- - - - - - - - - -
سيرة الإمام العلامة
محمد بن إبراهيم آل الشيخ
حياته ودعوته
-رحمه الله تعالى-
1311هـ- 1389هـ
لفضيلة الشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[شرطان مفرغان]
- - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يهدون من ضل إلى الهدى، ويبصرونهم من العمى، ويحيون بكتاب الله الموتى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم عل الناس وما أقبح أثر الناس عليهم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد المجتبى الأمين، وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
وإنه لمما يُفرح عظيم الفرح أن يكون الحديث متواصلا عن العلماء تبصيرًا بسيرهم، وتعريفًا بحياتهم، وتذكيرا بما كان لهم من فضائل، بما أنتج الأثر العظيم الذي يعيشه أهل العلم متواصلا بجهد وجهاد من كان قبلهم، وإن هذا الأمر -أعني نشر تراجم العلماء والتذكير بفضائلهم والتعريف بسير حياتهم وجهادهم وما بذلوه- لمما يكون له الأثر الأكبر في الأمة لأن الأمة إن لم يتصل حاضرُها بماضيها وإن لم يقتدِ شبابها بكهولها العلماء منهم وإن لم يتصل أولئك بخبر من تقدم فبمن يتصلون وعمن يأخذون وبمن يقتدون؟(1/1)
لاشك أن اقتفاء سير من كان قبلنا من أهل العلم الذين شُهد لهم بالتحقيق وشهد لهم بالإمامة في السنة وعرفوا بنقل العلم صافيا عن السلف الأول، لاشك أن معرفة أخبارهم ومعرفة سيرهم ومعرفة أخبارهم وما بذلوه، لاشك أن ذلك سيعقبه الأثر في نفوس الناشئة؛ لأننا نجد أن كثيرا من الناشئة اليوم لا يعلمون أخبار من مضى، لا يعلمون أخبار علمائهم، ويظنون أن الإسلام الصحيح وأن التوحيد الذي ينعمون به وأن هذا الخير الذي ينعمون فيه وبه أنه وصلهم بدون جهاد أئمة مضوا وبدون علم ونشر للعلم والسنة من أناس قد تقدموهم، فإن لم يعرفوا أولئك فبماذا يكون إقتداؤهم؟ لاشك أننا في هذه البلاد، قد سبقنا بأئمة أئمة دعوة وإصلاح، نشروا العلم ودعوا إلى الحق والتوحيد.
فلهذا جاءت هذه السلسلة التي أرجو من الله جل وعلا وأسأله أن يجعلها مباركة في جميعها، وأن يكون الشباب يعرفون ما وراء تلك السلسلة بأن يكتفوا بعلمائهم، يكتفوا بمن كان في هذه البلاد من علماء السنة لأنهم حققوا نصرا للإسلام فيما مضى، وإذا أخذت الركبة بالركبة توصلنا إلى الإسلام فيما بقي.
أسأل الله جل وعلا أن نكون منتفعين بما سنسمع وبما يقال، وأن نكون على يقظة وبصيرة من ذلك.
إن هذا الأمر -أعني تراجم أهل العلم الذين ستعرض تراجمهم في هذه السلسلة- بدئت تلك السلسلة بترجمة الإمام العلامة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أجمعين.
هذا الإمام العلم أخباره لا تفي بها هذه العجالة، لا يفي بها محاضرة، ولا يفي بها أكثر من محاضرة؛ ولكن يفي بها أن يتواصل الناس بالحديث عن ذلك العلم، وهذا أمر له مبرراته، وذلك لأن هذا الإمام أعني العلامة شيخ المشايخ وعلم المحققين في هذا الزمان المتأخر الشيخ محمد بن إبراهيم كان أمة في قلب رجل واحد.(1/2)
إذا نظرت إلى القضاء بما فيه بمدارسه المختلفة وبمشكلاته كان هو الذي يرعاه بمشاكله ويحل عويص مسائله ويرشد القضاة الصغار منهم والكبار.
إذا نظرت إلى الفتوى وتفصيلاتها في هذه البلاد وجدت مرجعها إليه.
إذا نظرت إلى العلم الذي نشر وينشر اليوم من قبل تلامذة الشيخ وجدت أن الذي أمسك بزمامه قَرابة نصف قرن من الزمان هو الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
إذا نظرت إلى إصلاح الأمة ومجاهدة أهل المنكرات ونشر الفضائل ونشر الخير في الناس والدعوة وجدت أن الذي كان يرعاها نصف قرن من الزمان هو الإمام الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.
وهكذا في جوانب كثيرة.
إذن فليس من الإنصاف في حق الشيخ رحمه الله أن تفرد له محاضرة، أفنُعرف الناس بحياته الشخصية التي هي مهمة في التعريف بتراجم العلماء، أم نعرف الناس بمواقفه، أم نعرف الناس بمدرسته في القضاء، أم بمدرسته في الفتوى، أم بمدرسته في الفقه، أم بمدرسته في الدعوة، أم بمدرسته في جهاد المنكرات، أم بمدرسته في كيف يكون التعامل السلفي الصحيح مع ولاة الأمر، أم كيف وبما نعرف الناس، لاشك أن هذا يحتاج إلى محاضرات متصلة الواحدة تلوى الأخرى حتى نأخذ طرفا من حياته رحمه الله تعالى.
لهذا أجعل هذه المحاضرة كنبذة موجزة مختصرة عن حياته تعريفا للشباب الناشئة بحياة ذلك الإمام الجهبذ رحمه الله رحمة واسعة.(1/3)
ولد الشيخ رحمه الله في مدينة الرياض في حي دخنة المعروف سنة 1311هـ، وأخواله من أسرة الهلالي المعروفة أسرة تسكن عِرْقة، نشأ هذا المولود في بيئة ومجتمع عبادة، أبوه وأعمامه أهل علم ودعوة وجهاد وصف ذلك الشيخ عبد الله بن بسام رحمه الله فقال-لأني أحرج كثيرا أن يكون وصفه من قبلي في كل حال؛ لكن شهد بذلك تلامذته والأمر كالشمس ظهورا؛ ولكن أعز هذه الأقوال لمن قالها من أهل العلم الذين شهدوه ولنا في زمننا هذا المقام الذي يجهل- وصفه الشيخ عبد الله بن بسام حفظه الله بقوله: كان مولده في بيت علم وفضل وزعامة دينية، نشأ على عادة أهله وآبائه محبًا للعلم طموحًا إلى الفضل، وينشأ الناشئ يقتبس من أخلاق وأوصاف من حوله، فوالد الشيخ هو الشيخ الورع إبراهيم بن عبد اللطيف قاضي مدينة الرياض، وله رسائل وفتاوى، كان رحمه الله -يعني الشيخ إبراهيم- متميزًا بالعدل الظاهر في قضائه ومقابلة الخصوم، وكان من أهل الصدع بالحق وكان ممن لا يُدارون وله في هذا أحوال وقصص، وكان ناظمًا للشعر مجيدًا له كأبيه عبد اللطيف.
وأما أعمام الشيخ محمد فأكبرهم الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف عالم نجد بعد أبيه، وقائدها وكريمها، بهر الرجال بحنكته وعقله، وأدهشهم بعلمه وفضله، خشي منه أمراء المدن والأقاليم الذي عقبوا آل سعود فيما بين الدولتين السعودية الثانية والثالثة، فأظهروا محبته تارة وأضافوه في بلادهم، وأكرموه ثم خشوا منه لأنه ما حل ببلد ولا قرية إلا نشر دعوة التوحيد والعلم النافع فيكثر المتأثرون بعلمه.
كلام الشيخ عبد الله بن بسام انتهى قبل جمل.
لأنه ما حل ببلدة ولا قرية إلا كان صاحب دعوة نشر دعوة التوحيد ونشر العلم النافع في البلد التي يحُل بها، وهكذا يكون أهل العلم لا يفرحون بالعزلة وإنما يفرحون بأن يوجِّهوا الناس وبأن يختلطوا بهم حتى يؤثروا فيهم؛ لأن العالم الحق همّه أن يوجه الناس إلى دين الله خاصة أصل الدين أعني توحيد الله جل وعلا.(1/4)
رجع بعد ذلك الشيخ عبد الله إلى الرياض، ثم لما قدم الملك عبد العزيز رحمه الله الرياض كان سنده وعضُده بعقل وحكمة، بل إن كثيرًا من جُند الملك عبد العزيز رحمه الله كانوا من المتأثرين بالشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الذين كانوا يحضرون دروسه، رحمه الله رحمة واسعة.
وكذلك بقية أعمام المترجم له كانوا أهل علم وفضل كالمشايخ محمد بن عبد اللطيف وعبد الرحمن وعمر وعبد العزيز، ولهم أخبار وأحوال كالعبير رحيقًا، وصفهم الواصفون بنعوت أشبهوا بها الأوائل سمتًا وهديًا وعبادة وصلاحًا وعلمًا، رحمهم الله تعالى رحمة واسعة.
إذن نشأ الشيخ في هذه الأسرة فلا غرو أن أثّرت فيه، لا غرو أنه واحتذى حذو أسرته، فتوجه من أثر هذه البيئة ومن أثر هذا المجتمع الذي حوله إلى العلم قابسًا من عقل ذوي العقل، قابسًا من تقى ذوي التقى، قابسًا من غيرة ذوي الغيرة، وكلهم ذاك الرجل، فطلب العلم على قاعدة الدين والعمل والعقل والغيرة لله فكان ذلك مَعْلمًا بارزًا لنبوغه وتهيئته للقيادة والريادة التي ظهرت فيما بعد رحمه الله.
لما بلغ الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى السابعة من العمر أي سنة 1318هـ شرع يتعلم القرآن بتجويده نظرًا على المقرئ ذي الصوت العذب المؤثر عبد الرحمن بن مفيريج رحمه الله، فأجاده نظرًا، ثم ابتدأ حفظه في سن الحادية عشرة، وتعلم الكتابة وكان إذ ذاك مُبْصرًا، وكتابته في صغره حسنة على أصولها كما ينبئ عن ذلك ورقة وجدت فيها كتابته رحمه الله تعالى.(1/5)
بعد هذا الأساس الأول -أعني حفظ القرآن- لمن يريد طلب العلم الشرعي بحق لابد أن يبتدئ بحفظ القرآن، فلما حفظ القرآن رحمه الله شرع يقرأ العلم على مشايخه، فكان أولهم والده الشيخ إبراهيم، قرأ في مختصرات رسائل أئمة الدعوة ونُبَذ إمام الدعوة رحمهم الله تعالى، كان يحفظ المتن ثم يقرؤه على والده على عادة المشايخ في تلقيهم للعلم، وهكذا العلم النافع يبدأ بقراءة المتون المختصرة؛ لأن المتون المختصرة عنها تتفرع شجرة العلم فهي شجرة أصلها ثابت أعني أصل العلم هي تلك المتون وعنها يتفرع العلم، ولم يكونوا يبتدئون بقراءة المطولات من الكتب؛ لأن قراءة تلك المطولات لا تعطي العلم الأصيل العلم المنهجي المؤسس، وإنما يكون العلم بقراءة المتون، وهكذا كان الشيخ محمد رحمه الله تعالى، قرأ رسائل أئمة الدعوة وحفظها، وقرأ نبذ إمام الدعوة الإمام المصلح الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وشرح له والده أول الأمر ما يُفهِمه مرامي كلامِهم وأصول مسائلهم، وهكذا ينبغي أن يكون التوحيد هو أول ما يتعلمه طالب العلم، وإنما يفهم ويضبط بضبط متونه قبل شروحه، إذ من حفظ المتون حاز الفنون.
لما بلغ الشيخ رحمه الله قريبًا من السادسة عشرة مرض بالرمد في عينيه، وطال معه إلى قرابة سنة، فنتج عنه أن كُفَّ بصره عوضه الله عن ذلك بالجنة.
بعد هذا شرع في تأكيد حفظ القرآن وتثبيته وتنوعت قراءته على مشايخه، كما سيأتي فيما بعدُ.
وفي 6/12/1329هـ تُوفي والده عن عمرٍ يقارب 49 سنة إذ مولده الشيخ إبراهيم سنة 1280هـ.
كان للشيخ إبراهيم رحمه اله أربعة أبناء كبيرهم عبد الله ( 1305 – 1386هـ) ثم محمد ثم عبد اللطيف ( 1315 – 1386هـ ) ثم عبد الملك ( 1324 – 1404هـ)، وكلهم عُرِف بالعلم والحلم والسداد رحمهم الله تعالى أجمعين.
كان الشيخ بعد وفاة والده وسنه إذ توفي والده 18 سنة تقريبا، كان الشيخ رحمه الله لصغار إخوته حانيًا ومربيًا ومعلمًا.(1/6)
جدّ الشيخ في تلك السن المبكرة على طلب العلم، تنقّل بين علماء بلده ولم يكتفي بواحد منهم؛ بل تتبع العلماء وأخذ علم كل عالم رآه في بلده، أخذ العلوم الشرعية الأصلية والمساندة، فأخذ عن كل شيخ من مشايخه العلوم التي يدرّسها، وبالأخص ما تميز به كل شيخ من العلوم، لهذا برع فيما درس لبراعة مشايخه رحمهم الله وذلك لما توفر فيه من حسن استعداده العلمي والفطري؛ ففي التوحيد كنت للشيخ محمد رحمه الله كانت له يد التحقيق العليا، فكان يجلو مسائله بعد ذلك ويرد على أهل الشبهات ويبين الحق فكان لا يقف معه خصم من خصوم التوحيد وأهله، وفي الفقه رسخت قدمه في الاجتهاد، وفي العربية وعلومها صار رحمه الله معلمها الشارح لها أحسن شرح وهكذا في سائر العلوم، ولا غرو أن كان كذلك إذ إنه تتلمذ لمشايخ برعوا في علومهم، ومن مشايخه هم:
1 – والده الشيخ إبراهيم.
2 –وعمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف.
3 – والشيخ النحوي الفرضي الفقيه حمد بن فارس.
4 – والشيخ المحدث الفقيه سعد بن عتيق.
5 – والشيخ الفرضي عبد الله بن راشد.
6 – والشيخ الفقيه محمد بن محمود.
وهؤلاء كانوا من العلماء البارزين في وقتهم، وكان الطلاب ينهلون منهم؛ ولكن كان الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله هو أبرز التلامذة الذين قرؤوا على أولئك.
قرأ على والده أصول التوحيد -كما ذكرنا-، وقرأ الفرائض، ثم توسع في الفرائض على الشيخ عبد الله بن راشد فقرأ عليه حفظا ألفية الفرائض.وهي موجودة مطبوعة مع شرحها.
قرأ على عمه كتبًا كثيرة حفظًا منها كتب العقائد والتوحيد ككتاب التوحيد وكشف الشبهات وثلاثة الأصول ونحوها، وبقية كتب أئمة الدعوة، وقرأ الواسطية والحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية.(1/7)
وحين يقال: قرأ في عرف المتقدمين يعني حفظ غالبه، وفهم ذلك وجوَّده؛ لأنه عند المتقدمين يقال فلان قرأ يعني حفظ المتن وقرأه على الشيخ، أما القراءة هكذا نظرا كما نراه في هذا الزمن فليست مسماة بالقراءة عند المتقدمين.
قرأ في الفقه مختصراته أولاً على الشيخ حمد بن فارس فحفظ متن زاد المستقنع، ثم قرأ على الشيخ محمد بن محمود رحمهم الله تعالى، ثم على الشيخ سعد بن عتيق رحمهم الله تعالى، وكان هؤلاء الثلاثة ممن برعوا في الفقه وحققوا مسائله، وضبطوا غرائبه.
أما في الحديث: فقد حفظ بلوغ المرام وحفظ نحوًا من نصف (منتقى الأخبار) الذي يشمل خمسة آلاف من الأحاديث في الفقه للمجد أبي البركات ابن تيمية وقرأهما على عمه الشيخ عبد الله، وكرر قراءة بلوغ المرام على المحدث الشيخ سعد بن عتيق وأمرّ عليه في المصطلح ألفية العراقي.
وقد أُعطي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله إجازات في الحديث متنوعة، وروى بأسانيده عددًا من الأحاديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسماعٍ لا بإجازة مطلقا، ولولا خشية الإطالة لسيق ذلك مفصلاً.
وإجازاته في الحديث رويت عنه بالمناولة وأتصل به بإسناد بالمناولة بإجازة عدد من الكتب والأثبات رحمه الله تعالى.
وأما في علوم العربية: فقد حفظ من متونها ما به تثبت القدم ويرسخ الفهم في علم العربية، أعني نحوها وتصريفها، فقرأ الآجرومية، وملحة الإعراب للحريري، وقطر الندى، وألفية ابن مالك المشهورة، قرأ هذه المتون على العلامة النحوي الحليم المتورع الفقيه الشيخ حمد بن فارس رحمه الله تعالى.
وقد دَرَّس الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى هذه المتون النحوية وشهد تلامذته ومن رآه شهد له بأنه بَّرز في ذلك شرحا واستنباطا، حتى أنه حصلت له مناقشات مع بعض الأزهريين في الرياض وكان هو مبرّزا عليهم في النحو والأصول خاصة في المشكل في ما قالوا وكان الصواب من ذلك مع الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله.(1/8)
من ذلك الحكاية المشهورة التي ذكرها لنا عدد من تلامذة الشيخ قالوا: كان الشيخ محمد حامد الفقي وهو العالم الشيخ المعروف في مصر رئيس أنصار السنة المحمدية في مصر، كان مرة في مجلس الشيخ والشيخ عبد العزيز بن شلهوب يقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم بين الإقامة والأذان للعشاء، يقرأ عليه في تفسير ابن كثير أو في تفسير ابن جرير، وصوب الشيخ محمد بن إبراهيم قراءةً للشيخ عبد العزيز بن شلهوب، صوب له قراءة، فردّ الشيخ محمد حامد الفقي على الشيخ تصويبه وقال الصواب كذا مخالفا للشيخ، فقال الشيخ الصواب كذا فبين الشيخ محمد بن إبراهيم للشيخ محمد حامد الفقي وجه الصواب في ذلك، وكانت المسألة في الصرف.
درس الشيخ رحمه الله أنواعا من العلوم على مشايخه، نعم إنه بعد تلك الدراسة ظهر علمه وظهر فضله وظهر أثره ونبوغه؛ لأنه كان يتميز بالعلم والعقل والذكاء والفطنة والحفظ، وقلما تجتمع هذه في عالم.
رأينا في الوصف المختصر فيما ذُكر مشايخ الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله متنوعين فيما منحهم الله به، فهاهو الشيخ عبد الله عمه جمع إلى العلم -حيث كان هو المرجع إلى أهل نجد في العلم- الدهاء والعقل وحسن السياسة والقيادة بما شهد له به أهل عصره، وكذلك الشيخ سعد بن عتيق جمع إلى العلم الصدع بالحق والقوة فيه، وهكذا كان الشيخ عبد الله رحمهم الله تعالى، والشيخ حمد بن فارس جمع إلى العلم الحلم العجيب والورع عن المشتبهات، والتوقف عن المزلات، وكان الشيخ حمد بن فارس هو المسؤول عن بيت المال، وكن بيت المال عنده؛ وكان التمر والعيش يعني ما يوزع من بيت المال كان عنده، وقد بلغني عن طريق صحيحة أنه كان لا يأكل من بيت المال فقد كان يحمل تمره في جيبه يعني الشيخ حمد بن فارس وكان بفطر عليه وكان هو الوالي على بيت المال.(1/9)
نعم إن النظر في خصال المترجم له -أعني الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- ليعجب من هذا التنوع فإذا رأيت في الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، إذا رأيت العقل وجدته صاحب العقل الوافر ومن له قصب السبق في ذلك، إذا رأيت الحلم فقد كان حليما للغاية، إذا رأيت العلم رأيت العلم الذي صار منتهى العلم إليه، إذا رأيت الدهاء، إذا رأيت الصدع بالحق ونظرت في الشيخ محمد بن إبراهيم ذلك وجدت أنه قد اجتمعت في الشيخ محمد بن إبراهيم فضائل والخصال التي تميز بها كل واحد من مشايخه.
إذن فلا عجب ولا غرو أن نقول إن الشيخ محمدا رحمه الله تعالى اجتمعت فيه الفضائل والمزايا التي تبددت في غيره، وليس في هذا مبالغة بل إن هذا قد شهد به من عرف الشيخ وليس حديثنا عنه إلا كالقطرة من اليم.
كان الشيخ رحمه الله تعالى رقيق الطبع، محبا لإخوانه محبة خاصة وإخوانه كانوا مع كونهم إخوانا له في النسب وليس هذا بغريب أن يحب المرء إخوانا له في النسب ولكن كان له معهم محبة خاصة فيها المحبة الدينية والعلمية ومحبة النسب أيضا، كان رقيقا محبا وكان من خاصة أحبة إخوانه له الشيخ عبد اللطيف رحمه الله تعالى، وكان هذا الشيخ -أعني الشيخ عبد اللطيف رحمه الله- متميزا في بذل نفسه للناس يخدم هذا ويكتب لذاك، يومه وليلته للناس، وهذا أمره معروف لدا كبار السن الذين يتذكرون الشيخ العلامة النحوي عبد اللطيف رحمه الله تعالى.
محبةُ الشيخ رحمه الله لأخيه ظهرت في أبيات إخوانية وأرسل بها الشيخ محمد إلى الشيخ عبد اللطيفن وكان الشيخ عبد اللطيف مسافرا في مهمة شرعية، قال الشيخ محمد في أبيات أرسلها لأخيه مكتوبة قال:
فإما أنختم بالفنا ولقيتموا… شقيقي حليف الود مذ هو صغير
فقولوا له يهدي السلام مضاعفًا… إليك محب في هواك أسير
ويهدي تحياتٍ كأن أريجها… لدى النشر يا عبد اللطيف عبير
إلى آخر تلك الأبيات.
والشيخ عبد اللطيف قد تولى مناصب شرعية معروفة.(1/10)
أما زملاء الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله فأخص منهم الشيخ العلامة الزاهد الورع عبد العزيز بن صالح بن مرشد المولود سنة 1313هـ أي ولد بعد مولد الشيخ رحمه الله بسنتين، فكان الشيخ يكبر زميله بسنتين، والشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد موجود الآن حي أمتع الله به وأمده بالصحة والعافية وختم له بخير، كان رفيقًا للشيخ في طفولتهما، وفي شبابهما، وفي طلبهما للعلم، طلبا سويًّا، وتنقلا بين المشايخ سويّا.
وقد حدثني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد حفظه الله أنه استأجر هو والشيخ محمد بن إبراهيم بيتًا صغيرًا -يعني في شبابهما-، وضعا فيه كتبهما، استأجراه للتفرغ فيه للمطالعة فكانا يأويان إليه يحفظان ويدرسان ويتذكران، وكانت الأجرة إذ ذاك قريبا من 7 ريالات عربية، يعني فضة، وهذا يعني أن طالب العلم حين يتفرغ في بيت للحفظ مع زميل له لا يتفرغ فيه لأنس أو لحديث إنما يتفرغ بحزم وجد لعلم، وهكذا كانت حياة الشيخ محمد بن إبراهيم مذ كان صغيرا في جد وحزم مع النفس، وهكذا الكمالات تظهر فيما بعد لمن كان حازما مع نفسه في النشء، وقد قال من قال من أهل الفضل: من كانت بداياته محرقة كانت نهاياته مشرقة.
الشيخ عبد العزيز بن صالح رحمه الله إذا جلست معه ذكرت السلف، ورأيت الزهد والتقوى، والعلم والورع، والحكمة والأخبار، وقد حدثني حفظه الله بأخبار كثيرة عن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله تعالى، حدثني عن الشيخ محمد بن إبراهيم بأخبار كثيرة، أودعها إن شاء الله في ترجمة مستقلة له إذ هذا المقام مقام ضيق.(1/11)
لما توفي الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الشيخ الأكبر الذي طالت ملازمة الشيخ محمد بن إبراهيم له، لما توفي أوصى قبل وفاته، أوصى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمه الله قبل وفاته الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله عند وفاته بالشيخ محمد بن إبراهيم، وكان الشيخ محمد بن إبراهيم إذ ذاك قريبا من 28 سنة، ولكن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وهو الداهية السياسي المعروف العالم الكريم الشهم الذي فضائله متداولة إلى هذا الزمان(1) كان متوسما في هذا الشاب الناشئ توسم فيه العقل، توسم فيه العلم، فأوصى به رحمه الله تعالى، أوصى به الملك عبد العزيز، وكان من بدايات تلك الوصية يُنيب الشيخ محمد بن إبراهيم مع صغر سنه ينيبه في مسجده مسجد الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب المعروف الآن في دخنة بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان ينيبه ويصلي الشيخ محمد الفروض عن الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف رحمهم الله تعالى، قَبِل الشيخ ذلك يعني قبل الوكالة وأوصى الشيخ عبد الله الملك عبد العزيز بالشيخ محمد بن إبراهيم هذا الشاب الناشئ، والملك عبد العزيز لحظ ذلك فيه واعتنى به وقبل الوصية، وكان للملك عبد العزيز الأثر البالغ في صياغة شخصية الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان للشيخ محمد في نفس الملك عبد العزيز محبة عظيمة فلم يكن يصبر عن لقائه وقبول مشاوراته بما هو معروف لدى كثير من الناس.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الأول.(1/12)
لما توفي الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف فحانت الصلاة التي هي بعد وفاته امتنع الشيخ محمد بن إبراهيم أن يصلي بالناس، وقال كانت صلاتي بالناس وكالة وكلني بها الإمام؛ إمام المسجد الذي هو الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وأما الآن فلست متوليا الصلاة لأن الوكالة قد انقطعت بموت الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف لأن هذه وظيفة شرعية، وكانت هذه بشهود العلماء في وقته كانت بداية لتورع وعقل وعلم وفقه في الأمر، ثم أُمر بالصلاة في مكانه فكان الشيخ محمد بن إبراهيم إماما للمسجد إلى أن توفي رحمهم الله تعالى أجمعين.
ابتدأ الشيخ محمد بن إبراهيم بعد وفاة عمه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في دروسه، وكانت البدايات مختصرة جدا، وكان مشغولا بطلب العلم على المشايخ، وكانت البداية الفعلية القوية في دروس بعد سنة 1345 وكانت دروسه على قوتها ما بين سنة 1350هـ – 1370هـ، وممن التحق بدروسه مبكرا الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله تعالى وهو العلم العلامة المعروف صاحب التواليف المشهورة، وبعده اتصل بالشيخ وطلب العلم عليه عدد من العلماء الذين برزوا فيما بعد منهم سماحة العلامة الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز قد اتصل بالشيخ وتتلمذ له ما بين سنة 1347هـ -1357هـ يعني عشر سنين تقريبا.
وبداية الشيخ في دروسه كانت مختصرة، ثم بدأت تتوسع تتوسع حتى صارت قوية في فترات من الزمن، كان الطالب يتخرج في نحو عشر سنين، وتارة في بعض الفترات في سبع سنين.(1/13)
وصف الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم دروس الشيخ محمد بن إبراهيم في فترة ما، دروس الشيخ كانت متنوعة يعني يختلف تقسيمها الزمني من وقت إلى وقت ما بين الخمسين والستين كان لها ترتيب وما بعد الستين كان لها ترتيب، ثم هكذا قد يكون الترتيب الذي سنسمعه الآن ليس متفَقا عليه في كل فترات الشيخ التعليمية؛ لكن هكذا وصف الشيخ محمد بن قاسم، وهو من تلاميذه الذين لازموه سنين طويلة، قال الشيخ محمد بن قاسم يصف دروسه قال: كان الشيخ محمد بن إبراهيم يجلس ثلاث جلسات منتظمة:
فالأولى: بعد صلاة الفجر إلى شروق الشمس
والثانية: بعد ارتفاع الشمس مدة تتراوح ما بين ساعتين وأربع ساعات.
والثالثة: بعد صلاة العصر.
وهناك جلسة رابعة لكنها ليست مستمرة-أي يأتي بها حينا ولا يأتي بها حينا آخر، وهي بعد صلاة الظهر..
قال ابن قاسم:
كان رحمه الله ينقطع بعد المغرب لمطالعة دروس الغد في الكتب التي كانت تُدَرَّس بعد الفجر.
والذي أعرفه أنه كان يحضر للدروس بعد العشاء، لكن ربما كان الشيخ محمد بن قاسم يحكي فترة من الفترات، أما بعد المغرب فكان يقرأ كما حدثني الشيخ حسن بن مانع وهو من تلامذة الشيخ المعروفين أنه كان يقرأ بعد المغرب في بعض الكتب الخاصة، ولا يحضر القراءة إلا خاصة تلامذته الذين يأذن لهم، وأما مراجعته فكانت بعد العشاء، المقصود أنه ربما ما ذكره الشيخ محمد بن قاسم في فترة من الفترات، فكان يحضر ويطالع دروس الغد إما بعد المغرب في فترة أو بعد العشاء في فترة أخرى تقرأ عليه في بعض الدروس التي تقرأ عليه بعد الفجر، ومن تلك الدروس ومنها: الروض المربع، وسبل السلام، وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، وما يعين عليها من المراجع؛ يعني التي كانت تقرأ على الشيخ ليحضّر بها أو يتذكر بها ما يتصل بالدرس الذي يدرسه التلاميذ من غد.(1/14)
قال الشيخ ابن قاسم: بعد صلاة الفجر كان يدرس ألفية ابن مالك مع شرح ابن عقيل، وزاد المستقنع مع شرحه الروض المربع، وبلوغ المرام والآجرومية والملحة وقطر الندى.
وهذه كانت متنوعة بعضها لصغار الطلاب وبعضها للمتوسطين وبعضها لكبار الطلاب، وهذه كانت في فترة متأخرة، وأما في فترة مبكرة كان يدرّ س بعد الفجر كتب التوحيد ونبذ أئمة الدعوة رحمهم الله تعالى.
قال الشيخ ابن قاسم: وكان يقرئ في الفجر أصول الأحكام والحموية والتدمرية ونخبة الفكر.
الثلاثة الأُوَل مستمرة -يعني ألفية ابن مالك والروض المربع وشرح بلوغ المرام- وكان يقوم بتدريسها على ترتيبها المذكور أما في باقي الكتب فبالتعاقب على فترات مختلفة طيلة أيام تدريسه.
بعد شروق الشمس: يدرِّس في العقائد كتاب التوحيد، كشف الشبهات، ثلاثة الأصول، العقيدة الواسطية باستمرار، مسائل التوحيد، مسائل الجاهلية، لمعة الاعتقاد، أصول الإيمان على فترات.
وفي الحديث: الأربعين النووية، عمدة الأحكام باستمرار.
وفي الفقه: آداب المشي إلى الصلاة، وقد يُدرِّس غيرها، لكنه نادر.
بعد الانتهاء من هذه المختصرات تقرأ المطولات -يعني في الفترة بعد ذلك- ومنها: فتح المجيد، شرح الطحاوية، شرح الأربعين النووية، صحيح البخاري، صحيح مسلم، السنن الأربعة، مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقد ذكر لي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أنه كان يسمع قراءة جامع الترمذي على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ما بين فترة وفترة، وكان يقرأ عليه أحد الأسرة آل الشيخ، قلت للشيخ كنت تقرأ على الشيخ الترمذي أو تواضب عليه ؟قال لا كنا صغارا إذ ذاك وكان ذلك في الفترة ما بين الخمسين والستين، وكان الشيخ إذ ذلك من طلبة الشيخ محمد بن إبراهيم المبرّزين.(1/15)
لكن ينتبه إلى أن الطلبة كانوا ينتبهون إلى التدرج في طلب العلم وكان الواحد منهم لا يأتي إلى هذه الكتب العظيمة ويقرؤها على المشايخ وهو لم يحكم الكتب الأولى؛ بل إن إحكام الكتب المختصرة كانت طريقة أهل العلم، لهذا الشيخ كان يقرأ عليه صحيح البخاري ويقرأ عليه صحيح مسلم والسنن؛ لكن كانت لخاصة من الطلبة الذين برزوا وربما كان ربما لكبار منهم أو لعلماء أيضا كما ذكرت لك آنفا.
وكان يقرأ عليه أيضا في هذه الفترة مؤلفات شيخ الإسلام -يعني فترة الضحى- وابن القيم كذلك يقرأ عليه ابن كثير، وكل ما جد من كتب السلف والمحققين من العلماء، لكنها على فترات يتراوح ما يقرأ منها في اليوم الواحد ما بين خمسة وعشرة من تلك الكتب غالبًا.
بعد صلاة الظهر، ويدرس فيه: زاد المستقنع بشرحه على بعض الطلاب، وبلوغ المرام.
وهذا حدثني بعض المشايخ أنه يقرأ عليه صحيح البخاري بعد صلاة الظهر.
بعد صلاة العصر، يدرس فيه كتاب التوحيد وشرحه، وقد يقرأ في مسند الإمام أحمد، أو مصنف ابن أبي شيبة، أو في الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، أو نحوها. انتهى ما وصفه الشيخ ابن قاسم من القراءة. طبعا هذه في فترة متأخرة.
وهذا الوقت العظيم الذي يبذل من صلاة الفجر إلى أن تغيب الشمس كله في العلم، لا شك أن هذا هو حالة أهل العلم الذين انقطعوا للعلم والتعليم، وبهذا يخرج العلماء، بهذا يستفيد الطلاب أما بالقراءة في وقتنا هذا قراءة التذوق أو الدروس التي هي كالتذوق ما بين فترة وفترة، فهي كالمكملات لئلا تنقطع حلق العلم، أما تحصيل العلم فلا يكون بهذه فقط بل لابد من الجد فيه ليلا ونهارا ما بين تدريس ودرس وتعليم ومطالعة، وهكذا كانت أحوال المتقدمين.(1/16)
نظرت وسمعت إلى حال الشيخ رحمه الله من بعد صلاة الفجر وهو يُقرئ ويقرأ عليه، هذا مع ما يتخلل تلك الفترات؛ يعني بعد الفجر في قراءة، بعد طلوع الشمس في قراءة، في الضحى ثم قراءة، بعد الظهر في قراءة، بعد العصر في قراءة، بعد المغرب ثَم قراءة، بعد العشاء استعداد، أين نصيب أهله منه؟ أين وقت الفتاوى التي ترد عليه من كل مكان؟ كان وقته رحمه الله منقطعا ليلا ونهارا للعلم.
بل قد حدثني بعض المشايخ في فترة متأخرة أنه كان لما رام أحد أن يقرأ عليه كتاب ليراجعه إذا صنف أحد طلبة العلم كتابا عرضه على الشيخ يقرؤه عليه هل ثم من ملاحظة أو نحو ذلك، وهذه سنة من سنن العلماء المتقدمين، قال واعده الشيخ قبل الفجر بساعة لأنه بعد الفجر مشغول مع الطلبة، والضحى كذلك، وقبل الظهر كذلك وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب فأين الوقت؟ قال لي أحد المشايخ قال كان يواعدني قبل صلاة الفجر بساعة كل يوم أمر عليه ما ألفت حتى أنهيه أين وقت النوم أين؟ وقت الراحة؟ أين وقت الأهل؟ أين وقت كذا لأمور الإنسان؟ لم يكن ثم وقت إلا للعلم والتعليم والجهاد ونشر الدعوة ونفع الناس، وهكذا يكون العظماء.
هذا الوصف الذي ذكره الشيخ ابن قاسم يمثل فترة من عمر الشيخ، وهي في الغالب ما بعد الستين فيما أحسب يعني ما بعد 1360هـ.(1/17)
وقد ذكر لي الشيخ العلامة محمود التويجري رحمه الله أنه كان يقرأ عليه مؤلفاته يعرضها على الشيخ هل ثم ملاحظة عليها أو تصحيح أو نحو ذلك، وكان ذلك في الفترة ما بعد سنة 1380هـ يقول الشيخ محمود التويجري كنت أقرأ عليه الكتاب ونجلس من بعد صلاة الفجر -يعني من بعد أن انقطعت الدروس المتواصلة بعد سنة 1380هـ- نجلس جلسة واحدة ثلاثة ساعات أربع ساعات حتى تصلنا الشمس من بعد الفجر، يقول: وأنا صاحب الكتاب الذي ألفه أمل من القراءة وأتعب من ذلك وهو لا يمل ويسمع ويسمع. وهذا لاشك ينبئ عن شخصية فيها الصبر وفيها الجلد على العلم وفيها الرغبة في نفع الناس، ولهذا إذا رأيت حال أولئك وجدت العجب العجيب، إذا رأيت يوم الشيخ كيف قسمه على أولئك فلا تخرج منه إلا بأن الله جل وعلا يبارك في أوقات من شاء من عباده، والعلم إذا بذل فيه المرء ما بذل من الوقت بارك الله جل وعلا له فيما أعطاه من الوقت والوقت يبارك، ولهذا نجد في حياتنا الوقت ضعف؛ ضعفت الاستفادة منه، تنقضي الأوقات بسرعة، وهذا لأجل فيما أحسب لأجل عدم البركة فيما أعطينا من الأوقات، وأما المتقدمون فقد بارك الله جل وعلا لهم في الأوقات، ولاشك أن هذا له أسباب وأظن أن أعظم تلك الأسباب هو إخلاصهم لله جل وعلا وكثرة الرهب والدعاء إلى الله جل وعلا بالمباركة.
تعليقة على ما مرّ(1/18)
هذه المنهجية التي سمعت في التدريس، هذه المنهجية في القراءة في المختصرات، القراءة في هذه الأنواع من العلوم وفي الكتب، هذه المنهجية في العلم هي التي تخرج العلماء، حفظ للمتون بيان وشرح لها، ضبط للأصول ومعرفة للأدلة، هذه الطريقة هي التي خرجت العلماء الذين ينفعون الناس اليوم، علماؤنا اليوم، تلامذة الشيخ محمد بن إبراهيم اليوم -سيأتي ذكر بعض أسمائهم- هؤلاء نفعوا الناس سنين متطاولة بعد الشيخ رحمه الله، وهل كان النفع خاصا بالبلاد هذه السعودية؟ لا، فنفع تلامذة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وصل الأرض من شرقها إلى غربها، وإذا تأملت نفعهم وتأملت فتاواهم وتأملت رسائلهم وكتبهم وكيف أثرت في الاتجاه الإسلامي العام في الأرض وجدت أن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة قد أنتج مدرسة وأنتج دعوة وأخرج أناسا حملوا إلى الأرض العلم النافع، ولاشك فإن المتأمل يخرج بهذا بيقين، وهذا من فضل الله جل وعلا علينا وعلى الناس.
الشيخ رحمه الله ذكر لي بعضهم أنه كان يقسم الطلاب إلى ثلاثة طبقات: مبتدئون متوسطون منتهون. ذكر لي أحد الأجلة من تلامذة الشيخ أنه إذا أتاه الآتي وقال له أريد أن أقرأ عليك يا شيخ، قال هل حفظت القرآن؟ -أقرأ يعني أقرأ لك المتن وتشرحه لي- قال هل حفظت القرآن فإذا أجاب بنعم أدخله مع الطلاب إذا قال لا لم أحفظ القرآن قال لا علم إلا بحفظ القرآن اذهب فاحفظ القرآن أولا ثم بعد ذلك تعلم العلم.
اليوم يقرأ الناس وتجد عندهم مؤلفات، وتجد عندهم كلام طويل وهولا يحفظ القرآن، لاشك أن هذا من الغلط، وهذا من الأمور التي حدثت في الناس.
قال الشيخ محمد بن قاسم :كان الشيخ يحرص جدًا على أن يحفظ جميع الطلاب المنتظمين المتون ولا يرضى بنصف حفظ، ولا ينتقل الطالب من متن إلى متن أطول منه إلا بعد حفظ الأول وفهمه، ولهذا كان الطالب المجد منهم يتخرج في سبع سنوات.(1/19)
قد حُدثت أيضا أن بعض المتعلمين؛ يعني بعض طلاب الشيخ بدأ يقرأ عليه فتتعتع في الحفظ مرتين فنهره الشيخ نهرا بالغا، قال ما هذه بقراءة وليس هذا بحفظ. مرتين، اليوم يصبر على القارئ عشر مرات يغلط وعسى أن يحفظ لكن المتقدمون يحفظون حفظ كأنه يحفظ الفاتحة هذا الذي يسمى الحفظ، أما الحفظ مع الأغلاط فلا يسمى حفظا، لماذا؟ لأنه لا يبقى مع المرء، أما إذا حفظ جيدا يبقى معه مع الحفظ في فترات من عمره، أما الحفظ الذي ليس بحفظ فهذا لا يبقى مع المرء.
كان الطلاب مع الشيخ في عجائب، من ما يذكر في هذا أن أحد المشايخ حدثني قال كنا نستغرب من أين يأتي الشيخ بهذه المعلومات التي يعطينا إياها في درسنا -يأتي في وصف طريقة الشيخ في إعطائه المعلومات وتركيزه للعلم- قال كنا نستغرب من أين يأتي الشيخ بهذه المعلومات، يقول فاجتمعنا على تحضير بعض الدروس، على مراجعة الدرس قبل أن يدرس الشيخ يعني في الفجر، يقول فسهرنا تلك الليلة وأتينا بالكتب المطولة، وراجعنا ما فيها بتدقيق على المتن الذي سيشرحه الشيخ في الصباح، يقول فلما أتينا صباحا وتكلم الشيخ، يقول أردت أن أبين للشيخ أني على علم بالمسألة وعلى معرفة، قال فسألته قلت له يشكل على هذا كذا، هذا الطالب غلط وأورد إشكالا ليس في موضعه يعني الإشكال في مسألة ستأتي فيما بعد وأورد الإشكال في غير موضعه فسبق، قال فلما أوردت الإشكال تأمل الشيخ ونظر تأمل ثم قال بعد ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، وقام من المجلس تأديبا للطلاب، يقول فأخذ الطلاب يلومونني عن السؤال ففهم القصد أنه أراد إحراج الشيخ أو أراد أن يبين للشيخ أنه قرأ أو نحو ذلك، وهكذا كان الشيخ مع طلابه لا يسمح لأحد بأن يتعدى عليه أو أن يخطئ معه في حقه.(1/20)
مرة من المرات كان في حلقة من التعليم، قسم مسألة من الفرائض؛ يعني أعطى تدريبا في الفرائض وكانت الحلقة فيها نحو 50 من الطلاب، فأعطى نصف الحلقة مسائل للأول: اقسم كذا هلك هالك عن أعطاه مسألة، الثاني الذي بعده هلك هالك عن وأعطاه مسألة، والثالث حتى وصل إلى نصف الحلقة يعني إلى نحو 26 ثم لما أتم هؤلاء، قال ارجعوا فرجع إلى الأول قال اقسم مسألتك فقسم فصوبه إما بصواب أو بخطأ، ثم الثاني قال فلما وصل إلى بعد العاشر، قال اقسم مسألتك، قال مسألتي كذا وكذا وكذا قال كذبت ما هذه بمسألتك، هذه مسألة التي بعدك، وغضب عليهم الشيخ وقال طلاب العلم يكذبون هذا أول العلم الكذب ونحو ذلك، فكان شديدا مربيا للطلاب لا يسمح لأحد بأن يخطئ أو أن يتعدى حده، لهذا كانوا يحترمون الشيخ كمعلم وشيخ ووالد ومؤدب، وكانوا معه على أشد الخوف من البشر.
الطلاب كما تعلمون بعضهم يختلفون، كان الشيخ يحب تلامذته محبة بالغة ويعطف عليهم، ينقل لهم الطعام بنفسه من البيت إلى المسجد خاصة الإخوان، ويطبخ طعامهم في بيته ويعطيهم بين الحين والآخر، إذا وجد على أحدهم أثر الحاجة أو أثر الجوع أخذه معه في بيته وطعم معه وهكذا، بعض الطلاب كما هو المعتاد يحصل مع البعض مع البعض الآخر بينهم منافسة ونحو ذلك، فكان منهم -في عرف الحاضرين- من يستهزئ بالآخر يعني يتعير على الآخر ويستهزئ به، فبلغ الشيخ أن فلانا من الطلاب أو فلانا من الناس يستهزئ بفلان ويسخر منه، قال خيرا إن شاء الله، ولما حصل هذا وأتى من الغد نادى هذا الذي بلغه منه الاستهزاء في وسط الحلقة، فلما قرب منه أخذه وضربه بكفه ضربة على وجهه وقال له إياك أن تستهزئ بطلبة العلم في يوم من الأيام، وفرح طبعا من كان مظلوما بهذا الاستهزاء.(1/21)
مرة من المرات الشيخ رحمه الله -الطلاب كما تعلمون يتكلمون في شيخهم فلان ينقد فلان يبين حالته وفلان يقول هذا فيه كذا والشيخ فيه كذا على عادة الطلاب وهذا من العقوق أن يتكلم الطالب في شيخ نفعه وبذل له وقتا- رام بعض الطلاب أن ينقل ما يقال في الشيخ للشيخ أتى للشيخ وقال له فلان يقول عنك كذا وكذا فمسكه الشيخ وضربه أمام الناس، وقال له ما وجد الشيطان من يرسل إلا أنت، ما فرح بما يقال هذا يُغِير الصدور والمؤمن مأمور أن يصلح ذات البين إذا قيل فيه قيل في الرسل وما يضر ذلك، المهم المرء أن يبذل وأن ينفع وليس المهم في حياة المرء أن يسمع ما قيل فيه لأنه سيكسبه ذلك عداوة وربما ينغص في نفسه على فلان وفلان من الناس.
المقصود أن هذه الحوادث تعطيك شخصية الشيخ في علمه وتعليمه قوته، في عدم سماحه بالخطأ في هيبة الناس منه وخوفهم منه أعني طلبته في عدم سماحه بمداخل الشيطان أن تكون بين الطلاب، في غرس المحبة والاحترام بين الإخوان بعضهم مع بعض في حلق التعليم رحمه الله رحمة واسعة.
ما طريقة الشيخ في التعليم ومنهجه في التعليم؟(1/22)
الشيخ رحمه الله خرج أعدادا غفيرة من الطلاب في فترة من الفترات بلغ عدد الطلاب كما هو موجود عندي مدون في كشف أكثر من 190 طالبا، تنوعوا منهم من صاروا علماء، منهم من صاروا قضاة، ومنهم من صاروا مدرسين معلمين في الكليات أو في المعاهد، منهم من صاروا في الدعوة إلى آخره، هذه الأفواج التي تخرجت وحملوا العلم لاشك أنهم تخرجوا بعد اتصالهم وملازمتهم للشيخ، وكان الشيخ معهم في منهجية علمية جعل الطلاب في قوة علمية مؤتلفة غير مشتتة، ففي التوحيد -كما ذكرت لكم- كان اهتمامه بكتبه التأسيسية التي تبين العقيدة الحقة بأدلتها، وكانت طريقته في شرح كتب الاعتقاد أن لا يذكر الخلاف في الاعتقاد، بل يذكر أدلة أهل السنة والجماعة وما قاله أئمة التوحيد في المسألة، ويبين أدلتهم ويفصل في ذلك ولا يذكر قول المخالفين إلا نادرا عند الاحتياج ويجمله؛ هذا قول الأشاعرة قالت المبتدعة كذا قالت الأشاعرة كذا، وليس على طريقة بعض الناس أنهم يفصلون في أقوال المخالفين، وهذا إنما يكون عند الحاجة إلى ذلك إذا اختلط الناس أو إذا احتاج الناس إلى ذلك؛ لكن الشيخ رحمه الله لم يكن يعرج على مذاهب الخرافيين والمبتدعة وشبههم إلا إذا دعت الحاجة، بينما تجد أكثر تفصيله وتدلليه على معتقد أهل السنة والجماعة، وهذا ولاشك يعطي قوة علمية استدلالية ويعطي ثباتا في موقف الحق، وعدم تشويش الأذهان بكثرة الأقوال المبتدعة، وهذا لأجل أن المبتدعة وأقوال المبتدعة لم تكن مشتهرة إذ ذاك.
وأما في الفقه: فقد جعل دروسه رحمه الله تعالى منبثقة من متون الفقه الحنبلي، ومتون الفقه الحنبلي عند أهل العلم محررة مدققة، تفتق ذهن الطلاب، وتقوي إدراك الطالب الفقهي، فاعتماد متن للمذهب مما جعله الشيخ طريقة له وذلك لأنه خير طريقة لتحصيل الفقه، فبه يُبنى الذهن الفقهي، وبه تؤسس قواعد التصور للمسائل الفقهية، ويأتي بعد ذلك التفريع والتدليل وذكر الخلاف عند الحاجة والترجيح.(1/23)
فإذن فتكون معرفة الأقوال بعد إحكام الأصول وضبط تصور المسائل.
تعجب اليوم أنه تجد عند بعض الناس من معرفة الأقوال والخلافات بينما صورة المسألة لا تجدها واضحة عنده، وهذا غلط علمي يُذهب التقدم العلمي عند الطلاب؛ بل لابد أن تكون في طلبك للعلم معتمدا على متن من المتون في الفقه، وعلى متن من المتون عندنا متن من متون المذهب الحنبلي مذهب الإمام أحمد رحمه الله على شيخ، إذا ضبطت المتن وتصورت مسائله ودليل المذهب، ثم بعد ذلك يعرفك الشيخ بالمذاهب الأخرى شيئا فشيئا حتى تكون عندك ملكة فقهية وتصور للفقه كيف يعرض وكيف تعرض مسائله، أما هذا الشتات الذي تراه اليوم في كثير من الدروس فإن هذا لم يكن طريقة للشيخ رحمه الله تعالى
كان الشيخ رحمه الله، فقد كان يعرض للمتن وهو ( زاد المستقنع) بشرحه وهو الروض المربع، فيبين عبارة الماتن بدقة، بألفاظها ومحترزاتها ومفهومها إن كان لها مفهوم ويوضح ذلك بعبارة واضحة، ويصور المسألة تلو المسألة بحيث لا تشتبه مع نظيراتها في ذهن الطلاب، (1) ولا يبدأ بالاستدلال أو ذكر الخلاف كما يفعل بعضهم اليوم في دروسهم إما في الجامعات أو في المساجد؛ بل كان هم الشيخ رحمه الله أن يحدث التصور الفقهي والملكة الفقهية في ذهن الطالب؛ لأن المعلومات يمكن للطالب أنه بعد حين يجمعها من الكتب إذا فرغ، لكن الذي ينقله المعلم للمتعلم إذا كان حريصا عليه أن يكون المتعلم طالب علم على الحقيقة ينقل له فهمه للمسائل، تصوره للمسائل حتى يكون المتعلم بذهن فقهي صحيح.
__________
(1) انتهى الشريط الأول.(1/24)
ثم يذكر الشيخ بعد أن يصور المسألة الدليل مع وجه الاستدلال، أو يذكر التعليل، أو إرجاع حكم المسألة إلى أصل أو قاعدة أو نحو ذلك من الحجج، وربما ذكر الخلاف القوي في بعض المسائل إذا كان الخلاف مشتهرًا، أو كان هناك حاجة لبيانه، وغالبًا ما يذكر اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ويذكر هل عليه العمل أو ليس عليه عمل أئمة هذه الدعوة رحمهم الله تعالى.
وأما مطولات الفقه فلم يكن الشيخ يفصل الكلام عليها بنحو ما سلف، ولكن يذكر بعض ما يحتاج إلى إيضاحه، فقد كان يقرأ عليه كشاف القناع وكان يقرأ عليه في المغني في بعض الفترات ولم يكن يفصل عليها لأنها كتب مطولة هي للخاصة من الطلاب.
هذه الطريقة النافعة التي درج عليها علماؤنا السابقون، وبها صعد في مدارج التفقه فئام نفعوا العباد والبلاد رحم الله الأموات ونفع بالأحياء وأجزل مثوبة الجميع.
تلامذة الشيخ
كان الشيخ رحمة الله تعالى بدون مبالغة أمة في قلب رجل، وكان كما يقال جامعة متعددة الكليات فلا غرو – إذن – أن نجد من تخرج عليه المحدث والفقيه تجد الأديب واللغوي، تجد الشاعر والناثر، تجد القاضي والداعي، صدروا كلهم عن رجلٍ واحد لأنه – بتوفيق الله له ولهم أولا– بذل علمه لهم وليله ونهاره، وهكذا فليكن بذل الرجال الذين يرومون أن يظهر من بعدهم رجال.
لقد تلمذ للشيخ عدد لا يُحصون كثرة من الرجال، تولوا التدريس في المعاهد والكليات، تولوا القضاء، تولوا الفتيا، تولوا التوجيه والإرشاد، تولوا الدعوة والإصلاح، هؤلاء لا يمكن أن يحصوا كثرة، ولا يمكن تعدادهم جميعًا، إنهم مئات من الناس؛ لأنه درس قرابة نصف قرن من الزمان، وإن كان قد أحصي كثير منهم؛ لكن لا يمكن أن يحصوا لأجل كثرتهم وتعدادهم وتنوعهم.
نذكر الآن هنا بعض أكابر طلبة الشيخ، كإشارة لا حصرٍ، على ترتيب العلامة الشيخ ابن بسام في ترجمته للشيخ قال الشيخ ابن بسام في ذكر تلامذته:(1/25)
1 – سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل باز رحمه الله .
2 - سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله.
3 – سماحة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله، الشيخ عبد الرحمن بن قاسم كان أكبر تلامذته في ظني.
4 – الشيخ عبد الله القرعاوي، الداعية المشهور، رحمه الله.
5 - الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، رحمه الله.
6 - الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله، أخو الشيخ محمد.
7 - الشيخ عبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله.
8 - الشيخ عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله.
9 - الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ حفظه الله.
هذا ترتيب وذكر الشيخ ابن بسام حفظه الله أذكر زيادة على ذلك:
10 - الشيخ صالح بن غصون حفظه الله.
11 - الشيخ صالح بن محمد اللحيدان حفظه الله.
12- الشيخ عبد الله بن منيع.
13- الشيخ عبد الرحمن بن فارس.
وجمع من الناس غير هؤلاء من العلماء، وليعذر من لم يذكر اسمه وإنما كان المراد الإشارة، نعم تخرج للشيخ أعداد لا تحصى من العلماء والمحصلين، وحسبك أن تعلم أن جل أكابر علماء المملكة اليوم هم من تلاميذ الشيخ وهم الذين يشغلون المناصب العلمية والدينية وينفعون الناس وينشرون العلم والفتوى ويقضون بين الناس في هذه الأرض ملأوا مناصب الإفتاء وشغلوا ذلك حتى لم يحتج أهل هذه البلد إلى أناس من غيرهم في أمر دينهم، وهذا من أعظم المكاسب، فقد كان الشيخ رحمه الله يردد على طلبته كثيرا إذا امتنع أحدهم من القضاء يردد عليهم ويقول هل تريدون أن نأتي بأحد من الناس من هاهنا وهاهنا؟ هل تريدون أن نأتي بقضاة من البلد الفلاني ومن البلد الفلاني؟ فيحثهم على ذلك وكان الشيخ يُلزم بالقضاء رحمه الله رحمة واسعة.
تتمة للكلام نذكر:
أخلاقه وشمائله رحمه الله
أما أخلاقه فوصفها الشيخ محمد بن قاسم فقال:(1/26)
1 – الحافظة النادرة: كان يحفظ المتن للقراءة الثالثة -يعني يُقرأ عليه مرة مرتين ثلاثة ثم يحفظه-، وربما حفظه من القراءة الثانية، وكانت المعاملة الطويلة في القضاء على إشكالاتها تبلغ أحيانا (300 صفحة) تُقرأ عليه ثم يملي ما يراه مستحضرًا كل ما مر فيها من الجزئيات، ولم يكن غريبًا منه أن يدل القارئين الذين يقرؤون أو يستشيرونه في بعض البحوث على مواضع الأبحاث في كتبها، ذاكرًا رقم الصفحة أحيانًا. لقد ذكر لي هذا الشيخ إسماعيل الأنصاري قال كان الشيخ رحمه الله إذا أردت بحثا أو أراد بحثا هو يذكر أنه في البحث الفلاني في الجلد والصفحة بحثها فلان وفلان وفلان فيجمعون له في المسألة أحيانا عشرة كتب وأحيانا عشرين وأحيانا ثلاثين كتابا يذكرها لهم بتفاصيلها، فهذه لاشك تدل على حافظة نادرة، وحفظه لأكثر من نصف منتقى الأخبار هذا لاشك يدل على ذلك؛ يعني أكثر من ثلاثة آلاف حديث في أوائل عمره مع أنه كان مكفوف البصر رحمه الله، وكف البصر ليس سهلا معه الحفظ، نعم المبصر يسهل عليه أن يحفظ لكن المكفوف يحتاج إلى من يقرأ عليه، ثم بعد ذلك يردد ما قرأ وليس هذا بالسهل.
قال الشيخ ابن قاسم:
2 – رُزق الذكاء و( الفراسة): فكان يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة، ولم يكن يمر عليه كيد أو احتيال، وحياته أمثلة من هذا النوع فلسنا بحاجة إلى ضرب الأمثلة لها؛ فأكثر العارفين به يدركون هذا.
يعني الفراسة الحادة والذكاء في مراماة الناس يأتيه أحد الناس بعبارة جيدة وهو يروم شيئا آخر يأتيه بقضية وهو يروم أن يتوصل من تلك القضية بأشياء أخر، ويدرك هذا الشيخ رحمه الله بفراسة فذة شهد له بها تلامذته وعارفوه.
قال الشيخ ابن قاسم:
3 – الإخلاص في العمل، فلم يكن طالب شهرة، ولا باحثًا عن سمعة، ولم يُعرف عنه أنه تحدث عن أعماله على جلالتها وكثرتها.(1/27)
وهذا أيضا ذكر لي من أمثلته عددا من المشايخ منها أنه كان بعض المشايخ يلومونه على عدم تكلمه في بعض الأمور، ولما أكثروا وأكثروا عليه قال لهم أتريدون أني كلما عملت عملا أقوله لكم؟ تريدون أني إذا كتبت وذكرت أقول لكم فعلت وفعلت لكن ستعرفون محمد بن إبراهيم بعد أن يذهب.
قال الشيخ ابن قاسم:
4 – طهارة قلبه، فكان لا يحمل ضغينة على من أساء إليه، ولا ينتقم من أحد ناله بأذى، وله في ذلك أحوال عجيبة.
كان أحد المشايخ المعروفين لما حصلت مسألة نقل مقام إبراهيم فكلم أحد المشايخ رحمهم الله: الشيخ محمد بن إبراهيم لما يأذن بنقله ولماذا يفتي ونال من الشيخ بكلام، وبلغ الشيخ بعض ذلك، وأنه كان يقول إذا أراد أن يذكر الشيخ ابن إبراهيم قال كذا، ابن إبراهيم قال كذا، وبالمناسبة هذه الكلمة ابن إبراهيم ما كان يقولها محبو الشيخ، وإنما كان يقول محبو الشيخ الشيخ محمد أو الشيخ محمد بن إبراهيم، أما كلمة ابن إبراهيم فما كان يقولها محبوه، فليتنبه الناشئة أو طلبة العلم إلى هذه؛ لأنها عند استعمال بعض من يغفل عن هذا قد تدل من يعرف المصطلح الأول على بعض الأشياء التي قد لا تكون صحيحة، هذا الشيخ كان ينال من الشيخ محمد فيقول ابن إبراهيم كان يقول كذا لا يقول الشيخ ونحو ذلك، وكان الشيخ عبد العزيز بن مرشد حفظه الله ذكر لي أنه نقل إلى الشيخ محمد بن إبراهيم قال له: فلان الشيخ تعرف مقامه وكان ينشر التوحيد في مكة وأنه وأنه، فلا تأخذ في خاطرك من كلامه قال مصداقا عن كلام الشيخ ابن قاسم عن طهارة قلبه وأنه كان لا يحمل ضغينة على من أساء إليه، قال وماذا قال فلان ما بلغني عنه أنه قال إلا يقول ابن إبراهيم وأفتى ابن إبراهيم وصدق فأنا ابن إبراهيم، قال الشيخ عبد العزيز بن مرشد قال الشيخ محمد بن إبراهيم والله إنه لأغلى عندي من بعض أولادي، وذلك لما قامه ذلك العالم في مكة لما يقوم به من تدريس ونشر للعلم والتوحيد وإقرار لكتب أئمة الدعوة في(1/28)
ذلك، لاشك أن المرء إذا سلم من الهوى سلم من الدنيا، أهل العلم إذا سلموا من الدنيا سلموا من الهوى سلموا من الرغب في المناصب الرغب في الشهرة الرغب في الانتصار للنفس بارك الله جل وعلا لهم وفيهم ورزقهم القبول، أما إذا كان همه الانتصار للنفس فهنا يبدأ النزول في حق من كان كذلك.
5 – كان شجاعًا قويّ الشكيمة، لا يتردد في إعلان الحق أيًا كان المخاطب به.
وهذا له جهات منها نصرته لطلبة العلم، نصرته لأهل العلم، فكان قوي النصرة جدا لهم بحيث أنه لا يسمح أن ينال أحد من أهل العلم بأذى، وذلك لأن أهل العلم كانوا يأتمرون بأمره ولا يخرجون عن مراده، ما قال لهم سلموا به، فكان يحميهم أشد الحماية.(1/29)
ومن هذه القص قصة حصلت للشيخ عبد الله القرعاوي الداعية المعروف أنه رام مرة الذهاب من الرياض بالطائرة فلما ذهب إلى المطار وكان مهيئا للحجز فقالوا له ليس لديكم حجز ولا يمكن أن تذهبوا، فذهب لمدير المطار وكان مدير المطار إذ ذاك نقيبا يعني شرطي نقيب -هذا الكلام له الآن أكثر من أربعين سنة أو نحو ذلك- فدخل عليه الشيخ عبد الله القرعاوي ومعه مجموعة من الذين كانوا يريدون السفر ولم يمكنوا منه فقالوا له الأمر كيت وكيت، فقال له بالعبارة التي نقلت لي أنتم كَفُوا أننا ننزل أحد أو أننا نساعدكم أو نحو هذه العبارة ، انتم كفوا يعني أنتم طلبة علم يعنوا كفوا أنكم تروحون وتجون ونحو ذلك فالشيخ عبد الله القرعاوي بلغت هذه في نفسه مبلغها ورجع إلى الرياض وأخبر الشيخ محمد بن إبراهيم بالحادثة، فقال الشيخ بمن عنده اتصلوا بمدير المطار وقولوا له يحضر، فاتصلوا بمدير المطار وقالوا له الشيخ محمد يقول يأتيني الآن، فأتى مدير المطار الذي هو النقيب للشيخ محمد، ولما حضر قال أمركم سيدي، قال الشيخ يقول المشايخ أنهم أتوك وقلت لهم كذا وكذا وكذا فهل هذا صحيح، فقال نعم ولكن، قال هل هو صحيح أم لا أجب بنعم أو لا، قال نعم صحيح قال له اقترب فلما اقترب وكان عليه البدلة العسكرية وأيضا التي على الرأس هذه، فلما اقترب من الشيخ مسكه الشيخ من تلابيبه ضربه ضربة يعني صفقه صفقة على وجهه قوية طار منه ما على رأسه أمام طلبة العلم وهذا كما ذكرت شجاعة وقوة شكيمة وعدم السماح أن يُنال أحد من أهل العلم عنده بأذى، والشيخ عبد الله القرعاوي كان له عند الشيخ مكانة وكان الشيخ عبد الله دائم الصلة يستشير الشيخ ما يكون من نشر الدعوة في جنوب الجزيرة.
6 – كان الشيخ رحمه الله يكره المتملقين والمتزلفين وله في ذلك مواقف يحفظها التاريخ.
ربما بعض الحوادث في ذلك لا يحسن ذكرها.(1/30)
7 – كانت له الهيبة العظيمة في نفوس الناس، يحسب محدثه الحساب الدقيق حتى لا يزل في كلمة أو يخطئ في فكر.
الواحد من طلبة العلم أو حتى من الأمراء إذا أراد أن يذهب إلى الشيخ، يقول بعضهم -على العبارة- كان بطني يمغصني قبل أن يذهب له ما يدري ما يريد منه الشيخ فلان يأتيني، كان يحسب لهذا أشد الحساب وكان يخاف جدا من الشيخ لا يدري لم يريده، كلمة الشيخ في التأنيب الواحدة يتزلزل لها المؤنّب، ولهذا استدعى الشيخ بعض طلبة العلم، وذكر لي هذا المستدعى -لا، أستغفر الله وأتوب إليه؛ سمعته من غيره- قال إنه تلك الليلة ما نام قال إذا صلى الفجر يجيني الشيخ فلان يقول تلك الليلة ما نمت ما يدري المسألة وكانت المسألة عن مقال له كان كتبه وهو يخشى أن المقال الذي كتبه -وهو من طلبة العلم- فيه كلام من جراء ذلك، قال ما نمت تلك الليلة فحضرت كان الأمر أسهل مما كنت أظن.
المقصود من ذلك أن الهيبة كانت عظيمة في نفسه، بل ربما كان يحضره الناس الكثير ويسكت الناس المجلس الطويل الساعة الكاملة يسكتوا ولا يستطيع أحد أن يتحدثوا معه هيبة له، خشية من أن يكون المتكلم يقول غلطا...
لاشك أن هذه الشخصية القوية حكمت الناس وجعلتهم لا يخرجون عن ما عليه البلاد، وهذه الحماية حمت البلاد من التفكك في أمر الدين وفي أمر الفتوى وفي الرأي زمنا طويلا.
يقول الشيخ ابن قاسم:
8 – كان متنزهًا عن الغيبة: عرف بذلك منذ حداثة سنه حتى فارق الدنيا.
لم يُعرف أن ذكر أحد في مجلسه بغير الخير ولم يعرف أنه تحدث بمثالب أحد أو بنقيصة أحد؛ بل كان يجزر من كان يحاول فيه لأن المجالس العامة ليست مجالا لذلك وقد يؤذن بالغيبة في مواضع وهذه المجالس العامة كما كثير من طلبة العلم تجد مجالسهم غيبة ونميمة حتى في أهل العلم، نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية.(1/31)
9 – ومما لا يعرفه كثيرون عما يتصف به الشيخ رحمه الله من العفة والورع حوادث كثيرة في ذلك، والشيخ رحمه الله كان في أمر المال عفيفا ورعا كما شهد له بذلك تلامذته والمقربون له، كان لا يأخذ شيئا فيه شبهة، ظلّ إلى بعد تولي الملك فيصل بسنة ليس له راتب شهري بل كان له رزق يخرج له مرتين أو ربما أكثر في السنة على طريقة القضاة والعلماء المتقدمين لم يكن له راتب شهري يأخذه في كل شهر إلا بعد أن تولى الملك فيصل رحمه الله تعالى.
و مما حُدثت به في ذلك أنه مرة دعا الملك سعود رحمه الله دعوة في الدرعية دعوة كبيرة وكان من عادة الملك سعود إذ ذاك أنه يعطي من يدعوه، فلما لدعاه أرسل الملك سعود بعطية جزلة للشيخ قدرها أظن مائة ريال في ذلك الوقت، والناس منهم من تكلم وقالوا الشيخ دعا الملك سعود وسيعطيه الملك سعود، وسنرى ما يفعل، ولم يعلم أحد ما صنع الشيخ بذلك المال حتى توفي، وذكر أحد المعروفين في الدرعية أن الشيخ أعطاه ليلة وصله هذا المبلغ، أعطاه لذلك الرجل ووكله في صرف في إعمار ما خرب أو احتاج إلى إعمال من مساجد الدرعية.
لاشك من أن مثل هذا لو فعله فاعل منا اليوم حتى من كثير من أهل العلم صار يتحدث به سنة لأجل الحال، لكن المعامل مع الله جل وعلا ينشر الله جل وعلا فضائله؛ لأن الله سبحانه وتعال إذا أحب عبدا وضع له القبول في الأرض.
10 – كان من أهل الخشية -هذا من كلام ابن قاسم-، كثيرًا ما يلهج بذكر الله والاستغفار، وتغرورق عيناه بالدموع حين يكون مناجيًا لله، ويسمع بعض ما يحرك القلوب، ولقد كان ذلك يتجلى كثيرًا فيما يحييه من الليل بالصلاة التي كان يواظب عليها في إقامته وسفره. يقول الشيخ ابن قاسم: وقد صحبته زمنًا طويلاً وهو يقوم في الليل ما يقرب من ساعة ونصف آخر الليل لا يترك ذلك.(1/32)
وهذا مع كثرة الأعمال والدروس وقلة وقت النوم يُنْبِيكَ عن أمور كثيرة والتوفيق بيد الله جل وعلا، هكذا كان أهل العلم ليس العلم لفظا باللسان، إنما العلم معه عمل معه تقوى معه صلاح معه خشية وإنابة، وكان صلبا رحمه الله في الظاهر؛ ولكنه في الباطن كان رقيقا جدا دمعته تنحدر من أدنى موعظة أو إذا مات أحد من الناس أو نحو ذلك، كان قريب الدمعة كثير الوجل رحمه الله وأعقبه ورفع درجته في جنات النعيم.
مؤلفات الشيخ رحمه الله
كتب الشيخ رحمه الله رسائل وفتاوى متنوعة، وكانت حياته مليئة بالتعليم والدعوة والمهمات الكبار التي أنيطت به؛ من فتوى ومتابعة القضاء، وتمييز الأحكام، ونشر العلم والتعليم في جل اليوم، ومراجعة الكتب، ومزاولة الأعمال التي أنيطت به، وهي أكثر من 16 مسؤولية كانت يليها ولاية مباشرة، مع هذا فقد كان له رحمه الله آثارٌ علمية منها:
منها: فتاواه التي طبعت مع رسائله في ثلاثة عشر جزءًا قام بجمعها وإعدادها للطبع وترتيبها الشيخ محمد بن قاسم أثابه الله، وأقوم أنا بالتعليق عليها وتحقيقها تحقيقا مناسبا وسطا وستطبع إن شاء الله أظن في السنة القادمة، إن شاء الله تعالى. (1)
الثاني: رسائل متنوعة طبعت في حياته وأدرجها ابن قاسم مع مجموع فتاواه ورسائله، ومنها:
…1 – الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم. في الرد على قول السيوطي في الإتقان إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ.
…2 – رسالة نشرها في إحدى المجلات ثم نشرت مستقلة باسم تحكيم القوانين.
…3 – رسالة باسم نصيحة الإخوان في الرد على الشيخ ابن حمدان.
…4 – رسالة الجواب المستقيم في نقل مقام إبراهيم.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط الثاني.(1/33)
5- رسالة باسم الجواب المشكور وقد طبعت بدون اسم الشيخ عليها قد حدثني الشيخ إسماعيل الأنصاري أن الشيخ هو الذي ألفها، ويؤيد ذلك قد طبعها مؤخرا الشيخ الأخ طالب العلم الموفق عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم، طبعها بهذا الاسم الجواب المشكور بدون اسم الشيخ محمد بن إبراهيم عليها؛ لأنها في طبعتها الأولى لم تكن كذلك، وإنما كنت موضوعا عليها أصدرتها دار الإفتاء؛ ولكن الشيخ إسماعيل الأنصاري وهو خبير بالشيخ قال هي من تأليف الشيخ، ويدل على ذلك أنه ذكر في خطبتها بعد قوله أما بعد قال فقد رفع إلي الملك سعود، والملك سعود إنما يرفع إلى الشيخ محمد ابن إبراهيم لا إلى من دونه.
الآن ذكرنا المؤلفات الفتاوى هذا قسم والرسائل المتنوعة هذا القسم الثاني.
الثالث: كتاب له في الحديث اسمه: تحفة الحفاظ ومرجع القضاة والمفتين والوعاظ: وهو كتاب في الحديث، جمع فيه المفتي رحمه الله ما يقرب من ألف حديث، قال رحمه الله في مقدمته:
هذا مختصر يحتوي على ألف حديث صحاح اقتصرت فيه على ما خرجه الشيخان أو أحدهما، عدا أحاديث صحيحة يسيرة جدًا خرّجها غيرهما، وقد أتى بحمد الله على عامة أبواب الدين من أصول وفروع ودعوات وأذكار، ومواعظ وحكم وآداب وغير ذلك مما ستقف عليه في مواضعه.. ا.هـ
والكتاب في مجلد متوسط. ولم يطبع بعد وأسأل الله جل وعلا أن ييسر طباعته، وهذا الكتاب متميز عن غيره من كتب المتون بمميزات، قد ظهر فيه فقه الشيخ وانتقاؤه للأحاديث التي ينبني عليها الاستنباط باستنباطات لا يفهما إلا المجتهدون من أهل العلم، وليس هذا موضع بسط ذلك، والكتاب مخطوط إلى الآن، جاء في خاتمته:(1/34)
…وقع الفراغ من تأليف هذا الكتاب المبارك خامس شهر ذي الحجة سنة أربع وسبعين وثلاثمائة وألف، ووقع الفراغ من تبييضه آخر ذي القعدة سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف من هجرة من له العز والشرف - صلى الله عليه وسلم - بمكة المكرمة زادها الله تشريفًا وتكريمًا على يد جامعه الفقير إلى عفو ربه محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. ا.هـ.
…الرابع: من مؤلفاته نظم علمي لمقدمة كتاب ( الإنصاف لمعرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجل أحمد بن حنبل) للمرداوي، وهو من كتب المذهب الحنبلي المشتهرة الجيدة، جاء مؤلفه في أوله باصطلاحات، وبذكر للكتب التي نقل منها، فنظم رحمه الله جل المقدمة سماحة المفتي رحمه الله، قال فيها:
حمدًا لمن فقهنا مصليا…… على محمد وبعد فادريا
مراجع الإنصاف من متن ومن ……شرح مع مؤلفيها واستبن
وبعضها نواقص أعرضتُ… …عن ذكر نقصهن واختصرتُ
نظمتها من خطبة المؤلف… مقدمًا ذكر المتون فاعرف
منهن متن الخرقي ما أجمله… …شافي أبي بكر مع التنبيه له
تهذيب ابن حامد للأجوبة…… وابن أبي موسى للإرشاد انتبه
إلى آخر أبياته، وهي موجودة عندي، ولي عليها – إن شاء الله – تعليقة ضافية تبين المخطوط منها والمطبوع والمنزلة المطبوع منها من حيث التصحيح.
حياته العملية ومناصبه التي كان يشغلها
تولى الشيخ رحمه الله مناصب كثيرة متنوعة وكان يعد الدخول في الوظائف الشرعية الحكومية من التعاون على البر والتقوى، والتعاون متعين، لهذا كان الشيخ ذا مناصب كثيرة أقضت مضجعه وأذهبت راحته، يعرف ذلك من كان قريبًا، لأن الوظيفة الشرعية ليست بزينة وجاه وإنما تكليف وأمانة، والسؤال عنها غدًا عظيم.ولاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعلى العموم كانت الأمور الشرعية، والإدارات الدينية تابعة له، وكان هو المشرف عليها، المسؤول عنها، في الداخل والخارج.(1/35)
فمن الوظائف الشرعية التي كان هو المرجع فيها والرئيس لها:
1 – رئاسة دار الإفتاء.
2 – رئاسة القضاة وهي وزارة العدل حاليًا، رئاسة هيئة التمييز.
3 – رئاسة الكليات والمعاهد العلمية .
4 – رئاسة الجامعة الإسلامية.
5 – رئاسة تعليم البنات.
6 – رئاسة المجلس الأعلى لرابطة العالم الإسلامي.
7 – رئاسة المعهد العالي للقضاء.
8 – رئاسة دور الأيتام.
9 – رئاسة الإشراف على نشر الدعوة الإسلامية في إفريقيا.
10 - خطابة الجامع الكبير والعيدين، وإمامة مسجد الشيخ عبد الله.
11 - رئاسة مؤسسة الدعوة الإسلامية الصحفية، التي تصدر عنها مجلة الدعوة المعروفة، والشيخ أسسها مؤسسة للدعوة والمجلة أحد نشاطاتها ولكن بعد وفاة الشيخ قُصرت على بعض أنشطتها.
وغير ذلك من الوظائف والأعمال الدينية التي حملها بعده بضعة عشر رجلاً، وما أبلوا بلاءه فيها، رحم الله الميت وأسأل الله أن ينفع ويوفق الحي.
الكلام عن الدوائر الشرعية ودور الشيخ رحمه الله في تأسيسها يطول، وكذلك دوره في الإفتاء، نذكر بعض جهاد الشيخ رحمه الله في الدعوة إلى الله وبذله في ذلك، فنقول على وجه الاختصار:
ابتدأ الشيخ رحلته في الدعوة إلى الله وسفره أن أرسله الملك عبد العزيز إلى (الغطغط)، وكانت مجمعًا للإخوان الذين جاهدوا مع الملك عبد العزيز، صار عندهم اجتهادات خالفوا فيها العلماء، ونظرات تجاوزوا فيها، وكانوا يعتدون برأيهم، ولم يهتدوا بهدي العلماء، فكان من الحق الذي لهم-يعني لأولئك الفئة- أن يبعث إليهم عالما داعية، يحسن الدعوة وقدمه راسخة في العلم، لعل الحجة تنفع، ولعلّ الدعوة تنجع.(1/36)
كانت رحلته دعوية، إرشادية، قضائية، وذلك سنة 1345هـ، وكان عمره إذ ذاك نحوًا من 34 سنة، فمكث ستة أشهر وصاحبه فيها أخوه الأصغر الشيخ عبد الملك بن إبراهيم رحمه الله كاتبًا ومرافقًا، وحمل معه كتبًا للمطالعة والمراجعة، فشرح للإخوان أصول التوحيد وضوابط التكفير، وبيّن لهم عبارات أئمة الدعوة وفسّرها، واحتج لهم بالنصوص الشرعية، وقعّد لهم ذلك ودلّل، وشرح لهم الآيات والأحاديث وأفادهم علمًا وعقلاً. وقد استفاد منهم مجموعة قد رجعوا عن أمرهم؛ ولكن – ولله الأمر – بُثَّت فيهم روح الشقاق، وعدم القناعة بكلام أهل العلم، فعلم الشيخ أنهم يكيدون له، وأنهم يرومون قتله كما أتاه مخبر منهم، فأمر بتجهيز مطيته، وحمل عليها كتبه ليلاً وما خف من متاعه ثم تركهم عائدًا إلى الرياض.
ثانيا: كان الشيخ شديد الحرص على العناية بالدعاة، فمن أبرز تلامذته من الدعاة الشيخ عبد الله القرعاوي، كان داعية عديم النظير في جنوب الجزيرة، انتقل إلى المنطقة الجنوبية فأثّر فيها وفي أهلها، فجعلهم متعلمين، وأكثر استقامة واهتداءً، بث فيهم منارات العلم وهي مدارس القرآن، وكان الشيخ رحمه الله سندًا للشيخ القرعاوي في ذلك عند الحكومة، حتى إنه يسلم المال المخصص للمدارس-الذي يسمى الميزانية- يأخذه الشيخ محمد بن إبراهيم بيده من ولاة الأمر ويسلمه للشيخ عبد الله القرعاوي بيده أيضا بدون وثائق وبدون إثباتات لذلك، ولا يراجع فيه وليس ثم إثباتات بنوع المصروفات، وبهذه الثقة التي منبعها الاستقامة والدين انطلق الداعية الشيخ عبد الله القرعاوي، وكان يختلف بين الحين والآخر إلى الرياض شارحًا للشيخ محمد بن إبراهيم ما قام به من عمل هناك وما تم من إنجاز مبينًا أحوال أهل الجنوب وقربهم من الخير وسرعة انتشار الدعوة فيهم، وهذه النهضة في الجنوب اليوم من آثار تلك الدعوة.(1/37)
وهذه المسألة وهي جهد الشيخ محمد بن إبراهيم في هذه الدعوة التي انتشرت في الجنوب قل من يعرفها، والشيخ رحمه الله كان هو السند الأول من الناس للشيخ عبد الله القرعاوي وكان يذلل له الصعاب ويبين له كيف تكون مرحلية الدعوة وكيف يؤثر فيهم وماذا يقرئ وماذا يُجهز من المدارس حتى حصل ما حصل من الخير.
الثالث: من أمور الدعوة عند الشيخ رحمه الله أنه كان يحرص على لقاء الدعاة من الأقطار الإسلامية المختلفة في مواسم الحج، واستضافة بعضهم، ومتابعة نشاطاتهم، وكان يحرص على دعاة التوحيد والسنة خاصة، ويتعاهدهم بتوجيهه ورأيه فيما ينبغي أن يعملوه أو يخططوه لمستقبل الدعوة السلفية.
الرابع: اهتمامه برابطة العالم الاسلامي –وكان رئيسًا لمجلسها الأعلى-، وما ينبغي أن توجه جهود علماء المسلمين إليه في اجتماعات الرابطة، وذكر هذا في رسالة بيّن بها الأمور التي يجب عقد المجالس والاجتماعات لها؛ لأن مثل هذه الاجتماعات قد تكون رسمية بحتة، وقد تكون نافعة مع كونها رسمية، قال الشيخ رحمه الله في رسالة له يبين ما يجب أن تكون عليه الاجتماعات واللقاءات الرسمية قال منتقدا الرابطة حيث طلبت الرابطة أن يعقد مؤتمر تتبناه رابطة العالم الإسلامي في توحيد الأهلة في توحيد نظر المسلمين في الهلال؛ أن يتفقوا أن يدخلوا شهر رمضان في يوم واحد وأن لا يكون خلاف في ذلك قال الشيخ رحمه الله لهم: الهام هو النظر في الأصول العظام التي الإخلال بها هادم للدين من أساسه، وذلك: مسائل توحيد الله-جل وعلا- بإثبات ما أثبت لنفسه في كتابه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من الأسماء والصفات: إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل.
وكذلك توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية.
وكذلك توحيد الاتباع، والحكم بين الناس عند النزاع، بأن لا يحاكم إلا إلى الكتاب والسنة، ولا يحكم إلا بهما.(1/38)
وهذا هو مضمون الشهادتين اللتين هما أساس الملة، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، بأن لا يعبد إلا الله، ولا يعبد إلا بما شرعه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن لا يحكم عند النزاع إلا ما جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، هذا هو الحقيق بأن يهتم به، وتعقد المجالس والمجتمعات لتحقيقه وتطبيقه. انتهى المراد من تلك الرسالة.
الخامس: كان الشيخ رحمه الله رئيسًا للمعهد الإسلامي في نيجيريا، وكان هو المشرف على نشر الدعوة في إفريقيا.
السادس: كانت المراكز الإسلامية في أوروبا ترسل إليه بمشاكلها، وهو يتابع الأنشطة فمما جاء في ذلك مما ضمته (فتاوى الشيخ) قال الشيخ رحمه الله :
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
أما بعد: فقد اتصل بي الحاج السيد جواد مقدس رئيس جمعية مسلمي بريستول بانجلترا، ومعه كتاب من سكرتير الجمعية يعرف فيه بالسيد جواد المذكور وقد شرح لي نشاط الجمعية المذكورة في الدعوة الإسلامية، وطلب مني إعطاءه بعض الكتب، وقد أعطيناه بعض الكتب الإسلامية والسلفية.
كما طلب أيضًا الإذن له بتعليم القرآن، ونشر العلم في تلك الربوع وأذنا له في ذلك أيضًا، سائلاً الله لي وله التوفيق والسداد. ( التوقيع ) مفتي المملكة العربية السعودية.
السابع: إنشاء مؤسسة صحفية تقوم بواجب الدعوة، وقد أصدر الشيخ رحمه الله كتابًا مؤرخًا في 23/7/1384هـ جاء فيه-يعني في سبب إنشاء المؤسسة الصحفية الموجودة الآن-:
نظرًا لحالة المسلمين الحاضرة، وحاجة الأمة إلى الدعوة الإسلامية فقد قمنا بتأسيس مؤسسة للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، لتأخذ بأيدي الشباب المسلم عن الوقوع في شراك المبادئ الهدامة والأفكار الضالة المسمومة، ولتبين للناس محاسن الإسلام، وصلاحيته لمعالجة جميع المشاكل البشرية في كل زمان ومكان.(1/39)
ولما كانت الصحافة لها أثرها الكبير في عصرنا الحاضر، فقد تقرر أن يصدر عن هذه المؤسسة الصحفية صحيفة يومية تصدر أسبوعيًا مؤقتًا، ومجلة شهرية علاوة على ما نؤمله في المستقبل القريب إن شاء الله من قيام هذه المؤسسة بإرسال الدعاة إلى الله في أنحاء العالم.
ولما كان وجود أصحاب السماحة والفضيلة أعضاء المجلس التأسيسي بمكة فرصة نادرة بالنسبة للدعوة الإسلامية أحببت أن أخبرهم عن هذه المؤسسة وأهدافها، راجيًا منهم مساعدتها بإرسال المقالات النافعة والآراء السديدة نحو هذه المؤسسة.
وسوف يصدر العدد الأول من الصحيفة قريبًا بإذن الله.
كان الشيخ يروم أن تكون صحيفة يومية إسلامية في هذه البلاد؛ ولكن كانت كما ذكر أسبوعية مؤقتا، وهي التي استمر عليها الأمر إلى وقتنا الحاضر، ثم غير من كونها صحيفة أسبوعية غلى مجلة أسبوعية، فقد كان الشيخ رحمه الله في دعوته إلى الله متبعًا أصول دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من تأصيل التوحيد في النفوس، والنهي عن الشرك، والحث على الالتزام بالسنة، ونبذ البدع، والدعوة إلى تحكيم الشريعة الإسلامية في جميع الشؤون، وإلى تربية النفوس وتزكيتها بالعمل الصالح والاتباع لسلف الأمة، وكان ديدنه في ذلك ديدن سلف هذه الأمة وأئمة الإسلام العظام، ولم يكن مبتدعا في الدعوة، ولم يأت إلى هذه البلاد بأمور ليس عليه علماء هذه البلاد، وليست مما ورثه أئمة هذه الدعوة لهذه البلاد، إذ إنما تصلح هذه البلاد؛ بل إنما يصلح المسلمون جميعا في الأخذ بالدعوة السلفية الصحيحة إذا فقهوا ذلك وعرفوا معالمه وحدوده.
ثناء العلماء والأدباء والمثقفين عليه(1/40)
فقد كان الشيخ المفتي رحمه الله مجمعًا على الثناء عليه -فيما أعلم- وائتلفت القلوب على محبته، وأذكر هنا بعض ما وقفت عليه من ثناء العلماء عليه مما لا أعلمه قد نُشِر من قبل -يعني هناك أشياء قد نشرت في الكتب وفي تراجم الشيخ، لكن أذكر أشياء لم تنشر من قبل هذا المقام-:
1 – قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله في رسالة له خاصة في ترجمة موجزة منه للشيخ رحمه الله، قال:
لقد أكرمني الله سبحانه وتفضل علي -وله الحمد والمنة- بأن كنت من أخص تلاميذ شيخنا المذكور ولازمته نحو عشر سنين من عام 1347هـ إلى عام 1357هـ، ثم تعينت في القضاء بعد ذلك، ولكني لم أنقطع عن الاتصال به وسؤاله عن كل ما يشكل، والاستفادة من علومه وتوجيهاته إلى أن توفي رحمه الله.
وقد حضرت له مواقف مشرّفة، وشاهدت منه أعمالاً موفَّقة في نفع المسلمين والغيرة على الإسلام والرد على خصومه أجزل الله له المثوبة.
وكان يوصي الطلبة كثيرًا بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وكان واسع العلم كثير الخوف من الله سبحانه وتعالى، دقيق الفهم، ومناقبه وفضائله كثيرة جدًّا. انتهى كلام الشيخ عبد العزيز بن باز.
2 – وقال الشيخ العلامة ذو الفنون محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في رسالة خاصة ترجم فيها للشيخ محمد بن إبراهيم قال فيه الشيخ الشنقيطي:
عرفنا فيه وفور العلم ووفور العقل وتمام الحكمة والصبر المنقطع النظير، فهو رحمه الله فيما أعتقد وأجزم به – وإن كنت لا أزكي على الله أحدًا – من نوادر الرجال الذين عرفناهم علمًا وحلمًا وعقلاً وحكمة، فنرجو الله أن يتقبل منه صالح عمله، وأن يجزيه كل خير، ويُعلي درجته في الآخرة كما أعلاها في الدنيا ?وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً?.. انتهى كلامه.
3 – وقال الشيخ سعدي ياسين العلامة الداعية المعروف رحمه الله:(1/41)
أما سماحة مفتينا الفقيد تغمده الله برحمته فقد سلك مسلك أئمتنا الأعلام من علماء السلف فكنت وأنا أسمع فتواه تلك كأني أستمع إلى سفيان بن عيينة أو ابن علية أو ابن أبي ذئب.
كان رحمه الله متين الحفظ مستحضر الآيات لا يكاد يشتبه عليه شيء من ذلك، ولقد رأيته عن كثب بعبادته وأذكاره في ليله ونهاره، وحرصه على حضور الجمعة والجماعة وإخباته قبل الفجر وبعده مما حببه إلي وأكبره في نظري.. إلى آخره.
4 – وقد أيضا تكلم عنه في رسالة خاصة العلامة الدكتور الداعية السلفي المعروف تقي الدين الهلالي رحمه الله بقوله في مقدمة ترجمته له في تلك الرسالة الخاصة قال عنه:
الإمام العلامة بقية السلف وعمدة الخلف ناصر السنة الأستاذ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ..
وبالمناسبة الشيخ تقي الدين الهلالي قرأ على الشيخ كتاب التوحيد في مكة فيعد من تلامذة الشيخ الذين قرؤوا عليه التوحيد، والشيخ رحمه الله الشيخ محمد بن إبراهيم قرأ على الشيخ تقي الدين الهلالي البلاغة لما كان في مكة، فكان الشيخ تقي الدين الهلالي يقرأ على الشيخ أولا التوحيد ويشرح الشيخ محمد بن إبراهيم للشيخ تقي الدين الهلالي ذلك في نحو الأربعينات أو أوائل الخمسينات الهجرية بعد الثلاثمائة وألف، وبعد ذلك يقرأ الشيخ حفظا شيئا من البلاغة -متن في البلاغة لا أستحضره الآن- ويشرحه الشيخ تقي الدين الهلال.
أما:
وفاة الشيخ رحمه الله تعالى
فتوفي رحمه الله عام 1389هـ، وفي أوائل ذلك العام أو في أواخر الذي قبله بدأ بالشيخ رحمه الله مرضٌ عضال كفر الله به من خطاياه، فسافر للاستشفاء إلى (لندن)، ولم ينتفع بالعلاج هناك، وكانت مدته هناك قصيرة، وحدثني بعض مرافقيه أنه في آخر أيامه في المستشفى قبل رجوعه إلى (الرياض) كره الطعام، فقدم له كأس لبن فطعمه ثم تركه فقال له من أعطاه الكأس: إنه زين وطيب، فقال الشيخ رحمه الله: نعم، صحيح، ولكن ليس بزين للميت.(1/42)
رجع إلى الرياض فلازم الفراش ولسانه يلهج بذكر الله والثناء عليه، لا يفتر عن ذلك حتى تم أجله وانتقلت روحه وفارقت بدنَه في صبيحة يوم الأربعاء قرابة الساعة الثامنة زوالي من يوم 24 رمضان سنة 1389هـ.
وكان المصاب به عظيمًا، هوى له أحد وانهد ثكلان، وصلّى عليه ظهر ذلك اليوم أمم من الخلق لا يحصيهم محصٍ، كان إمام المسلمين في الصلاة عليه تلميذه وخاصته سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
تسامع الناس بالخبر، تصدعت الأفئدة، ونُكِّست الأذقان، فكم من دمعة ترقرقت، وكم من حزن قضى على أصحابه، وكم وكم دام بالناس من الحزن، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون.
فلما سِير بجنازته تذكر الناس بعد ذلك جنازة الإمام أحمد بن حنبل أو تذكروا جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية من ذوي الجنائز المشهودة المعروفة في التاريخ، فلا تحصى الألسنة المترحمة عليه إذ ذاك، كيف لا، وما من أحد إلا وهو شاهد بفضله شاهد بما قدمه للناس عمره كله الذي زاد عن 70 من السنين والنبي صَلَّى الله عليه وسلم يقول «أنتم شهداء الله في أرضه».
تتابع ذوو الأقلام يرثون إمامَ وقته، فكم من عالم نثر رثاءه، وكم من عالم نظم رثاءه، وكم من مثقف كتب، وكم من عاقل سطر، والعجز عن وصف المشاعر سمة الجميع، فجزاهم الله خيرًا عنه ورفع الله درجات الشيخ محمد بن إبراهيم أجزل له المثوبة وألحقه بالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وأعقبه في ذريته وذريتهم خيرا.
هذا مقام عجل كما ترى وأحداث الشيخ ومدارسه المختلفة كثيرة كثيرة لا تحصى؛ ولكن هذه عجالة.
أسأل الله جل وعلا أن يرحمه وأن يرفع درجته في عليين وأن يغفر لنا وله.
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري(1/43)