[مقدمة الكتاب]
الملك عبد العزيز آل سعود أمة في رجل(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55] (النور 55)(1/3)
مقدمة تعد الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني: حياتهم، وإِنجازاتهم، وأثرهم في مجتمعاتهم أو شعوبهم، أو في الفكر الإِنساني عامة، عملا شاقا، وهو في مشقته تلك، أشد على الكاتب من تحرير أحداث التاريخ، ووقائعه في عصر معين، أو مجتمع بذاته؛ لأن أحداث التاريخ واقع، وكذلك أثر الحدث، فيسهل تقويمه، والحكم عليه.
وذلك خلاف سير العظماء، من الملوك والرؤساء والعلماء وأصحاب الفكر، فالأحداث فيها تتصل بأشخاصهم اتصال المسبب بالسبب، أو اتصال الفكر بالعمل، والمؤثر بالأثر، ناهيك عن أن سير العظماء تكتب للتاريخ، كما تكتب للنظر والاعتبار، وتكتب كذلك اعترافا بالفضل وإِشادة بصاحبه، وقد تكتب على خلاف ذلك، إِنكارا للفضل، أو بخسا لصاحبه.
* وفيما عدا سير الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لاسيما ما ورد عنها في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، فإِن سير عظماء التاريخ تختلف فيها الوقائع والأحداث في النسبة والأثر، وهي في التقويم(1/5)
والتحليل أكثر اختلافا؛ لدخول العامل الشخصي في ذلك، وأهم عنصر في ذلك التقويم، هو معيار العظمة ذاتها.
فالعظمة الإِنسانية، وهي بمعنى التميز والتفرد والتفوق، تختلف فيها المعايير، وتتعدد فيها الموازين.
إِن الكثيرين ممن يتحدث الناس عن تميزهم، وتفردهم، وتفوقهم في مجال معين، مثل مجال الحكم، والسلطان، والقوة، أو العلم، أو مجال العمل والإصلاح، أو مجال الفكر الإِنساني بعامة، قد يجردهم البعض من صفة التفرد أو التفوق، بحسب موازينه ومعاييره في النظر والتحليل والتقويم، وقد يمنحهم البعض أكثر مما يستحقون، بحسب ما يأخذ به من معايير وموازين تسود في مجتمع بذاته، أو عصر بعينه، ناهيك عن العاطفة والهوى.
فالمعيار أو الميزان الذي توزن، وتقوم به الأعمال وأثرها، ويحكم في شأن شخص من الأشخاص ليس واحدا في كل الأزمنة والأمكنة، فقد عاش الكثيرون من الملوك والحكام والسلاطين، ومن أصحاب الفكر الإِنساني عامة، ودعاة الإِصلاح وأهل العلم في المجتمعات الإِنسانية، عصرهم، وتمتعوا فيه بالتقدير البالغ والشهرة الذائعة، وأسبغت عليهم أوصاف العظمة والتفرد والتميز، ثم جاء عصر بعد عصرهم كشف عن حقيقتهم، وأبان خطأ العالم، أو تهافت الفكر، أو غرور القوة، أو زيف الادعاء والشهرة، وهو أمر يدعو إِلى محاولة التعرف على ميزان ومعيار(1/6)
إِنساني شامل، يتعرف من خلاله- عند دراسة سير الملوك والعظماء، وأصحاب الفكر الإِنساني، ودعاة الرشاد والإِصلاح- على العناصر الحقيقية التي يتحقق بها التفرد والتميز والتفوق في إِنسان، بحيث تبقى سيرتّه على توالي الأجيال صادقة في حقيقتها، وحافظة لقيمتها، ومعبرة عن تفوقها، وتميزها وتفردها، بحسب ذلك الميزان العادل والمعيار الإِنساني الشامل.
فوجود الميزان والمعيار، هو الذي يؤكد التفوق والتفرد؛ فإِن بعض كتاب السير، أو بعض المؤرخين إِذا صادفهم حدث أو واقعة أو صفة ثابتة فيمن يكتبون عنه، أو يؤرخون له، ولا يجدون لها نسبة في عناصر التفرد والتميز والتفوق الإِنساني، تعللوا بأن " العظمة لا تخضع لقانون " ظنا منهم أنهم يدفعون بذلك القول التقويم الحقيقي، والحكم العادل في شأن ذلك الحدث، أو تلك الصفة فيمن يكتبون عنه، مع أن العظمة والتفرد والتفوق، لا بد أن يؤكدها المعيار والميزان القويم.
إِن العظمة المطلقة، هي عظمة الله- عز وجل- فهو سبحانه- كما وصف نفسه- العلي العظيم، ولا بد من وجود مقياس لكل عظيم من البشر، وهو- سبحانه- الذي يبين الموازين في الفطرة الإنسانية، وفي السنن الاجتماعية للناس، وفي القيم الأخلاقية، وموازين الأعمال والمقاصد في أحكام الشرع، وحين تقاس عناصر التفرد والتميز والتفوق الإِنساني، على أساس فطرة الله، وسننه الاجتماعية، والقيم الأخلاقية، وموازين الشرع، تبقى تلك العناصر معبرة أصدق تعبير عن العظمة(1/7)
الإِنسانية، وتظل على توالي الأجيال، واختلاف الأزمنة والأمكنة، باعتبار أن أصحابها مثل إِنسانية عامة، في تفردهم وتميزهم وتفوقهم في مجال الحكم والسلطان، أو مجال الإِصلاح الاجتماعي، أو الفكر الإِنساني عامة في كل فروع العلم والمعرفة.
* إِن اتخاذ الميزان الصحيح في اكتشاف عناصر التفرِد والتميز والتفوق، يعني أن تظل تلك العناصر والميزات نبراسا دائما أمام الأجيال؛ لأن ميزانها الذي وزنت به، لا يتغير، ولا يتقادم به العهد، أو تستبعده الأهواء أو الظروف والأحوال، فقد غير التاريخ والمؤرخون نظرتهم إِلى كثير من الأحداث، والعديد من الأشخاص من عظماء التاريخ، حين تغيرت قيم اجتماعية عديدة على مر الأزمان، وزالت ظروف وأحوال كانت تعطي الأحداث أو الأشخاص أهمية زائفة أو بطولة كاذبة، ولم يبق من أهمية الحدث أو أثره أو سيرة الشخص، غير ما يفرض بقاءه ميزان سليم في تقرير أهمية الأحداث وميزات الأشخاص، وقد حاول كتاب كثيرون اكتشاف ذلك الميزان في سير العظماء والمصلحين.
* وفي كتاب توماس كارلايل الأمريكي عن "البطولة والأبطال " محاولة لاكتشاف موازينها وعناصرها، ولكنها- بلا شك- موازين محكومة بزمانها ومكانها وثقافتها، ونظرتها الذاتية للأمور، وهي ليست حاكمة، وليست شاملة. كما أن مايكل هارت، وهو كاتب أمريكي في كتابه " الخالدون مائة أعظمهم محمد " الذي صدر منذ سنوات، جعل الأهمية كلها للأثر الكبير الذي خلفه " العظيم " في مجتمعه، أو في شعب، أو دولة، أو العالم كله في القديم، أو الحديث.
وفي الكتاب حقيقة ناصعة بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين،(1/8)
هو أول المائة الذين اختارهم المؤلف، وهي حقيقة بكل الموازين، حتى لدى غير المسلمين، وهي يقين لدى المسلمين في إيمانهم بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي وصفه الله تعالى بعظمة الخلق فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (القلم 4) وفي إِيمانهم بأن شريعته هي الخاتمة، الصالحة لكل زمان ومكان، وأنه لا يجوز أن يعبد الله بغيرها إِلى قيام الساعة، وفي ضخامة الأثر الذي أحدثته الرسالة الإلهية الخاتمة، رسالة الإِسلام، التي حملها إِلى الناس رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.
لقد فرض هذا الأثر الذي أحدثه الإِسلام في بني الإِنسان عامة- ومع اختلاف الأزمنة والأمكنة- أن يكون الإِسلام بمبادئه أعظم ما تأثر به العالم في حياته من عقائد وقيم ومثل عليا وأحكام تنظم شؤون البشر، وأن يكون الرسول الخاتم للنبوات والرسالات محمد، صلى الله عليه وسلم، أعظم الناس خلقا، وأطهرهم سيرة، وأبقاهم ذكرا على مر الزمان، وإِلى أن تقوم الساعة، وأوجب الله أن تخرج سيرته صلى الله عليه وسلم من دائرة التاريخ، فتظل قدوة دائمة أمام المسلمين على مر العصور واختلاف الديار، فليس بين المسلمين من يعتبر أحداث حياة الرسول ووقائعها وسنته، بل وكل تصرفاته القولية والفعلية، تاريخا، كما هو الشأن بالنسبة لكل العظماء من بني الإِنسان.
إِن حياة محمد صلى الله عليه وسلم وما فيها من وقائع وأحداث وأقوال وأفعال، تبقى دائما أمام المسلمين حية في نفوسهم، وهي- بعد أن سجلت بأوفى ما سجلت به حياة إِنسان وأدقه- المثل الأعلى الذي لا يدرك أمام آلاف الملايين من البشر. هنا نجد أعظم الأثر إِلى جانب أطهر السير.
لقد تناول بعض الكتاب سير الكثيرين من عظماء التاريخ الإنساني وفق مناهج متعددة، وبحسب نظرتهم إِلى حياة الشخص الذي يَكتبون عنه، وما تميزت به حياته، أو صفاته من أحداث وآثار.(1/9)
ومن ذلك ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد في كتبه المعروفة "بالعبقريات " التي عرض فيها لحياة عظماء في التاريخ الإِنساني، كأبي بكر، وعمر، وكبار الصحابة- رضي الله عنهم- كما عرض لحياة شخصيات إِسلامية عظيمة القدر في مجالات تفردها وتفوقها، مثل خالد بن الوليد، رضي الله عنه، وهو في منهجه ينحو إِلى التحليل، ومعرفة ما يميز الشخصية التي يتحدث عنها. ومن بين الميزات العديدة والصفات الحميدة التي تجمعها هذه الشخصية التي تنتمي إِلى أعز فترات الإِسلام، عصر الصحابة، يختار الأستاذ العقاد صفة أو ميزة تظهر متفردة وبارزة على سائر الميزات في حياة تلك الشخصية الرفيعة القدر يتفرد بها، ولكنها لا تخفي سائر الميزات، ولا بقية الصفات التي تكون في مجموعها ما أسماه الأستاذ عباس العقاد - رحمه الله- "عبقرية" امتازت بها، وتفوقت تلك الشخصية في عصرها وآثارها على غيرها من الأفراد والأقران.
* لقد أشرنا إِلى طرق ومناهج متعددة ومتنوعة في الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني، وهي كتابات قد لا يقصد بها مجرد التاريخ لحياة إِنسان أو أحداثها الجسام؛ لأن كتابة التاريخ، لها ضوابط وموازين، قد لا تتقيد بها الكتابة عن هؤلاء العظماء.
وليس تجميع الوثائق من مصادرها، والتحقق من سلامتها فقط، هو الأمر الحاسم، لاسيما حين تكون الكتابة عن شخصية معاصرة كتب عنها في حياتها الكثير، وعرف الناس أحداث حياتها كتابة ومشافهة، وقد يكون من الأحياء من عاصر الشخص، وعرف صفاته، وتأثر به، وقد(1/10)
تكون آثار هذه الشخصية وأثرها في مستوىالمجتمع الذي عاش فيه، وعلى المستوىالإِنساني، ظاهرة لم تغير منها الظروف والأحوال.
عندئذ تكون الكتابة عن هذه الشخصية أقرب إِلى الصدق، وأكثر دلالة على الحقيقة حتى في التقويم والتحليل، فحياة صاحبها الشخصية كانت ظاهرة أمام الناس، وأحداث هذه الحياة قريبة منهم، بل ربما شهدها بعض الأحياء. أما الأثر الذي خلفته هذه الشخصية فهو واقع يعيشه الناس، لم يغير منه تقادم العهد، أو مرور الزمن، وربما تتغير صورة الواقع الذي يعيشه الناس في مجتمع معين دون أن يتغير جوهره، ويبقى ارتباط هذا الواقع بحياة إِنسان- هو الذي أسسه وأقامه- ماثلا في أذهان الناس، وهنا يتصل الواقع بالتاريخ، ويكون أكبر دليل على صدقه وسلامته، ونجد ذلك ظاهرا لا يحتاج إِلى إِثبات في سيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله.
* قد يكون للمؤرخين والمتخصصين في الكتابة التاريخية، منهج علمي يضمن سلامة روايتهم للأحداث، وتقويمهم للأشخاص، لاسيما حين يؤرخون لأحداث مضى على وقوعها قرون، أو يكتبون سيرة أشخاص مضى على وفاتهم مئات أو آلاف السنين، ولكن الكتابة عن أحداث قريبة تتصل بالواقع المعيش، أو عن حياة أشخاص مازال بعض شهود حياتهم أحياء، لا يحتاج في توثيقها، وفي تقويم أحداثها إِلى جهد كبير، وإِنما تكون الحاجة أشد إِلى التحلي بروح الإِنصاف والعدل في الرواية، وإِلى الحيدة والنزاهة في التحليل والتقويم، لاسيما حين تكون الكتابة عن أحداث يعيش المؤرخ أو الكاتب آثارها، أو عن حياة أحد(1/11)
عظماء التاريخ الذين التزموا في حياتهم منهجا خلقيا وسلوكيا، له في فكر المؤرخ أو الكاتب أعظم التقدير، هنا تبدو الحاجة إِلى التخلي عن دواعي الميل الشخصي، وهو أمر وارد بحكم ارتباط الكاتب أو المؤرخ بواقعه، وتأثره بمشاعره نحو شخصية يحس نحوها بالإِجلال والتقدير.
* في الكتابة عن سيرة الملك عبد العزيز - رحمه الله- يصلح المنهج العلمي في الكتابات التاريخية، وما يورده من ضوابط الكتابة عن الأحداث والأشخاص، ويصلح كذلك منهج اكتشاف الميزات والخصائص والصفات في الشخصية التي يكتب عنها، ومعرفة عوامل التفرد والتميز والتفوق فيها. كما أن معرفة الآثار التي خلفتها هذه الشخصية في مجتمعها الكبير- العربي والإِسلامي والدولي- تصلح ميزانا للتقويم والحكم على الأحداث والأشخاص.
وفي حياة الملك عبد العزيز - رحمه الله- نجد حياة المملكة العربية السعودية؛ لأن تاريخها هو تاريخه، ونشأتها الحديثة المعاصرة، هي نشأته منذ شبابه الباكر، ويندر أن نرى مملكة في العصر الحديث، ارتبطت في قيامها وتوحيدها وبداية نهضتها بملك أو زعيم أو رئيس، مثل ارتباط المملكة العربية السعودية بالملك المؤسس عبد العزيز آل سعود.
لقد حكم- رحمه الله- ثلاثة وخمسين عاما، ولم تكن مدة حكمه مجرد زمن يقاس به الحكم والسلطان والملك فحسب، ولكنه كان زمنا لقيام الملك والمملكة، ولتوحيد دولة فرقتها الحروب والنزاعات القبلية،(1/12)
وللتصدي لقوى داخلية وخارجية في سعيها إِلى الوقوف ضده، وكذلك لبدء نهضة عامة للمملكة، نقلتها من البداوة إلى الحضارة، ومن التخلف المادي والفكري إِلى التقدم العلمي والحضاري، وجعلت مكانها في عالمها العربي والإِسلامي، مكافئا ومساويا لقدرها الحقيقي، وبحسب ما اختصها الله به من ظهور الإِسلام فيها، ووجود الحرمين الشريفين على أرضها.
إِن الحديث عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - وجوانب حياته كلها، يستدعي الحديث عن شبه الجزيرة العربية التي انبثق منها نور الإِسلام، وتوحدت أول مرة في تاريخها في ظل الإِسلام، وعلى يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، حين أقام دولة الإِسلام في الأرض، التي جمعت خير أمة أخرجت للناس.
ولكن شبه الجزيرة العربية - بعد توحدها أول مرة في ظل الإِسلام - ظلت حبيسة في الصحراء قرونا طويلة، ساد فيها التخلف الديني والدنيوي، وعادت القبلية، واشتعلت الحروب والنزاعات، وتداعت عليها الدول تدَّعي الولاية على أرضها، والسيادة على أهلها، مع انصراف عن تعميرها، أو إِصلاحها.
وظلت شبه الجزيرة مئات السنين لا تلفت أنظار الناس إِلا في أشهر الحج، ولم تكن الرحلة إِلى الحرمين الشريفين مأمونة العواقب؛ لاختلال الأمن، وتفرق الناس حكاما ومحكومين، ولم يكن لشبه الجزيرة العربية أثر ذو بال في عالم السياسة على مستوىالعالم العربي أو الإسلامي. فقد(1/13)
كانت الدول الكبرى والقوى الأجنبية في العصر الحديث تدرس أحوال شبه الجزيرة، وتنقب فيها عن مصالحها وأطماعها، وتصل هذه القوى إِلى مبتغاها بسبب تفرق الحكام والأمراء، وشيوع النزاعات والحروب بينهم، ولم تكن ثمة دعوة إِلى توحيد شبه الجزيرة في ظل الدين.
* ولكن الله هيأ لشبه الجزيرة في العصر الحديث، بداية مشرقة في ظل الإِسلام، وذلك منذ أن استقر المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- في الدرعية عام 1157 هـ (1744م) فأكرمه أميرها محمد بن سعود - رحمه الله- وأكد له أنه سينصر دعوته التي ترمي إِلى إِقامة شريعة الإِسلام، وتنقية التوحيد مما شابه في ذلك العصر، وإِقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك بداية للدولة السعودية في شبه الجزيرة.
قال الشوكاني - رحمه الله-: " قام محمد بن سعود بنصر العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إِلى التوحيد، المنكر على المعتقدين في الأموات، ومازال يجاهد من يخالفه، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية، وصار الإِسلام فيها غريبا " (1) .
*َ قامت الدولة السعودية في شبه الجزيرة في ظل الدين، وتحت راية التوحيد، وعلى هدي القرآن، وبقوة السلطان. كانت تلك هي البداية، وهي البداية الوحيدة التي تصلح منهاجا لدولة إِسلامية، ولكل الأمة الإِسلامية إِلى آخر الدهر، هذه البداية هي الأساس المتين للدولة السعودية
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي صل 11 طبع دار القلم بيروت 1391هـ.(1/14)
منذ قامت، وظل الأساس قويا، حتى تم توحيد المملكة على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، رحمه الله، في القرن الرابع عشر الهجري.
واستمر الأساس قويا إِلى هذا العهد، عهد خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين، أعزهما الله بطاعته، ونصر بهما دينه، وذلك بفضل الله ومنه، ثم بجهاد أبناء الملك عبد العزيز، واستمرارهم على ذات المنهاج المتين الذي قامت عليه الدولة السعودية.
لقد وضع الأساس الأمير محمد بن سعود، أول من لقب بالإِمام من آل سعود، والذي انتقل إِلى رحمة مولاه عام 1179 هـ (1765 م) . وفي عام 1293 هـ، ولد من أحفاده الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، فتولى إِقامة البناء فوق أساسه المتين، واكتمل في عهده المبارك توحيد المملكة في عصرها الحديث، وغدا مستقبلها المشرق بإِذن الله أمانة غالية في يد أبنائه وخلفائه.
* إِن حياة الملك عبد العزيز - رحمه الله- تمثل ملحمة من الكفاح والنضال، خاضها، وقادها الملك الصالح عبد العزيز آل سعود في شبه الجزيرة العربية. لقد كان نضاله كله منذ بدأ في شبابه الباكر تحت راية التوحيد، باعتباره فريضة شرعية، والوحدة باعتبارها هدفا سياسيا لشبه الجزيرة العربية.
وخلال أكثر من نصف قرن من حكم الإِمام عبد العزيز ارتفعت منارة التوحيد، وقامت الوحدة في المملكة، وعرفت طريقها إِلى التقدم والنمو(1/15)
والازدهار في جميع مجالات حياتها، وخلال حياة الملك ترسخت قيم ومبادئ، ما تزال حية في نفوس أبنائه العظام، وما تزال آثارها ماثلة أمام الناس في شبه الجزيرة.
* وإِذا كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- قد نجح في توحيد المملكة تحت راية التوحيد، وأقام مملكة ينظر إِليها المسلمون باعتبارها نموذجا صحيحا للدولة الإِسلامية المعاصرة، فإِن ذلك النجاح لم يأت طفرة في حياة الملك عبد العزيز، بل سبقه من الجهد والجهاد ما ينبغي أن يعرف للأجيال الحاضرة، والقادمة من شباب الأمة الإِسلامية كلها.
* من أجل الوفاء بحق الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله- ومن أجل الاعتبار بمسيرته، نقدم هذا الكتاب.
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد.(1/16)
[شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام]
شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام * يطلق اسم شبه الجزيرة على الأرض التي تحيط بها المياه من جهات ثلاث. وشبه الجزيرة العربية مساحة واسعة من الأرض، تشمل الصحاري، والوديان، والسهول، والجبال.
ويشغل نجد أكبر مساحة في شبه الجزيرة العربية، وهو يشمل الأراضي الممتدة من قريات الملح شمالا إِلى وادي الدواسر جنوبا، ومن حدود الأحساء شرقا إِلى حدود الحجاز غربا، ويختلف المناخ في هذه المساحة الشاسعة حرارة وبرودة، ويغلب على نجد الجفاف، وتكثر الآبار والمياه الجوفية في بعض المناطق، مثل منطقة الرياض، ومنطقة القصيم.
والطبيعة في بعض الأماكن من نجد قاسية، ولعل شدتها كانت سببا في كثرة الحروب والنزاعات بين القبائل قبل قيام الدولة السعودية.
ونجد بلاد فسيحة تتركز قبائلها في الأماكن التي بها عيوِن وآبار، وقد فرض هذا الواقع الجغرافي الفردية السياسية التي كانت طابعا مميزا في نجد قبل توحيد الدولة السعودية لها؛ إِذ كان نظام الحكم قبليا، يتمتع فيه شيخ القبيلة بالسلطة الأبوية على أفراد قبيلته، وكان للعرف والتقاليد أكبر الأثر(1/17)
في توفير السلطة لشيخ القبيلة، فلم يكن لديه من المؤسسات، ولا من القوة المادية ما يحكم به، وإِنما هي سطوة الأعراف والتقاليد.
وتعترض الباحث في تاريخ نجد صعوبات كثيرة، في مقدمتها ندرة ما كتب عنها، وبخاصة في الفترة من منتصف القرن الخامس الهجري، إلى قيام الدولة السعودية الأولى (1) .
*ِ والتاريخ الديني لشبه الجزيرة العربية قبل الإِسلام، ينبئ عن أن معظم القبائل فيها كانت على الوثنية، وكانت عبادة سكانها لأصنام سموها بنات الله، واتخذوها زلفى إِليه. فقد كانت قبائل بني كلب ومرة تعبد ودا، وهو صنم كان في دومة الجندل، وكانت قبيلة ثقيف تعبد اللات، وهي صخرة بيضاء في مدينة الطائف، وكانت العزى شجرة قديمة قدسها العرب في بلدة نخلة الشامية قرب مكة وإِلى شمالها، تعظمها قريش وبعض القبائل، وإِلى جانب ذلك عظمت كنانة وهذيل صنم سواع في دار قريبة من مكة، بينما كان صنم يغوث من الأصنام التي تعبد في شمال اليمن، وكان صنم مناة يعبده الكثيرون من الأوس والخزرج وسكان المدينة قبل الإِسلام، إلى غير ذلك من الأصنام التي كانت موجودة في مواضع كثيرة من شبه الجزيرة قبل ظهور الإِسلام (2) .
_________
(1) - ينظر في هذا: - كتاب الأخبار النجدية، لمحمد بن عمر الفاخري، مقدمة محققه معالي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل ص19 وما بعدها، طباعة جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية.
-بحث تاريخ ابن عباد، للدكتور عبد الله بن يوسف الشبل، المنشور في مجلة مركز البحوث الإسلامية، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، العدد الثاني ص 97 وما بعدها.
- عثمان بن بشر، منهجه ومصادره، لمعالي الدكتور عبد العزيز العبد الله الخويطر، التمهيد والمقدمة ص3 وما بعدها، الطبعة الثانية 1395هـ.
(2) السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفي السقا وزميليه، القسم الأول، الجزء الأول، ص76 وما بعدها، الطبعة الثانية ص 1375هـ.(1/18)
* كان الغالبية من سكان شبه الجزيرة من البدو أو من أنصاف الحضر، قبائل صغيرة أو كبيرة تنقسم إِلى أفخاذ وبطون، وتدخل في أحلاف مع بعضها، كحلف تميم أو غطفان أو هوازن، ولم تكن تخلو العلاقات بين القبائل من الحروب فيما بينها، ولكنها كانت تتّساند في حماية إِقليمها من الدخلاء، وهكذا كان عداؤها للإِسلام في بداية أمره، ولكن لما دخلت القبائل الكبرى، مثل غطفان وهوازن وتميم في الإِسلام، استسلمت القبائل الأخرى، ودخلت الإِسلام.
* كانت طرق التجارة تربط بين القبائل، وتيسر حياتها فيما تحتاجه من زاد وميرة، وكانت هذه الطرق تربط بين القبائل والعالم الخارجي، فلم تنقطع القبائل العربية قبل الإِسلام عن الاتصال بالعالم الخارجي.
* لقد قضى الله- عز وجل- أن يكون أول بيت وضع للناس للعبادة في أرض شبه الجزيرة العربية، قال تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ - فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97] (آل عمران - 96 و 97) .
ولم تكن أرض شبه الجزيرة لتلفت أنظار الناس لولا ما سبق في الكتاب من فضل الله عليها وعلى أهلها.
وحين أراد إِبراهيم - عليه السلام- أن يسكن ذريته في أرض شبه الجزيرة، في واد غير ذي زرع، توجه- عليه السلام- وزوجه هاجر، وابنه إِسماعيل - وكان رضيعا- إِلى ذلك الوادي القريب من بيت الله الحرام، وقال:(1/19)
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] (إبراهيم 37) .
ودعا إِبراهيم ربه:
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] (إبراهيم 37) .
وفي مكة الكرمة رفع إبراهيم، وإِسماعيل - عليهما السلام- القواعد من البيت:
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} [البقرة: 127] (البقرة 127) .
* إن شبه الجزيرة العربية - بسبب وجود البيت الحرام على أرضها، وهو أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة- مكانة في التاريخ الديني، ولم تّحظ شبه الجزيرة، ولم ينل أهلها في تاريخ الحضارة أو العمران ما نالته مناطق أخرى وشعوب وأمم عديدة في التاريخ القديم، مثل المصريين والإِغريق والفرس والروم، من مكانة في التاريخ الإِنساني.
وكان لجغرافية شبه الجزيرة أثر كبير في ذلك، فهي تتكون من صحاري شاسعة، ليس فيها أنهار، والزراعة اللازمة للاستقرار وبدء الحضارة لا تعتمد على الأمطار أو الآبار فقط؛ ولذلك لم تلفت شبه الجزيرة العربية - في غير تاريخها الديني - الأنظار، ومن المعروف أن الهجرة كانت تنبعث منها إِلى ما حولها.
وقد مدت إِمبراطوريتا الفرس والروم نفوذهما إِلى أطراف شبه الجزيرة قبل الإِسلام، فقامت فيها دولة المناذرة ودولة الغساسنة.(1/20)
وقد تّأثر الوضع الديني في شبه الجزيرة بذلك، فكانت المسيحية منتشرة بين قبائل العرب التي سكنت بلاد الشام وشمالي شبه الجزيرة، مثل قبائل كلب وبكر وتغلب، وأكبر القبائل النصرانية كانت قبيلة غسان، وما تبعها من قبائل، وكانوا يسمون نصارى العرب، أو عرب الروم.
على أن المسيحية التي عرفها العرب في شبه الجزيرة كانت سطحية، إِذ لم يعرف لها كنائس أو أحبار أو قساوسة، وإِن كانت هناك كنائس صغيرة كانت تسمى قليس أو قلس، وهو تعريب للفظ Ecclesia (1) .
* ذلك ما كان عليه العرب وقبائلهم قبل الإِسلام في شبه الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي.
ومن الناحية السياسية لم يكن يوجد سلطة سياسية واحدة، ولا نظام للحكم واضح المعالم، كما كان في الإِمبراطوريات التي سيطرت على تخوم شبه الجزيرة وأطرافها، وأقامت ممالك تابعة لها.
كان الحكم قبليا، ولم يكن هناك ما يوحد هذه القبائل، بل لم يكن هناك من يستشرف الوحدة بينها، فكانت المنازعات والغارات متبادلة، ولم تساعد شدة الحياة وقسوتها على نشوء حضارة عمرانية إِلا في مناطق قليلة من شبه الجزيرِة، لاسيما في أطرافها، وكانت الكلمة هي معلم الحضارة البارز، شعرا في الغالب، وقليلا من الحكمة في الأقوال، نتيجة التجربة في الحياة، والنظر والتأمل والميراث الديني الممتد عبر التاريخ القديم في شبه الجزيرة.
_________
(1) أطلس تاريخ الإسلام، للدكتور حسين مؤنس ص110 الطبعة الأولى 1407هـ.(1/21)
* ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه كانت هناك أمة عربية واحدة في أهدافها في شبه الجزيرة، تلك المساحة الشاسعة من الأرض، المحاطة بالبحار من جوانبها الثلاثة، فلم تكن القبائل المتفرقة في وسطها أو نواحيها، والتي كانت تتبادل فيما بينها العداوات والأحلاف بحسب الظروف، تحس بأن أمة واحدة تجمعها، ولا كانت تستشرف هذه الوحدة، أو تعمل من أجلهِا، مع أنه كانت هناك إِمبراطوريتان كبيرتان تحدان شبه الجزيرة شمالا وشرقا، هما دولتا الفرس والروم، كما كان هناك دولتا الغساسنة والمناذرة، ودولة حمير في اليمن، وكانت دولة الفرس الساسانيين ذات سلطان وقوة ونظام، لعراقتهم في نظام الدولة، مما أعطاهم خبرة كبيرة في شؤون الإِدارة والحرب، وعلى رأس الدولة ملك يسميه العرب كسرى، وهو تعريب للفظ " خُسرف " بالفارسية، ومعناه الملك أو السلطان، وكانت ديانتهم وثنية " الزرادشتية أو المزدكية" وهي تقوم على عبادة النار، وسماها العرب مجوسية.
ولم تكن الدولة الفارسية قبيل البعثة المحمدية، قد تدهورت، أو آلت إِلى السقوط، ولكن هزيمتها أمام العرب كانت بسبب أنهم واجهوها بالإِسلام، وهو أعظم قوة في الأرض، فاستطاع في وِقت قصير القضاء عليها، وتحرير أهلها. وبالسلاح نفسه أيضا غلب العرب الروم البيزنطيين، ولم تكن دولتهم على أيام هرقل ضعيفة أو متدهورة، فعندما هاجم العرب الشام، كانت دولة الروم في أوج قوتها، ولكن الانتصار كان بفضل الإِسلام.
وهي العبرة الباقية والدائمة للمسلمين على مر الأيام.(1/22)
[الإسلام وتوحيد شبه الجزيرة العربية]
الإسلام وتوحيد شبه الجزيرة العربية * يمكن القول بأن التاريخ السياسي في شبه الجزيرة العربية لم يبدأ إِلا بالإِسلام، وأن الإِسلام هو أعظم عامل من عوامل التأثير في شبه الجزيرة العربية على امتداد تاريخها.
إِن الإِسلام هو الذي أعطى شبه الجزيرة مكانتها التاريخية، وهو الذي جعل من أهلها أول أمة إِسلامية، وهو الذي حفظ لغتها من الضياع أو الاضمحلال أو التحريف.
وكان الإِسلام منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم دعوة للوحدة - بعد دعوة التوحيد - التي بعث من أجلها محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم النبيين، كما بعث من قبله كل الرسل للهدف نفسه، ولا نستطيع أن نحصي أثر الإِسلام في شبه الجزيرة العربية على أرضها وقبائلها المتفرقة، وعلى أهلها وعقائدهم، وعلى لغتها وتاريخها كله، ويكفي القول: إِن الإِسلام أعطى شبه الجزيرة مكانتها في تاريخ الأمم والشعوب، ووضعها - بعقيدته وشريعته- في موضع الخيرية بين الأمم، وفي مقام الشهادة على الناس، يقول الله تعالى:(1/23)
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110] (آل عمران 110) .
ويقول سبحانه:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] (البقرة 143) .
في ظل دعوة التوحيد التي انبعثت في مكة المكرمة، قامت دولة الوحدة في المدينة النبوية، أول دولة للإِسلام، واستشرفت أن توحد العرب وقبائلهم المتفرقة في ظل عقيدة التوحيد، وتحت راية الإِسلام وحده.
روى ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: " لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إِنا لله وإِنا إِليه راجعون، ليهلكن، فأنزل الله - عز وجل -: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] (الحج 39) ، قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال " (1) .
وقد كان الجهاد من أجل توحيد الله عز وجل، وإِفراده وحده سبحانه بالعبادة، ومن أجل وحدة شبه الجزيرة على ذلك.
* تعد معركة بدر من أشهر معارك التاريخ الإِسلامي، وهي من أعظم انتصارات الإِسلام، ومن أهم معاركه الدينية، على الرغم من قلة عدد المقاتلين
_________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن، لأبي جعفر الطبري، الجزء 17 / ص 172، الطبعة الثالثة.(1/24)
فيها (نحو 1300 من الجانبين) ، ولم تزد فيها ساعات القتال على أربع ساعات، أو خمس على الأكثر (1) وبعد ذلك معركة أُحد، وقد كانت قريش تريد الانتقام لهزيمتها في معركة بدر، واضطرب أمر المسلمين في المعركة لما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يتركوا مواقعهم، ثم ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تمت هزيمة الشركين، وملاحقتهم إِلى حمراء الأسد في اليوم التالي، فوقع الرعب في قلوب المشركين وبدو الصحراء، وأسرع المشركون بالعودة إِلى مكة.
وجاءت غزوة الخندق، وهي معركة أحزاب المشركين حين اتفقوا على مهاجمة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاعدة الإِسلام، فأقام المسلمون خندقا حول المدينة يحجز عنها المشركين وأحزابهم، ويجعلهم في العراء، وتصدَّى المسلمون لمن كان يعبر الخندق من المشركين، وأراد الله أن تكون هزيمة المشركين بالعواصف التي شتتت شملهم.
يقول تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب: 9] (الأحزاب 9) .
كانت قريش قد جمعت أعوانها لمواجهة حاسمة مع الإِسلام وأهله، فتحالفت مع يهود بني النضير، ومع قبيلة غطفان، وبني أسد، وبني
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2 / 625 مصدر سابق.(1/25)
سليم، وسارت مع قريش الأحابيش، وأهل تهامة، فصاروا في جمع عظيم سماهم الله تعالى الأحزاب. ذكر ابن إِسحاق أن عدتهم كانت عشرة آلاف (1) وكانت النتيجة كما ذكر الله تعالى:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] (الأحزاب 25) .
وقد رأى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - أن يمهد أمر شمال الحجاز إِلى الشام بعد أن عقد صلح الحديبية، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن يهود خيبر أغنياء، ورأى من صدق عزيمة المؤمنين بعد صلح الحديبية، أن يؤمن مراكز العمران في شمال شبه الجزيرة، ويحرم قبائل البدو وأعاريب نجد من المراكز المدنية التي يحتمون بها في مواجهة الإِسلام، فكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب اليهودي الممعن في عداوته للإِسلام، وفي سورة الفتح إِشارة إِلى مغانم للمسلمين، وقد نزلت السورة في طريق العودة من الحديبية، قال الله تعالى:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا - وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا - وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 18 - 20] (الفتح 18، 19، 20) .
_________
(1) المصدر السابق 3 / 219 - 220.(1/26)
قال مجاهد في تفسير قوله تعالى: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يعني فتح خيبر (1) .
* وكان من شروط صلح الحديبية أن من شاء الدخول في حلف مع النبي صلى الله عليه وسلم دخل، ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل. فدخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلت بكر في عهد قريش، وقد حدث بعد نحو ثمانية عشر شهرا من الصلح أن اعتدت بكر على خزاعة بليل، ظنا منها أن الرسول لن يعلم بهذا العدوان والنقض للعهد، وأمدت قريش بكرا في عداونها حقدا على الإِسلام والمسلمين، فاستنجدت خزاعة بالرسول صلى الله عليه وسلم، فأمر الرسول بالجهاد، واستنفر القبائل التي حول المدينة - سليما وأشجع وأسلم وغفار - حتى بلغ جيش المسلمين نحو عشرة آلاف، ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار، وخرج المسلمون في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وقد اتفق أهل السير والمغازي أنه خرج في العاشر من رمضان، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه (2) .
* دخل الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مكة من أعلاها من جهة كداء خاشعا شاكرا يقرأ سورة الفتح، كما روى البخاري في صحيحه، وكان فتح مكة - كما أراد الله ورسوله- يوم مرحمة لا يوم ملحمة، وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لأهل مكة قائلا: "من دخل دار أبي
_________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 26 / 89، مصدر سابق.
(2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله أحمد، ص 560 الطبعة الأولى.(1/27)
سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. وحين خاطبه أهل مكة في أمرهم بعد الفتح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذهبوا فأنتم الطلقاء " (1) .
ومنذ فتح مكة استقر سلطان الإسلام والمسلمين على أرض البيت الحرام إِلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة، إِن شاء الله.
* وتلا فتح مكة غزوتا حنين والطائف، وقد ثبت الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مع فئة قليلة من أصحابه حين ضاقت الأرض بما رحبت على المسلمين، وولوا مدبرين في الجولة الأولى من القتال في غزوة حنين، وكان لثبات الرسول صلى الله عليه وسلم أثر كبير في اجتماع المسلمين حوله، حين ناداهم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكروا على الكفار، فهزموهم، ولم يثبت المشركون في الجولة الثانية، ففروا، وخلفوا وراءهم قتلاهم وغنائم كثيرة، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل رجلا؛ ليستطلع خبر القوم من أعدائه قبل المعركة بيوم، وحكى له الرجل عن خبرهم وعددهم وعدتهم وخيلهم وإِبلهم: «تلك غنيمة المسلمين غدا، إِن شاء الله تعالى» (2) .
وبعد أن انتهى الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- من تعقب الفارين توجه إِلى الطائف؛ لكي يقضي على ثقيف التي فرت من حنين، وتحصنت بالطائف، فحاصرها الرسول، ثم دعا لها بالهداية، وتركها، وبعد فترة وجيزة وبعد عودة الرسول من تبوك، جاء وفد ثقيف معلنا إِسلامه.
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 3 / 412 مصدر سابق.
(2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص 582 مصدر سابق.(1/28)
* لقد أشرنا إِلى أهم غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي وسراياه التي بعثها لجهاد المشركين مبثوثة في كتب السير والمغازي، أشرنا إلى هذه الغزوات الكبار؛ لأنها كانت- بنصر الله عز وجل لرسوله- أول نجاح لوحدة شبه الجزيرة بعد دعوة التوحيد.
ويمكن تقسيم مراحل سيطرة أمة الإِسلام ودولته على شبه الجزيرة كلها إِلى مراحل بحسب السرايا والغزوات، وما أدت إِليه من دخول قبائل ومناطق عديدة في الإِسلام، ومن أهم المراحل سيطرة المسلمين على المدينة ومنطقتها، ثم السيطرة على بقية الحجاز والقضاء على المجموعات اليهودية الكبرى، ثم السيطرة على نجد، وانفتاح الطريق إِلى شرقي الجزيرة وجنوبها الشرقي، وبسط سلطان الدولة الإِسلامية على الشعيبة، ميناء الحجاز وتهامة، ثم المرحلة الأخيرة التي فتح فيها اليمن على يد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبذلك خضعت شبه الجزيرة كلها للإِسلام في السنة الحادية عشرة للهجرة (يوليو سنة 632م) .
* ولم يكن من الضروري أن يفتح الإِسلام بجيشه كل شبه الجزيرة، ولكن فتح الحواضر الكبرى فيها كان كافيا؛ لكي يعم الإِسلام شبه الجزيرة كلها في العهد النبوي، فالسيطرة على مكة والمدينة والطائف وخيبر وتيماء وتبوك والبحرين وصعدة وصنعاء، كان كافيا للسيطرة على شبه الجزيرة كلها، وأن يسود الإِسلام بين أهلها، ولم يكن توحيد شبه الجزيرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نتيجة قتال أو حروب فحسب، بل كان لإِسلام كثير من القبائل وتسليمها للرسول أثر كبير.(1/29)
ففي العام التاسع للهجرة الشريفة وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم وفود كثيرة حتى سمي عام الوفود، ومنها وفد بلاد الشاطئ من حضرموت، وأقر الرسول وائل بن حجر الكندي على إِمارته، كما وفد من اليمن وفد حمير، وكتب فروة بن عمرو الجذامي عامل الروم إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه، فلما علم الروم بذلك سجنوه وقتلوه، كما وفدت على الرسول وفود بني تميم، وبني حنيفة، وقحطان، وثقيف، وأسد، وغسان، ونجران، وغيرهم (1) .
* وتبدت وحدة شبه الجزيرة في عهد الخلفاء الراشدين.
وفي أوائل عهد أبي بكر - رضي الله عنه- حدثت الردة من بعض القبائل، وكان للقبلية أثرها في ذلك، إِذ أيدت بعض القبائل مثل كندة وأهل اليمامة المرتدين، ولكن الخليفة أبا بكر الصديق - رضي الله عنه- وقف من تلك الفتنة الدينية والسياسية موقفا حازما، فحارب مانعي الزكاة والمرتدين، ومن أشهر القواد الذين أسهموا في ذلك الصحابي الجليل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وكتب اللًه لأبي بكر النصر على المرتدين، وعلى الفرقة السياسية التي بدأت تطل برأسها، وتهدد وحدة شبة الجزيرة.
وقسم أبو بكر الجزيرة العربية إِلى ولايات: مكة، والطائف، وصنعاء، وحضرموت، وخولان، ونجران، وجرش، والبحرين، وعين على هذه الولايات ولاة من قبله.
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 4 / 560 وما بعدها، مصدر سابق.(1/30)
وفي هذا تأكيد لواقع الحياة السياسية في الجزيرة العربية، وصورة واضحة لوحدتها الإِقليمية.
* كانت تلك الوحدة السياسية أول وحدة ضمت شبه الجزيرة العربية، وأول لبنة في بناء الأمة الإِسلامية، فقد توسع امتداد الإِسلام في القرن الأول الهجري، بعد أن قامت الدولة الإِسلامية في عهد الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - بتوحيد شبه الجزيرة تحت راية الإِسلام.
* إِن ذكر توحيد شبه الجزيرة أول مرة في تاريخها على يد رسول الله وخاتم النبيين محمد - صلوات الله عليه وسلامه- ومراحل هذا التوحيد وما استدعاه من جهد وجهاد، يجعل كل عمل وجهد للقضاء على الفرقة والانقسام والقبلية في شبه الجزيرة تحت راية الإِسلام وعلى هداه، طاعة لله ولرسوله، واقتداء بسنته- صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إِلى الله، وفي توحيد أمر المسلمين.
تلك هي الأسوة الحسنة التي تظهر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي القدوة في عمل أصحابه والخلفاء الراشدين من بعده، وهي أيضا العبرة في عمل التابعين لهم بإِحسان من الملوك والأمراء.
* وإِذا كان توحيد شبه الجزيرة في العهد النبوي من أعظم أفضال الإِسلام على أهل الجزيرة العربية، فقد حدث ذلك من خلال معارك خاضها المسلمون في العهد النبوي، للدعوة لتوحيد الله- عز وجل- ولإِبطال الشرك والوثنية، فاقترنت الدعوة إِلى الله في الجزيرة العربية(1/31)
بالوحدة السياسية، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر أهم المعارك في العهد النبوي، فنزلت آيات في غزوة بدر، أول صدام بين عصبة الإِيمان وأهل الكفر وعباد الأصنام. كما نزلت آيات في شأن غزوة أحد، وفي غزوة الأحزاب، وغزوة حنين، وبين الله للمسلمين العبرة في أحداث تلك المعارك وما جرى فيها، ولم يفصل في القرآن وقائع تلك الغزوات تفصيل أحداث، ولكن بين الحكمة والعبرة التي تدل عليها الأحداث.
لقد بين الله في القرآن الكريم أن المسلمين كانوا يودون غير ذات الشوكة قبيل غزوة بدر، ولكن الله أراد أن يمتحن المسلمين في أول صدام بين الإِسلام والكفر، فكانت المعركة، وكان غوث الله للمسلمين. وفي غزوة أحد سيقت العبرة في هزيمة المسلمين بعد أن لاح لهم النصر على أثر مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وفي غزوة الأحزاب كانت العبرة في أن الله تعالى هزم الجمع، ونصر المسلمين بعد أن زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر.
هكذا ورد في القرآن العبرة في ذكر المعارك؛ لأن الأحداث تزول بمضي الزمن ومرور الأيام، ولكن الحكمة والعبرة تبقى أبد الدهر.
وأعظم الأسوة والمثل في البيان هو القرآن الكريم؛ ولذلك فإِن ما تناولناه في هذا الكتاب لم يكن فيه تفصيل للأحداث والوقائع، بقدر ما كان فيه بيان العبرة، وإِلقاء الضوء على مسيرة توحيد الجزيرة العربية في العصر الحديث.(1/32)
تمَ إِن توحيد شبه الجزيرة توحيدا سياسيا، قد تم في عهد النبوة والرسالة الخاتمة، ولقد اقترنت دعوة التوحيد بالوحدة السياسية في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان للوحدة السياسية أثرها الكبير في بسط سلطان الإِسلام على شبه الجزيرة كاملا وتاما، ولعل ذلك من بين المعاني التي تظهر في الحديث الشريف: «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» (رواه مالك وأحمد) .
إِنها المنطقة الوحيدة في الأرض التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود دين آخر غير الإِسلام فيها، إِنها أرض الإِسلام، ومنزل الوحي، ومقر الحرم المكي، والمسجد الحرام، والمسجد النبوي، فلا يتصور أن يكون فيها إِلى جانب الإِسلام دين آخر؛ لأن الإِسلام - في حقيقته التي تظهر جلية على هذه الأرض- هو المصدق لما سبقه، وهو المهيمن عليه، ولقد كان توحيد شبه الجزيرة سياسيا على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم توجيها دائما لكل إِمام من أئمة المسلمين في شبه الجزيرة أن يقيم على أرضها التوحيد الخالص، والوحدة الكاملة.(1/33)
[الدولة السعودية]
الدولة السعودية * في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) جاء مانع بن ربيعة المريدي، جد آل سعود بأسرته من مكان قرب القطيف إِلى وادي حنيفة، حيث منازل قبيلته، وهي إحدى قبائل ربيعة العريقة، وهي قديمة في المنطقة، منذ ما قبل الإِسلام بما يزيد على مائتي سنة، وتحكم حواضر المنطقة الواقعة على ضفاف وادي حنيفة (1) .
* ويستمد آل سعود تسميتهم من اسم جدهم سعود بن محمد بن مقرن، الذي بنى دارا للإِمارة في الدرعية، تم مد نفوذه إِلى ما جاورها، فحق له أن تسمى الإِمارة باسمه. وبتولي الأمير محمد بن سعود إِمارة الدرعية بدأ عصر جديد في تاريخ الجزيرة العربية كلها، فهذه أول مرة منذ قرون يقوم فيها بيت عربي أصيل من أهل الحكم القادرين، وأهل الإيمان الصادقين، يتطلع أفراده إِلى توحيد الجزيرة تحت لواء الإِسلام
_________
(1) عنوان المجلد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر 1 / 16 نشر مكتبة الرياض.
- والأخبار النجدية ص 60 مصدر سابق، وتاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين 1 / 80 الطبعة الثامنة 1418هـ.(1/35)
الصافي البعيد عن الجهل، والبدع، والممارسات التي تنشأ عن الجهل، والفقر، والظلم.
إِن بداية الدولة السعودية تعد معنى جليلا يكاد يكون عالميا، فقد كان العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر الهجري يعاني من الضعف فكريا وعسكريا، وفي الوقت نفسه كان العالم غير الإِسلامي - الدول الغربية بالذات، مثل بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإِيطاليا - قد انطلق في عصر النهضة الذي بدأ قبل ذلك بنحو قرن أو يزيد، كانت النهضة الأوربية قد بدأت فكريا، واستطاعت أن تكون بذرة الحضارة الغربية التي يعيشها العالم الآن، والتي تطغى بمفاهيمها وبقيمها، بينما كانت دول العالم الإِسلامي- ومنها شبه الجزيرة العربية - مشغولة بالنزاعات بينها، وبصد العدوان عليها من الداخل، ومن الخارج.
إِن تأسيس الدولة السعودية بداية خير لشبه الجزيرة العربية كلها، وبشير تقدم وحضارة في موطن العرب ومبعث النبوة الخاتمة، ودليل وحدة سياسية لشبه الجزيرة العربية " لقد كتب على السعوديين أن يصارعوا في عدة جبهات، وأن يحققوا أحيانا نجاحا معجزا، وتنزل بهم أحيانا هزائم قاصمة، ولكنهم بقوا، وانتهى الآخرون، وامتد ملكهم إِلى المملكة الحجازية، والإِمارة الرشيدية، والإِمارة الإِدريسية، وإِمارة آل عائض، تلك الإِمارات التي تخلفت بالجزيرة عن عهد الأتراك العثمانيين " (1) .
_________
(1) موسوعة التاريخ الإسلامي، للدكتور أحمد شلبي ص 140، الطبعة الخامسة.(1/36)
* نستطيع بدلالة التاريخ أن نعتبر عصر نهضة شبه الجزيرة العربية الحديثة، هو بداية تأسيس الدولة السعودية التي اقترن فيها التجديد الديني بالتقدم نحو الوحدة السياسية، وامتزج فيها نمو الفكر باتساع الدولة.
ولقد كانت الحضارة الأوربية الغربية في بداية نشأتها مدينة للفكر الحر في شؤون الدين والدنيا، والذي ظل يؤثر في شعوب الغرب منذ القرن السابع عشر الميلادي، ولكننا نجد في شبه الجزيرة العربية، في بداية نهضتها، تجديدا لأمر الدين، وتنقية أصوله في العقيدة والشريعة مما شابها، ونجد بداية لتوحيد شبه الجزيرة سياسيا، وتأسيس دولة قوية قادرة، وذلك على يد الأئمة من آل سعود، فخرجت شبه الجزيرة من تخلف الفكر الديني إِلى سعة الإِسلام الصحيح، ومن نزاعات القبيلة وحروبها إِلى أمن الوحدة واستقرارها. وبدأ تقدم شبه الجزيرة العربية بمنجزاتها في العصر الحديث في العلم والعمل، وفي الدين والدنيا، وسطع نجمها في المنطقة العربية، والإِسلامية، وعلى اتساع العالم المعاصر.
إِن الموازنة هنا ليست للمشابهة أو للماثلة، ولكنها للتذكير بأن القرن الثامن عشر الميلادي كما حمل إِلى الغرب رياح نهضة فكرية ومادية، حمل إِلى الأمة الإِسلامية في شبه الجزيرة العربية تجديدا لأعظم ما تملكه هذه الأمة، وهو هدي الإِسلام، الذي قامت عليه الدولة السعودية منذ نشأتها الأولى، وظلت وفية له حتى استقام لها أمر الدنيا بهدي الدين.(1/37)
*ِ كلمة حق وتاريخ صدق في نشأة الدولة السعودية، تجمع صفات الدولة منذ قيامها، فقد قامت على هدي الكتاب والسنة، وعلى يد أهل الحكم القادرين، وتحت راية التوحيد أقامت وحدة شبه الجزيرة، وشقت طريق التقدم منذ نشأتها، فكان الإِصلاح الديني بالإسلام الصافي البعيد عن البدع والخرافات، وكان إِصلاح حال المسلمين بمحاربة الجهل والفقر والظلم، وما تزال صفات الدولة هذه منذ نشأتها إِلى عهد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله- الذي أتم إِقامة الوحدة، وبدأ النهضة في عصره، وحتى عهود أبنائه العظام ممن خلفوه إِلى اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، حفظه الله.(1/38)
[الدولة والدعوة]
الدولة والدعوة تولى الأمير محمد بن سعود إِمارة الدرعية في عام 1139 هـ (1726م) ، وظهرت إِلى الوجود في الفترة نفسها أهم دعوة من دعوات التجديد الديني.
ففي بلدة العيينة التي تقع إِلى الشمال الغربي من الرياض ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، رحمه الله، سنة 1115 هـ (1703 م) ، وكان أبوه قاضيا، فتعلم على يديه، ودرس في المدينة النبوية، وفي غيرها على أيدي العلماء الذين التقاهم.
وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- ذكيا طموحا، صادقا في رغبته في تخليص المسلمين من حوله مما يعانون من فقر في الدين، وشقاء في الدنيا؛ إِذ هال الشيخ ابتعاد المسلمين في شبه جزيرة العرب عن الإِسلام وعقيدته الصافية، وتمسكهم بخرافات وأباطيل تقربهم من الشرك بالله، وهم أهل التوحيد الخالص في حقيقة دينهم.
واستمسك الشيخ- رحمه الله- في دعوته بالقرآن الكريم، والسنة المطهرة، وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة، فعرفت دعوته بالسلفية.(1/39)
* وجهاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب يصعب حصره في هذا المقام، فقد بدأ- رحمه الله- دعوته في حريملاء، عندما كان والده قاضيا فيها، ولم تكن أحوال البلدة مهيأة للدعوة. وبعد وفاة والده انتقل إِلى العيينة، واستأنف دعوته وجهاده في بلدة العيينة، ووجد من أميرها ترحيبا، ولم يجد نصرا يكفي لإِظهار الدعوة ونشرها، فانتقل الشيخ إِلى الدرعية مقر الأمير محمد بن سعود - رحمه الله- وكان أميرا صالحا يبتغي نصرة الإِسلام، وإِصلاح أحوال أهله، فرحب الأمير الصالح بالشيخ المجاهد، وتعاهدا على نصر الدعوة، وكان هذا العهد بين قوة السلطان وهدي القرآن، هو الأساس الذي قامت عليه الدولة السعودية منذ نشأتها إِلى اليوم.
ولم تكن الدعوة إِلى تجديد معالم الإِسلام، المؤيدة بعون الله- عز وجل- ثم بالإِمام محمد بن سعود تمضي في طريقها دون عقبات، فقد كانت الأباطيل والخرافات تملأ أذهان الكثير من الناس، والتخلف الحضاري يغشى معظم شبه الجزيرة، وكان لا بد للدعوة أن تواجه حشدا من الأعداء، أظهروا العداوة للدعوة وصاحبها، ومنهم على سبيل المثال أمير الرياض دهام بن دواس، وأمير الأحساء عريعر بن دجين، وغيرهم من الحكام والأمراء. وإِلى جانب ذلك لاقت الدعوة- مع انتشارها ووضوح أمرها- عداوات من الخارج؛ إِذ لم تكن الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على الحجاز، لترضى بأن يتسع نطاق الدعوة بما تحمله من إصلاح حال المسلمين في شبه الجزيرة في دينهم ودنياهم، ناهيك عن(1/40)
خوفها من زوال سيطرتها على شبه الجزيرة كلما اتسع سلطان آل سعود، الذي كان يتجه إِلى توحيد شبه الجزيرة، وقد أصبحت الدولة السعودية منذ نشأتها مركز الأحداث فيها.
* في الدولة السعودية الأولى في عهد الإِمام محمد بن سعود، رحمه الله 1157- 1179هـ (1744- 1765م) تصدى الإِمام لكل من حاول أن يقف في طريق الدعوة، لاسيما أمير الرياض دهام بن دواس، وتابع خلفاؤه من بعده الدفاع عن الدعوة، وعن توحيد شبه الجزيرة، فقد استطاع الإِمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، رحمه الله، 1179- 1218 هـ (1765- 1803 م) - وكان إِماما هماما كوالده- أن يضم الرياض، وغيرها من المناطق، والمدن في شبه الجزيرة العربية إِلى الدولة السعودية، فلما استشهد عام 1218 هـ (1803 م) خلفه ابنه الإِمام سعود بن عبد العزيز 1218 - 1229هـ (1803- 1814م) فأتم ضم الحجاز ونجران وعسير، وأجزاء من اليمن، فوحد شبه الجزيرة العربية.
*ِ في العهد الأول للدولة السعودية، التي قامت بتجديد أمر الدين، وإصلاح حال المسلمين نرى في أئمة آل سعود ميلا غالبا إِلى توحيد شبه الجزيرة، بدءا من مؤسس الدولة الإِمام محمد بن سعود - رحمه الله - وكل خلفائه. فقد كانت شبه الجزيرة محط أنظارهم في كفاحهم من أجل توحيدها، وتخليصها مما تعانيه من الفرقة والانحطاط، والتبعية، وإِقامة حكم صالح فيها يمهد لتطورها وتقدمها، وكان الأئمة من آل سعود في هذه الفترة من تاريخ شبه الجزيرة يواجهون دعاة الفرقة(1/41)
والانقسام والتشتت والقبلية في شبه الجزيرة، كما يواجهون في الوقت نفسه سيطرة الدولة العثمانية التي كانت تنبسط على الحجاز، وذلك ما دعا السلطان العثماني محمودا الثاني إِلى الاستعانة بواليه على مصر، محمد علي باشا؛ لكي يواجه توسع الدولة السعودية، وانتشار نفوذها، وانبساط سلطانها على أجزاء كثيرة من شبه الجزيرة، حتى وحدتها في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز.
* واجهت الدولة السعودية في عهدها الأول- على نبل مقاصدها وشرف غايتها في تجديد أمر الدين، وتوحيد المسلمين في شبه الجزيرة - قوى معادية، أصرت على وأد الأمل في تجديد الدين، وإِصلاح حال المسلمين، وتخليصهم في شبه الجزيرة من سيطرة العثمانيين، فقد أرسل والي مصر محمد علي باشا حملة لاستعادة الحجاز بعد أن بسط الإمام سعود بن عبد العزيز سلطانه عليه، وقد تصدى ابنه الأمير عبد الله لتلك الحملة عام 1226هـ (1811م) إِلا أنها تمكنت من الاستيلاء على مكة والمدينة، والطائف، ولكنها واجهت مقاومة عنيفة، فارتدت إِلى جدة، ثم أرسل حملة أخرى بقيادة ابنه إِبراهيم باشا عام 1231 هـ (1816 م) فاستولى على عدد من مدن نجد، وفي سنة 1233 هـ (1818م) دخل الدرعية، ونُقِلَ الإِمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز إِلى مصر ومعه عدد من الأمراء والأنصار مجبرين، ثم أرسلوا إِلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية، فلم ترع فيهم إِلا ولا ذمة، وعجلت بقتلهم بغيا وعدوانا.(1/42)
* في هذه الفترة التي نفذ فيها والي مصر أمر الدولة العثمانية في التصدي للدولة السعودية، ونتيجة لما حدث من معارك وحروب، ضعفت الدولة السعودية.
كان الإِمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، إِماما شجاعا هماما، قاتل الترك ومن دخل في طاعتهم، وأدخل أكثر البلاد النجدية في طاعته، وحكم منذ استيلائه على الرياض تسع سنوات، فلما استشهد سنة 1249هـ خلفه ابنه الإِمام فيصل بن تركي الذي كان محتجزا في مصر، ونجح في الإِفلات والعودة إِلى الرياض، وانتظم له الأمر إِلى أن توفي سنة 1282 هـ (1865 م) ، وخلف الإِمام فيصل أربعة أبناء، منهم الإِمام عبد الرحمن والد الإِمام عبد العزيز - رحمهم الله- وبعد وفاة الإِمام فيصل بدأت شبه الجزيرة تعيش حالة من الشقاء بالحروب، والمعارك بين الحكام فيها، معارك بين أمراء القبائل، ومعارك بينهم وبين آل سعود، ومعارك بين آل سعود وبين العثّمانيين، ومن استعانوا بهم للقضاء على الدولة.
وإِذا كان لكل مرحلة من تاريخ الدول رجالها وأبطالها، فإِن نظرة الصدق تكشف لنا بوضوح عن أن الدولة السعودية، قامت منذ نشأتها على دعوة التوحيد الخالص، ومن أجل توحيد المسلمين في شبه الجزيرة، وإِصلاح دينهم ودنياهم، وأن معاركها كانت من أجل خدمة الإِسلام، وإِصلاح أمره، وتوحيد شبه الجزيرة تحت سلطان أهلها، وبهذا يتميز(1/43)
الرجال والأبطال في دورات التاريخ بشرف الغايات، ونبل المقاصد، ومواجهة التحديات، وخوض المعارك في سبيل ذلك.
*ِ كانت تلك هي الأمة التي بزغ فيها نجم آل سعود، الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله، أمة شتتها القتال، ومزقتها الفرقة، وتكالبت عليها قوى الشر من الأمراء الطامعين، ومن العثمانيين وأتباعهم.
كانت هذه هي الحال وقت أن استولى على الرياض ابن رشيد، حاكم جبل شمر، وكان آل الرشيد من أتباع آل سعود، ورجالهم؛ إِذ ولى الإِمام فيصل بن تركي، عبد الله بن علي بن رشيد إِمارة حائل سنة 1251 هـ (1835 م) وبعد أن تولى إِمارة حائل ابنه محمد سنة 1289 هـ (1872 م) وقوي أمره، ووثق علاقته بالعثمانيين، انتهى به الأمر إِلى دخول مدينة الرياض، وولى أحد رجاله عليها.
* ولكن الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز وثب على الرياض، واعتقل عامل ابن رشيد عليها، وبايعه أهل الرياض على الإِمامة، وكان ذلك سنة 1307 هـ فلم ينس آل سعود على الرغم من الشدائد والمحن عز دولتهم، ولا حلم وحدتهم.
أراد ابن رشيد أن يتصدى لما وقع من الإِمام عبد الرحمن، فحاصر الرياض شهرا، فلما ثبتت للحصار دعا إِلى الصلح، وتم الصلح على أن تكون إِمارة الرياض للإِمام عبد الرحمن، وكان ذلك سنة 1308 هـ (1890م) .(1/44)
ولكن ابن رشيد بعد الصلح تحرك لغزو الرياض، وفي طريقه إِليها فتك بأهل القصيم، ولم يتمكن الإِمام عبد الرحمن من نجدتهم، فأزمع مغادرة الرياض مع أهله- ومنهم ابنه عبد العزيز - وكان ما يزال صغيرا.
* كانت مغادرة الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز - رحمهما الله- للرياض والنجاة بأهله من ابن رشيد، تمهيدا لما أراده الله- عز وجل- بعد ذلك، وادخارا لسيف آل سعود في غمده، حتى يأذن الله بأن يعود الابن إِلى الرياض، ويبدأ في إِعادة الدولة السعودية؛ لكي تبسط سلطانها على شبه الجزيرة.
لقد خرج الإِمام عبد الرحمن من إِمارته بالرياض مكرها، ولكن الله أراد لشبه الجزيرة العربية مستقبلا مشرقا بالأمل على يد الابن الذي خرج مع أبيه على خوف من ابن رشيد. ولكنه- وهو في شرخ الشباب- عاد إِلى الرياض، واسترد إِمارتها لأبيه، وفتح الأب الإمام عبد الرحمن أبواب المجد لابنه، وهو يعرف قدر الابن وهمته.
لم تكن الرياض وحدها، هي غاية الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله، بل كانت الغاية الدفاع عن عقيدة التوحيد في الجزيرة العرِبية، وإِقامة حكم الله فيها، وكان ذلك يعني أن تتوحد الجزيرة سياسيا.
وهذا ما نجح فيه، رحمه الله، وأجزل مثوبته.(1/45)
[عبد العزيز القائد الملك الإنسان]
[صلاح النشأة وعظمة المواهب]
عبد العزيز القائد الملك الإنسان {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 41](1/47)
صلاح النشأة وعظمة المواهب ترتبط الأمم والممالك في كثير من عصورها بحياة رجل من رجالها، وبطل من أبطالها.
وعلى الرغم من أن التاريخ الوطني لشعب من الشعوب يفرد صفحات عديدة للكثير من الرجال، والأبطال، ورواد التقدم في حياتهم، إِلا أن ارتباط الأمة، أو الشعب، أو الدولة برجل واحد في حياته، وآثاره، وتأثيره في حياة شعبه، يبقى قاصرا على عدد محدود في تاريخ هذه الأمة، وقد يفرد التاريخ لواحد بعينه من رجال الأمة وأبطالها ورواد النهضة والتقدم فيها، صفحات عديدة، حتى تبرز حياة تتميز بالتفرد، والتفوق، وعظمة الإِنجاز، وشدة التأثير في حياة الملايين من البشر.
وهذا هو الشأن في حياة الملك عبد العزيز آل سعود في شبه الجزيرة العربية، وفي أمته العربية والإِسلامية.
* وإِذا كانت السنن الاجتماعية تقتضي أن يكَون للتميز والتفوق بين الأقران أسباب يكتسب أغلبها في وقت النشأة والإِعداد، فإِن ثمة أفرادا معدودين في تاريخ كل أمة وشعب، تظهر فيهم عناصر التميز والتفرد(1/49)
والتفوق، دون أن ترتبط كلها بأسباب معينة من النشأة أو الإعداد. وأعمال هؤلاء وإِنجازاتهم وآثارهم الباقية، تبدو مستندة إِلى مواهب خاصة أنعم الله بها على عبد من عباده؛ لكي ينفع أمته وشعبه، فالمواهب التي تظهر من أعمال الملك عبد العزيز وإِنجازاته هي على قدر ما أتمه وأنجزه في حياته، وهو قدر عظيم بكل المقاييس.
ولذلك فإِن إِلقاء الضوء على حياة الملك منذ البداية المبكرة، وتتبع سيرته في أطوار حياته، والالتفات إِلى خلقه وسيرته وتعامله مع أحداث الحياة في لينها وشدتها، يكشف لنا عن الظهور المبكر لتلك المواهب، وعن خلق جدير بملك عظيم من ملوك المسلمين في العصر الحديث.
ومن مجموعه ما تميز به الملك، من الإيمان بالله والثقة به، والتوكل عليه، والاستمساك بالعروة الوثقى، ومن الهمة العالية والأخلاق السامية، التي ظلت توجه سلوكه في المواقف كلها يتبين لنا أن الرجل، كان أمة في مواهبه وخصائصه.
* ولا نستطيع أن نتبين تلك المواهب والخصائص، إلا إِذا تحدثنا عن سيرة الملك وأحواله في جوانب مهمة من جوانب حياته المختلفة. ونحن نتحدث عنه هنا بوصفه إِنسانا قبل كل شيء، فقد كانت خصائصه، ومواهبه- باعتباره إِنسانا عربيا مسلما- هي التي هيأته- بتوفيق الله وفضله- لتلك المواقف، فكان أميرا وسلطانا وملكا، تبعا لتلك الخصائص والمواهب التي أنعم الله بها عليه، ولم يكن الملك والسلطان هو الذي أعطاه تلك المواهب والخصائص.(1/50)
في الصباح الباكر في يوم من أيام عام 1293 هـ (1876م) ولد للإِمام عبد الرحمن بن فيصل آل سعود، وزوجته سارة، وليد سمياه عبد العزيز، ووالده الإِمام عبد الرحمن أحد أحفاد الإِمام محمد بن سعود الذي أنشأ دولة كبرى في شبه الجزيرة، توحد أبناؤها في ظلها.
* نشأ الملك في قصر أبيه، وفي كنف أمه سارة بنت أحمد السديري، وكانت الأم امرأة قوية ذات حسب ونسب وأخلاق عالية، كشأن النساء ذوات العفاف والدين، كان البيت الذي آوى عبد العزيز في طفولته الباكرة بيتا يتصف بالورع والتقوى.
وبعد تربية الأم لطفلها سلمه أبوه إِلى معلم من أهل الخرج، هو عبد الله الخرجي، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ سورا من القرآن الكريم، وتلقى بعض الدروس الشرعية على يد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ، رحمه الله.
وفي مرحلة الصبا كان أبوه الإِمام عبد الرحمن بجانبه يعلمه؛ إِذ كان الأب تقيا، حصيف الرأي، وكان لا يعرف في الدين هوادة.
فنشأ الملك عبد العزيز على التقى والورع، ونما جسده كما نما علمه بما تعلمه من معلميه، وما تلقاه من أبويه، وقد كان حاد الذكاء، متوقد الذهن، كما تعلم ركوب الخيل، واستعمال السلاح، وهو في سن الصبا، وفضلا عن ذلك فقد أحاط بما حوله من ظروف الحياة التي كانت في شدتها، ورأى ما يعالجه أبوه الإِمام عبد الرحمن من مشكلاتها، وتعلم(1/51)
على يديه أول دروس السياسة التي يلزم الحكام والأمراء والسلاطين تعلمها وممارستها.
* حاول الإِمام عبد الرحمن أن يقاوم ابن رشيد، لكنه لم يتمكن، فأعد العدة للرحيل عن الرياض، ورحل في منتصف شهر رمضان عام 1308 هـ إِلى مضارب البدو، ومعه أهله وابنه عبد العزيز. وفي صحراء الدهناء كانت القافلة تسير حتى وصلت إِلى قبائل العجمان حيث أجارتهم على استحياء (1) فأرسل الإِمام عبد الرحمن أهله إِلى البحرين، حتى يجنبهم المكاره، ومشاق العيش في جوار لا يستريح إِليه، ولا يرغب فيه.
وفي بني مرة - وهي قبائل بدو- كانت الحياة خشنة، ولكن عبد العزيز تعود عليها، وأكسبه ذلك شدة البأس، وصلابة العود، والاعتماد على النفس، وتلك خصال كان لها أثرها الكبير فيما واجه الملك من خطوب.
وأخيرا استقدم الإمام عبد الرحمن أهله من البحرين، واستقر بهم المقام في الكويت.
* في الكويت كان عبد العزيز يعيش حياة قاسية وحافلة بالصعوبات، ولكنها عامرة بشوق عبد العزيز إِلى داره وسلطانه في الرياض، عاش في الكويت حياة فتية العرب، يستمع إِلى الناس، ويختلط بمن هم في سنه وفي مداركه.
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص18 مصدر سابق. وعاهل الجزيرة العربية، لعبد الرحمن نصر ص19- 21.(1/52)
وحين حكم مبارك الكويت بدلا من أخيه الشيخ محمد بعد قتله، اشتدت صلة مبارك بآل سعود، وأصبح عبد العزيز من أصفيائه الذين يحب أن يجلس إِليهم، وقد أفاد من صحبة أمير الكويت مبارك، وتعلم من مجالسه، والتقى الكثيرين من ضيوفه، ومن يجالسونه من عرب وأجانب، وأعان عبد العزيز على الإِفادة من حياته في الكويت ذكاء فطري، ووعي بواجبه الذي ينتظر منه، ورغبته الظاهرة في أن يعود إِلى الرياض مقر حكم آبائه، وأجداده ظافرا.(1/53)
[إيمان الملك عبد العزيز وتقواه]
إيمان الملك عبد العزيز وتقواه * من يعرف الملك عبد العزيز - رحمه الله- حق المعرفة يدرك أنه كان قوي الإِيمان بالله وحده لا شريك له، وأن قوة إِيمانه جعلته في بعض المواقف يرتفع فوق مستوىالأبطال من الرجال، حين كان اعتماده على الله وحده، وثقته في نصره.
* حين أراد عبد العزيز أن يسترد الرياض، وانتهى به المسير إِلى قرب أبواب المدينة على مسيرة ساعة ونصف منها، سار في مقدمة أصحابه، وكان معه ستون رجلا. ولما لم يكَن في نيته أن يهجم على خصومه بهذا العدد القليل، فقد انفرد هو مع نفر قليل من أصحابه، عدتهم سبعة رجال (1) واستخلف على بقية رجاله أخاه محمدا، وأوصاه:
" إِذا لم تأتك من الغد أنباء مني، فعد مسرعا، واعلم أننا قد ذهبنا في الهالكين، ولا حول ولا قوة إِلا بالله ".
كلمات قبل الدخول إِلى معركة حياة أو موت، لا يقولها إِلا مؤمن بالله شديد التوكل عليه، يعرف خطورة ما يقدم عليه، فلا يتردد في الإِقدام، ويحاول أن يحفظ من وراءه من إِخوانه.
_________
(1) الوجيز ص26 وعاهل الجزيرة ص41 مصدران سابقان، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة للدكتور عبد الله الصالح العثيمين، ص46، الطبعة الأولى 1415هـ.(1/55)
* وفي حياة الملك اليومية، يقول عبد الحميد الخطيب:
إِن الملك كان يستيقظ من نومه كل يوم قبيل صلاة الفجر، فيبدأ عمله بالتوجه إِلى الله، وتلاوة القرآن، وإِقامة الصلاة، ويقول: إِن لسانه كان دائما رطبا بذكر الله فيِ جميع الأوقات، فيكثر من حمده في السراء والضراء، لا يكتب خطابا لأحد من الناس إِلا بدأه بذكر الله، وبشكره على جليل نعمه (1) .
* ويندر من الملوك والحكام في التاريخ الإِسلامي بعد الصدر الأول من يتميز بتقوى الله، وخشيته، وإِظهار الذل له، مثل الملك عبد العزيز.
فقد كان الملك- كما شهد خاصته والمقربون إِليه، والموكلون بخدمته، وحراسته- يستريح إِلى ما قبل الفجر، ويأخذ القرآن الكريم، ويبدأ بالقراءة والصلاة حتى يؤذن المؤذن، وبعد الصلاة يعود إِلى قراءة القرآن والذكر حتى تطلع الشمس، فيستريح، ثم إِذا ارتفعت الشمس صلى ركعات.
لم يكن غريبا أن تكون كلمات الملك، وتوجيهاته، وخطبه في المناسبات العامة معبرة أصدق تعبير عن شخصيته التي يملؤها الإيمان بالله، والتوكل عليه، والإِنابة إليه، وكان الملك لا يتردد في نصح شعبه، وتوجيه الموعظة إِليهم، فقد آتاه الله حظا وافرا من العلم بالدين والدنيا.
خطب في أهل مكة في شهر ذي القعدة سنة 1345 هـ (1927م) ،
_________
(1) الإمام العادل 2 / 4، 50 وما بعدها، طبع شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر، بدون تاريخ.(1/56)
فذكرهم بوجوب شكر النعمة، حتى لا يكون حالهم ومآلهم كحال عاد وثمود، التي لم تتعظ بالرسل، ونبه الناس إِلى أن النعمة الحقيقية التي لا تزول، هي نعمة الاعتقاد بأنه لا إِله إِلا الله، ثم يقول الملك في خطابه إِلى الناس:
" نحن ما جئنا إِلى هنا لطمع، أو للتنعم بنعمة الملك، فنحن نبرأ إِلى اللًه من ذلك " ثم يقول للناس: " للإِنسان مال وولد وأقارب وأعمال، وكل ذلك يذهب ماخلا الأعمال، والأعمال تحتاج إِلى النية والإِخلاص، واتباع كتاب الله وسنة رسوله " (1) .
وهذا قول ملك تواضع لله- عز وجل- فزاده الله رفعة، تّصديقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (رواه مسلم وأحمد) ، كما كان الملك يفسر بعض آيات القرآن الكريم في خطبه وكلماته في بعض المناسبات (2) .
ومن مجمل خطبه وكلماته، يظهر اهتمامه البالغ بترسيخ عقيدة التوحيد الخالص، والحض على الإِخلاص لله في الأقوال والأعمال، والتحذير من الفرقة والتباغض بين الناس، ولا يصدر ذلك إِلا عن ملك يتحدث بقلب سليم إِلى أبناء شعبه.
ولا نستطيع أن نحصر كلمات الملك، ولا توجيهاته، ونصائحه، ومواعظه للناس (3) وهي سمة تميز الملك الصالح عن كل ملوك عصره، وحتى ما قبل عصره.
_________
(1) المصدر السابق 2 / 114.
(2) المصدر السابق 2 / 114-120.
(3) يرجع في ذلك: المصدر السابق، والوجيز ص214 - 218.(1/57)
ويتميز خطاب الملك إِلى شعبه بظهور عاطفته نحوه بشكل لم يعهد في كلام الملوك والرؤساء، وحتى منشوراته وتوجيهاته لا تخلو من ظهور هذه العاطفة. يقول في المنشور الصادر سنة 1360 هـ (1941 م) لأهل الحجاز:
" لقد تكلمت لكم مرارا أنني أحب هذا البلد، وأحب أهله، وأستأنس بالبيت الحرام، وبقرب مقر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ثم ينبه المنشور الناس إِلى ثلاثة أمور:
" المخافة من الجبار، والحجة علينا بما أعطانا الله من النعم، والثالث: النصيحة" (1) .
ويحض الملك شعبه على إِتيان الطاعات وترك المعاصي.
هذا الملك الذي كان له ورد بالليل يقرأه تقربا إِلى الله تعالى، وتواضعا له عز وجل، يقول عن نفسه:
" أنا عربي، ومن خيار الأسر العربية، ولست متطفلا على الرئاسة والملك، وإِن آبائي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك، ولست ممن يتكئ على سواعد الغير في النهوض والقيام، إِنما اتكالي على الله، ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون، ويستندون، إِن شاء الله " (2) .
لقد صدق- رحمة الله عليه- فهو من العارفين بالله عز وجل، وهو بعد ذلك يعرف نفسه.
_________
(1) الإمام العادل 2 / 156.
(2) الملك الراشد، لعبد المنعم الغلامي ص373، طبع دار اللواء 1980 م.(1/58)
* وقد يظن البعض ممن يبحث في سير الملوك والعظماء من الرجال أن إيمانهم وتقواهم، وخشوعهم، وخضوعهم لله- عز وجل- أمر خاص بهم وحدهم، وما أشد خطأ هذا القول؛ فإِن سجايا الإِنسان تطبع أعماله وأقواله، وتوجهها، وكل ميسر لما خلق له. لقد كانت سجايا عبد العزيز، وأولها وأعلاها، شدة الإِيمان بالله والالتزام بحكمه، كان لها أثرها في شعبه كله إِلى اليوم، إِيمانا بالله لا يخالطه الشرك، والتزام الدولة بحكم الله فيما جل أو دق من أمورها، واعتزازا بالإسلام والعروبة، مما جنب شعب المملكة المسلم تجارب غيره المؤلمة والفاشلة في عصر عبد العزيز، وما بعده.
لقد أصلح الله- تعالى- دين الملك، فصلح شعبه، والناس- كما يقال - على دين ملوكهم.
* ثمة مسألة أخرى ربما لم تلفت نظر الكاتبين عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - بالقدر الكافي، وهي أنه كان يفهم الإِسلام فهما صحيحا، ما أحوج الكثيرين إِليه في هذا العصر وبعد عشرات السنين من حكمِ الملك عبد العزيز. لقد تجرأ بعض الجهلة وأهل الأهواء، فزعموا كذبا وبهتانا أن الملك لم يراع بعض الأحكام الشرعية فيما استدعته نهضة بلاده، من إِصلاحات، وعلاقاتها مع غيرها، مع أن الملك في حقيقته كان خادما للحرمين الشريفين، وكان إِماما للمسلمين في عصره، وكان وقتذاك يحكم نجدا والحجاز، وفيه منزل الوحي والبيت الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان حريصا على الالتزام بالكتاب والسنة، واتباع السلف الصالح.(1/59)
* كان من دأب الملك أن يحتكم إلى الشرع في كل ما يتصل بأمور الدين، وكان من فهمه للدين أنه لم يكن يمنع التقدم، وتحديث البلاد ونفع أهلها، ولم يحظر استخدام ما يجعل حياة المسلمين حكاما ومحكومين ميسرة، ومن أجمع كلمات الملك في هذا الشأن قوله:
"لقد أخذ المسلمون اليوم يستيقظون من سباتهم، فينبغي لهم أن يتسلحوا بالأسلحة التي أصبحت في منال أيديهم، وهي نوعان: سلاح التقوى وطاعة أوامر الله، وثانيهما: الأسلحة المادية من سيارات وطيارات "، ولذلك لم يتردد الملك في استخدام هذه الأسلحة، وكان ذلك مما أغضب البعض جهلا، أو انتهازا للفرص.(1/60)
[ثقافة الملك الدينية]
ثقافة الملك الدينية * وحتى تكتمل الصورة عن الملك، وعن فكره الإِسلامي وثقافته الشرعية، لا بد أن نتناول بالذكر الجانب الشخصي في سيرة الملك، في أقواله وأفعاله، التي تظهره بكل وضوح، إِماما في تقواه- مع سلطانه- وداعيا إِلى الله بالكلمة- مع مضاء سيفه- ولا يتوفر ذلك لكل الحكام والسلاطين.
* يبدو اهتمام الملك عبد العزيز بالدين، وعنايته به في أحواله ومواقفه كلها، وفي ضبط علاقاتّه مع الناس، فالملك يعتبر الدين ركيزة كبرى في حياة الإِنسان وأساسا لحياة المجتمع. يذكر عبد الحميد الخطيب: أن الملك حبس أحد أبنائه الصغار وقتا؛ لأنه لم يصل الصبح مع الجماعة (1) هكذا وصل حرص الملك على تنشئة أبنائه على الصلاح والتقوى، وهو جانب قلما يهتم به الملوك في العصر الحديث. وكان الملك نفسه من الدعاة إِلى التوحيد، وإِلى التمسك بأحكام الشريعة، وقيم الإسلام، وآدابه في كلماته إِلى الناس، وإِلى معاونيه، بل وفي علاقاته مع أقرانه من القادة، والزعماء، والرؤساء.
_________
(1) الإمام العادل2 / 50 مصدر سابق.(1/61)
خطب أحد الناس أمام الملك في عيد الأضحى، فأشاد بفضله في تحقيق الأمن في ربوع البلاد، ومع أن ذلك مقبول ومعمول به عند كل الملوك والقادة، فإن الملك عبد العزيز في ورعه وتقواه أراد أن يرد الأمر إلى حقيقته، فقال:
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] (الأنفال 17) ثم يقول: " إن هذا إلا نعمة من الله أنعم بها على أهل مملكتي ".
* وفي خطاب الملك لشعبه في مكة المكرمة سنة 1345 هـ (1926م) يقول: "تكاثرت- ولله الحمد- النعم، وهي ليست من عمل المخلوق، وإنما هي من نعم الله جلال وعلا ".
ويضيف الملك في خطابه:
" هناك نعمة حقيقية لا تزول، وخزينة لا ينضب معينها، هي الاعتقاد بأن لا إله إِلا الله، وهذه النعمة مشروعة في كل مكان، ولكنها لهذه البقعة المباركة ألزم؛ لأن الحسنات والسيئات تتضاعف فيها " (1) .
ويقول الملك في خطابه لأهل المدينة سنة 1346 هـ (1927م) :
"إِنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين، وخادم للرعية، إِن الملك لله وحده، وما نحن إِلا خدم لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم نكون قد خنا الأمانة، إننا لا يهمنا الألقاب والأسماء، وإِنما يهمنا القيام بحق
_________
(1) المصدر السابق 2 / 113.(1/62)
واجب كلمة التوحيد، والنظر في الأمور التي توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا " (1) .
* في قول الملك تسطع بنورها بعض العبارات، التي وردت معانيها من قبل في أعز عصور الإِسلام، عصر الخلفاء الراشدين، وهي: إِنصاف الضعيف، والأخذ على يد الظالم، وأن الملك خادم لرعاياه.
* ومن أقوال الملك:
"أنا مبشر بدين الإِسلام ونشره بين الأقوام، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح، هي التمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع بشأنه إِلى أقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين " (2) .
ويقول الملك: " أنا مسلم، وأحب جمع كلمة الإِسلام والمسلمين " (3) .
ويقول: " أنا عربي، وأحب قومي والتآلف وتوحيد كلمتهم " (4) .
ويقول رحمه الله:
" دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإِما حياة سعيدة على ذلك، وإِما موتة سعيدة " (5) .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 122.
(2) الوجيز 216 مصدر سابق.
(3) الوجيز 216 مصدر سابق.
(4) الوجيز 216 مصدر سابق.
(5) جريدة أم القرى، العدد 1320 في 4 / 10 / 1369 هـ.(1/63)
ويقول في خطبة له بمكة المكرمة:
" يسموننا بالوهابيين، ويسمون مذهبنا الوهابي باعتبار أنه مذهب خامس، وهذا خطأ فاحش، نشأ عن الدعاية الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله، وسنة رسوله، وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، لا فرق بين الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا " (1) . * وقد أوردت الكتب، والمصادر التي بحثت في سيرة الملك - رحمه الله - الكثير والعديد من خطبه وأقواله، ولا نستطيع في هذا المقام حصرها، ولا ذكرها كلها، لكنها تمثل في نظرنا فكر ملك عربي مسلم، ملك عليه الإِسلام شغاف قلبه، وامتلأت نفسه بالاعتزاز بالعروبة. ويكفي أن نختار من أقواله ما يعبر بصراحة ووضوح عن فكره الإِسلامي العربي، وعن خلقه وسجاياه باعتباره ملكا مسلما.
ومنذ بداية العصر الحديث- وقبل عهد الملك عبد العزيز - لم يسمع المسلمون من ملوكهم حديثا في شأن الدين، كما تحدث الملك عبد العزيز، ولو جمعنا ما قاله عن الإِسلام، وعقيدته، وشريعته، وقيمه العليا، ملوك البلاد العربية والإِسلامية، وزعماؤها وقادتها في عهد الملك عبد العزيز، لما عد شيئا مذكورا إِلى جانب أقوال الملك الذي تفرد بين
_________
(1) الإمام العادل 2 / 136، مصدر سابق.(1/64)
الملوك، والقادة بهذا الإِدراك، والوعي لأهمية الدين، وعقيدة التوحيد في توحيد المسلمين، وإِصلاح شأنهم، وبناء مستقبلهم. بينما كان غالب ملوك العرب وقادتهم وزعمائهم في عهد الملك عبد العزيز، يتطلعون إِلى الغرب قبلة لهم في السياسة والاجتماع.
كان الملك عبد العزيز يستمد فكره من أقدس ما لدى المسلمين وأعز ما يملكون، كان فكره كله مستمدا من الإسلام: عقيدة وشريعة، وكان الدين عنده عبادة وسياسة، وإِصلاحا للمجتمع، وكانت العروبة: اعتزازا بالقيم والتقاليد التي أقرها الإِسلام، ورسخها.
* يمكن لنا أن نذكر بعض الأقوال للملك عبد العزيز الساطعة بنور إِيمانها وقوة منطقها وسلامة فكرها:
"إِنني والله لا أحب إِلا من أحب الله حبا خالصا من الشرك والبدع، أنا والله لا أعمل إِلا لأجل ذلك، والله، ثم والله إِني لأفضل أن أكون على رأس جبل آكل من عشب الأرض، أعبد الله وحده، على أن أكون ملكا على سائر الدنيا، وهي على حالتها من الكفر والضلال " (1) .
ويقول عن قتاله للأتراك:
"لم يقاتلونا إِلا لأننا امتنعنا أن نقول للسلطان: بأننا "عبيد أمير المؤمنين " لا لا لا، لسنا عبيدا إِلا لله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8] (البروج 8) (2) .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 129.
(2) المصدر السابق 2 / 130.(1/65)
ويقول- رحمه الله-:
" إِني والله أحب السلم، وأسعى إِليه، فإِذا بليت صبرت، حتى إِذا لم يبق في القوس منزع، وحان وقت الدفاع عن الدين والوطن فعلت، وهنا لا يكون إلا إحدى الحسنيين، إِما السعادة، وإِما الشهادة، وكلاهما نعمة من الله " (1) .
* ويخاطب الملك كبراء الناس وقادتهم:
"يجب عليكم أن ترفعوا إِليَّ كل ما يتظلم الناس منه، وترشدونني إِذا رأيتموني ضللت عن طريق الحق، وإِذا لم تفعلوا ذلك فأنتم المسؤولون، فو الله إِذا رأيت الحق أتبعه، لأنني مسترشد، وأما من رأى شيئا وكتمه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (2) .
ويقول الملك:
" لقد فتحت هذه البلاد، ولم يكن عندي من العتاد سوى قوة الإِيمان وقوة التوحيد " (3) .
ويقول:
"ليتفق المسلمون فيما بينهم على العمل بكتاب الله، وسنة نبيه، وبما جاء فيهما، والدعوة إِلى التوحيد الخالص، فإني حينذاك أتقدم إِليهم، وأسير وإِياهم جنبا إِلى جنب في كل عمل يعملونه، وكل حركة يقومون
_________
(1) المصدر السابق 2 / 134.
(2) المصدر السابق 2 / 134.
(3) الملك الراشد ص 370 مصدر سابق.(1/66)
بها، والله إنني لا أحب الملك ولا أبهته، ولا أبغي إِلا مرضاة الله، والدعوة إِلى توحيده " (1) .
* وحين طلبت الأمم المتحدة من الدول التي في عضويتها أن ترسل إِليها بنسخة من دستورها، أجاب الملك بأن القرآن الكريم هو دستور البلاد، وقانونها الوحيد (2) وكفي بذلك دليلا على إِخلاصه لله، ودعوته إليه، واعتزازه بالإِسلام.
* وفي العصر الحديث، لم يكن الحديث عن الإِسلام بمثل هذا الاعتزاز والفخر والتمسك به في كل شؤون الحياة، يصدر إِلا عن العلماء المنقطعين للعلم، والدعاة المتحمسين للإِسلام، ولم يحدث أن صدر عن ملك أو زعيم أو رئيس مثل ما قدمناه من حديث الملك عبد العزيز عن الدين، وعن التوحيد، وعن الدعوة إِلى تطبيق الشريعة. ولا غرو في ذلك، فهو ملك داعية، وملك معلم لشعبه، وملك يقدم القدوة الإِسلامية لأفراد شعبه ولأمته، لقد دعا بنفسه، وأكرم العلماء والدعاة، ونشر الكتب الدينية، وليس في معاصري الملك عبد العزيز من الملوك والأمراء والرؤساء والزعماء من شغل نفسه بالدين، علما وعملا ودعوة وإِرشادا ونصحا، كما فعل الملك عبد العزيز، حتى يمكن أن يقال: إِنه كان في عصره، بل في العصر الحديث كله، ظاهرة متفردة بين الملوك والقادة والزعماء.
_________
(1) الإمام العادل 2 / 137 - 138 مصدر سابق.
(2) الملك الراشد ص382 مصدر سابق.(1/67)
* ولكن أعجب ما في الأمر، أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- لم ينفق سنوات طويلة من عمره في تعلم الدين، فقد كان في صباه يتحمل مع أبيه الإِمام عبد الرحمن عنت الحياة ومشقاتها. وفي شبابه الباكر شغل عبد العزيز نفسه بتوحيد المملكة وجمع شملها، وكان باكورة نجاحه وبداية فتحه ونصره استرداد الرياض، ولم يكن لديه منذ استرداد الرياض وقت، ولا جهد ينفقه في غير الدفاع عن الدين، وعن وحدة شبه الجزيرة العربية، فما السر في تلك الحكمة التي تبدو في أقواله، وهذا الإدراك لمقاصد الشريعة الذي يبدو في خطبه وتوجيهاته، حتى كأنه جلس سنوات طويلة يحصل العلم من الكتب والعلماء؟ .
* السر في نظري يكمن في قوة العقل التي وهبها الله له، فعقل الملك أكبر من علمه بكثير، والعقل نعمة وهبة من الله- عز وجل- بينما العلم تحصيل من الناس والكتاب، وهو في ذاته اكتساب، ولذلك تعلم الملك من أيام حياته ومن مجالسته للعلماء، وأعمل عقله الكبير فيما تعلمه، فظهر في قوله وفكره وعمله علم العلماء، وسمت الحكماء، ويهدي الله لنوره من يشاء.
وقد كانت البيئة التي نشأ فيها الملك عبد العزيز، وهي بيت آل سعود، بيئة عرف عنها الفقه في الدعوة إِلى الله، والاهتمام بالإِسلام والمسلمين، فكان لها أثر واضح في الملك عبد العزيز، رحمه الله.
* أمر آخر لا بد أن يلفت النظر، وهو أن الملك- رحمه الله - بدلالة(1/68)
أقواله وأعماله، كان رجلا صالحا تقيا، فأنار الله فكره بالعلم والمعرفة، مصداقا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282] (البقرة 282) ، وقد عمل الملك بما علمه أبوه في صباه، وما استفاده من مجالسة العلماء، واستقبل ما علمه بعقل كبير، ونفس زكية، فامتلأ قلبه بالإِخلاص لله ولدينه، وانطلق لسانه بالحكمة والموعظة الحسنة.(1/69)
[الملك عبد العزيز الابن والأب والأخ]
الملك عبد العزيز الابن والأب والأخ كان الملك عبد العزيز منذ صباه، وفي مطلع شبابه، متوقد الذهن، عالي الهمة، وفي إِقامته في الكويت مع أبيه لم ينس ساعة أنه خرج من الرياض مقر آبائه وأجداده، فكان يلح على أبيه في الوثوب على الرياض، وكان هذا الإِلحاح أحيانا يخرج الابن عن هدوئه في مخاطبة أبيه (1) .
وبما يعرفه الأب الإِمام عبد الرحمن من علو همة ابنه، وحسن تدبيره، وقوة إِيمانه، أذن له في الانطلاق إلى الرياض، وقال لابنه، وهو يخرج من الكويت: " ترى- يا عبد العزيز - ليس لي قصد أن أقف أمام إِقدامك، ولكن موقفنا وحالنا يقضيان باستعمال الحكمة في إدارة أمرنا، أما وقد عزمت، فأسأل الله لك العون والظفر ".
بهذا ودع الأب ابنه، وأخلص في نصحه، ودعا له.
ولقي الأب من الابن كل بر، فقد استدعى الابن البار أباه من الكويت بعد أن استتب له أمر الرياض، فحضر الوالد. ويقول خير الدين
_________
(1) الوجيز ص18، وعاهل الجزيرة ص19- 20، مصدران سابقان.(1/71)
الزركلي: "إِن لآل سعود فيما بينهم سنة لا يكادون ينحرفون عنها، وهي أن صغيرهم يتأخر لمن هو أكبر منه إِذا حضر " (1) .
فلما حضر الأب إِلى الرياض بادره عبد العزيز بأن الإِمارة معقودة له، وأنه جندي في خدمته، ولكن الوالد لما يعرفه من همة الابن، وصلاحه، وقدرته أبى أن تكون الإِمارة له. وبعد أن تدخل العلماء، وذوو الرأي قبل عبد العزيز الإِمارة، وشرط أن يكون للأب الإشراف الدائم على عمله، وإِرشاده حين يحتاج الأمر إِلى النصح والإِرشاد.
وتسلم عبد العزيز إِمارة الرياض على مشهد من الناس، وأعلن الأب نزوله عن حقه في الإِمارة، وأهدى ابنه سيف سعود الكبير، وتمت البيعة لعبد العزيز سنة 1320 هـ (1902م) وتخلى الأب عن قصر آل سعود؛ لكي يقيم فيه الابن حاكم الرياض عبد العزيز.
وقد يحار المرء في دلالة بر الابن، وفي عطف الأب، ولكن بر الولد لأبيه هو سجية الابن، وقبل ذلك خلق الإِسلام، وأمره، لقول الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] (الإسراء 23) ، وهو كذلك معرفة بحق الأب في الإِمارة التي كانت له والتي عمل الابن على استعادتها له، أما عطف الأب في ذلك المقام، فهو من طبيعة البشر، ولكنه- في الوقت نفسه، وفي ذلك الموقف بالذات- إِدراك من الأب لقدرات ابنه، وإِقرار منه بأحقيته للحكم، وأن الابن بخصائصه وبما حققه، هو نجم آل سعود الصاعد في شبه الجزيرة العربية.
_________
(1) الوجيز ص23، مصدر سابق.(1/72)
وقد ظل الأب إٍلى جانب ابنه يشير عليه، ويبذل له النصح، ويدله على الخير، وكان تقيا ورعا قديرا على تخفيف غلواء المتشددين، وقادرا على مجادلة المنتسبين للدين، لا سيما المخدوعون منهم، فكان له سلطان على النفوس، وكان الملك عبد العزيز يبالغ في توقير أبيه، ويذهب في البر به إِلى ما يعد مثلا لأمراء المسلمين، بل لعامتهم أيضا. فقد قصد الإِمام عبد الرحمن إِلى المسجد الحرام، وكان مريضا، فبادر ابنه الملك، وحمله على كتفيه، وهو يدخل من باب السلام، وسار به إِلى مصلاه في المسجد، ولم يول الملك ذلك أحدا من خدمه ومواليه (1) .
وقد مات الأب الإِمام عبد الرحمن في ذي الحجة 1346 هـ (1927 م) ، ودفن في الرياض، ففقد الابن الملك أبا عطوفا ومرشدا وناصحا وخبيرا، يستعين به في كثير من المهمات.
* كان الملك على حزمه وعزمه وقوة شكيمته رقيقا حين ينتابه الحزن، إِذ فقد ابنه البكر الأمير تركي عام 1336 هـ (1917 م) ، كما فقد زوجه الأميرة الجوهرة بنت مساعد بن جلوي، والدة الأمير محمد والملك خالد، رحم الله الجميع، وكان لها في قلبه مكانة كبيرة؛ لأنها كانت ابنة عمه، وهي أميرة كبيرة في آل سعود، وأم الملك هي التي زوجته بها، وقد قضت، وهي في شبابها، وظل الملك محزونا عليها فترة من الوقت، وأكرم من كان يخدمها في حياتها، ولم يأذن لغير أخته نورة بأن تدخل حجراتها في القصر.
_________
(1) الإمام العادل 2 / 49 مصدر سابق.(1/73)
وكان الملك يحب أخته نورة، ويعتز بها، وكانت تشاركه همته العالية، حتى إِنه كان يعتز بها في أثناء الخطوب، فيقول: " أنا أخو نوره ".
* وفي سنة 1330هـ (1912م) كان سعد أخو الملك في البادية في أطراف نجد، وأوعز الأتراك إِلى الشريف حسين، أن يستميل بعض القبائل ضد ابن سعود. فرحل الحسين إِلى بادية عتيبة، وأسر سعدا؛ ليساوم الملك عبد العزيز عليه، ويقول خير الدين الزركلي:
"إِن الملك عبد العزيز اضطرب، وترك كل شيء إلا سعدا، وزحف بجيشه غرب الرياض، وكتب إِلى شيوخ عتيبة ينذرهم إِن تركوا الشريف حسينا يغادر إِلى الحجاز، ومعه سعد، فإِن الحرب بينهم لا محالة، وعندئذ تنبه شيوخ عتيبة لتحذير الملك وإنذاره، وطلب الشريف حسين من عبد العزيز بواسطة الشريف خالد بن لؤي "ورقة" يستطيع أن يجامل بها السلطان العثماني، ولا تضر ابن سعود، وافق ابن سعود على أن يكتب تعهدا بدفع مبلغ من المال للدولة العثمانية سنويا، ووصف ذلك بأنه قصاصة ورق، ولكنه حفظ أخاه الذي عاد محملا بالهدايا " (1) .
_________
(1) الوجيز ص 52 مصدر سابق.(1/74)
[الملك عبد العزيز مع أعوانه ورعيته]
الملك عبد العزيز مع أعوانه ورعيته كتب كثيرون عن سجايا الملك عبد العزيز - رحمه الله- وأسلوب تعامله مع أعوانه والمحيطين به، والذين يثق فيهم من خاصته، ولسنا في مجال سرد ما كتب، وهو كثير؛ لأنه يتعلق بحياة الملك اليومية، ومواقفه إِزاء الأحداث والأشخاص. ولكن العبرة في الكثير مما رواه شهود العيان، أو سجلته الكتب، هي في بيان سجايا الملك التي انتظمت على وتيرة واحدة طوال حياته المديدة، تكشف عن خلق طبعه الله عليه، وسارت عليه حياته أميرا وسلطانا وملكا عربيا مسلما، في تعامل الملك مع أعوانه من خاصته وعماله، أو في معاملته مع أقرانه من الأمراء أو الملوك، أو في تعامله مع ذوي المصالح، تبدو سجاياه التي توجه تصرفاته، والتي هي في مجموعها سجايا ملك عربي مسلم، ليس غريبًا أن تجتمع في الملك عبد العزيز، رحمه الله. ولكن الغريب عدم توفر بعضها، أو أكثرها فيمن عاصره من الملوك والأمراء المسلمين. وبهذا تميز الملك عبد العزيز عن معاصريه من ملوك المسلمين ورؤسائهم، وأمرائهم.
وإِذا كان الملك والسلطان والإِمارة تحتاج إِلى مؤهلات شخصية(1/75)
وسجايا ذاتية، فإن من يمتلكونها- وهم قلة في كل زمان ومكان- هم الذين يوسع لهم التاريخ في صفحات المجد، والخلود بين ملوك المسلمين، ومن هؤلاء في تميزهم وندرتهم، الملك عبد العزيز، وقد كان ملكا وإِماما في شعبه.
من أهم ما عرف به الملك من سجايا، معرفته بالناس، وحسن اختيار الإِخوان والأعوان، وذلك مما يلزم الملك والأمراء، فهم في حاجة إِلى من يقوم بخدمتهم وعونهم بإخلاص وأمانة وكفاية. وقد كان اختيار الملك عبد العزيز لأعوانه والخاصة منهم مثلا في حسن الاختيار، فلا يتأثر في اختيار الأعوان بعاطفة أو هوى، كانت الأمانة والقوة على العمل هي المعيار، ولم يقيد نفسه في الاختيار بقرابة قريبة، ولا بسن متقدمة دون الشباب.
بل إِن الملك تجاوز ذلك إِلى عدم اعتبار الجنسيات في اختياره لأعوانه، لقد عمل مع الملك مستشارون، وخبراء، وسفراء عرب ومسلمون، من المملكة، ومن دول عربية أخرى، عمل معه اللبناني، والمصري، والليبي، والعراقي، والتركي، والسوري، وغيرهم، ولولا قدرته على تكييف مستشاريه بحسب ظروف مملكته وتطلعاتها وأهدافها لما نجح هؤلاء في بلاط الملك (1) .
* ولم يكن أعوان الملك وخاصته بعيدين عنه، أو كان يكتفي هو
_________
(1) الإمام العادل 2 / 35 - 38، مصدر سابق.(1/76)
بإِصدار تعليمات وتوجيهات عامة لهم، بل كانت مشاورتهم، والاجتماع بهم، وحضورهم مجالسه هي السمة العامة في العمل مع أعوانه، والإِشراف عليهم، وتقويم عملهم.
كانت هناك الاجتماعات الخاصة لدراسة القضايا السياسة الكبيرة، وكان يحضرها والده الإِمام عبد الرحمن، وبعض العلماء، ومستشارو الملك، وكان يحضر رؤساء العشائر مجلس الملك أحيانا قبل أن يكتمل التنظيم الإِداري للمملكة، وذلك فضلا عن الاجتماعات العامة التي تضم مئات الأشخاص من العلماء والمستشارين والأعيان وأمراء المدن (1) .
وكان الملك يثق فيمن يعينهم على أمور البلاد في بعض الشؤون بعد حسن الاختيار. ومن أقواله التي تدل على الحكمة في التعامل مع الأعوان والمستشارين:
" لا أريد أوهاما، بل حقائق، أريد رجالا يعملون، فإِذا اجتمع أولئك المنتخبون، وأشكل عليّ أمر من الأمور رجعت إِليهم في حله، وعملت بمشورتهم " (2) كان حسن اختيار الأعوان سجية في الملك منذ شبابه الباكر، وعندما أزمع على استرداد الرياض كان معه أربعون رجلا من آل سعود، والموالين لهم، ونحو عشرين من الأتباع، وقد تفقدهم قبل أن يترك واحة يبرين، وأخبرهم بكتاب أبيه له بالنصح بالعودة إِلى الكويت، وخيرهم بين الاستمرار معه في المهمة التي اضطلع بها، وبين الرجوع للراحة والدعة والأمن والسلامة،
_________
(1) الوجيز ص 208 -210، مصدر سابق.
(2) المصدر السابق ص161.(1/77)
ولكنهم جميعا انحازوا إِليه، وارتضوا قيادته والسير تحت لوائه (1) . ولا عجب، فقد اختارهم، ورضيهم أعوانا.
وكان الملك على رأس أعوانه في الخطر، وأولهم في العمل ومواجهة العدو، وليس كل الملوك والقادة كذلك في سنن الحياة، وما يكون من عمل بين الناس والأمراء والولاة.
ولم يكن شيء يمنع الملك من إِحقاق الحق من قرابة أو منزلة، فقد اتصل بعلمه أن أمانة بلدية مكة المكرمة قصرت في أداء بعض واجباتها، فاستدعى مجلس الشورى، ولام الأعضاء على سكوتهم مجاملة لأحد الأعيان الذين لهم منزلة عند الملك، وعزل المسؤول عن التقصير، وإِن كان مقربا منه، وولى غيره (2) .
كان الحزم من صفات الملك مع أخذ الأمور بالحكمة، ومن أمثلة ذلك أن فريقا من أهل الحجاز شكوا إِلى الملك بعض أطباء وزارة الصحة، واتصل خبر الشكوى باثنين من مستشاري نائب الملك إِذ ذاك (وكان الملك فيصل - رحمه الله- وذلك في أواخر سنة 1346 هـ (1928 م) وأرادا أن يخفيا أمر الشكوى، وأن يتسلماها من صاحبها، فأبى الرجل، ولما عرف الملك حقيقة الأمر فصل المستشارين، لرغبتهما في كتمان أمر الشكوى، وأمر بعزلهما وحرمانهما من خدمة الدولة (3) .
_________
(1) المصدر السابق ص25، والملك عبد العزيز وفتح الرياض، لعبد الواحد محمد راغب، ص47 من مطبوعات دائرة الملك عبد العزيز.
(2) الإمام العادل 2 / 62، مصدر سابق.
(3) المصدر السابق2 / 55.(1/78)
كان الملك مع خلصائه وأعوانه على سنة العدل والرشاد، ويروى أن الملك- رحمه الله- كان يجلس بين حاشيته، وفي المجلس أحد وجهاء سوريا، وأثير النقاش في مسألة اختلف فيها رأي الملك عن رأي الجالس معه ضمن حاشيته، وعلى الرغم من تأثر الملك بأسلوب النقاش- مع اختلاف الرأي- فلم تأخذ الملك الأنفة أو العزة بالملك، ففي اليوم التالي كان يتحدث مع من خالفه الرأي بكل مودة، وهذا نادر من الملوك، لاسيما حين يقع الخلاف بين الملك، وأحد أعوانه على ملأ من حاشيته (1) .
* وقد كان حزم الملك، وعدله خيرا للرعية، فقد ألزم قضاة محكمة الطائف الشرعية أن يتعجلوا في إِنجاز مصالح الناس ومعاملاتهم القضائية، واستعانت به امرأة مسنة وقفت على باب قصره، فتابع قضيتها حتى حكم فيها (2) .
وهذه الأمثلة وغيرها كثير، يصعب حصره، مما يدل على رغبة الملك - رحمه الله- في أن يكون مشرفا ومراقبا لكل ما يمس مصالح رعيته، مهما كان شأن صاحب المصلحة، وهو أمر يذكر بمسلك الراشدين من خلفاء المسلمين، وولاة أمورهم.
* حينما نتحدث عن حياة الملك عبد العزيز مع الناس بعامة، ومع رعيته بخاصة، لا نتحدث عن ماض بعيد، فقد عاش الملك عبد العزيز
_________
(1) المصدر السابق 2 / 58.
(2) المصدر السابق2 / 64.(1/79)
حياته كلها بين أهله وعشيرته وشعبه، وبين إِخوانه وأعوانه، وبين أصدقائه وأعدائه، وكانت حياته في أحوالها ظاهرة للناس، فلم يحتجب عنهم أميرا، ولا سلطانا، ولا ملكا؛ ولذلك فإِن المصادر التي نستمد منها أحداث حياته عديدة ومتنوعة، تستند إِلى رؤية العين وشهادة اللسان، وإِلى السجل المكتوب، ولا نقصد التأريخ لحياته ملكا، وما فيها من أحداث كبرى، فالأحداث التي تهم كتاب التاريخ والمهتمين به، هي الأحداث الكبرى التي تؤثر في حياة الأمم والدول.
أما وقائع الحياة اليومية التي تتصل بالناس فقد لا تنال ما تلقاه أخبار المعارك والانتصارات أو الهزائم من اهتمام، لكن تلك الوقائع اليومية في حياة الإِنسان، هي التي تكشف بصدق وأمانة عن سجاياه الحقيقية وخلقه الأصيل. وهذه السجايا وتلك الأخلاق، هي المؤهلات الحقيقية لكل ما يحقق العظيم من إِنجازات كبرى في حياته.
ولا يمكن للباحث المنصف أن يعرف الملك عبد العزيز آل سعود معرفة كافية عند المرحلة التي استولى فيها- وهو أمير في مقتبل الشباب- على الرياض، واستردها لأهلها وأصحابها. لقد كانت الشجاعة والبطولة والفداء واحتمال المشاق وحسن التوجيه والقيادة، أسبابا قائمة مهدت لذلك النجاح، وحققته. ولكن إِقامة مملكة واسعة الأرجاء، متينة الأساس، موحدة سياسيا، لها حضورها القوي، عربيا وإِسلاميا، ودوليا، وبعث هذه المملكة حضاريا على يد الملك عبد العزيز، يحتاج إِلى كل أخلاقه وأعظم سجاياه التي وهبها الله له، وهي الأخلاق والسجايا التي تعامل بها الملك عبد العزيزِ مع الناس، أميرا وسلطانا وملكا، وقبل ذلك ومعه، إِنسانا عربيا مسلما.(1/80)
* كانت يد الملك عبد العزيز - رحمه الله- عامرة بالجود على الناس، وكان الكرم سجيته مع ما كان من أمر قلة المال في يده في صباه وشبابه الباكر. والقليل من الناس من تغلب سجيته تقلبات زمانه، فاحتمل الملك قلة المال وخشونة العيش زمنا كان يسعى فيه لغاية أشرف وأعظم من تحصيل المال. وحين استرد الملك، وأقام المملكة، ظلت فسجيته العربية وخلقه الإِسلامي في الكرم والجود، حتى ظهرت ساطعة حين أفاء الله عليه.
واشتهر- رحمه الله- بحب الضيوف وإِكرامهم، فقصده الناس، لاسيما الفقراء وأصحاب الحاجة راجين معونته، ويندر أن ترى ملكا أو حاكما قصده الناس كما قصدوا الملك عبد العزيز، فضيوفه كانوا يتجاوزون الآلاف يوميا، وكان يقدم لكل ضيف عند مغادرته قصره هدية من طعام أو لباس أو مال، وكان الملك قد أعد بيتا في الرياض للضيافة يقصده الناس يوميا من أبناء شعبه وغيرهم من المحتاجين.
وقد بلغ من حرصه على كفاية الناس من الرزق أن طمأنهم- حين نشبت الحرب العالمية- أنه سوف يشاطرهم ما لديه من مال وأرزاق، وقد شمل جوده أهل البادية والحضر. وكان- إِلى جانب ذلك- لا ينسى العاملين لديه من رجال الدولة، فيهبهم ما يعينهم في حياتهم زيادة على رواتبهم.
* وفي كرم الملك وسماحته طرائف تروى، فهو يخطئ أحيانا فيعطي السائل ذهبا بدل الفضة، فلا يسترد ماله منه، ويخطئ في كتابة(1/81)
المبلغ الذي يقصد أعطاه لشخص، ويكتب مبلغا أكبر، فلا يصحح خطأ القلم إذا تسلم الشخص المال بحجة ذكرها لمن راجعه، وهي أنه لا يريد أن يكون " القلم " أكرم منه، ويسير بدعوة عجوز، فيهبها من المال ما تعجز عن حمله.
رحمه الله، فقد كان في كرمه عربيا خالصا، وما يروى عنه يذكرنا بما يحكى عن الكرم، وأصحاب الجود من العرب على امتداد القرون (1) .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 69- 72.(1/82)
[الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة]
[استرداد الرياض بداية التأسيس والتوحيد]
الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء: 10]
{فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ - وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 43 - 44]
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]
{وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52](1/83)
استرداد الرياض بداية التأسيس والتوحيد * أهم عمل يشغل بال الملك عبد العزيز، هو استرداد الرياض، وبقية أجزاء بلاده من يد من تسلط عليها.
كان الخروج من الرياض أشد ما آلم الأمير الشاب، وكان مقامه في الكويت على أمل العودة إِلى الرياض بعد أن يأخذ العدة، فلما وجد بغيته في عشرات من الرجال من الإِخوان والأعوان، أظهرهم ابن عمه عبد الله بن جلوي، إِلى جانب قتال الشيخ مبارك شيخ الكويت لابن رشيد.
لما وجد عبد العزيز ذلك توجه إِلى الرياض على غير رغبة من أبويه، خوفا عليه، وإِشفاقا من الهزيمة، أما أخته نورة فقد شجعته، وكانت ذات همة عالية، تعرف أخاها حق المعرفة.
خرج عبد العزيز إِلى الرياض بعدته ورجاله، ولم تكن العدة كبيرة، ولا الرجال كثرا، ولا كان على رأس جيش كبير، فكان أعظم ما أعده الثقة بالله، ثم مضاء العزم، وشدة الإِقدام.
* وليس من أهداف هذا الكتاب تفصيل القول في مسيرة الملك عبد العزيز إِلى الرياض، فلم تكن معركة استرداد الرياض، موقعة من(1/85)
معارك الحروب دامت أياما، ولا قتل فيها المئات أو الآلاف، ولا وضعت لها الخطط الحربية المعقدة الكبيرة. كانت في مجملها معركة عبد العزيز قائدا، وصحبه من العدد القليل جنودا، وكان الفكر والتدبير والإِقدام لعبد العزيز. وإِذا كانت معارك الجيوش الكبيرة يقودها القادة، ويحقق فيها النصر الجنود، فإِن معركة استرداد الرياض، خطط لها، وقادها، وحقق فيها النصر القائد والأمير والجندي عبد العزيز مع ثلة من إِخوانه وأعوانه شاركوه، فلم يكتف بمهمة القائد أو الأمير، ولكنه كان مع إخوانه وأعوانه، وكان قبلهم في مواطن الخطر ومواقع النزال.
* في سيره إِلى الرياض واجهته محن وشدائد؛ لكنه عزم أن يدخل الرياض، فجمع رجاله، وأنبأهم بحاله وبشدته، وجدد أمامهم عزمه، فلم يبق معه إلا أشداء القلوب، عشرات لا يجاوز عددهم الستين أعطوا العهد لابن سعود على الصمود معه إِلى النهاية، ولزم القوم مكانهم يتسقطون الأخبار، ولزم عبد العزيز رجاله يفكر ويدبر، ويخطط، مع شدة الحياة من حولهم جميعا، وكان ذلك في شهر رمضان من عام 1319 هـ.
* تبدو الهمة العالية والشجاعة الفائقة في خطة الأمير عبد العزيز لاقتحام معقل عامل ابن رشيد في الرياض، ولم يكن معقولا أن يهجم على معقل عامل ابن رشيد بعشرات الرجال، وهو في معقله يحرسه المئات، ويندفع معه وقت الهجوم جنوده، فاختار الملك عبد العزيز خطة، تحمل فيها مع نفر قليل من أعوانه كل الخطر وكل المغامرة بحياتهم، في هذه الخطة لم يكن أميرا ولا قائدا، يعطي الأوامر جنوده، بل كان الأمير والقائد، وأول الجنود، وأقربهم إِلى موقع الخطر والنزال.(1/86)
* قرب الرياض أبقى عبد العزيز ثلاثين من رجاله تحت إِمرة أخيه محمد، وتقدم مع سبعة من أعوانه، واقتحم معقل والي ابن رشيد عجلان مع رجاله القليلي العدد والعدة (1) .
عمل ينم عن الشجاعة والجرأة بأوسع معانيها، أن يقتحم حصن والي ابن رشيد على من فيه من الجنود والأعوان والحراس المسلحين مع قلة العدد والعدة، ومن يتتبع خطوات هذا الاقتحام الجريء يدهشه من الملك عبد العزيز كل ما فعل.
وصل إِلى بيت الوالي عجلان من البيتين المجاورين له، بعد أن تحدث مع رجل من أهل البيت الأول تردد قبل أن يفتح له باب البيت، ومن حسن حظ الملك، ورعاية الله له أنه حين دخل بيت الرجل عرفته إِحدى ابنتيه، فأدخلته، وهرب أبوها من البيت، ثم أغلق عبد العزيز البيت على من فيه، وقفز مع رجاله إِلى بيت يجاور بيت عجلان، وأغلق على امرأتين وجدهما بالبيت بابهما، ثم نزل إِلى بيت عجلان، فوجد فيه امرأتين: زوجة عجلان وأختها، فعرف منهما مكان زوجها الذي كان محصنا في قصره.
وفي الروايات التي تفصل هذا الاقتحام، ما يفيد رباطة جأش الملك ورجاله، لقد ناموا قليلا، وربما تناوبوا النوم، وطعموا قليلا من التمرات، وصلوا الصبح، ثم انتظروا خروج عجلان، ومعه خدمه وحراسه، يقصدون البيت الذي اختبأ فيه عبد العزيز ورجاله.
_________
(1) الملك عبد العزيز وفتح الرياض، ص 136 - 137 مصدر سابق، وصقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1 / 241 - 244 الطبعة الخامسة 1399 هـ.(1/87)
وحين خرج عجلان في الصباح فوجئ بالهجوم، وحاول الفرار، وهرب رجال عجلان من حوله، كان مع عبد العزيز بندقية، ومع عجلان سيف سقط من يده بعد أن أطلق عبد العزيز عليه النار.
حاول عجلان الهرب من فتحة أو باب صغير، فأمسك به عبد العزيز، وتحمل ضربته له، ولم يتركه حتى دخل رجاله، وفتحوا الباب، وقتل ابن جلوي عجلان، فتم النصر، وعلا صوت أهل الرياض: بأن الملك لله، ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن.
* أرسل عبد العزيز بالبشارة إِلى أبيه، وطلب المدد بعد أن انتصر على حامية ابن رشيد، وكان يوما مشهودا في حياة الملك عبد العزيز، بل في حياة كل مواطن من أبناء المملكة العربية السعودية، يوم الخامس من شهر شوال سنة 1319 هـ (الموافق 15 / 1 / 1902 م) .
* كان ما فعله عبد العزيز - وهو في شبابه- عملا من أعمال الهمة العالية، والعزيمة الماضية، والشجاعة الفائقة بكل المقاييس، عملا يكاد يكون شخصيا، تبدو فيه الذاتية في التخطيط، والتوجيه، والعمل، كأصدق ما تكون.
لقد اقتحم هو بيت خصمه، وقاتله وتحمل ضربته، فلم يكن أميرا يقود جيشا، ولا قائدا يوجه جندا، ولكنه كان أميرا يطلب إِقامة دولة، وتوحيد أمة، وقد فعل، ولكنه فعل ذلك بعدد قليل، وعدة أقل، وجرأة نادرة، وشجاعة في المواجهة.(1/88)
كان معه وقتذاك عدد قليل من الإِخوان والأعوان، ولكن يبقى أن عبد العزيز كان معهم مفكرا ومخططا ومدبرا ومنفذا، وكان أولهم حين واجه الخطر الذي لا يواجهه- إِلا نادرا- أمراء الجيوش، وقوادها في المعارك الكبرى، التي تتصادم فيها الجيوش، وتختفي فيها شجاعة الرجال، مع سعة الصدام، وكثرة العدد، وقوة العدة والسلاح.
هذه الليلة التاريخية تعد بداية رائعة لعمل كبير، وهو بناء دولة، وإِقامة مملكة، وقد قام بهذا طوال أيام حياته ابتداء من تلك الليلة.
كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوما من أيام التاريخ المجيدة في حياة عبد العزيز، وفي حياة المملكة التي أقامها ويمكن لنا إِذا عرفنا أن ذلك اليوم كان ختاما لمرحلة من مراحل حياة الملك البطل عبد العزيز آل سعود، أن ندرك في الوقت نفسه أنه كان بداية لعمل آخر أعظم، وأجل، وأبقى على مر الدهور، لقد انتصر في ذلك اليوم على ابن رشيد، واسترد الرياض التي خرج منها صغيرا مع والده الإِمام عبد الرحمن، لكن همته العالية، وعزيمته الماضية لم يكن مداها الرياض وحدها، وإِنما كانت غايتها أعظم وأجل وأبقى.
لقد كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوما من أيام التاريخ حقا، كان يوما له ما بعده، فقد كان انتصار عبد العزيز على خصمه في الرياض هو بداية الانتصار الحاسم فيما بعد، وكان هو الأساس، وحجر الزاوية في إقامة الدولة السعودية الثالثة (المملكة العربية السعودية) التي شملت(1/89)
غالب شبه الجزيرة العربية، دولة ومملكة موحدة، والذي وضع شعب شبه الجزيرة على خريطة العالم الحديث.
لم يكن الاستيلاء على الرياض نتيجة معركة، ولا كانت غزوا بالجيوش وصداما بالسلاح بين قوتين، وإِنما كان عملا بطوليا اعتمد - بعد نصر الله عز وجل- على شخصية من قام به مع نفر قليل من إِخوانه وأعوانه، استولى به على مقر السلطان لخصومه، وتغلب على رجالهم في الرياض، ولم يكن العمل ليتم بهذه السهولة في التدبير والتنفيذ لولا توفيق الله، ثم لما لأسرة آل سعود من سابق الحب، وقديم الاحترام والتقدير لدى الناس.
كانت أسرة آل سعود غير بعيدة عن الرياض: أرضها وأهلها، فقد كان الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز حاكما لها، ظفر بتقدير الناس وحبهم له وطاعتهم، بسبب ما تميز به من علم، وفضل، ورأي، وسيرة حسنة في الحكم.
إن الدليل على ذلك قائم، وظاهر في أحداث الليلة التي استولى فيها ابنه عبد العزيز على مقر إِمارة خصمه، أو بمعنى آخر استرد الحكم والسلطان الذي كان لأبيه من قبل.
لقد قال الملك عبد العزيز فيما رواه عنه فؤاد حمزة عن ليلة الاستيلاء على المصمك (1) .
_________
(1) الملك عبد العزيز وفتح الرياض ص104، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة ص54، مصدران سابقان.(1/90)
إِن الحراس لم يكونوا يحرسون المدينة، بل مقر حاكمها فقط، فيحصرون أنفسهم ليلا في القلعة، مما يستنتج منه أنهم كانوا مكروهين من أهل البلد، بل كان أهل الرياض يتمنون عودة حكم آل سعود، وفي رواية الملك عبد العزيز، أن صاحب البيت الذي كان مجاورا لمقر عجلان أمير الرياض كان له بنات يعرفن الملك، وأنهن لما فتح أبوهن باب المنزل صرخن: "عمنا عمنا " أمام أبيهن " جويسر "، الذي هرب- كما تقول الرواية- دون أن يكشف سر المهاجمين. وفي الرواية أيضا: أن زوجة الأمير كانت تعرف الملك؛ لأنها من أهل الرياض، وعمل أبوها وعمها في خدمة آل سعود (1) .
* كان استرداد الرياض عملا بطوليا من الملك عبد العزيز، لمعت فيه شخصيته أميرا عالي الهمة، بعيد الغور، صاحب شجاعة وفداء قل أن يكون له نظير، وقائدا فذا ملهما يستمد شجاعته وقدراته من ثقته بالله تعالى. ولقد استطاع استرداد الريِاض بأقل قدر من الخسائر في الأرواح والممتلكات، فلم يكن يقود جيشا، ولا كان يواجه جيشا، وكان من بين عناصر النجاح حكم أبيه السابق للرياض، ومقام أسرة آل سعود بين أهلها؛ ولذلك فرح أهالي الرياض حين سمعوا المنادي: " الملك لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن ".
لقد كان ذلك مرحلة مهمة في حياة الملك عبد العزيز، لكنها مجرد علامة وبشارة لما بعدها.
* لقد كان استرداد الرياض مجازفة كبرى، وبطولة عظيمة، ولكن هذه البطولة- مع قدرها- لا تستطيع أن تخفي بقية سجايا الملك،
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص27، 107- 108 مصدر سابق.(1/91)
وخصاله التي صاحبتها وتلتها. وهذه السجايا والخصائص الشخصية للملك، هي التي أهلته بعد استرداد الرياض، لكل الأعمال الجليلة والإِنجازات العظيمة في تاريخ العروبة والإسلام، هذه السجايا التي ظهرت في سيرته مع الناس تستحق أن تذكر؛ لأنها سجايا وخصال، وهبها الله للملك عبد العزيز، فإن الملك مهما كان عظيما لن يمنحها لمن حرم منها.
* إن من حق القارئ، ومن حق الجيل الذي خلف عبد العزيز آل سعود، لا سيما من شباب المملكة العربية السعودية، والأجيال التي بعده، أن تعرف من هو عبد العزيز آل سعود؟ .
لقد عرفه الناس أميرا ذا همة عالية، وعرفه الناس سلطانا، وعرفوه ملكا أقام دولة مترامية الأطراف، موحدة الجوانب، يرفرف عليها علم التوحيد، وتظلها راية الوحدة. لقد عرف الناس الملك عبد العزيز أميرا، وسلطانا، وملكا.
ولكن خصائص الإمارة، والسلطان، والملك، كانت في عبد العزيز الإِنسان وعبد العزيز العربي المسلم، ومن حق الناس أن يعرفوه كما كان، وأن تعرف فيه مواهب الإِنسان وأخلاقه، التي أهلته للملك والسلطان.
وسوف نحاول أن نتعرف في الصفحات التالية على الهدف العظيم الذي يسعى لتحقيقه الملك عبد العزيز رحمه الله، ألا وهو: تحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى، في ربوبيته، وإِلهيته، وأسمائه وصفاته، وأن يعبد الله بما شرع، وأن تطبق شريعة الله في شبه جزيرة العرب، وأن تحقق الوحدة التي تجمع أبناءها.(1/92)
[التوحيد والوحدة في نظر الملك عبد العزيز]
التوحيد والوحدة في نظر الملك عبد العزيز * كان استرداد الملك عبد العزيز - رحمه الله- لعاصمة الدولة السعودية هو البداية، ولم يكن انتصاره في الرياض سوى الجولة الأولى في ملحمة امتدت عشرات السنين، وما كان في استطاعة أحد من الناس أن يسبر غور الملك وقت أن تنازل أبوه الإِمام عبد الرحمن عن إِمارة الرياض، ولعل خصومه قد تنبهوا إِلى ظهور أمير قوي يناجزهم على ما تحت أيديهم من البلاد، ومن تحت سلطانهم من العباد، ولكنهم كانوا عاجزين عن تصور مدى التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا الأمير القوي في شبه الجزيرة العربية.
لقد كانت شبه الجزيرة العربية، تزخر بأمراء يتقاتلون على الأرض، وعلى النفوذ، وعلى الغنائم، ويتنافسون على كسب ود القوى الكبرى التي كانت تسيطر على شبه الجزيرة اسما، أو فعلا في بعض أرجائها أو أقاليمها، لم يرفع أحدهم راية للتوحيد الديني أو الوحدة السياسية، ولو فعل لما صدقه الناس في شبه الجزيرة، وقد عركوا هؤلاء الأمراء.
رأى الناس أمراء لا ترتفع همتهم عن الأرض التي تحت أقدامهم،(1/93)
يبسطون عليها سلطانهم، ويستأثرون بخيراتها، ويتحكمون في أهلها بقوة السلاح، أو المال، أو سطوة الادعاء، أو مساندة الأجنبي.
ولم يكن بوسع الملك عبد العزيز - بعد استعادة الرياض مباشرة- أن يرفع راية، أو يعلن شعارا يعمل في ظله؛ لأنه لم يكن أحد يصدق أن تتجرد نية أمير؛ لكي يعمل من أجل التوحيد الخالص لله، والوحدة في السياسة، ولكن الملك عبد العزيز كان يتمثل الهدف الكبير، ويعمل من أجله دون أن يرفع راية أو يطلق شعارا، وكان الناس يتمثلون الهدف شيئا فشيئا كلما حقق الملك انتصارا في اتجاه التوحيد الديني، أو الوحدة السياسية.
لقد كان منهج الملك عبد العزيز في ذلك، سابقا لعصره بعشرات السنين، وسابقا لخطط أقرانه وخصومه ربما بأكثر من ذلك، وكلما تحقق للملك جانب من نصر وضحت الرؤية أمام الناس، وبدت الراية ظاهرة.
لقد كان الملك- رحمه الله- منذ أن استعاد الرياض في عمل في دائب، وجهد متصل طوال عشرات السنين، لم ينزل فيها الفارس عن صهوة جواده؛ لكي يخلد إِلى الراحة، أو يكتفي بالسلطان على أرض يحوزها مثل غيره من أمراء شبه الجزيرة. وحينما ينظر المرء إِلى إِنجازات الملك عبد العزيز آل سعود ينبغي أن يتذكر على الفور أن هذه الإِنجازات لم تتحقق بالنصر في معركة، أو بضربة حظ، أو بمساعدة أجنبي، ولكنها تحققت بفضل الله، ثم بجهد موصول، وجهاد قائم ودائم لعشرات السنين، جهاد في ساحة قتال، وجهاد بكلمة حق وصدق تقال، وجهاد(1/94)
أكبر وأعظم وأشق في الاحتمال، وهو الجهاد ضد الجهل، والتخلف، والأهواء، والأغراض، والعقبات التي كانت تواجه الملك في كثير من الأحيان من العدو، والصديق على السواء.
* وربما يحار الباحث حينما يختار أهم القضايا التي واجهها الملك، فقد واجه عشرات القضايا والمشكلات الكبيرة في حجمها وأثرها، ولكن اهتمامات الملك عبد العزيز - رحمه الله- تظهر لنا بوضوح في ترتيب الأولويات.
لقد اهتم الملك بالقضايا الكبرى للعالم العربي والإِسلامي، واهتم بالقضية الكبرى للإِنسان المسلم العربي، إِن الأولويات هنا لا تعبر عن أهمية القضية أو عدم أهميتها، ولكنها تعبر بصدق عن الجهد والجهاد الذي بذل من أجل تحقيق الهدف، وتعبر كذلك عن شخصية الملك وهموم نفسه، وعن فكره وعن مشاعره تجاه أمته العربية والإِسلامية.
فالعظماء- في اختيارهم لأهداف حياتهم ورسالتهم تجاه شعوبهم- يعبرون عن أنفسهم بأمانة وصدق، وما حققه الملك عبد العزيز في حياته يعبر عن خلقه، وسجاياه، وفكره، ومشاعره، وهموم نفسه. ولو وضعنا إِنجازاته التي حققها لأمته وشعبه في صفحة لظهرت شخصيته، ونفسيته، وفكره، ومشاعره في الصفحة ذاتها للقارئ اللبيب.
* كان الملك- رحمه الله- رجلا صالحا نشأ في بيت صالح، فكان(1/95)
بدهيا أن يمثل الدين في فكره ومشاعره أعظم جوانب حياته. لقد تلقى الملك في صباه، أصول العقيدة وأساسيات الشريعة.
وحياته باعتباره أميرا فذا من الأسرة السعودية التي لم تنس ماضيها المجيد، كانت تقتضي منه أن يصرف جهده، وطاقاته كلها في استعادة ملك آبائه وأجداده، ومع ذلك- كما سنرى، وبسبب عمق مشاعره الدينية- استطاع أن يخدم العقيدة، والشريعة، ومذهب السلف في فهم الإِسلام والحياة.
* كان الملك ينتمي إِلى أسرة عريقة في عروبتها، أقامت في شبه الجزيرة العربية دولتها الأولى (1157 هـ الموافق 1744 م) على يد الإِمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتذاك.
ويعرف الملك - ولا شك - منذ صباه الباكر أن الإِمام سعودا الكبير حفيد مؤسس الدولة السعودية الأولى، قد استطاع أن يوحد في عهده (1218 هـ - 1229 هـ الموافق 1803 م- 1814 م) شبه الجزيرة، وسعود الكبير من أعظم رجالات البيت السعودي العريق، شملت الدولة السعودية في عهده بادية الشام، ومعظم شبه الجزيرة العربية، وامتدت الدولة في عهده إِلى شواطئ الفرات، ومن الخليج إِلى البحر الأحمر.
كان الملك عبد العزيز - ولا شك- يعرف عراقة الأسرة، ودولتها التي امتدت، واتسعت حتى وحدت معظم شبه الجزيرة، ويذكر بالاعتزاز والفخار أن جده الإمام فيصل بن تركي قد وحد أجزاء كبيرة من شبه(1/96)
الجزيرة، شملت منطقة نجد كاملة، ومعظم منطقة الخليج، ويعرف أن هذه الوحدة تتطلب عزما ماضيا وهمة عالية، وكان يملك المؤهلات والمزايا التي تجعل قضية الوحدة في نظره أملا يسعى من أجل تحقيقه.
* لقد كانت قضية التوحيد- جوهر الإِسلام- هي قضية الدين عند الملك عبد العزيز، التوحيد الخالص لله بمعناه الشامل والكامل، كما تلقاه وكما رسخ مفهومه الصحيح أسلافه الكبار حين أقاموا الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر على هدي القرآن الكريم، وبقوة السلطان.
* وكذلك كانت قضية الوحدة- وهي جوهر العروبة- هي قضية السياسة عند الملك عبد العزيز، الوحدة التي حققها فعلا أجداده من قبل، ولكنها زالت بسبب النزاعات والحروب، وعادت الجزيرة العربية إِلى التشرذم والانقسام، كعادتها التي دأبت عليها منذ قرون (1) .
وفي عصر الملك عبد العزيز توحدت معظم شبه الجزيرة، وقامت فيها الدولة الموحدة، أرضا وشعبا ونظاما وحكما.
وهذه الوحدة تعد مثلا فريدا في العصر الحديث كله أمام البلاد العربية، والإِسلامية.
لقد تقاسمت شبه الجزيرة قبل الملك عبد العزيز قوى عديدة، كانت القوى الأجنبية تباشر نفوذها، وتعزز مصالحها فيها، ولم تكن هناك سلطة موحدة، ولا شعب واحد، ولا دولة واحدة.
_________
(1) عاهل الجزيرة ص6 -7 مصدر سابق.(1/97)
لكن الملك عبد العزيز حقق ذلك كله بتوفيق الله، ثم بجهده وجهاده، أميرا وسلطانا وملكا، وحقق بذلك أقصى غاية أسلافه العظام، ووصل بجهده وجهاده إلى النهاية في آمالهم، وهي جعل المملكة العربية السعودية دولة موحدة، وشعبا واحدا، ينتمي لأمته الإِسلامية والعربية.
* خاض الملك عبد العزيز معارك وحروبا غير جديدة على نجد وما حولها، فقد كانت النزاعات القبلية قائمة، والأمراء ومشايخ القبائل متفرقين، والسيطرة على الأرض لا تعني رسم الحدود ولا قيام دولة. فكانت الولاءات والانتماءات تتغير، والحدود التي تحددها المعارك تزول بتغيرها. ولقد ورث الملك عبد العزيز عن أسلافه عبرة التجارب، وكانت له تجاربه التي حالفه فيها توفيق الله- عز وجل- وكان له من قوة الشخصية، وذكاء الفطرة، وإِخلاص القصد ما يجعل همته تعلو على مطالب الأمراء في عصره في نزاعهم، واقتتالهم على مساحة من الأرض، يوسعون بها إمارتهم، أو يزيدون بها غنائمهم، كان فكر الملك عبد العزيز، وطموحه يجاوز ما عليه الأمراء ورؤساء القبائل، وكانت نظرته أعمق وأدق إِلى شبه الجزيرة كلها، واتسعت هذه النظرة؛ لتشمل شبه الجزيرة حالا ومآلا، ولكي تشمل شعبها كله بقبائله المتفرقة، وتعرف ما يهدده من أخطار الفرقة والانقسام، وسيطرة الأجنبي على الأرض، وبسط سلطانه على الناس.
في هذه الفترة- وبعد أن حقق عبد العزيز ما يصبو إِليه بوصفه أميرا(1/98)
من أمراء آل سعود - بدأ يمد بصره إِلى آفاق أبعد، وآمال أرحب، ومصالح أكبر، ولم يكن ملائما لشخصيته الفريدة، وذكائه الفطري، وآماله الإِسلامية والعربية أن يكتفي بسلطانه على جانب- ولو كان كبيرا ومتسعا- من أرض شبه الجزيرة، لقد فرضت شخصيته وطموحه ونجاحه، أن يفكر في الدولة الموحدة في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن الأمر قاصرا على الآمال والطموحات، ولا التفكير والتدبير. لقد كان توحيد شبه الجزيرة في ظروف العصر، وفي عالم يسوده الاضطراب مع خصوم متعددين، ومع قوى عالمية تتربص بالمنطقة كلها، ومع قلة العدة لاسيما من السلاح، ومع انفتاح أبواب الفتن أحيانا في داخل شبه الجزيرة العربية، كان التفكير وحده- في توحيد شبه الجزيرة العربية - كفيلا بأن يزرع اليأس في قلب من يسعى إِليه.
ومن هنا ندرك قدر ما تمتع به الملك عبد العزيز من فكر جمع بين الإِخلاص لله، والاعتزاز بالإِسلام والمسلمين، وبقومه العرب، ومن همة عالية لا تنال منها الصعاب، ومن شجاعة وإِقدام في خوض المعارك، ومن حكمة في التعامل مع الخصوم، والتعامل مع ذوي الأهواء وأهل الفتن من حوله، فلم يكن طريق التوحيد مفروشا بالورود، ولا كان يعتمد على دعوة تبثها أجهزة الإِعلام القوية القادرة على جمع الناس حولها، لكي يكون تحقيقها ميسرا، بل كان الطريق محفوفا بالمخاطر، يتربص به شرا كل من تهدد وحدة شبه الجزيرة العربية إِمارته، أو نفوذه، أو مصالحه، أو(1/99)
طموحه، أو مكاسبه، فقد كان الانقسام، والتشتت، والنزاع بين القبائل، ووجود الأجنبي مفيدا للبعض، وحاميا لمصالحهم، ومحققا لأطماعهم.
في ذلك الزمن خاض الملك عبد العزيز آل سعود معاركه في القتال أو السياسة، ومع كل الخصوم والأعداء في الداخل والخارج.
وليس أدل على شجاعته، وحكمته، وقدراته، ومواهبه التي يتمتع بها من الواقع الذي فرضه على الأرض، ثم شهادة أهل الحق له بما حققه للعرب وللمسلمين.(1/100)
[توحيد المملكة]
توحيد المملكة * سبقت الإِشارة إِلى أنه لم يكن هدف الملك عبد العزيز - رحمه الله- دخول الرياض فقط، بل كان هدفه أسمى، وغايته أكبر، إِذ كان يتطلع إِلى الوحدة الشاملة، التي تنتظم جميع مناطق المملكة، تلك المناطق التي شملها حكم أسلافه، وتوحدت تحت راية الإسلام، وحكمت به. كان يتطلع إِلى الحكم بالشريعة في شبه جزيرة العرب، وإِلى أن تستأنف الديار المقدسة رسالتها تجاه الإِسلام والمسلمين، تلك الرسالة التي جاهد في سبيلها آباء الملك عبد العزيز، وأجداده، رحمهم الله.
إِذن فدخول الرياض لم يكن إِلا بداية الرحلة العظيمة، التي تهيأ لها الملك عبد العزيز - رحمه الله- وعقد العزم على قطعها إِلى النهاية.
لم يقض الملك عبد العزيز وقتا طويلا، لا في تحصين الرياض من هجوم يقع عليها، ولا في الاستعداد لمواجهة خصومه، الذين أسهموا في تفتيت وحدة البلاد، وجرها إِلى نزاعات، وفتن أنهكت أهلها.
وقد أسهم النجاح المذهل للأمير الشاب في الاستيلاء على الرياض بعدة قليلة، وعدد قليل في انعطاف الناس إِليه، ورغبتهم فيه، وإِحساسهم بعودة ملك آل سعود.(1/101)
بدأ الملك عبد العزيز في ضم المناطق المجاورة للرياض، ولم تمض سنوات قلائل حتى ضمها كلها إِليه، وتقلص نفوذ ابن رشيد منها.
لم يقدر ابن رشيد قوة الملك عبد العزيز، ولا عرف خصائصه وسجاياه ومزاياه، وهنا يبدو الفارق الكبير في عبقرية القيادة، وحكمة السياسة، وموهبة الزعامة.
لم تكن قوة العدد، وكثرة العدة لدى كل خصم، هي المعيار الوحيد للنصر، لقد كانت أسباب النصر- بعد مشيئة الله عز وجل وتوفيقه- كامنة في مواهب الملك عبد العزيز، تظهر عند المعارك، فتحسمها لصالحه، ودون دخول في تفاصيل المعارك والتحركات التي كانت تقع بين الملك عبد العزيز - رحمه الله- وخصومه، ودون دخول في الفتن الداخلية في المناطق التي تقع تحت سلطانه، ومجابهته لها، وما كان يعامل به الملك- رحمه الله- مثيريها، دون الدخول في ذلك كله، فإِنه - رحمه الله- أعاد غالب نجد إِلى حظيرة الدولة السعودية، وقضى على دعاة الفرقة، وأصحاب المصالح والنفوذ، وانتهت سلطة ابن رشيد فيها.
وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطان نجد دون منازع، بايعه العلماء، والناس على ذلك.
وفي الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى جزء غال من بلاده يسيطر عليه الأتراك، ألا وهو الأحساء، وكان ذلك في أواخر عهد الدولة العثمانية، التي لم يكن بوسعها أن تقاوم تصميم الملك عبد العزيز على توحيد بلاده.(1/102)
لقد اتجه الملك- رحمه الله- في سنة 1331هـ (1913م) إِلى مدينة الهفوف التي كانت فيها حامية تركية، فاستسلمت المدينة وحاميتها التركية، وسمح لهم الملك عبد العزيز بالخروج دون سلاح، فأبحروا إِلى تركيا.
وبذلك أصبحت الأحساء تحت سيطرة سلطان نجد، ولم يكن ذلك إِثر معارك ضارية، ولا بعد تضحيات جسيمة، بل تحقق بفضل الله، ثم بحسن القيادة، وحكمة التصرف من الملك عبد العزيز، ففي أقل من شهر ضم الأحساء إِلى سلطانه.
وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ (1914م) لم يكن لدى الأتراك من الفراغ، أو القوة ما يجعلهم يفكرون في استعادة ما ضاع منهم، بل إِنهم قدروا لعبد العزيز آل سعود أنه سمح بخروج جنودهم أحياء مكرمين من بلاده.
* تبدو عبقرية الملك عبد العزيز، وحنكته في أسلوب ضم الأحساء، فقد خرج إِليها، وهو يتظاهر بأنه يؤدب القبائل الخارجة عليه في نجد، ولما شك الأتراك في نيته بأنه يقصدهم أزال شكوكهم بعودته إِلى الرياض مع ترك جيشه قريبا منهم، ثم فاجأهم بالهجوم، فاستسلموا، واجتذب عبد العزيز أهل الأحساء إِلى جانبه بتأمينهم في مدينتهم، وكان أعيانهم قد كتبوا للملك عبد العزيز، يطلبون منه ضم الأحساء، لينهي معاناتهم مما كانوا يعيشونه من مصاعب اقتصادية وسياسية، كما(1/103)
استطاع أن يجتذب أهل القطيف إِليه، فآثرت الحامية التركية الانسحاب (1) .
* لقد وطد ضم الأحساء مكانة عبد العزيز، وكفل له خطا ساحليا، مما جعل البريطانيين يعيدون حساباتهم نحوه، كما قوى أمله في دولة الوحدة، التي لا يخفي نياته في أقامته في مملكته، فقد نما لديه الشعور بقرب النصر على جميع الخصوم، وأن مملكته سوف تشمل غالب شبه الجزيرة العربية، ولم يكن هذا الشعور وِليد رغبة في التوسع والسلطان، بقدر ما كان إِدراكا واعيا، واعتزازا أصيلا بمكانة العرب، وعراقة أمتهم، وحقهم في أن يكون لهم مكان تحت الشمس في ظل الدين الخاتم، والعروبة الأصيلة.
ورغبة في تفيؤ ظلال العدل، والأمن، التي كانت تتفيؤها كل منطقة تدخل في حكم الملك عبد العزيز، فقد سلم أهالي حائل، وزعماؤها ووجهاؤها، المدينة للملك عبد العزيز في 29 / 2 / 1340 هـ (نوفمبر 1921 م) بعد أن أمنهم على أرواحهم وأموالهم، وأعراضهم، كما استسلم أميرهم بعد أن أمنه الملك على حياته (2) .
وفي منطقة عسير، في الجنوب الغربي من المملكة، شكا أهل المنطقة من أوضاعهم المتردية، وكان نظرهم يتجه إِلى الرياض، وإِلى الملك عبد العزيز، وانتهى الأمر ببسط سلطان الملك عبد العزيز على المنطقة في عام 1340 هـ (1921م) .
كما تم بسط سلطانه على منطقة نجران وجيزان.
_________
(1) تاريخ ملوك آل سعود، للأمير سعود بن هذلول، ص98 وما بعدها، الطبعة الأولى 1380 هـ.
(2) المصدر السابق ص 135.(1/104)
كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى مكة المكرمة والمدينة النبوية، نظرة خاصة، لمكانتهما الدينية.
ففي مكة أول بيت وضع للناس لعبادة الله، وفي المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إِن هذه الأماكن المقدسة تهوي إِليها أفئدة الملايين من المسلمين، يستقبلون بيت الله تعالى في صلواتهم، ويؤدون في مكة مناسك الحج، الركن الخامس للإِسلام، ويزورون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغبة في مزيد الأجر والمثوبة من الله سبحانه، وكان- رحمه الله- يدرك ضرورة استتباب الأمن في كل شبه الجزيرة، وعلى وجه الخصوص في الحرمين الشريفين، وأهمية بذل الجهد، والطاقة في تيسير سبل الحج، والعمرة، والزيارة، واتخاذ الأسباب التي تعين المسلمين على أداء نسكهم.
كان- رحمه الله- يدرك ذلك كله، ويعتبر تحقيقه واجبا دينيا، ونوعا من أنواع الجهاد في سبيل الله، ويدرك أن أسلافه قد حققوا ذلك، وأن البلاد المقدسة وما جاورها كانت جزءا غاليا من الدولة السعودية، وأن ضمها إِلى الأجزاء الأخرى؛ لتنعم بما نعمت به، مطلب مواطني تلك البلاد، ومطلب المسلمين كافة.
* لقد أجمعت المصادر التي تناولت سيرة الملك عبد العزيز، ونشأة المملكة، أن الملك لم يقم بحرب إِلا وهو مضطر لها، وبعد استنفاد كل الوسائل السلمية.
وفي اعتقادنا أن الله- تعالى- أنعم عليه بالحلم والصبر، حتى يتاح(1/105)
له أن يحقق ما يريد بأيسر السبل وأقل الخسائر، فلم يكن يندفع إِلى معركة، ولا كان بمقدور أحد أن يستدرجه إِلى قتال، وإِلى جانب ذلك كان خطابه إِلى خصومه عفيفا، حتى ينتهي الأمر بسلام، أو تنجلي المعركة عن منتصر ومهزوم، وما كان يغريه النصر، أو ينهار أمام هزيمة في معركة.
* لم يمض وقت طويل حتى صارت مكة تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود، فدخلها حاسر الرأس، خاشعا لله في لباس إِحرامه، ومعه قادة جيشه، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى كان الملك عبد العزيز آل سعود سلطان نجد يحكم الحجاز كله، وذلك في عام 1344 هـ (1925) وقد أمن أهله، وأبقى على جهازه الإِداري الذي كان يعمل من قبل، وسعد الناس بحكم عبد العزيز آل سعود.
* في جمادى الآخرة سنة 1344 هـ الموافق لشهر يناير سنة 1926م نادى به علماء مكة، وأهلها ملكا على الحجاز، وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطانا على نجد، وملكا على الحجاز، وهكذا اكتمل توحيد البلاد، وأذاع الملك على أهل الحجاز بلاغه، وقال فيه:
" أبشركم بحول الله وقوته، أن بلد الله الحرام في إِقبال وخير، وأمن، وراحة، وإِني- إن شاء الله تعالى- سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة، ويحل الراحة والاطمئنان بها ".
وأوصى الناس بتقوى الله، واتباع مرضاته، وأن لهم النصيحة،(1/106)
احترام الدماء والأعراض والأموال إِلا بحق الشريعة، وأن المرجع هو الكتاب والسنة (1) .
وبعد ذلك بدأت حركة الإِصلاح في الحجاز في جميع المجالات، وأقام الملك ابنه الأمير فيصلا - رحمه الله- نائبا عاما في الحجاز.
وكان حكم آل سعود حكما عربيا خالصا دون تبعية لأحد من خارج الجزيرة العربية، أو من غير المسلمين، وكان تحت راية الإسلام وحدها.
وهكذا أصبحت مختلف مناطق المملكة تابعة لسلطان واحد، وملك واحد، وإِمام واحد، جاهد لإِعلاء كلمة الله فيها، ولتوحيد أرضها وشعبها، فتحقق بذلك ما كان يسعى إِليه الملك عبد العزيز - رحمه الله- منذ دخوله مدينة الرياض في عام 1319 هـ.
_________
(1) صقر الجزيرة ص397، مصدر سابق.(1/107)
[المملكة العربية السعودية]
المملكة العربية السعودية * قد يكون فهم العنوان: " المملكة العربية السعودية " يسيرا على القارئ له، ولكن قيام هذه المملكة لم يكن يسيرا، ولا هينا على من أقامها، لقد ذكرنا من قبل كيف بدأ الملك عبد العزيز بعد دخوله الرياض سنة 1319هـ (1902م) يضم إِليها مناطق ومدنا، كانت تتبع خصومه، ناهيك عن قبائل تتغير ولاءاتها، وانتماءاتها من حين لآخر، بحسب الظروف والأحوال والأهواء، ولم يكن الملك قد بدأ حربا، أو قتالا بهدف توسيع إِمارته، أو زيادة نفوذه، فحسب، وإِنما كانت الأوضاع تفرض عليه أن يدافع عن سلطانه ضد من يهاجمونه، فينتصر عليهم، أو يبادر هو إِلى حماية نفسه منهم، فينتصر عليهم بالقتال، أو بحكمته وسياسته، متى كانت الحكمة والسياسة بديلا عن السيف.
من خلال المعارك العديدة التي خاضها الملك في بداية كفاحه ونضاله، وبسبب ما يتمتع به من بعد النظر، وعلو الهمة، وعمق الانتماء الديني والإِحساس الوطني، اتجه فكر عبد العزيز آل سعود إِلى توحيد المملكة، وتعمق لديه هذا الهدف، كما وضح أمام خصومه، بحيث لم تعد المعارك(1/109)
التي تنشب بينه وبينهم مجرد نزاع على منطقة، أو خلاف على توسيع رقعة الأرض التي يبسط سلطانه عليها، كما كان الشأن حين كانت شبه الجزيرة مقسمة بين القبائل والأمراء والقوى الأجنبية، بل أصبح عبد العزيز آل سعود - حتى في نظر خصومه- يقاتل من أجل هدف أسمى، وهو الوحدة التي تجمع القبائل والمناطق والأراضي التي تخضع للنفوذ الأجنبي، حتى وإِن كان من خلال الشيوخ أو الأمراء، ولذلك قاتل عبد العزيز الأمراء الذين كان التشتت، والتشرذم يضمن مصالحهم، وقاتل الأتراك بهدف التخلص من سيادتهم على بعض المناطق في شبه الجزيرة، وقاتل عملاء الأجنبي أيا كان.
وبقدر ما كان الهدف دينيا وطنيا كانت المعارك التي خاضها عبد العزيز آل سعود، وكانت سياسته في التعامل مع الخصوم الذين كانت مصالحهم تتفق مع الفرقة والتجزئة والتشرذم في قبائل ومناطق، والذين كانت تبعيتهم للغير تفرض هذا الواقع، وتنميه، بهدف الحفاظ على موقعهم، أو نفوذهم في شبه الجزيرة.
واجه الملك صورا من العصيان والتمرد والنكث بالعهود من البعض، ولكن ذلك- في نظرنا- كان من اليسير على عبد العزيز آل سعود أن يقضي عليه، على الرغم من شدة المواجهة أحيانا، لقد كان سلطانه، مستقرا، وكان في هذه المواجهات يفرض الأمن في المناطق التي يبسط عليها سلطانه، ويتولى مسؤولية رعاية أهلها وضمان أمنهم، وكان في الوقت نفسه- وبواسطة التشدد في فرض الأمن في كل منطقة يبسط(1/110)
عليها سلطانه- يقوم بأهم إِصلاح اجتماعي في شبه الجزيرة، وهو تحويل القبائل المتناثرة والمتنافرة والتي تعيش على الغارة والسلب والنهب فيما بينها، أو على الآخرين، إِلى مجتمع مدني موحد، قابل للنمو والتقدم.
لقد كانت هذه فكرة الملك من إِنشاء تجمعات للاستقرار والحرث والزرع، حتى لا يكون عيش القبائل اعتمادا على قدرتها على الغارة والسلب والنهب.
* لقد خاض الملك معارك عديدة في أنحاء شبه الجزيرة في الشرقّ والشمال والجنوب والغرب، وأصبح سلطانا على نجد، وضم الأحساء وحائل وعسير وجازان ونجران، وصار ملك الحجاز، وبذلك تكونت جغرافيا وسياسيا المملكة العربية السعودية.
* بينما كانت المملكة تنشأ في ظل الوحدة والاستقلال عن النفوذ الأجنبي، كانت بلاد العرب في العشرينيات من القرن الميلادي العشرين تعاني من فقد الاستقلال، ومن سيطرة الأجنبي البريطاني والفرنسي في الغالب، كانت مصر تحت الحماية البريطانية، والعراق تحت إِدارة عسكرية بريطانية، ووضعت سوريا ولبنان تحت الإِدارة الفرنسية، وفلسطين، وشرقّ الأردن تحت الإِدارة البريطاني.
وكانت إِمارات الخليج العربي، وجنوب الجزيرة، والكويت، والبحرين ومسقط، خاضعة للنفوذ البريطاني، وليست الدول العربية في شمال إِفريقيا بأحسن حالا.(1/111)
وعلى الرغم من ثورة العرب ضد الأتراك سنة 1335هـ (1916م) بقيادة الشريف حسين، طمعا في استقلال البلاد العربية، فإِن بريطانيا وفرنسا تقاسمتا هذه البلاد بمقتضى اتفاقية سايكس بيكو سنة 1335هـ (1916م) ووضعت الاتفاقية موضع التنفيذ في سنة 1337هـ (1918م) بعد انتهاء الحرب، وفي مؤتمر الصلح سنة 1339هـ (1920م) تقرر أن تقوم الدول القائمة بالانتداب بالعمل على تنفيذ وعد بلفور بإِنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعد أن أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق.
* في عام 1349هـ (1930م) كانت المملكة المستقلة الموحدة التي أقامها الملك عبد العزيز - رحمه الله- تشمل غالب شبه الجزيرة، وكانت من أكبر الدول العربية مساحة، تضم كيانا بشريا متميزا، وأصبحت أقوى الوحدات السياسية القائمة في شبه الجزيرة العربية، وفي جنوب غرب آسيا، وفي المملكة صور من المناخ ومن التضاريس متنوعة ومتباينة، وفي أرضها مناطق للزراعة وللتعدين.
وبإِيجاز كانت المملكة التي أقامها الملك عبد العزيز بفضل الله، ثم بجهده وجهاده، أكبر دولة مستقلة وموحدة في البلاد العربية، وبذلك كان جهد الملك محققا للاستقلال، فضلا عن الوحدة السياسية في شبه الجزيرة.(1/112)
* وبعد سنوات الكفاح الطويلة والمريرة، وبعد معارك عديدة، وانتصارات، ونكسات، واجهها الملك عبد العزيز آل سعود بحزم وعزم، تم له النصر بفضل الله، واجتمع الرأي على اختيار اسم موحد للدولة، هو: " المملكة العربية السعودية "، وصدر بذلك أمر ملكي بتاريخ 17 جمادى الأولى سنة 1351 هـ (19 / سبتمبر / 1932م) ، وبدأ عصر جديد في المملكة، له أصداؤه البعيدة في العالم العربي، والإِسلامي.(1/113)
[الأصول الكبرى في السياسة الداخلية للملك عبد العزيز]
الأصول الكبرى في السياسة الداخلية للملك عبد العزيز * استقر الأمر للملك عبد العزيز آل سعود في المملكة التي أقامها بعد سنوات طويلة من الجهاد، تم له خلالها توحيد أرضها وشعبها تحت راية التوحيد.
وقد بدأ الملك في ممارسة الحكم والسياسة على جميع المستويات، قبل أن يعلن اسم المملكة العربية السعودية بعشرات السنين، وذلك منذ أن دخل الرياض سنة 1319 هـ (1902 م) ، وقد اكتسب خبرة في المبادأة، والمواجهة من خلال المعارك التي خاضها مع خصومه في نجد ومع الأتراك وصنائعهم، وكانت المعارك طويلة وكثيرة، استغرقت من جهده الكثير، ولكنه تعلم منها ما لم يتعلمه ملك أو رئيس أو حاكم معاصر له، فقد حارب، وقاتل العديد من الخصوم على اختلاف قواهم وأسلحتهم والقوى التي تساعدهم، كما واجه الفتن الداخلية.
ومن خلال معاركه تلك مع خصومه اكتسب حنكة سياسية كبيرة، فجمع بين كفاية القائد في ميدان القتال، وحنكة السياسي وكياسته في مجال السلام.(1/115)
لقد أكسبته عشرات السنين من الكفاح، وتعدد القوى التي واجهها، وتنوع الخصوم أمامه خبرة بالحكم والسياسة لم تجتمع لأحد من الحكام في وقته، بل ومنذ عهد الإِمام محمد بن سعود - رحمه الله- مؤسس الدولة السعودية الذي أخذ بيد دعوة التجديد التي قام بها الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- ولم يتهيأ لأحد من أئمة آل سعود من التجارب في الحكم والسياسة والقتال ما يسره الله للملك عبد العزيز آل سعود.
فقد قام- وهو في بواكير شبابه- باسترداد الرياض التي حكمها آباؤه وأجداده، ولم ينقطع جهاده، ولم تضعف مواجهته لكل القوى التي تصدت له، وظل نجمه في سعود وصعود طوال عشرات السنين، حتى تم له- بفضل الله وتوفيقه- توحيد المملكة العربية السعودية، وأصبح سيد معظم شبه الجزيرة دون منازع، واستقر ملكه الواسع، وتجمعت في عقله وقلبه ونفسه خبرة التجارب التي واجهها، وعبقرية المواهب التي أنعم الله بها عليه، هكذا بدأ عبد العزيز آل سعود الملك، فأصلحه الله به، بعد أن أقامه، فلم تكن تنقصه تجربة، ولا كان عاطلا عن موهبة.
وإِذا تحدثنا عن الملك عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، فسوف نجد أن إِنجازاته- وهو ملك استقر ملكه، واتسعت دولته- تعدل إِنجازاته في النضال والكفاح من أجل توحيد المملكة، وسوف نجد أنه استطاع أن يضع أصول السياسة الداخلية والخارجية للملكة، والأصول والمبادئ والقيم التي تستند إِليها تلك السياسة(1/116)
داخليا أو خارجيا، وهذه عبقرية الملك عبد العزيز آل سعود، فلم تكن سياسته في الداخل أو الخارج آنية ترتبط بزمانها أو مكانها فحسب، ولكنها كانت سياسة أصيلة ومستقرة، تصلح لعصره في أساليبها وممارساتها، وتصلح للمملكة بعد عصره في قيمها ومبادئها التي تقوم عليها.
* وبكل الإِيجاز، وكل الوضوح، كانت سياسة الملك عبد العزيز في الداخل وفي الخارج، إِسلامية في الالتزام، عربية في الأولوية والاهتمام، إِنسانية التوجه لخدمة المسلمين والبشر في كل مكان.(1/117)
[تحكيم الشريعة]
تحكيم الشريعة الإسلامية {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (المائدة 44)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] (المائدة 45)
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] (المائدة 47)
{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] (المائدة 49)(1/119)
* منذ أن أقام الملك عبد العزيز المملكة العربية السعودية، وهي تتميز بخط واضح في نظامها وفي تشريعها، وفي مسيرة حياتها، فهي دولة إِسلامية متمسكة بالعقيدة والشريعة في كل مجالات حياتها وعملها، عربية الموطن والقوم واللسان، وأرض المملكة هي أرض الإِسلام الأولى، ففي مكة المكرمة والمدينة المنورة - حرسهما الله- يقوم الحرمان الشريفان، الحرم المكي والحرم المدني. والشعب السعودي كله وعن بكرة أبيه شعب مسلم عربي، ولا يخفى الارتباط القائم بين الإِسلام والعروبة، إِذ شرف الله العرب بأن يكون كتابه بلغتهم، وأن يكون خاتم أنبيائه ورسله منهم، وأن يكون ذكرهم في كتاب الله حافزا لهم على الارتفاع بأنفسهم، حتى يكونوا نواة أمة الإِسلام، وهي بنص القرآن الكريم خير أمة أخرجت للناس.
لقد عمل الملك عبد العزيز - رحمه الله- على ترسيخ الالتزام بالإِسلام عقيدة وشريعة في حياة المملكة.
وفي كل مملكة تقام يختار الناس دستور حياتهم فيها، وهذا ما كان عليه الحال في كل الممالك والبلاد في العصر الحديث، ومازال، ولكن الملك عبد العزيز على الرغم من إِدراكه لمتغيرات العصر التي نالت البلاد الإسلامية كلها تقريبا، والتي حولت اتجاهها إلى المعاصرة والتحديث في دساتيرها وما تنص عليه، كان يؤمن بأن بلاده لها دستور قائم ودائم وخالد، هو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الدستور وحده هو الذي يضمن بقاءها، ونموها، وتقدمها. وكان إيمانه بذلك إِيمان الحاكم(1/121)
القوي والمؤمن القوي، ولقد كان لذلك أثره الكبير في شعب المملكة، فقد حماه الله من التردد بين اختيارات عديدة في حياته السياسية والاجتماعية، وأسهم ذلك في توحيد فكر الشعب وتوجهاته، بحيث ظل على توجهه الإِسلامي الوحيد، آخذا بشريعة الإِسلام، وقيمه الخلقية والاجتماعية، وكان لإِيمان الملك، وتصميمه على أن يكون كتاب الله، وسنة نبيه دستور المملكة الدائم، أعظم الأثر في استقرار المملكة سياسيا واجتماعيا؛ إِذ لم تخدع المملكة بحركة التغريب التي انتشرت في البلاد الإِسلامية في القرن الرابع عشر الهجري، وسادت في كثير من البلاد الإِسلامية مظاهرها الثقافية والاجتماعية، مما كان له أثر سيئ في حياة المجتمعات الإِسلامية وهويتها الأصيلة، وأدى في كثير من الأحيان إِلى تغلغل الغزو الثقافي في تلك المجتمعات إِلى جانب ما يمكن أن نسميه "الغزو الاجتماعي " الذي يتعلق بمظاهر السلوك، التي يخل الكثير منها بمنظومة القيم الخلقية الإِسلامية.
* لقد حمى الله- بسبب جهاد الملك عبد العزيز - شعب المملكة من التردد بين التجارب السياسية والاجتماعية، التي انتشرت في القرن الرابع عشر الهجري على المستوىالعالمي، وتأثرت بها كثير من البلاد الإسلامية التي جعلت الغرب قبلتها، ومصدر ثقافتها، وقدوتها في التحضر والنمو، ونجحت المملكة بفضل الله، ثم بتصميم الملك- رحمه الله- على أن تكون نموذجا حضاريا لدولة إِسلامية تحفظ عقيدتها، وشريعتها، وقيمها الاجتماعية المستمدة من الإِسلام، ومن تراث العروبة الذي أقره الإِسلام.(1/122)
وبهذا وضع الملك عبد العزيز الأساس القوي والمتين للدولة في نظامها وتشريعها ومبادئها، وقيمها الاجتماعية والحضارية.
* يبدو ذلك مسلما لدى شعب المملكة، ولدى الكثير ممن لهم بها صلة، غير أننا نجد من المناسب أن نورد ما يدل على إِدراك الملك عبد العزيز - رحمه الله- لهذه الحقائق، وتصميمه على أن يوجه بلاده الوجهة الصحيحة، وأن يظل انتماؤها الإِسلامي، هو وجهها الحقيقي الظاهر عقديا، واجتماعيا وثقافيا، على مر القرون.
* يقول الملك في إِحدى خطبه في المدينة النبوية:
"وإِن خطتي التي سرت، ولازلت أسير عليها، هي إِقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة، مع الاعتصام بحبل الدين الإِسلامي الحنيف " (1) .
*ِ ومن خطبة له بمكة المكرمة:
" أنا بذمتكم، وأنتم بذمتي، إِن الدين النصيحة، أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فهمه، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة " (2) .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 122، مصدر سابق.
(2) صقر الجزيرة ص891، مصدر سابق.(1/123)
* وقد أوضح الملك عبد العزيز في أول بلاغ رسمي وجهه إِلى أهل الحجاز: "أن القرآن الكريم والسنة النبوية، وما أقره علماء الإِسلام بطريق القياس، أو الإِجماع ستكون مصادر التشريع ".
وقد نشر ذلك في جريدة أم القرى في 15 / 5 / 1343 هـ (1924م) .
كما سعى الملك إِلى توحيد مصادر الأحكام بتوحيد المذهب، وذلك بعدة خطوات، وعقد اجتماع للعلماء من نجد ومكة المكرمة، واتفق فيه على وقف العمل بالقوانين التي تخالف الشرع (1) .
وكان الملك يدرك ما هو مسلم من أن مذاهب المسلمين المعتبرة ترجع جميعا إِلى الكتاب والسنة، وظل العمل في المحاكم فترة معينة على عدم التقيد بمذهب واحد، بل تقضي المحاكم بحسب ما يظهر لها من أي المذاهب كان، ولا فرق بين مذهب وآخر، ثم صدر أمر ملكي في 24 / 3 / 1347 هـ (1928م) على أن مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبق على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل، نظرا لسهولة مراجعة كتبه، والتزام المؤلفين من بعده بذكر الأدلة. أما إذا وجد مشقة في تطبيق الحكم على المذهب الحنبلي، أو كان في مخالفته مصلحة عامة، نظر في المذاهب الأخرى (2) .
* وقد جاء اعتماد الملك عبد العزيز الشريعة الإِسلامية أساسا لحكمه،
_________
(1) تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز، للعقيد الدكتور إبراهيم العتيبي، ص222، الطبعة الأولى 1414هـ.
(2) المصدر السابق ص225.(1/124)
سبيلا إِلى أقوم الطرق، وأصلحها لحكم البلاد، فأراحها من التخبط في الأنظمة المحدثة التي تخبط فيها غيره (1) من القادة أو الزعماء الذين حاولوا تقليد الغرب في نظمه السياسية والاجتماعية، فكان أن ابتعدوا عن الإِسلام، وفشلت تجاربهم كلها على مستوىالعالم العربي والإِسلامي.
* وإِذا كانت الإِمامة رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، كما ذكر الجويني في كتابه " غياث الأم " (2) فإِن الملك عبد العزيز طبق ذلك في سيرة حياته كلها.
فقد بويع بالإِمارة منذ استعادته الرياض سنة 1319 هـ (1902م) ، وبويع بالإِمامة سلطانا على نجد، ثم تمت له البيعة ملكا على الحجاز، وذلك في اجتماع حاشد يوم الجمعة 23 جمادى الآخرة سنة 1344 هـ (1926 م) ، وتليت بيعة الملك على الناس بعد صلاة الجمعة قرب باب الصفا، وقبلها الملك، وبعد ذلك بعام، أي في سنة 1345 هـ (1927م) ، اجتمع عدد كبير من العلماء وأعيان البلاد وزعماء القبائل، ورجوا من سلطان نجد وملك الحجاز، أن يكون لقبه: ملك الحجاز ونجد وملحقاتها، فقبل ذلك، وتقرر فيما بعد دمج الكلمتين في الاسم حيث أصبح: " المملكة العربية السعودية " وصدر بذلك- كما سبق- أمر ملكي في 17 جمادى الأولى سنة 1351 هـ الموافق 1351 هـ الذي يوافقه الأول من الميزان (23 سبتمبر) يوما لإِعلان توحيد المملكة (3) .
_________
(1) يوم وملك، للدكتور عبد العزيز الخويطر ص47، الطبعة الأولى 1418هـ.
(2) ص15.
(3) تطور الحكم والإدارة في المملكة، لمحمد توفيق صادق، نقلا عن جريدة أم القرى، العدد406 في 22 / 5 / 1351 هـ.(1/125)
وفي جميع مراحل حياة الملك منذ أن تم له دخول الرياض، كان يبايع بالإِمارة والإِمامة العامة، وكان إِلى جانب ذلك يحظى دائما- لما حباه الله به من ميزات- بالزعامة العامة للناس.
وهكذا أسس عبد العزيز آل سعود إِمارته، وإِمامته، وسلطانه، وملكه على قواعد الشريعة وأحكامها، دون أن يقلد أي نظام من النظم التي سادت في البلاد العربية والإِسلامية التي ابتليت بالاستعمار الغربي، والغزو السياسي، والثقافي، والاجتماعي.
* ومازالت المملكة- منذ أن أقامها الملك عبد العزيز آل سعود إِلى الآن- تجعل الكتاب والسنة دستورها، والشريعة الإِسلامية قانونها الأساسي، وقد استقر ذلك في نفوس حكامها وشعبها، فاستقرت سياستها العامة في جميع شؤونها، وتمتع مجتمع المملكة بالاستقرار الاجتماعي والثقافي منذ عشرات السنين، وهو ما يميز المملكة عن غيرها من البلاد الإِسلامية والعربية حتى الآن، مصداقا لقول الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123] (طه 123) .(1/126)
[الأمن]
الأمن {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126] (البقرة 126) .(1/127)
* إِذا كان الأمن مطلبا ضروريا لكل مجتمع إِنساني، ولكل نظام سياسي، فإِنه في المملكة العربية السعودية ضرورة لحياة شعبها، واستقراره، ورغده، وفي أرض الحرمين الشريفين واجب ديني، لتسهيل وصول الحجاج إِلى بيت الله الحرام، ولضمان سلامتهم وراحتهم، حتى يؤدوا مناسكهم، ويعودوا إِلى بلادهم.
وقد كان الملك عبد العزيز آل سعود يدرك ذلك، ويعيه منذ دخوله الرياض، وكان ذلك المفهوم الإِسلامي الصحيح، غامضا أو غائبا عن أمراء عصره من خصومه الذين ناجزهم، ولم يكن تحقيق الأمن هدفا لخصومه، أو غاية لأتباعهم الذين واجههم الملك عبد العزيز في معاركه العديدة.
لقد كانت الغارة، والسلب، والنهب من وسائل العيش، وكسب الرزق لدى كثير من القبائل التي تعيش في الجزيرة العربية، ولم يكن الأمن متوفرا في أرض الحرمين الشريفين، لأهلها، ولا لحجاج بيت الله الحرام، وكان اختلال الأمن سمة من سمات العيش، وخطرا من مخاطر أداء فريضة الحج.
* في منشور صادر عن الملك عبد العزيز - رحمه الله-:
"إِن البلاد لا يصلحها غير السكون، إِنني أحذر الجميع من نزغات الشياطين، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إِفساد الأمن في هذه الديار المقدسة، فإِنني لا أراعي في هذا الباب صغيرا ولا كبيرا " (1) .
_________
(1) الوجيز ص90 مصدر سابق.(1/129)
وكان من أهم الأعمال التي اهتم بها الملك في بداية حكمه في الحجاز تنظيم الشرطة بتكوين لجنة لهذا الغرض، وضعت قواعد لعمل الشرطة، وتنظيمها، ومحاسبة جنودها، صدرت في 29 / 1 / 1344 هـ (2 / 8 / 1925 م) .
وتعتبر هذه التعليمات أقدم تنظيم رسمي لأعمال الشرطة في عهد الملك عبد العزيز، وتطور نظام الشرطة بمقتضى مراسيم، وأوامر ملكية أعوام 1345 و 1346 و 1349هـ (1) .
وقد استحدث في عام 1369 هـ (1950م) بمقتضى الأمر الملكي ذي الرقم 3594 في 29 / 3 / 1369 هـ نظام للشرطة، يتكون من 422 مادة، وهو نظام شامل ومفصل، يتضمن تحديد الواجبات، والإجراءات بكل وضوح، مما يقلل من وقوع الأخطاء، أو التجاوزات.
وأُنشئت سنة 1354 هـ (1935 م) مدرسة للشرطة بمكة المكرمة، ثم نقلت إلى الرياض سنة 1385 هـ (1695م) وتحولت إِلى كلية للشرطة (2) .
ومما تقدم يتضح أن تنظيم الشرطة في المملكة قد استكمل بنيانه في عهد الملك عبد العزيز، مما يدل على اهتمام الملك بأول ما كان يهم المواطن، والزائر لبيت الله الحرام من حاج أو معتمر، وقد كان الأمن هو الشاغل الأول لحجاج بيت الله، وللدول التي يقدمون منها قبل عهد الملك عبد العزيز.
_________
(1) تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز، ص429، مصدر سابق.
(2) المصدر السابق ص435.(1/130)
* لقد كان إِدراك الملك - رحمه الله- لمفهوم الأمن واسعا وسابقا في عصره. يقول الملك في إِحدى خطبه بمدينة الطائف سنة 1351 هـ (1932م) :
" أحذركم من أمرين:
الإِلحاد في الدين، والخروج عن الإِسلام في هذه البلاد المقدسة، فوالله لا أتساهل في هذا الأمر أبدا، ومن رأيت منه زيغا عن العقيدة الإِسلامية، فليس له من الجزاء إِلا أشده، ومن العقوبة إِلا أعظمها.
والأمر الثاني: السفهاء الذين يزين لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد، وراحتها " (1) .
كان عصر الملك زاخرا بالعديد من الآراء، والأفكار، والمذاهب، والنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكان الأمن- في إِدراك الملك، ومفهومه - يتسع لحماية البلاد من ضرر هذه الأفكار، والمذاهب التي تتعارض مع الأساس المتين الذي قامت عليه المملكة، وهو الإِسلام وشريعته، وبسبب هذا المفهوم الواسع للأمن حمى الله المملكةّ، وشبابها من الوقوع في دائرة التخبط، والتفرق، والانقسام المذهبي والفكري والثقافي، وهو الأمر الذي حدث في كثير من بلاد المشرق، والمغرب العربي في ثّقافتها وحياتها الاجتماعية.
* ولم يكن الدفاع عن المملكة غائبا عن الملك عبد العزيز، فقد كان جيش الملك الذي يعتمد عليه في معاركه، مكونا أول الأمر من أتباعه
_________
(1) الإمام العادل 2 / 135 مصدر سابق.(1/131)
المخلصين، من المجاهدين الذين كانوا على ولاء كامل للملك من الحاضرة والبادية.
وفي 6 / 6 / 1344 هـ (22 / 12 / 1925 م) بدأ الملك بوضع الأسسِ لإِنشاء القوات النظامية العسكرية، فتكونت القوات البرية والجوية بناءَ على المستحدث في قواعد الحروب الحديثة، وتوحدت جميع الدوائر العسكرية تحت رئاسة قائد عام. وأنشئت رئاسة الأركان عام 1358 هـ (1939 م) ووحد الزي العسكري، وأنشئت وزارة الدفاع في 5 / 11 / 1362 هـ (0 1 / 11 / 1943 م) . وقد تشكلت قوات الطيران بأمر ملكي سنة 1344 هـ (1925 م) ، وتطورت إِدارة خفر السواحل؛ لتصبح القوات البحرية (1) .
* مما تقدم - على إيجازه الشديد- يتضح أن الدفاع عن المملكة، وحمايتها من الأطماع كان شاغلا للملك عبد العزيز، وأنه استطاع بتوفيق الله، ثم بحكمته في إِدارة شؤون البلاد، أن يضع الأساس لجيش المملكة من قوات برية، وجوية، وبحرية.
ولقد كان إِنشاء الجيش في هذا الوقت المبكر، ومع توحيد المملكة له أثره الاجتماعي الكبير؛ إِذ تحول الانتماء من القبيلة إِلى المملكة بنظامها الإِسلامي القائم على كتاب الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما أسهم في توحيد الولاء، فضلا عن التزام الدولة بكل نفقات المقاتل، وبكل ما يستلزمه تسليحه، وتدريبه من نفقات.
_________
(1) المصدر السابق 421- 422.(1/132)
* ولا شك أن الانتقال من عصر استقلال المقاتل بنفسه إِلى عصر الجيوش الحديثة وما توفره من انضباط، وولاء، وقدرة عسكرية تحمي المملكة، قد استغرق جهدا عظيما، ولكن مما يلفت النظر أنه تم بيسر وسهولة في عصر الملك عبد العزيز، رحمه الله.
* لا ينكر أحد أن عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله- كان عهد أمن للمواطن في المملكة، ولحجاج بيت الله الحرام، وزوار الحرمين الشريفين.
لقد كتب الكثيرون عن الأمن، وكيف تحقق في ربوع المملكة في عهد الملك عبد العزيز، فلم يعد هناك طوائف من الناس، تتعيش بالغارة والسلب والنهب من غيرها، أو من حجاج بيت الله.
لقد كانت يد الدولة قوية إِلى الحد الذي غيرت فيه من سلوك مجتمع بأسره، كان يعتبر البعض منه الغارة، والسلب، والنهب، سبيلا إِلى الارتزاق والمغانم، وهو مجتمع بعض القبائل بعاداتها، وأعراقها وتقاليدها، والذي صار- بتوفيق الله، ثم بجهد الملك، وفكره السابق لعصره- مجتمع القرية والمدينة، حيث يكون العمل وسيلة لكسب العيش، والعمل الصالح وسيلة للرقي الاجتماعي.
ولا نريد أن نفصل في ذكر حال الأمن قبل أن تتوحد المملكة في عهد الملك عبد العزيز، وعلى يده، وبجهده، فإِن اضطراب الأمن، وكثرة العدوان والسلب والنهب قبل عهده، أمور ليست في حاجة إِلى دليل.
استطاع الملك- رحمه الله- أن يحول عادات التقاتل والغارات(1/133)
والسلب والنهب إِلى فروسية وجندية في مملكة موحدة، ولم يكن ذلك أمرا يسيرا، فقد عمد الملك إِلى تحضير البدو، وحثهم على الاستقرار، ويسره لهم بما قدمه من أدوات الزراعة ووسائل الري، وأكرم شيوخ القبائل، حتى يبثوا في الناس المفاهيم الجديدة التي أراد الملك أن ينقلوها إليهم.
وهذا قليل من كثير مما فعله الملك عبد العزيز، ولا يعلم إِلا الله وحده كم اقتضاه ذلك من عمل وجهد، جزاؤه عند الله وحده.(1/134)
[الشورى]
الشورى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] (الشورى 38)(1/135)
* تميز الملك عبد العزيز - رحمه الله- بحس إِسلامي قوي، كان هو الدافع الأساسي لكل أعماله الكبرى وإِنجازاته، ولم تكن الشورى بعيدة عن فكره باعتباره حاكما لدولة إِسلامية وملكا مسلما، والميزة التي انفرد بها الملك عن سائر حكام المسلمين في عصره، أن فكرة الشورى ظلت إِسلامية الأصل، فلم تختلط عند الملك بالأنظمة الغربية التي سادت في البلاد الإِسلامية الأخرى.
لقد كانت كلمة " الديمقراطية " في كثير من البلاد الإِسلامية، ولدى حكامها، وقادتها، وذوي الرأي فيها، كلمة رائجة وذائعة، أيا كان حظها من التطبيق الفعلي، ولكنها في المملكة لم تكن على ذلك القدر من الذيوع، والانتشار، والرواج.
لقد كانت الشورى هي الأصل الذي تمسك به الملك عبد العزيز دون أن يبحث عن بديل، ولا شك أن فكر الملك لم يتجه- في أي قاعدة من قواعد الحكم في المملكة- إِلى الاستمداد من غير الكتاب، والسنة.
وقد وردت الشورى قاعدة إِسلامية في موضعين في القرآن الكريم:
الأول في قول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] (آل عمران 159) والثاني في قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] (الشورى 38) .
كما وردت أحاديث تدل على عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى الشورى، وحثه على ذلك، كما في غزوة بدر، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم إِلى غزوة أُحد.(1/137)
وليس المجال هنا للتحدث عن الشورى باعتبارها أساسا من أسس الحكم في الإسلام، يتميز عن سائر النظم التي ابتدعها البشر، وإِنما الحديث عن الشورى في عهد الملك عبد العزيز.
* لقد كانت شخصية الملك، وسجاياه مؤهلة لكي يكون عاملا بحكم الشورى منذ بداية إِمارته، وسلطانه، وملكه.
كان أبعد ما يكون عن الاستبداد بالرأي، وأقرب ما يكون إلى الاستعانة بمشورة المخلصين له من عماله وأتباعه، وأحرص ما يكون على إِقامة العدل بين الناس.
ومن كانت هذه سجاياه، فإِن الشورى عنده تعد عونا على الخير، وطريقا إِلى الصواب، ولذلك أقام الملك عبد العزيز ملكه على الشورى، حتى قبل أن تقوم لذلك مؤسسات وهيئات.
وحينما تولى الأمر في الحجاز اختار أشخاصا من ذوي الدين والسمعة الطيبة؛ ليؤلف منهم مجلسا استشاريا سنة 1344 هـ (1925م) أطلق عليه المجلس الاستشاري برئاسة نائبه الأمير فيصل (الملك فيصل رحمه الله) وهو المجلس الذي تعدل اسمه فيما بعد إِلى مجلس الشورى سنة 1345 هـ (1926 م) (1) .
وقبل أن يقوم مجلس الشورى، وتتحدد اختصاصاته، كان العمل في عهد الملك عبد العزيز يجري على المشورة التي يطلبها ولي الأمر من
_________
(1) الوجيز 162، مصدر سابق.(1/138)
مستشاريه، وكثيرا ما كوّن الملك لجانا لبحث موضوع، أو للتحقيق في ظلامة فردية من أحد رعاياه، وكان الملك كثير الاستشارة للعلماء فيما ينوب من أمور، وكان- رحمه الله- يجمع ذوي الرأي والمشورة، وأهل الحل والعقد في المناسبات المهمة، بل ويغضب الملك إِذا لم يجد في هؤلاء ما يتوقعه من جرأة وصدق في إِبداء الرأي والمشورة.
يروي أحد خواص الملك أنه خالف رأي الأغلبية الذين استشارهم الملك، فأخذ الملك برأيه، ولكنه حين تبين له أن الصواب في رأي أغلبية المجلس، لم يستنكف الملك أن يرسل إِلى المجلس بالعدول عن رأيه الأول (1) .
* وقد افتتح الملك عبد العزيز مجلس الشورى عام 1349 هـ في دورته الجديدة، وكان المجلس قد تأسس بمقتضى التعليمات الأساسية للمملكة الصادرة في بداية عام 1345 هـ (1926م) وكان قوام المجلس ثمانية أعضاء، ثم ارتفع عدد أعضائه، ووسعت اختصاصاته، فكان قوامه في عام 1369 هـ (1950 م) ثلاثة عشر عضوا ونائبين للرئيس؛ عدا السكرتير والسكرتير المساعد.
وقد نبه نائب الملك إِلى اختصاصات المجلس في خطاب الافتتاح: بأنها القيام بما عليه من توجيهات، وإقرار ما يلزم لتقدم الأمة، ومراقبة ما ينفذ وما لا ينفذ، وملاحظة ما تقصر عنه الأنظمة والقرارات، وبسط نائب
_________
(1) الإمام العادل 2 / 61 مصدر سابق.(1/139)
الملك أمام المجلس سياسة الحكومة في مجالات عملها، وأنشطتها داخليا وخارجيا (1) .
* وعلى الرغم مما كان يمتاز به الملك عبد العزيز من أصالة الرأي وعمق التجربة، فإنه كان يستشير ذوي الرأي والحكمة، عملا بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولم يكن إِنشاء مجلس الشورى إِلا استجابة لما درج عليه الملك في تناول الأمور العامة، وقد كانت اختصاصات المجلس بحسب الأمر الصادر بإنشائه عديدة ومتنوعة، تشمل مصالح البلاد كلها، فهو ينظر في ميزانية دوائر الحكومة والبلديات والمرافق العامة، ويعطي الترخيص للعمل في المشاريع الاقتصادية والعمرانية، وينظر في نزع الملكية للمنفعة العامة، ويضع الأنظمة، ويقر استخدام الأجانب، وينظر في العقود مع الشركات والتجار لمستلزمات الحكومة، ويميز مقررات مجلس التأديب والصكوك الصادرة من المحاكم التجارية.
ويتفرع عن المجلس لجان عديدة، مثل لجنة الأنظمة، ولجنة النظر في الشؤون المالية، ولجنة النظر في الشؤون الإِدارية، ولجان أخرى تحددت اختصاصاتها.
والناظر إِلى المجلس بحسب ما ذكرناه من اختصاصاته ولجانه، يدرك أنه لم يكن مجرد مجلس استشاري، بل كان- على الأرجح- مجلسا
_________
(1) تنظيمات الدولة ص149، والإمام العادل 2 / 127، وتطور الحكم والإدارة في المملكة ص35 وما بعدها، مصادر سابقة.(1/140)
يجمع بين اختصاصات عديدة، بعضها تنفيذي، وبعضها قضائي، فضلا عن النظر في الأنظمة، ومراقبة التنفيذ والأداء الحكومي والإِداري، وهي اختصاصات واسعة، تتجاوز ما درج عليه العمل في النظم الغربية، وربما يرجع ذلك إِلى أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- كان يتجه إِلى الاستمداد من الشرع الإِسلامي- الكتاب الكريم والسنة والنبوية- ولم يلتفت إِلى ما درجت عليه غالب البلاد الإِسلامية فيِ عصره، من النظر إِلى التجارب السياسية في الغرب، واعتبارها معيارا للصواب، ونبراسا في العمل، وقد كان ذلك واضحا في خطاب افتتاح الملك لمجلس الشورى عام 1349 هـ (1930 م) ، فقد ذكر الملك بكل صراحة ووضوح:
" لقد أمرت ألا يسن نظام في البلاد، ويجري العمل به، قبل أن يعرض على مجلسكم من قبل النيابة العامة، وتنقحوه بمنتهى حرية الرأي " (1) .
ويقول الملك في نفس خطاب الافتتاح:
" الضرر كل الضرر في السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " (2) . ونجد في خطاب افتتاح دورات المجلس عام 1367 هـ (1948م) و 1369هـ (1950م) . برئاسة نائب الملك، المعاني نفسها التي أشرنا إِليها، والتي تفيد حقيقتين:
أولاهما: أن الإِطار العام في النظام السياسي، وسلطات الدولة كلها، هو الشرع الإِسلامي.
_________
(1) تنظيمات الدولة ص153، والإمام العادل 2 / 127، مصدران سابقان.
(2) الإمام العادل2 / 127.(1/141)
وثانيتها: أن اختصاصات المجلس، وما ينظر فيه، تكفي تماما لتحقيق مبدأ الشورى، وبعض اختصاصاته لا تملكها المجالس التشريعية في النظم السياسية المعاصرة، وفي عصر الملك عبد العزيز - رحمه الله- مما يؤكد أن المملكة في عهده كانت تستمد أنظمتها، وأحكام مؤسساتها من قواعد الشريعة، دون اتباع غيرها، أو تقليد سواها من النظم المعاصرة.(1/142)
[التنمية في عهد الملك عبد العزيز]
التنمية في عهد الملك عبد العزيز {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] (إبراهيم 34)(1/143)
* لا يعرف كثير من هذا الجيل من شباب المملكة العربية السعودية، صورة دقيقة لما كانت عليه بلادهم قبل عشرات السنين، فالصورة الرائعة اليوم قد لا تدع مجالا لاستدعاء تلك الصورة التي تحمل أكبر قدر من المعاناة وصعوبة العيش، والتي كانت تنال مشقاتها كل من يعيش على أرض المملكة. بل نالت أولئك الأبطال الذين قادوا المملكة عشرات السنين إِلى فجر نهضتها بعد ليل طويل.
لقد كانت صعوبة العيش، وقسوة الحياة قدرا أصاب أهل شبه الجزيرة العربية، عانى منه الآباء والأجداد أشد المعاناة، وأثر في العقول والنفوس والأبدان، ولم تتغير هذه الصورة إِلا منذ عشرات السنين فحسب، وكان من فضل الله أن أشرق فجر النهضة على يد الملك عبد العزيز، رحمه الله.
وفي الكتب والمحفوظات وثائق عديدة تكشف عن زهد الملك، وقناعته، وعدله، وفيما يتناقله كبار السن ممن عاشوا تلك الفترة الكثير من صور المعاناة وألوانها.
* لن نفصل في ذكر ما كان يلاقيه الملك عبد العزيز من مشقات الحياة التي أصابته، وهو في ميعة الصبا، خارجا من مقر إِمارة آبائه وأجداده- الرياض - مع أبيه الإِمام عبد الرحمن الفيصل آل سعود، الذي عاش سنوات في الكويت بعد فترة قضاها، يبحث عن مكان آمن له ولأسرته وابنه الأمير عبد العزيز.
عاش عبد العزيز حياة البادية على ما فيها من مشقة، ثم انتقل إِلى(1/145)
الكويت، وهو في مطلع شبابه، ولم ينس إِمارة آبائه وأجداده في الرياض، وكان همه وشاغله وأمله أن يعود إِليها، وقد عاد في يوم أغر في الخامس من شوال سنة 1319هـ 15 / 1 / 1902 م) .
* لم يكن في حياة الملك عبد العزيز - حتى بعد دخوله الرياض - ما يغري بالراحة والدعة والتمتع بالإِمارة والسلطان، ومن فضل الله على الملك أن سجاياه كانت تأبى هذا النمط من الحياة، كما أن همته العالية، ونفسه الكبيرة كانت تصرفه دائما عن صغائر الأمور، وقد ظل كفاح الملك ونضاله، حتى تم توحيد المملكة خلال عشرات السنين، وفي أثناء هذا الكفاح والنضال المستمر، واجه الملك من مشاق الحياة وقسوتها، ما يعجز عن تحمله أحد من رعايا مملكته الواسعة في حياته على صورتها اليوم، وهي الحياة التي أشرق فجرها على يد عبد العزيز آل سعود.
* لم يبحث الملك بعد أن دانت له المملكة كلها عن الثروة، ولم يشغل نفسه بها، ولكنها أتته فضلا من الله ونعمة؛ إِذ كان الملك يظن أن بلاده ليس فيها الكثير من منابع الخير، ولقد رحب بأن يعطي امتياز كشف الزيت في المنطقة الشرقية لأحد المغامرين، وهو الميجور هولمز من نيوزلندة، لمدة سبعين عاما، لقاء مبلغ زهيد (ألفي جنيه ذهبي) ، وكان الملك يظن أنه ربح في الصفقة. ولكن من حسن الحظ أن الرجل، ومن وراءه لم يهتموا الاهتمام الكافي بالتنقيب عن الزيت، وتوقفوا عن العمل، بينما لم يدفعوا ما التزموا بدفعه ثلاث سنوات، وانتهى الأمر، وتوقفوا عن العمل عند هذا الحد. ولعل ذلك كان من فضل الله على الملك، والمملكة.(1/146)
* وكان الملك في حاجة إِلى المال، وهو يشرع في النهوض ببلاده، وبناء مملكته، واتصل به أحد الأمريكيين الكبار (تشارلز كرين) ، وعرض عليه صفقة الكشف عن الزيت، وانتهى الأمر بأن أعد تقريرا عن وجود الزيت في الظهران، ونجد، والأحساء، وعرض التقرير على الحكومة البريطانية - بتوجيه من الملك- مع أن من اكتشف وجود الزيت من الأمريكيين.
ويقول محمد المانع: إِن البريطانيين لم يهتموا بالعرض، ويعلل ذلك بالغباء (1) . وحصل الأمريكيون على امتياز التنقيب عن البترول في المملكة بعد مداولات ومفاوضات.
وكان أول ما بدأت به الشركة الأمريكية في المنطقة الشرقية نظير مبلغ ثلاثين ألف جنيه ذهبي في دفع مقدما، وعشرين ألفا تدفع خلال ثمانية عشر شهرا، فضلا عن إِيجار سنوي مقداره خمسة آلاف جنيه، وشمل الاتفاق غير ذلك من الشروط، ووقع في شهر محرم 1352 هـ (مايو سنة 1933 م) ، وبدأ عصر الزيت السعودي، الذي مازال بفضل الله ممتدا وموصولا، لخدمة المملكة، وخدمة الأمة الإِسلامية كلها.
* لقد وجد الملك عبد العزيز - رحمه الله- في الثروة التي بدأت تتدفق من البترول أداة يسرها الله له للتنمية والتحديث في المملكة.
لقد كان ذلك شغله الشاغل، وخاض معارك عديدة من أجله، لقد توحدت المملكة، وتوحد شعبها، وبدأ تأثيرها ونفوذها بين العرب وعلى
_________
(1) توحيد المملكة ص301، ترجمة الدكتور عبد الله العثيمين، الطبعة الأولى 1402هـ.(1/147)
المستوىالدولي، وتنمية المملكة أصبحت الرسالة الأولى والأهم بعد توحيدها. وعلى قدر ما وفق الله الملك عبد العزيز في معاركه مع خصومه من أجل توحيد المملكة، كان توفيق الله له في معركة التنمية والبناء.
كان الملك قد أسس المملكة، وأقام الدولة، ولكنه بعد تدفق الثروة بدأ التنمية والتحديث، وفقا لمنهجه الثابت، منهج الإِسلام.
*ِ بعد توحيد المملكة في دولة واحدة كان الشاغل الأكبر للملك عبد العزيز، هو السير قدما بتلك المملكة حتى تنال مكانها تحت الشمس. وقد كانت مكانة المملكة بوضعها الديني المتفرد في العالم، وبوصفها بلاد الحرمين الشريفين في العالم الإِسلامي واضحة في فكر الملك.
وكان في صدر اهتماماته- بعد أن ولي أمر الحجاز - العناية بالحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة، وإصلاح بيوت الله، وتطوير المشاعر، وتعميرها، فقد أمر- رحمه الله- سنة 1362 هـ (1943 م) بإصلاح مساجد مكة وتعميرها، وإصلاح ما يتعرض للخراب منها، كما قام بتعمير المساجد والطرق في عرفات ومنى والمزدلفة، على نفقته الخاصة (1) .
وكان- رحمه الله- يرمي من وراء تلك الإصلاحات إِلى تيسير فريضة الحج، ورعاية حجاج بين الله الحرام.
كما أمر الملك إِثر دخوله الحجاز بأن تكون كسوة الكعبة من صنع المملكة، وأسس مصنعا لذلك سنة 1346هـ (1927م) ، وصنعت
_________
(1) الإمام العادل 2 / 85، مصدر سابق.(1/148)
الكسوة في مكة المكرمة، وصنع باب للكعبة، وضع في مكانه في 15 من ذي الحجة سنة 1366 هـ (30 / 10 / 1947 م) بحضور ولي العهد الملك سعود، رحمه الله (1) .
وكان من خدمته لشعبه، ووفود المسلمين إِلى البيت الحرام للحج، أو العمرة إِيصاله الماء من عيون وادي فاطمة بواسطة الأنابيب إِلى جدة، وقد تم ذلك في الخامس من محرم سنة 1367هـ (18 نوفمبر سنة 1947 م) ، وأنشئ في عهد الملك، وبتوجيهه، خزانات ضخمة للمياه، فتيسرت السقيا للناس، مما ساعد على تعمير مدينة جدة التي أصبحت في عهد الملك مدخلا إِلى البيت الحرام، وميناء إِسلاميا يخدم المملكة، وشعبها (2) .
* وفي سبيل تنمية الإِنسان وإِصلاحه كانت خدمة الملك عبد العزيز - رحمه الله- للدعوة إِلى الله تعالى، حيث تعتبر من أهم علامات عهده وأشرف منجزاته. لقد دعا الملك بالقدوة، وهي من أعظم الوسائل، فحرِص- رحمه الله- على إِقامة واجبات الدين، وكان سلوكه العملي ظاهرا أمام الناس بما فيه من التزام الشريعة، وأخلاق الإِسلام، وقيمه ومثله، وحياته اليومية كانت تبدأ بصلاة الفجر، وتنتهي بصلاة العشاء، وفي أسفاره كان يتوقف وقت الصلاة، وكان- رحمه الله- يؤدي السنن الرواتب والنوافل، ويقرأ قبل المغرب وردا، ويدعو لنفسه
_________
(1) المصدر السابق.
(2) توحيد المملكة العربية السعودية، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والإجتماعي، للدكتور محمد بن عبد الله السلمان ص85 الطبعة الأولى عام 1416هـ.(1/149)
ووالديه بالرحمة والمغفرة عقب كل صلاة، مما يشرف كل مسلم، ويزيد شرفا وعزة كل ملك وسلطان، وقد أفاض معاصروه- رحمه الله- في ذكر تدينه وحرصه على أداء العبادات (1) .
وكان - رحمه الله - يحث العلماء على وعظ الناس، وتعليمهم أمور الدين، ويدعو الناس إلى الجلوس في مجالس الوعظ والإِرشاد، كما كان يأمر بنسخ ما يعجبه من المواعظ وأقوال أهل العلم، ويأمر بتوزيعها بين المسلمين (2) .
وقد أمر الملك بطبع كثير من كتب العلم والفقه، كما كان يحتكم إِلى الكتاب والسنة فيما يقرره، أو يأمر به.
وقد جادل- رحمه الله- من كانوا لا يجيزون استخدام آلات وأدوات مما أنتجته الحياة المعاصرة، مثل الهاتف واللاسلكي، وكان جداله بالتي هي أحسن، سواء في خطاب العامة أو العلماء.
وبلغ اهتمام الملك- رحمه الله- بأمور الدعوة أنه كان من أجلّ الدعاة إِلى الله، وليس في ذلك أدنى مبالغة، فعلى الرغم من مشاغل السلطان والملك، فقد كان- رحمه الله- في أقواله وخطبه ونصائحه، وتوجيهاته إِلى عماله يعظ الناس، ويذكرهم بالتوحيد، وأداء الفرائض، والإِقبال على الطاعات، والابتعاد عن المعاصي.
وكان في بعضِ الأحيان يصدرٍ منشورات ورسائل ملكية، تتضمن وعظا، وإِرشادا، وتعليما للناس، وتذكيرا لهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.
_________
(1) ينظر مثلا: الإمام العادل 2 / 46 -51، مصدر سابق.
(2) الملك الراشد ص386 - 387، مصدر سابق.(1/150)
ومثال ذلك المنشور الملكي الصادر من الملك إِلى: إِخواننا الحجازيين والنجديين، وقد نشر في جريدة أم القرى في 3 من ذي القعدة سنة 1360هـ (الموافق 31 من نوفمبر سنة 1941م) ، وفي هذا المنشور تحدث الملك إِلى شعبه عن نعمة الإِسلام التي تدوم بدوام التمسك بالكتاب والسنة، وأن ما دفعه إِلى إِظهار هذه النصيحة للناس ما رآه من الفساد في الزمان وأهله، وما اقترف فيه من آثام تستوجب من الناس التوبة إِلى الله، وتحدث الملك في منشوره عن المعاصي والذنوب، وحذر منها، ومن مظاهر الشرك بالله، وذكر في نهاية المنشور: " أن واجبه يدعوه لأن يوجه هذه النصائح لشعبه المحبوب، ولكل مسلم ".
وهذا بلا شك عمل دعوي، وهو ليس بغريب علىِ مهمة الدعاة، لكنه يزداد قيمة وأثرا حين يصدر عن ملك، ويزيد قدرا حين يصدر عنِ ملك عربي في العصر الحديث بالذات، ولقد كان الملك- رحمه الله مثلا فريدا لا نجد له مثالا بين الملوك والسلاطين في القرن الرابع عشر الهجري.
* وقد عهد الملك- رحمه الله- إِلى من يتوسم فيهم الإِخلاص والحماسة للعمل في خدمة المملكة ببدء حركة عمرانية، شملت توسعة الطرق، وإِصلاح طريق المدينة النبوية، وتعبيد شوارع مكة، وفتح طرقات عديدة للحجاج في عرفات، وإِنشاء ميناء بري في جدة، وإِنارة مدينة جدة ومكة المكرمة بالكهرباء، وإِصلاح مساكن للحجاج، وإِنشاء مظلات للحرم الشريف، واستحداث مطار بالمدينة، وأنشئت محطة إِذاعة للقرآن الكريم، وسائر ما يهم الناس من أخبار ومعارف، وزاد عدد(1/151)
الجسور والطرقات الممهدة، واستحدثت مجازر في مكة المباركة ومنى، حتى لا تسبب مخلفات الذبائح في مواسم الحج مشكلات صحية للناس، أو للحجاج (1) .
وما ذكرناه من إِصلاحات كان من ثمرات توحيد المملكة، ومن آمال الملك التي وفقه الله إِلى تحقيقها، وما ذكرناه جانب من تلك الإِصلاحات التي استدعت عمالة مكثفة وخبرات متنوعة وعلوما ومعارف شتي، كان لا بد من توفيرها وفق سياسة حكيمة.
لقد تم توجيه المملكة وشعبها نحو التقدم والرقي في شتى مناحي الحياة، وبدأت مسيرة التقدم على قدم وساق، واتجه- رحمه الله- إلى معركة البناء بعد أن أظفره الله في المعارك التي خاضها عشرات السنين، تلك المعارك التي كانت الباب الواسع للعمران والتقدم في المملكة العربية السعودية بعد فترات من التخلف رانت بأثقالها على شبه الجزيرة، وشعبها قبل عصر الملك عبد العزيز.
*َ ولا نستطيع أن نحصر الإِصلاحات التي تمت في عهد الملك، ويكفي أن نقول عن ذلك العهد: إِنه عهد بداية العمران والتحديث في المملكة.
لقد بدأ ربط مناطق المملكة بالطرق، ووسائل الاتصال الحديثة، كاللاسلكي والهاتف والبرق، وبدأت محطة الإِذاعة في إِرسالها يوم عرفة من سنة 1368هـ (1 / 10 / 1949 م) (2) وبدأ الناس في
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص82- 68، مصدر سابق.
(2) المصدر السابق ص88.(1/152)
استخدام وسائل الانتقال الحديثة- السيارات والطيارات والقطارات- إِلى جانب الدواب، ووضعت أنظمة للسير، حيث اشتدت الحاجة إِلى وسائل الانتقال الحديثة، حتى تضمن العدل، وتحقيق المصالح للحجاج وغيرهم، ومن يقومون بتقديم خدمات النقل في مواسم الحج وغيرها، كما أن الملك- رحمه الله- أمر بإِنشاء ميناء تجاري بالدمام على الخليج العربي، ومد خط السكك الحديدية إِلى الرياض عاصمة المملكة.
* وثمة أمر ينبغي التنبيه إِليه، وهو أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- أوتي من سعة الأفق في سياسة العمران، ما جعله يبدأ بإصلاح لم يفكر فيه أحد قبله.
وقد رافق هذأ الإِصلاح الجوهري معارك الملك من أجل الوحدة بين أجزاء المملكة، بل كان إِحدى علاماته البارزة، لقد كان الملك يوقن بأن التنمية الكاملة، وهي تنمية الإِنسان والمكان، تتطلب استقرار البشر؛ ولذلك بدأ بإِنشاء الهجر التي كان عدم استقرار البشر فيها سببا في انقسامهم، ونمو أعراف، وعادات اجتماعية وأسلوب حياة يتصف بالبداوة، والتخلف المادي والفكري.
لقد عرف الملك- بثاقب ذهنه، وسعة خبرته وتجاربه- أن بدء الإِصلاح، والتعمير في المكان، وعلى الأرض، يتطلب إِصلاح حياة الإنسان، ونقله من البداوة إِلى الحضارة، ومن الانتقال الدائم إِلى الاستقرار على الأرض، لقد وجه الملك إِلى تحديد مصادر المياه في مناطق(1/153)
عديدة، ثم ساعد الناس على بناء المساكن، وعلى ممارسة الزراعة، وسائر أوجه العمل المثمر، فهجر الناس حياة البداوة، وبدؤوا في ممارسة حياة القرى تمهيدا لحياة المدن. وكان فكر الملك- رحمه الله- في ذلك سديدا وسابقا، وكانت جهوده مذللة لكل الصعاب والعقبات التي واجهت تنفيذ هذا الفكر الطموح.
كانت أول الهجر هجرة الأرطاوية التي وضع أساسها سنة 1330 هـ (1913م) وبلغ عدد الهجر التي خططها الملك في نجد مائتي هجرة أو مدينة (1) وبدأ الملك إِنفاذ فكره في منطقة الحجاز، وفي مدة خمسة عشر عاما بلغ عدد الهجر والقرى نحو ألفين، لقد كان فكر الملك وعزمه وتصميمه، ومتابعته وراء انتقال شعب المملكة من حياة البداوة إِلى حياة الحضر والعمران.
* ويلفت النظر في شأن ما بدأه الملك عبد العزيز - رحمه الله- من تحديث وعمران للمملكة، أن الحجاز الذي كان موئلا للعلم وللمعارف الدينية، أصبح قبل عهد الملك في كثير من مدنه مثل غيره من بلاد شبه الجزيرة العربية فقيرا إِلى العلم والمعرفة، فلما ولي أمر الحجاز الملك عبد العزيز - رحمه الله- انجلت غشاوة الجهل، وأنشئت المدارس، وبدأ إِرسال البعثات العلمية من أبناء المملكة إِلى مصر وغيرها، واستقدام المعلمين من مصر والدول الأخرى، وكانت أول بعثة دراسية إِلى مصر سنة 1346 هـ (1927م) (2) وتخرج عشرات من شباب المملكة في
_________
(1) تنظيمات الدولة ص377- 383، مصدر سابق.
(2) الوجيز ص171 مصدر سابق.(1/154)
الجامعات، وشقوا طريقهم في خدمة العلم والمعرفة بين شعب المملكة، وتوالى إِرسال البعثات، كما استقدمت بعثات علمية من بلاد عديدة، وافتتحت في المملكة لأول مرة كلية للشريعة في مكة المكرمة، وذلك في عام 1369 هـ (1950م) كانت نواة لجامعة أم القرى فيما بعد، كما أنشئت المعاهد العلمية في المملكة سنة 1370هـ (1951م) ، وكلية الشريعة في الرياض سنة 1373 هـ (1954م) التي كانت نواة لجامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية، وأنشئت مدرسة دار التوحيد، ومدارس نموذجية في الطائف، وعمل بعض أفاضل الناس على فتح المدارس إِسهاما منهم في نشر العلم بالمملكة (1) .
وقد اعتنى الملك عبد العزيز - رحمه الله- بتوسعة المسجد النبوي، التي بدأت في عام 1370 هـ (1951م) ، وكذلك اعتنى بالحرم المكي إعمارا، وصيانة (2) وكان ذلك بداية لما تم في عهد أبنائه البررة، سعود وفيصل وخالد رحمهم الله، والتي بلغت ذروتها في عهد خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، حيث إِن التوسعة والإعمار في عهده بلغا مبلغا لم يكن من قبل.
ولقد عني الملك- رحمه الله- بالزراعة؛ لأنها قرينة الاستقرار، والزراعة تحتاج إِلى الماء، وإِلى أيدي الرجال، وأمر بأن توزع البذور وأثمان المواشي والآلات على من يباشرون الزراعة، فضلا عن إِقطاع
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص72- 74، مصدر سابق.
(2) الوجيز ص229، مصدر سابق.(1/155)
أراضٍ واسعة لمن يظهر الهمة في ذلك الأمر، فأنشئت المزارع في الرياض والخرج والقصيم وغيرها من الأنحاء، تنتج ما يحتاج إِليه الناس من الحبوب والخضر والألبان ومنتجاتها، وأنشئت لأول مرة مديرية للزراعة تعنى بأمورها، وتعين الناس باستقدام الخبراء، واستيراد الآلات الرافعة للمياه، وبإِنشاء السدود، وتعمير العيون، وإرشاد المزارعين (1) .
ونحن نشير إِشارات مجملة إِلى ما تم إِنجازه في مجالات الإِصلاح والتحديث، قاد ذلك كله بحكمة واقتدار ملك وضع بلاده على أبواب التقدم والتحضر والعمران، يعاونه نفر ممن أخلصوا لله، وحققوا ثقة الملك المؤسس فيهم، وأسماء الكثيرين منهم معروفة لدى شعب المملكة، وجزاؤهم مع قائدهم، عند الله عز وجل، لقد بدأت التنمية في عهد الملك عبد العزيز، ومازالت بفضل الله تعالى، تسير بخطى ثابتة، ترعاها أيد أمينة، وللًه الحمد والمنة.
_________
(1) الإمام العادل 2 / 103- 105، والوجيز ص317- 320.(1/156)
[الملك عبد العزيز والسياسة الخارجية]
الملك عبد العزيز والسياسة الخارجية {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ - وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 60 - 61] (الأنفال 60 - 61)(1/157)
* على قدر المعارك التي خاضها الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وانتصر فيها في ساحات القتال، نجد له معارك سياسية كتب الله له النصر فيها بغير السيف، بل بقوة الحق، وسلامة المنطق، وحسن السياسة.
فلم يحمل الملك سيفه فقط؛ لكي يتوسع ملكه، ويمتد سلطانه، كما يفعل كثير من الملوك والأباطرة، والحكَام، وإِنما كان الملك يدافع في كل معاركه عن معنى أجل وأعظم من مجرد التوسع، وامتداد النفوذ والسلطان، لقد استرد عاصمة دولة آبائه وأجداده عام 1319 هـ (1902م) وأخذ في توحيد مملكته، ولكن خصومه، ومن كانوا يعاونونهم، لم يتركوا الأمير الشاب في دولة آبائه، وأجداده ينعم بالسلام؛ لأنهم كانوا يحرصون على التوسع، واكتساب المزيد من الأرض والنفوذ والمغانم، فاضطر الملك إِلى مقاتلتهم، دفاعا عن وطنه وشعبه، وكان يعلم أن أسلافه قد وحدوا شبه الجزيرة، فكان أمل الوحدة يحدوه في كل معاركه.
وما نود أن نشير إِليه أن الملك لم يشهر السيف في وجه الخصوم إِلا بعد أن أعيته الحيل والسياسة، فاضطر إِلى منازلتهم، وكتب له النصر في ساحة القتال، وفي ميدان السياسة.
* نجد في المعارك التي خاضها الملك عبد العزيز مع ابن رشيد مثلا لما نقول، لقد كان ابن رشيد قبل بداية صعود نجم الملك عبد العزيز، واسترداد الرياض، يسيطر على نجد، ويستعين بالقوى الخارجية، ومنذ(1/159)
ظهر عبد العزيز آل سعود في ساحة الأحداث، بدا أنه يختلف عنه، وعن غيره من أمراء عصره، ويتميز بأنه سليل آل سعود، الذين توحدت شبه الجزيرة على أيديهم في الدولة السعودية الأولى (1157- 1233هـ 1744- 1818م) وكانت سجايا الأمير الشاب وشجاعته، وعراقة أسرته توجهه لأن يتطلع إِلى ما حققه آباؤه من قبل.
وربما كان ذلك غائبا عن إِدراك أمراء عصره وسواهم ممن كان لهم سلطان على أرض شبه الجزيرة، أو نفوذ فيها من القوى الكبرى التي كانت تهتم بالمنطقة بأسرها.
* قدم خصوم الملك عبد العزيز لسنوات طويلة فرصا كبيرة للملك؛ لكي ينتصر عليهم بالسيف أو بالسياسة، فبعضهم قدم الاندفاع إِلى معركة خاسرة، وبعضهم كان يتظاهر بالمودة لعبد العزيز، ومحاباة أعدائه في بعض الأحيان، والقوى الكبرى في المنطقة، كالأتراك والبريطانيين كانوا يسعون للسيطرة والنفوذ والسلطان، دون هدف ظاهر يخدم أهل شبه الجزيرة العربية.
* تخلى الملك عبد العزيز في مراحل حياته، منذ ظهر نجمه أميرا على الرياض، عن الأنانية، والرغبة في السيطرة على الناس لذات السيطرة، وتحصيل المكاسب والمغانم، وتخلى أيضا عن الإعجاب بالنفس والزهو بالانتصار، وتحلى بكل ما يجذب إِليه الناس في شبه الجزيرة من البدو والحضر، من الكرم والسخاء، والتواضع لله عز وجل، والسماحة في(1/160)
القول، وتقدير الناس، حتى ولو كانوا خصوما له، وتحلى بالعفو عند المقدرة، والعودة إِلى العفو، حتى بعد ظهور الخيانة للعهد والمواثيق، واتخذ الحلم والصبر وسيلة للتدبير والتفكير وانتظار الفرج.
بينما اندفع بعض خصومه في العداوة، وازدهاهم الغرور أحيانا، ولذلك كانت معارك عبد العزيز السياسية أعظم أثرا من معاركه في ساحات القتال.
وفي ساحة القتال وميدان السياسة تكامل انتصار الملك عبد العزيز على خصومه، وعلى القوى الكبرى في شبه الجزيرة.
* لقد أشرنا من قبل إِلى بعض من المعارك التي خاضها الملك في ساحات القتال مع خصومه من أمراء العصر، ومع بعض القبائل التيِ كانت تغير ولاءاتها، وتنقض عهودها مع الملك، ولكن هؤلاء جميعا كانوا من أهل شبه الجزيرة وشعبها، والتعامل معهم هو إِقرار للحق، وفرض للأمن، وردع للخروج على السلطان، وخطوات في الوصول إِلى التوحيد السياسي للمملكة العربية السعودية.
* وأما سياسة الملك مع القوى التي كانت تسيطر على بعض الأنحاء في شبه الجزيرة، أو تمارس نفوذا فيها، فهي جانب مهم من السياسة الخارجية، أو هي من معارك السياسة في عهده.
* من أهمها علاقة الملك عبد العزيز مع الأتراك، التي انتهت بتركهم لشبه الجزيرة العربية.(1/161)
وعلاقة الملك عبد العزيز مع البريطانيين، التي استفاد فيها البريطانيون بظهور حاكم قوي في شبه الجزيرة، واستفاد الملك من هذه العلاقة، لاستكَمال مسيرة الوحدة التي حققها بالسيف والسياسة.
* كانت تلك الإِنجازات السياسية للملك عبد العزيز - رحمه الله- هي أعظم الإِنجازات السياسية العربية أيضا في عصره.
أقام الملك عبد العزيز دولة موحدة مستقلة في ظل ظروف الحرب العالمية الأولى 1332- 1337 هـ (1914- 1918م) والحرب العالمية الثانية 1357- 1364 هـ (1939- 1945 م) .
ومع انتشار التشرذم، والانقسام بين أنحاء شبه الجزيرة العربية بسبب القوى الكبرى العالمية ومصالحها وصنائعها. وأهم من ذلك أنه نجح في إقامة تلك الدولة الإِسلامية المستقلة الموحدة، مع قلة الموارد، وضعف المساندة من البلاد العربية التي كانت مشغولة بقضاياها الوطنية الكبرى.
وفي تقديرنا أن الله تعالى أنعم على المملكة بالثروة بعد أن وحدها عبد العزيز آل سعود رحمه الله، جزاء له على الإِخلاص لله، والعمل بكتابه، وسنة رسوله، والعدل بين الناس، وتحقيقا لوعد الله بميراث الأرض لعباده الصالحين:
{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ - إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} [الأنبياء: 105 - 106] (الأنبياء 105 - 106) .(1/162)
وفي جانب الإِنجاز الكبير الذي حققه الملك عبد العزيز - رحمه الله- لشعبه في المملكة العربية السعودية ولأمته العربية والإِسلامية، في إِقامة الدولة العربية الإِسلامية الموحدة المستقلة. فقد عاصر الملك بداية محنة شعب فلسطين حين بدأت الصهيونية العالمية في اغتصاب أرضه ووطنه.
كانت بداية المحنة وسط أجواء عالمية تنذر بوقوع الكارثة، فقد كانت الدول العربية في جملتها في المشرق والمغرب تعاني من الاحتلال وسطوة النفوذ الاستعماري، وكانت مشغولة بالسعي والجهاد من أجل تحقيق استقلالنا، ومما ساعد على تلك المحنة خروج الحلفاء من الحرب العالمية الثانية منتصرين، وهم أكثر الناس ارتباطا بالقوى الصهيونية، وأشدهم حرصا على تحقيق مصالحها، وتأييد مظالمها، لاسيما حين يتعلق الأمر بحقوق العرب أو المسلمين.
*ِ كان للملك عبد العزيز موقف من قضية شعب فلسطين مشهود أمام العالم العربي والإِسلامي، وهو في ميزان حسناته- بإِذن الله-، وهو موقف جدير بأن يذكره، ويشكره كل فلسطيني، وعربي، ومسلم.(1/163)
[مع الأتراك]
مع الأتراك * ظهر نجم آل سعود، عبد العزيز بن عبد الرحمن حينما استطاع بقوة قليلة العدد والعدة أن يسترد الرياض في الخامس من شهر شوال 1319 هـ (15 / 1 / 1902 م) وكان ذلك يوما معروفا في حياة الملك عبد العزيز، كان يوما له ما بعده، كان بداية لكفاح، ومعارك امتدت عشرات السنين.
ولقد تنبهت الدولة العثمانية إِلى خطورة ذلك عليها، وقد كانت تسيطر على أجزاء من جزيرة العرب، في داخل إِطار الدولة العثمانية التي كانت قد ضعفت ضعفا شديدا، فيما بدأ نجم عبد العزيز آل سعود يظهر في سماء الجزيرة العربية، وكانت سياسة الدولة العثمانية ترمي إِلى القضاء على الدولة السعودية منذ قيامها في عهد أسلاف الملك عبد العزيز، وحينما أيد ابن رشيد الخلافة العثمانية اعتبره العثمانيون سندا لهم، وندا لآل سعود، وأمد الأتراك العثمانيون ابن رشيد بالسلاح لمحاربة عبد العزيز آل سعود، وفي معركة البكيرية في أول ربيع الآخر 1322 هـ (14 / 6 / 1904 م) كان طرفاها ابن رشيد، ومعه أحد عشر صفا من جنود الدولة العثمانية وقبائل شتى، والطرف الآخر عبد العزيز آل سعود (1) .
_________
(1) معارك الملك عبد العزيز المشهورة ص 88 وما بعدها، وصقر الجزيرة ص360- 363 مصدران سابقان.(1/165)
*وتلاقى الجيشان في سهل البكيرية غربي القصيم، كان جيش ابن رشيد، والدولة العثمانية أقوى عددا وعدة، وانتهت المعركة بظفر ابن سعود، ودخوله البكيرية، واستمرت بعد ذلك المناوشات، والمنازلات نحو ثلاثة أشهر، ثم كانت المعركة الحاسمة التي انتصر فيها ابن سعود، وغنم غنائم كثيرة، وذلك في وقعة الشنانة في 18 رجب سنة 1322 هـ (سبتمبر 1904م) (1) وبعد هذه المعركة استقر حكم ابن سعود في معظم نجد.
* تلت تلك المعركة مفاوضات بين ابن سعود، وبين الأتراك، آخرها ما كان بينه وبين سامي باشا الفاروقي الذي لم يحسن مخاطبة الملك عبد العزيز؛ ولذلك واجهه الملك بأن العرب لا يطيعون صاغرين أبدا، وهم الفاروقي بحرب عبد العزيز مستندا إِلى ابن رشيد، ولكن عبد العزيز آل سعود حذره من ذلك، وأنذره بإِبعاد جيشه، فرضي رغما عنه بذلك وسمح عبد العزيز للجنود الأتراك بالانسحاب سالمين.
وأرسل السلطان عبد الحميد الخليفة العثماني وقتذاك يشكر "الأمير الخطير والزعيم الكبير عبد العزيز باشا آل سعود " على معاملته لعساكر الدولة العثمانية، وطلب السلطان عبد الحميد من عبد العزيز آل سعود أن يرسل وفدا من رجاله إِلى الآستانة، وأرسل عبد العزيز الوفد، فقوبل بحسن الضيافة، وأنعم عليهم السلطان بالألقاب والنياشين (2) .
_________
(1) تاريخ ملوك آل سعود ص72، وما بعدها، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة ص95- 96 مصدران سابقان.
(2) تاريخ ملوك آل سعود ص81 وما بعدها، وصقر الجزيرة ص361 مصدران سابقان.(1/166)
* كان عبد العزيز آل سعود يعرف الأتراك حق المعرفة، بينما لم يكونوا يعاملون العرب المعاملة الحسنة.
لقد نصح عبد العزيز أحد الولاة العثمانيين على البصرة حينما ذكر له شقاق العرب، ونزاعهم مع الدولة، فقال له:
" إِنكَم لم تحسنوا إِلى العرب، ولا عاملتموهم معاملة العدل ".
وقال الملك في مشورته:
"إنكم المسؤولون عما في العرب من شقاق، فقد اكتفيتم بأن تحكموا، وما تمكنتم حتى من ذلك، وفاتكم أن الراعي مسؤول عن رعيته، وأن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إِلا بالعدل والإِحسان ".
* ولما توطد سلطان عبد العزيز في معظم نجد كان الأتراك في الأحساء والقطيف، ومن الطبيعي أن يمتد بصر ابن سعود إِلى ما في يد الأتراك لتحرير بلاده منهم.
ولما استبد الغرور بوالي بغداد السفاح جمال باشا "هدد باختراق نجد بطابورين من جنده " فرد عليه الملك بأدبه وحلمه " سنقصر لكم الطريق إِن شاء الله " (1) .
وفي 5 جماد الأولى سنة 1331هـ (1913م) دخل الملك عبد العزيز الأحساء وانسحبت حامية الأتراك بعد أن أذن لها عبد العزيز، وخرجت بسلاحها من الأحساء.
* ولما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ (1914م) كان ابن رشيد مع الدولة العثمانية ضد البريطانيين وحلفائهم، باعتباره تابعا
_________
(1) صقر الجزيرة ص361، مصدر سابق.(1/167)
للدولة العثمانية، وكان الشريف حسين قد طرح سلطانهم، وثار ضدهم لمصلحة البريطانيين، نظير وعودهم أو عهودهم له، وكان عبد العزيز بحكمته السياسية، وبحسه العربي الأصيل يريد أن يجنب العرب ويلات حرب، لا ناقة لهم فيها ولا جمل (1) .
* لقد استطاع الملك عبد العزيز أن يحتفظ بحياده بين الفرقاء المتحاربين، ومع ذلك ظفر باحترام البريطانيين له، حتى إِنهم منوه بخلافة المسلمين إِذا هو قاتل الترك معهم، لكنه بحسه الإِسلامي العربي أبى أن يكون تابعا في حرب، كما فعل غيره.
_________
(1) الوجيز ص59، مصدر سابق.(1/168)
[مع بريطانيا وقضية فلسطين]
مع بريطانيا وقضية فلسطين * كان عصر الملك عبد العزيز - رحمه الله- يموج بأحداث عالمية كبرى، ولم تكن المنطقة العربية بمعزل عن التأثر والتأثير في تلك الأحداث.
ففي عصر الملك- رحمه الله- كانت الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، وكلاهما حرب عالمية جرت على الإِنسانية ويلات كبرى في أنحاء المعمورة، وعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى كانت المنطقة العربية في معظمها، المشرق العربي والمغرب العربي، تحت سلطان الاستعمار العالمي، البريطاني والفرنسي في الغالب، بينما كانت بعض الدول، مثل ألمانيا تتطلع إِلى الاستفادة من المغانم من منطقة الخليج، ومن شبه الجزيرة العربية. وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1337 هـ (1918م) كان الملك عبد العزيز مشغولا بتوحيد المملكة، ومقاومة قوى التشرذم، والتشتت فيها، إِلى جانب مقاومة النفوذ الأجنبي، ممن كان لهم مصالح قائمة، أو محتملة في شبة الجزيرة، وكان الأمر يحتاج من الملك إِلى سياسة حكيمة يستفيد منها في تحقيق أهدافه الكبرى التي(1/169)
شغلت حياته كلها، وهي حماية عقيدة التوحيد، وإِقامة شريعة الإسلام، والعمل على وحدة المملكة، ولذلك لم يشغل الملك نفسه بمواجهة البريطانيين، وكان لهم نفوذ في المنطقة، إذ كانوا يسيطرون على مصر والعراق، والكويت، وغيرها من إِمارات الخليج، ويمارسون نفوذهم في هذه المناطق، ولم يكن من الحكمة أن يبادرهم بالمواجهة أو العداوة، واحتاج ذلك من الملك إِلى الحكمة والصبر والذكاء معا، فقد كان البريطانيون يطمعون في أن يقف إِلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى 1332هـ - 1337هـ (1914- 1918م) كما فعل الشريف حسين، ولكن الملك اتخذ سياسة أرشد وأحكم، فلم يدخل نجدا، أو المناطق التي يسيطر عليها في أتون الحرب، ولا أغرته الوعود مثل غيره، وكان وقت الحرب مشغولا برخاء مواطنيه، وتحقيق كفايتهم من حاجات الحياة، بينما كان العالم في الحرب مهموما بمآسيها، وكوارثها لعدة سنوات.
* وبعيدا عن التفصيل والإِطالة، يمثل سياسة الملك الرشيدة ما ورد في خطبة لنائبه الملك فيصل - رحمه الله- في موسم الحج عام 1359 هـ (1941م) :
" لا يجهل أحد ما فيه العالم اليوم من نكبات ومحن، حتى البلاد التي لم تشترك في الحرب لا تخلو من أزمات اقتصادية وغيرها، أما نحن فلله الحمد من أسعد الناس، وهذا لا شك من نعم الله- عز وجل- التي تستوجب الشكر ".(1/170)
كان ما يشغل الملك أهم وأبقى، وهو حال البلاد العربية والمسلمين، وإِنقاذهم مما يعانون، يقول الملك عبد العزيز في خطبة له بمكة سنة 1359هـ (1941م) :
" كل ما ندعو إِليه هو جمع كلمة المسلمين واتفاقهم، ليقوموا بواجبهم قبل ربهم وقبل بلادهم، يهمنا أمر إِخواننا السوريين، وأمر إِخواننا الفلسطينيين، وأمر إِخواننا العراقيين، وإِخواننا المصريين، وأخاطب إِخواننا في مصر، والعراق، وسوريا، وفلسطين، فأقول لهم: إِن المصلحة واحدة، والنفوس واحدة " (1) .
كان البريطانيون منذ بزغ نجم عبد العزيز آل سعود، يحرصون على صداقته، يرجع ذلك إِلى إِعجابهم بشخص الملك، وتوقعهم علو شأنه، وثقتهم في قدراته لزعامته العربية، وقد زاره في بلاده بعض كبار البريطانيين، وأبدوا إِعجابهم بشخصه، كما أرسل الملك ابنه فيصلا إِلى بريطانيا في شهر شوال سنة 1362هـ (1943م) واستقبل هناك استقبالا يليق به، وبمقام أبيه، وكان الملك عبد العزيز - شأن المسلم الصادق- لا يتردد في الاعتراف بما قدمه له البريطانيون من المساعدات في أثناء كفاحه لتوحيد المملكة. وحينما طلب البريطانيون من الملك أن ينسحب بجيوشه من الخرمة بعد الانتصار على جيش الشريف حسين في عام 1337 هـ (1919م) بادر الملك بالعودة إِلى الرياض (2) متخذا في
_________
(1) الوجيز ص250، مصدر سابق.
(2) صقر الجزيرة ص442، مصدر سابق.(1/171)
ذلك سياسة الحكمة، حتى أذن الله بأن يعود إِلى الحجاز كله، وذلك من بعد النظر، وتحاشي الخطر، وتجنب الاصطدام، واصطناع الأعداء، في وقت كان الملك فيه يملك الكفة الراجحة، وتخدمه أيام نصره وتوفيقه.
هكذا كانت العلاقة بين البريطانيين وبين الملك، علاقة تقوم على الاحترام، يدفع البريطانيين إِليها الرغبة في حفظ مصالحهم، ويدفع الملك إِليها تجنب عداوتهم، والاستفادة من مساعداتهم. ولكن ذلك لم يمنع الملك فيما بعد، حين تتعرض مصالح المسلمين، أو العرب للخطر من المواجهة حتى مع الأصدقاء.
* كان هاري سانت جون فلبي الرحالة البريطاني على علاقة وثيقة بالملك عبد العزيز، رحمه الله، ولاسيما بعد أن اعتنق الإِسلام، وترك خدمة الحكومة البريطانية، واستقر في المملكة، وكان يزور الملك في مكة وفي الرياض، واصطحبه الملك في بعض رحلاته وأسفاره، واستشاره في بعض الأمور الخارجية، ولكن مع ذلك حين حاول فلبي التوسط في قضية فلسطين، وكانت الأمور لا تزال في بدايتها أخفق في وساطته، وكان سبب الإِخفاق أن الملك عبد العزيز لم يكن ليقبل ما يمس حقوق العرب والمسلمين، ونصح فلبي بألا يتطرق إِلى هذا الموضوع، على الرغم مما بذله الأخير من محاولات لإِثارة اهتمام الملك (1) .
لقد كان الملك- رحمه الله- من الذكاء، والحنكة السياسية، والتجارب التي مرت به أكبر من أن يستميله أحد حتى لو كان من
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص180.(1/172)
مستشاريه- إِلى شيء لا يرضاه للعرب والمسلمين، فالمعروف عن الملك أنه كان مصدر المعرفة، والتوجيه لمستشاريه وخاصته.
وقد التقى الملك عبد العزيز رئيس وزراء بريطانيا السير ونستون تشرشل، كما التقى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية روزفلت، في الثاني من ربيع الأول سنة 1364 هـ (5 فبراير سنة 1945م) ، وأُعجب الرئيس الأمريكي أشد الإِعجاب بشخصية الملك، وعبر له عن ذلك صراحة. وتدل الرسائل المتبادلة بين الملك، وبين الرئيس الأمريكي على أن الملك- رحمه الله- مقتنع بالظلم الذي وقع على شعب فلسطين من جراء استيلاء اليهود على أرضهم ودورهم، وأنه- رحمه الله- مقتنع حينما تحدث إِلى الرئيس الأمريكي بشأن ذلك حديث الواثق بالله، المعتز بإِسلامه والمدافع عن العرب والمسلمين (1) .
وفي هذه الرسائل يبدو أمران على جانب عظيم من الأهمية:
الأول: أن ما توقعه الملك من اضطراب الأحوال في المنطقة، بسبب عدوان اليهود، واعتدائهم على حقوق الشعب الفلسطيني، والإِضرار بمصالح بريطانيا، وأمريكا في المنطقة، بسبب الانحياز إِلى اليهود، قد حدث بحذافيره بعد وفاة الملك، ومازال حتى الآن يحدث كل يوم.
الثاني: أن كتب الملك ورسائله إِلى الرؤساء من البريطانيين والأمريكيين، تناولت المسألة من جذورها، وأبطلت كل الحجج التي تذرع بها الغرب لمساندة العدوان على الشعب الفلسطيني، وأن الملك- رحمه الله- كان في
_________
(1) ابن سعود وقضية فلسطين، لأحمد عبد الغفور عطار، ص194، ومن منشورات المكتبة العصرية بلبنان، بدون تاريخ.(1/173)
رسائله حول المشكلة عربيا مسلما، ومدافعا كبيرا عن مصالح العرب والمسلمين، فضلا عما ظهر من طابع إِنساني في تناوله للمشكلة، وهو طابع لا يجعل من حل القضية كارثة على طرف منها، وفائدة محققة بلا ثمن، ولا مسوغ للطرف الآخر.
إِن رسائل الملك إِلى كبار الساسة والمسؤولين البريطانيين والأمريكيين، تعد حتى اليوم، أفضل الأساليب، وأقواها، وأقومها عند مناقشة المشكلة مناقشة موضوعية تتصف بالعدل.
ولكن يبدو أن العالم لم يعد يهتم بالعدل أساسا، وأن المصالح والمغانم أيا كانت وسيلة تحقيقها وتحصيلها، هي الأساس في التعامل مع قضية شعب فلسطين.(1/174)
[شهادات معاصري الملك عبد العزيز]
[أولا شهادات العرب والمسلمين]
شهادات معاصري الملك عبد العزيز * لقد تحدث الكثيرون من معاصري الملك عبد العزيز عنه، ولا نبالغ حين نصفه بأن كان أمة وحده، في ميزاته، وخصائصه، وخصاله وسجاياه، وما طبعه الله عليه من دين وخلق.
وهناك عشرات الدراسات التي تحدثت عن الملك، والعشرات ممن عاصروه، والتقوه، تحدثوا عن جوانب شخصيته الغنية بالمواهب، ولا يستطيع الباحث أن يعرض ذلك كله، وإِنما نعرض منه كلمات صادقة تعبر عن شخصية هذا الملك، باعتباره من أعظم ملوك عصره، ونختار من الكلمات ما شهد به العلماء والمفكرون، وأصحاب الرأي، وكبار الرجال والساسة، فالشهادة في نظرنا توزن قبل أن تعد، وإِذا لم يكَن في الأمكان حصر ما شهد به المعاصرون للملك، فحسبنا أن نورد بعضها، مما يوزن بقدره، وبصدقه، وبقدر الشاهد فيه.
لقد تركنا- عن قصد- شهادات أبنائه والمقربين منه من أبناء شعبه، الذين كتبوا عنه الكثير: مؤلفات، وأبحاثا، ودراسات، وأعمالا إِعلامية وثقافية خلال قرن من الزمن؛ لأن ذلك معروف ومعيش في المملكة(1/175)
العربية السعودية، وفضلنا أن تكون هذه الشهادات من غير أبناء المملكة، سواء أكانوا عربا، أم غير عرب.
لقد كانت عظمة الملك، وزعامته في قومه وفي شعبه وأمته وفي عالمه الإِسلامي، معلومة مشهورة لا تحتاج إِلى دليل أو برهان، يقول الأستاذ عباس العقاد المفكر المصري المعروف في هذا المعنى:
" ابن سعود من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسمون، فلا يحارون في أسباب زعامتهم، ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا لماذا كان هؤلاء زعماء " (1) .
وسنورد شهادات من العرب والمسلين، ثم نعقبها بشهادات من الأجانب غير العرب، لا للدليل أو البرهان، ولكن للتذكرة والاعتبار بسيرة الملك العربي المسلم عبد العزيز آل سعود، رحمه الله تعالى.
أولا: شهادات العرب والمسلمين: يقول الأستاذ عبد الرحمن عزام الذي كان أمينا عاما للجامعة العربية عندما أنشئت عام 1364هـ 1945م:
" عرفت جلالة الملك عبد العزيز آل سعود، وعرفني قبل أن نلتقي ببضع سنين، فلما كان حج سنة 1346 هـ 1928م، وأتيح لي أن أتشرف بلقائه، وأنزل ضيفا في ساحته، رأيت فيه مثلا للعروبة في حالتها النظرية، تتجلى فيه المعاني التي ظهرت في حياة العرب في جاهليتهم،
_________
(1) الملك عبد العزيز، رؤية عالمية للدكتور ساعد العرابي الحارثي، الطبعة الأولى 1415 هـ ص89.(1/176)
وإِسلامهم، وأول هذه المعاني العزة والثقة في النفس، وما ينطوي عليه ذلك من عقيدة في سمو القوم الذين ينتسب إليهم، فكل شيء في نظره هو دون المستوىالذي ترسمه العروبة في خاطره، والملك عبد العزيز في ذلك مثل كل عربي لم تلوثه الحضارة الغربية، يعتقد أن العزة لله ثم له (1) .
وهو قول يلمس جانب النفس العربية الأبية التي فطر عليها الملك، وما تتميز به من شعور عميق بالعزة، التي وهبها الله له، باعتباره مسلما عربيا.
ويشهد للملك أمين الريحاني الكاتب والأديب المعروف، وقد قابل أمراء العرب وملوكهم في عصره، يشهد للملك بتفوقه عليهم في المواهب والخصال، فيقول:
"لقد قابلت أمراء العرب كلهم، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، إن الرجل فيه أكبر من السلطان، ومهما قيل في ابن سعود، فهو رجل قبل كل شيء، رجل كبير القلب والنفس والوجدان، عربي تجسمت فيه فضائل العرب إِلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم شعرنا وتاريخنا، رجل صافي الذهن والوجدان، خلو من الادعاء والتصلف، خلو من التظاهر الكاذب (2) .
شهادة حق جديرة بالاعتبار والتدبر، بل جديرة باتباع الملوك، والأمراء،
_________
(1) المصدر السابق ص86- 87.
(2) المصدر السابق ص114- 115.(1/177)
والرؤساء في البلاد العربية والإِسلامية، للأخلاق والسجايا التي حفلت بها هذه الشهادة. كم يكون الملك أو الرئيس عظيما إِذا كان كبير القلب والنفس والوجدان، خلوا من الادعاء والصلف والتظاهر الكاذب.
ويلفت النظر شهادة الأستاذ عباس محمود العقاد، فهو مفكر عربي مصري ومسلم، يعرف عنه الاعتزاز بالنفس، والصدق في القول، وهو صاحب الدراسة النفسية في شخصيات التاريخ العربي والإِسلامي في العبقريات، يلفت النظر إِلى أنه يلمس جانب السجية، والطبع في شخصية الملك عبد العزيز، فيقول:
"بطل الأمة من الأمم هو الرجل الذي يتجمع في شخصه صفاتها ومزاياها على أتمها وأوضحها وأقواها، فهو مرشح بالفطرة لحكمها وقيادتها، وهي في هذه الحالة إنما يحكمها بنفسها، وبمحض إرادتها حين يحكمها بأبرز صفاتها وأقوى مزاياها " (1) .
والنتيجة لهذه الصفات والمزايا العربية الأصيلة في الملك، أنه كما يقول العقاد، رحمه الله:
"بطل الجزيرة العربية غير مدافع، أو هو العربي الأكبر في بلاده؛ لأن يجمع في شخصه تلك الصفات والمزايا التي اشتهرت بها أمة العرب من قديم الزمان، فيدين له رعاياه؛ لأنهم يدينون لأنفسهم، أو يدينون لصفاتهم ومزاياهم، ويقوم حكمه على الطاعة والاختيار بهذا المعنى الأصيل من معاني الطاعة والاختيار (2) .
_________
(1) المصدر السابق ص 119.
(2) المصدر السابق.(1/178)
لم أجد تعليلا لانتصارات الملك عبد العزيز ونجاحه في توحيد أمة العرب في شبه الجزيرة أفضل مما سبق ذكره، لقد دان الناس له على شدتهم، وقسوتهم، وحبهم للزعامة والسيطرة في قبائل العرب الكثيرة؛ لأنه أقواهم زعامة، وأحرصهم على اتباع شرع الله، وأجمعهم لكل ما تتميز به العروبة من صفات؛ ولذلك لم يشعروا أنهم يدينون بالطاعة لقرين، أو مثيل، أو ند لهم، بل دانو بالطاعة لكل ما يحبونه ويجلونه من الصفات والمزايا، وقد جمعها عبد العزيز في أتمها، وأقواها، وأوضحها.
* ويعرف الأستاذ عباس العقاد خصيصة أخرى لدى الملك، تجعله في عداد من يحاجون في مسائل الشريعة، فقد وجد في زمان الملك عبد العزيز من ينكر استعمال كل جديد، ويصف مالا يدرك طبيعته، وكيفية عمله بأنه من باب السحر، أو الاستعانة بالشياطين، كاستخدام التليفون، وأجهزة اللاسلكي، وغيرها من المخترعات الحديثة، ولكن الملك الذي عرف كيف يتعامل مع شعب وأمة بأكملها، لا يعجز عن التعامل مع هؤلاء النوع من الناس، يقول الأستاذ عباس العقاد:
"إِن الملك نصح هؤلاء بأن لا ينزلوا عن مكانتهم، وهم فوق الرؤوس بأن يغضبوا ولي الأمر فيهم. ثم يسأل الملك العلماء، هل وجدوا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يمنع من استخدام المخترعات الحديثة؟ فلما أجاب العلماء بالنفي، انكشفت الحقيقة الشرعية، ولكن الملك من ذكائه، وسعة حيلته، جعل العلماء يسمعون القرآن الكريم من أجهزة الراديو(1/179)
والتليفون، فتيقنوا أن الذي ينقل القرآن الكريم لا يمكن أن يكون شيطانا، وهذا برهان من أقوى البراهين لمثل هؤلاء " (1) .
* وكان للملك من سعة الصدر، والاستماع إِلى الرأي، ما يسع قول البدوي الجاهل، ويسع أيضا جدال العالم، وفي الحالين يرد الملك على كل منهما بما يناسب عقله وإِدراكه، فلا يغضب لمن يناديه من البدو باسمه مجردا؛ لأنه يعرف عن أخلاقهم وعاداتهم أكثر مما يعرفه غيره، ولم يعجز عن مخاطبة العلماء، وأهل الرأي وفق علمهم وثقافاتهم، بمثل ما يحاجون به ويستندون إِليه.
ويعرف أحد كبار الزعماء والساسة والمفكرين قدر الملك عبد العزيز، وعظمة إِنجازاته، وأثره في تاريخ العروبة، فيقول الأستاذ محمد حسين هيكل المؤرخ والسياسي المصري:
"تاريخ البلاد العربية بعد يقظتها جدير بالعناية، والتأمل الطويل في تطور الحوادث تطورا صاغه الملك ابن سعود بحكمة، وحزم، وحسن سياسة، كان لها أثرها في إِقرار السلام في شبه الجزيرة العربية، وفي توجيه النهضة في تلك الأرجاء توجيها صالحا يبشر بخير النتائج (2) .
* وثمة شهادة لأحد علماء الإِسلام، ودعاته، وهو الشيخ محمد رشيد رضا، يقول فيها:
" صارت نجد في أيامه إِمارة كبيرة، أحسن إِدارتها، وحفظ الأمن فيها، ونظم الدعوة لنشر الدين والحضارة في قبائلها المجاورة لها، كما نظم فيها
_________
(1) المصدر السابق 319.
(2) المصدر السابق ص126.(1/180)
القوة المقاتلة تنظيما كافيا لحفظها من اعتداء أحد المجاورين لها، فعل كل هذا عبد العزيز بن سعود، وليس هذا بالقليل، حتى على مثله من الملوك والسلاطين في هذا الزمن القصير، وهو مع هذا في منتهى التواضع في معيشتّه، وحكمه ومعاشرته للناس من أهل بلاده وغيرهم، لم تجنحِ نفسه للترف والنعيم، ولا للزينة والزخرف غير المعتاد أو المحظور شرعا، ولا للعظمة والكبرياء، ولا للتمتع بالألقاب الفخمة، ولا تسمية أعوانه بالوزراء والحجاب، ولا للإِنعام عليهم بالرواتب وشارات الشرف، وقد سخر الله له كثيرين يعملون للمصلحة التي يبتغيها لأهله، فأغناه الله عن استئجار الأقلام المنافقة" (1) .
كم نحتاج إِلى هذه الشهادة، لكي يتدبرها الملوك، والأمراء، والزعماء، والقادة في البلاد العربية والإِسلامية، وكم يحتاج إِليها رجال الإِعلام وأصحاب الأقلام في هذا العصر.
وفي شهادة الأمير شكيب أرسلان:
" كنت أقرأ كثيرا من الأحاديث، والأجوبة التي يفضي بها ابن سعود إِلى بعض الصحافيين، سواء كانوا عربا أو أجانب، فلم أجد هذا الملك تهور مرة واحدة فيِ حديث، أو تكلم بكلام يؤخذ عليه، وأما الأمور التي يجزم بها جزما تاما، فهي التي يرى أنه لا يحيد عنها والتي يعدها قاعدة سياسته الداخلية والخارجية، لا يبالي أغضب من أجلها من غضب، أو رضي من رضي (2) . 8.
_________
(1) المصدر السابق ص180 -181.
(2) المصدر السابق ص194 - 195.(1/181)
ويقول الأستاذ أحمد حسين، وهو أحد زعماء الأحزاب في مصر:
"إِذا تحدثت عن الكرم وإِجابة المطالب فلست أعني بها ناحية المال وحده، بل وناحية العفو والصفح، فابن سعود لا يقتل عدوا، يطلب منه أن يبقي عليه، حتى ولو كان هذا العدو قد فعل به الأفاعيل، وكم من الثوار والبغاة تحدوا ابن سعود، فأظفره الله عليهم، فعفا عنهم، ووصلهم، وأسبغ عليهم من النعم ما نعده في حسابنا من الإِسراف، ثم عادوا للانتقام والتمرد عليه، فظفر بهم ثانية، فيطلبون الصفح فيمنحه (1) .
وعن الملك يقول حافظ وهبة، أحد مستشاريه المقربين:
"متواضع طيب العشرة، كثير الشبه بمعاوية بن أبي سفيان، في حلمه، وبعد نظره، وحسن حيلته في تصريف الأمور (2) .
وفي كتاب ملوك المسلمين المعاصرين ودولهم، يقول المؤلف أمين محمد سعيد عن الملك عبد العزيز:
" تغلب عليه الوداعة والمرونة، مع شدة وقسوة عند الحاجة، فهو يعرف كيف يضع السيف، كما يعرف كيف يضع الندى، وهو متسامح مع خصومه وأعدائه، واسع الصدر، كريم اليد، فإِذا جاؤوه تائبين نادمين عفا عنهم، ورحب بهم، وأجزل لهم العطايا، وأنزلهم أحسن المنازل، ويكون انتقامه شديدا ممن ينتقض عليه، أو يحاربه بعد أن يكون قد دخل في طاعته (3) .
_________
(1) المصدر السابق ص117.
(2) المصدر السابق 205.
(3) المصدر السابق ص207.(1/182)
لقد ذكر الناس هذه الصفات وصفا لواقع شهدوه من الملك الذي عرفوه.
ولكن ما ينبغي ذكره هو ما تدل عليه هذه الصفات، فالعفو تقابله شدة العقوبة عند الخيانة وعظم الذنب، وكرم اليد وسخاء النفس، والتواضع لله- عز وجل- والإِعراض عن ترف الدنيا ونعيمها، وتجنب كبيرة الكبر، واصطناع العظمة أمام الناس، كل هذه الصفات الرفيعة التي أكدتها تلك الشهادات الموثقة، هي في حقيقتها فضائل إِسلامية وفق الله الملك عبد العزيز إِليها، فكانت سجيته التي يتصرف في مواقفه كلها طبقا لها دون أن يكون في ذلك مشقة أو كلفة عليه، وهذا الذي نقوله هو ما ذكره الأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله- عن الملك في سنة 1366هـ (1946م) إِذ قال في مجلة المصور المصرية:
"إِن هذا الرجل مطبوع على الصراحة، ووضوح المزاج، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض التي يحدث منها اختلاف الحالات وتناقض العادات، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة، لا يواجه عارفيه في حالتي رضاه وغضبه بخليقة لم تكن لهم في الحسبان " (1) .
إن طبائع الملك عبد العزيز وسجاياه قد بهرت معاصريه، حتى من رجال الصحافة والإعلام، الذين يكتبون غالبا عن عظمة الملوك، وأعمالهم، وسطوتهم، فنجد أن بعض أعلام الصحافة العربية في عصر
_________
(1) المصدر السابق ص194.(1/183)
الملك عبد العزيز يكتبون عنه، فيذكرون خلقه وطباعه الشخصية، ويركزون عليها قبل أن يذكروا سعة الملك، وعظمة السلطان، وسطوة الحكام، فهذه كلها وأكثر منها يمكن أن يحوزها الملوك جميعا. لكن من العسير- في العصر الحديث- أن نرى ملكا، أو رئيسا يطاول الملك عبد العزيز آل سعود في حميد صفاته، وجميل شمائله، يقول الأستاذ محمد التابعي، أحد كبار الصحفيين المصريين عن الملك سنة 1373 هـ (1935م) في مجلة آخر ساعة المصرية:
" لقد اكتشف البترول في أراضي مملكته المترامية الأطراف، ويسيل الذهب الأسود، ويبقى أسد الجزيرة ومؤسس هذا الملك الغني الواسع عبد العزيز آل سعود على زهده وتقشفه وورعه وتقواه، يقوم مع الفجر يصلي، ويتلو القرآن، ويبكي خشية بين يدي الله، ويستغفر، ويتوب ويقنع في طعامه بالتمر واللبن والثريد، ويجري الأرزاق على أصحاب الحاجة، وعلى البيوت التي أخنى عليها الدهر، ولو كانت بيوت أشد خصومه وأعدائه، وما من هاشمي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالحاجة إلا أسرعت يد عبد العزيز إِليه بالمعروف " (1) .
* ولم تكن أعمال الملك عبد العزيز، وإِنجازاته منذ صدر شبابه، لتخفى على العالم في عصره، وقد كان مليئا بالأحداث الكبرى، وكانت فيه شبه الجزيرة العربية منطقة تظفر بالاهتمام، وتثور فيها الفتن، وتثير لدى القوى العالمية الكبرى المطامع في السيطرة على أهلها؛ للاستفادة
_________
(1) المصدر السابق ص229.(1/184)
من خيراتها وميزاتها؛ ولذلك نجد الملك عبد العزيز قبلة أنظار الساسة، والمفكرين، ورجال الإِعلام، والمهتمين بالمنطقة العربية كلها عامة، وبلاد الحرمين خاصة، وقد لفت هو الأنظار منذ شبابه الباكر باسترداد الرياض عاصمة ملك آبائه وأجداده في مغامرة أشبه بالأساطير، وحين تابع الناس أعماله تأكد لهم أنهم أمام شخصية فريدة من أعلام القادة، والحكام، والساسة في العصر الحديث.
[ثانيا شهادات غير العرب]
ثانيا: شهادات غير العرب: تلكم الصورة التي رسمها العرب، والمسلمون للملك عبد العزيز - رحمه الله- لفتت أنظار غير العرب إلى خصال عربية كانت تخفى على الأوربيين والأمريكيين؛ ولذلك نجد كثيرا منهم ممن التقوا الملك، أو تّابعوا جلائل أعماله، أو أسعدهم الحظ بصحبته ومعرفة حياته الشخصية، قد عرفوا العروبة والإِسلام من خلاله، وذلك مما يحسب للملك- رحمه الله- في ميزان حسناته بإِذن الله. فقد كانت صورة الملك العربي المسلم ظاهرة أشد الظهور في أقوال غير العرب، وغير المسلمين ممن عرفوا الملك، أو عاصروه، وشهاداتهم.
ونختار من تلك الشهادات والأقوال أيضا ما يوزن قبل أن يعد، لقد تحدث العشرات من الساسة والمفكرين، والمهتمين بشبه الجزيرة العربية، ورجال الإِعلام عن الملك الذي بهرتهم شخصيته، وإِنجازاته في العصر الحديث.(1/185)
كان الرحالة البريطاني فيلبي قريبا من الملك وأحداث حياته منذ شبابه الباكر، وقد رأى، وسمع، وألف مما رآه، وسمعه، وفهمه، كتابه "العربية السعودية" يقول عن الملك:
"جندي ناجح، ومصلح أصيل، تقي كل التقى، صريح حازم، ذكي متواضع، ولا أعلم أن في العالم حاكما غيره تتحدث معه رعيته بمثل الحرية التي تتحدث بها رعية عبد العزيز معه، وذلك إِلى جانب ما تكن له من إِكبار وإِخلاص عظيمين (1) .
كان الملك ظاهرة إِسلامية عربية في العصر الحديث، لفتت أنظار المستشرقين خاصة، فقد ظلت شبه الجزيرة العربية مئات السنين لا تكاد تذكر إِلا في مواسم الحج، ولكنها عرفت جغرافيا وسياسيا في عهد الملك عبد العزيز؛ ولذلك كان الاهتمام بالملك عبد العزيز - رحمه الله- من جانب علماء، ومفكرين، ومستشرقين، ورجال إِعلام، أعظم بكثير مما يلقاه، أو يسعى إِليه ملوك عرب ومسلمون، ورؤساء دول إِسلامية عاشوا عهد الملك عبد العزيز، ولكنهم لم يتفردوا مثله بإِقامة دولة، ولم يتميزوا بخصال الإِسلام، وخصائص العروبة في أقوى صورها وأوضحها، كما كان عبد العزيز - رحمه الله-.
_________
(1) المصدر السابق ص105.(1/186)
يقول أرمسترونج:
"كان ابن سعود سخي اليد، كبير القلب، يتمتع بصبر لا حدود له، وكان يعلم طريقة التعامل مع رجال القبائل، وكيف يشبع كبرياءهم، ويتجاهل نفسه، كان يتمتع بالخصائص التي يعجب بها العرب " (1) .
كلمات صادقة في وصف الملك، تؤكد السبب الذي ذكرناه في شدة الاهتمام به، والالتفات إِليه من جانب الغربيين عامة.
ويتفق اثنان، هما: كوافيه ذي هوت ملوك، وبنوا ميشان، في أن الملك اكتسب شهرته ومكانته استنادا إِلى الزعامة الدينية، والزعامة الحربية. وهو قول له نصيب كبير من الصدق في حياة الملك عبد العزيز، ويمثل الصدق كله إِذا وسعت الزعامة الدينية كل خصال الإِسلام التي كان يتمتع بها الملك، ووسعت الزعامة الحربية سجايا العروبة التي منها: الشجاعةّ، والحرص على الكرامة، والشرف.
والمستشرق المجري جرمانوس يقول عن الملك:
"إِنه بطل بما تسعه الكلمة القصيرة من معان، وإِن الملك كان شديد التأثير فيمن يعرفه أو يلقاه " (2) .
ويصف جرمانوس تأثر شخصية فيلبي بالملك، وأن هذا التأثر وصل إلى درجة الإِعجاب، والتقدير الكبيرين من جانب فيلبي، وكان له أثره
_________
(1) المصدر السابق ص74.
(2) المصدر السابق ص82.(1/187)
في مواقفه التي أيد فيها الملك، وانحاز إِليه ضد حكومته البريطانية، ويضيف جرمانوس:
" الملك الذي جرد السيف في سبيل دينه وعقيدته، يجمع بين روح الحرب، وروح السلم، لا يقاتل الناس، ولا يعتدي عليهم، وإنما يحارب الجهل، ويقاتل الجمود، ويكافح التأخر (1) . وفي اللحظات والأوقات التي جالس فيها الملك كان له تأثير شديد على جرمانوس، حتى إِنه يقول:
" استروحت في أحاديثه للعواطف التي تصدر عن أب يحيط ابنه بجليل سجاياه، حتى يتأثر بها، ويحتذيها، وكانت هذه الأحاديث دلالة قوية على أنني أجلس إِلى رجل عربي التفكير، مع ما هو مفطورِ عليه من إِغراق في رعاية الجانب الديني، وتسويده على مشاعره جميعا، وهكذا مستني وأنا أصافحه تلك الرهبة التي تمس العارف بأقدار الأبطال حين تكَون يده ملء يد البطل (2) .
هكذا يتحدث المستشرق عن الملك، وهو حديث عن ملك فريد بين الملوك، يجمع بين أجمل خصال الإِنسان، وأكمل خصال الملوك، ولذلك اكتسى حديث المستشرق نبرة عاطفية، فيها الحب إِلى جانب التقدير والإِكبار.
ووصفة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو في كتابه "رسائل إِلى ابنتي " فقال:
_________
(1) المصدر السابق ص83.
(2) المصدر السابق ص83.(1/188)
"أثبت ابن سعود أنه أذكى من الحسين، فقد استطاع أن يقنع الإِنجليز بالاعتراف باستقلاله، وأن يبقى على الحياد، وبعد أن نجح ابن سعود كجندي ومحارب كرس كل جهوده لبناء بلاده على أسس عصرية حديثه، لقد أراد القفز بها من حياة القبلية إِلى حياة العصر الحديث، ويظهر أن ابن سعود نجح في ذلك إِلى حد كبير، وأثبت أنه رجل سياسي قدير بعيد النظر (1) .
ويتفق ثلاثة من الكتاب الغربيين غير المسلمين، على أن الملك عبد العزيز أقام الحكم في دولته ومملكته التي أنشأها، على أساس القرآن الكريم والسنة النبوية، وجعل أساس الحكم فيها الشريعة الإِسلامية، فيقول كي إِس تويتشل:
"إِن القرآن هو مصدر التشريع والقانون في البلاد العربية السعودية (2) .
ويقول موريس جارنو:
"إِذا كان ابن سعود قد نجح في لم شعث الجزيرة العربية تحت لوائه، فإِن مرد ذلك إلى أرقى عوامل الترامي والتماسك، أي التقيد الشديد بأحكام القرآن (3) .
ويقول جورج أنطونيوس:
" بدل ابن سعود شكل الحياة في غرب الجزيرة تبديلا أساسيا، في نواحيها الخاصة والعامة بما أوجده من نظام للحكم، وما ذهب إِليه من
_________
(1) المصدر السابق ص97- 98.
(2) المصدر السابق ص309.
(3) المصدر السابق ص308.(1/189)
فهم الواجبات المدنية، فقضى على العادات الشائعة منذ قرون، كما أنه جعل الشرع الإِسلامي له المقام الأول في تسيير أمور الدولة".
ويضيف عن هذا التطور:
" عسى أن تثبت الأيام أنه أنفع تطور حدث في الجزيرة منذ الدعوة إِلى الإسلام (1) .
لقد صدق توقع الكاتب الذي لا يدين بالإِسلام، لقد كان تحكيم الملك عبد العزيز آل سعود للشريعة الإِسلامية في شبه الجزيرة العربية، أهم تطور حدث فيها، وأنفعه منذ مئات السنين، ولقد صانها ذلك العمل الجليل من السقوط في التغريب الذي لم تنج منه دولة إِسلامية في المشرق أو في المغرب، ولقد صان تجربة التنمية في المملكة في حياته من الفشل، نتيجة التقليد والخضوع لإِيديولوجيات واردة من الشرق أو الغرب، وكان لهذا العمل أثره في شعب المملكة وأسلوب حياته، لقد عرف الجميع أن الشريعة هي المرجع الوحيد، والأساس للدولة، وللشعب، وللحكومة، وللمواطنين، وعندما يتوِحد المرجع، ويكون التمسك به نابعا من القلب يصبح المجتمع موحدا في أهدافه وطاقاته، وهو ما بقي حتى الآن، وسيظل- بإِذن الله- أعظم ما قدمه الملك عبد العزيز آل سعود لشعبه ولأمته، فضلا عن أن ترسيخ حكم الشريعة في المملكة، وإِقامة الدولة على أساسه، يعد أعظم تجربة سياسية للإِسلام في العصر الحديث الذي نشأت، واستقرت، وسادت فيه النظم السياسية العلمانية.
_________
(1) المصدر السابق ص310.(1/190)
* ونعتقد أن كثرة من كتب عن الملك عبد العزيز - رحمه الله- من العرب، ومن الغربيين، ومن المسلمين وغير المسلمين، يرجع إِلى اتساع جوانب حياته، وتعدد مواهبه، وظهورها في عصره بين ملوك العصر وقادته، فهو ليس من القادة أو الملوك أو الزعماء فحسب، ولكنه ممن أقاموا الدول وأنشأوا الممالك، وغيروا المجتمعات، وهو ممن أجادوا استخدام السيف، ووضعوه في موضعه، إِلى جانب الحكمة التي ميزت تصرفاته، سواء في ميدان المعركة، أو في الحوار مع حلفائه، أو خصومه.
لقد كان لتعدد مواهب الملك، وثراء حياته بالأعمال الكبيرة منذ فجر شبابه، وامتداد فترة حكمه في المملكة أثر كبير في إِقبال عشرات الكتاب والمفكرين والساسة ورجال الإِعلام على الكتابة عنه.
يقول برنارد لويس في بحثه المعنون " الزعماء السياسيون في الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا " (1) .
"إِن خلفية الملك عبد العزيز السياسية، جعلته يفهم أن الدول الكبيرة القوية المنظمة هي وحدها التي سوف تبقى بعد الحرب؛ ولذلك بدأ بتغيير الأسس والتنظيمات في المملكة، واكتسب صورة من يبنون الإِمبراطوريات بسيوفهم ".
ويتحدث كنت وليمز عن الملك عبد العزيز الرجل والمصلح، فيقول:
_________
(1) ص18، النص الإنجليزي، الطبعة الأولى.(1/191)
"إِنه كان رجل دين، عميق الورع "، ويصف كرمه بأنه غير محدود، كما يصف إِنشاءه للهجر، لتحويل المجتمع إِلى مجتمع مستقر، بأنه من أعظم إِصلاحاته، كما أنه قاد إِصلاح التعليم، وعين وزيرا له، واستقدم المدرسين من الدول المجاورة التي تتكلم العربية، كمصر وسوريا، كما أنه اهتم أشد الاهتمام بصحة الحجاج إِلى بيت الله.
وتحدث الباحث عن إدارة الملك للعدل على أساس الشريعة، فقال: " إِن الأساس الذي قاد إِلى ذلك كله، هو تحقيقه للأمن المطلق، والنظام في المملكة " (1) .
ويتحدث ليزلي ماك لوغلن في بحثه " ابن سعود مؤسس مملكة" عن كرم الملك، وأن شلهوبا، وهو أحد اتباعه، وكان أمينا على المخازن التي يعطي الملك منها هداياه، ويكرم ضيوفه، قال عن الملك- وقد ظن شلهوب أن الملك وضع نفسه في مأزق بسبب كرمه-:
"كل ملك في العالم يمده شعبه بالمال، ولكن أهالي نجد يمدهم الملك " (2) .
ويصف الملك بأنه كان متقدما عن مواطنيه، بحيث كان يدفعهم إلى ما يجب أن يكون في دائرة اهتماماتهم، وكان عدد من يعاونونه في تسيير أمور الحكومة قليلا من السوريين، وبعض المصريين، ومن نجد والحجاز.
_________
(1) ينظر في ذلك كله كتاب (ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز) لكنث وليمز، ترجمة كامل صموئيل مسيحة.
(2) ابن سعود مؤسس مملكة، ترجمة د. محمد شيا، ص158 الطبعة الأولى 1995م.(1/192)
* ومن الكتاب الأجانب من غير العرب وغير المسلمين، من نبه إِلى حقيقة مازالت حتى اليوم أعظم ما يميز المملكة العربية السعودية في البلاد الإِسلامية، تلك هي التزام المملكة بتطبيق الشريعة، واعتبارها دستورا لها، وقانونا ينظم كل شؤونها، وفي شهادة موجزة يقول كي. إِس. تويتشل:
"إِن القرآن هو مصدر التشريع والقانون في البلاد العربية السعودية " (1) . وتقول الكاتبة الفرنسية برتاجورج غوليس:
" وابن سعود لا يخرج في أعماله عن قواعد القرآن، وسنة الرسول " (2) .
* في كل الأقوال والآراء التي تقدمت عن غير العرب وغير المسلمين، نجد الإِنصاف لملك عربي مسلم، وقبل الإِنصاف نجد الحقيقة التي يدركها أشد الناس حبا للملك، ولا يستطيعِ إِنكارها الخصوم، فالملك عند الجميع مسلم تقي، يخشى الله أولا وأخيرا، ظاهرا وباطنا، وهو مسلم يتمسك بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ملك حازم يضع السيف في موضعه بعد أن يختبر اللين والعفو أولا، وهو حاكم موفق في ميدان المعركة، وفي مؤتمرات السلم والصلح، وهو يسير على نهج واضح لديه أشد الوضوح: الكتاب الكريم، والسنة النبوية، يقيس على أحكامهما تصرفاته ومواقفه، ويلزم غيره اتباع حكمهما، وعدم الخروج عليهما.
_________
(1) الملك عبد العزيز رؤية عالمية، ص309.
(2) المصدر السابق ص310.(1/193)
هذه الشهادات تذكرنا بشهادات مماثلة أدلى بها كثير من غير المسلمين عن شخصيات إِسلامية ظهرت عبر القرون، وفرضت نفسها على التاريخ الإِسلامي، وشغلت أروع صفحاته، مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين الأيوبي، رحمهما الله، إِن هذه الصفحات تمتد لترتبط بها صفحة الملك عبد العزيز في العصر الحديث.
إِن التاريخ الإِسلامي- في المشرق والمغرب- حفل بشخصيات إسلامية من ملوك المسلمين، وأمرائهم، وخلفائهم وقوادهم، وكان ذلك واضحا وظاهرا في عصور النشأة والازدهار في دولة الإِسلام.
ولكن في القرن الرابع عشر الهجري، ومع تراجع المد الحضاري الإِسلامي، ووقوع معظم أجزاء العالم الإِسلامي في قبضة الاستعمار الغربي الأوربي، لم يظهر في الساحة العربية، والإِسلامية على امتدادها من الملوك، والأمراء، والسلاطين، من يقارن بالسابقين من الخلفاء والملوك في عصور الازدهار والانتصار، عدا الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله.
كانت الزعامات العربية، أو الإِسلامية تظهر؛ لتقاوم الاحتلال أو التسلط الأجنبي، وكانت مطاردة وملاحقة من قوى الاستعمار، وأدت واجبها حسبما اقتضته الظروف والأحوال.
إِن مهمة الملك عبد العزيز - رحمه الله- كانت أوسع وأرحب، عمل من أجل شعبه، وأمته قبل أن يعمل ضد أحد، كانت همته أعلى، وأهدافه(1/194)
أعظم. وكانت قضاياه التي عمل من أجلها، وجاهد في سبيلها، هي قضايا الدين والدنيا، وقضايا الإِسلام والعروبة، وقضايا التقدم والتنمية، وهي قضايا الإِنسان المسلم والعربي في كل زمان ومكان، وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد العربية والإِسلامية تكافح، وتناضل من أجل الدفاع عن كيانها، والحفاظ على الاستقلال في أرضها وإِرادتها. كان الملك عبد العزيز يعمل من أجل أهداف أكثر شمولا وأعظم بقاء، وأشرف غاية، تحت أعلى راية عرفها العالم العربي والإِسلامي، راية التوحيد في الدين، والوحدة بين العرب والمسلمين.(1/195)
[وفاة الملك ورثاؤه]
وفاة الملك ورثاؤه * وإِذا كانت كل نفس ذائقة الموت، فإِن وفاة الملك عبد العزيز - رحمه الله- أثارت في نفوس العرب والمسلمين في البلاد العربية والإسلامية حزنا عميقا؛ لأنه كان يمثل بالنسبة إِليهم الملك العربي المسلم في العصر الحديث، وكان يمثل في شمائله طرازا من حكام العرب والمسلمين، ممن نعدهم في الإِسلام من التابعين بإِحسان، ومازال العرب والمسلمون يحنون إِلى ذلك الطراز من الملوك إِلى يومنا هذا.
لقد بعث الملك عبد العزيز هذه الصورة؛ ولذلك أحبه العرب والمسلمون بوصفه مثلا للملك العربي المسلم، وهو مثال ندر منذ قرون.
* كان إِلى جانب الملك عبد العزيز - رحمه الله- وهو في حال النزع الأخير بعد أن اشتد عليه المرض ولداه سعود وفيصل - رحمهما الله- وفي سكرات الموت كان يرمق ابنيه، ويحضهما على التعاون معا، وآخر ما سمع منه:(1/197)
فيصل أخاك سعودَا، سعود أخاك فيصلا، وكرر: لا حول ولا قوة إِلا بالله، الحمد لله، أشهد أن لا إِله إِلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم أسلم الروح ضحى الإثنين الثاني من ربيع الأول من سنة 1373 هـ الموافق9 / 11 / 1953 م.
بكته المملكة العربية السعودية التي كافح طوال حياته في سبيل دينها، ووحدتها، وعزتها، وكرامتها، وفي سبيل أمن شعبها، ورغد عيشه.
بكته المملكة رجالا ونساءً، وشيبا وشبابا، عظم مصابهم فيه، فاتجهوا إِلى ربهم بالدعاء له بحسن المثوبة، وعظيم الجزاء، رثوه بالدموع، وبالشعر وبالنثر، وبكل ما يرثى به زعيم مؤمن مخلص.
وعزاؤهم إِيمانهم بربهم، ونصره لمن نصر دينه، وأقام شرعه.
وعزاؤهم ما خلفه الملك عبد العزيز من دولة ضخمة آمنة مستقرة، قائمة على أسس متينة من الدين والعدل.
وعزاؤهم أبناؤه، وإِخوانه، وأعوانه الذين تربوا على يديه، وجاهدوا معه، وعاهدوا الله، ثم عاهدوه على الصدق والإِخلاص.
تسلم أبناؤه الراية زعيما بعد زعيم، وبطلا بعد بطل، حتى استقرت في يد ابنه البار خادم الحرمين الشريفين الملك المفدى فهد بن عبد العزيز آل سعود، أعزه الله، وحفظه، ونصر به دينه، وأعلى كلمته، هو وعضده وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ونائبه(1/198)
الثاني صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، الذين على درب الملك عبد العزيز سائرون، وفي سبيل تحقيق أهدافه العظمى مجاهدون، هم وإِخوانهم وأبناؤهم، حفظهم الله، ومكن لهم، وحفظ المملكة قيادة وشعبا وأرضا من كل سوء؛ لتظل راية الإِسلام خفاقة، ولتكون درعا للمسلمين، وعونا لهم في كل مكان.
ولا عجب أن يبكي شعب المملكة رجالا ونساءً كبارا وصغارا الملك عبد العزيز، ويرثوه بالدموع والدعاء والشعر والنثر، فهو المكافح في سبيل أمنهم، ورقيهم، وتوحيد كلمتهم على كتاب الله وسنة رسوله.
ولكن المثير أن يبكيه الناس في مشارق الأرض، ومغاربها.
لقد بكى الناس في كل مكان القيم التي كان يمثلها الملك عبد العزيز، ويعيش من أجلها ملك عربي مسلم، يقول الأستاذ / محمد حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق حين بلغه نبأ وفاة الملك:
"مات الملك التقي، مات الملك الصالح، مات الإمام العادل، مات عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الذي سجل له التاريخ بطولة لا تعدلها بطولة، وشجاعة فذة في الحق، وإِقامة العدل، وإِحياء سنن الإِسلام، وإِماتة البدع التي أوهنت المسلمين منذ أزمان " (1) .
* ويتحدث عنه إِلى الأمة العربية والإِسلامية الأستاذ أحمد حسن الباقوري، وكان وزيرا للأوقاف في مصر، فيقول: "استأثرت رحمة الله بالإِمام العظيم عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، فكان بذلك جسدا فانيا، طالما أرهقه العمل الجاد،
_________
(1) المصدر السابق ص 550.(1/199)
وأنهكه الكفاح المظفر، أقام دولة نفت عن الأرض المقدسة نهب الناهب، وفساد الفاسد، وإِخافة المخيف، بسطت للحجيج أخيمة الأمن، فأحسن الله إِليه بقدر ما أحسن إِلى الناس، وأفسح له جواره مكانا مع الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والصالحين " (1) .
ويذكر مآثره أحد رجال الصحافة والأدب البارزين الأستاذ كامل الشناوي، فيقول:
"جزعت لوفاة الملك عبد العزيز آل سعود، فقد كان رجلا قبل أن يكون ملكا، واستطاع أن يظل رجلا بعد أن أصبح ملكا، عاش عظيما، لقد بنى عبد العزيز ملكه بيديه، بناه بكفاحه، وإِيمانه، وصدق شعوره بالواجب، وقدرته على الاضطلاع بالمسؤولية، كان متمسكا بالدين، وكان يعيش في الدنيا، وعرف كيف يلائم بين دينه ودنياه، فأراد لذاته الزهد والبساطة، ولبلاده القوة والغنى " (2) .
ويقول:
" إِني أبكي عبد العزيز، أبكي فيه زعيم أمة، وقائد شعب، وصاحب رسالة، أبكي فيه الملك الرجل " (3) .
ومن مصر والعراق، ولبنان، ومن البلاد العربية والإِسلامية، وفي أقوال علمائها ومفكريها وصحفها، تأتي كلمات الرثاء تعبر عن الحزن في وداع الملك العربي المسلم عبد العزيز آل سعود.
تبكي القيم والرسالة التي حملها- دون غيره- إِلى البلاد العربية والإسلامية في العصر الحديث.
_________
(1) المصدر السابق ص552.
(2) المصدر السابق ص555- 556.
(3) المصدر السابق ص555-556.(1/200)
[الخاتمة]
الخاتمة * عند الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني أو الإِسلامي، تكون الصعوبة في تقديم صورة كاملة عن حياة أولئك الأبطال، راجعة إِلى ثراء الشخصية، في تعدد مواهبها، وقدر عطائها، وبقاء أثرها، وفي الكتابة عن الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود رحمه الله، تجتمع العناصر السابقة كلها، لتجعل من العسير على كاتب واحد، أو كتاب أن يلموا بجميع جوانب العظمة في حياة الملك الإِمام، وجهاده وإِنجازاته، وأثره في المملكة وفي العالم العربي والإِسلامي.
ويكفي في كتابنا هذا أن نعطي القارئ صوِرة واضحة الملامح والقسمات عن شخصية الملك عبد العزيز: أميرا من أمراء آل سعود، وإِماما للمسلمين في المملكة العربية السعودية، ومجاهدا، ومؤسسا لدولة قامت على توحيد الله وحده، وعلى وحدة شبه الجزيرة العربية، وذلك بعد فترة من التشتت والتفرق والتخلف، وملكا أقام أركان مملكته، ووضع الأسس، ومهد الطريق، لنهضتها وتقدمها.
يحتاج كل جانب من جوانب هذه الحياة الثرية والغنية بالمواهب والمواقف والعطاء الإِسلامي والعربي إِلى العديد من الكتب.
ولقد حاولنا في هذا الكتاب أن نبين سيرة واضحة لشخصية كبيرة(1/201)
في التاريخ الإسلامي على امتداد القرون، وأن نلقي الضوء على عطاء الملك لشعبه، وأمته العربية والإِسلامية، وهو عطاء يسبق في موازين الحكم، والسياسة، عطاء أقرانه من الملوك، والقادة المسلمين في عصره، بل في العصر الحديث كله.
* في صفحات الكتاب التي تتناول حياة الملك وشخصيته العظيمة، ومراحل حياته كلها، تتجلى المواهب التي أنعم الله بها عليه، وتظهر المواقف التي تنبئ عن شخصية متميزة ومتفردة، بين الشباب، والرجال، والأمراء، والقادة.
لقد ترك الملك عاصمة ملك آبائه، وأجداده- الرياض- شابا صغيرا، وعانى الملك في غربته ما يعانيه أصحاب الهمم العالية من الملوك والقادة، حين يتركون ديارهم ومكانتهم قهرا. ولكن لم يمض وقت طويل حتى كان الأمير عبد العزيز يقتحم مقر ملكه، وملك أجداده، كان على رأس أنصاره، وأتباعه في القتال، حتى إِذا أعاد حكم آل سعود إِلى الرياض عام 1319 هـ (1902 م) سلم الإِمارة لوالده الإمام عبد الرحمن، وهي عفة عند المغنم لم تعرف في كثير من الملوك والفاتحين.
ولكن الأب- الإمام عبد الرحمن - كان يدرك أن آمال آل سعود، وجهود آبائه وأجداده في سبيل توحيد شبه الجزيرة، سوف تتحقق - بإذن الله- وتكتمل على يد الأمير عبد العزيز، فرد الإِمارة إِليه، وبايعه الناس إماما وأميرا على الرياض.
* في حياة الملك عبد العزيز منذ دخل الرياض 1319 هـ (1902م) إِلى أن وحد معظم شبه الجزيرة، علامات بارزة وأيام مشهودة، أشرنا إِلى الكثير منها، وتشهد الوقائع، والأحداث على المواهب الجليلة، والمواقف النبيلة للملك مع الأصدقاء والخصوم، وتتجلى في معاركه التي خاضها(1/202)
شجاعة المقاتل، وحكمة القائد، وتدبير الإمام، وتظهر قدرته على احتمال الشدائد، ومواجهة الخطوب، فلم يكن يسيرا أن يحقق ما عجز عن تحقيقه، أو حتى عن التفكير فيه، أمراء وحكام وقواد في مناطق. وقبائل متفرقة في شبه الجزيرة. ولم يتحقق له النصر بالسيف وحده، وإِن كان السيف في كثير من الأحيان أنفع أدواته وآخر وسائله؛ لأن توحيد المناطق، والقبائل بعد سنوات من التفرق، والتشرذم، وحياة البداوة، يحتاج إِلى شجاعة المقاتل، وحكمة القائد، وحنكَة السياسي، وعدل الإِمام.
في جهاد الملك المؤسس منذ دخل الرياض عام 1319 هـ (1902م) إِلى أن توحدت أجزاء المملكة تحت ملكه عام 1349هـ (1930م) ، يكفي أن نتذكر علامات بارزة في تلك المرحلة من جهاد الملك، ومعاركه التي كانت بين كر وفر، ومفاوضته أمراء وحكاما، كان بعضهم يظهر خلاف ما يبطن نحوه، ومناوأته للقوى الخارجية التي كانت تسيطر على نواح من شبه الجزيرة، أو تطمع في مد نفوذها وسلطانها.
ولكن الله تعالى أيد عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، بالنصر في ساحات القتال، وأنار بصيرته في التعامل مع القوى الخارجية والمكائد الداخلية.
لقد عانى الملك في سبيل توحيد المملكة من خصوم الإِسلام والمسلمين، ومن أمراء السوء، ومن الجهلة بالدين.
ومما يزيد من قدر الملك المؤِسس رحمه الله، أنه كان يحقق النصر، مع قلة في العدد والعدة أحيانا، وكان الملك معلما، ومرشدا، وناصحا لحاشيته وأتباعه ومستشاريه، مع ما تميز به من حسن اختيار الرجال، وتوجيه الأنصار والأتباع.(1/203)
* في صفحات هذا الكتاب وسطوره، يظهر جانب من أهم جوانب الحياة لدى الإِنسان، ولو كان ملكا، وهو جانب قد لا يوليه المؤرخون حقه حين يؤرخون لعظماء الرجال، ولكننا في التاريخ الإِسلامي، وفي مقاييس العظمة والبطولة، يجب أن نضعه في موضعه، ونقدره حق قدره، وهو أن عظمة الإِنسان لا تكتمل إِلا بكمال أخلاقه على هدي الإِسلام.
وقد جاء وصف العظمة في الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنا بعظمة الأخلاق: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] (القلم 4) .
فالعظيم في الناس من تعظم أخلاقه وسجاياه، ولا نعيد أو نزيد عما ذكرناه في صفحات الكتاب عن خلق الملك عبد العزيز رحمه الله وسجاياه، وأولها وأهمها خشية الله، والخوف منه، والتوكل عليه، والإِنابة إِليه في الأمور كلها، وكان يزين خلقه الشجاعة، والوفاء بالعهد، والجود، وحب العدل والإِنصاف، والرأفة بالضعفاء من الناس، والتواضع لله عز وجل، والعفو عند المقدرة، والصبر على الشدائد، واحتمال المكاره.
كان، رحمه الله، يتحلى بأخلاق الإِسلام، ويستلهم- مع أخلاق الإِسلام - في ملكه وإِمامته، تاريخ خلفاء المسلمين الراشدين والصالحين.
* خلت صفحات الكتاب من المقارنة بين الملك عبد العزيز، وملوك البلاد الإِسلامية والعربية، وأمرائها في عصره.
ففي عصر الملك عبد العزيز 1319 هـ - 1373هـ، الموافق للنصف الأول من القرن الميلادي العشرين (1902- 1953م) كانت بلاد المشرق والمغرب العربي تحت سيطرة الأجنبي ونفوذه، وبخاصة الاحتلال الغربي، وكان الهدف الأول للشعوب العربية في المشرق والمغرب، أن تتخلص من التبعية والاحتلال، وأن تشق طريقها للتقدم، والازدهار.(1/204)
* ولسنا في مجال المقارنة حين نذكر كلمة حق، أو مقالة صدق، عن الملك عبد العزيز رحمه الله، فلم يكن في بلاد المشرق، أو المغرب العربي في ذلك الوقت من أقام ملكه بجهاده وكفاحه، سوى الملكِ عبد العزيز، الذي لم يخضع في مراحل حياته لقوة أجنبية، فكان ندا لكل قوة في شبه الجزيرة في ساحة القتال، أو في ميدان السياسة.
ولقد كان فكره يتجه إِلى الوحدة العربية والإِسلامية، في عصر كانت تقام فيه الكيانات القطرية في بلاد المشرق والمغرب العربي تحت سيطرة الأجنبي.
وبينما كانت معظم البلاد العربية تحاول اكتشاف طريقها للتقدم على المثال الأوربي والغربي، اختار الملك عبد العزيز طريق الإِسلام وحده، وأقام حكم الشريعة في بلاده.
ومما يستلفت النظر في موقف القوى الأجنبية من الملك، أنه كان محل التقدير والاحترام البالغ منها، يظهر ذلك في أقوال رؤساء تلك الدول، وقادتها، كما يظهر في شهادات أصحاب الرأي، ورجال الإِعلام.
* لقد كان ما حققه الملك عبد العزيز في شبه الجزيرة، ولأمته العربية والإِسلامية، خلال عشرات السنين، عميق الأثر في عصره، عرفه له الأنصار والخصوم، ويكفي أنه عبر بشعب المملكة، من حياة البداوة إِلى حياة التحضر والاستقرار في سنوات معدودة، وتلك نقلة كانت تحتاج - لولا توفيق الله، ثم همة الملك وجهده وثقته في شعبه- إِلى سنوات طويلة.
وكان جهاده طوال حياته في سبيل تحقيق أهم ما يشغل الأمة العربية والإِسلامية، وهي قضية التوحيد، جوهر الدين وعقيدة المسلمين.
كان خطابه الديني يعبر عن تاريخ الأسرة السعودية التي رعت منذ نشأتها(1/205)
في عهد الإِمام محمد بن سعود رحمه الله، 1139- 1179هـ (1726- 1765 م) دعوة الإِصلاح الديني التي قادها المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فظلت دعوة الإِصلاح الديني في حماية أئمة آل سعود، حتى توحدت المملكة في عهد الملك عبد العزيز على هدي القرآن والسنة، وتحققت الوحدة التي تتطلع إِليها الأمة الإِسلامية.
تابع الملك عبد العزيز جهاد آبائه وأجداده في سبيل توحيد المملكة وإِقامتها على شرع الله، حتى تم ذلك على يديه. وكان خطابه السياسي طوال حياته يعبر عن إيمانه بوحدة الأمة العربية والإِسلامية، وقد عمل من أجل جمع الشمل، والاهتمام بقضايا المسلمين، والدفاع عن المستضعفين منهم في أنحاء الأرض.
وفي صفحات الكتاب ما يلقي الضوء على جهاده الديني في سبيل عقيدة التوحيد، وجهاده من أجل توحيد الأمة الإِسلامية، وجمع شملها.
* ولم ينقطع عمل الملك عبد العزيز وجهده بموته رحمه الله، فقد بقي أثر هذا العمل ونتائج هذا الجهد في الأجيال التي تلت عصره.
على مستوىالقيادة تولى الملك بعده أبناء له، تابعوا جهاده، وترسموا خطاه، بعد أن تلقوا عنه، وتعلموا منه.
وعلى مستوىالوطن كان الملك عبد العزيز قد وضع الأسس، وحدد المنهاج، واختار الطريق.
وعندما انتقل الملك إلى الرفيق الأعلى عام 1373 هـ (1953 م) كان الأمن قد استتب في المملكة، الأمن الشامل لمن يقيم على أرضها، ومن يفد إِليها من الحجاج والعمار، وكان ذلك أملا للمسلمين في أنحاء الأرض، وكان المجتمع السعودي قد وضعِ قدميه على طريق التحضر، والإِحساس بالانتماء الوطني والإِسلامي، بديلا عن البداوة والانتماء القبلي، وكان نظام الدولة والمجتمع يقوم على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(1/206)
لقد وضع الملك عبد العزيز الأسس التي قامت عليها المملكة، مما يجعل عبارة الملك المؤسس، حين نتحدث عن الملك، وصفا لواقع أكثر منها صفة لشخص.
بدأ الملك مسيرة التقدم في تحديث المملكة، بدءا من خدمة الحرمين الشريفين، ومرورا بنشر التعليم، وتيسير وسائل النقل والاتصال، وإِنشاء نواة الجيش السعودي، وتأسيس قوى الأمن، وتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة والصحة والطرق والنقل.
ولا بد لهذا الجيل من أبناء المملكة حين يستشعرون نعمة الأمن الشامل واستقرار حياتهم، والاطمئنان على مستقبل أبنائهم في ظل رعاية الدولة للمواطنين، لا بد لهذا الجيل أن يعرف أن علو البناء يرجع إِلى قوة أساسه، وأن المكانة التي بلغتها المملكة على المستوىالعربي والإِسلامي والدولي، لم تبدأ في الظهور إِلا حين توحدت المملكة في عهد الملك عبد العزيز، وأن ما يجري من إِصلاح وتنمية في كل مناطق هذه المملكة، وفي جميع المجالات، إِنما هو امتداد للنهج الذي بدأه عبد العزيز، رحمه الله، وسار عليه من بعده أبناؤه العظام، فكانوا بفضل الله، ثم بولاء المواطنين وحبهم وعملهم، أبر الأبناء، وخير خلف لسلفهم العظيم، الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله، وأكرم مثواه.
* لا تكفي صفحات هذا الكتاب للوفاء بحق الملك عبد العزيز، وإِنها لتقصر عن الرؤية الكاملة لصفات هذه الشخصية التاريخية الفريدة، في حياتها ومواقفها وإِنجازاتها وأثرها.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى. آله وصحبه، وسلم.(1/207)
[قائمة بأهم المصادر والمراجع]
قائمة بأهم المصادر والمراجع * الأخبار النجدية، لمحمد بن عمر الفاخري، تحقيق معالي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل، طباعة جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية.
* أطلس تاريخ الإِسلام، للدكتور حسين مؤنس، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ.
* الإمام العادل، لعبد الحميد الخطيب، طبع شركة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر، بدون تاريخ.
* ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز، لكنث وليمز، ترجمة كامل صموئيل مسيحة، الطبعة الأولى.
* ابن سعود مؤسس مملكة، ترجمة، محمد شيا 158، الطبعة الأولى 1995 م.
* ابن سعود وقضية فلسطين، لأحمد عبد الغفور عطار، من منشورات المكتبة العصرية بلبنان، بدون تاريخ.
* تاريخ ملوك آل سعود، للأمير سعود بن هذلول، الطبعة الأولى 1380 هـ.
* تاريخ المملكة العربية السعودية، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين، الطبعة الثامنة 1418.
* تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز للعقيد الدكتور إِبراهيم العتيبي، الطبعة الأولى 1414 هـ.(1/208)
* توحيد المملكة العربية السعودية، لمحمد المانع، ترجمة الدكتور عبد الله العثيمين، الطبعة الأولى 1402 هـ.
* توحيد المملكة العربية السعودية، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي، للدكتور محمد بن عبد الله السلمان، الطبعة الأولى عام 1416 هـ.
* جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإِمام أبي جعفر الطبري، الطبعة الثالثة.
* جريدة أم القرى، العدد 406 في 22 / 5 / 1351 هـ.
* الزعماء السياسيون في الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا، لبرنارد لويس، النص الإِنجليزي، الطبعة الأولى.
* السيرة النبوية، لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا، وزميليه، الطبعة الثانية 1375 هـ.
* السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، للدكتور مهدي رزق الله أحمد، الطبعة الأولى.
* صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الخامسة 1399 هـ.
* عاهل الجزيرة العربية، لعبد الرحمن نصر، بدون تاريخ.
* عثمان بن بشر، منهجه ومصادره، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الطبعة الثامنة عام 1395 هـ.
* عنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر، نشر مكتبة الرياض.
* غياث الأمم في التياث الظلم، لأبي المعالي الجويني، تحقيق الدكتور مصطفى حلمي، والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد، ط دار العلوم سنة 1979 م.
* مجلة مركز البحوث، في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية، العدد الثاني.(1/209)
* معارك الملك عبد العزيز المشهورة، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين، الطبعة الأولى 1415 هـ.
* اْلملك الراشد، لعبد المنعم الغلامي، طبع دار اللواء عام 1980 م.
* الملك عبد العزيز، رؤية عالمية، للدكتور ساعد العرابي الحارثي، دار القمم للإِعلام، الطبعة الأولى 1415هـ.
* الملك عبد العزيز وفتح الرياض، لعبد الواحد محمد راغب، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز، بدون تاريخ.
* موسوعة التاريخ الإِسلامي، للدكتور أحمد شلبي، الطبعة الخامسة.
* الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي، طبع دار القلم ببيروت عام 1391 هـ.
* يوم وملك، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، الطبعة الأولى 1418 هـ.(1/210)