لحقهم فقال: يا نبي الله، هذا فارس قد لحق بنا. قال: فالتفت نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم اصرعه، فصرعه فرسه، ثم قامت تحمحم. قال: ثم قال: يا نبي الله، مرني بما شئت. قال: قف مكانك لا تتركن أحداً يلحق بنا. قال: فكان أول النهار جاهداً على نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان آخر النهار مسلحة له. قال: فنزل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جانب الحرة. ثم بعث إلى الأنصار فجاؤوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسلموا عليهما، وقالوا: اركبا آمنين مطاعين. قال: فركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، وحفوا حولها بالسلاح. قال: فقيل في المدينة: جاء نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستسرعوا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظرون إليه ويقولون: جاء نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأقبل يسير حتى نزل إلى جانب دار أبي أيوب. قال: فإنه ليحدث أهله إذ سمع به عبد الله بن سلام وهو في نخيل لأهله(2/179)
يخترف لهم منه، فعجل أن يضع التي يخترف فيها، فجاء وهي معه، فسمع من نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع إلى أهله.
فقال نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي بيوت أهلنا أقرب؟ قال: فقال أبو أيوب: أنا يا نبي الله، هذه داري وهذا بابي، قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلاً. قال: فذهب فهيأ لهما مقيلاً ثم جاء فقال: يا نبي الله، قد هيأت لكما مقيلاً، قوما على بركة الله فقيلا. فلما جاء نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء عبد الله بن سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقاً، وأنك جئت بحق، ولقد علمت اليهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن عالمهم، فادعهم فسلهم، فدخلوا عليه، فقال لهم نبي الله: يا معشر اليهود، ويلكم اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا الله إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً وإني جئتكم بحق، أسلموا، قالوا: ما نعلمه: ثلاثاً.
وعن سراقة بن جعشم قال: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي أبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتلهما أو أسرهما، فبينا أنا جالس في مجلس من مجالس قومي بني مدلج أقبل رجل منهم حتى قام علينا فقال: يا سراقة، إني رأيت آنفاً أسودة بالساحل أراها محمداً وأصحابه. قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت: إنهم ليسوا بهم ولكن رأيت فلاناً وفلاناً انطلقوا آنفاً. قال: ثم ما لبثت في المجلس ساعة حتى قمت، فدخلت بيتي فأمرت جاريتي أن تُخرج لي فرسي من وراء أكمة فتحبسها عليّ وأخذت رمحي، فخرجت به من ظهر البيت، فحططت برمحي الأرض، وخفضت عالية الرمح حتى أتيت فرسي، فركبتها فترفغتها تقرب بي حتى رأيت أسوديهما.
فلما دنوت منهم حيث أُسمعهم الصوت عثرت بي فرسي، فخررت عنها، فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي، فاستخرجت منها الأزلام، فاستقسمت بها: أضرهم أم لا؟ فخرج الذي أكره ألا أضرهم، فركبت فرسي وعصيت الأزلام، فترفغتها تقرب بي حتى إذا دنوت منهم عثرت بي فرسي، فخررت عنها فقمت، فأهويت بيدي إلى كنانتي، فأخرجت الأزلام فاستقسمت بها، فخرج الذي أكره ألا أضرهم، فعصيت الأزلام، وركبت فرسي فترفغتها تقرب بي، حتى إذا سمعت قراءة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو لا يلتفت، وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يد فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها فزجرتها،(2/180)
فنهضت، فلم تكد تُخرج يديها. فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها عثان ساطع في السماء مثل الدخان. قال معمر: قلت لأبي عمرو بن العلاء: ما العثان؟ فسكت ساعة ثم قال: هو الدخان من غير نار. قال الزهري في حديثه: فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره: ألا أضرهما فناديتهما بالأمان، فوقفوا، وركبت فرسي حتى جئتهم. فوقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أنه سيظهر أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت له: إن قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم من أخبار سفرهم، وما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزوني شيئاً ولم يسألوني إلا أن أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أديم ثم مضى.
وعن جماعة من الصحابة دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: لما رأى المشركون أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد حملوا الذراري والأطفال إلى الأوس والخزرج عرفوا أنها دار منعة، وقوم أهل حلقة وبأس، فخافوا خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاجتمعوا في دار الندوة، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره، وحضرهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في بتّ، فتذكروا أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار كل رجل منهم برأي. كل ذلك يردّه إبليس عليهم، ولا يرضاه لهم(2/181)
إلى أن قال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاماً نهداً جليداً ثم نعطيه سيفاً صارماً، فيضربونه ضربة رجلٍ واحدٍ فيتفرق دمه في القبائل، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك ما تصنع. قال: يقول النجدي: لله در الفتى، هذا والله الرأي، وإلا فلا. فتفرقوا على ذلك، وأجمعوا عليه. وأتى جبريل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره الخبر، وأمره ألا ينام في مضجعه تلك الليلة. وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي بكر فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: للصحابة يا رسول الله؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم، قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت وأمي إحدى راحلتي هاتين. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بالثمن. وكان أبو بكر اشتراهما بثمان مئة درهم من نعم بني قشير. فأخذ إحداهما وهي القصواء، وأمر علياً أن يبيت في مضجعه تلك الليلة، فبات فيه، وتغشى برداً أحمر حضرمياً كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينام فيه. واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صبير الباب فيرصدونه، يريدون بياته فيأتمرون أيهم يحمل على المضطجع صاحب الفراش. فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم جلوس على الباب، فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على روؤسهم ويتلو: " يس والقرآن الحكيم " حتى بلغ: " سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " ومضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال قائل منهم: ما تنظرون؟ قالوا: محمد. قال: خبتم وخسرتم، قد والله مر بكم وذر على رؤوسكم التراب. قالوا: والله ما أبصرناه، وقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، وهم أبو جهل والحكم بن أبي العاص وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وابن العيطلة وزمعة بن الأسود وطعيمة ين عدي وأبو لهب وأبيّ بن خلف ونبيه ومنبّه ابنا الحجاج. فلما أصبحوا قام عليّ عن الفراش فسألوه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لا علم لي به. وجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى منزل أبي بكر فكان فيه إلى الليل. ثم خرج هو وأبو بكر. فمضيا إلى غار ثور فدخلاه، وضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض، وطلبت قريش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد الطلب حتى انتهت إلى باب الغار. فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتاً قبل ميلاد محمد، فانصرفوا، وساق الحديث.(2/182)
وكان خروج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغار ليلة الاثنين لأربع ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول، وقال يوم الثلاثاء بقديد، فلما راحوا منها عرض لهم سراقة بن مالك بن جعشم وهو على فرس له، فدعا عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرسخت قوائم فرسه. فقال: يا محمد، ادع الله أن يطلق فرسي وأرجع عنك، وأرد من ورائي ففعل، فأطلق، ورجع، فوجد الناس يلتمسون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ارجعوا فقد استبرأت لكم ما هاهنا، وقد عرفتم بصري بالأثر، فرجعوا عنه. وسلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخرار ثم جاز ثنية المرة، ثم سلك لقفاً ثم أجاز مدلجة لقف، ثم استبطن مدلجة مجاح ثم سلك مرجح ثم بطن مرجح مجاح، ثم بطن ذات كشر ثم علا الجداجد ثم علا الأذاخر ثم بطن ربع، فصلى به المغرب. ثم ذا سلم ثم أعد مدلجة ثم العثيانة ثم جاز بطن الفاجة ثم هبط العرج ثم سلك في الخذوات ثم في الغائر عن يمين ركوبه، ثم هبط بطن العقيق حتى انتهى إلى الجثجاثة فقال: من يدلنا على الطريق إلى بني عمرو بن عوف ولا يقرب المدينة؟ فتعلل على طريق الظُبَيّ حتى خرج على العصبة.
وكان المهاجرون قد استبطؤوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القدوم عليهم، فكانوا يغدون مع الأنصار إلى ظهر حرّة العصبة فيتحينون قدومه في أول النهار، فإذا أحرقتهم الشمس رجعوا إلى منازلهم. فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ويقال: اثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول جلسوا كما كانوا يجلسون. فلما أحرقتهم الشمس رجعوا إلى بيوتهم، فإذا رجل من يهود يصيح على أُطُم بأعلى(2/183)
صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء. فخرجوا فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الثلاثة، فبعث الرجّة في بني عمرو بن عوف والتكبير، وتلبس المسلمون السلاح. فلما انتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قباء جلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقام أبو بكر يذكر الناس. وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كلثوم بن الهدم وهو الثبت عندنا ولكنه كان يتحدث مع أصحابه في منزل سعد بن خيثمة، وكان يسمى منزل العزّاب، فلذلك قيل نزل على سعد بن خيثمة. قالوا: وأقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببني عمرو بن عوف يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس. وخرج يوم الجمعة فجمّع في بني سالم، ويقال: أقام ببني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة. فلما كان يوم الجمعة ارتفاع النهار دعا براحلته، وحشد المسلمون وتلبسوا السلاح، وركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته القصواء، والناس معه عن يمينه وشماله، فاعترضته الأنصار، لا يمر بدارٍ من دورهم إلا قالوا: هلمّ يا نبي الله إلى القوة والمنعة والثروة فيقول لهم خيراً، ويدعو لهم ويقول: إنها مأمورة. فلما أتى مسجد بني سالم جمّع بمن كان معه من المسلمين وهم مئة. قالوا: ثم ركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناقته وأخذ عن يمين الطريق حتى جاء بلحبلى ثم مضى، حتى انتهى إلى المسجد، فبركت عند مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل الناس يكلمون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النزول عليهم، وجاء أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب فحط رحله وأدخله منزله، فجعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: المرء مع رحله، وجاءه أسعد بن زرارة فأخذ بزمام راحلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت عنده. وهذا الثبت.
قال زيد بن ثابت: فأول هدية دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل أبي أيوب هدية دخلت بها أنا، قصعة مثرودة: خبز وسمن ولبن، أرسلت بهذه القصعة أمي، فقال: بارك الله فيك، ودعا أصحابه، فأكلوا فلم أرم الباب حتى دخلت قصعة سعد بن عبادة: ثريد وعراق، وما كان من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثلاثة والأربعة يحملون الطعام،(2/184)
يتناوبون ذلك حتى تحول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منزل أبي أيوب. قال: وكان مقامه فيه سبعة أشهر. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من منزل أبي أيوب زيد بن حارثة وأبا رافع وأعطاهما بعيرين وخمس مئة درهم إلى مكة، فقدما عليه بفاطمة وأم كلثوم ابنتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسودة بنت زمعة زوجته، وأسامة بن زيد، وكانت رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد هاجر بها زوجها عثمان بن عفان قبل ذلك، وحبس أبو العاص بن الربيع امرأته زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وحمل زيد بن حارثة امرأته أم أيمن مع ابنها أسامة بن زيد، وخرج عبد الله بن أبي بكر معهم بعيال أبي بكر فيهم عائشة، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة بن النعمان.(2/185)
ذكر حروبه وغزواته وسراياه
قال علي بن حسين: كنا نُعلم مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه كما نعلم السورة من القرآن. وعن إسماعيل بن محمد بن سعد قال: كان أبي يعلمنا مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعدها علينا، وسراياه ويقول: يا بني، هذه مآثر آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها. وكان الزهري يقول في علم المغازي: علم الآخرة والدنيا. وعن قتادة قال: غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع عشرة غزوة: واقع فيها يوم بدر. وكان أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ ثلاث مئة وتسع عشرة، والمشركون يومئذ ألف غير خمسين، وكانت بدر في رمضان صبيحة سابع عشرة خلت من رمضان يوم الجمعة بعد هجرته بثمانية عشر شهراً أو ما شاء الله من ذلك وواقع نبي الله يوم أحد. فكان أحد من العام المقبل في شوال يوم السبت لإحدى عشرة ليلة مضت من شوال، وكان أصحابه يومئذ سبع مئة والمشركون ألفين، وما شاء الله من ذلك. وواقع يوم الأحزاب. وكانت بعد أحد بسنتين من هجرته، وأصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما(2/186)
بلغنا ألف، والمشركون أربعة آلاف وما شاء الله من ذلك. وبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لن يغزوكم المشركون بعد اليوم ". ثم كانت غزوة المريسيع، وقديد. واقع فيها نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عام واحد سنة خمس من هجرته. وأما المريسيع فلقي عليه نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خزاعة بني المصطلق. وأما قديد فكان لهذيل. وواقع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر، وذلك في سنة ست من هجرته في ذي القعدة، مرجعه من الحديبية. وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس عشرة مئة. وواقع يوم الفتح سنة ثمان في رمضان، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المهاجرين والأنصار عشرة آلاف أو قريب من ذلك. وواقع نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، وذلك والفتح في عام واحد في شوال، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ اثنا عشر ألفاً من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء من أهل مكة. وغزا نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسع عشرة غزوة. وواقع فيها ثماني غزوات، وهي الثمان التي ذكرناها. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعاً وعشرين سرية، فجميع غزو نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه ثلاث وأربعون غزوة. قال قتادة: مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه ثلاث وأربعون. أربعٌ وعشرون سرية بعثها، وتسع عشرة غزوة خرج فيها. لقي منها ثمانية بنفسه: ببدر والأحزاب والمريسيع وقديد وخيبر وفتح مكة وحنين، والحديبية سنة ست. وبها كانت المتعة، وصده المشركون ومنعوه أن يدخل المسجد الحرام. فنحر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الهدي مكانه، وحلقوا وقصر بعضهم، فاستغفر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين مرة واحدة، وصالح المشركين أن يعتمروا من العام المقبل، فاعتمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسنة سبع، وكان الفتح سنة ثمان.(2/187)
وحج أبو بكر الصديق سنة تسع. وقرأ علي بن أبي طالب على الناس: " براءةٌ من الله ورسوله " " إلى الناس يوم الحج الأكبر " وكان مع أبي بكر. وحج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة عشر، ثم صدر إلى المدينة وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر ربيع الأول. وكان فتح مكة في رمضان سنة ثمان. وقال ابن شهاب: غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدراً والكدر بني سليم. وغزا غطفان بنخل، ثم غزا قريشاً وبني سليم ببحران، ثم غزا يوم أحد، ثم طلب العدو حتى بلغ حمراء الأسد. ثم غزا قريشاً لموعدهم، فأخلفوه، ثم غزا بني النضير الغزوة التي أجلاهم فيها إلى خيبر، ثم غزا تلقاء نجد يريد محارباً وبني ثعلبة، وهي غزوة ذات الرقاع، ثم غزوة دومة، ثم غزوة الخندق، ثم غزوة بني قريظة، ثم غزوة بني المصطلق بالمريسيع، وسبى فيها جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، ثم غزوة ذات السلاسل، ثم كانت غزوة قطن قتل فيها مسعود بن عروة، وغزوة ثنية القردة أصاب فيها عيراً لقريش، وغزوة الجموم تلقاء أرض بني سليم، وغزوة حسمى وغزوة الطرف، وغزوة وادي القرى. وعن جماعة والسياق للبيهقي قال: هذه مغازي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي قاتل فيها: بدر في رمضان سنة اثنتين، ثم قاتل يوم أحد في شوال سنة ثلاث، ثم قاتل يوم الخندق وهو يوم الأحزاب، وبني قريظة في شوال من سنة أربع، ثم قاتل بني المصطلق وبني لحيان في شعبان من سنة خمس، ثم قاتل يوم خيبرمن سنة ست، ثم قاتل يوم الفتح في رمضان سنة ثمان، وقاتل يوم حنين،(2/188)
وحاصر أهل الطائف في شوال سنة ثمان. ثم حج أبو بكر سنة تسع. ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع لتمام سنة عشر. وغزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثنتي عشرة غزوة، ولم يكن فيها قتال، فكانت أول غزوة غزاها الأبواء، وغزوة ذي العشيرة من قبل ينبع يريد كرز بن جابر، وكانت معه قريش. وغزوة بدر الآخرة، وغزوة غطفان، وغزوة الخندق يوم الأحزاب، وغزوة بني سليم بالكُدر، وغزوة بُواط، وغزوة بُحران، وغزوة الطائف، وغزوة الحديبية، وغزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعوثاً، فكان أول بعثٍ بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب نحو قريش، فلقوا بعثاً عظيماً على ماء يدعى أحياء وهو بالأبواء.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن جحش نحو مكة فلقيه عمرو بن الحضرمي بنخلة، فقتله واقد بن عبد الله، وأسروا رجلين من بني مخزوم: عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، ففديا بعدما قدما المدينة. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكباً حتى بلغوا قريباً من سيف البحر من الجار إلى جهينة. فلقوا أبا جهل بن هشام في ثلاثين ومئة راكب من قريش، فحجز بينهم مجديّ بن عمرو الجهني. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا عبيدة الجراح نحو ذي القصة من طريق العراق. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المنذر بن عمرو وقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعنق ليموت إلى بئر معونة، فاستشهدوا جميعاً ومن معه. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد بن حارثة أربع مرات: مرة نحو بني قرد من(2/189)
هذيل، ومرة نحو جذام من نحو الوادي، ومرة نحو مؤتة، وغزوة الجموم من بني سليم. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر بن الخطاب نحو أهل تربة.
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشير بن سعد الأنصاري أخا بني الحارث بن الخزرج نحو بني مرة بفدك. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن أنيس، وأبا قتادة ومسعود بن سنان وأسود بن الخزاعي فقتلوا رافع بن أبي الحَقيق وفي رواية: أبا رافع بن أبي الحقيق وهو الصواب بخيبر. وأمرهم عبد الله بن عتيك فقدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الجمعة، وهو على المنبر، فلما رآهم قال: أفلحت الوجوه. قالوا: أفلح وجهك يا رسول الله. قال: أقتلتموه؟ قالوا: نعم. فدعا بالسيف الذي قتل به فسله وهو قائم على المنبر، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجل هذا طعامه في ذباب السيف. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعب بن عُمير نحو ذات أطلاح من البلقاء فأصيب كعب ومن معه. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن العاص نحو السلال من مشارف الشام. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسامة بن زيد نحو وادي القرى يوم قتل مسعود بن عروة. وليس هو الثقفي. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علياً كرم الله وجهه فأصيب بنو بكر بالكديد. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى القرطاء من هوزان. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبي العوجاء قبل بني سليم فقتل بها ابن أبي العوجاء.(2/190)
وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عكاشة بن محصن نحو الغمرة. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاصم بن الأفلح نحو هُذيل. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سعد بن أبي وقاص إلى الحجاز وهو الخرّار.
وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتمر ثلاث عُمر: اعتمر من الجحفة عام الحديبية وفي رواية: من ذي الحليفة عام الحديبية فصده الذين كفروا في ذي القعدة سنة ستٍ، واعتمر العام المقبل في ذي القعدة سنة سبع آمناً هو وأصحابه، ثم اعتمر الثالثة في ذي القعدة سنة ثمان يوم أقبل من الطائف من الجِعرانة. قال عبيد الله بن أبي زياد: هذا كتاب ما ذكرنا لنا محمد بن مسلم الزهري مما سألناه عنه من أول مخرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فذكر صدراً من الحديث وقال: فكان أول مشهد شهده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر، ورئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس. فالتقوا ببدر يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، وأصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون بين الألف والتسع مئة، فكان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الحق والباطل، فكان أول قتيل قتل يومئذ من المسلمين مهجع مولى عمر بن الخطاب. ثم كانت غزوة بني النَّضير، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكان منزلهم ونخلهم بناحية المدينة. فحاصر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى نزلوا على الجلاء، وعلى أنّ لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلا الحلقة وهو السلاح. فأجلاهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الشام. فأنزل الله عز وجل فيهم من أول سورة الحشر إلى قوله: " وليُخزي الفاسقين ".(2/191)
ثم كانت وقعة أحد في شوال على رأس ستة أشهر من وقعة بني النضير، ورئيس المشركين يومئذ أبو سفيان بن حرب. فلما نزل أبو سفيان بالمشركين أحداً قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه: إني رأيت الليلة أني في درع حصينة. وإني أوّلتها المدينة، فاجلسوا في صنعكم وقاتلوا من ورائه، وكانوا قد سكّوا أزقة المدينة بالبنيان، فقال رجال من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكونوا شهدوا بدراً: يا رسول الله، اخرج بنا إليهم. فلم يزالوا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دعا بلأمته فلبسها، فلما لبس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته قال: أما إني أظن الصرعى ستكثر منكم ومنهم اليوم. إني رأيت في النوم بقراً منحّرة فأراني أقول: بقرٌ والله خير، فتقدم الذين يدعونه إلى الخروج فقالوا: يا رسول الله، امكث.
قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته ثم ينثني حتى يأتي الناس. فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه حتى التقوا هم والمشركون بأحد، والمسلمون يومئذٍ قريب من أربع مئة، والمشركون قريب من ثلاثة آلاف، فاقتتلوا. قال الله تعالى: " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم باذنه " إلى قوله: " والله خبير بما تعملون " وكان فيمن قتل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ: حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وهو أول من جمّع الجمعة بالمدينة قبل أن يقدمها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذلك يوم نجم النفاق، وسموا المنافقين، وهم الذين حدثوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نهض إلى المشركين بأحد، وكانوا قريباً من ثلث أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمشوا إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا بلغوا الجبّابة وبرزوا من دور المدينة انصرفوا إلى أهلهم، ورأسهم يومئذ عبد الله بن أبيّ، وكان عظيم تلك البحيرة في الجاهلية.
ثم كانت وقعة الأحزاب لسنتين، وذلك يوم خندق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون الخندق بجبّانة المدينة، ورئيس الكفار يومئذ أبو سفيان بن حرب، فحاصرهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه بضع عشرة ليلة فخاض إلى المسلمين الكرب والأزل حتى قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما(2/192)
أخبر سعيد بن المسيب: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك إن تشأ لا تعبد. وأرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان ومن معه من الأحزاب أن اثبتوا، فإنا سنغير على قبضة المسلمين من ورائهم، فسمع نعيم بن عمرو الأشجعي وهو موادع لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث.
فأقبل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره وبعث الله عليهم الريح حتى يكاد أحدٌ منهم يهتدي لموضع رجله. فارتحلوا وولوا منهزمين فأنزل الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ " إلى قوله: " وما تلبثوا بها إلا يسيرا ". فلما ولى الكفار طلبهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المسلمين حتى بلغوا جبلاً يقال له حمراء الأسد. فأنزل الله تعالى: " وكفى الله المؤمنين القتال " إلى: " وكان الله على كل شيءٍ قديرا " فأنزل الله هذا في طلبهم، وسار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه إلى بني قريظة، فحاصرهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ. ثم كانت غزوة الحديبية وأهل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذي الحليفة بعمرة، ومن معه يومئذ بضع عشرة مئة من المسلمين، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا لم نأت لقتال أحد، ولكنا جئنا لنطوف بالبيت فمن صدنا عنه قاتلناه، ورئيسهم يومئذ أبو سفيان بن حرب، فنحر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه وحلق رأسه، ثم انصرف إلى المدينة على أن يخلوا بينه وبين البيت عاماً قابلاً، فيطوف به ثلاث ليالٍ. ونزل بخيبر وأنزل الله تعالى ذكره: " وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها " الآية. فغزاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفتحها، وقسم فيها لمن بايعه بالحديبية تحت الشجرة، من غائبٍ أو شاهد من أجل أن الله كان وعدهم إياها.
وخمّس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، ثم قسم سائرها مغانم بين من شهدها من المسلمين، ومن غاب عنها من أهل الحديبية، ثم اعتمر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العام القابل في ذي القعدة في المدة آمناً فخرج كفار قريش من مكة وخلوها لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلفوا حويطب بن عبد العزى، وأمروه إذا طاف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالكعبة ثلاث ليالٍ أن يأتيه فيسأله أن يرتحل، فأتى(2/193)
حويطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ثلاث فكلمه في الرحيل، فارتحل قافلاً إلى المدينة. ثم كانت غزوة الفتح: فتح مكة، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة في رمضان ومعه من المسلمين عشرة آلاف، وذلك على رأس ثمان سنين ونصف سنة من مقدمه المدينة، فسار بمن معه من المسلمين إلى مكة، فافتتح مكة لثلاث عشرة خلت من رمضان. وبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خالد بن الوليد، فقاتل بمن معه صفوف قريش بأسفل مكة حتى هزمهم. ثم أرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بالسلاح فرفع عنهم، ودخلوا في الدين وأنزل الله عز وجل: " إذا جاء نصر الله والفتح " إلى آخرها. ثم خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمن معه من المسلمين وبمن أسلم يوم الفتح من قريش وبني كنانة قِبَل حنين. وحنين وادٍ قبل الطائف ذو مياه، به من المشركين يومئذ العجّز من هوازن، معهم ثقيف، ورئيس المشركين يومئذ مالك بن عوف النصري. فاقتتلوا بحنين فنصر الله نبيه والمسلمين، وكان يوماً شديد البأس. فأنزل الله تعالى: " لقد نصركم الله في مواطن كثيرةٍ " الآية. فسبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ ستة آلاف سبي من النساء والذراري. وأخذ من الإبل والشاء ما لا يُدرى ما عدده. وخمّس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السبي والأموال، ثم جاءه وفد هوازن مستأمنين فقالوا: قد اجتحت نساءنا وذرارينا وأموالنا فاردد إلينا ذلك. قال: لست رادّاً إليكم كله، فاختاروا: إن شئتم فالنساء والذراري، وإن شئتم الأموال. قالوا: فإنا نختار نساءنا وذرارينا. فرد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم نساءهم وذراريهم، وقسم النعم والشاء بين من معه من المسلمين بالجعرانة. ثم أهلّ منها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعمرة، وذلك في ذي القعدة، ثم قفل إلى المدينة، حتى إذا قدمها أمر أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحج. ثم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة تبوك، وهو يريد الروم وكفار العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك أقام بها بضع عشرة ليلة، ولقيه وفد أذرح ووفد أيلة فصالحهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/194)
على الجونة، ثم قفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك ولك يجاوزها فأنزل الله تبارك تعالى: " لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار " الآية " وعلى الثلاثة الذين خلفوا "، وكانوا قد تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلاً. فلما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقه أولئك الثلاثة، واعترفوا بذنبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا للرسول ما حبسهم إلا عذر، فقيل منهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووكلهم في سرائرهم إلى الله عز وجل.
ولم يغز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة بعد حتى توفاه الله عز وجل. فكانت وفاته في شهر ربيع الأول سنة عشر.
ولم يغز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة قط يجلس فيها تحت لواء أو شُهر فيها سيوف إلا ذكر في القرآن. ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع، وتمتع فيها بعمرة، وساق الهدي معه، فلما قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع قفل إلى المدينة فلبث شهرين وبعض شهر. ثم اشتكى شكواه الذي توفاه الله عز وجل فيه. وروى الحافظ عن جماعة من المشايخ قالوا: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الاثنين لثنتي عشرة مضت من ربيع الأول، ويقال لليلتين خلتا من ربيع الأول والثبت عشرة مضت من ربيع الأول فكان أول لواء عقده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحمزة بن عبد المطلب في شهر رمضان على رأس تسعة أشهر من مهاجر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعترض لعير قريش. ثم لواء عبيدة بن الحارث في شوال على ثمانية أشهر إلى رابغ، وهي على عشرة أميال من الجحفة، وأنت تريد قديداً، وكانت في شوال على رأس تسعة أشهر. ثم سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرّار على رأس تسعة أشهر في ذي القعدة. ثم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفر على رأس أحد عشر شهراً حتى بلغ الأبواء، ثم رجع ولم يلق كيداً. وغاب خمس عشرة ليلة.(2/195)
ثم غزا بواط في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهراً يعترض لعير قريش فيها أمية بن خلف ومئة رجل من قريش وألفان وخمس مئة بعير. ثم رجع ولم يلق كيداً. وبواط هي من الجحفة قريب. ثم غزا في شهر ربيع الأول عشر شهراً في طلب كُرز بن جابر الفهري حتى بلغ بدراً، ثم رجع. ثم غزا في جمادى الآخرة على رأس ستة عشر شهراً يعترض لعيرات قريش حين بدت إلى الشام، وهي غزوة ذي العشيرة، ثم رجع. فبعث عبد الله بن جحش إلى نخلة في رجب على رأس سبعة عشر شهراً. ثم غزا بدر القتال صبيحة سبع عشرة من رمضان يوم الجمعة على رأس تسعة عشر شهراً. ثم سرية عصماء بنت مروان قتلها عمرو بن عدي بن خرشة. قتلها لخمس ليال بقين من رمضان على رأس تسعة عشر شهراً. ثم سرية سالم بن عميرة قتل أبا عفك في شوال على رأس عشرين شهراً. ثم غزوة قينقاع في النصف من شوال على رأس عشرين شهراً. ثم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة السويق في ذي الحجة على رأس اثنين وعشرين شهراً.
ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني سليم بالكدر في المحرم على رأس ثلاثة وعشرين شهراً. ثم سرية قتل ابن الأشراف في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً. ثم غزوة غطفان إلى نجد، وهي ذو أمر في ربيع الأول على رأس خمسة وعشرين شهراً.(2/196)
ثم سرية عبد الله بن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي، قال عبد الله: خرجت من المدينة يوم الاثنين لخمس ليالٍ خلون من المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً فغبت ثمان عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لتسع بقين من المحرم. ثم غزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني سليم ببجران في جمادى الأولى على رأس سبعة وعشرين شهراً. ثم سرية القردة، أميرها زيد بن حارثة في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهراً فيها أبو سفيان بن حرب. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمراء السد في شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً. ثم سرية أميرها أبو سلمة بن عبد الأسد إلى قطن إلى بني أسد على رأس خمسة وثلاثين شهراً في المحرم. ثم غزوة بئر معونة، أميرها المنذر بن عمرو في صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً. ثم غزوة الرجيع في صفر على رأس ستة وثلاثين شهراً. أميرها مرثد. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني النضير في ربيع الأول على رأس سبعة وثلاثين شهراً. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدر الموعد في ذي القعدة على رأس خمسة وأربعين شهراً. ثم سرية ابن عتيك إلى ابن أبي الحقيق في ذي الحجة على رأس ستة وأربعين شهراً. فلما قتل سلام بن أبي الحقيق فزعت يهود إلى سلام بن مشكم بخيبر فأبى أن يرأسهم، فقام(2/197)
أسير بن رزام يحزبهم. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات الرقاع في المحرم على رأس سبعة وأربعين شهراً. ثم غزا دومة الجندل في ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهراً. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المريسيع في شعبان سنة خمس. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخندق في ذي القعدة سنة خمس. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني قريظة في ليالٍ من ذي القعدة وليالٍ من ذي الحجة سنة خمس. ثم سرية ابن أنيس إلى سفيان بن خالد بن نبيح في المحرم سنة ست. ثم سرية محمد بن مسلمة في المحرم سنة ست إلى القرطاء. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني لحيان إلى الغابة في ربيع الأول سنة ست. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الغابة في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية عكاشة بن محصن إلى الغمرة في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية أميرها أبو عبيدة الجراح إلى ذي القصة في ربيع الآخر سنة ست. ثم سرية زيد بن حارثة إلى بني سليم بالجموم في شهر ربيع الآخر سنة ست. وكانتا في شهر واحد. الجموم: ما بين بطن نخلة والنقرة.(2/198)
ثم سرية زيد بن حارثة إلى العرض في جمادى الأولى سنة ست. ثم سرية زيد بن حارثة إلى الطرف في جمادى الآخرة سنة ست.
والطرف: على ستة وثلاثين ميلاً من المدينة. ثم سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في جمادى الآخرة سنة ست. وحسمى وراء وادي القرى. ثم سرية زيد بن حارثة إلى وادي القرى في رجب سنة ست. ثم غزوة علي عليه السلام إلى فدك في شعبان سنة ست. ثم غزوة زيد بن حارثة إلى أم قرفة في رمضان سنة ست. وكانت أم قرفة ناحية وادي القرى إلى جنبها ثم غزو ابن رواحة إلى أسير بن زارم في شوال سنة ست. ثم سرية كرز بن جابر إلى العرنيين في شوال سنة ست. ثم اعتمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر في جمادى الأولى سنة سبع. ثم انصرف من خيبر إلى وادي القرى في جمادى الآخرة فقاتل بها سنة سبع. ثم سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة في شعبان سنة سبع. ثم سرية أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه في شعبان إلى نجد سنة سبع. ثم سرية بشير بن سعد إلى فدك في شعبان سنة سبع. ثم سرية غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع. والميفعة ناحية نجد. ثم سرية بشير بن سعد فدك في شعبان سنة سبع. ثم سرية بشير بن سعد إلى الجناب في شوال سنة سبع. ثم اعتمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرة القضيّة في ذي القعدة سنة سبع. ثم غزا ابن أبي العوجاء السلمي في ذي الحجة سنة سبع.(2/199)
ثم غزوة غالب بن عبد الله إلى الكديد في صفر سنة ثمان. والكديد وراء قديد. ثم سرية شجاع بن وهب في ربيع الأول سنة ثمان إلى بني عامر بن الملوح. ثم غزوة كعب بن عمير الغفاري من سنة ثمان في ربيع الأول إلى ذات أطلاح. ناحية الشام، من البلقاء على ليلة. ثم غزوة زيد بن حارثة إلى مؤتة سنة ثمان. ثم غزوة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل في جمادى الآخرة سنة ثمان. ثم غزوة الخبط أميرها أبو عبيدة بن الجراح في رجب سنة ثمان. ثم سرية حضرة أميرها أبو قتادة في شعبان سنة ثمان. وحضرت ناحية نجد على عشرين ميلاً عند بستان أبي عامر. ثم سرية أبي قتادة إلى إضم في رمضان سنة ثمان. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح في ثلاث عشرة مضت من رمضان سنة ثمان. ثم هدم العزى لخمس ليال بقين من رمضان سنة ثمان. هدمها خالد بن الوليد. ثم هدم سواع. هدمه عمرو بن العاص. وكان في رمضان. ثم هدم مناة، هدمها سعد بن زيد الأشهلي في رمضان سنة ثمان. ثم غزوة بني جذيمة غزاها خالد بن الوليد في شوال سنة ثمان. ثم غزا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنيناً في شوال سنة ثمان. ثم غزاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الطائف في شوال سنة ثمان. وحج الناس سنة ثمان.
ويقال إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل عتاب بن أسيد على الحج. ويقال حج الناس أوزاعاً بلا أمير. ثم سرية عيينة بن حصن إلى بني تميم في المحرم سنة تسع. ثم سرية قطبة بن عامر إلى خثعم في صفر سنة تسع.(2/200)
ثم سرية بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع. أميرها الضحاك بن سفيان. ثم سرية علقمة بن مجزز إلى الحبشة في ربيع الآخر سنة تسع. ثم سرية علي عليه السلام إلى الفلس في ربيع الآخر سنة تسع. ثم غزوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك في رجب سنة تسع. ثم سرية خالد بن الوليد إلى أكيدر في رجب سنة تسع. ثم هدم ذي الكفين صنم عمرو بن حممة الدوسي. وحج أبو بكر سنة تسع. ثم غزوة خالد بن الوليد إلى بني عبد المدان في ربيع الأول سنة عشر. وسرية علي عليه السلام إلى اليمن. يقال مرتين، إحداهما في رمضان سنة عشر. وحج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس سنة عشر. ورجع من مكة فمرض بضع عشرة ليلة. وعقد لأسامة بن زيد في مرضه إلى الشام. وتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يخرج حتى بعثه أبو بكر بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وتوفي يوم الاثنين اثنتي عشرة مضت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. فكانت مغازي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين غزوة. وكان ما قاتل منها تسعاً: بدر القتال، وأحد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، والفتح، وحنين، والطائف. وكانت السرايا سبعاً وأربعين سرية. واعتمر ثلاث عمر. ويقال: قد قاتل في بني النضير، ولكن الله جعلها له نفلاً خاصة. وقاتل في غزوة وادي القرى منصرفه من خيبر. وقتل بعض أصحابه. وقاتل في الغابة حتى قتل محرز بن نضلة. وقتل من العدو ستة.(2/201)
ما ذكر من شجاعته وشدته
عن علي قال: كنا إذا احمر البأس، ولقي القوم اتقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فما يكون منا أحدٌ أقرب إلى القوم منه. وعنه قال: لما حضر البأس يوم بدرٍ اتقينا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان أشد الناس، وما كان أحد أقرب إلى المشركين منه. وعنه قال: لقد رأيتنا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أقربنا إلى العدو وكان أشد الناس بأساً. وعن ابن إسحاق، قال: قال رجل للبراء: أي أبا عمارة، أكنتم يوم حنين وليتم؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنا لقينا قوماً رماة، لا يكاد يسقط لهم سهم. جمع هوازن، فرشقونا رشقاً ما يكادون يخطئون. قال: فأقبلوا هناك إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغلته البيضاء. وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به. قال: فنزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستنصر ثم قال:
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
قال: ثم صفهم، أو قال: صفنا. وعن البراء: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما لقي المشركين يوم حنين نزل عن بغلته فترجل.(2/202)
وعن العباس بن عبد المطلب قال: شهدت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم نفارقه، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بغله الشهباء أهداها له فروة بن ثعلبة وقيل ابن نفاثة الجذامي. وهو الصواب.
فلما التقى المسلمون والكفار ولى المسلمون منهزمين، وطفق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركض بغلته نحو الكفار. قال عباس: وأنا آخذ بخطام بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكفها، إرادة ألا يسرع، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي عباس، ناد في أصحاب السمرة. قال عباس: وكنت رجلاً صيتاً، فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب الشجرة وقيل السمرة قال: فووالله لكأن عطفتهم، حين سمعوا صوتي، عطفة البقر على أولدها، فقالوا: يا لبيك يا لبيك. فاقتتلوا هم والكفار. والدعوة في الأنصار: يا معشر الأنصار، يا معشر الأنصار. ثم قصرت الدعوة على بني الحارث بن الخزرج. فقالوا: يا بني الحارث بن الخزرج. فنظر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هذا حين حمي الوطيس. قال: ثم أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حصيات فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمد. قال: فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته على ما أراه. قال: فوالله ما هو إلا أن رماهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحصياته. قال: فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً وفي رواية: حتى هزمهم الله قال: فكأني أنظر إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركض خلفهم على بغلته. وكان عبد الرحمن بن أزهر يحدث أن خالداً بن الوليد يومئذ خرج وهو على الخيل خيل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن أزهر: فلقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما هزم الله الكفار، ورجع المسلمون إلى رحالهم يمشي في الناس ويقول: من يدل على رحل خالد بن الوليد؟ حتى دللناه على رحله، فإذا خالد مستند إلى مؤخرة رحله، فأتاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى جرحه، قال الزهري: وحسبت أنه قال: وتفل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/203)
وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجمل الناس وجهاً، وأجرأ الناس صدراً، وأشجع الناس قلباً. ولقد فرغ أهل المدينة يوماً فركب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً لأبي طلحة عرياً وفي رواية: وفي عنقه السيف ثم قال: لن تراعوا، لن ترعوا. مرتين. إنه وجدته بحراً. وعن ابن عمر قال: ما رأيت أحداً أشجع ولا أجود ولا أوضأ من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فضلت على الناس بأربع: بالسماحة، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش ".(2/204)
ما روي في فصاحة لسانه ومنطقه وبيانه
عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله، ما لك أفصحنا ولم نخرج من بين أظهرنا؟! قال: كانت لغة إسماعيل عليه السلام قد درست فجاء بها جبريل عليه السلام يحفظنيها. وروى ابن دريد قال: بينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم جالساً مع أصحابه إذ نشأت سحابة فقالوا: يا رسول الله، هذه سحابة، فقال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها! قال: فكيف ترون رحاها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها! قال: فكيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد استقامتها! قال: فكيف ترون برقها، أوميضاً أو خفواً أم يشقّ شقاً؟ قالوا: بل يشق شقاً. قال: فكيف ترون جوفها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحيا. فقالوا: يا رسول الله، ما أفصحك! ما رأينا الذي هو أفصح منك. قال: وما يمنعني وإنما نزل القرآن بلسان عربي مبين؟. قال أبو بكر بن دريد: تفسير الكلام: قواعدها: أسافلها. ورحاها: وسطها ومعظمها. وبواسقها: أعاليها. وإذا استطار البرق من أعاليها إلى أسافلها فهو الذي لا يُشك في مطره. والخفو: أضعف ما يكون من البرق، والوميض نحو التبسم الخفيّ. يقال: ومض وأومض. وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " أنا أفصح العرب، ربيت في أخوالي بني سعد، بيد أني من قريش ".(2/205)
وقال رجل من بني سلول: يا رسول الله، أيدالك الرجل امرأته؟ قال: نعم، إذا كان ملفجاً فقال له أبو بكر: يا رسول الله ما قال لك، وما قلت له؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنه قال: أيماطل الرجل أهله؟ فقلت له: نعم، إذا كان مفلساً، فقال أبو بكر: يا رسول الله، لقد طفت في العرب، وسمعت فصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أدّبك؟ قال: أدّبني ربي ونشأت في بني سعد.
وعن علي بن أبي طالب: في قوله عز وجل: " منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ". قال: ما بعث الله نبياً قط إلا صبيح الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت، وإن نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان صبيح الوجه، كريم الحسب، حسن الصوت. وعن أنس قال: ما بعث الله نبياً قط إلا حسن الوجه، حسن الصوت، وكان نبيكم حسن الوجه، حسن الصوت إلا أنه كان لا يرجّع. وعن البراء بن عازب قال: قرأ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العشاء: " والتين والزيتون " وفي حديث آخر: في العشاء، يعني: الآخرة قال: فلم أسمع أحسن صوتاً، ولا أحسن صلاة منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وكان طويل الصمت، وكان الصحابة يتناشدون الشعر ويضحكون فيبتسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ضحكوا. وعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أعطيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه ". فقلنا: يا رسول الله، علمنا مما علمك الله. فعلمنا التشهد في الصلاة ".(2/206)
وعن عمر بن الخطاب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أعطيت جوامع الكلام، واختُصر لي الحديث اختصاراً ". وعن أنس بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا تكلم بالكلمة رددها ثلاثاً. وإذا لقي قوماً فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً. وعن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعيد الكلمة ثلاثاً ليُعقل عنه. وعن عروة بن الزبير قال: جلس رجل بفناء حجرة عائشة فجعل يتحدث قال: فقالت عائشة: لولا إني كنت أسبح لقلت له: ما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسرد الحديث كسردكم. إنما كان حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلاً، تفهمه القلوب. وعن عائشة قالت: كان كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلاً يفقهه كل أحد. لم يكن يسرده سرداً. وعنها قالت: لم يكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسرد الكلام كسردكم هذا. كان إذا جلس تكلم بكلام يبينه، يحفظه من سمعه.
وعن ابن عباس قال: كان رسول اله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفلج الثنيتين، إذا تكلم رُئي كالنور يخرج من بين ثناياه. وعن جابر بن عبد الله قال: كان كلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترتيل، أو ترسيل.(2/207)
ما عرف من جوده وسخائه وبذله وعطائه
عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. إن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان. وقيل في كل ليلة من رمضان حتى ينسلخ، فيعرض عليه القرآن. فإذا جبريل عليه السلام كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود بالخير من الريح المرسلة. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجود البشر، فما هو إلا أن يدخل شهر رمضان فيدارسه جبريل القرآن، فلهو أجود من الريح. وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جاء رمضان أعتق كل أسير، وأعطى ابن السبيل، وإذا كان حديث عهدٍ بجبريل كان أسرع بالخير من الريح المرسلة. وعن عائشة قالت: كان تعني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان حديث عهدٍ بنزول جبريل يدارسه كان أجود من الريح المرسلة. وعن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً قط فقال: لا وما ضرب بيده شيئاً قط. وعن جابر بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو قد جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا. وقال سفيان بيديه جميعاً: هكذا. ثلاث مرات. فقُبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يجيء مال البحرين،(2/208)
فقدم على أبي بكر بعده مال البحرين. فأمر أبو بكر منادياً فنادى: من كانت له على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة أو دين فليأتني، فأتيت أبا بكر فقلت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لو جاءنا مال البحرين لأعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، فحثنا أبو بكر فقال: عدّها، فعددتها فوجدتها خمس مئة، فقال: خذ مثلها مرتين. وعن أنس: أن رجلاً أتى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلم، فسأله فأعطاه غنماً بين جبلين، فأتى الرجل قومه فقال: أي قوم أسلموا، فوالله إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي عطاء رجلٍ ما يخاف فاقة. وإن كان الرجل ليأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يريد إلا دنيا يصيبها، فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه من الدنيا وما فيها. وعنه قال: لم يُسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً قط على الإسلام إلا أعطاه. وذكر باقي الحديث. وعن زيد بن ثابت قال: جاء رجل من العرب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله أرضاً بين جبلين فكتب له بها، فأسلم، ثم أتى قومه، فقال لهم: أسلموا فقد جئتكم من عند رجلٍ يعطي عطية من لا يخاف الفاقة.
وعن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. وعن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حنين حين سأله الناس فأعطاهم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق من ذلك شيء. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد أعطيتكم من البقر والغنم والإبل حتى لم يبق شيء من ذلك، فماذا تريدون؟ أتريدون أن تُبخِّلوني؟ فوالله ما أنا ببخيل، ولا جبان،(2/209)
ولا كذوب. فجذبوا ثوبه حتى بدت رقبته، وكأنما أنظر حين بدا منكبه مثل شقة القمر من بياضه.
وعن أبي سعيد قال: دخل رجلان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسألاه في ثمن بعير، فأعانهما بدينارين. فخرجا من عنده فلقيهم عمر، فقالا، وأثنينا معروفاً وشكراً ما صنع بهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فدخل عمر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بما قالا. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لكن فلان أعطيته ما بين العشرة إلى المئة فلم يقل ذلك، إن أحدهم يسألني فينطلق بمسألته متأبطها وما هي إلا نار. قال عمر: فلم تعطيهم ما هو نار؟ قال: يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل. وعن علي قال: لما نزلت هذه الآية: " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال: جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون فأكلوا وشربوا. قال لهم: من يضمن عني ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟ فقال رجل لم يسمه شريك يا رسول الله: أنت كنت بحراء من يقوم بهذا؟. قال: ثم قال الآخر: فعرض ذلك على أهل بيته. فقال علي: أنا. وعن جبير بن مطعم أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو أفاء الله فقال علي: نعماً عدد هذه العضاه، لقسمتها بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ".(2/210)
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: حيكت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبة من صوف أنمار فلبسها، فما أُعجب بثوب ما أُعجب بها، فجعل يمسحها بيده ويقول: انظروا ما أحسنها! وفي القوم أعرابي فقال: يا رسول الله، هبها لي، فخلعها فدفعها في يده، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيياً لا يُسأل شيئاً إلا أعطاه، ثم أمر بمثله أن يحاك، فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو في المحاكة. وعن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة ببردة فقال سهل: هل تدرون ما البردة؟ قالوا: نعم، هذه الشملة منسوج في حاشيتها فقالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محتاجاً إليها فخرج إلينا وإنها لإزارة فجسها رجل من القوم فقال: يا رسول الله؛ أكسنيها قال: نعم. فجلس ما شاء الله في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه. فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه وقد عرفت أنه لا يرد سائلاً. فقال الرجل: والله ما سألتها إلا لتكون كفني يوم أموت. قال سهل: فكانت كفنه. وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقناعٍ من رطب وأجرٍ زُغب فأعطاني ملء كفيه أو كفه حلياً أو ذهباً.(2/211)
ما عرف من حسن بشره ووصف من طيب نشره
وعن كعب بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سُرّ استنار وجهه، حتى كأن وجهه شقة قمر. فكنا نعرف ذلك فيه. وعن الحسين بن علي قال: قلت لعلي: كيف كانت سيرته في مجلسه يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دائم البشر، سهل الخُلق، ليس بفظٍ ولا غليظ، ولا سخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح. وعن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي قال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط إلا متبسماً. وعنه قال: ما رأيت أحداً كان أكثر تبسماً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن عمرة قالت: سألت عائشة قلت: كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خلا؟ قالت: كان رجلاً من رجالكم، كان أحسن الناس خلقاً، وكان ضحاكاً بساماً. وعنها قالت: سألت عائشة: كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خلا في البيت؟ قالت: ألين الناس، بساماً ضحاكاً. وعن وائل بن حجر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتي بدلو من ماء زمزم فاستنثر خارجاً من الدلو، ومضمض وقحّ فيه مسكاً أو أطيب من المسك.(2/212)
وعن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الأولى ثم خرج إلى أهله، وخرجت معه، فاستقبله ولدانٌ، فجعل يمسح خدي أحدهم واحداً واحداً. قال: وما أنا فمسح خدي فوجدت ليده برداً أو ريحاً كأنما أخرجها من جونة عطار. وفي حديث جابر بن يزيد ين الأسود السوائي عن أبيه قال: ثم ثار الناس يأخذون يده يمسحون بها وجوههم. قال: وأخذت يده فمسحت بها وجهي فوجدتها أبرد من الثلج وأطيب ريحاً من المسك. وعن يزيد بن الأسود قال: حججنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع. قال: فصلى بنا صلاة الصبح. قال: فانحرف جالساً، فاستقبل الناس بوجهه فإذا هو برجلين من وراء الناس لم يصليا مع الناس. قال: ائتوني بهذين الرجلين. قال: فأتي بهما ترعد فرائصهما. قال: ما منعكما أن تصليا مع الناس؟! قالا: يا رسول الله، صلينا في الرحال. قال: فلا تفعلا. إذا أحدكم في رحله، ثم أدرك الصلاة مع الإمام فليصلها معه، فإنها له نافلة، يعني: ونهض الناس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونهضت وأنا يومئذ أشبّ الرجال وأجلده، قال: فما زلت أزحم الناس حتى وصلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأخذت بيده فإما وضعتها على وجهي أو على صدري فما وجدت شيئاً أطيب ولا أبرد من يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يومئذ في مسجد الخيف. وعن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مر في طريق من طرق المدينة وجدوا من ذلك الطريق رائحة المسك، قالوا: مر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الطرق وفي رواية: اليوم. وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصال، لم يمر في طريق فيتبعه أحد إلا عرف أنه قد سلكه من طيب عرقه، أو ريح عرقه والشك من إسحاق ولم يكن يمر بحجر ولا شجر إلا سجد له.(2/213)
وعن أنس قال: ما رأيت رجلاً قط التقم أذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فينحي رأسه حتى ينحي الرجل رأسه. وما رأيت رجلاً قط أخذ بيد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيُنزل يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزل يده. وما مسست قط ألين من قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما وجدت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعنه قال: ما شممت مسكةً ولا عنبرة أطيب رائحة من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا مسست خزّة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعنه قال: صحبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين وشممت العطر كله فلم أشم نكهة أطيب من نكهة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن عبد الجبار بن وائل عن أبيه قال: كنت أصافح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يمس جلدي جلده فأعرف في يدي بعد ثالثةٍ أطيب من ريح المسك. وعن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني زوجت ابنتي، وأنا أحب أن تعينني بشيء. ولكن إذا كان غدٌ فائتني بقارورة واسعة الرأس وعود شجرة، فأنه بيني وبينك أن تدق ناحية الباب. قال: فلما كان من الغد أتاه بقارورة واسعة الرأس، وعود شجرة. قال: خذها ومُر بها ابنتك أن تغمس هذا العود في القارورة وتطيب به، قال: فكانت إذا تطيبت شم أهل المدينة رائحة ذلك الطيب. فسُموا بيوت المطيبين.(2/214)
ما ذكر من حيائه وظهر من عهده ووفائه
عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العذراء في خدرها. وكان إذا رأى شيئاً يكرهه عرفنا ذلك في وجهه. وعن عائشة رضي الله عنها قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أشد حياء من العواتق في خدورهنّ. أخبر الحسن بن علي بن أبي رافع أن أبا رافع أخبره: أنه أقبل ركبان من قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فلما رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلقي في قلبي الإسلام. فقلت: يا رسول الله، إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لا أخيس بالعهد، ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم، فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن فارجع. قال: فرجعت إليهم، ثم إني أقبلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسلمت. وكان أبو رافع قبطياً. وعن عائشة قالت: جاءت عجوز إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عندي فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أنت؟ قالت: أنا حنانة المزينة. قال: بل أنت حسانة المزينة وفي رواية قالت: أنا حثامة المزينة. قال: بل أنت حضانة كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدنا؟ قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قالت: فلما خرجت قلت: يا رسول الله، تقبل على هذه العجوز هذا الإقبال! قال: إنها كانت تأتينا زمن خديجة. وإن حسن العهد من الإيمان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عجوز تأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيبش بها ويكرمها. فقلت: بأبي أنت وأمي، إنك(2/215)
لتصنع بهذه العجوز شيئاً لا تصنعه بأحدٍ؟ قال: إنها كانت تأتينا عند خديجة. أما علمت أن كرم الودّ من الإيمان؟ وعن عبد الله بن أبي الحمساء قال: بايعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يبعث ببيع، فبقي له عليّ شيء فوعدته أن آتيه مكانه، فنسيت أن آتيه يومه ذلك ومن الغد، فأتيته اليوم الثالث، فوجدته في مكانه ذلك. فقال لي: لقد شققت علي، أنا ههنا منذ ثلاثة أيام وفي رواية: أنتظرك. وعن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثلاثٌ ليس لأحد من الناس فيهن رخصة: بر الوالدين مسلماً كان أو كافراً، والوفاء بالعهد لمسلم كان أو كافر، وأداء الأمانة إلى مسلم كان أو كافر ".(2/216)
ما ورد من مزاجه وسعة صدره
عن أبي هريرة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " لا أقول إلا حقاً ". فقال بعض الصحابة: فإنك تداعبنا يا رسول الله. فقال: لا أقول إلا حقاً. وعنه قال: قلنا: يا رسول الله، إنك تمزح معنا، قال: لا أقول إلا حقاً. وعن عائشة: أنها مزحت عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: إنها بعض دعابات هذا الحي من بني كنانة. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل بعض مزحنا، هذا الحي من قريش. وعن أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أفكه الناس. وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مزاحاً، وكان يقول: إن الله لا يؤاخذ المّزاح الصادق في مزاحه. وعن عكرمة قال: كان في رسول الله دعابة قليلة. يعني المزاح. وعن أنس بن مالك قال: كان لي أخ يقال له: أبو عمير، وكان له عصفور يلعب به فمات العصفور، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل بيتنا فيقول: يا أبا عمير ما فعل النُّغير؟(2/217)
وفي حديث آخر: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس خلقاً. وكان لي أخ يقال له: أبو عمير أحسبه فطيما فطماً، وكان إذا جاء قال: يا أبا عمير ما فعل النغير. وعن أنس بن مالك: أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا حاملوك على ولد الناقة. فقال: يا رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟! قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهل تلد الإبل إلا النوق؟. وعن ابن عباس: أن رجلاً سأله فقال: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمزح؟ قال ابن عباس: نعم. فقال الرجل: فما كان مزاحه؟ قال ابن عباس إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً واسعاً، فقال لها: البسيه واحمدي الله وجري منه ذيلاً كذيل العروس. وعن أنس قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم: يا ذا الأذنين. وعن سفينة قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، وكان إذا أعيا بعض القوم ألقى عليّ سيفه، ألقى علي ترسه. حتى حملت من ذلك شيئاً كثيراً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت سفينة.
وعن عائشة قالت: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحريرة طبختها، فقلت لسودة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيني وبينها: كلي فأبت. فقلت: لتأكلنّ أو لأُلطخنَّ وجهك فأبت، فوضعت يدي فيها فطلبت وجهها، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوضع فخذه لها وقال لها: الطخي وجهها، فلطخت وجهي، فضحك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها، فمر عمر بن الخطاب فقال: يا عبد الله، يا عبد الله، فظن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيدخل فقال: قوما فاغسلا وجوهكما. فقالت عائشة: فما زلت أهاب عمر لهيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه.(2/218)
وعن أنس بن مالك: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعائشة ذات يوم: ما أكثر بياض عينك. وعن أبي جعفر الخطمي: أن رجلاً كان يكنى أبا عمرة فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أم عمرة، فضرب الرجل يده إلى مذاكيره، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مه. قال: والله ما ظننت إلا أني امرأة لما قلت لي يا أم عمرة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما أنا بشر مثلكم أمازحكم. وعن خوّات بن جبير قال: نزلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر الظهران، وخرجت من خبائي فإذا نسوة يتحدثن. قال: فأعجبني. قال: فرجعت فأخرجت حلة لي من عندي فلبستها ثم جلست إليهن، وخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبته فقال: أبا عبد الله، ما يجلسك إليهن؟! قال: فهبت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، جمل لي شرود، فأنا أبتغي له قيداً. قال: فمضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعته. قال: فألقى إلي رداء ودخل الأراك. فلكأني أنظر إلى بياض قدميه في خضرة الأراك، فقضى حاجته وتوضأ ثن جاء فقال: أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟ ثم ارتحلنا فجعل لا يلحقني في المسير إلا قال السلام عليكم أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟ قال: فتعجلت إلى المدينة، واجتنبت المسجد ومجالسة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما طال ذلك علي تحينت ساعة خلوة المسجد، فأتيت المسجد فجعلت أصلي، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بعض حجره. قال: فجاء فصلى ركعتين خفيفتين ثم جلس، وطولت الصلاة رجاء أن يذهب ويدعني فقال: طوّل أبا عبد الله ما شئت، فلست بقائم حتى تنصرف. فقلت: والله لأعتذرن إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبرئن صدره. قال: فانصرفت، فقال: السلام عليكم يا أبا عبد الله، ما فعل شراد جملك؟ فقلت: والذي بعثك بالحق، ما شرد ذاك الجمل منذ أسلمت. فقال: رحمك، مرتين أو ثلاثاُ. ثم أمسك عني فلم يعد. وسئل بعض السلف عن مرح الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: كانت له مهابة. فكان يبسط الناس بالدعابة.(2/219)
باب جامع في صفة أحواله وأفعاله وأقواله
وعن عائشة قالت: كان أحب الأعمال إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة؛ فعملان يجهدان ماله، وعملان يجهدان جسده. فأما اللذان يجهدان ماله فالجهاد والصدقة، وأما اللذان يجهدان جسده فالصوم والصلاة. وعن أنس بن مالك قال: ما أخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً ركبتيه بين يدي جليس له، ولا ناول يده أحداً قط فتركها حتى يكون هو يدعها. وما جلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحدٌ قط فقام حتى يقوم. وما وجدت ريحاً قط أطيب ريحاً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس بن مالك قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه. ولم يُر مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له. وعن أبي غالب قال: قلت لأبي أمامة: حدثنا ما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كان حديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرآن، ويكثر الذكر، ويقل اللغو، ويطيل الصلاة، ويقصر الخطبة ولا يأنف، ولا يستكبر أن يمشي مع الضعيف والمسكين حتى يقضي حاجته وفي رواية: والأرملة. وعن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يلتفت وراءه إذا مشى، وكان ربما يتعلق رداؤه بالشجرة ولا(2/220)
يلتفت حتى يرفعوه عليه. قال: لأنهم كانوا يمزحون ويضحكون قد أمنوا التفاته. وعن عائشة أنها سئلت: ما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته؟ قالت: ما كان إلا بشراً من البشر، كان يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: قيل لعائشة: يا أم المؤمنين، ما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع إذا خلا في بيته؟ فقالت: والله ما كان إلا بشراً، ولكن الله أكرمه، والله إن كان ليخصف نعله، ويعالج ثوبه، وأشباه ذلك، ويحدث أحاديث الناس، ولقد كان يحدثنا عن حديث من قد مضى. وعن عائشة: أنها سئلت: ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعمل في بيته؟ قالت: كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وعن أبي بردة قال: قلت لعائشة: ما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصنع في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، يعني: خدمتهم. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويل العمد. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب التيامن ما استطاع، في طهوره ونعله وترجله، وفي شأنه كله. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نظر في المرآة قال: " الحمد لله الذي حسَّن خَلقي(2/221)
وخُلقي وزان مني ما شان من غيري "، وإذا اكتحل جعل في كل عين اثنين وواحد بينهما، وكان إذا لبس نعليه بدأ باليمين، وإذا خلع باليسرى. وكان إذا دخل المسجد أدخل رجله اليمنى، وكان يحب التيمن في كل شيء أخذٍ وإعطاء. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عطس خمر وجهه، وغض أو خفض بها صوته. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي مشياً نعرف أنه ليس بعاجز ولا كسلان. وعن عائشة قال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته، إنما كان يتبسم. وعن سماك بن حرب قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم، وكان أصحابه يجلسون فيتناشدون الشعر، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية، فيضحكون، ويتبسم معهم إذا ضحكوا. يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس بن مالك الأشجعي عن أبيه قال: كنا نجلس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فما رأيت أطول صمتاً منه، فكانوا إذا أكثروا تبسم. وعن البراء قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا غضب رأينا لوجهه ظلالاً. وعن أبي هريرة قال: ما عاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً قط. كان إذا أتي به إن اشتهى أكله، وإن كرهه تركه. وفي رواية: إن اشتهاه أكله، وإلا تركه.(2/222)
وعن كعب بن مالك: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أكل طعاماً يلعق أصابعه الثلاث التي ينال بهن الطعام. وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل بثلاث أصابع، ولا يمسح يده حتى يلعقها. وعن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا شرب تنفس في الإناء ثلاثاً. وقال: هو أهنأ، وأمرأ، وأبرأ.(2/223)
ما ورد في شعره وشيبه وخضابه وثيابه
عن أنس قال: كان شعر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أنصاف أذنيه وفي رواية: إلى شحمة أذنيه وفي رواية: يضرب منكبيه. وعن قتادة قال: قلت لأنس: كيف كان شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: كان شعراً رجلا، ليس بالجعد ولا بالسبط، بين أذنيه وعاتقه. وعن أنس قال: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جمة جعدة. وعن زيد بن ثابت: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرق شعره، وكانت له جمة. وعن البراء قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد البياض، كثير الشعر، يضرب شعره منكبيه. وعن جابر بن سمرة قال: كأني أنظر إلى رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجمته تضرب هذا المكان، ويضرب بيده على صدره فوق ثندؤته. وفي رواية: فوق ثدييه.(2/224)
وعن أبي رمثة قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخضب بالحناء والكتم. وكان شعره يبلغ كتفيه، أو منكبيه. وعن عروة قال: قالت لي عائشة: يا بن أختي، كان شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فوق الوفرة ودون الجمة. وعن ابن عباس قال: كان المشركون يفرقون رؤوسهم، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب موافقة أهل الكتاب في بعض مالم يؤمر فيه بشيء، فسدل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصيته ثم فرق بعد. روى محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة قالت: كنت إذا فرقت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه صدعت فرقيه عن يافوخه، فأرسلت ناصيته بين عينيه، فالله أعلم أذلك لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كنا لا نكف شعراً، ولا ثوباً أم هي سيماء كان يتسوم بها. وقد قال محمد بن جعفر بن الزبير: وكان فقيهاً: ما هي إلا سيماء من سيماء الأنبياء تمسكت بها النصارى من بين الناس. وعن أم هانئ قالت: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة، وله أربع غدائر، يعني: ذوائب. وعن أبي إياس قال: سئل أنس عن شيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما شانه الله عز وجل ببيضاء. لعل أنساً أراد: بلحية بيضاء. فقد روى عنه وعن غيره من الصحابة أنه كان شاب بعض شعره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن محمد بن سيرين قال: سألنا أنساً: هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خضب؟ قال: لم يبلغ الخضاب. كانت في(2/225)
لحيته شعرات بيض قال: فقلت له: أكان أبو بكر يخضب قال: نعم بالحناء والكتم. وفي حديث آخر عن قتادة قال: سألت أنساً " هل خضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قال: لم يبلغ ذلك. إنما كان شيبه في صدغيه، ولكن أبا بكر وعمر خضبا بالحناء والكتم. وعن ثابت قال: سئل أنس عن خضاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لو شئت أن أعد شعرات في رأسه لفعلت. وقال: لم يختضب، وقد اختضب أبو بكر بالحناء والكتم، واختضب عمر بالحناء. وعن أنس بن مالك قال: لم يبلغ الشيب الذي كان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين شعرة. وعن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: كان الشيب الذي كان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبع عشرة شعرة شيبة. وعن حميد قال: سئل أنس عن الخضاب فقال: خضب أبو بكر بالحناء والكتم، وخضب عمر بالحناء وحده. فقيل: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال: لم يكن في لحيته عشرون يعني: شعرة بيضاء. قال: وأصغى حميد إلى رجل إلى جنبه فقال: كن سبع عشرة. يعني: شعرة. وعن عبد الله بن محمد بن عقيل قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خضب؟ قال: ما أرى كان في رأسه ولحيته خمس عشرة بيضاء. قال: فإني رأيت في شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي كان في بيتنا شعراً فيه صفرة. فقال له: كان يمس أصوله الصفرة؟ قال أبو بكر بن عياش: قلت لربيعة، جالست أنس بن مالك؟ قال: نعم، قلت: سمعت منه؟ قال:(2/226)
نعم، قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يخضب، قد شاب في مقدم لحيته شيبة لو عدها العاد أحصاها. قال له أبو بكر: شبت يا رسول الله! قال: شيبتني سورة هود والواقعة. وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد شمط مقدم رأسه ولحيته. فإذا ادهن ومشطه لم يتبين، وإذا شعث رأيته. وكان كثير الشعر واللحية. فقال رجل: وجهه مثل السيف، قال: لا، مثل الشمس والقمر، مستدير. قال: ورأيت خاتمه عند كتفه مثل بيضة النعامة تشبه جسده. وعن عبد الله بن همام قال: قلت: يا أبا الدرداء، أي شيء كان يخضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: يا بن أخي أو يا بني ما كان بلغ من الشيب أن يخضب. ولكن قد كان منه هاهنا وأشار بيده إلى عنفقته شعرات بيض فكان يغسله بالحناء والسدر. وعن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي جحيفة قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: صفه لي فقال: أبيض قد شمط. قال حريز: لقيت عبد الله بن بسر السلمي فقلت: أكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيخاً قال: كان في عنفقته شعرات بيض. وعن القاسم بن زهر الأسلمي قال: رأيت شيبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عنفقته وناصيته. حزرته يكون ثلاثين شيبة عدداً.
وعن بشير مولى المازنيين قال: سألت جابر بن عبد الله: هل خضب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لا. ما كان شيبه يحتاج إلى الخضاب. كان وضح في عنفقته وناصيته، ولو أردنا أن نحصيها أحصيناها. قال محمد بن سيرين: سألنا أنساً: هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خضب؟ قال: فقال: نعم، بالحناء والكتم.(2/227)
وعن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: أتينا بمشاقة من شعر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخضوبة بالحناء. وعن أبي سعيد، رجل من أهل الشام قال: دخلت مع مولاي على بعض أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخرجت إلينا شعراً أحمر فقالت: هذا شعر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روي أنه خضب بالصفرة. قال: عبيد بن جريج: رأيت ابن عمر يصفر لحيته، فقلت له في ذلك فقال: إني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصفر لحيته. وعن عبيد بن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها! قال: وما هي؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال، ولم تهلل أنت حتى يكون يوم التروية، فقال عبد الله بن عمر: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمس إلا اليمانيين، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس النعال السبتية التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها، فأنا أحب أن ألبسها. وأما الصفرة، فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصبغ بها، فأنا أحب أن أصبغ بها.
وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهل حتى تنبعث به راحلته. وعن أبي بكر الصديق قال: قلت: يا رسول الله، عجل عليك الشيب! قال: " شيبتني هود وصواحباتها "، يعني: الواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت. وعن ابن عباس قال: ألظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالواقعة، والحاقة، وعم يتساءلون، والنازعات، وإذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، فاستطار منه القتير. فقال أبو بكر: قد أسرع فيك(2/228)
القتير، بأبي وأمي، قال: شيبتني هود وصواحباتها هذه، وفيها المرسلات. وقال عطاء: أخواتها: اقتربت الساعة، والمرسلات عرفاً، وإذا الشمس كورت. وعن أنس بن مالك قال: بينما أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب جالسان في نحو المنبر إذ طلع عليهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيوت نسائه، يمسح لحيته ويرفعها فينظر إليها. قال أنس: وكانت لحيته أكثر شيباً من رأسه. فلما وقف عليهما، قال أنس: وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً، وكان عمر رجلاً غليظاً، فقال أبو بكر: بأبي وأمي، لقد أسرع إليك الشيب يا رسول الله! فرفع لحيته بيده فنظر إليها، فاغرورقت عينا أبي بكر، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجل، شيبتني هود وأخواتها. قال أبو بكر: بأبي وأمي، وما أخواتها؟ قال: الواقعة، والقارعة، وسأل سائل بعذاب واقع، وإذا الشمس كورت. وفي رواية: قال أبو صخر: فأخبرت هذا الحديث ابن قسيط فقال: يا حميد، ما زلت أسمع هذا الحديث من أشياخي فما تركت الحاقة ما الحاقة.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا أكبر منك مولداً، وأنت خيرٌ مني وأفضل. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شيبتني هود وأخواتها. وما فُعل بالأمم قبل. قال أبو علي الشبَّوي: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقلت له: روي عنك أنك قلت: شيبتني هود. قال: نعم. فقلت: ما الذي شيبك منها، قصص الأنبياء وهلاك الأمم؟ فقال: لا، ولكن قوله: " فاستقم كما أمرت ". وعن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يكتب إلى الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا بخاتم. فاتخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتماً من فضة نقشه: محمد رسول الله. كأني أنظر إلى بصيصه في يده. وفي رواية عنه أيضاً:(2/229)
لما أراد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتب إلى الروم. وذكر باقي الحديث. وعنه قال: كان نقش خاتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أسطر: سطر: محمد، وسطر: رسول، وسطر: الله. وعنه قال: كان خاتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فضة كله، وفصه منه، قال: فسألت حميداً عن الفص كيف هو، فحدثني أنه لا يدري. وعن أنس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتماً من ورق له فص حبشي، ونقشه: محمد رسول الله. وعنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس خاتماُ من فضة في يمينه فيه فص حبشي، وكان يجعل فصه في بطن كفه. وعنه: أن معاذ بن جبل بعث إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخاتم من اليمن من ورق، فصه حبشي كتب عليه: محمد رسول الله وبوجهه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتختم به، ويتختم به أبو بكر، ويتختم به عمر، ويتختم به عثمان ست سنين من إمارته، فبينا هو على بئر أريس سقط منه فنزحت البئر فلم يوجد. وعن أنس بن مالك: أنه رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده خاتم من ورق يوماً واحداً، ثم إن الناس اصطنعوا الخواتم من ورق ولبسوها، فطرح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتمه، فطرح الناس خواتمهم. قال البيهقي: ويُشبه أن يكون ذكر الورق وهماً سبق إليه لسان الزهري فحملوه منه على الوهم.(2/230)
وهذا كما قال البيهقي رحمه الله. فإن الخاتم الذي طرحه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان من ذهب، ويدل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلبس خاتماً من ذهب، ثم قام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنبذه وقال: لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم. وعنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع خاتماً من ذهب، وكان يجعل فصه في بطن كفه إذا لبسه في يده اليمنى. فاصطنع الناس خواتيم من ذهب، فجلس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المنبر فنزعه وقال: " إني كنت ألبس هذا الخاتم وأجعل فصه في بطن كفي، فرمى به وقال: والله لا ألبسه أبداً "، فنبذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونبذ الناس خواتيمهم. وعنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتماً من ذهب ثم ألقاه، واتخذ خاتماً من ورق ونقش محمد رسول الله، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ونهى الناس أن ينقشوه، فكان إذا لبسه جعل الفص مما يلي بطن كفه، وهو الخاتم الذي سقط من معيقيب في بئر أريس. وهذا لفظ العباس. وقال إبراهيم: لبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخاتم وجعل فصه مما يلي كفه، وقال: لا ينقش أحد على نقش خاتمي. وعنه: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتخذ خاتماً من ذهب فلبسه ثلاثة أيام، ففشت خواتيم الذهب في أصحابه فرمى به، واتخذ خاتماً من ورق نقش فيه: محمد رسول الله. فكان في يده حتى مات. وفي يد أبي بكر حتى مات. وفي يد عمر حتى مات، وفي يد عثمان ست سنين. فلما كثرت عليه الكتب دفعه إلى رجل من الأنصار يختم به، فأتى قَليباً لعثمان فسقط فيها، فالتمسوه فلم يجدوه، فاتخذ خاتماً من ورق نقش فيه: محمد رسول الله.
حدث إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده المعيقيب، وجده من قبل أمه ابن أبي ذُباب قال: كان خاتم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملوى بفضة. فربما كان في يدي، وكان معيقيب على خاتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/231)
وعن عمرو بن يحيى بن سعيد القرشي عن جده قال: دخل عمرو بن سعيد بن العاص حين قدم من الحبشة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما هذا الخاتم في يدك يا عمرو؟! قال: هذه حلقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فما نقشها؟ قال: محمد رسول الله، قال: فأخذه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتختمه، فكان في يده حتى قبض، ثم في يد أبي بكر حتى قبض، ثم في يد عمر حتى قبض، ثم في يد عثمان. فبينا هو يحفر بئراً لأهل المدينة يقال لها بئر أريس، فبينما هو جالس على شفتها يأمر بحفرها سقط الخاتم في البئر، وكان عثمان يكثر إخراج خاتمه من يده وإدخاله، فالتمسوه فلم يقدروا عليه. وفي حديث أنس: قال أنس: فاختلفنا مع أمير المؤمنين ثلاثة أيام، نطلبه فلم نقدر عليه. وعن عبد الله بن جعفر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتختم في يمينه. وروى قتادة عن أنس بن مالك قال: كأني أنظر إلى وميض خاتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده اليسرى، وهو يخطبنا. وعن نافع بن عمر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتختم في يساره. ووجه الجمع بين هذه الروايات أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس الخاتم الذهب في يمينه ثم نبذه، واتخذ خاتم الورق ولبسه في يساره. يبين ذلك ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تختم خاتماً من ذهب في يده اليمنى على خنصره، حتى رجع إلى البيت فرماه فما لبسه، ثم تختم خاتماً من ورق فجعله في يساره. وأن أبا بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم كانوا يتختمون في يسارهم. وعن عائشة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يتختم في يمينه ثم حوله في يساره. وعن جابر: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء.(2/232)
وروى الزهري عن أنس بن مالك قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه عمامة سوداء. قال: ولا يصح هذا عن الزهري إنما حديثه: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر. وعن أنس بن مالك: أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتم بعمامة سوداء. وعن جابر قال: كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمامة سوداء. وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب الناس وعليه عصابة دسمة، وروي دسماء. وعن عبد الله بن عمر وأبي هريرة قالا: ما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم جمعة قط إلا وهو معتم، وإن كان في إزار ورداء. وإن لم يكن عنده عمامة وصل الخرق بعضها إلى بعض واعتم بها. قال أبو عبد السلام: سألت ابن عمر: كيف كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعتم؟ قال: كان يدير العمامة على رأسه، ويغرزها من ورائه، ويرسل لها ذؤابة بين كتفيه. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: عممني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأرسلها من بين يدي ومن خلفي. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يلبس القلانس البيض والمزرورات وذوات الأردان. وعن ابن عمر وعن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلبس كمة بيضاء.(2/233)
وعن عائشة قالت: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلنسوة بيضاء لاطئة يلبسها. وعنها قالت: كان رداء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أذرع وشبراً في ذراع وشبر.
وعن ابن عمر قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس رداء مربعاً. وعن أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لك يكن من الثياب شيء أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القميص. وعن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوي الكمين بأطراف أصابعه. وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له قميص قبطي قصير الطول، وقصير الكمين وفي رواية: قميص قطن وفي رواية: قميص قطني. وعن أسماء بنت يزيد قالت: كان كم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الرصغ. وعن المغيرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبس جبة رومية ضيقة الكمين. وعنه قال: خرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بعض ما كان يسافر، فسرنا، حتى إذا كان في وجه الصبح انطلق حتى توارى عنا، ضرب الخلاء، ثم جاء فدعا بطهور وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، فأدخل يده من تحت الجبة ثم غسل وجهه ويديه ومسح برأسه ومسح على الخفين.(2/234)
وعن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء. وعن المغيرة بن شعبة قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي، ويستحب أن يصلي على فروة مدبوغة. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " عليكم بالثياب البيض فيلبسها أحياؤكم وكفنوا فيها أمواتكم، وعليكم بالإثمد فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر ". وفي رواية سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " البسوا الثياب البياض، وكفنوا فيها موتاكم، فإنها أطهر وأطيب. وفي رواية: فإنها من خير ثيابكم ". وفي حديث آخر عنه: وقد كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه لبس الحبرات وهي البرود اليمانية. وقال قتادة: سألت أنساً: أي اللباس كان أحب إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو أعجب، قال: الحبرة. وعن قدامة الكلابي قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشية عرفة وعليه حلة حبرة.
وعن جابر بن سليم، أو سليم بن جابر قال: أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإذا هو جالس مع أصحابه. قال: فقلت: أيكم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: فإما أن يكون أومأ إلى نفسه، وإما أن يكون أشار إليه القوم فإذا هو محتبٍ ببردة قد وقع هدبها على قدميه. قال: فقلت: يا رسول الله؛ أجفو عن أشياء فعلمني. قال: " اتق الله عز وجل، ولا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وإياك والمخيلة، فإن الله تبارك وتعالى لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتمك(2/235)
وعيرك بأمرٍ يعلمه فيك فلا تعيره بأمر تعلمه فيه ليكون لك أجرة، وعليه إثمه، ولا تشتمن أحداً ". وقد لبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثياب السود. وعن عائشة أنها قالت: صنعت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بردة سوداء من صوف فلبسها فأعجبته، فلما عرق فيها، فوجد فيها ريح النمرة قذفها. وعن عائشة قالت: خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات غداة وعليه مرط مرحل، ومن شعر أسود. وقد لبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثياب الخضر. عن أبي رمثة قال: قدمت المدينة ولم أكن رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فخرج وعليه ثوبان أخضران. وذكر الحديث. قال قتادة: خرجنا مع أنس بن مالك إلى أرض له يقال لها الراوية، فقال حنظلة السدوسي: ما أحسن هذه الخضرة، فقال أنس: كنا نتحدث أن أحب الألوان إلى الله عز وجل الخضرة. وقد لبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثياب الصفر. وعن عبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه ثوبان مصبوغان بالزعفران: رداء وعمامة. وعن قيلة: أنها رأت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قاعد القرفصاء، وعليه أسمال مليتين كانتا تزعفران وقد نفضتا.(2/236)
وقد لبس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الثياب الحمر. وعن عون عن أبيه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج في حلة حمراء، فركز عنزةً، فجعل يصلي إليها بالبطحاء يمر من ورائها الكلب والحمار والمرأة. وعن البراء بن عازب قال: ما رأيت رجلاً قط أحسن من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حلة حمراء. وعن جابر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يلبس بردة الأحمر في الجمعة والعيدين. وعن نافع قال: سمعت ابن عمر يقول: والله ما شمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيته ثلاثة أثواب. ولا شمل أبو بكر في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب، ولا شمل عمر في بيته ولا خارج بيته ثلاثة أثواب. غير أني كنت أرى كساءهم إذا أحرموا، كان لكل واحد منهم مئزر ومشمل لعلها كلها بثمن درع أحدكم. والله لقد رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرقع ثوبه، ورأيت أبا بكر تخلل العباء ورأيت عمر يرقع جبته برقاع من أدم وهو أمير المؤمنين. وإني أعرف في وقتي هذا من يجيز بالمئة ولو شئت لقلت ألفاً.
وعن أبي هريرة قال: دخلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوق، فقعد إلى البزازين، فاشترى سراويل بأربعة دراهم. قال: وكان لأهل السوق رجل يزن بينهم الدراهم يقال له: فلان الوزان. قال: فجيء به يزن ثمن السراويل فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتزن وأرجح؟ فقال له الوزان: إن هذا القول ما سمعته من أحد من الناس، فمن هذا الرجل؟ قال أبو هريرة: قلت: حسبك من الزهو والجفاء في دينك ألا تعرف نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال: أهذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟(2/237)
قال: فأخذها يعني يده ليقبلها فجذبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: مه إنما تفعل هذا الأعاجم بملوكها. وإني لست بملك، وإنما أنا رجل منكم. قال: ثم جلس، فاتزن الدراهم وأرجح كما أمره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما انصرفنا تناولت السراويل من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأجملها عنه، فمنعني وقال: صاحب الشيء أحق بحمله إلا أن يكون ضعيفاً، يعجز عنه، فيعينه عليه أخوه المسلم. قلت: يا رسول الله، وإنك لتلبس السراويل؟ قال: نعم. بالليل والنهار، وفي السفر والحضر قال الإفريقي: وشككت في قوله: مع أهلي إني أمرت بالتستر، فلم أجد ثوباً أستر من السراويل. وعن علي قال: كنت قاعداً عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبقيع في يوم دجن مطر، فمرت امرأة على حمار، ومعها مكاري، فهوت يد الحمار في وهدة من الأرض فسقطت المرأة، فأعرض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها بوجهه. فقالوا: يا رسول الله، إنها متسرولة فقال: " اللهم اغفر للمتسرولات من أمتي. ثلاثاً. يا أيها الناس، اتخذوا السراويلات، فإنها من أستر ثيابكم، وخصوا بها نساءكم إذا خرجن ". وعن أنس قال: كان لنعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبالان. وعن تمام قال: نظر هشام بن عروة إلى نعل الصلت بن دينار ولها قبالان. فقال هشام: عندنا نعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معقبة مخصرة ملسنة. وعن عمرو بن حُريث قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي في نعلين مخصوفتين.(2/238)
وعن بريدة: أن النجاشي أهدى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خفين أسودين ساذجين، فتوضأ ومسح عليهما. وعن عائشة قالت: كان ضجاع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي ينام عليه وسادة بالليل من أدمٍ حشوها ليف. وعن أبي بردة قال: دخلنا على عائشة، فأخرجت إلينا إزاراً غليظاً مما يصنع باليمن. وكساء من هذه التي تدعونها الملبدة، فقالت: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذين الثوبين.(2/239)
ذكر تواضعه لربه ورحمته لأمته ورأفته بصحبه
عن عمر بن الخطاب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " لا تُطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبده. فقولوا: عبد الله ورسوله ". وعن أنس قال: إن رجلاً قال لنبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا تستهوينكم الشياطين، أنزلوني حيث أنزلني الله. أنا عبد الله ورسول الله ". وفي رواية عنه: ولا يستخزينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، رسول الله. ووالله ما أحب. إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خلق قبل الساعة. فلما نزل قال: يا محمد، أرسلني إليك ربك: أملكاً نبياً نجعلك أو عبداً رسولاً؟ قال جبريل: تواضع لربك يا محمد. قال: بل عبداً رسولاً. وعن عائشة قالت: أُتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطعام فقلت: ألا تأكل وأنت متكىء، فإنه أهون عليك؟(2/240)
قالت: فأصغى بجبهته حتى كاد يمسح بها الأرض قال: آكل كما يأكل العبيد، وأنا جالس. فما رأيته أكل متكئاً حتى مضى لسبيله. وعن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أتاني ملك جرمة يساوي الكعبة. فقال اختر أن تكون نبياً ملكاً أو نبياً عبداً. فأومأ إليه جبريل عليه السلام أن تواضع لله تعالى فقال: بل أحب أن أكون عبداً نبياً، فشكر ربي عز وجل ذلك فقال: أنت أول من تنشق عنه الأرض وأول شافع ". وفي حديث آخر عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يا عائشة، لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حجزته لتساوي الكعبة.
وذكر بقية الحديث ". وعن حبيب بن أبي ثابت قال: قلت لأنس بن مالك: حدثنا بما سمعت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا تحدثنا عن غيره قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس الصوف، ويركب الحمار، ويجلس على الأرض وثيابه عليها. ويجيب دعوة الكهول، ويعتقل العنز ويحلبها. وسمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لو دعيت إلى كراع لأجبت ". قال: كذا قال: وثيابه عليها. قال: وأحسبه: وينام عليها. وعن أنس قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يأكل متكئاً فقال: التُكأة من النعمة فاستوى قاعداً. فما رُئي بعد ذلك متكئاً. وقال: " إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأشرب كما يشرب العبد ".(2/241)
وعن علي بن حسين قال: قيل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو اتخذنا لك شيئاً ترتفع عليه تُكلم الناس. فقال: " لا أزال بينكم تطوون عقبى حتى يكون الله يرفعني. ثم قال: لا ترفعوني فوق حقي فإن الله اتخذني عبداً قبل أن يتخذني رسولاً ". وعن أبي موسى قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس الصوف، ويركب الحمار ويأتي مدعاة الضعيف. وعن أبي أيوب قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركب الحمار، ويخصف النعل، ويرقع القميص، ويقول: " من رغب عن سنتي فليس مني ". وعن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود المريض، ويركب الحمار ويردف معه، ويجيب دعوة المسكين. وعن أنس: يجيب دعوة العبد. وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعود المريض، ويتبع الجنازة، ويجيب دعوة الكهول، ويركب الحمار. وكان يوم خيبر ويوم قريظة والنضير على حمار مخطوم، بجبل من ليف، وتحته إكاف من ليف. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من لبس الصوف، وانتعل المخصوف، وركب حماره، وحلب شاته، وأكل معه عياله فقد نحى الله منه الكبر، أنا عبد ابن عبد، أجلس جلسة العبد وآكل أكل العبد وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يطرف طعاماً قط إلا وهو جاث على ركبتيه إني قد أوحي إلي أن تواضعوا، ولا يبغي أحد على أحد. إن يد الله عز وجل مبسوطة في خلقه. فمن رفع نفسه وضعه الله، ومن وضع نفسه رفعه الله وما يمشي امرؤ على الأرض شبراً يبتغي فيها سلطان الله إلا أكبه الله ".(2/242)
وعن أبي هريرة قال: كان في رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث خلال ليست في الجبارين: كان يركب الحمار، وكان لا يدعوه أسود ولا أحمر إلا أجابه، وكان يجد التمرة ملقاة فيلقيها في فيه. وعن أنس قال: لما دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكة استشرفه الناس، فوضع رأسه على رحله تخشعاً. وقال أنس بن مالك: كان لا يشاء العبد الأسود أن يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيأخذ بيده فيمضي به حيث سأله إلا أقعى لحاجته.
وخطب عثمان بن عفان فقال: إنا والله صحبنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في السفر والحضر، فكان يعود مرضانا ويتبع جنائزنا، ويواسينا بالقليل والكثير. وإن ناساً يعلموني به وعسى ألا يكون أحدهم رآه قط. وعن سهل بن حنيف قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي ضعفاء المسلمين ويعود مرضاهم، ويشهد جنائزهم. وعن عاصم بن حدرة قال: ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خوان قط، ولا مشى معه سواد، وما كان له بواب قط. وعن الحسن: أنه ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: لا والله، ما كانت تغلق دونه الأبواب، ولا يقوم دونه الحجبة، ولا يغدى عليه بالجفان، ولا يراح عليه بها، ولكنه كان بارزاً، من أراد أن يلقى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقيه. وكان والله يجلس بالأرض، ويوضع طعامه بالأرض، ويلبس الغيظ، ويركب الحمار، ويردف معه ويلعق والله يده. وعن ابن مسعود الأنصاري قال: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلم رجلاً فأرعد فقال: هون عليك، فإني لست بملك. إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد.(2/243)
وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " ما بعث الله عز وجل نبياً إلا راعي غنم. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: وأنا كنت أرعاها لأهل مكة بالقراريط ". وعن أبي سعيد الخدري قال: افتخر أهل الإبل وأهل الغنم عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " السكينة والوقار في أهل الغنم، والفخر والخيلاء في أهل الإبل ". وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بعث موسى وهو يرعى غنماً لأهله. قال: وبعثت أنا، وأنا أرعى غنماً لأهلي بأجياد ". وعن أنس: أن نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي لما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه ". وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرحم الناس بالعيال والصبيان. وعنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طريق ومعه أناس من أصحابه، فعرضت له امرأة فقالت: يا رسول الله، لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان، اجلسي في أدنى نواحي السكك حتى أجلس إليك، ففعلت فجلس إليها حتى قضت حاجتها.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم، إني اتخذت عندك عهداً لن تخلفنيه، إنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته أو شتمته أو جلدته أو لعنته فاجعلها صلاة وزكاة وقربة تقربه بها يوم القيامة ". وعن أبي سعيد الخدري قال: غشى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأمداد من أهل اليمن وهو في المسجد مسجده، فجعلوا يتمسحون به فلما غشوه قام موئلاً إلى بيته يقول: فاراً وركبوه. قال أبو سعيد: وكنت فيمن(2/244)
يدفع عنه، وغلبونا عليه حتى انتزعوا رداءه وحتى أصاب منكبه الباب فأوجعه، وقعد في حجرة عائشة منبهراً مما لقي منهم يقول: اللهم العنهم، اللهم العنهم. فلما سري عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت له عائشة: هلك والله القوم يا رسول الله. قال: وما ذاك يا عائشة. قالت: أولم أسمعك تقول: اللهم العنهم؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلا والله، لقد اشترطت على ربي فقلت: " اللهم، إنما أنا بشر أغضب كما يغضبون وأجد كما يجدون، فأي المسلمين ضربت أو سببت أو لعنت أو آذيت فاجعلها له مغفرة ورحمة وقربة تقربه بها يوم القيامة. كلا والله يا عائشة ". وعن الفضل بن عباس قال: دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه وعلى رأسه عصابة حمراء أو قال: صفراء فقال: ابن عمي، خذ هذه العصابة فاشدد بها رأسي. فشددت بها رأسه. قال: ثم توكأ علي حتى دخلنا المسجد فقال: " يا أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم. ولعله أن يكون قد قرُب مني خفوف من بين أظهركم. فمن كنت أصبت من عرضه أو من شعره أو من بشره أو من ماله شيئاً، هذا عرض محمد وشعره وبشره وماله فليقم فليقتص، ولا يقولن أحد منكم: إني أتخوف من محمد العداوة والشحناء. ألا وإنهما ليسا من طبيعتي وليسا من خلقي ". قال: ثم انصرف. فلما كان من الغد أتيته فقال: " ابن عمي، لا أحسب أن مقامي بالأمس أجزأ عني، خذ هذه العصابة فاشدد بها رأسي ". قال: فشددت بها رأسه. قال: ثم توكأ علي حتى دخلنا المسجد فقال مثل مقالته بالأمس ثم قال: " فإن أحبكم إلينا من اقتص ". قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت يوم أتاك السائل فسألك فقلت: من معه شيء يقرضنا فأقرضتك ثلاث دراهم؟ قال: فقال: " يا فضل أعطه ". قال: فأعطيته. قال: ثم قال: " ومن غلب عليه شيء فليسألنا ندع له ". قال: فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني رجل جبان كثير النوم. قال: فدعا له. قال الفضل: فلقد رأيته أشجعنا وأقلنا نوماً. قال: ثم أتى بيت عائشة فقال للنساء مثلما قال للرجال. ثم قال: " ومن غلب عليه شيء فليسألنا ندع له. قال: فأومأت امرأة إلى لسانها. قال: فدعا لها. قالت: فلربما قالت لي: يا عائشة، أحسني صلاتك.(2/245)
وعن عبد الله بن عمرو: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله عز وجل في إبراهيم " ربِّ إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " وقال عيسى " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ورفع يديه ثم قال: اللهم، أمتي أمتي وبكى. فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل فسأله، فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما قال، وهو أعلم فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك. وعن أبى ذر قال: قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بآية حتى اصبح يرددها. والآية " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ".(2/246)
ذكر تقلله وزهده وتبتله في العبادة
عن عائشة قالت: ما شبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم مرتين حتى مات. وعنها قالت: إن كان ليمر بنا الشهر ونصف الشهر ما توقد في بيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نار لمصباح ولا لغيره. قال: قلت: سبحان الله! فبأي شيء كنتم تعيشون؟ قالت: بالماء والتمر، كان لنا نسوة جيران من الأنصار لهن منائح، فربما أهدوا إلينا منها شيئاً. وفي رواية أخرى قالت: والله، لقد كان يأتي على آل محمد شهر ما نختبز فيه. قال: فقلت: يا أم المؤمنين، فما كان يأكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كان لنا جيران من الأنصار جزاهم الله خيراً، كان لهم شيء من لبن يهدون منه إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعنها قالت: كان يأتي على آل محمد الشهر ما يوقدون فيه ناراً، إنما هو التمر والماء، إلا أن يؤتى باللحم. وعن عائشة قالت: لقد أهدى لنا أبو بكر رجل شاة لحم، فإني لأقطعنها أنا ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ظلمة البيت، فقلت لها: هلا أسرجتم؟ فقالت: لو كان لنا ما نسرج به لأكلناه.(2/247)
وعن عائشة قالت: لقد مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في بيتي إلا شطر من شعير فكلته ففني، فليتني لم اكله. وقالت: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما خلف ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً. وعنها قالت: لقد مات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين. وعنها قالت: والذي بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحق، ما أرى منخلاً ولا أكل خبزاً منخولاً مذ بعثه الله إلى أن قبض صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلت: كيف كنتم تأكلون الشعير؟ قالت: كنا نقول: أف، أف. وعن عائشة قالت: ما رفع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غداءً لعشاء ولا عشاء قط لغداء. ولا اتخذ من شيء زوجين: لا قميص، ولا رداءين ولا من النعال، ولا رُئي قط فارغاً في بيته.
إنما يخصف نعلاً لرجل مسكين أو يخيط ثوباً لأرملة. وعن عائشة أنها قالت: ما شبع آل محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثة أيام متتابعة من خبز البر حتى ذاق محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت. وما زالت الدنيا علينا عسرة كدرة حتى مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما مات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انصبت الدنيا علينا صباً. وعنها قالت: لقد توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما في بيتي شيء يأكله ذو كبد، إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي فكلته ففني.(2/248)
قال مسروق: دخلت على عائشة يوماً فدعت لي بطعام، فقالت لي: كل. فلقلما أشبع من طعام فأشاء أن أبكي إلا بكيت. قال: قلت: يا أم المؤمنين، وذاك ممه؟ قالت: أذكر الحال التي فارقنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ما شبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يوم مرتين من خبز الشعير حتى لحق بالله عز وجل.
وعن عائشة قالت: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يترك ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً، ولم يوص بشيء. وعن عمرو بن الحارث ختن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخي جويرية بنت الحارث قال: والله، ما ترك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند وفاته ديناراً ولا درهماً ولا عبداً ولا أمة ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضاً جعلها صدقة. وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التفت إلى أُحد فقال: " والذي نفسي بيده ما يسرني أن أُحداً تحول لآل محمد ذهباً أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت أدع منه دينارين، إلا دينارين أحدهما لدين إن كان ". فمات وما ترك ديناراً ولا درهماً ولا عبداً، ولا وليدة، وترك درعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين صاعاً شعير. وعن عائشة قالت: دخلت علي امرأة من الأنصار فرأت فراش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة وقيل: عباءة مثنية، فانطلقت فبعثت إلي بفراش حشوه صوف، ودخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما هذا يا عائشة؟! قالت: قلت: يا رسول الله، فلانة الأنصارية دخلت علي فرأت فراشك، فذهبت فبعثت إلي بهذا. فقال: " رديه يا عائشة. فو الله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ". قالت: فلم أرده، وأعجبني أن يكون في بيتي، حتى قال لي ذاك ثلاث مرات قال: فقال: " رديه يا عائشة، فوالله لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة ".(2/249)
وعن زر بن حبيش قال: سألت عائشة أم المؤمنين عن ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت: عن ميراث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسأل لا أبالك؟! والله ما ورّث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً ولا عبداً ولا أمة. وعن عائشة قالت: لو أردت أن أخبركم بكل شعبة شعبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات لفعلت. وعن عمران بن يزيد قال: حدثني والدي قال: دخلنا على عائشة فقلنا: سلامٌ عليك يا أمّه فقالت: وعليك، ثم بكت فقلنا: ما بكاؤك يا أمّه؟ قالت: بلغني أن الرجل منكم يأكل من ألوان الطعام حتى يلتمس لذلك دواء يمريه، فذكرت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فذلك الذي أبكاني. خرج من الدنيا ولم يملأ بطنه في يوم من طعامين. كان إذا شبع من التمر لم يشبع من الخبز، وإذا شبع من الخبز لم يشبع من التمر. وعن عائشة قالت: اشتد وجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعندنا سبعة دنانير أو تسعة. فقال: يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب؟ قالت: هي عندي، قال: فتصدقي بها. قالت: فشغلت، ثم قال: يا عائشة، ما فعلت تلك الذهب؟ فقلت: عندي. قال: تصدقي بها. قالت: فشغلت ثم قال الثالثة: ما فعلت تلك الذهب؟ فقلت: هي عندي فقال: ائتني بها، فوضعها في يده ثم قال: " ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده، ما ظن محمد لو لقي الله وهذه عنده ". وفي رواية قالت: فأخذها فبددها. وعن عطاء قال: زار أبو هريرة قومه فأتوه برقاق من الرقاق الأول. فلما رآه بكى. فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال " ما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا بعينه قط.(2/250)
وعن أبي هريرة قال: إن كان ليمر بآل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأهلة ما يسرج في بيت أحد منهم سراج، ولا توقد فيه نار.
إن وجدواً زيتاً ادهنوا به، وإن وجدوا ودكاً أكلوه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً ". وعنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: " والله لا يقسم ورثتي ديناراً، ما تركت من شيء بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة ". وعنه قال: جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، ما لي أرى لونك منكفتاً! قال الخمص، فانطلق الأنصاري إلى رحله فلم يجد فيه شيئاً، فخرج يطلب فإذا هو بيهودي يسقي نخلاً له فقال الأنصاري لليهودي: أسقي نخلك؟ قال: نعم، كل دلو بتمرة، واشترط الأنصاري عليه ألا يأخذ منه خدرة ولا تارزة ولا حشفة، ولا يأخذ إلا جيدة. فاستسقى له بنحو من صاعين تمراً، فجاء به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: من أين لك هذا؟ فأخبره الأنصاري. وكان يسأل عن الشيء إذا أُتي به، فأرسل إلى نسائه بصاع، وأكل هو وأصحابه صاعاً. وقال للأنصاري: أتحبني؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق يعني: إني لأحبك قال: إن كنت فاتخذ البلاء كفافاً، فوالذي نفسي بيده للبلاء أسرع إلى من يحبني من الماء الجاري من قلب الجبل إلى حضيض الأرض ثم قال: " اللهم، فمن أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده ".(2/251)
وعن أنس قال: ما أكل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خوان ولا في سُكرُّجة، ولا خبز له مرقق. قال: قلت لقتادة: فعلام كاونوا يأكلون؟ قال: على السفر. وعن أنس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان لا يدخر شيئاً لغد. وعن أبي ربيع قال: كنا مع أنس بن مالك في بستان له إذ أُلقيت له طنفسة، ثم جيء بخوان فوضع، ثم جيء بزهومة فوضعت على الخوان، فلما رأى ذلك أنس بكى. قال: قلنا: ما يبكيك يا أبا حمزة؟ قال: ما رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعداً على طنفسة قط. ولا رأيت بين يديه خواناً قط. وعن أنس: أن خياطاً بالمدينة جعل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً فأتى بخبز شعير وإهالة سنخة وإذا فيها قرع، فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه القرع، فجعلت أُقربه قدامه. قال أنس: فلم يزل القرع يعجبني منذ رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه. وعن أنس قال " كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة فيجيب، ولقد كانت له درع رهناً عند يهودي. فما وجد ما يفتكها حتى مات صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أنس قال: لبس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصوف، واحتذى المخصوف.(2/252)
وقال: أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشعاً، ولبس خشناً. قال: سئل الحسن: ما البشع؟ قال: غليظ الشعير، لايكاد يسيغه إلا بجرعة ماء. وعن أنس: أن فاطمة جاءت بكسرة خبز لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ قالت: قرص خبزته، فلم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام. وعن جابر بن عبد الله قال: لما حفر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه الخندق أصاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون جهداً شديداً، فمكثوا لا يجدون طعاماً حتى ربط النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بطنه حجراً من الجوع. وعن ابن البجير، وكان من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أصاب يوماً النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوع، فوضع على بطنه حجراً ثم قال: ألا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة. ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم. ألا يا رب منحوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله. ما له عند الله من خلاق، ألا وإن عمل الجنة حزنة بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بشهوة. ألا يا رب شهوة ساعة أورثت خزناً طويلاً. وعن سماك أنه سمع النعمان بن بشير يخطب وهو يقول: احمدوا الله تبارك وتعالى: فربما أتى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهر يظل يتلوى، ما شبع من الدقل.
وعن أبي حازم قال: سألت سهل بن سعد فقلت: هل أكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النقي فقال سهل: ما(2/253)
رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النقي من حين بعثه الله حتى قبضه الله. قال: فقلت: هل كانت لكم في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مناخل. قال: ما رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منخلاً من حين ابتعثه الله حتى قبضه. قال: فقلت: كيف كنتم تأكلون الشعير غير منخل؟ قال: كنا نطحنه وننفخه، فيطير ما طار وما بقي ثريناه فأكلناه. وعن أحمد بن عبد الله العجلي قال: سألت نعيم بن حماد قلت: جاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يشبع في يوم من خبز مرتين. وجاء عنه أنه كان يعد لأهله قوت سنة فكيف هذا؟! قال: كان يعد لأهله قوت سنة، فتنزل به النازلة فيقسمه فيبقى بلا شيء. وعن عمر بن الخطاب: أنه دخل على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هجره نساؤه فوافاه على سرير رمال يعني مرمولاً متوسداً وسادةً من أدم محشوة ليفاً. فقال عمر: التفت في البيت فوالله ما رأيت شيئاً يرد البصر إلا العباء من أدم معطونة ريحها، فبكيت، فقلت: يا رسول الله، أنت رسول الله وخيرته وهذا كسرى وقيصر في الذهب والحرير، فاستوى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالساً فقال: أو في شكٍ أنت يا بن الخطاب! أولئك قوم عجلت، يعني: طيباتهم في حياتهم الدنيا. وعن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء. قال: وكان عامة خبزهم الشعير. وعن ابن عمر أنه قال: إن جبريل عليه السلام أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا.(2/254)
وعن ابن عمر قال: خرجت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى دخل في بعض حيطان الأنصار، فجعل يلتقط من التمر ويأكل، فقال لي: يا بن عمر، مالك لا تأكل؟! قال: قلت: يا رسول الله، لا أشتهيه، قال: لكنني أشتهيه، وهذه صبح رابعة مذ لم أذق طعاماً ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي عز وجل فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر، فكيف بك يا بن عمر إذا بقيت في قوم يخبؤون رزق سنتهم بضعف اليقين؟ فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت " وكأين من دابةٍ لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم " فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله عز وجل لم يأمرني بكنز الدنيا ولا اتباع الشهوات، فمن كنز دنيا يريد بها حياة باقية فإن الحياة بيد الله. ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغدٍ. وعن ابن عمر: " لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة " قال: في جوع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن عبد الله قال: اضطجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حصير، فأثر الحصير بجلده. فلما استيقظ جعلت أمسح عنه وأقول: ألا أذنتنا فنبسط لك عليه شيئاً يقيك منه؟ فقال: ما لي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.
وعن نوفل بن إياس أنه قال: كان عبد الرحمن بن عوف لنا جليساً، وكان نعم الجليس، وإنه انقلب بنا ذات يوم إذ أدخلنا بيته، ودخل فاغتسل، ثم خرج فجلس معنا، وأُتينا بصفحة فيها خبز ولحم. فلما وضعت بكى عبد الرحمن، فقلت له: يا أبا محمد، ما يبكيك؟! قال: هلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يشبع هو وأهل بيته من خبز الشعير، ولا أُرانا أُخرنا لما هو خير لنا.(2/255)
وعن عمرو بن العاص قال: وهو على المنبر بمصر للناس: ما أبعد هديكم من هدي نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أما هو فأزهد الناس في الدنيا، وأما أنتم فأرغب الناس فيها. وعن عمرو بن العاص قال: لقد أصبحتم وأمسيتم ترغبون فيما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزهد فيه؛ أصبحتم ترغبون في الدنيا، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزهد فيها والله ما أتت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من دهره إلا كان الذي عليه أكثر مما له. قال: فقال له بعض أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد رأينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستسلف. وفي رواية: والله، والله ما مر برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة من الدهر إلا والذي عليه أكثر من الذي له. وعن أبي البختري قال: صحب سلمان رجلٌ من بني عبس، فكان لا يستطيع أن يفضله في عمل: إن عجن خبز، وإن سقى الركاب هيأ العلف للدواب، حتى انتهى إلى دجلة وهو تطفح، فقال له سلمان: انزل فاشرب. قال: فشرب. فقال: ازدد فازدد. قال: كم تراك نقصت منها؟ فقال: ما عسى أن أنقص من هذه. قال: فقال له سلمان: فكذلك العلم تأخذ منه ولا تنقصه، فعليك بما ينفعك. قال: فعبرنا إلى نهر دنّ فإذا الأكداس عليه من الحنطة والشعير فقال: يا أخا بني عبس، أما ترى الذي فتح خزائن هذه علينا كان برأها ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيّ؟ قال: قلت: بلى. قال: فوالذي لا إله غيره لقد كنا نمسي ونصبح وما فينا قفيز من قمح. ثم سار حتى انتهى إلى جلولاء فذكر ما فتح الله عز وجل عليهم فيها(2/256)
من الذهب والفضة. فقال: يا أخا بني عبس، أما ترى الذي فتح هذه علينا كان برأها ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي؟ قلت: بلى. قال: فوالذي لا إله غيره.
لقد كانوا يمسون ويصبحون وما فيهم دينار ولا درهم. وعن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " عرض عليّ ربي بطحاء مكة ذهباً، فقلت: لا يا رب، ولكن أشبع يوماً، وأجوع يوماً. فإذا جعت تضرعت إليك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك ". وعن أبي عسيب قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلاً فدعاني فخرجت إليه، ثم مر بأبي بكر فدعاه فخرج إليه، ثم مر بعمر فدعاه فخرج إليه، فانطلق يمشي ونحن معه حتى دخل بعض حوائط الأنصار فقال: أطعمنا بسراً، فجاء بعذق فأكلوا، وجاء بماء فشربوا. فقال عمر: يا رسول الله: إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: نعم إلا من ثلاثٍ: إلا من كسرةٍ يسد بها الرجل جوعته؛ وخرقة يواري بها عورته، وجُحر يتدخل فيه من الحر والقر.
وعن الحسن: حدثني من صحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يره وضع قصبة ولا لبنة على لبنة. وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه لما نزلت هذه الآية " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " قال وصلى حتى انتفخت قدماه، وتعبد حتى صار كالشنّ البالي. فقالوا: يا رسول الله! أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ". وعن سفينة قال: اعتزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه قبل أن يموت بشهرين، وتعبد حتى صار كالشنّ البالي.(2/257)
وعن عطاء قال: دخلت على عائشة فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكت وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟ إنه أتاني في ليلة فدخل معي في فراشي أو قالت: في لحافي حتى مس جلدي جلده ثم قال: يا بنت أبي بكر ذريني أتعبد لربي، قالت: قلت: إني أحب قربك، فأذنت له فقام إلى قربة من ماء فتوضأ فأكثر صب الماء، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فأذن بالصلاة، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك وقد غفر الله لم ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، ولم لا أفعل وقد أنزل عليّ " إن في خلق السموات والأرض " الآية. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا قام من الليل يربط نفسه بحبل كي لا ينام، فأنزل الله تعالى " طه ما أنزلنا عليك القرآن لنشقى ". وعنه: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول ما نزل عليه الوحي كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى، فأنزل الله عز وجل " طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ". وعن عاصم بن ضمرة قال: سألنا علياً عليه السلام عن صلاة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من النهار فقال: إنكم لا تطيقون ذلك. قلنا: من أطاق ذلك منا. فقال: كان إذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند العصر صلى ركعتين. وإذا كانت الشمس من هاهنا كهيئتها من هاهنا عند الظهر صلى أربعاً، ويصلي قبل الظهر أربعاً وبعدها ركعتين، وقبل العصر أربعاً يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين والنبيين ومن تبعهم من النبيين والمرسلين.(2/258)
وعن علي عليه السلام قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي التطوع ثماني ركعات وبالنهار ثنتي عشرة ركعة. وكان في نسخة: ست عشرة ركعة.
وعن عبد الله قال: سألت عائشة أم المؤمنين فقلت: يا أم المؤمنين، هل كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخص شيئاً من صيامٍ بعمل؟ قالت: كان أحب الأعمال إليه ما دام عليه صاحبه، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستطيع؟. وعن عائشة: عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان يصلي قائماً، فلما دخل في السن جعل يجلس حتى إذا بقي في السورة ثلاثون آية أو أربعون آية قام فقرأ بها ثم سجد. وقالت: ما رأيته يصلي في بيتي صلاة الليل جالساً قط حتى دخل في السن. وعن مسلم بن مخراق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن أناساً يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثاً فقالت: قرؤواً ولم يقرؤوا. كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوم ليلة التمام فيقرأ سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله ورغب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله واستعاذ. وعن عبد الله بن شقيق قال: سألت عائشة عن صلاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التطوع فقالت: كان يصلي قبل الظهر أربعاً في بيتي، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يرجع إلى بيتي فيصلي ركعتين، ثم يصلي العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين. وكان يصلي من الليل سبع ركعات فيهن الوتر، وكان يصلي ليلاً طويلاً قائماً. وليلاً طويلاً جالساً. فإذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ وهو قاعد ركع وسجد وهو قاعد.(2/259)
وعن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة: منها ركعتان يصليهما وهو جالس، ويصلي إذا طلع الفجر ركعتين قبل الصبح. فتلك ثلاث عشرة ركعة. وعن عائشة: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا لم يصلّ من الليل منعه من ذلك نومٌ غلبه أو وجعٌ صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. وعن أبي ذر أنه قال: قلت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أريد أن أبيت عندك الليلة فأصلي بصلاتك. قال: لا تستطيع صلاتي. فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يغتسل فسترته بثوب وأنا محول عنه، فاغتسل ثم فعلت مثل ذلك فقال: هكذا الغسل. ثم قام يصلي فقمت معه حتى جعلت أضرب برأسي الجدرات من طول صلاته، ثم أتاه بلال للصلاة فقال: أفعلت؟ قال: نعم. قال: إنك يا بلال تؤذن إذا كان الصبح ساطعاً في السماء. وليس ذلك الصبح. إنما الصبح هكذا معترضاً. ثم دعا بسحور فتسحر قال حاتم بن عدي: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال هذه الأمة بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر " ثم خرج فقامت الصلاة. وعن أبي أيوب الأنصاري قال: نزل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهراً فنقبت في عمله كله، فرأيته إذا زالت الشمس أو زاغت، أو كما قال إن كان في يده عمل الدنيا رفضه، وغن كان نائماً كأنما يوقظ له، فيقوم فيغتسل أو يتوضأ، ثم يركع ركعات يتمهن ويحسنهن، ويتمكث فيهن. فلما أراد أن ينطلق قلت: يا رسول الله، مكثت عندي شهراً، ولوددت أنك مكثت عندي أكثر من ذلك فنقبت في عملك كله فرأيتك إذا زالت الشمس - أو زاغت فإن كان في يدك عمل من الدنيا رفضته، وإن كنت نائماً فكأنما توقظ له، فتغتسل أو توضأ، ثم تركع أربع ركعات تتمهن وتحسنهن وتمكث فيهن. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أبواب السماوات وأبواب الجنة تفتح في تلك الساعة، فما ترتج أبواب السماوات وأبواب الجنة حتى تصلي الصلاة، فأحببت أن يصعد لي تلك الساعة خير وزاد الأوزاعي فقال: فأحب أن يرفع عملي في أول عمل العابدين.(2/260)
وعن حذيفة: أنه انتهى إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قام في صلاته من الليل. فلما دخل في الصلاة قال: الله أكبر ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة. ثم قرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحواً من قيامه. يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه، فكان قيامه بعد الركوع نحواً من ركوعه يقول: لربي الحمد، لربي الحمد. ثم سجد فكان سجوده نحواً من قيامه بعد الركوع يقول: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه فكان بين السجدتين نحواً من سجوده يقول: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي حتى صلى أربع ركعات قرأ فيهن البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام. وعن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصلياً إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه. وعن عبد
الله بن مسعود قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون في المصلين إلا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلا كان أكثرهم ذكراً. هـ بن مسعود قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكون في المصلين إلا كان أكثرهم صلاة، ولا يكون في الذاكرين إلا كان أكثرهم ذكراً.(2/261)
ذكر بنيه وبناته وأزواجه وسُرَياته
عن عطاء وعمرو بن دينار قالا: ما علمنا ولدت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أزواجه إلا خديجة. وعن ابن عباس قال: كان أكبر ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القاسم ثم زينب ثم عبد الله ثم أم كلثوم ثم فاطمة ثم رقية. فمات القاسم وهو أول ميت من ولده بمكة، ثم مات عبد الله. فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر، فأنزل الله عز وجل " إن شانئك هو الأبتر " ثم ولدت له مارية بالمدينة إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة فمات ابن ثمانية عشر شهراً. قال هشام بن الكلبي: فتزوج زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو العاصي بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف. فولدت له علياً وأمامة. وكان يقال لأبي العاص: جرو البطحاء، يعني أنه كان متلداً بها. وخرج أبو العاصي بن الربيع في بعض أسفاره إلى الشام فقال: البسيط
ذكرت زينب وركت إرما ... فقلت سقيا لشخصٍ يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعلٍ سيثني بالذي علما(2/262)
وتوفيت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة ثمان من الهجرة. وتزوج رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتبة بن أبي لهب. وتزوج أم كلثوم بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتيبة بن أبي لهب، فلم يبنيا بهما حتى بُعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما أنزل الله تعالى: " تبت يد أبي لهب " قال لهما أبوهما: رأسي من رأسكما حرام إن لم تطلقا ابنتيه، ففارقاهما، ولم يكونا دخلا بهما. فتزوج عثمان بن عفان رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فولدت له عبد الله بن عثمان الذي تكنى به، وبلغ ست سنين فنقره ديك على عينه فمات. وتوفيت رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببدر. فقدم زيد بن حارثة المدينة بشيراً بما فتح الله على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببدر، فجاء حين سوي التراب على رقية بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكانت بدر صبيحة يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة مضت من رمضان من السنة الثانية للهجرة. وزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان أيضاً ابنته أم كلثوم فماتت عنده في شعبان سنة تسع من الهجرة، ولم تلد له شيئاً. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ":لو كانت عندي ثالثة لزوجتها عثمان ". وتزوج علي بن أبي طالب فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لليالٍ بقين من صفر في السنة الثانية من الهجرة. فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب، بني علي. وتوفيت فاطمة بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بستة أشهر. قال: وهذا أثبت الأقاويل، وصلى عليها العباس بن عبد المطلب، ونزل في حفرتها هو وعلي والفضل بن العباس. وعن ابن عباس قال: ولدت خديجة من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن محمد. ثم أبطأ عليه الولد من بعده. فبينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكلم رجلاً والعاص بن وائل ينظر إليه إذ قال له رجل: من هذا؟ قال:(2/263)
هذا الأبتر. يعني: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وكانت قريش إذا ولد الرجل ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا: هذا الأبتر. فأنزل الله عز وجل: " إن شانئك هو الأبتر " إن مبغضك هو الأبتر الذي بتر من كل خير. ثم ولدت له زينب، ثم ولدت له رقية، ثم ولدت له القاسم، ثم ولدت الطاهر، ثم ولدت المطهر، ثم ولدت الطيب، ثم ولدت المطيب، ثم ولدت أم كلثوم، ثم ولدت فاطمة وكانت أصغرهم. وكانت خديجة إذا ولدت ولداً دفعته إلى من يرضعه. فلما ولدت فاطمة لم يرضعها أحد غيرها. ثم ولدت مارية بنت شمعون إبراهيم، وهي القبطية التي أهداها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقوقس صاحب اسكندرية وأهدى معها أختها سيرين وخصياً يقال له مابور، فوهب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيرين لحسان بن ثابت الشاعر، ولدت له عبد الرحمن بن حسان وقد انقرض ولد حسان بن ثابت. وأم بني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير إبراهيم خديجة وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة بنت خويلد بن أسد بن العزى ابن قصي وأمها فاطمة بنت زائدة بن جندب، وهو الأصم بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن مغيص بن عامر بن لؤي. ويقال إن الطاهر هو الطيب، وهو عبد الله، والله أعلم.
ويقال إن الطيب والمطيب ولدا في بطن، والطاهر والمطهر في بطن. قال الزهري: تزوجها في الجاهلية وأنكحه إياها أبوها خويلد بن أسد، فولدت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القاسم وبه كان يكنى، وطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم، وفاطمة رضوان الله عليهم. فأما زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتزوجها أبو العاصي بن الربيع بن عبد شمس بن عبد مناف في الجاهلية، فولدت لأبي العاصي جارية اسمها أمامة فتزوجها علي بن أبي طالب بعدما توفيت بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتل علي وعنده أمامة. فخلف على أمامة بعد علي(2/264)
المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، فتوفيت عنده. وأم أبي العاص بن الربيع هالة بنت خويلد بن أسد. وخديجة خالته أخت أمه. وهلك أبو طالب وخديجة في عام واحد قبل مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة بثلاث سنين. وعن أنس بن مالك قال: لما ولد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنه إبراهيم كأنه وقع في نفسه منه شيء، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: السلام عليك أبا إبراهيم. وعن عبد الرحمن بن زياد قال: لما حُبِل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإبراهيم عليه السلام أتى جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، إن الله تعالى وهب لك غلاماً من أم ولدك مارية، وأمرك أن تسميه إبراهيم، فبارك الله لك في إبراهيم، وجعله قرة عين لك في الدنيا والآخرة. وكان مولد إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة. ومات وهو ابن ثمانية عشر شهراً.
وعن السدي قال: سألت أنس بن مالك قال: قلت: كم كان بلغ إبراهيم بن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قد كان ملأ مهده، ولو بقي لكان نبياً، ولكن لم يكن ليبقى لأن نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر الأنبياء. وعنه قال: توفي إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ستة عشر شهراً فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادفنوه بالبقيع فإن له مرضعاً تتم رضاعته في الجنة ". وعن إسماعيل قال: سألت ابن أبي أوفى أو سمعته يسأل عن إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: مات وهو صغير، ولو قضي أن يكون بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبي لعاش. وعن أنس بن مالك قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه، فجاء فانكب عليه وبكى حتى اضطرب لحياه وجنباه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/265)
وعن أنس بن مالك قال: ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة، فكان ينطلق ونحن معه فيدخل إلى البيت. وإنه ليدجن وكان ظئره فينا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع. قال عمرو: فلما توفي إبراهيم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن إبراهيم ابني، وإنه مات في الثدي وإن الظئرين يكملان رضاعه في الجنة ". وعن أسماء بنت يزيد حدثت: أنه لما توفي إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال أبو بكر وعمر: أنت أحق من علم لله حقه! فقال: " تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب، فلولا أنه وعدٌ صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجداً أشد مما وجدنا. وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون ". وعن ابن أبي أوفى قال: صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ابنه وصليت خلفه، وكبر عليه أربعاً.
وعن ابن عباس قال: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن له مرضعاً في الجنة تتم رضاعته. ولو عاش لكان نبياً. ولو عاش لأعتقت أخواله من القبط. وفي حديث آخر: ولو بقي لأعتقت كل قبطي. وذكر الواقدي: أن إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مات يوم الثلاثاء لعشر ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر ودفن بالبقيع، وكانت وفاته في بني مازن عند أم برزة بنت المنذر من بني النجار، ومات وهو ابن ثمانية عشر شهراً.(2/266)
وعن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة خرجت ابنته زينب من مكة معهم كنانة أو ابن كنانة فخرجوا في أثرها، فأدركها هبار بن الأسود، فلم يزل يطعن بعيرها برمحه حتى صرعها، وألقت ما في بطنها وأهريقت دماً، فحُملت فاشتجر فيها بنو هاشم وبنو أمية، فقال بنو أمية: نحن أحق بها، وكانت تحت ابن عمهم أبي العاص فكانت عند هند بنت ربيعة، وكانت تقول لها هند: هذا في سبب أبيك. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزيد بن حارثة: ألا تنطلق فتجيء بزينب؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: خذ خاتمي فأعطها إياه، فانطلق مرة، وقال مرة، فبرك بعيره، فلم يزل يتلطف حتى لقي راعياً فقال: لمن ترعى؟ قال: لأبي العاص. قال: فلمن هذه الغنم؟ قال: لزينب بنت محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسار معه شيئاً ثم قال له: هل لك أن أعطيك شيئاً تعطيها إياه ولا تذكره لأحد؟ قال: نعم. فأعطاه الخاتم، فانطلق الراعي وأدخل غنمه، وأعطاها الخاتم فعرفته فقالت: من أعطاك هذا؟ قال: رجل. قالت: وأين تركته؟ قال: بمكان كذا وكذا قال: فسكتت حتى إذا كان الليل خرجت إليه. فلما جاءته قال لها: اركبي بين يديه بعيره. قالت: لا ولكن، اركب أنت بين يدي، فركب وركبت وراءه حتى أتت، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: هي أفضل بناتي أصيبت فيّ، فبلغ ذلك علي بن الحسين. فانطلق إلى عروة فقال: ما حديث بلغني عنك تحدث به تنتقص فيه حق فاطمة؟ قال: فقال عروة: والله إني لا أحب أن لي ما بين المشرق والمغرب إني أنتقص فاطمة حقاً لها. وأما بعد ذلك فلك ألا أحدث به أبداً. وتوفيت زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أول سنة ثمان من الهجرة. وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: كنت أحمل الطعام إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي، وهما في الغار. قالت: فجاء عثمان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني أسمع من المشركين من اللغى فيك ما لا صبر لي عليه، فوجهني وجهاً أتوجهه، فلأهجرنهم في ذات الله فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أزمعت بذاك(2/267)
يا عثمان؟ قال: نعم. قال: فليكن وجهك إلى هذا الرجل بالحبشة يعني: النجاشي فإنه ذو وفاء، واحمل معك رقية فلا تخلفها، ومن رأى معك من المسلمين مثل رأيك فليتوجهوا هناك، وليحملوا معهم نساءهم، ولا تخلفوهم. قال: فودع عثمان نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبل يديه. قال: فبلّغ عثمان المسلمين رسالة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال لهم: إني خارج من تحت ليلتي فمقيمٌ لكم بجدة ليلة أو ليلتين فإن أبطأتم فوجهتي إلى باضع جزيرة في البحر. قالت: فحملت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما فعل عثمان ورقية؟ قلت: قد سارا فذهبا. قالت: فقال: قد سارا فذهبا؟ قلت: نعم. فالتقت إلى أبي بكر فقال: زعمت أسماء أن عثمان ورقية قد سارا فذهبا، والذي نفسي بيده إنه لأول من هاجر بعد إبراهيم ولوط عليهما السلام.
وعن ابن عباس قال: لما عزي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بابنته رقية امرأة عثمان بن عفان قال: " الحمد لله، دفن البنات من المكرمات ". وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أتاني جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تزوج عثمان أم كلثوم على مثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها ". وعن أبي أمامة قال: لما وضعت أم كلثوم بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى " ثم قال: بسم الله وفي سبيل الله، وعلى ملة رسول الله، فطفق يطرح إليهم الجبوب ويقول: سدوا خلال القبر، ثم قال: إلا أن هذا ليس بشيء، ولكن يطيب بنفس الحيّ. وفي سنة تسع ماتت أم كلثوم ابنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/268)
وعن أبي جعفر قال: دخل العباس على علي بن أبي طالب وفاطمة وهي تقول: أنا أسن منك. فقال العباس: أما أنت يا فاطمة فولدت وقريش تبني الكعبة والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن خمس وثلاثين سنة. وأما أنت يا علي قبل ذلك بسنوات. وتزوج علي فاطمة في رجب بعد مقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة لخمسة اشهر. وبنى بها مرجعه من بدر، وفاطمة يوم بنى بها علي بنت ثمان عشرة سنة. قال جعفر بن سليمان: ولدت فاطمة سنة إحدى وأربعين من مولد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وماتت فاطمة وهي ابنة إحدى وعشرين سنة. وكانت كنية فاطمة عليها السلام أم أبيها. وعن عائشة قالت: اجتمع نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم تغادر منهن امرأة. فجاءت فاطمة تمشي، ما تخطىء مشيتها مشية أبيها صلوات الله عليه فقال: مرحباً يا بنتي، فأقعدها عن يمينه أو عن شماله فسارّها بشيء فبكت، ثم سارّها بشيء فضحكت، فقلت لها: خصك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بينا بالسِّرار فتبكين؟ فلما قام قلت لها: أخبريني بما سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سره. فلما توفي قلت لها: أسألك بما لي عليك من حق لما أخبرتني. فقالت: أما الآن فنعم. قالت: سارني فقال: " إن جبريل عليه السلام كان يعارضني بالقرآن في كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أرى ذلك إلا عند اقتراب الأجل، فاتقي الله واصبري، فنعم السلف أنا لك. فبكيت، ثم سارني فقال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو قال: سيدة نساء هذه الأمة "؟ وعن المسور بن مخرمة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها ".
وعن علي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة: " يا فاطمة، إن الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك ".(2/269)
وعن أبي الزبير أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لفاطمة: " أنت أول أهل يلحق بي "، فلم تمكث بعده إلا شهرين. وعن أبي جعفر قال: ماتت بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بستة أشهر. وعن عمرو بن دينار: بثمانية اشهر. وقال المدائني: ماتت ليلة الثلاثاء لثلاثٍ خلون من شهر رمضان سنة إحدى عشرة، وهي ابنة تسع وعشرين سنة. ولدت قبل النبوة بخمس سنين. قالت عائشة: ودفنت ليلاً. وعن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض عن تسع، وكان يقسم لثمان. وعن أنس بن مالك وابن عباس قالا: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدة نساء فوافى ذلك تخيير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه وقصره الله على أزواجه اللاتي خيرهن وآتاهن أجورهن وكان اللاتي حرم منهن حراماً بيناً، ودخل بهن دخولاً ثابتاً خمس عشرة، دخل بثلاث عشرة واجتمع عنده إحدى عشرة، وتوفي عن تسع. فأما اللتان كملتا النسوة خمس عشرة فهما عمرة والشنباء. فأما عمرة بنت يزيد الغفارية فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أُدخلت عليه وجردها للباءة رأى بها وضحاً فردها، وقد أوجب لها المهر وحرمت على من بعده، وصارت سُنة، فيمن أُدخلت عليه امرأة فأغلق باباً أو أرخى ستراً أو جرد ثوباً أو خلا للباءة أفضى أو لم يفض فقد وجب عليه الصداق.(2/270)
وأما الشنباء فإنها لما أُدخلت عليه لم تكن بالمسيرة، فانتظر بها اليسر. ومات إبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على تفئة ذلك، فقالت: لو كان نبياً ما مات أحب الناس إليه وأعزه عليه فطلقها، وأوجب لها المهر، وحرمت على الأزواج. وأما الثلاث عشرة اللاتي بنى بهن فخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى. وكانت قبله عند أبي هالة زرارة بن النباش بن زرارة بن حبيب أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم، وقبل عند عتيق بن عائذ.
وسودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر ين لؤي. وكانت قبله تحت السكران بن عمرو بن عبد شمس، ابن عمها. وعائشة بنت أبي بكر الصديق بن أبي قحافة بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة. لم يتزوج بكراً غيرها. وحفصة بنت عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب. وكانت قبله تحت خنيس بن حذافة بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم. وأم سلمة واسمها هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وكانت قبله عند أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وأم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة. وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن الحارث بن مالك بن المصطلق بن سعد بن(2/271)
عمرو الخزاعي. وكانت قبله تحت مالك بن صفوان بن تولب بن ذي الشفر بن أبي سرح بن مالك بن المصطلق. وزينب بنت جحش بن رياب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة.
كانت قبله تحت زيد بن حارثة بن شراحيل. وزينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين. وكانت قبله تحت الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف. وصفية بنت حيي بن أخطب بن سقية بن ثعلبة بن عبيد بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب بن النضير. وكانت قبله عند سلام بن مشكم بن الحكم بن حارثة بن الخزرج بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب. ثم خلف عليها كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق بن كعب بن الخزرج بن أبي حبيب. وميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهزم بن عبد الله بن روبية بن هلال بن عامر بن صعصعة. وكانت قبله تحت عمير بن عمرو أحد عقدة بن غيرة من ثقيف. وأم شريك بنت جابر بن عكيم أحد بني عويص بن عامر بن لؤي. وكانت قبله تحت أبي العكير الأزدي، وكان بنو عكيم في الأزد. ثم انقرضوا فلم يبق منهم أحد. والشاة بنت رفاعة. وبنو رفاعة هؤلاء من بني كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وكانوا حلفاء في بني قريظة في بني رفاعة من بني قريظة، فأصيبوا معهم يوم أصيبوا فانقرضوا. فأما خديجة بنت خويلد فماتت قبل أن يجامع أحداً من نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأما الشاه حين خير نساءه بين الدنيا والآخرة فاختارت أن تزوج بعده فطلقها. وأما المجتمعات عنده فسودة، وعائشة، وحفصة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وجويرية، وصفية، وزينب بنت جحش، وزينب بنت خزيمة، وميمونة، وأم شريك.(2/272)
وأما اللواتي توفي عنهن فعائشة، وحفصة، وأم سليم، وأم حبيبة، وجويرية، وصفية، وزينب، وزينب والصواب: وسودة وميمونة. وكانت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سريتان يقسم لهما مع أزواجه: مارية القبطية، أم إبراهيم، وريحانة بنت شمعون الخنافية، إحدى بني النضير. قال ابن أبي مُليكة: فسألت عائشة عن قسمة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمي ولده فقالت: كان يقسم لهما مرة ويدعهما مرة، فإذا قسم أضعف قسمنا، فلإحداهن يوم ولنا يومان، وعلى ذلك قسم للمرأة المملوكة النصف مما قسم للحرة، وأجمع عمر والمسلمون أن أم الولد كالمدبرة، إنها مملوكة حية مولاها، ثم هي حرة بعد مولاها حفظاً للفروج. وروى سهل بن حُنيف في حديث قال: ثم أعتق ريحانة من بني قريظة فلحقت بأهلها، واحتجبت وهي عند أهلها. وطلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العالية بنت ظبيان، وفارق أخت عمرو بن كلاب، وفارق أخت بني الجون الكندية من أجل بياضٍ كان بها. وتوفيت زينب بنت خزيمة الهلالية ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيّ. قال: وبلغنا أن العالية بنت ظبيان تزوجت قبل أن يحرم الله عز وجل نساءه. فنكحت ابن عمٍ لها من قومها وولدت فيهم. وزيد بن حارثة التي عنده زينب بنت جحش هو الذي أنعم الله عليه ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفيها نزلت الآية لأنها وقعت في نفسه. فقالت عائشة: وقال لها أناس من أهل العراق إنه يقال إنه عندكم شيئاً من كتاب الله عز وجل لم تُظهروه فقالت: لو كتم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما أنزل الله عز وجل عليه لكتم هذه الآية: " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " إلى آخر الآية.
وقسم عمر بن الخطاب في خلافته لنساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثني عشر ألف درهم لكل(2/273)
امرأة، وقسم لجويرية وصفية ستة آلاف لأنهما كانتا سبياً. وقد كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم لهما وحجبهما. وقال ابن منده: وحج بهما. وفي حديث آخر: وتزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخت بني الجون الكندي، وهم حلفاء في بني فزازة، فاستعاذت منه فقال: لقد عذت بعظيم. الحقي بأهلك، فطلقها ولم يدخل عليها. قال أبو جعفر: بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي فزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وساق عنه أربع مائة دينار. كان عمار بن ياسر إذا سمع ما يتحدث به الناس عن تزويج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة وما يكثرون فيه يقول: أنا أعلم بتزويجه إياها. إني كنت له إلفاً وخدناً، وإني خرجت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات يوم حتى إذا كنا بالحزورة أجزنا على أخت خديجة وهي جالسة على أدم تبيعها فنادتني فانصرفت إليها. ووقف لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: أما لصاحبك من حاجة في تزويج خديجة؟ قال عمار: فرجعت إليه فأخبرته، فقال: بلى لعمري، فذكرت لها قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: اغدوا علينا إذا أصبحنا. فغدونا عليهم. قال: فوجدناهم قد ذبحوا بقرة وألبسوا أبا خديجة حلة وصفرت لحيته، وكلمت أخاها فكلم أباه وقد سقي خمراً فذكرت له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومكانه، وسأله أن يزوجه فزوجه خديجة، وصنعوا من البقرة طعاماً، فأكلنا منه ونام أبوها ثم استيقظ صاحياً فقال: ما هذه الحلة، وهذه النقيعة، وهذا الطعام؟ فقالت له ابنته التي كلمت عماراً: هذه حلة كساكها محمد بن عبد الله ختنك، وبقرة أهداها لك فذبحناها حين زوجته خديجة. فأنكر أن يكون زوجه، وخرج يصيح حتى جاء(2/274)
الحجر، وخرجت بنو هاشم برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاؤوه فكلموه فقال: أين صاحبكم الذي يزعمون أني زوجته، فبرز له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلما نظر إليه قال: إن كنت زوجته فسبيل ذلك، وإن لم أكن فعلت فقد زوجته. قال المؤملي: والمجتمع أن عمها عمرو بن أسد الذي زوجها. وتزوجها وهو ابن خمس وعشرين سنة قبل أن يبعثه الله عز وجل نبياً بخمس عشرة سنة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. وقيل: أنه تزوجها وهو ابن ثلاثين سنة. وقال الواقدي: إنها كانت لما تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنت خمس وأربعين سنة.
وروي عن ابن عباس قال: كانت خديجة يوم تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنة ثمان وعشرين سنة. ومهرها ثنتي عشرة أوقية. وكذلك مهور نسائه. وقال حكيم بن حزام: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خديجة وهي ابنة أربعين سنة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن خمس وعشرين سنة. وكانت أسن مني بسنتين. ولدت قبل الفيل بخمس عشرة. وولدت أنا قبل الفيل بثلاث عشرة سنة. وتوفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشر من النبوة وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة. فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها بالحجون. ونزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في حفرتها. ولم تكن يومئذ سنة الجنازة والصلاة عليها. قيل: ومتى ذلك يا أبا خالد، قال: قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها، وبعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير. قالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ ذكر خديجة لم يكد يسأم من ثناءٍ عليها واستغفار. فذكرها ذات يوم، فاحتملتني الغيرة فقلت: لقد عوضك الله من كبيرة السن، قال: فرأيت رسول(2/275)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضب غضباً أُسقطت في جلدي وقلت في نفسي: اللهم إنك إن أذهبت غضب رسول الله عني لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت. فلما رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما لقيت قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس ورزقت مني الولد إذ حرمتموه مني. قالت: فغدا وراح علي بها شهراً.
ولما هلكت خديجة جاءت خولة بنة حكيم امرأة عثمان بن مظعون قالت: يا رسول الله ألا تزوج؟ قال: من؟ قالت: إن شئت بكراً وإن شئت ثيباً. قال: فمن البكر؟ قالت: ابنة أحب خلق الله إليك، عائشة بنة أبي بكر. قال: وممن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة قد آمنت بك واتبعتك على ما تقول. قال: فاذهبي فاذكريها علي. فدخلت بيت أبي بكر فقالت: يا أم رومان، ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخطب عليه عائشة. قالت: انتظري أبا بكر حتى يأتي. فجاء أبو بكر قالت: يا أبا بكر ماذا أدخل الله عليكم من الخير والبركة؟! قال: وماذا؟ قالت: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخطب عليه عائشة. قال: وهل تصلح له، إنما هي بنت أخيه، فرجعت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له. فقال: ارجعي إليه فقولي له: أنا أخوك في الإسلام، وأنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فرجعت فذكرت ذلك له. قال: انتظري، وخرج. قالت أم رومان: إن مُطعم بن عدي قد كان ذكرها على ابنه؛ فوالله ما وعد وعداً قط فأخلفه لأبي بكر.
فدخل أبو بكر على مطعم بن عدي وعنده امرأته أم الفتى فقالت: يا بن أبي قحافة، لعلك مصبىء صاحبنا فمدخله في دينك الذي أنت عليه إن تروّح إليك، قال أبو بكر للمطعم بن عدي: أقولٌ هذه تقول؟ قال: إنها تقول ذلك. فخرج من عنده، وقد أذهب الله ما كان في نفسه من عدته التي وعده، فرجع فقال لخولة: ادعي لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدعته فزوجها إياه، وعائشة يومئذ ست سنين. ثم خرجت، فدخلت على سودة بنة زمعة فقالت: ماذا أدخل الله عليك من الخير والبركة؟! قالت: وما ذلك؟ قالت: أرسلني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخطبك عليه. قالت: وددت. ادخلي إلى أبي فاذكري ذلك له وكان شيخاً كبيراً قد أدركته السن قد تخلف عن الحج فدخلت عليه فحيته بتحية الجاهلية فقال: من هذه؟ فقالت: خولة بنة حكيم.(2/276)
قال: فما شأنك؟ قالت: أرسلني محمد بن عبد الله أخطب عليه سودة. قال: كفوٌ كريم. ماذا تقول صاحبتك؟ قالت: تحب ذلك. قال: ادعيها لي فدعتها. قال: أي بنية إن هذه تزعم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب قد أرسل يخطبك، وهو كفوء كريم. أتحبين أن أزوجكه؟ قالت: نعم. قال: ادعيه، فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه فزوجها إياه، فجاء أخوها عبد بن زمعة من الحج فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: لعمرك إني لسفيهٌ يوم أحثي في رأسي التراب أن تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سودة بنت زمعه. قالت عائشة: فقدمنا المدينة فنزلنا في بني الحارث بن الخزرج في السنُح. قالت: فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل بيتنا، واجتمع إليه رجال من الأنصار، ونساء، فجاءت إليّ أمي، وإني لفي أرجوحة بين عذقين ترجح بي، فأنزلتني من الأرجوحة ولي جُميمة، ففرقتها ومسحت وجهي بشيء من ماء ثم أقبلت تقودني حتى وقفت بي عند الباب وإني لأنهج حتى سكن من نفسي، ثم دخلت بي فإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس على سرير في بيتنا، وعنده رجال ونساء من الأنصار فأجلسني في حجره، ثم قالت: هؤلاء أهلك بارك الله لك فيهم وبارك لهم فيك. فوثب الرجال والنساء فخرجوا وبنى بي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيتنا ما نُحرت عليّ جزور ولا ذُبحت علي شاة، حتى أرسل إلينا سعد بن عبادة بجفنة كان يرسل بها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا دار إلى نسائه. وأنا يومئذ ابنة تسع سنين. وعن عائشة قالت: ما رأيت امرأة أحب إلي أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة من امرأة فيها حدة. قال: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعائشة. قالت: وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم لعائشة يومين: يومها ويوم سودة. وتوفيت سودة في شوال سنة أربع وخمسين بالمدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان. قال: وهو الثبت عندنا. وقيل: توفيت في زمن عمر.(2/277)
قال أبو عثمان النهدي: كان عمرو بن العاص يحدث الناس عن جيش السلاسل قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة: قلت: من الرجال؟ قال: أبوها أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر بن الخطاب. قلت: ثم من؟ قال: فعد لي رجالاً. قال الهيثم بن عدي: توفيت عائشة سنة سبع وخمسين. وقال أبو عبيد: سنة ثمان وخمسين في شهر رمضان. وصلى عليها أبو هريرة بالمدينة، وكان استخلفه الوليد بن عتبة ومروان بن الحكم عليها. وتوفي في تلك السنة أيضاً: الحسن بن علي وسعد بن أبي وقاص. وكانت وفاتها ليلة سبع عشرة من رمضان بعد الوتر، فأمرت أن تدفن من ليلتها. فاجتمع الناس وحفروا فلم تر ليلة أكثر ناساً منها. نزل أهل العوالي فدفنت بالبقيع. وهي يومئذ ابنة ست وستين سنة. قال عمر: ولدت حفصة وقريش تبني البيت قبل مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخمس سنين.
وعن حسين بن أبي حسين قال: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفصة في شعبان على رأس ثلاثين شهراً قبل أحد. قال المدائني: تزوجها سنة ثلاث من الهجرة. وقيل عن أبي عبيدة: تزوجها سنة اثنتين.(2/278)
وعن عمار بن ياسر: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يطلق حفصة فجاءه جبريل فقال: لا تطلقها، فإنها صوامة قوامة، وهي زوجتك في الجنة. وذكر ابن وهب: أن حفصة توفيت عام فتحت إفريقية. وفتحت إفريقية سنة سبع وعشرين، وفتحت أيضاً سنة خمس وثلاثين. وفتحت أيضاً سنة ثلاث وخمسين. ويقال إنها توفيت سنة خمس وأربعين، في شعبان في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وهي يومئذ ابنة ستين سنة. وقال مالك بن أنس: توفيت حفصة عام فتحت إفريقية. قال أبو زرعة: فنرى والله أعلم أن وجه قول مالك بن أنس: توفيت حفصة عام فتحت إفريقية، أنه سنة خمسين في إمرة مروان على المدينة. وفي سنة ثلاث تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت خزيمة من بني عامر بن صعصعة، وهي أم المساكين. خطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجعلت أمرها إليه، فتزوجها وأصدقها اثنتي عشرة أوقية ونشّاً، في رمضان على رأس إحدى وثلاثين شهراً من الهجرة. فمكثت عنده ثمانية أشهر. وتوفيت في آخر شهر ربيع الآخر، على رأس تسعة وثلاثين شهراً. وصلى عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفنها بالبقيع. قال محمد بن عمر: سألت عبد الله بن جعفر: من نزل في حفرتها؟ فقال: إخوة لها ثلاثة. قلت: كم كان سنها يوم ماتت؟ قال: ثلاثين سنة أو نحوها.(2/279)
قال عمر بن أبي سلمة: كان الذي خرج أبي أبا سلمة أبو أسامة الجشمي، ورماه يوم أحد بمعبلة في عضده. فمكث شهراً يداويه فبرأ، فيما يرى. وبعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في المحرم على رأس خمسة وثلاثين شهراً إلى قطن، فغاب بضع عشرة ليلة، فلما قدم المدينة انتقص الجرح، فمات لثلاث بقين من جمادى الآخرة. فغسل من اليسيرة بئر بني أمية بين القرنين، وكان اسمها في الجاهلية العثير فسماها اليسيرة، ثم حمل من بئر أمية فدفن بالمدينة. قال عمر بن أبي سلمة: واعتدّت أمي حتى خلت أربع أشهر وعشراً، ثم تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ودخل بها في ليال بقين من شوال، فكانت أختي تقول: ما بأس النكاح في شوال والدخول فيه. قال خليفة بن خياط: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم سلمة بنت أبي أمية في شوال سنة أربع.
وعن عمرو بن شعيب أنه دخل على زينب بنت أبي سلمة فحدثته: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان عند أم سلمة، فجعل الحسن من شقّ والحسين من شقّ، وفاطمة في حجره. فقال: " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميدُ مجيد " وأنا وأم سلمة جالستان، فبكت أم سلمة فنظر إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما يبكيك فقالت: خصصتهم وتركتني وابنتي، فقال: أنت وابنتك من أهل البيت. وقال أبو عبيد: توفيت أم سلمة سنة تسع وخمسين. قيل: سنة إحدى وستين، وقيل: توفيت سنة إحدى وستين حين جاء نعي الحسين. قال: وهذا هو الصحيح. وصلى عليها أبو هريرة وقيل: صلى عليها ابن أختها عبد الله بن عبد الله بن أبي أمية.(2/280)
وقال عمر بن أبي سلمة: نزلت في قبر أم سلمة أنا وأخي سلمة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي أمية وعبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي، وكان لها يوم ماتت أربع وثمانون سنة. وفي سنة ثلاث تزوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زينب بنت جحش، وذلك في سنة خمس في هلال ذي القعدة، وهي يومئذ بنت خمس وثلاثين سنة. وذكرت أم سلمة زينب بنت جحش فترحمت عليها، وذكرت بعض ما يكون بينها وبين عائشة، فقالت زينب: إني والله ما أنا كأحد من نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنهن زوجن بالمهور وزوجهن الأولياء، وزوجني الله ورسوله وأنزل الله في الكتاب يقرأه المسلمون لا يغير ولا يبدل " وإذ تقول للذي أنعم الله عليه " الآية. قالت أم سلمة: وكانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجبة. وكان يستكثر منها. وكانت امرأة صالحة، صوامة قوامة، صنعاً، تصدق بذلك كله على المساكين. وعن عائشة قالت: يرحم الله زينب بنت جحش، لقد نالت في هذه الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها نبيه في الدنيا، ونطق به القرآن، وإن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لنا ونحن حوله: أسرعكن لحوقاً بي وأطولكن باعا، فبشرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسرعة لحوقها به. وهي زوجته في الجنة. وسئلت أم عكاشة بنت محصن: كم بلغت زينب بنت جحش يوم توفيت؟ فقالت: قدمنا المدينة للهجرة وهي ابنة بضع وثلاثين سنة. وتوفيت سنة عشرين. قال عمر بن عثمان: كان أبي يقول: توفيت زينب بنت جحش وهي ابنة ثلاث وخمسين سنة.(2/281)
وقال محمد بن المنكدر: توفيت زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت أول نساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاقاً به. وقيل: توفيت سنة إحدى وعشرين. قال الواقدي: غزوة المريسيع في سنة خمس. خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان وقدم المدينة لهلال رمضان. وغاب شهراً إلا ليلتين. قالت عائشة: كانت جويرية جارية حلوة وفي رواية: مُلاّحة لا يكاد يراها أحد إلا ذهبت بنفسه. فبينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندي ونحن على الماء إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت. فقالت: يا رسول الله، إني امرأة مسلمة أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بنت سيد قومه أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له فتخلصني من ابن عمه بنخلات له من المدينة، فكاتبني ثابت على ما لا طاقة لي به ولا يدان. وما أكرهني على ذلك! ألا وإني رجوتك صلى الله عليك فأعني في مكاتبتي. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو خيرٌ من ذلك؟ فقالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: أوفي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. قد فعلت، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ثابت فطلبها منه. فقال ثابت: هي لك يا رسول الله بأبي وأمي. فأدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان عليها من كتابتها وأعتقها وتزوجها، وخرج الخبر إلى الناس، ورجال بلمُصطلق قد اقتسموا ومُلكوا، ووُطئ نساؤهم، فقالوا: أصهار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقوا ما بأيديهم من ذلك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قالت عائشة: فأعتق مئة أهل بيت بتزويج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياها. فلا أعلم بركة على قومها منها. قال عبد الله بن زياد: وأفاء الله على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام المريسيع في غزوة بني المصطلق جويرية بنة الحارث ابن أبي ضرار وهي كعيبة من بني المصطلق، فسباها رسول
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أفاء الله عليه عامئذٍ. فلما كانت بذي الجشير والجشير من المدينة على بريد أمر رجلاً من الأنصار بحفظها كالوديعة عنده حتى يسله عنها. فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأقبل أبوها الحارث(2/282)
ابن أبي ضرار وكان من أشراف قومه يفدي ابنته، لما قدم فكان بالعقيق نظر إلى إبله التي يفدي بها ابنته، فرغب في بعيرين منها كانا من أفضلها فغيبهما في شعب العقيق ثم أقبل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسائر الإبل فقال: يا محمد، أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق بشعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ولقد كان ذلك مني في البعيرين. وما اطلع على ذلك إلا الله. فأسلم الحارث بن أبي ضرار مكانه، وأسلم معه ابنان له وأناس من قومه. وأرسل الحارث بن أبي ضرار إلى البعيرين فأتى بهما فدفع الإبل جميعها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفع إليه ابنته، فأسلمت جويرية مع أبيها وإخوتها. وحسن إسلامها. وخطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما بلغنا فنكحها. وكانت جويرية قبل عند ابن عمٍ لها يقال له: عبد الله ذو الشفر. وعن أبي قلابة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى جويرية بنت الحارث، فجاء أبوها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن ابنتي لا يُسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك فخل سبيلها. قال: أرأيت إن خيرناها أليس قد أحسنّا؟ قال: بلى، وأدّيت ما عليك. قال: فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا فقالت: فإني قد اخترت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قد والله فضحتنا. وتوفيت جويرية في ربيع الأول سنة ست وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو يومئذ والي المدينة. الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أفاء الله عليه عامئذٍ. فلما كانت بذي الجشير والجشير من المدينة على بريد أمر رجلاً من الأنصار بحفظها كالوديعة عنده حتى يسله عنها. فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وأقبل أبوها الحارث ابن أبي ضرار وكان من أشراف قومه يفدي ابنته، لما قدم فكان بالعقيق نظر إلى إبله التي يفدي بها ابنته، فرغب في بعيرين منها كانا من أفضلها فغيبهما في شعب العقيق ثم أقبل إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسائر الإبل فقال: يا محمد، أصبتم ابنتي وهذا فداؤها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأين البعيران اللذان غيبت بالعقيق بشعب كذا وكذا؟ فقال الحارث: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. ولقد كان ذلك مني في البعيرين. وما اطلع على ذلك إلا الله. فأسلم الحارث بن أبي ضرار مكانه، وأسلم معه ابنان له وأناس من قومه. وأرسل الحارث بن أبي ضرار إلى البعيرين فأتى بهما فدفع الإبل جميعها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفع إليه ابنته، فأسلمت جويرية مع أبيها وإخوتها. وحسن إسلامها. وخطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما بلغنا فنكحها. وكانت جويرية قبل عند ابن عمٍ لها يقال له: عبد الله ذو الشفر. وعن أبي قلابة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبى جويرية بنت الحارث، فجاء أبوها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن ابنتي لا يُسبى مثلها، فأنا أكرم من ذلك فخل سبيلها. قال: أرأيت إن خيرناها أليس قد أحسنّا؟ قال: بلى، وأدّيت ما عليك. قال: فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا فقالت: فإني قد اخترت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قد والله فضحتنا. وتوفيت جويرية في ربيع الأول سنة ست وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان، وصلى عليها مروان بن الحكم، وهو يومئذ والي المدينة.(2/283)
قالت جويرية: تزوجني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا بنت عشرين سنة في سنة ست. وتوفيت جويرية سنة ستين، وهي يومئذ ابنة خمس وستين سنة. وعن عروة عن أم حبيبة: أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش. وكان رحل إلى النجاشي فمات وأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج أم حبيبة وإنها لبأرض الحبشة زوجها إياه الحبشي ومهرها أربعة آلاف، وجهزها من عنده وبعث بها مع شرحبيل إلى حسنة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجهازه كله من عند النجاشي، ولم يرسل إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً. وكان مهر أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع مئة درهم. قال أبو بكر بن أبي خثيمة: في سنة سبع قدمت أم حبيبة ابنة أبي سفيان المدينة وبنى بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عباس في هذه الآية " عسى أن يجعل الله بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة " قال فكانت المودة التي جعل الله بينهم تزويج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 0 بأم حبيبة بنت أبي سفيان فصارت أم المؤمنين، فصار معاوية خال المؤمنين. وكان لها يوم قدمت المدينة بضع وثلاثون سنة وتوفيت سنة أربع وأربعين في خلافة معاوية بن أبي سفيان. وعن ابنة أبي القين المزني قالت: كنت آلف صفية من بين أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تحدثني عن قومها فكانت تسمع منهم. قالت: خرجنا من المدينة حيث أجلانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقمنا بخيبر، فتزوجني كنانة بنت أبي الحقيق فأعرس بي قبل قدوم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأيام وذبح جزوراً، ودعا اليهود وحولني في حضنه بسلالم. فرأيت في النوم كأن قمراً أقبل من يثرب حتى وقع في حجري، فذكرت ذلك لكنانة زوجي، فلطم عيني فاخضرت فنظر إليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين(2/284)
دخلت عليه فسألني فأخبرته. قالت: وجعلت يهود ذراريها في المدينة، وجردوا حصون النطاة المقابلة. فلما نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر وافتتح حصون النطاة دخل علي كنانة فقال: قد فرغ محمد من فتح النطاة ومن هاهنا أحد يقاتل، قد قتلت يهود حيث قتل أهل النضير، وكذبتا الأعراب فحولني إلى حصن المنزار بالشق قالت: وهو أحصن مما عندنا فخرج حتى أدخلني وبنت عمي ونشيآت معنا فسار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلينا قبل الكتيبة فسبيت في النزر قبل أن ينتهي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني فجئت وأنا مقنعة حيية فجلست بين يديه فقال: إن تكوني على دينك أكرهك وإن أخترت الإسلام واخترت الله ورسوله فهو خير لك. قالت: أختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ0 وتزوجني. وجعل عتقي مهري. فقد أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه اليوم نعلم أزوجة أم سرية. فإن كانت امرأة فسيحجبها وإلا فهي سرية. فقد خرج أمر ستر فسترت به، فعرف أي زوجة ثم قدم إلى وقدم فخذه لأضع رجلي عليهفأعضت ذلك ووضعت فخذي على فخذه. ثم ركبت. فكنت ألقى من أزواجه. يفخرن علي يقلن: يا بنت اليهودي وكنت أرى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستخف بي ويكرهني، فدخل علي يوماً وأنا أبكي فقال: مالك؟! فقلت: أزواجك يفخرن علي ويقلن: بنت اليهودي. قالت فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي أبي هارون وعمي موسى.
وعن أنس بن مالك قال: بلغ صفية أن حفصة قالت: بنت يهودي فدخل عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي تبكي: فقال: ما يبكيك؟ فقالت قالت لي حفصة: أي ابنة يهودي، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنك أبنة عمي وإن عمك لأبي، ولإنك لتحت نبي فيم تفخر عليك؟! ثم قال: اتقي الله يا حفصة. وعن آمنة بنت أبي قيس الغفارية قالت: أنا إحدى النساء الواتي زففن صفية إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. سمعتها تقول ما بلغت(2/285)
سبع عشرة سنة يوم دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وتوفيت صفية سنة اثنتين وخمسين في خلافة معاوية بن أبي سفيان وقبرت بالبقيع. وقيل سنة خمسين. وقيل إنها توفيت في خلافة عمر، وصلى عليها عمر. وقال عطاء: كانت صفية آخر من مات بالمدينة. وكانت وفاة ميمونة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة إحدى وخمسين، وقيل سنة اثنتين وستين، وقيل سنة ثلاث وستين، وقيل سنة إحدى وستين، في خلافة يزيد بن معاوية وهي آخر من مات من أزواج النبي. وكان لها يوم توفيت ثمانون أو إحدى وثمانون سنة. وكانت جلده. قال يزيد بن الأصم: حضرت قبر ميمونة فنزل فيه 0 ابن عباس وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأنا وعبيد الله الخولاني. وصلى عليها ابن عباس. قال ابن عساكر: وفي هذه التواريخ نظر. فإن في الحديث الصحيح الذي في ذكر يزيد بن الأصم عائشة قالت له: ذهبت والله ميمونة، ورمي برسنك على غاربك. وذلك يدل على أن ميمونة توفيت قبل عائشة. وكانت وفاة عائشة سنة سبع وخمسين. وقوله أيضا أن عبد الرحمن بن خالد نزل في قبرها فيه نظر. فإن عبد الرحمن بن خالد مات سنة ست وأربعين في خلافة معاوية، إلا أن يكون لخالد ابن آخرر يسمى عبد الرحمن. فهذه أسماء أزواج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللاتي دخل بهن. وقد تزوج بغيرهن ولم يبن عليهن: منهن قتيلة بنت قيس أخت الأشعث. تزوجها فمات قبل أن يخبرها، فبرأها الله.(2/286)
روى الشعبي أن عكرمة بن أبي جهل تزوج قتيلة بنت قيس فأراد أبي بكر الصديق أن يضرب رقبته، فقال له عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفرض لها، ولم يدخل بها، وارتدت مع أخيها، فبرئت من الله ورسوله، فلم يزل به حتى كف عنه. وعن عروة أن الوليد بن عبد الملك كتب إليه يسله: هل تزوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخت الأشعث بن قيس، قتيلة، قال: ما تزوجها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قط. ولا تزوج كندية إلا أخت بني الجون فملكها، فلما أتى بها وقدمت المدينة نظر إليها، فطلقها، ولم يبن بها، ويقال إنها فاطمة بنت الضحاك.
قال الزهري: هي فاطمة بنت الضحاك بن سفيان فاستعاذت منه فطلقها، فكانت تلتقط البعر وتقول: أنا الشقية. وتزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفي ذي القعدة سنة ثمان من الهجرة. وتوفيت سنة ستين. ومنهن أسماء بنت كعب الجونية، وعمرة بنت يزيد الكلابية ثم من بني الوحيد، ولم يدخل بأسماء حين طلقها، وكانت عمرة قبله عند 0 الفضل بن عباس بن عبد الطلب، فطلقها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخل بها، ويقال: إنها أسماء بنت النعمان. وعن قتادة قال: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أهل اليمن أسماء بنت النعمان من بني الجون، فلما دخل بها دعاها، فقالت: تعال أنت، فطلقها. وعن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى قال: الجونية أستعاذت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل لها أحظى لك عنده. ولم تستعذ منه امرأة غيرها، وإنما خدعت لما رئي من جمالها وهيئتها. ولقد ذكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حملها على ما قالت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهن صواحب يوسف وكيدهن.(2/287)
وهي أسماء بنت أبي نعمان بن أبي الجون.
وقيل هي أمية بنت النعمان بن أبي الجون. قال ابن عباس: لما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج والغضب يعرف في وجهه فقال له الأشعث بن قيس: لا يسوءك الله يا رسول الله، ألا أزوجك من ليس دونها في الجمال والحسب؟ فقال: من؟ فقال: أختي قتيلة. قال: قد تزوجتها. قال: فانصرف الأشعث إلى حضرموت ثم حملها حتى إذا فصل من اليمن بلغه وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فردها إلى بلاده. وارتد وارتدت معه فيمن ارتد. فلذلك تزوجت لفساد النكاح بالإرتداد. وكان تزوجها قيس بن مكشوح المرادي. قال ابن أبي عون: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكندية في شهر ربيع الأول سنة تسع من الهجرة. ومنهن سنا بنت أسماء بن الصلت السلمية. وهي عمة عبد الله بن خازم بن أسماء بن الصلت، وأخواها عروة وأسماء لهما صحبة. تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فماتت قبل أن يصل إليها. قال ابن سعد: سبا، ويقال سنا بنت الصلت بن حبيب بن جارية بن هلال بن حرام بن سماك بن عوف السلمي. قال ابن عمر: كان في نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ0 سنا بنت سفيان بن عوف بن كعب بن أبي بكر بن كلاب. وقال ابن عمر: إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أبا أسيد إلى جدي يخطب عليه امرأة من بني عامر يقال لها عمرة بنت يزيد بن عبيد بن كلاب فتزوجها فبلغة أن بها بياضا فطلقها.(2/288)
ومنهن مليكة بنت كعب الليثي. قال أبة معشر: تزوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ فاستعاذت من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فطلقها. فجاء قومها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يارسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنها صغيرة، وإنها لا رأي لها، وإنها خدعت فارتجعها، فأبى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستأذنوه أن يزوجوها قريباً لهامن بني عذرة فأذن لهم. فتزوجها العذري وكان أبوها قتل فتح مكة، قتله خالد بن الوليد. قال محمد بن عمر: ومما يضعف هذا الحديث ذكر عائشة أنها قالت: ألا تستحين. وعائشة لم تكن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك السفر. قال عطاء بن يزيد الجندعي: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مليكة بنت كعب الليثي في شهر رمضان سنة ثمان، ودخل بها فماتت عنده. قال محمد بن عمر: وأصحابنا ينكرون ذلك ويقولون: لم يتزوج كنانية قط. ومنهن العالية بنت ظبيان بن عمرو بن عوف بن كعب بن عبد بن أبي بكر بن كلاب. تزوجها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمكثت عنده دهراً ثم طلقها. ومهن خولةبنة الهذيل التغلبية، وشراف بنت فضالة الكلبية. قال علي بن مجاهد: نكح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خولة بنت الهذيل بن هبيرة التغلبي، وأمها خريق بنت خليفة أخت دحية، فحملت إليه من الشام، فماتت في الطريق، فنكح خالتها شراف بنة فضالة بن خليفة، فحملت إليه من الشام فماتت في الطريق.(2/289)
ومنهن أمرأة من بني غفار: عن سهل بن زيد الأنصاري قال: تزوج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة من غفار فدخل بها، فأمرها فنزعت ثوبها 0 فرأى بها بياضا من برص عند ثدييها، فانماز رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: خذي ثوبك. وأصبح فقال: الحقي بأهلك، فأكمل لها صداقها. فأما سرارية فمنهن: مارية أم ابراهيم عليه السلام: في سنة سبع قدم حاطب بن أبي بلتعة من عند المقوقس بمارية أم أبراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبغلته دلدل وحماره يعفور. فأهدى أمير القبط إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاريتيين أختين، وبغلة، فكان يركب على البغلة، واتخذ إحدى الجاريتين، فولدت له ابراهيم ابنه. قال عبد الله بن عبد الرحمن بن صعصعة: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجب بمارية القبطية وكانت بيضاء جعدة جميلة، فأنزلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأختها عند أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عليهما الإسلام، فأسلمتا هناك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية كان من أموال بني النضير، فكانت فيه في الصيف وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك وكانت حسنة الدين. ووهب أختها سيرين لحسان بن ثابت الشاعر فولدت له عبد الرحمن.
وولدت مارية لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلاما فسماه ابراهيم، وعق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة يوم سابعة، وحلق رأسه فتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض وسماه ابراهيم. وكانت قابلتها سلمى مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فخرجت إلى زوجها أبي رافع فأخبرته أنها ولدت غلاما. فجاء أبو رافع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبشره فوهب له عبداً، وغار نساء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشتد عليهن حين رزق منها الولد.(2/290)
وعن علي بن أبي طالب قال: أكثر على مارية أم ابراهيم في قبطي ابن عم لها، يزورها ويختلف إليها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خذ هذا السيف فانطلق فإن وجدته عندها فاقتله. قال: قلت: يارسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكة المحماة لا يثنيني شيء حتى أمضي لما أمرتني به أم الشاهد يرى مالم يرى الغائب؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب. فأقبلت متوشحا بالسيف، فوجدته عندها، فاختطت السيف فلما رآني عرف أني أريده فأتى نخلاً فرقا هربا، ثم رمى بنفسه على قفاه ثم شال برجليه، فإذا به أجب أمسح، ماله مما للرجل قيل ولا كثير. فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال: الحمد لله الذي صرف عنا أهل البيت.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم ابراهيم حين ولدت: أعتقها ولدها. قال محمد بن عمر: توفيت مارية أم ابراهيم ابن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم سنة ست عشرة من الهجرة. فرئي عمر بن الخطاب يحشر الناس ليشهدوها، وصلى عليها، وقبرها بالبقيع. ومنهن ريحانة بنت زيد: قال محمد بن عمر الواقدي: قالوا: وكانت ريحانة بنت زيد من بني النضير متزوجة في بني قريظة. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخذها لنفسه صفياً. وكانت جميلة، فعرض عليها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسلم، فأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن سعية فذكر له ذلك فقال ابن سعية: فداك أبي وأمي هي تسلم. فخرج حتى جاءها فجعل يقول لها: لا تتبعي قومك، فقد رأيت ما أدخل عليهم حيي بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه. فبينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال: إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة. فجاءه فقال: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد أسلمت ريحانة فسر بذلك، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل بها إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، فكانت عندها حتى حاضت حيضة ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجاءها(2/291)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيت أم المنذر فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أحببت أن أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في أطؤك بالملك فعلت. فقالت يارسول الله، إن أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك. فكانت في ملك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يطؤها حتى ماتت عنده. وقال ابن أبي ذئب: سالت الزهري عن ريحانة فقال: كانت أمة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقها وتزوجها، فكانت تحتجب في أهلها. وتقول: لا يراني أحد بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الواقدي: وهذا أثبت الحديثين عندنا. وكان زوج ريحانة قبل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحكم. وعن عمرو بن الحكم قال: أعتق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خنافة. وكانت عند زوج لها، وكان محباً لها مكرماً فقالت: لا أستخلف بعده أبداً.
وكانت ذات جمال. فلما سبيت بنو قريظة عرض السبي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكنت فيمن عرض عليه، فأمر بي فعزلت، وكان يكون له صفي في كل غنيمة. فلما عزلت خار الله لي فارتحل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياما حتى قتل السرى وفرق السبي، ثم دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتجنبت منه حياءً فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله أختارك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنفسه فقلت: إني اختار الله ورسوله. فلما أسلمت أعتقني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتزوجني واصدقني اثنتي عشر أوقية ونشاً، كما كان يصدق نساءه، وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما كان يقسم لنساءه، وضرب علي الحجاب. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجباً بها، وكانت لا تسأله يعني شيئاً إلا أعطاها ذلك. وقيل لها: لو كنت سالت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني قريظة لأعتقهم 0 وكانت تقول: لم يخل بي حتى فرق السبي. ولقد كان يخلو بها ويكثر منها. فلم تزل عنده حتى ماتت من حجة الوداع، فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة. وعن ابن شهاب قال: واستسر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَريحانة من بني قريظة، ثم اعتقها فلحقت بأهلها.(2/292)
وقيل كانت من بني النضير، فكانت تكون في نخلة، نخل الصدقة، وكان يقبل عندهاصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحياناً. وكان سباها في شوال سنة أربع. وقيل كان النخل في العالية.
وزعم بعضهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابتدأه أول وجعه الذي توفي عندهم. وذكر أبو عبيدة أنه كان له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربع ولائد: مارية القبطية، وريحانة من بني قريظة، وكانت له جارية أخرى جميلة أصابها في السبي، فكادها نساؤه وخفن أن تغلبهن عليه، وكانت له جارية نفيسة وهبته لها زينب بنت جحش، وكان حجرها في شأن صفية بنت حيي ذا الحجة المحرم وصفر. فلما كان شهر ربيع الأول الذي قبض فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رضي عن زينب ودخل عليها: فقالت ما أدري ما أجزيك؛ فوهبتها له. وأما الاتي خطبن ولم يتزوجهن: عن ابن عباس قال: خطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي طالب بنته أم هانئ في الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتزوجها هبيرة. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا عم زوجت هبيرة وتركتني، فقال: ابن أخي، إنا قد صاهرنا إليهم، والكريم يكافئ الكريم. ثم أسلمت ففرق الإسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى نفسها فقالت: والله إن كنت لأحبك في الجاهلية فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية، وأكره أن يؤؤذوك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير نساء ركبن المطايا نساء قريش: أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده، وكان اسم أم هانئ فاختة.
وعن ابن عباس قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مول ظهره للشمس، فضربت على منكبه. فقال: من هذا أكله الأسود؟ وكان كثيراًما يقولها، فقالت: أنا بنت مطعم الطير، ومباري الريح، أنا ليلى بنت الخطيم. جئتك لأعرض عليك نفسي تزوجني. قال: قد فعلت، فرجعت إلى قومها فقال: قد تزوجني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: بئس ما صنعت، أنت(2/293)
امرأة غيري والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صاحب نساء تغارين عليه فيدعو الله عليك، فاستقيليه نفسك. فرجعت فقالت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أقلني، قال: قد أقلتك، قال: فتزوجها مسعود بن أوس بن سواد بن ظفر، فولدت له. فبينا هي في حائط من حيطان المدينة تغتسل إذ وثب عليها ذئب لقول النبي فأكل منها بعضها، وأدركت، فماتت. وعن ابن عباس قال: كانت ضباعة بنت عامر بن قرط بن سلمة بن بشر بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة عند هوذة بن علي الحنفي، فهلك عنها فرثته مالاً كثيراً فتزوجها عبد الله بن جدعان التميمي، وكان لا يولد له، فسألته الطلاق، فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة. كان من خيار المسلمين، فتوفي عنها هشام.
وكانت من أجمل نساء العرب وأعظمه خلقاً، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئاً كثيراً، وكان يغطى جسدها بشعرها. فذكر جمالها عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخطبها إلى ابنها سلمة بن الهشام بن المغيرة، فقال: حتى أستأمرها، وقيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كبرت، فأتاها ابنها فقال لها: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد خطبك إلي، فقالت: ما قلت له؟ قال: قلت حتى أستأمرها، وفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تستأمر؟! ارجع فزوجه: فرجع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسكت عنه. وعن ابن عباس قال: خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفية بنت بشامة بن نضلة العنبري، وكان أصابها سباء فخيرها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن شئت أنا، وإن شئت زوجك، فقالت: بل زوجي، فلعنتها بنو تميم. وعن عامر في قول عز وجل " ترجي من تشاء منهن " قال: كان نساء وهبن أنفسهن للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدخل ببعضهن، وأرجأ بعضاً فلم ينكحن بعده. منهن أم شريك.(2/294)
وكانت أم شريك أمرأة من بني عامر بن لؤي بن صعصعة، وهبت نفسها للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يقبلها، فلم تتزوج حتى ماتت. عن علي بن الحسين قال: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج أم شريك الدوسية. قال محمد بن عمرو: الثبت عندنا أنها امرأة من دوس من الأزد. قال محمد بن سعد: اسمها غزية بنت جابر بن عكيم. وكانت امرأة صالحة. والله أعلم.(2/295)
معرفة عبيده وإمائه وخدمه وكتابه وأمنائه
أسامة بن زيد بن حارثة
أبو زيد الكلبي مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحبه وابن حبه، وكان أبوه وأمه أم ايمن موليين للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وستأتي أخباره في ترجمته.
أسلم ويقال إبراهيم أبو رافع القبطي
شهد أحداً والخندق والمشاهد بعدها، وزوجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سلمى مولاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهدت سلمى خيبر وولدت عبيد الله بن أبي رافع، وكان كاتباً، كتب لعلي بن أبي طالب بالكوفة. ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان. وقيل: كان اسنه هرمز، كان للعباس، فوهبه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أسلم العباس أعتقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. شهد أحداً والخندق، وكان على ثقل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشهد فتح مصر. وقيل: كان أبو رافع قبطياً. عن أبي رافع: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث رجلاً من بني مخزوم على الصدقة فقال لأبي رافع: اصحبني كيما تصيب منها، فقالك لا حتى آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسأله، فانطلق إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأسأله، فقال: الصدقة لا تحل لنا وإن مولى القوم من أنفسهم.
وعن الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس قال: قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر فأصاب الناس برد شديد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان له لحاف فليلحلف من لا لحاف له. فطلبت من يلحفني فلم أجد أحداً، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/296)
فأخبرته فألقى علي من لحافه، فبتنا حتى أصبحنا فوجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رجليه على فراشه حية قد تطوقت، فرماها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برجله وقال: يا أبا رافع، اقتلها، اقتلها. قال أبو رافع: كنا آل عباس - قد دخلنا في الإسلام، وكنا نستخفي بإسلامنا، وكنت غلاماً للعباس أنحت الأقداح. فلما سارت قريش إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم بدر جعلنا نتوقع الأخبار، فقدم علينا الحيسمان الخزاعي بالأخبار، فوجدنا في أنفسنا قوة وسرنا ما جاءنا من الخبر من ظهور رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فو الله إني لجالس في صفة زمزم أنحت أقداماً لي وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر وبلغنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ أقل الخبيث أبو لهب بشر يجر رجليه قد أكبته الله وأخزاه بما جاءه من الخبر حتى جلس على طنب الحجرة، وقال الناس: ها أبو سفيان بن الحارث قد قدم واجتمع عليه الناس فقال له أبو لهب: هلم إلي يا ابن أخي، فعندك لعمري الخبر، فجاءه حتى جلس بين يديه فقال: يا بن أبي، خبرني خبر الناس فقال: نعم. والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكنافنا يضعون السلاح منا حيث شاؤوا. والله. مع ذلك هلكت الناس. لقينا رجالاً بيضاً على خيل بلق، لا والله لا تليق شيئاً يقول ما تبقى شيئاً - فرفعت طنب الحجرة فقلت: تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة منكرة وثاورته، وكنت رجل اًضعيفاً، فاحتملني فضرب بي الأرض وبرك على صدري يضربني، وتقوم أم الفضل ألي عمود بن عمد الحجرة فتأخذه فتقول: استضعفته أن غاب عنه سيده؟! وتقوم بالعمود على رأسه فتفلقه بشجة منكرة، وقام يجر رجليه ذليلاً، ورماه الله بالعدسة، فو الله ما مكث إلا سبعاً حتى مات. ولقد تركه أبناه فيبيته ثلاثاً ما يدفنانه حتى أنتن، وكانت قريش تتقي هذه العدسة كما تتقي الطاعون، حتى قال لهما رجل من قريش: ويحكما ألا تستحيان، إن أباكما قد أنتن في بيت لا تدفنانه؟! فقالا إنا نخشى عدوى هذه القرحة فقال: انطلقا فأنا أعينكما عليه. فوالله ما غسلوه إلا قذفاً بالماء عليه من بعيد(2/297)
لا يدنون منه حتى احتملوه إلى أعلا مكة فأسنداه إلى جدار، ثم رضموا عليه الحجارة.
أنسة أبو مسرح
مهاجري شهد بدراً وأحداً. كان من مولدي السراة لا تعرف له رواية. قال البغوي: لا أعلم روي عن أنسة حديث مسند ولا غير مسند. وقيل كنيته: أبو مسرح. وكان يأذن على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا جلس. ومات في خلافة أبي بكر اصديق رضي الله عنه. وروي عن ابن عباس قال: قتل أنسة مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ببدر. وقال محمد بن عمرو: وليس ذلك بثبت. قال: ورأيت أهل العلم يثبتون أنه لم يقتل ببدر. وقد شهد أحداً. وبقي بعد ذلك أيضاً زماناً.
أيمن بن عبيد بن زيد
وهو ابن أم أيمن أخو أسامة لأمه. أمهما أم أيمن حاضنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أيمن فيمن ثبت يوم حنين مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أصحابه. وقتل يوم حنين. وفيه نزلت وفي أصحابه " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً " الآية. وهو أيمن بن عبيد بن عمرو بن بلال بن أبي الحارث بن قيس بن مالك بن سالم غنم بن عوف بن الخزرج. روى عطاء عن أيمن بن أم أيمن رفعه قال: لاقطع إلا في ثمن المجن، وثمنه يومئذ دينار.(2/298)
وروى أيضاً عطاء عن أيمن الحبشي قال: لم يقطع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السارق إلا في المجن. وكان ثمن المجن يومئذ دينار. وروى أيضاً عطاء عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطع اليد في مجن، وقيمته يومئذ دينار. حديث محمد بن إدريس الشافعي قال: وقد روى شريك حديث مجاهد عن أيمن بن أم أيمن فقلت: لا أعلم لك بأصحابنا: أيمن أخو أسامة، قتل مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين قبل مولد مجاهد. ولم يبق بعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيحدث عنه.
باذام يذكر مع طهمان
ثوبان بن يجدد أبو عبد الكريم الألهاني
عربي، أصابه سباء، فاشتراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه. نذكره في حرف الثاء.
حنين مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن ابن حنين أخي ابراهيم من عبد الله بن حنين عن ابنة أخيه عن خالها يقال: ابن الشاعر أن حنينا جده كان غلاماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فوهبه لعمه عباس فأعتقه، فكان حنين عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخدمه. وكان إذا توضأ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج بوضوءه إلى أصحابه، فكان إما شربوه، وإما تمسحوا به. فحبس حنين الوضوء، فكان لا يخرج به إليهم، فشكوه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله فقال: احتبسته عندي، فجعلته في جر، فإذا عطشت شربت منه. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل رأيتم غلاماً أحصى ما أحصى هذا، ثم وهبه لعمه عباس فأعتقه(2/299)
ذكوان يذكر مع طهمان رافع ويقال أبو رافع
كان مولى لسعيد. كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن افحص لي عن أسماء خدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال والنساء ومواليه. فكتب إليه يخبره، قال:(2/300)
وكان رافع غلاماً لسعيد بن العاص فورثه ولده، فأعتق بعضهم في الإسلام وتمسك بعضٌ، فجاء رافع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعين به على من لم يعتق حتى يعتقه. فكلمه يومئذ فيه فوهبه له فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان يقول: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهو رافع أبو البهي. قال أبو بكر بن أبي خثيمة قال: وأبو رافع ابنه البهي بن أبي رافع، وكان يقال للبهي: رافع. وكان أبو رافع لأبي أحيحة سعيد بن العاص الأكبر، فورثه بنوه. وأعتق ثلاثة منهم أنصباءهم، وقتلوا يوم بدر جميعاً. وشهد أبو رافع معهم بدراً، ثم اشترى أبو رافع أنصباء بقية بني سعيد إلا نصيب خالد بن سعيد فوهب خالد نصيبه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فكان أبو رافع يقول: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويقوله ابنه البهي رافع بن أبي رافع من بعده. فلما ولي عمرو بن العاص سعيد المدينة دعا البهي فقال له: من مولاك؟ قال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضربه مئة سوط ثم سأله، قال: مولاي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضربه مئة سوط، حتى ضربه خمس مئة سوط ثم قال: أنا مولاكم. فلما قتل عبد الملك عمرو بن سعيد قال رافع بن أبي رافع: الطويل
صحت ولا شلت وضرت عدوها ... يمين ٌهراقت مهجة ابن سعيد
هو ابن أبي العاصي مراراً وينتمي ... إلى أسرة طابت له وجدود
وكان عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع بن أخي البهي شيخاً مسناً قد سبق اللحن وقد رويت عنه أيضاً.(2/301)
والصحيح أنه رافع، وهو المراد بالحديث الذي روي عن عبد الله بن عمرو. قال: قلنا: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم واللسان الصادق. قال: قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الذي لا أثم فيه ولا بغي ولا حسد. قلنا: فمن على أثره؟ قال: الذي يشنأ الدنيا ويحب الآخرة. قال: ما يعرف هذا فينا إلا رافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فمن على أثره؟ قال: مؤمن في خلق حسن. قلنا: أما هذا فإنه فينا.
رباح الأسود
غلام سيدنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان يأذن على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن عمر بن الخطاب قال: لما اعتزل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه، وكان قد وجد عليهن قال عمر: فدخلت المسجد فإذا الناس ينكتون بالحصا، ويقولون: طلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءه، وذكر الحديث. وقال فيه: قال عمر: فذهبت فإذا رباح غلام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد على أسكفة الغرفة مدل رجليه على نقير، يعني: جزعاً منقوراً. قال: فقلت: يارباح، استأذن لي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي فسكت، قال: فرفعت صوتي فقلت: استأذن لي يا رباح على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني أظن أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يظن أنما جئت من أجل حفصة. والله لئن رأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أضرب عنقها لأضربن عنقها. فنظر رباح إلى الغرفة ثم نظر إلي ثم قال بيده هكذا، يعني أنه أشار بيده أن ادخل. في حديث طويل.
رويفع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أتى رويفع عمر بن عبد العزيز وهو خليفة. ففرض له. قال: ولا عقب لرويفع.
أبو أسامة زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي
يذكر في حرف الزاي.(2/302)
زيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال بلال بن يسار بن زيد مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سمعت أبي حدثني عن جدي أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه. غفر له وإن كان فر من الزحف. قال البغوي: لا أعلم لزيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير هذا الحديث.
سفينة أبو عبد الرحمن ويقال أبو البختري
قيل: كان اسمه مهران، وقيل: أحمر، ويقال: رومان. فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفينة. وكان لأم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقته، وأشترطت عليه أن يخدمه ما عاش، وكان سفينة من مولدي الأعراب. وروي أن سفينة كان مولى أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. له صحبه. وقيل: هو مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وروى عنه بنوه عبد الرحمن ومحمد وزياد وكثير، وسعيد بن جمهان. وعن عمران البجلي عن مولى لأم سلمة قال: كنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمرنا بواد أو بنهر فكنت أعبر الناس فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماكنت منذ اليوم إلا سفينة. حدث سفينة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الخلافة في أمتي تكون سنة ثم ملكاً بعد ذلك. وذكر الحديث. قال الراوي: قال لسعيد: أين لقيت سفينة قال: لقيته ببطن نخلة في زمان الحجاج. فأقمت عنده ثمان ليالٍ أسأله عن أحاديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قال: قلت: ما اسمك؟ قال: ما أنا بمخبرك. سماني(2/303)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سفينة. فقلت: ولما سماك سفينة؟ قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أصحابه فثقل عليهم متاعهم، فقال لي ابسط كساءك، فبسطت فجعلوا فيه متاعهم ثم حملوه علي. فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: احمل فإنما أنت سفينة فلو حملت يومئذ قدر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل علي إلا أن يخفوا. وفي رواية: كنا مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفر، فكلما أعيا بعض قومي ألقى علي سيفه وترسه ورمحه حتى حملت شيئاً كثيراً، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت سفينة. قال سفينة: قالت أم سلمة: أعتقك على أن تخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عشت. قلت: ولو لم تشترطي علي لخدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو ما فارقت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأعتقتني أو شارطتني أن أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما عشت. وعن سفينة قال: خدمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين. وعنه قال: لقيني الأسد فقلت: أنا سفينة، مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فضرب بذنبه الأرض وقعد. وعن سفينة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كنت في سفر فعرض لي الأسد فقلت: يا أبا الحارث، أنا سفينة، مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: فولى رافعاً ذنبه يهمهم. وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع من الجنابة. وعنه قال: ركبنا في سفينة تجاراً في البحر، فانكسرت السفينة، فرمى بنا البحر، فخرجت أمشي لا أدري أين أتوجه. فكان أول شئ رأيت الأسد. فقلت: أي يا أبا الحارث، أنا مولىً لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهمهم فدفعني برأسه، فجعلت أندفع حتى أوقفني على الطريق، وفي رواية: ثم همهم، فظننت أن السلام.(2/304)
سلمان أبو عبد الله الفارسي
كان مولى لرجل من يهود، فكاتب على نفسه، وأعانه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابته حتى عتق. فكان مولاه.
وقال فيه: سلمان منا أهل البيت. وسنذكره في السين.
شقران الحبشي واسمه صالح بن عدي
ورثه عن أبيه هو وأم أيمن. وقيل: كان حبشياً. وقيل: كان لعبد الرحمن بن عوف فوهبه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد انقرض ولده. قال: وقد كان له ولد بالبصرة. ولا أعلمه بقي منهم أحد. قال محمد بن سعد: كان شقران لعبد الرحمن بن عوف، فأعجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخذه منه بالثمن، وكان عبداً حبشيا. ًشهد بدراً وهو مملوك، واستعمله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الأسرى. ولم يسهم له فجداه كل رجل له أسير، فأصاب أكثر مما أصاب رجل من القوم من المقسم. وحضر بدراً أيضاُ ثلاثة أعبد مماليك. غلام لعبد الرحمن بن عوف، وغلام لحاطب بن أبي بلتعة، وغلام لسعد بن معاذ. فجداهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يسهم لهم. وعن أبي بكر بن عبد الله بن أبي حممة العدوي قال: 0 استعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شقران مولاه على جميع ما وجد في رحال أهله المريسيع من رثة المتاع والسلاح والنعم الشاء. وجمع الذرية ناحية. حدث شقران قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي على حمارمتوجهاً إلى خيبر. قال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبر.(2/305)
ضميرة بن أبي ضميرة الحميري
أصابه سباء، فابتاعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه، وكانت له الدار البقيع وولد. عن ضميرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بأم ضميرة وهي تبكي، فقال لها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما يبكيك؟ أجائعة أنت أو عارية أنت؟ قالت: يا رسول الله: فرق بيني وبين أبني، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا يفرق بين الوالدة وولدها. ثم أرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الذي عنده ضميرة فدعاه، فابتاعه منه ببكر. قال ابن أبي ذئب: ثم أقرأني كتاباً عنده: " بسم الله الرحمن الرحيم ". هذا كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أعتقهم وأنهم أهل بيت من العرب، إن اختاروا أقاموا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن أحبوا رجعوا إلى قومهم، فلا يعرض لهم بحق، ومن لقيهم من المسلمين فليستوص بهم خيراً. وكتب أبي بن كعب.
طهمان مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن عطاء بن السائب قال: أوصى إلي بشئ لبني هاشم، فأتيت أبا جعفر المدينة، فبعثني إلى امرأة عجوز كبيرة ابنة لعلي فقال: حدثني مولى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له طهمان أو ذكوان. قال: قال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا طهمان - أو يا ذكوان - إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، وإن مولى القوم من أنفسهم. وروى هذا الحديث وسماه مهران، وقيل ميمون. وقيل باذام وقيل كيسان. قال: فلا أدري أيما الصواب.(2/306)
عبيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روى شيخ عن عبيد مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قلت: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر بصلاة بسوى المكتوبة؟ قال: صلاة بين المغرب والعشاء. وعن عبيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن امرأتين قد صامتا وأن رجل قال: يا رسول الله، إن ههنا امرأتين قد صامتا، وإنهما كادتا أن تموتا من العطش، فأعرض عنه - أو سكت - ثم عاد قال وأراه قال: بالهاجرة - قال: يا نبي الله، إنهما والله قد ماتتا أوكادتا أن تموتا قال: ادعوهما. قال: فجاءتا، قال: فجيء بقدح أو عسّ فقل لإحداهما: قيئي، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً حتى قاءت نصف القدح. ثم قال للأخرى قيئي، فقاءت من قيح ودم وصديد ولحم عبيط وغيره حتى ملأت القدح. ثم قال: إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا عما حرّم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس.
فضالة مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن افحص لي عن - يعني - أسماء خدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال والنساء ومواليه، فكتب إليه فقال: وكان فضالة مولى له ثمان، نزل الشام بعد، وكان أبو مويهبة مولداً من مولدي مزينة، فأعتقه. قال الحافظ: ولم أجد ذكر فضالة هذا في موالي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا من هذا الوجه.
قفيز مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روى أنس قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلام يقال له قفيز. أوله قاف وآخره زاي.(2/307)
كركرة مولىً للنبي
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم أن افحص لي عن أسماء خدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرجال والنساء ومواليه. فكتب إليه يخبره أن أم أيمن، بركة، كانت لأبي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فورثها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقها. وكان عبيد بن عمرو الخزرجي قد تزوجها بمكة، فولدت له أيمن. ثم إن خديجة ملكة زيد بن حارثة فسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تهب له زيداً، وذلك بعد أن تزوجها فوهبت له، فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان أبو كبشة من مولدي مكة فأعتقه. وكان أنسة من مولدي السراة فأعتقه. وكان صالح وهو شقران غلام له فأعتقه. وكان سفينة غلاماً له فأعتقه.
وكان ثوبان رجلاً من أهل اليمن، ابتاعه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فأعتقه، وله ست إلى الثمان.
وكان رباح أسود فأعتقه. وكان يسار نوبياً أصابه في غزوة بني عبد بن ثعلبة فأعتقه. وكان أبو رافع للعباس، فوهبه لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أسلم العباس بشر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعتقه واسمه أسلم. وكان فضالة مولىً له نزل الشام بعد زمان. وكان أبو مويهبة مولداً من مولدي مزينة فأعتقه.
وكان رافع غلاماً لسعيد بن العاص فورثه ولده فأعتقه بعضهم في الإسلام، وتمسّك بعضٌ، فجاء رافع إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعين به على من لم يعتقه حتى يعتقه فكلّمه يومئذ فيه فوهبه له فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكان يقول: أنا مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان مدعم غلاماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهبه له رفاعة بن زيد الجزامي من مولدي حسمى قتل بوادي القرى، روي عن أبي هريرة أنه شهد خيبر ثم انصرف إلى وادي القرى فلم يزل يحط رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بوادي القرى فجاءه سهم غرب فقتله، فقيل: هنيئاً له الشهادة قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي غلّ يوم خيبر تحترق عليه في النار. قال: وكان كركرة غلاماً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهداه له. كذا فيه ولا أعلم لكركرة رواية.
ولكن له ذكر في حديث. عن عبد الله بن عمرو قال: كان على رحل - وقال مرّة: على ثقل - للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجل يقال له: كركرة فمات، قال: هو في النار. فنظروا فإذا عليه عباءة قد غلّها، وقال مرّة: أو كساء قد غلّه. قال أبو عبد الله بن منده: كركرة له صحبة، ولا تعرفوا له رواية. إلا أنه ذكر في حديث عمرو بن دينار عن سالم.
كيسان مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن أم كلثوم بنت علي قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمولىً لنا يقال له كيسان - أو قالت هرمز - يا كيسان، إن مولى القوم لمن أنفسهم، وإنا لا نأكل الصدقة، فلا تأكلن.(2/308)
وفي رواية: فلا تأكل الصدقة.
مابورا القبطي الخصي
روي عن مصعب قال: أهدى المقوقس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصيّاً يقال له: ما بورا. والمقوقس صاحب الإسكندرية من القبط.
مدعم من مولدي حسمى
عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام خيبر. فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً إلا الأموال والمتاع والثياب. فأهدى رجل من بني الضبيب يقال له رفاعة بن زيد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غلاماً أسود، يقال له: مدعم فوجّه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى وادي القرى، حتى إذا كانوا بوادي القرى. فبينما مدعم يحطّ رحل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ جاءه سهم عائر فقتله. فقال الناس: هنيأً له الجنة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً. فلما سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء الرجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شراك من نار أو شراكان من نار. وفي حديث آخر عن أبي هريرة: ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد له وهبه رجل من بني جزام يدعى رفاعة بن زيد. ولم يسمّه. وفي حديث آخر: ففزع الناس، فجاء رجل بشراك أوشراكين فقال: يا رسول الله، أصبت هذا يوم خيبر. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شراك من نار أو شراكين من نار.(2/309)
مهران مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن عطاء بن السائب قال: أوصى إليّ رجل بوصيّة من الزكاة أو الصدقة فأتيت أم كلثوم بنت علي فقالت: أحذّر شبابنا أن يأخذوا منها شيئاً. فإنه حدثني ميمون - أو مهران - أنه مرّ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا ميمون - أو يامهران - إنا قومٌ نهينا عن الصدقة، وإن موالينا من أنفسنا فلا تأخذن من الصدقة. وروي أيضاً من غير شكٍ قال: وقالت: حدّثني مولى للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له: مهران أنّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إنا آل محمد لا تحل له الصدقة، ومولى القوم من أنفسهم.
ميمون مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن عطاء بن السائب قال: حدّثتني أم كلثوم بنت علي قال: أتيتها بصدقة وكانت أمرتها قالت: أحذر شبابنا، فإن ميمون - أو مهران - مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرني أنه مر على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: ياميمون - أو يامهران - إنا أهل بيت نهينا عن الصدقة، وإن موالينا من أنفسنا، فلا تأكل الصدقة.
نافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن نافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الجنة شيخ زان، ولا مسكين مستكبر، ولا منان بعمله على الله عزّ وجلّ.
نُفيع ويقال مسروح أبو بكرة
مولى ثقيف، تدلى إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حصار الطائف في بكرة، فكناه أبا بكرة، وأعتقه فكان من مواليه. نذكره في حرف النون.
واقد ويقال له أبو واقد
عن واقد مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أطاع الله فقد ذكر الله، وإن قلّت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن، ومن عصى الله فلم يذكره، وإن كثرت صلاته وصيامه وتلاوته للقرآن.(2/310)
وقد روي هذا الحديث عن أبي واقد، وقيل في موضع آخر واقد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. روى عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر الحديث.
هرمز أبو كيسان مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن فاطمة بنت علي أو أم كلثوم بنت علي قالت: سمعت مولىً لنا، يقال له هرمز، يكنى أبا كيسان قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إنا أهل بيت لا تحلّ لنا الصدقة، وإن موالينا من أنفسنا، فلا تاكلوا الصدقة. وعن معاوية بن قرّة قال: شهد بدراً عشرون مملوكاً. منهم مملوك للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له هرمز، فأعتقه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: إن الله تبارك وتعالى قد أعتقك. وإن مولى القوم منهم، وإنا أهل بيت نبتلى بأكل الصدقة. فلا تأكلها.
هشام مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن هشام مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: جاء رجل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إن أمرأتي لا تدفع يد لامس. قال طلّقها، قال تعجبني. قال: فتمتع بها.
يسار مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن يعقوب بن عتبة قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة إلى قرار الكدر وكان الذي هاجه على ذلك أنّه بلّغه أن بها جمعاً من غطفان وسليم. فسار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليهم وأخذ عليهم الطريق، حتّى جاء فرأى آثار النعم ومواردها، ولم يجد في المحلّ أحداً، فأرسل في أعلى الوادي نفراً من أصحابه، وأستقبلهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بطن الوادي، فوجد رعاء فيهم غلام يقال له: يسار، فسألهم عن الناس، فقال يسار: لا علم لي بهم وإنما أورد لخمس، وهذا يوم ربعي، والناس قد ارتفعوا إلى المياه، وإنما نحن غزاب في النَّعم فانصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَوقد ظفر(2/311)
بالنعم، فانحدر إلى المدينة، حتى إذا صلى الصبح إذا هو بيسار فرآه يصلي، فأمر القوم أن يقتسموا غنائمهم فقال القوم: يا رسول الله، إن أقوى لنا أن نسوق النعم جميعاً، فإن فينا من يضعف عن حظ الذي يصير له، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقتسموا، فقالوا: يا رسول الله، إن كان أنمى بك العبد الذي رأيته يصلي فنحن نعطيكه في سهمك: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قد طبتم به نفساً؟ قالوا: نعم، فقبله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأعتقه. وارتحل الناس. فقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واقتسموا غنائمهم. فأصاب كل رجل منهم سبعة أبعرة، وكان القوم مئتين ويسار هو الذي قتله العرنيّون.
أبو الحمراء واسمه هلال بن الحارث السلمي
أصابه سباء. خدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال أبو الحمراء. رابطت المدينة سبعة أشهر كيوم فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتي باب علي وفاطمة كلّ غداة فيقول: الصلاة الصلاة " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ". وعن أبي الحمراء قال: مرّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رجل عنده طعام في وعاء، فأدخل يده فيه فقال: غششته. من غشّنا فليس منّا. قال يحيى بن معين: أبو الحمراء صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. اسمه هلال بن الحارث. وكان يكون بحمص قال يحيى: وقد رأيت بها غلاماً من ولده. وقال عمرو بن إسحاق بن إبراهيم: إن اسم أبي الحمراء: هلال بن الحارث بن ظفر السلمي. منزله خارج حمص.(2/312)
أبو سلمى راعي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ويقال: أبو سلام، واسمه حريث وعداده في الشاميين. عن أبي سلمى راعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من لقي الله يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدً رسول الله وآمن بالبعث والحساب دخل الجنّة، قلنا: أنت سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأدخل اصبعيه في أذنيه ثم قال: أنا سمعت هذا منه غير مرة ولا مرتين ولا ثلاثة ولا أربعة.
أبو صفيةّ مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روى أبو كعب عن جدّه بقيّة عن أبي صفية مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه كان يوضع له نطع ويجاء بزبيل، فيتغمى فيسبح به إلى نصف النهار، ثم يرفع فإذا صلى الأولى يسبح حتى يمسي.
أبو ضميرة والد ضميرة وزوج أم ضميرة مولى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدث حسين بن عبد الله بن أبي ضميرة أن الكتاب الذي كتبه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي ضميرة: " بسم الله الرحمن الرحيم " كتاب من محمد رسول الله لأبي ضميرة وأهل بيته أنهم كانوا أهل بيت من العرب، وكانوا مما أفاء الله على رسوله، فأعتقه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خير أبا ضميرة، إن أحب أن يلحق بقومه فقد أذن له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن أحب أن يمكث مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكونوا من أهل بيته فاختاروا الله ورسوله، ودخل في الإسلام فلا يعرض لهم أحد إلا بخير. ومن لقيهم من المسلمين فليستوصِ بهم خيراَ. وكتب أبي بن كعب. قال أسماعيل بن أبي أويس: وهو مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أحد حمير، وخرج قوم منهم في سفر ومعهم هذا الكتاب. فعرض لهم اللصوص. فأخذوا ما معهم. فأخرجوا هذا الكتاب إليهم، وأعلموهم ما فيه فقرؤوه، فردوا عليهم ما أخذوا منهم، ولم يعرضوا لهم.(2/313)
ووفد حسين بن عبد الله بن ضميرة إلى المهدي أمير المؤمنين، وجاءه معه بكتابهم هذا فأخذه المهدي فوضعه على بصره، وأعطى حسيناً ثلاثة مئة دينار.
أبو عبيد مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن أبي عبيد أنه طبخ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدراً فيها لحم فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ناولني ذراعاً فناولته، فقال: ناولني ذراعاً فناولته فقال: ناولني ذراعاً، فناولته، فقال ناولني ذراعا فقال: يا نبي الله، كم للشاة من ذراع؟ قال: والذي نفسر بيده لو سكت لأعطيتني ذراعاً ما دعوت به.
أبو عسيب مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن أبي عسيب مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون، فأمسكت بالحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم، ورجس على الكافر. وعنه قال: خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلاً، فمرّ بي فدعاني فخرجت إليه، ثم انطلق يمشي حتى دخل حائطاً لبعض الأنصار فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصاحب الحائط: أطعمنا بسراً، فجاء فجاء به فوضعه فأكل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكلوا جميعاً، ثم دعا بماء فشرب منه ثم قال: إن هذا النعيم لتسألن يوم القيامة عن هذا،، فأخذ عمر العذق فضرب به الأرض حتى تناثر البسر ثم قال: يا نبي الله، إنا لمسؤولون عن هذا يوم القيامة؟ قال: نعم، إلا من ثلاثة: خرقة يستر بها الرجل عورته، أو كسرة يسد بها بها جوعته، أو حجر يدخل فيه، يعني من الحر والقرّ. وعن أبي عسيب أو أبي عسيم قال بهز: إنه شهد الصلاة على رسول الله قالوا: كيف نصلي عليه قال: ادخلوا أرسالاً(2/314)
أرسالاً. قال: فكانوا يدخلون من هذا الباب، فيصلون عليه، ثم يخرجون من الباب الآخر. قال: فلما وضع في لحده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال المغيرة: قد بقي من رجليه شيء لم تصلحوه. قالوا: فادخل فأصلحه، فدخل وأدخل يده فمس قدميه فقال: أهيلوا عليّ التراب، فأهالوا عليه، حتى بلغ أنصاف ساقيه ثم خرج فكان يقول: أنا أحدثكم عهداً برسول الله وعن ميمونة بنت أبي عسيب قالت: كان أبو عسيب يواصل بين ثلاث في الصيام. وكان يصلي الضحى قائماً فعجز. فكان يصلي قاعداً. وكان يصوم البيض. قالت: وكان في المريرة جلجل فيعجز صوته حتى يناديها به، فإذا حركه جاءت.
أبو كبشة يقال اسمه سليم مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شهد معه بدراً. وكان من مولدي أرض دوس. قال عمران بن مناح: لما هاجر أبو كبشة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة نزل على كلثوم بن الهدم، وقيل نزل على سعد بن خيثمة. قال محمد بن عمر: شهد أبو كبشة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدراً وأحداً والمشاهد كلها. وتوفي أول يوم أستخلف فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك يوم الثلاثاء لثمان ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة. وفي رواية المفضل: توفي في ولاية عمر بن الخطاب. وقيل توفي سنة ثلاث وعشرين.(2/315)
أبو مويهبة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
شهد المريسيع مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان يقود بعائشة رضي الله عنها بعيرها. روى أبو مويهبة قال: أهبني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الليل فقال: يا أبا مويهبة، إني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع. فخرجت معه، حتى أتينا البقيع، فرفع يديه فاستغفر لهم طويلاً، ثم قال: ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، يتبع آخرها أولها، والآخرة شر من الأولى، يا أبا مويهبة، إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيه ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة. فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال: والله، يا أبا مويهبة، لقد اخترت لقاء ربي عز وجل ثم الجنة وانصرف رسول الله، فلما أصبح ابتدأ وجعه الذي قبضه الله عز وجل فيه.؟؟؟(2/316)
إماؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بركة وتكنى أم أيمن
وهي حاضنته. عن أنس بن مالك قال: قال أبو بكر بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمر: أنطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان رسول الله يزورها. فلما انتهينا إليها بكت. فقالوا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله. قال: فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكن أبكي أن الوحي انقطع من السماء. وفي رواية فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها. وعن ابن شهاب قال: لما مات النبي بكت أم أيمن وهي أم أسامة بن زيد فقيل لها ما يبكيك؟ فقالت: انقطع عنا خبر السماء فلما مات عمر قالت: اليوم وهى الإسلام. وعن أم أيمن قالت: كان لرسول الله فخارة يبول فيها، فكان إذا أصبح يقول: يا أم أيمن صبي ما في الفخارة. فقمت ليلة وأنا عطشت فغلطت فشربت ما فيها، فقال النبي: يا أم أيمن صبي ما في الفخارة فقلت: يا رسول الله، قمت وأنا عطشى فشربت ما فيها. فقال: إنك لن تشتكي بطنك بعد يومك هذا. حدث الواقدي عن أصحابه المدنيين قالوا: نظرت أم أيمن إلى النبي وهو يشرب فقالت: يا رسول الله، اسقني فقالت:(2/317)
عائشة: يا أم أيمن أتقولين هذا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟؟؟؟ ؟؟؟؟؟ قالت: ما خدمته أطول. فقال رسول الله: صدقت، فجاء بالماء فسقاها. قال عثمان بن القاسم: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف دون الرحواء. قال: وهي صائمة، قال: وأصابها عطش شديد حتى جهدها. قال: فدلي عليها دلوا من السماء برشاء أبيض فيه ماء. قالت: فشربت، فما أصابني عطش بعد، وقد تعرضت للعطش بالصوم وفي الهواجر، فما عطشت بعد. وعن شقيق بن عقبة قال: كانت أم أيمن تلطف للنبي، وتقوم عليه فقال رسول الله: من سره أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن فتزوجها زيد بن حارثة، فولدت له أسامة بن زيد. قال ابن شهاب: كانت أم أيمن تحضن النبي حتى كبر، فأعتقها، ثم أنكحها زيد بن حارثة، ثم توفيت بعد النبي بخمسة أشهر. وقيل: إنها بقيت بعد قتل عمر بن الخطاب. قال الواقدي: كانت أم أيمن اسمها بركة، وكانت لعبد الله بن عبد المطلب، وصارت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميراثاً، وهي أم أسامة بن زيد فأعتقها، وكان زيد بن حارثة لخديجة فاستوهبه رسول الله من خديجة. وقيل: كان النبي يقول: أم أيمن أمي بعد أمي. وقيل: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لأم أيمن: يا أمه وكان إذا نظر إليها قال: هذه بقية أهل بيتي.(2/318)
خضرة مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
روى عبد الله بن علي بن أبي رافع عن جدته سلمى قالت: كان خدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا، وخضرة، ورضوى، وميمونة بنت سعد. أعتقهن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهن.
رزينة مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والصحيح أنها كانت لصفية بنت حيي زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكانت تخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن رزينة مولاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سبا صفية يوم قريظة والنضير حين فتح الله عليه، فجاء بها يقودها سبية. فلما رأت النساء قالت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فأرسلها. وكان ذراعها في يده، فأعتقها ثم خطبها، وتزوجها، وأمهرها رزينة. قال أبو عبد الله بن منده: رزينة مولاة صفية زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابنتها أمة الله. ولها صحبة.
رضوى مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قال محمد بن عمر: قالت امرأة أبي رافع: كنا نخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا واسمي سلمى، وخضرة، ورضوى - كن إماءً له فأعتقهن وميمونة بنت سعد.
سلمى وهي أم رافع مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وكانت تخدمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن سلمى أنها قالت: صنعت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حريرة فقربتها ليأكلها. ومعه ناس من أصحابه، فبقي منها قليل. فمر بالنبي أعرابي، فدعاه النبي، فأخذها الأعرابي كلها بيده، فقال له(2/319)
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ضعها فوضعها، وقال له: قل بسم الله، وخذ من أدناها. قالت: فشبع منها، وفضلت فضلة. وعن عائشة قالت: جاءت سلمى مولاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى رسول الله تستعدي على زوجها أبي رافع مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. زعمت أنه ضربها، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا رافع، لم ضربتها؟ قال: إنها تؤذيني. قال: يا سلمى، بما آذيته؟ قالت: والله ما آذيته بشيء إلا أنه قام يصلي فضرط في الصلاة فقلت: إن رسول الله قد كان أمر المسلمين: إذا خرج منهم الريح أن يتوضؤوا، فضحك النبي وقال: يا أبا رافع إنها أمرتك بخير. وعن أم رافع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: لم يكن يصيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرحة ولا نكبة إلا وضع عليه الحناء. قال مصعب: شهدت سلمى خيبر، وولدت عبيد الله بن أبي رافع.
شيرين أخت مارية القبطية
خالة إبراهيم بن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أهداها المقوس صاحب الإسكندرية للنبي، فوهبها لحسان بن ثابت. عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجب بمارية القبطية وكانت بيضاء، جعدة، جميلة، فأنزلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأختها على أم سليم بنت ملحان، فدخل عليهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فعرض عليهما الإسلام، فأسلمت هنالك، فوطئ مارية بالملك، وحولها إلى مال له بالعالية، كان من أموال بني النضير، فكانت فيه في الصيف، وفي خرافة النخل، فكان يأتيها هناك. وكانت حسنة الدين. ووهب أختها سرين لحسان بن ثابت الشاعر، فولدت له عبد الرحمن.(2/320)
وولدت مارية لرسول الله غلاماً فسماه إبراهيم، وعق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشاة يوم سابعه، وحلق رأسه فتصدق بزنة شعره فضة على المساكين، وأمر بشعره فدفن في الأرض، وسماه إبراهيم، وكانت قابلتها سلمى مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغار نساء لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واشتد عليهن حين رزق منها الولد. وعن عائشة في حديث الإفك بطوله. قالت فيه: وقعد صفان بن المعطل لحسان بن ثابت، فضربه ضربة، فقال صفوان لحسان في الشعر حين ضربه. الطويل
تلقى ذباب السيف مني فإنني ... غلام إذا هوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وأتقي ... من الباهت الرامي البراء الطواهر
فصاح حسان واستغاث الناس على صفوان، فلما جاء الناس فرّ صفوان، وجاء حسان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستعداه على صفوان في ضربه إياه بالسيف، فسأله النبي أن يهب له ضربة صفوان إياه، فوهبه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغاضه منها حائطاً من نخل عظيم، وجارية قبطية تدعى شيرين فولدت لحسان ابنه عبد الرحمن الشاعر.
ميمونة بنت سعد مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عن ميمونة قالت: سئل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عتق ولد الزنى فقال: لأن أجهز نعلين في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولدٌ زنى. قالت: وسئل النبي عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال: قد أفطرا. وفي رواية: سئل عن ولد الزنى. قال: لا خير فيه. نعلان أجاهد بهما في سبيل الله أحب إلي من أن أعتق ولد الزنى.(2/321)
وعن ميمونة بنت سعد وكانت تخدم النبي قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرافلة في الزينة من غير أهلها كالظلمة يوم القيامة لا نور لها. وعن ميمونة مولاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: يا نبي الله أفتنا في بيتِ المقدس فقال: أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة. قالت: أرأيت من لم يطق أن يتحمل إليه، أو يأتيه؟ قال: فليهد إليه زيتاً يسرج فيه، فإنه من أهدى له كان كمن صلى فيه.
أم ضميرة زوج أبي ضميرة مولاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تقدم ذكرها في ترجمة أبنها ضميرة.
أم عياش خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدثت أم عياش - وكانت خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بها مع ابنته إلى عثمان قالت: كنت أمغث - يعني لعثمان - التمر غدوة فيشربه عشية، وأنبذه عشية فيشربه غدوة، فسألني ذات يوم فقال: تخلطين منه شيئاً؟ قلت: أجل. قال: فلا تعودي.(2/322)
خدمه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أنس بن مالك أبو حمزة الأنصاري
يأتي ذكره إن شاء الله.
الأسلع بن شريك بن عوف الأعرجي
ويقال: اسم الأسلع ميمون بن سنباذ. عن الأسلع قال: كنت أخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأرحل له، فقال ذات ليلة: يا أسلع، قم فارحل. قال: قلت: أصابتني جنابة يا رسول الله، قال: فسكت ساعة، وأتاه جبريل بآية الصعيد. قال: فتمسحت وصليت. فلما انتهيت إلى الماء قال: يا أسلع، قم فاغتسل، وضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يده إلى الأرض ثم نفضها ثم مسح بها وجهه ثم ضرب بيديه إلى الأرض ثم نفضها فمسح بها ذراعيه باليمنى على اليسرى، وباليسرى على اليمنى ظاهرهما وباطنهما. وقال الربيع: وأراني أي كما أراه أبوه، كلما أراه الأسلع كلما أراه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الربيع: فحدثت بهذا الحديث عوف بن أبي جميلة فقال: هكذا والله رأيت الحسن يصنع.(2/323)
أسماء بن حارثة الأسلمي أخو هند بن حارثة
وكانا يخدمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن يحيى بن هند بن حارثة - وكان هند من أصحاب الحديبية، وأخوه الذي بعثه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمر قومه بالصيام يوم عاشوراء، وهو أسماء بن حارثة - فحدث يحيى بن هند عن أسماء بن حارثة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه فقال: مر قومك بصيام هذا اليوم. قال: أرأيت إن وجدتهم قد طمعوا؟ قال: فليتموا آخر يومهم. وعن حبيب بن هند بن أسماء الأسلمي عن أبيه هند قال: بعثني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قوم من أسلم فقال: مر قومك فليصوموا هذا اليوم، يوم عاشوراء، ومن وجدت منهم أكل في أول يومه فليصم آخره وفي كتاب محمد بن سعد: أسماء بن حارثة بن عبد الله بن عباد بن سعد بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن مالك بن أفصى. صحب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان من أهل الصفة. وتوفي سنة ست وستين بالبصرة. وهو يومئذ ابن ثمانين سنة وعن أبى هريرة قال: ما كنت أظن هنداً وأسماء أبنتي حارثة الأسلميين إلا مملوكين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال محمد بن عمر: كانا يخدمانه، لا يريمان بابه هما وأنس بن مالك.
بلال بن رباح المؤذن أبو عبد الله مولى أبي بكر الصديق
كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسنذكره أيضاً في حرف الباء. قال عبد الله الهوزني: لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا بلال، حدثني كيف كانت نفقه رسول(2/324)
الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ما كان له شيء. كنت أنا الذي ألي ذاك منه، منذ بعثه الله حتى توفي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان إذا أتاه الإنسان المتثلم فرآه عارياً يأمرني به. فانطلق، فاستقرض فأشتري البردة فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال لي يا بلال، إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت. فلما كان ذات يوم توضأت ثم قمت أؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار. فلما رآني قال: يا حبشي، قلت: يالبيك، فتجهمني وقال لي قولاً عظيماً فقال أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قلت: قريب، قال: إنما بينك وبينه أربعة، وآخذك بالذي لي عليك، فإني لم أعطيك الذي أعطيتك من كرامتك ولا كرامة صاحبك علي، ولكن إنما أعطيتك لأتخذك عبداً، فأردك ترعى الغنم كما كنت ترعى قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس. فانطلقت، فأذنت بالصلاة، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي فقلت: يا رسول الله، إن المشرك الذي كنت أدنت منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، وليس عندي، وهو فاضحي فأذن لي فأبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قدأسلموا حتى يرزق الله رسوله ما يقضي عني. فخرجت حتى أتيت منزلي، فجعلت سيفي وحرابي ومجني ونعلي عند رأسي، واستقبلت في بوجهي الأفق. فكلما نمت ساعة انتبهت، فإذا رأيت علي ليلاً نمت حتى انشق عمود الصبح الأول، فأردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال، أجب رسول الله فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع، وكانت مناخات، عليهن أحمالهن، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأذنت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أبشر فقد جاءك الله بقضائك، فحمدت الله. وقال: ألم تمر على الركائب المناخات الأربع؟ قلت: بلى، قال: فلأن لك رقابهن، وما عليهن، فإن عليهن كسوةً وطعاماً، أهداهن لي عظيم فدك فاقبضهن ثم أقض دينك، ففعلت، فحططت عنهن أحمالهن ثم علفتهن، ثم قمت إلى تأذيني لصلاة الصبح، حتى إذا صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرجت إلى البقيع، فجعلت إصبعي في أذني فأذنت فقلت: من كان يطلب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدين فليحضر، فما زلت أبيع وأقضي حتى لم يبقى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دين في الأرض حتى فضل في يدي أوقيتن أو أوقية ونصف، ثم انطلقت إلى المسجد وقد ذهب عامة النهار وإذا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاعد في المسجد وحده فسلمت عليه، فقال لي: ما فعل ما قبلك؟ قلت: قضى الله كل شيء كان على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم(2/325)
يبقى شيء. فقال: أفضل شيء؟ فقلت: نعم. فقال: أنظر أن تريحني منها، فإني لست داخلا على أحد من أهلي حتى تريحني منه. فلم يأتنا أحد حتى أمسينا، فلما صلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العتمة دعاني فقال: ما فعل ما قبلك؟ قلت: معي، لم يأتنا أحد فبات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المسجد حتى أصبح وظل فيه اليوم الثاني حتى إذا كان آخر النهار جاء راكباً، فانطلقت بهما. فأطعمتهما وكسوتهما، حتى إذا صلى العتمة دعاني فقال لي: ما فعل الذي قبلك؟ قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكبر وحمد الله، شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك. ثم اتبعته حتى جاء أزواجه، فسلم على امرأة حتى أتى مبيته، فهو الذي سألني عنه.
بكير بن شداخ الليثي ويقال بكر
عن عبد الملك بن يعلى الليثي أن بكر بن شداخ الليثي وكان ممن يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو غلام. فلما احتلم جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله، إني كنت أدخل على أهلك، وقد بلغت مبلغ الرجال، فقال النبي: اللهم، صدق قوله، ولقه الظفر، فلما كان في ولاية عمر جاء وقد قتل يهوديا فأعظم ذلك عمر وجذع وصعد المنبر قال: أفيما ولاني الله واستخلفني يقتل الرجال؟! أذكر الله رجلاً كان عنده علم إلا علمني، فقام إليه بكير بن شداخ فقال: أنا به، فقال: الله أكبر بؤت بدمه، فهات المخرج. قال: بلى. خرج فلان غازياً ووكلني بأهله فجئت إلى بابه فوجت هذا اليهودي في منزله وهو يقول: الوافر
وأشعث غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها وتمسي ... على قود الأعنة والحزام
كأن مجامع الربلات منها ... فئام ينظرون إلى فئام
قال: فصدق عمر قوله، وأبطل دمه بدعاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(2/326)
ذو مخمر ويقال ذو مخيمر الحبشي
ابن أخي - ويقال ابن أخت النجاشي ملك الحبشة. عن ذي مخمر، وكان رجلاً من الحبشة يخدم النبي قال: كنا معه في سفر فأسرع السير حتى انصرف، وكان يفعل ذلك لقلة الزاد فقال له قائل: يا رسول الله، قد انقطع الناس قال: فحبس، وحبس الناس معه حتى تكاملوا إليه فقال لهم: هل لكم أن نهجه هجعة - أو قال له قائل - فنزلوا فقال: من يكلؤنا الليلة؟ فقلت: أنا جعلني الله فداك، فأعطاني خطام ناقته فقال: هاك لا تكونن لكعاً قال: فأخذت بخطام ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخطائم ناقتي، فتنحيت غير بعيد فخليت سبيلهما يرعيان، فإني كذلك أنظر إليهما حتى أخذني النوم، فلم أشعر بشيء حتى وجدت حر الشمس على وجهي، فاستيقظت فنظرت يميناً وشمالاً فإذا أنا بالراحلتين مني غير بعيد، فأخذت بخطام ناقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخطام ناقتي، فأتيت أدنى القوم فأيقظته فقلت له: أصليت؟ قال: لا، فأيقظ الناس بعضهم بعضاً حتى استيقظ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا بلال، هل في الميضأة ماء؟ - يعني في الإداوة - فقال: نعم، جعلني الله فداك، فأتاه بوضوء فتوضأ لم يلت منه التراب فأمر بلالً فأذن، ثم قام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى الركعتين قبل الصبح، وهو غير عجل، ثم أمره فأقام الصلاة، فصلى وهو غير عجل، فقال له قائل: يا نبي الله، أفطرنا؟ قال: لا، قبض الله أرواحنا وقد ردها إلينا وقد صلينا.
ربيعة بن كعب أبو فراس الأسلمي
كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يصلي رسول الله عشاء الآخرة. فأجلس ببابه إذا دخل بيته، أقول: لعله أن يحدث لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حاجة، فما أزال أسمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: سبحان الله، سبحان الله وبحمده،(2/327)
حتى أمل فأرجع، أو تغلبني عيني فأرقد. قال: فقال لي يوماً، لما يرى في خفتي له وخدمتي إياه: يا ربيعة، سلني، أعطك. قال: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أعلمك ذلك. قال: ففكرت في نفسي فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة، وإن لي فيها رزقاً سيكفيني، ويأتيني، قال: فقلت: أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآخرتي فأنه من الله بالمنزل الذي هو به. قال: فجئته فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ قال: فقلت: نعم، يا رسول الله، أسألك أن تشفع لي إلى ربك، فيعتقني من النار، قال: فقال: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ قال: فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد، ولكنك لما قلت: سلني أعطك، وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري، فعرفت أن الدنيا منقطعة0وزائلة، وأن لي فيها رزقاً سيأتيني، فقلت أسأل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لآخرتي. قال: فصمت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلاً، ثم قال: إني فاعل، فأعني على نفسك بكثرة السجود. وعن ربيعة الأسلمي - وكان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فقال لي ذات يوم: يا ربيعة، ألا تزوج؟ قال: قلت: يا رسول الله، ما أحب أن يشغلني عن خدمتك شيء. قال: فسكت. قال: فلما كان بعد قال لي: يا ربيعة، ألا تزوج؟ قال: قلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما أحب أن يشغلني عن خدمتك شيء، وما عندي ما أعطي المرأة فقال: فقلت بعد: رسول الله أعلم بما عندي مني. يدعوني إلى التزويج. لئن دعاني هذه المرة لأجيبنه. قال: فقال لي: يا ربيعة، ألا تزوج؟ قال: قلت: يا رسول الله، ومن يزوجني، وما عندي ما أعطي المرأة. قال: فقال لي: انطلق إلى بني فلان فقل لهم: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة. قال: فأتيتهم فقلت: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة. قالوا: فلانة؟. قالوا: مرحباً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومرحباً برسوله فزوجوني فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، أتيتك من خير أهل بيت، صدقوني وزوجوني فمن أين لي ما أعطي صداقي؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبريدة الأسلمي: يا بريدة، اجمعوا لربيعة في صداقه وزن نواة من ذهب. قال: فجمعوها، فأعطوني فأتيتهم فقبلوها، فأتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله، قد قبلوا فمن أين لي ما أولم؟ قال: فقال: اجمعوا لربيعة في ثمن كبش. قال: فجمعوا. وقال لي: انطلق إلى عائشة فقل لها: فلتدفع إليك ما عندها من الشعير، قال: فأتيتها فدفعت إلي. فانطلقت بالكبش والشعير، فقالوا: أما(2/328)
الشعير فنحن نكفيكه وأما الكبش فمر أصحابك أن يذبحوه وعملوا الشعير، فأصبح والله عندنا خبز ولحم. ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقطع أبا بكر أرضاً له فاختلف في عذق فقلت: هو في أرضي، وقال أبو بكر: هو في أرضي فتنازعنا، فقال لي أبو بكر كلمة كرهتها، فندم فأخبرني فقال لي: قل لي كما قلت. قال: قلت: لا والله لا أقول لك كما قلت لي، قال: إذاً آتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتبعته، فجاءني قومي يتبعوني فقالوا: هو الذي قال لك وهو يأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيشكو؟ قال: فالتفت إليهم فقلت: تدرون من هذا؟ هذا الصديق وذو شيبة المسلمين. ارجعوا، لا يلتفت فيراكم، فيظن أنكم إنما جئتم لتعينوني عليه، فيغضب فيأتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخبره، فيهلك ربيعة. قال: فأتى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني قلت لربيعة كلمة كرهها، فقلت له يقول لي مثلما قلت له فأبى، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا ربيعة، ومالك وللصديق؟ قال: قلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا والله لا أقول له كما قال لي. قال: أجل، لا تقل له كما قال ولكن قل: غفر الله لك يا أبا بكر.
سعد مولى أبي بكر الصديق
كان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل أنه كان مولى له. عن سعد قال: قربت بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تمراً، فجعلوا يقرنون، فنهى رسول الله عن القران. وعن سعد مولى أبي بكر - وكان يخدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يعجبه خدمته - فقال: يا أبا بكر، أعتق سعداً، فقال: يا رسول الله، ما لنا ماهنٌ غيره. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أعتق سعداً، أتتك الرجال، أتتك الرجال. قال أبو داود يعني السبي.(2/329)
عبد الله بن مسعود أبو عبد الرحمن الهذلي
كان يلي طهور النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحمل نعليه، ويرحل راحلته، وسنذكره في حرف العين.
مهاجر مولى أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كان يخدمه. قال مهاجر مولى أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خدمت النبي عشر سنين أو خمس سنين لم يقل لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته؛ لم تركته؟.
أبو السمح خادم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حدث أبو السمح قال: كنت أخدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كان إذ اأراد أن يغتسل قال: ناولني أدواتي. قال: فناولته، وأستره، فأتي بحسن، أو حسين، فبال على صدره، فجئت لأغسله. قال: يغسل من بول الجارية، ويرش من بول الغلام.(2/330)
كتابه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أبان بن سعيد بن العاص الأموي
نذكره في ما بعد.
أبي بن كعب
قال ابن أبي خثيمة: كان أول من كتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي بن كعب. فكان إذا لم يحضر أبي دعا زيد بن ثابت، فكانا يكتبان له الوحي، ويكتبان إلى من كاتبه من الناس، وكان يكتب له عثمان بن عفان وخالد بن سعيد وأبان بن سعيد رضي الله عنهم. قال محمد بن سعد: وكان أبي بن كعب يكتب في الجاهلية قبل الإسلام. وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكانوا يقولون: أول من كتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري، ثم ارتد. فكتب له عثمان بن عفان، وخالد وأبان ابنا سعيد بن العاص. وكتب له العلاء بن الحضرمي وشرحبيل بن حسنة. وكتب على بن أبي طالب الموادعة في غزوة الحديبية. وكتب علي كتاب أهل نجران.
أرقم بن أبي الأرقم المخزومي
عن عمرو بن حزم: إن هذه قطائع أقطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء القوم:(2/331)
هذا كتاب من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعظيم بن الحارث المحاربي أن له فخاً لا يحاقه فيها أحد. وكتب الأرقم: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لعظيم بن الحارث المحاربي أن له المجمعة من رأس فخ لا يحاقه فيها أحد. وكتب الأرقم. عن إبراهيم بن المنذر قال: والأرقم بن أبي الأرقم - اسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد بن جندب بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب. وأمه أميمة بنت عبد الحارث الخزاعية. وبقي الأرقم إلى عهد معاوية. ومات في سنة خمس وخمسين. وهو الذي كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستخفياً في داره بأصل الصفا. آخى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين عبد الله بن أنيس، وقد شهد بدراً. ولم يشهدها عبد الله بن أنيس. وقال عثمان بن الرقم: توفي أبي الأرقم سنة ثلاث وخمسين، وهو ابن خمس وثمانين سنة. ويكنى أبا عبد الله. وصلى عليه سعد بن أبي وقاص، ودفن بالبقيع. كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين تغيب من قريش تغيب في داره. وهي التي تعرف الخيزران عند الصفا. روى عثمان بن أرقم عن أبيه - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الذي يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، ويفرق بين الاثنين - والإمام يعني يخطب - كالجار قصبه في النار.
ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري
روى علي بن محمد المدائني بأسانيده عن شيوخه في وفود العرب عن النبي قالوا:
قدم عبد الله بن علس الثمالي ومسليه بن هزان الحداني على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رهط من قومها بعد فتح مكة، فأسلموا، وبايعوا على قومهم، وكتب لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً بما(2/332)
فرض عليهم من الصدقة في أموالهم، كتبه ثابت بن قيس بن شمام وشهد فيه سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة. قال محمد بن اسحاق: استشهد من الأنصار، ثم من بني الحارث بن الخزرج: ثابت بن قيس بن شماس استشهد باليمامة. قال ابن منده: ثابت بن قيس بن شماس بن ثعلبة بن زهر بن امرئ القيس بن مالك بن الحارث بن الخزرج، كنيته أبو محمد. قتل باليمامة شهيداً، وشهد له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة. روى عنه أنس بن مالك، ومحمد وإسماعيل وقيس، بنوه. روى ثابت بن قيس قال: قتل يوم قريظة رجل من الأنصار يدعى خلاداً فقيل لأمه: يا أم خلاد قتل خلاد، فجاءت وهي متنقبة فقبل لها: قتل خلاد وتجيئينا متنقبة قالت: لإن رزئت خلاداً، فلا أرزأ أحباي. فذكروا ذلك للنبي فقال: أما أن له أجر شهيدين، قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: لأن أهل الكتاب قتلوه. عن أنس قال: كان ثابت بن قيس بن شماس خطيب الأنصار. فلما نزلت الآية " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " قال ثابت: أنا الذي كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا من أهل النار، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل هو من أهل الجنة.(2/333)
حنظلة بن الربيع التميمي الأٌسيدي الكاتب
قال حنظلة سمعت رسول الله يقول: من حافظ على الصلوات الخمس ركوعهن وسجودهن ووضوئهن ومواقيتهن، وعلم أنهن حق من عند الله تبارك وتعالى دخل الجنة. أو قال وجبت له الجنة. وسنذكر حنظلة في حرف الحاء.
خالد بن سعيد بن العاص الأموي
كتب خالد بن سعيد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاباً: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ راشد بن عبد رب السلامي، أعطاه غلوتين بسعجى وغلوة بحجر برهاط. فمن حاقه فلا حق له. وحقه حق. وكتب خالد بن سعيد. وأقام خالد يعني: ابن سعيد بن العاص - بعد أن قدم من أرض الحبشة مع رسول الله بالمدينة. وكان يكتب له. وهو الذي كتب كتاب أهل الطائف لوفد ثقيف وهو الذي مشى في الصلح بينهم وبين رسول الله. وسنذكر خالداً في حرف الخاء.(2/334)
خالد بن الوليد أبو سليمان المخزومي
وسنذكره في حرف الخاء. عن عمرو بن حزم: إن هذه قطائع أقطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء القوم: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المؤمنين: إن عضاه وجّ وصيده، لا يعضد صيده ولا يقتل، فمن وجد يفعل من ذلك شيئاً فإنه يجلد، وتنزع ثيابه، وإن تعدى ذلك أحد فإنه يؤخذ، فيبلغ محمداً النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن هذا من محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكتب خالد بن الوليد بأمر النبي محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا يتعداه أحد فيظلم نفسه فيما أمره به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: كذا. قال: وأظنه خالد بن سعيد.
الزبير بن العوام أبو عبد الله الأسدي القرشي
نذكره في حرف الزاي. عن عمرو بن حزم: إن، هذه قطائع أقطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء القوم. فذكرها وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني معاوية بن جرول إلى الضبابيين، لمن أسلم منهم فأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأطاع الله ورسوله، وأعطى من المغانم خمس الله وسهم النبي رسوله، وفارق المشركين، وأشهد على إسلامه فإنه آمن بأمان الله ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن لهم ما أسلموا عليه من بلادهم ومياههم. وغدوة الغنم من وراء بلادهم التي أسلموا عليها مبنية. وكتب الزبير.
زيد بن ثابت أبو سعيد الأنصاري الخزرجي
نذكره في حرف الزاي.(2/335)
سجل الكاتب
عن ابن عباس قال: كان النبي كاتب يسمى السجل. وهو فوله: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب " قال: كما يطوي السجل الكتاب كذلك نطوي السماء. وقال في حديث آخر: السجل هو الرجل. وعن ابن عمرو قال: وكان للنبي كاتب يقال له سجل، فأنزل الله عز وجل: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ". وقال أبو جعفر: السجل هو الملك
سعد بن أبي سرح والمحظوظ عبد الله بن سعد القرشي العامري
عن خليفة بن خياط: في تسمية كتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: زيد بن ثابت كاتب الوحي. وقد كتب له معاوية بن أبي سفيان، وكتب له حنظلة بن ربيعه الأسيدي، وكتب له سعد بن أبي سرح ثم ارتد ولحق بمكة، وكان يأذن عليه أنسة مولاه. وبلال على نفقاته، ومعيقيب بن أبي فاطمة خازنه. ويقال كان معيقيب على خاتمه. وأنس بن مالك يخدمه. ومؤذناه بلال وابن أم مكتوم. وحرسه ببدر سعيد بن زيد، وحين رجع من بدر ذكوان بن عبد القيس الأنصاري وبأحد محمد بن مسلمة، وفي الخندق الزبير بن العوام أو غيره، وبخيبر ليلة بنى بصفية أبو أيوب، وبتبوك أبو قتادة، وقد حرسه سعد بن مالك وعائذ بن عمرو المزني.(2/336)
أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان القرشي التيمي
خليفة رسول الله. نذكره في حرف العين. عن سراقة بن جعثم قال: لما خرج رسول الله من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش لمن يرده مئة ناقة. قال: فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا فقال: والله لقد رأيت ركبة ثلاثة، مروا علي آنفاً، إني لأراهم محمداً وأصحابه قال: فأهويت له يعني أن اسكت. قال: وقلت: إنما هم بنوا فلان يبغون ضالة لهم. قال: لعله، ثم سكت. فمكثت قليلاً ثم قمت فأمرت بفرسي فقيد إلى بطن الوادي، وأخرجت سلاحي من وراء حجرتي، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ثم لبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها، فخرج القسم الذي أكره: لا يضره، قال: وكنت أرجو أن أرده فآخذ المئة ناقة. قال: فركبت في أثره. قال: فبينا فرسي يشتد حتى عثر، فسقطت عنه. قال: فأخرجت قداحي فاستقسمت فخرج السهم الذي أكره: لا يضره. قال: فأبيت إلا أن أتبعه فركبت. فلما بدا لي القوم ونظرت إليهم عثر فرسي وذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه، واستخرج يديه واتبعهما دخانٌ مثل الإعصار، فعرفت أنه قد منع مني وأنه ظاهر فناديتهم فقلت: انظروا فو الله لأريبنكم ولايأتيكم مني شيء تكرهونه، فقال رسول الله: قل له ماذا تبتغي؟ فقلت: اكتب لي كتاباً يكون بيني وبينك آية. قال: اكتب له يا أبا بكر. فكتب ثم ألقاه إلي فرجعت، فسكت. فلم أذكر شيئاً مما كان حتى إذا فتح الله عز وجل على رسوله مكة وفرغ من حنين خرجت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لألقاه، ومعي الكتاب الذي كتب لي. قال: فبينا أنا عامد له دخلت بين ظهران كتيبة من كتائب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو على ناقة أنظر إلى ساقه في غرزة كأنها جمارة قال: فرفعت يدي بالكتاب. فقلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هذا كتابك. قال: فقال رسول الله: هذا يوم وفاء وبر ادنه. قال: فأسلمت. ثم ذكرت شيئاً أسأل عنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما ذكرت شيئاً إلا أني(2/337)
قلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الضالة تغشى حياضنا قد ملأتها لإبلي، هل لي من أجر أن أسقيها؟ فقال رسول الله: نعم، لك في كل ذات كبد حرى أجر. قال: فانصرفت، وسقت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقتي.
عبد الله بن أرقم بن أبي الأرقم المخزومي
عن عبد الله بن الزبير أن النبي استكتب عبد الله بن الأرقم بن عبد يغوث. كذا نسبه ابن حميد. وكان يجيب عنه الملوك. وبلغ من أمانته عنده أنه كان يأمره أن يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب ويختم ما يقرأه لأمانته عنده. واستكتب أيضاً زيد بن ثابت. وكان يكتب الوحي ويكتب إلى الملوك أيضاً فلم يزالا كذلك حتى قبض النبي، وخلافة أبي بكر وجعل أبو بكر رضي الله عنه إلى عبد الله بن الأرقم بيت المال. فلم يزل كذلك حتى قبض أبو بكر، وولي عمر رضي الله عنه حتى قتل. ثم إن عثمان عزل عبد الله بن الأرقم عن الكتابة وبيت المال، وجعلها إلى زيد بن ثابت. فأما النبي فكان إذا غاب ابن الأرقم وزيد بن ثابت واحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، أو يكتب لإنسان كتاباً أمر من حضر أن يكتب. وقد كتب عمر، وعلي، وزيد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وخالد بن سعيد بن العاص. وغيرهم ممن سمى من العرب. وعن عبد الله بن عمر قال: أتى النبي كتاب رجل فقال لعبد الله بن الأرقم: أجب عني. فكتب جوابه ثم قرأه عليه فقال: أصبت، وأحسنت، اللهم وفقه. فلما ولي عمر كان يشاوره. وعن عبد الله بن الأرقم أنه حجّ فكان يصلي بأصحابه، يؤذن ويقيم. فأقام يوماً وقال: ليصل أحدكم فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا أراد أحدكم أن يذهب إلى الخلاء وأقيمت الصلاة فليصل إلى الخلاء.(2/338)
قال الأعمش: قلت لشقيق: من كان كاتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: عبد الله بن أرقم. قال: وقد أتانا كتاب أبي بكر بالقادسية، في أسفله؛ وكتب عبد الله بن أرقم. قال الغلابي: وهذا خطأ، إنما كانت القادسية في زمن عمر. وقد ورد في حديث قال: وأتانا كتاب عمر بالقادسية وفي أسفله: وكتب عبد الله بن أرقم. وقال في حديث آخر: قال أبي: والصحيح عندنا أن معاوية كان كاتب النبي.
عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري
قال ابن عباس: كان يكتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأزله الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتل فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان أخا عثمان بن عفان من الرضاعة. وقيل أنه استأمن له يوم فتح مكة. نذكره في حرف العين.
عبد الله بن زيد بن عبد ربه أبو محمد الأنصاري الخزرجي
كتب لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أسلم من جرش، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وأعطى حظ الله وحظ الرسول، وفارق المشركين، فإنه آمن بذمة الله وذمة محمد. ومن رجع عن دينه فإن ذمة الله وذمة محمد رسوله منه بريئة. ومن شهد له مسلم بإسلامه فإنه آمن بذمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنه من المسلمين، وكتب عبد الله بن زيد.(2/339)
وعن عبد الله بن زيد قال: رأيت في المنام رجل نزل من السماء عليه بردان أخضران أو ثوبان أخضران فقام على جذم حائط فنادى بالأذان: الله أكبر الله أكبر. مثنى مثنى، ثم قعد قعدة، ثم عاد، فأقام مثنى مثنى، فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: نعم ما رأيت علمها بلالاً. وفي رواية: فقال: ألقه على بلال، فألقيته فأذن. قال: فأراد أن يقيم، فقلت يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنا رأيت، أريد أن أقيم. قال: فأقم أنت. فأقام هو وأذّن بلال. وفي رواية: قال: ألقهن على بلال. فأنه أندى منك صوتاً. قال: فلما أذّن بلال ندم عبد الله بن زيد فأمره رسول الله أن يقيم. وعن عبد الله بن زيد أنه تصدق بحائط له فأتى أبواه إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالا: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إنها كانت قيم وجوهنا، ولم يكن لنا شيء غيرها. فدعا عبد الله فقال: إن الله عز وجل0 قد قبل صدقتك، ورد على أبويك. قال: فتوارثاها بعد ذلك. عن محمد بن عبد الله بن زيد أن أباه حدّثه: أن أباه شهد النبي عند المنحر، ومعه رجل من الأنصار وقسم رسول الله ضحايا، فلم يصبه ولا صاحبه بشيء، فحلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأسه في ثوبه، فقسم منه على الرجال، وقلّم أظافره فأعطاه وصاحبه. قال: فإنه عندنا مخضوب بالحناء والكتم. وحدث محمد بن عبد الله أيضاً: أن أباه كان يكنى أبا محمد، وكان رجلاً ليس بالقصير ولا بالطويل. قال محمد بن عمر: وكان عبد الله بن زيد يكتب بالعربية قبل الإسلام، وكانت الكتابة في العرب قليلاً(2/340)
وقال محمد بن سعد: عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن ثعلبة بن زيد بن الحارث بن الخزرج. وقال عبد الله بن محمد بن زيد الأنصاري: ليس في آبائه ثعلبة، وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه بن زيد بن الحارث. وثعلبة بن عبد ربه أخو زيد وعمّ عبد الله. فأدخلوه في نسبه وهذا خطأ. وكان لعبد الله بن زيد من الولد: محمد، وأمه سعدة بنت كعب بن يساف بن عنبة بن عمرو، وهي ابنة أخي خبيب بن يساف. وأم حميد بنت عبد الله، وأمها من أهل اليمن. لعبد الله بن زيد عقب بالمدينة. وهم قليل. وشهد عبد الله العقبة مع السبعين من الأنصار في روايتهم جميعاً. وشهد بدراً وأحداً والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله. وكانت معه راية بني الحارث بن الخزرج في غزوة الفتح، وهو الذي أري الأذان. قال محمد بن عبد الله بن زيد: توفي أبي عبد الله بن زيد بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين. وهو ابن أربع وستين سنة، وصلى عليه عثمان بن عفان.
عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق
كتب عن النبي كتاب أمان لسراقة بن مالك بن جعشم. وعن سراقة بن جعشم، وذكر خبر الهجرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال فيه: فقلت له: إن قومك جعلوا فيك الدية، وأخبرتهم من أخبار سفرهم، وما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزوني منه شيئاً. ولم يسألوني إلا أن أخف عنا. فسألته أن يكتب لي كتاب موادعة آمن به، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أديم ثم بيض. وقد جاء من وجه آخر أن أبا بكر قد كتب ذلك الكتاب. والله أعلم.(2/341)
وعن عامر بن فهيرة قال: تزود أبو بكر الصديق مع رسول الله في جيش العسرة نحي سمن وعكيكة عسل، على ما كنا عليه من الجهد. وعن عائشة - في حديث لها طويل - قالت: وكان عامر بن فهيرة للطفيل بن الحارث أخي عائشة لأمها أم رومان، فأسلم عامر فاشتراه أبو بكر فأعتقه، وكان يرعى عليه مسحة له من غنم. قال زيد بن رومان: أسلم عامر بن فهيرة قبل أن يدخل رسول الله دار الأرقم، وقبل أن يدعو فيها. قال عروة بن الزبير: كان عامر بن الفهير من المستضعفين من المؤمنين، وكان ممن يعذب بمكة ليرجع عن دينه. وعن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما هاجر عامر بن فهيرة إلى المدينة نزل على سعد بن خثيمة. قالوا: آخى رسول الله بين عامر بن الفهيرة والحارث بن أوس بن معاذ. وشهد عامر بن فهيرة بدراً وأحداً وقتل يوم بئر معونة سنة أربعة من الهجرة. وكان يوم قتل ابن أربعين سنة. قال عروة: لم يكن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين هاجر من مكة إلى المدينة إلا أبو بكر وعامر بن فهيرة ورجل من الدّئل مشرك، كان دليلاً لهم. وعن عروة قال: قال عامر بن الطفيل لعمرو بن أمية: هل تعرف أصحابك؛ قال: قلت: نعم. قال: فطاف فيهم وجعل يسأل عن أنسابهم فقال: هل تفقد منهم من أحد؟ قال: أفقد مولىً لأبي بكر يقال له عامر بن فهيرة فقال: كيف كان فيكم؟ قال: قلت: كان من(2/342)
أفضلنا، ومن أول أصحاب نبينا. وقال: ألا أخبرك خبره؟ وأشار إلى رجل فقال: هذا طعنه وبرمحه. ثم انتزع رمحه، فذهب بالرجل علواً في السماء حتى والله ما أراه. قال عمرو فقلت: ذلك عامر بن فهيرة. وكان الذي قتله رجل من بني كلاب يقال له: جبار بن سلمى. ذكر أنه لما طعنه قال: سمعته يقول: فزت والله. قال: فقلت في نفسي: ما أقوله فزت؟ قال: فأتيت الضحاك بن سفيان الكلابي فأخبرته بما كان، وسألته عن قوله: فزت. فقال: الجنة. قال: وعرض علي الإسلام فأسلمت. ودعاني إلى الإسلام ما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة من رفعه إلى السماء علواً. قال: وكتب الضحاك إلى رسول الله يخبره بإسلامه وما رأيت من مقتل عامر بن فهيرة. فقال رسول الله: فإن الملائكة وارت جثته وأنزل عليين. وعن عروة أن عامر بن الطفيل كان يقول: من رجل منكم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؛ قالوا: عامر بن فهيرة. وعن عائشة قالت: رفع عامر بن فهيرة إلى السماء، فلم توجد جسته، يروون أن الملائكة وارته.
عمر بن الخطاب أبو حفص القرشي العدوي أمير المؤمنين
كتب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسنذكره في حرف العين.
عثمان بن عفان بن أبي العاص أبو عمرو الأموي أمير المؤمنين
روى عن جماعة من أهل العلم. قال: قدم نهشل بن مالك الوائلي من باهلة على رسول الله وافداً لقوم. وكتب له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولمن أسلم من قومه كتاباً فيه شرائع الإسلام. وكتب عثمان بن عفان. وسنذكر عثمان في حرف العين.(2/343)
علي بن أبي طالب أبو الحسن الهاشمي أمير المؤمنين
كتب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتاب صلح الحديبية، وغيره من الكتب. وسنذكره في حرف العين. عن عمرو بن حزم أن هذه قطائع أقطعها رسول الله لهؤلاء القوم فذكرها، وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري أن له عينون قريتها كلها: سهلها وجبلها وماؤها وحرثها وكرومها وأنباطها وبقرها. ولعقبه من بعده، لا يحاقه فيها أحد، ولا يدخله عليه بظلم، فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وكتب علي.
العلاء بن الحضرمي واسم الحضرمي عباد ويقال عبد الله بن عباد
كان يكتب للنبي. وعن ابن سيرين أن العلاء بن الحضرمي، كتب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبدأ بنفسه. وكان العلاء عاملاً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على البحرين. فتوفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عليها. وكانت وفاته سنة إحدى وعشرين.
العلاء بن عقبة
كان كاتباُ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عن عمرو بن حزم أن هذه قطائع أقطعها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهؤلاء القوم فذكرها وذكر فيها:(2/344)
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عباس بن مرداس السلمي، أعطاه مدفورا فمن حاقه فيها فلا حق له فيها، وحقه حق، وكتب العلاء بن عقبة وشهد. ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عوسجه بن حرملة الجهني من ذي المروة وما بين بلكثة إلى الطيبة إلى الجعلاب إلى جبل القبلة، لا يحاقه فيها أحد، فمن حاقه فلا حاق له، وحقّه حق. وكتب العلاء بن عقبة. وكتب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني شنخ من جهينة: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني شنخ من جهينة، أعطاهم ما خطوا من صفينة وما حرثوا، ومن حاقهم فلا حق لهم. وحقهم حق وكتب العلاء بن عقبة وشهد.
محمد بن مسلمة الأنصاري
نذكره في حرف الميم. روى علي بن محمد المدائني بأسانيده قالوا: قدم وفد مهرة عليهم مهري بن الأبيض فعرض عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإسلام فأسلم وا، ووصلهم وكتب لهم. فذكر الكتاب. وقال: وكتب محمد بن مسلمة الأنصاري
معاوية بن أبي سفيان أبو عبد الرحمن القرشي الأموي
كاتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. نذكره في حرف الميم. عن جابر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار جبريل في استكتاب معاوية فقال: استكتبه. فإنه أمين.(2/345)
المغيرة بن شعبة أبو عيسى الثقفي
نذكه في حرف الميم. عن عمرو ين حزم أن هذه قطائع أقطعها رسول الله لهؤلاء القوم فذكرها. وقال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتابٌ من محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحصين بن نضلة الأسدي أن له ترمد وكثيفة، لا يحاقه فيها أحد. وكتب المغيرة.(2/346)
أمناؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عامر بن عبد الله بن الجراح أبو عبيدة القرشي الفهري
عبد الرحمن بن عوف أبو محمد الزهري
ونذكرها في حرف العين.
معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي
كان على خاتمه. ويقال: كان خازنه. روى إياس بن الحارث بن معيقيب عن جده المعيقيب وجده من قبل أمه ابن أبي ذباب قال: كان خاتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حديد ملوى بفضة. فربما كان في يدي. قال: وكان معيقب على خاتم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن معيقب قال: قيل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسح في المسجد - يعني الحصا - فقال: إن كنت لا بد فاعلاً فواحدة. والله أعلم.(2/347)
ذكر سلاحه ومركوبه ومعرفة مطعومه ومشروبه
عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني - غنم سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد. قال: رأيت في سيفي ذي الفقار فلاً. فأولته فلاً ليكونوا فيكم، ورأيت أني مردف كبشاً فأولته كبش كتيبة. ورأيت أني درع حصينة فأولته المدينة. ورأيت بقراً يذبح فبقرٌ والله. خير، فبقرٌ والله، خير. فكان ذلك على ما رأى رسول الله. وعن سعيد بن المسيب تنفل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفه ذا الفقار يومئذ - يعني - بدراً، وكان لمنبه بن الحجاج، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد غزا إلى بدر بسيفً وهبة له سعد بن عبادة يقال له العضب، ودرعه ذات الفضول. وعن ابن عباس أن الحجاج بن علاط أهدى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيفه ذا الفقار، وأن دحية الكلبي أهدى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلته الشهباء. قال ابن سيرين: صنعت سيفي على سيف سمرة.
وقال سمرة: صنعت سيفي على سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان حنيفاً وعن مرزوق الصيقل أنه صقل سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا الفقار. وكانت له قبيعة من فضة وبكرة في وسطه من فضة وحلقتها من فضة. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة في الهجرة بسيف كان لأبيه مأثوراً.(2/348)
وعن عبد الرحمن بن عطاء صاحب الشارعة قال: كانت درع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات الفضول، أرسل بها سعد بن عبادة إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سار إلى بدر، يقال له العضب، فشهد بها بدراً حتى غنم سيفه ذا الفقار يوم بدر من منّبه بن الحجاج. وعن مروان بن أبي سعيد بن المعلى الأنصاري قال: أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سلاح بني قينقاع ثلاثة أسياف: سيفاً قلعياً، وسيفاً يدعى بتاراً. وسيفاً يدعى الحتف. وكان عنده بعد ذلك رسوب والمخذم، أصحابها عند ضم طيء، وأخذ من سلاح بني قينقاع ثلاثة أرماح وثلاثة قسي: قوس اسمها الروحاء، وقوس من شوحط تدعى البيضاء، وقوس صفراء تدعى الصفراء. من نبع. وأصاب درعين يومئذ من سلاحهم، درع يقال لها السغدية، ودرع تدعى فضة. وقال محمد بن مسلمة الأنصاري: رأيت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم أحد درعين: درعة ذات الفضول ودرعة فضة، كانت للقينقاعي وكان من أبطالهم. ورأيت عليه يوم خيبر درعين: ذات الفضول والسغدية، درع عكير القينقاعي. وأصاب من سلاحهم مغفراً موشحاً. وقال مروان بن أبي سعيد قال: كان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درع تدعى الكتوم، من نبع كسرت يوم أحد، أخذها قتادة بن النعمان.(2/349)
وعن عامر قال: أخرج إلينا علي بن الحسين سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا قبيعته من فضة وإذا حلقته التي تكون فيها الحمائل من فضة، وسلسلته، وإذا هو سيف قد نحل، كان لمنبه بن الحجاج السهمي، أصابه يوم بدر. وعن جعفر بن محمد قال: رأيت سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائمه من فضة ونعله من فضة، وبين ذلك حلق من فضة، قال: هو الآن عند هؤلاء يريد: آل عباس. قال الأصمعي: دخلت على هارون الرشيد فإني لجالس عنده في جماعة إذ قال: أريكم سيف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو الفقار؟ فقلنا نعم يا أمير المؤمنين، فقام فجاء به بنفسه، فما رأيت شيئاً قط أحسن منه. إذا نصب لم ير فيه شيء، وإذ بطح على الأرض عد منه سبع فقر، وإذا هو صفيحة يمانية يحار الطرف فيه من حسنه. قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد: أراه ذو الفقار كان فيه ثقب صغار.
حدث أبو إسحاق عن أبيه عن جده قال: كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوس تدعى الكتوم من نبع، كسرت يوم أحد، كسرها قتادة بن النعمان. ثم إنه أصاب من سلاح بني قينقاع ثلاثة أقسية: قوس تدعى البهاء، وقوس صفراء تدعى الصفراء، وقوس تدعى الروحات. وكان له درعان: درع تدعىالصغدية والأخرى تدعى فضة. وثلاث أسياف: سيف قلعي. وكان عنده المخذم ورسوب. وكانت عنده ذات الفضول وسيف يقال له فضة وذو الفقار. وكانت له ثلاثة أرماح أصابها من سوق بني قينقاع. وأصاب من سلاحهم مغفراً موشحة بشبه.(2/350)
وعن سعد القرط قال: خرجت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيت الزنج يتراطنون حين رأوه ليس معه أحد. ولم يدر به الناس. قال: فارتقيت على نخلة فأذّنت. قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ماهذا يا سعد؟! من أمرك بهذا؟! قال: قلت يارسول الله، بأبي أنت وأمي، إني رأيت الزنج يتراطنون، ولم يكن معك أحد فخفتهم عليك، فأردت أن يعلم أنك قد جئت حتى تجمع الناس. فقال: أصبت. إذ لم يكن معي بلال فأذّن. قال: وكان النجاشي قد أهدى له عنزتين، فأعطى بلالاً واحدة فكان يمشي بها بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى توفي. قال فجاء بلالا إلى أبي بكر الصديق فقال: إني سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن أفضل أعمالكم الجهاد في سبيل الله. وقد أردت الجهاد. فقال له أبو بكر: أسألك بحقي إلا ما صبرت، إنما هو اليوم أو الغد حتى أموت. فأقام بلال معه يمشي بالعنزة بين يديه حتى توفي أبو بكر. فجاء إلى عمر فقال له كما قال لأبي بكر، فسأله عمر بما سأله أبي بكر فأبى فقال: من يؤذن؟ قال: سعد القرط، فإنه قد كان أذن بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعطاه العنزة فمشى بين يدي عمر، حتى قتل، ثم بين يدي عثمان، ثم لم يزل يمشي بها بين يدي الأمراء. هلم جراً. قال: حتى قدم أمير المؤمنين المهدي فغدونا بها. قال: وإذا بالحراب قد طلع بها من كل وجه فقلنا: إن عنزة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَلا يمشى معها بحربة. فرد الحراب ومشينا بها بي يديه حتى غرزناها في القبلة قال: وأتي بدابة يركبها إلى المصلى فقلنا له، إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى المصلى ماشياً، ذاهباً وراجعاً. فهذه رواية آل سعد التي كانت هذه الحربة عندهم. وعن عروة أن هذه الحربة دفعها النجاشي إلى الزبير في بعض حروبه، فقاتل بها ثم قدم بها معه. فلما كان يوم أحد أخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من يده فقتل بها أبي بن خلف، فسأل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير: كيف كانوا يصنعون بها؟ قال: كانوا يمشون بين يديه، فدفعها إلى بلال فقال: أمشي بها بين يدي. قال: فهي في أيد المؤذنين.(2/351)
وعن علي قال: كان فرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له: المرتجز، وكانت بغلته دلدل، وحماره عفير، وناقته القصواء، ودرعه ذات الفضول، وسيفه ذو الفقار. وروى جعفر عن أبيه قال: كانت ناقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تسمى العضباء، وبغلته الشهباء، وحماره يعفور، وجاريته خضرة.
وعن عامر قال: أخرج إلينا علي بن الحسين درع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإذا هي يمانية رقيقة ذات زرافين إذا علقت بزرافينها لم تمس الأرض، وإذا أرسلت مست الأرض. وعن مكحول قال: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترس فيها تمثال رأس كبش، فكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكانه، فأصبح وقد أذهبه الله عز وجل. وعن يونس بن عبيد، مولى محمد بن القاسم قال: بعثني محمد بن القاسم إلى البراء بن عازب أسأله عن راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كانت، قال: كانت سوداء مربعة من نمرة. وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت سوداء، ولواؤه أبيض. وعن ابن عباس قال: كانت رايات - أو قال راية - رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداء، ولواؤه أبيض. وعن جابر قال: كان لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم دخل مكة أبيض.(2/352)
وعن أبي هريرة قال: كانت راية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعة قطيفة كانت لعائشة فسألها فشقتها - وكان لواؤه أبيض - وكان يحملها سعد بن عبادة حتى ركزها في الأنصار في بني عبد الأشهل. وهي الراية التي دخل بها خالد بن الوليد ثنية دمشق، فسميت بثنية العقاب. وفي روايه: وهي الراية التي دخل بها خالد بن الوليد ثنية دمشق، وكان اسم الراية العقاب، فسميت ثنية العقاب. وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت عمامته سوداء تسمى العقاب. ولواؤه أسود. وعن عائشة قالت: كان لواء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الفتح أبيض، ورايته قطعة من مرط لي صوف مرحّل، وكانت الراية تسمى العقاب. وعن أبي هريرة قال: كانت رايه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سوداء تسمى العقاب. وعن زهير بن محمد قال: اسم راية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العقاب. وفرسه المرتجز، وناقته العضباء والقصواء والجوعاء، والحمار يعفور، والسيف ذو الفقار، والدرع ذات الفضول، والرداء الصبح، والقدح الغمر. وكان عند سهل بن سعد ثلاثة أفراس للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعلفهن وأسماؤهن: لزاز واللحيف(2/353)
والظراب فأما لزاز فأهداه له المقوقس. وأما اللحيف فأهداه له ربيعو بن أبي البراء، فأثابه عليه فرائض من نعم بني كلاب، وأما الظرب فأهداه له فروة بن عمرو بن النافرة الجذامي من البلقاء. ويقال وأهدى تميم الداري لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرساً يقال له الورد، فأعطاه عمر، فحمل عليه عمر في سبيل الله فوجده يباع. وعن الحسن قال: كان اسم فرس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكب، وبغلته دلدل، وناقته العضباء، ووحماره يعفور وسيفه ذا الفقار، ودرعه ذات الفضول، ورايته الغقاب، وقوسه العقفاء. قال: وكان اسم كبش إبراهيم عليه السلام حرير، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه 0 بهيوت. واسم هدهد سليمان عفير، واسم كلب أهل الكهف قطمير، وهبط آدم بالهند وحواء بجدة. وإبليس بدست بيسان بأرض البصرة. وهبطت الحية بأصبهان. وأول فرس ملكه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرس ابتاعه بالمدينة من رجل من بني فزارة بعشر أواق. كان اسمه عند الأعرابي الضرس، فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكب. وكان أول ما غزا عليه يوم أحد، وليس مع المسلمين يومئذ فرس غيره، وفرس لأبي بردة بن نيار يقال له مراوح، وفي رواية ملاوح. وقال يزيد بن أبي حبيب: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرس يدعى السكب. وقال ابن عباس: كان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرس يدعى المرتجز.(2/354)
قال محمد بن عمر: فسألت محمد بن يحيى بن سهل عن المرتجز فقال: هو الفرس الذي اشتراه من الأعرابي الذي شهد له فيه خزيمة بن ثابت. وكان الأعرابي من بني مرة. يعني حيث جاء خزيمة بن ثابت الأنصاري والأعرابي يقول لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لم أبعك الفرس، وذلك أنهم أعطوه به أكثر من الثمن الذي ابتاعه به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع عن البيع، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول له: قد بعتنيه، فقال له الأعرابي: من يشهد لك بذلك؟ فقال خزيمة: أنا أشهد أنك قد بعته من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لخزيمة: كيف شهدت بهذا؟! قال: أشهد أن كل ما قلت هو الحق والصدق، فجعلت شهادة خزيمة كشهادة رجلين. وقيل: كانت خيل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة أفراس: لزاز، ولحاف، والمرتجز، والسكب، واليعسوب. وقيل: كانت له خمسة أفارس، فكانت عند سهل بن سعد. أسماؤها: اللحيف ويقال اللجيف، ولزاز والظرب، وكان الظرب لجنادة بن المعلى المحاربي، وكانت له فرس يقال له المرتجز كان لسوادة بن الحارث بن ظالم بن سهم المحاربي. وكانت دلدل بغلة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أول بغلة ركبت في الإسلام أهداها المقوقس، وأهدى معها حماراً يقال له عفير، وكانت قد بقيت حتى كان زمن معاوية. روى محمد بن إسحاق عن رجل قال: رأيت بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في منزل عبد الله بن جعفر يجش، أو يدق لها الشعير، وقد ذهبت أسنانها. وعن زامل بن عمرو قال: أهدى فروة بن عمرو الجذامي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغلة يقال لها فضة، فوهبها لأبي بكر الصديق، وحماره يعفور منصرفه من حجة الوداع. و(2/355)
قال الزهري دلدل أهداها فروة بن عمرو الجذامي، وحضر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليها القتال يوم حنين. قال علقمة بن أبي علقمة: بلغني أن اسم فرس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السكب، وكان أغر محجلا طلق اليمين، واسم بغلته الدلدل. وكانت شهباء. وكانت بينبع حتى ماتت ثم. واسم حماره اليعفور، وكان رسنه من ليف. واسم ناقته القصواء، وسيفه ذا الفقار، واسم رايته العقاب. وكانت دلدل بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقيت بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حياة أبي بكر وعمر وعثمان حتى كان زمن معاوية، وكانت مع علي بن أبي طالب عليه السلام، وشهد عليها القتال يوم نهروان حيث قاتل الخوارج. وعن ابن القعقاع قال: رأيت علياً عليه السلام على بغلة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشهباء، يطوف بين القتلى، ثم ردت البغلة بعد علي إلى المدينة. وعن عبد الله بن مسعود قال: كانت الأنبياء يلبسون الصوف، ويحلبون الشاة ويركبون الحمر. وكان لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حمار يقال له عفير.
وعن ابن ممطور قال: لما فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني خبير - أصاب أربعة أزواج ثقال. وأربعة أزواج خفاف، وعشر أواقي ذهب وفضة، وحماراً أسوداً مكبلاً. قال: فكلم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحمار فكلمه الحمار، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما اسمك؟ قال يزيد بن أخرج الله عز وجل من نسل جدي ستين حماراً، كلهم لم يركبهم إلا نبي. قد كنت أتوقعك أن تركبني، لم يبق من نسل جدي غيري، ولا من الأنبياء غيرك. قد كنت من قبلك لرجل يهودي، وكنت أتعثر به عمداً، وكان يجيع بطني، ويضرب ظهري. قال: فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(2/356)
فأنت يعفور. يا يعفورقال: لبيك. قال: أتشتهي الإناث؟ قال: لا. قال: فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يركبه في حاجته، وإذا نزل عنه بعث به إلى باب الرجل، فيأتي الباب فيقرعه بنفسه، فإذا خرج إليه صاحب الدار أومأ أن أجب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء إلى بئر كانت لأبي الهيثم بن التيهان فتردى فيها جزعاً على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانت قبره. وكانت القصواء من نعم بني الحريش، ابتاعها أبو بكر - وأخرى معها - بثمان مئة درهم، فأخذها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه بأربع مئة، فكانت عنده حتى نفقت، وهي التي هاجر عليها. وكانت حين قدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة رباعية، وكان اسمها القصواء والجدعاء والعضباء. وعن موسى بن جبير قال: كانت لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقائح تكون بذي الجدر ولقائح تكون بالحماء، وكان كرز ابن جابر أغار عليها من الحمى، وكر يومئذ ثلاث لقائح مع سرح المدينة: لقحة من اللقائح التي بذي الجدر تدعى مهرة ولقحة تدعى الشقراء ولقحة تدعى الريا. وكانت مهرة أرسل بها سعد بن عبادة من نعم بني عقيل وكانت غزيرة، وكانت الشقراء أو الريا ابتاعهما بسوق النبط من المدينة من بني عامر. وكن يحتلبن ويسرح إليه بألبانها كل ليلة، فيشربها أهله وأضيافه. فلما كانت اللقاح بذي الجدر التي أغار عليها العرنيون سبع لقاح، فيها غلام لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقال له يسار الذي أصابه في بني عبد بن ثعلبة فأعتقه، وهو نوبي فقتلوه يومئذ. وقيل كانت لقائح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي أغار عليها القوم بالغابة التي بلغت عشرين لقحة. وكانت التي يعيش بها آل محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراح إليهم كل ليلة بقريتين عظيمتين(2/357)
من لبن، وكان فيها لقاح غزر: الحقاء والسمراء، والعريس، والسعدية والبغوم واليسيرة. وعن أم سلمة قالت: كانت عيشتنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللبن، أو أكثر عيشتنا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقاح بالغابة. فكان قد فرقها على نسائه. فكانت لي لقحة - تحلب - غزيرة يقال لها العريس، فكنا منها فيما نشاء من اللبن، وكانت لعائشة لقحة تدعى السمراء، ولم تكن كلقحتي فكانتا تحلبان، فتوجد لقحتي أغزر منها بمثل لبنها وثلاثة.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبث الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون العشاء، وكان عامة خبزهم خبز الشعير. وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ كسرة من خبز من شعير فوضع عليها تمرة وقال: هذه إدام هذه، وأكلها. وعن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حزام قال: أمر أبي بحريرة فصنعت، ثم أمرني فأتيت بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ماهذا يا جابر. ألحم ذا؟ قال: فقلت: لا يا رسول الله، ولكن أبي أمر بحريرة، وأمرني أن آتيك بها فأخذها. ثم أتيت أبي فقال: هل رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قلت: نعم. قال: ما قال؟ قال: ألحم ذا يا جابر؟ فقلت: لا يا رسول الله، ولكن أبي أمر بحريرة فصنعت، وأمرني فأتيتك بها. فقال لي: عسى أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشتهى اللحم، فقام إلى داجن له، فأمر بها فذبحت، ثم أمر بها فشويت، ثم أمرني فحملتها إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأتيته وهو في مجلسه فقال لي: ما هذا يا جابر؟ فقلت: أتيت أبي فقال لي: هل رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقلت: نعم. فقال: هل قال لك شيئاً؟ قلت: نعم. قال: ماهذا يا جابر. ألحم هذا؟ فقال أبي: عسى أن يكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد اشتهى اللحم، فقام إلى داجن فأمر بها فذبحت ثم أمر بها فشويت ثم أمرني(2/358)
فأتيتك بها فقال: جزاكم الله معشر الأنصار خيراً، ولا سيما آل عمرو بن حزام وسعد بن عبادة. وعن أبي الدرداء قال: ما دعي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى لحم إلا أجاب، ولا أهدي إلا قبله. وعن سليمان بن يسار أنه دخل على أم سلمة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحدثته أنها قدمت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جنباً مشوياً، فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة ولم يتوضأ وعن أنس أن خياطاً دعا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لطعام صنعه، قال أنس: فذهبت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرب إليه خبز من شعير ومرق فيه دباء وقديد. قال أنس: فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتتبع الدباء من حول الصحيفة. فلم أزل أحب الدباء بعد. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خير الإدام اللحم وهو سيد الإدام. وعن عبد الله بن مسعود قال: كان أحب العراق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذراع، ذراع الشاة، وكان قد سم فيها، وكان اليهود قد سموه. وعن عائشة قالت: ما كان الذراع أحب اللحم إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكنه كان لا يجد اللحم إلا قليلاً، فإذا وجده تعجل إليه، وكان الذراع أسرعها نضجاً.
وعن زهدم الجرمي قال: دخلت على أبي بوجيء وهو يأكل دجاجة فقال: أدنه، فإني رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكله. و(2/359)
عن سفينة قال: أكلت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحم حبارى. وعن عائشة أم المؤمنين أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأتيها وهوصائم فيقول: أصبح عنكم شيء تطعمونيه؟ فتقول: لا، ما أصبح عندنا شيء كذلك فيقول: إني صائم. ثم جاءها بعد ذلك فقالت: أهديت لنا هدية فخبأناها لك. قال: ما هي؟ قالت: حيس، قال: قد أصبحت صائماً فأكل. وعن سلمى قالت: دخل علي الحسن بن علي وعبيد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر فقالوا: اصنعي لنا طعاماً مما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب أكله. قالت للحسن: إنك يا بني لا تشتهيه اليوم فأط.... تسقيه، وجعلت منه خبزة، وجعلت أدمه الزيت ونثرت عليه ... فقربته إليهم فقالت: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب هذه، ويحسن أكلها. وعن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه الدباء، وهو القرع. وعن ابن عباس قال: دخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم فتح مكة على أم هانئ بنت أبي طالب، وكان جائعاً، فقال: هل عندك طعام آكله؟ فقالت: إن عندي لكسراً يابسة، وإني لأستحيي أن أقربها إليك، فقال: هلميها، فكسرها في ماء، وجاءته بملح فقال: ما من إدام؟ فقالت: ما عندي يا رسول الله إلا شيء من خلّ فقال: هلميه، فلما جاءت به صبه على طعامه، فأكل منه، ثم حمد الله عز وجل، ثم قال: نعم الإدام الخل، يا أم هانئ، لا يفقر بيت فيه خل. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيد إدامكم الملح. و(2/360)
عن سويد بن النعمان صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسويق فأكل، وأكلنا معه، ثم تمضمض، فقام فصلى المغرب، ولم يتوضأ. وعن ابني بسر السلميين قالا: دخل علينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيتنا، فوضعنا تحته قطيفة لنا فجلس عليها، وأنزل عليه الوحي في بيتنا، وقدمنا إليه زبداً وتمراً، وكان يحب الزبد. وعن عبد الله بن بسر قال: جاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي فنزل عليه، فذكر طعاماً فأتاه به، وذكر سويقاً وشيئاً آخر، وأتاه بشراب، فناوله من على يمينه، وأتاه بتمر فجعل يأكل. فلما قام ليأكل أخذ بلجام دابته وقال: ادع لي يا رسول الله. قال: اللهم، بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم. وعن ابن عباس أن خالته أم حميد أهدت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمناً وأقطاً وضباً، فأكل السمن والأقط وترك الضب، فلم يأكل منها. فأكلت على مائدة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحب الحلواء والعسل وعن ليث بن أبي سليم قال: أول من خبص الخبيص عثمان بن عفان. قدمت عليه عير تحمل النقي والعسل فخلط بينهما، وعمل الخبيص وبعث به إلى بيت أم سلمة، فلم يصادف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما جاء وضعته بين يديه، فأكله واستطابه فقال: من بعث بهذه؟ قالت: عثمان بن عفان. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إن عثمان يترضاك فارض عنه.(2/361)
وفي رواية أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج إلى المربد فإذا عثمان بن عفان يقود ناقة تحمل دقيقاً وسمناً وعسلاً فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنخ فأناخ. ثم دعا ببرمة، فجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر فوقد تحتها حتى أدرك أو قال: نضج، ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كلوا، فأكل منه. ثم قال: هذا شيء تدعوه فارس: الخبيص. عن عبد الله بن جعفر قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل القثاء بالرطب. وعن أنس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذ الرطب بيمينه والبطيخ بيساره، فيأكل الرطب بالبطيخ، وكان أحب الفاكهة إليه. وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه البطيخ بالرطب.
وعن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبه أن يفطر على الرطب ما دام الرطب، وعلى التمر إذا لم يكن رطب، ويختم بهن يجعلهن وتراً. ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً. وعن ابن عمر قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل جمار نخل. وعن ام أكيدر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه علي رضي الله عنه، وعلي ناقة من مرض ولنا دوال معلقة، فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل منها وقام علي يأكل منها. فطفق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لعلي: مه، إنك ناقة حتى كف.(2/362)
قالت وصنعت شعيراً وسلقاً فجئت به. فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: من هذا أصب فهو أنفع لك. وعن ابن عباس قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأكل العنب خرطاً. وعن أبي هريرة قال: ما عاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا لم يعبه. وفي روايه: وإلا تركه. وعن عائشة أن النبي كان يستقى من بئر السقيا. وربما قال: يستعذب له الماء. وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يعجبه الحلو البارد. وعنها قالت: كان أحب الشراب إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحلو البارد وعنها قالت: قال ثمامة بن حزن القشيري: لقيت عائشة فسألتها عن النبيذ، فحدثتني أن وفد عبد القيس سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النبيذ فنهاهم أن يشربوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم. فدعت عائشة جارية حبشية فقالت: سل هذه، إنها كانت تنبذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: كنت أنبذ لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سقاء من الليل، وأوكيه وأعلقه، فإذا أصبح شرب منه.(2/363)
وعن أنس قال: لقد سقيت بقدحي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللبن والماء والعسل والنبيذ. وعن ابن عباس عباس قال: كانت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منائح، سبعة أعنز، ترعاهن أم أيمن. قال: وقال عبد الملك بن سليمان بن أبي المغيرة عن محمد بن عبد الله بن الحصين قال: كانت منائح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ترعى بأحد، وتروح كل ليلة على بيته في البيت الذي يدور فيه، وسماهن إبراهيم بن عبد الله بن عنبسة بن غزوان. قال: كن سبع منائح: عجوة، وزمزم، وسقياء، وبركة ووروسة، وأطلال، وأطراف. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس القلانس تحت العمائم، وبغير العمائم، ويلبس ويلبس العمائم بغير قلانس. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبس القلانس اليمانية وهن البيض المضرية، ويلبس ذوات الآذان في الحرب. منها ما يكون من السيجان الأخضر، وكان ربما نزع قلنسوته، فجعلها سرة بين يديه. وهو يصلي. وكان من خلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يسمي سلاحه ودوابه ومتاعه. وكان للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة أسياف: المخذم والرسوب، أهداهما له زيد الخيل الطائي حين وفد عليه فسماه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بن الخير. وكان له أيضاً العضب، وذو الفقار صار إليه يوم بدر. كان للعاص بن منبه بن الحجاج، وكان لا يفارقه في الحرب، وكان قباع سيفه وقائمته وحلقته وذؤابته وبكراته ونعله من فضة. وكان له حلقتان في الحمائل في موضعها من الظهر. وكانت له أربعة أدراع: ذات الوشاح، والبتراء، وذات المراسي، والخرنق. وكانت له اربعة أفراس: المرتجز، وذو العقال، والسكب والسبحى، ويقال البحر. وكان يركب البحر. وكان كميتاً.(2/364)
وكانت منطقته من أدم مبشور فيها ثلاث حلق من فضة، والإبزيم والحلق على صيغة الفلك المقرونة من فضة. وكان اسم رمحه المثري، وكانت له حربة قال لها العنزة، وكان يمشي بها ويدعم عليها، وكانت تحمل بين يديه في الأعياد فيركزها أمامه ويستتر بها. ويصلي إليها. وكان له محجن قدر ذراع يمشي به ويركب به، ويعلقه بين يده على بعيره، وكانت له مخصرة تسمى العرجون، وكان اسم قوسه الكتوم، واسم كنانته الكافور، ونبله المويصلة، وترسه الدلوق، ومغفره ذو السبوغ. واسم عمامته السحاب، واسم ردائه الفتح. واسم رايته العقاب، وكانت سوداء من صوف، وكانت ألويته بيضاء، وربما جعل فيها السواد، وربما كان من خمر نسائه.
وكانت له بغلة شهباء يقال لها الدلدل، وكانت بيضاء أهداها له المقوس ملك الإسكندرية وهي التي قال لها في بعض الأماكن: اربضي دلدل فربضت. وكان علي يركبها بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال غير ابن عباس: وكان عثمان بن عفان يركبها. وركبها الحسن بن علي، ثم ركبها الحسين ومحمد بن علي بن الحنفية رضي الله عنهم حتى كبرت، وعميت ودخلت مبطحة لبني مذحج فرماها رجل بسهم فقتلها. وكانت له بغلة يقال لها الأيلية. وكانت مخدوفة، طويلة، كأنما تقوم على رماه، حسنة السير فأعجبته، وهي التي قال له علي فيها: إن كانت أعجبتك هذه البغلة فإنا نصنع لك مثلها قال: وكيف ذلك؟ قال: هذه أمها فرس عربية وأبوها حمار فلو أنزينا على فرس عربية حماراً لجاءت بمثل هذه البغلة. فقال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون. قال ابن عباس: فأبى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم تقدم إلينا - معاشر بني هاشم خاصة - ألا نزي الحمر على الخيل العراب. فمضت السنة من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامة ذلك. وكان له(2/365)
حمار يدعىعفير، ويقال له اليعفور. وكان أخضر. وكان له ناقة تسمى العضباء ويقال القصواء. وكانت صهباء. وكانت له شاة يشرب لبنها يقال لها غيثة ويقال لها غوثة. وكان له قدحان اسم أحدهما الريان والآخر المضبب، وكان يسع كل واحد منها قدر مدّ فيه ثلاث ضبات حديد وحلقة يعلق بها. وكان له تور من حجارة يقال له المخضب والمخضد يتوضأ فيه. وكان له مخضب من شبه يكون فيه الحناء والكتم من حر كان يجده في رأسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكانت له ربعة اسكندرانية أهداها المقوقس ملك مصر. وكانت له نعلان من السبت. وكانت مخصرة ذات قبالين وكانت صفراء. وكان له خفان ساذجان أهداهما له النجاشي ملك الحبشة، فكان ربما لبسهما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويمسح عليهما. وكان له سرير وقطيفة وقصعة وجارية اسمها روضة.(2/366)
باب إعلام الله نبيه بتوفيه
عن ابن عباس قال: لما نزلت " إذا جاء نصر الله والفتح " قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعيت إلى نفسي. فمات في تلك السنة. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لك يدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله؟! فقال: إنه ممن قد علمتم. قال: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم. قال: وما رئيته دعاني يومئذ إلا يريهم مني. فقال: ما تقولن في " إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس " حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا. وقال بعضهم: لا ندري، ولم يقل بعضهم شيئاً. فقال لي: يا ابن عباس، أكذلك تقول؟ قلت: لا. قال: فما تقول؟ قلت: هو أجل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلمه الله له " إذا جاء نصر الله والفتح " فتح مكة. فذلك علامة أجلك " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً " قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم. والذي عاتب عمر في ذلك عبد الله بن عوف. بين ذلك شعبة بن الحجاج في حديثه. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في مرضه الذي مات فيه: يا عائشة، ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم.(2/367)
وعن أبي هريرة قال: لما نزلت " إذا جاء نصر الله والفتح " قال: علم وحد حده الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونعى إليه نفسه بأنه لا يبقى بعد فتح مكة إلا قليلاً. وعن علي قال: نعى الله لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه حين أنزل عليه " إذا جاء نصر الله والفتح " فكان الفتح من مهاجر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سنة ثمان. فلما طعن في سنة تسعة من مهاجره تتابع عليه القبائل تسعى، فلم يدري متى الأجل ليلاً أو نهاراً فعمل على قدر ذلك. فوسع السنن وشدد الفرائض وأظهر الرخص ونسخ كثيراً من الأحاديث فنسخت الرخصة الشدة والشدة في بعض الرخص، وغزا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوك، وفعل فعل مودع.
وعن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية " وللآخرة خير من الأولى " قال لاعباس: لا يدع الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكم إلا قليلاً لما هو خير له. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس على المنبر فقال: إن عبداً خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند فأختار ما عند، فبكى أبو بكر الصديق وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عبد خيره الله بين أن نؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك يا رسول الله بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر الصديق، لوكنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكر خليلاً؛ ولكن خلة الإسلام. لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.(2/368)
وعن أبي المعلى بمعناه. وفي آخره: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما أحد أمن علي في صحبته ولا في ذات يده من ابن أبي قحافة. لو كنت متخذاً خليلاًلأتخذت ابن أبي قحافة، ولكن ود وإخاء إيمان، وإن صاحبكم خليل الرحمن، يعني نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن أبي مويهبة مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أهبني رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرم مرجعه من حجته، وما أدري أما مضى الليل أكثر أو ما بقي عليه؟ فقلت: أين تريد بأبي وأمي؟ فقال: يا أبا مويهبة، انطلق، فإني قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع. قال: فخرج وخرجت معه حتى إذا جاءه أستغفر لهم طويلاً، قائماً وقاعداً ثم قال: ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس. أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها. الآخرة شر من الأولى. يا أبا مويهبة، إني قد أعطيت خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخير بين الملك والجنة وبين لقاء ربي عز وجل والجنة، فقلت: بأبي أنت وأمي، خذ خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة. فقال: ل والله يا أبا مويهبة، لقد أخترت لقاء ربي والجنة على ذلك. قال: ورجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشتكى بعد ذلك بأيام. وفي رواية: فما لبث بعد ذلك إلا سبعاً أو ثماني أيام حتى قبض. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء جبريل عليه السلام بمفاتيح خزائن الدنيا فقال: يا محمد، هذه مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة أحب لك أم لقاء ربك ثم الجنة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقاء ربي ثم الجنة، وكان مع جبريل ملك الموت فقبض نفسه، وأشخص رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بصره إلى سقف البيت وهو يقول: مع الرفيق الأعلى. وقبض. وعن الحارث بن مرة الجهني قال: رأيت عنده رقاً مكتوباً عليه: بسم الله الرحمن الرحيم " نعى لنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه قبل موته بشهر، ثم جمعنا بعد ذلك بخمس عشرة ليلة في بيت أمنا عائشة ونحن أربعون،(2/369)
فنظر إلينا، فدمعت عيناه، وقد أرم القوم ونظروا إلى الأرض، ثم تشدد فقال: مرحباً بكم، وحياكم الله، أبشروا ببشرى الله عز وجل، فحمد الله وأثني عليه ثم قال: اتقوا الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب " ومن حيث لا يأمل ولا يرجو " ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره. قد جعل الله لكل شيءً قدراً " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً " فأرضوا بقضاء الله، فإن الأمر أمره. وسلم وا لأمر الله، فإن القليل تبع للكثير. ألا فليسلم القليل الكثير " واتقوا الله وقولوا قولاً سديداً " إلى قوله " كان ظلوماً جهولاً " من الله لا مني. مرحباً بكم. وحياكم الله، رحمكم الله، وآواكم الله، حفظكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، رفعكم الله هداكم الله، رزقكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وألجئكم إلى الله، وأؤديكم إليه، وأؤدي إليكم عنه، إني لكم منه نذير مبين، وأستخلفه عليكم، فاتقوا الله، ولا تعلوا على الله في عباده وبلاده " والعاقبة للمتقين " وقال: أليس في جهنم مثوى للمتكبرين وإن هذا آخر ما أخلص بكم، وتخلصون بي. اسمع يا أبا بكر ما أقول لكم، ثم اعمل على ذلك، وانت تعلم أنه كذلك. إن دعائي آت بكم على كل ما أشتهي إلا ما رددت عنه من بأس ببنكم واختلا ف كلمتكم
والمؤمنون شهود الله في الأرض، فالحسن ما حسنوا، والقبيح ما قبحوا. نظر امرؤ لنفسه عند اختلاف الأمة، وكف لسانه، واستبرأ قلبه ولزم الجماعة، وآثرها على الفرقة، ووركب السبيل، فسلكه ونكب السبل، وإن يد الله على الجماعة، الأمر أمرهم والقليل تبع للكثير، سل يا أبا بكر، فقال: يا رسول الله، دنا الأجل. فقال: قددنا الأجل، وتدلى، فقال: ليهنك يا نبي الله ما عند الله. فليت شعري عن منقلبنا. فقال: إلى الله وإلى سدرة المنهى ثم إلى جنة المأوى والعرش الأعلى والكأس الأوفى والرفيق، والحظ والعيش الهنيء.(2/370)
فقال: يا نبي الله، من يلي غسلك؟ فقال: رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى. قال: ففيم نكفنك؟ فقال: في ثيابي هذه وفي حلة يمنية، وفي بياض مصر، قال: وكيف الصلاة عليك منا؟ وبكى فقال: مهلاً. غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيراً. إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة. فإن أول من يصلي عليّ الله عز وجل " هو الذي يصلي عليكم وملائكته " ثم يأذن الله للملائكة فأول من يدخل علي من خلق الله ويصلي علي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة، ثم الملائكة بأجمعها. ثم أنتم، فادخلوا علي أفواجاً فصلوا علي أفواجاً زمرةً زمرة، وسلم وا تسليماً، ولا تؤذنوني بتزكية ولا صيحة ولا رنة وليبدأ زمركم الإمام وأهل بيتي الأدنى فالأدنى ثم زمر النساء ثم زمر الصبيان. قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: زمر أهل بيتي الأدنى قالأدنى مع ملائكة كثير لا ترونهم، يروكم. قوموا فأدوا عني إلى من بعدي. فقلت: من حدثك بهذا؟ قال: عبد الله بن مسعود. وفي حديث آخر عن عائشة بمعناه قال: ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بصيحة، ومن كان غائباً من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم أني قد سلمت على من دخل في الإسلام، ومن بايعني على ديني هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة. وساق بقية الحديث. المؤمنون شهود الله في الأرض، فالحسن ما حسنوا، والقبيح ما قبحوا. نظر امرؤ لنفسه عند اختلاف الأمة، وكف لسانه، واستبرأ قلبه ولزم الجماعة، وآثرها على الفرقة، ووركب السبيل، فسلكه ونكب السبل، وإن يد الله على الجماعة، الأمر أمرهم والقليل تبع للكثير، سل يا أبا بكر، فقال: يا رسول الله، دنا الأجل. فقال: قددنا الأجل، وتدلى، فقال: ليهنك يا نبي الله ما عند الله. فليت شعري عن منقلبنا. فقال: إلى الله وإلى سدرة المنهى ثم إلى جنة المأوى والعرش الأعلى والكأس الأوفى والرفيق، والحظ والعيش الهنيء. فقال: يا نبي الله، من يلي غسلك؟ فقال: رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى. قال: ففيم نكفنك؟ فقال: في ثيابي هذه وفي حلة يمنية، وفي بياض مصر، قال: وكيف الصلاة عليك منا؟ وبكى فقال: مهلاً. غفر الله لكم، وجزاكم عن نبيكم خيراً. إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة. فإن أول من يصلي عليّ الله عز وجل " هو الذي يصلي عليكم وملائكته " ثم يأذن الله للملائكة فأول من يدخل علي من خلق الله ويصلي علي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة، ثم الملائكة بأجمعها. ثم أنتم، فادخلوا علي أفواجاً فصلوا علي أفواجاً زمرةً زمرة، وسلم وا تسليماً، ولا تؤذنوني بتزكية ولا صيحة ولا رنة وليبدأ زمركم الإمام وأهل بيتي الأدنى فالأدنى ثم زمر النساء ثم زمر الصبيان. قال: فمن يدخلك القبر؟ قال: زمر أهل بيتي الأدنى قالأدنى مع ملائكة كثير لا ترونهم، يروكم. قوموا فأدوا عني إلى من بعدي. فقلت: من حدثك بهذا؟ قال: عبد الله بن مسعود. وفي حديث آخر عن عائشة بمعناه قال: ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بصيحة، ومن كان غائباً من أصحابي فأبلغوه عني السلام، وأشهدكم أني قد سلمت على من دخل في الإسلام، ومن بايعني على ديني هذا منذ اليوم إلى يوم القيامة. وساق بقية الحديث.(2/371)
ذكر مرضه وتوفيه وتسمية اليوم الذي قبض فيه
عن عائشة قالت: رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البقيع - وفي رواية: من جنازة من البقيع - فدخل فوجدني وأنا أحد صداعاً في رأسي وأنا أقول: وارسأاه. قال: بل أنا والله يا عائشة وارأساه. ثم قال: ومايضرك لومت قبلي فقمت عليك فكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك؟ قالت: والله لكأني بك لو فعلت ذلك قد رجعت إلى بيتي، فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: وتتام به وجعه حتى استعز به، وهو في بيت ميمونة، فدعا نساءه فسأبهن أن يأذن له أن يمرض في بيتي، فأذن له، فخرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشي بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن عباس ورجل آخر، تحط قدماه، عاصباً رأسه حتى جاء بيتي. قال عبيد الله: فحدثت هذا الحديث عبد الله بن عباس قال: تدري من الرجل الآخر؟ قال: قلت: لا. قال: علي. ثم غمي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واشتد به وجعه ثم أفاق. قال: أهريقوا علي سبع قرب من آبار شتى حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم. قالت: فأقعدناه في مخضب لحفصة بنت عمر، فصببنا عليه الماء حتى طفق يقول بيده: حسبكم حسبكم. قال: ثم خرج عاصباً رأسه، فجلس على المنبر، فكان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد، فأكثر الصلاة عليهم ثم قال: إن عبداً من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده الله فأختار ما عند الله. قال: ففهما أبو بكر فبكى، وعرف أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه يريد. قال: على رسلك يا أبا بكر.
انظروا هذه الأبواب الشارعة في المسجد فسدوها إلا ما كان من بيت أبي بكر، فإني لا أعلم أحداً كان أفضل عندي في الصحبة منه. وروى ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وأبي بكر بن عبد الله أن الذي كان ابتدأ به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجعه الذي لزمه أن دخل على عائشة وهو يجد صداعاً، فوجدها تصدع وتقول: وارأساه فقال: بل أنا والله ياعائشة وارأساه،(2/372)
فو الله لطار عني ما أجد وكدت أن استطار فسكنني بالمزاح على تجشم منه. فقال: وما ضرك يا عائشة لو مت قبلي، فأقوم عليك وأليك وأصلي عليك فقالت له: فما نجاني مما خشيت الحذر فقلت: أجل والله، لكأني بك لو قد فعلت قد أعرست ببعض نسائك في بيتي من آخر ذلك اليوم، فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم تمادى به وجعه وهو في ذلك يدور على نسائه حتى استعز برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو في بيت ميمونة. قالت فلما زاد ما به أجمع رأي من في البيت على أن يلدوه، وتخوفو أن يكون به ذات الجنب ففعلوا، ثم فرج عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد لدوه فقال: من صنع هذا فهبنه واعتللن بالعباس، فاتخذ جميع من في البيت العباس سبباً، ولم يكن له في ذلك رأي فقالوا: يا رسول الله، عمك العباس أمر بذلك وتخوفنا أن يكون بك ذات الجنب، فقال: إنها من الشيطان، ولم يكن الله ليسلطه علي ولا يرميني بها. ولكن هذا عمل النساء لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس، فإن يميني لا يناله، فلدوا كلهم ولدت ميمونة وكانت صائمة لقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم خرج رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله إلى بيت عائشة - وكان يومها بين العباس وعلي، والفضل ممسك بظهره، ورجلاه تحطان الأرض، حتى دخل على عائشة. فلم يزل عندها مغلوباً لا يقدر على الخروج وغير مغلوب وهو يقدر على الخروج من بيتها إلى غيره. وعن عبد الله بن مسعود قال: كان أحب العراق إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذراع الشاة. وكنا نرى أنه سم في ذراع شاة. وكنا نرى أن اليهود سموه. عن عبيد الله بن عبد الله قال: دخات على عائشة فقلنا: أخبرينا عن مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: اشتكى فكان ينفث نفث آكل الزبيب، وكان يدور على نسائه. فلما اشتد شكوه استأذنهن أن يكون في بيت عائشة، ويدرن عليه، فأذن له. فدخل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بين نفسين أحدهما العباس ورجلاه تحطاه في الأرض. قال ابن عباس فما أخبرتك من الآخر؟ قال: لا. قال: هو علي عليه السلام. وعن عبيد الله بن عبد الله قال: دخلت على عائشة فقلت: ألا تحديثني عن مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالت: بلى، ثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(2/373)
فقال: صلى الناس؟ فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي ما في المخطب. ففعلنا فأغتسل ثم ذهب لينوء فإغمي عليه ثم أفاق: فقال أصلى الناس فقلت: لا. هم ينتظرونك يا رسول الله. قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى أبي بكر أن يصلي بالناس. وكان أبو بكر رجلاً رقيقاً فقال: يا عمر صلي بالناس فقال: أنت أحق بذلك فصلى بهم أبو بكر بدل الإمام، ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأوما إليه أن لا تتأخر، وأمرهما فأجلساه إلى جنبه، فجعل أبو بكر يصلي قائماً ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي قاعداً. فدخلت على ابن عباس فقلت: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هات، فحدثته، فما أنكر منه شيئاً. غير أنه قال: سمت لك الرجل الذي كان مع العباس. قلت لا قال هو علي. وعن عائشة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدأ مرضه الذي مات فيه في بيت ميمونة، فخرج عاصباً رأسه، فدخل بين رجلين تحط رجلاه الأرض، عن يمينه العباس بن عبد المطلب، وعن يساره رجل لا أبالي ألا أذكره - قال عبيد الله: أخبرني ابن عباس أن الذي علي يساره علي بن أبي طالب - قالت عائشة: قلما رأيته قلت: وارأساه، أنا والله أموت. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أما والله لوددت أنك تموتين فأكفنك وأصلي عليك. قالت: فغضبت من قوله وقلت: أما والله إذاً لتعرس ببعض نسائك فبل أن تمسي. ثم قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارأساه، ألا
أرسلي إلى ابن أبي قحافةو ابنه، فلا يطمع في الأمر طامع ثم قال: كلا يدفع الله ويدفع بالمؤمنين.(2/374)
قال موسى بن يعقوب: أنه يعني بقوله: وابنه: عبد الرحمن. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ على نفسه بالمعوذات. فلما مرض وثقل كنت أقرأ بهما في يديه، وأمسح بها جسده، ألتمس بذلك بركة يديه، فدخلت عليه في مرضه أم البشير بن البراء بن معرور فقالت: يا رسول الله، ما وجدت مثل هذه الحمىالتي عليك على أحد، فقال: إنا يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر. ما يقول الناس؟ قالت: يقولون يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات الجنب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كان الله ليسلطها على رسوله، إنها همزة من الشيطان. ولكنها من الأكلة التي أكلت أنا وأبيك بخيبرمن الشاة. كان نصيبي منها عداد مرةٍ بعد مرة. فكان هذا أوان انقطع أبهري فمات رسول اللهم شهيداً. وعن أبي هريرة أن جبريل أتى النبي في مرضه الذي قبض فيه فقال: إن الله غز وجل يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني وجعاً يا أمين الله. ثم جاءه من الغد فقال: يا محمد، إن الله يقرأك السلام ويقول: كيف تجدك قال: يا أمين الله. أجدني وجعاً، ثم جاءه يوم الثالث ومعه ملك الموت فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك؟ فقال: أجدني يا أمين الله وجعاً. من هذا معك؟ قال: هذا ملك الموت، وهذا آخر عهدي بالدنيا وآخر عهدك بها، ولن آسى على هالك من ولد آدم من بعدك. ولن أهبط إلى الأرض إلى أحد بعدك أبداً. فوجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكرة الموت وعنده قدح فيه ماء. فكلما وجد سكرة أخذ من ذلك الماء فمس به وجهه ويقول: اللهم، أعني على سكرة الموت. وعن عائشة قالت: كان جبريل يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجعه كليوم وليلة، فيسلم عليه ويقول: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: كيف تجدك يامحمد؟ - وهو أعم بالذي تجد منك، ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً، وإن يتمم كرامتك وشرفك على الخلق وأن يكون سنة في أمتك - فيحدثه بقدر الذي يجدمن شدة أو رخاء. فإذا قال: أجدني شاكياً قال جبريل: يامحمد، إن الله لم يشدد عليك أن يكون من خلقه أحد هو أكرم عليه منك، ولكن أحب أن تدعوه وتضرع إليه ولا تكف عن ذلك حتى تلقاه للذي أعد لك في ذلك من الثواب والفضيلة علىالخلق. سلي إلى ابن أبي قحافةو ابنه، فلا يطمع في الأمر طامع ثم قال: كلا يدفع الله ويدفع بالمؤمنين. قال موسى بن يعقوب: أنه يعني بقوله: وابنه: عبد الرحمن. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ على نفسه بالمعوذات. فلما مرض وثقل كنت أقرأ بهما في يديه، وأمسح بها جسده، ألتمس بذلك بركة يديه، فدخلت عليه في مرضه أم البشير بن البراء بن معرور فقالت: يا رسول الله، ما وجدت مثل هذه الحمىالتي عليك على أحد، فقال: إنا يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر. ما يقول الناس؟ قالت: يقولون يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات الجنب. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما كان الله ليسلطها على رسوله، إنها همزة من الشيطان. ولكنها من الأكلة التي أكلت أنا وأبيك بخيبرمن الشاة. كان نصيبي منها عداد مرةٍ بعد مرة. فكان هذا أوان انقطع أبهري فمات رسول اللهم شهيداً. وعن أبي هريرة أن جبريل أتى النبي في مرضه الذي قبض فيه فقال: إن الله غز وجل يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك؟ قال: أجدني وجعاً يا أمين الله. ثم جاءه من الغد فقال: يا محمد، إن الله يقرأك السلام ويقول: كيف تجدك قال: يا أمين الله. أجدني وجعاً، ثم جاءه يوم الثالث ومعه ملك الموت فقال: يا محمد، إن ربك يقرئك السلام ويقول: كيف تجدك؟ فقال: أجدني يا أمين الله وجعاً. من هذا معك؟ قال: هذا ملك الموت، وهذا آخر عهدي بالدنيا وآخر عهدك بها، ولن آسى على هالك من ولد آدم من بعدك. ولن أهبط إلى الأرض إلى أحد بعدك أبداً. فوجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سكرة الموت وعنده قدح فيه ماء. فكلما وجد سكرة أخذ من ذلك الماء فمس به وجهه ويقول: اللهم، أعني على سكرة الموت. وعن عائشة قالت: كان جبريل يأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجعه كليوم وليلة، فيسلم عليه ويقول: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: كيف تجدك يامحمد؟ - وهو أعم بالذي تجد منك، ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً، وإن يتمم كرامتك وشرفك على الخلق وأن يكون سنة في أمتك - فيحدثه بقدر الذي يجدمن شدة أو رخاء. فإذا قال: أجدني شاكياً قال جبريل: يامحمد، إن الله لم يشدد عليك أن يكون من خلقه أحد هو أكرم عليه منك، ولكن أحب أن تدعوه وتضرع إليه ولا تكف عن ذلك حتى تلقاه للذي أعد لك في ذلك من الثواب والفضيلة على(2/375)
الخلق.
وإذا قال: أجدني مريحاً قال: أحمد الله وأشكره. فإن ربك يحب أن يحمد ويشكر، ليزيدك إلى ما أعطاك. وعن عائشة قالت: إن مما أنعم الله علي به أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبض في بيتي ويومي وبين سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه عند الموت: دخل علي أخي عبد الرحمن وأنا مسند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى صدري وبيده سواك، فجعل ينظر إليه، وكنت أعلم أنه يعجبه السواك ويؤلفه فقلت آخذه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم. فناولته إياه، فأدخله في فيه. فاشتد عليه فتناولته وقلت ألينه لك؟ فأومأ برأسه أن نعم فلينته له فأمره، وبين يديه ركوة - أو قالت علبة فيها ماء، فجعل يدخل يده فيها ويمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله إن للموت سكرات ثم نصب يده - وشار أين أبني حسين - بأصبعه يقول الرفيق الأعلى، الرفيق الأعلى حتى فبض ومالت يده. وعن عائشة قالت: قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورأسه بين ثديي ونحري فسمعته يقول: أف من كرب الموت. أف من غم الموت، ورأيته يدخل يده في الركوة وينضح على وجهه الماء. قال: قلت: يا نبي الله، تقول كذا وأنت نبي الله! فلم يزل يرددها حتى قبض. وعن عائشة قالت: حتى إذا كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأو منه في أول النهار خفة، فتقرق عنه الرجال إلى منازلهم وحوائجهم مستشبرين، وأخلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنساء. فبينا نحن على ذلك، لم نكن على مثل حالنا في الرجاء والهزج قبل ذلك، قال الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخرجن عني هذا الملك يستأذن علي، فخرج من في البيت غيري ورأسه في حجري، فجلس وتنحيت في ناحية البيت فناجى الملك طويلاً، ثم إنه دعاني فأعاد رأسه في حجري وقال للنسوة: ادخلن فقلت: ما هذا بحس جبريل. فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجل يا عائشة. هذا(2/376)
ملك الموت جاءني فقال: إن الله عز وجل أرسلني إليك وأمرني ألا أدخل عليك إلا بإذن، فإن لم تأذن لي أرجع، وإن أذنت لي دخلت، وأمر ألا اقبضك حتلى تأمرني، فمرني أمرك. فقلت أكفف عني حتى يأتني جبريل فهذه ساعة جبريل فخرج. فاستقبلنا بأمر لم يكن عندنا جواب ولا رأي فوجمنا وكأنما ضربنا بصاخة ما نحير إليه شيئأً، ولا يتكلم أحد من أهل البيت إعظاماً لذلك الأمرو هيبة ملأت أجوافنا. قالت عائشة: وجاء جبريل في ساعة فسلم، فعرفنا حسه، فخرج أهل البيت فدخل فقال: إن. الله عز وجل يقرأك عليك السلام يا محمد ويقول: كيف تجدك؟ وهو أعلم بالذي تجد منك. ولكنه أراد أن يزيدك كرامة وشرفاً، وأن يتم كرامتك وشرفك على الخلق، وأن تكون سنة في أمتك: فقال: أجدني وجعاً فقال: أبشر فإن الله أراد أن يبلغك ما أعد لك، قال: يا جبريل، إن ملك الموت ليستأذن علي وأخبره الخبر. فقال جبريل: يا محمد، إن ربك إليك مشتاق. أعلمك الذي يريد بك. لا والله ما استأذن ملك الموت على أحد قط ولااستأذن عليه أبداًإلا أن ربك متتم شرفك وهو إليك مشتاق. قال: فلا تبرح إذاً حتى يجيء، واذن للنساء فقال: ادني يا فاطمة، فأكبت عليه فناجاها، فرفعت رأسها وعيناها بأربع، وما تطيق الكلام، ثم قال: ادني مني رأسك، فأكبت عليه فناجاها، فرفعت رأسها وهي تضحك وما تطيق الكلام. فكان الذي رأينا منها عجباً، فسألناها بعد فقالت: أخبرني أنه قال: إني ميت اليوم فبكيت، ثم قال: إني دعوت الله أن يلحقك بي في أول أهلي وأن يجعلك معي، وادنت ابنيها منه فشمهما. وفي حديث آخر عن عائشة قالت: وخرج جبريل عليه السلام وقال: عليك السلام يا رسول الله. هذا آخر ما أنزل فيه إلى الأرض أبداً، طوي الوحي وطويت الدنيا، وما كانت لي في الأرض حاجة غيرك، ومالي قيها حاجة غيرك إلا حضورك ثم لزوم موقفي، ولا والذي بعث محمداً بالحق ما في البيت أحد يستطيع أن يحير إليه في ذلك كلمة ولا يبعث إلى أحد من رجاله أعظم ما يسمع من حديثه ووجدنا وإشفاقنا.(2/377)
وعن محمد بن عمرو الواقدي قال: قالوا ولما كان قبل وفاة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاثة أيام هبط إليه جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراماًو تفضيلاً لك وخاصة لك، أسألك عما هو أعلم به منك: كيف تجدك؟ قال: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان الغد أتاه جبريل فقال: يا محمد إن الله أرسلني إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصةً لك، أسألك عما هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك فقال: رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً، فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت، فهبط معهما ملك يكون في الهواء يقال له اسماعيل على سبعين ألف ملك، ليس منهم ملك إلا على سبعين ألف ملك فسبقهم جبريل فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك وخاصة إليك إكراماً لك وتفضيلاً لك وخاصة لك. أسألك عما هو أعلم به منك: فكيف تجدك؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أجدني يا جبريل مغموماً، وأجدني يا جبريل مكروباً. واستأذن ملك الموت على الباب فقال له جبريل: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ما استأذن على آدمي قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ائذن له فأذن له جبريل، فأقبل من حيث وقف بين يدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا محمد، إن الله أرسلني إليك. وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني، إن أمرتني بقبض نفسك قبضتها، وإن كرهت تركتها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وتفعل ذلك يا ملك الموت؟ قال: نعم بذلك أمرت أن أطيعك فيما أمرتني فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يا ملك الموت امض لما أمرت به فقال جبريل: هذا آخر موطئي في الأرض، إنما كانت حاجتي في الدنيا، فلما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجاءت التعزية - جاءت تسمع حسه، ولا ترى شخصه - فقالت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله. " كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة " إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفاً من كل هالك. ودركاً من كل ما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، إنما المصاب من حرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله، فقال علي: أتدرون من هذا؟ قالوا: لا، قال: هذا الخضر عليه السلام.(2/378)
وفي حديث آخر: إنهم سمعوا التعزية مرتين فقال أبو بكر: هذا الخضرو اليسع، حضرا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن عائشة قالت: قمت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أضع رأسه بين يدي، وأمسكت بصدره، وجعل يغمى عليه حتى يغلب، وجبهته ترشح عرقاً ما رأيته من إنسان قط، فجعلت أسلت ذلك العرق، وما وجدت رائحة شيء قط أطيب منه، فكنت أقول له إذا أفاق: بأبي وأمي ونفسي وأهلي ما تلقى جبهتك من الرشح فقال: يا عائشة، إن نفس المؤمن تخرج بالرشح والكافر تخرج من شدقه كنفس الحمار، فعند ذلك ارتبنا وبعثنا إلى أهلينا، فكان أول رجل جاءنا ولم يشهده، أخي، بعثته إلى أبي فمات رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يجيئنا أحد، وإنما صدهم الله عنه لأنه ولاه جبريل وميكائيل صلى الله عليهما. قال أنس بن مالك: دخلت فاطمة بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد أغمي عليه فقالت: واكرباه لكربك يا أبتاه. قال: فرفع رأسه ونظر إليها وقال: يا بنية، لا كرب على أبيك بعد اليوم، لقد حضر من أبيك ما ليس الله بمؤخر عنه أحداً لموافاة يوم القيامة. قال: ثم أغمي عليه، فأتاه آت فقال: السلام عليك أأدخل؟ فقال من حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن كنت من المهاجرين أو من الأنصار فارجع فإن رسول الله عنك مشغول، فرفع رأسه فقال: من تطردون؟ تطردون داعي ربي عز وجل، ادخل يا ملك الموت. قال: وكان أمر ألا يدخل عليه إلا باذن فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أقبض روحك. قال: جئت تقبض روحي؟ ولم ألق حبيبي يا ملك الموت؟ انظرني حتى ألق حبيبي جبريل: قال: ذلك لك يا محمد. قال: وكان أمره بذلك. فخرج ملك الموت، فلقيه جبريل فقال: إين يا ملك الموت، قال: إنه سألني ألا أقبض روحه حتى يلقاك. قال: يا ملك الموت، أما ترى أبواب السماوات قد فتحت لجيئة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما ترى أبواب الجنان قد فتحت لجيئة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أما ترى الملائكة قد نزلوا لجيئة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قال: فأقبلا جميعاً حتى دخلا عليه، فسلما فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل، ما بد من الموت؟ قال:(2/379)
يا محمد " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت " قال: يا جبريل فمن لأمتي؟ قال: يا محمد " كل نفس ذائقة الموت وإنما نوفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " قال: فقبضه ملك الموت، وإن رأسه لفي حجر جبريل عليه السلام. فلما قبضه قالت فاطمة: واأبتاه، إلى جبريل ننعاه، من ربه أدناه، أهل السموات بالبشرى تلقاه، والرسل به تحظى وفي الجنان مأواه. ثم إنها قعدت فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم إنا لله وإنا إليه راجعون. انقطع الخبر من السماء، وما جبريل بنازل علينا أبداً أبداً. وروى أبو سعيد بن عبد الله عن أبيه قال: لما رأت الأنصار أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزداد ثقلاً أطافوا بالمسجد، فدخل العباس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك ثم دخل عليه علي فأخبره بمثل ذلك فمد يده وقال: ها فتناوله فقال: ما يقولون؟ قالوا: يقولون: نخشى أن يموت، وتصايح نساؤهم لإجتماع رجالهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج متوكئاً على علي والفضل، والعباس أمامه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوب الرأس يحط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثاب الناس إليه. فحمد الله واثنى عليه.: فأقبلا جميعاً حتى دخلا عليه، فسلما فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا جبريل، ما بد من الموت؟ قال: يا محمد " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت " قال: يا جبريل فمن لأمتي؟ قال: يا محمد " كل نفس ذائقة الموت وإنما نوفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور " قال: فقبضه ملك الموت، وإن رأسه لفي حجر جبريل عليه السلام. فلما قبضه قالت فاطمة: واأبتاه، إلى جبريل ننعاه، من ربه أدناه، أهل السموات بالبشرى تلقاه، والرسل به تحظى وفي الجنان مأواه. ثم إنها قعدت فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ثم إنا لله وإنا إليه راجعون. انقطع الخبر من السماء، وما جبريل بنازل علينا أبداً أبداً. وروى أبو سعيد بن عبد الله عن أبيه قال: لما رأت الأنصار أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يزداد ثقلاً أطافوا بالمسجد، فدخل العباس إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأعلمه بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك ثم دخل عليه علي فأخبره بمثل ذلك فمد يده وقال: ها فتناوله فقال: ما يقولون؟ قالوا: يقولون: نخشى أن يموت، وتصايح نساؤهم لإجتماع رجالهم إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فثار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فخرج متوكئاً على علي والفضل، والعباس أمامه، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوب الرأس يحط برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر وثاب الناس إليه. فحمد الله واثنى عليه.
وقال: أيها الناس بلغني أنكم تخافون علي الموت، كأنه استنكار منكم للموت، وما تنكرون من موت نبيكم ألم أنع إليكم؟ وينعى لكم أنفسكم؟ هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليه؟ فأخلد فيكم؟ ألا أني لاحق بربي وإنكم لاحقون به. وإني أوصيكم بالمهاجرين الأولين خيراً وأوصي المهاجرين فيما بينكم فإن الله تعالى يقول: " والعصر إن الأنسان لفي خسر " إلى آخرها - وإن الأمور تجري بأمر الله. فلا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله لا يعجل لعجله أحد. ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه " فهل عسيتم إن(2/380)
توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " أوصيكم بالأنصار خيراً، فإنهم الذين تبوؤا الدار والإيمان؟ من قبلكم أن يحسنوا إليكم، ألم يشاطروكم الثمار؟ ألم يوسعوا عليكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسكم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم. ألا ولا تستأثروا عليهم. ألا وإني فرط لكم وأنت لاحقون بي. ألا وإن موعدكم الحوض. حوض أعرض مما بين بصرى الشام وصنعاء اليمن يصب فيه ميزاب الكعبة ماء أشد بياضاً من اللبن وألين من الزبد، وأحلى من الشهد. من شرب منه لم يظمأ أبداً، حصباؤه اللؤلؤ، وبطحاؤه في مسك، من حرمه في الموقف غداً حرم الخير كله ألا فمن أحب أن يرده علي عداً فليكفف يده ولسانه إلا مما ينبغي. فقال العباس: يا بني الله أوص بقريش، فقال: إني إنما أوصي بهذا الأمر قريشاً، الناس تبع لقريش برهم لبرهم، وفاجرهم لفاجرهم، فاستوصوا آل قريش بالناس خيراً. يا أيها الناس، إن الذنوب تغير النعم، وتبدل القسم، فإذا بر الناس برهم أئمتهم، وإذا فجر الناس عقوهم. قال الله تعالى: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون " وعن عائشة قالت: فتح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باباً بينه وبين الناس - أو كشف ستراً - فرأى أبو بكر والناس يصلون خلفه، فحمد الله على ما رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه فيهم بالذي رأى فيهم فقال: أيها الناس أيما أحد من أمتي أصيب من المؤمنين بمصيبة من بعدي فليتعز ببمصيبتي عن المصيبة التي تصيبه بعدي، فإن أحداً من أمتي لم يصب كمصيبته بي. وعن أنس بن مالك في حديث قال: فلما توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفناه، قال: قال أنس: مرت بفاطمة. قال: فقالت: يا أنس أطابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التراب؟ وعن أنس قال: لما مرض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرضه الذي مات فيه أتاه بلال، فأذن بالصلاة فقال:(2/381)
يا بلال قد بلغت فمن شاء فليصل ومن شاء فليدع. قال: يا رسول الله، فمن يصلي بالناس. قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. فلما تقدم أبو بكر رفعت الستور عن رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظرنا إليه كأنه صفيحة بيضاء عليه خميصة سوداء، فظن أبو بكر أنه يريد الخروج فتأخر، فأشار إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن صل مكانك، فصلى أبو بكر، وما رأينا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى مات من يومه. وفي حديث آخر عن أنس بن مالك قال: لما كان يوم الإثنين كشف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ستر الحجرة، فرأى أبا بكر وهو يصلي بالناس. قال: فنظرت إلى وجهه كأنه ورقة مصحف، وهو يبتسم فكدنا أن نفتتن في صلاتنا فرحاًبرؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فأراد أبو بكر أن ينكص، قال: فأشار إليه أن كما أنت، ثم أرخى الستر فقبض من يومه، فقام عمر فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت، ولكن ربه أرسل إله كما أرسل إلى موسى، فمكث عن قومه أربعين ليلة. والله أني لأرجو أن يعيش رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقطع أيدي رجال من المنافقين وألسنتهم يزعمون - أو قال: يقولون - إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات. وعن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَفي مرضه: أدعوا إلي أخي قال: فدعي له علي فقال: أدن مني فدنوت منه، فاستند إلي فلم يزل يستند إلي، وإنه ليكلمني حتى إن بعض ريق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليصيبني، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وثقل في حجري فصحت يا عباس، أدركني فإني هالك. فجاء العباس، فكان جهدهما جميعاً أن أضجعاه. وعن عائشة أنها سمعت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مستند إلى صدرها يقول: اللهم
أغفر لي، وارحمني وألحقني بالرفيق. وفي روايه: وألحقني بالرفيق الأعلى. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مرض إنسان من أهله مسحه بيده اليمنى ثم يقول أذهب(2/382)
الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. قالت فلما ثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه أخذت يده، فجعلت أمسح بها وأقولها قال: فنزع يده مني وقال: رب أغفر لي وأحقني بالرفيق الأعلى. قالت: فكان هذا آخر ما سمعته من كلامه. وعن عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس ومسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل وأكب عليه، فقبله وبكى. قال: بأبي أنت. والله لا يجمع الله عليك موتتين أبداً، أما الموتتة التي عليك فقد متها. وعن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس، وابى عمر أن يجلس فقال: اجلس، فأبى أن يجلس، فتشهد أبو بكر فمال الناس إليه وتركوا عمر فقال: أيها الناس، من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. ومن منكم ييعبد الله فإن الله حي لا يموت. غفر لي، وارحمني وألحقني بالرفيق. وفي روايه: وألحقني بالرفيق الأعلى. وعن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا مرض إنسان من أهله مسحه بيده اليمنى ثم يقول أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً. قالت فلما ثقل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه الذي مات فيه أخذت يده، فجعلت أمسح بها وأقولها قال: فنزع يده مني وقال: رب أغفر لي وأحقني بالرفيق الأعلى. قالت: فكان هذا آخر ما سمعته من كلامه. وعن عائشة أن أبا بكر أقبل على فرس ومسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل وأكب عليه، فقبله وبكى. قال: بأبي أنت. والله لا يجمع الله عليك موتتين أبداً، أما الموتتة التي عليك فقد متها. وعن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال: اجلس، وابى عمر أن يجلس فقال: اجلس، فأبى أن يجلس، فتشهد أبو بكر فمال الناس إليه وتركوا عمر فقال: أيها الناس، من كان منكم يعبد محمداً فإن محمداً قد مات. ومن منكم ييعبد الله فإن الله حي لا يموت.
قال تعالى " وما محمد إلا رسول خد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاًو سيجزي الله الشاكرين: " قال: والله لكأن الناس لو يكونوا يعلمون أن الله أنزل الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما سمع بشر إلا يتلوها، قال عمر: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها عقرت، حتى ما تلتقي رجلاي، فأهويت إلى الأرض، وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات. قال: وإن أبا بكر لما توفي دفن مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما حضر عمر بن الخطاب الموت أوصى قال: إذا أنا مت فأحملوني إلى بيت عائشة فقولوا لها: هذا عمر بن الخطاب يقرئك السلام ويقول: أدخل أم أخرج. قال: فسكتت ساعة ثم قالت: أدخلوه فدفنوه معه، أبو بكر عن يمينه وعمر عن يساره. قالت: فلما دفن عمر أخذت الجلباب(2/383)
فتجلببت. قال: فقيل لها مالك والجلباب؟! قالت: كان هذا زوجي وهذا أبي فلما دفن عمر تجلببت. وفي حديث عائشة فاقتحم الناس حيث ارتفعت الرنة وسجى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الملائكة بثوبه، وكذب بعض بموته، وأحرج بعض فما تكلم، وأقعد البعض وخلط آخرون فلاثوا الكلام بغير بيان، وبقي آخرون ومعهم عقولهم وأقعد آخرون، فكان عمر بن الخطاب ممن كذب بموته، وعلي ممن أقعد، وو عثمان فيمن أخرس. فخرج من في البيت على الناس ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسجىً فقالوا: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت. ويرجعه الله عز وجل وليقطعن أيدي وأرجل رجال من المنافقين يتمنون لرسول الله الموت، إنما واعده ربه عز وجل كما واعد موسى وهو آتيكم. وتوفي يوم الإثنين لثنتي عشرة من ربيع الأول، وأما علي فأقعد ولم يبرح الباب، وأما عثمان فجعل لا يكلم أحداً، يؤخذ بيده فيجاء به، ويذهب به. وفي موضع آخر: لم يكن أحد من المسلمين في مثل جلد أبي بكر والعباس قال الله عز وجل " "
وعن سالم بن عبيد، وكان من أصحاب الصفة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اشتد مرضه أغمي عليه. فلما أفاق قال: مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس، ثم أغمي عليه فقالت عائشة: إن أبي رجل أسيف، فلو أمرت غيره. قال: إنكن صواحبات يوسف، مروا بلالاً فليؤذن، ومروا أبا بكر فليصل بالناس. فأرسل إلى بلال يؤذن، وأرسل إلى أبي بكر يصلي بالناس.
قال: ثم أفاق فقال: أقيمت الصلاة؟ قالوا: نعم. قال: ادعوا لي إنساناً أعتمد عليه، فجاءت بريرة وإنسان آخر فانطلقوا يمشون به وإن رجليه تحطان في الأرض قال: فاجلسوه إلى جنب أبي بكر، فذهب أبو بكر يتأخر فحبسه حتى فرغ الناس من الصلاة. فلما توفي قال: كانوا قوماً آمنين، لم يكن فيهم نبي قبله، فقال عمر: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا. قال: فقالوا(2/384)
لي اذهب إلى صاحب نبي الله فادعه، يعني أبا بكر. قال: فذهبت أمشي فوجدته في المسجد. قال: فأجهشت أبكي فقال: لعل نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي. قلت: إن عمر قال: لا يتكلم أحد بموته إلا ضربته بسيفي هذا. قال: فأخذ بساعدي، ثم أقبل يمشي حتى دخل، فأوسعوا له، فأكب على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كاد وجهه يمس وجه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فنظر بنفسه يخبره حتى استبان له أنه توفي، فقال: " إنك ميت وإنهم ميتون " قالوا: يا صاحب رسول الله، توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. قال: فعلموا أنه كما قال. قالوا: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هل يصلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. قال: يجيء نفر منكم فيكبرون، ويدعون، ويذهبون، حتى يفرغ الناس. قال: فعلموا أنه كما قال. قالوا: يا صاحب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل يدفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: نعم. قالوا أين يدفن؟ قال: حيث قبض الله روحه، فإنه لم يقبض إلا في موضع طيب. قال: فعرفوا أنه كما قال. ثم قال: عندكم صاحبكم، ثم خرج فاجتمع إليه المهاجرون، أو من اجتمع إليه منهم فقال: انطلقوا إلى أخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيباً. قال: فذهبوا حتى أتوا الأنصار. قال: فإنهم ليتآمرون إذ قال رجل من الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، وقال عمر: وأخذ بيد أبي بكر فقال: سيفان في غمد إذ لا يصطلحان ثم قال: من الذي له هذه الثلاثة " إذا هما في الغار إذ يقول لصاحبه " فمن صاحبه " لا تحزن إن الله معنا " مع من؟ قال: وبسط يد أبي بكر فضرب عليها، ثم قال الناس: بايعوا فبايع الناس أحسن بيعة.
وفي حديث عكرمة توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الإثنين فحبس بقية يومه وليلته والغد، حتى دفن ليلة الثلاثاء. وقالوا إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يمت، ولكنه عرج بروحه كما عرج بروح موسى. والله لا يموت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى يقطع أيدي أقوام وألسنتهم، فلم يزل عمر يتكلم حتى أزبد شدقاه مما توعد ويقول، فقام العباس فقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد مات، وإنه لبشر وإنه يأسن كما يأسن البشر. أي قوم، فادفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته إماتتين،(2/385)
أيميت أحدكم إماتة ويموته اثنتين؟! هو أكرم على الله من ذلك. أي أقوم، فادفنوا صاحبكم، فإن يك كما تقولون فليس يعذب على الله أن ينجث عنه التراب. إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله ما مات حتى ترك السبيل مهجاً واضحاً، فأحل الحلال، وحرم الحرام، ونكح وطلق، وحارب وسالم، ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها روؤس الجبال، يخبط عليها بعصاه بمخبطها ويمدر حوضها بيده بأدأب ولا أنصب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان فيكم. أي قوم، فادفنوا صاحبكم. قال: وجعلت أم أيمن تبكي فقيل لها: يا أم أيمن، تبكين على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: أي والله، ما أبكي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا أكون أعلم أنه قد ذهب إلى ما هو خير له من الدنيا، ولكن أبكي على خبر السماء انقطع.
قال أنس: لما كان اليوم الذي أحل فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة أضاء منها كل شيء. فلما كان اليوم الذي مات فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أظلم منها كل شيء. قال: وما نفضنا عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.(2/386)
تاريخ وفاته والخلاف في قدر حياته
عن محمد بن قيس قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الإثنين لليلتين مضتا من ربيع الأول، سنة إحدى عشرة. وقال الواقدي: وقالوا: بدئ برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من صفر. وتوفي يوم الإثنين لأثنتي عشرة مضت من ربيع الأول. قال وهو للبث عندنا. ودفن ليلة الثلاثاء وقيل دفن ليلة الأربعاء. وعن الليث بن سعد قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شهر ربيع الأول، في يوم الإثنين لليلة خلت منه. وقيل يوم الإثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول لتمام عشر سنين من مقدمه المدينة. وعن الفضل بن دكين قال: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الإثنين مستهل ربيع الأول، سنة إحدى عشرة من مقدمه المدينة. 0 وعن عائشة أنها قالت: ما علمنا يدفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعنا صوت المساحي في جوف ليلة الأربعاء. وعن أنس بن مالك قال: نبئ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربعين سنة، فمكث بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشراً وتوفي وهو ابن ستين سنة. ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء.(2/387)
وفي رواية عنه أيضاً بمثله ولا أنه قال: وتوفي وهو ابن ثلاث وستين سنة، ليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. قال: والمحفوظ عن ربيعة أنه مات وهو ابن ستين سنة. وعن أنس عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أعمار أمتي كعمري إلا الأقل. فقيل لأنس بن مالك: فكم كان عمره؟ قال: اثنين وستين. وعن مكحول قال: ولد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الإثنين، وأوحي إليه يوم الإثنين، وهاجر يوم الإثنين، وتوفي يوم الإثنين لثنتين وستين سنة ونصفاً. وقيل وأشهر. وكان له قبل أن يوحى إليه ثنتان وأربعون سنة، واستخفى عشر سنين وهو يوحى إليه، ثم هاجر إلى المدينة، فمكث يقاتل عشر سنين ونصف. وكان يوحى إليه عشرين سنة ونصفاً ثم توفي. قال الهيثم: وتوفي فمكث ثلاثة أيام لا يدفن، فدخل الناس عليه رسلاً رسلاً يصلون عليه، والنساء مثل ذلك، وطهره أبنا عمه الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب. وكان يناولهم عباس الماء. وكفن في ثلاث رياط بيض يمانية. فلما كفن وطهر دخل الناس عليه في تلك الأيام الثلاثة يصلون عليه عصباً عصباً. تدخل العصبة فتصلي وتسلم. وقال الهيثم: يصلون عليه عصبا عصبا لا يصفون، فلا يصلي بين أيديهم مصل، حتى فرغ من يريد ذلك ثم دفن، فأنزله في القبر عباس وعلي والفضل. وقال عند ذلك رجل من الأنصار: أشركونا في موت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه قد أشركنا في حياته. فنزل معهم في القبر وولي ذلك معهم. وعن ابن عباس قال: بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن أربعين سنة، فدعا الناس إلى الإسلام، ولم يؤذن له في القتال ثلاث عشرة سنة. وكانت الهجرة عشر سنين، وقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وستين. وفي رواية أخرى عنه قال: أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، فمكث بمكة عشراً، وبالمدينة(2/388)
عشراً وقبض وهو ابن ثلاث وستين. وعن معاوية قال: بلغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثاً وستين، وأبو بكر ثلاثاً وستين، وعمر ثلاثاً وستين، وأنا ثلاثاً وستين. وعن عائشة قالت: تذاكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر ميلادهما عندي، فكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكبر من أبي بكر. وتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وستين سنة، وتوفي أبو بكر بعده وهو ابن ثلاثة وستين. لسنتين ونصف التي عاش بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن الشعبي قال: قرن إسرافيل برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاث سنين، يسمع الصوت ولا يرى أحداً، ثم قرن ببه جبريل عشرين سنة، وذلك حين أوحي إليه، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشراً فقبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو ابن ثلاث وستين. قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: الثبت عندنا ثلاث وستون سنة. وعن الحسن قال: بعث وهو ابن خمس وأربعين، فأقام بمكة عشراً وبالمدينة ثماني. وتوفي وهو ابن ثلاث وستين. وقيل: إنه بلغ خمساً وستين سنة. عن عمار مولى بني هاشم قال: سألت ابن عباس: كم أتى لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم مات؟ قال: ما كنت أرى مثلك في قوم يخفى عليك ذلك! قال: قلت: إني قد سألت فاختلف علي فأحببت أن أعلم قولك فيه. قال: أتحسب؟ قلت نعم. قال: امسك أربعين بعث لها، وخمسة عشرة أقام
بمكة يأمن ويخاف، وعشراً مهاجره بالمدينة.(2/389)
وعن ابن عباس أن رسول الله أقام بمكة خمس عشرة سنة: ثماني سنين أو سبع يرى الضوء ويسمع الصوت وثماني سنين أو سبع يوحى إليه. وأقام بالمدينة عشراً. وعن سعيد بن جبير أن رجلاً أتى ابن عباس فقال: أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشراً بمكة، وعشراً بالمدينةز فقال: من يقول ذلك؟ لقد أنزل عليه بمكة عشراً وخمساً. وستين وأكثر. مكة يأمن ويخاف، وعشراً مهاجره بالمدينة. وعن ابن عباس أن رسول الله أقام بمكة خمس عشرة سنة: ثماني سنين أو سبع يرى الضوء ويسمع الصوت وثماني سنين أو سبع يوحى إليه. وأقام بالمدينة عشراً. وعن سعيد بن جبير أن رجلاً أتى ابن عباس فقال: أنزل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشراً بمكة، وعشراً بالمدينةز فقال: من يقول ذلك؟ لقد أنزل عليه بمكة عشراً وخمساً. وستين وأكثر.(2/390)
ذكر من حضر غسله ومن غسله وما كفن فيه وصفة قبره
وعن ابن عباس قال: لما أجتمع القوم لغسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس في البيت إلا أهله: عمه العباس بن عبد المطلب، وعلي ابن عمه أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وصالح مولاه. فلما اجتمعوا لغسله نادى من وراء الباب أوس بن خوري الأنصاري، ثم أحد بني عوف بن الخزرج، وكان بدرياً - علي بن أبي طالب فقال: يا علي ننشدك الله وحظنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فقال له علي: أدخل، فدخل فحضر غسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يل من غسله شيئاً. قال: فاسنده علي إلى صدره وعليه قميصه، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه مع علي، وكان أسامة بن زيد وصالح مولاه هما يصبان الماء. وجهل علي يغسله ولم ير من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيء مما يراه من الميت. وهو يقول: بأبي وأمي، ما أطيبك حياً وميتاً. حتى إذا فرغوا من غسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان يغسل بالماء والسدر جففوه، ثم صنع فيه ما يصنع بالميت، ثم أدرج في ثلاثة أثواب: ثوبين أبيضين وثوب حبرة. قال: ثم دعا العباس رجلين فقال: ليذهب أحدكم إلى أبي عبيدة بن الجراح، وكان أبو عبيدة يضرح لأهل مكة، وليذهب الآخر إلى أبي طلحة بن سهل الأنصاري، وكان أبو طلحة يلحد لأهل المدينة. قال: ثم قال العباس لهما: حين سرهما: اللهم خر لرسولك. قال: فذهبا فلم يجد صاحب أبي عبيدة أبا عبيدة، ووجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فلحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن العباس قال: لما أخذنا في جهازه أمر أبي بالباب فغلق دون الناس، فنادت الأنصار: نحن أخوالك، ومكاننا من الإسلام مكاننا، وهو ابن أختنا، فنادت قريش نحن عصبته،(2/391)
فصاح أبو بكر: يا معشر المسلمين، كل قوم أحق بجنازتهم من غيرهم، فانطلقوا إلى العباس، فكلموه وكلمته الأنصار، فأدخلوا أوس بن خولي فكان في ناحية البيت. قال ابن العباس: فبينا هم يختلفون في غسله، وقد أحضروا الماء من بئر غرس، وأحضروا سدراً وكافوراً أرسل الله عليهم النوم، فما منهم رجل إلا واضع لحيته على صدره، وقائل يقول ما يدرى من هو: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه. فغسل في القميص، وغسل الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، وغسله علي والفضل بن عباس،، وكان الفضل رجلاً أيداً، فكان يقلبه شقران مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكان العباس بن عبد المطلب بالباب. لم يمنعني أن أحضر غسله إلا أني كنت أراه يستحيي أن أراه حاسراص. وفي رواية: وكات أوس بن خولي رجلاً شديداً بحمل جرة الماء بيده. وعن جابر بن عبد الله أن كعب الأحبار قدم زمن عمر فقال: ونحن جلوس عند عمر: يا أمير المؤمنين، ما كان آخر ما تكلم به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقال عمر: سل علياً. قال: أين هو؟ قال: هو ها هنا، فسأله فقال علي: أسندته إلى صدري، فوضع رأسه على منكبي فقال: الصلاة الصلاة، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء وبه أمروا وعليه يقضون. قال: فمن غسله يا أمير المؤمنين؟ قال: سل علياً: قال: فسأله فقال: كنت أنا أغسله، وكان عباس جالساً، وكان أسامة وشقران يختلفان إلي بالماء.
وعن أبي غطفان قال: سالت ابن عباس: أرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ توفي ورأسه في حجر أحد؟ قال: توفي وهو إلى صدر علي. قالت: فإن عروة حدثني عن عائشة أنها قالت: توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين سحري ونحري. فقال ابن عباس: أيعقل! والله لتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنه لمسند إلى صدر علي، وهو الذي غسله، وأخي الفضل بن عباس وأبي أبى أن يحضر، وقال: إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأمرنا أن نستتر، فكان عند الستر.(2/392)
قال علي عليه السلام: أوصى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا يغسله غيري، فإنه لا يرى عورتي إلا طمست عيناه. قال علي: فكان الفضل وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر، وهما معصوبان العين. قال علي: فما تناولت عضواً إلا كأنما يقليه معي ثلاثون رجلاً، حتى فرغت من غسله. وعن عائشة قالت: لما أدرادوا غسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: والله ماندري كيف نغسله: أنجرده من ثيابه كما نجرد موتانا أم نغسله وثيابه عليه؟ فبينا هم كذلك ألقى الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أغسلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه ثيابه، فقاموا إلى النبي فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء من فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم، وكانت عائشة تقول: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسله إلا نساؤه. وعن عبد الله بن الحارث في حديثه قال: فغسله علي يدخل يده تحت القميص، والفضل يمد الثوب عليه، والأنصاري ينقل الماء، وعلى يد علي خرقة يدخل يده وعليه القميص. قال عبد الله بن قيس: فما كنا نريد رفع عضواً منه إلا رفع لنا، حتى أنتهينا إلى عورته، فسمعنا من جابني البيت صوتاً: لا تكشفوا عن عورة نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفي حديث العلباء بن أحمر قال: كان علي والفضل والعباس يغسلان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنودي: علي، ارفع طرفك إلى السماء. وفي حديث ابن عباس فتنبهوا لقائل يقول: لا يدرون من هو: اغسلوا نبيكم وعليه قميصه فغسل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قميصه. وعن محمد بن علي أبي جعفر قال: إن رسول الله غسل ثلاثا: بماء وسدر، وغسل من بئر يقال لها: بئر غرس، كانت(2/393)
لسعد بن خثيمة، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب منها. وولي غسل سفلته علي، والفضل محتضنه والعباس يصب الماء إن شاء الله أرحني قطعت وتيني إني لأجد شيئاً يتنزل. وكفن في ثلاثة أثواب، ثوبين صحاريين وبرد حبرة. وعن عمر بن الحكم قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نعم الئر بئر غرس، هي من عيون الجنة، وماؤها أطيب المياه. وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعذب له منها، وغسل من بئر غرس. وعن ماها ن الحنفي عن ابن عباس قال: قلت كيف كان غسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: ضرب عليه العباس كلة له من يمانيةصفاق، فصارت سنة هنا، وفي كثير من صالحي الناس، ثمن أذن لرجال من بني هاشم فقعدوا بين الحيطان والكلة، وسأله الأنصار أن يدخل لهم رجلاً، فأدخل أوس بن خولي ثم دخل العباس الكلة ودعا علياً والفضل وأبا سفيان وأسامة. فلما أجتمعوا في الكلة ألقي عليهم النعاس، وعلى من وراء الكلة في البيت حتى ما منهم أحد إلا وذقنه في صدره يغطّ، فناداهم مناد أن أنتبهوا وهو يقول: ألا لا تغسلوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه كان طاهراً. فقال العباس: ألا بلى. وقال أهل البيت؛ صدق فلا تغسلوه، فقال العباس: لا ندع سنة لصوت لا ندري ما هو، وغشيهم النعاس ثانية فناداهم مناد فانتبهوا وهو يقول: اغسلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليه ثيابه. فقال أهل البيت: ألا، لا، فقال العباس: ألا نعم. وفدكان العباس حين دخل قعد متربعاً، وأقعد علي متربعاً فتواجها وأقعد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على حجرهما فنودوا أن أضجعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ظهره. ثم أغسلوه، وأستروا، فبازوا عن الصفيح وأضجعاه، فغربا رجل الصفيح وشرقا رأسه، وثم أخذوا في غسله وما يريان أنه ينبغي لهما أن يأتيا على شيء إلا قلب لهما ورفع لهما، وعليه قميص ومجول مفتوح الشق، ولم يغسل(2/394)
إلا بالماء القراح، وطيبوا بالكافور ثم اعتصر قميصه ومجوله، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا به ذراعيه ووجهه وكفيه ثم أدرجوا أكفانه على قميصه ومجوله وجمروه عوداً ونداً، ثم أحتملوه
حتىوضعوه على سريره وسجوه. وعن علي في حديث آخر قال: وإن معنا لخفيف في البيت كالريح الرخاء ويصوت بنا: ارفعوا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنكم ستكفون. وعن علي رضي الله عنه قال: غسلت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً. ولي دفنه وإجنانه دون الناس أربع: علي بن أبي طالب، والعباس، والفضل بن العباس، وصالح مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وألحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحد ونصب عليه اللبن نصباً. وعن جابر قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في برد. قال جابر ذلك الثوب نمرة. وعن ابن عباس قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثوبين سحوليين. أبيضين وذاد في رواية وبرد أحمر. وفي رواية عنه قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحلة حمراء نجراتية، وإزار. وعنه قال: كفن في حلة حمراء كان يلبسها وقميص. وعن علي قال: كفن في ثلاثة أثواب: ثوبيين سحوليين وبرد حبرة.(2/395)
وعن أبي هريرة: كفن في ريطتين وبرد نجراني. وعن علي قال: كفن بسبعة أثواب. وعن ابن عمر قال: كفن في ثلاثة أثواب بيض سجي بها. وعن سالم عن أبيه أنه كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وبرد حبرة. وعن ابن عمر أنه كفن في ثلاثة أثواب. وعن جابر بن سمرة أنه كفن في ثلاثة أثواب: قميص وإزار ولفافة. على سريره وسجوه. وعن علي في حديث آخر قال: وإن معنا لخفيف في البيت كالريح الرخاء ويصوت بنا: ارفعوا برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنكم ستكفون. وعن علي رضي الله عنه قال: غسلت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئاً، وكان طيباً حياً وميتاً. ولي دفنه وإجنانه دون الناس أربع: علي بن أبي طالب، والعباس، والفضل بن العباس، وصالح مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وألحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحد ونصب عليه اللبن نصباً. وعن جابر قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في برد. قال جابر ذلك الثوب نمرة. وعن ابن عباس قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثوبين سحوليين. أبيضين وذاد في رواية وبرد أحمر. وفي رواية عنه قال: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة أثواب: قميصه الذي مات فيه، وحلة حمراء نجراتية، وإزار. وعنه قال: كفن في حلة حمراء كان يلبسها وقميص. وعن علي قال: كفن في ثلاثة أثواب: ثوبيين سحوليين وبرد حبرة. وعن أبي هريرة: كفن في ريطتين وبرد نجراني. وعن علي قال: كفن بسبعة أثواب. وعن ابن عمر قال: كفن في ثلاثة أثواب بيض سجي بها. وعن سالم عن أبيه أنه كفن في ثلاثة أثواب: ثوبين صحاريين وبرد حبرة. وعن ابن عمر أنه كفن في ثلاثة أثواب. وعن جابر بن سمرة أنه كفن في ثلاثة أثواب: قميص وإزار ولفافة.
وعن عائشة قالت: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاثة أثواب أحدهما برد أحمر. قال الحافظ: ذكر البرد في رواية عائشة وهم، وكل من ذكر البرد في روايته إنما شبه عليه، فإنه كفن فيه ثم نزع عنه، وذلك بين فيما روي عن عائشة قالت: أدرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بمنة كانت لعبد الله بن أبي بكر ثم نزعت عنه، وكفن في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة، فرفع عبد اللله الحلة فقال: أكفن فيها، ثم قال: لم يكفن فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكفن فيها؟ فتصدق بها. وقيل: كان لعبد الرحمن بن أبي بكر.(2/396)
وفي رواية عن عائشة أنه كفن بثلاثة أثواب بيض سحولية من ثياب اليمن. وعن عائشة قالت: كفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث أثواب سحولية بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فها إدراجاً. وعنها أنه كفن في ثلاثة أثواب يمانية بيض كرسف - يعني: قطن - ليس في كفنه قميص ولا عمامة. وفي رواية عنها: فقيل: إنهم يزعمون أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفن في ثوب حبرة قالت: قد جاؤوا بثوب حبرة فلم يكفن فيه. وفي رواية عنها أنه كفن في ثلاثة رياط يمانية. وعن ابن إسحاق قال: رفعت على مجلس بني عبد المطلب وهم متوافرون فقلت لهم: في كم كفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: في ثلاثة أثواب، ليس قيها قميص ولا قباء ولا عمامة فقلت: كم أسر منكم يوم بدر؟ قالوا: العباس ونوفل وعقيل. قال معاذ بن جبل: أوصى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصلاة حتى مضى. وذلك آخر ما حض عليه وتكلم به الصلاة وصية الله ووصية الرسول احفظوا وصية الله ووصية الرسول يحببكم الله ويحببكم إلى خلقه. قال: ثم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا جهزتموني فأمسكوا عني، فإن أول الخلق يصلي علي جبريل والملائكة بأسرها، ثم مسلم والجن والأنس، وصلوا علي أفواجاً، وليبدأ أفواجكم(2/397)
العباس والإمام، ثم الأفواج على الولاء الأول فالأول فدخل العباس وبنوه وسائر بني هاشم وفيهم أبو بكر. فلما فرغ الرجال جاء النساء. فلما فرغن جاء الصبيان. فلم ير الناس بعد بصلاة النساء على الجنائز بأساً. وكان الآخرون من الأمور هو الناسخ الأول. وفي حديث عائشة: ثم سجوا عليه وادنوا الناس أرسالا وهو في البيت، فجعلوا يصلون عليه حوله على غير إمام، ثم يستغفرون ويصلون، ويسلم ون، ولا يعجلهم أحد، ويدخل قوم، ويخرج آخرون عامة يومه وليلته. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موضوعاً على سريره من حين زاغت الشمس يوم الثلاثاء، فصلى الناس عليه، وسريره على شفير قبره. فلما أرادوا أن يقبروه نحوا السرير قبل رجليه فأدخل من هناك. ودخل في حفرته العباس بن عبد المطلب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وعلي، وشقران. وعن ابن أبي عسيم قال: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: كيف نصلي - يعني - عليه؟ قال: ادخلوا من هذا الباب أرسالاً أرسالاً، ثم صلوا عليه، وأخرجوا من الباب الآخر. فلما وضع في لحده قال المغيرة ببن شعبة: إنه بقي شيء من قدميه لم يصلح. قال: فادحل فاصلحه. قال: فدخل فمس قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أهيلوا علي التراب فأهالوا عليه التراب، حتى بلغ أنصاف ساقيه ثم خرج فقال: أنا أحدثم عهداً برسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله. وعن سعيد بن المسيب أن المسلمين لما أرادوا الصلاة على نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اجتمع رأيهم على أنه الإمام ولا إمام عليه. فدخل أبو بكر فكبر عليه أربعاً، ثم دخل عمر فكبر عليه أربعاً، ثم دخل عثمان فكبر عليه أربعاً، ثم دخل طلحة بن عبد الله والزبير بن العوام، ثم تتابع الناس أرسالاً، يكبرون عليه ولا إمام لهم عليه.(2/398)
وقال ابن أبي حبيب: إن علي بن أبي طالب أشار عليهم بذلك فقبلوه من قوله. وفي حديث: فلما صلي عليه نادى عمر: خلوا الجنازة وأهلها. وفي حديث أبي حازم المدني أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيث قبضه الله دخل المهاجرون فوجاً فوجاًيصلون عليه ويخرجون، ثم دخل الأنصار على مثل ذلك، ثم دخل أهل المدينة، حتى إذا فرغت الرجال دخلت النساء، فكان منهن صوت وجزع كبعض ما يكون منهن، فسمعن هدة في البيت، ففرقن فسكتن فإذا قائل يقول: في الله عزاء عن كل هالك، وعوض من كل مصيبة، وخلف من كل ما فات، والمحبور من حبره الثواب، والمصاب من لم يحبره الثواب. قال موسى بن محمد بن ابراهيم بن الحارث
التميمي، قال: وجدت هذا في صحيفة خط أبي فيها: لما كفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضع على سريره دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلم وا كما سلم أبو بكر وعمر، وصفوا صفوفاً لا يومئهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه، وتمت كلماته، فأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا ياإلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه بنا فإن كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبغي بالإيمان بدلاً ولا نشتري به ثمناً أبداً فيقول الناس آمين آمين ثم يخرجون، ويدخل آخرون حتى صلوا عليه: الرجال ثم النساء ثم الصبيان. فلما فرغوا من الصلاة تكلموا في موضع قبره. وعن علي قال: لما وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السرير قال علي: لا يقوم عليه أحد هو إمامكم حياً وميتاً، فكان يدخل الناس رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً صفاً ليس لهم إمام، ويكبرون(2/399)
وعلي قائم حيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم أنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، اللهم فأجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه فيقول الناس: آمين، حتى صلوا عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان. وعن ابن عباس قال: كان الذين نزلوا في قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وشقران مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: انزل فنزل مع القوم فكانوا خمسة. وقد كان شقران حين وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حفرته أخذ قطيفة قد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبسها ويفترشها فدفنها معه في القبر. وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عباس: دخل قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي والفضل وأسامة، وقيل أنهم أدخلوا عبد الرحمن بن عوف. قال: فكأني أنظر إليهم في القبر أربعة. وقيل: هم العباس وعلي والفضل وعبد الرحمن. قال: وكان بعض الأخوال يدخل مع العمومة القبر. وقيل: هم العباس وعلي والفضل وقثم. وعن سعد أنه قال في مرضه: إذا أنا مت فألحدوا لي لحداً. وفي رواية: وانصبوا علي اللبن نصباً، قال: واصنعوا بي مثلما صنع برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عمر أنه لحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر ولعمر. تميمي، قال: وجدت هذا في صحيفة خط أبي فيها: لما كفن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووضع على سريره دخل أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، ومعهما نفر من المهاجرين والأنصار قدر ما يسع البيت، فسلم وا كما سلم أبو بكر وعمر، وصفوا صفوفاً لا يومئهم عليه أحد، فقال أبو بكر وعمر وهما في الصف الأول حيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم إنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل عليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه، وتمت كلماته، فأومن به وحده لا شريك له، فاجعلنا ياإلهنا ممن يتبع القول الذي أنزل معه، واجمع بيننا وبينه حتى يعرفنا ونعرفه بنا فإن كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً، لا نبغي بالإيمان بدلاً ولا نشتري به ثمناً أبداً فيقول الناس آمين آمين ثم يخرجون، ويدخل آخرون حتى صلوا عليه: الرجال ثم النساء ثم الصبيان. فلما فرغوا من الصلاة تكلموا في موضع قبره. وعن علي قال: لما وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على السرير قال علي: لا يقوم عليه أحد هو إمامكم حياً وميتاً، فكان يدخل الناس رسلاً رسلاً فيصلون عليه صفاً صفاً ليس لهم إمام، ويكبرون وعلي قائم حيال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، اللهم أنا نشهد أن قد بلغ ما أنزل إليه، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله حتى أعز الله دينه وتمت كلمته، اللهم فأجعلنا ممن يتبع ما أنزل إليه وثبتنا بعده واجمع بيننا وبينه فيقول الناس: آمين، حتى صلوا عليه الرجال ثم النساء ثم الصبيان. وعن ابن عباس قال: كان الذين نزلوا في قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي بن أبي طالب، والفضل بن عباس، وقثم بن العباس، وشقران مولى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال أوس بن خولي لعلي بن أبي طالب: يا علي أنشدك الله وحظنا من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: انزل فنزل مع القوم فكانوا خمسة. وقد كان شقران حين وضع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حفرته أخذ قطيفة قد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلبسها ويفترشها فدفنها معه في القبر. وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك، فدفنت مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عباس: دخل قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علي والفضل وأسامة، وقيل أنهم أدخلوا عبد الرحمن بن عوف. قال: فكأني أنظر إليهم في القبر أربعة. وقيل: هم العباس وعلي والفضل وعبد الرحمن. قال: وكان بعض الأخوال يدخل مع العمومة القبر. وقيل: هم العباس وعلي والفضل وقثم. وعن سعد أنه قال في مرضه: إذا أنا مت فألحدوا لي لحداً. وفي رواية: وانصبوا علي اللبن نصباً، قال: واصنعوا بي مثلما صنع برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عمر أنه لحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولأبي بكر ولعمر.
وعن أبي طلحة قال: اختلفوا في الشق واللحد للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال المهاجرون: شقوا كما يحفر أهل مكة.(2/400)
وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فلما أختلفوا في ذلك قالوا: اللهم خر لنبيك، وبعثوا إلى أبي عبيدة وإلى أبي طلحة فأيهما جاء قبل فليعمل عليه. قال: فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد خار لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إنه كان يرى اللحد فيعجبه. قال: وأختلفوا فقال قائل: بالبقيع فإنه كان يكثر الإستغفار لأهل البقيع وأصحابه، فادفنوه به، قال قائل: ادفنوه عند قبره، وقال قائل: ادفنوه في مصلاه، قال أبو بكر إن عندي فيما تختلفون فيه علماً: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: ما مات نبي قط إلا دفن حيث يقبض، فخط حول الفراش ثم حول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفراش في ناحية البيت. وحفر أبو طلحة القبر، فانتهى به إلى أصل الجدار إلى القبلة وجعل رأس رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما يلي بابه الذي كان يخرج منه للصلاة. وعن الحسن قال: جعل في قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطيفة حمراء كان أصابها في يوم حنين. قال: جعلوها لأن المدينة أرض سبخة. وعن سليمان بن موسى قال: جعلوا في لحد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحته قطيفة بيضاء، كان يجعلها على رحله إذا سافر لتقيه سبخة المدينة، وبنوا عليه اللبن بنياناً كبناء القباب، حتى لحق البناء بجدار القبر. وعن الحسن قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افرشوا لي قطيفتي في لحدي، فإن الأرض لم تسلط على أجساد الأنبياء. قالت عائشة: ما علمنا بدفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى سمعنا صوت المساحي من جوف ليلة الأربعاء. وعن أم سلمة قالت: نحن نبكي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بيوتنا، لم ننم ولم نسكن لرؤيته على السرير، فسمعنا صوت الكرازين في ليلة الثلاثاء. قالت أم سلمة: فصحنا فصاح أهل المسجد،(2/401)
فارتجت المدينة صيحة واحدة، وأذن بلال بالفجر، فلما بلغ ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكى فانتحب فزادنا حزناً، وعالج الناس الدخول إلى قبره. فغلق دونهم، فيا لها مصيبة. فما أصبت بعده بمصيبة إلا هانت علي إذا ذكرت مصيبتنا به عليه السلام. وعن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أماه أكشفي لي عن قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصاحبيه، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. فرأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدماً. وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمر رأسه عند رجل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أبو بكر رضي الله عنه، عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 0 وعن وردان وكان بنى مسجد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إمرة عمر بن عبد العزيز على المدينة. قال وردان: كان بيت عاشة سقط شقه الشرقي. قال: فدعيت فجئت إلى عمر بن عبد العزيز. قال وردان: فقلت له: إنا نخاف أن يغلبنا الناس على قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرت بالعمد فأتيت بها، وثم أمرت بالصياصي فجعلت سرادفاً عليه. فكان ذلك السرادق أول سرادق رؤي بالمدينة فسترت عليه. فلما أصبحنا قال لي عمر: ادخل يا وردان فدخلت وحدي وأبناء المهاجرين والأنصار والعرب يتناولون ما أخرج من التراب، حتى وصلت الجدار الذي كان فيه قدم عمر بن الخطاب. فلما رأيتها قلت: أيها الأمير هذه قدم قد بدت لي فارتاع لها وارتاع من معه من قريش والأنصار والعرب فقال له سالم: أيها الأمير لم ترع، هذه قدم أبي وأبيك عمر بن الخطاب. سمعت ابن عمر يقول: كان رجل طوالاً فضاق عنه اللحد فحفروا لقدميه في الجدار. فقال: غيبها رحمك الله يا وردان.
قال وردان: فبنيت طاماً على قدميه. وعن محمد بن قيس قال: انهد الهائط الذي على قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فرأيت قبره مرتفعاً من الأرض، وقبر أبي بكر وعمر. فقبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدم في القبلة. وقبر أبي بكر وراءه من قبل رأس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقبر عمر وراء قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قبل رجليه بحذاء قبر أبي بكر. كأن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمام وهما خلفه.(2/402)
وعن سفيان التمار قال: رأيت قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبر أبي بكر وقبر عمر مسنمة. وعن مالك بن إسماعيل قال: - أظنه - مولى لآل الزبير قال: دخلت مع مصعب من الزبير البيت الذي فيه قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر فرأيت قبورهم مستطيلة. وعن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال: كان قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر وعمر مسنمة، عليها نقل. وقال القاسم بن محمد: اطلعت وأنا صغير على القبور فرأيت عليها حصباء حمراء. وعن موسى بن طلحة قال: كان قبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقبور أهل أحد مسنمة. وقد كانوا يجمهرون، وكان الجمهور من الناس يسنمون، ثم الذين يلونهم الذين يجمهرون. وكان يربع آخرون. وهم قليل.(2/403)
ذكر موضع قبره واختلافهم في أمره
عن عائشة قالت: لما قبض النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلفوا في دفنه فقال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إن الله يقبض نبيه في أحب الأمكنة إليه. فدفنوه حيث قبض. وروت عمرة بنت عبد الرحمن عن أمهات المؤمنين: أن أبا بكر يوم توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كيف نصنع بكفنه؟ فاجتمع رأيهم على أن كفنوه في ثلاثة أثواب سحول ليس فيها قميص ولا عمامة، أدرج فيهن إدراجاً بعضهن على بعض ثم قالوا: أين ندفنه؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يقول: ما قبض الله نبياًإلا في خير الأرض فدفنه تحت فراشه ثم قالوا كيف نبني قبره نجعله مسجداً؟ قال أبو بكر: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لعن الله اليهود والنصارى أتخذوا قبور أنبيائهم مساجد. قالوا: كيف نحفر له؟ قال أبو بكر: إن من أهل المدينة رجل يلحد، ومن أهل مكة رجل يشق، اللهم فأطلع علينا أحبهما إليك أن يعمل لنبيك فإطلع أبو طلحة، وكان يلحد، فأمروه أن يلحد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم دفن. وكان صلاتهم عليه أن يدخل عليه، فيصلون عشرة لا يؤمهم عليه أحد، ثم نصبوا عليه اللبن، وكان فيمن نصب عليه اللبن المغيرة بن شعبة، فلما قيل: اصعدوا اصعدوا. قال المغيرة: إن خاتمي في قبره سقط مني فاقتحم في القبر فنظر إلى نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من دخل تركه بين البنيان. وكان يقول: أنا أحدثكم عهداً بنبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقال عبد العزيز بن أبي وراد: إنهم قالوا ندفنه في بقيع الغرقد: قال: يوشك عواذ يعوذون بقبره من عبيدكم(2/404)
وإمائكم فلا تعاذون. قال: فقال قائل: ادفنوه في مسجده. ففقالوا وكيف وقد لعن قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؟! قالوا: نحمله إلى حرم الله وأمنه ومولده ودار قومه. قال: كيف تفعلون ولم يعهد إليكم عهداً؟ فأشار عليهم أبو بكر بدفنه في موضع فراشه فقبلوا ذلك من رأيه. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده: أن علي عليه السلام غسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والعباس يصب الماء، والفضل بن عباس ينقل الماء، وأسامة وشقران يجيفان الباب. فلما فرغوا قال العباس - لحزنه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا أدفن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في التراب. ولكن أعد له صندوقاً فأجعله في بيتي، فإذا كربني أمر نظرت إليه. فقال علي للعباس: يا عم مارأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدفن أولاده؟ قال: ثم تلا هذه الآية: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " ثم تلا " ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً " فبينما هم كذلك إذ هتف بهم هاتف من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت " كل نفس ذائقة الموت " و" إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " فقال علي للعباس: اصبر يا عم، فقد ترى ما وعد الله عز وجل على لسان نبيه. فقال العباس: يا علي فأين سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول يكون قبور الأنبياء؟ قال: في موضع فرشهم. قال: فكفنوه في قميصين أحدهما أرق من الآخر، وصلى عليه العباس وعلي صفاً واحداً. وكبر عليه العباس خمساً، ودفنوه. وعن عائشة قالت: رأيت في حجرتي ثلاثة أقمار، فأتيت أبا بكر فقال: ما أولتها؟ قلت: أولتها ولداً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسكت أبو بكر حتى قبض النبي فأتاها. فقال: هذا خير أقمارك ذهب به، ثم كان أبو بكر وعمر. دفنوا جميعاً في بيتها(2/405)
باب من زار قبره بعد وفاته كمن زار حضرته قبل وفاته
عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من حج بعد وفاتي وزار قبري كان كمن زارني في حياتي.
وعن حاطب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي. ومن مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة من الآمنين. وعن أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جاءني زائرا لم تزعه حاجة إلا زيارتي كان حقاً علي أن أكون له شفيعاً يوم القيامة. وعن علي بن أبي طالب قال: من سأل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدرجة الوسيلة حلت له شفاعتي يوم القيامة. ومن زار قبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في جوار رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من صلى علي عند قبري وكل الله بها ملكاً يبلغني، وكفي أمر دنياه وآخرته. وكنت له شهيداً وشفيعاً. وفي رواية: يوم القيامة.(2/406)
وعن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلى علي عند قبري سمعته. ومن صلى علي نائياً عنه أبلغته، وفي رواية: من بعيد، أبلغته. وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي. ومن زارني حتى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً أو قال: شفيعاً. وعن علي عليه السلام عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا تجعلوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي وسلم وا حيث ما كنتم، فإن صلاتكم وتسليمكم تبلغني حيثما كنتم. 0 وعن علي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن لله ملائكة يسبحون في الأرض يبلغوني صلاة من صلى علي من أمتي. وعن ابن عباس قال: ليس أحد من أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه صلاة إلا وهي تبلغه. يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة. وعن كعب الأحبار قال: ذكروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند عائشة فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا هبط سبعون ألف ملك، يضربون القبر بأجنحتهم ويحفون به، ويستغفرون له، وأحسبه قال: ويصلون عليه حتى يسموا. فإن أمسوا عرجوا، وهبط سبعون ألف ملك، يضربون القبر بأجنحته ويحفون به، ويستغفرون له. قال: وأحسبه قال: ويصلون عليه حتى يصبحوا. فكذلك حتى تقوم الساعة، فإذا كان يوم القيامة خرج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سبعين ألف ملك. وفي رواية: يزفونه.(2/407)
وعن سليم بن سحيم قال: رأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النوم قلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هؤلاء الذين يأتونك فيسلم ون عليك، اتفقه سلامهم؟ قال: نعم، وأرد عليهم. وعن محمد بن حرب قال: دخلت المدينة فأتيت قبر النبي فزرته وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا آخر الرسل، أن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه: " ولوأنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا لله واستغفر لهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لوجدوا الله تواباً رحيماً وإني جئتك مستغفراً ربك من ذنوبي، مستشفعاً فيها بك، ثم بكى وأنشأ يقول: من البسيط
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف. فرقدت فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في نومي وهو يقول: الحق الرجل فبشره بأن الله قد غفر له بشفاعتي. فاستيقظت فخرجت أطلبه، فلم أجده.(2/408)
ذكر كيفية الصلاة عليه
عن ابن مسعود الأنصار يقال: أتانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في مجلس سعد بن عبادة، فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نصلي عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى تمنينا أنه لم يسأله، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قولوا: اللهم صل على(2/409)
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم في العالمين. إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أحب أن يكتال بالميكال الأوفى إذا صلى علينا أهل البيت فليقل: اللهم صل على محمد وأمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد. وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لقيني كعب بن عجرة فقال: ألا أهدي لك هدية سمعتها من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: قلت: بلى. قال: فأهداها لي قال: سألنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلنا: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كيف الصلاة عليكم أهل البيت، فإن الله قد علمنا كيف نسلم؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. إنك حميد مجيد. وعن كعب بن عجرة قال: لما نزلت " إن لله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلم وا تسليما " فسألنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاة عليه فقال: يعني: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إن: حميد مجيد. وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد قال: ونحن نقول: وعلينا معهم. وعن بريدة الأسلمي قال: قلنا: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخبرنا كيف نصلي عليك0 فقد علمتنا كيف نسلم عليك. قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك ورحمك وبركاتك على محمد وعلى آل محمد كما جعلتها على إبراهيم. إنك حميد مجيد. وعن علي قال: من صلى على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهؤلاء الكلمات فقد صلى عليه بصلاة جميع الخلائق. قال: يقول: صلوات الله وملائكته وأنبياءه ورسله وجميع خلقه على محمد وعلى آل محمد وعليه وعليهم السلام ورحمة الله وبركاته. قال: من صلى عليه بهن كل يوم ثلاث مرات، ويوم الجمعة مئة مرة حشر يوم القيامة زمرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده حتى يدخله الجنة. وعن سلامة الكندي قال: كان علي يعلمنا الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم داحي المدوحات وبارئ المسموكات، وجبار القلوب على فطراتها، شقيها وسعيدها، اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك، ورأفة تحننك على محمد عبدك ورسولك، الفاتح لما أغلق، والخاتم لما سبق، والمعلن للحق بالحق، والدامغ جيشات الأباطيل كما حمل، فاضطلع بأمرك لطاعته، مستوفزا في مرضاتك لغير نكل في قدم، ولا وهي في عزم، واعيا لوحيك، حافظا لعهدك، ماضبا على نفاذ أمرك حتى أورى قبسا لقابس آلاء الله، يصل بأهله أسبابه به، فهديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم موضحات الأعلام، ونائرات الأحكام، ومنيرات الإسلام، فهو أمينك المأمون، وخازن علمك المخزون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة، ورسولك بالحق رحمة. اللهم أفسح له(2/410)
مفسحا في علاك أو عدنك، أو أجزه مضاعفات الخير من فضلك له، مهنئات غير مكدرات، من فوز ثوابك المحلول، وجزيل عطائك المغلول، اللهم أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم مثواه لديك 0 ونزله، وأتم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة، مرضي المقالة، ذا منطق عدل، وخطبة فصل، وبرهان عظيم. وعن عبد الله بن مسعود: إذا صليتم على رسول الله فأحسنوا الصلاة عليه، فإنكم لا تدرون لعل ذلك يعرض عليه. فقالوا: علمنا. قال: قولوا: اللهم اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك، إمام الخير وولد الخير، ورسول الرحمة. اللهم ابعثه مقاما محمودا، يغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك
حميد مجيد. د مجيد.(2/411)
ذكر ما أعده الله من الثواب لمن صلى عليه
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي واحدة. صلى الله عليه عشراً. وعن أنس بن مالك أن رسول الله قال من ذكرت عنده فليصل علي مئة. من صلى علي مرة صلى الله عليه عشراً وعن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلي علي صلاة صلى الله عليه عشر صلوات. وحطت عنه عشر خيطات. ورفع له عشر درجات. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صلوا علي، فإن الصلاة علي كفارة لكم، فمن صلى علي صلى الله عليه. وعن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما رأيت أسر وجها ولا أشرق لونا منك اليوم. قال: وما يمنعني وإنما خرج جبريل من عندي آنفاً؟ قال: يا محمد، من صلى عليك صلاة واحدة كتبت له بها عشر حسنات ورد عليه مثل ما صلى عليك. وعنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: من صلى عليك صلاة واحدة صلى الله عليه عشراً ورفعه عشر درجات. و(2/412)
عن أبي طلحة الأنصاري قال: دخلت على رسول الله.
فعرفت البشر في وجهه فقلت له: يا أبي أنت وأمي يا رسول الله، ما رأيتك قط أحسن بشراً منك اليوم. قال: وما يمنعني وهذا الملك بعثه الله آنفاً إلي وأؤمأ بيده يقول لي يا محمد، أما يرضيك ألا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه أنا وملائكتي عشراً، ولا سلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت أنا وملائكتي عليه عشراً؟ وعن أبي طلحة قال: دخلت على النبي وأسارير وجهه تبرق فقلت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما رأيتك أطيب نفساً ولا أظهر بشراً منك في يومنا هذا، فقال: ومالي لا تطيب نفسي ويظهر بشري وإنما فارقني جبريل الساعة وقال: يا محمد، من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحى عنه عشر سييآت، ورفعه عشر درجات، وقال له الملك مثلما قال: لك. قال: يا جبريل، وما ذاك الملك؟ قال: إن الله عز وجل وكل بك ملكاً من لدن خلقك إلى أن يبعثك لا يصلي عليك أحد إلا قال: وأنت صلى الله عليك. وفي رواية: ورد الله عليه مثل قوله. وعرضت علي يوم القيامة. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي في كل يوم جمعة أربعين مرة محى الله عنه ذنوب أربعين سنة ومن صلى علي مرة واحدة فتقبلت منه محى الله عنه ذنوب ثمانين سنة. ومن قرأ " قل هو الله أحد " أربعين مرة حتى يختم السورة بنى الله منارا في جسر جهنم حتى يجاوز الجسر. وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي صلاة تعظيماً لحقي جعل الله له من تلك الكلمة ملكاً، جناح له في المشرق وجناح له في المغرب، ورجلاه في تخوم الأرض وعنقه ملوى تحت العرش يقول الله له: صل الله على عبدي كما صلى على نبيي فيصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيصلي عليه إلى يوم القيامة.(2/413)
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: يا أيها الناس، إنا أنجاكم يوم القيامة من أهوالها ومواطنها أكثركم علي في دار الدنيا صلاة، إنه قد كان في الله وملائكته كفاية. إن الله قال: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلم وا تسليما " خص بذلك المؤمنين ليثبتهم عليه. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: من صلى علي كنت شفيعه يوم القيامة. وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كتب عني علماً، وكتب معه صلاة علي لم يزل في أجر ما قرئ ذلك الكتاب. وعن علي بن أبي طالب عن أبي بكر أنه قال: الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمحق للذنوب من الماء للنار، والسلام على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من عتق الرقاب. والزكاة على النبي أفضل من مهج الأنفس في سبيل الله عز وجل، وحب رسول الله أفضل من ضرب البيد في سبيل الله عز وجل. وعن عبد الرحمن بن عوف قال: كان لا يفارق رسول الله منا خمسة أو أربعة من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ينويه من الخروج بالليل والنهار. قال: فجئته وقد خرج، فاتبعته فدخل حائطاً من حيطان الأشراف، فصلى فسجد، فأطال السجود. قلت: قبض الله روحه. قال: فرفع رأسه فدعاني فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله، أطلت السجود، قلت: قبض الله روح رسوله، لا أراه أبداً. قال: سجدت شكراً لربي فيما أبلاني من أمتي: من صلى علي صلاة من أمتي كتب الله له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيآت وفي حديث آخر بمعناه: من صلى علي منهم صلاة كتبت له بغير حساب.(2/414)
وعن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً وفي وجهه السرور فقال: إن جبريل عليه السلام جاءني فقال: ألا أبشرك يا محمد بما أعطلك الله من أمتك وما أعطى أمتك منك: من صلى عليك منهم صلاة صلى الله عليه، ومن سلم عليك سلم الله عليه. وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أولاكم بي يوم القيامة أكثركم علي صلاة وعن عامر بن ربيعة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلى علي صلاة صلى الله عليه وملائكته، فليكثر عبد أو ليقل. وعن ابن عباس قال: ليس أحد من أمة محمد يصلي علي صلاة إلا وهي تبلعه. يقول له الملك: فلان يصلي عليك كذا وكذا صلاة وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي في كتاب لم تزل الصلاة جارية له مادام اسمي في ذلك الكتاب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة تستغفر له ما دام اسمي في ذلك
الكتاب. وعنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا من الصلاة علي فإنها لكم زكاة، وإذا سألتم الله فسلوه الوسيلة، فإنها أرفع درجة في الجنة، وهي لرجل، وأنا أرجو أن أكون. وعن الحسن بن علي بن أبي طالب قال: قالوا: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما معنى قول الله عز وجل: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلم وا تسليما " فقال: إن هذا من المكتوم،(2/415)
ولولا أنكم سألتموني ما أخبرتم، إن الله وكل بي ملكين، فلا أذكر عند عبد فيصلي علي إلا قال الملكان: غفر الله لك. وقال الله عز وجل؛ وملائكته جواباً للملكين: آمين. ولا أذكر عند عبد فلا يصلي علي إلا قال الملكان: لا غفر الله لك. وقال الله عز وجل وملائكته جواباً للملكين: آمين. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول ثم صلوا علي. فإن من صلى - يعني: علي - صلاة من صلىالله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله. وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة. وعنه قال: من صلى على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة صلى الله عليه وملائكته بها سبعين صلاة، فليقل من ذلك أو ليكثر. وعن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن الله أعطاني ملك من الملائكة يقوم على قبري إذا أنا مت، فلا يصلي علي عبد صلاة إلا قال: يا حمد، فلان بن فلان يصلي عليك، يسميه باسمه واسم أبيه، فيصلي الله عليه مكانها عشراً. وفي رواية أن الله عز وجل أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلق، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة، لا يصلي علي أحد صلاة إلا سماه باسمه واسم أبيه. وقال: يا حمد، صلى عليك فلان بن فلان، وكفل لي الرب أن أرد عليه بكل صلاة عشراً. وفي رواية فيصلي الرب على ذلك الرجل بكل واحدة عشراً وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تجعلوني كقدح الراكب. قال: قيل: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما قدح الراكب؟ قال: الراكب يملأ قدحه، فإذا أراد أن يشرب منه شرب، وإن أراد أن يتوضأ توضأ منه وإلا(2/416)
أهراقه. اجعلوني في أول الدعاء وأوسطه وآخره. وعن رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من صلى على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: اللهم، أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي. قال محمد بن المكرم: جامع هذا المختار هذا جدنا الذي ننتسب إليه رحمه الله. وعن مصعب بن عمير الأنصاري عن أبيه وكان بدرياً قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من صلى علي من أمتي صلاة مخلصاً من قلبه صلى الله عليه بها عشر صلوات، ورفعه بها عشر درجات، وكتب له بها عشر حسنات، ومحى عنه بها عشر سييآت، وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أكثروا علي من الصلاة في كل يوم جمعة، فإن صلاة أمتي تعرض علي في كل يوم جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاةً كان أقربهم مني منزلة. وعن أبي أمامة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من ذكرت عنده فلم يصل علي خطي به يوم القيامة من الجنة إلى النار. وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يجلس قوم مجلساً لا يصلون فيه على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كان حسرة، وإن دخلوا الجنة لما يرون من الثواب. وعن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما من عبد صلى علي صلاة إلا عرج بها ملاك حتى يجئ بها وجه الرحمن فيقول: اذهبوا بها على قبر عبدي تستغفر لصاحبها وتقر بها عينه. وعن عائشة قال: زيينوا مجالكم بالصلاة على النبي.(2/417)
وعن وهب بن منبهة قال: الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبادة. وعن الأصمعي قال: سمعت المهدي على منبر البصرة يقول: إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال: " إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلم وا تسليما أثرة أثره الله بها من بين الرسل، واختصكم بها من بين الأمم، فقابلوا نعمة الله بالشكر. وروى الواحدي بسنده عن سهل بن محمد بن سليمان قال: هذا التشريف الذي شرف الله تعالى به نبينا يقول: " إن الله وملائكته يصلون على النبي " أبلغ وأتم من تشريف آدم بأمر الملائكة بالسجود له، لأنه لا يجوز أن
يكون لله تعالى مع الملائكة في ذلك التشريف، وقد أخبر تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عم الملائكة بالصلاة عليه. فتشريف صدر عنه أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير جواز أن يكون الله معهم في ذلك. هـ تعالى مع الملائكة في ذلك التشريف، وقد أخبر تعالى عن نفسه بالصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عم الملائكة بالصلاة عليه. فتشريف صدر عنه أبلغ من تشريف تختص به الملائكة من غير جواز أن يكون الله معهم في ذلك.
قال الواحدي: وهذا الذي قاله سهل منتزع من قول المهدي، ولعله رآه ونظر إليه فأخذه منه وشرحه وقابل ذلك بتشريف آدم فكان أبلغ وأتم منه. والله أعلم.
/(2/418)
من اسم أبيه على حرف الألف
أحمد بن أحمد بن وركشين
أحمد بن أحمد بن يزيد بن وركشين - ويقال بركشين بن يركزان، أبو حفص البلخي المؤدب المعروف بأخي الرز.
سكن دمشق. روى عن الحسن بن عرفة بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر بين يديه النكاح والتزويج فقال: كل كفؤ، ما خلا حاكياً أو حجاماً. فقيل: يا رسول الله ما الحاكي؟ قال: المصور الذي يعمل الأصنام، فقيل: يا رسول الله، وما الحجام؟ قال: النمام وهو القتات.
وروى عن حماد بن المؤمل بسنده عن ابن عباس قال: كانت امرأة من بني خطمة تهجو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتحرض على أصحابه، فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومضه فقال: ألا رجل يكفينا هذه؟ فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله أكفيك. فأتاها، وكانت المرأة تمارة وهي في صفةٍ لها فقال لها: أعندك أجود من هذا التمر؟ قالت: نعم، فدخلت إلى بيت لها وانكبت لتأخذ شيئاً فالتفت يميناً وشمالاً فلم ير(3/5)
أحداً. فأخذ الإخوان، فجعل يضرب به رأسها حتى قتلها، ثم جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلما رآه قال: أفلح الوجه قال: قد قضيت حاجتك يا رسول الله. قال: أما إنه لا ينتطح فيها عنزان. قال: فأرسلها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلاً، ولم يتمثل بها أحد قبله.
مولده سامره، وأصله بلخ. وكان يؤذن في مسجد جامع دمشق، مات في سنة إحدى وثلاثين وثلاث مئة.
أحمد بن أبي أحمد الجرجاني
أحمد بن أبي أحمد - واسم أبي أحمد: محمد - أبو محمد الجرجاني.
سكن أطرابلس، وقدم دمشق وحدث بها.
روى عن حماد بن خالد الخياط عن شيوخه عن حبيب بن مسلمة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين: عربوا العربي وهجنوا الهجين، للفرس سهمان وللهجهين سهم.
وروى عن إسماعيل بن علية عن شيوخه عن عثمان قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة.
سكن حمص. وأحاديثه ليست بمستقيمة، كأنه يغلط فيها.
أحمد بن أبّا
أحمد بن أبا - ويقال محمد - أبو جعفر الكاتب.
ولي خراج مصر للطولونية، ثم ولاه أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون إمرة دمشق، فقدمها، ونزل دار الإمارة بها، وكان أميرها سعد الأيسر غائباً عنها. وكان ابن أبا(3/6)
حازماً ذا رأي، فلم يظهر ولايته خشية أن يحول سعد عن طاعة ابن طولون. فلما قدم سعد دمشق وخرج ابن أبا له عن القصر ثم أظهر ولايته.
ذكر أبو الحسن بن القواس الوراق أن أحمد بن أبا وبدر الحمامي دخلا بلاد الروم مع العجيفي صاحب ابن طولون غزاة في رجب سنة ثمانين ومئتين حتى بلغوا بلقسون.؟
أحمد بن إبراهيم بن حبيب البغدادي
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن حبيب - ويقال: ابن إبراهيم بن حبيب - بن عيسى، أبو الحسن الهمذاني البغدادي الزراد.
ورد دمشق حاجاً سنة عشرين وثلاث مئة.
روى عن طاهر بن الفضل بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: بنو سامة مني وأنا منهم، وحيثما رأيتموهم ففضلوهم واعرفوا لهم حقهم.(3/7)
قال الخطيب: أحمد بن إبراهيم بن حبيب بن عيسى أبو الحسن العطار، ويعرف بالزراد. كان يسكن باب المحول. ومات في سنة أربع وعشرين وثلاث مئة. وقيل في شعبان منها.
أحمد بن إبراهيم بن الحداد الأسدي
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عطية بن زياد بن مزيد بن بلال بن عبد الله البهي، مولى آل الزبير، أبو بكر بن الحداد الأسدي البغدادي.
نزيل تنيس. سمع بدمشق وغيرها.
روى أحمد بن إبراهيم بسنده عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
من تمسك بالسنة دخل الجنة، قلت: يا رسول الله، وما السنة؟ قال: حب أبيك وصاحبه يعني: عمر.
قال الخطيب: أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن محمد بن عطية بن زياد بن مزيد بن بلال بن عبد الله الأسدي، وعبد الله يعرف بالبهي، وهو الذي يروي عن عائشة. وكنية أحمد بن إبراهيم أبو بكر، ويعرف بابن الحداد. ولد بتنيس، ونشأ ببغداد وأبوه بغدادي، ونزل أبو بكر تنيس وحدث بها وبمصر.
ومزيد جده بالزاي والياء المعجمة باثنتين من تحتها.
مات أحمد بن إبراهيم الحداد بتنيس سنة أربع وخمسين يعني وثلاث مئة في صفر. وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومئتين.
أحمد بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني الشاهد
أحمد بن إبراهيم بن أحمد، أبو الحسن الأصبهاني الشاهد.
سمع بدمشق.
روى عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي ثابت العطار الدمشقي بسنده عن ابن عمر قال: قضى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العبد الآبق يؤخذ في الحرم بعشرة دراهم.
أحمد بن إبراهيم الرازي المعروف بابن الحطاب
أحمد بن إبراهيم بن أحمد، أبو العباس الرازي المعروف بابن الحطاب الفقيه الشافعي.
قدم دمشق مع أبيه إبراهيم بن أحمد، وسمع بها.(3/8)
روى بسنده عن عمر بن الخطاب قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرىء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
حدث محمد بن أحمد بن إبراهيم قال: كان والدي في سكرة الموت يقول لي: يا أبا عبد الله، ما لي في الدنيا حسرة غير أني مشيت في ركاب الشيوخ، وترددت إلى مجالسهم، وسافرت إلى أماكنهم بالحجاز واليمن والشام وديار مصر وغيرها. وها أنا أموت ولم يؤخذ عني كل ما سمعته على الوجه الذي أردته.
قال: وكان أبي من الثقات خيراً كثير المعروف. ذكر أنه حج سنة أربع عشرة، وأنه دخل اليمن وسمع بها، وقرأ القرآن بمكة ودمشق وغيرهما وانتقل إلى الإسكندرية في قحط مصر. وتوفي بها سنة إحدى وتسعين.
قال الحافظ: قرأت بخط غيث بن علي بن عبد السلام الصوري: سألت شيخنا أبا العباس أحمد بن إبراهيم الرازي عن مولده فذكر أن له نيفاً وستين سنة. قال: وكان سؤالي إياه في جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين باسكندرية.
أحمد بن إبراهيم بن أيوب أبو بكر الحوراني
روى عن عقبة بن مكرم بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا.
أحمد بن إبراهيم بن تمام بن حبان أبو بكر السكسكي
الفقيه المقرىء قاضي بعلبك.
روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال: أهدي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جرة من عسلٍ. فلما صلى الظهر أو العصر قال لنا: على(3/9)
أماكنكم، فألعق كل رجلٍ منا لعقةً. فلما أتى علي قال لي: يا جابر أزيدك؟ قلت: نعم، فألعقني أخرى، لصغري، قال: فما زال حتى أتى على آخر القوم.
توفي يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء ضحى نهار لثلاث عشرة ليلة من جمادى الأولى سنة إحدى وثمانين وثلاث مئة، ودفن في باب الفراديس بعد علة طويلة.
أحمد بن إبراهيم بن الحسن بن محمد
ابن شاذان بن حرب بن مهران، أبو بكر البزاز، والد أبي علي بن شاذان سمع بدمشق وبجبيل وبعرقة وبصور وبحمص وبالعراق.
روى عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك.
قال علي بن المحسن القاضي: قال: سمعت أبا بكر بن شاذان يقول: ولدت لسبع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومئتين.
وقال أحمد بن محمد العتيقي: سنة ثلاث وثمانين وثلاث مئة فيها توفي أبو بكر بن شاذان لثلاث عشرة ليلة بقيت من شوال، ثقةٌ، مأمون، فاضل، كثير الكتب، صاحب أصولٍ حسان.
قال أبو بكر الخطيب: أصله من دورق، سمع جماعة كثيرة سماهم وكان يجهز البز إلى مصر فسمع من شيوخها، وكتب عن الشاميين الذين أدركهم، وكان ثقة ثبتاً صحيح السماع كثير الحديث.
قال أبو ذر عبد بن أحمد الهروي:
ما رأيت ببغداد في الثقة مثل القواس وبعده ابن شاذان، فقال له وراقه: ولا(3/10)
الدارقطني؟ فقال: الدارقطني إمام ليس يعد منهم، قال: وكان ابن شاذان أوثق أصحابه وأحسنهم خلقاً، وكان يجيئه أهل الأدب من أولاد الكتاب يريدون أن يترفعوا علينا فيقول لهم: لست قاعداً بالأجرة أنا قاعد في داري أعمل ما أريد، هؤلاء الغرباء الفقراء قصدوني ولهم علي حق.
قال الزهري: سمعت ابن شاذان يقول: جاؤوني بجزء عن الباغندي فيه سماعي في سنة تسعٍ أو عشرٍ وثلاث مئة، ولم يكن لي منه نسخةٌ فلم أحدث به.
قال القاضي أبو القاسم التنوخي: سئل ابن شاذان: أسمعت من محمد بن محمد الباغندي شيئاً؟ فقال: لا أعلم أني سمعت منه شيئاً، ثم وجد سماعه من الباغندي فسألوه أن يحدث به فلم يفعل.
أحمد بن إبراهيم بن سعد الخير
ابن عثمان بن يحيى بن مسلمة بن عبد الله بن قرط، أبو عمر الأزدي روى عن عمه بسنده عن أبي هريرة قال: ما كان أحدٌ منا يقول على عهد عمر بن الخطاب: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا سيل ظهره دماً أو يجيب على ما قال نبيه.
قال الرازي: قدم جده عبد الله بن قرط على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: ما اسمك؟ قال: شيطان بن قرط، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت عبد الله بن قرط. وكانوا من أهل حمص فانتقلوا إلى دمشق. وله عم يقال له الخطاب بن سعد الخير وأبوه، لم يرو عنه غير أبي عمر.
مات في شعبان سنة ثلاثين وثلاث مئة.(3/11)
أحمد بن إبراهيم بن عبد الله القرشي
روى عن سليمان بن عبد الرحمن بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عليكم بالسواك فنعم الشيء السواك، يذهب بالحفر، وينزع البلغم، ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويذهب بالبخر، ويصلح المعدة، ويزيد في درجات الجنة، ويحمد الملائكة، ويرضي الرب، ويسخط الشيطان.
أحمد بن إبراهيم بن عبد الوهاب بن بشير
ابن عبد الله بن الحسن بن يزيد بن عبد الله أبو الطيب المعروف بابن عبادل الشيباني روى عن محمد بن عبد الله بن الحكم بسنده عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله لا ينزع العلم من الناس انتزاعاً ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
عبادل هو عبد الوهاب بن بشير، أخو عبد الرحمن بن بشير الشيباني الذي روى عن محمد بن إسحاق كتاب المغازي. كانوا أهل بيت علم، وكان فيهم جماعة محدثين.
ومات أحمد بن إبراهيم في رجب سنة ثلاثة وثلاثين وثلاث مئة.
أحمد بن إبراهيم بن فيل أبو الحسن
البالسي ثم الأنطاكي نزل أنطاكية.
حدث بأنطاكية سنة أربع وثمانين ومئتين عن أبي توبة الربيع بن نافع بسنده عن أبي هريرة: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن تلقي الجلب. قال: فإن تلقاه متلقٍ فاشتراه فصاحب السلعة فيها بالخيار إذا وردت السوق.(3/12)
وروى عن إسحاق بن سعيد بن الأركون بسنده عن أنس بن مالك.
أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها.
وروى عن أبي توبة الربيع بن نافع أيضاً بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل.
وفيل: جده بفاء مكسوة وياء منقوطة باثنتين من تحتها.
وتوفي أحمد بن إبراهيم بأنطاكية سنة أربع وثمانين ومئتين.
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله
ابن بكار بن عبد الملك بن الوليد بن بسر بن أبي أرطاة أبو عبد الملك القرشي البسري حدث عن أبيه وجده وجماعة.
وروى عنه أبو عبد الرحمن النسائي في سننه وقال: لابأس به. وجماعة أيضاً رووا عنه. وكان ثقة.
حدث عن موسى بن أيوب النصيبي بسنده عن عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن الله يحب الرفق في الأمر كله.
وحدث عن محمد بن عايذ بسنده عن مجاهد قال: خرجت إلى الغزو، أنا ورجل معي، فشيعنا عبد الله بن عمر، فلما أراد فراقنا قال: إنه ليس معي ما أعطيكماه، ولكن سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: إذا استودع الله شيئاً حفظه، وإني أستودع الله دينكما وأمانتكما وخواتيم أعمالكما.
قال أبو عيسى الخولاني: أملى علينا أبو عبد الرحمن النسائي أسماء شيوخه الذين روى عنهم فقال:
أحمد بن إبراهيم القرشي، دمشقي، لا بأس به.(3/13)
قال الهروي: في سنة تسع وثمانين ومئتين مات أبو عبد الملك القرشي. زاد غيره: يوم الخميس لسبع عشرة مضت من شوال.
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن صالح
ابن سنان أبو جعفر بن أبي إسحاق القرشي مولى بني مخزوم حدث عن أبيه بسنده عن يحيى بن حمزة الحضرمي قاضي المهدي قال: كتب إلي المهدي بعهدي، وأمرني أن أصلب في الحكم وقال في كتابه إلي: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن عبد الله بن العباس قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله وآجله، ولأنتقمن ممن رأى مظلوماً قدر على أن ينصره فلم يفعل.
وحدث عن أبيه أيضاً بإسناده إلى عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص قال: قيل للحجاج بن يوسف حين أجلى النبط من الأمصار إلى أصولهم: ما دعاك إلى إجلائهم؟ فقال: حدثني ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ما ازدادت النبط في الإسلام عزاً إلا ازداد الإسلام ذلاً. فذلك الذي دعاني إلى إجلائهم.
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم
ابن علي بن بندار بن عباد بن أيمن، أبو الحسين بن أبي إسحاق الدينوري حدث عن عثمان بن أبي بكر بن حمود السفاقسي بدمشق بسنده عن قيس بن عباد أنه انطلق إلى علي هو ورجل آخر يقال له الأشتر، فقالا: هل عهد إليك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهداً لم يعهده إلى الناس عامة؟ فأخرج كتاباً من قراب سيفه فقال: لا، إلا هذا، فإذا فيه: المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ألا(3/14)
ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده ومن أحدث حدثاً فعلى نفسه أولى، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة أجمعين. لا يقبل منه صرف ولا عدل.
توفي في يوم الاثنين الثالث عشر من شعبان سنة ثلاث وخمس مئة بدمشق.
أحمد بن إبراهيم بن موسى المصاحفي
سمع ببيروت.
حدث عن عمرو بن هاشم البيروتي بسنده عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إن لكل أمة يهوداً وإن يهود أمتي المرجئة.
أحمد بن إبراهيم بن هشام بن ملاس
ابن قسيم أبو عبد الله النميري، وقيل الغساني حدث عن زيد بن يحيى بن عبيد بسنده عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا كان ثلث الليل الباقي هبط الله تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل يسألني فأعطيه، هل من مستغفر يستغفرني فأغفر له، هل من تائب يتوب فأتوب عليه؟.
أحمد بن إبراهيم بن هشام بن يحيى
ابن يحيى أبو حارثة الغساني سيد الشام.
حدث عن أبيه عن جده عن أبي جده قال: كان عبد الملك كثيراً ما كان يجلس إلى أم الدرداء فوق المسجد بدمشق وهو خليفة(3/15)
يجلس إليها إذ أتاه غلام قد بعثه في حاجة فحبس عليه فلعنه فقالت له أم الدرداء: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا يدخل الجنة لعان.
حارثة بحاء مهملة وبعد الراء ثاء معجمة بثلاث.
أحمد بن إبراهيم بن يوسف بن داود
ابن سليمان بن أيوب بن سعيد بن سعد بن عبادة بن دحيم أبو الحسن الخزرجي ويعرف بابن اللحياني حدث عن أبي بكر أحمد بن عبد الله بن أبي دجانة بسنده عن أبي هند البجلي - وكان من السلف - قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من المغرب.
أحمد بن إبراهيم بن يونس بن محمد
ابن يونس أبو الحسين المقدسي الخطيب روى بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كذب علي في رواية الحديث فليتبوأ مقعده من النار.
توفي في يوم الخميس السابع عشر من ذي القعدة سنة سبع وتسعين وأربع مئة. وقيل مات يوم الأربعاء. وإنه ثقة.(3/16)
أحمد بن إبراهيم أبو جعفر الحلواني
حدث عن أحمد بن البختري الواسطي بدمشق بسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولد لنوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فولد لسام العرب والروم وفارس، وكلٌّ فيه خير، وولد لحام القبط والبربر والحبشة، وكلٌّ فيه خير، وولد ليافث يأجوج ومأجوج والترك والخزر، وكلٌّ لا خير فيه.
أحمد بن إبراهيم أبو العباس البغدادي المقرىء
وراق خلف بن هشام. قرأ القرآن بدمشق على هشام بن عمار وبغيرها على خلف بن هشام البزار وحدث عنه وعن جماعة.
حدث عن خلف بن هشام قال: سمعت خلفاً يقول: قدمت الكوفة فصرت إلى سليم بن عيسى فقال لي: ما أقدمك؟ قال: قلت: أقرأ على أبي بكر بن عياش بحرف عاصم. قال: فقال لي: لا يريد. قال: قلت: بلى. قال: فدعا ابنه وكتب معه رقعةً إلى أبي بكر بن عياش ولم أدر ما كتب فيها، قال: فأتينا منزل أبي بكر، فاستأذن عليه ابن سليم فدخل فأعطاه الرقعة، وكان لخلف سبع عشرة سنة. قال فلما قرأها قال: أدخل الرجل، قال: فدخلت، فسلمت عليه. قال فصعد في النظر ثم قال لي: أنت خلف؟ قال: قلت: نعم، أنا خلف، قال: أنت لم تخلف ببغداد أحداً أقرأ منك؟ قال: قلت: لا والله لا أقرأ على رجل يستصغر رجلاً من حملة القرآن. قال: ثم تركته، وخرجت. قال: فوجه إلى سليم يسأله أن يردني إليه قال: فلم أرجع. قال: فقدمت، واحتجبت فكتبت قراءة عاصم عن يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش وكان أحمد بن إبراهيم البغدادي ثقة. صنف كتاباً في عدد آي القرآن وذكر في قراء أهل مدينة السلام. قال: وكان أحد الحذاق(3/17)
أحمد بن إبراهيم أبو سليمان الحراني
قدم دمشق.
حكى عنه كعب بن عمرو بن جعفر الخنجري، قال: سمعت أحمد بن إبراهيم الحراني يقول: نمت في بعض المساجد بدمشق فرأيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال لي: يا أبا سليمان، لم إذا استفتحت الصلاة لا تبتدىء ببسم الله الرحمن الرحيم؟ فإن بسم الله الرحمن الرحيم تسعة عشر حرفاً تدع في كل استفتاحك مئة وتسعين حسنة. وإذا صليت علي في الكتاب لا تكتب وسلم تدع أربعين حسنة. قلت: كيف: ذلك يا رسول الله؟ قال: لأن وسلم أربعة أحرف، لكل حرف عشر حسنات فتلك أربعون حسنة.
أحمد بن إبراهيم أبو بكر البيروتي المؤدب
أنشد بمصر لإبراهيم الخواص: الطويل
صبرت على بعض الأذى خوف كله ... ودافعت عن نفسي لنفسي فعزت
وجرعتها المكروه حتى تدربت ... ولو جرعته جملة لاشمأزت
ألا رب ذلٍ ساق للنفس عزةً ... ويا رب نفسٍ بالتعزز ذلت
إذا ما مددت الكف ألتمس الغنى ... إلى غير من قال اسألوني فشلت
سأصبر نفسي إن في الصبر عزةً ... وأرضى بدنياي وإن هي قلت
أحمد بن إبراهيم أبو بكر الصوفي
الشيخ الصالح حدث بدمشق روى عن أبي بكر بن أحمد بن خروف بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من سره أن يجد حلاوة الإيمان فليلبس الصوف(3/18)
أحمد بن إبراهيم أبو العباس الحلبي الصفار
روى عن القاضي أبي الحسين محمد بن جعفر بن أبي الزبير المنبجي بحلب بسنده عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أولكم وروداً على الحوض أولكم إسلاماً: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
أحمد بن إبراهيم أبو بكر السميرمي
وسميرم: مدينة من أعمال أصبهان.
حدث في جامع ميافارقين في المحرم سنة سبع وأربع مئة بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم.
أحمد بن الأزهر بن منيع بن سليط
أبو الأزهر العبدي النيسابوري سمع بدمشق وغيرها عن جماعة أعيان.
وروى عن مسلم والبخاري وغيرهم.
حدث أبو الأزهر بسنده عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قرأ الرحمن على الناس سكتوا فلم يقولوا شيئاً، فقال(3/19)
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: للجن كانوا أحسن جواباً منكم، لما قرأت عليهم " فبأي آلاء ربكما تكذبان " قالوا: ولا بشيء من آلائك نكذب ربنا.
وحدث أبو الأزهر عن عبد الرزاق بسنده عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى علي فقال: أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة، من أحبك فقد أحبني، ومن أبغضك فقد أبغضني، وبغيضي بغيض الله، والويل لمن أبغضك بعدي.
قال أبو الأزهر:
كان عبد الرزاق يخرج إلى قرية له فذهبت خلفه فرآني وأنا أشتد خلفه فقال لي: يا أبا الأزهر، تعال، فاركب خلفي فحملني خلفه على البغل، ثم قال لي: ألا أخبرك حديثاً غريباً؟ قلت: بلى. فحدثني الحديث. فلما رجعت إلى بغداد أنكر علي يحيى بن معين وهؤلاء فحلفت ألا أحدث به حتى أتصدق بدرهم.
قال أحمد بن يحيى بن زهير التستري: لما حدث أبو الأزهر النيسابوري بحديثه عن عبد الرزاق في الفضائل أخبر يحيى بن معين بذلك. فبينا هو عنده في جماعة أهل الحديث إذ قال يحيى بن معين: من هذا الكذاب النيسابوري الذي حدث عن عبد الرزاق بهذا الحديث؟ فقام أبو الأزهر فقال: هو ذا أنا، فتبسم يحيى بن معين وقال: أما إنك لست بكذاب وتعجب من سلامته، وقال: الذنب لغيرك في هذا الحديث.
قال الشرقي: وبعض هذا الحديث سمعته من أبي الأزهر. وأبو الأزهر هذا كتب الحديث فأكثر، ومن أكثر لابد أن يقع في حديثه الواحد والاثنان والعشرة فما ينكر.(3/20)
وقال الشرقي: قيل لي وأنا أكتب الحديث في بلدي: لم لا ترحل إلى العراق؟ فقلت: وما أصنع بالعراق وعندنا من بنادرة الحديث ثلاثة: محمد بن يحيى الذهلي، وأبو الأزهر أحمد بن أبي الأزهر، وأحمد بن يوسف السلمي فاستغنينا بهم عن أهل العراق.
قال ابن عدي: وأبو الأزهر هذا بصورة أهل الصدق عند الناس، وقد روى عنه الثقات من الناس. وأما هذا الحديث عن عبد الرزاق فعبد الرزاق من أهل الصدق وهو ينسب إلى التشيع، فلعله شبه عليه لأنه شيعي.
سئل أبو حامد بن الشرقي عن حديث أبي الأزهر عن عبد الرزاق عن معمر في فضائل علي فقال أبو حامد: هذا حديث باطل. والسبب فيه أن معمراً كان له ابن أخ رافضي، فكان معمر يمكنه من كتبه، فأدخل عليه هذا الحديث. وكان معمر رجلاً مهيباً لا يقدر عليه أحد في السؤال والمراجعة فسمعه عبد الرزاق في كتاب ابن أخي معمر.
قال أبو الأزهر النيسابوري: أنكر علي يحيى بن معين حديث عبد الرزاق في فضل علي. فلما أخبرته بقصتي معه اعتذر إلي غير مرة، وتعجب من حسن ذلك الحديث.
قال مكي بن عبدان: سألت مسلم بن الحجاج عن أبي الأزهر فقال: اكتب عنه قال أبو الأزهر: كتب عني يحيى بن يحيى.(3/21)
وقرىء بخط أبي عمرو المستملي قال: سألت محمد بن يحيى عن أبي الأزهر فقال: أبو الأزهر من أهل الصدق والأمانة. نرى أن يكتب عنه. قالها مرتين.
كان إبراهيم بن أبي طالب يقول: رحم الله أبا الأزهر كان من أحسن مشايخنا حديثاً.
قال أحمد بن سنان في ذكر مشايخ نيسابور: وأحمد بن الأزهر العبدي من مواليهم، كتب عن الناس، حسن الحديث.
مات في أول سنة إحدى وستين ومئتين.
وقال الحسين بن محمد القباني: توفي أبو الأزهر العبدي في سنة ثلاث وستين ومئتين.
أحمد بن إسحاق بن إبراهيم
ابن محمد بن سلم أبو بكر الملحمي الخزاعي القاضي البغدادي سمع بدمشق وبغيرها.
حدث عن محمد بن عبد الرحمن بن بجير الكلاعي بسنده عن ابن عباس عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من مات محرماً مات ملبياً.
وحدث بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إذا كان يوم القيامة يدعو الله بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسأله عن جاهه كما يسأله عن ماله.
وتوفي سنة ثمان وعشرين وثلاث مئة.(3/22)
أحمد بن إسحاق بن إبراهيم
أبو الطيب الربعي الدمشقي حدث عن القاضي أبي القاسم عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني قال:
كان لأبي إبراهيم المزني رفيق معه في البيت يعرف بأبي عبد السلام، وكانا يتفقهان ويتعبدان جميعاً، وكان لهما صديق من المصريين حسن العقل حسن المذهب، متحر في تجارته وكانت له دنيا عريضة، فكان يجهد أن يبرهما بشيء فلا يقبلان منه، فاحتال عليهما يوماً بحيلة فحمل إليهما كيساً فيه ألف دينار ثم قال لهما: يا أخواي أنتما تعلمان أني لو شاطرتكما مالي كنت مسروراً بذلك، ولكن لست أطمع منكما في ذلك وهذه ألف دينار تقبلانها مني قرضاً وتدفعانها إلى من شئتما، وإلا فرداها علي حتى أكون أنا الذي أتجر بها فما رزق الله فيها من ربح كان لكما، ويكون رأس المال لي فتكونان قد انتفعتما بلا مذلة وانتفعت أنا بلا مضرة، فقال أبو عبد السلام للمزني: يا أبا إبراهيم، قد لطف بنا صاحبنا، وما ينبغي أن نأبى عليه فقبضا منه الألف دينار. وكان لهما صديق يكنى أبا يعقوب، وكان أحد المتخلين وكان مأواه السواحل، فبلغه ذلك فساءه فأخذ رقعة فكتب إليهما فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. أسعدكما الله بما ينجيكما، وعصمكما مما يرديكما، وجعل الجنة مصيركما، وموعدكما، وأعطانا مثل ذلك بمنه. أما بعد، فإن في علو ما أفل من الدنيا وأفول ما علا منها لأولي الألباب بالثقة عن الفضول مزدجر، وفي حطم العتاة الجبارين معتبر، وما تغني الآيات والنذر إلا لأولي الأفكار والنظر، ومسالمة البغاة إلى تقحم الشبهات مدعاة، والشبهة للقلوب مقساة، والقسوة أضر أدواء المحدثين وأنتح أسباب الضلالات، فلا تذهبا عما تعلمان فإنه من يزدد نشباً يزدد تعباً، والأرض لله، يورثها من يشاء من عباده، وإنما هي على المؤمنين مطابق وسجون، ما لمؤمنٍ فيها فرح إلا التردد فيما بين المطبقين والتنقل فيما بين السجنين. والسلام.
فلما قرآ كتابه علما ما نبههما له، وكانا لم يتجرا في الألف دينار ولم يمساها فحملاها إليه وساءلاه أن يعفيهما فأعفاهما.(3/23)
أحمد بن إسحاق بن صالح بن عطاء
أبو بكر الوزان من أهل بغداد. سمع بدمشق وغيرها.
حدث عن أمية بن بسطام بسنده عن جبير بن مطعم قال: مر علي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقصر رأسه قال: دخلت العمرة في الحج لا ضرورة.
وروى بسنده عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره.
سكن بسامراء. وكان صادقاً، وقال الدارقطني: لابأس به.
ومات بسر من رأى في سنة إحدى وثمانين ومئتين. وقيل: في أول يوم من المحرم يوم سبت.
أحمد بن إسحاق بن محمد بن أحمد
ابن إسحاق بن عبد الرحمن بن يزيد بن موسى، أبو جعفر الحلبي. قاضي حلب قدم دمشق. وولي قضاء حلب في أيام سيف الدولة بن حمدان، وكان حنفي المذهب ويلقب بالجرد. حدث بحلب وببغداد.
روى عن علي بن أحمد الجرجاني بسنده عن قتادة عن أنس أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تختم في يمينه.
وروى أيضاً بسنده عن علي بن أبي طالب عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن العبد بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر.
قدم بغداد وحدث بها وبمصر ومات بدمشق.(3/24)
أحمد بن إسرائيل بن الحسين
أبو جعفر الكاتب كان يكتب للمعتز في خلافة ابنه المتوكل، وقدم معهما دمشق. ثم استوزره المعتز بعد ذلك، وكان ضابطاً لأموره جزلاً موصوفاً بالذكاء. ثم نفاه المستعين سنة ثمان وأربعين إلى حلب. وولي ديوان الخراج للمتوكل والمنتصر. وكان ولي في أيام المستعين خراج أنطاكية.
قال أحمد بن إسرائيل: صرت يوماً إلى عبد الله بن يحيى بن خاقان، فلما صرت في صحن الدار رأيته مضطجعاً على مصلاه مولياً ظهره باب مجلسه، فهممت بالرجوع، فقال لي الحاجب: ادخل فإنه منتبه، فلما سمع حسي جلس فقلت: حسبتك نائماً! قال: لا، ولكني كنت مفكراً. قلت: في ماذا أعزك الله؟! قال: فكرت في أمر الدنيا وصلاحها في هذا الوقت واستوائها ودرور الأموال وأمن السبل وعز الخلافة، فعلمت أنها أمكر وأنكر وأغدر من أن يدوم صفاؤها لأحد. قال: فدعوت له وانصرفت. فما مضت أربعون ليلة منذ ذلك اليوم حتى قتل المتوكل ونزل به من النفي ما نزل.
قال أبو الحسين محمد بن القواس قال:
ضرب أحمد بن إسرائيل وأبو نوح عيسى بن إبراهيم على باب العامة بالسياط كل واحد منهما خمس مئة، وحملا إلى منزل محمد بن علي السرخسي فمات أحمد بن إسرائيل في الطريق سنة خمس وخمسين ومئتين، ومات عيسى بن إبراهيم في دار السرخسي.
أحمد بن إسماعيل بن القاسم
ابن عاصم أبو جعفر وقيل أبو بكر الصدفي المصري العطار الحافظ دخل دمشق وسمع بها.(3/25)
حدث عن عمران بن الخطاب بن مسافر التنيسي بسنده عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن مثل الذي يرجع في صدقته كمثل الكلب يقيء، ثم يرجع في فيه فيأكله.
وحدث عن روح بن الفرج بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: سئل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، وبر الوالدين، والجهاد في سبيل الله، ولو استزدته لزادني.
توفي ليلة الأربعاء لثلاثة عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وثلاث مئة.
أحمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله
ابن أبي البختري وهب بن وهب ويقال: ابن إسماعيل بن محمد بن أبي البختري وهب بن وهب، أبو علي القرشي الصيداوي.
حدث عن أبيه بسنده عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سيد طعام أهل الدنيا وأهل الجنة اللحم.
أحمد بن أصرم بن خزيمة بن عباد
ابن عبد الله بن حسان بن عبد الله بن مغفل، أبو العباس المغفلي المزني من أهل البصرة، قدم دمشق، وحدث بها وببغداد ومصر عن جماعة.
حدث عن أبي إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم الترجماني بسنده عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن في المعاريض لمندوحةً عن الكذب.
وحدث بسنده عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: كل أمة بعضها في النار وبعضها في الجنة إلا هذه الأمة فإنها كلها في الجنة.
خرج من مصر وتوفي بدمشق في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين ومئتين.(3/26)
أحمد بن أصرم بن طاهر بن محفوظ
أبو حامد السجستاني سمع بدمشق وبالبصرة.
روى أبو حامد أحمد بن أصرم بن طاهر السجزي بمكة بسنده عن أبي بكر بن دريد قال: المنسرح
لا تحتقر عالماً وإن قصرت ... ألحاظه في عيون رامقه
وانظر إليه بعين ذي أدبٍ ... مهذب الرأي في طرائقه
فالمسك بينا تراه ممتهناً ... في يد عطاره وساحقه
حتى تراه بعارضي ملكٍ ... أو موضع التاج من مفارقه
أحمد بن أنس بن مالك
أبو الحسن الدمشقي المقرىء روى عن جماعة. وروى عنه جماعة. وقرأ القرآن بحرف ابن عامر على ابن ذكوان. وكان ثقة.
حدث عن عمرو بن محمد بن الغاز الجرشي بسنده عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا هام ولا صفر ولا عدوى.
توفي سنة تسع وتسعين ومئتين.(3/27)
من اسم أبيه على حرف الباء
أحمد بن بحر اللخمي
حدث عن منبه بن عثمان بسنده عن عائشة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: من أكل سبع تمرات عجوةٍ من تمر العالية حتى يصبح لم يضره سحر، ولا سم حتى يمسي.
أحمد بن بشر بن حبيب بن زيد
أبو عبد الله الصوري التميمي المؤدب قدم دمشق وحدث بها عن جماعة. وحدث عنه جماعة.
حدث عن محمد بن يحيى التميمي بسنده عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما رزق عبد أربعاً فحرم أربعاً: لم يرزق الدعاء فيحرم الإجابة لأن الله تعالى يقول " ادعوني أستجب لكم " ولم يرزق التوبة فيحرم القبول وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده " ولم يرزق الشكر فيحرم المزيد وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول " لئن شكرتم لأزيدنكم " ولم يرزق الاستغفار فيحرم المغفرة وذلك أن الله تعالى يقول: " استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ".(3/28)