وفي رحلته العلمية ، كانت عناية الفائقة بتربية تلاميذه على العقيدة السلفية ، ونبذ البدع والخرافات و الأخذ بيدهم إلي هدى الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة ، فاحتضن نخبة متميزة وتعهدها منذ الطفولة بالرعاية ، واصطحبها معه حتى نمت وشبت عن الطوق ونهجت نهجه ، ولعلنى كنت على رأس هذه النخبة وأحب تلاميذه إليه ولا أزكى على الله أحداً وأخذ يجول في البلاد المتعددة لأداء رسالته وحيث كانت معظم المساجد لا تخلو من البدع ، ويجهل عامة الناس مسائل العقيدة الصحيحة ، فقد ركز - عفر الله له - على الجوانب العقدية والعودة إلي منابع أصولها الصافية ، والتمسك بالسنة الصحيحة ، وما كان عليه أمر المسلمين في القرون المشهود لها بالخير ، وإذا تعذر عليه التغيير ، سعى إلي إقامة مسجد خاص يقوم عليه من هداهم الله ويتخذون منه منطلقاًُ للدعوة وله في هذا مواقف شتى .
ومن القرية التى تعهدنى بها منذ الطفولة انتقلت معه طالباً في معهد شبين الكوم الدينى ، أتلقي من فيض علمه على مقعد الدرس وأزوره في بيته فيختار ما يشاء من الكتب لأقرأ عليه بعض الموضوعات التي يريدها ، ويقف عند كل فقرة شارحاً ومبيناً .
تولى رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية في فترة إقامته بالإسكندرية ، ثم اختير رئيساً عاماً للجماعة في فترة لاحقة ولم يكن يتعصب لجماعة بعينها.
وفي القرية الآنفة الذكر ( شنشور) وفي قرى ومدن أخرى ، كانت الجماعات الإسلامية العاملة في مجال الدعوة تعمل متعاونة كأنها جماعة واحدة بتوفيق الله تعالى وما كان لتوجيه هذا العالم المفضال من أثر.
انتقل الشيخ من مصر سنة ( 1368 هـ ) للعمل بالمعارف السعودية فدرس في عنترة وفي دار التوحيد بالطائف ، وهي نواة التعليم الديني في المملكة العربية السعودية .(3/159)
وحين عهد الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - يرحمه الله - إلي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بإنشاء الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية سنة( 1371 هـ ) وقه اختيار سماحته على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ليسهم في ذلك بما عرف عنه من علم وثاقب رأي وقربه إليه وجعله موضع مشورته.
وما لبث الأمر طويلاً حتى طلبت بأمر خاص أنا والأستاذ الهراس سنة ( 1372 هـ ) للتدريس في هذه المؤسسة العلمية التي بارك الله فيها ، وآتت أكلها الطيب - ولا تزال بحمد اله - باسم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
وعندما توفرت الدواعي لإنشاء دراسات عليا ورفع مستوى القضاء أنشئ المعهد العالى للقضاء سنة ( 1385هـ) وتولى الفقيد غفر - الله له - إدارة المعهد - ووضع مع لجنة متخصصة مناهجه ، وقام بالتدريس سفيه ، وأشرف على رسائل طلابه.
وفي سنة 1391 هـ انتقل إلي إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، وصار عضواً في هيئة كبار العلماء ونائباً لسماحة والدنا وشيخنا عبد العزيز بن باز في رئاسة اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
وكان - رحمة الله - عضواً في اللجنة التى وضعت مناهج الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة كما كنت عضواً فيها وسهرنا سوياً الليالي المتتابعة لإنجاز هذا العمل.
أشرف وشارك في مناقشة عدد كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه ، وتخرج علي يديه أجيال من طلبة العلم الذين يكنون له التقدير والاحترام ، ويعترفون بماله من تفوق في الحياة العلمية.
تميز الفقيد بتأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها ، وتحرير مواطن الخلاف فيها ، والترجيح السديد بين الآراء المعتمدة ، ولم يكن يميل إلي تأليف الكتب مع غزارة علمه وسعة اطلاعه ، ويفضل العلم تدريساً وبحثاً ، وقد أصدرت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء كثيراً من الأبحاث التى يرجع إليها طلبة العلم وينهلون من معينها العذب.(3/160)
له من المؤلفات : " مذكرة في التوحيد " وتحقيق وتعليق على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدى ، وتعليق على الجزء المقرر في " التفسير من الجلالين " لطلاب المعاهد العلمية . وقد عاش الفقيد متقشفاً زاهداً بعيداً عن المظاهر العامة بمنأى عن أضواء وسائل الإعلام.
بقي أن نضيف أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي بقي عضواً في هيئة كبار العلماء حتى أعفى لحالته الصحية التى فرضها كبر سنة نحو عامين ، أما اللجنة الدائمة للإفتاء فلم يزل يشارك فيها ونائباً لرئيسها حتى وفاته يرحمه الله ، بل لقد كان يباشر عمله مفتياً ومجيباً عن مسائل العامة وطلبة العلم في مكتبه بإدارة البحوث العلمية والإفتاء ، مدفوعاً بالعربة لصعوبة المشي عليه.
وكتبه
مناع بن خليل القطان
ذكريات عن الشيخ العفيفي
فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية من علماء الأزهر الشريف قديماً أدرك الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رشا ونحوهما ، وكانت دراسته في العلوم الشرعية كالحديث واللغة والتفسير و الأحكام ، حتى تفوق على زملائه وبعض مشايخه ، كان من زملائه الشيخ عبد الله بن يابس الذي أصله من بلاد القويعية ، وقد كان بينهما من المحبة والصحبة وقوة الأخوة ما لا يوجد مثله إلا نادراً وكان زواجهما متقارباً في مصر من زوجين صالحتين كالأختين وقد استضاف الشيخ عبد الله عند مجيئه إلي مصر لأول مرة واستنزاره الشيخ عبد الله إلي بلاده ونال هناك حفاوة وإكراماً من قبيلة الشيخ عبد الله ، ولم يزالوا يودون الشيخ عبد الرزاق ويتصلون به حتى توفى رحمة الله وأما زملاءه المصريون كثير.
قدم إلي المملكة قبل عام 1370 هـ ودرس في الطائف في دار التوحيد وقدم بعد ذلك إلي الرياض واستقر بها.(3/161)
أما علمه فهو بحر لا ساحل له في أغلب العلوم التى يتناولها بالبحث والشرح ، فلقد عرفته لأول مرة عام 1374 هـ وكان يزور بعض المشايخ كالشيخ عبد العزيز بن محمد الشثري ونقرأ عليه في المجلس حديثا مويعا بحيث يستغرق شرح الحديث الواحد أكثر الجلسة ,وعرفته في أحد الأعوام يفسر سورة سبأ في مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- فكان يبقى في تفسير الأيتين نحو ساعة أو أكثر ويستنبط من الآيات فوائد وأحكاما واقوال وترجيحات يظهر منها عظمة القران وما فيه من الاحتمالات والفوائد ,مما يدل علي توسع الشيخ وسعة اطلاعه وكثرة معلوماته. k أنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننن(3/162)
أما أخلاقه فقد عرف منه لين الجانب ,وطلاقه الوجه, وحسن الملاطفة ,فهو أمام الزوار والتلاميذ والزملاء دائما يظهر الفرح والسرور والانبساط في الكلام والإجابة على الأسئلة بدون غضب أو ملل أو تبرم أورد شديد للسائل ,فجليسه يلقى عنه أنواعا من الفوائد ولطائف المعارف وغرائب المسائل ,كما أنه يكرم من زاره ويقدم ما حضر بدون تكلف , ويجود بما أعطاه أو يرد من سأله ,وهكذا دأبه مع العلماء وطلبة العلم ,و الأصحاب والزملاء الأقدمين ,فهو جواد كريم بما اعتاده ,ومجيب لمن دعاه بدون تكلف أو تشدد. أما تدريسه فقد أفنى حياته في وظيفة التدريس في مصر ثم في المملكة في دار التوحيد بالطائف ,ثم في معهد الرياض العلمى ,ثم في كلية الشريعة وكلية اللغة العربية بالرياض ,ثم في معهد القضاء العالي مديرا ومدرسا حتى أحيل للتعاقد ,ثم عمل متعاقدا في رئاسة إدارات البحوث العملية والإفتاء بقية حياته أحيل للتعاقد ,ثم عمل متعاقدا في رئاسسة إدارات البحوث العلمية والافتاء بقية حياته حتى وافاه الاجل وهو على رأس العمل في هذه الرئاسة ,وقد تتلمذ عليه أكابر العلماء في هذه المملكة(3/163)
واعترفوا بفضل علمه وافتخروا بالانتماء إلي تعليمه في أغلب المراحل,كما انتفع الكثير بالفوائد التي تلقوها عنه في دروسه في المسجد وغيره.أما التأليف فلم يكن يرغب فيه ولا يحب الكتابة في أي فن من الفنون نل يرىهذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها فيكتفي بما كتبه وجمعه العلماء السابقون حيث أنهم تطرقوا إلي كل فن , وأوضحوا ما يحتاجه إلي توضيح فمن جاء بعدهم لا يستطيع أن يضيف إلي علومهم زيادة ,ولقد ضرب مثلا بإحضار مجموعة من التفاسير وقارن بينهم فأظهر أن الأخر عيال علي الأول ,وأن المتأخرين إنما توسعوا في الكلام بما لا فائدة فيه وكان ينهى عن الانشغال بكتب المعاصرين التي كتبوه في الأصول أو التفسير أو لأدب والفقه ونحو ذلك , حيث أنهم توسعوا في أخبار الأحاد التي قدمتها لنيل درجة الماجستير ,وعلي رسالة الدكتور عبد اله ابن عبد المحسن البحث ونحو ذلك ,مما يدل علي قدرته علي الكتابة لو أراد ذلك فهو من وأكرم مثواه وصلي الله علي محمد واله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد الرازق عفيفي العالم والمربي والمفتي بقلم :عثمان الصالح(3/164)
العلماء أنوار للعقول.. والعلماء هم المصلحون الذين بهم يصلح المجتمع بتوجيههم وإرشادهم .. والعلماء بهم يسعد الناس ويهتدي بهم الضال ... ولهذا سار علماؤنا المصلحون الذين كانوا للدين ناشرين .. وللجاهلين هادين .وقد عرفت الكثيرين حسب ما مر علي من سنين ,منهم العالم المدرس الذي به اعتدلت الأفكار وصلحت المفاهيم العالم الذي له مقوماته العلمية و الأدبية والأخلاقية .وممن عرفت فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي ..المربي والمدرس والعالم والمفتي والذي أمضي حياته الغالية في هذه البلد مدرسا وعالما ومفتيا ,و كان أول ما عرفته حينما تعين سماحة الشيخ محمد بن عبد العزيز المانع مديرا للمعارف وتأست كثير من المدارس وأصبح ينتقي للمدارس أساتذة فضلاء من سائر البلاد العربية ليسير بالمدارس إلي المستوى الاسمي والأمثل علي يدي مدرسين في المدارس التسع التي تإسست أول ما تأسست في أول مدرسة في عنيزة ,ولما كانت المواصلات في ذلك الحين ليست علي المستوي المطلوب والمدن تخلو من المواصلات الداخلية على الوجه المطلوبة لنشاء الدولة في أمرها ونهضتها وليس فيها فنادق والأمكنة ينزل فيها المارون من وإلي الرياض وغيرها وكنت يومها عند ولي العهد الملك سعود (فيما بعد) في حدود ال1362ه حسب التقدير .وقد أبرق إلي فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي المدرس في عنيزة آمل أن تلاحظه في سكنه بالرياض وان تتولى ترحيله إلى عنيزة وأركبته مع أناس أثق فيهم يقدرون طالب العلم ,وأبرق لآخي وأستاذتي (صالح الناصر الصالح)رجل التعليم والتربية بذلك ومرت الأيام سراعا ..وزرته في عنيزة في منزله .. والحقيقة أن مثل هذا الرجل جدير بأن يكون في مثل ما هو فيه من فضل وكنت معه في حله وترحاله .. ثم صار في مدينة الرياض معلما في أرقي مداسها ومعاهدها وكلياتها واصبح إماما في مسجد الجامع حي -الخزان- إماما وخطيبا فكان في وعظة بعد الصلاة وأحاديثه قبيل صلاة العشاء الأخير ثم أحاديثه بعد(3/165)
العصر مقتدى لكل الحي يفد إليه الغريب والبعيد من الأحياء من المحلات بعيدة للاستفادة من بحر علمه الوافر وإرشاده المحبوب في الفقه والعبادة وجميع أركان الأسلام.. وكنت علي صلة به يزورني في بيتي ويجلس مفيدا ومعلما وكأنه في سماحة الوالد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله مفتي الديار السعودية والشيخ عبد العزيز بن باز مكانته العلمية فكان رحمه الله العالم
المطلع الذي يحدث الناس بما يهمهم ويفيدهم ويصلح أمورهم في دينهم ,وكان يتجنب -وهذه من حسناته -كل ما هو فوق مستوي معرفتهم وإدراكهم ويتجنب تعدد الأقوال والآراء ما يعمله في جميع أدواره والتي أفنى عمره في هذا البلد ووزرته في المستشفي أخر عمره مرات متعددة في راحته وخدمته وكان رحمه الله كريما جوادا لا يبقى من المال باقيا تبرع به لطلاب العلم ,ولما توفي -رحمه الله- تبعه في جنازته الألاف من الناس .. الأمراء والعلماء وطلاب العلم .. وكان أحد العظماء من العلماء فلقد ترك أثرا بينا وذاكرا حسنا .. رحمه الله رحمة واسعة وغفر له وجزاه اله عن المسلمين خير الجزاء.
كلمة حق
الحمد لله رب العالمين ,والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين ..وبعد :
فقد وفقنى الله وله الفضل والمنة ,أن تتلمذت في معهد الرياض العلمي ثم في كلية الشريعة في لرياض 'وذلك في الفترة من عام 1372ه إلى عام 1379ه على علماء أجله ,ومشايخ فضلاء استفدت من علمهم وتوجيههم ,فجزاهم الله عني وعن غيري من الطلبة خير الجزاء ,وأجزال لهم المثوبة على نشرهم العلم ,وبذلهم النصح ,والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.(3/166)
وأن من هؤلأء العلماء والمشايخ الكرام ,فضلية الشيخ :عبد الرازق عفيفي -رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته . فقد درست عليه في النحو والحديث والتوحيد والأصول ,وكان عالما الاطلاع ,وفصيح العبارة ,قوي الشكسيمة ,عزيز النفس ذا هيبة ووقار ,وموضع التقدير والاحترام من طلابه ,وما رأيت في المصريين مثله .ومن جميل علمه لأفهام الطلبة الكتاب المقر دراسته ,أنه يضع أسئلة شاملة مستوعبة لما جاء في الكتاب فيلزم الطالب نفسه في معرفة الأجابة عليها .
فتكون النتيجة حصر الطالب لفقرات مباحث الكتاب وإحاطته بكل ما اشتمل عليه ,وقد اتبعت هذه الطريقة في تدريس بعض الكتب المقررة ,فاستفدت وأفدت والحمد لله أولا وأخرا.
لمحات من حياة الشيخ عبد الرازق عفيفي
فضيلة الدكتور صالح بن عبد الرحمن الأطرم عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية
صفات الشيخ عبد الرازق عفيفي -رحمه الله-صفات العلماء الأفذاذ
الذين مضوا وسجل التاريخ لهم ما يبقى من المحاسن إلي يوم القيامة , والذين شملهم قول الرسول (ص):"لا تزال طائفة متن امتي علي الحق منصورة"
لأنهم ورثة الأنبياء,الأنبياء لم يورثوا دينارا ولادرهما ,وانما ورثوا العلم ,تعليما وتدوينا.(3/167)
والشيخ عبد الرازق عفيفي -رحمه الله- جمع العلم والعقل فيا سعادة من جمع العلم والعقل ,إذ لا يستغني أحدهما عن الآخر ,فالعقل يزن به ما يقول ويفعل ويتأمل في العواقب ,والعلم الشرعي يعرف به أحكام التصرفات في الأقوال والأفعال .والشيخ عبد الرازق عفيفي نفع الله في مستويات الدراسة النظامية منذ أن بدأت النهضة العلمية النظامية في الملكة العربية السعودية,مع أنه شارك في حلق التدريس في مسجد سماحة الشيخ -محمد بن إبراهيم أل الشيخ -رحمه الله-أول ما قدم إلى الرياض في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة عبد الرازق بحبه للنفع وبذله للنصح ,فهو المستشار الناصح لكل من استشاره من مسؤول أومن سائر الأفراد ,وكان ثاقب النظر عارفا بطلابه واتجاهاتهم ,من كان حريصا على تأهيل من يتولون المسئوليات من قضاء وتدريس وأعمال إدارية.
وكان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله -يعتمد رأيه في المناهج وفي الكتب المقررة .ومما أستحضره من نصحه لما اقترح من اقتراح اختبار نصف العام ,جاءت مشكلة المكفوفين فحل المشكلة وهلي قوله إنه أرفق بكم ,فليس كل واحد سيجد كاتبا وبعد خروج النتيجة حصل الرضا فأدرك المكفوفين تصح الشيخ .
ومن نصحه لي شخصيا لما درست السنة الأولى في المعهد العالي للقضاء لم أدخل الاختبار ,فغلظ علي اللوم فاعتذرت بعدم المذاكرة فقال لي : ادخل الاختبار ,وأجب بما عندك ,فلم أفعل ,ولما بدأت الدراسة في العام الثاني بالمعهد العالي للقضاء أعاد علي النصح بمواصلة الدراسة فأبديت الرغبة ,فاستشرت الشيخ عبد الرازق عمن أذاكر معه ,وذكرت له شخصا فقال :إعزم علي مواصلة الدراسة وأنا أعرف من يناسبك ويتناسب في المذكرة ,فحقق ما قال ,غفر الله له واجزاه الله عني والإسلام والمسلمين خيرا ,وكان نصحه مع كل أحد ولكنى ذكرت نموذجا مما يتصل بي.
تدريسه:(3/168)
درسنا الشيخ عبد الرازق في معهد الرياض العلمي ,وفي كلية الشريعة ,وفي المعهد العالي للقضاء ,في التفسير وفي توحيد العبارة وفي العقيدة وفي الفقه وفي النحو وفي أصول الفقه فما درس مادة أبدع فيه.
منهجيته :
أما منهجية فتمتاز بوضوح الكلام وقلته ، وتكييف المادة ، بحيث تصل إلي الأذهان من أول وهلة ، بديع في تفكيك عبارة المؤلفين باختلاف المواد وإذا استغربنا ما سمعنا من المعانى التى لا ندركها بمجرد قراءة الكتاب وسألناه من أين هذا ؟ قالى : هذا من كتابكم لم آت بغريب .
…وكانت دراسته في الفقه على مذهب مالك ، ويدرسنا في " المقنع" على مذهب أحمد بكل سهولة ، وكان للخلاف في الفقه عندنا روعة واستعظام ، حتى سألناه من أين يأتي هذا الكلام ؟ فقال : ما قرأنت غير كتابكم وهو " المقنع" ، ثم أخذ يشرح لنا فقال : التدريس فهم الكتاب وأهدافه ومنهجيته وأصول مذهبه ، وضرب لنا مثلاً في القصاص من السكران عند قول المؤلف :" في القصاص من السكران روايتان إذا تعمد السكر ، فعند من قال فيه القصاص لاحظ أنه تعمد إزالة عقله ، ومن قال أنه ليس فيه قصاص : ألحقه بمن زال عقله بعذر ومن هنا نشأ الخلاف ، ثم قال - رحمة الله : هكذا كل خلاف يكون له مأخذان من الأدلة ، والتنفيذ يكون حسب ما مشت عليه دراسة الفقه في البلد من المذاهب الفقهية.
…منهجه في العقيدة :
…كانت عقيدة الشيخ عبد الرزاق في أسماء الله وصفاته وتوحيد العبادة عقيدة السلف الصالح فيفسر " لا إله إلا الله " بلا معبود بحق إلا الله ، وهذا التفسير هو الحق ، وفي الأسماء والصفات طريقة السلف الصالح ، فهم يصفون الله بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تمثيل على حد قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).(3/169)
…وكان كثيراً ما ينبهنا على دقائق ولطائف ، ومن ذلك أن أحد مدرسى التفسير أثني على تفسير الفخر الرازي ، وكان عند أحد الكتبيين في الرياض منه نسختان فسارعت بشراء واحدة وقرأت فيه ثم ذهبت إلي الشيخ عبد الرزاق وأثنيت علي ذلك التفسير وقلت له : لكنى لم أسمع مشايخنا يذكرونه أو يقرأونه على الناس فقال لى بغضب : ألا تدرى لماذا : ثم قال : مشايخك مشايخ عقيدة سلفية ، وتفسير الفخر الرازي فيه شوك لا يصلح يقرأ على العامة ، لا يصلح للمبتدئين في التعليم ، فاستفدت من هذه اللفتة من الشيخ اختلاف المنهجيات وبيان المراد بها .
…ويعرف عن الشيخ ما هو أكثر من ذلك ، غفر الله له ، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وكتبه
د. صالح بن عبد الرحمن الأطرم
من نوادر العلماء
الشيخ عبد\ الرزاق عفيفي - رحمة الله
1323 هـ - 1415 هـ
بقلم د. محمد بن سعد الشويعر
مولده ونشأته :
…يعتبر الشيخ عبد الرزاق من نوادر العلماء في كل زمان : سمتاً ووقاراً وإخلاصاً وحباص للبذل من علمه وجاهه وماله00 وقد ولد فضيلة الشيخ - الذي يعتبره أبناؤه ومحبوه ، شيخ الشيوخ ، ومدرس القضاة والعلماء بالمملكة ، لما يقرب من نصف قرن - في قرية شنشور من محافظة المنوفية ، شمال القاهرة بمصر 1323 هـ الموافقة 1905 م ، واسمه بالكامل : عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية النوبي.
…تربي في كنف والده ، ثم انتظم في سلك التعليم ، بعد ما نمى عوده ، وتفتحت ومواهبه ، فال به طموحه وشدة رغبته إلي الأزهر ،لينهل من العلم ، وليزيد حصيلته بالسؤال والقراءة ، حيث كان يركز في طلابه هذا الأسلوب ، باعتباره من أساليب رسوخ العلم ، وزيادة المعرفة وكان من زملائه الذين أنس بهم ، وتوثقت صلته معهم ، ما عدا والأخير منهم هم الشيخ عبد العزيز بن يابس ، والشيخ عبد العزيز بن راشد ، والشيخ عبد الله القصيمى ، حيث لم تتوطد صلته بالثالث لاختلافهما في المنهج والأسلوب.(3/170)
…كان هؤلاء الثلاثة هم أول بعثة سعودية تنتظم في الأزهر ، لطلب العلم ، بعد أن درس بعشهم الحديث في الهند ، على أعلام إجلاء هناك ، اشتهروا برواية الحديث وإجازته .
…تحصل الشيح عبد الرزاق - رحمة الله - على الشهادة العالمية الأولى - الماجستير - وتسمي " العالمية " عام 1950 م ، وبعدها بخمسة أعوام تحصل على درجة التخصص " الدكتوراة " 00 وكان ذلك في بداية فتح المجال لهذا التقليد العلمي في المؤهلات ، إذا كان الأزهر ، قبل ذلك يقتصر على المؤهل الجامعى وهو شهادة " العالمية " . أي أن الطالب يعتبر بهذا المستوى قد وصل إلي الدرجة التي تخوله لحمل العلم ونشره.
كما كان الشيخ عبد الرزاق ، ممن يزهد في الشهادات الدراسية ، والتشدق بذكرها ، وإنما يراها وسيلة لحمل العلم ، وثقل الأمانة التى يجب أن تؤدي ، ولم نسمعه يوماً يتحدث عن المؤهل الذي تحصل عليه.
نشأ الشيخ محباً للعقيدة السلفية ، مبغضاً للملل والنحل ، التى أفسدت على المسلمين سلامة العقيدة ، وصحة العبادة ، فكان منهم من يتعصب لشيخه ومريده ، ويخالف كتاب الله ، وسنة رسوله (ص) وكان منهم من يتابع اقوالاً استحدثت في الدين ، بغير ما أنزل الله ، ويترك ما وثقة العلماء بالدليل ، وما تابعه المهتمون بسلامة العقيدة - باعتبار العقيدة هي المحور الذي تدور عليه الأعمال وسلامتها - وبالجرح والتعديل ، والتوثيق والاتفاق.(3/171)
أدرك الشيخ الخلل الذي يسير عليه جم غفير من الناس في كل مكان ، ولاحظ آثاره في بلده ، قصور الأزهر - ذلك الوقت - في تصفية التوحيد من الشوائب ، حيث تدرس فيه الفلسفة الإسلامية ، ولا تدرس العقيدة ، ويدرس المنطق والجدل ، ولا يهتم بالرد عليهم وبيان مواطن النقص عندهم . فوقع في يده بخفية كتاب : " الرد على المنطقيين " لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فأعجب به ، ووجد فيه ضالته ولكن كتب الشيخ - ذلك الوقت - نادرة في مصر ، فصار يبحث عنها ، ويخفيها عن زملائه ومدرسيه ، لأن الناس هناك حكموا على ابن تيمية وفق آراء خصومه ولم يقرأوا كتبه ، فكان هذا بداية لإيجاد أنصار السنة المحمدية بمصر ، حيث كان الشيخ عبد الرزاق من المؤسسين لها بعد التشاور مع بعض العلماء الذين صاروا معه في التفكير والاعتقاد ... لتكون باباً للدعوة إلي الله باللسان والقلم.
لقد كان مما حفظته عنه - رحمة الله - ويكرره دائماً عندما كنت أواصل الدراسة في الأزهر : كيف ترى حال الناس هناك في أمور الدين :. فأقول الأمور تبشر بخير ، إن شعب مصر متدين بطبعه ، ورقيق يستجيب لمن يدعوه ، فلعل الله أن يكثر لهم دعاة الخير ، وأضرب لهم المثل ، بما عمله صلاح الدين الأيوبي بعدما قضي على الفاطميين ، حين استقدم مجموعة من علماء السنة، ليبثوها في الناس ، فتحول المصريون من التشيع الفاطمي إلي السنة بسرعة.
فقال لى رحمة الله : لقد كنت أخفى ما أحصل عليه من كتب ابن تيميه رحمة الله في كيس من الورق ، وأشد عليه كيساً آخر في القماش ، وأتابطة ، مخافة أن يعلم أحد أن هذا من كتب ابن تيميه ، فأنال عقاب العامة ، قبل الخاصة ، وما ينتج عن غضبهم 00 أما الآن فكتب ابن تيميه وتلاميذه وجميع كتب العقيدة منتشرة في مصر . وفي غالب البيوت ، ولعل الله يصحح عقائد الناس ، لأن العقيدة هي الأساس. ولذا كان رحمه الله كل اهتمامه في تصحيح العقيدة.
عمله :(3/172)
اشتغل في بلده بالتدريس والدعوة ن وكان حكيماً حليماً في دعوته ، بصيراً في علمهن وتعليمه ، ولما بدأت المملكة العربية السعودية تستجلب المدرسين لما فوق الابتدائي ، مع رغبة المسؤولين في تعميم العلم ، والتوسع في نشره ، كان الشيخ عبد الرزاق ، من أوائل وخيرة المصريين الذين وفدوا للتدريس ، حيث رشحه فضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع معتمد المعارف السعودية آنذاك مع زملائه الذين استقدمهم الملك عبد العزيز - رحمة الله - للعمل بالمملكة ، مثل الشيخ عبد الظاهر أبو السمح ، إمام الحرم المكى ، والشيخ عبد المهيمن أبو السمح غمام الحرم والمدرس بدار الحديث الخيرية بمكة ، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة 00 وغيرهم.
فقدم الشيخ للملكة عام 1368 هـ ، وعمل مدرساً بدار التوحيد بالطائف ، وكان الرعيل الأول من علماء المملكة المتخرجين من دار التوحيد ، وكلية الشريعة بمكة ، هم من تلاميذه ويدينون له بالفضل ، بحسن التدريس والتوجيه ، ومحض النصح 00
وفي عام 1370 هـ انتقل للرياض ، ليشارك في التدريس ،مع وضع الأسس التنظيمية للمعاهد العلمية التى كلف الملك عبد العزيز ، الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهم الله - بفتحها والإشراف عليها ، فكانت آثار الشيخ عبد الرزاق واضحة في المناهج ، واختيار الكتب ، والمدرسين ، ثم في تنظيم الامتحانات ، والشهادات الدراسية ، وإرشاد الطلاب ، وحسن توجيههم . إذ كان مرجعاً للجميع في بيته وفي عمله وفي المسجد المدرس يسترشد والطالب يسال عما خفى عليه. وكل منهم يصدر منه عن رأي مقنع ، وجواب سديد.
وبعد افتتاح معهد بريده العلمي كلف بالتدريس هناك ، ثم عاد للرياض مدرساً بالمعهد العلمى ، ثم كلية الشريعة 00(3/173)
ولما رأي العلماء الحاجة إلي دراسة متخصصة للقضاة ، في العلوم الشرعية ، ليزداد علمهم ، وتتمكن المعلومات التى ترفع من عطائهم في مجال القضاء ، كان للشيخ عبد الرزاق دور في تكوين أول دراسة عليا تابعة لكلية الشريعة بالرياض ، بل في المملكة الشرعية ، وأسندت للشيخ عبد الرزاق ، هو الشيخ عبد الرزاق ، والشيخ عبد الرزاق هو المعهد العالى 000
فمحض الطلاب نصحه ، ففتح أمامهم مجال البحث ، وطريقة الأخذ وترتيب الكتابة وتبويبها ، وكان معهم ، وكانوا يسائلونه ليلاً ونهاراً ، وكان لهم نعم الشيخ الدؤوب ، الصابر المحتسب ، والموجه الذي لا يكل ولا يمل ، في دقائق الأمور وجليلها.
…وبعدما أينعت الثمار ، وبلغ الشيخ السن النظامى ، تقاعد لأنه صار سعودياً بالتجنس فلا بد أن يطبق عليه النظام وأعلنت مصلحة التقاعد العامة اسمه في الصحف عدة مرات ، ضمن الذين لم يراجعوا لإكمال واستلام ما يتعلق برواتبهم التقاعدية.
وأذكر أنني سالته عن ذلك بعدما رأيت تكرار الإعلان له ولغيره فقال لى : إن في النفس منه شيء لأنني أخشي أخذ ما ليس لى ، وخدمتى بعدما نلت الجنسية قليلة ، فكان تركه ذلك تورعاً منه رحمة الله .
…وفي نفس العام سمعت أنه صدر أمر بتعيينه مفتياً بدار الإفتاء ، التى يرأسها ذلك الوقت معالي الشيخ : إبراهيم بن محمد آل الشيخ ...
…ولما تشكل مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة كان واحداً منهم ، لبروزه علمياً ، وسعة اطلاعه. وفهمت أنه دار في مجلس العلماء أن الملك فيصل رحمة الله ، لما بلغه تورع الشيخ عبد الرزاق عن أخذ معاش التقاعد ، قال : مثل الشيخ عبد الرزاق لا يحال على التقاعد ، فالناس في حاجة إلي علمه 00 فأمر بإعادته للعمل.(3/174)
استمر في عمله مفتياً ، ثم نائباً للمفتى العام في شئون الفتوى ، وقد أعطى المرتبه الممتازة قبل وفاته بثلاث سنوات ، وانتقل إلي رحمة الله ، وهو على رأس العمل ، كما كان طوال عمله في الإفتاء ، يجلس للناس في المكتب وفي البيت للفتوى والمشورة مشافهة وبواسطة الهاتف ، وفي الحج كل عام إلي أن أقعده المرض.
أخلاقه وصفاته :
جبل الله الشيخ عبد الرزاق على أخلاق كريمة ، وحب للمساعدة ، مع تواضع جم ، ونكران للذات ، ورغبة في لين الجانب والمساعدة.
…من يراه يظنه ضعيفاً مستضعفاً لأنه يقرب الناس إلي نفسه ، ويحرص على بذل جاهه ومساعدته لذوى الحاجات لكنه عندما يرى من أحد أمراً يمس بكيان الدين ، قولاً أو فعلاً أو كتابة ، أو يتراءى له إضرار بالعقيدة ، فإن وجهه يتمعر ، واثر التأثر يبرز على محياه ، حميه للدين ، ومحافظة على محارم الله من أن تنتهك .
أذكر أن تلميذاً كان عنده في أحد الفصول ، نبت منه كلمة حول تمجيد مذهب دخيل على الإسلام ، ضمن التيارات المعاصرة والأفكار الوافدة ، فقرعه بلطف ، وبعد الدرس استدعاه على انفراد وشرح له ما في ذلك المذهب والقائلين به من عيوب ، وما يجب عليه أن يسلكه في قراءاته وفكره ومحضه النصح ، لكنه لم يرفع أمره للإدارة مخافة الإضرار بالطالب ، فصلح ذلك الطالب فيما بعد واستقام أمره ، وهذه هي طريقته مع جميع طلابه ، بل ما أكثر ما يتجاهل ما لدى الطالب من فكر غير سليم ، ورأي غير ناضج ، حتى كأنه لم يسمع شيئاً ، ثم يتحين فرصة الالتقاء به على انفراد ، ويحادثه محادثة الزميل ، ثم يترقي إلي أسلوب الأب الشفيق بحالة ابنه.(3/175)
وهكذا في كل حالة من الحلات الظاهرة على الطالب ، باعتبار ذلك من علامات التزكية ، يحرص عليها بلطف إما بإشارة تغنى عن عبارة أو بمشورة يحملها آخر له ، أو بانتهاز اللقاء به في أي مكان لحثه على ما يحسن به أن يتخلق 00 وكل ذلك يترك أثراً عميقاً ، لأنها مشورة خارجة من القلب ، وبدون تشهير ، ولا يريد بها إلا الخير والصلاح 00
استفدت منه - رحمة الله - الشيء الكثير ، وطلابه منى فائدة ، ومما علق بذهني من أقواله عن الشباب الإسلامى ، وحماستهم بعد اليقظة ، وتعدد الداخلين في دين الله في كل مكان ، وما يأتي من أخبار ويسمع من كلام : يا بنى إنني أخشى على هؤلاء من تعجلهم ، فهم كمن يريد أن يبنى بيتاً من أعلاه دون الاهتمام بالأساس00 إن أساس المسلم عقيدته ، فيجب بناء العقيدة والحرص على تطبيقها لترسخ ، قبل الفكر والعمل 00 ثم ضرب لي مثلاً فقال : إن رسول الله (ص) جلس في مكة ثلاثة عشر عاماً يدعو الناس إلي كلمة التوحيد وتحقيق معناها والعمل بمقتضاها ، وهي أكثر من النصف لمدة مكثة في الدعوة ، ولما هاجر للمدينة ، وصار معه قوم مدركون لمقتضي : لا إله إلا الله محمد دينه. وهذا يدل على حرصه رحمه الله على العقيدة الصحيحة والتشبع بها عملاً ، لأنها إذا صلحت الأمور ، وإذا فسدت فسدت الأمور 00 كما يؤكد أهمية السمع والطاعة لولاة الأمور ، لأن أحوال الرعية لا تستقيم إلا بذلك ، ويضرب نماذج لذلك ن بكثير من البلاد التى فسدت الأحوال فيها ، بالخروج على ولاة الأمور.
…آثاره العلمية :(3/176)
…رغم غزارة علم الشيخ عبد الرزاق وسعة مداركه ، حتى أنه ليكاد يوصف بالمكتبة المتنقلة ، يشهد لذلك طلابه الذين درسوا عليه في المعهد العالى وأشرف على رسائلهم العلمية ، فإنه زاهد في التأليف ، قليل الكتابة ، وخاصة في العشرين سنة الأخيرة من عمره ، وعلى حد علمى ، لم يعرف له في التأليف إلا رسالة في التوحيد ، ومذكرات للطلاب في المواد المهمة أثناء تدريسه لهم وهى : العقيدة والتفسير ، والأصول 00000 هذا إلي جانب المقالات في العقيدة ، وهذه كانت تنشر له في مصر.
ومما وقع عليه نظرى من الكتب المطبوعة:
1. مذكرات في التوحيد
2. تحقيق كتاب إحكام الأحكام للآمدي.
3. جزء واحد من التفسير من الذاريات إلي الناس طبع بعد وفاته.
ولا شك أن مقالاته وردوده على المنحرفين في العقيدة ، ومذكراته التى أملاها على طلابه وفتاواه لو جمعت لكانت حصيلة علمية تبرهن للأجيال المقبلة ، عن مكانة هذا العالم الزاهد ، وعن أسلوبه في الدعوة إلي الله وأذكر أنني طلبت منه ، أن يكتب بحثاً في العقيدة لمجلة البحوث الإسلامية ، التى شرفت برئاسة تحريرها والتى تصدر عن هيئة كبار العلماء بالمملكة ، فامتنع وقال ك لم يترك لنا العلماء الأوائل مجالاً فقد كفونا وما يكتب الآن فهو نقولات عنهم ، وقد تكون ناقصة ، فيكتفي بالأكمل. وهذا من تواضعه رحمة الله وإلا فإنه إذا كتب يبرهن ويقنع ، وإذا حلل موضوعاً يستوفيه ويبسطه.
وفاته :
…في السنوات الأخيرة من عمره ، إنتابته أمراض عديدة ، ومع هذا لم يكن من الحريصين على التردد على الأطباء إلا عند الضرورة ، لأنه من المتوكلين على الله ، ويقول : إن هذا شيء قدره الله ، ولابد أن يحصل 0000(3/177)
…كما كان من الصابرين ، إذ فقد مجموعة من أبنائه فاحتسبهم عند الله ، وأذكر أن واحداً منهم قتل في الحرب مع إسرائيل عام 1973 م ، فجئت إليه في الزيارة المعتادة في بيته بعد مغرب كل يوم ، فعزيته ، ولم يرتح لذلك ، وبدأ الحديث كأنه لم يمت له أحد ، وعند الخروج في وداعه قبض على يدى وقال : يا بنى الشهيد لا يعزى فيه ، وأرجو أن يكون ابنى شهيداً . فأخذت ذلك منه درساً من الدروس العديدة التى استفدتها منه.
…وقد أجرى له عدة عمليات في المستشفي الجامعى بالرياض ، تكللت بالنجاح ، ولكن الروماتيزم الذي كان معه طويلاً أقعده عن الحركة ، فكان لا يأتي للعمل ، ولا يذهب للمسجد إلا في عربة متنقلة ، وكان هاجساً باطنياً نبهه إلي قرب أجله ، إذ أصر في حج عام 1414 هـ ، أن يكون من ضيوف الرحمن ، لعل الله أن يتقبل منه حجة الوداع هذه ، وقد من الله عليه بإكمال الحج بيسر وسهولة 00 وبعد عودته للرياض انتابته الأمراض المضنية ، فدخل المستشفي ، حتى وافاه الأجل المحتوم في يوم 25/3/1415 هـ فدفن في الرياض ، وشيعه إلي مثواه الأخير العلماء وطلاب العلم وعارفوا فضله ، في جموع غفيرة داعية له بالرحمة والمغفرة.
……………د. محمد بن سعد الشويعر
……المستشار بمكتب سماحة المفتى العام
للمملكة العربية السعودية
رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية
الرياض 21/8/1417 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبى بعده 00 أما بعد :
فقد طلب منى الأخ الأستاذ محمود لن عبد الرزاق عفيفي أن أكتب بعض ما أعرفه عن شيخنا عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - بحكم مجالستي له في سنواته الأخيرة.(3/178)
وقد كتب جمع من أهل العلم عنه رحمة الله تعالى ولا زال بعضهم يكتب عنه كتابة مطولة ، تتضمن ترجمته وصفاته رحمة الله تعالى بتوسع. وقد رأيت في هذه العجالة أن أكتب بعض ما يتعلق بصفاته وميزاته ، وأما التوسع في ترجمته وحياته العلمية فهذا الأمر قد كتب عنه بعض أهل العلم ولا زال غيرهم يكتب فيه وفقهم الله تعالى في مسعاهم ، فأقول وبالله التوفيق :
إن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله تعالى - يتميز بالقوة العلمية وبالذكاء البين وبسعة الإطلاع على علوم الشريعة سواء كان ذلك في علم العقائد ( عقيدة السلف الصالح ) ومعرفة أقوال الفرق الأخرى وشبهاتهم أو الفقه وأصول أو في علوم التفسير وغير ذلك من علوم الشريعة.
كان رحمة الله من كبار أهل العلم في هذا العصر وقد درس عليه كثير من أهل العلم ، وكان رحمه الله تعالى معروفاً بعلمه منذ بداية حياته العلمية فقد حدثنى الشيخ عبد القادر شيبة الحمد عنه - رحمة الله تعالى فقال : كنا ونحن ندرس بالأزهر كان عبد الرزاق عفيفي له صيت.
وقد تمييز - رحمة الله تعالى - بتوسعه في العلوم الشرعية وبتمسكه بالكتاب والسنة اعتقاداً وقولاً وعملاً تحسبه كذلك ولا نزكيه على الله.
وقد حدثنا - رحمة الله - أنه عندنا كان بالأزهر وكان مقرراً عليهم ط مختصر صحيح البخارى " كان يكتفي بالوقوف عند النصوص الشرعية وبالاستنباط منها ويستعين بتراجم الأبواب الموجودة في المختصر ولا يرجع إلي الشروح الأخرى.
قلت : وهذا معروف عنه رحمة اله تعالى بتمسكه بالوحيين وبالتفقه فيهما ، وقد دخلت عليه أكثر من مرة في غرفته التي فيها مكتبته فلم أجد إلا أعداداً قليلة من الكتب أغلبها في التفسير والحديث.
وقد كان- رحمة الله تعالى - يتميز بتسهيل المادة التى يدرسها لطلابه بحيث إذا شرح الموضوع فهمه أكثر من سمعه.(3/179)
وقد حدثني بهذا أكثر من واحد من طلابه الذين درسوا عليه وقد سألت شيخنا عبد الرحمن بن ناصر البراك عن أكثر من استفادوا منه في دراستهم في كلية الشريعة فقال : الشيخ عبد الرزاق عفيفي فقلت له : والشيخ محمد الأمين الشنقيطي فقال : الشيخ محمد الأمين يأتي إلينا ويتفجر علينا.
قلت : وقصد الشيخ عبد الرحمن أن الشيخ محمد الأمين بسبب قوة حافظته وسعة علمه يلقي المعلومات الكثيرة في الفترة القصيرة كأنه ينفجر عليهم من سعة معلوماته ، وهذا لا يصلح لكل الطلاب فكثير منهم تفوته هذه المعلومات بخلاف الشيخ عبد الرزاق فإنه كان رحمة الله تعالى معروفاً بتنظيم المعلومات وبالسير والتقسيم ، فلذلك كانت استفادتهم منه أكثر وهذا ما تي إلا من قوة فهم وذكاء وتحليل للمعلومات ، وإلا لما استطاع أن يعلمها لغيره بهذه الطريقة ، وقد كان الشيخ رحمه الله تعالى وهو على مقاعد الدراسة يشرح لبعض زملائه الطلاب بعض الدروس.
قلت : الشيخ كان معروفاً بفصاحة وبيانه وقد كان بعض طلاب الشريعة يتعجبون من ذلك أثناء ما كان يدرسهم التفسير فسألوه عن ذلك فقال : إن هذا من تفسير أبي السعود كما حدثنا بذلك الشيخ عبد الله الفنتوخ وفقه الله تعالى.
وقد حدثنا شيخنا عبد الله بن عقيل عن الشيخ عبد الرزاق انه كان إذا أراد أن يكتب لا يعرف مسودة ومبيضة يعنى إنه كان يكتب الموضوع مرة واحدة ، وهذا يدل على قوته العلمية وقوة فصاحته.
قلت : والشيخ رحمه الله تعالى كان متقللاً ومعروفاً بالبساطة والزهد ، وعدم الإكثار من الدنيا وبقلة الكلام وكان يكتفي بالكلمة الواحدة عن الكلمات الكثيرة ، وكنا أحياناً نخوض في الكلام عنده في بعض القضايا وكان هو ساكتاً لا يتكلم حتى يسأل.
وقد كنت عنده في مرة من المرات وعنده بعض الإخوان من أنصار السنة وفي مصر - فيما يبدو - فقال لهم : إن نسخته من سنن ابن ماجه أمر بوضعها في مركز أنصار السنة أو نحو ذلك.
من العلماء الأعلام(3/180)
الشيخ عبد الرزاق عفيفي أحد علماء العصر الأعلام ، اشتغل بالتدريس فتذوقه وأحبه تلامذته ، وبالدعوة فبرع فيها وأفاد العامة والخاصة وبالفتوى فأجاد وافاد ، كان - رحمة الله - يتفنن في عرض المسائل وطرح الخلاف ويجيد إيصال المعلومة للسامع مع اختلاف طبقات الحاضرين عنده ، ويظهر هذا جلياً في دروسه العامة التى كان يلقيها في المسجد الذي يؤم الناس به في حى المصوريات بالرياض فقد حضرت له الكثير منها واستفدت من علمه وخلقه .
كان - رحمة الله - غزير العلم في التفسير والفقه والأصول واللغة ، حريصاً على إيضاح ما يحتاجه الناس في حياتهم من مسائل علمية وكانت دروسه العامة محببة ولسامعيه ، يشد انتباههم ويضرب الأمثلة المناسبة لحال المستمعين فلا يمل الحضور من حديثه ، ويجدون من متابعة درسه لذة ومتعة مع فهم جيد لما يطرحه.
كان - رحمة الله - يجيد الإقناع بما يدعو إليه ، لما اتصف به قوة الحجة وغزارة العلم وحسن العرض للمعلومة.
وكان - رحمة الله - محباً لطلبة العلم ، يفتح بيته وصدره لهم ويأنس لطرحهم ما يشكل عليهم من مسائل عملية ويشركهم معه في البحث والمناقشة.
ويساعدهم في أمورهم العلمية والمادية ، وكان من حبه للعلم وطلابه أن أوقف داره بمكة على دار الحديث الخيرية بمكة المكرمة كما أنه يمد بعض طلبة العلم بالكتب القيمة.
رحمة الله واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن العلم وأهله خير الجزاء.
وصلي الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
سليمان بن وائل التويجرى
العالم الرباني والمصلح المجاهد
فضيلة الشيخ الدكتور
عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس(3/181)
…الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المتقين ، وقيوم السماوات والأرضين ، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله الذي بلغ البلاغ المبين وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، فصلي الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وأزواجه أمهات المؤمنين وسلم تسليماً كثيراً 00 أما بعد :
فإن الحديث عن سير علمائنا الأفاضل وأئمتنا الكرام موضوع في غاية الأهمية ، وتأتي أهمية هذا الموضوع من نواح كثيرة وأسباب متعددة أولها : أن هؤلاء العلماء في الأمة هم أنوار هداها وهم مصابيح دجاها ، وهم الشموع التى تنير طريق العلم والعمل والدعوة إلي الله سبحانه وتعالى ، وأن العلماء ورثة الأنبياء ، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحطٍ وارف ، فإذا كانت هذه مكانة العلماء فإن الواجب على الأمة أن تعرف سير علمائها وأن يرتبط خلف الأمة بسلفها ، وأن ترتبط الأجيال المعاصرة والناشئة بعلمائهم الذين صاروا على منهج السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم.
…والسبب الثاني : مكانة العلم ، فالعلم له مكانة عظيمة وله منزلة رفيعة في هذا الدين ، والجهل ظلام وشؤم وبعد عن الله عز وجل.
…قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ )
وقال سبحانه : (َهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).(3/182)
السبب الثالث : يتمثل في أننا نعيش في عصر يمثل عصر غربة الإسلام ، وعصر نقص العلماء الذين يسيرون على المنهج الصحيح وما ذاك إلا أن كثيراً من العلماء الأبرار انتقلوا من هذه الدار ، وهذه ثلمة لا تسد ، وفاجعة تعد ولا تحد ذلك أن قبض العلماء وموت الأفذاذ من المصائب على الأمة ، ويدل ذلك على أن الأمة بحاجة إلي أن تأخذ علم علمائها قبل أن يفقدوا ، فإذا انخسفت النجوم وانكسفت وغابت أوشك أن يضل الناس ، فالعلماء في الأرض بمثابة المجوم في السماء وفي البخاري ومسلم أن النبي (ص) قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ". فهذه الأمور تجسد المسئولية على الأمة وعلى شبابها وعلى طلابها ، أن ترتبط بكبار علمائها قبل أن يفقدوا ، وأن تستفيد الأمة ومنهم ومن علمهم ومن فضلهم ، وأن تقتبس من نور سيرتهم ما يبين لها طريق الحث ، هذا هو الواجب على الأمة الإسلامية وعلى شبابها وطلاب العلم فيها وناشئتها بصفة خاصة ، ومن الأسباب أيضاً : أننا نعيش في عصر الفتن وعصر الخلافات وعصر كثر فيه النزاع والشقاق وإعجاب كل ذي رأي برأيه فيجب على الأمة أن تعرف العلم بدليله ، وأن تأخذ الحق بناصع حجته وبيانه وذلك لا يؤديه إلا من رسخت أقدامهم في العلم وثنوا ركبهم وحنوا ظهورهم سنين عددا في التحصيل والطلب ، ومن ثم البذل والدعوة والتعليم والجهاد والبلاغ ، ومن الأسباب أيضاً : أن الأمة اليىوم يوجد من أعدائها من يلمع رموز الباطل ومن يزين للأمة أصنافاً من أهل العفن ضد قيم الأمة وأخلاقها وعقيدتها ، فواجب الدعاة إلي الله وواجب العلماء وواجب طلاب العلم أن يبرزوا جهود علمائهم ، لأن إبرازهم من أقل الواجب علينا تجاههم ومن الأسباب أيضاً : أن هناك فجوة كبيرة بين الشباب وبي علمائهم ، فإذا سألت كثيراً من الشباب عن كبار علمائهم(3/183)
لا سيما من توفوا إلي رحمة الله عز وجل ، فتجد أن بعضهم لا يعرف عن هؤلاء شيئا ، وهذا والله هو العقوق أن يظل علماء راسخون وائمة مهديون وجهابذة بارزون في طي النسيان إذا ماتوا ، فيجب على الأمة وعلى العلماء وعلى طلاب العلم أن يبرزوا هؤلاء العلماء للأمة ، ويؤسفنى أن أقول إن علمنا اليوم قد مر على وفاته أكثر من عام وثلاثة أشهر أو العام والنصف تقريباًً ولم نر من طلاب العلم ولا من المهتمين من أبرز سير هؤلاء العلماء أو حرص على إبراز وذكر نشاطهم ونتاجهم العلمى ومنهجهم الدعوى وذلك من الخطورة بمكان ، فإن موت العالم ثلمة في الأمة ، ويجب على هؤلاء العلماء وطلاب العلم أن يكونوا على صلة بعلمائهم يبينون لهم الطريق لا سيما في عصر غلبت فيه الخلافات وكثر فيه النزاع والشقاقات ، فيجب علينا أن نحرص على سير علمائنا وأن نستفيد منهم ، ولهذا قال بعض أهل العلم : سير العلماء أحب إلينا من كثير من الفقه ، لأن كثيراً من الفقه إغراق في مسائل فرضية أو مسائل فرعية وجانبية وقد يكون ليس لها أهمية في مجال العلم والتطبيق ، أما سير العلماء لا سيما إذا عرفوا بحسن المعتقد وسلامة المنهج ، فإبرازهم للأمة هو ترجمان صريح وتطبيق عملى للإسلام والسنة ، وإن كنا لا نزكى على الله أحداً والنقص من طبع البشر ولا نغلوا في الأئمة والعلماء ولا ندعى يبلغون عن الله ، وكل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويرد عليه وخير الهدى هدى محمد (ص).
إن في سير العلماء خبر أي خبر ، وإن في تراجم العظماء عبر أي عبر ، وإن في أحوال النبلاء مذكر أي مدكر ، هم صفحة ناصعة ينبغي أن يتمثلها الجيل اليوم وأن يسيروا على ضوئها وأن يقتبسوا من نورها في عصر طغت فيه الماديات وكثر فيه تلميع أهل الباطل و الإقلال من أهل الخير والحق عند كثير من الناس ، فينبغي أن يبرز أولئك وأن يبنوا للأمة شبابها وشيبها علماءها وعامتها وأن يعرف فضلهم على الأمة.(3/184)
إن في تاريخ الإسلام العظيم كوكبه من علماء الشريعة بذلوا جهودهم للتحصيل العلمى ، العلماء السلف الصالح ، رحمهم الله الإمام أحمد - رحمة الله - وشيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم والأئمة الكرام الذين برزوا في فنونه شتى ، في فنون العقيدة والفرق والحديث دراية والفقه والأحكام وأصول الفقه واللغة العربية وعلم التفسير وعلوم القرآن وعلم الأدب وغير ذلك من العلوم النافعة ، فأمة الإسلام أمة معطاءة ، خرجت العلماء والزعماء والقادة والعظماء والأدباء والنبلاء ، وتاريخ الإسلام زاخر بهؤلاء الأئمة ، فيجب علينا وأن نعرف قدرهم وفضلهم وأن نستفيد منهم وأن نرتبط بمنهجهم ، وأن نسير على ما ساروا عليه لأنهم راسخون في العلم وأكثر خبرة وتجربة وعمقاً في الأمور والنظر غلي العواقب والحكمة في طريق العلم والدعوة والموقف من المخالف وما إلي ذلك من الأمور المهمة التى ينبغي علينا جميعاً أن علمائنا المعاصرين من مشايخنا وكبار علمائنا لمنهجاً وأسوة وقدوة ينبغي أن يستفيد شبابنا منهم ، وحينما نقول ذلك لا نقول غننا نغلو بهم ، ولا نقول إننا ندعى لهم العصمة ، لكننا نعرف لهم فضلهم وسبقهم ، ولا خير في أمة لا يعرف شبابها قدر علمائها ، ولا خير في أمة لا يعرف ناشئتها مكانة كبار علمائها.(3/185)
ويؤسفنا أن نسمع عن هؤلاء العلماء من يقول إن فيهم وفيهم وإنهم رجال ونحن رجال ، وأنهم لا يعرفون شيئاً من أمور العصر أو أمور الواقع ، أو غير ذلك من الأمور وما أوتى أولئك إلا من قبل جهلهم ، وإلا من قبل سوء أدبهم مع علمائهم وتقديرهم لأهل الفضل منهم ، ولا تسأل عما يعيشه هؤلاء من فرقة وخلاف وتخبط في الجديد من المشارب والحديث من المذاهب ، إن الذي أتحدث عنه في هذه الأمسية لا كالأعلام ، وأقولها بصراحة لأنها عن خبرة وتجربة . إنني أتحدث عن جيل قدم لأمته وقدم لمجتمعه وقدم للعالم نتاجاً علمياً وجهوداً جبارة أصبحت عند كثير من الناس في طي النسيان والكتمان مع شديد الأسف !!.
لعمرك ما الرزية فقد مال ………ولا شاة تموت ولا يعبر
ولكن الزرية فقد شهم ………يموت بموته بشر كثير
وما هلكه هلك واحد …………ولكنه بنيان قوم تصدعا
الشيخ العلامة والحبرم الفهامة شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - من الجيل الذي يعد من بقية السلف الصالح - زرحمة الله - الذي عرفهم هذا العصر علماء عارفين ، وأئمة ربانيين ومجاهدين في سبيل العقيدة الصحيحة وفي سبيل نشرها وبذلها وتعليمها للأمة ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - أئمة في إمام ، إمام في الحديث لا يشق له غبار ، وإمام في علم التفسير وعلوم القرآن ، وأئمة في شخص إمام ،رحمة الله رحمة الأبرار.
إن العناصر التى نتحدث عنها عند سيرة أي علم من الأعلام ينبغي أن يكون متكاملة ولكن ماذا عساي أن أقول عن اثنين وتسعين سنة من الجهاد والدعوة والعلم والتعليم والخير بجميع جوانبه.(3/186)
إنني عندما أتكلم عن سيرة شيخنا لا يهمنا في حياته الجانب الأسري ولا يهمنا في حياته الجانب النظرى ، ولا يهمنا في حياته جانب أكله وغذائه ، ولكن المهم أن نذكر ونعول على منهج الشيخ - رحمة الله - في عقيدته ، منهجه في العلم ، منهجه في التعليم ، منهجه في نشر العلم والبذل والعطاء منهجه في الدعوة إلي الله عز وجل ، منهجهن ومواقفه من ولاة الأمر ، وموقفه من العلماء ، وموقفه من الجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية ، ومواقفه من أمور شتى ، تبين علم الشيخ وتبين غزارة مادته وسمو منهجه رحمة الله.
أما اسم شيخنا - رحمة الله - فاسمه عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية النوبي ، هذا اسمه كاملاً ، والشيخ - رحمة الله - ولد في مصر قبل أن يكون الجمهورية العربية ، في قرية تسمي شنشور في محافظة المنوفية ، وهذه القرية معروفة بتمسكها وعاطفتها الدينية ، ولهذا نشأ الشيخ - رحمة الله - نشأة دينية وتأصل في الإيمان والتربية الصحيحة على خير ما يتربي عليه ناشئ يافع.
أما تاريخ ولادة الشيخ رحمة الله - فقد ولد في العام الثالث والعشرين الثلاثمائة وألف من هجرة النبي (ص) ( أقول ) : فمنذ صباه - رحمة الله - كان توجهه توجهاً دينياً علمياً فحقظ القرآن الكريم منذ صغره ، وهكذا نشأ مرتبطاً بدستور هذه الأمة ألا وهو كتاب الله جل وعلا ، وهذا يؤخذ منه أن علينا أن نربي أبناءنا على كتاب الله سبحانه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا ………على ما كان عوده أبوه
وما كان الفتى نجماً ولكن ………يعوده التدين أقربوه
لقد تدرج الشيخ - رحمة الله - في سلك التعليم فدرس في المعاهد الأزهرية التى تمثل عندنا اليوم المدارس المتوسطة والثانوية ، ثم التحق بجامعة الأزهر قبل أن تكون جامعة ، يوم أن كانت جامعاً أزهرا ، وتخرج منها مع كوكبة من علماء والأزهر.(3/187)
فالشيخ - رحمة الله - كان معروفاً أثناء تحصيله وطلبه العلم بالحرص على التحصيل والمناقشة والرغبة في الفائدة والأخذ عن العلماء والاستفادة منهم عليه رحمة الله ، وتخرج من الجامع الأزهر ونال الشهادة العالية التى هى بمثابة ما يسمي بـ " الليسانس " ثم أخذ شهادة التخصص التى هي " الماجستير " ثم نال الشهادة العالية - العالمية - وهي التى تسمي اليوم " شهادة الدكتوراه " لقد بلغ - رحمة الله من مراحل التعليم أجلها وأعظمها وأكبرها في عالم شهادات اليوم ، لكنه ليس طالب شهادات - رحمة الله - ولم يكن يعترف بهذه الأمور ، بل كان حريصاً على العلم ، وحريصاً على التحصيل ، وحريصاً على المواصلة في طلب العلم حتى آخر حياته.(3/188)
ولم يكن - رحمة الله - مقتصراً على العلم فقط ، وغنما كان يحرص على العلم والعمل وعلى التعليم أيضاً وعلى الدعوة إلي الله سبحانه وتعالى وهو في قريته وبعد التحاقه بالأزهر ، كان - رحمة الله - حريصاً على الدعوة إلي الله مركزاً على ما يحتاج إليه مجتمعه آنذاك، وهذا إن دل علي شيء فإنما يدل على فقهه لواقعة الذي يعيشه ، فالشيخ - رحمة الله - وجد في عالم يموج في كثير منه بالبعد عن الله عز وجل والوقوع في معتقدات تخالف العقيدة الصحيحة والوقوع في الشركيات والبدع وعبادة القبور والخرافات ، فكان - رحمة الله - داعية إلي التوحيد وهو في مقاعد التحصيل والعلم والدراسة وكان له في ذلك أسلوب حسن ، ومن أساليبه في ذلك - رحمة الله - أنه كان حريصاً على أن يبني المساجد وعلى أن يسهم وفيها وأن يوجد في كل مكان من قريته مسجد يجتمع فيه الناس ويؤدون فيه شعائر الإسلام ، ولم يك ينظر إلي أنه يؤدي فيه شعائر الإسلام فقط ، وإنما كان يري أن رسالة المسجد رسالة علم وتعليم ودعوة إلي الله وما المسجد إلا بمثابة قلعة إيمان ، وحصن فضيلة ومحلاً للدعوة إلي الله وإشعاع النور في بيئة تموج فيها الخرافة والعقيدة المخالفة لعقيدة اهل السنة رحمهم الله .
والشيخ - رحمة الله - درس بعد تخرجه في المعاهد الأزهرية في بعض القرى وفي الإسكندرية.(3/189)
وكان حريصاً على نشر السنة ومؤيداً ومعيناً لجماعة أنصار السنة بمصر وهذه الجماعة أقولها بحق ليست جماعة حزبية ، وإنما هم أناس نذروا أنفسهم للدعوة إلي الله ولنصرة السنة والتركيز على العقيدة الصحيحة وإلي دعوة الناس إلي الوحيين ، وإلي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وقد رشح الشيخ - رحمه الله - في سن مبكرة نائباً لرئيس جماعة أنصار السنة في الإسكندرية ، ثم عين رئيساً لجماعة أنصار السنة في مصر كلها خلفاً للشيخ محمد حامد الفقى رحمهم الله جميعاً . فالشيخ - رحمة الله - اتسمت حياته بالعلم وبالعمل والدعوة إلي الله سبحانه وتعالى وإحياء السنة والتركيز على العقيدة ونبذ البدع والخرافات كل ذلك بأسلوب حسن ، وهذا مما يبين الأولويات في الدعوة إلي الله . فينبغي على الدعاة إلي الله أن يبنوا دعوتهم على الأولويات التى دل عليها الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وقضية العقيدة هي أم القضايا على الإطلاق ، وهي أصل القضايا بالاتفاق وهي دعوة الرسل الذين دعوا وأقوامهم وإلي التوحيد والعقيدة (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
ويكفى الشيخ في ذلك شرفاً أنه يسير على منهاج النبوة وعلى مشكاة الرسالة وعلى منهج الأنبياء في الدعوة إلي الله تبارك وتعالى ، لقد من الله علي الشيخ وشرف في بلاد الحرمين الشريفين بقدومه إليها عالماً ومربياً وداعياً إلي الله على بصيرة.(3/190)
فمن نعم الله عز وجل على هذه الأمة وعلى هذه البلاد وعلى الجزيرة أن هيا الله لها الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود فجمع الله به البلاد والعباد على منهج واحد ، فبعد أن ضربت الجزيرة في الفرقة والخلاف والقبلية وغير ذلك من الأمور الكثيرة ، جمعهم الله على الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن - رحمة الله - فالإمام الملك عبد العزيز - رحمة الله - رأي مع علماء هذه البلاد وفي مقدمتهم سماحة المفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهم الله - أن البلاد بحاجة إلي مجموعة من العلماء الذين عرفوا بعمقهم العلمي وبحسن منهجهم العقدى ، ليثروا البلاد وأهلها بالعلم والتحصيل والتوجيه فكان أن استقدم مجموعة من علماء الأزهر من أهمهم وأولاهم وأفضلهم شيخنا عبد الظاهر أبو السمح ، إمام الحرم المكى الشريف - رحمة الله - ، والشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة ، ومنهم الشيخ محمد خليل هراس ، ومجموعة مباركة من كبار علماء الأزهر المعروفين بحسن عقيدتهم وحسن منهجهم وأتوا إلي هذه البلاد المباركة عندما افتتحت المدارس عن طريق مديرية المعارف آنذاك ، وافتتحت دار التوحيد بالطائف ، وافتتحت أيضاً المعاهد العلمية التى هي نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، ففي عام ألف وثلاث مائة وثمانية وستين قدم الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - إلي بلاد الحرمين الشريفين ، لم يأتها طالباً الدنيا ، ولم يأتها يريد المنصب ، ولم يأتها يريد المال كما يأتيها كثير من الناس اليوم ، لكنه أتي إليها حباً في الحرمين وأهلها وحباً في الإسلام وعلماء الدعوة السلفية الذين صاروا على منهج الدعوة الإصلاحية منهج الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمة الله - ولا شك أن هذه البلاد المباركة التي هي مأزر الإيمان وموئل العقيدة ، عنيت بالمنهج الاعتقادي الصحيح.(3/191)
وكان الشيخ حريصاً - رحمة الله - وهو من كبار علماء السنة في العصر الحاضر - كان حريصاً على أن يكون في ظل هذه البلاد يستفيد منها ويفيد أجيالها وناشئتها ، فكان أن شرفت هذه البلاد به وشرف بها ، واتى مع كوكبه من علماء الأزهر وكان لهم بعد الله الفضل والشرف في أن خرجوا جيلاً من العلماء وأقول ذلك وبصراحة : إن كبار علمائنا اليوم هم من زملاء الشيخ أو من تلاميذه وأقرانه ، ومن أبرز أقرانه الإمام الشيخ العلامة والد الجميع الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ، فهو كان زميلاً للشيخ وكان ممن أعجب بالشيخ غاية الإعجاب حتى إنه رشحه جزاه الله خيراً نائباً للإفناء وعضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، وما ذاك إلا لثقة الشيخ في علمه جزاه الله خيراً وأثابه على أعماله الطيبة ، وأيضاً من سوى الشيخ عبد العزيز من علمائنا اليوم ومن كبار علمائنا هم من تلامذة الشيخ جزاه الله خيراً ورحمة ، وأسالوا عن الطبقة التي هم اليوم كبار العلماء والذين هم اليوم قضاة المحاكم وقضاة التمييز وكبار الدكاترة وأوائل المدرسين والدعاة هم من تلاميذ الشيخ - رحمة الله - ومنهم على سبيل المثال : معالى الدكتور عبد الله بن عيد المحسن التركي وزير الشئون الإسلامية والأوقاف ن فهو من أبرز تلاميذ الشيخ رحمة الله وكان الشيخ هو الذي أشرف على رسالته في الماجستير ومن تلامذة الشيخ أيضاً فضيلة الشيخ صالح بن محمد لحيدان ، والشيخ عبد الله بن غديان ، والشيخ صالح بن فوزان ، والشيخ عبد الله البسام ، والشيخ عبد الله بن منيع ، والشيخ عبد الله بن وجبرين ، والشيخ عبد الله بن قعود ، وغيرهم كثير من كبار علمائنا اليوم ، هم من تلاميذ الشيخ رحمة الله ، وجزاهم الله خيراً وبارك فيهم ، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلهم خير خلف لخير سلف.(3/192)
لقد كانت للشيخ - رحمة الله - جهود مباركة في الدعوة إلي الله وجهوده في أنصار السنة المحمدية واضحة معلومة ومع أن الشيخ رحمة الله ممن أعجب بهذه الجماعة ، فكان متعاوناً ومعيناً لسائر الجماعات في الساحة فلم يكن يتعصب لجماعة معينة ، وكان ينظر إلي الجميع بمنظار العدل والإنصاف وكان يناصح ويبين الخطأ لمن عنده خطأ من الأفراد والجماعات بالأسلوب الحسن ، وكان رحمة الله يدعو إلي التآلف والاجتماع ويحذر أشد التحذير من التفرق والاختلاف.(3/193)
قدم وغلي المملكة ودرس في دار التوحيد ، ثم درس في معهد عنيزة العلمي واستفاد منه شيخنا الشيخ محمد بن صالح العثيمين - حفظة الله - كما استفاد الشيخ أيضاً من دروس الشيخ عبد الرحمن بن سعدى في القصيم وبعدها بقليل افتتح معهد الرياض العلمي في العام السبعين بعد الثلاثمائة والألف فطلب الشيخ ليدرس في هذا المعهد الذي هو نواة للمعاهد العلمية وهي نواة مباركة والتى أصبحت اليوم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، وقبلها الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية وكان يدير الكليات والمعاهد العلمية الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وهو شقيق المفتى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمة الله والذي كان معجباً بالشيخ عبد الرزاق رحمة الله فكان أن أسند إليه مهمة اختيار المدرسين ، وأيضاً مهمة وضع المناهج في المعاهد العلمية وفي جامعة الإمام وفي كلية الشريعة وفي المعهد العالى للقضاء وفي الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، وفي عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف ، افتتحت كلية الشريعة بالرياض فطلب الشيخ مدرساً فيها لمادة العقيدة وأصول الفقه والفقه والتفسير فكان من خيرة المدرسين - رحمة الله - ،وفي عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف أفتتح المعهد العالي للقضاء الذي كما تعلمون مؤهل القضاة فاختير الشيخ - رحمة الله - أول مدير لهذا المعهد وقام بوضع مناهجه ، فكانت مناهج رائدة معروفة تنافس مناهج التعليم العالي في العالم الإسلامي ، وفي عام ألف وثلاثمائة وواحد وتسعين وبعد أن أحيل الشيخ إلي التقاعد من المعهد العالي للقضاء.(3/194)
عين الشيخ نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، وأيضاً عضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها وعرف رحمة الله بجده واجتهاده وقيامه بالعمل خير قيام ، فقد ضرب مثالاً في الجد والحرص والاحتساب ، فلم يكن يعمل موظفاً عادياً يتقاضي أجراً فقط ، وإنما كان رحمة الله إلي أن اعتلت صحته وهو يقاد بالعربة إلي مكتبة في إدارة البحوث العلمية والإفتاء ، حتى توفاه الله ، وكان يذهب إلي العمل أحياناً بعد صلاة الفجر ، يصلي الفجر ثم ينتظر حتى تشرق الشمس ثم يذهب إلي العمل ويجلس في العمل في الإفتاء وفي الدعوة وفي تحرير الفتاوى والكتابة فيها وفي استقبال المستفتين ، وفي الأعمال الإدارية والعلمية الكثيرة ، حتى الساعة الثانية والنصف أو الثالثة ، ثم يأتي إلي البيت ويتناول طعام الغذاء ويستريح بعد صلاة العصر قليلاً ومن بعد ذلك بعد صلاة المغرب يفتح أبوابه للراغبين من طلاب العلم والمستفيدين والعامة والخاصة ، والشباب والشيب والصغار والكبار ، كل يفد إلى بيته بعد صلاة المغرب من كل يوم ، وكان أن تشرفت بلقاء الشيخ رحمة الله في أخر أيامه ، وكنت بعد صلاة المغرب أزوره واختلف إليه لأستفيد من علمه وفضله رحمة الله ، وبعد صلاة العشاء يتناول طعام العشاء ثم يرجع إلي أعماله العلمية وإلي فتاواه والاستعداد العلمي ليوم غذه ، ثم ينام مبكراً. وفي آخر الليل يستيقظ ليصلي ما كتب الله له ، وهكذا بابه مفتوح ، علم وفضل ودعوة وإصلاح وحسبه ، وأمر بمعروف ونهى عن المنكر ، وفتح باب للمستفيدين والراغبين من طلاب العلم ومن غيرهم ، اشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه حتى إنه أشرف على مئات الرسائل العلمية وكان أن شرفت بإشرافه رحمة الله في أول رسالة الماجستير في علم أصول الفقه ، ويعلم الله أن السنوات التي قضيتها وهى بمثابة ثلاث أو أربع إلي خمس سنوات ، من أعز أيام وليالي العمر(3/195)
، ولا أعرف أنني رأيت مثله رحمة الله ومثل شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله فيما جبلهم الله عليه من صفات متعددة في العلم والتعليم وبذل النفس والتحصيل مع العقل والحصافة وبعد النظر وإنزال الناس منازلهم والتوجيه بالتي هي أحسن ، أما أخلاق الشيخ وصفاته فكان رحمة الله مثالاً في الخلق الحسن مثالاً في الورع والزهد لا يعرف الأضواء البتة حتى إن كثيراً من الناس لا يعرفون الشيخ ، لأن الشيخ ليس صاحب شهرة ولا صاحب أضواء وكم يأته الإعلاميون من أرباب الصحافة والإذاعة والتلفزة وغيرهم ليخرجوه للأمة ، لكنه رحمة الله يؤثر البعد عن الأضواء والشهرة احتساباً وحتى يكون بعيداً عن الرياء وحتى يزداد تواضعاً إلي تواضعه - رحمة الله.
أما احترام الشيخ لغيرة فكان يحترم المخالف بشكل كبير ، يحترمه أمام الناس وإن وخالفه ، هذا في مسائل الفروع طبعاً لأن مسائل الفروع لا يحجر فيها على أحد ، حتى أن طلابه ليتمردون عليه أحياناً في الرسائل العلمية ويقولون له : يا شيخ نحن نخالفك في هذه المسألة فيقول : أنتم أحرار ، وأنتم وما ترون ، هذه رسالتكم واكتبوا ما ترون لكن رأيي كذا ودليلي كذا والذي أراه كذا فيقنع بالجحة والبرهان والدليل دون إزعاج ودون جلبة ودون ضوضاء ودون انتصار لرأيه ، وبدون ردود عقيمة لا تجدى شيئاً وبدون إسفاف في القول أو تنزل إلي الكلام في أعراض الناس.(3/196)
كان - رحمة الله - عف اللسان عن أعراض الناس ، لا يتكلم إلا بالخير ولا تراه إلا ذاكراً أو معلماً أو باذلاً للعلم أو داعياً إلي الله ولا يسمح لأحد أن يتحدث في مجلسه في أعراض الناس ، بل يري للناس فضلهم وسبقهم ، ولا يسمح لأحد أن يتحدث أمامه بسوء ومجال النصح مفتوح ، ومع ذلك كان من أنصح الناس للناس ، فإذا رأي على أحد خطأ أنو ملحوظة ينبهه علي ذلك بحسن أدب وبحسن منطق ، وبحجة وبرهان لا ينتصر لنفسه ولا لراية ، ولا يسفه في التعالم مع المخالف أو عليه - رحمة الله - حتى إن بعض تلاميذه في رسائل الماجستير والدكتوراه يثبتون أنهم يخالفونه في مسائل ومع ذلك يجلهم ويقدرهم ويحترمهم ويجعل ذلك منهم مزية على غيريهم ، لأنهم متمكنون وحريصون على إثبات شخصياتهم العلمية ، أما الموقف من المخالف إذا كان في أمور الاعتقاد فغن الشيخ يبين ويوضح المسائل ولا يجامل أحداً ولا يعرف المداهنة لكنه يدارى ، المداراة محمودة والمداهنة مذمومة ، لا يداهن وجيهاً لجاهه ولا غنياً لغناه ، ولا شريفاً ولا كبيراً لكبره ومنزلته ، لكنه يبين بالحسنة ويتلطف مع الناس بالأسلوب الحسن ويصل إلي ما بعد ما يريد بالأسلوب المناسب حتى مع الجماعات المخالفة ، يبين ما لها وما عليها ، هناك مواقف ولطائف في حياة الشيخ وفي تحصيله وفي بذله ونشره للعلم ، وفي معرفته بالناس وفراسته رحمة الله ، الشيخ ذا بال واسع ورجل موسوعي ، و رجل مهيب أخلاقه وخلقه وخلقه جبله الله على أحسن ما جبل عليه عباده الصالحين .(3/197)
طان ذا هيبة وذا وقار يهابه كل من يراه ، أو يجلس إليه ، وكان رحمة الله متمسكا بالسنة في مظهره ، ومخبره ، له لحية طويلة كثة ولا يأخذ منها شيئاً ، ولباسه على حسب السنة ، فكان رحمة الله يطبق السنة تطبيقاً علمياً وعلمياً عليه - رحمة الله - ومن الصفات التى اتصف بها الشيخ رحمة الله زهده في الدنيا فبيته المتواضع في بعض الأحياء الشعبية في الرياض من يراه لا يليق بيته بأقل تلاميذه ، ومجلسه متواضع وهتدامه وشكله متواضع جداً لا يتعالي على أحد أو يزهو على أحد وما دخلت عليه الدنيا أو غمرته بشهواتها ودرهمها ودينارها ، بل إنه - رحمة الله - كان لجوده وكرمه لا يدخر شيئاً من أمواله إلا ما يدخر لأبنائه ، حتى أن بعض طلابه في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء ممن حالهم من الحال المتوسطة ، وكان يسلفهم وكان يعطيهم من أمواله حتى أنه يؤثرهم على نفسه.(3/198)
كانت له فراسة في السائلين وله فراسة بالناس ، ولا يسمح لأحد أحياناً أن يقل أدبه أمامه ، يذكر أن رجلاً من البادية أتي الشيخ في موسم الحج فقال له : يا شيخ إن ابني هذا صغير وقد أحرمت عنه ولكن ابني مشاغب ، فيفتيه الشيخ ويعلمه بأنك إن أردت الإحرام لابنك لا بأس وتمنعه من المحظورات فيذهب الرجل ثم يرجع إلي الشيخ ويقول : ابني فعل كذا ، ثم في الثالثة قال له الشيخ : ماذا أقول لك إذا كان ابنك بهيمة 000 !! فالشيخ - رحمة الله - بهذا الأسلوب أعطي للسائل درساً تربوياً لتقدر هذا السائل مشاغل الشيخ وظروفه وكثرة السائلين ، وهذه من المواقف واللطائف التى تذكر في أسلوبه التربوى والتعليمي والدعوى ، ومن مواقفه أنه أحياناً يتفقد أبناءه في المعهد العالي للقضاء وفي كلية الشريعة ، فإذا رأي من أحد منهم انحرافاً في بعض التصور أو بعض السلوك ، قال له: يا فلان أحذر أن تسقط من الزومبيل ، والطالب يعرف مراد الشيخ ، وهذا أسلوب مناسب تربوي ، يوقف الطالب على حقيقة نفسه حتى يصلح من حاله. ويأتيه بعض الطلاب من الذين يوجد عندهم شغب وفوضي في الطلب ، فيكثرون عليه وأحياناً يري منهم انعكاساً فكان رحمة الله يقول : إن بعض هؤلاء كنبت البصل رأسه إلي اسفل ورجلاه إلي أعلي ، ومن هذا يتبين أن الشيخ رحمة الله كان مفترساً في الناس ، وكان أيضاً يتخذ الأسلوب التعليمي يفتح صدره وبابه لكل سائل وطالب علم ، حتى أنه يسأل وهو على فراش المرض فيجب.(3/199)
لقد ابتلي الشيخ - رحمة الله - في هذه الدنيا ، في هذه الحياة ببلاء المرض فكان يصاب بالصداع وعمره سبع سنوات وكان قد أصيب بالشلل مرتين وأصيب أخيراً بالسكر وضغط الدم وضعف في أجهزة الكبد والكلى حتى توفي - رحمة الله - ومع هذا كان الشيخ صابراً محتسباً متجلداً لا يعرف من يواجهه أو يلاقيه أن به مصيبة وهذا من تجلد المؤمن " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير " وابتلي أيضاً بفقد ثلاثة من أولاده وهم أحمد أكبر الأولاد وعبد الله وعبد الرحمن رحمهم الله جميعاً ، لكن انظر في موقف الصابر المحتسب تأتيه رسالة وهو يدرس في المعهد العالي للقضاء فلا يزيد إلا أن ويقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، ويغلق الرسالة ويذهب لألقاء درسه على الطلاب بعد أن علم بوفاة والده رحمة الله من خلال هذه الرسالة ، وتوفى أكبر أولاد الشيخ توفي وهو في المعهد العالي للقضاء جاءه خبر وفاته وذهب الشيخ كعادته يدرس في المعهد العالي للقضاء في يوم خبر وفاة ابنه ، ودخل إلي القاعة ودرس الطلاب في مادته أصول الفقه أو مادة التفسير ، ودرسهم كعادته ، وكأن الشيخ ليس به شيء البتة ولم ير عليه تلعثم ولا تلكأ ، بل أعطاءهم المادة العلية على خير وجه ، فما أن خرج الشيخ من القاعة حتى توافد عليه إدارة المعهد والمدرسون يعزونه في وفاة ابنه الذي جاء خبر وفاته هذا اليوم فيقول الطلاب ليست دهشننا من موت ابن الشيخ وليست دهشتنا أن الشيخ جاء يدرس لكن دهشتنا الحقيقة من صبر الشيخ وتجلده وكأن شيئاً لم يكن ، لقد رضي الشيخ بقضاء الله وقدره ولم يقعده ذلك المصاب عن العمل ، لم يجلس ثلاثة أيام ولم يأخذ إجازة لأنه جاءته مصيبة ، ويتوفى ابنه عبد الله أيضاً بسكته قلبية ويموت أحب أبنائه إليه عبد الرحمن وكان زميلاً لنا في الكلية ، يموت في حادث والشيخ متجلد وصابر ولم يظهر منه جزع البتة وكان لا يزيد على أن يسترجع يسأل الله تبارك وتعالى ، أن يجعل(3/200)
ذلك في ميزان حسناته وكرمه.
ثناء الناس عليه :
الشيخ - رحمه اله - ممن كتب الله له القبول إلي اصغر الناس كان يحظي بتقديرهم وثناء الناس عليه ، الملك عبد العزيز رحمه الله كان له درس في قصره في يوم الأربعاء ليلة الخمسين وكان العلماء يجتمعون عنده ، وكان يطلب من الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - أن يلقي درساً وموعظة فيستريح لها الملك ويدعو له كثيراً.
لقد نال الشيخ بها العلم وتلك المواعظ تقدير الملك عبد العزيز آل سعود رحمة الله وما ذلك إلا لإخلاصه وحرصه ورغبته ونشاطه وإفادته البلاد ، وما عرفت أحداً إلا ويثني على الشيخ سواء من المدرسين أو غيرهم يثنون عيه كثيراً ، لقد كان عند الشيخ من الورع ما لا يوجد عند كثيرين من علمائنا اليوم لا في منزله ولا في بيته ولا في سيارته ولم يعرف ما عرفه الناس من خدم وحشم ومن سائقين ومن سيارات ومن قصور إلي غير ذلك من الأمور ، بل أثر ما عند الله تبارك وتعالى ، ومن أهم جوانب حياة الشيخ بعده عن الأضواء والشهرة والظهور.
ومن أهم ما يتميز به الشيخ أيضاً أنه رجل موسوعي عميق العلم وبخاصة في مسائل الاعتقاد ، فإذا تحدث تشعر وكأنه نسخة من كتب شيخ الإسلام ابن تيميه وأقول ذلك بلا مبالغة حتى إنه - رحمة الله - يقول : أنا ما رأيت من العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله ، ما قرأت لعالم من علماء السلف إلا ورأي أن لغيره سلف أو أن له سلف لكن شيخ الإسلام - رحمة الله - كان يأتي بمنهج سليم مؤصل على ضوء الكتاب والسنة وصحيح المنقول وصريح المعقول كان الشيخ - رحمة الله - قليل الكلام لا يتكلم إلا قليلاً ، لكنه يتكلم بجوامع الكلم يتحدث فيما يفيد لا يعرف الثرثرة ولا كثرة الكلام ، ولا الكلام الإنشائي الذي لا طائل تحته.(3/201)
لقد كان الشيخ يتكلم كلاماً قليلاً لكنه قليل المبنى كثير المعنى ، كان الشيخ يوصل تأصيلاً علمياً ، يعتمد الدليل يوصل المسائل ، كان الشيخ يعتني بتحرير الخلاف وتحرير محل النزاع ، وتحقيق المناط في المسائل ويرى أن ذلك يغنى عن كلام كثير في هذه المسائل حتى لربما أتاه الطلاب فكان يقول انظر المسألة في كتاب كذا كذا.
كان الشيخ - رحمة الله - لا يعتني بكثرة الكتب ، ولم تكن عنده مكتبة كبيرة بل عنده أمهات الكتب فقط ، وكان يحرص على أن يقران القرآن ويقرأ كتب السنة والأمهات ولا يعتني بالكتب المعاصرة البته ، ويري أنها لا تفيد ، على كل حال هذا رأي الشيخ - رحمة الله - لأنه يري أن الأول لم يترك للآخر شيئاً ، لكن لا يمنع أن يستفيد الإنسان من مؤلفات غيره ، مراد الشيخ أن هذه الكتب التى يعتني بها الناس اليوم ، الكتب الفكرية ، وغيرها من الكتب المعاصرة يري أن الأوائل كفونا في هذا المجال ، وكان- رحمة الله - يحفظ كثيراُ حتى إنه في السنين الأخيرة لا يطالع كتباً وكان يقرأ من حفظه وكان يدرس من حفظه ، وما ذاك إلا لذكائه وموهبته وسعة حافظته رحمة الله ، أيضاً مما ينبغي أن يذكر في منهج الشيخ ، منهجه في العقيدة كان لا يعرف الذبذبة ولا اللف والدوران صاحب منهج عقدى ، وسلفية صحيحة ، لم يتمتع في هذه الأمور ، ولم يتذبذب في المسائل وإنما كان على علم ودراية وكان يعتني بالتوحيد غاية العناية ، تعليماً ونشراً ودعوة إلي الله تبارك وتعالى ، حتى نفع الله به نفعاً عظيماً ، وأيضاً من منهج الشيخ ، منهجه الدعوى ، وله مقالات في هذا تحت عنوان الطريقة المثلي في الدعوة إلي الله ، تكلم فيها عن الدعوة بوجهها المشرق وبيان مكانة الداعية وأسلوب الداعية الصحيح ، مؤصلاً وناظراً إلي دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام وعنايتهم بالتوحيد.(3/202)
لقد كان الشيخ - رحمة الله - لا يحب الظهور ولا يسعي إلي ذلك ، وهذا مما يؤكد على تواضعه - رحمة الله - وإخلاصه وبعده عن الرياء والظهور والشهرة ، وأيضاً كان الشيخ - رحمة الله - له مواقف في الإصلاح والدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يتمشي مع مقاصد الشريعة وقواعد الدين ومقاصد الإسلام لم يكن الشيخ عجلاً ولم يكن الشيخ مندفعاً بل كان الشيخ عاقلاً حصيفاً بعيد النظر في الأمور حتى أنه ليأتيه الجماعة الذين هم من نبت كنبت البصل الذين رؤوسهم إلي اسفل وأرجلهم إلي أعلى ، فيحثهم على التلطف والرفق بالناس وحسن التوجيه لأن منهج الداعية يريد الخير للأمة لا يريد أن يحدث من دعوته ما هو أشد ضراراً وأكثر فتنة ، فقد يكون أحياناً إنكار المنكر إذا كان بأسلوب غير صحيح قد يأتي منه ضرر وعواقب وخيمة فكان الشيخ رحمه الله - مع أنه لا يخاف في الله لومة لائم - كان يقول الحق ويغار على حرمات الأمة وعلى عقيدتها وقيمتها ، لكنه مع ذلك لا يجب الإثارة بل يغار الغيرة المتعقلة والمنضبطة ، وكان بعيد النظر رحمة الله وكان مع ذلك ينصح الخاصة والعامة ويكاتب الولاة والمسؤولين ويبين لهم ويعظهم ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ولا يقر منكراً ولا باطلاً لكنه كان يسلك الأسلوب الحسن.(3/203)
لقد كان في الحقيقة مجاهداً قوياً في الحق لا يخاف في الله لومة لائم لكنه كان إذا أراد أن ينصح المسؤول نصحه على انفراد ، وإذا رأي في المسؤول أو في أحد من الناس خطأ كاتبه وناصحه ونبهه إلي أخطائه وكان ذلك عن طريق الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وغير ذلك من الأساليب الناجحة التى تفيد في إزالة الضرر وتحصيل النفع ولا تحدث شكاً ولا ريبة ولا إثارة ولا فتنة ولا بلبلة ، والشيخ - رحمة الله - يحقق بذلك مقصداً من مقاصد الشريعة وهو جمع كلمة المسلمين وعدم الإثارة والفتن وعدم إيغار الصدور ، فكان - رحمة الله - يحرص على المنهج السليم في دعوته وإصلاحه وحسبته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ، كان الشيخ رحمه الله مجاهداً صابراً عالماً معلماً تخرج على يده التلاميذ الكبار ممن عددت آنفاً ، وكان - رحمة الله - لا يري التأليف مع غزارة علمه وسعة إدراكه وأنه بحر في كثير من العلوم موسوعي المعارف والعلوم ، ولم يخلف لنا من الكتب والتراث العلمي إلا أشياء قليلة لكنها تكتب بماء الذهب وهي الآن لو تولاها العلماء وطلاب العلم شرحاً وتعليقاً لبلغت عدة مجلدات ، منها " مذكرة في التوحيد " درست في المعاهد العلمية وفي الكليات مذكرة في بيان توحيد العبادة ، التوحيد الصحيح الذي هو حق الله وتعالى ، أيضاً منهج الشيخ في توحيد الأسماء والصفات واضح وله ردود في هذا الصدد على المعتزلة والأشاعرة بالأسلوب العلمي ، الشيخ لا يعرف الرد على الأشخاص لذواتهم لكنه يرد لبيان الحق ، يرد لبيان المنهج الصحيح ، يرد على الطوائف والفرق وإن لم يسم لكنه يوصل منهج السلف الصلح تأصيلاً صحيحاً حقيقياً وكافياً وشافياً لا يحتاج إلي نظر من قرأه إلي غيره ، عندما تقرأ في كتبه فكأنك تقرأ لشيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله الذي كان الشيخ محباً له مغرماً بقراءة كتبه ، حتى إني أكاد أقول أنه استظهر كتب شيخ الإسلام ابن تيميه وكتب ابن القيم رحمهما الله وللشيخ أيضاً(3/204)
حاشية على " تفسير الجلالين " بين فيها خطأ الجلالين في مسائل الاعتقاد لاسيما في الأسماء والصفات بأسلوب علمى رحمه الله ، وكان مما يذكر عنه أيضاً في موافقة أنه في مصر كان هناك كلام كثير حول قضايا الصفات وقضية الاستواء وكان كثير من علماء الأزهر ينحون منحى آخر خلاف منهج السلف فكان الشيخ رحمه اله يبين مذهب السلف ويقرره في كل درس ومحاضرة مع التزام الهدوء في الحوار والمناقشة ، حتى يرجع كثير من الناس إلي عقيدة السلف ، وهذا منهج يحتاجه الدعاة إلي الله ويحتاجه العلماء ويحتاجه طلاب العلم اليوم ، لأننا نعانى من عدم منهجية صحيحة في الردود وعدم ضوابط مناسبة يتخذها كثير من الناس مما قد يضر ويفرق الكلمة أكثر مما ينفع ، المهم أن الشيخ - رحمه الله - ظل داعيه مجاهداً صابراً محتسباً باذلاً نفسه للأمة ماشياً في حوائج الناس وشفاعتهم والكرم والبذل لهم ، وفتح بابه للدعاة والطلاب والمستفتين وشارك في مواسم الحج في التوعية ، بالحج سنين عددا ، وكان مخيمه مفتوح في منى للمستفتين والمستفيدين من طلاب العلم ومن العلماء ومن عامة الناس ، ومن سائر ضيوف وحجاج بيت الله الحرام وغيرهم ، فكان الشيخ على ذلك إلي أن مرض - رحمه الله - مرضاً في آخر حياته ، وكان الشيخ - رحمه الله - في مرضه ذلك مثالاً للتجلد والصبر والاحتساب حتى أن العلماء والمحبين مشفقون عليه يقولون له : يا شيخ عبد الرزاق جسمك وصحتك وراحتك أولى لنا ، ولكنه مع ذلك من بعد صلاة الفجر يدف على العربة حتى يوصل إلي المكتب أمام سيل من المعاملات يفتي فيها ويحرر ويكتب ويبين للأمة ، حتى نفع الله به نفعاً عظيماً.(3/205)
أقول أيضاً : من نتاجه العلمى وإن كان مقلاً تعليق من أحسن ما رأت عيناى في علم الأصول ، تعليق على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدى علق الشيخ عبد الرزاق زبداً تكتب بماء الذهب ترك علم الكلام وترك علم المنطق ، ترك الإغراق في العقليات ، وأصل علم الأصول زبدا ، على منهج الكتاب والسنة والسلف الصالح . قاعدة ومثال ، دليل وتطبيق أصل وفرع.
للشيخ - رحمه الله - تحقيقات خفيفة وكتابات قليلة ، حقق كتاب " العلو للعلى الغفار " للذهبي ، ووضع تعليقات يسيرة على " العقيدة الطحاوية " وأرجع كل ما فيها إلي كتب شيخ الإسلام ابن تيميه وابن القيم - رحمهما الله - وعلق على " العقيدة الواسطية " و " الفتوى الحموية " ، وعلق على كتاب " الاعتقاد " للبيهقى ، وكل ذلك ، يكتب بماء الذهب ، والحقيقة أنه يقترح أن يكون هناك دورات وجلسات وحلق علمية يستفاد منها من منهج الشيخ - رحمه الله - وإفادتهن في هذه المجالات كلها وإني لأقترح على رئاسة الإفتاء وعلى جامعة الإمام وعلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف وعلى زملائه وتلاميذه ، اقترح عليهم فعلاً أن يحرصوا على جمع فتاوى الشيخ - رحمه اله - وكتاباته وتخرج في كتاب موسوعي كبير يستفيد منه طلاب العلم وإني لأنصح الجامعات في جميع أقسامها أن تعني بالاستفادة من منهج الشيخ وجهوده في العقيدة ومنهجه في العلم والدعوة ومنهجه أيضاً في الأصول وردوده على الفرق المخالفة وطريقته في الدعوة والإصلاح وموقفه من مسائل معاصرة له فيها إسهامات كثيرة اقترح أن يكتب عنه رسالة ماجستير أو دكتوراه ، " الشيخ عبد الرزاق عفيف وجهوده في الدعوة " لماذا يلمع غير الشيخ من أناس ما وصلوا إلي الركب في علم الشيخ مع هذا تجدهم الآن لهم صولة وجولة ولمعان عند كثير من شبابنا وأبنائنا ن وتجد أن الشيخ لا يعرف له قدرة وحقه في هذا ، الشيخ جدير أن يكتب فيه عشرات الرسائل العلمية في كل منهج ومجال من المجالات العلمية وليس(3/206)
هذا والله بكثير عليه.
أرجو أن أكون قد وفقت إلي القاء إطلاله عن حياة الشيخ رحمه الله .ة وأما ما يتعلق بجانب بيته وأسرته فكان الشيخ أيضاً حريصاً علي بيته وأسرته ، لم يشغله العلم والدعوة عن بيته وأسرته فكان الشيخ أيضاً حريصاً على الأدب ورعاية شؤون زوجه ، وبهذا يتبين موقفه من المرأة ، كان حريصاً على إكرامها وتقديرها والسعي للعناية بها.
خلف الشيخ من الأولاد خمسة ذكور وثلاثاً من البنات ، وثلاثاً من الأبناء توفوا واثنان موجودان أحدهما في جده والآخر في الرياض وهم سائرون وحريصون على منهج الشيخ - رحمه الله - وجزاهم الله خيراً ، وهذه نقولها لهم ونشكرهم وهم حريصون على نشر تراث الشيخ - رحمه الله - ومستعدون لتقديم أي مساعدة في هذا المجال عن تراث والدهم والد الجميع شيخنا العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله.
توفى الشيخ - رحمه الله - في يوم الخميس الخامس والعشرين من الشهر الثالث عام خمسة عشر وأربعمائة وألف للهجرة ، أدخل المستشفي العسكرى بالرياض إثر ترددى حالته الصحية - رحمه الله - وبقي في المستشفي لمدة تقرب من أسبوع أو أكثر بقليل إلي أن فاضت روحه إلي بارئها عليه رحمة الله وجمعنا به في دار كرامته بيمنه وكرمه وقد شهدت جنازة الشيخ مشهداً عظيماً يذكرنا بما قاله الإمام أحمد رحمه اله لأهل البدع : بيننا وبينكم الجنائز ، فصلي عليه في الجامع الكبير بمدينة الرياض جامع الإمام تركي بن عبد الله ، وقد أم المصلين عليه فضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ بن عبد الله ، وقد أم المصلين عليه فضيلة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ وقد ارتج المسجد بالبكاء وذهب الناس إلي مقبرة العود في الرياض زوفات ووحدانا راجلين وركبانا أمام الجنازة وخلفها ومن حولها وشهدت جنازته مشهداً عظيماً لم يشهد إلا في مشاهد كبار العلماء - رحمهم الله جميعاً.(3/207)
والحقيقة أنني وإن كنت اقل من يتحدث عنه فقد عاشرت الشيخ وجاورته واستفدت من علمه وعمله ، وأشهد أني لم أستفد من غيره ما استفدت منه هو وسماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله.
وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع درجة الشيخ في عليين وأن يرحمه رحمة الأبرار وأن يجعلنى وإخواننا المسلمين ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأن يجمعنا بعلمائنا في دار كرامته ، وأن يجعلنا خير خلف لخير سلف وأن يجعل أجيالنا المتأخرة مرتبطة بعلمائنا وسيرهم . وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الألمعى الذي يظن بك الظن كأن قد رأي وقد سمعا
…منذ هممت أن أخط خط عرفان ووفاء عن إمام جليل ، ودوحة فارعة ، فلق الله نواتها في مصر ، وتعهدها ووالاها ، حتى استغلظت وأخرجت شطوءها وامتدت ، وأظلت بلاداً وعباداً ، وراح رائحتها دانون وقاصون.
…منذ ذلك وأنا أتردد متهيباً مشفقاً أقدم وأحجم ، وإلا ، فكيف يسير وليد أغوار والد ، وكيف تحيط بصمة في كف عملاق بخصيصة من خصائص ذلك العملاق الذي كان يتجنب الأضواء ويتوارى عن عيون الراسمات والكاميرات ، ويؤثر دائماً الظل متعففاً متمثلاً الحديث النبوى الشريف الذي رواه البخارى عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله (ص) : " تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، إن أعطى منها رضي ، طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعت رأسه ، مغبرة قدماه. إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان وفي الشاقة كان في الساقة ... " الحديث .
ولقد راعنى إيثاره للظل وتجنبه كل الحفلات والمناسبات التى يتصدر فيها أمثاله ويتبارون ، فقال حين سألته : ( أخشي أن يكون لنفسي من عملى نصيب). نوازع ، وخواطر تملكتنى حين هممت أن أخط خط وفاء وعلافان في شيخي فضيلة الإمام الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله.(3/208)
…وحملت النفس على الإقدام ، ومضيت أسترجع ال الأيام ، و أستندي الذكريات ، وأفتق الأكمام لعلها تبث ما استودع فيها من الأرواح الشذية الذكية التى تحمل من روائح الشيخ وروائعه ما تحمل ، وبينا أنا في ذلك برق في الخاطر حديث متفق عليه رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله (ص) : " لقد كان فيما قبلكم من الأمم محدثون". فإن يك في أمتى أحد فإنه عمر ".
…ورسول الله (ص) إذ يسوق هذا الخبر في قالب يشي بالشك ، يذكرنا بأن مردنا في الغيبيات هو الله. وأن العبد تقف معلوماته المجردة عند حد الظن . ولكن هذا لا يقطع الرجاء وحسن الظن بالله ،والله عند ظن عبده به. فالمولى الذي من على الأولين ، كريم حري بألا يحرم أمة محمد من الملهمين العدول الذين يحملون أعباء هذا الدين مصداقه ما جاء في الخبر الذي رواه البيهقي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري مرفوعاًُ : يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين. وظني أن هذا هو التجديد الذي أشير إليه في الحديث : " إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
…وعلى ضوء هذه الآثار ترجح كفة الرجاء. رجاء أن يكون فقيدنا الجليل قبساً من أضواء أولئك الملهمين المجددين.
…وعلى جادة الرجاء مضيت وأنا أتمتم :
أيتها العين أجملى جزعاً ………إن الذي تحذرين قد وقعا
أورى الذي جمع السماحة والـ……نجدة والعزم والتقي جمعا
الألمعى الذي يظن بك الظن ………كأن قد رأي وقد سمعا
ونحسب أن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان ترجمة صادقة للألمعية التي صورها صاحب هذه الأبيات وكان شعاعاً ملاكه الأناة والفطنة والعمق وبعد النظر ووضوح الرؤية والسداد وجريان الحق على لسانه وقلبه .(3/209)
ونحن إذ نعدد من مناقبه ما نعدد لا نبغي ثناء عليه ولا رثاء وإنما ذكرناه لأنها - فيما نعلمه - مفتاح شخصيته وسر جاذبيته وتأثيره الآسر لتلاميذه ، ولرفاقه على الدرب الوعر الطويل وكانت معاونه في مسيرته الشاقة المضنية . كانت عماد علاقاته بالناس كل الناس ، وكانت قوام منهجه العلمي التربوي كانت شخصيته المحور والمركز والرافد الذي يمد عناصر المنهج الأخرى بالفاعلية والحيوية .
وهذه الشخصية الآسرة التي إليها الأفئدة بكل قسماتها ولبناتها، هبة وتوفيقاً ربانياً مجسماً.
فالشيخ - رحمة الله - لم ينحت شخصية ولم يبنها على أسس وأصول خارجية أصلها المربون ، أو ابتدعها الفلاسفة ، أو قننها علماء النفس ، إنه كان بحق مفطوراً على قوى آسية ، هادئة مبصرة ، كان موهوباً.
إذا تقرر هذا يمكننا أن نقول : إن حجز الزاوية في منهجه العلمى التعليمى إنشاء علاقة حب متبادل بينه وبين كل الواردين ورده من طلبة نظامين ، ومن قاصدين يتتبعون خطاه ويتحرون دروسه ، ومن باحثين يحضرون الدراسات العليا ، ومن علماء أجلاء كانوا يستهدونه ويلتمسون رأيه في مشكة علمية ، أو في قضية تعددت فيها الرؤي أو تحيرت فيها الألباب.
وكان لا يحب أن يكون تلميذه فاقد الوزن ، ريشة في مهب الرياح ، لذلك كان همه الأول أن يولد في نفس الطالب ثقة تقيم صلبه ، وتجلو مداركه ، وتذلل له وعثاء الطريق.
كان يحاور الطالب وعلى شفتيه ابتسامة توحى للطالب وعلى شفتيه توحى للطالب أنه حاز الإعجاب ، ووافق الصواب ، وكان يستقبل الإجابات باهتمام بالغ ، فإذا ظفر بجزئية صحيحة هلل لها وأثني عليها ، ووقف عندها ليشرح صدر الطالب ، ويرفع من روحه ويخفف من اثر ما قد يكون من نقد.0
وكان يري ان ارتباط الطالب بعالم الكتب هو المستحج الذي يجلو ، ويلفظ الزبد. فكان يحدو الطالب - في رفق ، ولطف ويوجهه إلي القراءة.(3/210)
وكان في كل جلسة يتحدث عن كتاب أو أكثر حديثاً كأنه عارض ، وهو في الحقيقة مرتب مقصود ، وكان إذا وجد بين إجابة طالب وكتاب ما أدنى ملابسه ، بادر الطالب بقوله : جميل أنك قرأت كتاب كذا . إن أرواحه تهب من إجابتك.
فإذا ابتدأ - بعد كل هذا - يغذي ويرفد - حرص على أن يحوم حول العقيدة ، وإن كان الدرس درس نحو ، أو أدب ، أو بلاغة ، أو تعبير. حام حول العقيدة يقيمها أو يجلوها ويصقلها ، أو ينقيها مما غشيها .
ذلك لأنه كان يري أن العقيدة الملتاثة طريق الهاوية ، ونذير الخيبة والندامة هكذا. حتى إذا هيأ الطالب وأمنه ، وبرح به الهوينى يربيه ، ويعليه ويزكيه .
وكان - رحمه الله - يؤمن أن للمواقف بصماتها في تكوين الشخصية ، وأن اقتحامها يورث الشجاعة ، ويصنع الأبطال ، فكان كثيراً ما ينتخب نخبة من تلاميذه ، ويكلفهم بموضوع في المنهج يعدونه مستعينين بالمتن والحاشية ، ثم يصطفي واحداً أو أكثر ليحاضر ويناقش ، أو ليخطب العيد في حضرة عدد من عليه العلماء.
ولقد صنع - رحمة الله - بمثل هذه المؤثرات جيلاً من الدعاة لا يزالون يعكسون مما تلقوا ، ويصنعون - بدورهم - دعاة آخرين.
ولقد سعدت بالتتلمذ عليه - رحمه الله - في معاهد العلم. ومعاهد العلم تحكمها مقررات. ومناهج ، ولكن فضيلته لم يكن نمطياً في تعامله مع المقررات والمناهج ، بل كان ينتهج طريقه ثرة العطاء ، مترامية الأبعاد ، جمة السابيب ، محورة المدار . فيها يتخذ الموضوع المقرر محوراً يفتح على فنون من العلوم ندلف منها إلي الموضوع أو ندلف إليها من الموضوع.
وهى طريقة شديدة الشبه بما كان يسمي في الأزهر 0 بالتعيين - يعين للطالب في السنة النهائية جزء محدد - في كتاب أم - للنحو فيه مجال ، وللصرف مجال ، وللبلاغة مجال 00 الخ . وشديدة الشبه بما درسناه في معاهد التربية العليا تحت اسم الطريقة المحورية ، وهكذا كان يغذي تلاميذه بوجبة دسمة غنية بالعناصر.(3/211)
سعدت - كذلك - بالتتلمذ عليه خارج التعليم في المساجد ، والجمعيات ، وفي المحافل ومراكز الثقافة ، وفي قاعات البحوث. وكان رائدة - وهو يغاير من أساليبه " لكل مقال ولكل حالة لبوسها ". ومعنى ذك أنه لم يكن نمطياً ، راكداً كالماء الآسن ن بل كان سيالاً ، يتكيف مع شتي الأجواء.
قال في مقدمة محاضرته عن شبهات حول السنة : المسلم الداعية ، أو المناظر الذي يثبت حجية السنة ، ويدفع الشبه عنها يختلف موقفه باختلاف خصمه أو من يناظره ، فتارة يكون الخصم منكراً للسنة من أصلها جملة ! وموقف الداعية من هؤلاء. يختلف من موقفه من أولئك الرافضين لأحاديث معينة لا توافق فكرهم - لأولئك أسلوب ولهؤلاء أسلوب.
وكان من دأبة - رحمة الله - حين يناظر ، يحيط بخصمه من كل جانب ، ويسد عليه كل طريق ، ولذلك نراه يقرر - في المحاضرة ذاتها - أنه لا بد من التأسيس بالتركيز على : أنه لا بد من البناء على ضرورة الإيمان بواجب الوجود الذي يوحي إلي رسله بما يوحى ومن وجوب الإيمان يراسل يرسلون إلي العباد ، ومن جهة وجوب ما جاءت به الرسل - عقيدة وعملاً - على الأمة التي أرسلت إليها الرسل. وعلى هذه الأسس الوطيدة ، والأصول الثابتة يبني مناظرته ويحاج خصومه.
والعقيدة باعتبارها قاعدة الإطلاق مركز الانطلاق ، والسنة باعتبارها الوحى الثاني ، والواجهة التي تتعرض للأهباء والأقذاء والأنواء ، كانتا مناط اهتمام الشيخ - رحمه الله - يركز عليهما ، أو يلمح إليهما ، أو يذكر بهما ، ويمسهما مساساً رفيقاً في شتي أحاديثه ، ويتعرض لهما لأدنى ملابسه بينها وبين الموضوع الذي يعالجه.
وكان في جل مناظراته ، ومساجلاته ينفض عنهما ما عراهما من غبرة ، وينفي عنهما تحريف الغاليين ، وتأويا الجاهلين ، وإبطال المبطلين .(3/212)
إن مما حفظ ناه عنه - رحمة الله : ( إذا ناظرت فليكن همك تحرير عقيدة خصمك . وزلزلة أركان باطله بقذائف الحق ، ثم انزح ردوم الباطل ووال فؤاده حتى يتطهر ، فإذا تطهر غذه بحلاوة الحق ). وظنى أنه كان في مقالته تلك يستهدى قول الله (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ). أي يذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ن بل ظنى أنه كان في منهجه كله يترسم خطا القرآن الكريم ، ويستهدي مواقفه فإنك إذا تأملت القرآن المدنى وجدته يواجه ضمن ما يواجهه تسلط أهل الكتاب على أفكار العرب ، وحشوهم إياهم بخزعبلات ، ومفاهيم غثه ما أنزل الله بها من سلطان ، مدعيين أنهم أحباء الله وخاصته من خلقه ، وأنهم أوعية علم الله في الأرض ، وأنهم 00 وأنهم 00 وآمن عرب الجاهلية بهذا فانصاعوا لهم - تحت ضغوط عقدة الأمية - وانفتحوا أمام غزوهم الفكرى ، واتخذوهم مراجع ومستشارين.
وجاء القرآن والعرب يرسفون في هذه الأغلال فابتدأ بتحطيمها عري اليهود ،وشرحهم حتى بدت فقارهم ، وعدد مخازيهم ، وكشف عن فراهم ، و فضح جرائمهم وبين غدرهم ، وأظهر خبث نيتهم وسوء طويتهم ، حتى حطم التمثال الكاذب الذي أقاموه لأنفسهم في نفوس العرب ، وكان - وهو يفعل ذلك - يزكي الوجدان ويطهر الفكر ، وتحل البدائل القيمة محل الأباطيل ، والحق الأبلج مكان الضلال الأثيم - هدم لكل ما أقاموا وتقويض لكل ما أحدثوا ، ثم نزح للحدث وإزالة للأنقاض ، ثم نزخ للحدث وإزالة للأنقاض ، ثم إرساء ورفع للقواعد ، وتشييد لصروح الحق.(3/213)
والقرآن إذ يعمل معاوله في مؤسسات الشياطين ، يحرص على أن يقدم البديل تلمس هذا بجلاء وأنت تتمعن في قوله تعالى من سورة آل عمران : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) .
حسن المآب هو البديل المجمل الذي فصل بعد ذلك تفصيلاً يثير الشوق ، ويجدد الطريق (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ* (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ).(3/214)
كما تلمسه وأنت تتابع استقراء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأجرام في السماء وهو في مقام التنبيه ، والإيقاظ ، وتسفيه الأحلام التى تتخذ من دون الله آلهة : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
وآيات الأنعام هذه يتمثل بها الشيخ - رحمه الله - وهو يدرس المنطق الحديث القائم على الاستقراء والغربلة ، وفرض الفروض ، وتحقيق الحقيقة.
ولقد عاش - رحمه الله - في مصر أياماً اتسع فيها مد الصوفية ، وراجت أفكارهم التى تزعم في الأنبياء زعماً أقرب إلي زعم النصاري في نبيهم . وغالى بعضهم فزعم أن محمداً وربه حقيقة واحدة ، وفيهم من زعم أنهم خلقوا من نور ، وإن أجسادهم شفافة شفافية البلور النقي ، وأن .. وأن .. إلي آخر تلك الأباطيل التى باركتها السياسة ، ومكن الاستعمار لأقطابها في الأرض.(3/215)
ولقد تصدى الشيخ - رحمه الله - لمثل هذه النزعات الضالة ، وكان أخشي ما يخشاه أن يفيض المستنقع الصوفى ، ويلوث ما حوله ، ويتسلل إلي خلد بعض تلاميذه الموحدين رأي بأن الخطر داهم ، وأنه يتفجر من مراكز قوة . وان صنائع الغرب المستعمر يفسحون لهذه الأفكار ويهشون لها باسم حرية الفكر وباسم الفلسفة الإسلامية.
والمظنون أن يعمد الشيخ - رحمه الله - وهو يتصدى - غلي حشود الآيات والأحاديث التى حسمت مثل هذه القضايا حسماً لا تعتريه شبهة والواقع أنه - رحمه الله - ركب مركب السهل الممتنع الذي يؤثر منطبعاً في النفوس.
لقد أدرك فضيلته - رحمة الله - أن الطغمة التى ترتفع بأقدار الأنبياء إلي ما يقرب من التأليه ، متأثرون بقالة القرون الأولى التي استنكرت بشرية الرسل ، ولهجت ألسنتها بمثل : (هل هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ). ( ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ).
( مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) . (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ).
عمد فضيلته - رحمة الله - إلي سورة الأنبياء يستهدى بآياتها مع تأمله - رحمة الله - لمثل - قول الله في الأنبياء : (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ). ومثل قوله : (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ ). ومثل قوله سبحانه : (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
وكذلك تمعن في سير الأنبياء ونفذ إلي ما تحمل من معالم البشرية ومظاهر القصور والافتقار والحاجة إلي قوة عليا تجبر القصور ، وتشبع الرغبة البشرية التى تعتمل في نفوس الأنبياء كما تعتمل في نفوس سائر البشر.(3/216)
قال رحمه الله : " قدم القرآن بين يدي حديثه عن الرسل المطبوعين في غدوهم ورواحهم وانفالاتهم بطابع البشرية ، قدم بلمحه خاطفة تفيد - ضمناً - أن الرسل الذين يعيشون بين أمم تهلك ، وقري تتداعى وتقصهم ، يعيشون مشفقين - إشفاق موسي وهو يصبح " أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ". وإشفاق محمد (ص) وهو يروح ويغدو قلقاً كلما أحس بالريح العاصف متمثلاً أمام عينيه أولئك الذين اهلكوا بالريح الذي عارضاً ممطراً - راجياً أن ينجز الله وعده ، وينزل سكينته ، وينجى حزبه ، (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ).
ويقف - رحمة الله - بعد هذا على قول الله : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ).
وتتراءى أمام عينيه كل الآيات التي تناولت موسى خائفاً يترقب فاراً من الملأ المؤتمرين به وتناولته يضطرب فرقاً ويولى مدبراً ساعة الخوف المضطرم في فؤاد موسى عن هو إلا صوت الطين وصدى البشرية.
ويذكر إبراهيم عليه السلام. ويذكر تمكن القوم منه ، وإحداقهم به ، وتقييدهم له ، وقذفهم به إلي النار مقيداً. ثم حاجته إلي الإنجاء بعيداً عن سلطان الآخرين ، وإقرار الله عينه بما وهب له من ولد ، وهكذا يتناول قصة لوط وداود وسليمان وأيوب وذي النون وزكريا. وكلها قصص تفي بالحاجة ، وتصور الانفعالات وتنطق بالبشرية التى تتوق إلي الولد ، وتجار مستغيثة من مس الضر ومن ضغوط الظلمات.
إن الذي يترجم عن منهج عملاق طوى تسعين حجة يذرع الأبعاد ، ويسبر الأغوار ، ويدعو إلي صراط الله بالحكمة بمدلولها الواسع ، الذي يحتم إحاطة وتمكناً من المادة العلمية ، ومعرفته بالناس ، وعلماً بالظروف والتزاماً بالحدود مع عدم تجاوز الداعية لقدره.
لا تسعه الأيام ، ولا تسعفه الكلمات ، ولا تكفيه الوريقات ، فمعذرة لأني لم أوف فضيلته حقه - رحمه الله.
بخاري أحمد عبده
العالية من كلية اللغة العربية(3/217)
ماجستير في التربية وعلم النفس
نائب رئيس عام جماعة أنصار السنة المحمدية
بجمهورية مصر العربية
" ذكريات لا تنسي "
فضيلة الشيخ محمد عبد الوهاب البنا
…عرفت شيخنا عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله- في عام ( 1357 هـ - 1937 م ) ن ورافقته وتجولت معه للدعوة إلي الله ، وسافرت معه إلي بعض مدن وقرى القاهرة ، فكان ونعم للدعوة إلي الله ، وسافرت معه إلي بعض مدن وقرى القاهرة ، فكان نعم المربي وخير الرفيق ، وحسن توجيه مع دمائه خلق ، وسعة إطلاع وغزارة علم ، يجادل بالتي هي أحسن ، ويحلم على من يجهل عليه.
…كنت بالقاهرة وكان هو بالإسكندرية ، فإذا شرف القاهرة لازمته في زياراته إلي فروع الجماعة " أنصار السنة" كما كنت أزوره بصحبة الأستاذ محمد صادق عرفوس - رحمة الله - فيحتفى بنا ويكرمنا " أكرمه الله وأحسن مثوبته " وكان منزله - رحمه الله - مثابة لأخوة الوافدين من كل فج.
سعدت بصحبته عام 1370 هـ في طريقه للحج ، ومعنا الشيخ محمد على عبد الرحيم " رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية " رحمة الله ، مع عوائلنا بالباخرة ، وكان خير رفيق ن فمع تقدمه وفضله وكبر سنة ، كان الغرف ، وكذلك فعل لما نزلنا مكة وجدة ، في الفنادق يقدمنا وعوائلنا على نفسه وعائلته ، أتممنا مناسك الحج ، وسافرنا جميعاً إلي الرياض للتدريس بمعهد الرياض العلمي ، حيث التقينام مع خير مجموعة عرفت من أفاضل العلماء منهم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله- والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي ، والشيخ عبد الله الخليفي - رحمهم الله - وغيرهم.(3/218)
وكنا نزور الملك عبد العزيز - رحمة الله - ليلة الخميس ط على ما أذكر " ويلقي الشيخ عبد الرزاق كلمة موعظة موجزة ، وكان يبدو على الملك عبد العزيز _ رحمة الله - السرور والانشراح ، كما كنا نجتمع عند سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ " مفتى المملكة رحمة الله " الذي كان يصطفي الشيخ عبد الرزاق عفيفي " وحق له ذلك " فقد كان الشيخ عبد الرزاق يشبه الشيخ محمد بن إبراهيم في حسن السمت ورجاحة العقل.
…وفي عام (1372 هـ) اتسع المعهد العلمي ، وحضرت مجموعة من كبار أساتذة الأزهر ، وكان من بين من حضر الشيخ محمد خليل هراس ، والشيخ عبد الرحمن الوكيل " عليهما رحمة الله " وكان كثيراً ما يحدث نقاش بينهما وبين مشايخ الأزهر ، وإذا احتدم النقاش ، وضح الشيخ عبد الرزاق وجهات النظر ، وبين الحق ، فسلم الجميع لوجهة نظره.
…ومن حسن سياسة الشيخ محمد بن إبراهيم " رحمة الله رحمة واسعة" أن عرض علينا الاجتماع لدراسة منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية ، فكان الشيخ محمد خليل هراست - رحمة الله - يقرأ على الشيخ محمد بن إبراهيم ويقوم الأخير بالتعليق على قراءته ، وكثيراً ما كان الشيخ محمد بن إبراهيم ويقوم الأخير بالتعليق على قراءاته ، وكثيراً ما كان يحيل على الشيخ عبد الرزاق عفيفي فيفصل ويبين العبارات بدقة وحكمة ، ويذكر وجهات نظر الفرق المخالفة ، ولقد كان لهذه الجلسات الأثر الطيب على الكثير ممن نشأوا على غير عقيدة السلف الصالح من أساتذة الأزهر ، وشاء الله أن أنقل إلي الأحساء للتدريس بمعهدها ، وكان الشيخ عبد الرزاق والشيخ عبد الرحمن الأفريقي ، والشيخ محمد على عبد الرحيم رحمهم الله جميعاً يزورونا ين الفينة والأخرى ، كما كنا نجتمع للحج كل عام بمكة المكرمة ، وكذلك لما عملت بالجامعة الإسلامية بالمدينة وكذا بجدة ، لم يأت الشيخ - رحمة الله - إلي مكة إلا وزارنى.(3/219)
…كان - رحمة الله - صبوراً. فمثلاً ونحن بالمعهد العلمي بالرياض ، جاءته رسالة ولما قرأ ما فيها ن رفع رأسه إلي السماء وحرك شفتيه ورأيت على وجهه التأثر ، فقلت له : خيراً ، فقال : مات والدى رحمه الله ، ومن أمثله صبره أيضاً : أن ولده أحمد قتل عام 1393 هـ في حرب أكتوبر بمصر ، ولما جاءه الخبر ، ما زاد على أن ترحم عليه واستمر في عمله ، وكان شيئاً لم يكن.
وقد علمت وأنا بجدة بأن ولده عبد الرحمن - رحمة الله - قد مات على إثر انفجار خزان مياه فسافرت لتعزيته ، وكان هذا الشاب عضده وساعده الأيمن ومن احسن أبنائه ومع ذلك ، كان الشيخ عبد الرزاق- رحمه الله - صابراً محتسباً ، ولم أر مثل شيخنا في صبره واحتسابه إلا الشيخ محمد نصيف - رحمة الله - فقد علمت بوفاة ابنه عمر - رحمة الله - وكان أحسن أبنائه ، وكنت بالمدينة ، فقدمت إلي جدة مع زميل لي هو الأستاذ رمضان أبو العز ، لتعزيته ، وكنت والأستاذ رمضان في غاية الحزن والأسي ، ويبدو علينا التأثر ، فأخذ الشيخ محمد نصيف يسري عنا ويضاحكنا ، فذكر قصة غاية في الغرابة خففت من أحزاننا.
…فرحم الله شيخنا الشايخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله واسعة ، وجزاه عنا وعن الإسلام خير الجزاء ،وجمعنا به مع نبينا محمد (ص).
كتبه
محمد عبد الوهاب مرزوق البنا
جدة - المملكة العربية السعودية
لقاءاتي بفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله
بقلم : حسن محمد الجنيدي
الوكيل السابق لأنصار السنة المحمدية بمصر
…إن سردي للمقابلات التى حدثت بيني وبين أستاذنا الراحل فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، ليس من ورائها قصد سوى بيان قبس من خلق هذا الحبر وتواضعه الجم ، وخلقه الكريم ، ولسانه العفيف.(3/220)
فقد بدأت هذه اللقاءات منذ أربعين عاماً في الرياض ، عندما انتدبت ضمن بعثة مصرية إلي الرياض ، لتأسيس كلية الملك عبد العزيز الحربية بالرياض ، حيث كان بها فضيلة الشيخ عبد الرزاق بمعهد إمام الدعوة ، فكنت كلما زرت فضيلته في بيته للاقتباس من علمه ، وسؤاله فيما نحب أن نعرف من أمور ديننا الحنيف ، إلا رد زيارتي 0 رغم مشاغله الكثيرة - وزارني في بيتين بالرياض ، وبرفقته فضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم - مما جعلنى أنسي وحشتي وغربتي ، وأشعر أنني بين أهلي وعشيرتي ، خاصة وأن زيارة فضيلته كانت تتضمن كثيراً من النصائح الغالية الثمينة التى يبقي أثرها طول العمر ، ومن بينها تطهير المنزل من تعليق الصور ولو كانت لبعض الحيوانات والطيور ، لأنها عبدت قديماً وما زالت تعبد حتى اليوم ، كعجل بنى إسرائيل وعبادة البقر للهندوكيين ، فضلاً عن آلهة قدماء المصريين - ومن بينها أيضاً - الحرص على العلاقات الطيبة الحميمة مع سائر الجماعات الإسلامية التى تدعو إلي الإسلام ، ومحاولة جذبهم لدعوة التوحيد لتكن نقطة البداية والانطلاق في الدعوة الإسلامية ، وذلك عن طريق الإعراض عن ذكر مثالب الجماعات الأخرى ، والإمساك عن الطعن فيها ، بل نذكر محاسنها ونتألفها.
…وبعد عودتى من السعودية بعام توفي الشيخ حامد الفقي - رحمة الله - وحضر إلينا فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في إجازة صيفية ، لازمته خلالها مع الأخوة - قدماء أنصار السنة المحمدية - في زيارة لمختلف فروع الجماعة ، حيث كان الترحيب به حاراً ، وكان الإجماع على انتخابه رئيساً للجماعة خلفاً لفضيلة الشيخ وحامد ، ولكن حالت بعض الأحوال السائدة في مصر وقتئذ دون استمراره في البقاء معنا ، فعاد إلي السعودية متخلياً عن الرئاسة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن الوكيل - رحمة الله.(3/221)
وكنت بعدئذ كلما ذهبت للحج حريصاً كل الحرص على زيارته في إدارة التوعية بمكة المكرمة ، مع أخوتى الحجاج من أنصار السنة المحمدية ، وأشهد الله أن لقاءاتي جميعاً كانت مجالس علم ونصيحة الله ولرسوله ولعامة المسلمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أيام من حياة شيخنا " رحمة الله "
لأحد تلامذته حسن بن محمد إسماعيل
الإسكندرية - مصر
…توكلت على الله وأمسكت بالقلم لأسطر به سطوراً من نور ، عن حياة شيخنا صاحب الفضيلة العالم الجليل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، غفر الله له وأسكنه فسيح جناته ، عاشها معنا بالإسكندرية ، فبدأت بالمقدمة ولم أستطع أن أسيطر على أعصابي ونزلت الدموع بشكل لم أعهده من قبل ، فتركت القلم ليجف دمعى ، ولكنى وجدت أن خير مسكت لدموعى ، هو أن أعيش بعض الوقت مع كتاب عندى تصدره هيئة كبار العلماء لعلنى أجد فيه السلوى ، وأخذت أقرأ سؤالاً وجواباً في الفتاوى التى تشترك هيئة كبار العلماء في الرد عليها وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - ثم فضيلة شيخنا الجليل ، وبعدة القراءة التى دامت أكثر من ساعتين وأنا اقلب الصفحات عاد إلي هدوئي ، وعدت للكتابة وأنا أدعو لشيخنا الفاضل بما فتح الله به علي من الدعاء الذي أدعو الله مرة أخرى أن يتقبله إنه سميع مجيب.(3/222)
…وأمسكت بالقلم للكتابة وفكرت من أين أبدأ ، ورأيت أن من والواجب أن أكتب من أول يوم تقابلت فيه مع الشيخ ، عندما ذهبت إلي المعهد الديني لتقديم أوراقي ، وإذ بفضيلة الشيخ يقدم لنا أسئلة شفوية لاستخبار قدرتنا ، فأثني على بعضنا ، وقال للمسئول خذ منهم فوراً ولا داعى لأن يعودوا إذاً لأن الوقت كان قد انتهي ، فشكرنا له حسن صنيعه وكيف أنه عاملنا هذه المعاملة الطيبة التى لم نلقاها في المعهد الابتدائي ، كنا في الابتدائي نشعر بالغلطة من بعض المشايخ غفر الله لهم وسامحهم ، ثم خرجنا جميعاً ونحن نثني على هذه الروح الطيبة والمعاملة الحسنة التى وجدنا فيها عزاء وتعويضاً عما لقيناه من مشايخنا السابقين ثم جاء ميعاد ابتداء الدراسة ، وإذ بشيخنا يرحب بنا ثم عرفنا انه وكيل المعهد ، وهذا يعني بلغة الأزهرين ( المدير) فزدنا حباً له ونحن شباب في أول دراستنا الثانوية ، فحمدنا الله تبارك وتعالى على هذا الوالد المثالي الذي يحنو علينا ، ويعاملنا وكأننا أبناؤه ، مما جعلنا جميعاً نحسب له ألف حساب بخلاف جميع المشايخ الذي كان اهتمامنا بهم من أجل الدرس والتحصيل فقط.(3/223)
ثم فجأة انتقلت أسرتي إلي حي غربال ، وهذا حي يسكنه عدد كبير من الأقباط ، وكان هذا الحي تابع لقسم كرموز وهو من الأقسام التي تمتلئ بالأحياء الشعبية بمدينة الإسكندرية ، فإذا بفضيلة الشيخ يجاورنا في السكن وفي التدريس بمساجد الحي ، و قد استطاع أن يخضع هذه المساجد تحت رئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بالمملكة المصرية وقتذاك ، فصرت أحضر له دروساً في المعهد ودروساً في المساجد ، وكانت الدراسة في المسجد مهمة جداً مما جعلتنا جميعاً نتفوق في الدراسة في المعهد ، وذلك أن شيخنا يعطينا الدرس كالمادة التى تكون علينا في ذلك فصرنا نحن الطلبة نحضر له دروس المسجد لزيادة وارتفاع الدرجات ، فإذا لم أذهب مبكراً إلي المسجدة كان معنى هذا أن أجلس بعيداً عن فضيلة الشيخ ، هكذا كان الشيخ لا ويألو جهداً في سبيل المداومة على هذا العمل الذي كان يكلفه كثيراً من الوقت ، وسرنا جميعاً وراءه لا اقول عشرات بل مئات ، لأن مساجد أنصار السنة كثيرة جداً وذلك بفضل الله ثم بجهود شيخنا العالم المغوالا ، الذي كان يمشي في الطرقات فيجد البناء يرتفع علي الأرض فيذهب إلي صاحب البيت ويطلي أن ويشركه في المصاريف مقابل أن يجعل الدور الأرضي في البناء مسجداً ، وبهذا كان يبني في المعهد دعاة ويبني في الشارع مسجداً هذا مما جعلنا نحبه جميعاً طلبة وآباء ونحترمه كل الاحترام ، حتى أنه إذا طلب من أحدنا شيئاً أسرعنا جميعاً إليه نلبي طلبه وسارت الأيام تتوالى ، وفضيلة الشيخ لاى يدخر جهداً في توصيل العلم والمعرفة ، رغم أن عمله كوكيل للمعهد لا يعطيه جهداً في التدريس بالمعهد ، ولكنه كان له وجهة نظر وهو أنه يريد أن يخرج صنفاً من الدعاة إلي جانب الوظيفة التي يسعون من أجل الحصول عليها ، ولهذا كرس حياته لتوصيل العلم بإخلاص إلي جميع الطلبة وفي جميع المراحل حتى كان له ما أراد من تجميع الشباب المثقف حول الدعوة ، كانت جماعة أنصار السنة المحمدية بالمملكة(3/224)
المصرية قد عينت فضيلته رئيساً للجماعة بمدينة الإسكندرية ففرحنا جميعاً وعمناً السرور ، وعرفنا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، وجاءت الوفود من الأقاليم للتهنئة ، وفي يوم من أيام صيف عام ( 1362 هـ - 1942 م ) مر فضيلة الشيخ برجل يبني بيتاً كبيراً وفي أول دور ، فقال له شيخنا بعد أن بدأه محيياً بالسلام : هل لك شريك في هذا العمل - يقصد بناء البيت - فقال الرجل : هو لى وحدي ورثت الأرض عن أبي وأقوم الآن بالبناء فرد عليه الشيخ : هل تسمح لنا بتأجير الدور الأرضي لنتخذه مسجداً على أن نعطيك ما تشاء ، فقال الرجل وكان كبير السنة وقوراً : أنا لا أمانع في ذلك ابداً وبدون أجر البتة بل وسارعي هذا بنفسي ، وكان الرجل يدعي الحاج عبده ، وكان رجلاً فاضلاً ، ولقد صدق الحاج عبده فأكمل البناء وأدخل الماء والكهرباء وبني المسجد وهيأه بكل ما يلزم للمصلين وجعل دورة المياه مناسبة ، وفي يوم من الأيام والشيخ يمر كعادته مستفسراً ماذا تم ، إذ بالحاج عبده يخرج المفتاح ويقول ك ألف مبروك أدعو الله أن يتقبل منى هذا العمل ، فدعا له الشيخ ولما حضرنا كرر فضيلة الشيخ الذى كان ينظر إلي الحاج عبده وهو يبتسم فرحاً بهذا الجهد الذي بذله ، وفي اليوم الثاني افتتح الشيخ المسجد بصلاة العصر وكان هذا المسجد اقرب المساجد من ورشة ابي ، فسها لي الذهاب يقص علينا القصص وما قصه علينا إسلام سلمان الفارسي وجعلنا نبراساً لنا يضيء الطريق ، وفي اليوم ختم الدرس قائلاً استمتعتم إلي قصة سلمان الفارسي الذي كان صغيراً ولم يقتنع بما يعبد أبواه ، إذ كانوا من المجوس يعبدون النار ، فقال الشيخ : أنتم أسعد حظاً من هذا وهو غلام ، وقال لنا : ولدتم على الإسلام وتربيتم على الإسلام والآن تدرسون الإسلام ، فما مدى هذه السعادة التى أعطاكم الله إياها ، ألا تخشون من قولى هذا أنكم محظوظون في جميع أطوار حياتكم ، إذا فلا بد أن تكرسوها للدعوة إلي عبادة من(3/225)
وهبكم كل هذه النعم ، وفي هذا الأسبوع الذي افتتح فيه المسجد ، جاء من القاهرة خبر أثلج صدورنا جميعاً وزاد من فرحتنا ، وذلك أن اللجنة المركزية لجماعة أنصار السنة المحمدية اجتمعت بالقاهرة واختارت بالإجماع فضيلة الشيخ الفاضل عبد الرزاق رئيساً لجماعة أنصار السنة المحمدية بالقطر المصري ، وتوافدت الوفود على مدينة الإسكندرية تهنئ شيخنا الجليل بهذا المنصب المحبب إلي نفوسنا جميعاً ، وسرنا جميعاً أن هذا الاختيار قد جاء بإجماع الأصوات ، وكانت الوفود القادمة من أنحاء القطر المصري تحمل الهدايا لفضيلة الشيخ الذي كان بدوره يقوم بتوزيعها على مستحقيها.(3/226)
…وفي يوم من الأيام وبعد أن أذن لصلاة العصر أتي إلي المسجد أحد الرجال الذين نعرفهم ، ونعرف تاريخهم الأسود ، و قال : إذا لم تؤذنوا كما نؤذن أغلقت عليكم المسجد وأنتم تصلون ، فرد عليه الحاج عبده قائلاً : انتظر حتى يأتي الشيخ وقل له هذا الكلام ـ فقال : لن انتظر ولكنى سأحضر في صلاة العشاء ، وكان المعروف عن هذا الرجل انه صاحب مقهى وصاحب عصابة تجلس علي المقهى وهم من الرجال الذين اعتادوا الإجرام ، وما قاله له الحاج عبده يعتبر شجاعة نادرة وبعد قليل حضر فضيلة الشيخ وصلي بنا العصر ، وبعد التسليم مباشرة أخبره الحاج عبده بما حدث ، وانصرفت إلي ورشة أبي وأخذت أعمل كعادتي وإذ بالشيخ ومعه أربعة من الجماعة يذهبون إلي المقهي ، فيجذون ذلك الرجل ويسلمون عليه ويجلسون معه ويتحدث إليه فضيلة الشيخ وأنا أراقبه من بعد ، و صمم الشيخ أن يدفع ثمن المشروب الذي قدم إليه واستمر الشيخ في حديثه وأنا أرقبه من بعيد واطلب من الله تبارك وتعالى السلامة لفضيلة الشيخ والأخوة الأربعة ، ومرت عشرون دقيقة وكأنها ساعات طوال وقاموا جميعاً وانصرفوا ، وفرحنا بأنها مرت والحمد لله بسلام وعدت إلي العمل لأجد أبي في انتظاري فقال لى : أين كنت ، فأخبرته بما حدث فدعا للشيخ ما شاء الله له أن يدعو ، وجاء وقت المغرب وسمعت الأذان ، ولكن في هذه المرة لم أستطع التعرف علي المؤذن ، فقلت في نفسي : من أين جاءوا بهذا المؤذن الجديد ، فأسرعت الخطي حتى لحقته بالمسجد وهو يؤذن وكانت دهشتي عظيمة وإذ أن الذي يؤذن الآن هو ذلك الرجل الذي كان يريد أن يغلق المسجد في صلاة العصر فسبحان مغير الأحوال ، ودخلنا جميعاً إلي المسجد وصلي بنا فضيلة الشيخ الفريضة ، وكان من عادته أن يلقي درساً من المغرب إلي العشاء فجعل هذا الدرس عن صاحبنا الذي جلس ليستمع ، وعندما بدأ فضيلته الكلام قال : إن الهداية من الله تبارك وتعالي ، وأن الله إذا أراد أن يهدى رجلاً أرسل إليه من(3/227)
يكون سبباً في هدايته ، ولذلك كان علينا أن نعيش دروس الهداية ولا نقصر في الحضور حتى نخرج جميعاً إلي الناس ونحن على مستوى الدعوة ، ولهذا أجلس إليكم لنتعرف على الطريقة المثلي في الدعوة إلي الله وهي أمر واجب علي كل داعية ، فإذا كانت أنصار السنة لا يتمسكون بهذا الأمر فأين هي السنة ، ومن هنا نري أن أسلوب سيخنا في الدعوة كان أسلوباً رائعاً يجعل المستمع في شوق إلي الاستماع ، وكفي تدليلاً على ذلك أنه ما ذهب إلي أمر مهما كان هذا الأمر ما ويبذل له النصح ينتظر بماذا يرجع ، فإذا نجح زوده بمزيد من التجارب ليمحصه ، أما إذا فشل فإنه يصحبه معه شخصياً عدة مرات حتى يطمئن على نجاحه ، ثم بتركه يخوض الدعوة بنفسه بعد أن دربه واطمأن عليه ، وبعد أن أخذت أواصر المحبة بيننا وبين هذا الرجل - الذي كان يريد إغلاق المسجد علينا - تتوثق سألناه ، ماذا كان موقفك وشعورك والشيخ يتحدث ولأول مرة معك ؟ قال : لقد أحسست وأنا أسمتع إلي كلماته كأنني كنت في حاجة شديدة إلي هذا النوع من النصح والإرشاد وكانت الكلمات ترن في أدنى فتدخل إلي قلبي الذي فتح مستجيباً لها ويريد المزيد ، حتى إذا انتهي الشيخ ووقف مستأذناً في العودة ، وأنا في حاجة شديد إلي المزيد ، قال لي : إن المسجد مفتوح وتستطيع أن تعتبر نفسك أحدنا ، فلما قال الشيخ هذا القول أسرعت بالآذان في المسجد حتى يزداد إحساسي ويطمئن قلبي ، وقد كان لي ما أردت فلما أذنت المغرب ورأيت جميع الأخوة ينظرون إلي ويبتسمون أعطتني هذه الابتسامة كل الثقة في أن هذه هي الأخوة الحقيقة ، أخوة أنصار السنة المحمدية ، وكنا نغيب فترة من الزمن ونسأله عن حاله فكان صادقاً في كل مرة يتحدث ثم كان يجلس إلي الشيخ يستمع إلي نصائحه وتوجيهاته حتى صار إماماً لذلك المسجد الذي كان يريد أن يغلقه على المصلين ن وكلما تقدمت الأيام رأيته متمسكاً بالسنة حتى أنه أطلق لحيته وربي أولاده تربية إسلامية ، ونهل معه(3/228)
جميع أفراد أسرته الكبيرة من نبع السنة المبارك ، وبعد ذلك انتقلنا من حي " غربال " الذي ذكرناه إلي حي " اسبورتينج " بعيداً جداً وعندما كنا نزوره نجده في خيرٍ وسلام ، وعندما حضرت إلي المملكة العربية السعودية ، وتقابلت مع فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي سألني عنه فأجبته بخير ، وأنه الآن يفعل ما كنت تفعل ، فسر سروراً كبيراً وهكذا نجح شيخنا الفاضل في أنه ربي دعاة من جميع الطبقات وفي جميع الأحياء ، وكلهم على علم . إن الشيخ عبد الرزاق عفيفي يرحمه الله نوع نادر من الدعاة قل أن يوجد ، والدليل أمامنا واضح جداً ، فأين الداعى الذي يذهب إلي الناس في عقر دراوهم ليقول لهم إن الله يقول : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
…ثم يخرج منتصراً فقد استجابوا لما سمعوه كصاحبنا الذي أشرنا إليه ، ولقد علمنا شيخنا في وقتنا أصول الدعوة وأراد بهذا العمل وجه الله ، ولذلك كان ناجحاً في جميع لم نسمع أن أحداً سخر منه أو أن أحداً رد عليه ولم يستجب له ، كان - رحمة الله - ناجحاً وكان يأخذ طلابه بالجد ليدربهم على كيفية الدعوة إلي الله ، وفي يوم كنت أزوره هنا في الرياض في بيته بحي عسير فإذا بفضيلة الشيخ يقول : لي إحك لنا حكاية يا شيخ حسن ، وذلك في حضور أبنائه وأصهاره ، فقصصت له قصة صاحبنا فلان والذي رمزنا إليه بذلك الاسم ، لأنه أصبح بعد ذلك إماماً الله لشيخنا وكتب له كل هذا الجهاد في سجل حسناته إنه سميع مجيب الدعاء.(3/229)
…ومعذرة للقراء الكرام فهذا ما علق بالذهن وحيث غنني لم أستطع ان اكتب ومزيداًُ من الأحداث ، ذلك لأن الذاكرة لم تسعفي وإنما كتبت ما تذكرته جيداً وبكل دقة وأمانة والحمد لله. لقد شاء الله تعالى أن أجمع بين التلمذه عند الشيخ في المعهد وفي المسجد ، وهذا من فضل الله على ، وأن أذكر هذه القصص التي مر عليها نصف قرن من الزمان ، وأختم كلمتي هذه داعياً الله تبارك وتعالى أن يجعل شيخنا من سكان الفردوس الأعلي أنه سميع مجيب الدعاء وصلي الله علي نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه حسن محمد إسماعيل
الإسكندرية - مصر
الفصل السابع
وفاته ومراثيه
مرضه ووفاته :
…كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله تعالى - قد أدخل المستشفي العسكري بالرياض الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الثلاثاء الموافق 16/3/1415 هـ في قسم العناية المركزة ، ثم أخرج من ذلك القسم في يوم الأحد 21/3/1415 هـ وهو يعاني من ألم شديد في الكبد وضعف في الكلي ووجود سوائل في الرئتين وهبط في ضربات القلب.
…وكان - رحمة الله - قبل وفاته - كما يروي ابنه محمد - في كامل وعيه وفي حالة ذكر الله عز وجل ، حتى ازداد ضيق نفسه وهبط الضغط لتخرج روحه إلي بارئها في صبيحة يوم الخميس الموافق 25/3/1415 هـ عن عمر يناهز التسعين عاماً ، قضاها في العلم والتعليم وبناء الرجال بالعمق والأصالة ودقة التحقيق.
…لقد وقع خبر وفاته على نفوس أبنائه ومحببه وعارفى فضله - وما أكثرهم - موقعاً عظيماً شعروا فيه بعظم الخسارة وفداحة الخطب ، وشدة المصاب.
…ولكن الكل - وهم مؤمنون بالله - يعلمون أن الموت حق وأنه مصير كل وحى وأن لكل أجل كتاب ، لم يسعهم إلا التسليم والإذعان لقضاء الله وقدره ، فصبروا على ما أصابهم ، واحتسبوا فقيدهم عند الله ، وأكثروا من الاسترجاع ( إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).(3/230)
وقد توافد أبناء هذه المملكة الحبيبة إلي عاصمتهم الرياض قاصدين الجامع الكبير - جامع الإمام تركي بن عبد الله للصلاة على جنازته ، فتوافدوا على المسجد المذكور وأتوا إليه من كل حدب وصوب فاكتظت بهم شوارع العاصمة ، وضاق المسجد بكثرة المصلين على سعته وكثرة ساحاته ، وأمهم في الصلاة على الجنازة فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد اله آل الشيخ وذلك عقب صلاة الجمعة الموافق 26/3/1415 هـ ـ وقد ضج المسجد بالبكاء ، ودعوا به بصادق الدعاء وخالص الرجاء ، أن يغفر الله له وأن يتغمد وأن يسكنه فسيح جناته.
…ومشي أبناء مدينة الرياض ومن جاءوا من المدن الأخرى في تشييع جنازته يتقدمهم معالى وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد الدكتور عبد الله بن عيد المحسن التركي ، وعدد كبير من أصحاب الفضيلة العلماء والدعاة ورجال الحسبة وطلبة العلم.
…إن هذا المشهد العظيم الذي عاشته المملكة في توديعها لهذا العالم يدل دلالة واضحة علي وعي هذه الأمة وتقديرها للعلماء العاملين من رجالها والأئمة المصلحين من أبنائها ، كما يدل وبشكل قاطع إن شاء الله على محبة هذه الجموع الغفيرة للمترجم له - رحمة الله.
حقاً لقد فقد العالم الإسلامي شيخاً فاضلاً وعالماً جليلاً ، وعلماً من أعلام هذه الأمة.
…وبوفاته انطفأت شمعة من شموع العلم والمعرفة ، بعد أن ظلت تؤدي رسالتها على نحو شريف وغاية سامية ونبيلة.
…ولئن كانت روحه قد انتقلت إلي بارئها ،فإن موروثاته الخالدة وأعمالهس المبرورة وستبقي علامة بارزة على طريق ذكراه ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وآثارهم في القلوب وجودة.
…وقد رثي الشيخ - رحمة الله - يمرائي كثيرة منها ما هو شعر ، ومنها ما هو نثر ، وهذا إن دل فإنما يدل على كثرة فضائله وكرمه ونبله ونصحه وزهده وعلومه المتنوعة الكثيرة.
عز العزاء وعم الحادث الجلل ……وطاش بالموت في تعميرك الأمل(3/231)
واستوحشت بعدما كنت الأنيس لها …وساءها فقدها الأسحار والأصل
وكنت تتلو كتاب الله معتبراً ………لا يعتريك على تكراره ملل
وكنت في سنة المختار مجتهداً ……وأنت باليمين والتوفيق مشتمل
وكنت زيناً لأهل العلم مفتخراً ……على جديد كساهم ثوبك السمل
وفي الصفحات التالية نماذج من النثر والشعر التي رثي بها الشيخ - رحمة الله - وهي غيض من فيض مما جادت به قرائح الشعراء واقلام العلماء والأدباء.
خادم الحرمين الشريفين
وسمو ولي وسمو النائب الثاني
يعزون سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز في وفاة
…تلقي خادم الحرمين الشريفين المل فهد بن عبد العزيز آل سعود برقية عزاء م سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء هذا نصها
…حضرة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز .. وفقه الله لما فيه رضاه ونصر به دينه آمين ، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد
…ففي صباح يوم الخميس الموافق 25/3/1415 هـ توفي صاحب الفضيلة العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو مجلس هيئة كبار العلماء ، ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، عن عمر جاوز التسعين - رحمة الله - من خيرة العلماء عقيدة وعلماً ودعوة وتعليماً ، مضي عليه في ذلك ما يقارب خمسين عاماً ضاعف الله حسناته وخلفه على المسلمين بأحسن الخلف ، وفسح في أجلكم على خير عمل ن وبارك في أوقاتكم وأعمالكم إنه جواد كريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
مفتي عام المملكة العربية السعودية
ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء
وقد وجه خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله البرقية الجوابية التالية لسماحته :
…سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.(3/232)
…مفتى عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء ... حفظه الله.
…سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أم بعد ......
فقد كدرنا نبأ وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، عضو هيئة كبار العلماء ، ونائب رئيس اللجنة الدائمة لبحوث العلمية والإفتاء وإننا إذ تعرب لسماحتكم عن تعازينا ومواساتنا نأمل إبلاغ ذلك لآسرته وذويه ، ونسأل الله جل وعلا أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جناته ، وأن يعوض المسلمين عنه خيراً والحمد لله على قضائه وقدره ... إنا لله وإنا إليه راجعون .......
…والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فهد بن عبد العزيز
كما وجه صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ، ولى العهد ونائب مجلس الوزراء ، رئيس الحرس الوطنى ، برقية عزاء مواساة إلي سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، في وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، وفيما يلي نص البرقية :
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
مفتى عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء 000 حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أم بعد ....
فقد آلمنا نبأ وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، عضو هيئة كبار العلماء ، ونائب رئيس اللجنة الدائمة لبحوث العلمية والإفتاء ، وإننا إذ نبعث لسماحتكم بتعازينا ومواساتنا لنأمل إبلاغ ذلك لأسرته وذويه ، مبتهلين إلي الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته وغفرانه ويسكنه فسيح جناته ن وأن يخلقه علي المسلمين بأحسن الخلف ، والحمد لله علي قضائه وقدره ، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد الله بن عبد العزيز(3/233)
كما وجه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز ، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع الطيران والمفتش العام ، برقية عزاء ومواساة إلي الشيخ عبد العزيز بن باز ، في وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي . وفيما يلي نص البرقية :
…سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
…مفتى عام المملكة العربية السعودية ، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء00 حفظه الله.
…السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد 00
…فقد كدرنا نبأ وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، عضو هيئة كبار العلماء ، ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ، وإننا إذ نبعث لسماحتكم عن خالص تعازينا وصادق مواساتنا ، ونرجو إبلاغ ذلك لأسرته وذويه ، لنرجو من المولى سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته ومغفرته ويسكنه فسيح جناته ، وأن يعوض على المسلمين عنه خيراً والحمد لله على قضائه وقدره 000 إنا لله وإنا إليه راجعون...
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
سلطان بن عبد العزيز
كلمات عزاء ورثاء لجماعة من العلماء
…فقدت الأمة الإسلامية علما من أعلامها وعالماً من خيرة علمائها هو فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي نائب رئيس الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء وعضو هيئة كبار العلماء.
…وقد رثاه عدد من أصحاب المعالى الوزراء وأصحاب الفضيلة العلماء ، مؤكدين على المكانة الرفيعة للفقيد الراحل ، وعلو منزلته وغزارة علمه ، ودوره المؤثر في المسيرة التعليمية بالمملكة العربية السعودية ، مشيرين إلي أنه أحد عشر عالماً أسسوا هيئة كبار العلماء في عهد الملك فيصل بن عبد العزيز تغمده الله بواسع رحمته 0000000 آمين .(3/234)
…معالى الدكتور عبد الملك بن دهيش : الرئيس العام لتعليم البنات سابقاً يؤكد أن الأمة الإسلامية فقدت برحيل فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي واحداً من علمائها الأجلاء الذين أثروا بغزير علمهم المكتبة الإسلامية ، مشيراً إلي أن فضيلته درس العلم من منابعه حتى نال الشهادة العالية من الأزهر وتدرج في سلك التدريس بدءاً بدار التوحيد بالطائف ثم في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض قبل أن يعين مديراً للمعهد العالي للقضاء.
وأضاف:أن فضيلة كان زميلا لوالدي الذي كان كثير الثناء عليه مشددا بعلمه الغزير .
سماحة الشيخ محمد بن عبد الله السبيل عضو هيئة كبار العلماء والرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف وإمام وخطيب المسجد الحرام .
قال سماحته : إن الفقيد الراحل ليس خسارة على المملكة فحسب وإنما لكل الأمة الإسلامية .
ويضيف سماحته : نعم فقدت الأمة عالما جليلا وشيخا فاضلا خدم الدين والمليك والوطن بكل صدق وإخلاص وها هو يرحل عنا بعد سنوات طويلة قضاها في نشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد تعلم على يديه العديد من طلبة العلم وكان حليما وقورا لا يخلو مجلسه من طلبة العلم
وقال فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ : عضو هيئة كبار العلماء :
الشيخ أحد الأعلام الفضلاء الذين هيأ الله لهم فرصة تربية الأجيال وهو أحد علماء الذين عرفوا بالجد والاجتهاد والإخلاص في أداء الواجب وهو ذو علم واسع وله اطلاع في الحديث والتفسير والفقه وأصوله واللغة العربية وقد تخرج على يديه أفواج كثيرة ويذكر له طلابه إخلاصه ومحافظته على أداء الواجب وجده واجتهاده . ولقد كان يلقي دروسا بعد العشاء في مسجد الشيخ محمد بن ابراهيم في التفسير وكانت دروسه نافعة وتوجيهاته قيمة .(3/235)
عمل الشيخ عبد الرزاق عفيفي بعد قدومه للملكة معلما في دار التوحيد ثم انتقل للمعاهد العلمية ثم عضوا في اللجنة الدائمة للبحوث ثم عضوا في هيئة كبار العلماء وعرف بسعة علمه وحسن تربيته وتوجيهه وإخلاصه وهو رحمه الله مثال عالم العامل فالشيخ غفر الله له عرف بتوجيهه وتأثيره وعظته وبخاصة في التعليم فما زال طلابه الذين تلقوا على يديه يعرفون له جده واجتهاده وقدرته على إيصال المعلومة لأذهان الطلاب مما يدل على تمكنه وحرصه غفر الله لنا جميعا وله ولجميع موتانا المسلمين .
ويرى الدكتور عبد الله العجلان - وكيل الرئيس العام لتعليم البنات لشؤون الكليات الجامعية - في وفاة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي خسارة كبيرة للأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون لجهد أبنائها العلماء والفقهاء .
وقال : إن الفقيد الراحل يحتل الصدارة بين أساتذة الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة وذلك بعلمه وأدبه وأخلاقه وسداد رأيه وحسن تعامله وكونه قدوة حسنة قولا وعملا وقد عرفته صديقا حميما وحسن تعامله وكونه قدوة حسنة قولا وعملا ومستشارا مخلصا لمفتي المملكة السابق الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ . كما عرفته أستاذا ماهرا وبحرا زاخرا بمختلف علوم التفسير والعقيدة والفقه والأصول وغيرها من جوانب العلوم الشرعية واللغة العربية . .
وعرفته كذلك محدثا واعظا ومرشدا جم المعرفة ، غزير العلم متواضعا كثير الزهد والتقشف مقبلا على الله في جميع أقواله واعماله .
وإن كان يرحمه الله لم يترك لنا آثارا علمية تتفق مع مقامه الرفيع وعلمه الغزير فإنه يعتبر أستاذ جيل كامل من علماء المملكة .
كما تحدث فضيلة الدكتور صالح بن غانم السدلان أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن مسعود والذي كان أحد طلابه الفقيد قائلا :(3/236)
إن كان لي من كلمة في أن أخص مشايخي الشيخ عبد الرزاق عفيفي فهي أنه قد درسني كثيرا في عدد من مراحل التعليم في البكالوريوس درسني الحديث وأصول الدين وقام بتدريسي في المعهد العالي للقضاء لمادة أصول النفسير ودرسني الفقه في السنة النهائية بمعهد القضاء وأعتبره كما يقول المثل قلبه فوق لسانه فهو لا يتكلم إلا بعد معرفته أبعاد ما يقول ويعتبر من العلماء الأوائل
ولا تكاد تجلس معه قليلا من الوقت إلا وتخرج بفائدة علمية أو أدبية أو خلقية وأعرفه لا يحب الكلام في أحد كما تميز - رحمه الله - بوضوح العبارة ولم أر مدرسا مثله في إيصال المعلومات وقلة الحشو .
ولم يكن يدرس مادة إلا وأكملها وكان رحمه الله من المفيدين في التدريس وغير المخوفين في الامتحانات وكان يتميز بالثقة وقوة الإرادة وكان محبوه كثيرين ولم نكن نتصور أن يكون هذا الحضور بهذا الحجم الكبير ومن كافة الفئات في جنازته.
أسأل الله له الرحمة وأن يسكنه فسيح جناته وأن يلهم ِأهله ومحبيه الصبر والسلوان .
الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ : وزير العدل سابقا : كان الشيخ - يرحمه الله - ممن عرف بعلمه وفضله وورعه وهو أول من عمل في المعاهد العلمية وكان وجوده فيها كسبا لها لم له ممن سعة علم وإطلاع وخبرة وفهم وهي الآن خسرت خيرة الرجال والعلماء في الداخل والخارج وقد لازمت الشيخ طويلاً واستفدت منه كثيراً .
الشيخ على الرومي : رئيس محكمة التمييز كان الشيخ أول من باشر في المعهد العلمي بالرياض منذ أول يوم لافتتاحه في عام 1371هـ وله اطلاع واسع - يرحمه الله - في الفقه والحديث والتفسير وله علم في التاريخ والجغرافيا وبرغم كبر سنه فقد بقي في كامل وعيه وذكائه وعلمه .
الشيخ إبراهيم بن محمد بن عثمان : كان الشيخ عبد الرزاق عميق التفكير مطلع يقلب الأفكار بعضها مع بعض كما كان مفسرا من الطراز الأول حتى لأنك تشعر أن الشيخ يستلهم التفسير استلهاما .(3/237)
الشيخ الدكتور سعود الفنيسان : كان لي الشرف بأن قام الشيخ بالإشراف على رسالة الدكتوراة حيث استفدت منه في أثناء جلسات عدة معه من خلال ما لديه من معلومات وملاحظات ما لم استفده طيلة دراستي الجامعية وبالأخص في تخصصي التفسير وأصول الفقه وكان من المقربين والمحبوبين جدا من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز إلى آخر لحظة في حياته .
الشيخ صالح بن سعود آل على عضو مجلس الشورى : كان الشيخ صابرا محتسبا فبالإضافة إلى أمراض التي عرضت له في العقد الأخير من عمره أصيب في أثنين من أبنائه وهم في ريعان الشباب : عبد الرحمن الذي كان يلازمه في شيخوخته كظله يخدمه ويساعده إذ به يفاجا بوفاته بسبب أنفجار أسطوانة غاز
ومن قبله أحمد أكبر أبنائه الذي جاء نعيه قتيلا في حرب الدبابات مع إسرائيل في سيناء عام ( 1393 هـ - 1973 م ) .
ومما يلفت النظر في جلد الشيخ وصبره أنه لما جاء خبر وفاة ابنه أحمد وهو مدير ومحاضر في المعهد العالي للقضاء لم يتوقف عن برنامجه اليومي فقد جاء إلى طلابه في مرحلة الماجستير - وكنت واحدا منهم - وألقى المحاضرة كالعهد به دون أثر أو تلعثم وكانت بعد العصر إلى المغرب وكان الطلاب كعادتهم بعد أن تنتهي المحاضرة يوجهون الأسئلة واحدا تلو الآخر وإذا به يجيب عنها دون أن يظهر عليه ما يلفت النظر ومع انتهاء المحاضرة خرج من القاعة ونحن وراء وإذ بنا نحن الطلاب نفاجأ بطابور من الأساتذة وطلاب آخرين يقابلونه ويقبلونه معزين بوفاة ابنه ولا تسأل عن ذهولنا نحن ليس من الوفاة ولكن لأن الشيخ لم يترك المحاضرة بل لم يخبرنا ولم يظهر عليه أثر الصدمة .(3/238)
الدكتور حمد الجنيدل : كان شيخنا - يرحمه الله - من العلم بمكان وله طريقة متميزة في إلقاء الدروس وتأثير عجيب على مستمعيه بأسلوب سهل متين وعلم جم وجوامع كلم يتقن عدة علوم من أبرزها علم التفسير أستاذا وفي كل ما أشرت إليه قمة يتمنى كل طالب علم أن يستمع له وكان لا يدرس من كتاب بل له حافظة قوية جدا كما كانت له نكتة حلوة طريفة يعرفها كل من عاشره مع صراحة تامة ببراءة وطهر .
وعندي من إملائه ما يزيد عن مائة ورقة من التفسير كتبتها بقلمي أثناء تدريسه بالمعهد العالي للقضاء أعتبرها أنفس ما لدي في مكتبتي الخاصة . ولعل الله أن يسهل لنا إخراجها وطبعها .
أبناء الشيخ عبد الرزاق عفيفي : في منزل أسرة الفقيد تحدث ابنه الأكبر وهو الأستاذ محمد نبيل عبد الرزاق عفيفي وه المراقب المالي للإدارات المالية وإدارات شؤون الموظفين بالخطوط السعودية والذي تحدث عن البرنامج اليومي الكامل للشيخ من الصباح الى المساء يقول محمد : كان والدي يذهب للعمل في الصباح ويجلس الى ما بعد صلاة الظهر في الإفتاء ثم يقضي وقت الظهر في القيلولة وبعد العصر كان يجلس في كثير من الأحيان في البيت يقرأ ويطالع وينظر في الفتاوي والبحوث العلمية أما بعد المغرب فيستقبل طلبة العلم والزوار الى العشاء حيث يدخل للقراءة والاطلاع والراحة بعد ذلك .
وكان - يرحمه الله - قدوة في عمل الخير وكان ينصحنا دائما كما عودنا على الصبر على قضاء الله .
أما محمود ابن الشيخ فقد قال : إن الشيخ كان يحثنا على الخير والعمل الطيب وعدم الإكثار في الكلام حتى مع بعضنا البعض في المنزل وخاصة فيما بين الذكور والإناث .
رحمك الله يا عبد الرزاق عفيفي
فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي(3/239)
قد فقدنا عالما فاضلا ومربيا لأجيال من العلماء وطلاب العلم : إنه شيخنا فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي والذي توفى يوم الخميس الماضي الخامس والعشرين من ربيع الأول عام 1415 هـ - رحمه الله وأكرم مثواه .
لقد فقدنا بفقده عالما فاضلا قضى كل حياته في سبيل العلم تحصيلا وتعليما نفع الله به عدد كثيرا من الطلاب الذين تتلمذوا عليه أو تتلمذ على طلابه .
لقد عرفته رحمه الله وأسكنه فسيح جناته - منذ ستة وثلاثين عاما وتوطدت صلتي به في أثناء طلب العلم والدراسة في كلية العلوم الشرعية في الرياض ثم في المعهد العالي للقضاء ثم في حلقات المساجد والمحاضرات في الجامعات ومناقشة الرسائل الجامعية وازدادت معرفتي به حينما لازمته فترة إعداد بحثي في الماجيستير حيث كان مشرفا عليه فكان نعم الموجه والناصح يبذل وقته وجهده ويحرص على إفادة طالب العلم .
ولا أبالغ إذا قلت أن غالب منسوبي جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية من طلابه أو طلاب طلابه بل إن هذا الوصف ينطبق على غالب العلماء في المملكة سواء كانوا في القضاء أم التدريس أم الإفتاء والدعوة .
لقد عاصر - رحمه الله - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية منذ نواتها الأولى واستمر عطاؤه في الكليات والمعاهد بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن ابراهيم عليه رحمة الله ثم في مجال الإفتاء والدعوة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد .
وكان فيها من المقربين لسماحة والدنا وشيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - ونصر به العلم وأهله .
حيث تعرف لأصحاب الفضل فضلهم ومكانتهم ويجد في رحابها أصحاب المواهب والقدرات ما يفيدون مجتمعهم وأمتهم .
وهذا ديدنها منذ عهد مؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - فهي ملاذ للعلماء العاملين والدعاة المخلصين من مختلف أصقاع العالم .(3/240)
إن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي يتصف بصفات يندر أن تجتمع في شخص : غزارة العلم ورجاحة العقل والزهد في الدنيا ومظاهرها وحب الخير للآخرين وبذل جاهه وماله في ذلك .
لقد أمتاز - رحمه الله - عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية بشدة متابعة الإسلامية الصافية : المرتبطة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ولقد كان يقوم كل بحث أو رأي في ضوء الأسس والأصول الصحيحة التي التزمها السلف الصالح والأئمة الكبار حينما واجهوا الفلسفات المادية والاختلافات في الأصول والفروع .
رحم الله شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجزاه الله عنا وعن الإسلام وطلاب العلم في المملكة العربية السعودية وفي العالم الإسلامي كله خير الجزاء وجمعنا به في دار كرامته وبارك في عقبه وجعلهم عقبا صالحا .
كما نسأله أن يعوض الأمة الإسلامية خيرا بفقده .
()ا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
د . عبد الله بن عبد المحسن التركي
العالم المحقق
شيخي فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية
رحمه الله ( ت 1323 - 1415 هـ )
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا "
فهكذا يرفع العلم ويتناقص ويتلاشى بموت العلماء وفي منتصف شهر ربيع الأول من عام 1415 هـ فقدنا عالما جليلا وفقيها فذا هو فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية عضو هيئة كبار العلماء ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية .(3/241)
لقد عرفت الشيخ عبد الرزاق عفيفي أول ما عرفته عام 1369 هـ عندما تتلمذت عليه في مدرسة دار التوحيد فتلقيت على فضيلته مادة التوحيد وكان يدرس لنا كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد فكان في تفسيره للآيات وتقريبه لمعانيها للأحاديث ولأقوال السلف وبيان مطابقتها للترجمة ودقته في استنباط المعاني من النصوص وتقريبها لأذهان المتعلمين آية في ذلك ومثالا يحتذى لاسيما في المواءمة بين المعاني الجليلة وبين عقول ومدارك المتلقين من الطلاب وهم ما بين مبتديء في المراحل الأولى من التعليم وما بين متوسط ومن قطع شوطا لا بأس به في التعليم .
ولقد كان في أثناء ذلك يولي عناية بالمسائل التي يختم بها المؤلف رحمه الله كل باب من أبواب كتاب التوحيد ويثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فقه للمسائل وغوصه على دقيق المعاني من ظواهر النصوص مما يضمنه تلك المسائل وكان ينتهز الفرصة بين الحين والحين فيوصى الطلبة بالعناية بكتب السلف والاطلاع عليها والاستفادة من العطلة الصيفية بمواصلة القراءة لاسيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله .
وبع نهاية العام الدراسي 1369 هـ علمنا أنه وقع الاختيار عليه ليذهب للتدريس في عنيزه فكان لذلك رنة أسى لدى طلاب الدار حيث سيفقدون علما ألفوا التلقي عنه واطمأنوا إلى حسن معتقده وسعة علمه وكمال الاستفادة من دروسه ومحاضراته .(3/242)
وبعد افتتاح المعهد العلمي بالرياض انتقل فضيلته للتدريس فيه ثم في المعهد العلمي في بريدة ثم عاد ليدرس في كلية الشريعة بالرياض ولقد كانت الصلة بفضيلته متصلة فلقد كانت كلية الشريعة التي يدرس بها والمعهد العلمي الذي كلفت بإدارته في مبنى واحد وقلما يمضي أسبوع دون أن يكون هناك اجتماع معه في المعهد أو في الإدارة المعاهد والكليات أو في منزل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله للنظر في المناهج أو الامتحانات أو الأسئلة أو غير ذلك من الأمور التي تتطلبها العملية العلمية .
وبعد افتتاح المعهد العالي للقضاء كلف رحمه الله بإدارته وكنت ممن التحق به فدرست به بعض الوقت ثم أضررت نتيجة ارتباطي بأعمال متنوعة لاسيما العمل في مؤسسة الدعوة الصحفية كمدير عام لها أن أترك الدراسة بالمعهدلكي أتفرغ بعد ذلك لمواصلة الدراسات العليا في الأزهر .
وفي عام 1404 هـ نقلت إلى العمل أمينا عاما لهيئة كبار العلماء والذي كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عضوا فيها فرافقته في حله وترحاله وتوثقت الصلة به وكنت أحفظ لفضيلته المواقف المتعددة والآراء الصائبة وكانت له نظرات وملاحظات لنفسيات المستفتين ومعرفة عجيبة لمن يستفتي للفائدة ومعرفة الحكم ومن يستفتي لتزجية الفراغ وحدثني رحمه الله في مجلس الفتوى في منى وقال : إذا سأل البدوي عن مسألة وكان الجواب موافقا لما يهوى فإنه يسكت وينصرف . وهكذا أكسبه طول التعامل مع المستفتين معرفة لنفسياتهم . فكانت إجاباته بإيضاح الحكم فيما يسأل عنه في التوسع أو في الإيجاز ملحوظا فيها ما ينقدح في ذهنه من مقاصد السائل عند إلقاء السؤال من رغبته في معرفة الحكم الشرعي في المسألة أو خلاف ذلك من التعنت في إيراد السؤال .
رحم الله الشيخ عبد الرزاق عفيفي عطية فلقد كان من العلماء الأفذاذ الذين أفادوا وأجادوا وعوض المسلمين عنه خيرا ورفع درجاته في عليين . وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .(3/243)
عبد العزيز بن محمد عبد المنعم
الأمين العام لهيئة كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
علم من أ'لام الأزهر فقدناه
علم من أعلام الأزهر فقدناه ففي ذمة الله وفي الفردوس مستقرة ومثواه إن شاء الله الشيخ عبد الرزاق عفيفي الشنشوري المولد المنوفي الأرومة والمحتد .
نسب عريق في الضحى……بز القبائل والبطون
وإن شنشور لتسمو به ……وتفخر على مر القرون
إن المنوفية التي أنجبت بطلا من أبطال العلم والسياسة بالأمس القريب أنجبت في الحقول العلمية والرياض الدينية من سلك سبيل الأنبياء ونهج في سرعته منهج الخلفاء فأشرقت به أرض مصر في مستهل القرن الرابع عشر الهجري الموافق سنة 1905 ميلادي من أبوين صالحين دفعا به في كتاب القرية فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة وسرعان ما التحق بالمعهد الأزهري بالقاهرة فاجتاز المرحلتين الابتدائية والثانوية في مدة قصيرة واشتملت عليه الدراسة العالية ومرحلة التخصص القديم لكلية الشريعة الإسلامية للتزود من العلوم الدينية وفي طليعتها الفقه وأصوله والتوحيد وقواعده وهي أدق العلوم الأزهرية وأعمقها وأحفلها تعليلا وتدليلا إلى جانب مواد أخرى تمت إليها بصلة القربى وفي تلك البيئة الخصبة والرياض الفيحاء والحياض الفياضة يتفيؤ ظلالها وينهل من معينها فقيدنا الكريم مع زملائه الكرام البررة الذين سبقوه إلى الدار الآخرة في طليعتهم الشيخ احمد حسن الباقوري والشيخ عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق رحمهم الله ومن الأحياء العلامة الشيخ عبد العزيز عيسى وزير الأوقاف سابقا مد الله في عمره يتنافس معهم المتنافسون في أروقة الأزهر المعمور وملحقاته في حي الحلمية والدراسة وتولى تدريسهم نفر من الغر الميامين ومن فحول علماء الأزهر المرموقين في جماعة كبار العلماء في طليعتهم الشيخ أحمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشرشيبي والشيخ إبراهيم الجبالي الذين أنضجوا فوجا من خيرة العلماء(3/244)
في طليعتهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي .
والدهر لا ينشيء الرجال كواملا ……إلا إذا نضجوا على جمراته
وكان لا بد لهذا الغرس المزهر في بيئته المباركة أن يؤتي أكله
( وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) .
شاء الله له ولمعهد شبين الكوم الديني الحديث العهد بالإنشاء أن يحظى به في عداد لدانه وأترابه مع شيخ المعهد الشيخ عبد الجليل عيسى الذي اصطفاه مستشارا له لما امتاز به الفقيد من ميزات تجلت في سعة أفقه وتنوع ملكاته وما لبث أن تلفقه معهد الإسكندرية الذي كان وما زال يتخير الكفايات العلمية من لدن إنشائه بعمادة مصلح الأزهر الأول الشيخ محمد شاكر علي محمد :(3/245)
رسى أصلها تحت الثرى وسما ……بها إلى النجم فرع لا ينال طويل وفي الإسكندرية وضواحيها المترامية بسط نطاق دراسته الدينية ()فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) أسوة بأستاذنا الشيخ إبراهيم الغرباوي - رحمه الله - عضو جماعة كبار العلماء الذي سن هذه السنة في ثغر الإسكندرية اقتداء بأستاذه الشيخ علي محفوظ في القاهرة فكان الفقيد يلقي فيها عظات ودروسا دينية حسبة وابتغاء وجه الله إلى جانب جدوله في المعهد الديني وقد تتلمذ عليه وآوى إلى حلقاته كثير من شيوخ وشبابها وكان من بينهم حسين عبد الناصر والد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقد شفع له في عودته إلى السعودية للعمل بها وكان قد أعير لها من معهد الأسكندرية للإسهام في بناء صرح كلية الشريعة وأراد بعض المسؤولين في الأزهر وقتئذ منعه حسدا وحقدا رغم صدور أمر ملكي من جلالة الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - موجه إلى شيخ الأزهر الشيخ محمد الخضر حسين ووكيله الشيخ محمد عبد اللطيف دراز والشيخ محمد نور الحسن - رحمهم الله - وقد نجحت مساعي القنصل السعودى في القاهرة آنذاك في هذا الخصوص فعاد الشيخ العفيفي لمواصلة رسالته إلى السعودية وأولاه المسؤولون فيها جميعا ثقتهم وتقديرهم وعهد إليه بالإسهام في إحياء النهضة العلمية في معاهد بريدة وعنيزة بعد عمله في دار التوحيد بالطائف وكانت قبلة الأنظار في تلقي وبسط التعاليم الدينية على المذهب السلفي الذي أرسى أسسه المصلح الديني الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وإزاء تلك الثقة من الملك عبد العزيز والأمراء من أبنائه والمشرفين على التعليم آثر الاستقالة من الأزهر وظفر بالجنسية السعودية أستاذا بالكليات مع آل الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - المفتي الأكبر وأسندت إليه لرسوخه في العلم وواسع خبرته رئاسة وإدارة معهد القضاء العالي بالعاصمة ( الرياض ) ولما آلت الفتوى إلى إدارة البحوث(3/246)
العلمية والدعوة والإرشاد برئاسة العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز أختير نائبا للرئيس فيها وظل بها الساعد الأيمن لرئيسها حتى وافته المنية فصعدت روحه الطاهرة إلى ربها راضية مرضية .
وفي خلال قرابة خمسين عاما كان لي معه - رحمه الله - أخوة في الله لم تزدها الأيام إلا قوة ولقد لمست فيه الصلاح والتقى والورع والتواضع وإنكار الذات والنبوغ في العلوم الدينية والعربية واللغوية كما كان وفيا وإنكار لإخوانه وبنيه وما أكثرهم في مصر وفي السعودية حيث كان حلقة لإخوانه الاتصال والرائد الموفق في تذليل العقبات لمن تزل قدمه بعد ثبوتها من غير من ولا أذى وله أياد بيض على عديد ممن يعملون الآن في حقول التعليم وغيرها في المملكة العربية السعودية ومنهم من نال بسعيه المشكور خير كثير وكان رحمه الله طويل الباع واسع الاطلاع راسخ القدم عميق التفكير دقيق التصوير قوي الحجة ناصع البرهان اشبه ما يكون بالإمامين الجليلين الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ عبد المجيد سليم شيخي الأزهر السابقين - رحمهما الله .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في الفقه أمة وبلغ في الحديث القمة بيد أنه مع نسبته إلى مذهب مالك لم يكن متعصبا للمالكية بل كان سلفي العقيدة والمذهب في سرعته ومنهاجه وكان رحمه الله طويل الباع واسع الاطلاع في الأصوليين والحديث الشريف الذي أولع به وشغف بأسانيده واستأثر بجل اهتمامه مما دفعه إلى إنشاء وبناء دار ضخمة فخمة بضواحي مكة وقفها على طلاب الحديث بمخطط السبهاني طريق الليث بمكة المكرمة .
وأشهد أنه لقد بلغ من الورع والتقوى والكرم والشجاعة وأصالة الرأي ورسوخ القدم والزهد في زهرة الحياة الدنيا وزينتها ما جعله أشبه العلماء بالخلفاء الراشدين لاسيما عمر وعليا رضي الله عنهما .(3/247)
فكان كعمر إذا تكلم أسمع وإذا جادل أقنع وإذا ساد أسرع وكان كالإمام علي عفيفا عيوفا زاهدا في زخارف الدنيا وزينتها واجتمع له جل صفات السبع الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله وفي طليعتها النشأة في طاعة الله والحب في الله وإخفاء الصدقات وتعلق قلبه بالمساجد فتلك شيمة حببت إليه اختيار بيوته أقرب ما تكون من بيوت الله حيث يكون المسجد قبلته لا يفصل بينه وبين أقرب بيته سوى شارع واحد وله الآن بيتان في الرياض على هذا الوضع يشهدان بذلك أحدهما قرب شارع الخزان والآخر في حي عسير كما كان بيته الأول بالعالصمة على هذا الوضع بحي دخنة .
لقد تجلت لي هذه الصفات وتلك السجايا فيه عن كثب في الظعن وفي الإقامة معا ففي تفسير السفر يسفر عن أخالق الرجال فلقد بدأ لقائي به وصحبتي له برفقة علامة نجد الشيخ محمد بن مانع - مدير المعارف السعودية وخريج الأزهر ورائد التعليم حين ذلك حيث لم تكن وزارة إلا للخارجية والمالية - في رحلة بحرية وبرية من القاهرة إلى مكة المكرمة عام 1368 هـ للإسهام في بناء صرح كلية الشريعة نواة الجامعات السعودية الحالية وكنا نقضي سحابة اليوم والليل إلا قليلا على ظهر الباخرة نتبادل المسائل الدينية والعربية والأدبية واللسانية وكان علامة نجد راسخ القدم فيها كلها كما كان الفقيد الكريم الأمر الذي جعله محل ثقة من بيننا وعول عليه في إصلاح مناهج التعليم في دار التوحيد التي كان يشرف عليها بنفسه ويتفقدها - رغم كثرة مشاغله - مرة كل أسبوع وحذا حذو ابن مانع مفتي السعودية الأكبر الشيخ محمد بن إبراهيم عميد آل الشيخ محمد بن عبد الوهاب فاستقدمني معه بأمر ملكي إلى الرياض لإنشاء كليتي الشريعة واللغة العربية ومعاهد أخرى في ربوع نجد للدراسة على الطريقة الأزهرية .(3/248)
وكانت كلية الشريعة واللغة العربية ومعاهد أخرى في ربوع نجد نقطة للأنطلاق لإنشاء الجامعات السعودية وكان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - القدح المعلي في هذه الإنطلاقة العلمية المباركة .
وكتبه يوسف بن عبد الرحمن الضبع
وداعا أيها الإمام
بقلم فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله . . . أما بعد :
فبالأمس حملت لنا وسائل الإعلام في المملكة نبأ وفاة عالم من علمائها ورجل من أفضل رجالاتها عرفه المجتمع السعودي محل الأحترام والتقدير من كبار علماء المملكة وعلى رأسهم مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومن قبله الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة في وقته ومرجع علمائها وقضاتها ويحتل مكان الصدارة بين العلماء في هيئة التدريس في الكليات والمعاهد العلمية وهي أقدم مؤسسة علمية شرعية في المملكة وأعرقها في علوم الشريعة ويتبوء كرسي الأستاذية في كلية الشريعة بالرياض منذ إنشائها يتناقل أنباءه الطلبة لأهلهم وذويهم وينقلون أخباره ومواقفه وجهوده في التعليم والتربية وتفوقه في فقه الشريعة الإسلامية ودقة فهمه لأحكامها وحسن تنزيله للأحكام على الوقائع في التدريس والفتوى وقوة شخصيته وسداد توجيهه وحسن تربيته وعرفته الساحة العلمية في المملكة في كل مجال من مجالاتها في التعليم والتربية والتوجيه والوعظ والإرشاد وفي الفتوى والمجالس العلمية ذا علم غزير ورأي متميز وإخلاص جم جمع الله له بين العلم الوافر والعمل الصالح والقبول عند الناس والاحترام في المجتمع بكل شرائحه وفئاته ذلكم هو فضيلة شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي يرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وعوض الله هذه الأمة فيه خيرا وجعل الصلاح والتوفيق في عقبه .(3/249)
ولقد وقع خبر وفاته - رحمه الله - على نفوس أبنائه ومحبيه وعارفي فضله وما أكثرهم بل على الأمة وشدة المصاب ولكن الكل - وهم مؤمنون بالله وراضون بقضائه وقدره - يعلمون أن الموت حق وأنه مصير كل حي قالوا بصوت واحد : " إنا لله وإنا إليه راجعون " ودعوا الله بصادق الدعاء وخالص الرجاء بأن يسكنه فسيح جناته ويغفر له ويعفو عنه وأن يعوض هذه الأمة فيه خيرا .
لقد عرفت هذا الرجل أستاذا في علوم الشريعة واستمعت لدروسه وتلقيت عنه في فترات مختلفة فأدركت مكانته العلمية وصدق لهجته وسداد توجيهه وجاورته في السكن فكان خير جار ورافقته في السفر فكان نعم الرفيق والمؤانس وجالسته فرأيت فيه حسن الأدب وصواب الرأي وتعرفت على بعض مراجعة في الدراسة وإعجابه ببعض العلماء وبعض الأئمة في بعض الأمور كان تلميذا مخلصا على مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية قرأ نتاجهما العلمي قراءة مكررة جتى وعى ما فيها عن قناعة وتشرب فقههما ومنحهما في الاجتهاد واستغلالهما في أخذ الأحكام من الأدلة الشرعبية وهو يظهر الإعجاب بيهما ولا يخفي على مجالسه تقديره لهذين الإمامين الجليلين كما لا يخفي عليه إعجابه بحركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة وحسن معالجته للمشكلات التي تواجهه في دعوته ويلمس منه إعجابه في مجال القيادة والسياسة والحكمة بالملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل في توحيد المملكة العربية السعودية ويظهر بجلاء احترامه وتقديره لكثير من علماء المملكة العربية السعودية وفي مقدمتهم الشيخان الجليلان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ والشيخ عبد العزيز بن باز في علمهما وعملهما . وذكر لي يوما من الأيام بأنه حين كان يدرس في المعهد العلمي في عنيزة حضر دروس الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي وكان يثني عليه ثناء عطرا في علمه وورعه وأسلوب حياته وتنظيم وقته ويقول : إنه كان سابقا لعصره بحرا في(3/250)
علمه سديدا في توجيهه وكان يظهر رضاه عن جهود الشيخ ناصر بن حمد الراشد حينما كان رئيسا لتعليم البنات في إمكاناته التخطيطية وقدراته التنفيذية ويقول : إن من رحمة الله بالناس في تعليم البنات أن تناط مسؤلية تعليم البنات بهذا الرجل في هذه المرحلة من عمر تعليم البنات وفي هذا البلد المحافظ .
وكان يخبر عن نفسه في أكثر من مناسبة بأنه في الفترة الأخيرة ما كان يعتني باقتناء الكتب الكثيرة في بيته وأنه يكتفي باقتناء عدد محدود من الكتب المتقاة في كل فن من الفنون يرجع إليه عند الحاجة ويؤكد أنه لا توجد لديه مكتبة بالمعنى المتعارف عليه بين طلاب العلم .
وكان له رأي يخبر في التأليف يذكره عندما يقال له : لم لا تؤلف في العلم الفلاني من علوم الشريعة ؟ فيقول : نحن لسنا في حاجة إلى التأليف بقدر ما نحن في حاجة إلى الاطلاع على المؤلفات التي تذخر بها المكتبات وأن كثيرا من التألبف الحديثة في علوم الشريعة واللغة العربية ما هي إلا معلومات معادة وفي المكتبة ما هو أفضل منها .
وكان - رحمه الله - إذا نقد أحدا أو موقفا أجمل في الكلام وقد يكتفي بإظهار عدم الرضا أو نبرة أو كلمة مجملة أو إشارة وإذا أثنى على شخص أو موقف فضل منه وأبان وإذا تكلم أسترسل في كلامه سواء كان في المحاضرة أو إلقاء الدروس أو كان في الحديث العام حتى يستطيع السريع في الكتابة أن يكتب كل كلامه إذ أنه في الكلام كان يملي .(3/251)
وكان كثير الصمت يفرض احترامه على جالسيه كثير شديد الملاحظة دقيق الفهم نافذ الفراسة ويلاحظ جليسه بأن أسلوبه في الحديث والصمت مختلف باختلاف المجالس والحضور في كل جلسة وحسب الموضوعات التي يتبادلها الحضور في البحث في موضوعات علمية إلى موضوعات اجتماعية إلى أخبار وتحليلات وغيرها فهو ينطلق في الحديث في المسائل العلمية وفي تحليل بعض الظواهر الاجتماعية وهو يمسك عن الحديث إذا كان الحديث في أمور الناس ودنياهم العامة والقضايا التي ليس له فيها دخل أو تأثير فكان مثالا في علمه وأدبه وأخلاقه وقدوة في تصرفاته ورعا زاهدا تقيا متواضعا يندر أن يوجد في الناس مثله .
وإذا كان الرجل لم يخلف لنا آثارا علمية تتناسب مع مكانته العلمية وطول ممارسته للتدريس والتعليم والوعظ والإرشاد والفتوى فقد كانت جهوده منصبة على بناء الشخصية وتربية الرجال وإعداد العلماء بالعلم والعمل والإخلاص .
وحمل أمانة التبليغ والقيام بواجب الأمة في مجالات الخدمة لهذا الدين وبه ولا أكون مبالغا إذ قلت : إن معظم علماء المملكة - اليوم - هم إما من طلابه أو ممن استفادوا منه بوجه من وجوه الاستفادة وكلهم يحفظ له حقه وجهوده وتعتبر وفاته خسارة عظيمة إذ أنه من كبار حملة ميراث النبوة في هذه المملكة ومن دعاة الهدى وأئمة التوجيه الصائب ولا غرابة في أن يتوافد أبناء عاصمة المملكة إلى المسجد الجامع الكبير في مدينة الرياض من كل حدب وصوب وأن تكتظ بهم شوارع العاصمة وأن يضيق بكثرة المصلين المسجد على سعته وساحاته على امتدادها والشوارع المحيطة به على طولها .
وأن يمشي أبناء مدينة الرياض في تشييع جنازته زرافات ووحدانا شيوخا وشبابا حتى ضاقت بهم شوارع العاصمة على سعتها وغصت المقبرة بالمشيعين والطرقات المؤدية إليها .
كل منهم يريد أن يلقي على هذا الفقيد نظرة أخيرة .
ويقول له : وداعا أيها الإمام وموعدنا معكم في الجنة إن شاء الله .(3/252)
إن هذا المشهد العظيم الذي عاشته عاصمة المملكة في توديعها هذا العالم يدل على وعي هذه الأمة وتقديرها للمخلصين من رجالها والعلماء العاملين بعلمهم من أبنائها . وهو آية من الآيات الدالة على الوفاء الذي يتميزو به هذه الأمة المسلمة في مملكتنا الحبيبة للأوفياء لها .
رحم الله فقيدنا المحبوب وعالمنا الجليل وشيخنا الفاضل وأسكنه جناته وأمطره الله بشآبيب رحمته وجعل قبره روضة من رياض الجنة وجمعنا الله به في دار كرامته ومستقر رحمته ونرجو الله أن يعوضنا عنه خيرا .
وشكرا جزيلا لهذه الأمة على وعيها ووفائها وتقديرها للمخلصين من أبنائها والجادين من رجالها .
وأخيرا نقول : طبت حيا وميتا وإن القلب ليخشع وإن العين لتدمع وإننا عليك يا عبد الرزاق لمحزونون ولا نقول إلا ما يرضي ربنا .
(ا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .
عبد الله بن محمد العجلان
العفيفي المفتي والعالم المربي
غير خاف أن العلماء يحتلون في الأمة - أي أمة - مكانة سامية تليق بهم بوصفهم معالم هداها ومصابيح دجاها بما يسدونه من جميل عطائهم وحسن صنيعهم في في مجال العلم ونشره .
نعم إن العلماء هم كذلك وإن نظرة الأمة لهم ليست إلا كذلك ومن أجل هذا أصيب الوسط العلمي والعام من علماء ومتعلمين بالذهول يوم الخميس 25 / 3 / 1415 هـ . عندما فاضت روح علم من اعلام هذه البلاد وواحد من اكبر علمائه ألا وهو فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي عليه من الله الرحمة والرضوان .
أصيب الناس بالحزن والأسى لفقد هذا العالم الذي كان - يرحمه الله - واحداً قل من يناظره في الشريعة وعلومها جاء به الملك عبد العزيز مؤسس هذا الكيان وموحد هذه المملكة جاء به مع علماء اخرين من داخل المملكة وخارجها لينفذ بهم ومن خلالهم سياسته الصارمة في محاربة الجهل وأقتلاع جذوره بعد أن خيم ردحا من الزمن على أجزاء من هذه الجزيرة .(3/253)
فقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي من ضمن مجموعة من العلماء الذين عملوا في دار التوحيد ثم لما أمر الملك عبد العزيز - رحمه الله- بفتح المعاهد العلمية كان الشيخ عبد الرزاق من أوائل من جاء للتدريس فيها وكان مع الشيخ محمد بن إبراهيم - عليهم جميعا رحمة الله - كان معهم خير معين على السير بهذه المعاهد والكليات من بعد ذلك نحو تحقيق الرسالة المنوطة بها .
تولى التدريس بعد دار التوحيد في المعاهد العلمية ثم في كلية الشريعة واللغة العربية بالرياض وكذا في المعهد العالي للقضاء الذي أسند إليه إدارته فيما بعد إضافة إلى التدريس فيه وكان رحمه الله ذا باع طويل في علوم الشريعة له القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والمذاهب والملل والنحل أما في علم أصول الفقه فإليه فيه المنتهى . وقد شرفت بأن أكون أحد تلاميذه في كلية الشريعة ثم في المعهد العالي للقضاء وخبرته من قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ من علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمباديء هذا الدين من تواضع وتقى وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها منارة هدى ومصدر إشعاع وموئل عز للإسلام والمسلمين .
وقبل وفاته - رحمه الله - كان مبتلي أبتلاه الله سبحانه وتعالى بمصائب ولكنه كان الصابر المحتسب فإضافة إلى الأمراض التي عرضت له في العقد الأخيرب من عمره أصيب بثلاثة من أبناءه وهم في ريعان الشباب : عبد الرحمن الذي كان يلازمه في شيخوخته كظله يخدمه ويساعده إذ به يفاجأ بوفاته بسبب إنفجار إسطوانة غاز . وعبد الله بسكتة قلبية . ومن قبلهما أحمد أكبر أبناءه الذي جاءه نعيه قتيلا في حرب الدبابات مع إسرائيل في سيناء عام 1393 هـ .(3/254)
ومما يلفت النظر في جلد هذا الشيخ وصبره إنه لما جاءه خبر وفاة أبنه أحمد وهو مدير ومحاضر في المعهد العالي للقضاء لم يتوقف عن برنامجه اليومي فقد جاء إلى طلابه في مرحلة الماجيستير - وكنت واحدا منهم - وألقى المحاضرة كالعهد به دون أثر أو تلعثم وكانت بعض العسر إلى المغرب وكان الطلاب كعادتهم بعد أن ينتهي من المحاضرة يوجهون الأسئلة واحدا تلو الآخر . وإذ به يجيب عنها دون أن يظهر عليه ما يلفت النظر وبعد انتهاء المحاضرة خرج من القاعة ونحن وراءه
وإذ بنا نحن الطلاب نفاجأ بطابور من الأستاذة وطلاب آخرين يقابلونه ويقبلونه معزين بوفاة ابنه . ولا تسأل عن ذهولنا نحن ليس من الوفاة ولكن لأن الشيخ لم يترك المحاضرة لا بل لأنه لم يخبرنا ولم يظهر عليه أي آثر للصدمة . . فأقبلنا عليه مع غيرنا مواسين ومعزين - فرحمه الله وغفر له .
ورحم الله جلالة الملك عبد العزيز وأبناءه من بعده . وجعل التوفيق حليف خادم الحرميمن الشريفين الملك فهد وإخوانه الذين كان هذا العالم الفذ محل اختيارهم وموضع تقديرهم والذي آل به هذا الاهتمام إلى أن تدرج - رحمه الله - في التدريس قرابة أربعين سنة . ثم في تولي إدارة المعهد العالي للقضاء . ثم نائبا لرئيس لجنة الإفتاء . ثم عضو هيئة كبار العلماء .
فرحمك الله يا أبا أحمد رحمة واسعة وأنزلك منازل الصديقين والشهداء وألهم أبناءك محمدا ومحمودا وإخوانهم وأخواتهم ووالدتهم وذويهم الصبر والسلوان وعوض هذه البلاد خيرا بعد رحيلك .
(ا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) .
د / صالح بن سعود آل علي
عضو مجلس الشورى
دمعة حرى على فقيد العلم والأخلاق والتربية
عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله
بقلم زهير الشاويش(3/255)
عرفت استاذنا وفقيد الأمة الإسلامية قبل خمسين سنة وتوثقت صلتي به منذ أربعين سنة على أمتن ما تكون الصلة تغمده الله برحمته ومنذ عرفته حتى يومخ فقدته ما رأيت منه إلا العلم الغزير والأخلاق السامية والنبرة الصادقة والألفاظ العفة والعقل الراجح والورع الحقيقي قد ترفع عن سفاسف الأمور والصبر عند الملمات مما لا تكاد تجده مجموعا عند غيره من الرجال .
كان عالما عاملا بنشر العقيدة الصحيحة والتربية السليمة والأخلاق المحمدية وكان مدرسة فريدة في جمع الناس على الخير وحثهم عليه وكان من تلامذته الدكتور عبد العزيز كامل والأستاذ عبد الرحمن الباني والدكتور محمد الصباغ والأخ مناع القطان وغيرهم .
ومجموعة من الأخوات الذين أخذوا عنه فضائل جمة وابتعدوا عن الغرور والتنطع.
ولد الفقيد عام 1323 هـ في بلدة ( شنشور ) في المنوفية بمصر ودرس في الأزهر تخرجه وكان عمره دون العشرين سنة يدعو الناس إلى الإسلام الصافي والعمل بكتاب الله وسنة رسوله فتأثر به أهل تلك المنطقة وكانت فيها نهضة علمية تعاون فيها جميع العاملين للإسلام من غير تنافر ولا تنابذ .
وانتقل إلى السعودية ضمن بعثة علمية قام بإحضارها أستاذي العلامة الشيخ محمد بن عبد العزيز - رحمه الله - وبعد سنتين اختاره مفتي البلاد أستاذي الشيخ محمد إبراهيم ليكون معه في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات مع أخيه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم .
ثم تولى رئاسة المعهد العالي للقضاء وبعدها انتقل إلى إدارة البحوث العلمية والإفتاء حيث كان الرفيق الأقرب إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - ووجوده في هذه اللجنة أثرى ما أصدرت من فتاوي كثيرة جداً . . وفيها ولا شك الكم الكبير المبني على الاجتهاد ( شبه الجماعي ) النافع للناس والمبتعد بهم عن التخبط الذي نجده في كثير من الآراء والفتاوى.
…الشيخ والتأليف :(3/256)
…كان - رحمة الله -يرى أن في ثروتنا العلمية التى تركها لنا الأجداد - رحمهم الله-ما يكفي ، وإذا كان لابد من مؤلف فيكون لسد الحاجات الطارئة علينا من أمور استجدت. وقال لي مرة : يا زهير إن حُسن استخراج الكتب وتحقيقها وحسن عرضها أفضل من التأليف.
ولذلك صرف جهده إلي وضع المناهج للجامعات والمعاهد ورسم الخطط لها من غير أن يؤلف كتباً.
وقام على تحقيق كتاب " إحكام الأحكام " للآمدى . وبحكم تدريسه الطويل كان عنده أمالى في التفسير والحديث وأصول الفقه00 ما لو جمع لكان كتباص نافعة.
…وفي تعليقه على رسائل الدكتوراه التي أشرف عليها ولعلها بلغت المئات ؛ العلم الغزير النافع.
…هذه دمعه حرى على فقيدنا وأستاذنا العلامة الجليل الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، وفقده يذكرتي بالحديث الشريف " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد ، ولكن يقبض العلماء 000 " الحديث.
…وإنني إذ أعزيى العالم الإسلامي به أخص أستاذنا الشيخ عبد العزيز بن باز وأبناء الفقيد وأهله وإخوانه بخالص التوجه بأن يحتسبوا مصيبتهم عند الله الذي له ما أخذ وله ما أعطي وكل شيء عنده بمقدار.
…اللهم عوضنا منه خيراً وصلي الله على محمد وآله وصحبه وإنا لله وإنا إليه راجعون.
زهير الشاويش
بيروت - الحازمية
ذكريات مع الحبر الفقيد
بقلم الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمى
الحمد لله رب العالمين 000 أما بعد :
…قال رسول الله (ص) " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء "
…استرجع هذا القول وأتامله كلما حدثت فاجعة بموت أحد علماء الأمةة الذين خدموا العلم بنشره والدين بالدعوة إليه والدفاع عن حياضه.
…وإن من آخر من فقدتهم الأمة الإسلامية ، الوالد الشيخ عبد الرزاق عفيفي عضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية سابقاً ، ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ولإفتاء.(3/257)
…ولست بصدد الترجمة له فقد كفيت ذلك ولكن للتعريف ببعض سيرته - رحمة الله - من واقع اتصالي به حيث قيض لي العمل قريباً منه في رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء - سابقاً - كما شرفني - رحمة الله - بالإشراف في المرحلة الأولى من رسالتي لنيل درجة الدكتوراه قبل أن تنتابه الأعراض المرضية والمتاعب الصحية في آخر حياته.
…لقد عرفت في فضيلته الدقة العلمية والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطروحة متميزاً - رحمة الله - بدقة فهمه لمختلف مسائل العلم الشرعية واستيعابه للأصول والقواعد التى تصدر عنها الأحكام ، وسرعة استحضاره لكلام أهل العلم من قراءاته في المراجع المختلفة 00 ولقد كان - رحمة الله - واسع العلم بمسائل العقيدة ، شديد التمسك بمذهب السلف الصالح مع المعرفة التامة بالملل والنحل المختلفة وأصولها التى تصدر عنها عالماً بعوارها ومواطن دحضها 00
…كما كان - رحمة الله - في أخلاقه محل القدوة والأسوة. شديد التواضع تغلب عليه البساطة في مجلسه ، إذا ارتاح لمحدثه استرسل في ذكر بعض الأحداث والمواقف نزل معه على قدره صغيراً كان في سنة أو منزلته.
…ولذا كان - رحمة الله - محبوباً من الجميع من كل من يعرفه ممن عمل معه أو تتلمذ علي يديه. محل الإجلال من الجميع والتقدير ، ويرتاح لذلك ، ويعلله بأنه يناسب بدنه صحياً ، وكان يكره الجدل والمراء وقل أن يسمح لمحدثه بالاستمرار في ذلك أو ينساق له.
…وإن كانت وفاته - رحمة الله - بعد أن جاوز التسعين عاماً فقد كان رغم ما توالى عليه في السنين الأخيرة من العلل والأمراض مع كبر سنة ، تام الحواس ، سليم الإدراك لم يتغير في عمله ، وثد يسر الله له الحج عام (1414هـ) آخر موسم قبل وفاته بصحبه سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فكانت حجة وداع من خير ما ختم به أعماله.
ولعل من المناسب للتاريخ أن أذكر بعض ما يحضرني من أقوال له في بعضها طراقه.(3/258)
لقد كان - رحمة الله - شديد الإعجاب بشيخ الإسلام ابن تيميه كثير الرجوع إلي مؤلفاته ، وكان مما سمعته منه قوله : ( لم أر لدى اكثر المؤلفين في العصور المتأخرة جديداً بل تكراراً لما ذكره من سبقهم سوى شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمة الله - فإنك تجد في مؤلفاته الكثير منه ولا يتغير فيه شيء.
وكان - رحمة الله - يقول في وصف تغير العصر وانقلاب المفاهيم " بعض الناس الآن كنبت البصل رأسه إلي أسفل ورجلاه إلي أعلى ".
وسمعت منه كلاماً في عدم الجهل بما يحل ويحرم ، وأن الإنسان يعرف ذلك غالباً من نفسه قال : " حتى الحيوان قد يدرك ذلك ، ألا تري الهرة إذا ناولتها قطعة اللحم أكلتها وهى بجوارك آمنة ، وإذا غافلتك وخطفتها من غير رضي منك هربت بها بعيداً عنك ".
أقول رحم الله الوالد الشيخ عبد الرزاق عفيفي فقد كان بحر علم زاخر صدر عنه الكثير من طلبة العلم الشرعي ولا سيما في هذه البلاد بخاصة. وإن فقده مما يؤلم ولكن سنة الله ماضية ، وكل نفس ذائقة الموت 000
نسأل الله أن يسكنه فسيح جنته وأن يغفر له وأن يجزيه على ما قدم لأمة محمد خير الجزاء ويرفع درجته مع الصالحين من عباده وأن يخلفه على المسلمين بخير الخلف.
د. عبد الله بن حافظ الحكمى
مدير عام مكتب المفتى العام
للمملكة العربية السعودية
الشيخ عبد الرزاق عفيفي من بقية السلف
د. محمد بن لطفي الصباغ
…فجع العالم الإسلامي بوفاة العالم العامل والعلامة الداعية إلي الله على بصيرة ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي. وذلك في صباح يوم الخميس الموافق 25 ربيع الأول سنة 1415 هـ ( الموافق 1/9/1994 م ) ودفن في الرياض بعد صلاة الجمعة.
…بلغنى الخبر المؤلم وأنا في عمان . فآلمنى ذلك الخبر إيلاماً شديداً. وشعرت بعظم الكارثه على وجه أكثر مما كنت أتوقع.
…يا لله !! مات العالم الذي قل نظيره من العلماء 00 لقد أذهلنى الخبر حقاً.(3/259)
…أشهد أنني لقد جزعت لذاك النبأ جزعاً لم أجزعه إلا يوم وفاة والدى - رحمة الله - والشيخ عبد الرزاق عفيفي بمثابة الوالد. ثم تماسكت وتصبرت وتذكرت الآيات القرآنية التى تقرر أن الموت سبيل كل حى (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
…وأن الجل إذا جاء لا يؤخر (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)
…ومرت بخاطرى كلمة عمر بن عبد العزيز : ( ما الجزع مما لابد منه ؟ وما الطمع فيما لا يرجي ؟ وما العيلة فيما سيزول ؟ وإنما الشيء من أصله ، فقد مضت قبلنا أصول نحن فروعها ، فما بقاء فرع بعد اصله ؟ وإنما الناس في الدنيا أغراض تنتضل فيهم المنايا وهم فيها نهب للمصائب ، ومع كل جرعة شرق ، وفي كل غصص).
…فاسترجعت قائلاً : إنا لله وإنا إليه راجعون ، غفر الله له ، وأكرم نزله ، وعوضه الجنة ، وعوض المسلمين خيراً.
…صحبته ما يزيد على اثنين وثلاثين عاماً ، ما تركت مجلسه في أسبوع إلا أن يكون أحدنا مسافراً ، وقلما كانت سفراتنا تطول. وقد جاورته سنين عديدة فكان نعم الأستاذ والجار. لقد تعلمت منه في هذه الصحبة أموراً كثيرة . منها ما يتعلق بالناحية السلوكية ، ومنها ما يتعلق بالناحية الشخصية 00 لقد كنت ألجأ إليه في كل أمر من هذه الأمور ، وكان يمدنى بالرأي السديد . والتوجيه القويم ، لقد أكرمه الله بالعقل المسدد ، والعلم الواسع ، والرأي الحكيم.
…وعلى الرغم من تلمذتى عليه ما كان يعاملنى إلا على أني زميل له تواضعاً منه وكرماً. أحسن الله إليه وجزاه الخير.(3/260)
…وولد - رحمة الله رحمة واسعة - في شنشور من محافظة المنوفية من بلاد مصر في سنة 1323 هـ ودرس في الأزهر وتخرج فيه من أعلى مستوياته ، وقد حصل على الشهادة العالمية عام 1350 هـ ، ودرس مرحلة التخصص في شعبة الفقه وأصوله. وتابع تحصيله الشخصي حتى أضحى من أكبر العلماء في عصره ، وإني منذ طفولته إلي هذه اللحظة وأنا أعاشر العلماء ، أتتلمذ على أيديهم وأتلقي منهم وأباحثهم ، ولا والله لم ألق عالماً مثله في سعة اطلاعه ، ودقة استحضاره وحفظه وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه ، وقدرته على إعطاء الحكم الدقيق في المسألة المطروحة ، ومعاصرته لأحداث زمانه ، لقد كان يعيش عصره ، ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكرى الاستعماري للمسلمين ، ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التى تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ، وهذه صفة لم تكن موجودة في كثير من علماء عصره.
…كان مما يمتاز به سعة صدره وبعد نظره وزهده في الدنيا ومتاعها ، وحبه للخير للناس جميعاً وبذله جاهه في مساعدة الآخرين.
…وكان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره وأنه متخصص فيه وحده ، كان موسوعي المعرفة : كان محدثا كبيراً قل أن يخفي عليه حديث ، وكان له مقدرة متميزة في تخريج الحديث والحكم عليه ، وقد يري في بعض الأحاديث من الرأي الصحيح ما لا تجده عند غيره سواء في تحديد درجة الحديث أم في فهمه والوقوف على دلالته.
…وله عناية خاصة بكتب الرجال ، وقد بلغ من عنايته أنه فقد جزءاً من كتاب الرجال فكتبه بخط يده وجلده ، ولما رآه بعض الولوعين بحفظ آثار عظماء استهداه هذا الجزء فأهداه إياه بحضورى.(3/261)
…وكان مفشراً عظيماً ، وإن أنس لا أنس لا أنس دروسه الرائعةو في تفسير القرآن التى كان يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في ( دخنه) في الرياض ، وكنت ملازماً لها وذلك من فضل الله على. لقد كان يغوص في المعانى الدقيقة في الآية ويذكر ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ويصل بين تلك المعانى وبين حياة الناس ، ويشير إلي أسرار البلاغة ونواحى الإعجاز فيها ، وكان لا يرضي تأويل المتأخرين ولا المعاصرين المفتونين بحضارة الغرب الذين تزعزعت عندهم الغيبيات فراحوا يؤولون النصوص تأويلاً متكلفاً بعيداً.
…وكان فقيهاً مجتهداً ، وما كان يرضي التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطته بها ، بل كان يمشي مع الدليل. وقد تكونت لديه ملكة فقيهة عظيمة.
…وكان إذا سئل لا يتسرع بالإجابة ، بل يسأل عن دقائق الموضوع المطروح حتى يستوعبه ويقوم عنده تصور صحيح دقيق للموضوع ثم يجيب.
…وكان أصولياً متبحراًَ في هذا العلم العظيم. علم أصول الفقه ، واقفاً على دقائقه مطلعاً على كتبه مستحضراً لما فيها ، فإذا سألته عن كتاب من كتب الأصول ذكر لك خصائصه ومزاياه وطريقته والمآخذ التى تؤخذ عليه. وقد كان معجباً بكتاب " المستصفي " للغزالى وكتاب " الموافقات " للشاطبي.
…وكان من كبار علماء التوحيد على مذهب السلف رحمهم الله ، يعرض القضايا الدقيقة فيه بأسلوب مميز واضح ، وقد كان رحمة الله واقفاً على كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في هذا العلم. وقد استطاع أن يرد ما جاء في شرح الطحاوية وهو مقتبس من كلام ابن تيميه وتلميذه إلي مواضعه في كتبهما ، وقد تضمنت طبعة المكتب الإسلامي الأخيرة للكتاب هذه الإحالات.
…وكان في علوم العربية متمكناً ، فقد كان في النحو مرجعاً تراه يورد في حديثه القاعدة النحوية إذا اقتضاه التوضيح أن يوردها وكأنه من المتخصصين في النحو ، وكان ذواقة للنصوص الجميلة وهذا يدل على موهبة بيانية أكرمه الله بها وعلى تمكنه من علوم البلاغة.(3/262)
…وكان في الكتابة ذا أسلوب متين جزيل بليغ ، لا يقل عن أساليب كبار الكتاب والأدباء تتصف عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والوضوح والجزالة. ولدى عدد من رسائله الشخصية إلي وهي نماذج على ذاك الأسلوب العالى.
وكان ذا بيان مشرق متدفق إذا تكلم أو درس لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يلحق.
وكان مناظراً قوى الحجة مستحضر الدليل يحيط بأطراف الموضوع الذي يناقشه.
وكان مدرساً ناجحاً سواء كان درسه في الجامع أو في الجامعة ، فلقد كان له درس أسبوعي في مسجد الشيخ محمد كما ذكرنا آنفاً ، ثم لما انتقل إلي بيته في شارع الخزان كان يؤم الناس في المسجد الذي يقابل بيته وكان يلقي ين الفينة والأخرى دروساً تأخذ الألباب في روعتها وعمق معانيها وغزارة أدلتها.
…وقد حدثني - رحمة الله - أنه أراد أن يحذر إخوانه في مصر من دجل الدجالين من القصاص والوعاظ الذين يأتون في دروسهم بالأقاصيص الممتعة التى تشد السامعين وتمتعهم وتستحوذ على إعجابهم ولا أصل لها ، والعامة هذا شأنهم في أغلب البلاد ، فألقي عليهم درساً ملأه بمثل تلك الأقاصيص الغربية فأعجبوا بالدرس واستمتعوا ، فلما رأي ذلك بادياً على وجوههم سألهم : ما رأيكم ؟ أهذا الدرس أحسن أم الدروس السابقة ؟ قالوا : بل هذا . إنه درس جميل ممتع. فقال لهم : هذا كله غير صحيح ، وما كنا عليه في دروسنا السابقة هو الصواب.
فأفهمهم بهذه الطريقة العملية أنه ليس عاجزاً عن أن يأتي في درسه بما يستحوذ على إعجابهم ، ولكن الحق هو الذي ينبغي أن يكون رائد الموجه والعالم.
إن العالم ينبغي أن يكون مريباً مرشداً يقول الحق ولا يخشي في الله لومة لائم ، لا يدارى ولا يتكلف التأويل ليسوغ للناس ما يحبون من الخرافات والأباطيل.(3/263)
…وقد أبتلي المسلمون ومن زمن بعيد بالقصاص الذين يملأون أحاديثهم بالأحاديث الموضوعة والواهية ، ويأتون بالقصص الغريبة ولو كانت باطلة ليجعلوا الناس يقبلون عليهم فكان الشيخ رحمة الىله يحذر الناس من الوقوع في أحابيلهم.
…وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون شاملة ، فلقد كان يصحب القاموس المحيط ، و قد حدثني في أنه يجد متعة في قراءة موارده ، والناس عادة لا يرجعون إلي القاموس إلا عندما يريدون معرفة معنى كلمة ، أما الشيخ - رحمة الله - فقد كان يقرأ فيه كما يقرأ أي كتاب من الكتب.
…أما فهمه لعبارات الأقدمين في كتبهم فقد كان شيئاً مدهشاً حقاً ، وبعض العبارات بالغة التعقيد بسبب الرغبة عند هؤلاء المتقدمين في تحميل الألفاظ القليلة المعاني الكثيرة.
…لقد كان ينظر في العبارة العويصة فيحلها ويشير إلي مراميها ومقاصد كاتبها على نحو لا تجده عند كثير من أهل العلم.
…والعلماء نوعان : علماء ينعزلون عن الناس ، ويتفرغون لكتابة الكتب والمصنفات وعلماء يعنون ببناء النفوس وتوجيه العامة وإرشادهم ، وبالإجابة على أسئلتهم وحل مشكلاتهم ، وقد كان فقيدنا العظيم من النوع الثاني ، وقد انتفع بعلمه وتوجيهه خلق كثير ، وهناك عدد من مشايخنا كانوا من النوع الثاني وهم جبال من العلم ، وكذلك في العصور السابقة كان أكثر العلماء من هذا القبيل ، وأحسب أن فقيدنا كان يحمله على ترك التأليف عامل آخر وهو زهده في الشهرة والسمعة والمناصب.
ومع ذلك فقد كتب تعليقات نافعة على أجزاء من " تفسير الجلالين " كانت مقررة على طلاب المعاهد العلمية. وكتب تعليقات موجزة نافعة على كتاب " الإحكام " للآمدى ، وطبعت له " مذكرة في التوحيد " وهى الآمالى التي كان يلقيها على الطلبة.
…وقد كتب عدداً من الفتاوى والبحوث وذلك خلال عمله في اللجنة الدائمة. وكتب عدداً من المقدمات لكتب علمية أو رسائل جامعية.(3/264)
…وكان إذا رأي كتاباً خفيفاً لأحد المحدثين ليس فيه أصالة ولا دقة ولا استيفاء قال : يا ليته ما ألف ! ويا ليته اقتصر على الانتفاع بما كتب الأئمة.
…ومهما يكن من أمر فإني لا أستطيع أن أنقل للقراء صورة حقيقية لعلم الرجل الواسع في هذه الكلمة.
وكان - تغمده الله بالرحمة - سلفي العقيدة يدعو إلي الحق على بصيرة وكان رئيس جماعة أنصار السنة في الإسكندرية يوم أن كان في مصر. وكان يتصف بسعة الصدر وحسن المناقشة والحلم والأنة القول لمن يسأله ويناقشه ، فقد ذكر لي الشيخ ناصر الدين الألباني أنه في أ ول قدمه جاء فيها إلي المملكة من بضع وأربعين سنة قابل عدداً من المشايخ وذاكرهم في مسالة قررها شيخ الإسلام ابن تيميه ، وهي مشكلة في نظرة ، وقد أنكرها ، فاشتدوا عليه إلا واحداً وكان هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي الذي تلطف به وناقشه في الموضوع ، وكان الشيخ الألباني يذكر هذه القصة مشيداً بالصفات الكريمة التى تميز بها الشيخ - رحمة الله.
…أما الأعمال التي قام بها فقد عمل مدرساً في المعاهد الأزهرية في مصر ، ثم هاجر إلي المملكة العربية السعودية في سنة 1368 هـ فدرس في المعارف ثم في دار التوحيد في الطائف ، وكان الملك عبد العزيز - رحمة الله - قد استدعى شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار ليكون مديراً لها ، فعمل فقيدنا فيها ، ثم انتقل إلي نجد فدرس في الرياض وعنيزة ، ولما أنشئت كلية الشريعة في الرياض كلف بالتدريس فيها ، ولما جئت للتدريس في كليتي الشريعة واللغة عام 1381-1382 هـ كان لى شرف لقائه والاجتماع به. وكان من اقدر الأساتذة على نقل المعلومات إلي أذهان الطلاب ، يبسط المسألة المعقدة ويوضحها وما ذلك إلا لتمكنه من العلم ، لأن الإنسان عندما تكون معلوماته واضحة وما ذلك إلا لتمكنه من العلم ، لأن الإنسان عندما تكون معلوماته واضحة في ذهنه يستطيع أن ينقلها يبسر للآخرين مهما كانت دقيقة وصعبة.(3/265)
…ثم أنشئ المعهد العالي للقضاء في سنة 1385 هـ. وكان الشيخ من المخططين لمناهجه وعين مديراً له ، وقد تخرج على يديه عدد كبير من العلماء.
…ثم انتقل إلي دار الإفتاء عام 1319 هـ. فكان عضواً في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية ونائباً لرئيسها وبقي فيها حتى وفاته ، رحمة الله رحمة واسعة. وكان أيضاً عضواً في هيئة كبار العلماء. وقد أشرف على عدد كبير من الرسائل العلمية الجامعية للماجستير والدكتوراه وناقش عدداً آخر منها.
…وكان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمة الله - مفتى المملكة يقدره ويستشيره ويعتمد عليه في كثير من الأمور تقديراً لعلمه الواسع ورأيه الصائب وإخلاصه الجم.
…والفضل يعرفه ذووه ، وكذلك كان فضيلة الشيخ عبد العزيز ابن عبد الله بن باز - حفظه الله - وأطال عمره.
… وكان الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة الله متواضعاً زاهداً في متاع الدنيا ومناصبها ، لا يغشي منازل الوجهاء والأغنياء إلا أن دعى ، وكان يتعفف إن حضر ولا يقول إلا ما يرضي ضميره ، ولعل زهده هذا هو السبب في عزوفه عن إلقاء المحاضرات وحضورها.
…وكان يبذل جاهه في خدمة الصالحين ومعونتهم ، ولا يرد صاحب حاجة يستطيع أن يقضيها له .
…كان يحج كل عام منذ أن هاجر إلي المملكة. يدرس في الحرم ويفتي الناس في شؤون دينهم ولا سيما في أمر المناسك. وله اقتراحات نافعة أخذ ببعضها بالنسبة إلي الضحايا والهدى. وقد حججت معه مرات ، وأشهد أنه كان في المواقف ولا سيما في عرفات كثير التضرع ، يدعو ربه ويجتهد في الدعاء والدموع تنهمر على لحيته ويسأل الله المغفرة والرضوان وإصلاح أحوال المسلمين ويطيل في ذلك. وقد حج في هذا الموسم الأخير على الرغم من ضعفه بسبب الشيخوخة وإصابته ببعض الأمراض.(3/266)
…كان يعرف للناس أقدارهم ولا سيما إن كانوا غرباء ، وكان كذلك في غاية الصبر والرضي بقضاء الله وقدره. ثم توفي ابنه عبد الله في 3061413 هـ فجأة في جدة ، فكان أيضاً مثلاً في الصبر والاحتساب والتسليم.
…سافرت زوجته مرة إلي مصر ، وعندما أرادت أن تعود إلي الشيخ في الرياض منعت من العودة مدة طويلة لمضايقة الشيخ وإيذائه ، فصبر وصابر حتى أذن الله بالفرج وعادت إلي بيتها.
…كان ذا روح حفيفة قلما يخلو مجلسه من إلقاء نكته مهذبة واقعية ، تنشط السامع وتسره وتؤدي غرضاً توجيهياً. وكان بعيد النظر عميق الفكر ، له جولات نقدية موجزة يدركها الواعى من جلسائه ولا يذكر في مجلسه أحد بسوء.
…وكانت معرفته بالرجال المعاصرين من الأعلام معرفة دقيقة ، وكان حكمه عليهم حكماً سديداً ، يعرف أوضاعهم الاجتماعية وعادات بيئاتهم ومدى تأثرهم بذلك كله. وكان كريماً أصيلاً لا يتكلف بريد المباهاة والمفاخرة ، بل كل يوم وليمة. وكان إذا علم بمجيء عالم يعرفه دعاه إلي الطعام ، وقد حضرت الكثير من هذه الولائم وبيته مفتوح كل ليلة للزائرين وطلاب العلم والمستفتين والذين يبغون الشفاعة في أمر من أمورهم.
…أما أسرته في مصر فهي أسرة كريمة في شنشور تعد من أعيان البلد وأفاضلهم . وتعرف بأسرة " النوبي " وقد حدثني رحمة الله عن والده وصفاته الكريمة حديثاً طويلاً. والشيخ هو عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية.
…وقد تزوج سيدة فاضلة من أسرة كريمة من الإسكندرية هي أسرة سالم أنجب منها عدداً من البنين والبنات وهم المهندس الزراعي أحمد عاصم رحمة الله ، والأستاذ محمد نبيل حفظه الله ، والأستاذ محمود حفظه الله ، والأستاذ عبد الله رحمة الله ، والأستاذ عبد الرحمن رحمه الله.(3/267)
…وأما البنات فثلاث ، وقد أكرمه الله بأصهار صالحين. وكان يهتم بتربية أولاده ، فكانوا مثالاً في الاستقامة والبر ، ولقد كان الأستاذ محمود منقطعاً لخدمة والده وضيوفه ، فكان هو الذي يصحبه إلى الصلاة ، ذلك لأن الشيخ في آخر حياته كان لا يقوى على المشي فكان يستخدم كرسياً طبياً ، وما كان الشيخ - رحمة الله - يترك صلاة الجماعة في المسجد في وقت من الأوقات الخمسة ، وكان الأستاذ محمود - أحسن الله إليه- يجلس معه يقوم بخدمة والده وتقديم الضيافة للضيوف وتنفيذ أوامر الشيخ ، وكان يلازمه إذا مرض لا يتركه.
…إن حياة شيخنا المباركة تحتاج أن نكتب فيها مؤلفات ، ولست أدعى وأن هذه الكلمة قد و فت ففيدنا العظيم حقه من الترجمة ، ولكنها كلمة وفاء وعرفان بالجميل رحمة الله وغفر له وأحسن جزاءه 0 فقد كانت حياته حافلة بالجد والنافع من الأعمال فلم يكن يشغل الشيخ عن العلم عن العلم والعبادة ولقاء الناس وتعليمهم بشيء مما يشغل الآخرين. فلم يكن الشيخ يسمع الإذاعة ولم يكن يري التلفاز ولم يكن يعني بقراءة الجرائد. بل كان ينفق وقته كله في قراءة القرآن ومطالعة مسائل العلم . ونحسب أنه كان ممن طال عمره وحسن عمله ولا نزكى على الله أحداً.
…رحم الله شيخنا عبد الرزاق . وأبدله داراً خيراً من داره ، وأهلاً خيراً من أهله . وأحله في الفردوس الأعلى من الجنات مع النبيين والصديقتين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
محمد بن لطفي الصباغ
هكذا عرفنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي
بقلم فضيلة الشيخ يوسف بن محمد المطلق(3/268)
……رحمة الله عليك أيها العالم الجليل أروع الصادق. لقد فجعت الأمة بفقدها لعالم جليل جعل حياته في سبيل الله تعالى تعليماً وإرشاداً وإفتاءاً وإشرافاً ، فلقد عرفنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي منذ أن تم له التوفيق بقدومه إلي المملكة كأستاذ شارك مع علمائنا الأفاضل ومنهم سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز ابن باز بارك الله أوقاته وحياته. لقد كان الشيخ بدخوله إلي طلابه أثناء التعليم يشد انتباههم بحكمته في الإلقاء والتبسيط ، حتى أصبح الطالب في مادته قلما ينال أقل من المتوسط العلمي ، وقد كان مثالاً للإخلاص والقدوة الحسنة في زهده وورعه وقد تخصص في علوم الدين ، ولقد نما إلي علمي انه يقرأ كثيراً ولا يبت في الجواب إلا بعد تريث مع ما أعطاه الله من فطنة وسرعة البديهة ، وكان رحمة الله كثيراً ما يشجع للمزيد من العلم ، ولم يكن ينظر إلي التسابق المادى ، بل كان يشجع على العلم والدعوة وكان يخصص وقته بين إجابة السائل شخصياً أو تحريرياً ، وما كان يسأم من السائلين ، بل كان يبذل جهده حتى يفهم سائله ، وكان رحمه الله مضيافاً للوافدين إليه ، وبلغني من عبادته أنه كان أشد الناس حفاظاً على السنة والعمل بها.
…وكان يحذر من البدع ودعوته دائماً ترى فيها الحكمة والموعظة الحسنة ، وإذا رأي أحداً متلبساً بمنكر في لباسه أو هيئته قام بنصح عام بالتلميح وضرب المثل ، حتى لا يدرك الحاضرون أنه يعني وشخصاً بعينه ، بينما المقصود بالنصيحة يدركها ويخرج شاكراً مستفيداً.
…وعرف الشيخ بالحياء والصمت إلا في حق. كان طلابه يهابونه حياء ويقدرونه في أنفسهم ، وإنني وطلابه الذين منهم الوزير والقاضي والداعية والأستاذ والإداري لا نقدر على مكافأته إلا بخالص الدعاء الصالح ، فبارك الله في ذريته وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء والإحسان. وإننا نرجو أن تنشر فتاواه الخاصة في سجل يستفاد منه.(3/269)
زيادة على فتاوى مشايخنا وعلمائنا وعلى رأسهم سماحة عالم الأمة الشيخ عبد العزيز ابن باز.
" وإنا لله وإنا إليه راجعون "
اللهم ألهم محببه وطلابه وذريته وأهله الصبر والاحتساب.
أاعزى أم أهنئ
( منال محمد الهلالى - جامعة الملك سعود )
…تمضي اليام والسنون ويمضي معها قطار العمر ليقف بنا في آخر محطاته لتبدأ حياة جديدة وعالم آخر. وهكذا انتهت رحلة اثنين وتسعين عاماً لرجل فاضل عابد سخر حياته كلها للعلم والعمل والعبادة وترك وراءه الدنيا ، إنه وجدنا وأبونا وشيخنا وعالمنا ومربينا الشيخ عبد الرزاق عفيفي. الذي حط به القطار في آخر محطاته ليقابل وجه الكريم سبحانه وتعالى.
…انتقل إلي رحمة الله الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، ذلك العالم الذي لا أعلم إن كنت أحزن لفراقه أم أسعد لما عمله في دنياه ليجنى ثمرته في الآخرة إن شاء الله في 25/3/1415 هـ لا أستطيع إلا أن أقول : إنها الحياة تبدأ وتنتهي ولكن المهم كيف تكون النهاية ؟
…أهنئك يا جداه . أهنئك يا عالمنا. وأعزيك يا أمتنا الإسلامية برحيل فقيدنا ، ذلك العالم الذي عاش حياته رمزاً للأب الحنون العطوف الصارم الصابر على ما ابتلي به من أمراض ووفاة ثلاثة من أبنائه في حياته. إنه الاختبار الإلهي ويا سعادة من فاز بهذا الاختبار . كان مثالاً للأمانة والإخلاص لله والأمانة والإخلاص في حياته وعمله ، حتى أنه كان يذهب إلي عمله في آخر حياته ، وحتى في بعض الأيام التى لا يستطيع الذهاب إلي عمله بسبب سوء حالته الصحية كانت تأتي له أوراق الفتاوى إلي بيته ليجيب عليها.
…كان رمزاً للزهد والورع والتقوى ، كان لا يسعي للشهرة والمجد وكان ينفذ ما يقوله وما ينصح به الناس ، ومن ذلك أنه لم يدخل التليفزيون إلي بيته حتى وفاته.
…وقد حصل رحمه الله على شهادة الدكتوراه في الشريعة ، وكان مربياً وأستاذاً فاضلاً يعرف كيف يتعامل مع طلابه ، وكيف يوصل لهم المعلومات بحيث تتناسب مع جميع القدرات.(3/270)
… وقد تقلد رحمة الله مناصب عديدة وكان كفؤاً لها منها التدريس بدار التوحيد بالطائف قبل تأسيس المعاهد العلمية والتدريس بكلية الشريعة بالرياض ، تولى رئاسة المعهد العالى للقضاء بعد إنشائه. حيث كان رحمة الله من أوائل مؤسسي هذا المعهد ، عضواً سابقاً بهيئة كبار العلماء ، كان رئيساً لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر.
…فرحم الله عالمنا وفقيدنا وأسكنه فسيح جناته وألحقنا به أن شاء الله .
الشيخ عبد الرزاق عفيفي 00
مصباح علم 00 خبأ نوره
…فجعت الأوساط العلمية في العالم الإسلامي بوفاة أحد العلماء الأجلاء بذل حياته في سبيل الدعوة والعلم والتعليم والإفتاء ، إنه العالم الجهبذ ، صاحب الفضيلة : الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، ذلك العالم الذي تخرج على يديه علماء أجلاء يتنبئون الآن مناصب في الإفتاء والتعليم والقضاء والدعوة داخل المملكة وخارجها. والشيخ - لا شك - يعرفه كل طالب علم فضلاً عن العلماء.
…هو صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية. ولد في قرية ( شنشور ) التابعة لمركز ( أشمون) بمحافظة المنوفية بمصر عام 1323 هـ. ودرس في قريته حتى أنهي المرحلة الثانوية ، ثم انتقل إلي الأزهر بالقاهرة فدرس في القسم العالي حيث منح منه الشهادة العالمية عام 1351 هـ. ثم درس في مرحلة التخصص في شعبة الفقه وأصوله.
…وبعد تخرجه درس في المعاهد التابعة للأزهر 00 ثم في عام 1368 هـ ذهبت بعثة تابعة لمديرية المعارف برئاسة الشيخ محمد بن مانع رحمه الله - للتعاقد مع بعض المدرسين للتدريس في المدارس السعودية التى افتتحت لتوها آنذاك فكان صاحب الفضيلة عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - أحد أوائل من تم التعاقد معه وما ذلك إلا للسمعه الطيبة التى عرف بها الشيخ ، فقد كان داعية من أبرز دعاة أنصار السنة المحمدية هناك ، مدافعاً عن عقيدة السلف الصالح ، محارباً للبدع.(3/271)
…وقدم رحمه الله إلي هذه البلاد مع عدد من المشايخ الفضلاء منهم : الشيخ محمد حسين الذهبي صاحب كتاب " التفسير والمفسرون". والشيخ عبد المنعم النمر - عليهما رحمه الله - والشيخ يوسف الضبع أستاذ اللغة العربية في جامعة أم القري ( سابقاً ) .
…وكانت أول مدرسة درس فيها هي دار التوحيد بالطائف وقد استمر فيها سنتين ، إلي أن فتح معهد عنيزة العلمي فانتقل إليه عام 1370 هـ في شهر محرم ، ثم لما كان في شهر شوال من العام نفسه انتقل إلي المعاهد العلمية بالرياض إلي أن افتتحت كلية الشريعة فنقل إليها ودرس مادة العقيدة فيها وفي كلية اللغة العربية وهكذا ظل يدرس فيها حتى أنشئ المعهد العالي للقضاء 1385 هـ. فكان أول مدير له ، يشرف عليه ويلقي فيه محاضرات ودروساً ويشرف - كذلك - على بعض الرسائل العلمية التى يتقدم بها طلاب المعهد.
…ثم في عام 1391 هـ انتقل إلي الرئاسة العامة للإفتاء حيث عين نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء التى تم تشكيلها برئاسة فضيلة الشيخ " إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الله بن باز " المفتى الحالى للمملكة - حفظه الله - وأمد في عمره ، ونفع به الإسلام والمسلمين وفي الوقت نفسه كان عضواً في هيئة كبار العلماء وإضافة إلي ذلك كان يشرف على كثير من الرسائل الجامعية.
…وكانت للشيخ - تغمده الله برحمته - محاضرات ودروس متنوعة في مدينة الرياض استفاد منها كثير من الطلبة. وفي السنوات الأخيرة أحسن الشيخ بحاجته إلي الراحة نظراً لتقدمه في السن فاكتفي بالفتوى مع بقائه نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للإفتاء ، وعضواً في هيئة كبار العلماء حتى وافاه أجله في صباح يوم الخميس 25/3/1415 هـ. بمدينة الرياض بعد أن اشتد عليه مرض لازمه مدة وأضعف بدنه - عليه رحمة الله.(3/272)
لقد كان الشيخ يتميز بمواهب فذة قل من يتميز بها ، من قوة الحافظة وسرعة البديهة والتأني في الإفتاء وسعة الإطلاع والبحث ، حتى قال بعض من ترجم له : ( إذا تحدث في علم من العلوم ظن السامع أنه تخصصه ).
…كان يتميز - رحمة الله - بطيب المعشر ونقاء الصدر والزهد في الدنيا ومباهجها وكان جليسه يستفيد منه علماً وعملاً وأدباً وخلقاً.
…وبموته يتميز - رحمة الله - إنطفأ مصباح من مصابيح العلم 00 فخسرت به الأمة الإسلامية عالماً فذا ألمعيا ورعاً زاهداً ، و : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً يتنزعه من صدور العلماء ولكن يقبض العلم بقبض العلماء.".
…فإنا لله وإنا إليه راجعون. ورحم الله الشيخ عبد الرزاق وألهم أهله وذويه الصبر واليقين ، وجزاه عن الأمة لقاء ما عمل وقدم من علم 00 أفضل الجزاء 00 وعوضها خيراً.
عبد الله الشهراني
قصة حياة وجهاد
…توفى إلي رحمة الله تعالى يوم الخميس 24 ربيع الأول 1415 هـ. الموافق أول سبتمبر 1994م. الشيخ عبد الرزاق عفيف عطية ، أول وكيل لجماعة انصار السنة المحمدية ، وثاني رؤسائها بعد رحيل مؤسسها الأول الشيخ محمد حامد الفقي ، ولقد عاصر الشيخ - يرحمه الله - تأسيس الجماعة ، وكان من أبرز كتاب مجلة " الهدى النبوى" التي صدر عددها الأول في ربيع الآخر لسنة 1356 هـ.(3/273)
…وإذا كان الشيخ يرحمه الله من مواليد عام ( 1323 هـ - 1904 م ). وقد تخرج في الأزهر الشريف ومنح الشهادة العالمية عام ( 1351 هـ 1932 م ) ، ثم منح شهادة التخصص في الفقه وأصوله ، وعمل مدرساً بالأزهر الشريف ، ومع ذلك فهو لم ينقطع عن النشاط البارز في جماعة أنصار السنة المحمدية حتى كان العدد الأول من المجلة ، حيث حرر فيها مقالين يستطيع القارئ أن يلمس في الشيخ - يرحمه الله - وهو لا يزال بعد شاباً في الثالثة والثلاثين من عمره يتمتع بالنظر الثاقب والفهم الدقيق والأسلوب المعبر ، وهذه كلمات يوصف بها علماء السلف من هذه الأمة وإني لأرجو أن تكون هذه الكلمات وصفاً له - يرحمه الله.
…قال - يرحمه الله :(3/274)
…فالعالم منهم يجد نفسه - وقد أنعم الله عليه بنعمة العلم وعهد إليه أن يبلغه للناس - مضطراً إلي القيام بهذا العبء فلا يعتريه في نشر الثقافة الدينية والمبادئ الإسلامية فتور ولا خور ، ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من سلطان ، لأن القلب الذي أشرب حلاوة الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد إلي إغوائه سبيلاً ، فمهما جاهد الشيطان هذا المخلص فلن يتاح له أن يوهن عزيمته أو يمس عقيدته ، وإن قلباً قد صبغ بصبغة الله وتشبع بتعاليم الإسلام حتى ملكت سويداءه ،ليأبي أن يخضع لسلطة قاهر أو يرهب بطش جبار في الجهر بكلمة الحق بعدما خضع لسلطان ربه ، واشتد خوفه منه وعلم أنه ملك قهار جبار ، بيده نواصي العباد . وإن ذلك ليخلق منه سيفاً مسلطاً وناراًَ متأججة يقذف بها من عادي الله وبارزه بعصيان لا يخاف في الله لومة لائم. كان العلماء بذلك قوامين على الدين حفظاً ، ونشراً وبلاغاً ونصيحة وإرشاداً ، وكانوا خير قدوة للناس ومثلاً عليا في إصابة الحق وتأييده ، وكشف الباطل وإزهاقه قولاً وعملاً. يقصدهم الناس ليكشفوا لهم وجه الصواب ، بما ورثوه عن نبيهم ( ص). فيجدوا لديهم ما يروي ظمأهم ويزيل شبهتهم ويزيد يقينهم وإيمانهم وتعلقهم بشريعة سيد المرسلين ( انتهي - من العدد الأول للهدى النبوي ).
…وفي مقدمة كتاب " الفتاوى " الذي نشرته الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية ، وصفة الشيخ أحمد الدويش بقوله :(3/275)
…وقد رزقه الله مواهب من قوة الحافظة والملاحظة وفقه النفس ، وكرس جهوده لطلب العلم خارج أروقة الأزهر ، وعنى بعلوم اللغة والتفسير والأصول والعقائد والسنة والفقه ، حتى أصبح إذا تحدث في علم من هذه العلوم ظن السامع أنه تخصصه الذي شغل فيه كامل وقته ، وقد كان له عناية خاصة في دراسة أحوال الفرق ، وهذه الأمور جعلت طلاب العلم يقصدونه في كل وقت ويسمعون منه ، وانتفع بعلمه خلق كثير ويشرف على رسائل بعض الدارسين في الداسات العليا ، ويشترك مع لجان مناقشة بعض الرسائل ، ويلقي بعض الدروس في المسجد لطلبة العلم حسبما تيسر ، ويلقي المحاضرات ويشارك في أعمال التوعية في موسم الحج.
…هذا ولقد عرف معاصرو الشيخ عنه أنه كان غنى النفس ، بعيداً عن حب الظهور منكراً لذاته ، وكان ينفق راتبه أول كل شهر على الفقراء من المسلمين ، لقد أسكن في بيته رجلاً من المسلمين لمدة خمسة وعشرين عاماً دون أجر يتقاضاه . وكان الملك عبد العزيز إذا أقام حفلاً يكرم فيه العلماء ودعى إليه الشيخ وغيره من العلماء فإن الشيخ يعتذر عن حضور الحفل حباً في التستر ورغبة في أن يبقي ما بينه وبين الله لا يطلع عليه العباد.
…وكان للشيخ يرحمه الله أيام الملك عبد العزيز درس كل يوم أربعاء ، وكان الملك يحضره ، وكان الشيخ يستخدم هذا الدرس في النصح الطيب للملك ويسعد الملك بذلك.(3/276)
…ولقد عمل الشيخ - يرحمه الله تعالى - مدرساً بالأزهر الشريف منذ تخرجه ثم انتدب للعمل بالمملكة العربية السعودية منذ عام ( 1368 هـ - 1950 هـ ) وقد قام على أكتافه هو والشيخ محمد على عبد الرحيم - يرحمه الله - مهمة تأسيس المعاهد العلمية بالمملكة ، ثم شارك في تأسيس كلية الشريعة واللغة العربية بالرياض ، ثم رأس المعهد العالي للقضاء ، فلما تأسست هيئة كبار العلماء كان واحداً من علمائها ، هذا وقد لمع اسم الشيخ - يرحمه الله - من قبل حيث كان ضمن أول هيئة لكبار العلماء كان واحداً من علمائها ، هذا وقد لمع اسم الشيخ - يرحمه الله - من قبل حيث كان ضمن أول هيئة لكبار العلماء بجماعة أنصار السنة المحمدية مع جمع من العلماء المبرزين والشيوخ الكبار مثل : الشيخ أحمد شاكر والشيخ عبد الحليم الرمالى ، والشيخ محمد حامد الفقي ، وغيرهم من الكبار ، وكان الشيخ عبد الرزاق لا يزال بعد شاباً في الثلاثين من عمره.
…ولقد تميز الشيخ - رحمه الله تعالى - بسعة علمه ، مقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعى والتمييز المستبصر والالتزام بمنهج السلف الصالح النابع من القرآن الكريم والسنة المطهرة الصحيحة.
…وقد كان الشيخ بالغ المعرفة بالفرق الضالة وأقوالها وبدعها ، وقد استفاد منه تلاميذته في ذلك فوائد جمة ، ولقد كان الشيخ - يرحمه الله -نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية منذ تأسست عام 1391 هـ ، وظل نائباً لها حتى توفي - يرحمه الله - أي عمل بها قرابة أربعة وعشرين عاماً أصدرت اللجنة خلالها أبحاثاً قيمة في شتي القضايا الإسلامية تبلغ المئات.(3/277)
…وأصدرت الفتاوى التى تعد بالآلاف بل بعشرات الآلاف ، وقد كان الشيخ - يرحمه الله - مثالاً يحتذى في الفتاوى دقة والتزاماً ، فلقد جالسته سائلاً مستفتياً كثيراً في مواسم الحج لأعوام متعددة ن فكان يختار من الألفاظ المعبرة ، ولقد كان بالغ العناية باحترام أقوال إخوانه العلماء ، فإذا صدرت الفتوى في مسألة وله رأي مخالف وسأله أحد عن هذه الفتوى أفتى بقول جماعة العلماء ولو لم يكن هو رأيه بل وجدته يحبس رأيه عن المستفتين إذا وجد أن هذا الرأي قد يحدث بينهم شقاقاً ، ولا يبرزه إلا لطلبة العلم الذين يعرفون الأدب عند الاختلاف وتوقير العلماء ، وذلك هو شأن السف الصالح ، كقول على بن طالب رضي الله عنه : ( حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله ).(3/278)
…ولقد كان الشيخ - يرحمه الله - وفي كبر سنة ، منظماً في عمله ، محافظاً على وقته بين الدرس والتدريس ومراجعة الرسائل العلمية ، وإعداد الأبحاث وتسطير الفتاوى ، لا تراه إلا في عمل مثمر نافع ، ولقد نفع الله بجهده فصار تلامذته من كبار العلماء والمعايشين له من الفقهاء ، فلقد كان الشيخ محمد على عبد الرحيم - يرحمه الله - وهو أسن منه يراه شيخاً وأستاذاً معلماً ، والشيخ - يرحمه الله - قد رزقه الله صبراً جميلاً ، فقد ابتلاه الله ببلايا عظيمة فكان صابراً محتسباً ، من ذلك أن مات ولده أحمد في حرب رمضان المبارك ضد العدو الصهيوني ، ثم مات ولده عبد الرحمن ، ثم مات ولده عبد الله في حياته - أيضاً - كل ذلك والشيخ صابر محتسب ، فالله نسأل أن يحشره في زمرة الصابرين المحتسبين وقد أصيب الشيخ - يرحمه الله - بمرض لازمة أكثر من ربع قرن ، واشتد به المرض في السنوات الأخيرة ، ولم يمنعه ذلك من ممارسة عمله وانتقاله إلي مقر عمله ومكتبة ، والجلوس للإفتاء والبحث ، بل والصلاة في الجماعة في المساجد ، وقد توفي الشيخ - يرحمه الله - عن عمر يناهز التسعين كانت سنوات جهاد ودعوة وعمل صالح ، و قد عاصره من العلماء الأفاضل الأجلاء في مصر : الشيخ محمد حامد الفقي - والشيخ أحمد شاكر ، والشيخ عمر عبد الحليم الرمالي ، والشيخ محمد على عبد الرحيم ، والشيخ عبد العزيز بن راشد ، وفي المملكة العربية السعودية : الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام الحرم المكي ومدير دار الحديث ، والشيخ عبد الرزاق حمزه ، والشيخ محمد إبراهيم آل شيخ .
محمد صفوت نور الدين
رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية
جمهورية مصر العربية
رحم الله الشيخ عبد الرزاق عفيفي(3/279)
…في يوم الخميس الموافق 25/3/1415 هـ فقدت المملكة والأمة الإسلامية عالماً من علمائها الأجلاء هو الشيخ عبد الرزاق عفيفي : عضو هيئة كبار العلماء ونائب رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ومدير المعهد العالى لقضاء سابقاص.
…وبرحيله إلي الدار الآخرة فقدت الأمة الإسلامية علماً بارزاً من أعلامها النيرة ن فلم يكن يرحمه الله عالماً متمكناً من العلوم الدينية فحسب ، بل كلن يتصف بسحايا وخصال قل أن تجتمع في غيره ن فقد كان يتمتع بسعة الصدر والأناة والحلم في المحاورة والمناقشة والمجادلة بالتي هي أحسن ، والقدرة على الإقناع وتقريب الأمور إلي أذهان محدثيه وطلبته وسائلية من طلاب العلم والمعرفة ، والمقدرة على إيصال المعلومات وترسيخها في أذهانهم يعىيداً عن التزمت والتكلف والتشدد.
…كان يتميز - يرحمه الله - بطيب المعشر و الزهد في الدنيا والبعد عن مباهجها ونظاهرها ، وبالتواضع واحترام وتقدير غيره مهما كانت منزلته ، وقد حببه ذلك لكل من عرفه أو جالسه أو درس على يديه ونهل من مناهل علمه الغزير.
…وكان الفقيد قبل قدومه إلى المملكة للتدريس بها منتدبا في عام 1368 هـ قد أمضى النصف الأول من حياته في الدعوة إلى الله حيث اسس مع رفاق له منهم فضيلة المرحوم الشيخ عبد العزيز الراشد - يرحمه الله - رفيق دربه وكفاحه بجماعة أنصار السنة في مصر حيث تحملوا نشر الدعوة وإخلاص العبادات لله المشاق وركبوا الصعاب وواجهوا الاضطهاد والمقاومة حتى تحقق لهم ما سوف يجزيهم الله عند خير الجزاء.
…إن من حق الشيخ عبد الرزاق عفيف على طلبته الذين تتلمذوا على يديه ونهلوا من معرفته وعلمه ، أن يقوموا بجمع تراثه العلمي ومؤلفاته ورسائله وفتاواه وسيرته ، ليستفيد منها كل طالب علم لأنه - رحمه الله - كان يتصف حتى بالزهد عن طباعة المؤلفات.(3/280)
…إن وفاة مثل هذا العالم الجليل ستترك فراغاً كبيراً لن يملؤه إلا بقاء علمه وفكره وذكره. رحمة الله رحمة واسعة وعوض الأمة الإسلامية عن فقده خيراً.
محمد بن عبد الله الشريف
عضو مجلس الشوري
لله دركط من عالم
بقلم الشيخ إبراهيم بن عبد العزيز الشتري
عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
…في يوم الخميس 25 ربيع الأول عام 1415 هـ ودعت المملكة العربية السعودية عالماً من علمائها البررة الربانيين ، قدم لدينه كل عمره ولأمته عصارة فكره عبر الفتاوى الكثيرة ، حيث كان نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء الشيخ العلامة عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية ، لقد عرفته الأمة بحلمه الجم وعلمه الواسع ، وتتلمذ على يديه العشرات من طلاب العلم وهم يكنون له كل احترام وتقدير ، ويدعون له بالمغفرة والرضوان ، وفقد العلماء رزية من الرزايا التي يصدق فيها قول القائل :
…تعلم ما الرزية فقد مال ………ولا شاة تمت ولا بعير
…ولكن الرزية فقد حر ………يموت بموته خلق كثير
…ومصيبتنا فيه ليست كمصيبتنا في غنيره.
فما كان هلكه هلك واحد ……… ولكنه بنيان قوم تصدعا
وقال ابن القيم - رحمة الله - في فقد العلماء ومنزلتهم : ( ومن هذا الأثر المروى إذا كان يوم القيامة يقول الله للعابد : ادخل الجنة فإنما كانت منفعتك لنفسك ، و يقال للعالم : اشفع تشفع فإنما كانت منفعتك للناس ، وأيضاً فالدين قوامه وزينته وأضاءته بعلمائه وعباده ،فإذا ذهب علماءه وعباده ذهب الدين ، كما أن السماء إضاءتها وزينتها بقمرها وكواكبها فإذا خسف قمرها ، وانتثرت كواكبها أتاها وعد الله ، وفضل علماء الدين علي العباد كفضل ما بين القمر والكواكب ).
وفيما يلي نبذة مختصرة عن سيرة الشيخ عبد الرزاق عفيفي 00 فقد ولد بقرية شنشور التابعة لمركز أشمون محافظة المنوفية عام 1323 هـ.(3/281)
دراسته : درس المرحلة الابتدائية ثم المرحلة الثانوية ثم مرحلة القسم العالي وبإتمامه دراستها اختير ومنح الشهادة العالمية عام 1351 هـ ، ثم درس مرحلة التخصص في شعبة الفقه وأصوله ومنح شهادة التخصص في الفقه وأصوله بعد الاختبار ، كل هذه الدراسة في الأزهر بالقاهرة.
عمله : عين مدرساً بالمعاهد العلمية التابعة للأزهر فدرس بها سنوات ثم ندب للعمل بالمملكة العربية السعودية للتدريس بالمعارف السعودية عام 1368 هـ ، ثم عمل مدرساً بدار التوحيد بالطائف ثم نقل منها بعد سنتين إلي معهد عنيزة العلمي في شهر محرم عام 1370 هـ ثم نقل إلي الرياض في آخر شهر شوال عام 1370 هـ للتدريس بالمعاهد العلمية التابعة لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ، ثم نقل للتدريس بكليتي الشريعة واللغة العربية ثم جعل مديراً للمعهد العالي للقضاء عام 1385 هـ ، ثم نقل إلي الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء عام 1391 هـ وعين بها ونائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء مع كونه عضواً في مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة.
وقد رزقه الله مواهب من قوة الحافظة والملاحظة وفقه النفس ، وكرس جهده لطلب العلم خارج أروقة الأزهر ، وعنى بعلوم اللغة والتفسير والأصول والعقائد والسنة والفقه ، حتى اصبح إذا تحدث في علم من هذه العلوم ظن السامع أنه تخصصه الذي شغل فيه كامل وقته ، وقد كان له عناية خاصة في دراسة أحوال الفرق وهذه الأمور جعلت طلاب العلم يقصدونه في كل وقت ويسمعون منه ، وانتفع بعمله خلق كثير ، وقد شارك في أعمال التوعية في مواسم الحج وكان رحمة الله يشرف على رسائل بعض الدارسين في الدراسات العليا ، كما كان يشترك مع لجان مناقشة بعض الرسائل ويلقي بعض الدروس في المساجد لطلبة العلم ، ( هذه الترجمة من كتاب فتاوى اللجنة الدائمة مقدمة المجلد الأول ) .
فرحمة الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، ونفع الله بذريته وعلمه.(3/282)
إبراهيم بن عبد العزيز الشتري
عضو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالرياض
فضيلة العلامة العفيفي في سطور
محمد بن سعد السعيد
لقد فجع العالم الإسلامي برحيل عالم جليل من كبار علماء وفقهاء الأمة ألا وهو فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية ( سعودي الجنسية ) عن عمر يناهز الثانية والتسعين سنة ( 92 ) سنة قضاها مجاهدا في سبيل الدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليمه . وهذه سنة الله في خلقه ولعلنا في هذا المقال نلقي الضوء على شيء من سيرته الذاتية والعلمية نظرا لأهميته ومكانته العلمية رحمه الله .
نشأته وطلبه للعلم :
ولد رحمه الله بمصر سنة 1323 هـ في محافظة المنوفية في ( شنشور بأشمون ) وقد حفظ القرآن الكريم في الكتاتيب قبل دخوله الأزهر وبعد منح الشهادة التخصص في الفقه وأصوله من الأزهر بالقاهرة .
مواهبه وسجاياه :
حباه الله قوة الحافظة والدقة في الفهم وسرعة البديهة وحصافة الرأي وأتسم بالورع والزهد والتواضع ولين الجانب وكان كثير الصمت قليل الكلام إلا فيما ترجحت فائدته ومصلحته وعرف بشدة متابعته لسلف الأمة الصالح .
وقد أخذ ينهل من شتى العلوم النافعة في الأزهر وخارجه واهتم منذ نعومة أظافره بالفقه والتفسير واللغة والسنة والأصول والعقائد وشتى المذاهب والنحل حتى صار إماما في كل علم من هذه العلوم لغزارة علمه وسعة إطلاعه مما جعل طلبة العلم يتوافدون عليه لينتفعوا من علمه ويستفتوه إلى جانب الفتاوي اليومية التي يجيب عليها عبر الهاتف وفي موقع عمله ومن خلال المشاركة في لجان التوعية والإرشاد في مواسم الحج وقد أشرف على العديد من رسائل المدرسين بالدراسات العليا كما شارك في لجان مناقشة بعض الرسائل وإلقاء العديد من المحاضرات والندوات والكلمات ولقد تتلمذ على يده العديد من علماء ومشايخ المملكة .
حياته العلمية :(3/283)
قام بالتدريس في المعاهد العلمية التي يشرف عليها الأزهر وفي سنة 1368 هـ قدم إلى السعودية ليكون مدرسا بالمعارف بعنيزة في سنة 1370 هـ وفي نهاية شوال من السنة نفسها نقل ليكون مدرسا بالمعاهد العلمية بالرياض .
ثم اختير للتدريس في كلية الشريعة وكلية اللغة العربية وفي سنة 1385 هـ رشح لإدارة المعهد العالي للقضاء وفي سنة 1391 هـ تم نقله إلى الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ثم اختير عضوا في مجلس هيئة كبار العلماء مع كونه نائبا اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
مؤلفاته :
من ضمن مؤلفاته " مذكرة التوحيد " وحاشية على كتاب " الأحكام في أصول الأحكام " وحاشية على الجزء المقرر دراسته في المعاهد العلمية من " تفسير الجلالين " وبحوث قيمة ضمن بحوث اللجنة الدائمة وله مذكرات ورسائل وبحوث عديدة لم تطبع حيث كان رحمه الله لا يهتم بكثرة التأليف والطبع نظرا لتوسعه لتواضعه الشديد ولعدم رغبته في الظهور والبروز ولأن الساحة مليئة بالمؤلفات والمطبوعات مما جعله مغمورا عند كثير من الناس لا يعرفه إلا أهل بضاعته من المشايخ والعلماء وطلبة العلم .
أبناؤه :
رزق الشيخ خمسة أولاد هم : أحمد وعبد الله وعبد الرحمن وهؤلاء قد توفوا رحمهم الله ومحمود ومحمد ومن البنات ثلاثا بارك الله في الجميع وسدد خطاهم
حالته الصحية :
لقد كان رحمه الله يعاني من صداع شديد منذ أن كان عمره سبع سنوات وقد أصيب في عام 1376 هـ بشلل نصفي وشفاه الله منه وقد أجرى له قبل خمس سنوات تقريبا عملية في البروستاتة وعملية في العين بسبب انفصال في الشبكية
ومنذ فترة طويلة وهو مبتلي بأمراض عدة كالتهاب المسالك البولية وتعطل إحدى الكليتين وضعف الأخرى والضغط والسكر ومع ذلك نراه صابرا محتسبا ولم يثنه ذلك عن طلب العلم وتعليمه والعناية به وإفادة الناس وتوجيههم وإرشادهم إلى آخر أيام حياته .
مرضه ووفاته :(3/284)
أدخل المستشفى العسكري بالرياض الساعة الواحدة بعد الظهر من يوم الثلاثاء الموافق 16 / 3 / 1415 هـ في قسم العناية المركزة ثم أخرج من ذلك القسم في يوم الأحد 21 / 3 / 1415 هـ وهو يعاني من ألم شديد في الكبد وضعف في الكلى ووجود سائل في الرئتين وهبوط في ضربات القلب وظل بالمستشفى حتى وافاه الأجل المحتوم في يوم الخميس 25 / 3 / 1415 هـ في حوالي الساعة السابعة صباحا ثم صلى على جنازته عقب صلاة الجمعة 26 / 3 / 1415 هـ في الجامع الكبير بالرياض وقد صلى عليه خلق كثير لا يحصى ود ازدحمت المواقف وكذلك الشوارع المؤدية إلى المقبرة بالسيارات خصوصا بعد ما انطلق الناس بسياراتهم للمقبرة ومن المشيعين من ذهب إلى المقبرة مشيا على الأقدام خوفا من الزحام حيث حضر دفنه بمقبرة العود بالرياض عدد هائل من البشر ، غالبيتهم من المشايخ والعلماء وطلبة وتلامذة الفقيد يغمرهم الحزن على فراقه داعين له بالمغفرة والرحمة .
وهذا الجمع الغفير من مشيعيه يدل دلالة واضحة على محبتهم له وإن العالم الإسلامي فعلا قد فقد عالما جليلا وشيخا فاضلا وعلما من أعلام الأمة قدس الله روحه ونور ضريحه ورحمه وغفر له وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته وجبر الله مصيبتنا ومصيبة أهله فيه ورزقنا وإياهم الصبر والسلوان وإنا لله وإنا إليه راجعون .
محمد بن سعد السعيد
إمام وخطيب جامع سلطانه الشرقي بالرياض
الشيخ عفيفي وتواضع العلماء
( بقلم د . مهندس حبيب مصطفى زين العابدين )
إذا مات نجم من نجوم الطرب والغناء أو ممثل من ممثلي السينما والأفلام قامت الدنيا وما قعدت ويتوفى الله رجلا صالحا مصلحا جاهد وعمل في سبيل الله ورفعة المسلمين وأثر في حياتهم أيما تأثير ويغيب عنهم وقل أن يذكر فيهم كما يذكر أهل الطرب أو أهل الأفلام .
وقبل أيام توفى الله رجلا من أهل العلم والتقوى والحياة المثمرة في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله .(3/285)
مات الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن عمر يناهز التسعين بعد حياة مليئة بالعمل الصالح قضاها بين مصر والسعودية وحظي - بفضل الله - بمحبة الناس في كلا البلدين ووجدت أنه من المناسب بل من الواجب علي و على غيري ممن يستطيعون الكتابة أن يسهموا ببيان فضل مثل هؤلاء الناس على مجتمعاتهم ودورهم في الحفاظ على دين هذه الأمة وأخلاقها ومثلها .
أكتب اليوم عن بعض جوانب حياة الشيخ عبد الرزاق عفيفي التي عرفتها كتلميذ له واكتشفتها من خلال لقاءات علمية عديدة جمعتني به لقد كان يرحمه الله - رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك عالما بعصره وما يدور فيه ولهذا كانت فتاواه وإجاباته على أسئلة تلاميذه أقرب للواقع والعصر الذي نعيشه وكان يستشيره عدد منى كبار علمائنا الأفاضل ويأخذون برأيه في المسائل المختلفة وخاصة تلك التي تمس التجارب والخبرات والمسائل التي تتعلق بما ظهر في عصرنا وعالمنا من أمور حديثة ففي جلسة حوار دارت حول تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي بينه وبين عدد من خبراء الاقتصاد الذين ينشدون السعي لتطوير النظام الاقتصادي الإسلامي سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن إمكانات عديدة تسمح بالتدرج في تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي وعدم التشديد والتضييق أول الأمر فأجاب - يرحمه الله - بقوله : يجب ألا نكتفي بالأسئلة النظرية بل قدمنا فيها الفتوى المناسبة بهدف أن نجد التطبيق العملي لها . وإذا بها تتعثر لعدم وجود الدعم الكافي لها أو أن الكثير تخطاها بفتاوي تجاوزت الحدود الإسلامية المقبولة وذهبت مرة استفتتني أحد كبار العلماء الأفاضل في مسألة خاصة واستدعت الفتوى أن أراجع العالم الفاضل وأستوضح بعض جوانب فتواه ولم يزد ذلك عن سؤالين أو ثلاثة وبهت عندما هب هذا العالم واقفا وأقفل الحديث وخرج من المجلس .(3/286)
ذهبت بعدها مباشرة إلى الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو مريض على فراشه في غرفة نومه فأحسن استقبالي وأحضر لي الشاي وحاورته في مسألتي حتى اتضحت لي الأمور وغادرت بيته معجبا بعلمه ورحابة صدره وصبره وتمثلت فيه العالم القدوة ودعوت له الله دعوات حارة صادرة من أعماق قلبي . . .
ويكفي الشيخ فضلا أن يذكر عنه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية سابقا أنه ما من طالب درس في الجامعة أو أستاذ عمل بها إلا ويعد من تلامذة الشيخ هذا قليل من كثير مما عرف عن شيخنا عبد الرزاق ولعل غيري ممن هم ألصق بالشيخ أو أكثر معرفة به أن يدلوا بدلوهم في بيان فضله وآثاره في خدمة هذه الأمة المسلمة ودينها .
والله نسأل له الرحمة والغفران والدرجات العلى من الجنة ولذويه وتلامذته الصبر والسلوان .
شيخنا العلامة ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي(3/287)
إن نبأ وفاة أستاذي وشيخي الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - الذي التقيت به في الإسكندرية واستفدت من علمه بل ومن كفاحه هو وصديقه الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي رحمهما الله كان صدمة مذهلة لي ولكن هذا قضاء الله وقدره بل وسنة الله في خلقه وبعد أن أفقت من تلك الصدمة كان على واجبا لا بد أن أوفيه لشيخنا وأنا على ثقة أنني مهما كتبت فلن يسعفني البيان ولا تعبير اللسان ومهما دونت من مجلدات فلن أوفيه جزءا من حقه فهو ابن تيمية عصره وإن شئت فقل إنه - رحمه الله - وابن القيم الجوزيه توأمان ويكفي أن نعلم بأن الشيخ جاء في جاهلية أشد وطأة بل وأضل من الجاهلية الأولى ولقد انتابه الكثير من تلك الجاهلية فصبر وزهد وهاجر وكان عفيفا اسما على مسمى وإنه ليسعدني ويشرفني أن أسجل ما علق بذاكرتي من تاريخ هذا العالم الجليل وهذا العفيفي الزاهد التقي الورع حيث إنني شرفت بمقابلته وأخذ العلم عنه في مصر فضلا عن مقابلاتي له بهذه المملكة الميمونة الذي استفاد جل طلاب العلم بها من هذا العالم الفذ من علمه ووعظه وتدريسه بل ومن خلقه وحكمته بل ومن زهده وسلوكه .
من أعماله وكفاحه بمصر منذ شبابه :
إن الخلق الحسن والأدب الكريم هما المعيار لسلامة النفس من الآفات الظاهرة والباطنة فقد كان الأدب فيه سجية وكانت الأخلاق الكريمة فيه غزيرة وكيف لا يكون ذلك وهو من سنة التراث العظيم لصاحب الخلق العظيم صلى الله عليه وسلم كان لين الجانب دائم البشر حسن الخلق ليس بفظ كثير التواضع لا يحقد على أحد لا يعجل ولا يجهل وإن جهل عليه احتمل ، يحب في الله ويبغض في الله تعلوه السكينة والوقار هابه الناس وأجلوه وأعنى بالناس حتما طلاب العلم ورواد المعرفة وأصحاب القول والفتوى .(3/288)
كان عابدا زاهدا شاكرا وهبه الله ذاكرة نفاذة وقريحة وقادة بذل للحديث وللسنة النبوية كل جهده وأنفق فيها شبابه وشيخوخته ما كل ولا مل حتى بلغ الذروة في علمه وحفظه وحتى صار بحق فقيها في المحدثين ومحدثا في الفقهاء وإماما لأهل السنة .
وكما قال ابن تيمية في وصف أصحاب الحديث وأهل القرآن :
" يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من الناس ويقدمون هدى محمد صلى الله عليه وسلم على هدى كل أحد وبهذا سموا أهل الكتاب والسنة وسموا أهل الجماعة لأن الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين و ( الإجماع ) هو الأصل الثالث الذي يعتمد عليه في العلم والدين " .
لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة " حديث متواتر في الصحيحين وغيرهما .
ولقد أصبح صدق بن تيمية في بيان معتقد أهل السنة والجماعة بقوله :
" فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك يعني بالنصوص والأحاديث التي فيها الصفات كما يؤمنون بذلك يعني النصوص والأحاديث التي فيها الصفات كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل بل هم الوسط في فرق الأمة كما أن الأمة هي الوسط في الأمم " .(3/289)
كان رحمه الله من أهل السنة والجماعة بل أستاذا لعصره منذ شبابه فلم يكن يرحمه الله مقتصرا على التدريس بمصر في المعاهد الدينية بل كان يتردد على الوعظ والتدريس بمساجد أنصار السنة ولقد علمت من السيرة الذاتية التي دونها في نعيه فضيلة الشيخ مناع القطان أنه رحمه الله استأجر بيتا وهو أعزب فأسكن معه طلاب بلده يدرس لهم ويعظهم ولمل تزوج كان يدعو طلابه إلى بيته ويرعاهم كما يرعى الأب أبناءه .
ولقد كان الطلاب يهابون شخصيته وينصتون لسماع درسه حريصين كل الحرص على الاستفادة من كل كلمة يقولها وفي محافظة المنوفية بشبين الكوم كان يذهب إلى الجمعية الشرعية فيلقي في مساجدها دروسا بصفة منتظمة وهذا الدرس كان يعتبر بمثابة مدرسة يجتمع فيه الجم الغفير للاستماع والنقاش والحوار .
ليس هذا فقط بل كان يغشى المساجد الأخرى من وقت لآخر لإلقاء دروس فيها وكان لمنهجه السلفي - رحمه الله - سمة بارزة فيها إضافة إلى أسلوب شائق جذاب يدعمه الدليل والحجة مع سعة في العلم وعمق الفهم وكان لا يمس أحدا بتشهير ولا يتعرض لأحد بتجريح مما جعل استجابة الناس له عن حب وقناعة .
ومن أعماله بالإسكندرية وضواحيها :
وبنقله من المعهد الديني بشبين الكوم إلى الإسكندرية وكيلا للمعهد الديني بها فقد جاء إلى الإسكندرية ليتوجها بسيرته العطرة في أيام شبابه .
جاء - رحمه الله - ليعلن كفاحه وجهاده لا في المعهد الديني فحسب بل وفي جل المدينة التي تعج بالأضرحة والقبور مثل ( أبو العباس ، جابر ، تمراز ، الشاطبي ، الأباصيري ) مما ينشده غير الموحدين ويقيمون حولهم خرافات لا يصدقها عاقل .
والجدير بالذكر أن عباد الأضرحة والمبتدعين كانوا يتعرضون للدعاة من أنصار السنة وغيرهم وتقوم المشاكل ويحصل العداء ولكن بفضل الله ثم بفضل كياسة الشيخ - رحمه الله - وحلمه وعلمه وتصرفاته المثالية ودعوته إلى الله على بصيرة كان لذلك كله أبلغ الأثر في النفوس أعدائه .(3/290)
لقد أقر بعلم الشيخ وأخلاقه ومنهجه السليم كل من اتصل به - رحمه الله - وفي الواقع كل من عرفه ارتبط به ارتباطا وثيقا وأحبه وتمنى لو يظل معه دون فراق ولقد صدق فيه قول أحد تلاميذه وهو الأستاذ الشيخ زهير فيما نشره في مجلة السبيل الأردنية العدد 64 ( كان عالما ينشر العقيدة الصحيحة والتربية السليمة والأخلاق المحمدية فكان مدرسة فريدة في جميع الناس على الخير ) .
لقد حارب البدع وهو يحمل لواء التوحيد يحافظ عليه بكل ما آتاه الله من قوة وما حباه من عزيمة وثبات . يدعو إلى الله على بصيرة لم يكن - رحمه الله - من العلماء الذين انحنوا لعاصفة الابتداع .
والعلماء لهم منازع شتى ومشارب متباينة فمن اتفقت نزعاتهم تحابوا وتناصروا وأثنى بعضهم على بعض خيرا ومن اختلفت أفكارهم ووجهات نظرهم تناحروا وتراشقوا بالنبال إلا من رحم الله .
وأسعدهم بالحق ما كانت نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ووسعه ما وسع السلف .
والمعصوم من عصمه الله وكل أحد يأخذ من قوله ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
والعفيفي - رحمه الله - أخذ يفكر ويقدر كيف يهدم صروح الأضرحة ويحطم شبح الخرافات وكيف يطارد المشعوذين الذين لطخوا وجه الشريعة السمحاء بخزعبلاتهم كيف يقوم بهدم الأضرحة كما قام مجدد الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - بهدم قبر زيد بن الخطاب بنفسه .
كان شيخنا - رحمه الله - بعيد النظر وذا فراسة لا تخطيء فأخذ - رحمه الله - يجاهد الشرك بكل صورة وألوانه ويدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فهدى الله على يديه أمما لا يحصون كثرة ثم بدأ له أن يهاجر من أرض تموج بالبدع إلى أرض السنة والتوحيد .
وقد وجد من صديقيه رحمهما الله الشيخ عبد العزيز بن راشد النجدي وعبد الله بن علي بن يابس تشجيعهما له لمعرفتهما الكاملة بالشيخ وأنه لم ولن يسكت عن كلمة الحق مهما كلفه ذلك من ثمن .(3/291)
لقد تعلمت من الشيخ رحمه الله التوحد الخالص وكان - رحمه الله - يحارب البدع والخرافات في القرية ولما ذهبت إلى الإسكندرية للالتحاق بكلية الطب البشري - جامعة فاروق سابقا - ترددت على مساجد أنصار السنة المحمدية وحضرت للشيخ - رحمه الله - دروسا في مساجد أنصار السنة المحمدية وحضرت بحي محرم بك وكانت المساجد تمتلئ بالمسلمين لسماع عالم جليل يحتل مكانة سامية بما حباه الله به من علم غزير وفقه مستنير وبصيرة نافذة وحرص شديد على تثبيت المهتدي وهداية الشارد وتبصير الجاهل ونصح الأمة وحب الخير لها .
كان رحمه الله بفقهه وورعه وتقواه وإشفاقه على طلبة العلم واهتمامه بأمر المسلمين يجذب بحديثه السامع فيتمنى ألا يفارقه .
فهو في الواقع قل من يناظره في العلم والخلق والحلم والصبر على الجهلة من المنتمين إلى الإسلام .
ولما سافر إلى المملكة العربية السعودية ترك فراغا لم يقدر أحد على سده رغم أنه ترك صديقه الشيخ عبد العزيز بن راشد - رحمه الله - وكان عالما وفقيها ومحدثا وصاحب مؤلفات نافعة ومنها :
" تيسير الوحيين بالاقتصار على القرآن مع الصحيحين " والذي يعتبر في غاية الكمال والروعة والإجادة .
ومع ذلك فقد ترك الشيخ عبد الرزاق فراغا عظيما لا يملأه غيره وصفوة القول أن الشيخ - رحمه الله - كان مربيا ومرشدا يقول الحق ولا يخشى في الله لومة لائم .
لا يداري ولا يماري ولا يكلف التأويل ليصوغ للناس ما يحبونه من الخرافات والخزعبلات .
كان - رحمه الله - لا يغشى منازل الوجهاء والأغنياء إلا إن دعى وكان يتعفف إن حضر ولا يقول إلا ما يرضى ضميره ولعل زهده هذا هو السبب في عزوفه عن إلقاء المحاضرات وحضورها .
كان - رحمه الله - مشهورا في مصر وفي السعودية ببذل جاهه في خدمة الصالحين في تصرفاته ومعونتهم ولا يرد صاحب حاجة يستطيع أن يقضيها له وكان حكيما في تصرفاته يفرض احترامه على الآخرين بعلمه وأخلاقه .(3/292)
فرحم الله عالمنا رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته والحمد لله رب العالمين .
وكتبه
عبد الفتاح السيد الصروي
جماعة أنصار السنة بالإسكندرية
بجمهورية مصر العربية
الشيخ عبد الرزاق عفيفي
- في ذمة الله -
فجعت الأمة الإسلامية بوفاة علم من أعلامها الذي عاش بعيدا عن ضجيج وصخ الإعلام وعن متع وفتن الدنيا رجل سخر عمره الطويل لخدمة الإسلام والمسلمين حتى يكفيه شرفا أنه خرج الآلاف من طلبة وعلماء الدين وجل كبار العلماء من تلاميذه .
إنه الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - والذي توفى يوم الخميس 25 ربيع الأول 1415 هـ الموافق 1 / 9 / 1994 م عن عمر يناهز الثانية والتسعين .
والشيخ عفيفي من مواليد 1323 هـ - 1905 م . وقد تخرج من الأزهر ثم حصل على الشهادة العالمية عام 1351 هـ - 1933 م . وعمل بعدها مدرسا بالأزهر . وبالإضافة لعمله في التدريس كان ـأول وكيل لجماعة أنصار السنة المحمدية ثم أصبح رئيسا لها بعد وفاة أول رئيس لها وهو الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله
ثم انتدب للعمل في المملكة العربية السعودية منذ عام 1368 هـ - 1950 م وقد قام بالمشاركة مع الشيخ محمد علي عبد الرحيم - رحمه الله - الرئيس السابق لجماعة أنصار السنة المحمدية بتأسيس المعاهد العلمية بالمملكة ثم شارك في تأسيس كلية الشريعة واللغة العربية بالرياض ثم رأس المعهد العالي للقضاء وحين تأسست هيئة كبار العلماء كان أحد أعضائها ثم أصبح نائبا للرئيس بالإضافة إلى الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة .
ولقد امتاز الشيخ عفيفي - رحمه الله - بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستنير والالتزام بمنهج السلف الصالح وفق الكتاب والسنة هذا وقد كان الشيخ أيضا مرجعا في بيان الفرق الضالة والرد عليها .(3/293)
والشيخ - رحمه الله - كان داعية متميزا يحرص على حضور دروسه ومجالسه الكثير ومما يذكر أن الشيخ كان يلقي درسا في مجلس الملك عبد العزيز - رحمه الله - كل يوم أربعاء .
ولقد شارك الشيخ عفيفي - رحمه الله - في الإشراف والمشاركة على عدد كبير من الرسائل الجامعية وتخرج على يديه أجيال من طلبة العلم .
والشيخ على سعة علمه كان مقلا في التأليف ومن مؤلفاته : " مذكرة في التوحيد " وتحقيق وتعليق على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي .
ولقد عاش الشيخ صابرا محتسبا : فبالإضافة إلى الأمراض التي تعرض لها لأكثر من ربع قرن فجع بوفاة ابنه احمد في حرب رمضان ضد اليهود ثم وفاة ابنه عبد الرحمن في حادث سيارة ثم ابنه عبد الله هذا وقد شهدت الرياض دفنه يوم الجمعة 26 ربيع الأول 1415 هـ حيث وفد الآلاف من طلبة العلم ومحبي الشيخ لمواراته الثرى وقد امتلأت بهم الطرقات والمقبرة والله نسأل أن يسكن فقيدنا الفردوس الأعلى وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة وأن يجمعنا معه في الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
رحمه الله تعالى
روى الإمام البخاري في " صحيحه " من حديث مرداس الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يذهب الصالحون الأول ، فالأول ...." ويقول تبارك وتعالى : ( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) .
بنفوس ملأها الحزن وعمرها التسليم بقضاء الله وقدره : تلقى المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها نبأ وفاة علم من أعلام المسلمين وعالم من علمائهم الأبرار : وهو الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي رحمه الله تعالى .(3/294)
وحرصا من ( الأصالة ) على تعريف قرائها بعلماء المسلمين - قدماء ومعاصرين أحياء وأمواتا - رأينا لزاما علينا ذكر نبذة لطيفة عن هذا العلم الكبير توقفهم على شيء من حياته ونتف من مآثره وجهاده تغمده الله بواسع رحمته .
اسمه عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية النوبي .
ولد في شنشور وهي قرية تابعة لمحافظة المنوفية في مصر سنة 1323 هـ .
تلقى تعليمه العالي في الجامع الأزهر وتخرج فيه سنة ( 1351 هـ ) حاصلا على الشهادة العالمية ثم درس - بعد هذا - في شعبة الفقه وأصوله طلبا للتخصص .
واصل - بعد - دراسته وتحصيله نهلا من تواليف أهل العلم ودراية لكتبهم ومصنفاتهم .
ولقد وصفه من عايشه وخالطه - رحمه الله - بأنه - كان موسوعي المعرفة متنوع المدارك متفننا في سائر العلوم .
عمل مدرسا في المعاهد الأزهرية في مصر وكان رئيسا لجماعة أنصار السنة المحمدية .
ثم أختار الهجرة إلى بلاد الحرمين الشريفين فدرس في مناطق شتى منها الطائف حيث درس في دار التوحيد بها ودرس في الرياض وعنيزة .
وتولى التدريس في كلية الشريعة في الرياض إبان إنشائها .
ثم عين مديرا للعهد العالي للقضاء سنة ( 1385 هـ ) .
وفي عام ( 1391 هـ ) انتقل إلى دار الإفتاء فكان عضوا في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء حتى صار نائبا لرئيسها وذلك إلى أن توفي رحمه الله
تولى الإشراف العلمي على عدد من الرسائل العلمية العالي : الدكتوراه والماجستير .
كان له حلقات علمية في تفسير كتاب ال تعالى يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم في الرياض ثم انتقلت دروسه إلى بيته .
وكان يوم الناس في المسجد الذي يلي منزله وكان يلق فيه - في أوقات متباينة - الدروس العلمية والمواعظ الشرعية .
كان صبورا على البلوى يلهج بالحمد والثناء على الله سبحانه فقد توفى - في حياته ثلاثة من ولده وابتلى بالشلل النصفي قبل نحو عشرين عاما فصبر واحتسب ثم عافاه الله تعالى منه .(3/295)
له من الولد خمسة من الذكور وثلاثة من الإناث سبقه - منهم إلى ربه ثلاثة ذكور - كما تقدم .
من أحب كتب العلماء إليه : كتاب " المستصفى " للغزالي و " المواقفات " للشاطبي و " القاموس المحيط " للفيروز آبادي .
كانت عنايته متوجهة إلى التدريس والتعليم والإرشاد والإفتاء مما أدى إلى عدم تفرغه للتأليف والتصنيف .
ومع ذلك فقد طبعت له " مذكرة في التوحيد " : وهي رسالة نافعة تمثل إملاءاته التي كان يلقيها على طلابه في الجامعة .
وله تعليقات نافعة على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي .
ومما يدل على سعة علمه ودقة نظره وشمول معارفه تلكم التعليقات اليسيرة في حجمها . العظيمة في قيمتها - التي أودعها حاشية " شرح العقيدة الطحاوية " لابن أبي العز الحنفي في ذكر إحالات شرحه على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمه الله .
وصفه شيخنا العلامة الألباني بأنه " من أفاضل العلماء ومن القلائل الذين نرى منهم سمت أهل العلم وأدبهم ولطفهم وأناتهم وفقههم " .
وقال فيه " التقيته غير مرة في مواسم الحج وكنت أسمع - أحيانا - إلى إجاباته العلمية على استفتاءات الحجاج المتنوعة فكانت إجابات محكمة تدل على فقه دقيق واتباع ظاهر لمنهج السلف " .
كانت وفاته - رحمه الله رحمة واسعة - صبيحة يوم الخميس لخمسة أيام بقين من ربيع الأول سنة خمس عشرة وأربع مائة وألف الموافق ( 1 / 9 / 1994 م ) .
ودفن في الرياض بعد صلاة الجمعة .
رحمه الله وألحقه بالصالحين وجمعنا وإياه في حوض سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
قدر الرجال
الشعر باك والقصائد أدمع ………والقلب مذبوح المشاعر موجع
والحزن في شفتي نزف دائم ……صعب على العشاق ألا يفجعوا
وأسى الفجيعة ماثل في خاطري ……في كل جسمي ليس يخلو موضع
وإذا كتمت لواجعي في أضلعي ……فضحت خفى الحزن هذي الأضلع
ماذا دهى عيني تجمد دمعها ……وكأنها أخرى فليست تجزع(3/296)
الهول أخرسها فغاضت لحظة ……وكأنها في جوفها جوفها تتجمع
لتسيل حزنا كلها في دمعة… ……ويسيل جسمي بعدها المتفجع
قلت بواكي المؤمنين بأرضنا ……لله هذا المشتكي والمفزع
يمضي الرجال وليس ثمة شاعر ……يرثى الرجال كأننا لا نسمع
اني ليحزنني ويقلق خاطري………ان المسافر ليس يوما يرجع
واذابكيت فليس شي راجعا…… ماذا عساها تسترد الاذمع
واذا المنية انشبت اظفارها ………الفيت كل تميمة لاتنفع
طوبي لارض كفنتك بثوبها ………ضمت فتيت المسك اذ يتضوع
وعلت علي بعض البقاع بفخرها ……فرنت اليها في اسي تتطلع
المجد يخسر والمكارم صفقة ……من ان يعيش لها الهمام الازوع
قدرالرجال ضياعهم في عمرهم ……وماتهم واله ليس يضيع
وإذا غدا وفدوا عليه بفضله ……لبسوا الكرامة ليس عنهم تنزع
ضاقت عليهم في الحياة معايش ……أما غدا فالعيش رغد أوسع
محمود بن عبد رب النبي محمد
دراسات عليا قسم الشريعة الإسلامية
كلية دار العلوم جامعة القاهرة
نجم هوى
هوى نجم عبد في الأنام فأفجعوا ……وذا الخطب جل والمصاب مروع
فلله نغش شيعوه عشية ………به الحلم والعلم الذي كان يتبع
فيا عبد الرزاق البرايا تركتنا ……ومنا قلوب للفراق تصدع
فتسعون عاما قد قضيت مجيدة ……بمصر ونجد فالبلاء موزع
وفي أزهر حزت العلوم بعرش مذ……هب المالكيين الكرام تربع
لقد كنت رداءا للفقيء بمصرنا ……وقد كنتما حربا على من تبدعوا
فكم قد نصرتم سنة لنبينا ………وفي أزمن عز النصير المشجع
فظلتم بأرض مصر نورا ومفخرا ……وما زال فضلكم بها يتوسع
إلى أن دعيتم للبلاد فقمتم ………بنشر الفنون بين قوم تطلعوا
مع النفر الألي اليهم يشار بالـ……بنان بنيتم معاهد ترفع
مع ابن حميد والأمين وحبرنا ……وأعنى ابن باز عطركم يتضوع
وفي هيئة الكبار صلتم وجلتم ……وفي لجنة الفتوى قلوب وأضلع
عزا أهل مصر فيكم أن اركتم ……عبيد العزيز حبر برما المفرع
وأما بنجد كم شهاب أفضتم ………عليهم سيولكم فأرووا وأرتعوا
وتلميذك المحزون يأسى لفقكم ……وكم من محب قلبه يتوجع(3/297)
الترياق في رثاء الشيخ عبد الرزاق
رحمه الله
تسابقت المحاجر بالوكوف ………وأمسى كل قلب في وجيف
وأجهشت الرياض بوبل دمع ……لفقد العالم الحبر العفيفي
وأمسى منبر التوحيد يبكي ………: منيت بثلمة في حد سيفي
وصرح العلم يندب في ذهول ……يقول مضى من الدنيا أليفي
عظيم عالم دمث كريم ………ستقصر عن مزاياه حروفي
وفقدك يا عفيف الجيب نار ………يشب لهيبها في كل جوف
إذا ما مثلكم عنا تولي ………فيا همي ويا حزني وخوفي
إمام علم الأجيال علما ………وزهدا صادقا في غير زيف
ولم يك همه شكل وأكل ………وبهرجة وهز للكتوف
بعيد عن مظاهر كل كبر ………ويرضى بالحصير وبالرغيف
قريب من محب العلم سمح ………ولم يك مشمخرا في الكهوف
يجود بحسن موعظة وبعد ………عن التجريح والقول العنيف
وعف عن الحطام فكان حقا ……كما سموه بالشيخ العفيفي
وعاش مجاهدا شهما أبيا ………ولم يركن إلى الظل الوريف
فتلك مآثر في مصر تشدو ………بفضل بين حاضرة وريف
وفي أرض الجزيرة فيض علم ……ومجد بات كالطود المنيف
قضى في العلم والتعليم عمرا ……مع الإخلاص في العمل الوظيفي
مع الكتب العظيمة كان يحيي ……ويحييها بتعليم الألوف
وكان يعيشها فكرا وقلبا ………ولم تك زينة فوق الرفوف
يبث عبيرها في كل قلب ………ويجني للورى أحلى القطوف
يقيد بالدليل نفار صيد ………من الأفكار بالأثر الشريف
ويقفو هدي خير الناس دوما ……صدودا عن بني زيف وحيف
إذا التبست مسائل مشكلات ………وظل القلب منها في رجيف
جلاها بالبصيرة فاستنارت ………عيون القول بالفهم اللطيف
كأن الشيخ ينظر في هدوء ………إلى الإلهام من خلف السجوف
وكم سهر الليالي ماتعات ………سمير النجم بالفكر الحصيف
يكحل أعين التاريخ نورا ………ويملأ سمعه بهدي طريف
مطاياه العزائم مسرعات ………وهمة ماجد للحق يوفي
وفي جنح الظلام يبيت يدعو ……بدمع العين والقلب الأسيف
قليل لفظه والقول نزر ………كوزن الدر في كف الصريف
ولو أن الحديث له ضياء ………لأشرق في دجى الليل الكثيف(3/298)
بيان للأحبة مثل الشهد ………وللأعداء كالسيف الرهيف
جزى الله الشريعة كل خير ………عن العلماء من أم رؤوف
فقد عبث الظلام بكل قوم ………وبات الناس في هول مخيف
دمار في العقيدة والمباديء ………وفتك بالمسالم والضعيف
وهاوية الرذيلة والخطايا ………لها يمضون في سير هفيفي
وتلك معالم الأخلاق تمحى ………وذا جراح الكرامة في نزيف
سياسات وأنظمة تهاوت ………كما تنهل أوراق الخريف
ولم تعد البرية في احتياج ………لرأي من أوروبا أو جنيف
حياة كلها زيغ وزور…………وأهل الرأي عنها في عزوف
ولست ترى على الدنيا سوانا ……على التوحيد والنهج الحنيف
فنحن كغرة الفرس المحلى ………بلى كالتاج في الدر الصفيف
بفضل الله ثم بحسن قصد ………وإخلاص وتوحيد الصفوف
ونرفع راية لهدى وخير ………وننتشل الأنام من الخسوف
وها هي أمة الإسلام ترنو ………لذي الإيمان والرأي الحصيف
فيما من ذكره أحلى وأغلى ………وكيفك في رؤى الأيام كيفي
جزاك الله أفضل ما يجازي ………به العلماء من رب لطيف
ويا نسل الكرام حماك ربي ………من الأحزان في يوم الوقوف
وأورثك النعيم بدار خلد ………وحور العين والقصر المنيف
ناصر بن مسفر الزهراني
إلى عرضات الخلد
وقفت لكي أرثي " العفيفي " فصدني …وجوم - وقد حل النوى - وبكاء
وقمت أعزي فيه من رام علمه ……فقالوا : وهل يسليك عنه " عزاء "
فعدت أناجي ذكريات ترحلت ……وقد ضمني و " الشيخ " عاثم لقاء
وأبصرت فيها الشيخ يرقى بعمله ……وعانيت فيها الشيخ وهو بهاء
وناجيت فيها الشيخ فازور طيفه ……وما في ازورار الطيف منه جفاء
لقد سار في درب الشريعة يافعا ……يطير به عزم له وإباء
وأنفق في بسط الشريعة عمره ……يسير به خوف له ورجاء
ثمانون عاما والحياة مصاعد ……وللشيخ فيها منهج وسناء
إذا المحفل الراقي تناظر جمعه ……رأيت مقال الشيخ فيه سخاء
شواهده الآيات جل دليلها ………وحشد أحاديث لهن صفاء
يسربل بالإقناع كل مقاله ………فيصغى له الكتاب والخطباء
إلى عرضات الخلد يا وافر النهي ………لعلك عند الله حيث تشاء(3/299)
وأن قصيدي حين تندى بذكركم ………حري بأن يندى به الشعراء
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
عبد الله بن سعود الرشود
أيها المشتكي صروف الزمان ……انقع الشمس في أسار الأواني
وابتغ الأرض خندقا - طلع غيظ - …والسما سلما فلست بغان
ليس للدهر ذمة الخلصان ………لا وما كان خالد الشنآن
إنما المرء فيه دلو قليب ………يتداعى ما بين قاص ودان
يعتلي مثقلا ويكبو خواء ………ساخرا من سجية الميزان
لا يحابي الورى ولكن له أنس ……بمضاغ علقم الحدثان
والليالي كأنهن الغواني ………ناقضات الوصال بالهجران
حانقات عليك طورا وطورا ………لابسات خلائق الإخوان
فسل عن صرفهن واقصد رحيب ……الباع ذا العلم والحجا والبيان
حازم الرأي والمذهب شتى ………فارس والجواد جم الحران
ذاك عبد الرزاق لما تولى ………نفج الشر بعد طول احتقان
وخلا الجو لليالي فعادت ………طاحنات بكلكل وجران
يا إماما كأنه ضربة السيف ………إذ طيرت فؤاد الجبان
وكأن النجوم ترنو إليه ………حين تهدي قوافل الركبان
أغفلوا ذكره وما عجب أن ………يشغل المرء بالذي هو فان
فلقد أغفلوا القيامة طرا ………وهو في الناس مثلها في الزمان
وادعوا موته وما مات لكن ………مات من بعد فقده الثقلان
??
??
??
??
سيرة العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي محمد بن احمد سيد احمد
16(3/300)