سيرة حياة العلامة عبد الرزاق عفيفي
محمد بن احمد سيد احمد
كتاب عن حياة الشيخ رحمه الله الجزء الأول
المقدمة
الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء رحمة وحلماً ، خلق الإنسان وعلمه ورفع قدر العلم وعظمه وخص به من خلقه منت كرمه وحض عباده المؤمنين على التفقه في الدين .
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، الممتن على المؤمنين بفضله بذل لهم الإحسان وزين في قلوبهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان .
وأشهد أن محمداً ( عبده ورسوله ونبيه وصفيه ونجيه وخليله وأمينه علي وحيه وخيرته من خلقه ، المبعوث بالدين القويم والخلق العظيم ، الموعود يوم القيامة مقاماً محموداً وحوضاً موروداً وشرفاً مشهوداً اختصه الله بالمحامد الكثيرة والمآثرة الأثيرة ، أرسله الله رحمة للعالمين وقدوة للعالميين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين ، بعثه للإيمان منادياً وللخليقة هادياً ولكتابه تالياً ولمرضاته ساعياً وبالمعروف آمراً وعن المنكر ناهياً .
أرسله الله على حين فترة من الرسل وحاجة من البشر فجاء ( بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الساطعة ، أيقظ به العقول من سباتها وصرف به النفوس عن أهوائها فكان( مصدر خير ومبعث نور وشمس هداية ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتنهض بالحجة ودعا إلى الحق وحض على الصدق ، فصلوات الله وسلامه عليه أفضل صلاة وأنماها وأطيبها وأزكاها وأبقى الله في العالمين محبته وفي المقربين مودته وجعل في أعلى عليين درجته وعلى آله الطيبين الطاهرين .(1/1)
ورضي الله عن أصحابه الطيبين المطيبين ، الذين آمنوا به واتبعوه وعزروه ونصروه ، ونقلوا لنا رسالته وبلغونا أمانته شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير وهم الذين أختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ( ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه وبذلوا في ذلك أنفسهم ونفسيهم فهدى الله بهم العباد وفتح على أيديهم البلاد ، أبر الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأحسنها عملاً وأقلها تكلفاً ، رضى الله عنهم وأرضاهم ومن اقتفى أثرهم وسلك سبيلهم من العلماء العاملين والدعاة المصلحين الذين فقهوا دين الله وأدركوا مراميه وفهموا مقاصده واستنوا بهديه وعملوا بأحكامه ودعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة .
أما بعد :
فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم ورضى منهم باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل ، أفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة .
ومن كمال رحمته وتمام نعمته أن هيأ لهذه الأمة - في كل فترة من الزمن - علماء عاملين ، بصراء ناصحين ، أمناء مخلصين ؟، يذكرون الغافل ويعلمون الجاهل ، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، هم أحسن الناس هدياً وأقومهم سبيلاً ، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم ، بحلمهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل والضار من النافع والحسن من القبيح ، فضلهم عظيم ونفعهم عميم ، هم ورثة الأنبياء وخيار الأتقياء وهم أئمة العباد ومنار البلاد وقوام الأمة وينابيع الحكمة بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ .
قال أبن القيم رحمه الله : ( وهم - أي العلماء - في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ) .(1/2)
كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء - رضى الله عنهما - " إنما مثل المعلم كمثل رجل عمل سراجا في طريق مظلم يستضيء به من مر به وكل يدعو إلى الخير " .
ومما يدل على عظم منزلة العلماء أن الله تعالى أمر الناس بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم واتخاذ الرؤوس من جهلهم وقد صح عن النبي ( أنه قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً أتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
ولا شك أن موت العلماء كسر لا يجبر وثلمة لا تسد ، ذلك أن العلم يموت بموت حامليه .
قال محمد بن الحسين : إذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، مصيبة ما أعظمها على المسلمين .
قال ابن عبد البر رحمه الله : أنشدني احمد بن عمر بن عبد الله في قصيدة له :
وذهاب العلم عنا………في ذهاب العلماء
فهم أركان دين الـ………ـله في الأرض الفضاء
فجزاهم ربهم عنـ ……ـا بمحمود الجزاء
وقال آخر :
تعلم ما الرزية فقد مال……ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حبر………يموت بموته خلق كثير
ولكن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله ، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، أولئك هم الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، قال ( : " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " . وفي رواية : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " .(1/3)
ومما لا شك فيه أن هذه الطائفة " هم ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة الخلق على الله في طريقهم ومنهاجهم" وهذا ما ذكره العلامة بن القيم رحمه الله في بيان طبقات المكلفين ومراتبهم في الآخرة وأكده بقوله : وهذه - الطبقة - أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء ، فقال تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) .
فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة ، هؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته ، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمنون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) .
والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كان من علم بتعليمهم وإرشادهم، أو علم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على أبد الدهور وقد صح عن النبي ( أنه قال لعلي بن أبي طالب : " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " .
وصح عنه( أنه قال : " من سن في الإسلام سنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل به لا ينقص من أجورهم شيء " .
وصح عنه ( أيضاً أنه قال : " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
وصح عنه ( أنه قال : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " .(1/4)
وفي السنن عنه ( أنه قال : " إن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى النملة في جحرها " .
وعنه ( أنه قال : " إن الله و ملائكته يصلون على معلم الناس الخير " .
وعنه( أنه قال : " إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ عظيم وافر " .
وعنه ( : " العالم والمتعلم شريكان في الأجر ولا خير في سائر الناس بعده " .
وعنه ( أنه قال : " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها " .
والأحاديث في هذا كثيرة فيها لها من مرتبة ، ما أعلاها ومنقبة ما أجلها وأسماها أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة وصحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ، تلك والله المكارم والغنائم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحقيقي بمرتبة هذا الشأن أ، تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليها وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات وأصحاب هذه المرتبة يدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف : من علم وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء .
إن السابر لأغوار التاريخ والمتعمق فيه ، يدرك أن تاريخاً الإسلامي حافل بالعلماء الأعلام الذين أوقفوا حياتهم على طلب العلم وتعليمه واقتناص أوابده واستنباط قوانينه وقواعده وأنفقوا أثمن ما يملكونه من مال وجهد ووقت في سبيل هداية الخلق .
وإنني أرى أن من حق هؤلاء العلماء علينا أن نسجل سيرهم وندون أخبارهم وإنه لمما يسر أعظم السرور أن يكون الحديث متواصلا عن العلماء ، تبصيراً بسيرهم وتعريفاً بحياتهم وتذكيراً بأعمالهم وبما كان لهم من الفضل مما أنتج الأثر العظيم الذي يعيشه أهل العلم اليوم متواصلا بجهد جهاد من كان قبلهم .(1/5)
إن نشر تراجم العلماء والتذكير بفضائلهم والتعريف بسير حياتهم وجهادهم من الأعمال التي تذكر فتشكر .
ذلك أن الكتابة عن العلماء وتسجيل سيرهم بهد رحيلهم يقيها عدوان النسيان مع تباعد الأزمان . إلى جانب ما يحصل من الخير والنفع العاجل والآجل ومن ذلك أن الناس يقتدون بهم ويحذون حذوهم ويدعون لهم .
إن مما لا شك فيه أن اقتفاء سير من كان قبلنا من أهل العلم الذين قد شهد لهم بالتحقيق وشهد لهم بالإمامة في السنة وعرفوا بنقل العلم صافياً عن الرعيل الأول ، أقول : لا شك أن اقتفاء سيرهم سيكون له أبلغ الأثر في نفوس الشببة والناشئة من هذه الأمة ولأن الأمة إن لم يقتد شبابها بكهولها من العلماء وإن لم يتصل أولئك بخبر من تقدم فيمن يتصلون وعمن يأخذون وبمن يقتدون .
وإنه لجميل أن تعرف هذه الأمة للعلماء فضلهم وتحفظ حقهم وتجل قدرهم وتنزلهم منازلهم اللائقة بهم ، بوصفهم معالم هداها ومصابيح دجاها .
وفضلا عن ذلك فإن تسجيل سير العلماء تعد بمثابة دعوة مفتوحة إلى رواد العلم ومحبي المعرفة ودعاة الحق لأخذ الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة من سيرهم القيمة وأخلاقهم الفاضلة ، بحيث يلزم القارئ لسيرتهم نفسه بالتحلي بتلك الصفات الرفيعة والخلال الحسنة فيرد من حيث وردوا ويصدر من حيث صدروا تأسيساً بهم ومشابهة لهم .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم………إن التشبه بالكرام فلاح
وإن من المحزن والمؤسف حقا ، بل ومن العقوق أن ينسى أبناء هذه الأمة دعاتهم المصلحين ورجالهم المخلصين وعلماءهم العاملين ، الذين عبروا بهم إلى شواطئ النجاة وجنحوا بهم عن مراتع الهلكة ومواقع الفتن فسلمت لهم أبدانهم بعد أن سلمت قلوبهم .
ذلك أن صلاح الأمة لا يكون راسخ البناء ولا جميل الطلاء ولا محمود العقبى إلا إذا كان موصولا بحقائق الدين ومصطبغاً بآداب الشرع وذلك لا يكون ولن يكون إلا حين يقوم العلماء الربانيون بمسؤولياتهم وينهضوا بما أستحفظوا من الدين وما أوتوا من العلم .(1/6)
إن قاصد الحق وصادق الهدف ، يجد في سير الصالحين والعلماء العاملين والأئمة المصلحين ما يدفعه إلى صدق العزيمة وإخلاص النية والتجرد للحق ومجاهدة النفس ، بل إن من أعظم الدروس المستفادة والعبر المستلهمة من موت العلماء العاملين ، استشعار عظم المسؤولية بعد فقدهم ، وتحمل أمانة الدعوة بعد رحيلهم والتي تعتبر بحق واجبنا الأول في هذا العصر الذي ابتليت فيه الإنسانية بما أتلف أعصابها من تقدم مادي وحضارة انفلت فيها زمام العقل وطغت في جنباتها ظلمات الإلحاد وانحسرت القيم الخلقية عن حياة الناس فلم تعد تتدخل في شؤونهم بعد أن كانت هي الفيصل بينهم .
عصر يضم بين آفاته أمما وشعوباً من البشر مثقلة كواهلها بالأزمات النفسية والمادية والفكرية ولا سبيل إلى التخلص من هذه الأزمات على اختلاف ألوانها وأنواعها إلا بالإسلام الذي كمل الله به شرائعه العملية في شريعته الخاتمة ونظم به الحياة الإنسانية نظاماً كاملاً في علاقاتها أفراداً وجماعات وأمماً وشعوباً وحاكمين ومحكومين فلا عبودية إلا لله ولا انقياد إلا لأمره ولا استسلام إلا له سبحانه وبهذه الصورة العامة الخالدة الواضحة ، جاء الإسلام نظاماً عاماً للحياة كلها ، خاتماً لوحي السماء على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبهذه الصورة الكاملة رضيه الله تعالى دينا للإنسانية وامتن به عليها ، باعتباره نعمته العظمى على عباده ، قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) .(1/7)
إن الإسلام منذ أن أنزله الله قد فهمه المسلمون الأوائل على أنه دين الله الذي بعث به رسله ، حتى أكمل للإنسانية رشدها وبلغ عقلها منزلة القيادة في الكشف عن أسرار الكون ، ختم الله النبوة بخاتم النبيين محمد( وأنزل عليه القرآن الحكيم دستوراً عاماً شاملاً خالداً ، بما أشتمل عليه من قواعد الأحكام وأصول العقائد ودعائم الأخلاق وأسس السياسة والاجتماع .
ومن هذا كله يتبين أن على علماء الدين وحراس الملة ودعاة الحق ، مسؤولية عظمى وفي أعناقهم أمانة كبرى فهم مؤتمنون في علمهم وتعليمهم وتوجيههم ، تعليماً وتوجيهاً يعصم عن مخالفة أمر الله ، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يبينون للناس كل ما لا يسعهم جهله من أمور العقائد والفرائض وأحكام الحلال والحرام وقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أسهل المسالك وأحكم الوسائل ، لا يكتمون العلم ولا يحجبون النصيحة ولا يتأثرون بهوى ولا يتعصبون لباطل .
وحين يطالب العلماء بمسؤولياتهم فيجب على الأمة أن تحفظ حقوقهم وتشكر جهودهم وترعى عهودهم وتعرف مكانتهم وتلتزم الأدب معهم ، إنهم العلماء وارثو علم الرسالة ، خلفاء النبي في أمته المحيون لما مات من سنته وهم الحملة العدول والحفاظ الفحول ، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا .
ومن هؤلاء العلماء الذين تسعد الأمة بهم وتشرف بذكرهم العالم العامل كنز المحققين وقدوة المدققين صاحب العلم الباهر والفضل الظاهر ، العلامة الجليل الفاضل الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - .
كان قوي العزم في معالي الأمور ، أطبق عليها همته وصرف إليها نهمته وقوى فيها نيته وهدفه خدمة العلم وطلابه .
كما كان - رحمه الله - ضليعاً متيناً عاقلاً محققاً ،قائماً بجلائل الأعمال متجملاً بأكرم الخصال .(1/8)
اشتغل بالعلم وبرع فيه وبز أقرامه وهو إلى جانب هذا حلو النادرة حسن المحاضرة ، هادئ الموعظة ، رفيق في أمره ونهيه ونصحه وإرشاده ، غاية في العفة والأمانة وسعة الصدر ، ذو كرم وضيافة وخلق كريم .
وبالجملة فقد كان - رحمه الله - من نوادر عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً ، يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره .
إن الكتابة عن هذا الطود الشامخ والعلم المبرز والشيخ الثقة وعرة المسالك صعبة المنال والحق يقال أنني توقفت طويلاً أمام هذه الشخصية الفذة والعبقرية المذهلة التي قل من يفري فريها أو يحذو حذوها وقفت أمامها وسألت نفسي كثيراً كيف الدخول إلى ساحة هذا العالم وباحته كيف يستطيع طالب علم أن يسير أغوار عوالمه وكيف طويلاً وسألت الله أن يلهمني رشدي ، ثم أدركت أن هذا التردد راجع إلى عمق شخصية هذا العالم - المترجم له - وتعدد جوانب الخير فيها كما أنني أدركت حقيقة مؤداها أنني لكي أكون قادراً على النظر في فكره وعلمه وآثاره وحياته لا بد لي من عمر طويل ، يحسب بحبات العرق وعدد الصفحات ولا يحسب بالساعات والأيام .
ولكي أكون أمينا على تاريخ سيرته وتسجيل مواقع حياته ومواقع حله وترحاله ، لا بد من أكون قد تشرفت بمشاركة رحلة عمره ومسيرة أيامه ولكني - والحق يقال - لم أكن كذلك ومع ذلك فقد أكرمني الله بمعرفة سماحته - رحمه الله - والتردد عليه والتحدث إليه سنين عديدة أدركت خلالها ما من الله به على هذا العالم السلفى التقي من مواهب لا تحصى ، وفضائل لا تستقضى .
وكنت أشعر عندما كنت أتردد عليه وأتحدث إليه أنني أمام بحر لا ساحل له وكأن الشاعر قد عناه بقوله :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن……فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي(1/9)
لقد عرفت فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كما عرفه غيري من محبي العلم ورواد المعرفة - فما رأيت منه إلا غزارة في العلم وسعة في الإطلاع وصدقاً في النصح وما رأت عيني مثله في قوة إرادته وصدق عزيمته مع بعد في النظر وحصيلة في الأثر .
لقد كان إماماً متبحراً في العلوم ، صحيح الذهن سريع الإدراك سيال الفهم كثير المحاسن ، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه ، حتى عد من الراسخين في العلم واجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال وكل هذه المظاهر الحسنة والخصال الحميدة التي تحلى بها هذا العالم ، هي التي دفعتني واستحثت خطاي إلى الكتابة عنه ، اعترافاً بفضله وقياماً بحقه وأداء لبعض واجبه .
ونحن إذ نعدد من مناقب شيخنا ما نعدد ، لا نبتغي إغراقاً في المدح ولا غلواً في الرثاء وإنما القصد إبراز جوانب من حياته تؤكد وتبرهن على أنه - كان غاية في الصلاح والاستقامة وحب الخير وأهله والمثابرة على العمل الصالح في غير رياء ولا سمعة .
لقد كانت حياة فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - طيب الله ثراه - ترجمة صادقة للأخلاق العظيمة والسجايا الكريمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل عالم يقصد بعلمه وجه الله وإعلاء كلمته وإعزاز دينه وإحياء سنة رسوله( لا يخشى في الحق لومة لائم .
ذلك أن الوفاء للحق والقيام بأمره ومواجهة الناس أجمعين به ، من أولى الخصال التي يحيا بها الدعاة إلى الله وتعد صبغة لازمة لسلوكهم بل جزءاً خطيراً من كيانهم .
إن الغيرة على الدين والصدع بالحق وإقامة السنة والتحذير من البدعة ، من الصفات الحميدة والخلال الحسنة التي أقام عليها الشيخ حياته وكرس لها جهوده ، بل كانت فيما ظهر لي مفتاح شخصيته وسر جاذبيته وتأثيره الآسر لتلاميذ ومعاصريه .(1/10)
لقد ربى رحمه الله بهذه الصفات وتلك المؤثرات ، جيلاً من الدعاة لا يزالون يحمدون غبها ويذكرون فضلها ويجتنبون ثمرها وهذا يؤكد ويدلل على أن الموت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خلف غيره له ولا شك أن موت العلماء فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفاً عن سالف ، يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده .
لقد فقدنا علما من أعلام الأمة الإسلامية ونحن أحوج ما نكون إلى محصول علم قضى في تحصيله وتحقيقه قرابة سبعين عاماً فقدناه ونحن أحوج ما نكون إلى نضج عقله وسلامة تفكيره ودلالة نظره ، فقدنا رجلاً لا يكاد يعرف الناس له شبيهاً في أصالة معدنه وطهارة ذيله وجودة رأيه ورباطة جأشه وعفة نفسه وغزارة علمه . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
إن وفاة هذا العالم الجليل ستترك فراغاً كبيراً لن يملأه إلا بقاء علمه وفكره وذكره ، لأنه من كبار حملة ميراث النبوة ومن دعاة الهدى وأئمة التربية والتوجيه والإصلاح .
وإن تشييع الآلاف المؤلفة له ليدل دلالة قاطعة على وعي هذه الأمة وتقديرها للمخلصين من رجالها وللعلماء العاملين بعلمهم من أبنائها وإنه لشاهد عدل ودليل صدق على صلاحه وورعه وصلابة دينه ، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً وأنه كان ممن طال عمره وحسن عمله .
وفي الختام فهذه كلمة عرفان ووفاء لم تخل من تقصيره ، صدرت بها هذه الترجمة الحافلة بالكفاح والعطاء والتضحية وإنكار الذات حتى يكون المترجم له مثلاً يحتذى وقدوة توتسى ، تتبعت فيها حياته ناشئاً يدرج في مدارج الحياة وشاباً يستوي للعلم وكهلا قد تبدت مواهبه واستقامت مناهجه وشيخاً يفيض بنور العلم والمعرفة على كل من حوله ، يقصده العلماء من كل حدب وصوب وتزخر مجالسه بطلبة العلم ورواد المعرفة .(1/11)
وصلت حاضره بماضيه وتتبعت سيرته وتعمقت في نشأته وظروف عصره ودراسته ووقفت على شيوخه وتلاميذه ومؤهلاته ثم عرجت على جهوده وأعماله مع استقصاء مقالاته وجمع مسائله ورسائله وفتاواه وتعليقاته التي تتميز بقلة مبانيها وغزارة معانيها .
فضلاً عن ذلك فقد قمت بوضع خطة دقيقة ومفصلة لهذا الكتاب اشتملت على مقدمة وثمانية فصول ، سبرت من خلالها أغوار هذه الشخصية العلمية الفذة والتي تعتبر بحق رمزاً شامخاً من رموز العطاء الإنساني وها هي خطة هذا العمل مفصلة .
************************
خطة البحث
ـــ
المقدمة وتشتمل على ما يأتي :
أولاً : بيان أهم الدوافع التي حملتني على الكتابة عن المترجم له مع إبراز أهمية مثل هذه البحوث والدراسات .
ثانياً : بيان الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها الشيخ وعاصرها إبان حياته في مصر والمملكة العربية السعودية ومدى تأثير هذه الظروف في جوانب شخصيته .
الفصل الأول : نشأته وصفاته وفيه مبحثان :
المبحث الأول :
أ- اسمه ونسبه .
ب- نشأته وبيئته .
جـ- أصوله وفروعه .
المبحث الثاني : أوصافه الخلقية وصفاته الخلقية .
أ- أوصافه الخلقية : هيئته ولباسه ، هيبته ، فصاحته ، فراسته ، قوة حافظته وحضور بديهته ، وفور عقله وبعد نظره ، مواهبه وسجاياه .
ب- صفاته الخلقية : زهدة وعفته ، تواضعه ، صدقة وأمانته ، حلمه وسعة صدره ، كرمه ومروءته ، احترامه لنفسه وحسن معاشرته لغيره ، ثباته على مبدئه ، ابتلاؤه وصبره ، نظرته إلى المجتمع ونظرة المجتمع إليه .
الفصل الثاني : حياته العلمية والعملية ، وفيه المباحث التالية :
المبحث الأول : مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم .
المبحث الثاني : نبوغه المبكر وتقمه على أقرانه .
المبحث الثالث : شيوخه ومؤهلاته .
المبحث الرابع : تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف .
المبحث الخامس : مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه .(1/12)
المبحث السادس : تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات .
المبحث السابع : علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه .
المبحث الثامن : جهوده الدعوية ودروسه العلمية .
المبحث التاسع : مكتبته وعمل يومه وليلته .
المبحث العاشر : تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء .
المبحث الحادي عشر : فتاواه وبحوثه .
الفصل الثالث : أعماله ومناصبه ويشتمل على المباحث التالية :
المبحث الأول : أعماله ووظائفه في مصر .
المبحث الثاني : أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية .
المبحث الثالث : علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء ورجال العلم والسياسة .
الفصل الرابع : عقيدته السلفية وجهوده في مجال العقيدة . ويشتمل على المباحث التالية :
المبحث الأول : معنى العقيدة وأهميتها .
المبحث الثاني : منهجه في العقيدة وعنايته البالغة بالتوحيد .
المبحث الثالث : إمامته في السنة وحثه على التمسك بها .
المبحث الرابع : اهتمامه بكتب العقيدة وتأثره بعلماء السلف .
المبحث الخامس : دعوته إلى الاعتصام بالكتاب والسنة وكفاحه ضد البدع والمنكرات .
المبحث السادس : نماذج من كتاباته وتعليقاته وتحقيقاته في العقيدة .
الفصل الخامس : أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة وفيه المباحث التالية :
المبحث الأول : سعيه الحثيث في قضاء الحوائج وبذل المعروف .
المبحث الثاني : وفاؤه لزملائه وتلطفه بتلاميذه واحتفاؤه بهم .
المبحث الثالث : عمله الدؤوب في إنشاء المؤسسات الإسلامية والصروح العلمية .
الفصل السادس : ثناء العلماء عليه .
الفصل السابع : وفاته ومراثيه .
الفصل الثامن : رسائل ووثائق .
وفي الختام فأني أرجو أن تقر أعين القراء وتسعد نواظرهم بمطالعة سيرة هذا العالم الرباني الذي عاش لدينه وعقيدته وأمته يواسي جراحها ويخفف أتراحها ، يربي ويعلم ويؤسس ويقوم ، يوالي في الله ويعادي فيه ويعطي لله ويمنع فيه .(1/13)
أتمنى وأرجو أن تكون حياته معالم انطلاقه كبرى نحو الخير والجد والمثابرة وإنكار الذات والبعد عن الشهوات والعمل المثمر البناء لهذا الدين وأهله .
فإلى رحمة الله تلك النفس الزكية الطاهرة ، التي جدت في البعد عن الشهوات واجتناب الشبهات وهي تشعر بالغربة في زمان تتابعت فيه الفتن وتنوعت وتكاثرت ، حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه .
وإنا لنرجو أن الله قد قبض إليه هذه النفس المطمئنة غير مفتونة ولا مخذولة وهذا هو حسن ظننا بربنا إنه هو البر الرحيم .
فيالله ما أسعدها من رحلة لصاحبها وما أشد أثرها في عدد قليل من الناس يعرفون أية درة يتيمة فقدوا وأية نفس كريمة ودعوا .
والله تعالى أسأل أن يتقبل عملي وأن يجعله خالصاً لوجهه ابتغاء لمرضاته ، كما أسأله سبحانه أن يتقبل عملي وأن يجعله خالصاً لوجهه ابتغاء لمرضاته كما أسأله سبحانه أن يتغمد فقيد هذه الأمة والدنا وشيخنا - الشيخ عبد الرزاق عفيفي - بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبه
محمد بن احمد سيد احمد
المدرس بدار الحديث الخيرية
بمكة المكرمة
غرة شهر رمضان المبارك 1417 ه
******************
كلمة موجزة
عن الحالة السياسية والاجتماعية
والثقافية في عصره
ــــــ
أولاً : في مصر :(1/14)
اليوم امتداد للأمس ، والغد امتداد لليوم والحياة الإنسانية تفاعل مستمر بين الحاضر والماضي والمستقبل فهي بأحداثها وحدة واحدة متكاملة ترتبط ببعضها ويؤثر بعضها في الآخر ، لذا نجد من العسير إيجاد فواصل بين الأحداث والعصور التاريخية ومن ثم يتعين علينا ونحن بصدد الكتابة عن فترة تاريخية عن حياة المترجم له أن نلم إلماماً سريعاً بالوضع السياسي في عصره الذي عاش فيه لنتعرف على أبرز سمات هذا العصر من الناحية السياسية وغيرها ومدى تأثر شخصية هذا العالم بظروف بيئته .
الحالة السياسية :
لقد عاصر الشيخ عبد الرازق عفيفي - في الشطر الأول منى حياته في مصر - أحداثا مهمة وعايش صوراً من الاضطراب والقلق والحيرة في جميع الميادين " السياسية والاجتماعية والثقافية " والحق يقال إن هذه الصور من الاضطرابات كانت ترجمة لنزعات مختلفة وآراء متباينة خلفها تقلب مصر في أحضان الفتن والقلاقل سنين عددا ، برزت خلالها تيارات معادية للإسلام والمسلمين ، سلكت مسالك الكيد الخفي للإسلام وأهله وكان مقصدها الأول تخريب عقائد المسلمين وتفكيك أواصر المحبة والأخوة بينهم حتى يسهل القضاء عليهم واستئصال شأفتهم وزاد الطين بلة سقوط الدولة العثمانية سنة ( 1342 ه ) بعد أن عانت من الضعف والتفكك فترة من الزمن ونتيجة لذلك فقدت الدولة الإسلامية آخر مظهر من مظاهر الوحدة وكان لهذا الضعف والتردي أثره الكبير والخطير على المسلمين كما ونوعا ، حتى أضحت الأمة العربية الإسلامية مجزأة وخاضعة للاستعمار الذي حاول بكل الوسائل والأساليب الخبيثة أن يطمس معالم تلك الدول وأن يفقدها هويتها الإسلامية .
ولعل الراصد للأحداث التي شهدتها مصر في عصر المترجم له( 1323 - 1368 هـ ) ( 1905 - 1950 م ) يجد أبرز هذه الأحداث وأهمها ما يلي :
ظهور الحزب الوطني برئاسة مصطفي كامل ( 1325 هـ - 1907 م ) .
عزل الخديوي عباس حلمي وتعيين السلطان حسين ( 1330 هـ - 1912 م ) .(1/15)
إعلان الحرب العالمية الأولى وفرض الحماية الإنجليزية على مصر ( 1332 هـ - 1914 م ) .
هجوم الأتراك على قناة السويس ( 1334 هـ - 1916 م ) .
1- تألف حزب الوفد برئاسة سعد زغلول ( 1337 هـ - 1918 م ) .
2- أحداث مارس ( 1919 م ) وقيام الشعب المصري بكل فئاته وطبقاته بمواجهة الإنجليز وكبح جماحهم .
3- إعلان استقلال مصر وتعيين السلطان فؤاد ملكاً على مصر ( 1340 هـ - 1922 م ) .
4- إعلان وفاة الملك فؤاد وتعيين الملك فاروق خلفا له ( 1356 هـ - 1937 م ) .
5- إعلان قيام الجامعة العربية عام ( 1364 هـ - 1945 م ) .
6- إعلان قيام الجامعة العربية عام ( 1364 هـ - 1945 م ) .
7- مشاركة مصر في حرب فلسطين ( 1366 هـ - 1948 م ) .
هذه بعض الأحداث المهمة التي عاصرها الشيخ المترجم ومما لا شك فيه أنه تأثر بهذه الأحداث وتفاعل معها وتذكر كتب التاريخ أن الأزهر أدى دوراً مهما وفاعلا في الحياة السياسية في مصر وفي صنع القرار السياسي فضلا عن مواجهة المستعمر بكل حزم وقوة .
ذلك أن الاستعمار حاول بكل ما يملك من قوة القيام بعملية اختراق سياسي واقتصادي وثقافي تستهدف القضاء على ثوابت الإسلام ومعالم النهضة الإسلامية فضلا عن ذلك فقد قام الاستعمار بمحاولات عديدة تهدف إلى غرس الحقد وبذور التفرق بين أبناء الأمة وأفراد الشعب في مصر خاصة . وفي البلاد المجاورة لها عامة ولكن المخلصين من أبناء هذا الشعب كانوا هم بالمرصاد .(1/16)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هؤلاء المخلصين الذين أباتوا للأمة عن مقاصد الاستعمار الخبيثة حتى لا تنطلي عليهم أساليبهم الوقحة ومخططاتهم المنحطة وأهدافهم الدنيئة فكان - رحمه الله - يوضح بلسانه وقلمه أن الاستعمار عندما يفشل في تحقيق أطماعه وأغراضه بالقوة والسيف ، يلجأ إلى أسلحة أخرى ربما تكون أشد فتكا ومن هذه الأسلحة ، سلاح الدس البغيض والتلبيس على الشعوب فيلبسون لذلك لأمة النفاق ويتدرعون التقية ، خشية أسياف الغيورين من المجاهدين مستنبطين الكفر والعدوان .
وعلى الرغم من تسلط الاستعمار وسيطرته على مقدرات الشعب المصري فلم يفلح في توهين عزيمة أبناء هذا الشعب وإبعادهم عن دينهم وعقيدتهم بل كان الأمر على عكس ما أرادوا فقد هب الشعب من غفوته وأفاق من سباته وكان لهم بالمرصاد وأدرك المستعمر أن احتلال هذا الشعب مستحيل فرجعوا إلى بلادهم يجرون أذيال الخيبة والعار ولكنهم مع ذلك لم ييئسوا ولم يستكينوا بل تتابعت محاولاتهم ولا تزال تتابع للنيل من الإسلام وأهله ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
ب - الحالة الاجتماعية والثقافية :
وصلت الأمور الاقتصادية والاجتماعية في مصر إلى مستوى خطير من الفساد والانحراف على الرغم من وجود فائض مالي ضخم في ميزان المدفوعات فلقد كان 5 % من ملاك الأراضي ، يملكون 24 % من المساحة المزروعة في مقابل 2 % من الملاك يملكون 13 % فقط ، فضلا عن وجود أحد عشر مليوناً من المعدمين في الريف المصري كما كانت زمامات قرى بأسرها مملوكة لفرد أو لأسرة ، فضلا عن وجود نظام الاستغلال الزراعي الذي شائعاً آنذاك .(1/17)
لقد ارتفعت الأسعار في تلك الفترة ارتفاعا هائلا مما خلق عبثا ضخما على كاهل الجماهير . وهكذا فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي قد وصل إلى مستوى منخفض وخطير تعذر معه الإصلاح .
والخلاصة أن النشاط الاقتصادي في مصر كان يتركز عندما نشبت الحرب العالمية الأولى ( 1332 هـ - 1914 م ) في يد العناصر الأجنبية التي تموله وتشرف عليه وفي خلال العشرين سنة قبل بدء الحرب العالمية الأولى توغلت رؤوس الأموال الأجنبية في الشؤون المالية المصرية إلى أن بلغ رأس المال الأجنبي عام ( 1332 هـ ) ما يعادل 91 % من مجموع الأموال التي تستغل في الشركات المساهمة ومع ذلك فإن معظم هذه الأموال لم تكن تستغل في الصناعة لأن الممولين الأجانب كانوا غير راغبين في منافسة صناعات بلادهم ، كما أن سياسة الاحتلال الإنجليزي تقضي ببقاء مصر بلداً زراعيا.
ويكفي للدلالة على سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وسيادة العناصر الأجنبية في مصر وتحكمها في النشاط الاقتصادي - في تلك الفترة - أن نعلم أن الذين كانوا يعملون في التجارة المصرية سواء أكانوا مصدرين أم موردين أم باعة لم يكونوا من المصريين وقصر المناصب العليا على غيرهم .
وأما من الناحية الثقافية والتعليمية فلقد فشا الجهل وعمت الأمية وحرم كثير من أبناء مصر من التعليم وكان الإنجليز يعملون جاهدين على إبقاء مصر في حالة من القصور والعجز وأوضح دليل على ذلك أن سياسة التعليم التي وضعها الإنجليز لم يكن من شأنها أن تفضي إلى تخريج كفاءات علمية تسد حاجة البلاد .(1/18)
وبالجملة فلقد عايش الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - في مصر أحداثا مؤسفة وظروفا قاسية ومحنا وفتنا كثيرة ولكنه بالرغم من هذه الأحوال المتقلبة استطاع وبتوفيق من الله ثم بحسن معالجته للأمور أن يجتاز هذه المصاعب وأن يستلهم منها الدروس والعبر حتى أصبح أضحى شغله الشاغل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وتصحيح عقائدهم وذلك بتصديه للنزعات الضالة والأفكار المنحرفة التي راجت في ذلك الوقت .
وقد ساعد الشيخ وآزره في ذلك علماء إجلاء ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن راشد وفضيلة الشيخ عبد الله بن يابس - رحمهما الله - وهما من أهل الرياض .
ثانياً : في المملكة العربية السعودية :
ــــــــــــــــــ
قدم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - إلى المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين عام ( 1368 هـ - 1950 م ) على سجيته لم يجتذبه طمع في مال أو منصب وإنما قدم إليها استجابة لرغبة كريمة واختيار موفق من جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - تغمده الله بواسع رحمته - وحباً في الحرمين الشريفين وحباً في الإسلام والمسلمين وعلماء الدعوة السلفية الذين صاروا على منهج الدعوة الإصلاحية للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله .
ولا شك أن هذه البلاد المباركة التي هي مأزر الإيمان وموئل العقيدة عنيت وتعني دائما بالمنهج الاعتقادي الصحيح .(1/19)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - وهو من كبار علماء السنة في عصره - حريصا على أن يكون في ظل هذه البلاد ، يفيد أهلها وينعم بالأمن والجو الإيماني الذي تعيشه المملكة العربية السعودية بتوفيق الله تعالى ثم بحرص حكامها منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، أيده الله - على تطبيق شرع الله وتكريم العلماء والحرص على التزام منهج السلف الصالح في العلم والعمل والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولم يخف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إعجابه بالملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - بل كان يظهر هذا الإعجاب لطلابه ومحبيه وقد ذكر ذلك فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان - حفظه الله .
قلت : ولعل ذلك راجع إلى ما كان عليه الملك عبد العزيز - رحمه الله - من صفات نادرة وخلال كريمة فلقد كان رجل دين ودولة وجهاد وعبادة ، محباً للعلم ، مؤثراً لأهله ، حدباً عليهم . وضع أسس واضحة وبقيادة ناجحة .
ويلاحظ على النظام السياسي من خلال هذا التطور عدد من الخصائص ذات العلاقة بالتأثير على الأفراد وبخاصة المشايخ والعلماء :
أولاً : إن النظام بكامله يستند في أسسه وتكوينه وشرعيته على الشريعة الإسلامية ومبادئها المستمدة مباشرة من كتاب الله وسنة رسوله (لذلك لم يكن للملكة دستور وضعي وإنما اكتفت بالقرآن الكريم والسنة النبوية مصدرين أساسين للتشريع . . ومن خلال التعليمات الأساسية لنظام الحكم والتي وضعت في 21 / 2 / 1345 هـ الموافق 30 / 8 / 1926 م .(1/20)
ولا تزال مضامينها قائمة حتى اليوم ونلحظ أن هذه التعليمات في قسمها الأول قد نصت على أن الدولة ملكية شورية إسلامية . . وهذا الأمر ضاعف من مهمة العلماء في سياسة الدولة حيث تولوا استنباط الأحكام التفصيلية للحكم والإدارة من القرآن الكريم والسنة النبوية تبعاً لما يعرض من مشكلات ومتطلبات لتسيير أمور الدولة . .
ثانيا : أخذت المملكة بنظام التنسيق بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية مع الالتزام بالفصل بين هذه السلطات في الجوانب التي تتطلب ذلك
ثالثاً : أعلى النظام السياسي في المملكة من قيمة السلطة القضائية ومنحها استقلالا كبيراً في مواجهة السلطات الأخرى في البلاد . . فالسلطة القضائية في المملكة سلطة مستقلة ومقيدة معاً . . فهي مستقلة عن السلطات الأخرى التنظيمية والتشريعية والتنفيذية وليس لأحد التدخل في القضاء كما أن تعيبين وترقية القضاة ونقلهم وتأديبهم وعزلهم من اختصاص مجلس القضاء العالي ( طبقا لنظام القضاء الصادر في 14 / 7 / 1395 هـ والمعدل بالمرسوم الملكي رقم م وتاريخ ( 24 / 10 / 1395 ) . .
وهذا الاستقلال هو تطبيق حازم لمبدأ " حصانة القضاة " المعروف عند جميع علاء المسلمين . .
والسلطة القضائية مقيدة في نفس الوقت بأحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية . . وقد ن نظام القضاء في مادته الأولى على أن " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم غير أحكام الشريعة والأنظمة المرعية " .
وكان لهذه السلطة القضائية علاقة وثيقة بالعلوم الدينية وبالعلماء ورجال الشريعة والمتخصصين في العلوم الدينية في المملكة :
* فلم يتول منصب القضاء في المملكة سوى رجال إجلاء أفاضل من أهل العلم واقتصرت هذه المهمة الخطيرة عليهم . .(1/21)
* كذلك فإن استقلال القضاة التام أتاح لهؤلاء العلماء كل الفرص لترسيخ شرع الله دون أي رقيب أو قيد سوى ضمائرهم ونصوص شريعة الله بحيث أصبحت أحكام المحاكم السعودية مرجعا رائداً في تطبيق شرع الله بحيث أصبحت في كل شئون الحياة وما يسجد من قضايا ومشكلات .
وأما بالنسبة للحالة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة العربية السعودية فقد شهد الشيخ عبد الرزاق عفيفي - في الشطر الثاني من حياته - التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع السعودي في ظل قيادته الحكيمة وقد أدرك الفارق بين الحالتين ، حالة التشتت والقلق والاختراق الاستعماري لمصر وحالة الاستقرار والأمن والازدهار في المملكة العربية السعودية .
لقد كان هذا التحول وذلك الفارق له - بلا أدنى شك - أثره على شخصية ( المترجم له ) .
بل وشخصية كل الرواد والعلماء الذين عايشوا هذه الفترة الاقتصادية من حياة المجتمع العربي السعودي وشاهدوا الجهد الذي بذل في بناء الدولة السعودية في ظل أوضاعها المالية آنذاك . .
وهذه المعايشة جعلتهم بالتأكيد - أكثر حرصاً وتصميماً كفاحاً من أجل التمسك بالقيم الإسلامية الصحيحة النابعة من العقيدة الصافية لإدراكهم أن تلك المبادئ هي التي أقامت تلك النهضة التي يعيشونها والتي قد يتعامل معها بعض أبناء الأجيال الجديدة كمعطيات واقعة دون إدراك الفارق بينها وبين ما قبلها . .
لقد تطورت مسيرة النهضة السعودية في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية وتغيرت أوجه الحياة في المملكة بشكل جذري وأقيمت بنية أساسية متطورة وارتبطت كل مناطق المملكة بشبكة من المواصلات والاتصالات الحديثة وأتيحت فرص العمل والكسب لكل مواطن وقدمت خدمات التعليم والمرافق والخدمات الاجتماعية لجميع مواطني ومناطق المملكة بمستوى واحد .
هذه الجوانب من التطور والتنمية الشاملة كان لها علاقة بمهمة ودور العلم والعلماء في المجتمع من أكثر من وجه :(1/22)
فقد أدى تعقد الحياة الحديثة وتزايد المشكلات المرتبطة بهذه الحياة إلى إيجاد مشكلات وقضايا مستجدة تتطلب جهداً وشجاعة واجتهاداً من العلماء في التعامل معها وإبداء حكم الشرع فيها .
كما أدى الترابط الدولي وسهولة المواصلات والاتصالات بين مختلف مجتمعات العالم إلى وفود بعض القيم والسلوكيات الغريبة إلى المجتمع العربي السعودي والتي تطلبت نوعية متميزة من العلماء وفقهاء الشرع للتعامل معها وتجنيب المجتمع شرورها والتعامل مع السلطات المختصة لتأكيد أفضل مستوى من ( الأمن الفكري ) في البلاد .
وهكذا تضاعفت مهمة العلماء في نشر أصول العقيدة والعبادات والسنة النبوية والاضطلاع بمهمة خطيرة وكبيرة في الحفاظ على المجتمع المسلم والتعامل مع إفرازات العالم المعاصر طبقا لأصول ديننا وصفاء عقيدتنا . . وهي مهمة كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي أحد رجالها الشجعان والأكفاء .
وأما بالنسبة للحالة الثقافية والتعليمية فلقد عاصر فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي الدولة السعودية وهي تخطو بخطى ثابتة وتقفز قفزات عملاقة في مجال التعليم والثقافة .
ففي وقت مبكر من مسيرة بناء الدولة السعودية الحديثة قر الملك عبد العزيز - يرحمه الله - إنشاء مديرية المعارف العامة في غزة رمضان عام 1344 هـ ووضعت المديرية برامجها لكل المراحل التعليمية وفتحت المدارس في منطقة الحجاز . . وكان من أول مهام مديرية المعارف هو توحيد المناهج التعليمية في الحجاز .
وفي عام 1346 هـ أنشئ أول مجلس للمعارف وقام بوضع أول نظام تعليمي . . وبعد توحيد المملكة عام 1351 هـ اتسعت مهمة مديرية المعارف لتشمل كل أنحاء المملكة عام 1357 هـ صدر نظام جديد للمعارف ألغى ما كان من أنظمة سابقة . .(1/23)
أما من حيث المناهج التعليمية فقد كانت هناك أغلبية واضحة للعلوم الدينية واهتمام كبير بها لدرجة أنها كانت تمثل 57.3 % من مناهج المرحلة التحضيرية ومع التوسع في مجالات التعليم ومستوياته أنشئت وزارة المعارف عام 1373 هـ واختار الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لها خادم الحرمين الشريفين ليضع الأسس الراسخة للانطلاقة التعليمية الحديثة للمملكة والتي أثمرت اليوم مجتمعا متعلماً يضم مئات الآلاف من خريجي الجامعات وآلافا من الحاصلين على درجات علمية رفيعة ونحو ثلاثة ملايين طالب وطالبة .
وبالطبع نهضت هذه الانطلاقة التعليمية على الأسس نفسها التي وضعت لبناء دولة حديثة تستمد مقوماتها من شريعة الإسلام .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - أسهم وبشكل فعال ومؤثر في بناء النهضة التعليمية التي وصلت إليها المملكة العربية السعودية اليوم وشارك سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية والرئيس العام للمعاهد والكليات الشيخ محمد بن إبراهيم - تغمدهما الله بواسع رحمته - في وضع مقررات ومناهج المعاهد التعليمية وجامعة الإمام والجامعة الإسلامية وغيرها والتي خرجت بدورها أمما لا يحصون كثرة من العلماء والدعاة وطلبة العلم .
***********************************
*********************
الفصل الأول
نشأته وصفاته
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : اسمه ونسبه ونشأته
المبحث الثاني : أوصافه الخلقية وصفاته الخلقية
الفصل الأول
نشأته وصفاته
وفيه مبحثان :
********
المبحث الأول
أسمه ونسبه ونشأته
اسمه ونسبه :
هو العالم الجليل والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف الدين النوبي ولد في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري وعلى وجه التحديد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1323 هـ الموافق 16 ديسمبر سنة 1905 م ، في قرية شنشور مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية وهي إحدى محافظات مصر .(1/24)
نشأته وبيئته :
نشأ الشيخ عبد الرزاق في بيئة معطرة بأنفاس القرآن الكريم وسط أسرة محافظة وفي مجتمع ريفي بعيد عن فتن الحواضر ومفاسدها .
ففي قرية شنشور ، تلك القرية الهادئة المتواضعة التي تترابط أسرها وتمتزج في كيان واحد وتتنسم عبير الإخاء والود : في هذه القرية نشأ الفتى عبد الرزاق عفيفي ، نشأة صالحة ، تغمرها العاطفة الدينية الجياشة وتوثق عراها سلامة الفطرة وحسن الخلق والبعد عن الخرافات والخزعبلات وكان لهذه النشأة الطيبة أثرها البالغ في حياة المترجم له حيث بدأ حياته العلمية بحفظه لكتاب الله تعالى حفظاً متقناً مع تجويده على يد عدد من مشايخه آنذاك ومنهم الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية هذا فضلاً عن والده الذي قام على تربيته وتنشئته أحسن ما ينشأ الفتيان الذين في مثل سنه ، قال الشاعر :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا………على ما كان عوده أبوه
وما كان الفتى نجماً ولكن………يعوده التدين أقربوه
أصوله وفروعه :
ينتمي الشيخ عبد الرازق عفيفي إلى أسرة كريمة ، طيبة الأخلاق محمودة السيرة حسنة السمعة متمسكة بالأخلاق الإسلامية وأخلاق أهل القرية والريف التي لم تتلون بمظاهر الحضارة الكاذبة .
فوالده هو الشيخ عفيفي بن عطية النوبي ، من مشاهير قرية شنشور وصالحيها ، كان حافظاً لكتاب الله تعالى ، وكان الشيخ عبد الرازق كثيراً ما يتحدث عن والده للخاصة من طلابه وقد ذكر لي فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام - حفظه الله - أنه رأى والد الشيخ عبد الرازق عند أول قدوم له إلى المملكة سنة (1368هـ) وهي نفس السنة التي قدم فيها الشيخ عبد الرازق إلى أرض الحرمين الشريفين وكان والد الشيخ عبد الرازق يرتدي العمامة البيضاء المستديرة فوق رأسه وهي لباس أهل مصر آنذاك .
فروع الشيخ عبد الرزاق عفيفي :(1/25)
إن من أعظم النعم وأكبر المنن أن يوفق الإنسان بعد تقوى الله عز وجل إلى زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه ، تطيعه إذا أمر وتسره إذا نظر ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله ، تتقن عملها وتعتني بنفسها وبيتها وزوجها ، فهي زوجة صالحة ، وأم شفيقة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ولا أدل على ذلك من قوله ( : " المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " وقوله ( وقوله عليه الصلاة والسلام : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" وقوله ( :" من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح والمركب الصالح "
ولقد كان من نعم الله وحسن بلائه على فضيلة الشيخ عبد الرزاق أن وفقه لزوجة صالحة وسيدة فاضلة من أسرة كريمة وعائلة فاضلة هي عائلة (سالم ) بالإسكندرية ، وأصلها من إسنا بصعيد مصر وقد رزقه الله منها عدداً من البنبن والبنات .
أما الأبناء فهم :
1- المهندس الزراعي أحمد عاصم بن عبد الرزاق عفيفي ولد سنة 1364هـ - 1944م ، وتوفى في حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ - 1973م بمصر
2- الأستاذ محمد نبيل بن عبد الرزاق عفيفي - حفظه الله - ويعمل مراقباً مالياً بالخطوط السعودية بجدة ، وهو من أبر أبناء الشيخ وأرعاهم لحقوقه في حياته وبعد وفاته جزاه الله خيرا وهو من مواليد سنة 1366هـ - 1946 م
3- الأستاذ محمود بن عبد الرزاق عفيفي - حفظه الله - عمل مدرساً بالرياض ثم ترك التدريس وتفرغ لخدمة والده في السنوات الأخيرة من حياته - رحمه الله - فجزاه الله خيراً وجعل أعماله الصالحة في موازين حسناته ، وهو من مواليد سنة 1369 هـ - 1949م .
4- الأستاذ عبد الله بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده سنة 1412هـ - 1992م - رحمة الله(1/26)
5- الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده اثر حادث وقع عليه سنة1408-1988 وكان من طلبه العلم المبرزين ومن اكثر أبناء الشيخ اتصافا به وكان يعمل بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض - رحمه الله .
واما البنات فثلاث وقد أكرمها الله بأصهار صالحين بررة ولا نزكي علي الله أحدا نحسبهم كذلك وكان الشيخ عبد الرزاق - يرحمن الله -يهتم بتربية أولاده بل وحتى أحفاده وينشئهم تنشئة صالحة - فكانوا مثالا في الاستقامة والبر ورعاية واداء الأمانات .
*************
المبحث الثانى
أوصافة الخلقية وصفاته الخلقية
ــــــــــ
أ - أوصافة الخلقية
كان رحمه الله قوي البنية جسيما مهيبا طويل القامة عظيم الهامة مستدير الوجه قمحي اللون له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها علي السواد وكان عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكفين والقدمين ينم مظهره عن القوة في غير شدة .
هيئته ولباسه :
كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - حسن الهيئة ، جميل المظهر في غير تكلف ، له سمت خاص في لباسه ، يرتدي ثوبا فضفاضا أشبه ما يكون بلباس أهل مصر ، إلا أنه محاك على السنة . وكان يعجبه اللباس الخشن من الثياب في غالب الأوقات وهو سلفى المظهر والشارة .
ومجمل القول : أن الشيخ - رحمه الله - كان رجلا متميزا في هيئته ولباسه يرتدي ما يراه متفقا مع مكانة العلم والعلماء وظل متمسكا بهذه الهيئة المتميزة من اللباس إلى آخر حياته المليئة بالجد والكفاح والمثابرة .
هيبته :
كان الشيخ - رحمه الله - رجلا مهيبا ، من رآه بديهة هابه ، فيه عزة العلماء ، لا يتزلف إلى أصحاب المناصب زائرا أو مزورا ، يقول أحد تلاميذه : إن الشيخ كان يفرض احترامه على طلابه وكان الطلاب يهابون حياء ويقدرونه في أنفسهم وما سمعت منه كلمة مؤذية قط .(1/27)
لقد كان الشيخ مهيبا حقا ومع هذه الهيبة كان آية في التواضع وحسن المعاشرة وعلو الهمة ، بعيدا عن الصلف والتكلف المذموم ، أبيا عزيز النفس وكأن الشاعر قد عناه بقوله :
يقولون لي فيك انقباض وإنما ……رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ……ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ……بدا طمع ضيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ……ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ……ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
فصاحته :
اللغة العربية لغة جميلة فهي لغة القرآن والسنة ، أسلوبا ومنهجا ومقصدا ومغزى فهي الطريق إلى فهمها والعمدة في إدراك أسرارهما فهي بحق من مستلزمات الإسلام وضروراته .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعد وبجدارة من أرباب الفصاحة وأساطين اللغة في علم النحو الخاصة وعلوم العربية كافة .
كان آية في التحدث بلغة الضاد ( اللغة العربية الفصحة ) كتابة ومحادثة وكان هذا بيان مشرق متدفق وأداء جميل ونبرات مؤثرة في غير تكلف وكان إذا تكلم أسمع وعقل عنه .
وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون شاملة وهو إلى جانب ذلك سهل العبارة ، عذب الأسلوب ، تتسم عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والجزالة وكان بعيدا عن التكلف والتمتمة والفأفأة والتنطع والتشدق .
وإني أتمنى أن يعتني طلبة العلم وحملة الشريعة ورواد المعرفة بهذه اللغة العظيمة ، اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : : تعلموا العربية فإنها من دينكم " وعن عمرو بن زيد قال : " تفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي " . وقال عبد الحميد بن يحي : " سمعت شعبة يقول : تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل " .(1/28)
وقال عبد الملك بن مروان : " اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه " . وأوصى بعض العرب بنيه فقال : " يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة فيحتال فيها فيستعير من أخيه دابته ومن صديقه ثوبه ولا يجد من يعيره لسانه " .
وقال ابن تيمية - رحمه الله - : " الدين فيه فقه أقوال وأعمال . ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله " .
فراسته :
قال ابن القيم - رحمه الله - : الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل والحال والعاطل والصادق والكاذب وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : " أظنه كذا إلا كان كما قال " ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة .
وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء . قال تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) .
قال بعض السلف : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطيء فراسته .
قال الماوردي - رحمه الله - : ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ، ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .(1/29)
والشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ولا أزكى على الله أحدا كان صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة يعرف ذلك عنه من خالطه وأخذ العلم على يديه ومما يدلل ويؤكد على فراسة الشيخ أنه كان يتأمل وجوه تلاميذه ويتفرس فيهم فيعرف المجد من الخامل والنابه من الجاهل فيخص هؤلاء بعلم قد لا يخص به أولئك . وثم دليل آخر على فراسة الشيخ أنه كان - رحمه الله - يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات ويتأمل وجوه أصحابها فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة وقلما ينطلي عليه مكر أو احتيال . ومما يدل كذلك على صدق فراسة الشيخ ومعرفته بالرجال ما ذكره فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم قائلا : حدثني - رحمه الله - في مجلس الفتوى في ( منى ) فقال : إذا سأل البدوي عن مسألة وكان الجواب موافقا لما يهوي فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسكت وينصرف .
وهكذا أكسبه طول التعامل مع المستفتين معرفة لنفسياتهم فكانت إجاباته بإيضاح الحكم فيما يسأل عنه من التوسع أو من الإيجاز ، ملحوظا فيها ما ينقدح في ذهنه من مقصد السائل عند إلقاء السؤال من رغبة في معرفة الحكم الشرعي في المسألة أو في خلاف ذلك .
ولله در من قال :
ألمعي يرى بأول رأي ……آخر الأمر من وراء المغيب
لوذعي له فؤاد ذكي ………ما له في ذكائه من ضريب
لا يروي ولا يقلب طرفا ……وأكف الرجال في تقليب
قوة حافظته وحضور بديهته :
كان رحمه الله قوي الحافظة ، سريع البديهة ، مستحضر الفهم ، شديد الذكاء وافر العلم غزير المادة ، صاحب ألمعية نادرة ونجابة ظاهرة .(1/30)
إن نعمة الحفظ وقوة الذاكرة من أقوى الأسباب - بعد توفيق الله عز وجل - على طلب العلم ولقد كان لهذه الحافظة القوية والذاكرة الجبارة أثرها البالغ في تحصيل ثروته العلميه والتي بنيت على محفوظاته التي علقت بذاكرته في مرحلة التعلم والتعليم وقد رزقه الله من الذكاء وقوة الحفظ ما مكنه من إدراك محفوظاته العلمية عن فهم وبصيرة فكان الشيخ يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع بتوفيق الله ثم بذكائه الحاد وبصيرته النافذة ولم يكن ينطلي عليه خداع أو احتيال .
ومما يؤكد ويبرهن على قوة حافظة الشيخ وسيلان ذهنه أن أحد الموظفين بإدارات البحوث العلمية والإفتاء سأل الشيخ وأنا جالس بجانبه - في مقر هيئة كبار العلماء بمدينة الطائف - عن مرجع لمسألة يريد أن يرجع إليها فدله الشيخ على كتاب المغنى لابن قدامه وذكر له الجزء والصفحة والمكان وهذا إن دل فإنما يدل على شدة ملاحظته وتوقد ذهنه - رحمه الله .
وثم دليل آخر يؤكد على قوة ذاكرة الشيخ وهو أنه رحمه الله كان يقص قصصا ويذكر أحداثا ووقائع من أعماق التاريخ ترجع إلى أكثر من ثلاثة أرباع القرن ، يذكرها وكأنها ماثلة أمام عينه .
وثم دليل ثالث على عمق حافظة الشيخ وحضور بديهته ، ما ذكره أحد تلامذته من أن الشيخ أملى عليهم من حفظه في مادة التفسير أكثر من مائة صفحة .
ويؤكد هذا كله فضيلة الشيخ محمد بن سعد السعيد قائلا : " لقد حباه الله قوة الحافظة والدقة في الفهم وسرعة البديهة وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع .
وفور عقله وبعد نظره :
إن من المسلم به أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمارا فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه وألف به بين خلقه مع اختلاف همهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم .(1/31)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصل الرجل عقله وحسبه دينه ومروءته خلقه وقال الحسن البصري رحمه الله : ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما وقال بعض الأدباء : صديق كل امريء عقله .
وقال إبراهيم بن حسان :
يزين الفتى في الناس صحة عقله ……وإن كان محظورا عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله ……وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه ……على العقل يجري علمه وتجاربه
وأفضل قسم الله للمرء عقله ……فليس من الاشياء شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ……فقد كملت أخلاقه ومآربه
وإنني لأشهد بالله أن الشيخ عبد الرازق عفيفي - يرحمه الله - كان من العلماء القلائل الذين جمع الله لهم بين وفرة العلم ووفر العقل وبعد النظر فكان مثالا للداعية المسلم الحق الذي يدعو إلى الله على بصيرة وإلى جانب تعقل الشيخ وبعد نظره فقد تميز - رحمه الله - بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وبعد نظره فقد تميز - رحمه الله - بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وجلس إليه يشهد له بحنكة باهرة وحكمة ظاهرة واطلاع واسع وعدم خوضه فيما لا يعنيه وإعراضه عن التحدث في الموضوعات ذات الحساسية وهو مع ذلك فقيه بواقع أمته ومطلع على ظروف عصره ، يعيش آمال الأمة وآلامها ساعة بساعة ولحظة بلحظة .
ولقد أكسبته هذه الخصال الحميدة والسجايا الحسنة احترام الناس له وتقديرهم لعلمه وفضله حتى أصبح موضع تقدير الجميع علماء وعامة .
يقول فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان : كان الشيخ - رحمه الله - كثير الصمت يفرض احترامه على جالسيه كثير التأمل شديد الملاحظة ، وافر العقل ، نافذ الفراسة .(1/32)
وقال فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي : ما رأيت رجلا من المصريين أعقل من الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - جمع بين العلم والعقل فيا سعادة من جمع العلم والعقل إذ لا يستغنى أحدهما عن الآخر .
لقد كان الشيخ - يرحمه الله - صافي الذهن ، بعيد النظر ، ينظر الى عواقب الأمور ويوازن بين المصالح والمفاسد ويبين لجالسيه وطلابه أن التعجل والتهور وعدم النظر في وعدم النظر في العواقب ، يجلب على الأمة ويلات كثيرة فلله دره من عالم فحل وعاقل متأدب وداعية محنك لم يهزه طيش ولم يستفزه خرق .
ولقد صدق من قال :
إذا تم عقل المرء تمت أموره ……وتمت أمانيه وتم بناؤه
وقال أبو بكر بن دريد :
العالم العاقل ابن نفسه ………أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت وكن مؤدبا ……وإنما المرء بفضل كيسه
وليس من تكرمه لغيره ……مثل الذي تكرمه لنفسه
مواهبه وسجاياه :
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - يتمتع بمواهب وسجايا وخصال قل أن تجتمع في غيره فقد كان - رحمه الله - يتحلى بسعة العلم والأناة والحلم والهدوء في المحاورة والمناقشة والقدرة على الإقناع وتقريب الأمور إلى الأذهان .
يقول أحد طلابه : لقد حباه الله قوة الحافظة ودقة الملاحظة وسرعة الفهم وسيلان الذهن وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع ولين الجانب وكان كثير الصمت قليل الكلام إلا فيما ترجحت فائدته ومصلحته . أ ه .
وبالجملة فقد كان الشيخ - رحمه الله - يتمتع بصفات حسنة وسجايا كريمة . لقد كان مثالا يحتذى في أدبه وعلمه وأخلاقه وقدوة في تصرفاته . لقد كان موهوبا .
**************
صفات الخلقية :(1/33)
إن من عاصر الشيخ عبد الرازق - رحمه الله - وخالطه وعاشره يتفق معي أنه كان رجلا قوي الشخصية متميز التفكير مستقل الرأي نافذ البصيرة ، سليم المعتقد حسن الاتباع ، جم الفضائل ، كثير المحاسن ، مثال العلماء العاملين والدعاة المصلحين فيه عزة العلماء وإباء الأتقياء ، غاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حكمة ولطف وبعد نظر لا يجابه أحدا بما يكره ولا ينتصر لنفسه .
كان زاهدا عابدا أمينا صادقا كثير التضرع إلى الله قريب الدمعة زكي الفؤاد ، سخى اليد ، طيب المعشر ، صاحب سنة وعبادة ، كثير الصمت ، شديد الملاحظة ، نافذ الفراسة ، دقيق الفهم راجح العقل ، شديد التواضع ، عف اللسان . وبالجملة : فقد اتصف الشيخ - رحمه الله - بصفات جميلة وخلال حسنة وشيم كريمة ، يجمال بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل .
زهده وعفته :
إن الزهد في الدنيا معنى جميل ، لا يستقم إلا لكل نفس كبيرة فهو خير معين على التفرغ للعظائم وأقوى محقق لمعاني القوة في النفس والعقل والبدن . وأكبر عامل على صفاء القلب وصوله عما يتورط فيه من الحقد والغل والحسد وأدعى شيء الى العفاف والترفع عن السفاسف والى عزة النفس والصدع بالحق ومقاومة الشر
وعلى الجملة فهو كنز النفس العظيمة وميزة الصفوة المختارة والخيرة الأبرار .
والزهد ليس كما يزعم بعض الجاهلين قبوعا عن كل جليل وعظيم من الاعمال وليس الزهد كما يخيل للحمقى والمغفلين الذين غرر الشيطان بهم . هو الذلة والمسكنة والفقر والمتربة والضعف والحاجة والكسل اللاصق بالارض القانع بالدون من الحياة .
لكنه زهد تربية وزهد النفس التي تعف فيما تملك وتترفع عن أن تمد عينيها الى ما لا تملك إنه العزة التي لا يذلها مطمع من مطامع الدنيا ولا تغريها شهوة من شهواتها إنه زهد القلب وعفة الروح وطهارة الجوارح إنه التجرد الكامل من رق النفس وأهوائها وشهواتها .(1/34)
لقد كان زهد السلف الصالح رضي الله عنهم وخشونة ملبسهم وجئوبة مطمعهم ، من أبلغ عوامل الرهبة في قلوب أعدائهم وأوكد اسباب خضوع الدنيا لهم .
وعندما خلف من بعدهم خلف خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ورغبوا في العاجل وأعرضوا عن الآجل ، تبددت الرهبة من صدور أعدائهم وتمنعت الدنيا وعزت على عمالهم وتكالبت عليهم الأمم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " فقال قائل أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " . فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن . قال : " حيث الدنيا وكراهية الموت " .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - رمزا ومثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في الزهد والورع وإنكار الذات .
كان زاهدا في الدنيا متقللا منها معرضا عنها ، متحليا بالطاعة ، مستشعر العفاف والكفاف ، مقتصرا من نفقته وملبسه على ما تدعو اليه الحاجة والضرورة .
لقد كان - رحمه الله - متواضعا في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع أن غيره ممن هو دونه كان ينقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش ، كان الشيخ - رحمه الله - متواضعا في مسكنه ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع ان غيره ممن هو دونه كان يتقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش يؤثر خشونة العيش وعدم التوسع في الملذات على الرغم من أنه مد بأسبابها .
والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوي أنه ما سلك سبيلا لازدياد كسب مادي وما أكثر سبل الكسب المادي لو أرادها ومما يؤكد ذلك ويدعمه أنه كان - رحمه الله - محبا للتستر بعيدا عن المظاهر والتصدر يكره الشهرة ويأبى أن تسلط عليه الأضواء ويبتعد عن وسائل الإعلام بعدا لا هوادة فيه .(1/35)
يقول أحد طلابه : لقد جاء الشيخ إلى السعودية على علمه وسجيته لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب وقد علم الله صلاح نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي وهو لم يطلبها فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق .
قلت : ومما لا ينكر من أخلاقه الظاهرة وزهده وورعه ، كراهيته الشديدة للمدح والثناء عليه وتقبيل رأسه ويديه فما كان يرضى من أحد أن يثنى عليه أو يبالغ في مدحه .
وأما عفة الشيخ وتعففه فهو بحر لا ساحل له وقد تكفي الإشارة إن لمة تسعف العبارة وصفوة القول أن الشيخ - رحمه الله - كان شديد التعفف ، غاية في الزهد ، نموذجا للأسوة الحسنة والقدوة الصالحة .
كما كان رحمه الله عف اللسان عفيف النفس طاهر الذيل ، بعيدا عن المحارم ، مجانبا للمآثم .
يبيت مشمرا سهر الليالي ……وصام نهاره لله خيفة
وصان لسانه عن كل إفك ……وما زالت جوارحه عفيفة
يعف عن المحارم والملاهي……ومرضاة الإله له وظيفة
تواضعه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " . والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق ومنشأ التواضع من معرفة الإنسان قدر عظمة ربه ومعرفة قدر نفسه فمن عرف نفسه وتواضع لربه فإنه لا يتمرض على خالقه باقتراف الجرائم والآثام كما أنه يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب ، لا يزهو على مخلوق ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمشي معهم وإجابة دعوتهم ومخاطبتهم بالكلام اللين ولا يأنف من استماع نصيحة من هو دونه . قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) .(1/36)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي لين الجانب ، سهل الخلق ، شديد الزهد في أعراض الدنيا ، يلبس الخشن من الثياب ويرتاح لذلك ويعلله بأنه يناسب بدنه صحيا ولم يكن له ترتيب خاص به في حياته كما هي عدة الأثرياء والوجهاء ، كما أنه ليس له ترتيب خاص به في مجلسه وطعامه ولقائه بالعلماء والعامة وطلبة العلم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس وكان كثير التأمل ، شديد الملاحظة ، يؤثر الصمت ولا يتكلم إلا عند الحاجة ولا يزيد عن المطلوب منه وكان لا يتشدق في الكلام ولا يتكلف ما ليس عنده ولا يزهو على أحد بعلمه ولا يترفع على جلسائه بل يباسطهم ويمتزج بهم ومع هذا فهو بتواضعه متميز بخفض جناحه لطلابه وجلسائه ، متعزر قد زاده التواضع رفعة وخفض الجناح شرفا .
يقول الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع تغلب عليه البساطة في مجلسه ، إذا ارتاح لمحدثه استرسل في ذكر الأحداث والمواقف ونزل معه على قدره صغيراً كان أو كبيراً .
وقال الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : كان الشيخ عبد الرزاق متواضعاً يكرم الصبيان والفتيان ولا يدعوهم إلا بألقاب التكريم ، وقد رأيته يوم أن جاء الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء بلاد الشام لزيارة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله - رأيته في قمة التواضع إذ كان يؤثر الكثيرين في الجلوس في المقاعد المتقدمة مع أنه أحق منهم بهذا التقديم .
صدقه وأمانته :
إ من أعظم مكارم الأخلاق التي أمر الله بها وأمر بها رسوله ( الصدق . قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وقال ( " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة "(1/37)
لقد بلغ الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - من الصدق والأمانة مبلغاً وغاية جعلته موضع التقدير والاحترام والتوقير من طلابه ومحبيه كان لا يتكلم إلا بما يعتقد أنه الحق وكان يؤثر الصمت في بعض الأوقات ولكنه إذا تكلم في أمر من الأمور أقنع محدثه لقوة حجته وصدق لهجته وبعده عن الكلام المبتذل والتلون في الحديث ، وهذه الصفات الحسنة والخلال الحميدة جعلت الشيخ يحتل مكان الصدارة بين أساتذة الكليات والمعاهد العلمية والمؤسسات الدعوية بالمملكة .
ويؤكد هذا أحد طلابه قائلاً : عرفت الشيخ عبد الرزاق أستاذاً ماهراً وبحراً زاخراً بمختلف علوم التفسير والعقيدة والفقه والأصول وغيرها من جوانب العلوم الشرعية واللغة العربية وعرفته كذلك محدثاً واعظاً ومرشداً أميناً جم المعرفة غزير العلم متواضعاً كثير الزهد والتقشف مقبلاً على الله في جميع أقواله وأعماله.
قلت : ومن قرأ فتاوي الشيخ واستمع إلى ردوده على المستفتين يدرك أنه كان - رحمه الله - صادقاً في قوله أميناً في نقله لكلام أهل العلم ومذاهبهم وانه - رحمه الله - كان يلتمس الحق من وجهته ، ويتبعه من مظانه.
حلمه وسعة وصدره :
ـــــــ
من الصفات الحميدة والفضائل الرشيدة ، التي ميز الله بها الإنسان على غيره من بقية المخلوقات فضيلة الحلم .
فالحلم من أشرف الأخلاق وأنبل الصفات واجمل ما يتصف به ذوو العقول الناضجة والأفهام المستنيرة . وهو سبيل كل غاية حميدة ونتيجة حسنة ونهاية سعيدة .(1/38)
ولقد بين رسول الله ( منزلة الحليم وما له من أجر وثواب عظيم عند الله وكفى بمحبة الله له ، وثناء رسول الله ( عليه ودليل ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي ( قال : لأشج عبد القيس " أن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة " رواه البخاري ومسلم وفي سنن أبي داود أن المنذر الأشج قال : يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : " بل الله جبلك عليهما " قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله .
وبلوغ الحليم هذه المنزلة ليس بعجيب ولا غريب ذلك أن الحلم هو سيد الفضائل وأس الآداب ومنبع الخيرات قال الله تعالى )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63)
قال عطاء بن أبي رباح في تفسير قوله تعالى (هوناً) " حلماء علماء "
وقال أكثم بن صيفي : " دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر وخير الأمور العفو "
وقال عطاء بن أبي رباح : " كان يقال ما أضيف شئ إلى شئ مثل حلم إلى علم "
ولقد من الله تعالى على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي فجمع له بين أكرم خصلتين وأعظم خلتين : هما العلم والحلم والعالم العظيم حقاً كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه وعذر الناس من أنفسهم والتمس الأعذار لأغلاطهم .
يقول الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : من الصفات التي تميز بها الشيخ عبد الرزاق سعة صدره ، وبعد نظره وزهده في الدنيا ومتاعها .(1/39)
كان رحمه الله من سعة صدره يتحمل مسيرة جميع أصناف البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وعوائدهم وأخلاقهم وتباين آرائهم لا يمل حديثهم ولا يسام من سماع مشكلاتهم ولا يغضب من كثرة أسئلتهم وفتاواهم ويؤكد هذا فضيلة الشيخ يوسف المطلق فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق يشجع على العلم والدعوة وكان يخصص وقته بين إجابة السائل شخصياً أو تحريرياً وما كان يسأم من السائلين بل كان يبذل جهده حتى يفهم سائله .
وبالجملة فقد كان رحمه الله رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك حليما رفيقا لا يواجه أحدً بما يكرهه وذلك لسعة صدره وغزارة علمه وحيائه رحمه الله .
كرمه ومروءته :
الكرم في اصطلاح العلماء هو التبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل وإكرام السائل مع بذل النائل .
والشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان كريماً كرماً أصيلاً لا يتكلف لأحد وكان يكره المباهاة والمفاخرة يقدم ما تيسر من الطعام ومما كان يعده لنفسه وكان بذلك قادراً على أن يقيم في كل يوم وليمة وكان إذا علم بمجئ عالم أو صديق يعرفه دعاه إلى الطعام وكان طعامه طيب النكهة شهي المذاق كان يفد إلى بيته طلبة العلم والعلماء والدعاة والذين يبغون الشفاعة في أمر من أمورهم فكان بيته ملتقى الضيوف وذوي الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم كان جواداً بالخير جالساً على محجة باررة للضيوف .
وهذه الصورة المشرقة عن كرم الشيخ ومروءته تعتبر بمثابة دعوة مفتوحة إلى التنافس في الخير والتسابق في ميادين الفضيلة والبعد عن الشح والحرص ذلك أن الإسلام دين يقوم على التعاون والبذل والإنفاق ويحذر من الأنانية والإمساك ولذلك رغب ( في أن تكون النفوس بالعطاء سخية والأكف بالخير ندية ووصى أمته بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البر وبذل المعروف وإلى كل خلق نبيل .
وأما مروءته فهي بحر زخار ونهر غمر ولا شك أن المروءة من شواهد الفضل ودلائل الكرم وهي حلية النفوس وزينة الهمم.(1/40)
إن المروءة كلمة يراد بها الشهامة والرجولة ونصرة المظلوم وكف يد الظالم وبذل الإحسان وقرى الضيف وكل هذه المعاني الحسنة والخلال الطيبة كانت من أبرز سمات الشيخ عبد الرزاق بل كانت أس حياته ومفتاح شخصيته وكأن لسان حاله
يقول :
وإني لتطريني الخلال كريمة………طرب الغريب بأوبة وتلاق
وتهزني ذكرى المروءة والندى……بين الشمائل هذه المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمودة………فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا ………علم وذاك مكارم الأخلاق
احترامه لنفسه وحسن معاشرته لغيره :
إن الخلق الحسن والأدب الجم هما المعيار لسلامة النفس من الآفات الظاهرة والباطنة ، ولقد جمع الشيخ عبد الرزاق ولا أزكى على الله أحداً أخلاقاً عالية وأداباً سامية ، إلى جانب كرمه وعفته وزهده ومروءته لا يعرف ذلك عنه إلا من خالطه عن قرب ونهل من علمه واستفاد من تجاربه وفضلاً عن ذلك فإن الشيخ رحمه الله كان ذا هيبة ووقار بريئاً من الكذب بعيداً عن التصنع مستقل الرأي لا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبراً ولا ذليلاً وكان يعرف لنفسه قدرها ولم يكن من شأنه التلاعب بالأقوال والقضايا الجدلية المؤدية إلى العبث بالحقائق بل كان جاداً يكره أن يحوط نفسه بمظاهر العظمة الكاذبة .
ولا شك أن هذه الصفات الحسنة والخلال الكريمة جعلت الشيخ موضع تقدير واحترام وإكبار من أقرانه من العلماء ومن طلابه ومحبيه وعارفي فضله والفضل فضله والفضل يعرفه ذووه.
وفضلاً عن ذلك كله فإن الشيخ -رحمه الله كان غاية في حسن المعاشرة وقدوة في روعة المؤانسة لا يحسد ولا يحقد مجلسه مجلس خير وعلم ومحله محل حياء وحلم يجيب دعوة من دعاه ويعود المرضى ويتجاوز عمن أساء إليه ويدفع بالتي هي أحسن ويدعو أصدقاءه وطلابه بكناهم وأحب أسمائهم إليهم ويميل إلى محادثتهم والتلطف معهم وهو مع ذلك عزيز النفس موفر الكرامة قوى الإرادة زاهداً فيما عند الناس .
ثباته على مبدئه :
ـــــــــ(1/41)
إن الأخلاق إذا تعاورتها الشدائد والأهوال سبكتها وأخرجت منها خلقاً قويماً ثابتاً فالشدائد تظهر ما هو كامن في الإنسان فإما أن تجعل منه خلقاً عظيماً يظل على مر الليالي والأعوام نبراساً يستضاء به وإما أن تقضي عليه فتجعله أثراً بعد عين
ومن أجل ذلك وجب على من يطمحون إلى الظفر وبلوغ المقاصد العظيمة أن يعدوا أنفسهم لركوب متن الأهول واحتمال الشدائد وتوطين أنفسهم على المكاره .
وما أروع ما قاله صفي الدين الحلي :
لا يمتطى امجد من لم يركب الخطرا ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب…قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لابد للشهد من نحل يمنعه……لا يجتن النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤال إلا بعد مؤلمة……ولا تتم المنى إلا لمن صبرا
إن على أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية والأغراض السامية أن يتأسوا برسول الله ( في ثباته وسائر أخلاقه .(1/42)
إن السابر لأغوار الشيخ عبد الرزاق والواقف على سيرته والمتتبع لمراحل حياته يدرك تمام الإدراك أن الشيخ تميز بصفة الثبات على المبدأ فما عرف منه التذبذب في الرأي والتعددية في القول وما عرفت المداهنة والمجاملة طريقاً إليه بل كان يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره وادل دليل على ذلك إن الشيخ رحمه الله كانت له آراء خاصة في بعض المسائل العلمية لا يذكرها إلا للخاصة من أصحابه ولا يسؤه أن يكون هناك من يخالف فيها وإذا ذكرت أمامه الآراء التي تخالفه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه بل يقول : لكل رأيه وكثيراً ما كنت أسمعه يقول لمن يستفتونه ويسألونه في أمور دينهم بعد أن يبين لهم الحكم الشرعي فيما سألوه فيه " ما أعرفه قلته إسألوا غيري ؟ وهذا إن دل فغنما يدل على ثقته بنفسه واعتزازه بدينه وخوفه من ربه لا يخشي في ذات الله لومة لائم وفضلاً عن ذلك فقد كان رحمه الله قوياً صلبا لينا سهلاً في الرجوع إلى الصواب وإلى ما يظهر له انه خلاف الحق الذي ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة .
ابتلاؤه وصبره :
ـــــــــ
الابتلاء سنة من سنن الله الكونية به يتميز الطيب من الخبيث والمؤمن من المنافق.
إن الشدائد والنوازل تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات وتتفتح في القلوب منافذ ما كان ليعلهما المؤمن من نفسه إلا حين يتعرض للابتلاء إن من حكمة الله في الابتلاء أن تستيقظ النفس ويرق القلب بعد طول غفلة فتتوجه الخلائق إلى ربها يتضرعون إليه يرجون رحمته وعفوه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لابد من الابتلاء بما يؤذي الإنسان فلا حرص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه لابد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسؤوه فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً .
قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .(1/43)
لقد ابتلى الشيخ عبد الرزاق رحمه الله بابتلاءات عظيمة في هذه الدنيا ونزلت به كوارث شديدة فلم تضعفه هذه الابتلاءات وتلك الكوارث بل كان صابراً محتسباً ومن هذه الابتلاءات التي ابتلى بها الشيخ في حياته أنه أصيب نصفي وعافاه الله منه وأصيب بعدد من الأمراض فكان نعم العبد الصابر وقتل ولده الأكبر أحمد عاصم فتلقى الخبر صابراً محتسباً ثم توفى أصغر أبنائه عبد الرحمن فكان كذلك غاية في الصبر والرضي بقضاء الله وقدره ثم توفى ابنه عبد الله فجأة فكان أيضاً مثالاً في الصبر والاحتساب .
ومما يدل على صبر الشيخ وتجلده أنه لما جاءه خبر وفاة ابنه أحمد وهو مدير ومحاضر في المعهد العالي للقضاء لم يتوقف عن برنامجه اليومي بل جاء إلى طلابه وألقى المحاضرة عليهم دون تأثر أو تعلثم .
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وضاعف مثوبته.
نظرته إلى المجتمع ونظرة المجتمع إليه :
أما نظرته إلى المجتمع الإسلامي فقد كان الشيخ رحمه الله يعيش عصره ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ويدرك واقع الأمة الإسلامية تمام الإدراك ويعي قضاياها ويعيش أحداثها ساعة بساعة ولحظة بلحظة وكانت معرفته بالرجال المعاصرين من الأعلام وغيرهم معرفة دقيقة وكان حكمه عليهم حكما سديدا ، يعرف أوضاعهم الاجتماعية وعادات بيئاتهم ومدى تأثرهم بذلك كله .
كان قوي العزم في معالي الأمور ، لا يعتريه فتور ولا خور في نصر العقيدة الصافية والمبادئ الإسلامية ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من ذي سلطان لأن القلب الذي أشرب حلاوته الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد لإغوائه سبيلا .(1/44)
أما نظرة المجتمع إليه فقد كانت نظرة تقدير واحترام وإكبار ، ذلك أن الشيخ - رحمه الله - كان محبوبا من المجتمع ومن كل من عرفه وخالطه وتتلمذ على يديه كما كان محل التقدير والإجلال من كل الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم.
كان يتميز - رحمه الله - بطيب المعشر والزهد في الدنيا والبعد عن مباهجها وكان يصدق قوله وفعله وكان غاية في التواضع يقدر الناس ويكرمهم مهما كانت منازلهم وقد حببه ذلك لكل من عرفه أو جالسه أو درس على يديه ونهل من مناهل علمه الغزير .
لقد كان العلماء والعامة وطلبة العلم يقبلون على مجلس الشيخ ويستمعون إلى نصائحه القيمة وتوجيهاته السديدة وآرائه النيرة مع توقيرهم لشخصه وتقديرهم لعلمه ، مع محبة صادقة خالصة يرجى بها وجه الله لعالم بذل علمه ووقته وماله دفاعا عن دينه وذبا عن عقيدته وغيرة على مجتمعه وأمته .
لقد كان - رحمه الله - حريصا على صيانة المجتمع الإسلامي من الانحرافات العقدية وصيانته من الاعتقادات الشركية ، كان مجاهدا في سبيل الله ونشر دعوة التوحيد بقلمه ولسانه .
ومما يؤكد هذا ويدعمه ما كتبه فضيلة الدكتور صالح بن سعود آل على قائلا : لقد خبرت فضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمبادئ هذا الدين ، من تواضح وتقي وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها ، منارة هدى ومصدر إشعاع وموئل عز للإسلام والمسلمين .
***************
***********
الفصل الثاني
حياته العلمية والعملية
المبحث الأول : مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم .
المبحث الثاني : نبوغه المبكر وتقدمه على أقرانه .
المبحث الثالث : شيوخه ومؤهلاته .
المبحث الرابع : تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف .
المبحث الخامس : مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه .
المبحث السادس : تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات .(1/45)
المبحث السابع : علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه .
المبحث الثامن : جهوده الدعوية ودروسه العلمية .
المبحث التاسع : مكتبته وعمل يومه وليلته .
المبحث العاشر : تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء .
المبحث الحادي عشر : فتاواه وبحوثه .
الفصل الثاني
حياته العلمية والعملية
*****
المبحث الأول
مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم
ـــ
مكانته العلمية :
إن العلم حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد وبه تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وهو كل لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وفي السلوك سادة .
ومن هذا يتبين ما للعلم من مزية وفضيلة ومكانة في الحياة العاجلة والآجلة ولهذا سارع في طلبه العقلاء وتنافس فيه المتنافسون وبه تفاوت الكثير من الناس في منازلهم ودرجاتهم حسب تفاوتهم في مداركهم وتحصيلهم وإنتاجهم وبه انتظم أمر الكون ونهضت الأمم وكان لمن برز فيه القدح المعلي والمقام الأسمى وإنما يكون ذلك لمن شدد الله خطاه وبصره بشؤون دينه ودنياه فعلم وعلم وكان مثالا يحتذي في قوله وعمله وسيرته وخلقه .(1/46)
ومن هؤلاء العلماء - ولا نزكي على الله أحداً - فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - فقد كان من العلماء الذين عرفوا بجهودهم ودعوتهم إلى الله وبذلهم أنفسهم أوقاتهم وزهرة شبابهم دفاعاً عن دينهم وذباً عن عقيدتهم وقد اشتغل - يرحمه الله - بالعلم منذ نعومة أظافره حتى صار عالما فحلا وصار العلم شغله الشاغل فلا تراه إلا دارساً متعمقاً محباً للعلم منكبا عليه ، صاحب بصر نافذ ونفس طلعة لا تكاد تشبع محباً للعالم ولا تمل من البحث ولا تروي من المطالعة ، مع التوفر على ذلك وقطع النفس له وصرف الهمة نحوه ، يصيب الإنسان عنده العلم الذي لا يصيبه عند غيره .
وبالجملة فقد ربي الشيخ عبد الرزاق عفيفي تربية عالية فتعلم كثيراً من العلزوم التي كانت رائجة في عصره ومن ثم احتل مكانة بارزة بين أقرانه من رجال العلم وعلماء الدين وحملة الشريعة .
وقد تميز الشيخ - يرحمه الله - عن كثير من علماء عصره بزهده في الدنيا وتقلله من متاعها وحرصه الشديد على نشر العلم وتعليمه والعمل بمقتضاه .
وكان يرى أن من أوجب الواجبات إرشاد المسلمين وإفتاء المستفتين ونصح الطالبين وإظهار العلم للسائلين . وقد أبان عن هذا كله وحرره في كلمته الوافية التي ألقاها عند توليه لرئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر ذاكراً في كلمته وموضحا واجب العالم نحو أمته ودينه فقال :
" لقد كان العالم من سلف هذه الأمة يجد نفسه وقد أنعم الله عليه بنعمة العلم وعهد إليه أن يبلغه للناس مضطراً إلى القيام بهذا العلم فلا يعتريه في نشر الثقافة الدينية والمبادئ الإسلامية فتور ولا خزر ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من سلطان ، لأن القلب الذي أشرب حلاوة الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد إلى إغوائه سبيلا فمهما جاهد الشيطان هذا المخلص فلن يتاح له أن يوهن عزيمته أو أن يمس عقيدته .(1/47)
وإن قلبا قد صبغ بصبغة الله وتشبع بتعاليم الإسلام حتى ملكت سويداءه ليأبى أن يخضع لسلطة ربه واشتد خوفه منه وعلم أنه ملك قهار جبار بيده نواصي العباد وأن ذلك ليخلق منه سيفا مسلطا ونارا متأججة يقذف بها من عاد الله وبارزه بعصيان . لا يخاف في الله لومة لائم .
كان العلماء بذلك قوامين على الدين حفظاً ونشراً وبلاغاً ونصيحة وإرشاداً وكانوا خير قدوة للناس ومثلا عليا في إصابة الحق وتأييده وكشف الباطل وإزهاقه قولا وعملا ، يقصدهم الناس ليكشفوا لهم وجه الصواب بما ورثوه عن نبيهم ( فيجدوا لديهم ما يروي غلتهم ويزيل شبهتهم ويزيد يقينهم وإيمانهم وتعلقهم بشريعة سيد المرسلين ولم يكن يدخل في أمر الفتيا من ليس من أهله فعرف كل قدره ووقف عند حده . . " .
قلت : وقد ثبتت له الإمامة في كثير من الجوانب العلمية فهو إمام في العقيدة ومن المبرزين في هذا الباب وإمام في السنة لشدة تمسكه بها ودفاعه عنها وإمام في الفقه وأصوله لا يشق له غبار وإمام في التفسير وقد ذكر ذلك عنه كثير من تلاميذه وأبانوا عنه في كتاباتهم .
يقول الدكتور صالح بن آل سعود بن علي : كان رحمه الله ذا باع طويل في الشريعة وله القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن . وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والمذاهب والملل والنحل أما في علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
بداية تلقيه للعلم :
تعتبر البداية الحقيقية لطلب الشيخ للعلم عندما وجهه والده إلى كتاب القرية لحفظ كتاب الله تعالى ذلك أن الناشئ من العلماء ينشأ مرتبطا بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .(1/48)
وقد أكب الشيخ - رحمه الله - على حفظ كتاب الله فأحسن تلاوته وحفظ كثيرا منه وقد أوتي سرعة في الحفظ وقوة في الفهم وجودة في الخط كثيرا منه وكل هذا وغيره مكنه من حفظ كتاب الله تعالى والإقبال عليه بكليته على الرغم من صغر سنه وحق للقرآن أن تفنى فيه الأعمار وأن تعمر به الأزمان لقد كان حفظ الشيخ لكتاب الله في سن مبكرة هي الخطوة الأولى للدخول في طلب العلم الشرعي بصورة جادة ومنتظمة ثم واصل الشيخ بعد ذلك دراسته في همة لا تعرف الكلل ونفس طلعة لا تعرف الملل .
وقد أكد هذا الكلام فضيلة الشيخ عبد الحميد بن عبد المطلب الهلالي من أعيان قرية ( شنشور ) في كلمته التي تناول فيها نشأة الشيخ ووضح فيها بداية تلقيه للعلم قائلا : لقد نشأ فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي نشأة طيبة وسط أسرة طيبة الأعراق حسنة السمعة ، درس القرآن الكريم منذ نعومة أظافره على يد كل من والده الشيخ عفيفي عطية النوبي ثم في كتاب القرية حيث كان نابغاً في حفظ كتاب الله تعالى وقد أعفى من الجندية ( الخدمة العسكرية ) حسب النظام المعمول به وقتئذ لحفظه القرآن الكريم كاملا .
قلت : وإلى جانب حفظ الشيخ للقرآن ، كان يحفظ بعض المتون كما هي عادة طلبة العلم الذين كانوا يدرسون في الكتاتيب في هذا الوقت ، فضلا عن ذلك فقد كان يعطي جل وقته - على الرغم من حداثة سنه - لمراجعة محفوظاته ولتعلم قواعد النحو والإملاء والحساب بتوجيه من والده .
********************
المبحث الثاني
نبوغه المبكر وتقدمه على أقرانه
ـــــــ
لقد عرف الشيخ عبد الرزاق عفيفي منذ صغره بالألمعية النادرة والنجابة الظاهرة والذكاء المفرط والنبوغ المبكر حتى بز أقرانه وفاق أترابه وعلى الرغم من حداثة سنه فقد كان صاحب همة عالية ونفس أبية جعلته موضع تقدير ومحل تبجيل من كل من عرف الشيخ وخالطه وزامله .(1/49)
ومن الأدلة على نبوغ الشيخ وشدة ذكائه حفظه المتقن لكتاب الله تعالى في سن مبكرة مما كان سببا في إعفائه من الخدمة العسكرية بمصر ولعل سائلا يسأل : ما سر تفوقه ؟ ومتا سبب نبوغه وتقدمه ؟
والجواب :
إن المتأمل في سيرة المترجم له ، السابر لأغواره يدرك أن وراء ذلك أسبابا عديدة منها :
1- إخلاص النية في طلب العلم ، مع حسن القصد وصدق التوجه إلى الله تعالى .
إن من عمر ظاهرة بالسنة واطنه بالإخلاص تفجرت في صدره ينابيع العلم ولم يكن ينطق إلا بالحكمة وقد أكد ذلك الشوكاني - رحمه الله - بقوله : " إن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً كبيراً في هذا المعنى " .
2- نشأته الصالحة في بيئة ريفية لم يكدر صفوها مظاهر الحضارة الكاذبة ولا بريق المدينة الزائف .
3- عناية ربانية رحيمة ومنن إلهية أمتن الله بها على الشيخ فكان لها أعظم الأثر في تفوقه العلمي ونبوغه المبكر .
4- استعداده الفطري وصفاء ذهنه وحضور بديهته وقوة حافظته وغير ذلك من المواهب التي أنعم الله بها عليه وكان لها أبلغ الأثر في حياته .
5- دقة استحضاره وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه ورعاية والده له وحسن استجابته لتوجيهات ونصائح أساتذته وشيوخه .
6- استثمار وقته في البحث والمطالعة مع توفر همته وتوقد رغبته في مدارسة العلم بمختلف فنونه ومجالسة العلماء والاستفادة منهم .
******************
المبحث الثالث
شيوخه ومؤهلاته
ـــــــ
في تراجم العلماء كثيراً ما تذكر الأسماء العديدة لمشايخ المترجم له وبخاصة الشخصيات العلمية البارزة والكفاءات العالية ذات التأثير القوي وغالبا ما يكون هؤلاء عددا قليلا ومحدودا .
ومن العلماء الذين تتلمذ الشيخ لهم ونهل من علمهم واستفاد من دروسهم .(1/50)
الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية وهما من علماء قريته ( شنشور ) وأما أشهر شيوخه وأكثرهم تأثيرا فيه فمنهم الشيخ احمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشربيني والشيخ يوسف الدجوى والشيخ محمد العتريس والشيخ إبراهيم الجبالي والشيخ مصطفى المراغي وغيرهم .
وأما أقران الشيخ ومعاصروه فهم أمم لا يحصون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر :
الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر والشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر آنذاك والعلامة الشيخ احمد محمد شاكر والشيخ العلامة محمد الخضر حسين والشيخ الإمام حسن مأمون مفتي مصر في زمنه والشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار الأمين العام للمجلس الأعلى للأزهر سابقا والشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر سابقا رحمهم الله جميعا . ومن أقرانه أيضا : فضيلة الدكتور محمد حسن فايد - رحمه الله - والدكتور عبد المنعم النمر والدكتور محمد الطيب النجار - حفظهما الله - وكذلك فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا وفضيلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح مدير دار الحديث ومؤسسها بمكة المكرمة وإمام وخطيب المسجد الحرام وفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد علي عبد الرحيم والشيخ محمد عبد الوهاب بحيري والشيخ محمد خليل هراس والشيخ عبد الله بن يابس والشيخ عبد العزيز بن راشد وفضيلة الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمهم الله جميعا .
- ومن أبرز أقرانه وأشهر معاصريه :
- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق للمملكة العربية السعودية ورئيس الكليات والمعاهد العلمية - رحمه الله .
- وسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء حفظه الله .(1/51)
- ومنهم سماحة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله .
- وسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الأفريقي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية رحمه الله.
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ سعدي ياسين رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري - رحمه الله .
وأمم يصعب حصرهم واستقصاؤهم .
مؤهلاته العلمية :
وأما مؤهلات الشيخ العلمية فهي على النحو التالي :
لقد تحصل الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على عدد وافر من الشهادات والإجازات العلمية وأعلى هذه الشهادات والمؤهلات التي نالها الشيخ حفظه المتقن والمجود لكتاب الله والذي أتاح له فرصة الالتحاق بالأزهر في عصره الذهبي حيث التقى الشيخ في ساحته وبين أروقته وباحته بجبال العلم وشيوخ المعرفة وأفذاذ الطلبة وجهابذة المحدثين .
وقد تخرج الشيخ في الأزهر من أعلى مستوياته فقد تحصل على الشهادتين الابتدائية والثانوية ثم تحصل على شهادة العالمية في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1351 هـ الموافق السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1923 م .
وفي الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1355 هـ الموافق الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1936 م منح شهادة التخصص في الفقه وأصوله وهي التي تعرف اليوم بشهادة ( الدكتوراه ) .
ثم واصل الشيخ تحصيله العلمي حتى أضحى من العلماء الفحول والحفظة العدول .
ومما تجدر الإشارة إليه : أن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لم يكن يعبأ بهذه الشهادات ولم يفاخر بها وما سمعته قط يتحدث عنها ذاكراً أو آثرا .(1/52)
ويؤكد هذا فضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر قائلاً : كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله ممن يزهد في الشهادات الدراسية والتشدق بذكرها وإنما يراها وسيلة لحمل العلم وثقل الأمانة التي يجب أن تؤدي ولم نسمعه يوماً يتحدث عن المؤهل الذي تحصل عليه .
فرحم الله هذا العالم المحقق والحافظ المدقق والمحدث الجهبذ والعالم الجليل والفقيه النبيل .
*******************
المبحث الرابع
تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف
ــــــ
تلاميذه :
من الصعب جدا حصر الطلاب الذين تلقوا العلم على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .
لقد تخرج به أعداد كبيرة من العلماء والدعاة والمحصلين تسلموا مناصب علمية وعملية مرموقة في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها زمن هؤلاء العلماء الذين تخرجوا به - رحمه الله - وأصبحوا أنجما متألقة في سماء العلم والمعرفة :
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح بن محمد لحيدان ، رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن حمد الراشد رئيس ديوان المظالم بالمملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد الله عبد المحسن التركي ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن البسام ، رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الغربية .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز السعيد ، الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن محمد عبد المنعم ، الأمين العام لهيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن عبد العزيز بن محمد الشثري ، المستشار بالديوان الملكي .(1/53)
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن إديان ، عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح الفوزان آل فوزان ، عضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله السبيل ، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن خليل القطان ، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله العجلان ، مدير جامعة الإمام سابقاً وعضو مجلس الشورى .
- صاحب الفضيلة الدكتور : محمد بن لطفي الصباغ ، الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن سليمان بن منيع ، القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن حسن بن قعود من علماء المملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : راشد بن خنين ، المستشار بالديوان الملكي .
- صاحب الفضيلة الدكتور : صالح الأطرم ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية .
وأما تلاميذه بالمعهد العالي للقضاء فمنهم :(1/54)
فضيلة الشيخ : إبراهيم بن محمد\ سلطان وفضيلة الشيخ علي بن حمد التركي وفضيلة الشيخ محمد العسكري وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العريني وفضيلة الشيخ محمد بن حمد الحناكي وفضيلة الشيخ سعيد بن محمد بن رشيد وفضيلة الشيخ محمد بن مرزوق بن معيتق وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عيسى العود وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان وفضيلة الشيخ سالم بن محمد السالم وفضيلة الشيخ صالح بن محمد النجيدي وفضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الأمير وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الهويش وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الراشد وفضيلة الشيخ مسفر البحري وفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود وأمم لا يحصون كثرة قد تخرجوا به في المملكة العربية السعودية ومصر والشام وغيرها من البلاد .
مؤلفاته ورأيه في التأليف :
كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لا يرى التأليف ولا يرغب فيه مع غزارة علمه وسعة إدراكه ووفرة مادته وكان يعلل ذلك بأن الناس عامة وطلبة العلم خاصة بحاجة ماسة إلى القراءة والاطلاع أكثر من حاجتهم للتأليف والتصنيف .
ولعل السبب الحقيقي الذي حمل الشيخ على ترك التأليف مع التمكن من أدواته ، زهده في الشهرة والسمعة والمناصب وتفرغه لتربية الأجيال وبناء النفوس وإعداد العلماء وتهيئتهم بالعلم والعمل وحمل أمانة التبليغ .
وبينما يرى الشيخ أنه لا حاجة للناس في التأليف وأن هذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها وأنه يكتفي بما كتبه وجمعه العلماء السابقون ، حيث أنهم تطرقوا إلى كل فن وأوضحوا ما يحتاج إلى توضيح وأن من جاء بعدهم عيال عليهم .
أقول : بينما يرى ذلك الشيخ ويؤكده في كل مجلس يجلسه ، يرى غيره من العلماء ومن طلبة العلم ، رأياً آخر يخالف رأي الشيخ ، يدعو إلى التوسع في التأليف والتصنيف ويحتج لذلك بقول الشاعر :
قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ……ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثاً ………وسيبقى هذا الحديث قديماً(1/55)
قلت : ومن أجمل ما قرأت في هذا الخصوص ، ما كتبه جمال الدين القاسمي في كتابه القيم ( قواعد التحديث ) ، قال رحمه الله :
اعلم : أن نتائج الأفكار لا تقف عند حدٍ وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ، ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية ، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين فلا تغتر بقول القائل : " ما ترك الأول للآخر ! " بل القول الصحيح الظاهر : " كم ترك الأول للآخر " ، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل ، لجودته ورداءته في ذاته ، لا لقدمه وحدوثه . ويقال : " ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم : ما ترك الأول شيئاً " لأنه يقطع الآمال عن العلم ويحمل على التقاعد عن التعلم فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر وهو خطر عظيم وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريغ الأصول وتشييدها .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : " إني رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب ، أهذب لفظاً وأسهل لغة وأحكم مذهباً وأوضح طريقة من الأول ، لأنه ناقد متعقب والأول بادئ متقدم " .
*****************
المبحث الخامس
مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه
ــــــ
مذهبه وفقهه :
لعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - كان إماماً متفقاً على إمامته وجمعه على جهة التمكن بين علمي الحديث والفقه .
وكان مالكي المذهب وكان يتمثل بقول الشاعر الذي كان يتمثل به مالك رحمه الله:
وخير أمور الدنيا ما كان سنة……وشر الأمور المحدثات البدائع
لكن من المؤكد أن الشيخ - رحمه الله - وهو صاحب العقل الراجح والفكر المستنير لم يكن يتعصب للمذهب المالكي ولا لغيره . بل كان يكره التعصب والهوى ولا ينتصر لغير الدليل .(1/56)
لذا فإنه لم يقف في دراسته الفقهية عند حدود مذهب بعينه بل خرج عن هذا الإطار المحدد إلى الدراسة الواسعة الشاملة كما أننا نجد له في ثنايا فتاواه وكتاباته اختيارات من مختلف المذاهب الإسلامية وأحياناً يخرج عنها إلى اجتهاده ويدعمه بالدليل والبرهان .
وكان يرى رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس من أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو رأي كل حكيم عليم بداء الأمة ودوائها قديماً وحديثاً . ومما يؤكد ويبرهن على مصداقية ما ذكرته ما كتبه أحد معاصريه قائلا : كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - فقهياً مجتهداً وما كان يرضى التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطته بها بل كان يمشي مع الدليل وقد تكونت لديه ملكة فقهية عظيمة .
ويقول فضيلة الشيخ صالح الأطرم : كانت دراسة الشيخ في الفقه على مذهب مالك ويدرسنا المقنع على مذهب احمد بكل يسر وسهولة .
وبالجملة فقد كان - رحمه الله - غاية في معرفة المذاهب وأقوال الفقهاء لا يقلد أحداً وله عادات جميلة في نقل المذاهب وأقوال أهل العلم فإنه لا ينقل قولاً منسوباً إلى أحد الفقهاء إلا وهو على ثقة تامة أنه قوله وكانت له عناية شديدة بالحديث وطرق رواته فلا يذكر باباً من أبواب الفقه أو مسألة من مسائله إلا وهو يذكر باباً من أبواب الفقه الحديث وطرقه ودرجته استدلالاً به على المسألة .
ويمتدح فضيلة الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي فقه الشيخ وتضلعه في هذا العلم فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في علم الفقه سريع الاستحضار للأحكام الشرعية محيطاً بأدلتها ، عالماً بقواعدها وأصولها ، مدركاً لأشباه المسائل ونظائرها ، سديد الرأي ، صائب الاجتهاد يفتي السائل على حسب حالته ومستواه من الجهل والعلم .(1/57)
وتأكيداً لما ذكره العلماء من ثبوت الإمامة للشيخ عبد الرزاق في الفقه وغيره يقول فضيلة الدكتور صالح بن آل سعود على : كان - رحمه الله - ذا باع طويل في علوم الشريعة ، له القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد وأما علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
وبعد هذه الكلمات المضيئة التي أثنى فيها كاتبوها على فقه الشيخ وتضلعه في كثير من العلوم والفنون فإنه يجمل بي أن أوقف القارئ الكريم على مقتطفات من كتابات الشيخ وبحوثه الفقهية وهي كتابات وبحوث تتسم بالأصالة والعمق والشمولية والاستيعاب والإحاطة بالمباحث والمسائل من جميع جوانبها . ومن هذه المباحث الفقهية التي أدلى الشيخ فيها بدلوه " مبحث المعاملات المصرفية ومبحث البورصة " وفي هذين المبحثين يلحظ القارئ أن الشيخ عبد الرزاق كان من العلماء المتكنين في الفقه الإسلامي الواقفين على مستجداته كما يلحظ ميل الشيخ إلى التقعيد الفقهي وعقد المقارنة بين المذاهب الفقهية في المسائل المطروحة للبحث والترجيح بينها وقد تجلى ذلك في مقدمة مبحث " المعاملات المصرفية " فقال :
" المعاملات المصرفية أنواع كثيرة متشعبة الجوانب وبعضها واضح قريب المأخذ لا يحتاج إلى كثير تفكير أو بذل مزيد من الجهد وآخر منها يشوبه الغموض ويداخله الاشتباه فيحتاج إلى دقة في بحثه وبذل جهد في تمحيصه وتشخيصه وتخليصه مما شابه وإلى بعد نظر في عرضه على القواعد الشرعية الإسلامية وتطبيقها عليه مع الاقتصار على الخطوط الرئيسية لهذه الأنواع والمعاملات المهمة التي كثر تداولها وانتشر التعامل بها والتي إذا محصت وعرف حكمها في الشريعة الإسلامية عرف حكم ما تشعب عنها من فروعها الجانبية " .(1/58)
ثم يستعرض الشيخ في هذا عدداً من أنواع المعاملات المصرفية التي قام ببحثها ممهداً لهذه الدراسة الموسعة بتعريف دقيق للربا مع بيان حكمه وعلته فيقول :
الربا بالقصر : الزيادة وهو مصدر ربا الشيء يربو إذا زاد سواء كانت زيادة الشيء في نفسه أم بالنسبة لغيره وفي اصطلاح الفقهاء زيادة أحد عوضين من جنس على الآخر أو تأخير بعضه ، في عقد معاوضة على معادن أو أطعمة مخصوصة بينتها السنة النبوية .
وقد نص القرآن صريحا على تحريمه وتوعد من اقترفه بالمحق وآذنه بالحرب إلا من تاب واكتفى بأخذ رأس ماله فإن الله يتوب عليه .
قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) إلى أن قال : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) إلى أن قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوس ُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم نوعية ربا الفضل وربا النساء وحرم كلاً منهما في كثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " رواه البخاري ومسلم . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء يداً لبيد " رواه احمد ومسلم .(1/59)
وأجمعت الأمة على تحريمه واشتهر ذلك بين المسلمين شهرة تغني عن الاستدلال عليه وصار تحريمه واشتهر ذلك معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفراً ، إلا إذا كان جاهلا بيتوقع من مثله جهله فيعذر ويعلم كحديث عهد بكفر وما وقع بين الفقهاء من اختلاف فيه فإنما هو في التفصيل وتطبيق النصوص على الوقائع والجزئيات .
وصرحت السنة بستة أنواع يجري فيها الربا وهي المذكورة في رواية احمد ومسلم السابقة فلذا لم يختلف فيها الفقهاء وإنما اختلفوا في قياس غيرها عليه بناء على الاختلاف في تعليل حكمها فمن قال أنه غير معلل قصر تحريم الربا عبلى الأصناف الستة السابقة وأقدم من يروي عنه ذلك قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختاره ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسين في مسألة الربا علل اختلفوا في علته فقال عمار وأبو حنيفة : هي الكيل والوزن وهو ظاهر مذهب احمد\ وخصه الشافعي بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً وهو رواية عن احمد . وخصه سعيد بن المسبب بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً وهو قول الشافعي ورواية عن احمد . وخصه مالك بالقوت وما يصلحه ورجحه ابن القيم بما ذكر في كتابه إعلام الموقعين . وهذا الخلاف بينهم في علة الربا في البر والشعير والتمر والملح .
والذي يعنينا هنا بيان علة الربا في الذهب والفضة عند الجمهور القائلين بالتعليل مع الترجيح وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين ما فيها من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين وهذا مذهب احمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة .(1/60)
وقالت طائفة : العلة فيهما الثمنية وهذا قول مالك والشافعي واحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فأنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما فلو كان النحاس والحديد ونحوهما ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتفضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها . وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ، بخلاف التعليل فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره ، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم بها الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس ، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير - مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منه - لصارت متجراً أو جر ذلك إلى ربا النساء فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات . أ هـ .(1/61)
ثم ذكر ابن القيم أن ربا الفضل حرم تحريم الذرائع وأن ربا النساء حرم تحريم المقاصد فكان تحريم ربا الفضل وإن كان من الكبائر أخف من تحريم ربا النساء ولذلك أستثنى منه بيع المصوغ والحلية المباحين بجنسهما من الدراهم والدنانير نقداً مع التفاضل لشدة الحاجة إلى استعمالها ولا يمكن تكليف كل إنسان أن يصنع لنفسه ولا يمكن إهدار الصنعة ببيعها بجنسها من الدراهم والدنانير وزنا بوزن ولا يعقل إبطال هذه الصناعة ومن الحرج تكليفهما المعاوضة مع اختلاف الجنس وبين أن الضرورة الداعية إلى اختلافهما استثناء العرايا ونحوها مما رخص فيه فروع الفقه وأورد اعتراضات منها إنه يلزم على ذلك جواز بيع الفرع بأصله نتفاضلاً كالخبز بالبر .
فألتزم جوازه ومنها أنه يلزم جواز الزيادة في معارضة الرديئة من الفضة بالجيدة منها لتقابل الزيادة الجودة وأجاب عن ذلك بالفرق بأن الجودة هنا طبيعية والصناعة كسبية فأورد عليه الدراهم والدنانير المضروبة مع المكسرة فأجاب بالفرق أيضا فإن السكة لا تتقوم فيها الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها وهي أن تكون معياراً للناس فلا تقابل بالزيادة في العرف وإلا لفسدت المعاملة بخلاف بخلاف المصوغ فإن العرف جرى بتقويم زيادة الصناعة فيه وليس في تقويمها نقض للمصلحة العامة ولا إفساد المعاملة للناس .
وقد يناقش نقد ابن القيم تعليل الربا في النقدين بالوزن بأنه لا إجماع على جواز إسلام الذهب أو الفضة في الحديد والنحاس والرصاص ونحوها من الموزونات فإن من الحنابلة من منع من ذلك وجعلها ربوية بناء على أن العلة الوزن كما في إحدى الروايتين عن أحمد أما على الرواية الأخرى وهي تعليل الربا في النقدين بالثمنية فيجوز إسلامهما في الحديد ونحوه من الموزونات .(1/62)
وقد يناقش أيضا تعليل الربا في النقدين بأنه غير منعكس فإن التفاضل محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد الجنس الواحد من الأجناس الأربعة ، البر والشعير والتمر والملح وإن كانت يداً بيد وكذا النساء محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد بينها وان اختلف الجنس وليس منها ما هو ثمن عرفاً فوجد الحكم ولم توجد علة الثمنية ويمكن أن يجاب بأن الحكم بتحريم الربا واحد بالجنس لا بالشخص فيصح تعليله في كل نوع بعلة فيعلل تحريم الربا في النقدين بالثمنية ويعلل تحريم الربا في الأربعة المذكورة بكونها قوتاً مثلاً وكل منهما علة مطردة منعكسه فيما جعلت علة فيه .
وقد يناقش التعليل بالثمنية أيضاً بأنها قاصرة غير متعدية مستنبطة ، ليست منصوصاً على عليتها ولا مجمعاً عليها فلا يصح التعليل بها لعدم الفائدة . ويجاب أن فائدة التعليل غير منحصرة في التعدية فإن الحكم إذا كان معقول المعنى كان أدعى إلى الانقياد وأسرع إلى القبول وأيضاً يمتنع بتقدير ظهور وصف آخر في محل العلة القاصرة تعدية الحكم به دون ترجيحه على القاصرة إلى فوائد أخرى للتعليل ، فصح التعليل بها .(1/63)
ومما يدل على أنه صاحب ملكة فقهية وأنه مطلع على مستجدات العصر واقف على مشاكله ما كتبه من وجهة نظره - معقبا به على مبحث الأوراق النقدية من اعتبارها إسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا بذاته وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - فقد كتب ما نصه : " فلما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلها مع سن الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلها مع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانا للسلع ومقياسا للقيم ومستودعا عاما للادخار ولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية هو ما استندت إليه من الغطاء ذهبا أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها أو أوراق مالية تجارية . . لما كان الأمر كذلك كانت الأوراق النقدية بدلاً عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بها وكانت تابعة لهما فما كان منها متفرعا عن ذهب فله حكم الذهب وما كان منها متفرعا عن فضله فله حكم الفضة وعلى هذا تجب فيها الزكاة كأصلها ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها ويجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعا عن فضة حسب الأصل جنس وما كان متفرعا عن ذهب في الأصل جنس ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب والفضة مع التفاضل ويعتبر قبض الأوراق النقدية في حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة . . هذا وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل ما دامت خاماتها وسائر إمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة تقوم مقامها في استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول وليس بلازم أيضا أن تسلم مؤسسة النقد ذهبا أو فضة(1/64)
لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامت الأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله فإن لولي الأمر أن يتصرف في غطاء الأوراق النقدية أيا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنمية الثروة والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضة للتبديد والتهريب في أيدي الأفراد .
وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعل وعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء ولا إبطال له ما دام الغطاء الذي هو روح العملة السرية وسر الثقة بها موجودا قائما ممثلا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوة إمكانيتها ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانت الدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية .(1/65)
وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلا تقاس بها موجودات وإمكانيات الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى لا ينافي وجود غطاء لأوراق الدولة النقدية وإن تنوع كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصل بعملتها المعدنية السابقة وقد سئل سعادة محافظ مؤسسة النقد أسئلة منها ما هو في الموضوع ومن اختصاصه كالأسئلة المتعلقة بالغطاء وبالسر في ارتفاع سعر العملة وانخفاضها فسلم وجود الغطاء وإن تنوع وأن من الدول ما لها احتياطي ومنها ما ليس لها احتياطيأو لها احتياطي ضعيف ومنها ما ليس من اختصاصه بل من اختصاص الهيئة كالسؤال : هل الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها فإن الجواب عن هذا السؤال من اختصاص الهيئة بعد سؤالها عن مقدمات اقتصادية يبنى على الجواب عنها حكم الهيئة بأن الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها حالة محلها وهناك أسئلة أخرى لم توجه إلى سعادة محافظ المؤسسة إما لضيق الوقت وقد كان من الممكن أن يستدعى في جلسة أخرى وإما لاكتفاء الأكثرية بالإجابة عن بعض الأسئلة وبالرجوع إلى ما كتب الأعضاء من الأسئلة وجعل عند فضيلة الأمين والمقارنة بينها وبين الأجوبة يتبين ما ذكرت من عدم توجيه كل الأسئلة لسعادة المحافظ . .
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله . . في 16/4/1393 هـ .
وفي مبحث هدي التمتع والقران يوضح فضيلة الشيخ عبد الرازق وجهة نظره فيما يتعلق بتحديد نهاية ذبح هدي التمتع بالقرآن فيقول :(1/66)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وبعد : ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر سنة 1396 هـ . بحث المجلس موضوع ذبح هدي التمتع والقران من جميع نواحيه واتخذ في ذلك قرارا ز وأنا أوافق على جميع ما جاء فيه من الأحكام ما عدا تحديد آخر وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق فأرى أن من أخر ذبح هدي التمتع والقران عن أيام التشريق يجزئه ولا يأثم بذلك لعموم قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) .
بالنسبة لزمن الذبح لم يثبت في الكتاب ولا السنة ما يخص هذا العموم من حيث نهاية وقت الذبح وغاية ما يدل عليه ذبح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في يوم العيد وأيام التشريق أن ذلك سنة لا فرض ولا شرط صحة في الذبح وقد جاء ما يخص هذا العموم بالنسبة لتقديم ذبح هدي - التمتع والقران وهو امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح هديه بعد أن أدى العمرة حتى يبلغ محله ثم ذبح هديه يوم العيد فدل على أنه لا يصح تقديم ذبحه عن يوم العيد وكان هذا من البيان العملي والقولي للمجمفي قوله تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم . . .
هذا وهناك كتابات أخرى ومسائل فقهية تطرق الشيخ إليها ورأيت أنه من الأكمل أن يطلع القارئ عليها إتماما للفائدة وتعميما للنفع ومن هذه المسائل : مسألة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة وقد ذكر الشيخ أقوال العلماء في هذه المسألة فقال :(1/67)
اتفق العلماء على طلب تحية المسجد في الجملة لمن دخل المسجد كما اتفقوا على طلب الإنصات والإصغاء للخطيب يوم الجمعة في الجملة أيضا واختلفوا فيما ينبغي لمن دخل والخطيب يخطب للجمعة : هل الإنصات والإصغاء فلا يصلي التحية ؟ أم يصلي صلاة التحية . فذهب إلى الأول من الأئمة الأربعة مالك وأبو حنيفة وإلى الثاني منهم الشافعي واحمد . وهاك مأخذ الفريقين ومنزع المذهبين وبيان ما يعطيه الحجاج من الحق : احتج الأولون أولاً : بعموم قوله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
قالوا : أمر الله تعالى بالإنصات والاستماع للقرآن : فالخطبة كذلك إذ هي قرآن وفي أداء التحية وقتئذ تشاغل وإعراض عن امتثال الأمر فلا يجوز .
وثانيا : بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " - متفق عليه - قالوا : أعتبر إرشاده لجليسه إلى الخير وأمره بالمعروف لغوا مع قصر زمنه فالتشاغل بالتحية أولى من يكون لغوا فيمنع .
وثالثاً : بما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : " إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " .
والجواب عن الثلاثة جملة أنها مخصوصة بمن دخل فلا يعمه حكمها لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " رواه مسلم واحمد وأبو داود ، فإنه إذا تعارض الخاص والعام قضي بالخاص على العام .
ويخص الأول : أن إطلاق القول بأن الخطبة قرآن دعوى لا دليل عليها . نعم يجوز إن يكون فيها منه آية أو أكثر ومع ذلك فالحكم للغالب .
ويخص الثاني : أن مصلي الركعتين يطلق عليه منصت ونظيره في ذلك : ما رواه أبو هريرة في افتتاح الصلاة أنه قال : يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه ؟ فأطلق السكوت على القول سراً فهنا كذلك .(1/68)
ويخص الثالث : أنه حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك قال أبو زرعة وأبو حاتم إنه منكر الحديث فلا تقوم به حجة .
واستدلوا رابعاً بما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن يسر قال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له : " اجلس فقد آذيت " وفي رواية " وآنيت " .
قالوا : أمره بالجلوس دون التحية فدل على عدم مشروعيتها حينئذ .
والجواب عنه من وجوه الأول : أنه يحتمل أن يكون هذا الرجل قد صلى التحية في مؤخرة المسجد على مرأى منه صلى الله عليه وسلم ثم تقدم ليتمكن من سماع الخطبة فتخطى الرقاب فأنكر عليه .
الثاني : يحتمل أن يكون الرجل دخل في أواخر الخطبة وقد ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التحية قبل الإقامة فلا يطالب بها ويدل على ذلك ما في بعض الروايات : " فقد آذيت وآنيت " أي أبطأت .
الثالث : أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم " اجلسي " النهي عن تخطي الأعناق بدليل قوله " لقد آذيت " وأما التحية فقد وكله صلى الله عليه وسلم إلى ما علمه الرجل قبل ذلك من ضرورة التحية ومع هذه الاحتمالات لا يقوى الحديث المذكور على الاحتجاج به في محل النزاع .
ذلك جملة حجج المانعين . وقد بينا ما فيها من عيوب . واحتج الآخرون أولاً : بقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب . فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وهو قاض على عموم لفظ ما ذكروه من الأدلة ولا مطعن فيها ، قال النووي : لا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه .(1/69)
واحتجوا ثانيا : بما رواه جابر بن عبد الله قال : جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال : " صليت يا فلان " قال : لا ، فقال : " قم فاركع " وفي رواية : " فصل ركعتين " رواه الجماعة وهذا الرجل هو سليك الغطفاني ، وأجاب المانعون بأنها واقعة حال لا عموم لها . ويبدل على اختصاصها بسليك ما روى من حديث أبي سعيد أن الرجل كان في هيئة بذه فقال له : " أصليت ؟ " قال : لا ، قال : " صل ركعتين " وحض على الصدقة .
وأيضا في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " .
ورد بأن الأصل عدم الخصوصية وما ذكروه من قصد الصدقة لا يمنع القصد إلى التحية - أيضا - معها فيكون كل منهما جزء للأمر ولو كان للفت النظر إلى الرجل فحسب لقال : إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه .
وأجابوا عن حديث سليك - أيضا - بأن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى فرغ سليك من صلاته فقد جمع سليك بين التحية والإنصات فلم يبق في حديثه حجة لمن أتاح التحية وقتئذ .
ورد بأن حديث سكوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ سليك ضعيف فإن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس بن مالك قد ضعفه وقال الصواب : إنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا فلا صحة فيه : على أنه لو ثبت لكان مخالفا لقاعدتهم فإن العمل بعد الشرع فيه لا يجوز قطعه عندهم . لاسيما إذا كان
نرى ما يحملنا على ترك الصحيح الثابت . والتحول عنه إلى الضعيف الواهي . اللهم إلا العصبية الممقوتة والتقليد الأعمى .
هدانا الله إلى سواء السبيل .
المسألة الثانية
العيد يوم الجمعة
ـــــــ(1/70)
اختلف العلماء فيما إذا كان العيد يوم الجمعة فقال جماعة : من صلى العيد مع الإمام سقطت عنه الجمعة ولا ظهر عليه أيضاً ذلك اليوم واستدلوا بما رواه النسائي في سنته بسنده عن وهب بن منبه بن كيسان قال " اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ، ثم نزل فصلى ، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما فقال أصاب السنة "
بما رواه أبو داود في سننه بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال : صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال : أصاب السنة .
وبما رواه أبو داود أيضاً عن عطاء قال : اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير رضي الله عنهما فقال : اجتمع عيدان في يوم واحد فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر ، أ- هـ . فترك ابن الزبير صلاة الجمعة ذلك اليوم وهو الإمام إذ ذاك وقول ابن عباس : أصاب السنة ، وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه وعدم خروجه ذلك اليوم عند الزوال لصلاتها أو صلاة الظهر بالناس دليل على سقوطها وسقوط الظهر يومئذ عنه وعمن صلى العيد معه بل دليل على سقوطها عنهم وعن غيرهم ممن لم يصل معه العيد ذلك اليوم .
ثم إن هذه المسألة من مسائل العبادات ، والعبادات مبينة على التوقيف في مثل ذلك فكان عمل ابن الزبير رضي اله عنهما في حكم المرفوع .
لكن قال أبو البركات ابن تيمية في المنتقى عقب ذكر ابن الزبير قلت : وجهة هذا أنه رأى تقدمه الجمعة قبل الزوال فقدمها واجتزأ بها عن العيد ، أ . هـ .(1/71)
ويقال أيضاً : إن إسقاط صلاة الجمعة والظهر عمن صلى العيد خارج عن الأصول التي فرضت على المكلفين خمس صلوات في كل يوم وليلة وعن الأصول التي دلت على إقامة كل من الصلوات في جماعة وهؤلاء قد صلوا الجمعة أو الظهر وحداناً حينما لم يخرج لهم ابن الزبير وكان المشروع لهم على مقتضى دليلهم ألا يصلوها أصلاً اكتفاء بصلاتهم العيد ، أو أن يصلوها بمقتضى دليل مشروعية الجماعة في الفرائض .
وقال أكثر الفقهاء : لا يرخص لمن صلى العيد في ترك الجمعة ذلك اليوم ولا لغيرهم بل يجب على من توفرت فيه شروط وجوبها أن يصليها لأن أدلة وجوبها عامة ولم تفرق بين من صلى العيد ذلك اليوم ومن لم يصله والأصل بقاء ذلك حتى يثبت من أدلة الشرع ما يدل على خلافه .
******************
المسألة الثالثة
الوقوف بعرفة والنزول بمزدلفة
ـــــــ
قال الله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
أفضتم من عرفات - دفعتم مسرعين في السير منها إلى المزدلفة المشعر الحرام - المزدلفة كلها ، سميت بذلك لأنها داخل الحرم .
من حيث أفاض الناس : المراد إبراهيم الخليل أو إمام المسلمين أو العرب ما عدا قريشاً .
ثبت أن قريشاً غيرت العمل في مواقف الحج فمن ذلك أنهم كانوا يقفون بالمزدلفة دون عرفات ويقولون نحن أهل الله في بلده وقطان بيته الحرام وكان سائر العرب وجمهورهم يقفون بعرفات ثم يفيضون منها إلى المزدلفة فلما جاء الإسلام أمر الله جل شأنه حجاج بيته الحرام أن يقفوا بعرفات ثم يدفعوا منها إلى المزدلفة ليذكروا الله فيها عند المشعر الحرام.(1/72)
روى البخاري في صحيحه من طريق عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس وسائر الناس يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله : ( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)(البقرة: من الآية199)وفي ذلك إبطال لما كان من تغيير أهل الجاهلية وتبديلهم للمناسك وقضاء على تلاعبهم بها وافتياتهم على شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبيان من الله لعباده أن العبادات توفيقية وأن الاعتماد في أصل العمل بها وفي صفتها على الوحي من الله لا على آراء الناس وما تهواه نفوسهم قال ( : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
وفي هاتين الآيتين إثبات لأصل الوقوف بعرفة والنزول بالمزدلفة والكر بها وبيان لترتيب الوقوف بهما لكن فيهما إجمال بالنسبة لزمن كل منهما وتقديره وما يتعبد به الحجاج فيهما وبيان صفته وهذا هو الشان في القرآن ينزل الله فيه أصول الأحكام كقوله ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .
وقوله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ) .
وقوله ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .
وقوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) .
وقوله :( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) .
وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بالبلاغ والبيان قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(1/73)
فبين رسول الله ( بقوله وعمله زمنهما وما يفعل فيهما من نسك وعبادة وشرح المناسك في خطبته في حجة الوداع وقال لأصحابه : " خذوا عني مناسككم " وذلك أنه ( مكث بممنى بعد أن صلى بها فجر اليوم التاسع حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله (حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمر فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : " إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوعي " وذكر نصائح ووصايا كثيرة ثم أذن المؤذن ثم أقام فصلى الظهر بينهما جمع تقديم ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب ( حتى أتى الموقف لا إلى جانب الجبل المعروف اليوم بجبل الرحمة ولم يصعد عليه وقال : " وقفت هنا عرفة كلها موقف " ثم استقبل القبلة وأخذ يذكر الله تلبية وتسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً ولم يزل على حتى غربت الشمس ولم يصل بها المغرب بل أفاض إلى المزدلفة وأخذ بزمام راحلته فإذا وجد متسعاً في الطريق أسرع وإلا كفها عن السرعة رحمة بالمسلمين وكان يشير بيده اليمنى قائلاً :" أيها الناس السكينة السكينة " ونزل بالطريق فتوضأ وضوءاً خفيفاً وقيل له : الصلاة يا رسول الله فقال : " الصلاة أمامك " واستمر في سيرة حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل منهما نافلة ثم اضطجع وجمع بينها بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل منهما وقصر العشاء وجمع بينها وبين المغرب جمع بينها وبين المغرب جمع تأخير ولم يصل بينهما نافلة ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر في أول الوقت بأذان وإقامة ثم ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن(1/74)
تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فأسرع حتى جاوزه ثم تابع السير حتى أتى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات بعد طلوع الشمس يكبر مع كل حصاة .
هذا بيان من رسول الله ( قولا وعملاً لما ينبغي أن يكون عليه الحجاج في عرفات وفي الإفاضة منها ثم في المزدلفة وفي الإفاضة منها إلى منى وقد اتفق الفقهاء على أن الوقوف بعرفة ركن من أركانه ولا يصح حج من تركه عمداً أو نسياناً واختلفوا في أقل ما يجزئ من الوقوف بها .
فذهب الجمهور إلى انه يجزئ الوقوف بها ساعة ما بين ليل أو نهار بعد الزوال من يوم عرفة وذهب طائفة إلى أنه يجزئ الوقوف بها ساعة من نهار عرفة أو ليلة النحر ، وهو الظاهر - لحديث عروة بن مضرس الطائي قال : قلت : يا رسول الله أتيتك من جبلي طئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي واله ما بقى من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله ( : " من صلى الغداة ههنا ، ثم أقام معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه "(1/75)
ورأت طائفة أنه لا يجزئ إلا وقوف جزء من ليلة النحر واتفقوا على أن من بات بالمزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح مع الإمام إلى الإسفار بعد الوقوف بعرفة فحجه تام واختلفوا في المبيت والوقوف بعد الفجر بعد صلاة الصبح : هل هو من سنن الحج أو واجباته أو فرائضه ؟ ومهما يكن من الخلاف بين الفقهاء فيما يتعلق بعرفة ومزدلفة فأنه ينبغي للحاج وقد أتعب نفسه وبذل ماله وترك وطنه وأهله وعمله للحج أن يؤدي نسكه على الصفة التي كانت من النبي ( في حجه تحقيقاً لمعنى الاقتداء به وعملاً بقوله : " خذوا عني مناسككم " . واحتياطاً لصحة هذه العبادة التي هي ركن من أركان الإسلام فليجمع في الوقوف بعرفة بين جزء من ليلة النحر وجزء من نهار عرفة بعد الزوال وليبت بمزدلفة وليصل بها المغرب والعشاء والصبح إلا إذا كان من جنس الضعفة الذين رخص لهم الرسول ( في الإفاضة منها إلى منى بعد منتصف الليل ولا ينبغي أن يتساهل في عبادته ويتتبع الرخص فيها وخاصة نسك الحج فعنه قد لا يتيسر له إلا مرة واحدة في العمر ولا يليق أن يرجع بحج مشوه قد انتقص من أطرافه بترك سننه أو واجباته طلباً للراحة بتباع السهل من أقوال العلماء دون نظر إلى الأدلة الشرعية بل عليه أن يحرص على الكمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ليكون حجه مبروراً فيغفر الله له ويرجع من حجه كيوم ولدته أمه.
تضلعه في أصول الفقه :
إن من المسلم به أن علم أصول الفقه من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله تعالى في كتابه وسنة رسوله ( فهو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتسديد والتأييد .(1/76)
إن المطلع على ما كتبه الشيخ رحمه الله من تعليقات نفسية وقيمة على كتاب " الموافقات " للشاطبي " والمستصفى " للغزالي " والإحكام في أصول الحكام " للآمدي يدرك غزارة علمه وعمق إدراكه ونفاذ بصيرته وصحة قريحته يجيب على الإشكالات وينقد الاستدلالات التي يرى أن غيرها أقوى منها بعبارة واضحة ومأخذ سليم .
إن ما كتبه الشيخ في هذا العلم ( علم أصول الفقه ) متقن الأسلوب محكم البناء ، واضح القصد راسخ القواعد .
وهذا يدل على أن المترجم له أصولي متجر في هذا العلم واقف على دقائقه مطلع على كتبه مستحضر لما فيها فإذا سألته عن كتاب من كتب الأصول ذكر لك خصائصه ومزاياه وطريقته والمآخذ التي تؤخذ عليه .
وبالجملة فقد كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله إماماً شهيراً وعلامة كبيراً ونظاراً متضلعاً في كثير من العلوم وبخاصة علمي الفقه وأصوله مع الإحاطة بكثير من أسرارها ومعرفة محاسنها وغوامضها وتحرير عويصها وحل مشكلاتها وساعده في ذلك أن له باعاً في المنطق والعقليات وسائر العلوم .
لقد تميز الشيخ رحمه الله بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والترجيح السديد .
يقول أحد تلامذته : لقد عرفت في فضيلة شيخنا الدقة العلمية والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطروحة متميزاً رحمه الله بدقة فهمه واستيعابه للأصول والقواعد التي تصدر عنها الأحكام وسرعة استحضاره لكلام أهل العلم.
ويقول آخر : لقد كان الشيخ رحمه الله يقوم كل بحث او رأى على ضوء الأسس والأصول الصحيحة التي التزمها السلف الصالح والأئمة الكبار حينما واجهوا الفلسفات المادية والاختلافات في الأصول والفروع .
إن من المؤكد بعد عرض هذه الأقوال أن الشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان بمثابة مدرسة فريدة في التأصيل والتعقيد والتدقيق والتحقيق كما كان مدرسة في الأخلاق والتربية وفقه النفس ونشر الفضائل .(1/77)
وفي الصفحات التالية مقتطفات من كتاباته المتخصصة في هذا العلم الثر ( علم أصول الفقه ) وضح فيها فوائد هذا العلم وأهميته وشدة الحاجة إليه والسبب الباعث على التأليف فيه ، وكل هذا قد انتظمته مقدمته الرائعة والموفقة لكتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وفي هذه المقدمة يدرك القارئ جودة التصنيف وسلامة العبارة وجزالة اللفظ وحسن الترتيب ويدرك أيضاً أنه يقرأ لشخصية علمية متميزة الأسلوب متعددة المواهب واسعة الاطلاع كما سوف يتضح للقارئ جليا وهو يقرأ هذه المقتطفات وما يتلوها من تعليقات نفيسة على كتاب الآمدي انه يقرأ لعالم منصف وفقيه متقن يعي ما يكتب ويدرك ما يقول .
لقد أبان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله في مقدمة كتاب " الإحكام " عن أهمية علم أصول الفقه لحملة الشريعة ورواد المعرفة ولمس ما في بعض كتب الأصول من مباحث جدلية ، وآراء شاذة ، وتخرصات أهل الكلام وسفستطهم ولذا فقد رغب في أن يقرر كتاباً متميزاً الأسلوب سهل العبارة جامعاً لما تناثر من مباحث هذا العلم ليكون مرجعاً وافياً لطلبة المعهد العالي للقضاء وبعد تأمل لعدد من كتب أصول الفقه ومصنفاته وقع اختيار الشيخ على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وهو كما يقول الشيخ عبد الرزاق - كتاب عالي الأسلوب واضح العبارة بسط مؤلفه القول فيه وأرخى لقلمه العنان في بيان معانيه .(1/78)
وقد رغب طلبة المعهد العالي للقضاء أن يكتب لهم عميد معهدهم وشيخهم الشيخ عبد الرزاق كلمات على هذا الكتاب تبين مجمله وتوضح مشكله وتحل عويصة فاستجاب لطلبهم وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب " الإحكام " قائلاً : هذا ولما عزم الأخ الكريم الشيخ على بن حمد الصالحي على طبع كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " لكونه من مراجع الدراسة في المعهد العالي للقضاء ولنفاد ما طبع منه قبل ذلك وقد سألني طلاب المعهد أن أكتب عليه كلمات فاستجبت لطلبهم تحقيقاً لرغباتهم وأداء بعض الواجب على ولم أحاول أن اقف من الكتاب وقف الشارح فالكتاب واضح العبارة عالي الأسلوب وهو غني بوضوحه عن الشارح بل من أراد ذلك منه احتقر عبارة نفسه إلى جانب عبارة الآمدي .
وبعد أن وضح الشيخ أهمية هذا الكتاب وما يمثله من قيمة علمية عالية شرع في بيان أهمية علم أصول الفقه وفائدته فقال :
أصول الفقه من العلوم التي عم نفعها وعظمت فائدتها فقد استطاع به المجتهدون فطرة واستعداداً أو دراسة واكتساباً أن يستثمروا نصوص الشريعة وأن يستنبطوا بها الأحكام من أدلتها التفصيلية على أكمل وجه وأتقنه وأوضح طريق وأبينه ووقف من عني بدراسته من العلماء المقلدين على مآخذ الأئمة المجتهدين ومداركهم وعرفوا طريقهم في اجتهادهم ومذاهبهم في استنباطهم فطبقوا قواعدهم على ما جد من أقضية واستخرجوا على أصولهم أحكاماً في كثير من المسائل نسبوها إليهم تخريجاً حيث لم يثبت عنهم فيها حكم نصاً .
وقد يبلغ من يعني بعلم الأصول ويأخذ نفسه بدراسة قواعده استدلالاً عليها وتطبيقاً لها على نهج من تقدمه من الأئمة أن يكون مجتهداً مطلقاً يعتمد في بحثه على أصول الشريعة ويرجع إلى أدلتها ويستنبط منها الأحكام وربما كان هذا أيسر له وأعم نفعاً وأسلم عاقبة من اجتهاده في المسائل على مقتضى أصول إمام معين واستخراج الفروع على أصوله.(1/79)
ثم يذكر الشيخ عقب ذلك أن عصر الصحابة والتابعين لم يكن بحاجة إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام ثم يوضح أسباب ذلك قائلاً :
وقد كانت العربية سليقة للصحابة رضي الله عنهم وبلغتهم نزل القرآن وبها بينه النبي ( فكانوا يعرفون مقصد الكلام ومغزاه من لحن القول وفحواه وقد شهدوا عهد الوحي والتنزيل ولزموا النبي ( في سفره وإقامته وكانوا مع ذلك على جانب عظيم من الفطنة والذكاء وسلامة الذوق ونور البصيرة والحرص على التشريع علماً وعملاً فوفقوا على أسرار الشريعة ومقاصدها ولم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى دراسة قواعد يستعينون بها في استثمار نصوص الشريعة ولا ضرورة تلجئهم إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام من الأدلة .
وقد سار التباعون على مدرجتهم وسلكوا سبيلهم فاستغنوا غناهم لقرب العهد بالوحي وقوة الصلة بالصحابة وكثرة الأخذ عنهم والمخالطة لهم وغلبة السلامة على اللغة العربية من الكلمات الداخلية .
ثم يتحدث الشيخ بعد ذلك عن عناية العلماء بتدوين أصول الفقه وأول من عني بالتدوين فيقول :
وكان أول من عني بتدوين أصول القه فيما اشتهر بين العلماء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فأملي كتابه المعروف بـ " الرسالة " وكتبه عنه الربيع بن سليمان المرادي . وقد جمع في إملاء الرسالة بين أمرين إجمالاً :
الأول : تحرير القواعد الأصولية وإقامة الأدلة عليها من الكتاب والسنة وإيضاح منهجه في الاستدلال وتأييده بالشواهد من اللغة العربية .
الثاني : الإكثار من الأمثلة لزيادة الإيضاح والتطبيق لكثير من الأدلة على قضيا في أصول الشريعة وفروعها مع نقاش للمخالفين تزيده جزالة العبارة قوة وتكسبه جمالاً فكان كتابه قاعدة محكمة بني عليها من جاء بعده ومنهجه فيه طريقاً واضحاً سلكه من ألف هذا العلم وتوسع فيه .(1/80)
وقد تبعه في الأمرين أبو محمد على بن حزم في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " بل كان أكثر منه سرداً للأدلة النقلية مع نقدها وإيراد للفروع الفقهية مع ذكر مذاهب العلماء فيها وما احتجوا به عليها ثم يوسع ذلك نقداً ونقاشاً ويرجح ما يراه صواباً غير أن أبا محمد وإن كان غير مدافع في سعة علمه وإطلاعه على النصوص وتمييز صحيحها من سقيمها والمعرفة بمذاهب العلماء وأدلتها وإيراد ذلك في أسلوب رائع وعبارات سهلة واعية لم يبلغ مبلغ الشافعي ، فقد كان الشافعي أخبر منه بالنقل وأعرف بطرقه وأقدر على نقده وأعدل في حكمه وأدرى بمعاني النصوص ومغزاها وأرعى لمقاصد الشريعة وأسرارها وبناء الأحكام عليها مع جزالة في العبارة تذكر بالعربية في عهدها الأول ومع حسن أدب في النقد وعفة لسان في نقاش الخصوم والرد على المخالفين .
ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين تقعيداً واستدلالاً وتطبيقاً وإيضاحاً بكثرة الأمثلة وتركوا الخيال وكثرة الجدل والفروض وطرحوا العصبية في النقاش والحجاج ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب وإلا ما تدعوا إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح كما فعل ابن حزم لسهل هذا العلم على طالبيه ولا تنهي بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب .
ثم يواصل الشيخ حديثه عن مناهج العلماء في تدوين أصول الفقه بعد أن وضح منهج المتقدمين من السلف في تدوينه ومن هذه المناهج التي تحدث عنها الشيخ في هذا الخصوص منهج المتكلمين والأحناف ومن جاء بعدهم ثم وضح أوجه التباين بين طريقة المتكلمين وطريقة الأحناف في التدوين ثم بين الشيخ المنهج الأمثل في التدوين قائلاً :(1/81)
ولو سلك هؤلاء طريق الاستقراء فأكثروا المسائل الفقهية من أبوب شتى على أن يجمعها وحدة أصولية ، كما فعل ذلك الشاطبي أحياناً في كتاب الموافقات وقصدوا بذلك الشرح والإيضاح والإرشاد إلى ما بينها من معنى جامع يقتضي اشتراكها في الحكم دون تقيد بمذهب معين ليخلصوا إلى القاعدة الأصولية ، وأتبعوا ذلك ما يؤيد الاستقراء من أدلة العقل والنقل لكان طريقاً طبيعياً تألفه الفطر السليمة وتعتمده عقول الباحثين المنصفين ولأكسبوا من قرأ في كتبهم استقلالاً في الحكم وفتحوا أمامهم باب البحث والتنقيب ويسروا لهم تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من القضايا في مختلف العصور .
وخير لمن يريد فهم علم الأصول على وجهه ويرسخ فيه أن يرجع في قراءته إلى كتب الأوائل فإنها أقعد وعبارتها ادق وأوضح وتحريرهم لمحل النزاع وحكايتهم للخلاف أوفق لأنهم بذلك أعرف ونقاشهم للأدلة جار على أصول النقد وقواعد الجدل والمناظرة عند العلماء .
ويختتم الشيخ عبد الرزاق مقدمته الوافية لكتاب " الإحكام " بترجمة لمؤلفه سيف الدين الآمدي ، ومما يدل على إنصاف الشيخ وتجرد ونزاهة قلمه عند الحكم على الرجال أنه عندما أراد أن يترجم للآمدي نقل ترجمته من عدة كتب بعضها تحمل على الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال" للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال " للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتبرئه مما رمي به وتنصفه من خصومه ومن هذه الكتب " وفيات الأعيان " لابن خلكان و " البداية والنهاية " لابن كثير الذي ذكر أن الآمدي كان كثير البكاء رقيق القلب وأن غالب ما رمي به لا دليل عليه .(1/82)
ثم ينصف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - الآمدي من خصومه قائلاً : عن الآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغل فيها وتشبعت بها روحه حتى ظهر أثر ذلك في تأليفه ومن قرأ كتبه وخاصة ما ألفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبين له ما ذكرت كما يتبين له منها انه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات في تفصيل المسائل والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة .
فمن كره من الولاة والعلماء منطق اليونان والخوض في سائر علوم الفلسفة وخاصة ما يتعلق منها بالآلهيات وكره كثرة الجدل والاسترسال في الخيال والإكثار من تأويل النصوص وذكر الاحتمالات خشية ما تفضي إليه من الحيرة والمتاهات مع قلة الجدوى منها تارة وعدم الفائدة أحياناً كالأشرف والذهبي كره الآمدي ديناً . وأنكر عليه ما رآه منكراً وقد يجد في كتبه ومسلكه في تأليفها ما يؤيد رأيه فيه ويدعو إلى النيل منه .
ومن لم يكره ذلك ولكنه ضاق ذرعاً بالآمدي لعجزه عن أن يصل إلى ما وصل إليه من التبحر في العلوم وقوة عارضته وحضور بديهته في الجدل والمناظرة وحسن أسلوبه وبارع بيانه في التدريس وصناعة التأليف حسده حيث لم يؤت مثل ما أوتي في نظره كما ذكره ابن خلكان عن بعض العلماء في سبب خروجه من مصر مستخفياً .
ومن لم ير بأساً بدراسة المنطق وسائر علوم الفلسفة وألف التأويل للنصوص وكثرة الرفوض والاحتمالات دراسة ومناظرة وتأليفاً رفع من شأن الآمدي وعني بالذب عنه وانهال بالملامة على من حط من قدره أو اتهمه في دينه او طعن في تأليفه كابن السبكي حيث عاب الذهبي في انتفاضة للآمدي .
ثم يختم الشيخ ترجمته للآمدي بكلمات تكتب بماء الذهب لنفاستها بل هي في الحقيقة تعتبر منهجاً تربوياً لقاصد الحق وصادق الهدف وفي هذه الخاتمة يقول الشيخ :(1/83)
وقصارى القول أن العلماء لهم منازع شتى ومشارب متباينة فمن اتفقت نزعاتهم تحابوا وتناصروا وأثنى بعضهم على بعض خيراً ومن اختلفت أفكارهم ووجهات نظرهم تناحروا وتراموا بالنبال إلا من رحم الله .
وأسعدهم بالحق من كانت نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله (ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراء نصوصها فكلما كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقاً وأهدى سبيلاً والمعصوم من عصمه الله وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ( وكل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون وما الآمدي إلا عالم من علماء البشر يخطئ ويصيب فلننتفع بالصواب من قوله ولنرد عليه خطأه ولنستغفر الله له وليكن شاننا معه كشأننا مع غيره من علماء المسلمين وليكن شعارنا مع الجميع :
( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) .
نماذج من تعليقات الشيخ عبد الرزاق على كتاب
" الإحكام " للآمدي :
لقد علق الشيخ على كتاب الآمدي تعليقات نفيسة وهي وإن كانت قليلة المبنى إلا أنها قوية المعنى وهي تدل بلا شك على سعة علم الشيخ وتبحره في علم أمصول الفقه وغيره من العلوم كما أن هذه التعليقات تحمل ضمناً نقداً قوياً لأبي الحسن الآمدي وقد يكون النقد لاذعاً أحياناً إلا أنه يخرج به عن الإنصاف ولا يتجاوز به حد الأدب في المناقشة .
ومن هذه التعليقات تعليقه على قول الآمدي : " وكهف الراغبين " واصفاً بذلك الله تعالى فعلق الشيخ على هذه العبارة قائلاً :
لو قال : غوث اللاجئين لكان أرعى للأدب مع الله وأبعد عن وحشة العبارة فيما ينسب إليه سبحانه.(1/84)
قلت : وهذا يدل على عناية الشيخ بالألفاظ وعلى أنه صاحب منهج سلفي ، يتجلى هذا المنهج الحق في كثير من تعليقات الشيخ وتعقباته للآمدي . ومن هذا تعليقه على قول الآمدي : " وهو أي علم الله - ينقسم إلى قديم لا أول لوجوده " فعلق الشيخ على مقولة الآمدي قائلاً : وصف الله أو غيره من صفاته بالقدم لم يرد في نصوص الشرع وهو يوهم نقصاً وفي موضع آخر يعلق على قول الآمدي " لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته " فيعلق الشيخ قائلاً : أسماء الله وصفاته توفيقية ولم يرد في كتابه سبحانه ولا في سنة رسوله ( تسميته بالقديم ولا إضافة القدم إليه أو إلى صفة من صفاته سبحانه فيجب ألا يسمى سبحانه بذلك وألا يضاف إليه وخاصة أن القدم يطلق على ما يذم كالبلي وطول الزمن وامتداده في الماضي وإن كان لمن اتصف به ابتداء في الوجود
وفي تعليق آخر يدمغ به الشيخ منهج الاستدلال العقلي للمتكلمين ويوضح فيه خطأ نسبة الجهة إلى الله نفياً أو إثباتاً حيث ذكر الآمدي " أن العقل يثبت رؤية الله تعالى لا في جهة " فعلق الشيخ على قوله " لا في جهة " قائلاً :
لم يرد في النصوص نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً ثم هي كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً فإن اثباتها لله يحتمل أن يراد به انه تعالى فوق عباده مستو على عرشه وهذا حق ويحتمل أن يراد به أنه يحيط به شئ من خلقه وهذا باطل ونفيها عن الله يحتمل نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه وهذا باطل ويحتمل تنزيهه عن أن يحيط به شئ من خلقه وهذا حق .
وإذن لا يصح نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً لعدم ورودها ولاحتمالها الحق والباطل .(1/85)
ثم مقابلة العقلي بالشرعي تشعر بأن رؤية الله وتنزيهه عن الشريك ونحوهما إنما ثبت بالدليل العقلي لا بدليل الشرع وهذه طريقة كثير من المتكلمين فإنهم يرون أن ادلة النصوص خطابية لا برهانية لا تكفي لإثبات القضايا العقلية والمسائل الأصولية اللهم إلا عن طريق الخبر كتاباً وسنة بعد الاستقراء وبعد ثبوت أصل الشرع بالعقل وهذا غير صحيح فإن نصوص الشرع كما جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بتقرير الحق في ذلك بأوضح حجة وأقوى برهان لكنها لم تجئ على أسلوب الصناعة المنطقية المتكلفة بل على أسلوب من نزل القرآن بلغتهم بأفصح عبارة وأعلى بيان وأقرب طريق إلى الفهم وأيسره لأخذ الأحكام .
ومن تتبع أدلة القرآن في إثبات التوحيد والرسالة والبعث وغير ذلك من أصول التشريع واستقرأ السنة في ذلك تبين له خطأ أولئك الذين وصموا ربهم وكتابه ونبيه وسنته بما لا يصدر إلا من عدو للمسلمين يريد الكيد لهم في أصول دينهم ومصادر تشريعهم ليردهم بذلك إلى ما يزعمه أصولاً عقلية وغالبها شكوك ومحارات وإن كان فيها شئ من الأدلة الحقة فقد جاء به الشرع فاللهم أغننا بكتابك وسنة نبيك عن مراد الوهم ومزالق الضلال.
وفي تعليق آخر على ما ذكره الآمدي من أن أعلام شعيب وغيره من الأنبياء إنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات فتعقبه الشيخ قائلاً : انظر هذه الدعوى مع قوله تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ) .(1/86)
عطفاً على معمولي الإرسال في قوله في سورة الأعراف ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه) وعطفاً على معمولي الإرسال أيضاً في قوله تعالى في سورة هود : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ) وانظرها أيضاً مع قصة شعيب في سورة الشعراء وفيها ) إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(هود: من الآية25) فإن في ذلك الكفاية في إبطال هذه الدعوى ولو أجاب بأنها لم تنقل اكتفاء بشهادة النبي الصادق والقرآن المعجزة برسالته لكان أبعد له عن المزالق .
ويعلق الشيخ أيضاً على قول الآمدي : وأما نقل باقي معجزات الرسول ( غير القرآن فإنما تولاه الأحاد لنه لم يوجد شئ من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منها بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فغنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : ليس ذلك بصحيح فإن حنين الجذع كان بحضرة جمع عظيم في المسجد ونبع الماء من بن أصابعه ( كان بحضرة الجيش وقد انتفعوا بالماء شرباً وطهارة وتزودوا منه وزالت به شدتهم ومع ذلك نقل آحاداً ومتى سلم أن القمر انشق وانه آية قصد بها إقامة الحجة أو تقويتها استحال في حكمه الله أن يفعل ذلك والناس بين نائم وغافل مدة لمح البصر دون دعوة لرؤيته ولا تنبيه لمشاهدته فلابد ان يكون شاهده كثير ويؤيد ذلك أنه نقل نقلاً مستفيضاً بل متواتر المعنى وإن لم يتواتر لفظاً ومع ذلك قد يقال إن كثيراً من العلماء استغنى بذكره في القرآن عن نقله .(1/87)
وفي موضع آخر من مسألة جواز التعبد بخبر الواحد عقلاص ووجوب العمل به يقول الآمدي : ولقائل أن يقول : وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل نزاع فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : يكفي في رد هذا الاعتراض أنه دعوة يكذبها الواقع فقد أرسل ( الآحاد من أصحابه لإبلاغ الأخبار بل لتحفيظ القرآن ومن استقرا بعث الولاة والدعاة كفاه دليلاً على بطلان تلك الدعوى .
وفي مسألة أخرى يقول الآمدي : إذا ورد خطاب خاص بالنبي ( كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) .
لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافا لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم أنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا يكون متناولاً لغيره بوضعه .
وقد علق الشيخ عبد الرزاق على هذا الكلام قائلاً : قد يقال أن الخطاب وإن لم يتناول بوصفه في أصل اللغة غير المخاطب إلا أنه قد يتناوله عرفاً أو لقرائن أخرى ككونه ( رسولاً فإن ذلك يقتضي أنه ليس مقصودا بالخطاب لذاته بل ليعمل وليبلغ الأمة ما شرع الله عن طريقة ويشهد لذلك قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
ونحوه من النصوص والإجماع وإذا فالأصل العموم إلا أن يدل دليل على الخصوص وذلك فيما يختلف فيه حال أمته وبه يندفع ما ذكر بعد من الاستدلال باختلاف الأحكام لتفاوت أحوال الناس .
المبحث السادس
تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات(1/88)
إن من المقطوع به أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان يتمتع بمزايا فريدة لا كاد تتوافر إلا في القليل من الرجال الذين وهبهم الله ذكاء وفطنة وعلماً وإخلاصاً كان الشيخ - رحمه الله - مضرب الأمثال في تدريسه وفي قدرته الهائلة على إيصال المعلومات .
لقد أوتي عقلاً كبيراً وقدرة فائقة على الإقناع كان عالماً مشرق العبارة حسن الأداء يشد انتباه من يستمع إليه
ويشهد لذلك أحد كبار تلامذته ومعاصريه فيقول :
إنني منذ طفولتي وإلى هذه اللحظة لم ألق عالما مثله في سعة علمه واطلاعه ودقة استحضاره وحفظه وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه وقدرته على إعطاء الحكم الدقيق في المسألة المطروحة ومعاصرته لأحداث زمانه .
كان مفسراً عظيماً وإن أنسى لا أنس دروسه الرائعة في تفسير القرآن التي كان يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في ( دخنه ) في الرياض لقد كان يغوص في المعاني الدقيقة في الآية ويذكر ارتباطها بما في قلبها وما بعدها ويصل بين تلك المعاني وبين حياة الناس ويشير إلى أسرار البلاغة ونواحي إعجاز فيها .
ويقول آخر : لقد تميز الشيخ في دروسه بتأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها وتحرير مواطن الخلاف فيها .
ويقول ثالث : كان رحمه الله ذا باع طويل في علوم الشريعة وله القدح المعلي في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والملل والنحل .
ويؤكد هذا كله أحد تلامذته بقوله : لقد أرسلنا درسنا الشيخ عبد الرزاق في معهد الرياض العلمي وفي كلية الشريعة وفي المعهد العالي للقضاء ، في التفسير والتوحيد وفي الفقه وفي البلاغة وفي النحو والأصول وما درس مادة إلا أبدع فيها . وكان إذا درس مادة أتمها .
لقد كان تدريسه يمتاز بوضوح الكلام وقلته وتكييف المادة بحيث تصل إلى الأذهان من أول وهلة .
ويؤيد هذا ويقويه ما ذكره أحد أبرز تلامذته قائلاً :(1/89)
لقد تشرفت بتلقي العلم عن سماحته في جميع المراحل الدراسية ، في المرحلة الثانوية وفي المعهد العلمي وفي المرحلة الجامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - عندما كانت تعرف بالمعاهد العلمية والكليات وكذا في الدراسة العليا في المعهد العالي للقضاء في الرياض .
فكان - رحمه الله - في المعهد العلمي شيخا جليلا يعطي دروسه لطلاب علم في مستوى الابتدائي ، يحاول أن ينقل العلم إلى نفوسهم وقلوبهم بما يستطيعون فهمه وإدراكه وقد أصاب ، فقد كانت المعلومات في المواد التي ندرسها عليه جزلة ومركزة ومفيدة وقد تلقيناها من سماحته بطريقة منطقية رسخت في نفوسنا وعقولنا وكان - رحمه الله - في الكليات شيخا ذا مقام متميز على زملائه في التدريس وقد رأيناه عالما كبيرا خلاف ما رأيناه في المعهد يعطي دروسا لطلاب علم في مستوى متمكن من الفهم والإدراك .
وفي العهد العالي للقضاء رأينا شيخنا عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عالما متميزا في علمه في الأصول والتفسير والحديث لا يجاريه من زملائه أحد ، لا سيما في القدرة العجبية على جذب أنظار طلابه إليه بما يستنبطه من المسائل العلمية في الاعتقاد والفقه وبما يعطيه من تحليلات علمية في مسائل الخلاف والنظر والاعتبار وكنا معشر الطلاب نتابع التساؤل والاستغراب من قدرة شيخنا - رحمه الله - على التحمل والاستيعاب وهذه موهبة ومكرمة من الله تعالى .
قلت : وقد ذكر لي جم غفير ممن تتلمذوا للشيخ وأخذوا عنه أنه كان جادا في أدائه فلا يترك فرصة للعب وإلى جانب حديثه كان صاحب ملحة مؤدبة وكان ينظر إلى طلابه بمنظار العدل ، فكان يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدرة فائقة يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .(1/90)
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدرة فائقة على التعبير وقوة في العقل ولم يكن يمسك كتابا في يده وكان حفظه من صدره وكان كثيرا ما يعلق على الكتب التي في أيدي طلبته وكان إذا تكلم عقل عنه وكان لا يتردد في كلامه وكان يبدع في شرح العبارات العويصة والمعاني الغامضة ويضع لدرسه بداية ووسطا ونهاية وكان يلتزم بالموضوع محل البحث ولا يخرج عنه ، فإذا انتهى من شرحه وجه الأسئلة إلى طلابه فيما شرح لهم وكان يلزم العربية في جميع دروسه ومجالسه كتابةً ومحادثة - رحمه الله .
المبحث السابع
علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه
ـــــــــ
قال الماوردي - رحمه الله - بعد استشهاده على علو الهمة بقول الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً ……تعبت في مرادها الأجسام
قال : والداعي إلى استسهال المصاعب وتحمل المشاق أمور منه علو الهمة وشرف النفس أما علو الهمة فلأنه باعث على التقدم وداع إلى الهمة وشرف النفس التخصيص ، أنفة من خمول الضعة واستنكاراً لمهانة النقص .
وعلو الهمة : هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور .
إن معالي الأمور وعرة المسالك ، محفوظة بالمكاره والعلم أرفع ما تطمح إليه الهمم وأشرف غاية تتسابق إليها الأمم فلا يخلص إليه الطالب دون أن يقاسي شدائد ويحتمل متاعب ولا يستهين بالشدائد إلا كبير الهمة ماضي العزيمة .
إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة وأقصى غاية ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله :
بلغنا السماء مجدنا وجدونا ………وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ماضي العزم عالي الهمة له نفس تواقة ما بلغت شيئا إلا وتاقت إلى ما هو أعلى منه ، إن شغفه بمعالى الأمور وذرا الفضائل دفعه منذ صباه إلى طلب العلم والنصب في ذلك وكأن لسان حاله يقول :(1/91)
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ……كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد ……يدرك المجد المؤثل أمثالي
لقد كان ( للمترجم له ) القدح العلمي في كثير من العلوم والفنون ولقد اتفقت كلمة العلماء على إمامته وفضله وتضلعه وتقدمه في كثير من المعارف حتى وصفه بعض العلماء بأنه دائرة معارف متحركة .
كان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره وأنه متخصص فيه وحده وقد قصده الطلاب من كل حدب وصوب لينتفعوا من علمه وليصيبوا عنده ما لم يصيبوه عند غيره .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - آية في تقديره لطلابه واحترامه لهم ، اختلف يوماً مع أحد طلابه بالمعهد العالي للقضاء وكان الشيخ مديراً لهذا المعهد ومشرفا على بحث الطالب فقال له الطالب:
إذا كنت ستتمسك برأيك في هذه المسألة عند مناقشة هذه الرسالة ، ثم أعود إلى رأيي خطأ تؤاخذني عليه فسآخذ برأيك بصفة مؤقتة حتى ينتهي أمر مناقشة هذه الرسالة ثم أعود إلى رأيي المخالف لرأيك فما كان من الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إلا أن قال له : يا عبد الله أنا أحترم الرأي العلمي وإن كنت لا أراه ، ما دام منياً على اجتهاد وإني لا أعتقد العصمة في الإصابة لنفسي ولا الخطأ لمخالفي وعليك أن تجتهد في الاستزادة من تبرير رأيك المخالف وسأعتبر تمسكك برأيك منقبة علمية أكافؤك عليها .
لقد كان الشيخ - رحمه الله - لين الجانب ، طلق الوجه ، حسن الملاحظة ، فهو أمام الطلاب والزوار يظهر الفرح والسرور والانبساط في الكلام والإجابة على الأسئلة ، بدون غضب أو ملل أو تبرم أو رد شديد للسائل .
فالطالب في مجلسه يلقى منه كل التقدير والمؤانسة والتبسم بحيث لا يمل جليسه منه كما أنه يكرم من زاره ولا يتكلف في كرمه .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي يتميز بطيب المعشر والزهد في الدنيا وكان يقدر من يفد إليه في منزله وعمله ابتغاء مرضاة الله سبحانه ورغبة فيما عنده .(1/92)
ويذكر أحد ممن جلسوا منه مجلس العلم والتحصيل : أنه كان لا يحب أن يكون تلميذه فاقد الوزن ، لذلك كان همه الأول وشغله الشاغل أن يولد في نفس الطالب ثقة تقيم صلبه وتجلو مداركه وتذلل له وعثاء الطريق وكان يحاور الطالب وعلى شفتيه ابتسامة توحي له أنه حاز الإعجاب ووافق الصواب .
وبعد هذه النقول عن تلامذة الشيخ يتقرر عندنا أن ثمة علاقة قوية كانت تربط الشيخ بطلابه وكل الوارد\ين ورده من قاصدين يتتبعون خطاه ويتحرون دروسه ومن باحثين وعلماء يستهدونه ويلتمسون صواب رأيه فيما يعرض لهم من مشكلات . وكانوا جميعاً عنده محل التقدير والاحترام .
المبحث الثامن
جهوده الدعوية ودروسه العلمية
ـــــــــ
جهوده الدعوية في مصر :
قضى الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - حياته في خدمة العلم والدين ، مجاهداً في سبيل الدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليمه .
لقد أمضى الشطر الأول من حياته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وكان داعية من أبرز دعاة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والأسكندرية ومن المؤسسين لها .
كان داعية متميزا في علمه ودعوته وكان لسعة اطلاعه وقوة حجته وثباته على الحق أبلغ الأثر في نجاح دعوته .
يتحدث عنه أحد زملائه بالأزهر وأحد رفقاء دربه ( يوسف الضبع ) فيقول : " وفي الإسكندرية وضواحيها المترامية بسط نطاق دراسته الدينية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) .(1/93)
فكان الشيخ يلقي فيها عظات ودروساً دينية حسبة لله وابتغاء وجهه وكانت هذه العظات وتلك الدروس إلى جانب جدوله الدراسي في المعهد الديني بالإسكندرية وقد تتلمذ له وآوى إلى حلقاته كثير من شيوخ الإسكندرية وشبابها وأشهد أنه بلغ من الورع والتقوى والكرم والشجاعة وأصالة الرأي ورسوخ القدم ما جعله أشبه بعلماء السلف الصالح ، لقد كانت دروسه اليومية في الإسكندرية وضواحيها بمثابة مدرسة كبرى يجتمع فيها الجم الغفير من الناس على اختلاف مستوياتهم للاستماع والنقاش والحزار مع عالم مبرز وفقيه ثقة ، إذا جادل أقنع ولم تقتصر دروسه ومواعظه على مكان بعينه في الإسكندرية ، بل كان يغشى معظم معظم مساجد هذه المدينة الكبيرة وغيرها من المدن من وقت لآخر لإلقاء دروس في التوحيد والعقيدة الإسلامية التي كان حريصا أشد الحرص على تنقيتها وتصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي والخرافات والخزعبلات وما أكثرها في مجتمعه " .
لقد عرف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من خلال دروسه بسعة علمه وعمق فهمه وصحة معتقده فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا أمينا لهم .
وفي رحلته العلمية وجهوده الدعوية ، كانت له عناية خاصة بتربية تلاميذه على العقيدة السلفية ونبذ البدع والضلالات والأخذ بأيديهم إلى هدي الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة فاحتضن نخبة متميزة من هؤلاء التلاميذ وتعهدها منذ الطفولة واصطحبها معه حتى نمت وشبت عن الطوق ونهجت نهجه . وغدا هو وهم يجوبون القرى والنجوع ويتجولون في الضواحي والأحياء المتعددة لأداء رسالة هي من أعظم الرسالات ألا وهي رسالة الدعوة إلى الله وهداية الناس .(1/94)
وحيث كانت معظم المساجد لا تخلو من البدع ويجهل عامة الناس مسائل العقيدة الصحيحة فقد ركز - غفر الله له - على الجوانب العقدية والعودة إلى منابع أصولها الصافية والتمسك بالسنة الصحيحة وما كان عليه أمر المسلمين في القرون المشهود لهم فيها بالخير وكان إذا تعذر عليه تغيير المنكر سعى في إقامة مسجد خاص يقوم عليه من هداهم الله لدعوته ويتخذون منه منطلقا للدعوة .
ويتحدث فضيلة الشيخ مناع بن خليل قطان منوها بجهود الشيخ الدعوية في محافظة شبين الكوم بمصر قائلا :
1- عين شيخنا مدرسا بالمعهد الديني بشبين الكوم التابع للأزهر سنة 1355 هـ - 1973 م .
2- استأجر بيتا لسكناه ( وهو عزب ) فأسكن معه طلاب ( شنشور - منوفية ) .
3- ثم تزوج وسكن في بيت مستقل ولكنه كان يدعو طلابه بالجامعة ويرعاهم كما يرعى الأب أبناءه .
4- قام بتدريس مادة الحديث المقررة في المرحلة الثانوية " صفوة صحيح البخاري " فكان أستاذا متميزاً بترتيب الموضوع وجودة العرض وحسن التعليق ورجاحة العقل ويسجل النابهون من طلابه إضافاته العلمية على هامش الكتاب المقرر .
5- يهاب الطلاب شخصيته وينصتون لسماع درسه ويحرصون على الأستفادة منه .
6- اتفقت معه الجمعية الشرعية بشبين الكوم برئاسة الشيخ احمد الزيات على أن يلقي درساً أسبوعياً منتظماً في مسجدها ، فكان هذا الدرس مدرسة يجتمع فيه الجم الغفير للاستماع والنقاش والحوار .
7- كان يغشي المساجد الأخرى من وقت لآخر لإلقاء دروس فيها .
8- كان منهجه السلفي سمة بارزة فيه بأسلوب شائق جذاب يدعمه الدليل والحجة ولا يمس أحداً بتجريح مما جعل استجابة الناس عن حب وقناعة .
9- توثقت علاقته بمدير المعهد آنذاك ( الشيخ عبد الجليل عيسى ) فكان موضع شوراه .
10- كان يزن طلابه بميزان دقيق في الجوانب المتعددة ولا يخفي حبه لمن يتوسم فيهم الخير فيعاملهم - وهم بمنزلة أبنائه - معاملة الأخ الأكبر لاخوته الصغار .(1/95)
11- عرف بسعة علمه وعمق فهمه فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا لهم .
12- أضفى عليه تواضعه حلة من زيادة التقدير والاحترام لدى كل من عرفه .
وفضلا عن ذلك كله فقد كان له القدح المعلى في تخليص قريته ( شنشور ) من العادات الجاهلية التي هدمها الإسلام كالنياحة وإقامة السرادقات . . . إلخ
لقد كانت جهوده في هذا الميدان لها أبلغ الأثر في نفوس العامة فضلا عن المتعلمين لما يعلمونه عن الشيخ من علم واسع ورفق في الدعوة وحرص على هداية الناس وقد تحقق ما أراد بإذن الله وتوفيقه ، فهدى الله على يده آلافا من الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
إن حياة الشيخ عبد الرزاق وجهوده الدعوية المباركة جديرة بالتأمل فقد أوقف حياته على نشر العلم والدعوة إلى هذا الدين وإظهار محاسنه والدفاع عن ساحته وترسيخ مبادئه وتعميق التوعية بمعانيه .
والواقع الذي لا يماري فيه أحد من دعاة هذا الدين وإظهار محاسنه وحملته في مصر وغيرها هو إجماعهم على أن فضيلة الشيخ عبد الرزاق قد بلغ من العلم والفضل والفقه في الدين منزلة عظيمة لا يجحدها إلا حاسد أو حاقد وفي هذه الكلمات المشرقة والنصائح القيمة التي يوجهها الشيخ إلى الدعاة أكبر شاهد على ما ذكرت فقد قال - رحمه الله - :
وخير طريق يحتذيه الدعاة في القيام بمهمتهم وأمثل منهاج يسلكونه في استمالة قلوب الناس إلى الخير والإعذار إلى من لم يستجب للحق بعد بيان الحجة وإقامة البرهان هو طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومنهاجهم في دعوتهم إلى الله بقولهم المفضل وسيرتهم الحميدة .
وعقب ذلك يلقي الشيخ الضوء على سيرة رسول الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقول :(1/96)
كان إبراهيم الخليل ( عليه الصلاة والسلام ) مثلا أعلى في صدق اللهجة والإيمان بما يدعو إليه من التوحيد وشرائع الإسلام والتصديق به على وجه اطمأنت به نفسه ورسخ في سويداء قلبه وقد أثنى الله عليه بذلك في محكم كتابه في مطلع الحديث عنه حينما قام يدعو أباه إلى التوحيد فقال :
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) .
فعلى الداعي إلى الحق أن يكون مؤمنا به ، مخلصا لما يدعو إليه صادق اللهجة فيه وإلا انكشف سره وافتضح أمره فإن ثياب الزور تشف عما وراءها وعند ذلك يكون وبالا على الدعوة .
بدأ إبراهيم الخليل بأبيه في الدعوة إلى التوحيد فإنه أقرب الناس إليه وألصقهم به فكان أولى بمعروفه وبره وإحسانه وإلى جانب ذلك يكون ردا له إذا استجاب لدعوته وظهرا له يحميه بدافع أخوة الإيمان وعصبية النسب .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) .
وقد تلطف معه في الدعوة فذكره بما بينهما من الرحم ووشائج النسب استمالة لقلبه وتنبيها له إلى أنه لو كذب الناس جميعا ما طابت نفسه بالكذب عليه وأنه لو غشهم جميعا لم يكن منه إلا النصح له لما بينهما من أواصر القربى والنسب .
وبدأ دعوته لأبيه بالتوحيد الذي هو أصل الدين وجوهر الشرائع السماوية وعليه تقوم فروع الإسلام وبه صلاح القلب وبصلاحه تصلح سائر الجوارح وتستقيم أحوالها .
" ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .(1/97)
وسلك في دعوته إلى التوحيد طريق الاستدلال عليه بأن ما يعبده أبوه وقومه لا يسمعهم إذا دعوه لكشف غمة أو تفريج كربة ولا يراهم إذا عبدوه وتضرعوا إليه ولا يجلب لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضراً وإذا كان لا يرجى نفعه ولا يخشى بأسه فكيف يستحق أن يعبد أوو يتقرب إليه وبذلك أقام عليهم الحجة وقطاع عذرهم .
فيجب على من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يقتفي أثر إبراهيم الخليل في دعوته فيتلطف مع من يدعوهم ويسوسهم حسب ما تقتضيه أحوالهم ويبدأ بأقرب الناس إليه وأولادهم بإرشاد ويقدم الإرشاد إلى عقيدة التوحيد ويركز الحديث فيها ويقيم على ذلك الدليل ليقنعهم بالحجة ويسقط أعذارهم .
ادعى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن الله آتاه من العلم ما لم يؤت أباه ، لا ليفخر بذلك أو يتعالى على أبيه حتى يكون خلقا ذميما ينفر الناس من حوله ويمقتونه من أجله ، بل ادعى ذلك ليلفت النظر إلى وجوب الإصغاء إليه واتباعه فيما جاء به من الحق المبين ليهديهم به إلى الصراط المستقيم .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) .
نهى إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) أباه عن طاعة الشيطان في وسوسته واتباعه فيما يسوله ويزينه إليه من الشرك بالله وسائر المنكرات فإن طاعته له وإسلام قياده إليه عبادة له من دون الله ونبه أباه إلى عصيان الشيطان لربه وتمرده عليه وإذن فليس على هدى في وسوسته ولا يزين للناس إلا ما هو شر وضلال .
قال تعالى في وصفه دعوة الخليل : (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) .
فعلى الداعية إلى الحق أن يكشف الغطاء عن معنى العبادة ويزيدها إيضاحا حماية لعقيدة التوحيد وبيانا لأصولها ويستعمل أسلوب التنفير من عبادة غير الله اقتداء بخليل الرحمن ( عليه الصلاة والسلام ) .(1/98)
أنذر إبراهيم أباه إنذار المتلطف معه المشفق عليه بأنه يخشى عليه مغبة شركه وعاقبة عبادته للشيطان وطاعته له فيعذبه الله على ذلك ولا يجد ممن تولاهم بالعبادة من يدفع عنه بأس الله وعذابه .
قال تعالى في وصف إبراهيم في دعوته : (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) .
فعلى الداعية أن يستعمل أسلوب الإنذار والتخويف من سوء العواقب والتذكير بعذاب الله وأليم عقابه يوم يتبرأ دعاة السوء ممن غرروا بهم ويتمنى المخدوعون بزخرف القول أن لو عادوا إلى الدنيا فيتبرءوا من دعاة السوء كما تبرؤوا منهم يوم القيامة وأني لهم ذلك .
لا تأثير للدعوة إلى الحق وإن كانت صادقة إلا إذا وجدت آذانا صاغية وقلوبا واعية وفطرة سليمة لم تفسها الأهواء ولذا لم يستجب لإبراهيم أبوه بل أنذره لئن لم ينته ليرجمنه وأمره بهجره مليا فصبر إبراهيم على أذاه وقابل سيئته بالحسنة وقال له : (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) .
واعتزلهم وما يدعون من دون الله ، بعدا عن الفتنة إذ لم يستطع القضاء عليها وأملا في أن يجد لدعوته أرضا خصبة فوهب الله له إسحاق ويعقوب وجعل كلا منهما نبيا ، جزاء وفاقا لصدقة في الدعوة وإخلاصه فيها وصبره على الأذى في سبيل نشرها وهجره للشرك وأهله إتقاء للبشر وبعداً عن مواطنه ومظاهره .(1/99)
فعلى الدعاة أن يتذرعوا بالصبر وسعة الصدر وأن يقابلوا السيئة بالحسنة وأن لا ينتقموا لأنفسهم ما استطاعوا إلى العفو سبيلا لكن إذا انتهكت حرمات الشريعة انتصفوا لها وأخذوا على أيدي العابثين وعليهم أن يهجروا الشر وأهله إذا لم يمكنهم إزالته أو تخفيفه ، خشية أن تصيبهم الفتنة أو يعمهم البلاء أو تكون مخالطتهم حجة عليهم أو معرة لهم وذريعة للنيل منهم وعدم الاستماع لنصائحهم وعليهم أن يتحروا المجالس التي يرجى فيها قول الحق وقبوله والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية :
وأما جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية فهي بحر لا ساحل له وهي جديرة بأن يفرد لها دراسات ومؤلفات خاصة به .
قدم العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - غفر الله له ورحمه - إلى المملكة العربية السعودية - بلاد الحرمين الشريفين - سنة 1368 هـ بعد أن قضى شطر عمره في ميادين العلم والدعوة والتربية في مصر .
لقد جاء إلى المملكة العربية السعودية على سجيته ، لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب ، لم يأت إلى المملكة ليكون سلفياً بل كان سلفيا قبل مجيئه إليها وأدل دليل على هذا أن نشر الكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد كان شاغله الشاغل وعمله الدؤوب ومن أوائل هذه الكتب التي قام على تحقيقها ونشرها في مصر : كتاب " العلو " للذهبي .(1/100)
والشيخ عبد الرزاق عفيفي يعتبر من أوائل من جاؤوا للتدريس في هذه المملكة المباركة قبلة العلماء العاملين وملاذ الأئمة المصلحين والدعاة المخلصين جاء الشيخ إلى بلاد استجابة لرغبة كريمة من مؤسس هذه الدولة الغراء الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - فقد وجه أمره الكريم إلى صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ، معتمد المعارف السعودية آنذاك وأحد أبرز رجال التعليم في المملكة العربية السعودية بأن يذهب إلى مصر لترشيح واختيار نخبة ممتازة من العلماء الذين عرفوا بصحة المعتقد وسلامة المنهج وهدفه من ذلك تنفيذ سياسته الصارمة في محاربة الجهل واقتلاع جذوره بعد أن خيم ردها من الزمن على أجزاء من هذه الجزيرة . وفي مصر وقع الأختيار على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ليكون في طليعة من يذهبون إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في النهضة العلمية بها وإزاء تلك الثقة الغالية من الملك عبد العزيز - يرحمه الله - والأمراء من أبنائه آثر الشيخ عبد الرزاق الاستقالة من الأزهر وقدم إلى هذه البلاد مع كوكبة من علماء الأزهر منهم فضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم وفضيلة الشيخ محمد خليل هراس وفضيلة الشيخ الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري وفضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف وفضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي وفضيلة الشيخ عبد المنعم النمر وفضيلة الشيخ يوسف الضبع والشيخ احمد القط والشيخ محمد عبد الدائم وغيرهم وقد امتاز - رحمه الله - عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية بشدة متابعته لكتاب الله وسنة رسوله ( .
ويشيد معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد بجهود فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - فيقول :(1/101)
لقد استمر عطاؤه في الكليات والمعاهد العلمية بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - عليه رحمة الله - ثم في مجال الإفتاء والدعوة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . وقد أفنى عمره في نشر العلم والدعوة إلى الله والدفاع عن دينه .
لقد أدى الشيخ عبد الرزاق عفيفي - غفر الله له ورحمه - على مدار تسعة وأربعين عاماً دوراً مهماً وفعالاً في الحياة العلمية والاجتماعية يمكن إجماله فيما يلي :
1)- جهوده التعليمية والتربوية والدعوية في دار التوحيد بالطائف ( 1368 - 1370 هـ ) .
2)- محاضراته القيمة ودروسه العلمية في معهدي عنيزة العلمي والرياض ( 1370 - 1371 هـ ) .
3)- تأسيسه وتدريسه في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض .
4)- معاصرته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منذ نواتها الأولى واستمرار عطائه لها إلى أن توفاه الله .
5)- جهوده المخلصة وعمله الدؤوب إبان إدارته للمعهد العالي للقضاء ( 1385 - 1390 ) وتخريج أفواج من طلبة العلم والدعاة على يديه .
6)- مشاركته في اللجان العلمية التي كان من ثمرتها إنشاء الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة .
7)- عضويته الفاعلة وجهوده المتواصلة في وضع مناهج ومقررات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية .
8)- تحريره وصياغته لآلاف الفتاوي والبحوث التي تتسم بالعمق والأصال والدقة وذلك خلال عمله نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
9)- دروسه العلمية ومحاضراته وندواته المفيدة في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وفي منزله وفي بعض المعاهد التربوية ودور العلم .(1/102)
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ - رحمه الله - ذا باع طويل في علوم الشريعة وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد أما في علم أصول الفقه فإليه فيه المنتهى وقد شرفت بأن أكون أحد تلاميذه في كلية الشريعة ثم في المعهد العالي للقضاء وخبرته عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمباديء هذا الدين من تواضع وتقى وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها منارة هدى ومصدر إشعاع ومئل عز للإسلام والمسلمين .
ويقول آخر : كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - مسار إعجاب طلبة العلم وكان الطلاب ينقلون أخباره لأهاليهم وذويهم موضحين مواقفه وجهوده في التعليم والتربية وتفوقه في علم الشريعة ودقة فهمه لأحكامها وحسن تنزيله للأحكام على الوقائع في التدريس والفتوى وقوة شخصيته وسداد توجيهه وحسن تربيته وعرفته الساحة في المملكة في كل مجال من مجالاتها في التعليم والتربية والتوجيه والوعظ والإرشاد وفي الفتوى والمجالس العلمية ، ذا علم غزير ورأي متميز وأدب جم ، جمع الله له بين العلم النافع والعمل الصالح والقبول عند الناس والاحترام في المجتمع .
10)- إشرافه على عشرات الرسائل العلمية ( دكتوراه وماجيستير ) ومناقشته للمئات منها فضلا عن مئات البحوث والدراسات المتخصصة التي قومها وأبدى رأيه الصائب فيها ومن هذه الرسائل العلمية التي أشرف عليها :
* رسالة الدكتوراه للشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي وموضوعها ( ابن قدامة وتخريج أحاديث كتاب " الكاف " ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان وموضوعها ( تحقيق ودراسة كتاب التوحيد وإثبات صفات الله عز وجل لابن خزيمة ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ صالح الفوزان وموضوعها ( الأطعمة ما يحل منها وما يحرم ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ سعود بن عبد الله الفنسيان وموضوعها ( اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره ) .(1/103)
* رسالة الدكتوراه للشيخ محمد بن سعيد القحطاني وموضوعها ( اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ) .
وأما رسائل الماجستير والبحوث الشرعية الأخرى فهي لاا تحصى كثرة .
11)- تقويمه للأعمال العلمية والأبحاث التي تتسم بالأصالة والابتكار لكثير من الأساتذة طلبا للترقية إلى درجة العلمية التي يستحقونها .
12)- إلقاؤه للعديد من المحاضرات والندوات والكلمات وعقد مئات المجالس العلمية في المساجد وفي بيته .
هذا غيض من فيض وقليل فيما يتعلق بجهود الشيخ رحمه الله .
والحق يقال : لقد أفنى الشيخ حياته في العلم والتعليم والإفتاء وانتفع بعلمه ودروسه أمم لا يحصون كثرة واعترفوا له بالفضل بعد فضل الله سبحانه وتعالى وافتخروا بالانتماء إلى تعليمه وما تلقونه عليه من خلال دروسه في المعاهد العلمية والمساجد وغيرها .
دروسه العلمية :
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله وغفر له - من أعلا العلماء علما وتقى وزهداً وفصاحة ، مواعظة تصل إلى القلوب وألفاظه ترسخ في الأذهان ، كان منظره وفق مخبره وعلانيته وزن سريرته ، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه ، هذا يأخذ عنه الحديث وهذا يلقن منه التفسير وآخر يتعلم منه اللغة وهو في كل هذا كالبحر العجاج تدفقا وكالسراج تألقاً
كان في دروسه عف اللسان ، لا يعترض لأحد بأذى ولا يسمح لأحد أن يغتاب أحداً في مجلسه وسواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة وفي حلقة الدرس يقرر العلم ويحقق المسائل ويوضح الغامض ويحل المشاكل ويقدم البراهين والأدلة على صحة قوله ولا ينتصر لرأيه وكان ذا هيبة ووقار يفرض احترامه على جالسيه ، كان كثير من طلبة العلم ومحبي المعرفة يحرصون أشد الحرص على مجالسته وحضور دروسه .(1/104)
وكان في مجلسه صاحب روح خفيفة ، قلما يخلو مجلسه من إلقاء نكتة مهذبة تنشط السامع وتسره وتؤدي في نفس الوقت غرضا توجيهيا وكان بعيد النظر ، عميق الفكر ، له جولات نقدية موجزة ، يدركها الماعي من جلسائه . كما كان بعيدا عن التكلف والتشدق فتم له إحكام الضبط وإتقان الأداء فجاء لفظه مشبعا ولسانه ذرباً ومنطقه عذبا .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في أخلاقه محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع ، تغلب عليه البساطة في مجلسه ودروسه . صحبته ما يزيد على اثنين وثلاثين عاماً وما تركت مجلسه في أسبوع إلا أن يكون أحدنا مسافراً ولقد تعلمت في هذه الصحبة أمورا كثيرة منها ما يتعلق بالناحية السلوكية ومنها ما يتعلق بالناحية الشخصية ولقد أكرمه الله بالعقل المسدد والعلم الواسع والرأي الحكيم .
قلت : وكانت له دروس منتظمة في مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في " دخنه " بالرياض وكان يحرص على حضور هذه الدروس أكابر طلبة العلم والعلماء وعنما انتقل الشيخ إلى ( حي الوشام ) كانت له عدة دروس بين المغرب والعشاء بالمسجد المجاور لداره وكان يعرف بمسجد العفيفي ، هذا فضلا عن إمامته للمصلين في هذا المسجد مدة خمسة عشر عاما .
كما كان له رحمه الله درس أيام الملك العالم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - تغمده الله بواسع رحمته - كل يوم أربعاء وكان الملك يحضره معجبا بعلم الشيخ يعقد دروسا مكثفة في بيته يخصص بعضها لطلبة العلم المتميزين في فهمهم وإدراكهم ومن الكتب التي قام بشرحها وتدريسها كتاب " إيضاح المبهم من معاني متن السلم " تأبف احمد الدمنهوري وهو المنطق .
وكتاب " روضة الناظر " لابن طاهر . " العقيدة الحموية " و " الواسطية " و " الرسالة التدمرية " لابن تيمية و " إحكام الأحكام " للآمدي وغيرها .
وقد كان في موسم الحج مقصد الناس من كل مكان يجيب على أسئلتهم ويحل مشكلاتهم .(1/105)
وصفوة القول أن الشيخ - رحمه الله - جمع علما وفضلا وانتفع بعلمه أمم لا يحصون كثرة واجتمع في دروسه ما لم يحدث عند غيره .
ويصف ولد الشيخ عبد الرزاق - وهو الأستاذ محمود - مجلس أبيه فيقول :
كان مجلس الشيخ مهيبا ، لا مجال فيه للهو الحديث ولا الخوض في الأعراض وانتهاك الحرمات وكثرة القيل والقال وانتقاض الناس .
مجلس يغلب فيه التوجيه والإرشاد والنصيحة وحسن المشورة والبحث العلمي فيما يعرض من مسائل والإجابة عما يقدم من استفتاءات فإذا ما أخذوا في الحديث عن الدنيا كان الحديث بريئا كالحديث عن الأمطار والزروع والثمار وأمثال هذه الأمور من الكونيات التي يثير البحث فيها العبرة ويعرف الإنسان نعم ربه عليه .
وقد طبع الشيخ على الخلال الحميدة والأخلاق والصفات الكريمة فكان - رحمه الله - صادق اللهجة عف اللسان حليما واسع الصدر كثير الصمت أمينا على السر ، متهملا في حديثه ، متأنيا في البحث وإبداء الرأي مع بعد نظر ، يجب أن يسمع أكثر مما يقول ، يرى أن ما يفوت بالتأني أخف خطرا وأقل ضررا مما ينجم في الغالب من سوء عاقبة العجلة ووخيم مغبتها .
يسعى في الخير للفرد والجماعة ويجتهد في تحصيل ما يراه محققا للمنفعة دون أن يعلن عن عمله أو يتحدث عن نفسه حديث فخر وإعجاب بما له من محامد ومآثر .
قلت : ومن ثمار هذه المجالس العلمية المباركة ما قام به طلبة الشيخ من تسجيل بعض دروسه ومحاضراته حتى يعم بها النفع وتعظم بها الفائدة وقد قمت بحمد الله وتوفيقه بتفريغ أشرطة هذه الدروس وتلك المحاضرات وقد استغرق ذلك وقتا كبيرا رغبة في نشر العلم النافع إن شاء الله .
وفيما يلي نماذج من هذه الدروس وتلك المحاضرات التي ألقيت في مناسبات مختلفة وفي أماكن متعددة وبعضها في منزل الشيخ وكلها تدور حول بيان بعض مقاصد سور القرآن الكريم ووجوه الإعجاز في هذه السور فضلا عما اشتملت عليه هذه السور من فوائد وآداب وأحكام .
تأملات في سورة الكوثر(1/106)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)
هذه السورة أنزلها الله جل شأنه على رسوله عليه الصلاة والسلام حينما رماه قومه المشركون بأنه أبتر وذلك أن الله جل شأنه ابتلاه في أولاده الذكور فماتوا جميعا فقالوا أنه أبتر لانقطاع نسله وكانوا يعتبرون الذكور هم النسل وهم الأساس وهم العصبة . الذين يحيون ذكراه بعد وفاته . والذين قالوا هذا عدة من كبار المشركين ووجهائهم كأبي لهب والعاص بن وائل وكعب بن الأشرف وغير هؤلاء ، القصد أنهم جملة اتفقت كلمتهم على أن ذكرى رسول الله ( ستموت بموته لأنه لم يعقب ابنا بل ماتوا جميعا فالله سبحانه وتعالى كذبهم في هذا وبشره بأنه قد أعطاه فضلا منه وإحسانا الخير الكثير الذي منه الكوثر الذي أخبر به رسوله ( وورد على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ذكره في الأحاديث الصحيحة ومنها أحاديث النبوة ومن ذلك ذكره عليه الصلاة والسلام في الأذان والإقامة ، ذكره بالرسالة كذكر الله عز وجل بالوحدانية وأعطاه غير ذلك من الخيرات التي لا تحصى ولا تعد منها ما عجله له في الدنيا من نصر وتأييد وكثرة أتباع وانتشار دينه وبقائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
فكذبهم بما أعطاه من البشريات العديدة العاجلة والآجلة وأمره أن يشكر هذه النعمة بإخلاص العبادة له فلا يصلي إلا له ولا ينسك النسك إلا له وحده لا شريك له ولا يذبح إلا له سبحانه وتعالى مخلصا له قرباته وبين له أيضا أنه إلى جانب هذه البشريات وإلى ما أمره به من الشكر بإخلاص القربات له . فإن أعداءه وخصومه هم البتر الذين تنقطع ذكراهم ويخسرون الدنيا والآخرة وأما البشرى بالخير الكثير فهي في قوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )(1/107)
والكوثر : هو الخير الكثير ومنه الحوض المورود الذي يعطاه النبي ( يوم القيامة . وأما الشكر على نعمة هذه البشريات التي بشره الله بها فقد تضمنتها الآية الوسطى من هذه الآيات الثلاث ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) .
وأما النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليه فهي العقوبة التي عاقب بها خصومه من أبي جهل وأبي لهب والعاص بن وائل وكعب بن الأشرف وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم من الذين جرت على ألسنتهم الكلمة الرديئة الخبيثة ( وأنه سينقطع ذكره بوفاته ) فذكر الله جل شأنه أن شانئه وأن مبغضه هو الأبتر المنقطع ذكره في الدنيا الخاسر في الدنيا والآخرة فقال : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) .
فالآيات الثلاث : آية في البشرى بالخير الكثير وآية فيما أوجبه الله عليه من الشكر بالإخلاص في القربات لله سبحانه وتعالى وهي قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) والآية الثالثة : هي ما أصب به خصومه من انقطاع الذكريات بعد وفاتهم وخسرانهم في الدنيا والآخرة . (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) .
وهذا أمر عام وسنة لله في خلقه ، القائم بالحق ينصره الله وتحيا ذكراه وإن لم يكن له أولاد والذكرى المعتبرة ترجع إلى الإصلاح في الدنيا وإلى السعادة في الآخرة . إصلاح العمل في الدنيا ظاهرا وباطنا عقيدة وعملا بدنياً وسعادة عاجلة وسعادة آجلة .
تفسير سورة الفاتحة
تفسير إجمالي لسورة الفاتحة مع بيان فضائلها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد : يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :(1/108)
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
هذه السورة تسمى سورة الفاتحة : وتسمى أم القرآن لاشتمالها على مطالب كثيرة مجملة ، تشتمل على توحيد الأسماء والصفات في مطلبها في الآيات الثلاث الأولى وتشتمل على توحيد العبادة في قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .
وفي الدعاء الذي في ختام السورة وتشتمل على الولاء والبراء في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
وهي على قصرها تشمل المطالب التي جاء القرآن بتفصيلها وفي مطلع هذه السورة يعلمنا الله - جل شأنه - كيف نحمده ونثني عليه الثناء كله فقال سبحانه : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، ثم علمنا كيف نمجده بقوله سبحانه : مالك يوم الدين ، ثم علمنا أن نخصه بالعبادة لا نصرف منها شيئا إلى غيره سبحانه فنعبده بما شرع ونخلص له في ذلك كما أمرنا سبحانه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .(1/109)
فقال سبحانه معلما لنا أن نقول : إياك نعبد وإياك نستعين . بمعنى أنل لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك ثم علمنا كيف ندعوه ونضرع إليه ونطلب منه ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة وما يصلنا به ويقوي الصلة بين المؤمنين به وكيف نتبرأ ممن حاد عن طريقه فغضب عليه وأضله عن سواء السبيل فأمرنا أن نقول : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
والمغضوب عليهم : هم كل من علم وكان على بينة من أمر دينه وعلى بينة من الحق وبصيرة منه إلا أنه حاد عنه ولم يسلك طريقه فكل من كان على هذا النحو فهو ممن غضب الله عليهم ومن أول هؤلاء اليهود الذين عرفوا الحق وحادوا عنه وقد سئل بعض اليهود عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينه وبين جماعته فقال : إنا نعلم أنه رسولا أكثر مما نعرف عن نسبنا لأبينا فنسبه لأبيه قد يكون مدخولا أما البينة الصريحة الصحيحة فهي مثبتة لرسالة نبينا محمد( فهو على بينة من رسالة النبي ( ومعرفته بذلك أقوى من معرفته بنسبه لأبيه : ومع ذلك حاد عن الطريق المستقيم ، هؤلاء الذين كانوا على بينة من الحق ومعرفة به ثم حادوا عنه يقال لهم : المغضوب عليهم ومن الأصليين في هذا اليهود - عليهم لعائن الله - أما الضالون : فهم كل جماعة جهلت الحق وطريق الصواب وكان في أمر عملهما على غير بصيرة من دينها ويمثل هؤلاء النصارى فهم الضالون كما ورد هذا في حديث عن النبي ( بين أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى : وهذا من التمثيل التفسير الجزئي : يعني من باب التمثيل لمن غضب الله عليهم والتمثيل لمن أضلهم الله عن سواء السبيل .(1/110)
الآيات الأخيرة بينت الطائفة التي تجب موالاتها والسير في طريقها ومؤاخاتها : وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهؤلاء رفقاء الخير وطريقهم طريق الحق والثواب وهم الذين يجب على المسلم أن يواليهم وأن ينشد طريقهم وأن سبيلهم رجاء أن يرحمه الله جل شأنه في الدنيا ولآخرة .
أما الفريق الثاني فهو الذي يجب البراء منه : وهم الفريق المغضوب عليه والفريق الضال عن سواء السبيل . هؤلاء وهؤلاء هم الذين يجب على المسلم أن يتبرأ منهم عقيدة وعملا وأن يمتليء قلبه بالحنق عليهم والحقد لهم إلا بمقدار ما يدعوهم إلى الحق ويبين لهم الصواب لأن البلاغ واجب ولا بد منه إقامة للحجة حتى يعذر إليهم وحتى لا يكون لهم على الله حجة بعد البلاغ والبيان .(1/111)
هذه السورة جاء في فضلها حديث قدسي وأحاديث نبوية . أما الحديث القدسي الذي قسمها أقساما وأشار إلى معناها إجمالا وبين الكثير من فضلها ومكانتها من الإسلام . فقد قال فيه النبي ( عن ربه : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يريد بالصلاة الفاتحة : قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله تعالى هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل " . يريد النصف الأول خطابه تعالى عباده بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين ، علمهم أن يقولوا : إياك نعبد فهذا حق الله على عباده ويريد بالنصف الثاني الذي لعبده وإياك نستعين لا نستعين إلا بك فهذا حق العبد على ربه : أن يستجيبه إذا دعاه وأن يحقق رجاءه فيه في حدود مصلحته وما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة وإذا قال العبد : إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين : قال الله تعالى : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل فسمى الله سبحانه هذه السورة - سورة الفاتحة - سماها الصلاة : إيذانا بأنها ركن من أركان الصلاة ولذلك لا تصح صلاة المسلم إلا إذا قرأ الفاتحة في الجهرية والسرية ، إماما ومنفردا ومأموما ، هذا هو الرأي الصحيح عند فقهاء المسلمين وأئمتهم ، لا تجزىء الصلاة ولا تصح من المصلى إذا لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فإن الله - جل شأنه - سماها الصلاة فجعلها نفس الصلاة إيذانا منه سبحانه بأن لها شأنها في إقام الصلاة وإجزائها .(1/112)
هذه السورة فيها إثبات لأسماء الله وصفاته وإلى ذلكم الإشارة في الآيات الأولى . فقد سمي الله نفسه باسمه الذي لا يسمى به غيره وهو كلمة الله ثم وصف لفظ الجلالة وصفه بأنه الرب ، رب العالمين جميعا : الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات والجمادات من سموات وأرضين جميعا ثم وصف نفسه بأنه الرحمن الرحيم وسمى نفسه بذلك ثم وصف نفسه سبحانه بأنه مالك يوم الدين ويوم الدين هو يوم القيامة فكما ملك الدنيا وصرفها ودبرها على مقتضى حكمته وعلى وفق علمه سبحانه وتعالى ملك الآخرة - وهي دار الجزاء ليجزي فيها كل نفس بما عملت من خير أو شر فهذا فيه إشارة إجمالية إلى صفات الجلال والكمال التي وصف الله تعالى نفسه بها ثم ذكر حق عباده عليه وحقه على عباده ثم ختم السورة بالولاء والبراء ليبين لنا من يجب علينا أن نواليه وأن نؤاخيه ومن يجب علينا أن نعاديه وأن نتنكب طريقه فإنه طريق السوء والشر وطريق الهلاك والنار
هذه السورة ورد في فضلها عن النبي ( أنه دخل المسجد يوما ما ، فوجد أبا سعيد بن المعلا يصلي نافلة فنادى ، فحار أبو سعيد بن المعلا هل يجيبه أو يستمر في صلاته ؟ وغلب جانب الارستمرار في صلاته طاعة لله - جل شأنه - وإيثار لجانبه ولما أنتهى من صلاته جاء إلى النبي ( استجابة لندائه وإن كان بعد فترة فقال له : " يا أبا سعيد ألم أنادك ألم أدعك ؟ " فقال : بلى . . ولكني كنت أصلي ، قال له : " إن الله تعالى قال في محكم كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم ) .(1/113)
فبين له أنه كان يجب أن يجيب النبي ( ولكنه آثر جانب الاستمرار في صلاته اجتهادا منه فله الأجر عند الله على عمله واجتهاده ثم قال له : " يا أبا سعيد لأعلمنك سورة من القرآن هي أفضل القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم " ثم سكت النبي ( ولم يعلمه : لم يعجل بتعليمه السورة وأخذ في طريقه إلى باب المسجد فلما كان عند\ باب المسجد قال له أبو سعيد : ألم تقل لأعلمنك سورة هي كذا وهي كذا ؟ فقال : " بلى " ثم قال له : " هي سورة الفاتحة " وقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) .
وهذا من عطف العام على الخاص ويدخل فيه سورة الفاتحة فهي بعض آيات القرآن ، هي سبع آيات من آيات القرآن : فهي داخلة في قوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وهي أفضل القران فهذا بيان من النبي ( لفضل الفاتحة ومكانتها عند الله - جل شأ،ه - مع كونها كلام الله وكلام الله خير الكلام وفضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على عباده وشتان ما بين الله وبين عباده ، فالفرق شاسع وكذلكم الفضل ، الفضل الواسع ولا يقدر قدره إلا الله ، كما لا يقدر قدر الله إلا الله فلا يقدر قدر كلامه إلا هو ولا يقدرر قدر الفاتحة خاصة إلا الذي تكلم بها وأنزلها على رسوله ( فهذا من فضائل الفاتحة التي بينها الرسول( كمابين فضلها الله سبحانه في الحديث القدسي الذي سبق ذكره ومما جاء في فضل الفاتحة والانتفاع بها الرقية بها حتى لو كان من رقي بها كافرا فقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري أن سرية من سرايا النبي ( طائفة أرسلها الرسول ((1/114)
في مهمة فنزلت في طريقها على قوم من الكفار عتاة فاستضافوهم فأبى أولئك الكفار أ، يضيفوا صحابة رسول الله( لما بينهم وبين أولئك الصحابة من العداوة والبغضاء . وما في قلب الإنسان يظهر في أعمالع وعلى جوارحه وفي فلتات لسانه فهؤلاء قابلوا استضافة الصحابة رضي الله عنهم لهم بالبخل وبالتنكر لهم فذهب عنهم صحابة رسول الله ( . وجزاء لهم على موقفهم السيء من الصحابة رضوان الله عليهم أن سلط على سيدهم حشرة لدغتهم فطلبوا له العلاج بكل ما يستطيعون فلم يفلحوا واضطروا أن يذهبوا إلى صحابة رسول الله ( في منزلهم الذي نزلوا فيه ليستعينوا بهم على علاج لديغهم وقالوا لهم القصة : إنا طلبنا له العلاج في كل شيء فلم نصل إلى شيء فهل عندكم من علاج ؟ فقال أبو سعيد الخدري وهو أصغرهم سناً ومع صغر سنه كان يحفظ الكثير من القرآ، . قال : والله إن عندي له علاجا ولكني لست بفاعل حتى تجعلوا لنا جعلا فإنا استضفناكم فلم تضيفونا فجعلوا لهم جعلا على أن يأتي أبو سعيد إليه ليقوم بعلاجه - والشفاء بيد الله لا بيد أبي سعيد الخدري ، ذهب معه إلى اللديغ وقرأ عليه سورة الفاتحة قرأها مرة ، فقام كأنما هو جمل نشط من عقال كأنما هو جمل حل عقاله والجمل معروف عنه ، إذا حل عقاله لو كان أقوى رجل دفعه بصدره فوقع على ظهره ، قام هذا اللديغ بعدما كان به من مرض كأنه جمل حل عقاله وليس به بأس ، كأنه لم يلدغ ، فأعطوه الجعل وكان قطيعا من الغنم وكان يكفي الصحابة وحدات قليلة من الغنم لكن رزقهم الله هذا الرزق الواسع فأكلوا ثم ارتابوا وقالوا فيما بينهم : قد يكون هذا غير عنهم التحري للكسب الحلال ، عرف فيهم الصلاح وتقوى الله سبحانه فقالوا : لا نأكل أحجموا عن الأكل حتى نسأل رسول الله ( فلما رجعوا سألوه فقال لأبي سعيد : " ما يدريك أنها رقية ؟ " فقال : شيء ألقاه الله في ورعي ، الروع القلب والروع - بالفتح - الخوف فإبراهيم لما جاءته الملائكة وأوجس خيفة منهم(1/115)
أخذه روع وأخذته المخافة ثم ذهب عنه الروع . لما عرف حقيقة الأمر ، القصد أن الروع الخوف والروع هو القلب فقال أبو سعيد : هذا شيء ألأقاه الله في روعي وهذا مثل ما يلقى في قلب بعض الطيبين فقال أبو السعيد : هذا شيء ألقاه الله في ورعي وهذا مثل ما يلقى في قلب الطيبين مجيء فلان من السفر ، إحساس باطني لا فيد اليقين ، لكنه يدفع الإنسان إلى أن يتحدث عما جال في خاطره وإن كان لا يسمى علما لكنه هواجس وخواطر تجول في صدره ولا يسمى علم الغيب ، فالرسول ( قال لهم جوابا عن سؤالهم : هل هذا من الكسب الحلال أو الكسب الحرام ؟ قال : " إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " يريد بهذا أن العلاج قد يكون بالكي وقد يكون بسحب السم من اللديغ من المكان الذي لدغ فيه وسحب السم منه بشرط جلده ويخرج الدم أو يمتص طبيا وقد يكون برقية وقد يكون بدعوة له ، أنواع كثيرة ، فقراء الرقية بقراءة القرآن التي ترتب عليها الشفاء لصاحبها أحق بالأجر من الشخص الذي يعالج علاجا ماديا - دكتوراً أو غيره . فهذا بيان من النبي( لمشروعية الرقية بالفاتحة وهذا بيان لنتيجة الرقية بها شفاء هذا وإن كان كافرا وليس المراد بهذا الحديث أن يأخذ الإنسان أجرا على تلاوة القران مثل الصييت أو أن يأخذ أجرا يأخذ الإنسان أجرا على قراءة القرآن على الأموات فإن هذا لم يفعله الرسول ( وهو معلم البشر وهو المبلغ عن الله عز وجل فقراءة القرآن على الأموات رجاء أن يرحمهم الله بدعة من البدع . وأخذ أجر على مجرد تلاوة القرآن أيضا لا يجوز والذين أعطوا الصحابة قطيعا من الغنم ما أعطوهم إياه حبا للقرآن أو محبا فيه أو حبا للقاريء وللمسلمين وللإسلام ، بل القرآن أبغض إليهم من كل شيء ورسولهم أبغض إليهم من كل شيء ومع ذلك دفعوا الأجر فالأجر ليس للتلاوة : إنما هو للعلاج ولما تم بعده من الشفاء فهم جاعلوه على الشفاء لا على التلاوة وعلى هذا دفعوا الأجر فالاستدلال بهذه الجملة من(1/116)
الحديث على جواز تلاوة القرآن وأخذ أجر عليه لإسماع الناس التلاوة أو القرآن ، الاستدلال بها على هذا لا يجوز ولا يصح وهو من تحريف الكلم عن مواضعه وهذا من فوائد هذا الحديث إلى جانب الفائدة الجليلة التي بينها النبي( بين بها منزلة القرآن ومكانته من غيره من القربات ، بل مكانتها من سائر القرآن ، هذا بيان لجانب آخر من جوانب فضيلة سورة الفاتحة وأن من فضيلتها أنها جعلت فرضا في كل ركعة من ركعات الصلاة بخلاف السورة التي بعدها فإنها من سنن الصلاة ، لو تركها الإنسان تكون صلاته صحيحة أما الفاتحة فلو تركها فصلاته باطلة والقرآن كله خير وفضله على كلام البشر كفضل الله على عباده .
وأسأل الله جل شأنه أن يبصرنا بديننا وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وأن يجعله غذاء لأرواحنا وأن يجعله مصدر تشريعنا - يستميل إليه حتى لا نحكم سواه وسوى سنة رسول الله ( فإن من أخذ بهما أخذ بالحق وكان على بينة وبصيرة من أمر دينه مع ربه ومع المخلوقات وكان حبيبا لله في الدنيا والآخرة سعيدا في دنياه وفي آخرته .
والحمد لله رب العالمين .
من وحي قصص القرآن الكريم
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام
بين سبحانه لرسوله محمد ( في كثير من قصص القرآن الطريقة المثلى التي يثبت بها رسالته ويحاج بها أمته . وأرشده إلى كون ذلك القصص آية بينة توجب عليهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من التصديق برسالته والإيمان بسائر ما جاءهم به من عند الله .
من ذلك قصة يوسف عليه الصلاة والسلام . إن هذه القصة فيها كثير من العجائب والعبر والعظات والأحكام والأخلاق وألوان الابتلاء والامتحان والفضل والإحسان . والذي أقصد إليه من مباحثها أمرين لمزيد اتصالهما بما أنا بصدد الكلام عنه ، الأول : كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد ( . الثاني : كيف كانت هذه القصة دليلا على أن الله يعد رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم .(1/117)
أما الأول : فإنه تعالى ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام في القرآن مفصلة لتكون آية بل آيات على نبوة رسوله محمد ( وبيان ذلك أنه كان أميا لم يقرأ شيئا من كتب الأولين ولا درس شيئا من تاريخهم ولا خط من ذلك شيئا بيمينه حتى يرتاب في أمره ويتهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس قال تعالى : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) .
بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها لم تخطر له ببال ولم تقرع له سمعا قبل أن يوحي الله بها إليه ويذكرها له في محكم كتابه قال تعالى في مطلع سورة يوسف : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) .
وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه وعرضها على أبيه ووصية أبيه له : ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) .
ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب وتناولوه بالحديث فيما بينهم بل كانت غيبا بالنسبة إليهم ولا كان محمد مع يوسف وأخوته ولا شهد مكرهم به ولا كيدهم له فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده أو انتشر بين قومه قال تعالى لنبيه محمد في ختام قصة يوسف عليهما الصلاة والسلام : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).(1/118)
ولا يسع أحد أن يقول إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود . فإن السورة مكية واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها . ولم يعرف عنه أنه اتصل بهم قبل الهجرة ولا دارسهم شيئا من العلوم . ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد وكثرة الخصوم وحرج قومه من دعوته وسعيهم جهدهم في الكيد له والصد عنه وحرصهم على تشويه سمعته والقضاء عليه وعلى دعوته حتى رموه بالسحر والكهانة والجنون واتهموه زورا بالكذب وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين . وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه به من حبسه أو طرده من بيتهم وتشريده وانتهى أمرهم بالاتفاق على قتله فأنجاه الله من كيدهم وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عز الإسلام وقامت دولته . قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) .
فقوم هذا شأنهم معه لا يخفي عليهم أمره وهو يعيش بين أظهرهم وهم له بالمرصاد . فلو وجدوا سبيلا إلى الطعن عليه باتصاله باليهود والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحتة والتشنيع عليه بذلك ولم يضطروا إلى الإفتراء عليه ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة ولم يلجئوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة وادعوا أنه يعلمه فسفه الله أحلامهم وألقمهم الحجر قال تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .(1/119)
وليست قصة يوسف خبرا مقتضبا عبر عنه بالجملة أو الجملتين فيقال : إن صدقة في الحديث عنها وليد الصدفة والاتفاق . بل هي قصة كثيرة العجائب متشعبة الموضوعات . وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة . فمن رؤيا صادقة إلى مؤامرة ثم نجاة يتبعها بيع ثم إيواء . إلى مراودة يتبعها هم ثم عصمة من الفحشاء . إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد مع رفق وحسن سياسة وتأويل للرؤيا أصدق تأويل ، يتبع ذلك خروجه عليه السلام من السجن بريئا من التهمة وتوليه شؤون الدولة واجتماع إخوته به مع معرفته لهم وإنكارهم إياه وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث . إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه وعفوه عنهم وحضور أبويه إليه على خير حال إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب الله . وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها مستوفاة في جميع فصولها في أدق عبارة وأحكم أسلوب .
أفيعقل بعد ذلك أن يقال : إن صدقه( فيما سرده من قضايا ووقائعها وعجائبها على هذا النهج الواضح والطريق السوي وليد الصدفة والاتفاق !!.(1/120)
ختم سبحانه سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إجمالا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة وهو أن تكون آية على نبوة محمد( وصدقه فيما جاء به من التشريع وأ، قصة يوسف ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء فليس حديثا مفتري ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم . وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من لإنسان أمي عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله . كلا إنها العناية الربانية والرسالة ليكون رحمة للعالمين ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
وأما الثاني : فإن في تفاصيل القصة كثيرا من الأسرار والعجائب التي يعد الله بها رسله ويهيء بها رسله ويهيء بها أنبياؤه لقيادة الأمم وسياسة الشعوب من أخلاق سامية وآداب عالية وحكمة بالغة وقوة عزيمة وعقائد صحيحة وبيان ذلك من وجوه كثيرة .
أ - منها صفاء روح يوسف ونقاء سريرته وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنه وأول نشأته فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه وختام حياته (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) .
وقال : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) .(1/121)
ب - ومنها ما خصه الله به من الميزات التي زادت تعلق والده به وحبه له وحملت أخوته على التآمر عليه والكيد له فأشار بعضهم بقتله ليخلو لهم وجه أبيهم وتطيب لهم الحياة مع أبيهم من بعده . ورأى آخرون إن في إبعاده عن أبيه الكفاية فلما أجمعوا أأمرهم على ذلك ورموه في غيابة الجب ، أوحى الله إليه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .
إيناسا له وإزاحة للغمة عن نفسه وهيأ له من أخرجه من البئر لكنهم باعوه بثمن بخس دارهم معدودة . فرعاه الله وجعله عند من يكرم مثواه ومكن له في الأرض وعلمه من تأويل الأحاديث ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
ج - ومنها عفة فرجه ونزاهة نفسه مع توافر دواعي الشهوة وتهيء أسباب الجريمة من دوام الخلوة ومزيد الخلطة ودعوة امرأة العزيز له ومراودتها له عن نفسه وأخذها الحيطة في إغلاق الأبواب . قال تعالى :(1/122)
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) .
لقد كان يوسف عليه السلام من المخلصين لله . فاستعاذ به ولجأ إليه وفزع إلى من بيده مقاليد الأمور والقلوب يصرفها كيف يشاء وتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الخسارة والدمار ولم يأبه بالسجن والوعيد بالأذى إن لم يكن عند رغبتها ويحقق لها ما تريد .
( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(1/123)
ثم قص الله على رسوله( خبر يوسف مع صاحبيه في السجن فقال تعالى :
( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان ِ) .(1/124)
فانظر إلى سلامة فطرته وصحة عقيدته وتناسيه البلاء وذكره لأسلافه وأجداده الطاهرين المصلحين ، إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ليتخذ منهم قدوة له في التوحيد والدعوة إليه والحذر من الشرك وبيان فساده بالأدلة والبرهان . وأنظر إلى كرم خلقه مع صاحبيه حتى شهدا له بالمعرفة والفضل والإحسان وإلى حسن سياسته معهم في الدعوة إلى الله حيث انتهز حاجتهم إلى تأويل ما رأياه فعرفهم بنفسه وبين لهم مكانته ليقبل منه قوله وينتفع بنصحه فدعاهما إلى التوحيد وزينه وحذرهما من الشرك وفبحه وإيثاره ذلك على ما سألاه عنه دون تضييع لما تعلقت به نفوسهما من تأويل الرؤيا ولا مجابهة بالمكروه لمن دلت رؤياه على سوء عاقبته ، بل أبهم الأمر فقال : أما أحدكما فيسقى ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه . وقد حقق الله ما قال فصار كل منهما إلى ما ذكره له في تأويل رؤياه .
د - ومنها أن يوسف مع ثقته بربه وتوكله عليه ، أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص مما أصابه من البلاء وليس في ذلك ما يعيبه أو يغض من توكله على الله فإنه قد زج به في السجن ظلما وعدوانا بشهادة خصومه . ودفع الظلم مشروع بل قد يكون واجبا ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) .
ولكن الله أراد أن يزيده تمحيصا وصدقا في التوكل عليه وحده وقوة في الصبر على البلاء فأنسى الشيطان ذلك الفتى أن يذكر يوسف لربه بالخير فلبث في السجن بضع سنين . ثم اختار الله له طريقا إلى الخلاص خيرا من الطريق التي رسمها لنفسه كما سيأتي بيانه .(1/125)
ه - ومنها إن الله سبحانه شاء أن تكون نجاته بما آتا من العلم والحكمة وبما علمه من تأويل الأحاديث ، لا بشفاعة أحد ولحاجة الأمة راعيها ورعيتها إليه دون حاجته إليهم ، ليكون ذلك أكرم لنفسه وأعز لها ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منة فهيأ له السبيل لذلك ورأى ملك مصر رؤيا هاله أمرها وعجز إشراف قومه عن تعبيرها ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ) .
ولما أنتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أولها أصدق تأويل وبين أنها كشفت للأمة عن مستقبلها في رخائها وشدتها أربع عشرة سنة ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) .
فأخذ ذلك التعبير من قلب الملك مأخذه ولم يسمعه إلا أن يرسل بإحضار يوسف إليه فأبى حتى ينظر في قضيته مع النسوة . فإنه قد زج به في السجن من أجلهن ( قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) .(1/126)
ففعل الملك وظهرت براءة يوسف ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) .
ولما طلبه الملك بعد ذلك وحضر عنده (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
ثقة منه بنفسه وعلما منه بأنه ليس في الأمة من يصلح لتدبير شؤون الدولة الاقتصادية وتصريف أمورها علةى وجه يحفظ كيانها سواه فطلب ذلك لمصلحة الأمة لا لحظ نفسه فاستجاب له الملك لعلمه وصدقه وأمانته وأتم الله ليوسف ما شاء من نعمته ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
وبذلك يتبين أن الله محص يوسف ورعاه بتتابع البلاء والإنجاء .
ابتلاه بكيد إخوته له ورميهم إياه في الجب ثم أنجاه . وابتلاه ببيع السيارة له ثم هيأ له من أحسن مثواه . ابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه وبالنسوة اللاتي قطعن أيديهن ثم عصمه وحماه وابتلاه بالسجن ثم أخرجه منه بريئا من التهمة عليما بربه وبشؤون الأمة في وقت اشتدت فيه حاجة البلاد إلى حفيظ عليم يدبر أمرها ويقودها في حياتها خير قيادة فتولى أمرها واستسلم له أهلها . وفي قصة يوسف سوى ما ذكر شيء كثير يدل على أن الله سبحانه تعهد يوسف برعايته وتولاه في أطوار حياته ليتخذه رسولا يضطلع بأعباء الرسالة . وليجعل من سيرته الحميدة آيات بينات على صدقه فيما جاء به وأمانته في البلاغ عن رب العالمين .
قصة موسى عليه الصلاة والسلام(1/127)
ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة القصص بيانا عن نشأة موسى عليه الصلاة والسلام وحاله قبل الرسالة وأتبع ذلك بيانا عن رسالته إلى أن أنجاه ومن آمن معه وأهلك أعداءه ، ليكون ذلك القصص في جملته آية على نبوة محمد( وصدقه فيما أنزل عليه من الوحي ودعا إليه أمته كما يرشدنا إلى ذلك بقوله تعالى في مطلع السورة : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
وقوله تعالى : عند إنتهاء ما أراد ذكره من القصة : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )
أما ما ذكر في هذه السورة من تفاصيل القصة فآيات بينات تدل على كمال رعاية الله لموسى عليه الصلاة والسلام ، في جميع شؤونه : في رضاعته وكفالته وعلمه وحكمته وإعداده بالقوة والأخلاق الفاضلة من نصرة المظلوم وإعانة الضعيف وعزة النفس وصدق التوكل على الله والأمانة وحسن المعاملة ، ليكون رسولا ينقذ به - سبحانه - الشعوب من الاستعباد ويخلصها من الطغيان والاستبداد ويهدي به القلوب وينير به البصائر وإليك شيئا من تفصيلها ترى منه ما ذكرت :
1- قدم الله بين يدي هذه القصة جملة من الآيات بين فيها سنته العادلة وحكمته البالغة في القضاء على من علا في الأرض وأفسد فيها . ومنة على المستضعفين والتمكين لهم وإدالتهم من عدوهم ، فضلا منه ورحمة والله عليم حكيم . (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) .
ثم فصل ذلك فيما ذكره بعد من القصة .(1/128)
2 - ولد موسى بن عمران عليه السلام في مصر وكان ملكها إذ ذلك جبارا جائرا يقتل ذكران بني إسرائيل ويستحي نساءهم فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه من فرعون وجنوده ووعدها وعدا صادقا أن يرده إليها ففعلت وأنجاه الله والتقطه آل فرعون وتداولوا الرأي فيه .
وعند ذلك مر موسى بطور آخر من أطوار الخطر ثم كتب الله أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه الفرعون ولدا وأن ينشأ في بيت ملك يتربى فيه على العزة وشدة البأس وقوة العزم والأخذ بالحزم ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب والذل والهوان .
وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة . ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه
ثم أولاه الله نعمة أخرى فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه حتى اضطر فرعون ومن معه إلى أن يردوه إلى أمه وهم لا يشعرون وبهذا التدبير الحكيم واللطف الخفي أنجز الله لأم موسى وعده . فرجع إليها ولدها لتكفله ويتمتع بعطفها وينعم بحنانها وتقر به عيناها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق .
3- هذه الحلقة من حياة موسى كلها عبر وآيات : منها :
إن الله سبحانه وتعالى جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارا وإلقاء بالنفس إلى التهلكة .
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .
ومنها : أنه سبحانه وتعالى كتب لموسى الحياة السعيدة في بيت من يخشى عليه منه ، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك .
(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .(1/129)
ومنها : أن الله حرم عليه تحريما كونيا أن يرضع من امراة سوى امه فكان ذلك فيما يرى الناس ، بلاء اصابه وهو في الأمر نفسه كمال اللطف من الله والرحمة بموسى ليرجعه إلى أمه وهم لا يشعرون فاجتمع له إلى السلامة والنجاة عطف الأمهات وعز الملوك .
()وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص:13)
ومنها : حفظ الله سبحانه وتعالى على موسى صفاء روحه وسلامة فطرته فمع أنه عاش في بيت ملك واوساط ظلم وطغيان فإنه لم يتأثر بما تأثر به من قضى ايامه الأولفى من حياته في بيئة إستشرى فيها الفساد وطبعت بطابع الجبروت والاستبداد ولم يصب بما يصاب به أبناء الملوك ومن يتقلب في النعمة ورغد العيش حين تهمل تربيته من جهل ومن استهتار أو رخاوة وخلاعة ومجون بل صانه الله من كل ما يشينه وآتاه العلم النافع والحكمة البالغة وسداد الرأي كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه .
()وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:22)
4- جبل الله نبيه موسى على الحزم والأخذ بقوة في نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم وذلك يتجلى في الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني فإن موسى لم يلبث أن أغاث من اشتغاث به فوكز القبطي فقضى عليه اقامة للعدل وانصافا للمظلوم كما طبعه على الرفق بالضعيف والعطف عليه ومد يد العون إليه ويتجلى ذلك منه في قوله تعالى :(1/130)
()وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .
فجمع له بين شدة البطش على الظالمين وكمال الرفق .
5- كان من آثار عناية الله بموسى ورعايته له أنه قوى فيه الوعي الديني واستحكمت الصلة بينه وبين ربه . فأحب ما يحبه الله من العدل والإنصاف وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان لذلك فزع إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه حينما قضى القبطي نحبه من وكزته واسرع إلى الاستغفار لله تعالى من ذنبه .
()قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * لَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) .
وفاض قلبه ايمانا بالله فعظمت ثقته وتوكله عليه لذلك قصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل .
()وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22)
ولما استبدت به الحاجة واخذ منه الرجوع مأخذه توجه إلى ربه فسأله من فضله فأبت عليه عزة نفسه إن يشكو حاجته لغيره او يعرض لمن سقى لهما بطلب الأجر
()فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24)(1/131)
وقد استجاب الله دعاءه . وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة فقد عرض عليه شعيب لما عرفه عنه من القوة والامانة إن يزوجه احدى ابنتيه على إن يرعى له الغنم ثماني حجج وان اتم عشر سنوات كان ذلك مكرمة منه فالتزم موسى بذلك ولم يمنعه ما كان فيه اولا من رغد العيش وحياة الملوك إن يكون اجيرا يأكل ويتزوج من كسب يده وأشهد ربه على ذلك :
()قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:28)
وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين .
فهذه سلسلة من حياة موسى عليه السلام قبل الرسالة تضمنت شيئا من مما حباه الله به من العلم والحكمة والمروءة والنجدة ونصرة المظلوم والأخهذ على يد الظالم والعطف على الضعيف وقوة الإيمان بالله والصدق في الاتجاء إليه والتوكل عليه والتواضع مع عزة النفس وغير ذلك من مكارم الاخلاق التي يعد بها الله من اختاره للرسالة وقيادة الأمم .
6- سئل من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسله معه ليكون عونا له في الحجاج وخاف إن يبطش بهما فرعون وجنوده وان يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق إن قتله فقال الله له :
()قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:46)
وجعلف لهما سلطانا من الآيات تقوم به الحجة وتنخلع به قلوب الجبارين وتمتليء بالوهن والضعف وبذلك يثبت موسى في ميدان الدعوة إلى الله فبات واثقا بربه مؤمنا بما يدعو إليه من الهدى والنور وتجلى في حجاجة صولة الحق واحس في نفسه بالعزة والقوة وبذلك ذل جبروت فرعون وتلاشى عند تألهه وتعاليه ولم يعد يملك لموسى من الكيد الا إن يرعد ويبرق ويموه ويخدع .
()وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26)(1/132)
ولم يكن ليأخذ على يديه احد ولا هناك من الاسباب الداعية ما يمنعه من إن يبطش بموسى فإن الدولة دولته والجنود دجنوده لكنها عهناية الله برسوله وما آتاه وسلطان قد بهر فرعون وقطع نياط قلبه ولم يملك - ايضا - ملأ فرعون سوى إن يسيروا حفيظته ويغروه بموسى ومن آمن به :
()وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (لأعراف:127)
افلا يرى العاقل إن موسى وهو وحيد غريب وقومه مستعبدون لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئه . والدولة دولتهم الا وهو مؤيد من ربه صادق في دعوته وإن هذا لهو الحق المبين .
7- جرت سنة الله العادلة إن يفتح بالحق بين رسله ومن آمن بهم من الامم ومن سار سيرهم ويجعلهم خلفاء الارض ويهلك من كذب بهم وانحرف6 عن طريقهم ليكون ذلك من آيات الله التي يفصل بها بين الصادق والكاذب والحق والباطل والشريعة والقوانين الجائرة .
()إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
()وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (القصص:37)
()قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * ُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (لأعراف:129)
وهذا هو ما انتهى به امر موسى وقومه مع فرعون ومثله .(1/133)
()فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) .
()فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * َزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * َنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * َّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) .
فانظر كيف اتحدت وسيلة النجاة للأولياء والهلاك للأعداء إنها آية الله الباهرة لقد اهلك فرعون وجنده بما جعله طريقا لنجاة موسى وقومه هذا إلى جانب انفلاق البحر وتماسك مائة وخروجه عن طريق السيلان بضربة عصا .
وفي قصص موسى من الآيات سوى ذلك ما يبهر العقول ويأخذ بمجامع القلوب ولا يدع مجالا للريب وقولا لقائل الا من سفه نفسه وسعى في هلاكها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
****************************
نماذج من مقاصد
بعض السور القرآن الكريم
ــــــــــــــ
هذه سورة من سور القرآن الكريم ومنها يتضح وحدة السورة والمقصد الذي تدور آيات هذه السورة حوله من اجل هذا البيت أحببت إن اتكلم عن نماذج من مقاصد بعض السور تكون فاتحة لبعض معرفة مقاصد السور وتكون معينة للإنسان على فهم المحور الذي تدور عليه احكام السورة واخترت لهذا : اولا سورة العقود وثانيا سورة الأحزاب وان اتسع الوقت فإلى جانب هذا سورة الصافات او اخرى اقصر منها .
يذكر الله جل شأنه في مطلع سورة العقود هذه الآية :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة:1)(1/134)
هذه الآية تشير اشارة واضحة إلى ما تدور حوله الآيات وتدور حوله الأحكام التي تضمنتها هذه السورة فالله يأمرنا في هذه الآية بالوفاء بالعقود والعقود المواثيق والعهود كلها ترجع إلى معنى واحد هو الاتفاق الذي يكون بين العبد وربه ميثاق يأخذه الله جل شأنه على عبده وتكون للاتفاقات التي تجري بين انسان وآخر في بيع وشراء في مواعيد في جهاد وحروب في امر بالمعروف ونهي عن المنكر فكلمة العقود كلمة جامعة عامة شاملة تشمل كل الاتفاقات التي تكون فيما بين العباد على خير وتشمل ما أخذه الله جل شأنه على عبادة من عهود التكاليف التي كلف بها خلقه وما سيأتي في السورة يدور حول هذا ، كل ما في السورة من التفاصيل دائر حول قوله تعالى :
() أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: من الآية1)
وحول مذمة من نقض العقود وجزاء من وفى وجزاء من نقض وخان ويتبين هذا بالتفاصيل الآتية أو بذكر شيء من التفاصيل الآتية بقوله تعالى في الاية الثانية من هذه السورة :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .(1/135)
فهذه الاية فيها عقد عهد وميثاق على المسلمين بعد أن تمكنوا في الارض وصارت لهم دولة وبعد إن اكمل الله لهم دينهم واتم عليهم نعمته وصاروا لهم دولة وبعد انهاكمل الله لهم واتم عليهم نعمته وصاروا بإمكانهم إن يثأروا لأنفسهم وان ينتقموا ممن سبب لهم اذى يأخذ الله تعالى عليهم إن لا يقابلوا السيئة بالسيئة وان لا يعتدوا على القاصدين لبيت الله الحرام إلى غير هذا مما ذكره الله في هذه الآية وخاصة ما تحدث العبد به نفسه من إن يثأر لنفسه ممن ارتكب جريمة في شأنه واعتدى عليه في سابق حياته يبين الله جل شأنه في العهد الذي اخذه على عباده الموحدين انه لا ينبغي لهم إن يحملوا ما سبق من تالكفار من صدهم المسلمين في السنة السادسة من الهجرة عن بيت الله الحرام ومن موقفهم السيء مع المسلمين سنة الفتح عند دخول مكة يبين لهم أنه لا ينبغي إن يحملهم ما سبق من اولئكم الكافرين على إن يعتدوا على الكافرين وان يثأروا لأنفسهم منهم وليجعلوا نعمة الله بإقدارهم لهم على الانتقام من عدوهم ونعمة الله لهم بتمكينه اياهم من رقاب خصومهم سببا في شكر نعمة الله جل شأنه على هذا الإقدار بالعفو عن اولئك الذين سبقت منهم السيئات بعد إن تمكن المسلم من اقامة العدل فلا يراعي حظ نفسه بل يقف موقفا يرضى به ربه ويتألف به قلوب من سبقت منهم اساءة له فيقول تعالى :
() وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ)(المائدة: من الآية2)
لا تحملكم عداوة قوم إن صدوركم عن المسجد الحرام ات تعدوا ثم امرهم بأن يتعاونوا عموما على البر والتقوى وحذرهم من إن يتعاونوا على الإثم والعدوان وحذرهم شديد بأسه واليم عقابه إن هم نقضوا عهده وخانوا ما اخذه عليهم من هذا التكليف وامثاله فيشتد بهم بأسه حذرهم في ذلك بقوله سبحانه :
() وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(المائدة: من الآية2)
ثم بين لهم تفصيل اشياء مما حرم عليهم واستثنى من هذا اشياء فقال :(1/136)
()حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) إلى قوله : () وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) .
فكان هذا تفسيرا لقوله تعالى : () أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)(المائدة: من الآية1)
فالاية الاولى اجمال وهذه الاية :
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) . إلى اخرها
فيهما تفصيل او بعض التفصيل لما اجمل في الآية الأولى فهذا من الأدب أو من المقاصد التي اشتملت عليها الآية الأولى من هذه السورة ثم ذكر سبحانه وتعالى عهدا آخر اخذه على عباده الموحدين من احكام الوضوء واحكام الغسل وذكر تفصيل هذا في آية ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ).
ثم قال : ()وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ)(المائدة: من الآية7)
فأوجب عليهم إن يتذكروا مواثيق الله سبحانه التي اخذها عليهم اجمالا في قوله :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: من الآية1)
وتفصيلا فيما ذكره من تفاصيل القرآن في هذه السورة وغيرها وما بينته سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ميثاق ثالث ذكره جل شأنه في قوله : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .(1/137)
فأوجب عليهم سبحانه أن يرعوا العدالة وأن يوفوا بالعهد والميثاق وأن لا تكون الخصومة متسلطة على نفوسهم تسلطا يجوز بهم عن الجادة ويحملهم على نقض ما أخذه الله عليهم من عهد وميثاق ولا يجرمنكم شنآن قوم - أي عداوة قوم - على إن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى وأنذرهم وحذرهم من نقض هذا العهد والميثاق بقوله : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
ثم ذكر العدة الطيبة والجزاء الكريم العدة الطيبة لمن وفي بالعهد والميثاق والوعيد الشديد لمن لم يف بذلك بل خان ونقض فقال : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) .
هذه منزلة أخرى أو مرحلة أخرى ثالثة في تفصيل قوله تعالى في مطلع سورة :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .
ميثاق رابع فيه تفصيل لمطلع السورة يذكر الله عباده نعمته عليهم برد كيد خصومهم ومكر أعدائهم في محاولة سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكف أيدي هؤلاء جميعا وأبطل كيدهم وأحبط سعيهم وشردهم عن بلادهم فقال جل شأنه : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .(1/138)
بنو النضير دبروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدبيرا سيئا وذلك حينما جاء إليهم يطلب منهم شيئا من المال يستعين به في بعض المصالح فوعده خيرا وهم يضمرون الفتك به وأجلسوه تحت جدار وصعد بعضهم فوق البيت ليرمي عليه حجرا يقضي به عليه فأوحى الله إليه أن يقوم فقام وقد ارسل بعض أصحابه إلى المدينة فذهب إلى جهة المدينة وبلغ أصحابه وجمعوا جموعهم وجاء إلى بني النضير محاربا لهم استجابة لأمر الله جل شأنه ثم رضوا بأن يخرجوا من ديارهم فأذن لهم في ذلك بأمر من الله جل شأنه وأذن لهم في أن يأخذوا من أموالهم ما حملت حمولاتهم وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) . هم بنو النضير (ِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار)
هذا وما سواه من آيات سورة الحشر فيه تفصيل لما ذكر الله في هذه الآية التي أخذ الله فيها العهد والميثاق على المؤمنين أن لا يعتدوا بل عليهم أن يلزموا العدالة فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) .(1/139)
يعني بسفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التدبير الذي دبره بنو النضير واليهود كما هو مشهور عند العالم لا عند المسلمين فقط هم سوسة تنخر في عظام الأمم فهم في كل دولة من اللأمم يسعون فسادا في الأرض ودبرون التدبير السيء ويمكرون المكر السيء ما دبروه من هذا الحادث لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة منهم في القضاء عليه ثم بدا الله جل شأنه بدءا جديدا وذكر لنا لونا آخر من العهود والمواثيق ليست عهود=ا أخذها على المسلمين كالعهود التي مضت تفصيلها بل هذه عهود أخذت على أهل الكتاب من اليهود والنصارى وعلى أمثالهم فلم يكن منهم إلا التبرم لها والتنكر لها ونقضها شر نقض فنزل بهم بأس الله وعذابه فهذا مما يتصل أفسدوا به الأرض واستوجبوا به مقت الله وغضبه يقول تعالى : ()وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ ) .
فالآية في العهود والمواثيق التي هي في الآية الأولى ( وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) .
وقال الله جل شأنه : ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ) .
هذا هو العهد ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) .
أي عظمتموهم وأيدتموهم ( وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) .
هذه العدة السابقة الجميلة التي وعدها من وفى بهذا العهد الذي فصله في الجملة السابقة ثم هدد وأنذر من نقض العهد والميثاق فقال : ( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) .
وقد نقض هؤلاء العهد والميثاق فأصابهم الله شر إصابة وقال :
( َبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) .(1/140)
وهذا شأن السيئات وهذه هي عدالة الله جل شأنه من كسب سيئة نكت في قلبه نكتة سوداء وبقدر تلك السيئة فإذا ما تكاثرت منه السيئات طبع الله على قلبه وجعل عليه الران حتى يصير قلبه متبلدا أو كالحجر الصلب لا يتأثر بموعظة ولا يعتبر بعبرة ولا تنفذ إليه نصيحة بل يكون منه الصدود والإعراض عما يوجه إليه من آيات القرآن ومن الحجج والبراهين والمواعظ والعبر فلا أدلة تناجي بها العقول ولا مواعظ وعبر تؤثر في عواطفه ووجدانه وذلكم لما طبع على قلبه وكان عليه من الران والحجاب الذي يحول بينه وبين الدلائل والبراهين فلا ينصاع لها والذي يحول بين قلبه وبين وجدانه وعاطفته وبين المواعظ والعبر حيث قد مسخ الله فطرته فجعل قلبه قاسيا يقول تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) .
ثم ذكر الله جل شأنه الصنف الثاني بقوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ) . أيضا أخذ على الطائفة الأخرى طائفة النصارى عهدا وميثاقا(1/141)
( فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) نقضوا أيضا العهد والميثاق القصد أن الله ذكر في هذه الآيات أنه أخذ عهودا ومواثيق على اليهود والنصارى بتكاليف كلفهم بها فوقفوا منها موقف الخائن وقفوا منها موقف الغادر المستهتر الذي لا يبالي لعهد الله وميثاقه بالا ولا يلفت له نظر وليس لله وقار في قلوبهم فأصابهم الله باللعنة وقساوة القلوب وأصابهم بنسيانهم الكثير من حظوظهم ثم ذكر الله جل شأنه أنه بين لهم ما أخفوا من التكاليف وما حرفوا من نصوص كتبهم التي أنزلها الله عليهم أنزلها الله على موسى وعيسى وعلى داود بين أنه أ{سل إليهم رسولا فجاءهم هذا الرسول وبين ما كانوا يخفون من كتاب الله فإنهم كانوا يجزأونه أجزاء فيخفون بعضه ويبدون بعضه تبعا للهوى فما رأوه في مصلحتهم ومتفقا مع هواهم أعلنوه ونشروه بين الأميين والرعية ( العوام ) وما كان مخالفا لأغراضهم وأهوائهم أخفوه يقول تعالى في هذه الآية :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * هدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) .
إلى آخر الآيات فذكر جل شأنه أن هذا الذي جاءهم على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق التي تكشف أحوالهم فيجب عليهم حينئذ أن يعتبروا وأن يخشوا الفضيحة من كشف الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دبروه ولما خانوا فيه كان عليهم إن يرتعدوا وان يعملوا بالحق وان يتبعوا رضوان الله جل شأنه ويسيروا على الصراط المستقيم لكنهم أبوا إلا النجاح اللجاج والعناد وإلا نقض العهد والميثاق فنقضوا عهد الله في حياتهم في وحدانيته وفي كماله وانتقصوه بنسبة الولد له كما قال الله عنهم :(1/142)
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) .
ورد عليهم بقوله : () قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
عيسى لا يملك شيئا من الوجود ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ومريم أمه لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا عيسى يحتاج إلى الطعام والشراب والى إن يقضي من شأنه ويتخلص من فضلات طعامه ومريم أيضا صديقة إنسانة تأكل وتشرب وتحتاج إلى إن تتخلص من الفضلات فضلات الطعام الذي تناولته فيقول تعالى : ( فَمَنْ يَمْلِكُ )
من يملك لعيسى ولأمه التخلص من مقت الله وغضبه إذا أراد إن يهلكهما وان يقضي عليهما في هذه الحياة فكيف يصلحان لأن يكونا آلهة مع الله أو من دون الله ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) .
شيئا ما قليلا أو كثيرا (ً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
ويبين أن ملك السماوات والأ{ض إليه سبحانه فإنه يخلق ما يشاء فمن يخلق ما يشاء فمن يخلق ما يشاء كيف يحتاج إلى ولد يولد منه وله من في السماوات والأرض وكيف يتخذ صاحبة وكيف يكون له منها الولد ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .
وقال سبحانه : (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) .
أي ولدا وزوجة ( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ) .(1/143)
القصد إن نسبة النصارى الولد إلى الله في قولهم عيسى ابن الله أو ولد الله والزوجة لله في قولهم إنه اتخذ مريم زوجة له هذا من نقض العهد والميثاق في أصل من أصول الدين وهو أصل التوحيد وإثبات الكمال لله وحده وتنزيه الله سبحانه عن الصحابة والولد ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً) .
فهذا نوع من أنواع نقض العهود والمواثيق وقد رد الله عليهم إجماليا وتفاصيل القرآن فيها تفاصيل الردود لمثل هذا .
الله سبحانه وتعالى ذكر نقضا أيضا للعهود عن اليهود والنصارى فقال سبحانه :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .
فنسبوا إليه أنفسهم على أنهم أبناء الله ويقول اليهود : نحن أبناء الله ويقول النصارى : نحن أبناء الله هذا أكثر من دعواهم بنوة عيسى لله ، جعلوا كل النصارى على كثرتهم وكل اليهود على كثرتهم أبناء لله وزادوا أن قالوا وأحباء لله فهذا من نقضهم للعهود والمواثيق فالله تعالى منزه عن الولد كما تقدم في الآية ذكرا أو أنثى فهو سبحانه منزه عن الولد على الإطلاق ثم ميزان محبة الله لعباده الاستقامة على الجادة والطريق السوي واليهود والنصارى قد انحرفوا عن الجادة وغيروا وبدلوا فيما أ،زل عليهم من الكتب السماوية فكيف يدعون زورا وبهتانا أ،هم أحباء الله سبحانه وتعالى ( ى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .
قال تعالى في الرد عليهم : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) .
رسول جاء لإسقاط المعاذير ولإقامة الحجة حتى لا يقولوا ما جاءنا بشير ونذير حتى نتعرف منه الحق فنحن معذورون يقول جاءكم الرسول على فترة من الرسل فهذا تكذيب للعهود والمواثيق التي أمر الله بالوفاء بها في مطلع السورة في قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .(1/144)
ثم ذكر جل شأنه أن بني إسرائيل موسى إليهم وإنجائهم من الضلالة ومع ما أنعم الله عليهم من إرسال موسى إليهم وإنجائهم من الضلالة ومع متا أنعم الله عليهم من إهلاك خصومهم ، نجاتهم نعمة وإهلاك خصومهم نعمة أخرى فإن الإنسان إذا نجى من خصمه وخصمه لا يزال حيا فتوسوس له نفسه بأنه سيأتي عليه يوم من الأيام يفتح له الطريق إلى التسلط عليه وإلأى التمكن منه فيسومه سء العذاب في مستقبل حياته كما سامه من قبل سوء العذاب فبين الله جل شأنه أنه أنعم على اليهود أنعم على بني إسرائيل الذين هم قوم موسى لأنه جعلهم أئمة وأنه مكنهم في الأرض وأنه جعلهم ملوكا بعد أن انجاهم من عدوهم وخصمهم بين سبحانه وتعالى أنهم لما أمرهم موسى إن يدخلوا البيت المقدس وهذا أمر من الله وعهد وميثاق أخذه على قوم موسى فأمر موسى أن يدخلوا وان يجعلوه وطنا لهم وان يقيموا دولة فتية لهم في بيت المقدس يعلمون فيها بشرع الله جل شأنه فلم يكن من هؤلاء إلا إن تنكروا لموسى فيها بشرع الله جل شأنه فلم يكن من هؤلاء الا إن تنكروا لموسى وتبرموا بأمره لهم بالجهاد ليدخلوا بيت المقدس وجاءهم رجلان قد عرفا أخبار سكان بيت المقدس من الجبارين جاءوا إلى قوم موسى وقالا لقوم موسى لو إنكم تجمعتم وتعاونتم وتآزرتم ثم هجمتم هجمة رجل واحد على أولئك الجبارين لفتح الله عليكم بيت المقدس ومكنكم من رقاب هؤلاء :
(قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ) .
فأبوا أيضا بالرغم من هذه البشارة المباركة فموسى قال ، وهارون قال وبعض الجماعة من بني إسرائيل قالوا فانتهى امر بني إسرائيل إلى أن يقولوا لموسى :
( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) .(1/145)
وماذا يصنع موسى ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) .
هذا شأن بني إسرائيل مع موسى أرادوا إن يتحكموا فيه ويقولون :
نريد اكل طيب فجاءهم بالمن والسلوى فقالوا : هذا لا يصلح لنا نريد عدسا وبصلا وثوما قال هذا أزين لكم أتتبدلون الطيب إلى الخبيث قالوا : ما نريد إلا هذا قال : اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم ثم يضرب الحجر فتخرج منه العيون على عدد الأسباط إثنا عشر سبطا كل سبط له عين حتى لا تتزاحم كل جماعة متقاربة تشرب من العين حتى تتعاطف فيما بينها ثم بعد ذلك يتنكرون لموسى لذلك ابتلى الله هؤلاء على نقضهم العهد والميثاق بأن شردهم أربعين سنة يتيهون في الأرض
قال تعالى : ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) .
وليست محرمة عليهم أربعين سنة فقط بل إلى جانب ذلك عدم الاستقرار يتيهون في الأرض . القصد إن هذه القصة من عند قوله تعالى :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) .(1/146)
يذكرهم بفضل الله عليهم حتى إذا ذكروا هذا انبعثت نفوسهم بالوفاء لأوامره ولكن قلوبهم صلدة لم تتأثر ولم تتذكر فضل الله عليها فلذلك تنكروا لموسى عليه السلام هذه القصة إلى آية ( التيه ) التي أمضاها الله فيهم وعذبهم بعذابها هذه كلها فيها عهد أخذه الله على اليهود عن طريق موسى ونقض للعهد فهي تفسير وتفصيل جزئي لقوله تعالى في مطلع السورة :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود) .
نوع آخر
أولاد آدم من صلبه كانوا على الفطرة ولم يداخلهم شر وقتل النفس معروفة حرمته عند أولاد آدم وعند آدم عليه السلام وجميعهم يعرفون شريعة الله في عصمة الدم ووجوب حفظ النفوس ومع ذلك نقض أحد الأخوين هذا العهد فقتل أخاه هذا من نقض العهد والميثاق راجع إلى الآية في مطلع السورة .
والله اعلم وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
******************
****************************
بناء البيت الحرام
وجعله مثابة للناس وأمنا
ـــــــــ
قال الله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ) .
أمر الله جل شأ،ه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أ، يبني الكعبة المشرفة في البلد الأمين لتكون قبلة للناس يستقبلونها في صلاتهم ودعائهم ويحجون إليها ويطوفون حولها وأعلن المكان الذي يقيم بناءها فيه بما شاء من الآمارات والعلامات فذهب إبراهيم من الشام إلى مكة المكرمة حيث يقيم ابنه إسماعيل عليهما السلام فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بوالده ثم قال : يا إسماعيل إن الله امرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك بدأ يرفعان القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء وضعف إبراهيم جاءه إسماعيل بحجر فوضعه له ليقوم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان :(1/147)
(ُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
فاستجاب الله دعاءهما وأراهما مناسك الحج وأمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج ليفدوا إلى حج بيت الله الحرام رجالا ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) .
وكما عهد الله إلى إبراهيم واسماعيل عليهما الصلاة والسلام ببناء البيت أمرهما أن يطهراه من كل رجس معنوي وحسي يبنياه خالصا لوجه الله الكريم ويجنباه الاصنام وعبادتها والأزلام والاستقسام بها وكل شائبة من شوائب الشرك بالله ويصوناه من الأوساخ والأقذار ومن غشيان الكفار ومن الضجيج ورفع الأصوات وكل ما تأباه النفوس الطاهرة والفطرة السليمة تعظيما لحرمات الله وليكون أدعى لإخلاص الطائفين به والعاكفين فيه والمصلين إليه وأجمع لقلوبهم على عبادة الله وحده ولجئهم إليه دون سواه .
اتفق العلماء على أن الكعبة شرفها الله أول بيت وضع للناس فيس الأرض للعبادة لقوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ) .(1/148)
واختلفوا في أول من بناه فذكر ابن كثير عن أبي جعفر الباقر محمد بن على بن الحسين أن أول من بناه الملائكة قبل آدم وروى عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب أن آدم بناه من خمسة أجبل ثم عدها ثم حكم بأن كلا من الأثرين غريب وروى عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة ووهب بن منبه أن اول من بناه شيث " ثم قال : وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها واما إذا صح الحديث في ذلك فعلى العين والرأس "
والحق أن هذا الاختلاف مما لا تنبنى عليه فائدة في شعائر الحج ولا في أحكام مناسك الحج - فلا ينبغي قطع الوقت وشغل البال في زيادة الاشتغال به وإنما ينبغي الوقوف عند ظاهر ما ثبت في الكتاب والسنة من أن أول من بناه ورفع قواعده بإذن الله إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
جعل الله سبحانه وتعالى للبيت الحرام مزايا كثيرة فجعله مباركاً كثير الخير في الدين والدنيا فيضاعف ثواب العمال الصالحات فيه والقصد إليه لأداء النسك أو التعبد به وتعزف النفوس الطيبة وهي به عن الدنايا والفواحش أكثر مما لو كانت في غيره مهابة له وتعظيماً لحرمانه وخص بالوفود إليه للحج والعمرة واستجاب دعوة خليله إبراهيم فيه فجعل أفئدة من الناس تهوى إلى ذريته في الحرم ورزقهم من الثمرات وقضى أن تجبي إليه ثمرات كل شئ رزقاً من لدنه وفضلاً منه ورحمة بسكان بلده الحرام ومن يفد إليهم تعظيماً للبيت وبارك لهم في طعامهم وشرابهم وبعث فيهم رسولاً منهم إلى الناس كافة وختم به النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
قال ( : " أنا دعوة أبي إبراهيم " وجعل له في البلد الحرام آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً فمن دخله معظماً وقصده محتسباً وأدى المناسك كما شرعت كان آمناً من عذاب الله(1/149)
لقوله ( : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، وقوله : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "
ومن دخلاه كان آمناً من التشفي والانتقام كما كان معهوداً عند العرب فيمن أناب إلى الحرم من تركها الحق يكون لها عليه ، فقد كان يلقي الرجل فيه من له عنده ثأر فلا يتعرض له بالقتل والقتال اللهم إلا في القصاص ونحوه وفيما لو قاتل في الحرم .
قال تعالى : ) وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)(البقرة: من الآية191)
بل حرم الصيد فيه وأن تقطع أشجاره وأن يختلي خلاه إلا ما استثناه الرسول ( وفي بيان مزايا هذا البيت وانه بني للناس جميعاً للعبادة فيه واستقباله في الصلاة والحج إليه وأن الذي بناه إبراهيم الخليل بأمر الله رد على اليهود والنصارى مع أنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعلمون أنه إنما بني هذا البيت للحج إليه والاعتكاف فيه والصلاة عنده وإليه ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك .
فكيف يزعمون أنهم أولى بإبراهيم وأنهم على ملته ولا يفعلون ما شرع الله له وبهذا تعرف المناسبة بين هاتين الآيتين وقوله تعالى قبلها :
)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا)(آل عمران: من الآية65)
إلى قوله تعالى : ) وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران: من الآية68)فكذبهم في زعمهم أنهم على ملته ووبخهم على صدهم وإعراضهم عن معالم شريعته من التوحيد وتعظيم حرمات الله وشعائر بيته الحرام وبين ما بين قولهم وعملهم من اختلاف واضح وتناقض فاضح .
*********************
المبحث التاسع
مكتبته وعمل يومه وليلته
ـــــــ
مكتبته :(1/150)
إن مما لاشك فيه أن المكتبات في كل أمة عنوان وعيها وتطورها كما أنها هي المقياس لتقدم تلك الأمم ونهوضها إذ هي من أهم ركائز المعرفة وأقوى دعامات العلم فهي زاد لا ينضب ومعين لا يجف تتحف القارئ والباحث والطالب والمعلم ورواد العلم والمعرفة بروافد ثرة وينابيع متدفقة من الفوائد والمعارف والعلوم .
إن جمع الكتب وإدامة النظر فيها والغوص في أعماقها من اهم الأسباب المعينة على تحصيل العلم .
قال عبد الله بن المبارك : من أحب أن يستفيد فلينظر في كتبه .
ولقد صدق من قال :
نعم المؤانس والرفيق كتاب ……تخلو به إن ملك الأصحاب
لا مفشياً سراً ولا متكبراً ………وتفاد منه حكمة وصواب
وقال ابن الأعرابي يصف الكتب :
لنا جلساء ما نمل حديثهم………ألباء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى……وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدداً
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة……ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
وقال ابن الجوزي :
ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة فهي أكرم مال وأنفس جمال والكتاب آمن جليس وآسر أنيس وأسلم نديم وأفصح عليم .(1/151)
لقد كان السلف الصالح - رحمهم الله ورضي عنهم - يحرصون على إدامة النظر في الكتب لأنها خزائن العلم وكان الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من هذا الطراز الموفق من العلماء موسوعي المعرفة له نفس طلعة لا تمل من القراءة ولا تكل من المعرفة ربي نفسه بنفسه وجمع من العلوم فأوعى ولم تكن له مكتبة ضخمة كما عند غيره ولكنه جمع نفائس المصادر والمراجع العلمية التي لا يستغنى عنها عالم فضلاً عن طالب علم وكان - رحمه الله - حسن الاختيار للكتاب فلا يقتني من الكتب إلا ما كان مفيداً ونافعاً ولقد كانت له عناية خاصة بالكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد وتوضح عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يكن جمعه لأمهات الكتب والمراجع العلمية على سبيل المباهاة والمفاخرة كما هو الحاصل عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم اليوم . بل كان جمعه لها لرغبة أكيدة وغاية نبيلة هي الوقوف على مصادر العلم الثرة ومراجع المعرفة المختلفة وإرواء ظمأه منها حتى ينفع نفسه أولاً وينتفع الناس بعلمه ثانياً .
وإني لأعجب للشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من كثرة إهدائه للكتب من مكتبته وظني به أنه كان يقرأ كتبه التي تهدي إليه أو يقوم بشرائها قراءة فهم وتدبر حتى إذا انتهى من قراءتها أهداها إلى أحد طلابه ومحبيه وهذا إن دل فإنما يدل على متانة علمه وقوة حافظته وقدرته الهائلة على الاستيعاب كما يدل هذا التصرف النبيل على سخاء نفسه وصفاء سريرته وحبه للبذل والعطاء ومن مآثره الأثيرة على أنه أهداني كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي " شرح علل الترمذي " في مجلدين فجزاه الله خير الجزاء وتغمده بواسع رحمته .(1/152)
إن من يتأمل أحوال الناس اليوم بصفة عامة وطلبة العلم بصفة خاصة يجد العجب العجاب فكثير من هؤلاء خزائنهم مترعة بنفائس المخطوطات ورفوفهم مثقلة بأنواع المعارف والعلوم وهم مع ذلك إلا القليل منهم - لا يقرأون كتبهم ولا يفتشون خزائنهم وشعارهم ودثارهم جمعت كذا واقتنيت كذا .
وإذا سألته عن علمه………قال علمي يا خليلي في سفط
في كراريس جياد أحكمت……وبخط أي خط أي خط
وإذا سألته عن مشكل……حك لحييه جميعاً وامتخط
وقال بعضهم :
إذا لم تكن حافظاً واعياً ……فجمعك للكتب لا ينفع
وتحضر بالجهل في موضع……وعلمك في الكتب مستودع
ومن كان في عمره هكذا……يكن دهره القهقري يرجع
وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي - رحمه الله :
ببيت الشيخ كتب قد شراها………وجمعها ولكن ما قراها
وطابت نفسه منها بسلوى………إذا فتح المكان بأن يراها
وينظر في قطائعها ويمضي………وهل تدري القطائع ما وراها
فوا أسفي على الأيام ضاعت……هباءً وقضى على نفس كراها
وقد قنعت من الدنيا بدون………وباعتها ببخس في شراها
عمل يومه وليلته
يذكر أبناؤه أن يوم الشيخ كان يبدأ مع آذان الفجر حيث يلبي نداء الله متوجهاً إلى المسجد القريب من بيته سيراً على الأقدام مع أبنائه وكانت الصلاة في المسجد وحضور الجماعة أحب شئ إلى قلبه ومن توفيق الله لفضيلته أنه حافظ على أداء الصلوات الخمس كلها في المسجد حتى آخر أيام حياته تغمده الله بواسع رحمته.
وبعد أن يفرغ من أداء الصلاة يعود إلى بيته وفي غرفته الخاصة به والتي أعدت للقراءة والاطلاع وإعداد الفتاوي والبحوث في هذه الغرفة يقبل على الله تعالى بكليته قارئاً للقرآن متدبراً آياته والقرآن معجزة الله الخالدة وحجته الدامغة وهو عمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر فلا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا سعادة إلا به .(1/153)
ولذا فإن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يحرص كل الحرص على أن يخلو بكتاب ربه في بضع ساعات من ليل أو نهار تالياً له حافظاً وعاملاً بأحكامه قدر استطاعته ثم يذهب إلى عمله مبكراً وكان رحمه الله منظماً في عمله محافظاً على وقته أميناً في مهنته يحرص كل الحرص على استثمار وقته فيما يعود بالنفع على المسلمين وكان يقضي جل وقته في عمله بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في مراجعة المستفتين ويستمر عمل فضيلته الدؤوب حتى حلول موعد آذان الظهر حيث يذهب للصلاة في المسجد القريب منه ثم يعود إلى عمله فيخص ما بقى من الوقت في قراءة المعاملات والاستفتاءات الرسمية واستقبال بعض الزائرين الذين يقصدون فضيلته للسلام عليه - رحمه الله - وبعد انتهاء العمل يعود الشيخ إلى بيته ليتناول طعام غدائه ثم يأخذ قسطاً من الراحة قبل صلاة العصر .
وبعد صلاة العصر - يقول ولده الأكبر : كان يجلس والدي رحمه الله - في كثير من الأحيان بعد صلاة العصر في المنزل يقرأ ويطالع وينظر في الفتاوي والبحوث العلمية أما بعد صلاة المغرب فيستقبل طلبة العلم والزوار إلى صلاة العشاء حيث يؤدي الصلاة جماعة ثم يدخل غرفته الخاصة به للقراءة والاطلاع ومن ثم الراحة بعد ذلك .
********************
المبحث العاشر
تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء
ـــــــ(1/154)
لقد أشرت سابقاً إلى أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان مشرق الأسلوب محرر العبارة تتسم كلماته بالجزالة وألفاظه بالأصالة لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه ولعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن ( المترجم له) عرف بدقة فهمه وأمانته العلمية واستيعابه الواسع لجوانب المباحث المطروحة ومن ثم كان -رحمه الله - نقاداً وصيرفياً محنكاً يميز بين صحيح الكلام وسقيمه وجيده ورديئه يتناول الموضوع بالتحليل والشرح والتمييز والحكم ويعلق على فقراته بتعليقات موجزة قليلة المبنى غزيرة المعنى محققة للمقصود وقد قضي حياته في تأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها وتحرير مواطن الخلاف فيها فحياته كلها عمل وجد ومثابرة فلا تراه إلا معلقاً على كتاب أو مصححاً لأثر أو مقوماً لمؤلف أو مصوباً لنتاج علمي أو مفنداً لحادثة أو راداً لشبهة كل ذلك في أدب جم وخلق محمود ونقد بناء إلى جانب ذلك كان له - رحمه الله - جولات نقدية في دروسه لا يدركها إلا الصفوة من تلاميذه وكان إذا نقد أحداً أو موقفاً أجمل في الكلام .
وأما تعليقاته فتمتاز بوضوح الكلام وقلته ودقة معانيه والرغبة في الوصول إلى الحق من أقصر طرقه مع البعد عن التكلف المذموم والإسهاب المخل ومن أنفس تعليقاته تعليقه على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وتعليقاته على " تفسير الجلالين " و " العقيدة الواسطية " و " الحمومية " و " الرسالة التدمرية " وتعليقاته على كتاب " الاعتقاد " للبيهقي و " الكافي " لابن عبد البر و " الرسالة التبوكية" لابن القيم وغيرها من الرسائل والكتب والبحوث مما يصعب حصره واستقصاؤه .
والحق يقال : أن هذا الرجل ظل طيلة حياته داعياً إلى الخير صادق العزم حسن التوجه الحكمة ضالته والحق وجهته والصبر معوله وإنكار الذات صفته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دأبه .(1/155)
وفي الصفحات التالية صور مشرقة ونماذج كثيرة من تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء الذي كان يتسم بالموضوعية والجدية بعيداً عن الإثارة والغلو . ولا شك أن هذه النماذج النقدية والتعليقات القيمة تدل دلالة قاطعة على أنه كان - رحمه الله - مثالاً حياً لما كان عليه السلف الصالح من تقى وإخلاص وتجرد وإيثار للحق ونفرة من الباطل فعاش - رحمه الله - ذات الله لومة لائم وصدق رسول الله ( إذ يقول : " من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس " .
ومن هذه النماذج النقدية النيرة نقده لكتاب : " تأملات وكشوف حديثة في القرآن الكريم " وقد نقد الشيخ هذه الكشوف الزائفة وبين عوارها وجلى ضلالها فقال :
أولاً : ذكر المؤلف تفسيراً عن ابن كثير لسورة الكوثر وقال : هذا هو التفسير المعروف لهذه السورة ثم بدأ يفسرها برأيه تفسيراً منكراً مدخولاً لا يمت إلى الموضوع بصلة ولم يبين ما فيها من أحكام ولم يحم حول المقصود منها من أمر الله سبحانه ورسوله ( بإخلاص العبادة له صلاة ونحراً شكراً لربه على عظيم عطائه ووفاء بحق إنعامه .
ثانياً : تكلف تكلفاً كريهاً في محاولته إظهار الترابط بين آيات السورة الواحدة بما اكتشفه من فكرة واحدة تسري في آياتها جميعاً بل أساء إلى نفسه وإلى كتاب الله تعالى والمسلمين ويا ليته ما اكتشف تلك الفكرة فإنها محض وهم وخيال ومجرد قراءتها أو سماعها يغني عن نقدها وينادي بسوئها وفسادها .
ثالثاً : ذكر أمثلة تطبيقية في سورة من القرآن لفكرته التي اكتشفها فكشف بذلك عن وهم باطل وخيال كاذب وإلحاد في آيات الله يتبين ذلك مما يأتي في الفقرة الرابعة .
رابعاً : جعل النهر المفهوم من كلمة الكوثر - فكرة واحدة محوراً يدور حوله جمل " إنا أعطيناك الكوثر " وكلماتها .(1/156)
فالصلاة كنهر يغتسل فيه الإنسان فيطهر من ذنوبه ويسبقها وضوء وهو من النهر وتنهي عن الفحشاء والمنكر وهذا من الطهارة التي تكون بالنهر والنهر في النحر هو دم الأضحية إذا نحرت فسال دمها كالنهر وجرى متدفقاً في الجسم فأشبه النهر العادي في صفات الثقل والتغذية والتطهير ويتجلى هذا في تجميعه لسموم الجسم ثم طرحها في الكليتين للتخلص منها عن طريق الجهاز البولي وهناك طهارة أخرى وهي تزكية النفس من الشح بدفع ثمن الأضحية .
وأما النهر فيتجلى في استمرار العطرة للنبي( على مر الزمان وفي بتر ذكرى خصومه ومبغضيه مدى الدهر .
ثم رتب المعنى الإجمالي لسورة الكوثر على ذلك فقال : " وهكذا تتجلى فكرة النهر في جميع أجزاء السورة مما يدل على أن هناك هندسة إلهية خاصة لهذه السورة الكريمة وضعت لتفيد معنى إجماليا رائعا متكاملا متناسقا : فكأن الله تعالى يخاطب رسله ويخاطب كل مسلم من أتباعه قائلا : " طهر نفسك في نهر من أنهار الدنيا تنل نهرين خالدين لا ينقطعان أبدا : اغتسل في نهر الصلاة مطهرا جسمك ونفسك وفي نهر الأضاحي مطهرا روحك من أدران الشح تنل نهر الذكر المرفع الدائم في الدنيا والآحرة كما تنال نهر الكوثر الخالد العظيم في الآخرة " أ . هـ
أقول :
أولا : إن القرآن نزل بلغة العرب وله مقاصد سامية وأهداف عالية فيجب أن يفسر باللغة التي نزل وأن يراعى في تفسيره مقاصده وأهدافه وما كتبه مؤلف الرسالة أقول لا يتفق مع لغة العرب وأساليبها ولا يمت إلى مقاصد القرآن وأسس التشريع بصلة بل هو تحريف للكلم عن مواضعه وإلحاد في آيات الله اتباعا للهوى والظنون الكاذبة فليكف عن التأليف وليتعلم اللغة العربية وأصول الإسلام أولا حتى إذا بلغ أشده في العلم أخذ في تمرين نفسه على التأليف فيما يقواه .
ثانياً : زعم أن فكرة النهر تدل على هندسة خاصة بهذه السورة(1/157)
أقول : هل يفهم من الخرط والخوض هندسة أو حسن تنسيق وهل يجني من الشوك العنب فيالله العجب العجاب .
- خامسا : سلك ذلك المسلك في سورة العصر فذكر تفسيرا لها عن ابن كثير رحمه الله تعالى وقال هذا هو التفسير المألوف للسورة وكأنه لم يرق في نظره ولم يحز قبولا ولذا بدأ يفسرها بما زعمه متناسقا تناسقا عجيبا فزعم أن العصر وهو الزمان قد سرى في آيات السورة وكلماتها فإن الإنسان قد سرى فيه الزمان حتى إنه لا يمكن أن ينفك عنه في جميع أطواره من حمل أمه به إلى مماته فهو الإطار الذي يحدد بدايته ونهايته بل ليس الإنسان إلا عمره وسرى الزمان أيضا في الخسارة والريح فكل منهما لا ينفك عن الزمان عملا ناجحا لتحصيل الكسب أو فاشلا للوقوع في الخسارة .
أو حسابا لكل منهما والمراد بالخسارة ما قبل الاستثناء - إلا - وبالربح ما بعد - إلا - وسرى الزمان في الإيمان فإنه كالشجرة تبدأ بذرة ثم تنبت وتنمو وتزهر وتثمر وكذا الإيمان في نموه فيحتاج كل منهما إلى زمان .
وسرى الزمان أيضا في التواصي بالحق فإن التواصي بذلك يتوقف على تعلمه والتمييز بينه وبين الباطل والتعلم يحتاج لزمن طويل كما أن التواصي بالحق نفسه يحتاج إلى زمن طويل فتعلمه والتواصي به كلاهما لا ينفك عن الزمان .
وسرى الزمان أيضا في التواصي بالصبر فإنه لا بد للصبر من قياسين لتقويم حقيقته :
الأول : شدة الألم وخفته والثاني : الزمان الممتد مع الألم طولا وقصرا والممتد مع الصبر كذلك بهذا يتبين أن الزمان يسري في سورة العصر فيصبح معناها الإجمالي(1/158)
إن سورة العصر آي الزمان إذ يتصدرها القسم بالعصر لتلفت النظر إلى أهمية الزمان العظمى ، إن الحضارة التي نعيشها اليوم تحسب للزمن . . . وكأن السورة تريد أن تقول : أيها الإنسان إن رأس مالك هو الزمان هو عمرك الذي في نهايته ستحسب أرباحك وخسائرك وإنك لخاسر إلا إذا أنفقت عمرك في أعمال معينة ، إن زمنا تقضيه في نمو إيمانك زمن رابح وإن زمنا تقضيه في الأعمال الصالحة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر زمان رابح .
أقول : إن هذا تفسير يكشف عن عوار نفسه تكلفا وتحريفا وزيغا وإلحادا ولا يحتاج إلى تقرير والغريب أن المؤلف يزعم أنه بين به هندسة إلهية في السورة وهذا مما يضحك الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد استمر المؤلف في تفسيره سورا أخرى على الأسلوب الكريه الذي لا يتفق مع عقل ولا نقل ، نسأل الله العافية والهداية إلى سواء السبيل .
وأخيرا لا أجدني في حاجة إلى إبداء عوار الرسالة والحكم عليها بالعقم والفساد فإنها تنادي على نفسها بما هي له أهل وقديما قيل :
حسبك من شر سماعه . نسأل الله السلامة والتوفيق .
عبد الرزاق عفيفي
وفي الصفحات التالية نماذج أخرى من كتاباته وتعليقاته القيمة وتقريراته الوافية وجولات في أعماق كتب التراث ونظرات وتأملات في عدد من الكتب والمصنفات وكل هذه التعليقات والتقريرات والجولات النقدية لتقدم البرهان الساطع والدليل القاطع على أن الشيخ غير مدافع في سعة علمه واطلاعه ووقوفه على مناهج العلماء وإحاطته الواسعة بمصنفاتهم ومؤلفاتهم وتمييز الصحيح من السقيم منها وإيراد ما يؤخذ عليها في أسلوب رائع وعبارات سهلة واضحة .
*********************
نظرات وتأملات
في كتب ومؤلفات فضيلة الشيخ العلامة
محمد الخضر حسين شيخ الأزهر
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
ــــــــــ(1/159)
كتب فضيلة الشيخ العلامة الجهبذ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - تقريرا وافيا وبيانا كافيا تناول فيه عددا من كتب ومؤلفات العلامة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر في زمنه موضحا في تقريره وبيانه ما تمثله هذه الكتب وتلك المؤلفات من قيمة علمية عالية مع الإشادة بالمكانة العلمية والأدبية التي تبوأها المؤلف وذلك واضح جلي من خلال تصويبه وتعليقه على ستة من هذه الكتب والمؤلفات وقد جاء تعليق فضيلته مجملا ومفصلا مبتدئا ببيان الخصائص العامة والمجملة لهذه الكتب وما تشترك فيه من أمور ثم أعقب ذلك بكلمة مختصرة عن كل كتاب من هذه الكتب الستة فجاء تعليقه على النحو التالي :
أولا : بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها :
أ - تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب وعلوه مع سلاسة العبارة ووضوحها وسمو المعاني ودقتها وإصابة الهدف من قرب فلا تكلف فيها ولا غموض ولا حشو ولا تكرار .
ب- تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف وتضلعه في علوم شتى في العلوم العربية والاجتماعية والدينية واستقصائه في بحثه وفي نقاشه لآراء مخالفيه وأدلتهم واعتداله في حكمه وفناويه .
جـ - يتمثل فيها النزاهة قلم المؤلف وحسن أدبه ونبل أخلاقه . لكن لم يمنعه ذلك أن ينقذ الملحدين ومن انحرف به هواه عن الجادة والصراط المستقيم نقدا لاذعا لا يخرج به عن الإنصاف ولا يتجاوز به حد الأدب في المناقشة لرعاية حق مخالفيه وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه وسيرا مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فلا جهل ولا سفاهة إنما يقابل سيئة خصمه وسبه بالحسنة أو غض الطرف عنها .
د - يتمثل فيها الصدع بالحق والكفاح عنه بحسن البيان وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا لا يخشى في ذلك لومة لائم ، عماده في ذلك كتاب الله وسنة رسوله ودليل العقل وشاهد الحس والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة والقضايا التي أجرت في العالم .(1/160)
ثانيا : كلمة مختصرة عن كل كتاب من هذه الكتب الستة :
أ - تونس وجامعه الزيتونة :
في هذه الرسالة كلمات تاريخية عن تونس وفقهائها وشعرائها وعن جامعة الزيتونة وجملة من الأحكام الإسلامية ونماذج من الشعر الأدبي الرفيع وتراجم لجملة من الفقهاء والأدباء وفي هذا قيام من الشيخ بشيء من حق بلاده عليه وحق مشايخه وعلماء بلاده ويتجلى في هذه الرسالة حنين الشيخ النغلغل في سويداء قلبه إلى تونس ومن فيها وكأن ما كتبه من ذلك استجابة لهذا الحنين وصدى للخواطر التي تخالج والرسالة فيها خير كثير من الفوائد الفقهية والتاريخية والأدبية . غير أني ألمس فيها نوعا ما من الغلو في بعض المشايخ بتسديدهم وزيادة إجلالهم وفيها غض الشيخ طرفه على خلاف عادته عن أبيات فيها غلو في مديح صاحب تونس لابن خلدون منها ص 56 .
ورضاك رحمتي التي أعتدها ……تحيي مني نفسي وتذهب بؤسي
ب - بلاغة القرآن :(1/161)
تشتمل هذه الرسالة على مجموع محاضرات ومقالات أهمها بلاغة القرآن وإعجازه في بلاغته وعلو أسلوبه وفي تشريعه وقصصه وإخباره بالمغيبات وفي حكمه وأمثاله ولهذا سميت الرسالة بهذا الأسم وإن كانت مشتملة على كثير من الموضوعات الأخرى النافعة مثل حكم ترجمة القرآن والردود القوية على من حرف آيات الحدود وتأول قصص القرآن على غير وجه تأويلا تنكره اللغة العربية ويأباه الواقع العملي في زمن النبي( وأصحابه الى يومنا هذا وإن تقلص ظل تطبيق هذه الآيات في كثير من الأمم التي تنسب الى الاسلام لتفريطها ونوم علمائها وغفلتهم عن أداء الواجب الإسلامي واتباع حكام تلك الأمم لهواها وتأثرها بالدول الكافرة أو تسلط الدول الكافرة عليها تسلطا غير عليها معالم دينها ولبس عليها حتى زعمت أن شريعة الله غير صالحة لكل زمان ومكان وقد فصل المؤلف الرد على أولئك وخاصة من تأول حد السرقة وحد الزنا ومن تأول قصة أيوب عليه السلام مثل الشيخ جان محيسن أو قصص القرآن جملة فزعم أنه تمثيل خيالي لا واقع له أو ليس بلازم أن يكون له واقع يحيكه مثل الدكتور خلف في رسالته التي قدمها لنيل الدكتوراه من إحدى الجامعات . وقد أجاد المؤلف وأفاد في كل ما تعرض له من مباحث هذه الرسالة غير أنه خالف مذهب السلف في مبحث المحكم والمتشابه في ( ص 38 - 44 ) فجعل نصوص المحكم والمتشابه في الكتاب والسنة من المتشابه وتأولها بحملها على معنى مجازي معين سوى المعنى الحقيقي أو التفويض في أصل المعنى مع أن إمامهم أبا الحسن الأشعري لا يرى التأويل لهذه النصوص ولا التفويض في أصل المعنى بل يثبت نصوص الاسماء والصفات المنصوصة التي في الكتاب والسنة على حقيقتها ويفوض في كيفيتها كما هو مذهب السلف من الصحابة ومن تبعهم من أئمة المسلمين المحققين قديما وحديثا فلو سلك مسلك المحققين في نصوص الاسماء والصفات لكان أرشد له وأسلم ولكن المذهب جمهور العلماء من المتأخرين سطوة لا يكاد يسلم منها(1/162)
إلا من عصم الله والله المستعان .
جـ - رسائل الإصلاح :
رسائل الإصلاح هي أيضا مجموع محاضرات ومقالات تحدث فيها المؤلف عن جملة من أخلاق الكريمة وأثرها في النهوض بالأمة وتماسكها وعن عناية الإسلام بها وحثه على معالى الأمور والترفع عن سفسافها وبين فيها معنى المساواة في الإسلام ونوه بشأن القضاء العادل في الإسلام وأفاض القول في بيان ضلالة فصل الدين عن السياسة ومضرة الانحراف عن الإسلام .
وبين سماحة الإسلام وعدالته في معاملة غير المسلمين في السلم والحرب ومضرة محاكاة المسلمين للكفار إلى غير هذا من الموضوعات النافعة . . وهذه الرسائل من خير ما كتب المؤلف وقد أفاض فيها وأوجاد وجاء بما لا غنى للطالب العلم عنه . إلا أنه سلك مسلك المؤولين لنصوص الاسماء والصفات فأول حديث " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " فخالف في ذلك مذهب السلف الذين أثبتوا صفة اليمين للرحمن حقيقة مع قولهم بالمعنى الكنائي الذي فسره الشيخ أيضا ولكن المؤلف كما تقدم لم ينفرد بذلك بل تبع فيه مذهب الأشعرية ومن سلك مسلكهم كما تقدم والله الموفق .
د - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان :(1/163)
هذه الرسالة كسابقتها مجموع محاضرات ومقالات في جوانب متنوعة من الشريع الإسلامية وفي فقهائها ولكن سميت باسم الأولى منها لأنها أهمها وقد أفاض المؤلف القول فيها وفصله تفصيلا يحتاج إليه كل طالب علم فقد تكلم كلاما حسنا عن الفقهاء وطبقاتهم وعن صلتهم بالحكام ونصيحتهم لهم وبين أسباب انتشار مذاهبهم وجملة من أسباب اختلافهم في المسائل الفقهية وتكلم في مسائل اجتماعية وأفاض القول في تعدد الزوجات والسحر ورد على شبهات المشبهين وفصل آراء العلماء في التصوير وبين مضار الطيرة والتشاؤم في العقيدة والكد في الحياة والنشاط في الأعمال وختمت المجموعة بجملة من الفتاوى والأحكام غير أنه - فيما رأى - لم يخالفه الصواب في قوله بإحياء ليلة النصف من الشعبان بالعبادة رجاء أن يكون لها مزية في استجابة الدعاء وقبول العبادة مع اعترافه بأن ما ورد فيها من الأحاديث لم يبلغ درجة الصحيح في نظره وهي في نظر غيره لم تصح بل هي مردودة إذ لو صحت لكان خير الخلق صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه أولى بإحيائها بدعة وترك إحيائها سنة وكلامه في مبحث السنة والبدعة ص ( 98 ) من " مجموعة الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان " يشهد لما ذكرته من أن إحياءها بدعة وتركها سنة وقد حاول المؤلف في صفحة ( 174 - 190 ) من هذه المجموعة أن يجعل للتصوف أصلا صحيحا مع الاحتياط منه في ذلك وإنكاره لبعض أعمالهم ورده على طوائف منهم إلا أنه بالرغم من هذا الاحتياط جعل من المتصوفة جماعة من أهل الزندقة والإلحاد وترجم لهم في نهاية مبحث التصوف منهم عمر بن الفارض ومحيي الدين بن عربي وعلى كل حال فكل إنسان يؤخذ من قوله وعمله ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فله العصمة من ربه فضلا وإحسانا .
ه- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين :(1/164)
هذه أيضا مجموع محاضرات ومقالات ألقيت ونشرت في مناسبات مختلفة كالهجرة النبوية والمولد النبوي والرد على ما يراه الشيخ خطأ في مقالات كتبها بعض العلماء والكتاب وقد تكلم فيها الشيخ عن الأمم قبل إرسال الرسل إليهم وما كانت عليه من جهل وضلالة وشرك فاضح وفوضى مهلكة وبين موقف الرسل منهم حتى فصل الله بهم بين الحق والباطل وأفاض القول في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي معجزاته الكونية والروحية فجمع فيما كتبه خيرا كثيرا . غير أنه لما عرض للمولد النبوي في محاضراته ومقالاته قرر مشروعية الاحتفال به ورضى بذلك لنفسه وللمسلمين دينا وامتدح كمن عنى بذلك بحجة أن من احتفل به يفعلوا إلا مثل ما فعله حسان بن ثابت وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب وأنس بن مالك رضي الله عنهم ممن يتحدثون عن محاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة .
وهذا الذي قرره الشيخ هو في نظره ونظر الكثيرين من أهل السنة بدعة منكرة باعتراف المؤلف نفسه في مبحث السنة والبدعة في صفحة ( 98 ) من المجموعة التي عنوانها الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان حيث قال : " والترك الذي يدل على عدم الإذن هو ما يروي في لفظ صريح كتركه عليه الصلاة والسلام الأذان والإقامة في صلاة العيدين وتركه غسل الشهداء والصلاة والسلام الأذان والإقامة في صلاة وتركه غسل الشهداء والصلاة عليهم ويلحق بهذا تركه الذي لم ينقل بلفظ صريح ولكنه يفهم من عدم نقلهم للفعل الذي من شأنه أن تتوفر الدواعي على نقله لو وقع . فيصح لنا أن نقول : من السنة ترك رفع الأصوات بالذكر أمام الجنازة ويكفي في الاستشهاد على أن السنة ترك هذا الرفع عدم نقلهم لفعله وهو من الأمور التي لو فعلت لتوفرت الدواعي على نقلها " .(1/165)
وأقول تطبيقا لهذه القاعدة الصحيحة التي يجب التسليم لها من كل منصف أن النبي ( لم يحتفل بمولد نفسه ولا بمولد غيره من الرسل والصحابة مع امتداد حياته بعد الرسالة ولا احتفل بمولده أحد من الصحابة وهم خير القرون المشهود لها بالخير ورسول الله ( أكرم الخلق على نفوسهم وأحب العالمين إلى قلوبهم ولو احتفلوا بمولده لنقل لتوفر الدواعي على نقله . فيكفي في الاستشهاد على أن ترك الاحتفال بمولده سنة وأن فعله بدعة عدم نقلهم لفعله . . أما ما ذكر عن حسان وغيره من الصحابة من الثناء على النبي( فإنهم لم يلتزموا فيه وقتا معينا يتخذونه موسما ومجتمعا وهذا متفق عليه ومندوب إليه لشرح سيرة النبي( تدريسا أو دفاعا عنه عند وجود الدواعي لذلك دون التزام حال معينة أو زمان أو مكان معين وإنما البدعة التزام زمن أو مكان بعينه يعتبر موسما ويعتاد الناس الاجتماع فيه شأنهم فيه كشأنهم في الأعياد بل هذا ربما أدى إالى الغلو في إعظام النبي( وإطرائه وقد نهى عن ذلك فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " بل حصل الغلو والإطراء بالفعل حتى ممن ينتسبون إلى العلم وشغلوا مناصب كبيرة لها شأنها في دولتهم يضاف الى ما تقدم قوله في ص ( 54 ) من نفس المجموعة وأذكر بهذه المناسبة أي المناسبة الاحتفال بالمولد بيتبين ينسبان إلى صاحبنا الأستاذ السيد فلان :
سيد الرسل ومن بعثته ……كست الكون بهاء وفخارا
قم إلى النور الذي جئت به ……افترضي إن يصير النور نارا(1/166)
ثم شطر البيتين بما يدل على رضاه بما فيهما وان ادعى احد تأويل هذا بحمله على التحسر على أحوال المسلمين والتباكي على ما هم فيه من ضعف وجهل وتأخر فهو تأويل بعيد إذ الظاهر الاستنجاد بالرسول والاستعانة به لإنقاذ المسلمين مما هم فيه من النار والشقاء إلى النور والسعادة فهو ما يفتح باب شر وشرك على المسلمين وخاصة إذا حصل ممن ينتسب إلى العلم . فعلى العلماء أن يمسكوا عن مثل هذا وإلا فتحوا على المسلمين أبواب فتنة لا يطفأ أوارها ولا يسد بابها والله النوفق .
و - الخيال في الشعر الجاهلي :
هذه الرسالة تكلم فيها الشيخ عن الخيال عند الناس على أختلاف جنسياتهم ولغاتهم وعن أنواع الخيال وأطواره وتفاضله ثم عن الخيال في الشعر الجاهلي وهو المقصود وذكر إلى جانبه مباحث الخطابة عند العرب وما يتصل بها من أبحاث ومحاضرتين ألقاهما في نشأة علوم البلاغة " المعاني والبيان والبديع " وقد أبدع المؤلف في هذه الرسالة أيما إبداع وأخذ فيها بأطراف كثيرة من علوم اللغة العربية ولا عجب فللمؤلف الباع الطويل في هذه العلوم كما أن له قدما راسخا أيضا في العلوم الدينية وخاصة الفقه وأصوله .
وقد تجلى في هذه الرسالة جمال خلق الشيخ وكمال أدبه واعتداله في ميوله ودوافع نفسه . فإنه لم يعرج فيما ذكره من النماذج الشعرية على شعر ماجن أو قول تجاوز حد الأدب واللياقة .
غير أنه على خلاف عادته سكت عن أبيات قليلة فيها غلو كثير وكذب واضح منها قول أبي العتاهية في قصيدته التي هنأ بها المهدي بالخلافة :
ولو رامها أحد غيره ……لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب ……لما قبل الله أعمالها
ومن ذلك قول أبي الفضل :
لم يبق للجور في أيامهم أثر ……غير الذي في عيون الغيد من حور(1/167)
وقد دافع عن حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما نسب إليه من الأحاديث المشينة دفاعا يدل على سعة علمه بأحوال الشعراء ووزنهم بما عهد منهم في حياتهم الشعرية وما هم عليه من أخلاق . . كما يدل على صدق حبه للصحابة ووفائه لهم وانزالهم منازلهم رضي الله عنهم .
وبالجملة فهذه الرسائل جمة الخير ، كثيرة النفع ، لا يغض من قيمتها تلك المآخذ ولا ينبغي أن يحول دون الانتفاع بما فيها هذا النزر اليسير الذي لا تكاد تسلم منه كتابة كاتب أو تأليف مؤلف .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
عبد الرزاق عفيفي
نائب رئيس
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
**********************
التقرير الوافي عن كتاب ( الكافي )
لابن عبد البر رحمه الله
ـــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد . . .
فبناء على ما أشار به سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من الاطلاع على كتاب " الكافي " للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رحمه الله وكتابة تقرير عنه .
فقد قرأت منه أبواب الطهارة والصلاة والحج وأبوابا من المعملات وأبوابا من الجنايات ومسائل من المواريث فوجدته كما يلي :
أولا : سلك المؤلف في كتابه الكافي مذهب مالك بن أنس - رحمه الله - وجمع فيه من المسائل أصولا يبنى عليها كثير من الفروع واستقى ذلك من كتب المالكيين ومذهب المدنيين وتعهد في مقدمة كتابه أن يقتصر على الأصح علما والأوثق نقلا وعول على كتاب " الموطأ " - لعبد الله بن عبد الحكيم وكتاب " المدونة " وكتاب " المختصر الكبير " لعبد الله بن عبد الحكم وكتاب " المبسوط " للقاضي إسماعيل بن اسحاق البغدادي وكتاب " الحاوي " لأبي الفرج القاضي و " مختصر بن مصعب " أحمد بن أبي بكر الزهري " و موطأ " عبد الله بن وهب القرشي وكتاب " الموازين " لأبي المواز وكتاب " الواضحة " لعبد الملك بن حبيب.(1/168)
ثانيا : التزم المؤلف طريقة المتقدمين في تأليفهم من عدم التكلف في التعبير فكان كتابه سهل العبارة قوي الأسلوب حسن التنسيق والترتيب قريب المأخذ يستفيد منه الطالب دون عناء .
ثالثا : كثيرا ما يعبر المؤلف في كتابه " الكافي " عن المسألة بلفظ الحديث أو الأثر أو بما يقارب ذلك ويستدل بالآيات والأحاديث والآثار أحيانا بعد ذكر المسائل إلا أنه لا ينسب ذلك إلى ديوان من دواوين السنة ولا يبين درجته وإنما يعني ببيان وجه الاستدلال والترجيح وأقرب الكتب شبها به في طريقته من حيث السهولة والاستدلال كتاب " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني وكتاب " المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات " وكتاب " الكافي " لابن قدامة .
رابعا : قام محقق هذا الكتاب بإصلاح الأخطاء الإملائية وبيان معاني المفردات الغامضة وخرج الأحاديث التي استدل بها المؤلف في كتابه " الكافي " وبين درجتها باختصار معتمدا في ذلك غالبا على ما ذكره أبو البركات ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " بلوغ المرام " وكتابه " التلخيص الحبير " كما أنه بين مواضع الآيات من سورها وذكر نبذة من اختيارات المؤلف ليدل على أنه حرر المسائل ودققها وعقب عليها وليس مجرد ناقل لها ونقل هذه الاختيارات في الفصل الثامن من القسم الأول من رسالته ابتداء من ( ص 231 إلى ص 841 ) وترجم للأعلام المذكورة في الكتاب وعرف المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في جميع مسائل كتابه " الكافي " والتي أشار إليها في مقدمة " الكافي " وفي خاتمته .
خامسا : ذكر محقق الكتاب أثناء التعريف بعمله فيه ( ص 751 ) أن أبا عمر أشار في مقدمة كتابة خاتمته إلى مصادرة التي استقى منها كتابه .
وذكر في تعليقه على كتاب " الكافي " ص ( 171 - 371 ) أن أبا عمر سيذكرها في الخاتمة بأسانيدها إلى مؤلفيها .(1/169)
وبرجوعي إلى النسخة الأصلية الموريتانية التي اعتمد عليها محقق الكتاب وجدت الإشارة إلى المصادر أو الدواوين بآخر صفحتين ذكر المحقق أنهما من النسخة الفارسية التي كان يرجع أيضا إلى ما وجدهمن صفحاتها .
سادسا : وجدت غلطات مطبعية كثيرة في النسخة المكتوبة على الآلة وتفاوتا يسيرا في حروف أو كلمات بينها وبين النسخة الأصلية المخطوطة لكن يمكن تدارك ذلك عند الطبع بالرجوع إلى الأصل .
سابعا : في الكتاب ثروة علمية مع سهولة تناولها والانتفاع بها وقد خدم به المؤلف مذهب المالكية وسهل على رواده معرفة أحكامه والانتفاع به فلو طبع كان فيه إحياء للتراث العلمي ولذكرى المؤلف وخدمة لطلاب العلم .
وينبغي أن يرجع عند الطبع إلى الأصل والى نسخة أخرى أو أكثر وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
عبد الرزاق عفيفي
************************
مقدمة وتعليق
على كلمة
ــــــ
( الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي ، رحمه الله )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
أما بعد : فإن العلماء في هذا العصر كثير ولكن قل منهم من يستقى الحكم من منبعه و يسنده إلى اصله ويتبع القول العمل ويتحرى الصواب في كل ما يأتي ويذر وإن من ذلك القليل فيما اعتقد الشيخ الجليل عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي - رحمه الله - فإن من قرأ مصنفاته وتتبع مؤلفاته وخالطه وسبر حاله أيام حياته عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعا وتعليما ووقف منه على حسن السيرة وسماحة الخلق واستقامة الحال وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه وطلب السلامة فيما يجر إلى شر أو يفضي إلى نزاع أو شقاق فرحمه الله رحمة واسعة .
وإن من مؤلفاته تلك الكلمة الوجيزة الجامعة التي كتبها جوابا عن سؤال الأخ الكريم على الحمد الصالحي في حكم شرب الدخان فهي على قصرها قد أصابت الهدف وصدعت بالحق وقامت بها الحجة على من عاند واتبع هواه بغير هدى من الله .(1/170)
حيث استند فيها المؤلف إلى عموم نصوص الكتاب والسنة الدالة على تحريم شرب الدخان والى ما ينشأ عن شربه من الأضرار المالية والبدنية والاجتماعية وليس لأحد أن يتشبث بالمطالبة بذكر دليل خاص على التحريم الدخان بخصوصه غير قانع بعموم النصوص إلا أن يكون قصير النظر ضعيف الفكر جاهلا بمصادر الشريعة والاستفادة منها .
فإن الأدلة الشرعية كما تجيء جزئية أحيانا تجيء كثيرا قواعد كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات التي تتضمنها وتندرج تحتها وإن طالب الحق الباحث عنه لا يقف في سبيله مثل هذه العادة فكان أسيرا لها واستهواه الشيطان فاتخذه إماما لهيزين له الخبائث ويحببها إلى نفسه ويزيغ قلبه بما يلقيه من الوساوس والشبه الزائغة .
ولقد ظهر في شرب الدخان من الخطر والضرر وقرر علماء الطب ذلك وسأذكر لك شيئا من المنقول عنهم لا لأستدلال بذلك على حكم شرب الدخان فإن الغني في دينه من أغناه الله بكتابه وسنة نبيه فهما المناهج الواضح والطريق المستقيم وفيهما المقنع لمن رزقه الله سدادا وكان على نور من ربه . إنما أذكر ذلك لأولئك الذين ابتلوا بتقليد من يرون أنهم رجال العلم والحضارة وأهل الذوق والمدنية ليتبينوا أن من يدينون لهم قد اعترفوا بضرره فيرجعون عن شربه وإن رأوهم يدمنون شربه .
وإليك النقول من كتاب " البيان " للشيخ إبراهيم عبد الباقي - رحمه الله - قال في " أدب المحلي " ص 122 التنباك هو نبات سمته العرب الطباق وبتحليله اتضح أنه يحتوي على مادة سامة إذا وضع منها نقطتان في فم كلب مات في الحال وخمس نقاط منها تكفي لقتل جمل والأمم المتوحشة تمضغه .
وهذه أكثر الطرق ضررا لدخوله في المعدة مع الريق وقد فشا استعمال الطباق يؤثر في القلب فيحدث فيه الخفقان وفي الرئتين فيحدث سعالا وفي المعدة فينشئ فيها ضعفا في شهوة الأكل وفي العينين فيحدث فيهما رمدا وفي المجموع العصبي فتورا . ا . هـ
وقال الدكتور ( دمرداش احمد )(1/171)
لا أظن الجنس البشري منذ بدء الخليقة ضعف واستكان أمام عدو من أعدائه كما فعل أمام تدخين التبغ كما أسرته هذه العادة وأوثقته وأذلت كبرياؤه استوى في ذلك صغار العمال الكادحين الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات عيالهم وكبار الأطباء والفلاسفة المفكرين الذين أضاءت الكون عبقرياتهم وكشفوا هذه الآفاق البعيدة في مختلف العلوم والفنون وقد كان السائد المعروف أن التدخين باعتدال قليل الضرر أو عديمة للشخص السليم ولكن البحوث العلمية المتصلة بالسنين الأخيرة أثبتت أن الضرر الذي يحدثه التدخين لم يخطر أبدا على بال مدخن واليك الحقائق التي أثبتتها هذه البحوث .
قام الأستاذ ( ديموند بالمير ) بتتبع عشرين الف حالة منهم مسرفون ومعتدلون وممتنعون أنشأ لكل منهم سجلا خاصا بجامعة جون ( هويكنز ) أثبت فيه كل ما يتعلق بصحتهم وأمراضهم وعوائدهم وبدأت أبحاثه سنة 1919 م وانتهت سنة 1940 م بالنتيجة الآتية :
يؤثر تدخين التبغ على حياة الإنسان أثرا بالغا فتقصر هذه الحياة قصرا بينا يتناسب مع كمية التبغ . والممتنعون أطول أعمارا من المعتدلين والمعتدلون أطول من المسرفين . أ . هـ .
وأسأل الله سبحانه أن يهدينا سواء السبيل وأن يرزقنا قبول النصيحة ويجنبنا كل ما فيه خطر ومضرة وأن يرحم المؤلف وينفع بتأليفه ويجمعنا به في دار كرامته .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
عبد الرزاق عفيفي
********************
مقدمة كتاب الولاء والبر
ـــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فموضوع هذا الكتاب له شأنه وله أهميته في نفسه وبالنسبة لكتابته في هذا الوقت فبين كتابته وبين الوقت الذي نعيش فيه الآن مناسبة قوية .
أما أهميته في نفسه : فذلك لأنه في أصل من أصول الإسلام هو : " الولاء والبراء" .
وهما مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله ثم لأنبيائه وللمؤمنين .(1/172)
والبراء : مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله وهذا أصل من أصول الإيمان وأما أهميته بالنظر للوقت الحاضر : فأنه قد اختلاط الحابل بالنابل ! وغفل الناس عن مميزات تالمؤمنين التي يتميزون بها عن الكافرين وضعف الإيمان في قلوبهم حتى ظهرت فيهم مظاهر يكرهها المؤمن .
والولاء للكافرين امما ودولا وزهدا في كثير من المؤمنين وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب .
ومن هنا : تأتي أهمية نشر هذا الكتاب في هذا الوقت الحاضر بالذات .
ولقد جاء المؤلف على جانب الولاء والبراء ونقل في ذلك كثيرا من كلام العلماء وقدم له ومهد وعقب عليه وعلق واستدل على ما جاء به من مباديء الولاء والبراء بآيات من القرآن والأحاديث صحيحة عن رسول الله ( وبكثير من أقوال الصحابة ومن تبعهم من السلف .
وبين وجه الاستشهاد بهذا وبهذا ورقم للآيات وبين سورها وبين الأحاديث والآثار وبين درجتها في الغالب الكثير .
وأسأل الله جل شأنه أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب وأن يهيء لمؤلفه إخوانا ينهجون نهجه فالأمل كبير ، الأمل في الله عظيم أن ينشأ كثير من شبابنا الحاضر على هذا المبدأ القيم ، مبدأ نصرة دين الإسلام وإحياء ما اندرس منه فإن ربي مجيب الدعاء .
عبد الرزاق عفيفي
***************
مقدمة لكتاب
المقاصد العلية من القصيدة النونية
ــــــ(1/173)
الحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أن لا اله إلا الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين أرسله الله تعالى رحمة للعالمين وهدى للمتقين ففتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا وبين للناس ما نزل إليهم من ربهم لعلهم يتفكرون صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وحافظوا على شريعته الغراء وعلى سنته المطهرة حتى ورثها عنهم من جاء بعدهم من التابعين إلى أن وصلت الينا غضة طرية ورضى الله عنهم وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد فقد كتب فضيلة الأخ الشيخ محمد بن احمد سيد احمد تعليقا موجزا مفيدا بعبارات واضحة على " القصيدة النونية في التوحيد " المسماة " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية " للعلامة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية ناصر السنة وقامع البدعة - وقوته وطول باعه في شتى العلوم وفصاحة لسانه وحسن بيانه نثرا ونظما غنى عن الحديث عنه . وقد سمي فضيلته التعليق - ( المقاصد العلية من القصيدة النونية في بيان عقيدة أهل الحديث وسلامة منهجهم وأنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ) بين في تعليقاته معاني المفردات والمراد من الآبيات بعبارات واضحة دقيقة على طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم وذكر شواهد الأحكام من الآيات والأحاديث التي أشار إليها الإمام ابن القيم في قصيدته مع بيان رقم الآية وسورتها ونسبة الأحاديث إلى دواوينها من كتب السنة فجزاه الله خيرا ونفع المسلمين بما كتبه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
عبد الرزاق عفيفي(1/174)
تقرير عن رسالة الدعوة الحموية
في مرآة الطريقة الأحمدية
ــــــــ
1- ألف هذه الرسالة الأستاذ طاهر بن أبي بكر لنب دكري التجاني بأسلوب قوي في الجملة مع نوع من التكلف في التعبير حمية للتجانية ودفاعا عن محمد بن سيده حمى الله الشريف إمام الدعوة الحموية ( فرقة تجانية ) . 2- ذكر المؤلف 2- نبذة تاريخية عن احمد محمد التجاني وأخرى عن محمد بن سيده حمى الله وآخرين من التجانية وغلا في الثناء عليهم وذكر انتشار الدعوة الحموية في كثير من الدول رغم وضع الحساد الكثير من العقبات في سبيلها .
3- بين ما جرى من الأحداث على حمى الله وما حيك له من مؤمرات دبرها خصومه حسدا له وبغيا عليه غير أنها فشلت واستمرت دعوته في طريق الانتشار وأصيب من كاد له وآذاه . وسمي ذلك معجزة .
4- تعرض المؤلف في هذه الرسالة أثناء حديثه عن الأطوار التي مر بها حمى الله لمسائل خطيرة تعلن عن الضلال الفاضح والخطأ الواضح منها ما يأتي :
رؤية كل من احمد بن محمد التجاني وحمى الله التجاني محمدا( يقظة وأخذهما الأوراد وسائر التشريع عنه يقظة وأن كتاب جواهر المعاني ألفه علي حرازم بأمر المصطفي( يقظة بحديث " من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة " . انظر ص 8- 13 - 14 - 19 - 58 - 85 - 88 - 89 .
ب - ما زعمه محمد سيده حمى الله من القصر الحموي وهو قصر الصلاة الرباعية بآدائها ركعتين في الحضر عند خوف المسلم على نفسه من خصومه واستدل لذلك بآية ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(النساء: من الآية101) . .
وذكر عن ابن قيم الجوزية رحمه الله ما يشهد لمقالته في زعمه وهو كاذب في ذلك . انظر ص 62 ، 63 ، 64 ، 65 ، 66 .(1/175)
جـ - زعم أن عمل أهل فاس من التجانيين كعمل أهل المدينة وأنه ينسخ ما قبله من الأحكام المخالفة له - انظر ص 85 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 90 .
5- مرجعه كتاب جواهر المعاني لعلي حرازم ونحوه من كتب المبتدعة غالباً .
وكتبه
عبد الرزاق عفيفي
*******************
تقرير عن كتاب بغية المهتدي
في رد شبهات المعتدي
ــــــ
ألف هذا الكتاب أبو بكر بن محمد بن عثمان حوص المرجي للرد على طاهر دكري فيما زعم من مسائل ضل فيها عن طريق الهدى والصواب وللدفاع عن جده محمد عمر المرجي .
1- قسم المؤلف كتابه قسمين : الأول رد فيه ما زعمه طاهر دكري من رؤية كل من أحمد بن محمد التجاني ومحمد بن سيد حمى الله النبي( يقظة وأخذهما التشريع والأوراد عنه يقظة وناقشه في استدلاله على زعمه بحديث " من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة . . . "
انظر ص 6 - 26 .
الثاني في مهاجمة طاهر دكري ورد المؤلف عليه انتصاره لجده وقد ضمنه الرد على القصر الحموي - قصر عدد ركعات الرباعية في الحضر من أجل الخوف من الخصوم والرد على جعل عمل أهل فاس كعمل أهل المدينة فيستدلون به كما يستدل المالكية بعمل أهل المدينة ويجعلونه ناسخا لغيره وذكر أنواعا أخرى من بدع طاهر دكري في رسالته موقف المحق من المبطل إلا أنه ضعيف في تعبيره مسرف في شتائمه مقذع فيها كثير النقل من كتب المبتدعة مثل احمد الصاوي وغيره .
وبالجملة فهذه خصومة بين حمى الله التجاني وأتباعه وبين من خرجوا عليه وفيها عصبية من الطائفتين إلا أن من خرجوا على حمى الله أقرب إلى الحق والى نصرته .
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
عبد الرزاق عفيفي
*******************
نماذج من بدع التجانية
ــــــــ(1/176)
وإتماما للفائدة فقد رأيت أن يلحق بهذين التقريرين ما كتبته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإتاء في هذا الخصوص وما صدر عنها من فتاوي توضح جملة من عقائد التجانية المبتدعة . وقد كتبت اللجنة ما يلي :
نلخص فيما يلي جملة من عقائد التجانية المبتدعة مأخوذة من أوسع كتبهم وأوثقها في نظر علمائهم مثل كتاب " جواهر المعاني " لعلي حرازم وكتاب " رماح حزب الرحيم " لعمر بن سعيد الفوتي :
1- غلو احمد بن محمد التيجاني مؤسس الطريقة وغلو اتباعه فيه غلوا جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريده .
2- إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه .
3- زعمه رؤية النبي( يقظة وتلقين النبي( إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها يقظة والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك .
4- تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي( أولا ثم يفيض منه على الأنبياء عليه ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم الى النفخ في الصور ويزعم أنه يفيض أحيانا من النبي( عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه .
5- تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم إذ يقول قدمي على رقبة كل ولي - فلما قيل له أن عبد القادر الجيلاني قال : فيما زعموا قدمي على رقبة كل ولي - قال صدق ولكن في عصره أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور - فلما قيل له اليس الله بقادر على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك . قال : بلى ولكن لا يفعل كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد( ولكنه لا يفعل ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه .
6- دعواه كذبا أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعدوه من محامده وكراماته .(1/177)
7- الحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيرا إشاريا كتفسيره قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ).
ببحر الألوهية وبحر الوجود المطلق وبحر الخليقة وهو الذي وقع عليه كن وهو البرزخ بينهما( ولولا برزخيته ( لاحترق بحر الخليقة كله من هيبة الذات . . الخ .
ويعتقد مريدوه إن ذلك من الفيض الإلهي .
8- تفضيله الصلاة على النبي ( على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره .
9- زعمه هو واتباعه أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا . . . الخ
يريدون بالإمام احمد التيجاني .
10- زعمه إن كل من كان تجانيا يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب .
11- زعمه أنه من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر .
12- زعمه انه يجب على المريد إن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له بل يستسلم لشيخه فلا يقول : لم ولا كيف ولا علام ولا لأي شيء . . الخ .
13- زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم علمه إياه النبي( ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات حرصا وتخمينا ورجما بالغيب واقتحاما لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف .
14- زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدودا يتفاوت بتفاوت مراتبهم ود\رجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء .
15- زعمه ان النبي( يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون . . الخ .(1/178)
الى غير ذلك مما يخالف أصول الإسلام ويعتبر شركا والحاداً في الدين افتراء على الله ورسوله وتشريعه وتضليلا للناس وتهجما منه بعلمه الغيب والله الموفق - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الرزاق عفيفي
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان عبد العزيز بن عبد الله بن باز
******************
التعليق على
" مختصر تفسير ابن جرير "
ـــــــ
قال رحمه الله : راجعت مختصر تفسير ابن جرير الطبري للقرآن الكريم فوجدته كما يلي :
1- ليس دقيقا في التعبير عما فهمه واختصره من تفسير ابن جرير كما في تفسيره الرحمة بالرقة في بسم الله الرحمن الرلحيم وقد يقتصر على بعض المعنى المطلوب كما في سورة الفاتحة .
2- لم يستوعب تفسير الكلمات الغريبة بل اكتفى بتفسير جملة من الكلمات .
3- قد يخطيء في اختياره كقوله في قصة زينب بنت جحش كان رسول الله ( قد رأى زينب بنت جحش زوجة زيد فأعجبته . فأوقع الله في نفس زيد كراهتها فأراد فراقها فذكر ذلك لرسول الله( فقال صلى الله عليه وسلم له : " أمسك عليك زوجك واتق الله " وهو في ذلك يحب ان تكون قد بانت منه لينكحها " وتخشى الناس " أن يقولوا أمر رجلا أن يطلق امرأته ثم نكحها حين طلقها ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ) حاجة منها وهي الوطء (لِكَيْ لا) لئلا " حرج " إثم . . وكقوله في تفسير سورة النجم (ذُو مِرَّةٍ) ذو منظر حسن أو ذو قوة ( فَاسْتَوَى) أي ارتفع واعتدل ومعنى الكلام فاستوى جبريل ومحمد عليهما السلام وهو بالأفق الأعلى . وكقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) قيل علا عليها .
4- وضع الكلمات القرآنية في الهامش على شكل مربع بالرسم اللائملائي وقد حافظ على رسمها العثماني في المصحف . وعلى كل حال لا يمتاز في تفسيره للكلمات عن غيره . فالجميع فيه مأخذ .(1/179)
5- وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وأرى أن يكتفي بشراء مصاحف مجردة من التفسير وتوزع على الفنادق .
نائب رئيس اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الرزاق عفيفي
من أسباب الانحراف والصدود عن الحق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد .
فللصدود عن الحق اسباب عديدة وموانع كثيرة منها الغرور الفكري والتقليد عن غير بينة وبصيرة وتحكم العادات السيئة في النفوس والأنفة والاستكبار والحسد الممقوت وطاغوت الافتتان بالمركز والجاه وكثرة المال وما إلى ذلك وكلها امراض أخلاقية وبيلة وأدواء مستعصية فتاكة والحديث عنها يطول فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري :
الغرور الفكري هو إعجاب الإنسان بعقله وافتتانه برأيه وإنزاله فوق منزلته وإعطاؤه من القداسة ما ليس بأهل له حتى يدخل فيما لا يعنيه وما ليس في وسعه وحدود طاقته فيعارض العبد به ربه في خلقه وتشريعه فضلا عن معارضته لنظرائه ومن هو أوسع منه فكرا وأكثر تجربة من العلماء .
لقد وجد الشيطان منفذا لوسوسته في اغترار قوم بعقولهم وعلومهم فاستهواهم وزين لهم إن يخوضوا فيما ليس من شأنهم وأن يهجموا على بحث ما ليس في وسعهم بحثه .(1/180)
من ذلك تفاصيل القضاء والقدر وكنه الله وصفاته وكيفيات ذلك فاضطربت افكارهم وتفرقت بهم السبل عن الجادة والصراط المستقيم فمنهم من غلا في نفي ذلك زعما منه انه سلك مسلك العدل والتنزيه لله عن الظلم والجور وعارضوا بذلك نصوص الإثبات للقضاء والقدر ومنهم من غلا في الإثبات حتى سلب المكلفين اختيارهم وأعمالهم زعما منهم أن نصوص عموم مشيئة الله واقتداره تنافي ثبوت الاختيار والكسب للمكلفين فعارضوا بذلك الحس وأدلة الشرع والعقل ولم يكن - من اقتحم باب البحث في كنه الله وكيفيات صفاته فغلوا في ذلك نفيا - أو إثباتا بأهدى سبيلا من هؤلاء بل وقع الجميع في حيرة ومتاهات لا نجاة لهم منها إلا بمعرفتهم قدر أنفسهم والحدود التي يجب إن تنتهي إليها أفكارهم ويعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ويلتزموا بما جاء في شريعة الله فما تبين من ذلك وجب اعتقاده وما لم يتبين من التفاصيل والكيفيات وجب التسليم له والقول بما قال به الراسخون في العلم : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وحرم الخوض فيه لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ً) .(1/181)
واستهوى الشيطان من هؤلاء المغرورين طائفة أخرى فزين لها أن تسن قوانين من عند أنفسهم لتتحاكم إليها وتفصل بها في خصوماته وسول لها أن تضع قواعد بمحض تفكيرها وهواها تنظم بها اقتصادها وسائر معاملاتها محادة لكتاب الله وسنة رسوله ( وانتقاصا لتشريعهما وزعما منها أن تشريع الله لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم ولا يكفل لهم مصالحهم ولا يعالج ما جد من مشاكلهم حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحي واتسع نطاق المعاملات وكثرت المشكلات فلا بد لتنظيم المعاملات والفصل في الخصومات من قواعد وقوانين جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر الواقفون على أحوال أهله المطلعون على المشاكل العارفون بأسبابها وطرق حلها لترتكز على واقع الحياة وتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم الراهنة .
فهؤلاء لم يقدروا عقولهم قدرها ولم ينزلوها منزلتها ولم يقدروا الله حق قدره ولم يعرفوا حقيقة شرعه ولا طريق تطبيق منهجه وأحكامه ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علما فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال وكثرة المشاكل وأنه أنزل شريعة عامة شاملة وقواعد كلية محكمة وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، جعلها صالحة لكل زمان ومكان فمهما اختلف الطبائع والحضارات وتباينتا الظروف والأحوال فهي صالحة لتنظيم معاملات العباد وتبادل المنافع بينهم والفصل في خصوماتهم وحل مشاكلهم وصلاح جميع شؤونهم في عبادتهم ومعاملاتهم .(1/182)
إن العقول التي منحها الله عباده ليعرفوه بها وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلى ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل قد اتخذوا منها خصما لدودا لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره وضاقوا ذرعا بتشريعه وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون لأنهم لغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل فكانوا من الأخسرين أعمالا ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) .
وكانوا ممن ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) .
إن الله سبحانه كثيرا ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ويحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم نظر عظة واعتبار ليتنكبوا طريقهم اتقاء لسوء مصيرهم ولفت النظر في بعض السور إلى جريمة الغرور الفكري لشدة خطره وبين أنه الفتنة الكبرى التي دفعوا بها في صدور الرسل وردوا بها دعوتهم ليعرفونا بقصور عقول البشر وأنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل وردوا بها دعوتهم ليعرفونا بقصور عقول البشر وأنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل وليحذرنا من خطر الغرور الفكري الذي هلك به من قاوم المرسلين . قال تعالى:(1/183)
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )
إن اعتبار الإنسان لفكره واعتداده به درجات منها المحمود ومنها المذموم فما جاوز الحد وبلغ درجة الإعجاب بالرأي والعصبية له ودفع الحق به بعد أن يتبين على نحو ما مضى من الحديث عنه فهو المحقوق وما موقف بالمفكر عند حده فاعتقد ما فهم من الدليل عن بينة وبصيرة واعتز به لكونه الحق في نظره دون أن يتعارض به صريح كتاب ولا صحيح سنة ولا إجماع أمة فليس بممقوت بل هو الواجب عليه وعلى تمسكه به يحمد لكن ينبغي له أن ينصف مناظره من نفسه ويحترم فكر صاحبه كما يجب أن يقابله بمثل هذا الاحترام ليستمر البحث والمناظرة ويتبين الحق من قريب مع المحافظة على الأخوة وأواصر المحبة والوئام .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم .
**********************
المبحث الحادي عشر
فتاواه وبحوثه
ــــــ(1/184)
لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد على العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى :
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ).
وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفا وجلالة إذ يقول سبحانه في كتابه :
( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة ) .
وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله .
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين ( وإمام المتقين وخاتم النبين محمد عبد الله ورسوله( فكان يفتي عن الله بوحيه المبين فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا وقد امر الله عباده بالرد إليها حيث يقول : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .(1/185)
ثم قام بالفتوى من بعده برك الإسلام وعسكر القرآن وجند الرحمن الين الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها إيمانا وأعمقها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة وكانوا بين مكثر فيها ومقل ومتوسط . ثم صارت الفتوى من بعدهم في التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا .
وممن قام بهذا العمل الشريف " الإفتاء " في عصرنا الحاضر كوكبة من الأئمة الأعلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله ومن هؤلاء الحملة العدول والعلماء الفحول الذين عنوا بضبط قواعد الحلال والحرام وخصوا باستنباط الأحكام فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - فقد كتب كما هائلا من الفتاوي والبحوث وقد بلغ عدد الفتاوي التي قرأها ووقع عليها وشارك في صياغتها قرابة خمسة عشر ألف فتوى وذلك من خلال عمله في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
لقد كان الشيخ - رحمه الله - مثالا يحتذى في الفتاوي ، دقة في النقل والتزاما في السلوك وكان يختار من الألفاظ المعبرة ما يتضح به المعنى ولقد بلغ مبلغا عظيما في احترام وتقدير أقوال العلماء فإذا صدرت فتوى في مسألة وله رأي مخالف فيها وسأله أحد عن هذه الفتوى أفتى بقول جماعة العلماء وقد يحبس رأيه أحيانا عن المستفتي إذا وجد أن هذا الرأي قد يحدث شقاقا بينهم ولا يبرزه إلا طلبة العلم الذين يلتزمون الأدب عند الاختلاف ويوقرون العلماء وينزلونهم منازلهم اللائقة بهم .
يقول فضيلة الشيخ يوسف المطلق : " لقد نما إلى علمي انه كان يقرأ كثيرا ولا يبت في الجواب على الفتوى إلا بعد تريث وسؤال عن دقائق الموضوع حتى يستوعب ويقوم عنده تصور صحيح دقيق للموضوع " .
ويصفه أحد المستفتين - ممن نهلوا من علمه واستفادوا من فتاواه فيقول :(1/186)
لقد كان - رحمه الله - رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك عالما بعصره وما يدور فيه ولهذا كانت فتاواه وإجاباته عن أسئلة تلاميذه أقرب للواقع والعصر الذي نعيشه وكان يستشيره عدد من كبار علمائنا الأفاضل ويأخذون برأيه في المسائل المختلفة وخاصة تلك التي لها مساس بالتجارب والخبرات والمسائل التي تتعلق بما ظهر في عصرنا وعالمنا من أمور حديثة .
في جلسة حوار دارت حول تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي بينه وبين عدد من خبراء الاقتصاد الذين ينشدون السعي لتطوير النظام الاقتصادي الإسلامي سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن إمكانات عديدة تسمح بالتدرج في تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي وعدم التشديد والتضييق أول الأمر فأجاب بقوله : يجب ألا نكتفي بالأسئلة النظرية التي ليس لها أي مردود عملي ثم أردف قائلا : لقد درسنا كثيرا من الأمور النظرية بل قدمنا فيها الفتوى المناسبة بهدف أن تجد التطبيق العملي لها . وإذا بها تتعثر لعدم وجود الدعم الكافي لها أو أن الكثير تخطاها بفتاوي تجاوزت الحدود الإسلامية المقبولة . وذهبت مرة أستفتي أحد كبار العلماء الأفاضل في مسألة خاصة واستدعت الفتوى أن أراجع العالم الفاضل وأستوضح بعض جوانب فتواه ولم يزد ذلك عن سؤالين أو ثلاثة وبهت عندما هب هذا العالم واقفا وأقفل الحديث وخرج من المجلس . ذهبت بعدها مباشرة إلى الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو مريض على فراشه في غرفة نومه فأحسن استقبالي وأحضر لي الشاي وحاورته في مسألتي حتى اتضحت لى الأمور . وغادرت بيته معجبا بعلمه ورحابة صدره وصبره وتمثلت فيه العالم القدوة ودعوت الله له بدعوات حارة صادرة من أعماق قلبي .(1/187)
قلت : ومن هذا يتضح أن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لم يكن عالما متخصصا يغلق فكره على فرع معين من فروع المعرفة وإنما كان رجلا متعدد المواهب مجيدا في كل ما اقتحمه من ميادين العلم والمعرفة فهو فقيه محدث أصولي اقتصادي عالم بالتحليل النفسي خبير بالمجتمع وتحركاته الظاهرة والخفية مطلع على مذاهب الفقهاء ناقد بصير لاسيما ما يكتب في أمور العقيدة والتوحيد والفرق والمذاهب المعاصرة .
لقد كان - رحمه الله - ملتزما بكل ما يقول ويكتب فلم يكتب بحثا أو يصدر فتوى إلا التزم بها سلوكا ولم يكن يعتمد على عموميات مشهورة في إصدار إنما كان يعتمد على الأدلة الصحيحة الصريحة التي تبنى عليها فتاواه فضلا عن ذلك فإن الشيخ - رحمه الله - لم يكن متسرعا في فتاواه ولا يحاول الانتصار لنفسه فيما يقول ويفتي به بل كان يود أن غيره يكفيه الفتيا؛وهذا والله مسلك الصالحين ؛ودأب الناصحين ؛ وما كان عليه سلف هذه الأمه من الصحابه والتابعين .
فقد كانوا يكرهون التسرع في الفتوى ويحذرون من ذلك أشد التحذير فعن عبد الرحمن بن ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ( أراه قال في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون .
وقال سحنون بن سعيد : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه .(1/188)
قلت : وأما البحوث ورسائله فتتسم بالأصالة والعمق والبعد عن الحشو والتعقيد فأسلوبه سهل ممتنع يكاد من يقرا له يستحضر شخصيته من خلال قراءته له ويدرك تماما أنه يقرأ لعالم من الرعيل الأول فما من مسألة أوبحث إلا ويوفيه حقه مع عرض المسائل مقرونة بالأدلة والتعليلات وإسناد كل قوله لصاحبه بأمانة وحسن نية فمن يقرأ بحوث الشيخ وكتاباته يعلم أنه يقرأ فقها مقارنا ويدرك أنه يطوف بنظره وفكره في مذاهب العلماء رحمهم الله .
ومما تجد الإشارة إليه أن أكثر هذه البحوث تعني بأمر المعتقد وفقه البيوع والمعاملات والعناية بمسائل الحلال والحرام ومن هذه البحوث القيمة بحث إثبات خلافة الخلفاء الراشدين وفي هذا البحث وضح الشيخ ما ذكره ابن أبي العز في شرحه على " العقيدة الطحاوية " وضوحا لا مزيد عليه . فقد ذكر أن الخلافة تثبت أحيانا بالنص من النبي( أو من الخليفة السابق وتثبت أحيانا بالبيعة ثم ذكر اختلاف العلماء فيما تثبت به الخلافة لأبي بكرا الصديق رضي الله عنه فوضح الشيخ هذا الخلاف قائلا :
اختلف العلماء فيما تثبت به الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه فقيل تثبت بالأمر الجلي من النبي صلى الله عليه وسلم على أنه الخليفة من بعده وقيل ثبت بالنص الخفي منه على ذلك وقيل ثبتت ببيعة ذوي الشأن وأهل الرأي له واختيارهم إياه خليفة للمسلمين ولم يختلف عن بيعته إلا علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة رضي الله عنهما فقد تخلفا عن بيعته مدة ثم بايعا بعد ذلك .(1/189)
وقد استدل من قال تثبت بالنص الجلي أو الخفي بما ثبت أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنها تسأله عطاء فأمرها أن ترجع إليه قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك وكأنها تعني الموت قال : " إن لم تجديني فأتي أبي بكر وعمر " . . رواه أصحاب السنن . واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بديء فيه فقال : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر " وبما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على بعيره : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبا بكر " . واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " ولما روجع في ذلك مرات لم يأمر غيره باتلصلاة بالناس بل كرر الأمر بصلاة أبي بكر بهم فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ديننا أفلا نرضاه إماما لنا في أمر دنيانا .
ثم ذكر الشيخ بعد ذلك أدلة من قالوا بثبوت الخلافة بالبيعة لا بالنص ثم ختم كلامه في هذا المبحث بما رجحه ابن تيمية من ثبوت الخلافة لأبي بكر ببيعة الصحابة له واختيارهم إياه .
وبعد هذه المقتطفات من هذا البحث القيم رأيت أنه من الأكمل أن أضع بين يدي القاريء الكريم نماذج من بحوث الشيخ بصورتها المتكاملة وما أضيف إليها مما هو منها وغالب ظني أنها لم تنشر من قبل ولعل ذلك راجع الى عزوفه - رحمه الله - عن النشر وزهده في الشهرة وإيثاره للظل ثم أتبعت ذلك كله نماذج مختارة من فتاوي الشيخ وما شابهها من فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفناء إتماما للفائدة وتعميما للنفع وقد بدا لي أن أبدأ بإيراد الفتاوي أولا ثم البحوث ثانيا مراعاة للترتيب وتمشيا مع العنوان .
العذر بالجهل
ــــــ(1/190)
سئل رحمه الله : هل يوجد عذر بالجهالة في أصل التوحيد علما بأن بعض أهل السنة ذكر أنه لا عذر لأحد بالجهل في أصل التوحيد .
إن وجوب الإيمان بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر وما يتصل بذلك من أصول وفروع والعمل بمقتضاه : يتوقف على البلاغ الصحيح ومعرفة ما تضمنه البلاغ من الحق وهذا مما يتفاوت بتفاوت الناس في مداركهم وقواهم العقلية وكثرة العلماء والدعاة الى الإسلام وما الى هذا مما يتيسر معه معرفة الحق وتأييده واستبانة شبه الباطل وتمييزها من الحق والقضاء عليها أو بعدهم عن ديار الإسلام والدعاة اليه وما إلى ذلك من الحواجز التي يشق معها الوصول الى معالم شرع الله تعالى والوقوف على حقيقته جملة أو التبحر فيه .
فيجب أن يراعي ذلك وأمثاله في الحكم على الناس فقد يجب على بعض الناس الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله إجمالا إذا لم يبلغه إلا ذلك ولم يتيسر له سواه مع بذل وسعه في التعرف على الحق لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اصحاب النار " . رواه مسلم .
ولما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا رزقه الله مالا قال لبنيه لما حضره الموت : أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال : فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ففعلوا فجمعه الله عز وجل فقال : ما حملك قال : مخافتك فتلقاه برحمته " . متفق عليه ورواه البخاري عن حذيفة أيضا ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وسئل - رحمه الله - عن حكم من أنكر معلوما من الدين بالضرورة ومن خالف حكما ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فأجاب رحمه الله :(1/191)
أول : إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب والسنة لا يقبل التأويل ولا مجال فيه للأجتهاد أو إجماعا قطيعا ثابتا بين له الصواب في الحكم فإن تقبل فالحمد لله وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله بكفره وعومل معاملة المرتد عن دين الإسلام مثال ذلك من أنكر الصلوات الخمس أو إحداها أو فريضة الصيام أو الزكاة أو الحج إلى بيت الله الحرام وتأول ما دل عليها من نصوص الكتاب والسنة ولم يعبأ بإجماع الأمة .
وإذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافة خلاف في مسألة اجتهادية فلا يكفر بل يعذر في ذلك من أخطا ويؤجر على اجتهاده أجرا واحدا وعمله بهذا الاجتهاد مشروع ويحمد من أصاب ويؤجر أجرين أجرا على اجتهاده وأجرا على إصابته مثال ذلك : من أنكر وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ومن قال بوجوب قراءتها عليه ومثاله ايضا من قال بوجوب العمرة ومن قال ليست واجبة بل سنة ومن قال بتوريث الأخوة مع الجد ومن خالفهم فقال : بحجبهم بالجد . . فمثل هذا لا يجوز تكفيره ولا إنكار الصلاة وراءه ولا يحرم الأكل من ذبيحته بل تجب مذكراته والتفاهم معه في ذلك على ضوء الأدلة الشرعية لأنه أخ مسلم له حقوق المسلمين والخلاف في مثل هذه المسائل خلاف في مسائل فرعية اجتهادية جرى مثلها في عهد الص-حابة رضي الله عنهم وأئمة السلف ولم يكفر بعضهم بعضا ولم يهجر بعضهم بعضا من أجلها
وفي الصفحات التالية فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في هذا الخصوص أحببت أن يطلع القاريء عليها نظرا لأهمية الموضوع وخطورته وخفائه على بعض طلبة العلم .
فتوى رقم 11043 وتاريخ 20 / 5 / 1408 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه . . وبعد :(1/192)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من جمال بن ضاحي بن عبد رب الرسول بن شاويش الى سماحة الرئيس العام والمحال اليها برقم 3340 في 20 / 7 / 1405 ونصه :
" عندنا تتفشى ظاهرة عبادة القبور وفي نفس الوقت وجود من يدافع عن هؤلاء ويقول : إنهم مسلمون معذورون بجهلهم فلا مانع من أن يتزوجوا من فتياتنا وأن نصلي خلفهم وأن لهم كافة حقوق المسلم على المسلم ولا يكتفون بذلك بل يسمون من يقول بكفر هؤلاء أنه صاحب بدعة يعامل معاملة المبتدعين بل ويدعوا أن سماحتكم تعذرون عباد القبور بجهلهم حيث أقررتم مذكرة لشخص يدعى الغباشي يعذر فيها عباد القبور . لذلك أرجو من سماحتكم إررسال بحث شاف كاف تبين فيه الأمور التي فيها العذر بالجهل من الأمور التي لا عذر فيها كذلك بيان المراجع التي يمكن الرجوع اليها في ذلك ولكم منا جزيل الشكر " .
يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه وباختلاف المسألة نفسها وضوحا وخفاء وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا .
فمن استغاث بأصحاب القبور دفعا للضر أو كشفا للكرب بين له أن ذلك شرك وأقيمت عليه الحجة أداء لواجب البلاغ فإن أصر بعد البيان فهو مشرك يعامل في الدنيا معاملة الكافرين واستحق العذاب الأليم في الآخرة إذا مات على ذلك . قال الله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .
وقوله تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .(1/193)
وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم مات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " . رواه مسلم إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البيان وإقامة الحجة قبل المؤاخذة ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة الى الإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر على الكفر ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم كما يشهد له ما قصه الله تعالى من نبا قوم موسى إذ أضلهم السامري فعبدوا العجل وقد استخلف فيهم أخاه هارون عند ذهابه لمناجاة الله فلما أنكر عليهم عبادة العجل قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى فاستجابوا لداعي الشرك وأبوا أن يستجيبوا لداعي التوحيد فلم يعذرهم الله في استجابتهم لدعوة الشرك والتلبيس عليهم فيها لوجود الدعوة للتوحيد الى جانبها مع قرب العهد بدعوة موسى الى التوحيد
ويشهد لذلك أيضا ما قصه الله من نبأ نقاش الشيطان لأهل النار وتخليه عنهم وبراءته منهم قال الله تعالى :
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
فلم يعذروا في تصديقهم وعد الشيطان مع مزيد تلبيسه وتزيينه الشرك واتباعهم لما سول لهم من الشرك لوقوعه الى جانب وعد الله الحق بالثواب الجزيل لمن صدق وعده فاستجاب للشريعة واتبع صراطه السوي .(1/194)
ومن نظر في البلاد التي انتشر فيه الإسلام وجد من يعيش فيها يتجاذبه فريقان فريق يدعو الى البدع على اختلاف أنواعها شركية وغير شركية ويلبس على الناس ويزين لهم بدعته بما استطاع من أحاديث لا تصح وقصص عجيبة غريبة يوردها بأسلوب شيق جذاب وفريق يدعو الى الحق والهدى ويقيم على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة ويبين بطلان ما دعا اليه الفريق الآخر وما فيه من زيف فكان في بلاغ هذا الفريق وبيانه في إقامة الحجة وإن قل عددهم فإن العبرة ببيان الحق بدليله لا بكثرة العدد فمن كان عاقلا وعاش في مثل هذه البلاد واستطاع أن يعرف الحق من أهله إذا جد في طلبه وسلم من الهوى والعصبية ولم يغتر بغنى الأغنياء ولا بسيادة الزعماء ولا بوجاهة الوجهاء وإلا أختل ميزان تفكيره وألغى عقله وكان من الذي قال الله فيهم :
( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) .
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن والإسلام فهذا على تقدير وجوده ،حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولا وفروعا إقامة للحجة وإعذارا اليه ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بلهه أو صغره وعدم تكليفه . وأما ما يخفي من أحكام الشريعة من جهة الدلالة أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر ولكن يقال أصاب وأخطأ فيعذر فيه من أخطأ ويؤجر .
اللجنة الدائمة
عبد الرزاق عفيفي…………زيز بن عبد الله بن باز(1/195)
***************
حكم الموسيقى
ــــــ
سئل رحمه الله عن حكم الموسيقى بجميع أنواعها ومختلف أدواتها فأجاب :
الموسيقى من أنواع اللهو وكل لهو باطل لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم :
" كل شيء يلهو به ابن آدم باطل إلا رميه بقوسه وتأديب فرسه وملاعبة زوجته " .
فهي محرمة أيا كانت آلاتها وكيفما كانت طرق استعمالها سواء كانت مصحوبة بغناء أم لا والمصحوبة بغناء أشد تحريما .
وسئل رحمه الله عن حكم استخدام الطبل والدفوف فأجاب :
الطبل والدف : الطبل يكون ذا وجه وا وجهين ويسمى الكوبة فهو أيضا من أنواع اللهو وكل لهو باطل لما تقدم من الآية والحديث وكذا الدف إلا أنه رخص في استعماله في إعلان النكاح للنساء خاصة دون الرجال .
وقد صار منا فتوى في ذلك هذا نصها : " إعلان النكاح سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أعلنوا النكاح ) {,أ÷ أ؛/> ,ً؛؛÷ أ[، ؛[أ، ,ألأ؛أ:/ ,/، ,ٍأ~لأ 'لآ،÷ ألأَ{[ [ألأ>ف لكنه من النساء دون الرجال لثبوته منهن عمليا دون الرجال في الصدر الأول وقد وردت أحاديث في الضرب بالدف في النكاح منها ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : " إعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال " أي الدف وفي سنده عيسى بن ميمون وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجة وفي اسناده خالد بن إياس وهو منكر الحديث وروى من طرق أخرى لا تخلو من مقال فلا يصح الاستدلال بهما على جوازه للرجال .
وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
عبد الرزاق عفيفي
**************
حكم سماع الأغاني
ـــــ
وفيما يلي فتوى في حكم سماع الأغاني للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا نصها :
سؤال وجواب في حكم سماع الأغاني
فتوى رقم 3719 وتاريخ 10 / 6 / 1401 هـ
س : ما حكم سماع الأغاني ؟(1/196)
جـ : الأصل تحريم سماع الأغاني وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا نصها : الاستماع للصوت يتضمن معني الميل له والأصغاء إليه فاستماع الأغاني فيه معنى الميل لها والإصغاء إليها أما فاستماع الأغاني فقد يكون عن قصد وإصغاء فيسمى استماعا أيضا ويأخذ حكمه وقد يكون من غير قصد ولا إصغاء للصوت فلا يسمى استماعا ولا يحكم له بحكمه وعلى ذلك فالاستماع إلى ما ذكر السائل من الأغاني المشتملة على جميع أنواع الطرب محرم على كل من أصغى إليها ، رجلا كان أم امرأة في بيته أو في غير بيته كالسيارات والمجالس العامة والخاصة لما له في ذلك من الاختيار والميل إلى مشاركة فيما حرمته الشريعة .
قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) .(1/197)
وما ذكره السائل من الغناء هو من لهو الحديث فإنه فتنة للقلب يستهويه إلى الشر ويصرفه عن الخير ويضيع على الإنسان وقته دون جدوى فيدخل في عموم لهو الحديث ويدخل من غنى ومن استمع إلى تلك الأغاني في عموم من اشترى لهو الحديث ليصرف نفسه أو غيره عن سبيل الله وقد ذم الله ذلك وتوعد من فعله بالعذاب المهين وكما دل القرآن بعمومه على تحريم الغناء والاستماع إليه دلت السنة عليه من ذلك قوله( : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " رواه البخاري وغيره من أئمة الحديث . والمعازف : اللهو وآلاته ومن ذلك الغناء والاستماع إليه فذم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يستحلون الزنا ولبس الرجال للحرير وشرب الخمور وآلات اللهو والاستماع لها وقرن المعازف بما قبلها من الكبائر وتوعد في نهاية الحديث من فعل ذلك بالعذاب . فدل على تحريم العزف بآلات اللهو والاستماع لها أما السماع دون قصد ولا إصغاء كسماع من يمشي في الطريق غناء آلات اللهو في الدكاكين أو ما يمر به من السيارات ومن يأتيه وهو في بيته صوت الغناء من بيوت جيرانه دون أن يستهويه ذلك - فهذا مغلوب على أمره لا إثم عليه وعليه أن ينصح وينهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ويسعى في التخلص مما يمكنه التخلص منه وسعه وفي حدود طاقته فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد جرى جماعة من العلماء على أن يستدلوا على مطلوبهم بالأدلة الصحيحة ثم يتبعوا ذلك بأحداث فيها شيء من في سندها أو في وجه دلالتها على دعواهم وهذا لا يضرهم في ثبوت أصل مطلوبهم فإنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستئناس والاستشهاد لا على سبيل الاحتجاج والاعتماد من ذلك ما يذكره بعض العلماء من الأحاديث في مقام تحريم الغناء والاستماع(1/198)
إليه بعد إثباته بالأدلة الصحيحة فلا يضر الطعن فيها فيما ذكر تبعا في ثبوت التحريم بما استدلوا به أولا وأصالة من الدلالة الصحيحة فمن ذلك ما رواه الحكيم الترمذي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع إلى الروحانيين في الجنة " والثاني ما رواه ابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة " وما رواه البيهقي عن جابر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع " . وما رواه أبو داود عن سلام بن مسكين عن شيح شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون ويتغنون فحل أبو وائل حبوته وقال سمعت عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغناء ينبت النفاق في القلب " .
فهذه الأحاديث ضعيفة لكن لا يؤثر ضعفها في تحريم الغناء والاستماع إليه لثبوت التحريم بأدلة أخرى صحيحة من الكتاب والسنة أما العرضات الشعبية ففيها تفصيل لاختلاف أنواعه والمقتضى لها ويمكن أخذ حكمها مما ذكر في الفتوى .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عيد العزيز بن عبدالله بن باز
*****************
حكم التمثيل
ــــــ
سئل رحمه الله عن حكم التمثيل فأجاب :
أ - إذا كانت أهداف كل من التمثيل للمواقف التاريخية وللمواقف المعاصرة الواقعة - نبيلة باعثة على الخير ولم يكن فيها كذب ولا أفتراء ولا انتفاض لشخصيات إسلامية أو مجتمع اسلامي ولم يكن مما يتوقع من ورائه حدوث فتنة أو إثارة شر فهو جائز وإلا فلا .(1/199)
ب - أما التمثيل الفكاهي غير جائز لأن المقصود منه مجرد التسلية والترويح عن النفس مع غلبة اللهو عليه وعد المبالاة وكثرة المزاح الكاذب والكلمات المبتذلة والأساليب الساخرة المرذولة وأمثال ذلك مما يتفق مع ذوي الأهواء ويضحك النفوس المريضة ويسري عنها الهموم لكنه من غير شك يثير الفتن ويبعث الشر من مكمنه ويسيء إلى المجتمع ويذهب بمكارم الأخلاق وعمل هذا شأنه وهذه عواقبه ونتائجه يأباه الشرع وتنفر منه الفطر السليمة .
*************
حكم تربية الحمام والأرانب
بمكة المكرمة وذبحها فيها
ــــــــ
سئل - رحمه الله - عن حكم تربية الحمام والأرانب بمكة المكرمة وذبحها فيها هل يجوز أم لا ؟
الأصل في الطيور وسائر الحيوانات أنها مباح ذبحها وأكلها إلا ما نص الشرع على تحريمه من كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وقال تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ).
( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب ِ) .(1/200)
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) .
الآيات إلى قوله تعالى : ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير " رواه مسلم وروى أبو هريرة عن النبي ( أنه قال : " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام " . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : نهى رسول الله ( عن أكل الجلالة وألبانها رواه احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ولم يرد نص في الشريعة بتحريم شيء إلا ما كان منها غير مستأنس وصاده محرم بحج أو عمرة أو صيد بالحرم فهو محرم لقوله تعالى : (ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلي خلالها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها " رواه مسلم .(1/201)
وعلى هذا فكل ما صاده غير المحرم في الحل ودخل به الحرم أو أخذه منه محرم بشراء أو هبة أو إرث فحلال للمحرم ولمن بالحرم ملكه وذبحه وأكله ومن أحرم وبيده صيدا أو منزله أو في قفص عنده وقد ملكه قبل ذلك فحلال له كما كان من قبل فله ذبحه وأكله وبيعه وإنما يحرم على المحرم وعلى من في الحرم ابتداء تصيد الصيد فقط فإن فعل فلا يملكه وإن ذبحه فهو ميتة .
قال هاشم بن عروة : كان أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بمكة تسع سنين يراها في الأقفاس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون بها القماري والبيعاقيب لا ينهون عن ذلك وروى ابن حزم عن مجاهد لا بأس أن يدخلف الصيد في الحرم حيا ثم يذبحه وروى أيضا أن صالح بن كيسان قال : رأيت الصيد يباع بمكة حيا في إمارة ابن الزبير .
********************
نماذج من بحوثه
الجنة والنار
ــــــ
مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن وأنهما باقيتان لا تفنيان .
هذا المبحث يتضمن أمرين :
الأول : خلق الجنة والنار ووجودهما في الدنيا .
والثاني : بقاؤهما أبد الآبدين .
وفي كل منهما خلاف بين العلماء وفيما يلي بيان مذهب أهل السنة ومخالفيهم في الأمرين مع الدليل .
1- الأمر الأول : اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار موجودتان في الدنيا . ولم يعرف لهم مخالف في صدر الإسلام واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .
أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) .
وقوله تعالى : ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .(1/202)
فدل التعبير عن إعداد الجنة للمؤمنين بالفعل على أنها موجودة بالفعل في الدنيا وقوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .
وقوله : ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .
وقوله : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً ) .
فدل التعبير بالماضي على أن النار وجدت فعلا .
وأما السنة فالأحاديث الدالة على وجودهما الآن كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها فذهب فنظر إليها وإلى ما اعد لأهلها فيها فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بالجنة فحفت بالمكاره فقال : إرجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال : فنظر إليها ثم رجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد قال ثم أرسله إلى النار قال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها : فنظر إليها فإذا هي نفحة يركب بعضها بعضا ثم رجع فقال : إذهب فانظر إلى أحدسمع بها فأمر بها فحفت السماء بالشهوات ثم قال : إذخهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها
فهذان الحديثان صحيحان صريحان في إعداد كل من الجنة والنار لأهلهما .(1/203)
وروى مالك في الموطأ وأصحاب السنن من حديث كعب بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما نسمة المؤمنين طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعهخا الله إلى جسده يوم القيامة " .
وجاء في حديث خسوف الشمس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار وهو يخطب أصحابه وأنه حدثهم عنها .
وأما الإجماع فإن صدر هذذه الأمة لم يزالوا على القول بوجودهما في الدنيا حتى نبتت نابتة من القدرية والمعتزلة فأنكرت ذلك . وهم محجوجون بالنصوص وبإجماع الأمة قبل وجودهم .
شبهة من أنكر وجود الجنة والنار الآن .
* قالوا أولا : خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء عبث - لأن كلا منهما تبقى معطلة مدة طويلة دون أن يجزى بها أحد والعبث محال على الله .
* وأجيب أولا : بأنه معارضة للنصوص الصحيحة الصريحة بالفعل في أمر غيبي لا يعرف إلا من قبل النقل .
* وثانياً : بأن وجودهما في الدنيا فيه فائدة لأن المؤمنين ينعمون في قبورهم وأرواحهم نسمات تعلق في شجر الجنة والكفار يعذبون في قبورهم بالعرض على النار ورؤية كل منهم لمقعده فيها إلى أن يبعثه الله كما تقدم بيانه فوجودهما ليس بعبث .
* واستدلوا ثانيا : بقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه )
وقوله : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ) .
قالوا فلو كنتا موجودتين الآن لهلكتا وذاق كل من فيهما الموت عند النفخة الأولى في الصور من أجل إنهاء الدنيا وتخريبها .
* وأجيب : بأن كلا من الجنة والنار مستثنى ممايصيبه الهلاك والفناء عند النفخة الأولى لأنهما خلقتا للبقاء ، قال الله تعالى :
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) .
داخلتان في عموم (مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) بقاءه جمعا بين الأدلة .(1/204)
* وأيضا المعنى كل شيء كتب عليه الهلاك أو ذوق الموت هالك والجنة والنار ليستا مما كتب عليه الهلاك ، لأنهما خلقتا للجزاء وأيضا معنى :
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ) كل عمل حابط إلا ما أريد به وجه الله بدليل قوله في صدر الآية : ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو ) .
* واستدلوا ثالثا : بما ذكره الله عن امرأة فرعون من قولها :
( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّة ) . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال : يا محمد أقريء أمتك مني السلام وأخبرهم بأن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة " رواهما الترمذي في سننه .
قالوا : فلو كانت الجنة مخلوقا مفروغا منها لما طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتا فيها وقال صلى الله عليه وسلم : " إنها قيعان وأنها لا تزال يغرس فيها كلما كان التسبيح والحمد والتهليل والتكبير من العابدين " .
* وأجيب : بأن ما ذكرتم دليل على وجود الجنة الآن لا على عدمها إلا أنها لا تزال يخلق الله فيها أنواعا من النعيم ما ذكره الذاكرون بل يجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم ما ذكره الذاكرون بل يجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم فالإنشاء فيها مستمر اليوم ويوم القيامة والنعيم فيها متجدد أبد الآبدين .
2- الأمر الثاني : اتفق أهل السنة على أن الجنة لا تفنى وذهب الجمهور منهم إلى أن النار أيضا لا تفنى وقالت : طائفة قليلة منهم بفناء النار .
والدليل على بقاء الجنة قوله تعالى :
( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ) .(1/205)
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ )
وقوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر:48)
وقوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) (صّ:54)
وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108)
واختلف السلف في الاستثناء من خلود المؤمنين في الجنة :
( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ )(هود: من الآية108)
* فقيل : إنه استثناء للمدة التي يمكثها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة من مدة خلودهم في الجنة فالمعنى : يخلد المؤمنون في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا مدة شاء ربك أن يقضيها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة :
* وقيل : إنه استثناء الرب ولا يفعله كقولك : والله لا أكرمن إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا ترى إلا إكرامه .
* وقريب منه ما قيل : من أن الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله لا أنهم باستقرارهم في الجنة وتمكنهم فيها خرجوا من مشيئة الله .
ولا ينافي ذلك عزمه وجزمه لهم بالخلود ونظيره :
قوله تعالى : ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً )
وهو سبحانه بقاء ما أوحى به إلى رسوله وقوله : ( فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)
وهو سبحانه لا يشأ الختم على قلب رسوله بل أراد له استمرار الهداية والإمداد بالنور وصفاء البصيرة .
وقوله : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون َ) .(1/206)
وقد شاء سبحانه إعلامهم به وتلاوة رسوله القرآن عليهم إلى غير هذا من النظائر التي يقصد بذكر المشيئة فيها اثبات كمال الاختبار وأن هذا من النظائر التي يقصد بذكر الأمور لم تخرج من دائرة تقديره سبحانه وتصريفه واختار ابن جرير أن " إلا " بمعنى " لكن " وعليه يكون الاستثناء منقطعا والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء ربك من زيادة نعيم إلى جانب خلودهم في الجنة بدليل : ما ختمت به الآية من قوله تعالى : (َ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .
والدليل من السنة على أبدية الجنة قوله صلى الله عليه وسلم : " من يدخل الجنة وقوله ينادي مناديا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا " رواه مسلم .
وقوله : " يا أهل الجنة خلود فلا موت وياأهل النار خلود فلا موت " رواه مسلم .
* أما أبدية النار : ففيها آراء كثيرة للسلف منها رأيان :
الرأي الأول : رأي الجمهور السلف قالوا إن النار باقية لا تفنى ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين فأنهم يخرجون منها على ما تقدم بيانه في مبحث الشفاعة .
واستدلوا على بقائها ومن بها الكافرين بقوله تعالى :
( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) .
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
وقوله : ( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) .(1/207)
وقوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) .
وقوله : ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً ) .
وقوله : ( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ) .
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) .
* الرأي الثاني : أن النار تفنى بعد أن يستوفى الكفار نصيبهم من العذاب فيها ونسب القول بهذا إلى : عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وأبي هريرة من الصحابة رضي الله عنهم - وبه قال ابن تيمية وابن القيم وجماعة .
واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى :
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) .
وقال : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) .(1/208)
قالوا : استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى : ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ولم يأت بعد الاستثنائين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة فإن الآية ختمت بقوله : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وهو دال على دوام النعيم واستمراره فكان قرينه على أن الاستثناء الذي قبله لا يراد به الإخراج إنما يراد به إثبات كمال الاختيار .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً) فجعل اللبث في النار مدة محدودة فدل على انتهاء العذاب واستدلوا أيضا بأن النار موجب غضبه والجنة موجب رحمته وقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي " وفي رواية : " تغلب غضبي " .
قالوا : فلو بقي الكفار في النار ولم تفن النار لكان غضبه قد سبق رحمته وفي هذا خلف لخبر الصادق صلى الله عليه وسلم عن ربه وخلف خبره مستحيل .
قالوا وما ورد من النصوص الدالة على خلود الكفار فيها أبدا وعدم خروجهم منها فلا نزاع فيه لكنه يقتضي البقاء في العذاب ما دامت النار باقية وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد وهناك فرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس قائم وبين من ينهدم حبسه وينقض بناؤه فيبطل حبسه وينتهي سجنه بانتقاض البناء وقد يناقش هذا بأنه وإن صلح جوابا عند أدلة الخلود فلا يصح جوابا عن النصوص الصريحة في أن عذابها مقيم وأنه كان غراما وأن النار كلما خبت زادها الله سعيرا وأنهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف بل يزيدهم الله عذابا وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .
اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء بالمشيئة في الآيتين السابقتين مسلط على جميع النصوص التي دلت على دوام العذاب واستمراره وعلى كل حال فالموضوع من شؤون الله فليترك إلى الله سبحانه . والله اعلم .(1/209)
وجوب الإيمان بالبعث
وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة
الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان
أ - البعث : هو إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم يوم القيامة ويسمى يوم المعاد لإعادة الأرواح إلى الأبدان فتعود بهذا الحياة إلى الأبدان ويسمى أيضا يوم النشور لانتشار المخلوقات إلى الموقف ويسمى يوم الدين لأن الناس يدانون فيه بأعمالهم أي يجزون عليها وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الإيمان ببعث الأبدان بعد نفخ الأرواح فيها كما جاءت شرائع الأنبياء السابقين بالأخبار عنه ووجوب الإيمان به .
قال الله تعالى مخاطبا آدم وزوجته وإبليس :
( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) .
وقال تعالى في بيان دعوة نوح قومه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر :
( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ) .
وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة السلام :
()وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)
ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء وقال تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) .
وأخبر تعالى عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها :(1/210)
()وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)
اعترفوا بأن الرسل تلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم اليوم الآخر كما قالتعالى عنهم : ()وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)
وأمر سبحانه نبيه محمد عليه الصلاة والسلام إن يقسم به على البعث والجزاء . فقال تعالى : ()زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فقد ذم تعالى من يشك في يوم القيامة أو يكذب به أو يماري فيه . قال تعالى : ()بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) وقال تعالى : ()وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وقال تعالى : ()يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) .(1/211)
وقال في بيان جزاء الكافرين به وبيان شبهتهم في إنكارهم يوم القيامة :
()وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) ورد عليهم هذه الشبهة بدليل كوني نقلي بين فيه أن من قدر على خلق ما هو أعظم منهم كالسماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وأن يعيدهم بعد موتهم فقال : ()أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) وقال : ()لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر:57)
وقال : ()أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يّس:81)
واستدل على قدرته على الإعادة بقدرته على بدء الخلق .
فقال : ()وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27)
وقال في بيان غفلة المكذبين عن النشأة الأولى أو تغافلهم عنها وأنهم لو تذكروها وتبصروا فيها ما وسعهم إلا أن يؤمنوا بيوم القيامة :(1/212)
( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) وقال تعالى في بيان أن قيام الساعة ومجازاة العباد مقتضى حكمته وكمال عدله : ()أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) .
وقال : ()أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وقال : ()وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) .
بالجملة فكمال علمه يوجب ألا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض . وكمال حكمته يقتضي ألا يترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي ولا شرع ولا ثواب ولا عقاب ومعلوم أن ما حصل في الدنيا لا يكفي للجزاء فلا بد من يوم بتحقق فيه كمال عدل الله وحكمته في الفصل بين عباده وهو اليوم الذي أعده الله لفصل القضاء بين العباد وكمال قدرة الله يقتضي ألا يعجز الله شيء فهو قادر على أن يعيد العظام والرفات والذرات بشرا سويا ()بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إلى غير ما تقدم من نصوص القرآن الصريحة في البعث والأرواح والأبدان .
أما السنة فمنها حديث : " كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب " . وستأتي نصوص أخرى متضمنة في تفاصيبل ما يجري على العباد يوم القيامة وهي متضمنة لقيام الساعة .(1/213)
ب - وأما جزاء الأعمال فقد دل على ثبوته قوله تعالى : ()مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الحشر الجزاء على الخير والشر وقال : ()مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
ودل على ثبوته الحديث القدسي الذي رواه احمد ومسلم من طريق أبي ذر الغفاري وفيه : " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
جـ- وأما العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب فالمراد بذلك عرض العباد على الله وعرض كتب أعمالهم عليهم حين تتطاير صحف أعمالهم فمن آخذ كتابه بيمينه ومن آخذ كتابه بشماله يقرأ كل ما في كتابه ويحاسب على عمله ويثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته قال الله تعالى : ()وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)(1/214)
وقال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَة * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) .
الآيات إلى آخر سورة الحاقة .
وقال تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى " ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب " .(1/215)
فهمت عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم أولا عموم الهلاك لكل من حوسب فكان الحديث معارضا حسب فهمها ليسر الحساب في الآية وانقلاب من أخذ كتابه بيمينه إلى أهله مسرورا فاستفسرت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين لها أن الحساب الذي ذكر في الآية مجرد عرض أعمال المؤمنين عليه وأن الحساب الذي ذكر في الحديث أريد به المناقشة في الحساب فلا تعارض بين الآية والحديث .
د - وأما الصراط فمعناه في اللغة : الطريق .
ومعناه المقصود منه هنا الجسر الممتد على متن جهنم الذي يمر عليه العباد إذا انتهوا من الموقف إلى منازلهم في الجنة أو النار .
وهناك ظلمة دون الصراط يكون فيها الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات روى مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال : " هم في الظلمة دون الجسر " .
وفي هذه الظلمة يكون للمؤمنين نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيقول المنافقون لمن صدقوا في إيمانهم : أنظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فإذا ما رجعوا حيل بينهم وبين المخلصين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب .(1/216)
قال الله تعالى : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .
والدليل من القرآن الكريم على الصراط قوله تعالى : ()وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) (مريم:71)
فإن المراد بالورود في الآية على جهنم فوق الصراط المضروب على متنها ثم من الناس من يسقط ومنهم من يسقط ومنهم من ينجوا قال تعالى : ()ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (مريم:72)(1/217)
فلا يلزم من المرور على الصراط فوقها دخول كل من مر في النار وتعذيبه بها ولا يلزم أيضا من التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء انعقاد أسباب الهلاك مع تخليص أهل الخير منه كما في قوله تعالى : ()فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحا) وقوله تعالى : ()وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً) وقوله : ()وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً ) .
فأخبر الله سبحانه بإنجائهم ولم يكن أصابهم ولا أصاب من آمن بهم شيء من العذاب الذي أهلك الله به من كذبهم وكفر بهم فكان توفر أسباب العذاب إجمالا كافيا لتصحيح التعبير بالإنجاء من الهلاك .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الناس يوم القيامة . . . إلى أن قال فيعطون نورهم على قدر أعمالهم وقال : فمنهم من يعطي نوره مثل الجبل بين يديه ومنهم من يعطي نوره فوق ذلك ومنهم من يعطي نوره مثل النخلة بيمينه ومنهم من يعطي نوره دون ذلك بيمينه حتى يكون آخر من يعطي نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة إذا أضاء قدم قدمه وإذا أطفيء قام قال : فيمر ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف دحض مزلة فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم . فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كشد الرحل يرمل رملا فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد وتعلق يد وتجر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار فيخلصون فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد " .
الحديث . رواه البيهقي من طريق عبد الله بن مسعود .(1/218)
هـ - وأما الميزان فقد أخبر الله تعالى عنه وعن وزن الأعمال به لحكم كثيرة منها : ظهور عدله تعالى لجميع عباده قال تعالى : ()وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الانبياء:47)
وقال : ()يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوزن الأعمال ، روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " .
وجاء في حديث البطاقة المشهور أن البطاقة التي فيها " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله " توضع في إحدى كفتي الميزان . وأن سجلات السيئات توضع في الكفة الأخرى فترجح كفة البطاقفة وتطيش كفة سجلاتت السيئات . ولهذه الأدلة ذكر أهل السنة أن الميزان له كفتان وأنه توزن فيه الأعمال وصحف الأعمال وأرباب الأعمال والله أعلم .
وعلى كل حال يجب الإيمان بالوزن والميزان وأن العبرة بالأعمال لا بالشخص نفسه ولا بالصحف نفسها وإنما المعتبر في الوزن هو الأعمال في الرجحان والخفة وشؤون الآخرة من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها إثباتا ونفياً فعلينا أن نؤمن بما صح من النقل في ذلك كتابا وسنة .(1/219)
ولا نعارضه بعقولنا لقصورها عن إدراكه ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه ولم يتجاوز حده ومن أنكر ذلك أو تأول ما ورد فيه من النصوص فقد رام ما ليس إليه ولا في دائرة تفكيره . والله الهادي إلى سواء السبيل .
الفصل الثالث
أعماله ومناصبه
المبحث الأول : أعماله ووظائفه في مصر .
المبحث الثاني : أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية .
المبحث الثالث : علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء ورجال
العلم والسياسة .
الفصل الثالث
أعماله ومناصبه
المبحث الأول
أعماله ووظائفه في مصر
ــــــــ
لقد تسلم الشيخ عبد الرزاق عفيفي في مصر وظائف عديدة وشغل مناصب علمية ودعوية مهمة وأهم هذه الوظائف وأجلها : وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل فهي وظيفة الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : ()وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)
فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم لكونهم يدعون إلى الله ويرشدون إليه فهم أقوم الناس سبيلا وأهداهم طريقا وهم الحملة العدول والأئمة الفحول يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرونه منهم على الأذى فهم - على بعد الشقة بينهم وبين الضائقين بدعوتهم - يظلون ثابتين على دعواتهم يشرحون أصولها ويبينون حدودها ويوضحون معالمها . إنهم أوفر أحلاما وأقوى أركانا من أن يستخفهم طيش أو ينال منهم مستهزيء .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هذا الطراز الموفق من الدعاة كان داعية صدق يدعو إلى الله على بصيرة واضعا نصب عينيه قوله تعالى : ()ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)(1/220)
ففي هذه الآية الكريمة شرع الله لعباده - بما أنزل من كتابه وما كان من بيان رسوله - ما فيه استنارة عقولهم وزكاء نفوسهم واستقامة أعمالهم وسماه سبيلا ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى .
وإضافة إلى نفسه ليعلموا أنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه .
لقد ظل الشيخ عبد الرزاق يؤدي دورا مهما وفاعلا في الحياة العلمية والاجتماعية على نحو مشرف وغاية سامية ونبيلة .
لقد سار في درب الشريعة يافعا ……يطير به عزم له وإباء
وأنفق في بسط الشريعة عمره……يسير به خوف له ورجاء
كان عالما سنيا وداعية سلفيا ومجاهدا ربانيا قضى حياته في ميادين العلم والدعوة والتربية حارب البدع وهو يحمل لواء التوحيد يحافظ عليه بكل ما أوتي من قوة وما حباه الله من عزيمة لا يصده عن دعوته صاد ولا تلين له - في محاربة المبتدعين - قناة .
لقد تقلد الشيخ وظائف عديدة وظفها لخدمة دينه وتصحيح عقائد المسلمين وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي .
ومن الوظائف التي تقلدها :
أ - رئاسته لأنصار السنة المحمدية في مصر خلفا للشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - مؤسس الجماعة .
ب - اشتغاله بالتدريس في المعاهد الدينية الأزهرية ومنها معهد شبين الكوم سنة 1355 هـ ثم معهد الزقازق الديني .
جـ - تقلده لمنصب وكالة المعهد الديني بالأسكندرية وقيامه بأعباء هذا المنصب خير قيام .
د - إمامته للمسلمين في الأسكندرية وضواحيها وقيامه بإلقاء الخطب والمحاضرات في المساجد والمحافل العلمية وقد هدى الله على يديه آلافا من الشباب والشيبة والرجال والنساء .
هـ - نشره وتحقيقه للكتب النافعة التي تعني بأمر العقيدة الإسلامية ومن ذلك نشره لكتاب " العلو " للذهبي إلى غير ذلك من الجهود المشكورة والأعمال المبرورة التي قام بها " المترجم له " رحمه الله .
المبحث الثاني
أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية(1/221)
في الأيام الأولى من دخول الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه - مكة المكرمة رأي بثاقب نظره وصواب تفكيره أن يعقد أول اجتماع تعليمي في تاريخ المملكة ليكون البداية الحقيقية واللبنة الأولى للنهضة التعليمية الشاملة التي أرسى أسسها ووطد دعائمها بكل ما يملك من قوة وما أتيح له من عطاء ولذا فقد دعا هذا الملك الموفق والمؤسس الباني العلماء ورجال التربية والتعليم إلى اجتماع في مكة المكرمة وكان ذلك في جمادي الأولىعام 1343 هـ وفي هذا الأجتماع حث العلماء على نشر العلم وتيسير سبله ثم أصدر أمره السامي بإنشاء مديرية المعارف العامة في 19 / 1 / 1344 هـ للإشراف على جميع المدارس والمعاهد العلمية في البلاد ويعد إنشاء هذه المديرية اللبنة الأولى لنظام التعليم الحديث في المملكة وبعد أن تعددت وتنوعت مهام مديرية المعارف العامة صدر الأمر الكريم بتحويل هذه المديرية إلى وزارة سميت ( بوزارة المعارف ) لتشرف على مختلف شؤون التربية والتعليم والثقافة في البلاد وقد تم ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام 1373 هـ ( 1953 م ) حيث صدر الأمر الملكي رقم 5326 - 4950 وتاريخ 18 / 3 / 1373 هـ القاضي بتأسيس وزارة المعارف وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ( الملك فهد بن عبد العزيز حاليا ) أول وزير للمعارف بالمملكة .(1/222)
لم يكن الملك عبد العزيز - يرحمه الله - موحدا لبناء دولة فحسب بل كان صاحب دعوة إصلاحية وعقيدة راسخة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان - يرحمه الله - ذا بصيرة نافذة وخلق رفيع ومنهج متميز يهدف إلى القضاء على الفساد والجهل بكل صوره وأشكاله . ومن أجل تحقيق هذه الغايات السامية والمقاصد النبيلة أصدر الملك المؤسس عبد العزيز بن الرحمن آل سعود أوامره إلى المديرية العامة للمعارف آنذاك لإرسال ممثلين عنها إلى مصر لاختيار نخبة من العلماء ممن يتسمون بالصلاح وصحة المعتقد والمتانة العلمية والمعرفية وذلك للمشاركة في التدريس ووضع المناهج والمقررات الدراسية لعدد من المعاهد والكليات في المملكة .
واستجابة لهذه الأمور الكريمة توجهت بعثة تابعة لمديرية المعارف سنة 1368 هـ برئاسة فضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع - رحمه الله - للتعاقد مع عدد من العلماء ورجال العلم والتربية فكان صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في طليعة من رشحزا للمشاركة في النهضة العلمية السعودية التي وضع لبناتها الأولى الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه .
قدم - رحمه الله - إلى المملكة العربية السعودية على علمه وسجيته لم يجتذ طمع في مال أو جاه أو منصب وعلم الله صدق نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي مع أنه لم يطلبها فكلان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق تتلمذ عليه أبناء ما بين السبعين إلى الثلاثين ولا يزالون مربين للأجيال أهل منابر وحلقات تدريس وتأليف
قلت : وممن قدم مع الشيخ العلامة في تلك السنة ( 1368 هـ ) أصحاب الفضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم والشيخ محمد بن حسين الذهبي والشيخ عبد النمر والشيخ يوسف الضبع وغيرهم من مشاهير علماء الأزهر .(1/223)
وأول عمل عمل بدأ به الشيخ الشيخ عبد الرزاق حياته وجهاده في ميادين العلم وساحات المعرفة اشتغاله بالتدريس مدة عامين في " دار التوحيد " بالطائف ابتداء من عام 1368 هـ إلى عام 1370 هخـ .
وكانت دار التوحيد بالطائف هي أول مدرسة درس فيها الشيخ الشيخ فضلا عنم كونه عن كونه عضوا في مجلس إدارتها . وفي شهر المحرم سنة 1370 هـ انتقل الشيخ إلى مدينة عنيزة - إحدى مدن القصيم - للتدريس بمعهد عنيزة العلمي الذي قام بافتتاحه فضيلة الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله .
وفي عنيزة عرف الشيخ عبد الرزاق بين أقرانه وإخوانه أعضاء هيئة التدريس بالمعهد العلمي بشدة متابعته للسلف وتضلعه في كثير من العلوم والمعارف ودقة فهمه لأحكام الشريعة فضلا عن قوة شخصيته وسداد رأيه وقد أعجب بعلمه جم غفبير ممن درسوا على يديه ونهلوا من علمه وتناقل الناس أخباره حتى بلغ ذلك سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم مفتي عام المملكة العربية السعودية آنذاك والرئيس العام للكليات والمعاهد العلمية فرغب سماحته في قدوم الشيخ إلى الرياض ليكون موضع مشورته وليقوم بالتدريس في المعاهد العلمية التابعة لسماحته .
وبالفعل غادر فضيلة الشيخ عبد الرزاق " عنيزة " متوجها إلى الرياض وكان ذلك في شوال سنة 1370 هـ .
وفي الرياض واصل الشيخ عبد الرزاق نشاطه العلمي مبتدئا بالتدريس في معهد الرياض العلمي وكان - رحمه الله - سابه سبعة هو في مقدمتهم ومعه فضيلة العلمي وكان - رحمه الله - سابع سبعة هو في مقدمتهم ومعه فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله .
لقد أدرك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - رئيس المعاهد والكليات ومؤسسها بثاقب نظره وبقدرته على معرفة الرجال ما اتصف به هذا العالم الفذ من علم وبعد نظر وقدرة على معالجة الأمور فقربه وعرف مكانته ومكن له لإفادة الباحثين والعلماء .(1/224)
استمر الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في آداء رسالته وتواصلت نشاطاته العلمية والتربوية وجهوده المكثفة في إعداد الأجيال وبناء الرجال وذلك من خلال عمله في المعهد العلمي وفي كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض وكان فضيلته من المؤسسين لهاتين الكليتين ومن أبرز وأشهر المدرسين بهما وذلك بسبب سعة علمه وغزارة مادته وثاقب نظره وقوة بيانه وحسن أسلوبه .
وعندما توفرت الدواعي لإنشاء دراسات عليا ورفع مستوى القضا ء أنشيء المعهد العالي للقضاء سنة 1358 هـ وأوكل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم إدارته إلى فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ثقة به وحسن ظن إدارته فقام الشيخ عبد الرزاق بهذا الواجب خير قيام وتحمل تبعاته بكل صدق وإخلاص وكان من المخططين لمناهج هذا الصرح العلمي الكبير ومن المدرسين فيه والمشرفين على رسائل طلابه ومن هذه الرسا التي أشرف عليها وكان له القدح المعلي في تقويمها :
1- مجمل أسباب اختلاف الفقهاء لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
2- جريمة الحرابة لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم .
3- الطلاق السني والبدعي لفضيلة الشيخ عبد الشيخ عبد الله بن محمد اسحاق .
4- الوقف في الشريعة لفضيلة الشيخ محمد بن حمود الراجحي .
5- الولاية في الزواج لفضيلة الشيخ سليمان بن إبراهيم الرشودي .
6- الخلافة الإسلامية لفضيلة الشيخ سليمان بن قاسم الفيفي .
7- حجية أخبار الآحاد لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين .
8- التملك في الإسلام لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجنيلد .
9- الإيضاح في شروط النكاح لفضيلة الشيخ صالح بن غانم السدلان .
10- الشركات في الفقه الإسلامي والقانون لفضيلة الشيخ سعود بن سعد الديب .
11- تعليل الأحكام لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح التويجري .
12- الموارد المالية للدولة الإسلامية لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود .(1/225)
13- حقيقة الورق النقدي لفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع .
14- الإقرار في الشريعة لفضيلة الشيخ صالح بن لحيدان .
15- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش .
16- القصاص في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ عبد الرحمن القفاري
17- تعدد الزوجات لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد السلام
18- موقف الشريعة الإسلامية من التأمين لفضيلة الشيخ سفر البحري .
19- مباحث القسامة لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الله بن الأمير .
20- اقتضاء النهي الفساد لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الهويش
21- الديات في الإسلام لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الراشد .
22- موقف الإسلام من الخمر لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز المنصور .
23- أحكام الوصية لفضيلة الشيخ محمد حسن الهلالي .
24- مكافحة الجريمة لفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله الناصر .
25- الجناية على ما دون النفس لفضيلة الشيخ سعد بن محماس المخيمر
26- مكافحة جريمة الزنا لفضيلة الشيخ حمد بن محمد الحناكي .
27- الضمان والكفالة لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن السدحان .
28- الإجازة لفضيلة الشيخ على بن محمد التركي .
29- النبراس على مسالك القياس لفضيلة الشيخ إبراهيم بن حمد السلطان .
30- الربا وموقف الإسلام منه لفضيلة الشيخ سعد بمن محمد الرشيد .
31- الاستفادة من أحكام الشهادة لفضيلة الشيخ محمد بن مرزوق المعيتق .
32- حجية السنة لفضيلة الشيخ محمد لقمان السلفي .
33- المرأة بين السفور والحجاب لفضيلة الشيخ محمد احمد العسكري .
34- مكافة جريمة السرقة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العريني .
35- الاستدلال في الشريعة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الكلية .
36- التعارض والترجيح لفضيلة الشيخ علي العنزان .
37- التعزير في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ غيهب بن محمد النهيب .(1/226)
38- المصالح المرسلة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الدويش .
39- يسر الإسلام لفضيلة الشيخ سالم بن محمد السالم .
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إبان إدارته للمعهد العالي للقضاء - والتي استمرت خمس سنوات ( 1385 هـ - 1390 هـ ) - مثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في عمله ونصحه لطلابه وأدبه وحسن إدارته وبهذه الخلال الكريمة أضحى الشيخ موقف تقدير واحترام الجميع وبخاصة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - الرئيس العام للمعاهد والكليات آنذاك . فقد كان سماحته يقدر فضيلة الشيخ عبد الرزاق ويستشيره ويعتمد رأيه في كثير من الأمور تقديرا لعلمه الواسع ورأيه الصائب وإخلاصه الجم والفضل يعرفه ذووه .
كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي إلى جانب إدارته للمعهد مربيا ومعلما ومرشدا تخرج به أجيال من العلماء والمربين وطلبة العلم وقد تسم كثير من هؤلاء مناصب علمية ودعوية مهمة في الوقت الحاضر .
وجدير بالذكر أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان سببا في استقدام نخبة من علماء الأزهر للتدريس بالمعهد العالي للقضاء وكان على رأس هؤلاء فضيلة الشيخ أحمد لاشين وفضيلة الشيخ محمد هاشم عبد الدائم . . . وغيرهم .
وفي سنة ( 1386 هـ ) بلغ فضيلة الشيخ عبد الرزاق سن التقاعد فكتب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى جهات المسؤولة بتاريخ 26 / 11/ 1386 هـ مؤملا استثناء الشيخ عبد الرزاق لمسيس الحاجة إليه وقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم 411 وتاريخ 25 / 6 / 1387 هـ بالموافقة على تمديد خدمات فضيلة الشيخ عبد الرزاق لمدة خمس سنوات اعتبارا من بلوغه سن الستين وإعفائه من التقاعد . وبهذا ظل الشيخ عبد الرزاق يواصل رسالته المباركة في نشر العلم وتعليم الأجيال بهمة لا تعرف الكلل أو الملل وقد استمر عطاؤه في المعاهد والكليات في حياة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وبعد وفاته - رحمهما الله .(1/227)
وفي سنة 1391 هـ انتقل فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي إلى الرئاسة العامة للإفتاء حيث عين نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي تم تشكيلها عقب صدور الأمر الملكي رقم 1137 وتاريخ 8 / 7 / 1391 هـ والقاضي بإنشاء هيئة كبار العلماء وقد جاء في المادة الرابعة من هذا الأمر ما نصه :
تتفرع عن الهيئة لجنة دائمة متفرغة يختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي وتكون مهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة وإصدار الفتاوي في الشئون الفردية وذلك بالإجابة على أسئلة المستفتين في شئون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية وتسمى هذه اللجنة " باللجنة الدائمة للبحوث والفتوى " .
وجاء في المادة الثامنة من اللائحة المرفقة بالأمر الملكي لا تصدر الفتاوي عن اللجنة الدائمة إلا إذا وافقت عليها الأغلبية المطلقة من أعضائها على الأقل على أن لا يقل عدد الناظرين في الفتوى عن ثلاثة أعضاء وإذا تساوت الأصوات يكون الصوت الرئيس مرجحا .
وتنص المادة التاسعة من اللائحة على أن " يعين رئيس اللجنة فيها وأعضاؤها بأمر منا بترشيح من رئيس إدارات البحوث " .
وقد شكلت اللجنة الدائمة بعد صدور الأمر على النحو التالي :
1- فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيسا .
2- فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عفيفي عطية نائبا للرئيس .
3- فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عضوا .
4- فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضوا .(1/228)
وفي آواخر سنة ( 1395 هـ ) عين معالي الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ وزيرا للعدل وعين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا لإرادات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ورئيسا للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ظل الشيخ عبد الرزاق نائبا للرئيس منذ تأسيس اللجنة وحتى وفاته - رحمه الله - أي ظل قرابة أربعة وعشرين عاما أصدرت اللجنة وحتى وفاته - رحمه الله - أي ظل قرابة أربعة وعشرين عاما أصدرت اللجنة خلالها أبحاثا قيمة وآلاف الفتاوي في شتى المباحث الشرعية والقضايا الإسلامية وفي نفس الوقت كان الشيخ عبد الرزاق عضوا في هيئة كبار العلماء والصادر برقم 1137 وتاريخ 8 / 7 / 1391 هـ ويتضمن المرسوم تكوين الهيئة من عدد من كبار المختصين في الشريعة الإسلامية من السعوديين ويجري اختيارهم بأمر ملكي وقد صدر الأمر الملكي بتعيين سبعة عشر عضوا في هيئة كبار العلماء كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق في مقدمة أصحاب الفضيلة العلماء الذين تم اختيارهم لهذه الهيئة . وقد ظل فضيلته عضوا في هيئة كبار العلماء كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق في مقدمة أصحاب الفضيلة العلماء الذين تم أختيارهم لهذه الهيئة .
وقد ظل فضيلته عضوا في هيئة كبار العلماء إلى تاريخ 8 / 6 / 1413 هـ حيث أعفى - رحمه الله - من عضوية الهيئة نظرا لمرضه وانحراف صحته ومع ذلك ظل يواصل عمله في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إلى أن توفاه الله .
********************
المبحث الثالث
علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء
ورجال العلم والسياسة
ــــــــ(1/229)
إن المتأمل لتاريخ البشرية يدرك أن السعة والشمول في علاقات العالم بالمجتمع الذي يعيش فيه مؤشرا حيا وبارزا من مؤشرات اكتشاف مؤهلاته للعمل الخيري وعاملا من عوامل وفرة عطائه وكثرة الانتفاع بعلمه وعمله ولا يمكن لأحد أن يدعي أنها عامل سلبي في الدعوة إلى الله ولا في العودة إلى دينه الخالص بل على العكس من ذلك تعتبر العلاقات المتسمة بالسعة والشمول من أهم أسباب نجاح العالم إذا كان يقصد بها وجه الله لا مجرد تحقيق مكاسب وأهداف مادية .
إن الواقف على سيرة وأخلاق وسلوق فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - يرحمه الله - يدرك للبوهلة الأولى أن الشيخ كان يتمتع بمؤهلات عالية من حسن الخلق وطيب المعشر وسعة الصدر والحلم والأناة وحسن المناقشة مما كان له أبلغ الأثر في تميز علاقات الشيخ وسعتها وخاصة مع ولاة الأمر وأهل العلم ورواد المعرفة ورجال التربية كما كان - رحمه الله - حسن السمعة ذا علاقات طيبة مع سائر الناس لا يحقد ولا يحسد بل كان موضع احترام الناس وتقديرهم وحسن ظنهم وثقتهم ولا أدل على ذلك من قول أحد كبار معاصريه :
" العلماء نوعان : علماء ينعزلون عن الناس ويتفرغون لكتابة الكتب والمصنفات وعلماء يعنون ببناء النفوس وتوجيه العامة وإرشادهم وبالإجابة على اسئلتهم وحل مشكلانهم وقد كان فقيدنا العظيم من النوع الثاني وقد انتفع بعلمه وتوجيهه خلق كثير "
ويقول آخر في كلمة رثاء وعزاء : " وقبل أيام توفى الله لارجلا من أهل العلم والتقوى والحياة المثمرة في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله قد حظي بفضل من الله بمحبة الناس في مصر والمملكة العربية السعودية .
علاقاته المتميزة بولاة الأمر في المملكة العربية السعودية :
إن حسن الظن بالمسلمين سنة حسنة وأمر لازم وأوجب ما يكون ذلك في حق العلماء والأمراء والحكام الذين أمرنا الله بطاعتهم .(1/230)
قال تعالى : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)
وأولوا الأمر : قيل هم العلماء وقيل هم الأمراء قال ابن القيم : والتحقيق أن الآية تعم الطائفتين وإنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن السلطان هو زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده به يمتنع حريمهم وينتصر مظلموهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائءفهم .
قال بعض الحكماء : إمام عادل خير من مطر وابل وإن الله ليزع أمور خلقه واختصه بإحسانه ومكن له في سلطانه أن يكون له من الاهتمام بمصالح رعيته والاعتناء بمرافق أهل طاعته .
قال تعالى : ()الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
فعلى الرعية أن يحسنوا الظن بولاة أمورهم والاطمئنان إلى طويتهم والثقة بحسن نواياهم فإن ذلك من أهم الاسباب التي توثق العلاقة بين الحاكم والمحكوم . ومما يؤكد على حسن الظن بالعلماء والأمراء ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر وإذا كان الإمام جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر .
وقال حذيفة رضي الله عنه : ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم .(1/231)
وقال صلى الله عليه وسلم : " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني " . وفي صحيح مسلم فقد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ك ط سمعت رسول الله صلى الله عليه وسبلم يقول : " من فارق الجماعة وخرج من الطاعة فمات فميتته جاهلية " .
إن في نصح الإمام بالرفق واللين في السر والدعاء له واتباع أمره ونهيه في طاعة ربه فرض لازم وأمر واجب لا يثبت إسلام إلا عليه ولا يتم إيمان إلا به ولله در من قال ك
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم …ولا سرتاة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا له أعمدة ……ولا عماد إذا ما ترسى أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة …………يوما فقد بلغوا الذي كادوا
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - نموذجا طيبا يحتذى وجوهرة وضاءة يهتدي بها في السلوك والأخلاق وفي تعامله مع الأفراد وعلاقته بالجماعات من الناس حاكمين ومحكومين .
عاش فضيلته آلام الأمة وآمالها فكان يدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تغزو العالم وتسود بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ويدرك ما يتعرض له شباب الإسلام من وسائل خادعة وأساليب ملتوية هدفها وغايتها إبعاد المسلمين عن دينهم وصرفهم عن عقيدتهم .
كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق حريصا أشد الحرص على التئام الصف وتوحيد الكلمة واجتماع الأمة والائتلاف بينها ونبذ الفرقة والخلاف الذي يهدد كيانها . وكان يدعو بقوله وفعله إلى التزام جماعة المسلمين والتحذير من الخروج عليها ودليل ذلك ما سطره بقلمه في مبحث " إثبات خلافة الخلفاء الراشدين " فكتب ما نصه :(1/232)
إقامة ولي أمر عام للمسلمين يتولى شؤونهم وتنتظم به أمورهم ويجمع شملهم واجب على المسلمين فيجب عليهم أن يختاروا من بينهم من يصلح للقيام بواجب الأمة وإن لم يكن في الأمة من يصلح لذلك إلا واحدا تعين عليهم أن يقيموه وليا عاما عليهم وتعين عليه أن يتقبل تولي هذا حفظا لكيانها وتحقيقا لما ينهض بها سياسة وتدبيرا وثقافة وعلما وانتاجا وكسبا في السلم والحرب والشدة والرخاء وفي جميع الأحوال .
والحكمة في ذلك : رعاية مصلحة الأمة وصيانتها من أن يدب إليها دبيب الفشل فتضعف شوكتها وتذهب ريحها فيطمع فيها أعداؤها ويستولوا عليها وعلى مرافق حياتها ويسخرونها لمصالحهم ويسومونها سوء العذاب .
وقد شهدت الفطرة بضرورة إقامة ولي عام على المسلمين يسهر على مصالحهم ويسعى جهده في دفع كيد أعدائهم ويبذل وسعه في توحيد كلمتهم ولم شعثهم بل عرف الإنسان أن اتخاذ القيادة وضرورتها أمر جبلت عليه الحيوانات العجماوات فإنا لا نكاد نجد طائفة من الحيوانات على اختلاف أنواعها كالنكمل والنحل في المأوى وجمع الغذاء وكالطيور في الهواء والأسماك في الماء إلا وقد اتخذت لنفسها قيادة تنظم سيرها وعملها ورئاسة تهيمن شؤونها وحركاتها ولو قدر تخلف ذلك كان تخلفه نادرا وفي أمة من الحيوانات ضربت أطنابها في الفوضىةصارت يضرب بها المثل في الهمجية والتهرج والاضطراب كأمة الجراد .(1/233)
وقد دلت عناية الكتاب والسنة بالحث الكثير على طاعة ولاة الأمور والتحذير الشديد من الخروج عليهم ومنازعتهم والحديث في أصل الولاية بالخبر عنها وانتظام الأمر بها مبسوط في مصنفات العلماء وهي تنص على أن وجوب تنصيب الولاة والأئمة أمر معروف طبعت عليه القبائل والأمم كما دل العمل المستمر من النبي صلى الله عليه وسلم في بعث السرايا على أنه ما بعث سرية إلا وقد أمر عليها أميرا وأوصادها بطاعته ودل عمله في البلاد الاسلامية أنه لم يترك بلدا دون أن يؤمر على أهلها أميرا ولم يسافر عن المدينة إلا وقد أمر عليها أميرا فإذا كان هذا شأنه في الولايات الخاصة فالولاية العامة ألزم والعناية بها أتم وأوجب بل لا تكون ولاية خاصة في أمة إلا عن طريق الولاية العامة ومستمدة منها .
وبهذه الكلمات المضيئة التي دلل بها فضيلته الشيخ عبد الرزاق عفيفي على وجوب طاعة ولاة الأمر ( في المعروف ) وأن طاعتهم من طاعة الله ومعصيتهم من معصية الله يتأكد ما ذكرته آنفا من الشيخ - رحمه الله - على توحيد الكلمة واجتماع الناس على حكامهم وعلمائهم وبهذا تعز الأوطان وتصان الأعراض وتعظم الألفة وتتحقق المحبة والرحمة ويكبت الأعداء وينتصر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
ولشيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم عبد الحليم بن تيمية في هذا كلام نفيس فليرجع إليه في كتبه ومنها كتابة القيم " منهاج السنة النبوية " و " مجموع الفتاوي " التي قام بجمعها فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وكتاب " السياسة الشرعية " وفي هذا الأخير يوضح ابن تيمية أهمية الولاية العامة وحاجة الناس إليها فيقول :
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا إنها بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع من رأس . . . إلى أن قال - رحمه الله :(1/234)
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من " الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود " لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روى " إن السلطان ظل الله في الأرض " ويقال : " ستون سنة مع إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان " والتجربة تبين ذلك .
ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض واحمد بن حنبل وغيرهما يقولون : " لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان " .
إلى أن قال رحمه الله :
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما ينسب فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها . أ . هـ
علاقته بالملاك عبد العزيز - طيب الله ثراه :
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - على علاقة طيبة ومتميزة مع موحد هذه هذه المملكة ومؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والذي يعتبر بحق الشخصية نادرة وعبقرية قل من يفري فريها ويترسم خطاها كان مضرب الامثال في الشجاعة حتى هابه الابطال وأذعن له الرجال وكان عقله يسبق لسانه ولا يقول إلا ما يعتقده صوابا .
كان سلفي العقيدة داعية إلى توحيد يوالي ويعادي من أجله ومن كلماته التي القاها في الحفل الذي أقيم له في القصر الملكي بمكة المكرمة في غرة ذي الحجة سنة 1347 هـ الموافق 11 / 5 / 1929 م :
" عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح هذه هي عقيدتنا وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعوا إليها وهي خير ما داموا على كتاب الله وسنة رسوله وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة " .(1/235)
لقد كانت عناية الملك عبد العزيز - يرحمه الله - واهتمامه بالعلم والعلماء تجسيدا لاهتمام الدولة بالعلم وتأكيدا لحفاوتها بالعلماء وأظهر دليل على ذلك أن الملك المؤسس - رحمه الله - كان كثيرا ما يحضر الدروس العلمية التي تعقد في قصره ويوجه الدعوة إلى كبار العلماء والدعاة لحضور هذه المجالس العلمية ومن بين هذه الدروس التي كانت تعقد في قصر الملك عبدج العزيز درس لفضيلة الشيخ عبد الرزاق يحرص في هذا الدرس على إفادة الحاضرين والنصح الطيب للملك وكان الملك عبد العزيز - يرحمه الله - يسعد بذلك .
ويذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان معجبا بحركة الإصلاح والتجدبيد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة ويلمس منه إعجابه في مجال السياسة والقيادوة والحكمة بالملك غعبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل في توحيد المملكة العربية السعودية .
وقد ظل الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على هذه العلاقات الطيبة مع الملك عبد العزيز وأبنائه أصحاب السمو الأمراء من بعده وهذا إن دل فإنما يدل علىتقدير ولاة الأمر - في هذه المنملكة المباركة - للعلم والعلماء ابتداء من الملك المؤسس عبد الهعزيز آل سعود - رحمه وحتى يومنا هذا في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله . ونصر به العلم وأهله .
فجزى الله ولاة الأمر في هذه المملكة خير الجزاء فقد كان هذا العالم الفذ محل اختيارهم وموضع تقديرهم وهذا بحمد الله ديدن هذه المملكة حيث تعرف لأهل الفضل فضلهم ويجد في رحابها أصحاب المواهب والقدرات ما يفيدون مجتمعهم وأمتهم .
علاقته بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهما الله تعالى :(1/236)
من العلماء أفذاذ جمعوا أشتات المكارم وكانوا أعلاما في كل المعالم ومن هؤلاء الأفذاذ الذين أناروا السبيل للسالكين فأرشدوا إلى الهدى خطى اللاحقين ومروا على هذه الدنيا مرور الغيث الهامع فاخضلت الارض غب عبورهم فحمدهم الوارد ومدحهم الراقع فسجل التاريخ حديثهم للرواة وجعل أيامهم عبرة للوعاة .
أقول من هؤلاء : سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ينتهي نسبه إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان فهو عالم من عالم من عالم وفقيه من فقيه من فقيه وزعيم من زعيم من زعيم توارث آباؤه وأجداده الصدارة في العلم والوجاهة والقيادة .
لقد كان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - إماما مجمعا على إمامته ووفور علمه وشفوف حسه وزكاء نفسه وكرم أخلاقه وشرف منازعه وجمعه بين الشمائل الباهية والمعارف المتناهية . كان من الذي يحرص اشد الحرص على اتباع السنة وفهمها والالتزام بها على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين .
فضلا عن ذلك فقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - صاحب المعية نادرة ونجابة ظاهرة وكان ذا هيبة ووقار وقدرة مذهلة على معرفة الرجال وكان ذا فراسة نادرة في اكتشاف المواهب وتقييم الكفاءات وبالجملة فقد كان سماحته - رحمه الله - سابقا لعصره بحرا في علمه سديدا في توجيهه وقد مكنته مؤهلاته العالية في حسن الخلق من أن يعرف لذوي الفضل فضلهم والفضل يعرفه ذووه .(1/237)
لقد أدرك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - رئيس الكليات والمعاهد ومؤسسها ادرك بثاقب نظره ما يتصف به فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من علم وبعد نظره ما يتصف به فضيلة ورجاحة عقل وحسن معالجة للأمور فقربه وعرف مكانته ومكن له واعتمد رأيه في المناهج والكتب الكمقررة واختيار الكفاءاتن العلمية من المدرسين والمتخصصين للقيام بمهمة التربية والتعليم في الكليات والمعاهد العلمية في جميع انحاء المملكة .
وهذا إن دل فإنما يدل على توطيد أواصر الأخوة والعلاقة الطيبة بين الشيخين الجليلين والعالمين المبرزين - رحمهما الله تعالى .
ومن جهة أخرى كان فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعرف لسماحة المفتي عام المملكة العربية السعودية في وقته الشيخ محمد ن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - أقول : كان يعرف له فضله ويقدر فيه علمه ورسوخه في كثير من العلوم والمعارف فضلا عن حسن سياسته التعليمية وسداد رأيه وصواب توجيهاته .
والبرهان الساطع على عمق العلاقة الكريمة ورسوخها بين الشيخين الفاضلين - رحمهما الله تعالى - ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان - حفظه الله قائلا :
كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لا يخفي إعجابه بحركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رحمته دعوته ويلمس منه اعجابه في مجال القيادة والسياسة بالملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - في توحيد المملكة العربية السعودية ويظهر بجلاء احترامه وتقديره لكثير من علماء المملكة العربية السعودية وفي مقدمتهم الشيخان الجليلان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - والشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - في علمهما وعملهما .
علاقته بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله :(1/238)
إن من عرف سماحة العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن قرب وخالطه وجلس إليه يدرك لأول وهلة ما من الله به على هذا الإمام العالم من عقل زكي وقلب نقي وخلق رضي وعزم أبي وغيرة على حرمات الله .
لقد عرفت سماحة العالم المربي والداعية المصلح والعلامة المتقن بقية السلف شيخ العلماء المحققين الإمام الرباني والمحدث الجهبذ الشيخ عبد العزيز بن باز .
أقول : لقد عرفت سماحة الشيخ فما عرفت فيه إلا الشفقة على هذه الأمة والنصرة لهذا الدين والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم . لقد عرفت سماحته منذ خمسة عشر عاما عرفته أبا رحيما وشيخا كريما وعالما مسددا جمع أشتات المكارم وتحلى بفضائل الأخلاق فهو بحق أئمة في إمام.
لقد عرفته وعرفه غيري من أبناء هذه الأمة عرفناه رقيق القلب قريب الدمعة نقي السريرة طاهر الفؤاد صافي الروح حلو الموعظة كريم الخلق باسم المحيا ذكارا شكارا صواما قواما عذب الحديث هينا لينا متواضعا مخبتا لله لا يحقد ولا يحسد ولا يتكلف ماليس عنده يده بالعطاء ندية ونفسه بالخير سخية فهو بحق فريد زمنه وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ونبلا .
وأقسم بالله أن عيني لم تر مثله ولا نكر منصف بعد فضل الله فضله . إنه بحق غرة الزمان وحصن الفضيلة وسيف الإسلام المنافح عن عقيدة التوحيد والذاب عن حياض السنة والمكافح ضد البدع والمنكرات .
ووالله لوددت أني أخدم مثله وإذا ذكر الصالحون فحي هلا بسماحة شيخنا عبد العزيز بن باز - حفظه الله .
لقد أدرك فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ما من الله به على هذا العالم العامل من صفات جليلة وخلال كريمة كان لها أعظم الأثر في توطيد أواصر الأخوة والمحبة في الله بين العالمين الجليلين والشيخين الفاضلين فحرص - رحمه الله - على هذه الإخوة المباركة والزمالة التي قل أن يوجد لها نظير بين الأقران .(1/239)
وكلمة حق أقولها : إن الشيخ عبد الرزاق كان أبعد الناس عن المدح وكان يكره أن يمدح أو يمدح وكان إذا مدحه إنسان عرفت الكراهية في وجهه وبالرغم من كراهيته للمدح والثناء إلا أنه - رحمه الله -
كان إذا ذكر أمامه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو سئل عنه يثنى عليه ثناء عطرا ويعدد محاسنه وما عليه من خصال الخير وقد قال لي يوما : " إن الشيخ عبد العزيز لا يعمل موظفا عند أحد إنما يعمل موظفا عند ربنا " .
ولا شك أن هذا كله يبرهن على صدق محبة الشيخ عبد الرزاق لهذا الطود الشامخ الذي زامله ورافقه في العمل الدعوى من خلال اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مدى عشرين عاما ومن أظهر الأدلة وأقوى البراهين على ما ذكرته - من تميز هذه العلاقة الطيبة بين الشيخين وصفائها - ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الرزاق بخط يده معرفا بسماحة الشيخ عبد العزيز ومنوها بجهوده فقال :(1/240)
هو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز ولد بالرياض في شهر ذي الحجة عام 1330 هـ وحفظ فيها القرآن وجوده على الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة وأخذ علومه في الشريعة واللغة العربية من مشاهير علماء علماء نجد منهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ سعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وكان أكثر ما تلقاه عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وعليه تخرج في علوم الشريعة واللغة العربية ورأى أن من الغبن لنفسه أن يكتفي بما حصله من تلك العلوم أيام طلبه وتلقيه عن مشايخه لما في ذلك من هضمها حقها وحرمانها من الحظ الوافر في العلم والدين فتابع الإطلاع والبحث ودأب في التحصيل وبذل جهده في تحقيق المسائل بالرجوع إلى نطاقها في أمهات الكتب كلما دعت الحاجة إلى ذلك في تدريسه وفيما يعرض له من القضايا المشكلة أيام توليه القضاء وفي إجاباته عما يوجه إليه من اسئلة تحتاج إلى بحث وتنقيب وفي رده على ما ينشر من أقوال باطلة وآراء منحرفة فازداد بذلك تحصيله ورسوخه ونبغ في كثير من علوم الشريعة وخاصة الحديث متنا وسندا والتوحيد على طريقة السلف والفقه على مذهب الحنابلة حتى صار فيها من العلماء المبرزين وقد ولى القضاء أول عهده بالحياة العملية أربعة عشر عاما تقريبا أبتداء من 1357 هـ ثم دعى إلى التدريس بالكليات والمعاهد العلمية في الرياض عام 1372 هـ فكان مثالا للعالم المحقق المخلص في عمله فنهض بطلابه واستفادوا منه كثيرا واستمر على ذلك إلى أن أنشئت الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة فعين نائبا لرئيسها العام فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فأحسن قيادتها والإشراف عليها .(1/241)
والى جانب ما كلف به من أعمال وحمله من أعباء ومسئوليات كانينتهز الفرصة لوعز الناس وارشادهم في المساجد ويغشى النوادي لإلقاء المحاضرات ويحرص على قراءة الكتب النافعة مع إخوانه ويستجيب لمن رغب إليه من طلبة العلم في دراسة بعض الكتب عليه فيحقق لهم أمنيتهم بصدر رحب ورغبة صادقة ولم يحرم نفسه من نفع الناس بالتأليف مع قلة فراغه فألف جملة من الكتب والرسائل في مناسبات وظروف تدعو إلى ذلك .
منها " الفوائد الجلية في المباحث الفرضية " و " نقد القومية العربية " و " توضيح المناسك " و " رسالة في نكاح الشغار " و " رسالة في التبرج والحجاب " و " الجواب المفيد في حكم التصوير " ومقال نشر في الصحف تحت عنوان " ما هكذا تعظم الآثار " وهي الرسالة التي طبعت ضمن رسائل وكتب الجامع الفريد .
ويغلب على مؤلفاته وضوح المعنى وسهولة العبارة وحسن الاختيار مع قوة الحجة والاستدلال وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وحدة الزكاء وسيلان الذهن وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وبالجملة فالشيخ فقد وهب نفسه للعلم والمتعلمين وبذل جهده في تحقيق المصالح لمن قصده أو عرف به مع رحابة صدر وسماحة خاطر فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأرجو أن أكون صادقا فيما ذكرت من الحديث عنه وألا يكون ذلك فتنة لي وله وأن يزيده الله به رغبة في الخير وقوة في الإقدام عليه إنه مجيب الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قلت : ومن المعلوم الذي لا يخفى على أحد أن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن بتز - حفظه الله - كان يعرف لفضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدره ويقدر فيه علمه وقد قال لي سماحته يوما : إن التواضع مثالا جيدا في حسن السيرة والمخاطبة للجمهور ويؤكد هذا فضيلة الشيخ ابن عقيل الظاهري قائلا :(1/242)
كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أكثر الناس تعلقا بالشيخ عبد الرزاق لما جربه من غزير علمه ورجاحة عقله وعفته وتورعه ولم يأذن له بالأستراحة وقد شارف على التسعين من عمره واحتنكه أمراض عديدة فالتزم الشيخ جانب الحسبة ما دامت قوته العقلية لم تضعف فكان يذهب إلى عمله يدف على العجل .
وبالجملة فقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - محل الاحترام والتقدير من كبار العلماء المملكة وعلى رأسهم سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومن قبله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة في وقته ومرجع علمائها وقضاتها - رحمه الله .
علاقته بالأزهر ودور العلم والمعرفة في مصر :
لقد كانت علاقة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي بالأزهر علاقة وثيقة ومتميزة على الرغم من وجوده بالمملكة العربية السعودية . فهو من أبناء الأزهر ومن خريجيه درس فيه وتخرج من أعلى مستوياته وزامل في أروقته جهابذة من العلماء أمثال : الشيخ نمحمد حسين الذهبي والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد بن عبد المنعم النمر والشيخ محمد محمد أبو شهية والشيخ محمد أبو زهو وغيره وقد تولى تدريسهم نفر من فحول الأزهر وجماعة كبار العلماء في مصر وفي طليعتهم الشيخ احمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشرشيبي والشيخ إبراهيم الجبالي وغيرهم وقد أنضجوا فوجا بل أفواجا من خيرة العلماء في مقدمتهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي .(1/243)
لقد عايش الشيخ الأزهر جامعا وجامعة فترة من الزمن ونهل من علمه كان أزهري الشارة سلفي المعتقد محبا للسنة مؤثرا لأهلها وانتساب الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إلى الأزهر شرف للأزهريين الذين نهلوا من روافده الثرة وينابيعه المتدفقة . وكلمة حق تقال للذين يغضون من قدر الأزهر ويبخسونه حقه وينتقصوه بسبب وبدون سبب أقول : لقد أمضى الأزهر أكثر من ألف عام كفاحا في ميادين العلم والمعرفة خدمة للإنسانية وللأمة الإسلامية حفظ عليها تراثها ودفع عنها عاديات الزمن وحماها من العواصف التي هبت عليها في فترات متعاقبة عبر تاريخها الطويل وأسهم في صنع الحضارة إسهاما لم يغفله التاريخ في جميع مجالات الحياة .
لقد جلس علماء الأزهر على مدى عشرة قرون تعليما وتدريسا ووفاء للأمة الإسلامية فقها في الدين وتوجيها للمسلمين . ومن أجل هذا الدور الرائد للأزهر وجهوده المتميزة في خدمة العلم والدين ونظرا لما تخرج من أروقته من علماء عاملين منهم ما نحن بصدد ترجمته فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي . فقد بدا لي أن أتوسع في الكتابة عن الأزهر ليعرف القاريء الكريم شيئا موثقا عن تاريخه وجهاد رجاله وأبرز علمائه ومراكزه العلمية المتخصصة فينزله المنزلة اللائقة به بلا غلو ولا إجحاف ودونك - أخي القاريء - ما كتبته في هذا الخصوص مفصلا!
الأزهر وجهوده في ميادين العلم والمعرفة
لمحة تاريخية عن نشأته ومناهجه وجهوده في مجال العلم
والمعرفة وأشهر علمائه ودعاته
عرف الجامع الأزهر في باديء الأمر بجامع القاهرة نسبة إلى العاصمة الجديدة التي أنشأها جوهر بن عبد الله الصقلي ( ت 358 هـ ) أما تسميته بالجامع الأزهر فيظهر أنها أطلقت عليه في عصر العزيز بالله الفاطمي .(1/244)
بعد إنشاء القصور الفاطمية التي كان يطلق عليها اسم القصور الزاهرة وقال آخرون إنما سمي بذلك لما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بازدهار العلوم فيه ولم ينشأ الجامع الأزهر في بداية الأمر ليكون جامعة أو معهدا للدراسة بل أنشأ ليكون مسجدا للدولة الفاطمية ومركزا لنشر دعوتها .
وقد ظهرت فكرة الدراسة بالجامع الأزهر في أواخر عهد المعز لدين الله الفاطمي وكانت أول حلقة دراسية في الجامع الأزهر هي : حلقة قاضي القضاة الشيخ أبي الحسن علي بن النعمان المغربي حضر فيها جمع من العلماء والأعيان .
أما أتخاذه معهدا للدراسة في الجامع المنظمة فكان أول من فكر في ذلك الوزير يعقوب بن كلس فقد عين بالأزهر جماعة أول من فكر في ذلك العلماء يعقدون مجالس في كل جمعة بعد الصلاة حتى العصر .
وكان ذلك في سنة ( 378 هـ ) .
الدراسة الجامعية بالأزهر :
بدأت الحياة الجامعية في الأزهر منذ أوائل العصر الفاطمي ثم تردد إليه طلبة العلم وازدادوا يوما بعد يوم وهاجر إليه طلاب العلم ورواد المعرفة من شتى بقاع العالم الإسلامي لينهلوا من معينه ومنابعه وكان نظام الحلقة الدراسية هو نظام الدراسة في الأزهر فيجلس الأستاذ ليقرأ درسه وسط حلقة من تلاميذه والمستمعين إليه وتنظم الحلقات وفقا للمواد التي تدرس فيجلس الفقهاء في المكان المخصص لهم وأمامهم الطلبة يستمعون لهم وقد بلغت الحركة العلمية والثقافية في مصر ذروتها من التقدم والازدهار في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع الهجري حيث كان الأزهر يتمتع برعاية خاصة من الحكام .
لقد أخذ الأزهر يؤدي دورا هاما في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية حتى تبوأ في العالم الإسلامي منزلة هامة من الزعامة الدينية والعلمية والمعرفية وكان الأزهر يعيش العصر الذهبي له من حيث الإنتاج العلمي والنفوذ الاجتماعي .
مناهج الأزهر وعلومه :(1/245)
كان يدرس بالجامع الأزهر العلوم النقلية والعقلية يقول المقريزي :
" فلا يزال الجامع الأزهر عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم والفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره " .
ويستدل من نماذج الإجازات العلمية التي أوردها القلقشندي على كتب الدراسة التي كانت تدرس في الجامع الأزهر وغيره من مدارس مصر ومنها : كتب الحديث الستة : وهي " صحيح البخاري " و " صحيح مسلم " و " سنن أبي داود " و " الترمذي " و " النسائي " و " ابن ماجة " و " المسانيد " و " عمدة الأحكام " للحافظ عبد الغني المقدسي و " شذور الذهب " للشيخ جمال الدين بن هشام و " المنهاج في فقه الإمام الشافعي " لأبي زكريا النووي و " كتاب الأربعين حديثا " للشيخ محيي الدين النووي - و " الورقات في الأصول " لإمام الحرمين و " اللمحة البدرية في النحو " للشيخ أثير الدين أبي حيان وغير ذلك من الكتب .
وقد جرت العادة على تدريس العلوم النقلية التي عبر عنها ابن خلدون . بأنها مختصة بالملة الإسلامية في الصباح . أما العلوم الأخرى فكانت تدرس بعد العصر
ومن أشهر العلماء الذين درسوا بالأزهر :
ابن زولاق - ( ت 783 هـ ) ومن تصانيفه : كتاب " فضائل مصر " - وكتاب " قضاة مصر " .
ومنهم أيضا أبو عبد الله القضاعي الذي ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري وتوفي بها سنة ( 454 هـ ) وقد ألف عدة كتب في الفقه والتاريخ منها
كتاب " مناقب الإمام الشافعي وأخباره " - وكتابا في خطط مصر سماه " المختار " وكان هذا الكتاب عونا للمقريزي على كتابه " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار " .
الأزهر وجهوده في مجال العلم والمعرفة :
إن الأزهر قد أمضى أكثر من ألف عام في ميادين العلم والمعرفة والثقافة خدمة للأمة الإسلامية خاصة وللإنسانية عامة .(1/246)
فقد حفظ على الأمة الإسلامية تراثها ودافع ونافح عنها وحماها من العواصف والتقلبات حيث كان يمثل القوة الحقيقية في وجه طوفان المادية المتلاطم وشرها المتدافع فهو يمثل القوة الحقيقية أول من يصدم السيل بسيل يدفعه ويقذف الباطل بحق يدفعه ويدفع في صدر الشر بخير يصرعه .
إنه للأمة الإسلامية نورها ومرشد أمين ومنارة ثقافية يستمد منها علومها على تنوعها وكثرتها .
كان الأزهر على مر القرون هو القلعة الشامخة التي حفظت للقرآن لغته وللحديث مكانته وللدين تعاليمه وللشريعة أحكامها وللفقه أصوله وضوابطه وللأمة الإسلامية تراثها الحضاري الفريد وأصالتها العلمية الراسخة .
وكلمة الأزهر في حياة الأمة الإسلامية كلها تمثل قمة الهرم وعلماؤه الأفاضل هم اللبنات القوية التي قام عليها صرحه وتشامخ بها علوه حتى غدا معلما على الطريق .
رسالة الأزهر :
إن رسالة الأزهر ليست من الرسلات المحلية إنها رسالة تتجاوز توصيل المعرفة للفرد والجماعة إلى تنمية العلاقات بين الشعوب العربية والإسلامية بإعتبارها أمة واحدة تجمعها أخوة الإسلام .
إن رسالة الأزهر في ذاتها تنبعث من تراثها الإسلامي الأصيل لقد تبوأ الأزهر مكانة عالية في دراسة علوم القرآن والسنة وشتى العلوم والمعارف الإسلامية والحفاظ على اللغة العربية والدعوة إلى العمل بأحكام الإسلام وتعاليمه ونظمه وقوانينه .
إن علماء الأزهر قد جلسوا على مدى أكثر من عشرة قرون تعليما وتدريسا ووفاء للأمة الإسلامية فقها في الدين وتوجيها للمسلمين .
وذبا عن حرماتهم ودفاعا عن مقدساتهم .
علماء الأزهر ودعاته :
وإن الأزهر ليذكر من علمائه وأبنائه ودعاته :(1/247)
عز الدين بن عبد السلام - وابن دقيق العيد - والبلقيني - وابن خلدون - والسخاوي - والمنذري - والعراقي - وابن تغري بردي - وابن حجر العسقلاني - والمناوي - وابن عبد الوهاب المالكي - وابن الحاجب - والقرطبي - والزيلعي - والكرماني - والحافظ العيني - وابن الهمام - والبهوتي - والسيوطي - والشرقاوي - والدردير - وابن هشام المصري - والخطيب الشربيني . . .
وغير هؤلاء من العلماء المبرزين الذين قدموا الكثير في علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ والأدب وعلوم اللغة وغيرها .
إن الكثير من تراث الإسلام حفظه جهابذة صادقون من علماء الأزهر وقدموه للمسلمين في مؤلفات عظيمة اتخذها ويتخذها المسلمون كمراجع لدراستهم وينتفعون بها في دينهم ودنياهم .
وهذا مما يؤكد ويدلل على أن رسالة الأزهر رسالة سامية فهو يؤدي دورا فعالا في حياة الأمم والمجتمعات الإسلامية .
وهو يدعو إلى العبادة الصحيحة في اسلوب سهل ومسلك رشيد كما يدعو إلى تنقية التراث الإسلامي مما علق به من الأباطيل والأوهام .
تطوير الأزهر :
في الثاني عشر من شهر محرم سنة ( 1381 هـ ) الموافق ( 7 / 6 / 1991 م ) أصدرت الحكومة المصرية القانون رقم 103 لسنة 1961 م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها وعرف هذا القانون باسم قانون ( تطوير الأزهر ) .
وقد نص هذا القانون على أن الأزهر هو الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب وتعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في سعادة البشر وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا والآخرة .(1/248)
وتعمل على تزويد العالم الإسلامي والزوطن العربي بالمختصين من العلماء والدعاة فيما يتصل بالشريعة الإسلامية والعلوم الدينية والعربية ولغة القرآن وتخريج علماء عاملين متفقهين في الدين يجمعون إلى جانب الإيمان بالله وتوحيده كفاية علمية وعملية ومهنية لتأكيد الصلة بين الدين والحياة والربط بين العقيدة والسلوك ومن ثمرات هذا التطوير التي تذكر فتشكر . إنشاء مجمع البحوث الإسلامية ويختص بالبحث العميق الواسع في الفروع المختلفة للدراسات الإسلامية والعمل على تجديد التراث الإسلامي وتنقيته وتجريده من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي وتجليته في جوهره الأصيل الخالص وتحقيق التراث الإسلامي ونشره وبيان الرأ ي فيما يستجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومعاونة جامعة الأزهر في توجيه الدراسات الإسلامية في مرحلة الدراسات الإسلامية العليا والإشراف عليها والمشاركة في أمتحاناته .
وقد أنشيء مجمع البحوث الإسلامية في سنة ( 1381 هـ - 1961 م ) .
وقد استهل المجمع نشاطه بعقد مؤتمرات قدم فيها مجموعة من البحوث والدراسات الإسلامية وحرص المجمع على إصدار بحوثه باللغتين العربية ولإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية ورئيسه هو شيخ الأزهر .
ويعد مجمع البحوث الإسلامية ركيزة للفكر الأكاديمي بين علماء المسلمين وتوحيدا لاتجاهاتهم في رحاب العقيدة الإسلامية .
وقد عني المجمع بثروة كبيرة من البحوث والدراسات الإسلامية ومنها :
1- بحوث في علوم القرآن والسنة .
2- بحوث في العقيدة الإسلامية .
3- بحوث في مجال التشريع .
4- بحوث في مجال الإقتصاد والمال .
5- بحوث في العلاقات الدولية .
6- بحوث في الجهاد الإسلامي .
7- بحوث في الدعوة الإسلامية .
8- بحوث في شؤون المجتمع والتربية والأسرة .
مكتبة الأزهر :(1/249)
كان للأزهر مكتبة عامرة وهناك من الأدلة التاريخية ما يثبت أن الجامع الأزهر يحتوي على مكتبة كبيرة منذ العصر الفاطمي ما ذكره ابن ميسر في حوادث سنة ( 517 هـ ) أنه أضيف إلى أبي الفخر صالح الخطابة بالجامع مع خزانة الكتب .
وفي القرن التاسع الهجري أصبح لكل رواق كبير من أورقة الأزهر مثل " رواق المغاربة ورواق الشوام " مكتبة عامرة بالكتب وذلك لتيسير البحث والدرس للمجاورين المنتمين إلى كل رواق .
واحتوت خزانة الكتب في بعض الأروقة على بضعة آلاف مجلد وقد آلت معظم هذه الكتب إلى الأزهر عن طريق الوقف .
وذكر المقريزي أن الحاكم أمر بنقل نصف الكتب التي كانت بدار الحكمة إلى الجامع الأزهر من أشهر والباقي إلى مسجده وقد أشار المقريزي في خططه إلى أن عدد الكتب بدار الحكمة بلغت مائة الف كتاب .
وقد صارت مكتبة الأزهر من أشهر المكتبات في العالم يعرفه أهل البصر بالكتب والباحثون من الشرق والغرب ويشيرون إلى ما فيها من الكتب واحتوائها على كثير من نوادر المؤلفات المخطوطات .
ومكتبة الأزهر - كغيرها من المكتبات العامة - تزود روادها على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم بالمواد العلمية في جميع فروعها .
والمكتبة الأزهرية لا تختصر رسالتها على أهل الأزهر من العلماء والطلاب بل تفتح أبوابها لمحب الاطلاع ورواد المعرفة على اختلاف أجناسهم ودياناتهم ومعاهدهم وتعد المكتبة الأزهرية بمثابة المكتبة الأم لمكتبات الكليات والمعاهد في القاهرة والأقاليم .
لقد كان عدد الكتب التي بدأت بها المكتبة الأزهرية في سنة ( 1897 ) عند الشروع في تنظيمها ( 7703 كتابا ) ويبلغ عدد كتبها الآن ( 79123 ) كتابا تقع في ( 183668 ) مجلدا موزعة على فنون العلم العلم على فنون العلم المختلفة .
نصيحة للأزهر :(1/250)
لا بد لعلماء الأزهر إذا ما أرادوا أن تستمر هذه المسيرة المباركة لهذا الصرح العلمي الكبير الذي خرج أجيالا من جهابذة العلماء ودعاة الحق ورجال الدين لا بد لهم من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعض عليهما بالنواجذ مع وجوب التمسك بعقيدة السلف الصالح قولا وفعلا والذب عن حياضها ونفى الشبه عنها إلى جانب تصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي وتدريسها لطلبة العلم وحملة الشريعة نقية صافية لا يكدرها شوائب المتكلمين وأقوال المؤولين وشطحات الفلاسفة المغرضين .
ذلك أن العقيدة الإسلامية كانت ولا تزال هدفا لأعداء الإسلام الطاعنين عليه المتربصين به .
ذلك أن العقيدة الإسلامية كانت ولا تزال هدفا لأعداء الإسلام الطاعنين عليه المتربصين به .
فحق على الأزهر أن يصحح مسيرة التوحيد ويقوم منهج العقيدة ويعيد النظر فيما كتب ويكتب ويدرس في هذا المنتدى العلمي الكبير .
وإنه لأحرى بالأزهر أن يكون له الحظ الأوفر والقدح المعلي من تدريس كتب حفاظ السنة وجهابذة العقيدة وأئمة الحديث والعناية بمصنفاتهم وإدامة النظر في مؤلفاتهم .
ويأتي في مقدمة هذه الكتب التي ينبغي أن يعني بها وبتدريسها " كتاب السنة " للإمام احمد بن حنبل - و " السنة " لابن أبي عاصم - و " شرح السنة " للبغوي - و " شرح السنة " للبريهاري - و " الشريعة " للآجري - و " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " للالكائي - و " منهاج السنة " لابن تيمية - و " الصواعق المرسلة " لابن القيم . . . . . . وغيرها كثير .
وكم هو جميل أن يقترن العلم بالعمل والقول بالفعل والعقيدة مع السلوك مع استقامة في الظاهر وصلاح في الباطن .
إن الأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى قيادة الأزهر وجهود علمائه حين تكون له كلمة نافذة واستقلال صحيح حتى تعود الثقة إلى الأزهر كما كانت عليه من قبل .
تراجم لبعض علماء الأزهر
ــــــــــ(1/251)
ومن علماء الأزهر الذين حملوا رسالة الإسلام وبلغوا أمانته ونشروا دعوته وكان لهم قدم صدق في الدعوة إلى الله عز وجل .
الشيخ محمد الخراشي :
هو الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي ولد في بلدة أبو الخراش مركز شبراخيت محافظة البحيرة في عام ( 1010 هـ ) . كان الشيخ المالكين في عصره ورعا تقيا متقربا إلى الله بالعلم وخدمة الدين .
تلقى علومه على يد نخبة من العلماء الأعلام منهم والده الشيخ جمال الدين الخراشي والشيخ إبراهيم اللقاني وغيرهما .
درس العلوم المقررة بالأزهر ومكث عشرات السنين يتلقى العلم ويلقنه ومن تلامذته بعض مشايخ الأزهر كالشيخ عبد الباقي القليني والشيخ إبراهيم الفيومي .
وقد عرف عنه التواضع ودماثه الخلق وكرم النفس وكان زاهدا متقشفا .
من آثاره العلمية : " رسالة في البسلمة "" فتح الجليل " " الشرح الكبير في الفقه "
الشيخ إبراهيم الفيومي :
ولد الشيخ إبراهيم الفيومي عام ( 1062 هـ ) وتلقى علومه بالأزهر وتتلمذ على طائفة من علمائه ويعد الشيخ الفيومي من علماء الحديث والمتبحرين في اللغة تتلمذ عليه الكثير من العلماء الأفذاذ كالشيخ الدمياطي والشيخ الصعيدي . وكان عالما ورعا من كبار علماء المالكية المشهود لهم بالورع والتقوى .
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1133 هـ ) وتوفى سنة ( 1137 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " شرح على العزية في فن الصرف " وهو مجلدين .
الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي :
هو الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي - ولد بقرية وراق الحضر من قري محافظة الجيزة سنة ( 1264 هـ ) .
وتلقى تعليمه بالأزهر على يد أفاضل العلماء مثل الشيخ عليش وغيرهم .
عين عضوا في إدارة الأزهر ثم وكيلا للأزهر ولم يترك التدريس طيلة هذه الفترة(1/252)
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1335 هـ ) وقد عاصر أحداث الثورة المصرية سنة ( 1919 م ) وما تلاها من صراع بين الشعب والمستعمرين وحكامه وقد قاد مسيرة الأزهر في خضم تلك الأحداث حتى توفى سنة ( 1346 هـ ) من آثاره العلمية :
" الطراز الحديث في فن مصطلح الحديث " ، " حاشية على شرح العضد في أصول الفقه " .
الشيخ عبد الرحمن الشربيني :
هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن احمد الشربيني تلقى تعليمه بالأزهر واشتهر بالتعمق في دراسة المصادر القديمة .
أخذ مكانه في التدريس بالأزهر وأصبح معروفا بالعكوف على القديم من كتب التراث حيث إنه كان من أنصار القديم وقد كان مشفقا علىالأزهر من الانغماس في البعلوم الحديثة واهماله لعلومه الأصلية .
تولى مشيخة الأزهر عام ( 1323 هـ - 1905 م ) . وتوفى سنة ( 1344 هـ
من آثاره العلمية : " فيض الفتاح على شرح المفتاح " في البلاغة .
الشيخ عبد الله الشرقاوي :
هو الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي ولد في قرية الطةويلة من قرى محافظة الشرقية سنة ( 1150 هـ ) .
حفظ القرآن الكريم في قريته ثم رحل إلى القاهرة فتلقى تعليمه في الأزهر على يد أعلام العلماء كالملوي والجوهري والصعيدي والحفني والدمنهوري .
تولى الشيخ المشيخة عام ( 1208 هـ ) في مرحلة من أهم مراحل التاريخ المصري حيث عاصر الثورة ضد الفرنسيين وكان في مقدمة زعماء الشعب وواحدا من عشرة هم أعضاء مجلس الشورى الذي تقرب به نابليون إلى الشعب المصري .
عاش ثورة الشعب المصري وانتفاضته وأبلى بلاء حسنا في حفاظه على الأزهر وحمايته .
توفى عام ( 1227 هـ ) .
من آثاره العلمية : " التحفة البهية في طبقات الشافعية " تراجم فقهاء الشافعية - " فتح المبدي ، شرح مختصر الزبيدي " في الحديث - " حاشية على كتاب التحرير " في الفقه الشافعي - " تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين " .
الشيخ سليم البشري :(1/253)
هو الشيخ سليم بن أبي فراج البشري - ولد في محلة بشر من قرى محافظة البحيرة عام ( 1248 هـ ) .
تلقى علومه بالأزهر على يد نخبة من علمائه وذاع صيته وقد تخرج على يديه كثير من الأزهريين النابهين وبجانب تدريسه للعلوم الشرعية واللغوية في الأزهر كان شيخا في المالكية وعضوا في مجلس إدارة الأزهر .
تولى مشيخة الأزهر عام ( 1317 هـ ) .
كانت له مواقف تشهد بشجاعته وبع نظره وحكمته ممات رفع من شأن الأزهر ومنسوبيته .
من آثاره العلمية : " تلاستئناس في بيان الأعلام واسماء الأجناس " وغيرها .
الشيخ محمد مصطفى المراغي :
ولد الشيخ محمد مصطفى المراغي ببلدة المراغة التابعة لمركز سوهاج سنة ( 1298 هـ ) . حفظ القرآن الكريم . ثم حضر إلى الازهر فتلقى علومه ودرس على كبار علمائه - واتسم الشيخ بسعة افقه وأقبل على كل مصادر المعرفة وقد عمل قاضيا بالسودان ثم رئيسا للمحكمة الشرعية العليا عام ( 1341 هـ ) ثم عين شيخا للأزهر سنة ( 1346 هـ ) - ثم استقال ثم عاد إلى المشيخة عام ( 1353 هـ ) . وتوفي سنة ( 1363 هـ ) .
ومن جهوده تعديل نظام هيئة كبار العلماء وإضافة شروط جديدة لاختيار أعضائها . وقد أنشأ مراقبة البحوث والثقافة الإسلامية عام ( 1363 هـ ) وتختص بالنشر والترجمة والبعوث الإسلامية والدعاة .
من آثاره العلمية : " تفسير جزء تبارك " و " مباحث لغوية وبلاغية " وتفسير كامل للقرآن الكريم " تفسير المراغي " .
الشيخ عبد المجيد سليم :
هو الشيخ عبد المجيد سليم ولد سنة ( 1303 هـ - 1882 م ) في قرية ( ميت شهالة ) من قرى المنوفية وتلقى تعليمه بالأزهر على يد علمائه .
حصل على العالمية من الدرجة الأولى عام ( 1326 هـ ) وقد عاصر أحداث وطنه وشارك فيها وشغل الكثير من المناصب الدينية صدى في الأزهر الشريف والقضاء الشرعي والإفتاء وكان لآرائه الدينية صدى بعيد في العالم الإسلامي .(1/254)
أشرف على الدراسات العليا في الأزهر - ورأس لجنة الفتوى وأسهم في تطوير الأزهر توفى عام ( 1372 هـ ) .
من آثاره العلمية : فتاوي تبلغ بضعة عشرل الف فتوى وله مقالات ودراسات في الصحف والمجلات .
الشيخ إبراهيم حمروش :
ولد الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الحمروش في قرية الخوالد مركز ايتاي البرود - سنة ( 1301 هـ ) ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر ودرس على اعلام العلماء وقد حصل على العالمية من الدرجة الأولى سنة ( 1324 هـ )
وقد عمل مدرسا بالأزهر ثم قاضيا بالمحاكم الشرعية ثم عميدا لكلية اللغة العربية ثم رئيسا للجنة الفتوى كما كان عضوا في مجمع اللغة العربية منذ أنشأته سنة ( 1350 هـ ) .
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1369 هـ ) وله مواقف شجاعة توفى سنة ( 1378 هـ ) .
من آثاره العلمية : " عوامل نحو اللغة " فصول ودراسات في مجلة المجمع اللغوي - وغيرها .
الشيخ محمد الخضر حسين :
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نقطة بتونس سنة 1293 هـ وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بجامعة الزيتونة ونال شهادة العالمية سنة 1321 هـ .
تولى التدريس في الزيتزنة وأنشأ مجلة السعادة العظمى ثم ولى قضاء نزرت إلى جانب التدريس والخطابة بمسجدها كرس قلمه وبيانه لمحاربة الاستعمار وقد استقر المقام به في القاهرة حيث حصل على العالمية من الأزهر وأصبح من علمائه واساتذته وشارك في النشاط العلمي والعملي - وعين رئيسا لتحرير مجلة الأزهر ثم عضوا في مجمع اللغة العربية ثم رئيسا لمجلة لواء الإسلام وقد تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1371 هـ ) وقد توفى رحمه الله سنة ( 1377 هـ - 1958 م ) .
من آثاره العلمية : " كتاب القياس في اللغة العربية " ، " نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم " ، " نقد كتاب الشعر الجاهلي " .
الشيخ محمود شلتوت :(1/255)
هو الشيخ محمود شلتوت من علماء الأزهر ولد في ( منية بني منصور ) مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة حفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر وحصل على العالمية سنة ( 1336 هـ ) عمل مدرسا بمعهد الإسكندرية الديني سنة ( 1337 هـ ) وقد انتقل إلى القاهرة مدرسا بالقسم العالي بالأزهر وقد حظيت رسالته ( المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية ) بالتقدير والإعجاب
واكتسب الشريعة الإسلامية واللغة العربية في عهده ذيوعا وانتشارا .
وقد عين عضوا في مجمع اللغة العربية سنة ( 1364 هـ ) عين مراقبا عاما للثقافة والبحوث الإسلامية بالأزهر وفي عام ( 1375 هـ ) عين وكيل للأزهر ثم تولى مشيخة عام ( 1376 هـ ) .
توفى سنة ( 1383 هـ - 1963 م ) .
من آثاره العلمية : "فقه القرآن والسنة " ، " منهج القرآن في بنالء المجتمع " و " القرآن والمرأة " و " القرآن والقتال " و " تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام " و " الإسلام عقيدة وشريعة " .
الشيخ محمد شاكر :
ولد الشيخ محمد شاكر بجرجة من أعمال الصعيد عام ( 1287 هـ ) حفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر .
عين أمينا عاما بالفتوى عام ( 1311 هـ ) ثم قاضيا بالمحاكم الشرعية ثم قاضيا لقضاة السودان ثم شيخا لعلماء الإسكندرية عام ( 1322 هـ ) ثم عين وكيلا للأزهر عام ( 1347 هـ ) .
وكان عضوا في هيئة كبار العلماء كما كان عضوا في الجمعية التشريعية وكان علما من أعلام أحداث عام ( 1919 م ) . توفى سنة ( 1357 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " القول الفصل في ترجمة القرآن " و " الدروس الأولية في العقائد الدنية " .
الشيخ محمد حسنين مخلوف :
ولد الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي ببني عدي مركز منفلوط محافظة أسيوط سنة ( 1281 هـ ) في بيئة علم وصلاح .(1/256)
حفظ القرآن الكريم ثم تلقى علومه بالأزهر وحصل على العالمية بامتياز سنة ( 1308 هـ ) ثم عمل مدرسا بالأزهر ثم أمينا لمكتبة الأزهر . وقد عين مفتشا أول للأزهر والمعاهد الدينية ثم عضوا بمجلس إدارة الأزهر .
ثم مديرا عاما للأزهر والمعاهد الدينية ثم عضوا في مجلس الأزهر الأعلى - ثم عضوا بهيئة كبار العلماء وقد نال احترام الحكام ورجال الدولة .
وتوفى سنة ( 1354 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " حكم ترجمة القرآن " و " عنوان البيان في علوم التبيان " و " رسالة في مباديء الفنون " و " القول المبين في حكم زكاة الأوراق المالية " و " القرآن تفسير وبيان " .
هذا وقد خرج الأزهر غير هؤلاء أفواجا من جهابذة العلماء وأجيالا من الدعاة والمربين والأدباء وحملة الشريعة وأمما لا يحصون كثرة ممن دافعوا ونافحوا عن دين الله وحملوا لواء السنة ويأتي في مقدمة هؤلاء ممن تخرجوا من الأزهر في القرن الرابع عشر الهجري فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي ( المترجم له ) وفضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق وغيرهما ممن أبلوا بلاء حسنا في نصرة هذا الدين وأهله تغمد الله الجميع بواسع رحمته .
علاقته بالجماعات الإسلامية وموقفه منها :
إن الإسلام دين كامل وتنظيم شامل إنه نور في البصائر وصلاح في الباطن والظاهر لا خير إلا وقد احتواه ولا شر إلا وقد نفاه إنه ينبوع المحلل وأساس الديانات قال تعالى : ()إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام)(آل عمران: من الآية19)
وقال سبحانه : ()وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)(1/257)
لقد جاء الإسلام فكان أعظم مقاصده توحيد الله وإخلاص العبادة له ثم العناية بجمع شتات الأجناس والأمم في إطار واحد لا فرق بين أبيض وأسود ولا بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى حتى أفرغ جميع أتباعه في قالب واحد وهو قالب الأمة الوسط التي جمعت شتات الفضائل ونبذت كل عوامل الانحطاط .
لقد بلغ المسلمون الغاية عندما كانت صلتهم بهذا الدين قوية فانتظم أمرهم واجتمع شملهم وعزت دولهم .
قال تعالى : ()مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )
إن المسلمين اليوم في مسيس الحاجة إلى اجتماع الكلمة والتئام الصف وتوحيد القصد والهدف والدعوة إلى ما يؤلف بين قلوبهم ويوفق بين مشاعرهم ووجدانهم وسلوكهم وأعمالهم ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالأعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القائل : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم "
إن حاجتنا إلى التمسك بالكتاب والسنة فوق كل حاجة وضرورتنا إلى ذلك فوق كل ضرورة خاصة في هذه الأيام التي انقسمت فيها الأمة الإسلامية إلى فرق وأحزاب متناجرة أسرت نفسها في ربقة الرمز وضيق الشعار ومستحدث اللقب الذي يكون في البداية - " كلمة " وفي النهاية " نحلة " واشتد طمع الأعداء في فرقتها وتناحرها فكثرت دعوتهم إلى ذلك وتنوعت الشبه التي يوزعونها بين الصفوف .(1/258)
وكان من أثر ذلك أن دب الضعف إلى جسد الأمة الإسلامية وأصيب بنيانها بالتصدع واجتماعها بالتناثر وطرقت النداءات والنزعات والشعارات أبوب البلاد الإسلامية وعقدت مع الإسلام مصالحة مشبوهة وهنت معها أواصر الأخوة وتزعزع فيها الولاء لله ورسوله واهتزت فيها روابط العقيدة ولم تزل الأواصر تضعف والخلاف يستشرى حتى أصبح روابط العقيدة ولم تزل الأواصر تضعف والخلاف يستشرى حتى أصبح واقعا ملموسا ومنهجا محسوسا أستبيح بسببه الحمى ونهبت من أجله الديار ووقع كثير من بلاد المسلمين في أزمات مادية ومعنوية خانقة وتداعت عليها الأمم وأودت بها الأهواء إلى منعطفات خطيرة ومسالك وعرة وأقبل أبناء الأمة بعضهم على بعض يتلاومون ولعمر الله إنهم لن يزالوا كذلك حتى يطهر الإيمان قلوبهم ويعيد بناءهم وتماسكهم ويرصهم في ميادين الإصلاح والجهاد والعمل المثمر البناء أشرافا كرماء .
لقد أدرك فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أنه لا سعادة ولا حياة لأمة الإسلام إلا الإسلام بقاؤها مرهون بالتمسك به وفناؤها راجع إلى التفريط فيه ولذا كان شغله الشاغل وهدفه الأسمى جمع الأمة على الكتاب والسنة فحذر من سلاح الدس والخديعة للأعداء وهو سلاح بغيض يلجأون إليه إذا أعيتهم الحيل للنيل من الإسلام وأهله بالقوة والسيف .
لقد أبان عن هذا كله - رحمه الله - تحذيرا للأمة وإعذارا إليها وذلك في كلمته الضافية في العدد الأول من مجلة الهدى النبوي .
ومما جاء في هذه الكلمة قوله : فلما أعيتهم الحيل للنيل من الإسلام وأهله بالقوة والسيف أو بالحجة والبرهان عمدوا إلى السلاح النسوي سلاح الدس البغيض والتلبيس فلبسوا لذلك لأمة النفاق وتدرعوا بدروع التقية خشية الظنون والريب وخشية أسياف الغيورين من المجاهدين مستنبطين الكفر والعدوان فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة .(1/259)
وفي موضع آخر يقول - رحمه الله - : إن ما ترزح تحته الأمة الإسلامية اليوم من تفرق في الرأي وضعف في الدفاع وتأخر إلى الوراء حين يتقدم غيرهم ليس كل هذا إلا نتيجة غفلتهم عن مخططات أعدائهم وبعدهم عن تراث السلف الصالح وسلوكهم لغير خطتهم وعملا وفي موضع ثالث يتحدث الشيخ - رحمه الله - عن حقيقة العداوة بين المؤمنين والكافرين وطرق مواجهتها فيقول :
إن العداوة التي بين المؤمنين والكافرين عداوة قديمة مستأصلة وأن الخصومة التي بين الفريقين خصومة مستحكمة وأن قلوب الكافرين لم تزل ولا تزال تتوهج فيها الجمرات الغيظ وتشتعل فيها نيران الضغائن والأحقاد لا يكاد يخبو لهيبها أو تخمد جمرتها بل لا تزال تزداد يوما بعد يوم وتتخذ الوانا مختلفة من الكيد والتلبيس وأشكالا من الحروب الضارية خفية وجهرة سرا وعلانية وما خفي منها أشد ضراوة وأعظم فتكا بالمسلمين مما ظهر ولذا حذرنا الله من موالتهم واتخاذ بطانة منهم قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) .(1/260)
تارة تكون حربا مادية تدور رحاها في الجو أو البحر أو على بساط الأرض بالطائرات والغواصات والدبابات وأمثال ذلك من الأسلحة الفتاكة وتارة تكون نظرية الإلحاد ونحوها لتشكيك المسلمين في دينهم وبزلزلة العقيدة في نفوسهم ومحو ما في قلوبهم من حق ويقين وآونة تكون حرب أعصاب وفتن توهن العزائم وتبعث الرعب في القلوب وتحطم وحدة المسلمين وتفرق جماعتهم بما تلقيه في نفوسهم من بذور الأثرة وأسباب العداوة والبغضاء وتجعل بعضهم حربا على بعض إلى غير ذلك من ألوان الكيد والحروب فلا بد للمسلمين أن يواجهوهم بمثل أسلحتهم يواجهزنهم بأدلة علمية يثبتون بها الحق في قلوب المؤمنين ويمحون الشبه حتى لا تكون فتنة ولا إلحاد ولا حيرة ولا شكوك ويواجهونهم بإيجاد يقظة في الأمة الإسلامية ونشر الوعي فيها حتى ينكشف لهم ما بخصوصهم من الكيد والدس وحتى لا يغتروا بالبهرج الكاذب والمظاهر الخداعة ولا يأخذ التهريج من نفوسهم مأخذه .
وكل هذه المواجهات والمكافحات أنواع من الجهاد في سبيل الله فيجوز أن يستعين في القيام بها بأموال الزكاة وغيرها من تبرعات المحسنين من أغنياء المسلمين وبيوت الأموال في الدول الإسلامية عن طريق ولاة الأمور لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم والله الموفق . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وفي معرض حديثه عن الفرق وثمار التفرق المرة يقول فضيلته :
كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم وسلكت بهم بنيات الطريق فتمزقت وحدتهم واختلفت كلمتهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما .(1/261)
قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . الحديث وقد أمر الله - تعالى - في كتابه وعلى ألسنة رسله بوحدة الكلمة والاعتصام بشرعه وحذر من الفرقة والاختلاف وبين عاقبة ذلك بما ذكر من أحوال الأمم الماضية وما حاق بها من الدمار وأصابها من الهلاك وحثهم على البيان والبلاغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة للحق وإزالة للشبهة وإحباطا لكيد دعاة السوء واستهوائهم النفوس الضعيفة .
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وقال : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1/262)
وعن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : " أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .
ومع ذلك دب الخلاف بين الناس فما من أمة من الأمم إلا وقد اختلفت بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا يبني عليها مذهبه وإليها بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا يبنى عليها مذهبه وإليها يرجع في خصومه . فتناقضت مذاهبهم وصار كل واحد حربا على أخيه وشغل بذلك عن كتاب الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه - سبحانه - جرت سنته واقتضت حكمته أن يقيض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه وتهدي الناس إليه إنجازا للوعد بحفظ دينه وإقامة للحجة وإسقاطا للمعاذير قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)
وقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وستفترق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " . وفي روايه قالوا : يا رسول الله ! من الفرق الناجية ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " . وفي رواية قال : : هي الجماعة يد الله على الجماعة " . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . وفي الحديث : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق . . . " الحديث .(1/263)
وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وإن شعارها كتاب الله وهدى رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص ويعملون بها ويردون إليه ما تشابه منها وأما الفرق الضالة فشعارها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة واتباع الأهواء وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناء على أصول وضعوها يوالون عليها ويعادون فمن وافقهم عليها أثنوا عليه وقربوه وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة ومن خالفهم تبرءوا منه ونبذوه وناصبوه العداوة والبغضاء وربما رموه بالكفر والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة .
وبعد هذه المقتطفات من مقالات الشيخ وكتاباته يدرك القارئ الكريم حرص الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على اجتماع كلمة المسلمين والتمسك بالإسلام لأنه الدين الذي تتجمع عليه القلوب وتتآلف به الشعوب جامعة تتضاءل أمامها الشعارات القبلية والدعوات العنصرية والانتماءات الحزبية وبه تتلاشى كل الدعاوي الجاهلية .
ولأجل هذا كرس الشيخ حياته خدمة لدينه ودفاعا عن عقيدته فضلا عن الدعوة الصادقة والمستمرة في العودة إلى كتاب الله تلاوة له وتفقها فيه والاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعض عليهما بالنواجز .
وقد حاول - رحمه الله - إرجاع الناس إلى هذين الأصليين العظيمين والمصدريين الكريمين من مصادر التشريع وبذل من أجل ذلك كل ما يمكن بذله .(1/264)
حقا لقد أحب السنة كيف لا وهو إمام من أئمتها حمل لوائها وذب عن حياضها ودافع ونافع عنها وكان عطوفا حدبا على المنتسبين إليها وفضلا عن ذلك كله فقد كان عطوفا حدبا له القدح العلمي في تأسيس أول جماعة لها تعرف بـ " جماعة أنصار السنة المحمدية في الإسكندرية " وهي فرع من جماعة أنصار السنة في القاهرة وقد وضحت سابقا أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان وكيلا لجماعة أنصار السنة المحمدية في القاهرة ثم آل به الأمر إلى توليه رئاسة جماعة أنصار السنة في مصر كلها خلفا لمؤسسها الأول فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله .
وكلمة حق أقولها وشهادة أدين الله بها : إن هذه الجماعة هدفها الأعظم وسبيلها الأقوم إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا واعتقادا ومحاربة البدع ومحدثات الأمور ودحض الأباطيل والأوهام التي لا تمت إلى الدين بصلة وهي أسم على مسمى فهي بحمد الله قائمة على التوحيد داعية إليه مؤثرة له وقد شهد لها بذلك كبار حملة الشريعة ورواد العلم ودعاة الهدى وقد ورد استفتاء إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - يسأل فيه المستفتي عن حقيقة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والسودان فأجابت اللجنة بقولها :
جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر ثم السودان جماعة إسلامية سنية سلفية تدعو إلى الله على منهاج النبوة في التوحيد والتعبد والسلوك وتعقد الولاء والبراء على الكتاب والسنة هذا معروف عنها - ولله الحمد - فهي تمثل جماعة المسلمين الحقة في وسط المجتمعات التي تعج بأنواع الفرق والنحل وقد نفع الله بهم خلقا كثيرا من العلماء وطلبة العلم وعامة الناس .(1/265)
وهذا الاسم " جماعة أنصار السنة المحمدية " إنما صار لتتميز به أمام الجماعات والفرق التي داخلتها البدع والأهواء المضللة وعقد الولاء والبراء ليس على هذا الاسم وإنما هو على الكتاب والسنة والحب في الله والبغض في الله .
ولهذا لا يجوز تفرقهم ولا تفريق كلمتهم ومن سعى في هذا أو رماهم بالتحزب المقيت فقد اعتدى عليهم وظلم نفسه .
ويمتدح سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية " مجلة التوحيد " التي تصدرها جماعة أنصار السنة قائلا : بخصوص مجلة " التوحيد " التي تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية في جمهورية مصر العربية - هي مجلة إسلامية تنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة وتدعو إلى الأخلاق الفاضلة وتحذر من البدع وسائر الأمور المخالفة للشرع المطهر فهي جديرة بالدعم والمساعدة والاشتراك فيها حتى تستمر في جهادها المبارك في نشر الحق والفضيلة .
ويذكر فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس - إمام وخطيب المسجد الحرام - بأن هذه الجماعة ليست جماعة حزبية وإنما هم إناس نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله ولنصرة السنة والتركيز على العقيدة الصحيحة والى دعوة الناس إلى الوحيين .
ومما يؤكد ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - عن هذه الجماعة ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في كلمته الضافية " مبدأ وميثاق " موضحا منهج هذه الجماعة ولب دعوتها قائلا :
من أجل ذلك نجد جماعة أنصار السنة المحمدية يكثرون من الكلام في التوحيد في دروسهم وخطبهم وكتاباتهم ولهم في ذلك خير أسوة ، أسوتهم في ذلك أئمة الهدى وقادة الإصلاح المؤيدون من الله بوحيه ونصره أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام .(1/266)
هذا وإن جماعة أنصار السنة المحمدية قد أخذت على نفسها أن تعتصم بكتاب الله وتهتدي بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام وتجعل سيرة السلف الصالح نصب أعينها عقيدة وقولا وعملا لا تؤثر على ذلك شيئا ولا ترضى به بديلا من آراء الرجال الضالة وأهوائهم الزائفة عملا بقوله تعالى :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . وما معناه من الآيات والأحاديث والتزمت ما ألزمها الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وعهدت إلى رئاسة الجماعة بعد وفاة مؤسسها بمصر ورئيسها السابق فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله وحمة واسعة وجزاه الله عن الدعوة إلى الدين ونشر التوحيد خير الجزاء فكان لزاما على أن أقوم بهذا الواجب وأسير بالجماعة على هدي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ابتغاء مرضاة الله في نشر دينه وتحقيقا لمبدأ التعاون في نصرة الحق .
وأرجو الله أن يهيئ لنا جميعا من أمرنا رشدا وأن يلهمنا الرشد والصواب في العقول والعمل والقول فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(1/267)
وبعد هذا التعريف بجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر وبيان حقيقة دعوتها وثناء العلماء عليه فإنه يمكن القول بأن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان على علاقة حسنة وطيبة مع سائر الجماعات الأخرى في مصر مع عدم إقراره - رحمه الله - لمناهج الكثير منها وكان أبعد الناس عن الغلو فلم يغلو في أحد أو يخفو أحدا ومع ذلك لم يأل جهدا في النصح لهذه الجماعات باتباع سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين والبعد عن التفرق في الدين وأن يكونوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان وذلك بالتزام جماعة المسلمين ويد الله على الجماعة ومن شذ في النار قال الله تعالى في محكم تنزيله :
( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) .
وقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) .
وكان الشيخ - رحمه الله - إذا سئل : هل على المسلمين أن يلتزم جماعة بعينها قال : من أراد أن يلتزم جماعة معينة فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين .
والواجب على كل إنسان أن ينضوي تحت جماعة المسلمين " أهل السنة والجماعة " الذين درجوا على منهاج النبوة ولم ينفصلوا عنها لحظة واحدة فليس لهم شخص ينتمون إليه سوى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لهم منهاج سوى منهاج النبوة " الكتاب والسنة " .(1/268)
لقد كان لنصح الشيخ ورفقه بالمنصوحين الأثر البالغ في إقبال الناس على الناس السنة وتعظيمهم لها وتقديم الكتاب والسنة على ما سواهما وهذا والله منهج العلماء العاملين والدعاة المصلحين فإن غاية الغايات عندهم دعوة الناس وإرشادهم إلى ربهم وخالقهم ومعبودهم مع الرفق بهم ورحمتهم . ومع الرفق واللين يقبل الناس على الدين . وهذا ما حدث بالنسبة لمن جلسوا إلى الشيخ وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل فقد استفادوا من علمه وتأثروا بأخلاقه وسعة صدره وأفادوا غيرهم من طلبة العلم ومحبي المعرفة وغدوا دعاة وهداة يدعون إلى الله على بصيرة لقد غدوا سنين ودعاة ربانيين أحلوا السنة سويداء قلوبهم فجدوا في الدعوة إليها وصبروا على الأذى في سبيلها فرحم الله الشيخ عبد الرزاق رحمة واسعة وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
المقدمة
الحمد لله فاطر السماوات والأرض ، جاعل الملائكة رسلا وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل أحاط بكل شيء علما ووسع كل شيء رحمة وحلماً ، خلق الإنسان وعلمه ورفع قدر العلم وعظمه وخص به من خلقه منت كرمه وحض عباده المؤمنين على التفقه في الدين .
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، الممتن على المؤمنين بفضله بذل لهم الإحسان وزين في قلوبهم الإيمان وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان .
وأشهد أن محمداً ( عبده ورسوله ونبيه وصفيه ونجيه وخليله وأمينه علي وحيه وخيرته من خلقه ، المبعوث بالدين القويم والخلق العظيم ، الموعود يوم القيامة مقاماً محموداً وحوضاً موروداً وشرفاً مشهوداً اختصه الله بالمحامد الكثيرة والمآثرة الأثيرة ، أرسله الله رحمة للعالمين وقدوة للعالميين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين ، بعثه للإيمان منادياً وللخليقة هادياً ولكتابه تالياً ولمرضاته ساعياً وبالمعروف آمراً وعن المنكر ناهياً .(1/269)
أرسله الله على حين فترة من الرسل وحاجة من البشر فجاء ( بالدلائل الواضحة والحجج القاطعة والبراهين الساطعة ، أيقظ به العقول من سباتها وصرف به النفوس عن أهوائها فكان( مصدر خير ومبعث نور وشمس هداية ، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وتنهض بالحجة ودعا إلى الحق وحض على الصدق ، فصلوات الله وسلامه عليه أفضل صلاة وأنماها وأطيبها وأزكاها وأبقى الله في العالمين محبته وفي المقربين مودته وجعل في أعلى عليين درجته وعلى آله الطيبين الطاهرين .
ورضي الله عن أصحابه الطيبين المطيبين ، الذين آمنوا به واتبعوه وعزروه ونصروه ، ونقلوا لنا رسالته وبلغونا أمانته شهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التفسير وهم الذين أختارهم الله عز وجل لصحبة نبيه ( ونصرته وإقامة دينه وإظهار حقه وبذلوا في ذلك أنفسهم ونفسيهم فهدى الله بهم العباد وفتح على أيديهم البلاد ، أبر الأمة قلوباً وأعمقها علماً وأحسنها عملاً وأقلها تكلفاً ، رضى الله عنهم وأرضاهم ومن اقتفى أثرهم وسلك سبيلهم من العلماء العاملين والدعاة المصلحين الذين فقهوا دين الله وأدركوا مراميه وفهموا مقاصده واستنوا بهديه وعملوا بأحكامه ودعوا إليه بالحكمة والموعظة الحسنة .
أما بعد :
فإن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه لم يخلق خلقه عبثاً ولم يتركهم سدى بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم ورضى منهم باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل ، أفاض عليهم النعمة وكتب على نفسه الرحمة .(1/270)
ومن كمال رحمته وتمام نعمته أن هيأ لهذه الأمة - في كل فترة من الزمن - علماء عاملين ، بصراء ناصحين ، أمناء مخلصين ؟، يذكرون الغافل ويعلمون الجاهل ، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، هم أحسن الناس هدياً وأقومهم سبيلاً ، رفعهم الله بالعلم وزينهم بالحلم ، بحلمهم يعرف الحلال من الحرام والحق من الباطل والضار من النافع والحسن من القبيح ، فضلهم عظيم ونفعهم عميم ، هم ورثة الأنبياء وخيار الأتقياء وهم أئمة العباد ومنار البلاد وقوام الأمة وينابيع الحكمة بهم تحيا قلوب أهل الحق وتموت قلوب أهل الزيغ .
قال أبن القيم رحمه الله : ( وهم - أي العلماء - في الأرض بمنزلة النجوم في السماء ، بهم يهتدي الحيران في الظلماء وحاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب ) .
كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء - رضى الله عنهما - " إنما مثل المعلم كمثل رجل عمل سراجا في طريق مظلم يستضيء به من مر به وكل يدعو إلى الخير " .
ومما يدل على عظم منزلة العلماء أن الله تعالى أمر الناس بسؤالهم والرجوع إلى أقوالهم وجعل علامة زيغهم وضلالهم ذهاب علمائهم واتخاذ الرؤوس من جهلهم وقد صح عن النبي ( أنه قال : " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً أتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " .
ولا شك أن موت العلماء كسر لا يجبر وثلمة لا تسد ، ذلك أن العلم يموت بموت حامليه .
قال محمد بن الحسين : إذا مات العلماء تحير الناس ودرس العلم بموتهم وظهر الجهل ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، مصيبة ما أعظمها على المسلمين .
قال ابن عبد البر رحمه الله : أنشدني احمد بن عمر بن عبد الله في قصيدة له :
وذهاب العلم عنا………في ذهاب العلماء
فهم أركان دين الـ………ـله في الأرض الفضاء(1/271)
فجزاهم ربهم عنـ ……ـا بمحمود الجزاء
وقال آخر :
تعلم ما الرزية فقد مال……ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد حبر………يموت بموته خلق كثير
ولكن الله تعالى برحمته وطوله وقوته وحوله ، ضمن بقاء طائفة من هذه الأمة على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ، أولئك هم الأقلون عدداً ، الأعظمون عند الله قدراً ، قال ( : " لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس " . وفي رواية : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة " .
ومما لا شك فيه أن هذه الطائفة " هم ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً ودعوة الخلق على الله في طريقهم ومنهاجهم" وهذا ما ذكره العلامة بن القيم رحمه الله في بيان طبقات المكلفين ومراتبهم في الآخرة وأكده بقوله : وهذه - الطبقة - أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهي مرتبة الصديقية ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء ، فقال تعالى : ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) .
فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة ، هؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين الرسول وأمته ، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمنون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ ) .(1/272)
والمقصود أن درجة الصديقية والربانية ووراثة النبوة وخلافة الرسالة هي أفضل درجات الأمة ولو لم يكن من فضلها وشرفها إلا أن كان من علم بتعليمهم وإرشادهم، أو علم غيره شيئاً من ذلك كان له مثل أجره ما دام ذلك جارياً في الأمة على أبد الدهور وقد صح عن النبي ( أنه قال لعلي بن أبي طالب : " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " .
وصح عنه( أنه قال : " من سن في الإسلام سنة فعمل بها بعده كان له مثل أجر من عمل به لا ينقص من أجورهم شيء " .
وصح عنه ( أيضاً أنه قال : " إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
وصح عنه ( أنه قال : " من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين " .
وفي السنن عنه ( أنه قال : " إن العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى النملة في جحرها " .
وعنه ( أنه قال : " إن الله و ملائكته يصلون على معلم الناس الخير " .
وعنه( أنه قال : " إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ عظيم وافر " .
وعنه ( : " العالم والمتعلم شريكان في الأجر ولا خير في سائر الناس بعده " .
وعنه ( أنه قال : " نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها " .(1/273)
والأحاديث في هذا كثيرة فيها لها من مرتبة ، ما أعلاها ومنقبة ما أجلها وأسماها أن يكون المرء في حياته مشغولا ببعض أشغاله أو في قبره قد صار أشلاء متمزقة وصحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب ، تلك والله المكارم والغنائم وفي ذلك فليتنافس المتنافسون وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وحقيقي بمرتبة هذا الشأن أ، تنفق نفائس الأنفاس عليها ويسبق السابقون إليها وتوفر عليها الأوقات وتتوجه نحوها الطلبات وأصحاب هذه المرتبة يدعون عظماء في ملكوت السماء كما قال بعض السلف : من علم وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء .
إن السابر لأغوار التاريخ والمتعمق فيه ، يدرك أن تاريخاً الإسلامي حافل بالعلماء الأعلام الذين أوقفوا حياتهم على طلب العلم وتعليمه واقتناص أوابده واستنباط قوانينه وقواعده وأنفقوا أثمن ما يملكونه من مال وجهد ووقت في سبيل هداية الخلق .
وإنني أرى أن من حق هؤلاء العلماء علينا أن نسجل سيرهم وندون أخبارهم وإنه لمما يسر أعظم السرور أن يكون الحديث متواصلا عن العلماء ، تبصيراً بسيرهم وتعريفاً بحياتهم وتذكيراً بأعمالهم وبما كان لهم من الفضل مما أنتج الأثر العظيم الذي يعيشه أهل العلم اليوم متواصلا بجهد جهاد من كان قبلهم .
إن نشر تراجم العلماء والتذكير بفضائلهم والتعريف بسير حياتهم وجهادهم من الأعمال التي تذكر فتشكر .
ذلك أن الكتابة عن العلماء وتسجيل سيرهم بهد رحيلهم يقيها عدوان النسيان مع تباعد الأزمان . إلى جانب ما يحصل من الخير والنفع العاجل والآجل ومن ذلك أن الناس يقتدون بهم ويحذون حذوهم ويدعون لهم .(1/274)
إن مما لا شك فيه أن اقتفاء سير من كان قبلنا من أهل العلم الذين قد شهد لهم بالتحقيق وشهد لهم بالإمامة في السنة وعرفوا بنقل العلم صافياً عن الرعيل الأول ، أقول : لا شك أن اقتفاء سيرهم سيكون له أبلغ الأثر في نفوس الشببة والناشئة من هذه الأمة ولأن الأمة إن لم يقتد شبابها بكهولها من العلماء وإن لم يتصل أولئك بخبر من تقدم فيمن يتصلون وعمن يأخذون وبمن يقتدون .
وإنه لجميل أن تعرف هذه الأمة للعلماء فضلهم وتحفظ حقهم وتجل قدرهم وتنزلهم منازلهم اللائقة بهم ، بوصفهم معالم هداها ومصابيح دجاها .
وفضلا عن ذلك فإن تسجيل سير العلماء تعد بمثابة دعوة مفتوحة إلى رواد العلم ومحبي المعرفة ودعاة الحق لأخذ الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة من سيرهم القيمة وأخلاقهم الفاضلة ، بحيث يلزم القارئ لسيرتهم نفسه بالتحلي بتلك الصفات الرفيعة والخلال الحسنة فيرد من حيث وردوا ويصدر من حيث صدروا تأسيساً بهم ومشابهة لهم .
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم………إن التشبه بالكرام فلاح
وإن من المحزن والمؤسف حقا ، بل ومن العقوق أن ينسى أبناء هذه الأمة دعاتهم المصلحين ورجالهم المخلصين وعلماءهم العاملين ، الذين عبروا بهم إلى شواطئ النجاة وجنحوا بهم عن مراتع الهلكة ومواقع الفتن فسلمت لهم أبدانهم بعد أن سلمت قلوبهم .
ذلك أن صلاح الأمة لا يكون راسخ البناء ولا جميل الطلاء ولا محمود العقبى إلا إذا كان موصولا بحقائق الدين ومصطبغاً بآداب الشرع وذلك لا يكون ولن يكون إلا حين يقوم العلماء الربانيون بمسؤولياتهم وينهضوا بما أستحفظوا من الدين وما أوتوا من العلم .(1/275)
إن قاصد الحق وصادق الهدف ، يجد في سير الصالحين والعلماء العاملين والأئمة المصلحين ما يدفعه إلى صدق العزيمة وإخلاص النية والتجرد للحق ومجاهدة النفس ، بل إن من أعظم الدروس المستفادة والعبر المستلهمة من موت العلماء العاملين ، استشعار عظم المسؤولية بعد فقدهم ، وتحمل أمانة الدعوة بعد رحيلهم والتي تعتبر بحق واجبنا الأول في هذا العصر الذي ابتليت فيه الإنسانية بما أتلف أعصابها من تقدم مادي وحضارة انفلت فيها زمام العقل وطغت في جنباتها ظلمات الإلحاد وانحسرت القيم الخلقية عن حياة الناس فلم تعد تتدخل في شؤونهم بعد أن كانت هي الفيصل بينهم .
عصر يضم بين آفاته أمما وشعوباً من البشر مثقلة كواهلها بالأزمات النفسية والمادية والفكرية ولا سبيل إلى التخلص من هذه الأزمات على اختلاف ألوانها وأنواعها إلا بالإسلام الذي كمل الله به شرائعه العملية في شريعته الخاتمة ونظم به الحياة الإنسانية نظاماً كاملاً في علاقاتها أفراداً وجماعات وأمماً وشعوباً وحاكمين ومحكومين فلا عبودية إلا لله ولا انقياد إلا لأمره ولا استسلام إلا له سبحانه وبهذه الصورة العامة الخالدة الواضحة ، جاء الإسلام نظاماً عاماً للحياة كلها ، خاتماً لوحي السماء على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبهذه الصورة الكاملة رضيه الله تعالى دينا للإنسانية وامتن به عليها ، باعتباره نعمته العظمى على عباده ، قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) .(1/276)
إن الإسلام منذ أن أنزله الله قد فهمه المسلمون الأوائل على أنه دين الله الذي بعث به رسله ، حتى أكمل للإنسانية رشدها وبلغ عقلها منزلة القيادة في الكشف عن أسرار الكون ، ختم الله النبوة بخاتم النبيين محمد( وأنزل عليه القرآن الحكيم دستوراً عاماً شاملاً خالداً ، بما أشتمل عليه من قواعد الأحكام وأصول العقائد ودعائم الأخلاق وأسس السياسة والاجتماع .
ومن هذا كله يتبين أن على علماء الدين وحراس الملة ودعاة الحق ، مسؤولية عظمى وفي أعناقهم أمانة كبرى فهم مؤتمنون في علمهم وتعليمهم وتوجيههم ، تعليماً وتوجيهاً يعصم عن مخالفة أمر الله ، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى ، يبينون للناس كل ما لا يسعهم جهله من أمور العقائد والفرائض وأحكام الحلال والحرام وقضايا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أسهل المسالك وأحكم الوسائل ، لا يكتمون العلم ولا يحجبون النصيحة ولا يتأثرون بهوى ولا يتعصبون لباطل .
وحين يطالب العلماء بمسؤولياتهم فيجب على الأمة أن تحفظ حقوقهم وتشكر جهودهم وترعى عهودهم وتعرف مكانتهم وتلتزم الأدب معهم ، إنهم العلماء وارثو علم الرسالة ، خلفاء النبي في أمته المحيون لما مات من سنته وهم الحملة العدول والحفاظ الفحول ، بهم قام الكتاب وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا .
ومن هؤلاء العلماء الذين تسعد الأمة بهم وتشرف بذكرهم العالم العامل كنز المحققين وقدوة المدققين صاحب العلم الباهر والفضل الظاهر ، العلامة الجليل الفاضل الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - .
كان قوي العزم في معالي الأمور ، أطبق عليها همته وصرف إليها نهمته وقوى فيها نيته وهدفه خدمة العلم وطلابه .
كما كان - رحمه الله - ضليعاً متيناً عاقلاً محققاً ،قائماً بجلائل الأعمال متجملاً بأكرم الخصال .(1/277)
اشتغل بالعلم وبرع فيه وبز أقرامه وهو إلى جانب هذا حلو النادرة حسن المحاضرة ، هادئ الموعظة ، رفيق في أمره ونهيه ونصحه وإرشاده ، غاية في العفة والأمانة وسعة الصدر ، ذو كرم وضيافة وخلق كريم .
وبالجملة فقد كان - رحمه الله - من نوادر عصره أدباً وفضلاً وكرماً ونبلاً ، يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره .
إن الكتابة عن هذا الطود الشامخ والعلم المبرز والشيخ الثقة وعرة المسالك صعبة المنال والحق يقال أنني توقفت طويلاً أمام هذه الشخصية الفذة والعبقرية المذهلة التي قل من يفري فريها أو يحذو حذوها وقفت أمامها وسألت نفسي كثيراً كيف الدخول إلى ساحة هذا العالم وباحته كيف يستطيع طالب علم أن يسير أغوار عوالمه وكيف طويلاً وسألت الله أن يلهمني رشدي ، ثم أدركت أن هذا التردد راجع إلى عمق شخصية هذا العالم - المترجم له - وتعدد جوانب الخير فيها كما أنني أدركت حقيقة مؤداها أنني لكي أكون قادراً على النظر في فكره وعلمه وآثاره وحياته لا بد لي من عمر طويل ، يحسب بحبات العرق وعدد الصفحات ولا يحسب بالساعات والأيام .
ولكي أكون أمينا على تاريخ سيرته وتسجيل مواقع حياته ومواقع حله وترحاله ، لا بد من أكون قد تشرفت بمشاركة رحلة عمره ومسيرة أيامه ولكني - والحق يقال - لم أكن كذلك ومع ذلك فقد أكرمني الله بمعرفة سماحته - رحمه الله - والتردد عليه والتحدث إليه سنين عديدة أدركت خلالها ما من الله به على هذا العالم السلفى التقي من مواهب لا تحصى ، وفضائل لا تستقضى .
وكنت أشعر عندما كنت أتردد عليه وأتحدث إليه أنني أمام بحر لا ساحل له وكأن الشاعر قد عناه بقوله :
أنا البحر في أحشائه الدر كامن……فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي(1/278)
لقد عرفت فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كما عرفه غيري من محبي العلم ورواد المعرفة - فما رأيت منه إلا غزارة في العلم وسعة في الإطلاع وصدقاً في النصح وما رأت عيني مثله في قوة إرادته وصدق عزيمته مع بعد في النظر وحصيلة في الأثر .
لقد كان إماماً متبحراً في العلوم ، صحيح الذهن سريع الإدراك سيال الفهم كثير المحاسن ، لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه ، حتى عد من الراسخين في العلم واجتمع فيه من الكمال ما تضرب به الأمثال وكل هذه المظاهر الحسنة والخصال الحميدة التي تحلى بها هذا العالم ، هي التي دفعتني واستحثت خطاي إلى الكتابة عنه ، اعترافاً بفضله وقياماً بحقه وأداء لبعض واجبه .
ونحن إذ نعدد من مناقب شيخنا ما نعدد ، لا نبتغي إغراقاً في المدح ولا غلواً في الرثاء وإنما القصد إبراز جوانب من حياته تؤكد وتبرهن على أنه - كان غاية في الصلاح والاستقامة وحب الخير وأهله والمثابرة على العمل الصالح في غير رياء ولا سمعة .
لقد كانت حياة فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - طيب الله ثراه - ترجمة صادقة للأخلاق العظيمة والسجايا الكريمة التي ينبغي أن يتحلى بها كل عالم يقصد بعلمه وجه الله وإعلاء كلمته وإعزاز دينه وإحياء سنة رسوله( لا يخشى في الحق لومة لائم .
ذلك أن الوفاء للحق والقيام بأمره ومواجهة الناس أجمعين به ، من أولى الخصال التي يحيا بها الدعاة إلى الله وتعد صبغة لازمة لسلوكهم بل جزءاً خطيراً من كيانهم .
إن الغيرة على الدين والصدع بالحق وإقامة السنة والتحذير من البدعة ، من الصفات الحميدة والخلال الحسنة التي أقام عليها الشيخ حياته وكرس لها جهوده ، بل كانت فيما ظهر لي مفتاح شخصيته وسر جاذبيته وتأثيره الآسر لتلاميذ ومعاصريه .(1/279)
لقد ربى رحمه الله بهذه الصفات وتلك المؤثرات ، جيلاً من الدعاة لا يزالون يحمدون غبها ويذكرون فضلها ويجتنبون ثمرها وهذا يؤكد ويدلل على أن الموت العالم مصيبة لا يجبرها إلا خلف غيره له ولا شك أن موت العلماء فساد لنظام العالم ولهذا لا يزال الله يغرس في هذا الدين منهم خالفاً عن سالف ، يحفظ بهم دينه وكتابه وعباده .
لقد فقدنا علما من أعلام الأمة الإسلامية ونحن أحوج ما نكون إلى محصول علم قضى في تحصيله وتحقيقه قرابة سبعين عاماً فقدناه ونحن أحوج ما نكون إلى نضج عقله وسلامة تفكيره ودلالة نظره ، فقدنا رجلاً لا يكاد يعرف الناس له شبيهاً في أصالة معدنه وطهارة ذيله وجودة رأيه ورباطة جأشه وعفة نفسه وغزارة علمه . فإنا لله وإنا إليه راجعون .
إن وفاة هذا العالم الجليل ستترك فراغاً كبيراً لن يملأه إلا بقاء علمه وفكره وذكره ، لأنه من كبار حملة ميراث النبوة ومن دعاة الهدى وأئمة التربية والتوجيه والإصلاح .
وإن تشييع الآلاف المؤلفة له ليدل دلالة قاطعة على وعي هذه الأمة وتقديرها للمخلصين من رجالها وللعلماء العاملين بعلمهم من أبنائها وإنه لشاهد عدل ودليل صدق على صلاحه وورعه وصلابة دينه ، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً وأنه كان ممن طال عمره وحسن عمله .
وفي الختام فهذه كلمة عرفان ووفاء لم تخل من تقصيره ، صدرت بها هذه الترجمة الحافلة بالكفاح والعطاء والتضحية وإنكار الذات حتى يكون المترجم له مثلاً يحتذى وقدوة توتسى ، تتبعت فيها حياته ناشئاً يدرج في مدارج الحياة وشاباً يستوي للعلم وكهلا قد تبدت مواهبه واستقامت مناهجه وشيخاً يفيض بنور العلم والمعرفة على كل من حوله ، يقصده العلماء من كل حدب وصوب وتزخر مجالسه بطلبة العلم ورواد المعرفة .(1/280)
وصلت حاضره بماضيه وتتبعت سيرته وتعمقت في نشأته وظروف عصره ودراسته ووقفت على شيوخه وتلاميذه ومؤهلاته ثم عرجت على جهوده وأعماله مع استقصاء مقالاته وجمع مسائله ورسائله وفتاواه وتعليقاته التي تتميز بقلة مبانيها وغزارة معانيها .
فضلاً عن ذلك فقد قمت بوضع خطة دقيقة ومفصلة لهذا الكتاب اشتملت على مقدمة وثمانية فصول ، سبرت من خلالها أغوار هذه الشخصية العلمية الفذة والتي تعتبر بحق رمزاً شامخاً من رموز العطاء الإنساني وها هي خطة هذا العمل مفصلة .
************************
خطة البحث
ـــ
المقدمة وتشتمل على ما يأتي :
أولاً : بيان أهم الدوافع التي حملتني على الكتابة عن المترجم له مع إبراز أهمية مثل هذه البحوث والدراسات .
ثانياً : بيان الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي نشأ فيها الشيخ وعاصرها إبان حياته في مصر والمملكة العربية السعودية ومدى تأثير هذه الظروف في جوانب شخصيته .
الفصل الأول : نشأته وصفاته وفيه مبحثان :
المبحث الأول :
أ- اسمه ونسبه .
ب- نشأته وبيئته .
جـ- أصوله وفروعه .
المبحث الثاني : أوصافه الخلقية وصفاته الخلقية .
أ- أوصافه الخلقية : هيئته ولباسه ، هيبته ، فصاحته ، فراسته ، قوة حافظته وحضور بديهته ، وفور عقله وبعد نظره ، مواهبه وسجاياه .
ب- صفاته الخلقية : زهدة وعفته ، تواضعه ، صدقة وأمانته ، حلمه وسعة صدره ، كرمه ومروءته ، احترامه لنفسه وحسن معاشرته لغيره ، ثباته على مبدئه ، ابتلاؤه وصبره ، نظرته إلى المجتمع ونظرة المجتمع إليه .
الفصل الثاني : حياته العلمية والعملية ، وفيه المباحث التالية :
المبحث الأول : مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم .
المبحث الثاني : نبوغه المبكر وتقمه على أقرانه .
المبحث الثالث : شيوخه ومؤهلاته .
المبحث الرابع : تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف .
المبحث الخامس : مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه .(1/281)
المبحث السادس : تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات .
المبحث السابع : علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه .
المبحث الثامن : جهوده الدعوية ودروسه العلمية .
المبحث التاسع : مكتبته وعمل يومه وليلته .
المبحث العاشر : تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء .
المبحث الحادي عشر : فتاواه وبحوثه .
الفصل الثالث : أعماله ومناصبه ويشتمل على المباحث التالية :
المبحث الأول : أعماله ووظائفه في مصر .
المبحث الثاني : أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية .
المبحث الثالث : علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء ورجال العلم والسياسة .
الفصل الرابع : عقيدته السلفية وجهوده في مجال العقيدة . ويشتمل على المباحث التالية :
المبحث الأول : معنى العقيدة وأهميتها .
المبحث الثاني : منهجه في العقيدة وعنايته البالغة بالتوحيد .
المبحث الثالث : إمامته في السنة وحثه على التمسك بها .
المبحث الرابع : اهتمامه بكتب العقيدة وتأثره بعلماء السلف .
المبحث الخامس : دعوته إلى الاعتصام بالكتاب والسنة وكفاحه ضد البدع والمنكرات .
المبحث السادس : نماذج من كتاباته وتعليقاته وتحقيقاته في العقيدة .
الفصل الخامس : أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة وفيه المباحث التالية :
المبحث الأول : سعيه الحثيث في قضاء الحوائج وبذل المعروف .
المبحث الثاني : وفاؤه لزملائه وتلطفه بتلاميذه واحتفاؤه بهم .
المبحث الثالث : عمله الدؤوب في إنشاء المؤسسات الإسلامية والصروح العلمية .
الفصل السادس : ثناء العلماء عليه .
الفصل السابع : وفاته ومراثيه .
الفصل الثامن : رسائل ووثائق .
وفي الختام فأني أرجو أن تقر أعين القراء وتسعد نواظرهم بمطالعة سيرة هذا العالم الرباني الذي عاش لدينه وعقيدته وأمته يواسي جراحها ويخفف أتراحها ، يربي ويعلم ويؤسس ويقوم ، يوالي في الله ويعادي فيه ويعطي لله ويمنع فيه .(1/282)
أتمنى وأرجو أن تكون حياته معالم انطلاقه كبرى نحو الخير والجد والمثابرة وإنكار الذات والبعد عن الشهوات والعمل المثمر البناء لهذا الدين وأهله .
فإلى رحمة الله تلك النفس الزكية الطاهرة ، التي جدت في البعد عن الشهوات واجتناب الشبهات وهي تشعر بالغربة في زمان تتابعت فيه الفتن وتنوعت وتكاثرت ، حتى أصبح ذو القلب الحي ينكر من يراه وما يراه .
وإنا لنرجو أن الله قد قبض إليه هذه النفس المطمئنة غير مفتونة ولا مخذولة وهذا هو حسن ظننا بربنا إنه هو البر الرحيم .
فيالله ما أسعدها من رحلة لصاحبها وما أشد أثرها في عدد قليل من الناس يعرفون أية درة يتيمة فقدوا وأية نفس كريمة ودعوا .
والله تعالى أسأل أن يتقبل عملي وأن يجعله خالصاً لوجهه ابتغاء لمرضاته ، كما أسأله سبحانه أن يتقبل عملي وأن يجعله خالصاً لوجهه ابتغاء لمرضاته كما أسأله سبحانه أن يتغمد فقيد هذه الأمة والدنا وشيخنا - الشيخ عبد الرزاق عفيفي - بواسع رحمته وأن يسكنه فسيح جناته وأن يجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتبه
محمد بن احمد سيد احمد
المدرس بدار الحديث الخيرية
بمكة المكرمة
غرة شهر رمضان المبارك 1417 ه
******************
كلمة موجزة
عن الحالة السياسية والاجتماعية
والثقافية في عصره
ــــــ
أولاً : في مصر :(1/283)
اليوم امتداد للأمس ، والغد امتداد لليوم والحياة الإنسانية تفاعل مستمر بين الحاضر والماضي والمستقبل فهي بأحداثها وحدة واحدة متكاملة ترتبط ببعضها ويؤثر بعضها في الآخر ، لذا نجد من العسير إيجاد فواصل بين الأحداث والعصور التاريخية ومن ثم يتعين علينا ونحن بصدد الكتابة عن فترة تاريخية عن حياة المترجم له أن نلم إلماماً سريعاً بالوضع السياسي في عصره الذي عاش فيه لنتعرف على أبرز سمات هذا العصر من الناحية السياسية وغيرها ومدى تأثر شخصية هذا العالم بظروف بيئته .
الحالة السياسية :
لقد عاصر الشيخ عبد الرازق عفيفي - في الشطر الأول منى حياته في مصر - أحداثا مهمة وعايش صوراً من الاضطراب والقلق والحيرة في جميع الميادين " السياسية والاجتماعية والثقافية " والحق يقال إن هذه الصور من الاضطرابات كانت ترجمة لنزعات مختلفة وآراء متباينة خلفها تقلب مصر في أحضان الفتن والقلاقل سنين عددا ، برزت خلالها تيارات معادية للإسلام والمسلمين ، سلكت مسالك الكيد الخفي للإسلام وأهله وكان مقصدها الأول تخريب عقائد المسلمين وتفكيك أواصر المحبة والأخوة بينهم حتى يسهل القضاء عليهم واستئصال شأفتهم وزاد الطين بلة سقوط الدولة العثمانية سنة ( 1342 ه ) بعد أن عانت من الضعف والتفكك فترة من الزمن ونتيجة لذلك فقدت الدولة الإسلامية آخر مظهر من مظاهر الوحدة وكان لهذا الضعف والتردي أثره الكبير والخطير على المسلمين كما ونوعا ، حتى أضحت الأمة العربية الإسلامية مجزأة وخاضعة للاستعمار الذي حاول بكل الوسائل والأساليب الخبيثة أن يطمس معالم تلك الدول وأن يفقدها هويتها الإسلامية .
ولعل الراصد للأحداث التي شهدتها مصر في عصر المترجم له( 1323 - 1368 هـ ) ( 1905 - 1950 م ) يجد أبرز هذه الأحداث وأهمها ما يلي :
ظهور الحزب الوطني برئاسة مصطفي كامل ( 1325 هـ - 1907 م ) .
عزل الخديوي عباس حلمي وتعيين السلطان حسين ( 1330 هـ - 1912 م ) .(1/284)
إعلان الحرب العالمية الأولى وفرض الحماية الإنجليزية على مصر ( 1332 هـ - 1914 م ) .
هجوم الأتراك على قناة السويس ( 1334 هـ - 1916 م ) .
8- تألف حزب الوفد برئاسة سعد زغلول ( 1337 هـ - 1918 م ) .
9- أحداث مارس ( 1919 م ) وقيام الشعب المصري بكل فئاته وطبقاته بمواجهة الإنجليز وكبح جماحهم .
10- إعلان استقلال مصر وتعيين السلطان فؤاد ملكاً على مصر ( 1340 هـ - 1922 م ) .
11- إعلان وفاة الملك فؤاد وتعيين الملك فاروق خلفا له ( 1356 هـ - 1937 م ) .
12- إعلان قيام الجامعة العربية عام ( 1364 هـ - 1945 م ) .
13- إعلان قيام الجامعة العربية عام ( 1364 هـ - 1945 م ) .
14- مشاركة مصر في حرب فلسطين ( 1366 هـ - 1948 م ) .
هذه بعض الأحداث المهمة التي عاصرها الشيخ المترجم ومما لا شك فيه أنه تأثر بهذه الأحداث وتفاعل معها وتذكر كتب التاريخ أن الأزهر أدى دوراً مهما وفاعلا في الحياة السياسية في مصر وفي صنع القرار السياسي فضلا عن مواجهة المستعمر بكل حزم وقوة .
ذلك أن الاستعمار حاول بكل ما يملك من قوة القيام بعملية اختراق سياسي واقتصادي وثقافي تستهدف القضاء على ثوابت الإسلام ومعالم النهضة الإسلامية فضلا عن ذلك فقد قام الاستعمار بمحاولات عديدة تهدف إلى غرس الحقد وبذور التفرق بين أبناء الأمة وأفراد الشعب في مصر خاصة . وفي البلاد المجاورة لها عامة ولكن المخلصين من أبناء هذا الشعب كانوا هم بالمرصاد .(1/285)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هؤلاء المخلصين الذين أباتوا للأمة عن مقاصد الاستعمار الخبيثة حتى لا تنطلي عليهم أساليبهم الوقحة ومخططاتهم المنحطة وأهدافهم الدنيئة فكان - رحمه الله - يوضح بلسانه وقلمه أن الاستعمار عندما يفشل في تحقيق أطماعه وأغراضه بالقوة والسيف ، يلجأ إلى أسلحة أخرى ربما تكون أشد فتكا ومن هذه الأسلحة ، سلاح الدس البغيض والتلبيس على الشعوب فيلبسون لذلك لأمة النفاق ويتدرعون التقية ، خشية أسياف الغيورين من المجاهدين مستنبطين الكفر والعدوان .
وعلى الرغم من تسلط الاستعمار وسيطرته على مقدرات الشعب المصري فلم يفلح في توهين عزيمة أبناء هذا الشعب وإبعادهم عن دينهم وعقيدتهم بل كان الأمر على عكس ما أرادوا فقد هب الشعب من غفوته وأفاق من سباته وكان لهم بالمرصاد وأدرك المستعمر أن احتلال هذا الشعب مستحيل فرجعوا إلى بلادهم يجرون أذيال الخيبة والعار ولكنهم مع ذلك لم ييئسوا ولم يستكينوا بل تتابعت محاولاتهم ولا تزال تتابع للنيل من الإسلام وأهله ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) .
ب - الحالة الاجتماعية والثقافية :
وصلت الأمور الاقتصادية والاجتماعية في مصر إلى مستوى خطير من الفساد والانحراف على الرغم من وجود فائض مالي ضخم في ميزان المدفوعات فلقد كان 5 % من ملاك الأراضي ، يملكون 24 % من المساحة المزروعة في مقابل 2 % من الملاك يملكون 13 % فقط ، فضلا عن وجود أحد عشر مليوناً من المعدمين في الريف المصري كما كانت زمامات قرى بأسرها مملوكة لفرد أو لأسرة ، فضلا عن وجود نظام الاستغلال الزراعي الذي شائعاً آنذاك .(1/286)
لقد ارتفعت الأسعار في تلك الفترة ارتفاعا هائلا مما خلق عبثا ضخما على كاهل الجماهير . وهكذا فإن الوضع الاقتصادي والاجتماعي قد وصل إلى مستوى منخفض وخطير تعذر معه الإصلاح .
والخلاصة أن النشاط الاقتصادي في مصر كان يتركز عندما نشبت الحرب العالمية الأولى ( 1332 هـ - 1914 م ) في يد العناصر الأجنبية التي تموله وتشرف عليه وفي خلال العشرين سنة قبل بدء الحرب العالمية الأولى توغلت رؤوس الأموال الأجنبية في الشؤون المالية المصرية إلى أن بلغ رأس المال الأجنبي عام ( 1332 هـ ) ما يعادل 91 % من مجموع الأموال التي تستغل في الشركات المساهمة ومع ذلك فإن معظم هذه الأموال لم تكن تستغل في الصناعة لأن الممولين الأجانب كانوا غير راغبين في منافسة صناعات بلادهم ، كما أن سياسة الاحتلال الإنجليزي تقضي ببقاء مصر بلداً زراعيا.
ويكفي للدلالة على سوء الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وسيادة العناصر الأجنبية في مصر وتحكمها في النشاط الاقتصادي - في تلك الفترة - أن نعلم أن الذين كانوا يعملون في التجارة المصرية سواء أكانوا مصدرين أم موردين أم باعة لم يكونوا من المصريين وقصر المناصب العليا على غيرهم .
وأما من الناحية الثقافية والتعليمية فلقد فشا الجهل وعمت الأمية وحرم كثير من أبناء مصر من التعليم وكان الإنجليز يعملون جاهدين على إبقاء مصر في حالة من القصور والعجز وأوضح دليل على ذلك أن سياسة التعليم التي وضعها الإنجليز لم يكن من شأنها أن تفضي إلى تخريج كفاءات علمية تسد حاجة البلاد .(1/287)
وبالجملة فلقد عايش الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - في مصر أحداثا مؤسفة وظروفا قاسية ومحنا وفتنا كثيرة ولكنه بالرغم من هذه الأحوال المتقلبة استطاع وبتوفيق من الله ثم بحسن معالجته للأمور أن يجتاز هذه المصاعب وأن يستلهم منها الدروس والعبر حتى أصبح أضحى شغله الشاغل جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم وتصحيح عقائدهم وذلك بتصديه للنزعات الضالة والأفكار المنحرفة التي راجت في ذلك الوقت .
وقد ساعد الشيخ وآزره في ذلك علماء إجلاء ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن راشد وفضيلة الشيخ عبد الله بن يابس - رحمهما الله - وهما من أهل الرياض .
ثانياً : في المملكة العربية السعودية :
ــــــــــــــــــ
قدم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - إلى المملكة العربية السعودية أرض الحرمين الشريفين عام ( 1368 هـ - 1950 م ) على سجيته لم يجتذبه طمع في مال أو منصب وإنما قدم إليها استجابة لرغبة كريمة واختيار موفق من جلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - تغمده الله بواسع رحمته - وحباً في الحرمين الشريفين وحباً في الإسلام والمسلمين وعلماء الدعوة السلفية الذين صاروا على منهج الدعوة الإصلاحية للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله .
ولا شك أن هذه البلاد المباركة التي هي مأزر الإيمان وموئل العقيدة عنيت وتعني دائما بالمنهج الاعتقادي الصحيح .(1/288)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - وهو من كبار علماء السنة في عصره - حريصا على أن يكون في ظل هذه البلاد ، يفيد أهلها وينعم بالأمن والجو الإيماني الذي تعيشه المملكة العربية السعودية بتوفيق الله تعالى ثم بحرص حكامها منذ عهد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، أيده الله - على تطبيق شرع الله وتكريم العلماء والحرص على التزام منهج السلف الصالح في العلم والعمل والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولم يخف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إعجابه بالملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - بل كان يظهر هذا الإعجاب لطلابه ومحبيه وقد ذكر ذلك فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان - حفظه الله .
قلت : ولعل ذلك راجع إلى ما كان عليه الملك عبد العزيز - رحمه الله - من صفات نادرة وخلال كريمة فلقد كان رجل دين ودولة وجهاد وعبادة ، محباً للعلم ، مؤثراً لأهله ، حدباً عليهم . وضع أسس واضحة وبقيادة ناجحة .
ويلاحظ على النظام السياسي من خلال هذا التطور عدد من الخصائص ذات العلاقة بالتأثير على الأفراد وبخاصة المشايخ والعلماء :
أولاً : إن النظام بكامله يستند في أسسه وتكوينه وشرعيته على الشريعة الإسلامية ومبادئها المستمدة مباشرة من كتاب الله وسنة رسوله (لذلك لم يكن للملكة دستور وضعي وإنما اكتفت بالقرآن الكريم والسنة النبوية مصدرين أساسين للتشريع . . ومن خلال التعليمات الأساسية لنظام الحكم والتي وضعت في 21 / 2 / 1345 هـ الموافق 30 / 8 / 1926 م .(1/289)
ولا تزال مضامينها قائمة حتى اليوم ونلحظ أن هذه التعليمات في قسمها الأول قد نصت على أن الدولة ملكية شورية إسلامية . . وهذا الأمر ضاعف من مهمة العلماء في سياسة الدولة حيث تولوا استنباط الأحكام التفصيلية للحكم والإدارة من القرآن الكريم والسنة النبوية تبعاً لما يعرض من مشكلات ومتطلبات لتسيير أمور الدولة . .
ثانيا : أخذت المملكة بنظام التنسيق بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية مع الالتزام بالفصل بين هذه السلطات في الجوانب التي تتطلب ذلك
ثالثاً : أعلى النظام السياسي في المملكة من قيمة السلطة القضائية ومنحها استقلالا كبيراً في مواجهة السلطات الأخرى في البلاد . . فالسلطة القضائية في المملكة سلطة مستقلة ومقيدة معاً . . فهي مستقلة عن السلطات الأخرى التنظيمية والتشريعية والتنفيذية وليس لأحد التدخل في القضاء كما أن تعيبين وترقية القضاة ونقلهم وتأديبهم وعزلهم من اختصاص مجلس القضاء العالي ( طبقا لنظام القضاء الصادر في 14 / 7 / 1395 هـ والمعدل بالمرسوم الملكي رقم م وتاريخ ( 24 / 10 / 1395 ) . .
وهذا الاستقلال هو تطبيق حازم لمبدأ " حصانة القضاة " المعروف عند جميع علاء المسلمين . .
والسلطة القضائية مقيدة في نفس الوقت بأحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المرعية . . وقد ن نظام القضاء في مادته الأولى على أن " القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم غير أحكام الشريعة والأنظمة المرعية " .
وكان لهذه السلطة القضائية علاقة وثيقة بالعلوم الدينية وبالعلماء ورجال الشريعة والمتخصصين في العلوم الدينية في المملكة :
* فلم يتول منصب القضاء في المملكة سوى رجال إجلاء أفاضل من أهل العلم واقتصرت هذه المهمة الخطيرة عليهم . .(1/290)
* كذلك فإن استقلال القضاة التام أتاح لهؤلاء العلماء كل الفرص لترسيخ شرع الله دون أي رقيب أو قيد سوى ضمائرهم ونصوص شريعة الله بحيث أصبحت أحكام المحاكم السعودية مرجعا رائداً في تطبيق شرع الله بحيث أصبحت في كل شئون الحياة وما يسجد من قضايا ومشكلات .
وأما بالنسبة للحالة الاجتماعية والاقتصادية في المملكة العربية السعودية فقد شهد الشيخ عبد الرزاق عفيفي - في الشطر الثاني من حياته - التحولات الكبرى التي عاشها المجتمع السعودي في ظل قيادته الحكيمة وقد أدرك الفارق بين الحالتين ، حالة التشتت والقلق والاختراق الاستعماري لمصر وحالة الاستقرار والأمن والازدهار في المملكة العربية السعودية .
لقد كان هذا التحول وذلك الفارق له - بلا أدنى شك - أثره على شخصية ( المترجم له ) .
بل وشخصية كل الرواد والعلماء الذين عايشوا هذه الفترة الاقتصادية من حياة المجتمع العربي السعودي وشاهدوا الجهد الذي بذل في بناء الدولة السعودية في ظل أوضاعها المالية آنذاك . .
وهذه المعايشة جعلتهم بالتأكيد - أكثر حرصاً وتصميماً كفاحاً من أجل التمسك بالقيم الإسلامية الصحيحة النابعة من العقيدة الصافية لإدراكهم أن تلك المبادئ هي التي أقامت تلك النهضة التي يعيشونها والتي قد يتعامل معها بعض أبناء الأجيال الجديدة كمعطيات واقعة دون إدراك الفارق بينها وبين ما قبلها . .
لقد تطورت مسيرة النهضة السعودية في كل المجالات الاجتماعية والاقتصادية وتغيرت أوجه الحياة في المملكة بشكل جذري وأقيمت بنية أساسية متطورة وارتبطت كل مناطق المملكة بشبكة من المواصلات والاتصالات الحديثة وأتيحت فرص العمل والكسب لكل مواطن وقدمت خدمات التعليم والمرافق والخدمات الاجتماعية لجميع مواطني ومناطق المملكة بمستوى واحد .
هذه الجوانب من التطور والتنمية الشاملة كان لها علاقة بمهمة ودور العلم والعلماء في المجتمع من أكثر من وجه :(1/291)
فقد أدى تعقد الحياة الحديثة وتزايد المشكلات المرتبطة بهذه الحياة إلى إيجاد مشكلات وقضايا مستجدة تتطلب جهداً وشجاعة واجتهاداً من العلماء في التعامل معها وإبداء حكم الشرع فيها .
كما أدى الترابط الدولي وسهولة المواصلات والاتصالات بين مختلف مجتمعات العالم إلى وفود بعض القيم والسلوكيات الغريبة إلى المجتمع العربي السعودي والتي تطلبت نوعية متميزة من العلماء وفقهاء الشرع للتعامل معها وتجنيب المجتمع شرورها والتعامل مع السلطات المختصة لتأكيد أفضل مستوى من ( الأمن الفكري ) في البلاد .
وهكذا تضاعفت مهمة العلماء في نشر أصول العقيدة والعبادات والسنة النبوية والاضطلاع بمهمة خطيرة وكبيرة في الحفاظ على المجتمع المسلم والتعامل مع إفرازات العالم المعاصر طبقا لأصول ديننا وصفاء عقيدتنا . . وهي مهمة كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي أحد رجالها الشجعان والأكفاء .
وأما بالنسبة للحالة الثقافية والتعليمية فلقد عاصر فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي الدولة السعودية وهي تخطو بخطى ثابتة وتقفز قفزات عملاقة في مجال التعليم والثقافة .
ففي وقت مبكر من مسيرة بناء الدولة السعودية الحديثة قر الملك عبد العزيز - يرحمه الله - إنشاء مديرية المعارف العامة في غزة رمضان عام 1344 هـ ووضعت المديرية برامجها لكل المراحل التعليمية وفتحت المدارس في منطقة الحجاز . . وكان من أول مهام مديرية المعارف هو توحيد المناهج التعليمية في الحجاز .
وفي عام 1346 هـ أنشئ أول مجلس للمعارف وقام بوضع أول نظام تعليمي . . وبعد توحيد المملكة عام 1351 هـ اتسعت مهمة مديرية المعارف لتشمل كل أنحاء المملكة عام 1357 هـ صدر نظام جديد للمعارف ألغى ما كان من أنظمة سابقة . .(1/292)
أما من حيث المناهج التعليمية فقد كانت هناك أغلبية واضحة للعلوم الدينية واهتمام كبير بها لدرجة أنها كانت تمثل 57.3 % من مناهج المرحلة التحضيرية ومع التوسع في مجالات التعليم ومستوياته أنشئت وزارة المعارف عام 1373 هـ واختار الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لها خادم الحرمين الشريفين ليضع الأسس الراسخة للانطلاقة التعليمية الحديثة للمملكة والتي أثمرت اليوم مجتمعا متعلماً يضم مئات الآلاف من خريجي الجامعات وآلافا من الحاصلين على درجات علمية رفيعة ونحو ثلاثة ملايين طالب وطالبة .
وبالطبع نهضت هذه الانطلاقة التعليمية على الأسس نفسها التي وضعت لبناء دولة حديثة تستمد مقوماتها من شريعة الإسلام .
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمه الله - أسهم وبشكل فعال ومؤثر في بناء النهضة التعليمية التي وصلت إليها المملكة العربية السعودية اليوم وشارك سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية والرئيس العام للمعاهد والكليات الشيخ محمد بن إبراهيم - تغمدهما الله بواسع رحمته - في وضع مقررات ومناهج المعاهد التعليمية وجامعة الإمام والجامعة الإسلامية وغيرها والتي خرجت بدورها أمما لا يحصون كثرة من العلماء والدعاة وطلبة العلم .
***********************************
*********************
الفصل الأول
نشأته وصفاته
وفيه مبحثان :
المبحث الأول : اسمه ونسبه ونشأته
المبحث الثاني : أوصافه الخلقية وصفاته الخلقية
الفصل الأول
نشأته وصفاته
وفيه مبحثان :
********
المبحث الأول
أسمه ونسبه ونشأته
اسمه ونسبه :
هو العالم الجليل والسلفي النبيل عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية بن عبد البر بن شرف الدين النوبي ولد في الربع الأول من القرن الرابع عشر الهجري وعلى وجه التحديد في السابع والعشرين من شهر رجب سنة 1323 هـ الموافق 16 ديسمبر سنة 1905 م ، في قرية شنشور مركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية وهي إحدى محافظات مصر .(1/293)
نشأته وبيئته :
نشأ الشيخ عبد الرزاق في بيئة معطرة بأنفاس القرآن الكريم وسط أسرة محافظة وفي مجتمع ريفي بعيد عن فتن الحواضر ومفاسدها .
ففي قرية شنشور ، تلك القرية الهادئة المتواضعة التي تترابط أسرها وتمتزج في كيان واحد وتتنسم عبير الإخاء والود : في هذه القرية نشأ الفتى عبد الرزاق عفيفي ، نشأة صالحة ، تغمرها العاطفة الدينية الجياشة وتوثق عراها سلامة الفطرة وحسن الخلق والبعد عن الخرافات والخزعبلات وكان لهذه النشأة الطيبة أثرها البالغ في حياة المترجم له حيث بدأ حياته العلمية بحفظه لكتاب الله تعالى حفظاً متقناً مع تجويده على يد عدد من مشايخه آنذاك ومنهم الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية هذا فضلاً عن والده الذي قام على تربيته وتنشئته أحسن ما ينشأ الفتيان الذين في مثل سنه ، قال الشاعر :
وينشأ ناشئ الفتيان فينا………على ما كان عوده أبوه
وما كان الفتى نجماً ولكن………يعوده التدين أقربوه
أصوله وفروعه :
ينتمي الشيخ عبد الرازق عفيفي إلى أسرة كريمة ، طيبة الأخلاق محمودة السيرة حسنة السمعة متمسكة بالأخلاق الإسلامية وأخلاق أهل القرية والريف التي لم تتلون بمظاهر الحضارة الكاذبة .
فوالده هو الشيخ عفيفي بن عطية النوبي ، من مشاهير قرية شنشور وصالحيها ، كان حافظاً لكتاب الله تعالى ، وكان الشيخ عبد الرازق كثيراً ما يتحدث عن والده للخاصة من طلابه وقد ذكر لي فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام - حفظه الله - أنه رأى والد الشيخ عبد الرازق عند أول قدوم له إلى المملكة سنة (1368هـ) وهي نفس السنة التي قدم فيها الشيخ عبد الرازق إلى أرض الحرمين الشريفين وكان والد الشيخ عبد الرازق يرتدي العمامة البيضاء المستديرة فوق رأسه وهي لباس أهل مصر آنذاك .
فروع الشيخ عبد الرزاق عفيفي :(1/294)
إن من أعظم النعم وأكبر المنن أن يوفق الإنسان بعد تقوى الله عز وجل إلى زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه ، تطيعه إذا أمر وتسره إذا نظر ، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله ، تتقن عملها وتعتني بنفسها وبيتها وزوجها ، فهي زوجة صالحة ، وأم شفيقة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها ولا أدل على ذلك من قوله ( : " المرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها " وقوله ( وقوله عليه الصلاة والسلام : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" وقوله ( :" من سعادة ابن آدم المرأة الصالحة ، والمسكن الصالح والمركب الصالح "
ولقد كان من نعم الله وحسن بلائه على فضيلة الشيخ عبد الرزاق أن وفقه لزوجة صالحة وسيدة فاضلة من أسرة كريمة وعائلة فاضلة هي عائلة (سالم ) بالإسكندرية ، وأصلها من إسنا بصعيد مصر وقد رزقه الله منها عدداً من البنبن والبنات .
أما الأبناء فهم :
6- المهندس الزراعي أحمد عاصم بن عبد الرزاق عفيفي ولد سنة 1364هـ - 1944م ، وتوفى في حرب العاشر من رمضان سنة 1393هـ - 1973م بمصر
7- الأستاذ محمد نبيل بن عبد الرزاق عفيفي - حفظه الله - ويعمل مراقباً مالياً بالخطوط السعودية بجدة ، وهو من أبر أبناء الشيخ وأرعاهم لحقوقه في حياته وبعد وفاته جزاه الله خيرا وهو من مواليد سنة 1366هـ - 1946 م
8- الأستاذ محمود بن عبد الرزاق عفيفي - حفظه الله - عمل مدرساً بالرياض ثم ترك التدريس وتفرغ لخدمة والده في السنوات الأخيرة من حياته - رحمه الله - فجزاه الله خيراً وجعل أعماله الصالحة في موازين حسناته ، وهو من مواليد سنة 1369 هـ - 1949م .
9- الأستاذ عبد الله بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده سنة 1412هـ - 1992م - رحمة الله(1/295)
10- الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الرزاق عفيفي توفى في حياة والده اثر حادث وقع عليه سنة1408-1988 وكان من طلبه العلم المبرزين ومن اكثر أبناء الشيخ اتصافا به وكان يعمل بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء بالرياض - رحمه الله .
واما البنات فثلاث وقد أكرمها الله بأصهار صالحين بررة ولا نزكي علي الله أحدا نحسبهم كذلك وكان الشيخ عبد الرزاق - يرحمن الله -يهتم بتربية أولاده بل وحتى أحفاده وينشئهم تنشئة صالحة - فكانوا مثالا في الاستقامة والبر ورعاية واداء الأمانات .
*************
المبحث الثانى
أوصافة الخلقية وصفاته الخلقية
ــــــــــ
أ - أوصافة الخلقية
كان رحمه الله قوي البنية جسيما مهيبا طويل القامة عظيم الهامة مستدير الوجه قمحي اللون له عينان سوداوان يعلوهما حاجبان غزيران ومن دون ذلك فم واسع ولحية كثة غلب البياض فيها علي السواد وكان عريض الصدر ، بعيد ما بين المنكبين ، ضخم الكفين والقدمين ينم مظهره عن القوة في غير شدة .
هيئته ولباسه :
كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - حسن الهيئة ، جميل المظهر في غير تكلف ، له سمت خاص في لباسه ، يرتدي ثوبا فضفاضا أشبه ما يكون بلباس أهل مصر ، إلا أنه محاك على السنة . وكان يعجبه اللباس الخشن من الثياب في غالب الأوقات وهو سلفى المظهر والشارة .
ومجمل القول : أن الشيخ - رحمه الله - كان رجلا متميزا في هيئته ولباسه يرتدي ما يراه متفقا مع مكانة العلم والعلماء وظل متمسكا بهذه الهيئة المتميزة من اللباس إلى آخر حياته المليئة بالجد والكفاح والمثابرة .
هيبته :
كان الشيخ - رحمه الله - رجلا مهيبا ، من رآه بديهة هابه ، فيه عزة العلماء ، لا يتزلف إلى أصحاب المناصب زائرا أو مزورا ، يقول أحد تلاميذه : إن الشيخ كان يفرض احترامه على طلابه وكان الطلاب يهابون حياء ويقدرونه في أنفسهم وما سمعت منه كلمة مؤذية قط .(1/296)
لقد كان الشيخ مهيبا حقا ومع هذه الهيبة كان آية في التواضع وحسن المعاشرة وعلو الهمة ، بعيدا عن الصلف والتكلف المذموم ، أبيا عزيز النفس وكأن الشاعر قد عناه بقوله :
يقولون لي فيك انقباض وإنما ……رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ……ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما ……بدا طمع ضيرته لي سلما
وما كل برق لاح لي يستفزني ……ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ……ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ
فصاحته :
اللغة العربية لغة جميلة فهي لغة القرآن والسنة ، أسلوبا ومنهجا ومقصدا ومغزى فهي الطريق إلى فهمها والعمدة في إدراك أسرارهما فهي بحق من مستلزمات الإسلام وضروراته .
والشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعد وبجدارة من أرباب الفصاحة وأساطين اللغة في علم النحو الخاصة وعلوم العربية كافة .
كان آية في التحدث بلغة الضاد ( اللغة العربية الفصحة ) كتابة ومحادثة وكان هذا بيان مشرق متدفق وأداء جميل ونبرات مؤثرة في غير تكلف وكان إذا تكلم أسمع وعقل عنه .
وكانت إحاطته بمفردات اللغة العربية تكاد تكون شاملة وهو إلى جانب ذلك سهل العبارة ، عذب الأسلوب ، تتسم عباراته بالإيجاز والإحكام والبيان والجزالة وكان بعيدا عن التكلف والتمتمة والفأفأة والتنطع والتشدق .
وإني أتمنى أن يعتني طلبة العلم وحملة الشريعة ورواد المعرفة بهذه اللغة العظيمة ، اللغة العربية ، لغة القرآن الكريم .
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : : تعلموا العربية فإنها من دينكم " وعن عمرو بن زيد قال : " تفقهوا في السنة وتفقهوا في العربية وأعربوا القرآن فإنه عربي " . وقال عبد الحميد بن يحي : " سمعت شعبة يقول : تعلموا العربية فإنها تزيد في العقل " .(1/297)
وقال عبد الملك بن مروان : " اللحن في الكلام أقبح من الجدري في الوجه " . وأوصى بعض العرب بنيه فقال : " يا بني أصلحوا ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة فيحتال فيها فيستعير من أخيه دابته ومن صديقه ثوبه ولا يجد من يعيره لسانه " .
وقال ابن تيمية - رحمه الله - : " الدين فيه فقه أقوال وأعمال . ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله وفقه السنة هو الطريق إلى فقه أعماله " .
فراسته :
قال ابن القيم - رحمه الله - : الفراسة الإيمانية سببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، يفرق به بين الحق والباطل والحال والعاطل والصادق والكاذب وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان فمن كان أقوى إيمانا فهو أحد فراسة وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ووقائع فراسته مشهورة فإنه ما قال لشيء : " أظنه كذا إلا كان كما قال " ويكفي في فراسته موافقته ربه في مواضع عدة .
وفراسة الصحابة رضي الله عنهم أصدق الفراسة وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة والنور اللذين يهبهما الله تعالى لمن يشاء من عباده فيحيا القلب بذلك ويستنير فلا تكاد فراسته تخطيء . قال تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ) .
قال بعض السلف : من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بالمراقبة وظاهره باتباع السنة لم تخطيء فراسته .
قال الماوردي - رحمه الله - : ينبغي أن يكون للعالم فراسة يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقته وقدر استحقاقه ، ليعطيه ما يتحمله بذكائه أو يضعف عنه ببلادته فإنه أروح للعالم وأنجح للمتعلم .(1/298)
والشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ولا أزكى على الله أحدا كان صاحب بصيرة نافذة وفراسة حادة يعرف ذلك عنه من خالطه وأخذ العلم على يديه ومما يدلل ويؤكد على فراسة الشيخ أنه كان يتأمل وجوه تلاميذه ويتفرس فيهم فيعرف المجد من الخامل والنابه من الجاهل فيخص هؤلاء بعلم قد لا يخص به أولئك . وثم دليل آخر على فراسة الشيخ أنه كان - رحمه الله - يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات ويتأمل وجوه أصحابها فيكشف ما وراءها من الدوافع ببصيرته الفذة وقلما ينطلي عليه مكر أو احتيال . ومما يدل كذلك على صدق فراسة الشيخ ومعرفته بالرجال ما ذكره فضيلة الشيخ عبد العزيز بن محمد عبد المنعم قائلا : حدثني - رحمه الله - في مجلس الفتوى في ( منى ) فقال : إذا سأل البدوي عن مسألة وكان الجواب موافقا لما يهوي فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسأل سؤالا آخر قريبا من الأول أو بعيدا أما إذا كان كان الجواب بخلاف ما يهوى فإنه يسكت وينصرف .
وهكذا أكسبه طول التعامل مع المستفتين معرفة لنفسياتهم فكانت إجاباته بإيضاح الحكم فيما يسأل عنه من التوسع أو من الإيجاز ، ملحوظا فيها ما ينقدح في ذهنه من مقصد السائل عند إلقاء السؤال من رغبة في معرفة الحكم الشرعي في المسألة أو في خلاف ذلك .
ولله در من قال :
ألمعي يرى بأول رأي ……آخر الأمر من وراء المغيب
لوذعي له فؤاد ذكي ………ما له في ذكائه من ضريب
لا يروي ولا يقلب طرفا ……وأكف الرجال في تقليب
قوة حافظته وحضور بديهته :
كان رحمه الله قوي الحافظة ، سريع البديهة ، مستحضر الفهم ، شديد الذكاء وافر العلم غزير المادة ، صاحب ألمعية نادرة ونجابة ظاهرة .(1/299)
إن نعمة الحفظ وقوة الذاكرة من أقوى الأسباب - بعد توفيق الله عز وجل - على طلب العلم ولقد كان لهذه الحافظة القوية والذاكرة الجبارة أثرها البالغ في تحصيل ثروته العلميه والتي بنيت على محفوظاته التي علقت بذاكرته في مرحلة التعلم والتعليم وقد رزقه الله من الذكاء وقوة الحفظ ما مكنه من إدراك محفوظاته العلمية عن فهم وبصيرة فكان الشيخ يدرك حقيقة ما يعرض عليه من المشكلات فيكشف ما وراءها من الدوافع بتوفيق الله ثم بذكائه الحاد وبصيرته النافذة ولم يكن ينطلي عليه خداع أو احتيال .
ومما يؤكد ويبرهن على قوة حافظة الشيخ وسيلان ذهنه أن أحد الموظفين بإدارات البحوث العلمية والإفتاء سأل الشيخ وأنا جالس بجانبه - في مقر هيئة كبار العلماء بمدينة الطائف - عن مرجع لمسألة يريد أن يرجع إليها فدله الشيخ على كتاب المغنى لابن قدامه وذكر له الجزء والصفحة والمكان وهذا إن دل فإنما يدل على شدة ملاحظته وتوقد ذهنه - رحمه الله .
وثم دليل آخر يؤكد على قوة ذاكرة الشيخ وهو أنه رحمه الله كان يقص قصصا ويذكر أحداثا ووقائع من أعماق التاريخ ترجع إلى أكثر من ثلاثة أرباع القرن ، يذكرها وكأنها ماثلة أمام عينه .
وثم دليل ثالث على عمق حافظة الشيخ وحضور بديهته ، ما ذكره أحد تلامذته من أن الشيخ أملى عليهم من حفظه في مادة التفسير أكثر من مائة صفحة .
ويؤكد هذا كله فضيلة الشيخ محمد بن سعد السعيد قائلا : " لقد حباه الله قوة الحافظة والدقة في الفهم وسرعة البديهة وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع .
وفور عقله وبعد نظره :
إن من المسلم به أن لكل فضيلة أسا ولكل أدب ينبوعا وأس الفضائل وينبوع الآداب هو العقل الذي جعله الله تعالى للدين أصلا وللدنيا عمارا فأوجب التكليف بكماله وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه وألف به بين خلقه مع اختلاف همهم ومآربهم وتباين أغراضهم ومقاصدهم .(1/300)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أصل الرجل عقله وحسبه دينه ومروءته خلقه وقال الحسن البصري رحمه الله : ما استودع الله أحدا عقلا إلا استنقذه به يوما وقال بعض الأدباء : صديق كل امريء عقله .
وقال إبراهيم بن حسان :
يزين الفتى في الناس صحة عقله ……وإن كان محظورا عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله ……وإن كرمت أعراقه ومناسبه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه ……على العقل يجري علمه وتجاربه
وأفضل قسم الله للمرء عقله ……فليس من الاشياء شيء يقاربه
إذا أكمل الرحمن للمرء عقله ……فقد كملت أخلاقه ومآربه
وإنني لأشهد بالله أن الشيخ عبد الرازق عفيفي - يرحمه الله - كان من العلماء القلائل الذين جمع الله لهم بين وفرة العلم ووفر العقل وبعد النظر فكان مثالا للداعية المسلم الحق الذي يدعو إلى الله على بصيرة وإلى جانب تعقل الشيخ وبعد نظره فقد تميز - رحمه الله - بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وبعد نظره فقد تميز - رحمه الله - بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والتمييز المستبصر .
إن كل من رأى الشيخ وجلس إليه يشهد له بحنكة باهرة وحكمة ظاهرة واطلاع واسع وعدم خوضه فيما لا يعنيه وإعراضه عن التحدث في الموضوعات ذات الحساسية وهو مع ذلك فقيه بواقع أمته ومطلع على ظروف عصره ، يعيش آمال الأمة وآلامها ساعة بساعة ولحظة بلحظة .
ولقد أكسبته هذه الخصال الحميدة والسجايا الحسنة احترام الناس له وتقديرهم لعلمه وفضله حتى أصبح موضع تقدير الجميع علماء وعامة .
يقول فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان : كان الشيخ - رحمه الله - كثير الصمت يفرض احترامه على جالسيه كثير التأمل شديد الملاحظة ، وافر العقل ، نافذ الفراسة .(1/301)
وقال فضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي : ما رأيت رجلا من المصريين أعقل من الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - جمع بين العلم والعقل فيا سعادة من جمع العلم والعقل إذ لا يستغنى أحدهما عن الآخر .
لقد كان الشيخ - يرحمه الله - صافي الذهن ، بعيد النظر ، ينظر الى عواقب الأمور ويوازن بين المصالح والمفاسد ويبين لجالسيه وطلابه أن التعجل والتهور وعدم النظر في وعدم النظر في العواقب ، يجلب على الأمة ويلات كثيرة فلله دره من عالم فحل وعاقل متأدب وداعية محنك لم يهزه طيش ولم يستفزه خرق .
ولقد صدق من قال :
إذا تم عقل المرء تمت أموره ……وتمت أمانيه وتم بناؤه
وقال أبو بكر بن دريد :
العالم العاقل ابن نفسه ………أغناه جنس علمه عن جنسه
كن ابن من شئت وكن مؤدبا ……وإنما المرء بفضل كيسه
وليس من تكرمه لغيره ……مثل الذي تكرمه لنفسه
مواهبه وسجاياه :
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - يتمتع بمواهب وسجايا وخصال قل أن تجتمع في غيره فقد كان - رحمه الله - يتحلى بسعة العلم والأناة والحلم والهدوء في المحاورة والمناقشة والقدرة على الإقناع وتقريب الأمور إلى الأذهان .
يقول أحد طلابه : لقد حباه الله قوة الحافظة ودقة الملاحظة وسرعة الفهم وسيلان الذهن وحصافة الرأي مع اتسامه بالورع والزهد والتواضع ولين الجانب وكان كثير الصمت قليل الكلام إلا فيما ترجحت فائدته ومصلحته . أ ه .
وبالجملة فقد كان الشيخ - رحمه الله - يتمتع بصفات حسنة وسجايا كريمة . لقد كان مثالا يحتذى في أدبه وعلمه وأخلاقه وقدوة في تصرفاته . لقد كان موهوبا .
**************
صفات الخلقية :(1/302)
إن من عاصر الشيخ عبد الرازق - رحمه الله - وخالطه وعاشره يتفق معي أنه كان رجلا قوي الشخصية متميز التفكير مستقل الرأي نافذ البصيرة ، سليم المعتقد حسن الاتباع ، جم الفضائل ، كثير المحاسن ، مثال العلماء العاملين والدعاة المصلحين فيه عزة العلماء وإباء الأتقياء ، غاية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع حكمة ولطف وبعد نظر لا يجابه أحدا بما يكره ولا ينتصر لنفسه .
كان زاهدا عابدا أمينا صادقا كثير التضرع إلى الله قريب الدمعة زكي الفؤاد ، سخى اليد ، طيب المعشر ، صاحب سنة وعبادة ، كثير الصمت ، شديد الملاحظة ، نافذ الفراسة ، دقيق الفهم راجح العقل ، شديد التواضع ، عف اللسان . وبالجملة : فقد اتصف الشيخ - رحمه الله - بصفات جميلة وخلال حسنة وشيم كريمة ، يجمال بنا أن نتناولها بشيء من التفصيل .
زهده وعفته :
إن الزهد في الدنيا معنى جميل ، لا يستقم إلا لكل نفس كبيرة فهو خير معين على التفرغ للعظائم وأقوى محقق لمعاني القوة في النفس والعقل والبدن . وأكبر عامل على صفاء القلب وصوله عما يتورط فيه من الحقد والغل والحسد وأدعى شيء الى العفاف والترفع عن السفاسف والى عزة النفس والصدع بالحق ومقاومة الشر
وعلى الجملة فهو كنز النفس العظيمة وميزة الصفوة المختارة والخيرة الأبرار .
والزهد ليس كما يزعم بعض الجاهلين قبوعا عن كل جليل وعظيم من الاعمال وليس الزهد كما يخيل للحمقى والمغفلين الذين غرر الشيطان بهم . هو الذلة والمسكنة والفقر والمتربة والضعف والحاجة والكسل اللاصق بالارض القانع بالدون من الحياة .
لكنه زهد تربية وزهد النفس التي تعف فيما تملك وتترفع عن أن تمد عينيها الى ما لا تملك إنه العزة التي لا يذلها مطمع من مطامع الدنيا ولا تغريها شهوة من شهواتها إنه زهد القلب وعفة الروح وطهارة الجوارح إنه التجرد الكامل من رق النفس وأهوائها وشهواتها .(1/303)
لقد كان زهد السلف الصالح رضي الله عنهم وخشونة ملبسهم وجئوبة مطمعهم ، من أبلغ عوامل الرهبة في قلوب أعدائهم وأوكد اسباب خضوع الدنيا لهم .
وعندما خلف من بعدهم خلف خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات ورغبوا في العاجل وأعرضوا عن الآجل ، تبددت الرهبة من صدور أعدائهم وتمنعت الدنيا وعزت على عمالهم وتكالبت عليهم الأمم وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول : " يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها " فقال قائل أو من قلة نحن يومئذ ؟ قال " بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن " . فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن . قال : " حيث الدنيا وكراهية الموت " .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - رمزا ومثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في الزهد والورع وإنكار الذات .
كان زاهدا في الدنيا متقللا منها معرضا عنها ، متحليا بالطاعة ، مستشعر العفاف والكفاف ، مقتصرا من نفقته وملبسه على ما تدعو اليه الحاجة والضرورة .
لقد كان - رحمه الله - متواضعا في مسكنه ومأكله ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع أن غيره ممن هو دونه كان ينقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش ، كان الشيخ - رحمه الله - متواضعا في مسكنه ومشربه وسائر أموره وما عرفت الدنيا طريقا الى قلبه ولم يكن يهتم بها ومع ان غيره ممن هو دونه كان يتقلب في النعيم وينام على الوثير من الفراش يؤثر خشونة العيش وعدم التوسع في الملذات على الرغم من أنه مد بأسبابها .
والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوي أنه ما سلك سبيلا لازدياد كسب مادي وما أكثر سبل الكسب المادي لو أرادها ومما يؤكد ذلك ويدعمه أنه كان - رحمه الله - محبا للتستر بعيدا عن المظاهر والتصدر يكره الشهرة ويأبى أن تسلط عليه الأضواء ويبتعد عن وسائل الإعلام بعدا لا هوادة فيه .(1/304)
يقول أحد طلابه : لقد جاء الشيخ إلى السعودية على علمه وسجيته لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب وقد علم الله صلاح نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي وهو لم يطلبها فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق .
قلت : ومما لا ينكر من أخلاقه الظاهرة وزهده وورعه ، كراهيته الشديدة للمدح والثناء عليه وتقبيل رأسه ويديه فما كان يرضى من أحد أن يثنى عليه أو يبالغ في مدحه .
وأما عفة الشيخ وتعففه فهو بحر لا ساحل له وقد تكفي الإشارة إن لمة تسعف العبارة وصفوة القول أن الشيخ - رحمه الله - كان شديد التعفف ، غاية في الزهد ، نموذجا للأسوة الحسنة والقدوة الصالحة .
كما كان رحمه الله عف اللسان عفيف النفس طاهر الذيل ، بعيدا عن المحارم ، مجانبا للمآثم .
يبيت مشمرا سهر الليالي ……وصام نهاره لله خيفة
وصان لسانه عن كل إفك ……وما زالت جوارحه عفيفة
يعف عن المحارم والملاهي……ومرضاة الإله له وظيفة
تواضعه :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله أوحى إلى أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد " . والتواضع هو انكسار القلب لله وخفض جناح الذل والرحمة للخلق ومنشأ التواضع من معرفة الإنسان قدر عظمة ربه ومعرفة قدر نفسه فمن عرف نفسه وتواضع لربه فإنه لا يتمرض على خالقه باقتراف الجرائم والآثام كما أنه يعامل الناس معاملة حسنة بلطف ورحمة ورفق ولين جانب ، لا يزهو على مخلوق ولا يبالي بمظاهر العظمة الكاذبة ولا يترفع عن مجالسة الفقراء والمشي معهم وإجابة دعوتهم ومخاطبتهم بالكلام اللين ولا يأنف من استماع نصيحة من هو دونه . قال تعالى : ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً ) .(1/305)
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي لين الجانب ، سهل الخلق ، شديد الزهد في أعراض الدنيا ، يلبس الخشن من الثياب ويرتاح لذلك ويعلله بأنه يناسب بدنه صحيا ولم يكن له ترتيب خاص به في حياته كما هي عدة الأثرياء والوجهاء ، كما أنه ليس له ترتيب خاص به في مجلسه وطعامه ولقائه بالعلماء والعامة وطلبة العلم وكان يجلس حيث ينتهي به المجلس وكان كثير التأمل ، شديد الملاحظة ، يؤثر الصمت ولا يتكلم إلا عند الحاجة ولا يزيد عن المطلوب منه وكان لا يتشدق في الكلام ولا يتكلف ما ليس عنده ولا يزهو على أحد بعلمه ولا يترفع على جلسائه بل يباسطهم ويمتزج بهم ومع هذا فهو بتواضعه متميز بخفض جناحه لطلابه وجلسائه ، متعزر قد زاده التواضع رفعة وخفض الجناح شرفا .
يقول الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع تغلب عليه البساطة في مجلسه ، إذا ارتاح لمحدثه استرسل في ذكر الأحداث والمواقف ونزل معه على قدره صغيراً كان أو كبيراً .
وقال الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : كان الشيخ عبد الرزاق متواضعاً يكرم الصبيان والفتيان ولا يدعوهم إلا بألقاب التكريم ، وقد رأيته يوم أن جاء الشيخ حسن حبنكة أحد كبار علماء بلاد الشام لزيارة مفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله - رأيته في قمة التواضع إذ كان يؤثر الكثيرين في الجلوس في المقاعد المتقدمة مع أنه أحق منهم بهذا التقديم .
صدقه وأمانته :
إ من أعظم مكارم الأخلاق التي أمر الله بها وأمر بها رسوله ( الصدق . قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) وقال ( " إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة "(1/306)
لقد بلغ الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - من الصدق والأمانة مبلغاً وغاية جعلته موضع التقدير والاحترام والتوقير من طلابه ومحبيه كان لا يتكلم إلا بما يعتقد أنه الحق وكان يؤثر الصمت في بعض الأوقات ولكنه إذا تكلم في أمر من الأمور أقنع محدثه لقوة حجته وصدق لهجته وبعده عن الكلام المبتذل والتلون في الحديث ، وهذه الصفات الحسنة والخلال الحميدة جعلت الشيخ يحتل مكان الصدارة بين أساتذة الكليات والمعاهد العلمية والمؤسسات الدعوية بالمملكة .
ويؤكد هذا أحد طلابه قائلاً : عرفت الشيخ عبد الرزاق أستاذاً ماهراً وبحراً زاخراً بمختلف علوم التفسير والعقيدة والفقه والأصول وغيرها من جوانب العلوم الشرعية واللغة العربية وعرفته كذلك محدثاً واعظاً ومرشداً أميناً جم المعرفة غزير العلم متواضعاً كثير الزهد والتقشف مقبلاً على الله في جميع أقواله وأعماله.
قلت : ومن قرأ فتاوي الشيخ واستمع إلى ردوده على المستفتين يدرك أنه كان - رحمه الله - صادقاً في قوله أميناً في نقله لكلام أهل العلم ومذاهبهم وانه - رحمه الله - كان يلتمس الحق من وجهته ، ويتبعه من مظانه.
حلمه وسعة وصدره :
ـــــــ
من الصفات الحميدة والفضائل الرشيدة ، التي ميز الله بها الإنسان على غيره من بقية المخلوقات فضيلة الحلم .
فالحلم من أشرف الأخلاق وأنبل الصفات واجمل ما يتصف به ذوو العقول الناضجة والأفهام المستنيرة . وهو سبيل كل غاية حميدة ونتيجة حسنة ونهاية سعيدة .(1/307)
ولقد بين رسول الله ( منزلة الحليم وما له من أجر وثواب عظيم عند الله وكفى بمحبة الله له ، وثناء رسول الله ( عليه ودليل ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي ( قال : لأشج عبد القيس " أن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم والأناة " رواه البخاري ومسلم وفي سنن أبي داود أن المنذر الأشج قال : يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما ؟ قال : " بل الله جبلك عليهما " قال : الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله .
وبلوغ الحليم هذه المنزلة ليس بعجيب ولا غريب ذلك أن الحلم هو سيد الفضائل وأس الآداب ومنبع الخيرات قال الله تعالى )وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) (الفرقان:63)
قال عطاء بن أبي رباح في تفسير قوله تعالى (هوناً) " حلماء علماء "
وقال أكثم بن صيفي : " دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر وخير الأمور العفو "
وقال عطاء بن أبي رباح : " كان يقال ما أضيف شئ إلى شئ مثل حلم إلى علم "
ولقد من الله تعالى على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي فجمع له بين أكرم خصلتين وأعظم خلتين : هما العلم والحلم والعالم العظيم حقاً كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره وامتد حلمه وعذر الناس من أنفسهم والتمس الأعذار لأغلاطهم .
يقول الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : من الصفات التي تميز بها الشيخ عبد الرزاق سعة صدره ، وبعد نظره وزهده في الدنيا ومتاعها .(1/308)
كان رحمه الله من سعة صدره يتحمل مسيرة جميع أصناف البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم وعوائدهم وأخلاقهم وتباين آرائهم لا يمل حديثهم ولا يسام من سماع مشكلاتهم ولا يغضب من كثرة أسئلتهم وفتاواهم ويؤكد هذا فضيلة الشيخ يوسف المطلق فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق يشجع على العلم والدعوة وكان يخصص وقته بين إجابة السائل شخصياً أو تحريرياً وما كان يسأم من السائلين بل كان يبذل جهده حتى يفهم سائله .
وبالجملة فقد كان رحمه الله رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك حليما رفيقا لا يواجه أحدً بما يكرهه وذلك لسعة صدره وغزارة علمه وحيائه رحمه الله .
كرمه ومروءته :
الكرم في اصطلاح العلماء هو التبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل وإكرام السائل مع بذل النائل .
والشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان كريماً كرماً أصيلاً لا يتكلف لأحد وكان يكره المباهاة والمفاخرة يقدم ما تيسر من الطعام ومما كان يعده لنفسه وكان بذلك قادراً على أن يقيم في كل يوم وليمة وكان إذا علم بمجئ عالم أو صديق يعرفه دعاه إلى الطعام وكان طعامه طيب النكهة شهي المذاق كان يفد إلى بيته طلبة العلم والعلماء والدعاة والذين يبغون الشفاعة في أمر من أمورهم فكان بيته ملتقى الضيوف وذوي الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم كان جواداً بالخير جالساً على محجة باررة للضيوف .
وهذه الصورة المشرقة عن كرم الشيخ ومروءته تعتبر بمثابة دعوة مفتوحة إلى التنافس في الخير والتسابق في ميادين الفضيلة والبعد عن الشح والحرص ذلك أن الإسلام دين يقوم على التعاون والبذل والإنفاق ويحذر من الأنانية والإمساك ولذلك رغب ( في أن تكون النفوس بالعطاء سخية والأكف بالخير ندية ووصى أمته بالمسارعة إلى دواعي الإحسان ووجوه البر وبذل المعروف وإلى كل خلق نبيل .
وأما مروءته فهي بحر زخار ونهر غمر ولا شك أن المروءة من شواهد الفضل ودلائل الكرم وهي حلية النفوس وزينة الهمم.(1/309)
إن المروءة كلمة يراد بها الشهامة والرجولة ونصرة المظلوم وكف يد الظالم وبذل الإحسان وقرى الضيف وكل هذه المعاني الحسنة والخلال الطيبة كانت من أبرز سمات الشيخ عبد الرزاق بل كانت أس حياته ومفتاح شخصيته وكأن لسان حاله
يقول :
وإني لتطريني الخلال كريمة………طرب الغريب بأوبة وتلاق
وتهزني ذكرى المروءة والندى……بين الشمائل هذه المشتاق
فإذا رزقت خليقة محمودة………فقد اصطفاك مقسم الأرزاق
فالناس هذا حظه مال وذا ………علم وذاك مكارم الأخلاق
احترامه لنفسه وحسن معاشرته لغيره :
إن الخلق الحسن والأدب الجم هما المعيار لسلامة النفس من الآفات الظاهرة والباطنة ، ولقد جمع الشيخ عبد الرزاق ولا أزكى على الله أحداً أخلاقاً عالية وأداباً سامية ، إلى جانب كرمه وعفته وزهده ومروءته لا يعرف ذلك عنه إلا من خالطه عن قرب ونهل من علمه واستفاد من تجاربه وفضلاً عن ذلك فإن الشيخ رحمه الله كان ذا هيبة ووقار بريئاً من الكذب بعيداً عن التصنع مستقل الرأي لا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبراً ولا ذليلاً وكان يعرف لنفسه قدرها ولم يكن من شأنه التلاعب بالأقوال والقضايا الجدلية المؤدية إلى العبث بالحقائق بل كان جاداً يكره أن يحوط نفسه بمظاهر العظمة الكاذبة .
ولا شك أن هذه الصفات الحسنة والخلال الكريمة جعلت الشيخ موضع تقدير واحترام وإكبار من أقرانه من العلماء ومن طلابه ومحبيه وعارفي فضله والفضل فضله والفضل يعرفه ذووه.
وفضلاً عن ذلك كله فإن الشيخ -رحمه الله كان غاية في حسن المعاشرة وقدوة في روعة المؤانسة لا يحسد ولا يحقد مجلسه مجلس خير وعلم ومحله محل حياء وحلم يجيب دعوة من دعاه ويعود المرضى ويتجاوز عمن أساء إليه ويدفع بالتي هي أحسن ويدعو أصدقاءه وطلابه بكناهم وأحب أسمائهم إليهم ويميل إلى محادثتهم والتلطف معهم وهو مع ذلك عزيز النفس موفر الكرامة قوى الإرادة زاهداً فيما عند الناس .
ثباته على مبدئه :
ـــــــــ(1/310)
إن الأخلاق إذا تعاورتها الشدائد والأهوال سبكتها وأخرجت منها خلقاً قويماً ثابتاً فالشدائد تظهر ما هو كامن في الإنسان فإما أن تجعل منه خلقاً عظيماً يظل على مر الليالي والأعوام نبراساً يستضاء به وإما أن تقضي عليه فتجعله أثراً بعد عين
ومن أجل ذلك وجب على من يطمحون إلى الظفر وبلوغ المقاصد العظيمة أن يعدوا أنفسهم لركوب متن الأهول واحتمال الشدائد وتوطين أنفسهم على المكاره .
وما أروع ما قاله صفي الدين الحلي :
لا يمتطى امجد من لم يركب الخطرا ولا ينال العلا من قدم الحذرا
ومن أراد العلا عفواً بلا تعب…قضى ولم يقض من إدراكها وطرا
لابد للشهد من نحل يمنعه……لا يجتن النفع من لم يحمل الضررا
لا يبلغ السؤال إلا بعد مؤلمة……ولا تتم المنى إلا لمن صبرا
إن على أصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية والأغراض السامية أن يتأسوا برسول الله ( في ثباته وسائر أخلاقه .(1/311)
إن السابر لأغوار الشيخ عبد الرزاق والواقف على سيرته والمتتبع لمراحل حياته يدرك تمام الإدراك أن الشيخ تميز بصفة الثبات على المبدأ فما عرف منه التذبذب في الرأي والتعددية في القول وما عرفت المداهنة والمجاملة طريقاً إليه بل كان يقول الحق ويقصده ويتحرى الصدق ويؤثره وادل دليل على ذلك إن الشيخ رحمه الله كانت له آراء خاصة في بعض المسائل العلمية لا يذكرها إلا للخاصة من أصحابه ولا يسؤه أن يكون هناك من يخالف فيها وإذا ذكرت أمامه الآراء التي تخالفه لا ينفعل ولا يتشنج لأنها تخالفه بل يقول : لكل رأيه وكثيراً ما كنت أسمعه يقول لمن يستفتونه ويسألونه في أمور دينهم بعد أن يبين لهم الحكم الشرعي فيما سألوه فيه " ما أعرفه قلته إسألوا غيري ؟ وهذا إن دل فغنما يدل على ثقته بنفسه واعتزازه بدينه وخوفه من ربه لا يخشي في ذات الله لومة لائم وفضلاً عن ذلك فقد كان رحمه الله قوياً صلبا لينا سهلاً في الرجوع إلى الصواب وإلى ما يظهر له انه خلاف الحق الذي ثبت بالأدلة الصحيحة الصريحة .
ابتلاؤه وصبره :
ـــــــــ
الابتلاء سنة من سنن الله الكونية به يتميز الطيب من الخبيث والمؤمن من المنافق.
إن الشدائد والنوازل تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات وتتفتح في القلوب منافذ ما كان ليعلهما المؤمن من نفسه إلا حين يتعرض للابتلاء إن من حكمة الله في الابتلاء أن تستيقظ النفس ويرق القلب بعد طول غفلة فتتوجه الخلائق إلى ربها يتضرعون إليه يرجون رحمته وعفوه .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله : لابد من الابتلاء بما يؤذي الإنسان فلا حرص لأحد مما يؤذيه البتة ولهذا ذكر الله سبحانه في غير موضع من كتابه أنه لابد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسؤوه فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً .
قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) .(1/312)
لقد ابتلى الشيخ عبد الرزاق رحمه الله بابتلاءات عظيمة في هذه الدنيا ونزلت به كوارث شديدة فلم تضعفه هذه الابتلاءات وتلك الكوارث بل كان صابراً محتسباً ومن هذه الابتلاءات التي ابتلى بها الشيخ في حياته أنه أصيب نصفي وعافاه الله منه وأصيب بعدد من الأمراض فكان نعم العبد الصابر وقتل ولده الأكبر أحمد عاصم فتلقى الخبر صابراً محتسباً ثم توفى أصغر أبنائه عبد الرحمن فكان كذلك غاية في الصبر والرضي بقضاء الله وقدره ثم توفى ابنه عبد الله فجأة فكان أيضاً مثالاً في الصبر والاحتساب .
ومما يدل على صبر الشيخ وتجلده أنه لما جاءه خبر وفاة ابنه أحمد وهو مدير ومحاضر في المعهد العالي للقضاء لم يتوقف عن برنامجه اليومي بل جاء إلى طلابه وألقى المحاضرة عليهم دون تأثر أو تعلثم .
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وضاعف مثوبته.
نظرته إلى المجتمع ونظرة المجتمع إليه :
أما نظرته إلى المجتمع الإسلامي فقد كان الشيخ رحمه الله يعيش عصره ويدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تسود العالم وتغزو بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ويدرك واقع الأمة الإسلامية تمام الإدراك ويعي قضاياها ويعيش أحداثها ساعة بساعة ولحظة بلحظة وكانت معرفته بالرجال المعاصرين من الأعلام وغيرهم معرفة دقيقة وكان حكمه عليهم حكما سديدا ، يعرف أوضاعهم الاجتماعية وعادات بيئاتهم ومدى تأثرهم بذلك كله .
كان قوي العزم في معالي الأمور ، لا يعتريه فتور ولا خور في نصر العقيدة الصافية والمبادئ الإسلامية ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من ذي سلطان لأن القلب الذي أشرب حلاوته الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد لإغوائه سبيلا .(1/313)
أما نظرة المجتمع إليه فقد كانت نظرة تقدير واحترام وإكبار ، ذلك أن الشيخ - رحمه الله - كان محبوبا من المجتمع ومن كل من عرفه وخالطه وتتلمذ على يديه كما كان محل التقدير والإجلال من كل الناس على اختلاف درجاتهم وطبقاتهم.
كان يتميز - رحمه الله - بطيب المعشر والزهد في الدنيا والبعد عن مباهجها وكان يصدق قوله وفعله وكان غاية في التواضع يقدر الناس ويكرمهم مهما كانت منازلهم وقد حببه ذلك لكل من عرفه أو جالسه أو درس على يديه ونهل من مناهل علمه الغزير .
لقد كان العلماء والعامة وطلبة العلم يقبلون على مجلس الشيخ ويستمعون إلى نصائحه القيمة وتوجيهاته السديدة وآرائه النيرة مع توقيرهم لشخصه وتقديرهم لعلمه ، مع محبة صادقة خالصة يرجى بها وجه الله لعالم بذل علمه ووقته وماله دفاعا عن دينه وذبا عن عقيدته وغيرة على مجتمعه وأمته .
لقد كان - رحمه الله - حريصا على صيانة المجتمع الإسلامي من الانحرافات العقدية وصيانته من الاعتقادات الشركية ، كان مجاهدا في سبيل الله ونشر دعوة التوحيد بقلمه ولسانه .
ومما يؤكد هذا ويدعمه ما كتبه فضيلة الدكتور صالح بن سعود آل على قائلا : لقد خبرت فضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمبادئ هذا الدين ، من تواضح وتقي وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها ، منارة هدى ومصدر إشعاع وموئل عز للإسلام والمسلمين .
***************
***********
الفصل الثاني
حياته العلمية والعملية
المبحث الأول : مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم .
المبحث الثاني : نبوغه المبكر وتقدمه على أقرانه .
المبحث الثالث : شيوخه ومؤهلاته .
المبحث الرابع : تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف .
المبحث الخامس : مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه .
المبحث السادس : تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات .(1/314)
المبحث السابع : علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه .
المبحث الثامن : جهوده الدعوية ودروسه العلمية .
المبحث التاسع : مكتبته وعمل يومه وليلته .
المبحث العاشر : تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء .
المبحث الحادي عشر : فتاواه وبحوثه .
الفصل الثاني
حياته العلمية والعملية
*****
المبحث الأول
مكانته العلمية وبداية تلقيه للعلم
ـــ
مكانته العلمية :
إن العلم حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي توزن به الأقوال والأعمال والأحوال وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد وبه تعرف الشرائع والأحكام ويتميز الحلال من الحرام وهو كل لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك ، يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة وفي السلوك سادة .
ومن هذا يتبين ما للعلم من مزية وفضيلة ومكانة في الحياة العاجلة والآجلة ولهذا سارع في طلبه العقلاء وتنافس فيه المتنافسون وبه تفاوت الكثير من الناس في منازلهم ودرجاتهم حسب تفاوتهم في مداركهم وتحصيلهم وإنتاجهم وبه انتظم أمر الكون ونهضت الأمم وكان لمن برز فيه القدح المعلي والمقام الأسمى وإنما يكون ذلك لمن شدد الله خطاه وبصره بشؤون دينه ودنياه فعلم وعلم وكان مثالا يحتذي في قوله وعمله وسيرته وخلقه .(1/315)
ومن هؤلاء العلماء - ولا نزكي على الله أحداً - فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - فقد كان من العلماء الذين عرفوا بجهودهم ودعوتهم إلى الله وبذلهم أنفسهم أوقاتهم وزهرة شبابهم دفاعاً عن دينهم وذباً عن عقيدتهم وقد اشتغل - يرحمه الله - بالعلم منذ نعومة أظافره حتى صار عالما فحلا وصار العلم شغله الشاغل فلا تراه إلا دارساً متعمقاً محباً للعلم منكبا عليه ، صاحب بصر نافذ ونفس طلعة لا تكاد تشبع محباً للعالم ولا تمل من البحث ولا تروي من المطالعة ، مع التوفر على ذلك وقطع النفس له وصرف الهمة نحوه ، يصيب الإنسان عنده العلم الذي لا يصيبه عند غيره .
وبالجملة فقد ربي الشيخ عبد الرزاق عفيفي تربية عالية فتعلم كثيراً من العلزوم التي كانت رائجة في عصره ومن ثم احتل مكانة بارزة بين أقرانه من رجال العلم وعلماء الدين وحملة الشريعة .
وقد تميز الشيخ - يرحمه الله - عن كثير من علماء عصره بزهده في الدنيا وتقلله من متاعها وحرصه الشديد على نشر العلم وتعليمه والعمل بمقتضاه .
وكان يرى أن من أوجب الواجبات إرشاد المسلمين وإفتاء المستفتين ونصح الطالبين وإظهار العلم للسائلين . وقد أبان عن هذا كله وحرره في كلمته الوافية التي ألقاها عند توليه لرئاسة جماعة أنصار السنة المحمدية بمصر ذاكراً في كلمته وموضحا واجب العالم نحو أمته ودينه فقال :
" لقد كان العالم من سلف هذه الأمة يجد نفسه وقد أنعم الله عليه بنعمة العلم وعهد إليه أن يبلغه للناس مضطراً إلى القيام بهذا العلم فلا يعتريه في نشر الثقافة الدينية والمبادئ الإسلامية فتور ولا خزر ولا يقعده عن البلاغ رغبة ولا رهبة ولا خوف من سلطان ، لأن القلب الذي أشرب حلاوة الإيمان يكتسب قوة روحية وحصانة دينية ونوراً ربانياً فلا يجد أحد إلى إغوائه سبيلا فمهما جاهد الشيطان هذا المخلص فلن يتاح له أن يوهن عزيمته أو أن يمس عقيدته .(1/316)
وإن قلبا قد صبغ بصبغة الله وتشبع بتعاليم الإسلام حتى ملكت سويداءه ليأبى أن يخضع لسلطة ربه واشتد خوفه منه وعلم أنه ملك قهار جبار بيده نواصي العباد وأن ذلك ليخلق منه سيفا مسلطا ونارا متأججة يقذف بها من عاد الله وبارزه بعصيان . لا يخاف في الله لومة لائم .
كان العلماء بذلك قوامين على الدين حفظاً ونشراً وبلاغاً ونصيحة وإرشاداً وكانوا خير قدوة للناس ومثلا عليا في إصابة الحق وتأييده وكشف الباطل وإزهاقه قولا وعملا ، يقصدهم الناس ليكشفوا لهم وجه الصواب بما ورثوه عن نبيهم ( فيجدوا لديهم ما يروي غلتهم ويزيل شبهتهم ويزيد يقينهم وإيمانهم وتعلقهم بشريعة سيد المرسلين ولم يكن يدخل في أمر الفتيا من ليس من أهله فعرف كل قدره ووقف عند حده . . " .
قلت : وقد ثبتت له الإمامة في كثير من الجوانب العلمية فهو إمام في العقيدة ومن المبرزين في هذا الباب وإمام في السنة لشدة تمسكه بها ودفاعه عنها وإمام في الفقه وأصوله لا يشق له غبار وإمام في التفسير وقد ذكر ذلك عنه كثير من تلاميذه وأبانوا عنه في كتاباتهم .
يقول الدكتور صالح بن آل سعود بن علي : كان رحمه الله ذا باع طويل في الشريعة وله القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن . وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والمذاهب والملل والنحل أما في علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
بداية تلقيه للعلم :
تعتبر البداية الحقيقية لطلب الشيخ للعلم عندما وجهه والده إلى كتاب القرية لحفظ كتاب الله تعالى ذلك أن الناشئ من العلماء ينشأ مرتبطا بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .(1/317)
وقد أكب الشيخ - رحمه الله - على حفظ كتاب الله فأحسن تلاوته وحفظ كثيرا منه وقد أوتي سرعة في الحفظ وقوة في الفهم وجودة في الخط كثيرا منه وكل هذا وغيره مكنه من حفظ كتاب الله تعالى والإقبال عليه بكليته على الرغم من صغر سنه وحق للقرآن أن تفنى فيه الأعمار وأن تعمر به الأزمان لقد كان حفظ الشيخ لكتاب الله في سن مبكرة هي الخطوة الأولى للدخول في طلب العلم الشرعي بصورة جادة ومنتظمة ثم واصل الشيخ بعد ذلك دراسته في همة لا تعرف الكلل ونفس طلعة لا تعرف الملل .
وقد أكد هذا الكلام فضيلة الشيخ عبد الحميد بن عبد المطلب الهلالي من أعيان قرية ( شنشور ) في كلمته التي تناول فيها نشأة الشيخ ووضح فيها بداية تلقيه للعلم قائلا : لقد نشأ فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي نشأة طيبة وسط أسرة طيبة الأعراق حسنة السمعة ، درس القرآن الكريم منذ نعومة أظافره على يد كل من والده الشيخ عفيفي عطية النوبي ثم في كتاب القرية حيث كان نابغاً في حفظ كتاب الله تعالى وقد أعفى من الجندية ( الخدمة العسكرية ) حسب النظام المعمول به وقتئذ لحفظه القرآن الكريم كاملا .
قلت : وإلى جانب حفظ الشيخ للقرآن ، كان يحفظ بعض المتون كما هي عادة طلبة العلم الذين كانوا يدرسون في الكتاتيب في هذا الوقت ، فضلا عن ذلك فقد كان يعطي جل وقته - على الرغم من حداثة سنه - لمراجعة محفوظاته ولتعلم قواعد النحو والإملاء والحساب بتوجيه من والده .
********************
المبحث الثاني
نبوغه المبكر وتقدمه على أقرانه
ـــــــ
لقد عرف الشيخ عبد الرزاق عفيفي منذ صغره بالألمعية النادرة والنجابة الظاهرة والذكاء المفرط والنبوغ المبكر حتى بز أقرانه وفاق أترابه وعلى الرغم من حداثة سنه فقد كان صاحب همة عالية ونفس أبية جعلته موضع تقدير ومحل تبجيل من كل من عرف الشيخ وخالطه وزامله .(1/318)
ومن الأدلة على نبوغ الشيخ وشدة ذكائه حفظه المتقن لكتاب الله تعالى في سن مبكرة مما كان سببا في إعفائه من الخدمة العسكرية بمصر ولعل سائلا يسأل : ما سر تفوقه ؟ ومتا سبب نبوغه وتقدمه ؟
والجواب :
إن المتأمل في سيرة المترجم له ، السابر لأغواره يدرك أن وراء ذلك أسبابا عديدة منها :
7- إخلاص النية في طلب العلم ، مع حسن القصد وصدق التوجه إلى الله تعالى .
إن من عمر ظاهرة بالسنة واطنه بالإخلاص تفجرت في صدره ينابيع العلم ولم يكن ينطق إلا بالحكمة وقد أكد ذلك الشوكاني - رحمه الله - بقوله : " إن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً كبيراً في هذا المعنى " .
8- نشأته الصالحة في بيئة ريفية لم يكدر صفوها مظاهر الحضارة الكاذبة ولا بريق المدينة الزائف .
9- عناية ربانية رحيمة ومنن إلهية أمتن الله بها على الشيخ فكان لها أعظم الأثر في تفوقه العلمي ونبوغه المبكر .
10- استعداده الفطري وصفاء ذهنه وحضور بديهته وقوة حافظته وغير ذلك من المواهب التي أنعم الله بها عليه وكان لها أبلغ الأثر في حياته .
11- دقة استحضاره وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه ورعاية والده له وحسن استجابته لتوجيهات ونصائح أساتذته وشيوخه .
12- استثمار وقته في البحث والمطالعة مع توفر همته وتوقد رغبته في مدارسة العلم بمختلف فنونه ومجالسة العلماء والاستفادة منهم .
******************
المبحث الثالث
شيوخه ومؤهلاته
ـــــــ
في تراجم العلماء كثيراً ما تذكر الأسماء العديدة لمشايخ المترجم له وبخاصة الشخصيات العلمية البارزة والكفاءات العالية ذات التأثير القوي وغالبا ما يكون هؤلاء عددا قليلا ومحدودا .
ومن العلماء الذين تتلمذ الشيخ لهم ونهل من علمهم واستفاد من دروسهم .(1/319)
الشيخ محمد بن حسن عافية والشيخ محمد بن عبود عافية وهما من علماء قريته ( شنشور ) وأما أشهر شيوخه وأكثرهم تأثيرا فيه فمنهم الشيخ احمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشربيني والشيخ يوسف الدجوى والشيخ محمد العتريس والشيخ إبراهيم الجبالي والشيخ مصطفى المراغي وغيرهم .
وأما أقران الشيخ ومعاصروه فهم أمم لا يحصون ومنهم على سبيل المثال لا الحصر :
الشيخ محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار والشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر والشيخ محمد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر آنذاك والعلامة الشيخ احمد محمد شاكر والشيخ العلامة محمد الخضر حسين والشيخ الإمام حسن مأمون مفتي مصر في زمنه والشيخ الدكتور محمد عبد الرحمن بيصار الأمين العام للمجلس الأعلى للأزهر سابقا والشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر سابقا رحمهم الله جميعا . ومن أقرانه أيضا : فضيلة الدكتور محمد حسن فايد - رحمه الله - والدكتور عبد المنعم النمر والدكتور محمد الطيب النجار - حفظهما الله - وكذلك فضيلة الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية سابقا وفضيلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح مدير دار الحديث ومؤسسها بمكة المكرمة وإمام وخطيب المسجد الحرام وفضيلة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد علي عبد الرحيم والشيخ محمد عبد الوهاب بحيري والشيخ محمد خليل هراس والشيخ عبد الله بن يابس والشيخ عبد العزيز بن راشد وفضيلة الشيخ العلامة محمد بن عبد العزيز بن مانع رحمهم الله جميعا .
- ومن أبرز أقرانه وأشهر معاصريه :
- سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم المفتي السابق للمملكة العربية السعودية ورئيس الكليات والمعاهد العلمية - رحمه الله .
- وسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء حفظه الله .(1/320)
- ومنهم سماحة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي رحمه الله .
- وسماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ عبد الرحمن الأفريقي رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب صاحب المكتبة السلفية رحمه الله.
- ومنهم فضيلة الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ سعدي ياسين رحمه الله .
- ومنهم فضيلة الشيخ إسماعيل الأنصاري - رحمه الله .
وأمم يصعب حصرهم واستقصاؤهم .
مؤهلاته العلمية :
وأما مؤهلات الشيخ العلمية فهي على النحو التالي :
لقد تحصل الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على عدد وافر من الشهادات والإجازات العلمية وأعلى هذه الشهادات والمؤهلات التي نالها الشيخ حفظه المتقن والمجود لكتاب الله والذي أتاح له فرصة الالتحاق بالأزهر في عصره الذهبي حيث التقى الشيخ في ساحته وبين أروقته وباحته بجبال العلم وشيوخ المعرفة وأفذاذ الطلبة وجهابذة المحدثين .
وقد تخرج الشيخ في الأزهر من أعلى مستوياته فقد تحصل على الشهادتين الابتدائية والثانوية ثم تحصل على شهادة العالمية في الرابع والعشرين من شهر ربيع الثاني سنة 1351 هـ الموافق السادس عشر من شهر أغسطس سنة 1923 م .
وفي الرابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 1355 هـ الموافق الثامن والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1936 م منح شهادة التخصص في الفقه وأصوله وهي التي تعرف اليوم بشهادة ( الدكتوراه ) .
ثم واصل الشيخ تحصيله العلمي حتى أضحى من العلماء الفحول والحفظة العدول .
ومما تجدر الإشارة إليه : أن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لم يكن يعبأ بهذه الشهادات ولم يفاخر بها وما سمعته قط يتحدث عنها ذاكراً أو آثرا .(1/321)
ويؤكد هذا فضيلة الدكتور محمد بن سعد الشويعر قائلاً : كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله ممن يزهد في الشهادات الدراسية والتشدق بذكرها وإنما يراها وسيلة لحمل العلم وثقل الأمانة التي يجب أن تؤدي ولم نسمعه يوماً يتحدث عن المؤهل الذي تحصل عليه .
فرحم الله هذا العالم المحقق والحافظ المدقق والمحدث الجهبذ والعالم الجليل والفقيه النبيل .
*******************
المبحث الرابع
تلاميذه ومؤلفاته ورأيه في التأليف
ــــــ
تلاميذه :
من الصعب جدا حصر الطلاب الذين تلقوا العلم على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله .
لقد تخرج به أعداد كبيرة من العلماء والدعاة والمحصلين تسلموا مناصب علمية وعملية مرموقة في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها زمن هؤلاء العلماء الذين تخرجوا به - رحمه الله - وأصبحوا أنجما متألقة في سماء العلم والمعرفة :
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح بن محمد لحيدان ، رئيس مجلس القضاء الأعلى وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن حمد الراشد رئيس ديوان المظالم بالمملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد الله عبد المحسن التركي ، وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن البسام ، رئيس هيئة التمييز بالمنطقة الغربية .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز السعيد ، الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ ، عضو هيئة كبار العلماء وإمام وخطيب جامع الإمام تركي بن عبد الله بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد العزيز بن محمد عبد المنعم ، الأمين العام لهيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : ناصر بن عبد العزيز بن محمد الشثري ، المستشار بالديوان الملكي .(1/322)
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن إديان ، عضو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : صالح الفوزان آل فوزان ، عضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله السبيل ، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن خليل القطان ، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : محمد بن عبد الله العجلان ، مدير جامعة الإمام سابقاً وعضو مجلس الشورى .
- صاحب الفضيلة الدكتور : محمد بن لطفي الصباغ ، الأستاذ بجامعة الملك سعود بالرياض .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن سليمان بن منيع ، القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة وعضو هيئة كبار العلماء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء بالرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء .
- صاحب الفضيلة الشيخ : عبد الله بن حسن بن قعود من علماء المملكة العربية السعودية .
- صاحب الفضيلة الدكتور : عبد العزيز كامل وزير الأوقاف المصري سابقاً .
- صاحب الفضيلة الشيخ : راشد بن خنين ، المستشار بالديوان الملكي .
- صاحب الفضيلة الدكتور : صالح الأطرم ، عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية .
وأما تلاميذه بالمعهد العالي للقضاء فمنهم :(1/323)
فضيلة الشيخ : إبراهيم بن محمد\ سلطان وفضيلة الشيخ علي بن حمد التركي وفضيلة الشيخ محمد العسكري وفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العريني وفضيلة الشيخ محمد بن حمد الحناكي وفضيلة الشيخ سعيد بن محمد بن رشيد وفضيلة الشيخ محمد بن مرزوق بن معيتق وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عيسى العود وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان وفضيلة الشيخ سالم بن محمد السالم وفضيلة الشيخ صالح بن محمد النجيدي وفضيلة الشيخ محمد بن عبد الله الأمير وفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الهويش وفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الراشد وفضيلة الشيخ مسفر البحري وفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود وأمم لا يحصون كثرة قد تخرجوا به في المملكة العربية السعودية ومصر والشام وغيرها من البلاد .
مؤلفاته ورأيه في التأليف :
كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لا يرى التأليف ولا يرغب فيه مع غزارة علمه وسعة إدراكه ووفرة مادته وكان يعلل ذلك بأن الناس عامة وطلبة العلم خاصة بحاجة ماسة إلى القراءة والاطلاع أكثر من حاجتهم للتأليف والتصنيف .
ولعل السبب الحقيقي الذي حمل الشيخ على ترك التأليف مع التمكن من أدواته ، زهده في الشهرة والسمعة والمناصب وتفرغه لتربية الأجيال وبناء النفوس وإعداد العلماء وتهيئتهم بالعلم والعمل وحمل أمانة التبليغ .
وبينما يرى الشيخ أنه لا حاجة للناس في التأليف وأن هذه الكتب والمؤلفات الحديثة لا فائدة فيها وأنه يكتفي بما كتبه وجمعه العلماء السابقون ، حيث أنهم تطرقوا إلى كل فن وأوضحوا ما يحتاج إلى توضيح وأن من جاء بعدهم عيال عليهم .
أقول : بينما يرى ذلك الشيخ ويؤكده في كل مجلس يجلسه ، يرى غيره من العلماء ومن طلبة العلم ، رأياً آخر يخالف رأي الشيخ ، يدعو إلى التوسع في التأليف والتصنيف ويحتج لذلك بقول الشاعر :
قل لمن لا يرى المعاصر شيئاً ……ويرى للأوائل التقديما
إن ذاك القديم كان حديثاً ………وسيبقى هذا الحديث قديماً(1/324)
قلت : ومن أجمل ما قرأت في هذا الخصوص ، ما كتبه جمال الدين القاسمي في كتابه القيم ( قواعد التحديث ) ، قال رحمه الله :
اعلم : أن نتائج الأفكار لا تقف عند حدٍ وتصرفات الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر له وليس لأحد أن يزاحمه فيه لأن العالم المعنوي واسع كالبحر الزاخر والفيض الإلهي ، ليس له انقطاع ولا آخر والعلوم منح إلهية ومواهب صمدانية ، فغير مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ، ما لم يدخر لكثير من المتقدمين فلا تغتر بقول القائل : " ما ترك الأول للآخر ! " بل القول الصحيح الظاهر : " كم ترك الأول للآخر " ، فإنما يستجاد الشيء ويسترذل ، لجودته ورداءته في ذاته ، لا لقدمه وحدوثه . ويقال : " ليس كلمة أضر بالعلم من قولهم : ما ترك الأول شيئاً " لأنه يقطع الآمال عن العلم ويحمل على التقاعد عن التعلم فيقتصر الآخر على ما قدم الأول من الظاهر وهو خطر عظيم وقول سقيم فالأوائل وإن فازوا باستخراج الأصول وتمهيدها فالأواخر فازوا بتفريغ الأصول وتشييدها .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : " إني رأيت آخر كل طبقة واضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب ، أهذب لفظاً وأسهل لغة وأحكم مذهباً وأوضح طريقة من الأول ، لأنه ناقد متعقب والأول بادئ متقدم " .
*****************
المبحث الخامس
مذهبه وفقهه وتضلعه في أصول الفقه
ــــــ
مذهبه وفقهه :
لعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - كان إماماً متفقاً على إمامته وجمعه على جهة التمكن بين علمي الحديث والفقه .
وكان مالكي المذهب وكان يتمثل بقول الشاعر الذي كان يتمثل به مالك رحمه الله:
وخير أمور الدنيا ما كان سنة……وشر الأمور المحدثات البدائع
لكن من المؤكد أن الشيخ - رحمه الله - وهو صاحب العقل الراجح والفكر المستنير لم يكن يتعصب للمذهب المالكي ولا لغيره . بل كان يكره التعصب والهوى ولا ينتصر لغير الدليل .(1/325)
لذا فإنه لم يقف في دراسته الفقهية عند حدود مذهب بعينه بل خرج عن هذا الإطار المحدد إلى الدراسة الواسعة الشاملة كما أننا نجد له في ثنايا فتاواه وكتاباته اختيارات من مختلف المذاهب الإسلامية وأحياناً يخرج عنها إلى اجتهاده ويدعمه بالدليل والبرهان .
وكان يرى رأي إمام دار الهجرة مالك بن أنس من أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو رأي كل حكيم عليم بداء الأمة ودوائها قديماً وحديثاً . ومما يؤكد ويبرهن على مصداقية ما ذكرته ما كتبه أحد معاصريه قائلا : كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - فقهياً مجتهداً وما كان يرضى التعصب لمذهب من المذاهب مع إحاطته بها بل كان يمشي مع الدليل وقد تكونت لديه ملكة فقهية عظيمة .
ويقول فضيلة الشيخ صالح الأطرم : كانت دراسة الشيخ في الفقه على مذهب مالك ويدرسنا المقنع على مذهب احمد بكل يسر وسهولة .
وبالجملة فقد كان - رحمه الله - غاية في معرفة المذاهب وأقوال الفقهاء لا يقلد أحداً وله عادات جميلة في نقل المذاهب وأقوال أهل العلم فإنه لا ينقل قولاً منسوباً إلى أحد الفقهاء إلا وهو على ثقة تامة أنه قوله وكانت له عناية شديدة بالحديث وطرق رواته فلا يذكر باباً من أبواب الفقه أو مسألة من مسائله إلا وهو يذكر باباً من أبواب الفقه الحديث وطرقه ودرجته استدلالاً به على المسألة .
ويمتدح فضيلة الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي فقه الشيخ وتضلعه في هذا العلم فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في علم الفقه سريع الاستحضار للأحكام الشرعية محيطاً بأدلتها ، عالماً بقواعدها وأصولها ، مدركاً لأشباه المسائل ونظائرها ، سديد الرأي ، صائب الاجتهاد يفتي السائل على حسب حالته ومستواه من الجهل والعلم .(1/326)
وتأكيداً لما ذكره العلماء من ثبوت الإمامة للشيخ عبد الرزاق في الفقه وغيره يقول فضيلة الدكتور صالح بن آل سعود على : كان - رحمه الله - ذا باع طويل في علوم الشريعة ، له القدح المعلى في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد وأما علم أصول الفقه فهو علم من أعلامه ، له في ميدانه اليد الطولي وأما الفقه فإليه فيه المنتهى .
وبعد هذه الكلمات المضيئة التي أثنى فيها كاتبوها على فقه الشيخ وتضلعه في كثير من العلوم والفنون فإنه يجمل بي أن أوقف القارئ الكريم على مقتطفات من كتابات الشيخ وبحوثه الفقهية وهي كتابات وبحوث تتسم بالأصالة والعمق والشمولية والاستيعاب والإحاطة بالمباحث والمسائل من جميع جوانبها . ومن هذه المباحث الفقهية التي أدلى الشيخ فيها بدلوه " مبحث المعاملات المصرفية ومبحث البورصة " وفي هذين المبحثين يلحظ القارئ أن الشيخ عبد الرزاق كان من العلماء المتكنين في الفقه الإسلامي الواقفين على مستجداته كما يلحظ ميل الشيخ إلى التقعيد الفقهي وعقد المقارنة بين المذاهب الفقهية في المسائل المطروحة للبحث والترجيح بينها وقد تجلى ذلك في مقدمة مبحث " المعاملات المصرفية " فقال :
" المعاملات المصرفية أنواع كثيرة متشعبة الجوانب وبعضها واضح قريب المأخذ لا يحتاج إلى كثير تفكير أو بذل مزيد من الجهد وآخر منها يشوبه الغموض ويداخله الاشتباه فيحتاج إلى دقة في بحثه وبذل جهد في تمحيصه وتشخيصه وتخليصه مما شابه وإلى بعد نظر في عرضه على القواعد الشرعية الإسلامية وتطبيقها عليه مع الاقتصار على الخطوط الرئيسية لهذه الأنواع والمعاملات المهمة التي كثر تداولها وانتشر التعامل بها والتي إذا محصت وعرف حكمها في الشريعة الإسلامية عرف حكم ما تشعب عنها من فروعها الجانبية " .(1/327)
ثم يستعرض الشيخ في هذا عدداً من أنواع المعاملات المصرفية التي قام ببحثها ممهداً لهذه الدراسة الموسعة بتعريف دقيق للربا مع بيان حكمه وعلته فيقول :
الربا بالقصر : الزيادة وهو مصدر ربا الشيء يربو إذا زاد سواء كانت زيادة الشيء في نفسه أم بالنسبة لغيره وفي اصطلاح الفقهاء زيادة أحد عوضين من جنس على الآخر أو تأخير بعضه ، في عقد معاوضة على معادن أو أطعمة مخصوصة بينتها السنة النبوية .
وقد نص القرآن صريحا على تحريمه وتوعد من اقترفه بالمحق وآذنه بالحرب إلا من تاب واكتفى بأخذ رأس ماله فإن الله يتوب عليه .
قال الله تعالى : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) إلى أن قال : ( يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ) إلى أن قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوس ُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ ) .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم نوعية ربا الفضل وربا النساء وحرم كلاً منهما في كثير من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز " رواه البخاري ومسلم . ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : " الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل سواء يداً لبيد " رواه احمد ومسلم .(1/328)
وأجمعت الأمة على تحريمه واشتهر ذلك بين المسلمين شهرة تغني عن الاستدلال عليه وصار تحريمه واشتهر ذلك معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل كفراً ، إلا إذا كان جاهلا بيتوقع من مثله جهله فيعذر ويعلم كحديث عهد بكفر وما وقع بين الفقهاء من اختلاف فيه فإنما هو في التفصيل وتطبيق النصوص على الوقائع والجزئيات .
وصرحت السنة بستة أنواع يجري فيها الربا وهي المذكورة في رواية احمد ومسلم السابقة فلذا لم يختلف فيها الفقهاء وإنما اختلفوا في قياس غيرها عليه بناء على الاختلاف في تعليل حكمها فمن قال أنه غير معلل قصر تحريم الربا عبلى الأصناف الستة السابقة وأقدم من يروي عنه ذلك قتادة وهو مذهب أهل الظاهر واختاره ابن عقيل في آخر مصنفاته مع قوله بالقياس ، قال : لأن علل القياسين في مسألة الربا علل اختلفوا في علته فقال عمار وأبو حنيفة : هي الكيل والوزن وهو ظاهر مذهب احمد\ وخصه الشافعي بالطعام وإن لم يكن مكيلاً ولا موزوناً وهو رواية عن احمد . وخصه سعيد بن المسبب بالطعام إذا كان مكيلاً أو موزوناً وهو قول الشافعي ورواية عن احمد . وخصه مالك بالقوت وما يصلحه ورجحه ابن القيم بما ذكر في كتابه إعلام الموقعين . وهذا الخلاف بينهم في علة الربا في البر والشعير والتمر والملح .
والذي يعنينا هنا بيان علة الربا في الذهب والفضة عند الجمهور القائلين بالتعليل مع الترجيح وقد ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين ما فيها من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما من خلاف بين الفقهاء فقال : وأما الدراهم والدنانير فقالت طائفة : العلة فيهما كونهما موزونين وهذا مذهب احمد في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة .(1/329)
وقالت طائفة : العلة فيهما الثمنية وهذا قول مالك والشافعي واحمد في الرواية الأخرى وهذا هو الصحيح بل الصواب فأنهم أجمعوا على جواز إسلامهما في الموزونات من النحاس والحديد ونحوهما فلو كان النحاس والحديد ونحوهما ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدا فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النساء والعلة إذا انتفضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها . وأيضا فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض ، بخلاف التعليل فالتعليل بالوزن ليس فيه مناسبة فهو طرد محض بخلاف التعليل بالثمنية فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال فيجب أن يكون محدوداً مضبوطاً لا يرتفع ولا ينخفض ، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات بل الجميع سلع وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء ويستمر على حالة واحدة ولا يقوم هو بغيره ، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم ولو جعلت ثمنا واحدا لا يزداد ولا ينقص بل تقوم بها الأشياء ولا تقوم هي بغيرها لصلح أمر الناس ، فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير - مثل أن يعطي صحاحا ويأخذ مكسرة أو خفافاً ويأخذ ثقالاً أكثر منه - لصارت متجراً أو جر ذلك إلى ربا النساء فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع فإذا صارت في أنفسها سلعاً تقصد لأعيانها فسد أمر الناس وهذا معنى معقول يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات . أ هـ .(1/330)
ثم ذكر ابن القيم أن ربا الفضل حرم تحريم الذرائع وأن ربا النساء حرم تحريم المقاصد فكان تحريم ربا الفضل وإن كان من الكبائر أخف من تحريم ربا النساء ولذلك أستثنى منه بيع المصوغ والحلية المباحين بجنسهما من الدراهم والدنانير نقداً مع التفاضل لشدة الحاجة إلى استعمالها ولا يمكن تكليف كل إنسان أن يصنع لنفسه ولا يمكن إهدار الصنعة ببيعها بجنسها من الدراهم والدنانير وزنا بوزن ولا يعقل إبطال هذه الصناعة ومن الحرج تكليفهما المعاوضة مع اختلاف الجنس وبين أن الضرورة الداعية إلى اختلافهما استثناء العرايا ونحوها مما رخص فيه فروع الفقه وأورد اعتراضات منها إنه يلزم على ذلك جواز بيع الفرع بأصله نتفاضلاً كالخبز بالبر .
فألتزم جوازه ومنها أنه يلزم جواز الزيادة في معارضة الرديئة من الفضة بالجيدة منها لتقابل الزيادة الجودة وأجاب عن ذلك بالفرق بأن الجودة هنا طبيعية والصناعة كسبية فأورد عليه الدراهم والدنانير المضروبة مع المكسرة فأجاب بالفرق أيضا فإن السكة لا تتقوم فيها الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها وهي أن تكون معياراً للناس فلا تقابل بالزيادة في العرف وإلا لفسدت المعاملة بخلاف بخلاف المصوغ فإن العرف جرى بتقويم زيادة الصناعة فيه وليس في تقويمها نقض للمصلحة العامة ولا إفساد المعاملة للناس .
وقد يناقش نقد ابن القيم تعليل الربا في النقدين بالوزن بأنه لا إجماع على جواز إسلام الذهب أو الفضة في الحديد والنحاس والرصاص ونحوها من الموزونات فإن من الحنابلة من منع من ذلك وجعلها ربوية بناء على أن العلة الوزن كما في إحدى الروايتين عن أحمد أما على الرواية الأخرى وهي تعليل الربا في النقدين بالثمنية فيجوز إسلامهما في الحديد ونحوه من الموزونات .(1/331)
وقد يناقش أيضا تعليل الربا في النقدين بأنه غير منعكس فإن التفاضل محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد الجنس الواحد من الأجناس الأربعة ، البر والشعير والتمر والملح وإن كانت يداً بيد وكذا النساء محرم باتفاق في المعرضة بين أفراد بينها وان اختلف الجنس وليس منها ما هو ثمن عرفاً فوجد الحكم ولم توجد علة الثمنية ويمكن أن يجاب بأن الحكم بتحريم الربا واحد بالجنس لا بالشخص فيصح تعليله في كل نوع بعلة فيعلل تحريم الربا في النقدين بالثمنية ويعلل تحريم الربا في الأربعة المذكورة بكونها قوتاً مثلاً وكل منهما علة مطردة منعكسه فيما جعلت علة فيه .
وقد يناقش التعليل بالثمنية أيضاً بأنها قاصرة غير متعدية مستنبطة ، ليست منصوصاً على عليتها ولا مجمعاً عليها فلا يصح التعليل بها لعدم الفائدة . ويجاب أن فائدة التعليل غير منحصرة في التعدية فإن الحكم إذا كان معقول المعنى كان أدعى إلى الانقياد وأسرع إلى القبول وأيضاً يمتنع بتقدير ظهور وصف آخر في محل العلة القاصرة تعدية الحكم به دون ترجيحه على القاصرة إلى فوائد أخرى للتعليل ، فصح التعليل بها .(1/332)
ومما يدل على أنه صاحب ملكة فقهية وأنه مطلع على مستجدات العصر واقف على مشاكله ما كتبه من وجهة نظره - معقبا به على مبحث الأوراق النقدية من اعتبارها إسنادا أو عروضا أو فلوسا أو بدلا عن ذهب أو فضة أو نقدا مستقلا بذاته وما يترتب على تلك الأقوال من أحكام شرعية - فقد كتب ما نصه : " فلما كانت الأوراق النقدية لا قيمة لها في نفسها ولم تكن قيمتها مستمدة من مجرد إصدار الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلها مع سن الدولة لها وحمايتها إياها وإنما قيمتها فيما أكسبها ثقة الدول بها وجعلها مع سن الدولة لها قوة شرائية وأثمانا للسلع ومقياسا للقيم ومستودعا عاما للادخار ولما كان الذي أكسبها ذلك وجعلها صالحة للحلول محل ما سبقها من العملات المعدنية هو ما استندت إليه من الغطاء ذهبا أو فضة أو ما يقدر بهما من ممتلكات الدولة أو إنتاجها أو احتياطها أو أوراق مالية تجارية . . لما كان الأمر كذلك كانت الأوراق النقدية بدلاً عما حلت محله من عملات الذهب أو الفضة التي سبقتها في التعامل بها وكانت تابعة لهما فما كان منها متفرعا عن ذهب فله حكم الذهب وما كان منها متفرعا عن فضله فله حكم الفضة وعلى هذا تجب فيها الزكاة كأصلها ويقدر فيها النصاب بما قدر به في أصلها ويجري فيها ربا الفضل والنسيئة مع اعتبار أن ما كان منها متفرعا عن فضة حسب الأصل جنس وما كان متفرعا عن ذهب في الأصل جنس ولا يجوز بيع الورقة النقدية بما تفرعت عنه من الذهب والفضة مع التفاضل ويعتبر قبض الأوراق النقدية في حكم قبض ما حلت محله من الذهب أو الفضة . . هذا وليس بلازم أن يكون في خزينة الدولة ذهب أو فضة بالفعل ما دامت خاماتها وسائر إمكانياتها التي تقدر بوحدتها السابقة من الذهب أو الفضة قائمة محققة تقوم مقامها في استمرار الثقة بالأوراق النقدية في دولة الإصدار وغيرها من الدول وليس بلازم أيضا أن تسلم مؤسسة النقد ذهبا أو فضة(1/333)
لحامل الورقة النقدية مقابل ما فيها ما دامت الأوراق النقدية تؤدي وظيفتها وتقوم بما أنشئت من أجله فإن لولي الأمر أن يتصرف في غطاء الأوراق النقدية أيا كان الغطاء فيما يعود على أمته بالمصلحة من وجوه تنمية الثروة والترفيه عن الرعية حتى لا تبقى معطلة في خزينة الدولة أو معرضة للتبديد والتهريب في أيدي الأفراد .
وبهذا يعرف أن عدم وجود الغطاء في خزينة الدولة بالفعل وعدم رد المقابل لحاملها لا يعتبر إلغاء ولا إبطال له ما دام الغطاء الذي هو روح العملة السرية وسر الثقة بها موجودا قائما ممثلا فيما يثبت ملاءة الدولة وقوة إمكانيتها ويكسب الثقة بها في الداخل والخارج من كل ما يقدر بوحدتها التي كانت الدولة تتعامل بها قبل إصدار الأوراق النقدية .(1/334)
وإن وجود وحدة متفق عليها كالذهب مثلا تقاس بها موجودات وإمكانيات الدول ليعرف بها مدى ملاءة كل دولة بالنسبة للأخرى لا ينافي وجود غطاء لأوراق الدولة النقدية وإن تنوع كما أنه لا ينافي وجود وحدة خاصة بكل دولة تتصل بعملتها المعدنية السابقة وقد سئل سعادة محافظ مؤسسة النقد أسئلة منها ما هو في الموضوع ومن اختصاصه كالأسئلة المتعلقة بالغطاء وبالسر في ارتفاع سعر العملة وانخفاضها فسلم وجود الغطاء وإن تنوع وأن من الدول ما لها احتياطي ومنها ما ليس لها احتياطيأو لها احتياطي ضعيف ومنها ما ليس من اختصاصه بل من اختصاص الهيئة كالسؤال : هل الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها فإن الجواب عن هذا السؤال من اختصاص الهيئة بعد سؤالها عن مقدمات اقتصادية يبنى على الجواب عنها حكم الهيئة بأن الأوراق النقدية عملة قائمة بنفسها أو بدل عن غيرها حالة محلها وهناك أسئلة أخرى لم توجه إلى سعادة محافظ المؤسسة إما لضيق الوقت وقد كان من الممكن أن يستدعى في جلسة أخرى وإما لاكتفاء الأكثرية بالإجابة عن بعض الأسئلة وبالرجوع إلى ما كتب الأعضاء من الأسئلة وجعل عند فضيلة الأمين والمقارنة بينها وبين الأجوبة يتبين ما ذكرت من عدم توجيه كل الأسئلة لسعادة المحافظ . .
والله الهادي إلى سواء السبيل وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله . . في 16/4/1393 هـ .
وفي مبحث هدي التمتع والقران يوضح فضيلة الشيخ عبد الرازق وجهة نظره فيما يتعلق بتحديد نهاية ذبح هدي التمتع بالقرآن فيقول :(1/335)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وبعد : ففي الدورة الثامنة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض في النصف الأول من شهر ربيع الآخر سنة 1396 هـ . بحث المجلس موضوع ذبح هدي التمتع والقران من جميع نواحيه واتخذ في ذلك قرارا ز وأنا أوافق على جميع ما جاء فيه من الأحكام ما عدا تحديد آخر وقت الذبح بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق فأرى أن من أخر ذبح هدي التمتع والقران عن أيام التشريق يجزئه ولا يأثم بذلك لعموم قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) .
بالنسبة لزمن الذبح لم يثبت في الكتاب ولا السنة ما يخص هذا العموم من حيث نهاية وقت الذبح وغاية ما يدل عليه ذبح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في يوم العيد وأيام التشريق أن ذلك سنة لا فرض ولا شرط صحة في الذبح وقد جاء ما يخص هذا العموم بالنسبة لتقديم ذبح هدي - التمتع والقران وهو امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن ذبح هديه بعد أن أدى العمرة حتى يبلغ محله ثم ذبح هديه يوم العيد فدل على أنه لا يصح تقديم ذبحه عن يوم العيد وكان هذا من البيان العملي والقولي للمجمفي قوله تعالى : ( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم . . .
هذا وهناك كتابات أخرى ومسائل فقهية تطرق الشيخ إليها ورأيت أنه من الأكمل أن يطلع القارئ عليها إتماما للفائدة وتعميما للنفع ومن هذه المسائل : مسألة تحية المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة وقد ذكر الشيخ أقوال العلماء في هذه المسألة فقال :(1/336)
اتفق العلماء على طلب تحية المسجد في الجملة لمن دخل المسجد كما اتفقوا على طلب الإنصات والإصغاء للخطيب يوم الجمعة في الجملة أيضا واختلفوا فيما ينبغي لمن دخل والخطيب يخطب للجمعة : هل الإنصات والإصغاء فلا يصلي التحية ؟ أم يصلي صلاة التحية . فذهب إلى الأول من الأئمة الأربعة مالك وأبو حنيفة وإلى الثاني منهم الشافعي واحمد . وهاك مأخذ الفريقين ومنزع المذهبين وبيان ما يعطيه الحجاج من الحق : احتج الأولون أولاً : بعموم قوله تعالى : ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
قالوا : أمر الله تعالى بالإنصات والاستماع للقرآن : فالخطبة كذلك إذ هي قرآن وفي أداء التحية وقتئذ تشاغل وإعراض عن امتثال الأمر فلا يجوز .
وثانيا : بقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " - متفق عليه - قالوا : أعتبر إرشاده لجليسه إلى الخير وأمره بالمعروف لغوا مع قصر زمنه فالتشاغل بالتحية أولى من يكون لغوا فيمنع .
وثالثاً : بما رواه الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا : " إذا دخل أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ الإمام " .
والجواب عن الثلاثة جملة أنها مخصوصة بمن دخل فلا يعمه حكمها لقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " رواه مسلم واحمد وأبو داود ، فإنه إذا تعارض الخاص والعام قضي بالخاص على العام .
ويخص الأول : أن إطلاق القول بأن الخطبة قرآن دعوى لا دليل عليها . نعم يجوز إن يكون فيها منه آية أو أكثر ومع ذلك فالحكم للغالب .
ويخص الثاني : أن مصلي الركعتين يطلق عليه منصت ونظيره في ذلك : ما رواه أبو هريرة في افتتاح الصلاة أنه قال : يا رسول الله سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول فيه ؟ فأطلق السكوت على القول سراً فهنا كذلك .(1/337)
ويخص الثالث : أنه حديث ضعيف فيه أيوب بن نهيك قال أبو زرعة وأبو حاتم إنه منكر الحديث فلا تقوم به حجة .
واستدلوا رابعاً بما رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة من طريق عبد الله بن يسر قال : جاء رجل يتخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له : " اجلس فقد آذيت " وفي رواية " وآنيت " .
قالوا : أمره بالجلوس دون التحية فدل على عدم مشروعيتها حينئذ .
والجواب عنه من وجوه الأول : أنه يحتمل أن يكون هذا الرجل قد صلى التحية في مؤخرة المسجد على مرأى منه صلى الله عليه وسلم ثم تقدم ليتمكن من سماع الخطبة فتخطى الرقاب فأنكر عليه .
الثاني : يحتمل أن يكون الرجل دخل في أواخر الخطبة وقد ضاق الوقت بحيث لا يتمكن من التحية قبل الإقامة فلا يطالب بها ويدل على ذلك ما في بعض الروايات : " فقد آذيت وآنيت " أي أبطأت .
الثالث : أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم " اجلسي " النهي عن تخطي الأعناق بدليل قوله " لقد آذيت " وأما التحية فقد وكله صلى الله عليه وسلم إلى ما علمه الرجل قبل ذلك من ضرورة التحية ومع هذه الاحتمالات لا يقوى الحديث المذكور على الاحتجاج به في محل النزاع .
ذلك جملة حجج المانعين . وقد بينا ما فيها من عيوب . واحتج الآخرون أولاً : بقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب . فليركع ركعتين وليتجوز فيهما " . وهو قاض على عموم لفظ ما ذكروه من الأدلة ولا مطعن فيها ، قال النووي : لا أظن عالماً يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه .(1/338)
واحتجوا ثانيا : بما رواه جابر بن عبد الله قال : جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال : " صليت يا فلان " قال : لا ، فقال : " قم فاركع " وفي رواية : " فصل ركعتين " رواه الجماعة وهذا الرجل هو سليك الغطفاني ، وأجاب المانعون بأنها واقعة حال لا عموم لها . ويبدل على اختصاصها بسليك ما روى من حديث أبي سعيد أن الرجل كان في هيئة بذه فقال له : " أصليت ؟ " قال : لا ، قال : " صل ركعتين " وحض على الصدقة .
وأيضا في هذا الحديث عند أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن هذا الرجل دخل في هيئة بذة وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه " .
ورد بأن الأصل عدم الخصوصية وما ذكروه من قصد الصدقة لا يمنع القصد إلى التحية - أيضا - معها فيكون كل منهما جزء للأمر ولو كان للفت النظر إلى الرجل فحسب لقال : إذا رأيتم ذا بذة فتصدقوا عليه .
وأجابوا عن حديث سليك - أيضا - بأن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى فرغ سليك من صلاته فقد جمع سليك بين التحية والإنصات فلم يبق في حديثه حجة لمن أتاح التحية وقتئذ .
ورد بأن حديث سكوت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ سليك ضعيف فإن الدارقطني الذي أخرجه من حديث أنس بن مالك قد ضعفه وقال الصواب : إنه من رواية سليمان التيمي مرسلا أو معضلا فلا صحة فيه : على أنه لو ثبت لكان مخالفا لقاعدتهم فإن العمل بعد الشرع فيه لا يجوز قطعه عندهم . لاسيما إذا كان
نرى ما يحملنا على ترك الصحيح الثابت . والتحول عنه إلى الضعيف الواهي . اللهم إلا العصبية الممقوتة والتقليد الأعمى .
هدانا الله إلى سواء السبيل .
المسألة الثانية
العيد يوم الجمعة
ـــــــ(1/339)
اختلف العلماء فيما إذا كان العيد يوم الجمعة فقال جماعة : من صلى العيد مع الإمام سقطت عنه الجمعة ولا ظهر عليه أيضاً ذلك اليوم واستدلوا بما رواه النسائي في سنته بسنده عن وهب بن منبه بن كيسان قال " اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير فأخر الخروج حتى تعالى النهار ، ثم خرج فخطب فأطال الخطبة ، ثم نزل فصلى ، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة فذكر ذلك لابن عباس رضي الله عنهما فقال أصاب السنة "
بما رواه أبو داود في سننه بسنده عن عطاء بن أبي رباح قال : صلى بنا ابن الزبير في يوم عيد في يوم جمعة أول النهار ثم رحنا إلى الجمعة فلم يخرج إلينا فصلينا وحدانا وكان ابن عباس بالطائف فلما قدم ذكرنا ذلك له فقال : أصاب السنة .
وبما رواه أبو داود أيضاً عن عطاء قال : اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير رضي الله عنهما فقال : اجتمع عيدان في يوم واحد فجمعهما جميعاً فصلاهما ركعتين بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر ، أ- هـ . فترك ابن الزبير صلاة الجمعة ذلك اليوم وهو الإمام إذ ذاك وقول ابن عباس : أصاب السنة ، وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه وعدم خروجه ذلك اليوم عند الزوال لصلاتها أو صلاة الظهر بالناس دليل على سقوطها وسقوط الظهر يومئذ عنه وعمن صلى العيد معه بل دليل على سقوطها عنهم وعن غيرهم ممن لم يصل معه العيد ذلك اليوم .
ثم إن هذه المسألة من مسائل العبادات ، والعبادات مبينة على التوقيف في مثل ذلك فكان عمل ابن الزبير رضي اله عنهما في حكم المرفوع .
لكن قال أبو البركات ابن تيمية في المنتقى عقب ذكر ابن الزبير قلت : وجهة هذا أنه رأى تقدمه الجمعة قبل الزوال فقدمها واجتزأ بها عن العيد ، أ . هـ .(1/340)
ويقال أيضاً : إن إسقاط صلاة الجمعة والظهر عمن صلى العيد خارج عن الأصول التي فرضت على المكلفين خمس صلوات في كل يوم وليلة وعن الأصول التي دلت على إقامة كل من الصلوات في جماعة وهؤلاء قد صلوا الجمعة أو الظهر وحداناً حينما لم يخرج لهم ابن الزبير وكان المشروع لهم على مقتضى دليلهم ألا يصلوها أصلاً اكتفاء بصلاتهم العيد ، أو أن يصلوها بمقتضى دليل مشروعية الجماعة في الفرائض .
وقال أكثر الفقهاء : لا يرخص لمن صلى العيد في ترك الجمعة ذلك اليوم ولا لغيرهم بل يجب على من توفرت فيه شروط وجوبها أن يصليها لأن أدلة وجوبها عامة ولم تفرق بين من صلى العيد ذلك اليوم ومن لم يصله والأصل بقاء ذلك حتى يثبت من أدلة الشرع ما يدل على خلافه .
******************
المسألة الثالثة
الوقوف بعرفة والنزول بمزدلفة
ـــــــ
قال الله تعالى : ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
أفضتم من عرفات - دفعتم مسرعين في السير منها إلى المزدلفة المشعر الحرام - المزدلفة كلها ، سميت بذلك لأنها داخل الحرم .
من حيث أفاض الناس : المراد إبراهيم الخليل أو إمام المسلمين أو العرب ما عدا قريشاً .
ثبت أن قريشاً غيرت العمل في مواقف الحج فمن ذلك أنهم كانوا يقفون بالمزدلفة دون عرفات ويقولون نحن أهل الله في بلده وقطان بيته الحرام وكان سائر العرب وجمهورهم يقفون بعرفات ثم يفيضون منها إلى المزدلفة فلما جاء الإسلام أمر الله جل شأنه حجاج بيته الحرام أن يقفوا بعرفات ثم يدفعوا منها إلى المزدلفة ليذكروا الله فيها عند المشعر الحرام.(1/341)
روى البخاري في صحيحه من طريق عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس وسائر الناس يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله : ( مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)(البقرة: من الآية199)وفي ذلك إبطال لما كان من تغيير أهل الجاهلية وتبديلهم للمناسك وقضاء على تلاعبهم بها وافتياتهم على شريعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبيان من الله لعباده أن العبادات توفيقية وأن الاعتماد في أصل العمل بها وفي صفتها على الوحي من الله لا على آراء الناس وما تهواه نفوسهم قال ( : " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به ".
وفي هاتين الآيتين إثبات لأصل الوقوف بعرفة والنزول بالمزدلفة والكر بها وبيان لترتيب الوقوف بهما لكن فيهما إجمال بالنسبة لزمن كل منهما وتقديره وما يتعبد به الحجاج فيهما وبيان صفته وهذا هو الشان في القرآن ينزل الله فيه أصول الأحكام كقوله ( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) .
وقوله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً ) .
وقوله ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) .
وقوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) .
وقوله :( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) .
وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام بالبلاغ والبيان قال تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) .(1/342)
فبين رسول الله ( بقوله وعمله زمنهما وما يفعل فيهما من نسك وعبادة وشرح المناسك في خطبته في حجة الوداع وقال لأصحابه : " خذوا عني مناسككم " وذلك أنه ( مكث بممنى بعد أن صلى بها فجر اليوم التاسع حتى طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فسار رسول الله ( ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية فأجاز رسول الله (حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمر فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال : " إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شئ من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوعي " وذكر نصائح ووصايا كثيرة ثم أذن المؤذن ثم أقام فصلى الظهر بينهما جمع تقديم ولم يصل بينهما شيئاً ثم ركب ( حتى أتى الموقف لا إلى جانب الجبل المعروف اليوم بجبل الرحمة ولم يصعد عليه وقال : " وقفت هنا عرفة كلها موقف " ثم استقبل القبلة وأخذ يذكر الله تلبية وتسبيحاً وتحميداً وتهليلاً وتكبيراً ولم يزل على حتى غربت الشمس ولم يصل بها المغرب بل أفاض إلى المزدلفة وأخذ بزمام راحلته فإذا وجد متسعاً في الطريق أسرع وإلا كفها عن السرعة رحمة بالمسلمين وكان يشير بيده اليمنى قائلاً :" أيها الناس السكينة السكينة " ونزل بالطريق فتوضأ وضوءاً خفيفاً وقيل له : الصلاة يا رسول الله فقال : " الصلاة أمامك " واستمر في سيرة حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل منهما نافلة ثم اضطجع وجمع بينها بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامة لكل منهما وقصر العشاء وجمع بينها وبين المغرب جمع بينها وبين المغرب جمع تأخير ولم يصل بينهما نافلة ثم اضطجع حتى طلع الفجر وصلى الفجر في أول الوقت بأذان وإقامة ثم ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ودعا الله وكبره وهلله ووحده ولم يزل واقفاً حتى أسفر جداً ثم دفع قبل أن(1/343)
تطلع الشمس حتى أتى بطن محسر فأسرع حتى جاوزه ثم تابع السير حتى أتى جمرة العقبة فرماها من بطن الوادي بسبع حصيات بعد طلوع الشمس يكبر مع كل حصاة .
هذا بيان من رسول الله ( قولا وعملاً لما ينبغي أن يكون عليه الحجاج في عرفات وفي الإفاضة منها ثم في المزدلفة وفي الإفاضة منها إلى منى وقد اتفق الفقهاء على أن الوقوف بعرفة ركن من أركانه ولا يصح حج من تركه عمداً أو نسياناً واختلفوا في أقل ما يجزئ من الوقوف بها .
فذهب الجمهور إلى انه يجزئ الوقوف بها ساعة ما بين ليل أو نهار بعد الزوال من يوم عرفة وذهب طائفة إلى أنه يجزئ الوقوف بها ساعة من نهار عرفة أو ليلة النحر ، وهو الظاهر - لحديث عروة بن مضرس الطائي قال : قلت : يا رسول الله أتيتك من جبلي طئ أكللت مطيتي وأتعبت نفسي واله ما بقى من جبل إلا وقفت عليه فهل لي من حج فقال رسول الله ( : " من صلى الغداة ههنا ، ثم أقام معنا وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه "(1/344)
ورأت طائفة أنه لا يجزئ إلا وقوف جزء من ليلة النحر واتفقوا على أن من بات بالمزدلفة ليلة النحر وجمع فيها بين المغرب والعشاء مع الإمام ووقف بعد صلاة الصبح مع الإمام إلى الإسفار بعد الوقوف بعرفة فحجه تام واختلفوا في المبيت والوقوف بعد الفجر بعد صلاة الصبح : هل هو من سنن الحج أو واجباته أو فرائضه ؟ ومهما يكن من الخلاف بين الفقهاء فيما يتعلق بعرفة ومزدلفة فأنه ينبغي للحاج وقد أتعب نفسه وبذل ماله وترك وطنه وأهله وعمله للحج أن يؤدي نسكه على الصفة التي كانت من النبي ( في حجه تحقيقاً لمعنى الاقتداء به وعملاً بقوله : " خذوا عني مناسككم " . واحتياطاً لصحة هذه العبادة التي هي ركن من أركان الإسلام فليجمع في الوقوف بعرفة بين جزء من ليلة النحر وجزء من نهار عرفة بعد الزوال وليبت بمزدلفة وليصل بها المغرب والعشاء والصبح إلا إذا كان من جنس الضعفة الذين رخص لهم الرسول ( في الإفاضة منها إلى منى بعد منتصف الليل ولا ينبغي أن يتساهل في عبادته ويتتبع الرخص فيها وخاصة نسك الحج فعنه قد لا يتيسر له إلا مرة واحدة في العمر ولا يليق أن يرجع بحج مشوه قد انتقص من أطرافه بترك سننه أو واجباته طلباً للراحة بتباع السهل من أقوال العلماء دون نظر إلى الأدلة الشرعية بل عليه أن يحرص على الكمال ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ليكون حجه مبروراً فيغفر الله له ويرجع من حجه كيوم ولدته أمه.
تضلعه في أصول الفقه :
إن من المسلم به أن علم أصول الفقه من أهم العلوم الموصلة إلى معرفة أحكام الله تعالى في كتابه وسنة رسوله ( فهو العلم الذي ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع فأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل فلا هو تصرف بمحض العقول الذي لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا ولا هو مبنى على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتسديد والتأييد .(1/345)
إن المطلع على ما كتبه الشيخ رحمه الله من تعليقات نفسية وقيمة على كتاب " الموافقات " للشاطبي " والمستصفى " للغزالي " والإحكام في أصول الحكام " للآمدي يدرك غزارة علمه وعمق إدراكه ونفاذ بصيرته وصحة قريحته يجيب على الإشكالات وينقد الاستدلالات التي يرى أن غيرها أقوى منها بعبارة واضحة ومأخذ سليم .
إن ما كتبه الشيخ في هذا العلم ( علم أصول الفقه ) متقن الأسلوب محكم البناء ، واضح القصد راسخ القواعد .
وهذا يدل على أن المترجم له أصولي متجر في هذا العلم واقف على دقائقه مطلع على كتبه مستحضر لما فيها فإذا سألته عن كتاب من كتب الأصول ذكر لك خصائصه ومزاياه وطريقته والمآخذ التي تؤخذ عليه .
وبالجملة فقد كان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله إماماً شهيراً وعلامة كبيراً ونظاراً متضلعاً في كثير من العلوم وبخاصة علمي الفقه وأصوله مع الإحاطة بكثير من أسرارها ومعرفة محاسنها وغوامضها وتحرير عويصها وحل مشكلاتها وساعده في ذلك أن له باعاً في المنطق والعقليات وسائر العلوم .
لقد تميز الشيخ رحمه الله بسعة علمه ومقدرته على الفهم الدقيق والاستنباط الواعي والترجيح السديد .
يقول أحد تلامذته : لقد عرفت في فضيلة شيخنا الدقة العلمية والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطروحة متميزاً رحمه الله بدقة فهمه واستيعابه للأصول والقواعد التي تصدر عنها الأحكام وسرعة استحضاره لكلام أهل العلم.
ويقول آخر : لقد كان الشيخ رحمه الله يقوم كل بحث او رأى على ضوء الأسس والأصول الصحيحة التي التزمها السلف الصالح والأئمة الكبار حينما واجهوا الفلسفات المادية والاختلافات في الأصول والفروع .
إن من المؤكد بعد عرض هذه الأقوال أن الشيخ عبد الرزاق رحمه الله كان بمثابة مدرسة فريدة في التأصيل والتعقيد والتدقيق والتحقيق كما كان مدرسة في الأخلاق والتربية وفقه النفس ونشر الفضائل .(1/346)
وفي الصفحات التالية مقتطفات من كتاباته المتخصصة في هذا العلم الثر ( علم أصول الفقه ) وضح فيها فوائد هذا العلم وأهميته وشدة الحاجة إليه والسبب الباعث على التأليف فيه ، وكل هذا قد انتظمته مقدمته الرائعة والموفقة لكتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وفي هذه المقدمة يدرك القارئ جودة التصنيف وسلامة العبارة وجزالة اللفظ وحسن الترتيب ويدرك أيضاً أنه يقرأ لشخصية علمية متميزة الأسلوب متعددة المواهب واسعة الاطلاع كما سوف يتضح للقارئ جليا وهو يقرأ هذه المقتطفات وما يتلوها من تعليقات نفيسة على كتاب الآمدي انه يقرأ لعالم منصف وفقيه متقن يعي ما يكتب ويدرك ما يقول .
لقد أبان الشيخ عبد الرزاق رحمه الله في مقدمة كتاب " الإحكام " عن أهمية علم أصول الفقه لحملة الشريعة ورواد المعرفة ولمس ما في بعض كتب الأصول من مباحث جدلية ، وآراء شاذة ، وتخرصات أهل الكلام وسفستطهم ولذا فقد رغب في أن يقرر كتاباً متميزاً الأسلوب سهل العبارة جامعاً لما تناثر من مباحث هذا العلم ليكون مرجعاً وافياً لطلبة المعهد العالي للقضاء وبعد تأمل لعدد من كتب أصول الفقه ومصنفاته وقع اختيار الشيخ على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وهو كما يقول الشيخ عبد الرزاق - كتاب عالي الأسلوب واضح العبارة بسط مؤلفه القول فيه وأرخى لقلمه العنان في بيان معانيه .(1/347)
وقد رغب طلبة المعهد العالي للقضاء أن يكتب لهم عميد معهدهم وشيخهم الشيخ عبد الرزاق كلمات على هذا الكتاب تبين مجمله وتوضح مشكله وتحل عويصة فاستجاب لطلبهم وقد ذكر ذلك في مقدمة كتاب " الإحكام " قائلاً : هذا ولما عزم الأخ الكريم الشيخ على بن حمد الصالحي على طبع كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " لكونه من مراجع الدراسة في المعهد العالي للقضاء ولنفاد ما طبع منه قبل ذلك وقد سألني طلاب المعهد أن أكتب عليه كلمات فاستجبت لطلبهم تحقيقاً لرغباتهم وأداء بعض الواجب على ولم أحاول أن اقف من الكتاب وقف الشارح فالكتاب واضح العبارة عالي الأسلوب وهو غني بوضوحه عن الشارح بل من أراد ذلك منه احتقر عبارة نفسه إلى جانب عبارة الآمدي .
وبعد أن وضح الشيخ أهمية هذا الكتاب وما يمثله من قيمة علمية عالية شرع في بيان أهمية علم أصول الفقه وفائدته فقال :
أصول الفقه من العلوم التي عم نفعها وعظمت فائدتها فقد استطاع به المجتهدون فطرة واستعداداً أو دراسة واكتساباً أن يستثمروا نصوص الشريعة وأن يستنبطوا بها الأحكام من أدلتها التفصيلية على أكمل وجه وأتقنه وأوضح طريق وأبينه ووقف من عني بدراسته من العلماء المقلدين على مآخذ الأئمة المجتهدين ومداركهم وعرفوا طريقهم في اجتهادهم ومذاهبهم في استنباطهم فطبقوا قواعدهم على ما جد من أقضية واستخرجوا على أصولهم أحكاماً في كثير من المسائل نسبوها إليهم تخريجاً حيث لم يثبت عنهم فيها حكم نصاً .
وقد يبلغ من يعني بعلم الأصول ويأخذ نفسه بدراسة قواعده استدلالاً عليها وتطبيقاً لها على نهج من تقدمه من الأئمة أن يكون مجتهداً مطلقاً يعتمد في بحثه على أصول الشريعة ويرجع إلى أدلتها ويستنبط منها الأحكام وربما كان هذا أيسر له وأعم نفعاً وأسلم عاقبة من اجتهاده في المسائل على مقتضى أصول إمام معين واستخراج الفروع على أصوله.(1/348)
ثم يذكر الشيخ عقب ذلك أن عصر الصحابة والتابعين لم يكن بحاجة إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام ثم يوضح أسباب ذلك قائلاً :
وقد كانت العربية سليقة للصحابة رضي الله عنهم وبلغتهم نزل القرآن وبها بينه النبي ( فكانوا يعرفون مقصد الكلام ومغزاه من لحن القول وفحواه وقد شهدوا عهد الوحي والتنزيل ولزموا النبي ( في سفره وإقامته وكانوا مع ذلك على جانب عظيم من الفطنة والذكاء وسلامة الذوق ونور البصيرة والحرص على التشريع علماً وعملاً فوفقوا على أسرار الشريعة ومقاصدها ولم يجدوا في أنفسهم حاجة إلى دراسة قواعد يستعينون بها في استثمار نصوص الشريعة ولا ضرورة تلجئهم إلى تدوين أصول يرجع إليها في استنباط الأحكام من الأدلة .
وقد سار التباعون على مدرجتهم وسلكوا سبيلهم فاستغنوا غناهم لقرب العهد بالوحي وقوة الصلة بالصحابة وكثرة الأخذ عنهم والمخالطة لهم وغلبة السلامة على اللغة العربية من الكلمات الداخلية .
ثم يتحدث الشيخ بعد ذلك عن عناية العلماء بتدوين أصول الفقه وأول من عني بالتدوين فيقول :
وكان أول من عني بتدوين أصول القه فيما اشتهر بين العلماء أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي فأملي كتابه المعروف بـ " الرسالة " وكتبه عنه الربيع بن سليمان المرادي . وقد جمع في إملاء الرسالة بين أمرين إجمالاً :
الأول : تحرير القواعد الأصولية وإقامة الأدلة عليها من الكتاب والسنة وإيضاح منهجه في الاستدلال وتأييده بالشواهد من اللغة العربية .
الثاني : الإكثار من الأمثلة لزيادة الإيضاح والتطبيق لكثير من الأدلة على قضيا في أصول الشريعة وفروعها مع نقاش للمخالفين تزيده جزالة العبارة قوة وتكسبه جمالاً فكان كتابه قاعدة محكمة بني عليها من جاء بعده ومنهجه فيه طريقاً واضحاً سلكه من ألف هذا العلم وتوسع فيه .(1/349)
وقد تبعه في الأمرين أبو محمد على بن حزم في كتابه " الإحكام في أصول الأحكام " بل كان أكثر منه سرداً للأدلة النقلية مع نقدها وإيراد للفروع الفقهية مع ذكر مذاهب العلماء فيها وما احتجوا به عليها ثم يوسع ذلك نقداً ونقاشاً ويرجح ما يراه صواباً غير أن أبا محمد وإن كان غير مدافع في سعة علمه وإطلاعه على النصوص وتمييز صحيحها من سقيمها والمعرفة بمذاهب العلماء وأدلتها وإيراد ذلك في أسلوب رائع وعبارات سهلة واعية لم يبلغ مبلغ الشافعي ، فقد كان الشافعي أخبر منه بالنقل وأعرف بطرقه وأقدر على نقده وأعدل في حكمه وأدرى بمعاني النصوص ومغزاها وأرعى لمقاصد الشريعة وأسرارها وبناء الأحكام عليها مع جزالة في العبارة تذكر بالعربية في عهدها الأول ومع حسن أدب في النقد وعفة لسان في نقاش الخصوم والرد على المخالفين .
ولو سلك المؤلفون في الأصول بعد الشافعي طريقته في الأمرين تقعيداً واستدلالاً وتطبيقاً وإيضاحاً بكثرة الأمثلة وتركوا الخيال وكثرة الجدل والفروض وطرحوا العصبية في النقاش والحجاج ولم يزيدوا إلا ما تقتضي طبيعة النماء في العلوم إضافته من مسائل وتفاصيل لما أصل في الأبواب وإلا ما تدعوا إليه الحاجة من التطبيق والتمثيل من واقع الحياة للإيضاح كما فعل ابن حزم لسهل هذا العلم على طالبيه ولا تنهي بمن اشتغل به إلى صفوف المجتهدين من قريب .
ثم يواصل الشيخ حديثه عن مناهج العلماء في تدوين أصول الفقه بعد أن وضح منهج المتقدمين من السلف في تدوينه ومن هذه المناهج التي تحدث عنها الشيخ في هذا الخصوص منهج المتكلمين والأحناف ومن جاء بعدهم ثم وضح أوجه التباين بين طريقة المتكلمين وطريقة الأحناف في التدوين ثم بين الشيخ المنهج الأمثل في التدوين قائلاً :(1/350)
ولو سلك هؤلاء طريق الاستقراء فأكثروا المسائل الفقهية من أبوب شتى على أن يجمعها وحدة أصولية ، كما فعل ذلك الشاطبي أحياناً في كتاب الموافقات وقصدوا بذلك الشرح والإيضاح والإرشاد إلى ما بينها من معنى جامع يقتضي اشتراكها في الحكم دون تقيد بمذهب معين ليخلصوا إلى القاعدة الأصولية ، وأتبعوا ذلك ما يؤيد الاستقراء من أدلة العقل والنقل لكان طريقاً طبيعياً تألفه الفطر السليمة وتعتمده عقول الباحثين المنصفين ولأكسبوا من قرأ في كتبهم استقلالاً في الحكم وفتحوا أمامهم باب البحث والتنقيب ويسروا لهم تطبيق القواعد الأصولية على ما جد ويجد من القضايا في مختلف العصور .
وخير لمن يريد فهم علم الأصول على وجهه ويرسخ فيه أن يرجع في قراءته إلى كتب الأوائل فإنها أقعد وعبارتها ادق وأوضح وتحريرهم لمحل النزاع وحكايتهم للخلاف أوفق لأنهم بذلك أعرف ونقاشهم للأدلة جار على أصول النقد وقواعد الجدل والمناظرة عند العلماء .
ويختتم الشيخ عبد الرزاق مقدمته الوافية لكتاب " الإحكام " بترجمة لمؤلفه سيف الدين الآمدي ، ومما يدل على إنصاف الشيخ وتجرد ونزاهة قلمه عند الحكم على الرجال أنه عندما أراد أن يترجم للآمدي نقل ترجمته من عدة كتب بعضها تحمل على الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال" للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتنال منه وتتهمه في دينه ومن هذه الكتب " ميزان الاعتدال " للذهبي وبعضها الآخر تدافع وتنافح عن الآمدي وتبرئه مما رمي به وتنصفه من خصومه ومن هذه الكتب " وفيات الأعيان " لابن خلكان و " البداية والنهاية " لابن كثير الذي ذكر أن الآمدي كان كثير البكاء رقيق القلب وأن غالب ما رمي به لا دليل عليه .(1/351)
ثم ينصف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - الآمدي من خصومه قائلاً : عن الآمدي درس الفلسفة بأقسامها المختلفة وتوغل فيها وتشبعت بها روحه حتى ظهر أثر ذلك في تأليفه ومن قرأ كتبه وخاصة ما ألفه في علم الكلام وأصول الفقه يتبين له ما ذكرت كما يتبين له منها انه كان قوي العارضة كثير الجدل واسع الخيال كثير التشقيقات في تفصيل المسائل والترديد والسبر والتقسيم في الأدلة إلى درجة قد تنتهي بالقارئ أحياناً إلى الحيرة .
فمن كره من الولاة والعلماء منطق اليونان والخوض في سائر علوم الفلسفة وخاصة ما يتعلق منها بالآلهيات وكره كثرة الجدل والاسترسال في الخيال والإكثار من تأويل النصوص وذكر الاحتمالات خشية ما تفضي إليه من الحيرة والمتاهات مع قلة الجدوى منها تارة وعدم الفائدة أحياناً كالأشرف والذهبي كره الآمدي ديناً . وأنكر عليه ما رآه منكراً وقد يجد في كتبه ومسلكه في تأليفها ما يؤيد رأيه فيه ويدعو إلى النيل منه .
ومن لم يكره ذلك ولكنه ضاق ذرعاً بالآمدي لعجزه عن أن يصل إلى ما وصل إليه من التبحر في العلوم وقوة عارضته وحضور بديهته في الجدل والمناظرة وحسن أسلوبه وبارع بيانه في التدريس وصناعة التأليف حسده حيث لم يؤت مثل ما أوتي في نظره كما ذكره ابن خلكان عن بعض العلماء في سبب خروجه من مصر مستخفياً .
ومن لم ير بأساً بدراسة المنطق وسائر علوم الفلسفة وألف التأويل للنصوص وكثرة الرفوض والاحتمالات دراسة ومناظرة وتأليفاً رفع من شأن الآمدي وعني بالذب عنه وانهال بالملامة على من حط من قدره أو اتهمه في دينه او طعن في تأليفه كابن السبكي حيث عاب الذهبي في انتفاضة للآمدي .
ثم يختم الشيخ ترجمته للآمدي بكلمات تكتب بماء الذهب لنفاستها بل هي في الحقيقة تعتبر منهجاً تربوياً لقاصد الحق وصادق الهدف وفي هذه الخاتمة يقول الشيخ :(1/352)
وقصارى القول أن العلماء لهم منازع شتى ومشارب متباينة فمن اتفقت نزعاتهم تحابوا وتناصروا وأثنى بعضهم على بعض خيراً ومن اختلفت أفكارهم ووجهات نظرهم تناحروا وتراموا بالنبال إلا من رحم الله .
وأسعدهم بالحق من كانت نزعته إلى كتاب الله وسنة رسوله (ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراء نصوصها فكلما كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقاً وأهدى سبيلاً والمعصوم من عصمه الله وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ( وكل بني آدم خطاء وخير الخاطئين التوابون وما الآمدي إلا عالم من علماء البشر يخطئ ويصيب فلننتفع بالصواب من قوله ولنرد عليه خطأه ولنستغفر الله له وليكن شاننا معه كشأننا مع غيره من علماء المسلمين وليكن شعارنا مع الجميع :
( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) .
نماذج من تعليقات الشيخ عبد الرزاق على كتاب
" الإحكام " للآمدي :
لقد علق الشيخ على كتاب الآمدي تعليقات نفيسة وهي وإن كانت قليلة المبنى إلا أنها قوية المعنى وهي تدل بلا شك على سعة علم الشيخ وتبحره في علم أمصول الفقه وغيره من العلوم كما أن هذه التعليقات تحمل ضمناً نقداً قوياً لأبي الحسن الآمدي وقد يكون النقد لاذعاً أحياناً إلا أنه يخرج به عن الإنصاف ولا يتجاوز به حد الأدب في المناقشة .
ومن هذه التعليقات تعليقه على قول الآمدي : " وكهف الراغبين " واصفاً بذلك الله تعالى فعلق الشيخ على هذه العبارة قائلاً :
لو قال : غوث اللاجئين لكان أرعى للأدب مع الله وأبعد عن وحشة العبارة فيما ينسب إليه سبحانه.(1/353)
قلت : وهذا يدل على عناية الشيخ بالألفاظ وعلى أنه صاحب منهج سلفي ، يتجلى هذا المنهج الحق في كثير من تعليقات الشيخ وتعقباته للآمدي . ومن هذا تعليقه على قول الآمدي : " وهو أي علم الله - ينقسم إلى قديم لا أول لوجوده " فعلق الشيخ على مقولة الآمدي قائلاً : وصف الله أو غيره من صفاته بالقدم لم يرد في نصوص الشرع وهو يوهم نقصاً وفي موضع آخر يعلق على قول الآمدي " لاستحالة خلق القديم الواجب لذاته " فيعلق الشيخ قائلاً : أسماء الله وصفاته توفيقية ولم يرد في كتابه سبحانه ولا في سنة رسوله ( تسميته بالقديم ولا إضافة القدم إليه أو إلى صفة من صفاته سبحانه فيجب ألا يسمى سبحانه بذلك وألا يضاف إليه وخاصة أن القدم يطلق على ما يذم كالبلي وطول الزمن وامتداده في الماضي وإن كان لمن اتصف به ابتداء في الوجود
وفي تعليق آخر يدمغ به الشيخ منهج الاستدلال العقلي للمتكلمين ويوضح فيه خطأ نسبة الجهة إلى الله نفياً أو إثباتاً حيث ذكر الآمدي " أن العقل يثبت رؤية الله تعالى لا في جهة " فعلق الشيخ على قوله " لا في جهة " قائلاً :
لم يرد في النصوص نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً ثم هي كلمة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً فإن اثباتها لله يحتمل أن يراد به انه تعالى فوق عباده مستو على عرشه وهذا حق ويحتمل أن يراد به أنه يحيط به شئ من خلقه وهذا باطل ونفيها عن الله يحتمل نفي علوه على خلقه واستوائه على عرشه وهذا باطل ويحتمل تنزيهه عن أن يحيط به شئ من خلقه وهذا حق .
وإذن لا يصح نسبة الجهة إلى الله نفياً ولا إثباتاً لعدم ورودها ولاحتمالها الحق والباطل .(1/354)
ثم مقابلة العقلي بالشرعي تشعر بأن رؤية الله وتنزيهه عن الشريك ونحوهما إنما ثبت بالدليل العقلي لا بدليل الشرع وهذه طريقة كثير من المتكلمين فإنهم يرون أن ادلة النصوص خطابية لا برهانية لا تكفي لإثبات القضايا العقلية والمسائل الأصولية اللهم إلا عن طريق الخبر كتاباً وسنة بعد الاستقراء وبعد ثبوت أصل الشرع بالعقل وهذا غير صحيح فإن نصوص الشرع كما جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بالخبر الصادق في القضايا العقلية وغيرها جاءت بتقرير الحق في ذلك بأوضح حجة وأقوى برهان لكنها لم تجئ على أسلوب الصناعة المنطقية المتكلفة بل على أسلوب من نزل القرآن بلغتهم بأفصح عبارة وأعلى بيان وأقرب طريق إلى الفهم وأيسره لأخذ الأحكام .
ومن تتبع أدلة القرآن في إثبات التوحيد والرسالة والبعث وغير ذلك من أصول التشريع واستقرأ السنة في ذلك تبين له خطأ أولئك الذين وصموا ربهم وكتابه ونبيه وسنته بما لا يصدر إلا من عدو للمسلمين يريد الكيد لهم في أصول دينهم ومصادر تشريعهم ليردهم بذلك إلى ما يزعمه أصولاً عقلية وغالبها شكوك ومحارات وإن كان فيها شئ من الأدلة الحقة فقد جاء به الشرع فاللهم أغننا بكتابك وسنة نبيك عن مراد الوهم ومزالق الضلال.
وفي تعليق آخر على ما ذكره الآمدي من أن أعلام شعيب وغيره من الأنبياء إنما لم ينقل لأنهم لم يدعوا الرسالة حتى يستدلوا عليها بالمعجزات فتعقبه الشيخ قائلاً : انظر هذه الدعوى مع قوله تعالى : (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ) .(1/355)
عطفاً على معمولي الإرسال في قوله في سورة الأعراف ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِه) وعطفاً على معمولي الإرسال أيضاً في قوله تعالى في سورة هود : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ) وانظرها أيضاً مع قصة شعيب في سورة الشعراء وفيها ) إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ)(هود: من الآية25) فإن في ذلك الكفاية في إبطال هذه الدعوى ولو أجاب بأنها لم تنقل اكتفاء بشهادة النبي الصادق والقرآن المعجزة برسالته لكان أبعد له عن المزالق .
ويعلق الشيخ أيضاً على قول الآمدي : وأما نقل باقي معجزات الرسول ( غير القرآن فإنما تولاه الأحاد لنه لم يوجد شئ من ذلك بمشهد من الخلق العظيم بل إنما جرى ما جرى منها بحضور طائفة يسيرة ولا سيما انشقاق القمر فغنه كان من الآيات الليلية وقعت والناس بين نائم وغافل في لمح البصر فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : ليس ذلك بصحيح فإن حنين الجذع كان بحضرة جمع عظيم في المسجد ونبع الماء من بن أصابعه ( كان بحضرة الجيش وقد انتفعوا بالماء شرباً وطهارة وتزودوا منه وزالت به شدتهم ومع ذلك نقل آحاداً ومتى سلم أن القمر انشق وانه آية قصد بها إقامة الحجة أو تقويتها استحال في حكمه الله أن يفعل ذلك والناس بين نائم وغافل مدة لمح البصر دون دعوة لرؤيته ولا تنبيه لمشاهدته فلابد ان يكون شاهده كثير ويؤيد ذلك أنه نقل نقلاً مستفيضاً بل متواتر المعنى وإن لم يتواتر لفظاً ومع ذلك قد يقال إن كثيراً من العلماء استغنى بذكره في القرآن عن نقله .(1/356)
وفي موضع آخر من مسألة جواز التعبد بخبر الواحد عقلاص ووجوب العمل به يقول الآمدي : ولقائل أن يقول : وإن سلمنا تنفيذ الآحاد بطريق الرسالة والقضاء وأخذ الزكوات والفتوى وتعليم الأحكام فلا نسلم وقوع تنفيذ الآحاد بالأخبار التي هي مدارك الأحكام الشرعية ليجتهدوا فيها وذلك محل نزاع فعلق الشيخ على ذلك قائلاً : يكفي في رد هذا الاعتراض أنه دعوة يكذبها الواقع فقد أرسل ( الآحاد من أصحابه لإبلاغ الأخبار بل لتحفيظ القرآن ومن استقرا بعث الولاة والدعاة كفاه دليلاً على بطلان تلك الدعوى .
وفي مسألة أخرى يقول الآمدي : إذا ورد خطاب خاص بالنبي ( كقوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) .
لا يعم الأمة ذلك الخطاب عند أصحابنا خلافا لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأصحابهما في قولهم أنه يكون خطاباً للأمة إلا ما دل الدليل فيه على الفرق ودليلنا في ذلك أن الخطاب الوارد نحو الواحد موضوع في أصل اللغة لذلك الواحد فلا يكون متناولاً لغيره بوضعه .
وقد علق الشيخ عبد الرزاق على هذا الكلام قائلاً : قد يقال أن الخطاب وإن لم يتناول بوصفه في أصل اللغة غير المخاطب إلا أنه قد يتناوله عرفاً أو لقرائن أخرى ككونه ( رسولاً فإن ذلك يقتضي أنه ليس مقصودا بالخطاب لذاته بل ليعمل وليبلغ الأمة ما شرع الله عن طريقة ويشهد لذلك قوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) .
ونحوه من النصوص والإجماع وإذا فالأصل العموم إلا أن يدل دليل على الخصوص وذلك فيما يختلف فيه حال أمته وبه يندفع ما ذكر بعد من الاستدلال باختلاف الأحكام لتفاوت أحوال الناس .
المبحث السادس
تدريسه وقدرته الهائلة على إيصال المعلومات(1/357)
إن من المقطوع به أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان يتمتع بمزايا فريدة لا كاد تتوافر إلا في القليل من الرجال الذين وهبهم الله ذكاء وفطنة وعلماً وإخلاصاً كان الشيخ - رحمه الله - مضرب الأمثال في تدريسه وفي قدرته الهائلة على إيصال المعلومات .
لقد أوتي عقلاً كبيراً وقدرة فائقة على الإقناع كان عالماً مشرق العبارة حسن الأداء يشد انتباه من يستمع إليه
ويشهد لذلك أحد كبار تلامذته ومعاصريه فيقول :
إنني منذ طفولتي وإلى هذه اللحظة لم ألق عالما مثله في سعة علمه واطلاعه ودقة استحضاره وحفظه وسلامة منهجه واستقامة حياته وجولان ذهنه وقدرته على إعطاء الحكم الدقيق في المسألة المطروحة ومعاصرته لأحداث زمانه .
كان مفسراً عظيماً وإن أنسى لا أنس دروسه الرائعة في تفسير القرآن التي كان يلقيها في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في ( دخنه ) في الرياض لقد كان يغوص في المعاني الدقيقة في الآية ويذكر ارتباطها بما في قلبها وما بعدها ويصل بين تلك المعاني وبين حياة الناس ويشير إلى أسرار البلاغة ونواحي إعجاز فيها .
ويقول آخر : لقد تميز الشيخ في دروسه بتأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها وتحرير مواطن الخلاف فيها .
ويقول ثالث : كان رحمه الله ذا باع طويل في علوم الشريعة وله القدح المعلي في التفسير وعلوم القرآن وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد والملل والنحل .
ويؤكد هذا كله أحد تلامذته بقوله : لقد أرسلنا درسنا الشيخ عبد الرزاق في معهد الرياض العلمي وفي كلية الشريعة وفي المعهد العالي للقضاء ، في التفسير والتوحيد وفي الفقه وفي البلاغة وفي النحو والأصول وما درس مادة إلا أبدع فيها . وكان إذا درس مادة أتمها .
لقد كان تدريسه يمتاز بوضوح الكلام وقلته وتكييف المادة بحيث تصل إلى الأذهان من أول وهلة .
ويؤيد هذا ويقويه ما ذكره أحد أبرز تلامذته قائلاً :(1/358)
لقد تشرفت بتلقي العلم عن سماحته في جميع المراحل الدراسية ، في المرحلة الثانوية وفي المعهد العلمي وفي المرحلة الجامعية في جامعة الإمام محمد بن سعود - رحمه الله - عندما كانت تعرف بالمعاهد العلمية والكليات وكذا في الدراسة العليا في المعهد العالي للقضاء في الرياض .
فكان - رحمه الله - في المعهد العلمي شيخا جليلا يعطي دروسه لطلاب علم في مستوى الابتدائي ، يحاول أن ينقل العلم إلى نفوسهم وقلوبهم بما يستطيعون فهمه وإدراكه وقد أصاب ، فقد كانت المعلومات في المواد التي ندرسها عليه جزلة ومركزة ومفيدة وقد تلقيناها من سماحته بطريقة منطقية رسخت في نفوسنا وعقولنا وكان - رحمه الله - في الكليات شيخا ذا مقام متميز على زملائه في التدريس وقد رأيناه عالما كبيرا خلاف ما رأيناه في المعهد يعطي دروسا لطلاب علم في مستوى متمكن من الفهم والإدراك .
وفي العهد العالي للقضاء رأينا شيخنا عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - عالما متميزا في علمه في الأصول والتفسير والحديث لا يجاريه من زملائه أحد ، لا سيما في القدرة العجبية على جذب أنظار طلابه إليه بما يستنبطه من المسائل العلمية في الاعتقاد والفقه وبما يعطيه من تحليلات علمية في مسائل الخلاف والنظر والاعتبار وكنا معشر الطلاب نتابع التساؤل والاستغراب من قدرة شيخنا - رحمه الله - على التحمل والاستيعاب وهذه موهبة ومكرمة من الله تعالى .
قلت : وقد ذكر لي جم غفير ممن تتلمذوا للشيخ وأخذوا عنه أنه كان جادا في أدائه فلا يترك فرصة للعب وإلى جانب حديثه كان صاحب ملحة مؤدبة وكان ينظر إلى طلابه بمنظار العدل ، فكان يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدرة فائقة يتعاهد الطالب الخامل والمجد على السواء .(1/359)
لقد أعطى الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدرة فائقة على التعبير وقوة في العقل ولم يكن يمسك كتابا في يده وكان حفظه من صدره وكان كثيرا ما يعلق على الكتب التي في أيدي طلبته وكان إذا تكلم عقل عنه وكان لا يتردد في كلامه وكان يبدع في شرح العبارات العويصة والمعاني الغامضة ويضع لدرسه بداية ووسطا ونهاية وكان يلتزم بالموضوع محل البحث ولا يخرج عنه ، فإذا انتهى من شرحه وجه الأسئلة إلى طلابه فيما شرح لهم وكان يلزم العربية في جميع دروسه ومجالسه كتابةً ومحادثة - رحمه الله .
المبحث السابع
علو همته وغزارة مادته العلمية واحترامه لطلابه
ـــــــــ
قال الماوردي - رحمه الله - بعد استشهاده على علو الهمة بقول الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً ……تعبت في مرادها الأجسام
قال : والداعي إلى استسهال المصاعب وتحمل المشاق أمور منه علو الهمة وشرف النفس أما علو الهمة فلأنه باعث على التقدم وداع إلى الهمة وشرف النفس التخصيص ، أنفة من خمول الضعة واستنكاراً لمهانة النقص .
وعلو الهمة : هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور .
إن معالي الأمور وعرة المسالك ، محفوظة بالمكاره والعلم أرفع ما تطمح إليه الهمم وأشرف غاية تتسابق إليها الأمم فلا يخلص إليه الطالب دون أن يقاسي شدائد ويحتمل متاعب ولا يستهين بالشدائد إلا كبير الهمة ماضي العزيمة .
إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى أو المرتبة المتوسطة من معالي الأمور ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة وأقصى غاية ويعبر عن هذا المعنى النابغة الجعدي بقوله :
بلغنا السماء مجدنا وجدونا ………وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ماضي العزم عالي الهمة له نفس تواقة ما بلغت شيئا إلا وتاقت إلى ما هو أعلى منه ، إن شغفه بمعالى الأمور وذرا الفضائل دفعه منذ صباه إلى طلب العلم والنصب في ذلك وكأن لسان حاله يقول :(1/360)
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ……كفاني ولم أطلب قليلاً من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد ……يدرك المجد المؤثل أمثالي
لقد كان ( للمترجم له ) القدح العلمي في كثير من العلوم والفنون ولقد اتفقت كلمة العلماء على إمامته وفضله وتضلعه وتقدمه في كثير من المعارف حتى وصفه بعض العلماء بأنه دائرة معارف متحركة .
كان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره وأنه متخصص فيه وحده وقد قصده الطلاب من كل حدب وصوب لينتفعوا من علمه وليصيبوا عنده ما لم يصيبوه عند غيره .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - آية في تقديره لطلابه واحترامه لهم ، اختلف يوماً مع أحد طلابه بالمعهد العالي للقضاء وكان الشيخ مديراً لهذا المعهد ومشرفا على بحث الطالب فقال له الطالب:
إذا كنت ستتمسك برأيك في هذه المسألة عند مناقشة هذه الرسالة ، ثم أعود إلى رأيي خطأ تؤاخذني عليه فسآخذ برأيك بصفة مؤقتة حتى ينتهي أمر مناقشة هذه الرسالة ثم أعود إلى رأيي المخالف لرأيك فما كان من الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إلا أن قال له : يا عبد الله أنا أحترم الرأي العلمي وإن كنت لا أراه ، ما دام منياً على اجتهاد وإني لا أعتقد العصمة في الإصابة لنفسي ولا الخطأ لمخالفي وعليك أن تجتهد في الاستزادة من تبرير رأيك المخالف وسأعتبر تمسكك برأيك منقبة علمية أكافؤك عليها .
لقد كان الشيخ - رحمه الله - لين الجانب ، طلق الوجه ، حسن الملاحظة ، فهو أمام الطلاب والزوار يظهر الفرح والسرور والانبساط في الكلام والإجابة على الأسئلة ، بدون غضب أو ملل أو تبرم أو رد شديد للسائل .
فالطالب في مجلسه يلقى منه كل التقدير والمؤانسة والتبسم بحيث لا يمل جليسه منه كما أنه يكرم من زاره ولا يتكلف في كرمه .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي يتميز بطيب المعشر والزهد في الدنيا وكان يقدر من يفد إليه في منزله وعمله ابتغاء مرضاة الله سبحانه ورغبة فيما عنده .(1/361)
ويذكر أحد ممن جلسوا منه مجلس العلم والتحصيل : أنه كان لا يحب أن يكون تلميذه فاقد الوزن ، لذلك كان همه الأول وشغله الشاغل أن يولد في نفس الطالب ثقة تقيم صلبه وتجلو مداركه وتذلل له وعثاء الطريق وكان يحاور الطالب وعلى شفتيه ابتسامة توحي له أنه حاز الإعجاب ووافق الصواب .
وبعد هذه النقول عن تلامذة الشيخ يتقرر عندنا أن ثمة علاقة قوية كانت تربط الشيخ بطلابه وكل الوارد\ين ورده من قاصدين يتتبعون خطاه ويتحرون دروسه ومن باحثين وعلماء يستهدونه ويلتمسون صواب رأيه فيما يعرض لهم من مشكلات . وكانوا جميعاً عنده محل التقدير والاحترام .
المبحث الثامن
جهوده الدعوية ودروسه العلمية
ـــــــــ
جهوده الدعوية في مصر :
قضى الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - حياته في خدمة العلم والدين ، مجاهداً في سبيل الدعوة إلى الله وطلب العلم وتعليمه .
لقد أمضى الشطر الأول من حياته في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة وكان داعية من أبرز دعاة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والأسكندرية ومن المؤسسين لها .
كان داعية متميزا في علمه ودعوته وكان لسعة اطلاعه وقوة حجته وثباته على الحق أبلغ الأثر في نجاح دعوته .
يتحدث عنه أحد زملائه بالأزهر وأحد رفقاء دربه ( يوسف الضبع ) فيقول : " وفي الإسكندرية وضواحيها المترامية بسط نطاق دراسته الدينية ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ) .(1/362)
فكان الشيخ يلقي فيها عظات ودروساً دينية حسبة لله وابتغاء وجهه وكانت هذه العظات وتلك الدروس إلى جانب جدوله الدراسي في المعهد الديني بالإسكندرية وقد تتلمذ له وآوى إلى حلقاته كثير من شيوخ الإسكندرية وشبابها وأشهد أنه بلغ من الورع والتقوى والكرم والشجاعة وأصالة الرأي ورسوخ القدم ما جعله أشبه بعلماء السلف الصالح ، لقد كانت دروسه اليومية في الإسكندرية وضواحيها بمثابة مدرسة كبرى يجتمع فيها الجم الغفير من الناس على اختلاف مستوياتهم للاستماع والنقاش والحزار مع عالم مبرز وفقيه ثقة ، إذا جادل أقنع ولم تقتصر دروسه ومواعظه على مكان بعينه في الإسكندرية ، بل كان يغشى معظم معظم مساجد هذه المدينة الكبيرة وغيرها من المدن من وقت لآخر لإلقاء دروس في التوحيد والعقيدة الإسلامية التي كان حريصا أشد الحرص على تنقيتها وتصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي والخرافات والخزعبلات وما أكثرها في مجتمعه " .
لقد عرف الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من خلال دروسه بسعة علمه وعمق فهمه وصحة معتقده فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا أمينا لهم .
وفي رحلته العلمية وجهوده الدعوية ، كانت له عناية خاصة بتربية تلاميذه على العقيدة السلفية ونبذ البدع والضلالات والأخذ بأيديهم إلى هدي الكتاب والسنة وسلف هذه الأمة فاحتضن نخبة متميزة من هؤلاء التلاميذ وتعهدها منذ الطفولة واصطحبها معه حتى نمت وشبت عن الطوق ونهجت نهجه . وغدا هو وهم يجوبون القرى والنجوع ويتجولون في الضواحي والأحياء المتعددة لأداء رسالة هي من أعظم الرسالات ألا وهي رسالة الدعوة إلى الله وهداية الناس .(1/363)
وحيث كانت معظم المساجد لا تخلو من البدع ويجهل عامة الناس مسائل العقيدة الصحيحة فقد ركز - غفر الله له - على الجوانب العقدية والعودة إلى منابع أصولها الصافية والتمسك بالسنة الصحيحة وما كان عليه أمر المسلمين في القرون المشهود لهم فيها بالخير وكان إذا تعذر عليه تغيير المنكر سعى في إقامة مسجد خاص يقوم عليه من هداهم الله لدعوته ويتخذون منه منطلقا للدعوة .
ويتحدث فضيلة الشيخ مناع بن خليل قطان منوها بجهود الشيخ الدعوية في محافظة شبين الكوم بمصر قائلا :
13- عين شيخنا مدرسا بالمعهد الديني بشبين الكوم التابع للأزهر سنة 1355 هـ - 1973 م .
14- استأجر بيتا لسكناه ( وهو عزب ) فأسكن معه طلاب ( شنشور - منوفية ) .
15- ثم تزوج وسكن في بيت مستقل ولكنه كان يدعو طلابه بالجامعة ويرعاهم كما يرعى الأب أبناءه .
16- قام بتدريس مادة الحديث المقررة في المرحلة الثانوية " صفوة صحيح البخاري " فكان أستاذا متميزاً بترتيب الموضوع وجودة العرض وحسن التعليق ورجاحة العقل ويسجل النابهون من طلابه إضافاته العلمية على هامش الكتاب المقرر .
17- يهاب الطلاب شخصيته وينصتون لسماع درسه ويحرصون على الأستفادة منه .
18- اتفقت معه الجمعية الشرعية بشبين الكوم برئاسة الشيخ احمد الزيات على أن يلقي درساً أسبوعياً منتظماً في مسجدها ، فكان هذا الدرس مدرسة يجتمع فيه الجم الغفير للاستماع والنقاش والحوار .
19- كان يغشي المساجد الأخرى من وقت لآخر لإلقاء دروس فيها .
20- كان منهجه السلفي سمة بارزة فيه بأسلوب شائق جذاب يدعمه الدليل والحجة ولا يمس أحداً بتجريح مما جعل استجابة الناس عن حب وقناعة .
21- توثقت علاقته بمدير المعهد آنذاك ( الشيخ عبد الجليل عيسى ) فكان موضع شوراه .
22- كان يزن طلابه بميزان دقيق في الجوانب المتعددة ولا يخفي حبه لمن يتوسم فيهم الخير فيعاملهم - وهم بمنزلة أبنائه - معاملة الأخ الأكبر لاخوته الصغار .(1/364)
23- عرف بسعة علمه وعمق فهمه فكان زملاؤه المدرسون يعتبرونه مرجعا لهم .
24- أضفى عليه تواضعه حلة من زيادة التقدير والاحترام لدى كل من عرفه .
وفضلا عن ذلك كله فقد كان له القدح المعلى في تخليص قريته ( شنشور ) من العادات الجاهلية التي هدمها الإسلام كالنياحة وإقامة السرادقات . . . إلخ
لقد كانت جهوده في هذا الميدان لها أبلغ الأثر في نفوس العامة فضلا عن المتعلمين لما يعلمونه عن الشيخ من علم واسع ورفق في الدعوة وحرص على هداية الناس وقد تحقق ما أراد بإذن الله وتوفيقه ، فهدى الله على يده آلافا من الناس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
إن حياة الشيخ عبد الرزاق وجهوده الدعوية المباركة جديرة بالتأمل فقد أوقف حياته على نشر العلم والدعوة إلى هذا الدين وإظهار محاسنه والدفاع عن ساحته وترسيخ مبادئه وتعميق التوعية بمعانيه .
والواقع الذي لا يماري فيه أحد من دعاة هذا الدين وإظهار محاسنه وحملته في مصر وغيرها هو إجماعهم على أن فضيلة الشيخ عبد الرزاق قد بلغ من العلم والفضل والفقه في الدين منزلة عظيمة لا يجحدها إلا حاسد أو حاقد وفي هذه الكلمات المشرقة والنصائح القيمة التي يوجهها الشيخ إلى الدعاة أكبر شاهد على ما ذكرت فقد قال - رحمه الله - :
وخير طريق يحتذيه الدعاة في القيام بمهمتهم وأمثل منهاج يسلكونه في استمالة قلوب الناس إلى الخير والإعذار إلى من لم يستجب للحق بعد بيان الحجة وإقامة البرهان هو طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ومنهاجهم في دعوتهم إلى الله بقولهم المفضل وسيرتهم الحميدة .
وعقب ذلك يلقي الشيخ الضوء على سيرة رسول الله وخليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقول :(1/365)
كان إبراهيم الخليل ( عليه الصلاة والسلام ) مثلا أعلى في صدق اللهجة والإيمان بما يدعو إليه من التوحيد وشرائع الإسلام والتصديق به على وجه اطمأنت به نفسه ورسخ في سويداء قلبه وقد أثنى الله عليه بذلك في محكم كتابه في مطلع الحديث عنه حينما قام يدعو أباه إلى التوحيد فقال :
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً) .
فعلى الداعي إلى الحق أن يكون مؤمنا به ، مخلصا لما يدعو إليه صادق اللهجة فيه وإلا انكشف سره وافتضح أمره فإن ثياب الزور تشف عما وراءها وعند ذلك يكون وبالا على الدعوة .
بدأ إبراهيم الخليل بأبيه في الدعوة إلى التوحيد فإنه أقرب الناس إليه وألصقهم به فكان أولى بمعروفه وبره وإحسانه وإلى جانب ذلك يكون ردا له إذا استجاب لدعوته وظهرا له يحميه بدافع أخوة الإيمان وعصبية النسب .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) .
وقد تلطف معه في الدعوة فذكره بما بينهما من الرحم ووشائج النسب استمالة لقلبه وتنبيها له إلى أنه لو كذب الناس جميعا ما طابت نفسه بالكذب عليه وأنه لو غشهم جميعا لم يكن منه إلا النصح له لما بينهما من أواصر القربى والنسب .
وبدأ دعوته لأبيه بالتوحيد الذي هو أصل الدين وجوهر الشرائع السماوية وعليه تقوم فروع الإسلام وبه صلاح القلب وبصلاحه تصلح سائر الجوارح وتستقيم أحوالها .
" ألا وإن الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب " .(1/366)
وسلك في دعوته إلى التوحيد طريق الاستدلال عليه بأن ما يعبده أبوه وقومه لا يسمعهم إذا دعوه لكشف غمة أو تفريج كربة ولا يراهم إذا عبدوه وتضرعوا إليه ولا يجلب لهم نفعا ولا يدفع عنهم ضراً وإذا كان لا يرجى نفعه ولا يخشى بأسه فكيف يستحق أن يعبد أوو يتقرب إليه وبذلك أقام عليهم الحجة وقطاع عذرهم .
فيجب على من يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر أن يقتفي أثر إبراهيم الخليل في دعوته فيتلطف مع من يدعوهم ويسوسهم حسب ما تقتضيه أحوالهم ويبدأ بأقرب الناس إليه وأولادهم بإرشاد ويقدم الإرشاد إلى عقيدة التوحيد ويركز الحديث فيها ويقيم على ذلك الدليل ليقنعهم بالحجة ويسقط أعذارهم .
ادعى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أن الله آتاه من العلم ما لم يؤت أباه ، لا ليفخر بذلك أو يتعالى على أبيه حتى يكون خلقا ذميما ينفر الناس من حوله ويمقتونه من أجله ، بل ادعى ذلك ليلفت النظر إلى وجوب الإصغاء إليه واتباعه فيما جاء به من الحق المبين ليهديهم به إلى الصراط المستقيم .
قال تعالى في وصفه لإبراهيم في دعوته : ( يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً) .
نهى إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) أباه عن طاعة الشيطان في وسوسته واتباعه فيما يسوله ويزينه إليه من الشرك بالله وسائر المنكرات فإن طاعته له وإسلام قياده إليه عبادة له من دون الله ونبه أباه إلى عصيان الشيطان لربه وتمرده عليه وإذن فليس على هدى في وسوسته ولا يزين للناس إلا ما هو شر وضلال .
قال تعالى في وصفه دعوة الخليل : (يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً) .
فعلى الداعية إلى الحق أن يكشف الغطاء عن معنى العبادة ويزيدها إيضاحا حماية لعقيدة التوحيد وبيانا لأصولها ويستعمل أسلوب التنفير من عبادة غير الله اقتداء بخليل الرحمن ( عليه الصلاة والسلام ) .(1/367)
أنذر إبراهيم أباه إنذار المتلطف معه المشفق عليه بأنه يخشى عليه مغبة شركه وعاقبة عبادته للشيطان وطاعته له فيعذبه الله على ذلك ولا يجد ممن تولاهم بالعبادة من يدفع عنه بأس الله وعذابه .
قال تعالى في وصف إبراهيم في دعوته : (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) .
فعلى الداعية أن يستعمل أسلوب الإنذار والتخويف من سوء العواقب والتذكير بعذاب الله وأليم عقابه يوم يتبرأ دعاة السوء ممن غرروا بهم ويتمنى المخدوعون بزخرف القول أن لو عادوا إلى الدنيا فيتبرءوا من دعاة السوء كما تبرؤوا منهم يوم القيامة وأني لهم ذلك .
لا تأثير للدعوة إلى الحق وإن كانت صادقة إلا إذا وجدت آذانا صاغية وقلوبا واعية وفطرة سليمة لم تفسها الأهواء ولذا لم يستجب لإبراهيم أبوه بل أنذره لئن لم ينته ليرجمنه وأمره بهجره مليا فصبر إبراهيم على أذاه وقابل سيئته بالحسنة وقال له : (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) .
واعتزلهم وما يدعون من دون الله ، بعدا عن الفتنة إذ لم يستطع القضاء عليها وأملا في أن يجد لدعوته أرضا خصبة فوهب الله له إسحاق ويعقوب وجعل كلا منهما نبيا ، جزاء وفاقا لصدقة في الدعوة وإخلاصه فيها وصبره على الأذى في سبيل نشرها وهجره للشرك وأهله إتقاء للبشر وبعداً عن مواطنه ومظاهره .(1/368)
فعلى الدعاة أن يتذرعوا بالصبر وسعة الصدر وأن يقابلوا السيئة بالحسنة وأن لا ينتقموا لأنفسهم ما استطاعوا إلى العفو سبيلا لكن إذا انتهكت حرمات الشريعة انتصفوا لها وأخذوا على أيدي العابثين وعليهم أن يهجروا الشر وأهله إذا لم يمكنهم إزالته أو تخفيفه ، خشية أن تصيبهم الفتنة أو يعمهم البلاء أو تكون مخالطتهم حجة عليهم أو معرة لهم وذريعة للنيل منهم وعدم الاستماع لنصائحهم وعليهم أن يتحروا المجالس التي يرجى فيها قول الحق وقبوله والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية :
وأما جهوده الدعوية في المملكة العربية السعودية فهي بحر لا ساحل له وهي جديرة بأن يفرد لها دراسات ومؤلفات خاصة به .
قدم العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - غفر الله له ورحمه - إلى المملكة العربية السعودية - بلاد الحرمين الشريفين - سنة 1368 هـ بعد أن قضى شطر عمره في ميادين العلم والدعوة والتربية في مصر .
لقد جاء إلى المملكة العربية السعودية على سجيته ، لم يجتذبه طمع في مال أو جاه أو منصب ، لم يأت إلى المملكة ليكون سلفياً بل كان سلفيا قبل مجيئه إليها وأدل دليل على هذا أن نشر الكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد كان شاغله الشاغل وعمله الدؤوب ومن أوائل هذه الكتب التي قام على تحقيقها ونشرها في مصر : كتاب " العلو " للذهبي .(1/369)
والشيخ عبد الرزاق عفيفي يعتبر من أوائل من جاؤوا للتدريس في هذه المملكة المباركة قبلة العلماء العاملين وملاذ الأئمة المصلحين والدعاة المخلصين جاء الشيخ إلى بلاد استجابة لرغبة كريمة من مؤسس هذه الدولة الغراء الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - فقد وجه أمره الكريم إلى صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ، معتمد المعارف السعودية آنذاك وأحد أبرز رجال التعليم في المملكة العربية السعودية بأن يذهب إلى مصر لترشيح واختيار نخبة ممتازة من العلماء الذين عرفوا بصحة المعتقد وسلامة المنهج وهدفه من ذلك تنفيذ سياسته الصارمة في محاربة الجهل واقتلاع جذوره بعد أن خيم ردها من الزمن على أجزاء من هذه الجزيرة . وفي مصر وقع الأختيار على فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ليكون في طليعة من يذهبون إلى المملكة العربية السعودية للمشاركة في النهضة العلمية بها وإزاء تلك الثقة الغالية من الملك عبد العزيز - يرحمه الله - والأمراء من أبنائه آثر الشيخ عبد الرزاق الاستقالة من الأزهر وقدم إلى هذه البلاد مع كوكبة من علماء الأزهر منهم فضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم وفضيلة الشيخ محمد خليل هراس وفضيلة الشيخ الشيخ محمد عبد الوهاب بحيري وفضيلة الشيخ حسين محمد مخلوف وفضيلة الشيخ محمد حسين الذهبي وفضيلة الشيخ عبد المنعم النمر وفضيلة الشيخ يوسف الضبع والشيخ احمد القط والشيخ محمد عبد الدائم وغيرهم وقد امتاز - رحمه الله - عن غالب زملائه وأقرانه الذين درسوا في الأزهر وفي غيره من المؤسسات العلمية بشدة متابعته لكتاب الله وسنة رسوله ( .
ويشيد معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والارشاد بجهود فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - فيقول :(1/370)
لقد استمر عطاؤه في الكليات والمعاهد العلمية بعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - عليه رحمة الله - ثم في مجال الإفتاء والدعوة في رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد . وقد أفنى عمره في نشر العلم والدعوة إلى الله والدفاع عن دينه .
لقد أدى الشيخ عبد الرزاق عفيفي - غفر الله له ورحمه - على مدار تسعة وأربعين عاماً دوراً مهماً وفعالاً في الحياة العلمية والاجتماعية يمكن إجماله فيما يلي :
1)- جهوده التعليمية والتربوية والدعوية في دار التوحيد بالطائف ( 1368 - 1370 هـ ) .
2)- محاضراته القيمة ودروسه العلمية في معهدي عنيزة العلمي والرياض ( 1370 - 1371 هـ ) .
3)- تأسيسه وتدريسه في كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض .
4)- معاصرته لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض منذ نواتها الأولى واستمرار عطائه لها إلى أن توفاه الله .
5)- جهوده المخلصة وعمله الدؤوب إبان إدارته للمعهد العالي للقضاء ( 1385 - 1390 ) وتخريج أفواج من طلبة العلم والدعاة على يديه .
6)- مشاركته في اللجان العلمية التي كان من ثمرتها إنشاء الكليات والمعاهد العلمية بالمملكة .
7)- عضويته الفاعلة وجهوده المتواصلة في وضع مناهج ومقررات الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية .
8)- تحريره وصياغته لآلاف الفتاوي والبحوث التي تتسم بالعمق والأصال والدقة وذلك خلال عمله نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
9)- دروسه العلمية ومحاضراته وندواته المفيدة في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم وفي منزله وفي بعض المعاهد التربوية ودور العلم .(1/371)
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ - رحمه الله - ذا باع طويل في علوم الشريعة وقل أن يوجد له نظير في التوحيد وعلوم العقائد أما في علم أصول الفقه فإليه فيه المنتهى وقد شرفت بأن أكون أحد تلاميذه في كلية الشريعة ثم في المعهد العالي للقضاء وخبرته عن قرب ورأيت فيه ما كنت أقرأ عن علماء السلف من العلم الجم والفقه في الدين والتحلي بمباديء هذا الدين من تواضع وتقى وزهد وورع وصبر وحب لهذه الأمة وحرص على أن تظل كما هو مؤمل منها منارة هدى ومصدر إشعاع ومئل عز للإسلام والمسلمين .
ويقول آخر : كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - مسار إعجاب طلبة العلم وكان الطلاب ينقلون أخباره لأهاليهم وذويهم موضحين مواقفه وجهوده في التعليم والتربية وتفوقه في علم الشريعة ودقة فهمه لأحكامها وحسن تنزيله للأحكام على الوقائع في التدريس والفتوى وقوة شخصيته وسداد توجيهه وحسن تربيته وعرفته الساحة في المملكة في كل مجال من مجالاتها في التعليم والتربية والتوجيه والوعظ والإرشاد وفي الفتوى والمجالس العلمية ، ذا علم غزير ورأي متميز وأدب جم ، جمع الله له بين العلم النافع والعمل الصالح والقبول عند الناس والاحترام في المجتمع .
10)- إشرافه على عشرات الرسائل العلمية ( دكتوراه وماجيستير ) ومناقشته للمئات منها فضلا عن مئات البحوث والدراسات المتخصصة التي قومها وأبدى رأيه الصائب فيها ومن هذه الرسائل العلمية التي أشرف عليها :
* رسالة الدكتوراه للشيخ عبد القادر بن حبيب الله السندي وموضوعها ( ابن قدامة وتخريج أحاديث كتاب " الكاف " ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الشهوان وموضوعها ( تحقيق ودراسة كتاب التوحيد وإثبات صفات الله عز وجل لابن خزيمة ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ صالح الفوزان وموضوعها ( الأطعمة ما يحل منها وما يحرم ) .
* رسالة الدكتوراه للشيخ سعود بن عبد الله الفنسيان وموضوعها ( اختلاف المفسرين أسبابه وآثاره ) .(1/372)
* رسالة الدكتوراه للشيخ محمد بن سعيد القحطاني وموضوعها ( اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ) .
وأما رسائل الماجستير والبحوث الشرعية الأخرى فهي لاا تحصى كثرة .
11)- تقويمه للأعمال العلمية والأبحاث التي تتسم بالأصالة والابتكار لكثير من الأساتذة طلبا للترقية إلى درجة العلمية التي يستحقونها .
12)- إلقاؤه للعديد من المحاضرات والندوات والكلمات وعقد مئات المجالس العلمية في المساجد وفي بيته .
هذا غيض من فيض وقليل فيما يتعلق بجهود الشيخ رحمه الله .
والحق يقال : لقد أفنى الشيخ حياته في العلم والتعليم والإفتاء وانتفع بعلمه ودروسه أمم لا يحصون كثرة واعترفوا له بالفضل بعد فضل الله سبحانه وتعالى وافتخروا بالانتماء إلى تعليمه وما تلقونه عليه من خلال دروسه في المعاهد العلمية والمساجد وغيرها .
دروسه العلمية :
لقد كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله وغفر له - من أعلا العلماء علما وتقى وزهداً وفصاحة ، مواعظة تصل إلى القلوب وألفاظه ترسخ في الأذهان ، كان منظره وفق مخبره وعلانيته وزن سريرته ، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس لما يوسعهم من بيانه ، هذا يأخذ عنه الحديث وهذا يلقن منه التفسير وآخر يتعلم منه اللغة وهو في كل هذا كالبحر العجاج تدفقا وكالسراج تألقاً
كان في دروسه عف اللسان ، لا يعترض لأحد بأذى ولا يسمح لأحد أن يغتاب أحداً في مجلسه وسواء أكان ذلك في دروسه الخاصة أو العامة وفي حلقة الدرس يقرر العلم ويحقق المسائل ويوضح الغامض ويحل المشاكل ويقدم البراهين والأدلة على صحة قوله ولا ينتصر لرأيه وكان ذا هيبة ووقار يفرض احترامه على جالسيه ، كان كثير من طلبة العلم ومحبي المعرفة يحرصون أشد الحرص على مجالسته وحضور دروسه .(1/373)
وكان في مجلسه صاحب روح خفيفة ، قلما يخلو مجلسه من إلقاء نكتة مهذبة تنشط السامع وتسره وتؤدي في نفس الوقت غرضا توجيهيا وكان بعيد النظر ، عميق الفكر ، له جولات نقدية موجزة ، يدركها الماعي من جلسائه . كما كان بعيدا عن التكلف والتشدق فتم له إحكام الضبط وإتقان الأداء فجاء لفظه مشبعا ولسانه ذرباً ومنطقه عذبا .
يقول أحد تلامذته : كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في أخلاقه محل القدوة والأسوة ، شديد التواضع ، تغلب عليه البساطة في مجلسه ودروسه . صحبته ما يزيد على اثنين وثلاثين عاماً وما تركت مجلسه في أسبوع إلا أن يكون أحدنا مسافراً ولقد تعلمت في هذه الصحبة أمورا كثيرة منها ما يتعلق بالناحية السلوكية ومنها ما يتعلق بالناحية الشخصية ولقد أكرمه الله بالعقل المسدد والعلم الواسع والرأي الحكيم .
قلت : وكانت له دروس منتظمة في مسجد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله في " دخنه " بالرياض وكان يحرص على حضور هذه الدروس أكابر طلبة العلم والعلماء وعنما انتقل الشيخ إلى ( حي الوشام ) كانت له عدة دروس بين المغرب والعشاء بالمسجد المجاور لداره وكان يعرف بمسجد العفيفي ، هذا فضلا عن إمامته للمصلين في هذا المسجد مدة خمسة عشر عاما .
كما كان له رحمه الله درس أيام الملك العالم عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - تغمده الله بواسع رحمته - كل يوم أربعاء وكان الملك يحضره معجبا بعلم الشيخ يعقد دروسا مكثفة في بيته يخصص بعضها لطلبة العلم المتميزين في فهمهم وإدراكهم ومن الكتب التي قام بشرحها وتدريسها كتاب " إيضاح المبهم من معاني متن السلم " تأبف احمد الدمنهوري وهو المنطق .
وكتاب " روضة الناظر " لابن طاهر . " العقيدة الحموية " و " الواسطية " و " الرسالة التدمرية " لابن تيمية و " إحكام الأحكام " للآمدي وغيرها .
وقد كان في موسم الحج مقصد الناس من كل مكان يجيب على أسئلتهم ويحل مشكلاتهم .(1/374)
وصفوة القول أن الشيخ - رحمه الله - جمع علما وفضلا وانتفع بعلمه أمم لا يحصون كثرة واجتمع في دروسه ما لم يحدث عند غيره .
ويصف ولد الشيخ عبد الرزاق - وهو الأستاذ محمود - مجلس أبيه فيقول :
كان مجلس الشيخ مهيبا ، لا مجال فيه للهو الحديث ولا الخوض في الأعراض وانتهاك الحرمات وكثرة القيل والقال وانتقاض الناس .
مجلس يغلب فيه التوجيه والإرشاد والنصيحة وحسن المشورة والبحث العلمي فيما يعرض من مسائل والإجابة عما يقدم من استفتاءات فإذا ما أخذوا في الحديث عن الدنيا كان الحديث بريئا كالحديث عن الأمطار والزروع والثمار وأمثال هذه الأمور من الكونيات التي يثير البحث فيها العبرة ويعرف الإنسان نعم ربه عليه .
وقد طبع الشيخ على الخلال الحميدة والأخلاق والصفات الكريمة فكان - رحمه الله - صادق اللهجة عف اللسان حليما واسع الصدر كثير الصمت أمينا على السر ، متهملا في حديثه ، متأنيا في البحث وإبداء الرأي مع بعد نظر ، يجب أن يسمع أكثر مما يقول ، يرى أن ما يفوت بالتأني أخف خطرا وأقل ضررا مما ينجم في الغالب من سوء عاقبة العجلة ووخيم مغبتها .
يسعى في الخير للفرد والجماعة ويجتهد في تحصيل ما يراه محققا للمنفعة دون أن يعلن عن عمله أو يتحدث عن نفسه حديث فخر وإعجاب بما له من محامد ومآثر .
قلت : ومن ثمار هذه المجالس العلمية المباركة ما قام به طلبة الشيخ من تسجيل بعض دروسه ومحاضراته حتى يعم بها النفع وتعظم بها الفائدة وقد قمت بحمد الله وتوفيقه بتفريغ أشرطة هذه الدروس وتلك المحاضرات وقد استغرق ذلك وقتا كبيرا رغبة في نشر العلم النافع إن شاء الله .
وفيما يلي نماذج من هذه الدروس وتلك المحاضرات التي ألقيت في مناسبات مختلفة وفي أماكن متعددة وبعضها في منزل الشيخ وكلها تدور حول بيان بعض مقاصد سور القرآن الكريم ووجوه الإعجاز في هذه السور فضلا عما اشتملت عليه هذه السور من فوائد وآداب وأحكام .
تأملات في سورة الكوثر(1/375)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)
هذه السورة أنزلها الله جل شأنه على رسوله عليه الصلاة والسلام حينما رماه قومه المشركون بأنه أبتر وذلك أن الله جل شأنه ابتلاه في أولاده الذكور فماتوا جميعا فقالوا أنه أبتر لانقطاع نسله وكانوا يعتبرون الذكور هم النسل وهم الأساس وهم العصبة . الذين يحيون ذكراه بعد وفاته . والذين قالوا هذا عدة من كبار المشركين ووجهائهم كأبي لهب والعاص بن وائل وكعب بن الأشرف وغير هؤلاء ، القصد أنهم جملة اتفقت كلمتهم على أن ذكرى رسول الله ( ستموت بموته لأنه لم يعقب ابنا بل ماتوا جميعا فالله سبحانه وتعالى كذبهم في هذا وبشره بأنه قد أعطاه فضلا منه وإحسانا الخير الكثير الذي منه الكوثر الذي أخبر به رسوله ( وورد على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام ذكره في الأحاديث الصحيحة ومنها أحاديث النبوة ومن ذلك ذكره عليه الصلاة والسلام في الأذان والإقامة ، ذكره بالرسالة كذكر الله عز وجل بالوحدانية وأعطاه غير ذلك من الخيرات التي لا تحصى ولا تعد منها ما عجله له في الدنيا من نصر وتأييد وكثرة أتباع وانتشار دينه وبقائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
فكذبهم بما أعطاه من البشريات العديدة العاجلة والآجلة وأمره أن يشكر هذه النعمة بإخلاص العبادة له فلا يصلي إلا له ولا ينسك النسك إلا له وحده لا شريك له ولا يذبح إلا له سبحانه وتعالى مخلصا له قرباته وبين له أيضا أنه إلى جانب هذه البشريات وإلى ما أمره به من الشكر بإخلاص القربات له . فإن أعداءه وخصومه هم البتر الذين تنقطع ذكراهم ويخسرون الدنيا والآخرة وأما البشرى بالخير الكثير فهي في قوله سبحانه وتعالى : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ )(1/376)
والكوثر : هو الخير الكثير ومنه الحوض المورود الذي يعطاه النبي ( يوم القيامة . وأما الشكر على نعمة هذه البشريات التي بشره الله بها فقد تضمنتها الآية الوسطى من هذه الآيات الثلاث ( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) .
وأما النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليه فهي العقوبة التي عاقب بها خصومه من أبي جهل وأبي لهب والعاص بن وائل وكعب بن الأشرف وعقبة بن أبي معيط وأمثالهم من الذين جرت على ألسنتهم الكلمة الرديئة الخبيثة ( وأنه سينقطع ذكره بوفاته ) فذكر الله جل شأنه أن شانئه وأن مبغضه هو الأبتر المنقطع ذكره في الدنيا الخاسر في الدنيا والآخرة فقال : ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) .
فالآيات الثلاث : آية في البشرى بالخير الكثير وآية فيما أوجبه الله عليه من الشكر بالإخلاص في القربات لله سبحانه وتعالى وهي قوله (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ) والآية الثالثة : هي ما أصب به خصومه من انقطاع الذكريات بعد وفاتهم وخسرانهم في الدنيا والآخرة . (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) .
وهذا أمر عام وسنة لله في خلقه ، القائم بالحق ينصره الله وتحيا ذكراه وإن لم يكن له أولاد والذكرى المعتبرة ترجع إلى الإصلاح في الدنيا وإلى السعادة في الآخرة . إصلاح العمل في الدنيا ظاهرا وباطنا عقيدة وعملا بدنياً وسعادة عاجلة وسعادة آجلة .
تفسير سورة الفاتحة
تفسير إجمالي لسورة الفاتحة مع بيان فضائلها
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين . وبعد : يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم :(1/377)
( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
هذه السورة تسمى سورة الفاتحة : وتسمى أم القرآن لاشتمالها على مطالب كثيرة مجملة ، تشتمل على توحيد الأسماء والصفات في مطلبها في الآيات الثلاث الأولى وتشتمل على توحيد العبادة في قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) .
وفي الدعاء الذي في ختام السورة وتشتمل على الولاء والبراء في قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
وهي على قصرها تشمل المطالب التي جاء القرآن بتفصيلها وفي مطلع هذه السورة يعلمنا الله - جل شأنه - كيف نحمده ونثني عليه الثناء كله فقال سبحانه : الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ، ثم علمنا كيف نمجده بقوله سبحانه : مالك يوم الدين ، ثم علمنا أن نخصه بالعبادة لا نصرف منها شيئا إلى غيره سبحانه فنعبده بما شرع ونخلص له في ذلك كما أمرنا سبحانه بقوله : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) .(1/378)
فقال سبحانه معلما لنا أن نقول : إياك نعبد وإياك نستعين . بمعنى أنل لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك ثم علمنا كيف ندعوه ونضرع إليه ونطلب منه ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة وما يصلنا به ويقوي الصلة بين المؤمنين به وكيف نتبرأ ممن حاد عن طريقه فغضب عليه وأضله عن سواء السبيل فأمرنا أن نقول : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّين َ) .
والمغضوب عليهم : هم كل من علم وكان على بينة من أمر دينه وعلى بينة من الحق وبصيرة منه إلا أنه حاد عنه ولم يسلك طريقه فكل من كان على هذا النحو فهو ممن غضب الله عليهم ومن أول هؤلاء اليهود الذين عرفوا الحق وحادوا عنه وقد سئل بعض اليهود عن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بينه وبين جماعته فقال : إنا نعلم أنه رسولا أكثر مما نعرف عن نسبنا لأبينا فنسبه لأبيه قد يكون مدخولا أما البينة الصريحة الصحيحة فهي مثبتة لرسالة نبينا محمد( فهو على بينة من رسالة النبي ( ومعرفته بذلك أقوى من معرفته بنسبه لأبيه : ومع ذلك حاد عن الطريق المستقيم ، هؤلاء الذين كانوا على بينة من الحق ومعرفة به ثم حادوا عنه يقال لهم : المغضوب عليهم ومن الأصليين في هذا اليهود - عليهم لعائن الله - أما الضالون : فهم كل جماعة جهلت الحق وطريق الصواب وكان في أمر عملهما على غير بصيرة من دينها ويمثل هؤلاء النصارى فهم الضالون كما ورد هذا في حديث عن النبي ( بين أن المغضوب عليهم هم اليهود وأن الضالين هم النصارى : وهذا من التمثيل التفسير الجزئي : يعني من باب التمثيل لمن غضب الله عليهم والتمثيل لمن أضلهم الله عن سواء السبيل .(1/379)
الآيات الأخيرة بينت الطائفة التي تجب موالاتها والسير في طريقها ومؤاخاتها : وهم الذين سلكوا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فهؤلاء رفقاء الخير وطريقهم طريق الحق والثواب وهم الذين يجب على المسلم أن يواليهم وأن ينشد طريقهم وأن سبيلهم رجاء أن يرحمه الله جل شأنه في الدنيا ولآخرة .
أما الفريق الثاني فهو الذي يجب البراء منه : وهم الفريق المغضوب عليه والفريق الضال عن سواء السبيل . هؤلاء وهؤلاء هم الذين يجب على المسلم أن يتبرأ منهم عقيدة وعملا وأن يمتليء قلبه بالحنق عليهم والحقد لهم إلا بمقدار ما يدعوهم إلى الحق ويبين لهم الصواب لأن البلاغ واجب ولا بد منه إقامة للحجة حتى يعذر إليهم وحتى لا يكون لهم على الله حجة بعد البلاغ والبيان .(1/380)
هذه السورة جاء في فضلها حديث قدسي وأحاديث نبوية . أما الحديث القدسي الذي قسمها أقساما وأشار إلى معناها إجمالا وبين الكثير من فضلها ومكانتها من الإسلام . فقد قال فيه النبي ( عن ربه : " قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين يريد بالصلاة الفاتحة : قسمت الصلاة أي الفاتحة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى : حمدني عبدي وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : أثنى علي عبدي وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله تعالى هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل " . يريد النصف الأول خطابه تعالى عباده بقوله : إياك نعبد وإياك نستعين ، علمهم أن يقولوا : إياك نعبد فهذا حق الله على عباده ويريد بالنصف الثاني الذي لعبده وإياك نستعين لا نستعين إلا بك فهذا حق العبد على ربه : أن يستجيبه إذا دعاه وأن يحقق رجاءه فيه في حدود مصلحته وما يعود عليه بالخير في الدنيا والآخرة وإذا قال العبد : إهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين : قال الله تعالى : هذه لعبدي ولعبدي ما سأل فسمى الله سبحانه هذه السورة - سورة الفاتحة - سماها الصلاة : إيذانا بأنها ركن من أركان الصلاة ولذلك لا تصح صلاة المسلم إلا إذا قرأ الفاتحة في الجهرية والسرية ، إماما ومنفردا ومأموما ، هذا هو الرأي الصحيح عند فقهاء المسلمين وأئمتهم ، لا تجزىء الصلاة ولا تصح من المصلى إذا لم يقرأ فيها فاتحة الكتاب فإن الله - جل شأنه - سماها الصلاة فجعلها نفس الصلاة إيذانا منه سبحانه بأن لها شأنها في إقام الصلاة وإجزائها .(1/381)
هذه السورة فيها إثبات لأسماء الله وصفاته وإلى ذلكم الإشارة في الآيات الأولى . فقد سمي الله نفسه باسمه الذي لا يسمى به غيره وهو كلمة الله ثم وصف لفظ الجلالة وصفه بأنه الرب ، رب العالمين جميعا : الملائكة والإنس والجن وسائر المخلوقات والجمادات من سموات وأرضين جميعا ثم وصف نفسه بأنه الرحمن الرحيم وسمى نفسه بذلك ثم وصف نفسه سبحانه بأنه مالك يوم الدين ويوم الدين هو يوم القيامة فكما ملك الدنيا وصرفها ودبرها على مقتضى حكمته وعلى وفق علمه سبحانه وتعالى ملك الآخرة - وهي دار الجزاء ليجزي فيها كل نفس بما عملت من خير أو شر فهذا فيه إشارة إجمالية إلى صفات الجلال والكمال التي وصف الله تعالى نفسه بها ثم ذكر حق عباده عليه وحقه على عباده ثم ختم السورة بالولاء والبراء ليبين لنا من يجب علينا أن نواليه وأن نؤاخيه ومن يجب علينا أن نعاديه وأن نتنكب طريقه فإنه طريق السوء والشر وطريق الهلاك والنار
هذه السورة ورد في فضلها عن النبي ( أنه دخل المسجد يوما ما ، فوجد أبا سعيد بن المعلا يصلي نافلة فنادى ، فحار أبو سعيد بن المعلا هل يجيبه أو يستمر في صلاته ؟ وغلب جانب الارستمرار في صلاته طاعة لله - جل شأنه - وإيثار لجانبه ولما أنتهى من صلاته جاء إلى النبي ( استجابة لندائه وإن كان بعد فترة فقال له : " يا أبا سعيد ألم أنادك ألم أدعك ؟ " فقال : بلى . . ولكني كنت أصلي ، قال له : " إن الله تعالى قال في محكم كتابه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُم ) .(1/382)
فبين له أنه كان يجب أن يجيب النبي ( ولكنه آثر جانب الاستمرار في صلاته اجتهادا منه فله الأجر عند الله على عمله واجتهاده ثم قال له : " يا أبا سعيد لأعلمنك سورة من القرآن هي أفضل القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم " ثم سكت النبي ( ولم يعلمه : لم يعجل بتعليمه السورة وأخذ في طريقه إلى باب المسجد فلما كان عند\ باب المسجد قال له أبو سعيد : ألم تقل لأعلمنك سورة هي كذا وهي كذا ؟ فقال : " بلى " ثم قال له : " هي سورة الفاتحة " وقرأ قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) .
وهذا من عطف العام على الخاص ويدخل فيه سورة الفاتحة فهي بعض آيات القرآن ، هي سبع آيات من آيات القرآن : فهي داخلة في قوله تعالى : (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وهي أفضل القران فهذا بيان من النبي ( لفضل الفاتحة ومكانتها عند الله - جل شأ،ه - مع كونها كلام الله وكلام الله خير الكلام وفضل كلام الله على كلام البشر كفضل الله على عباده وشتان ما بين الله وبين عباده ، فالفرق شاسع وكذلكم الفضل ، الفضل الواسع ولا يقدر قدره إلا الله ، كما لا يقدر قدر الله إلا الله فلا يقدر قدر كلامه إلا هو ولا يقدرر قدر الفاتحة خاصة إلا الذي تكلم بها وأنزلها على رسوله ( فهذا من فضائل الفاتحة التي بينها الرسول( كمابين فضلها الله سبحانه في الحديث القدسي الذي سبق ذكره ومما جاء في فضل الفاتحة والانتفاع بها الرقية بها حتى لو كان من رقي بها كافرا فقد ثبت في الحديث الذي رواه البخاري أن سرية من سرايا النبي ( طائفة أرسلها الرسول ((1/383)
في مهمة فنزلت في طريقها على قوم من الكفار عتاة فاستضافوهم فأبى أولئك الكفار أ، يضيفوا صحابة رسول الله( لما بينهم وبين أولئك الصحابة من العداوة والبغضاء . وما في قلب الإنسان يظهر في أعمالع وعلى جوارحه وفي فلتات لسانه فهؤلاء قابلوا استضافة الصحابة رضي الله عنهم لهم بالبخل وبالتنكر لهم فذهب عنهم صحابة رسول الله ( . وجزاء لهم على موقفهم السيء من الصحابة رضوان الله عليهم أن سلط على سيدهم حشرة لدغتهم فطلبوا له العلاج بكل ما يستطيعون فلم يفلحوا واضطروا أن يذهبوا إلى صحابة رسول الله ( في منزلهم الذي نزلوا فيه ليستعينوا بهم على علاج لديغهم وقالوا لهم القصة : إنا طلبنا له العلاج في كل شيء فلم نصل إلى شيء فهل عندكم من علاج ؟ فقال أبو سعيد الخدري وهو أصغرهم سناً ومع صغر سنه كان يحفظ الكثير من القرآ، . قال : والله إن عندي له علاجا ولكني لست بفاعل حتى تجعلوا لنا جعلا فإنا استضفناكم فلم تضيفونا فجعلوا لهم جعلا على أن يأتي أبو سعيد إليه ليقوم بعلاجه - والشفاء بيد الله لا بيد أبي سعيد الخدري ، ذهب معه إلى اللديغ وقرأ عليه سورة الفاتحة قرأها مرة ، فقام كأنما هو جمل نشط من عقال كأنما هو جمل حل عقاله والجمل معروف عنه ، إذا حل عقاله لو كان أقوى رجل دفعه بصدره فوقع على ظهره ، قام هذا اللديغ بعدما كان به من مرض كأنه جمل حل عقاله وليس به بأس ، كأنه لم يلدغ ، فأعطوه الجعل وكان قطيعا من الغنم وكان يكفي الصحابة وحدات قليلة من الغنم لكن رزقهم الله هذا الرزق الواسع فأكلوا ثم ارتابوا وقالوا فيما بينهم : قد يكون هذا غير عنهم التحري للكسب الحلال ، عرف فيهم الصلاح وتقوى الله سبحانه فقالوا : لا نأكل أحجموا عن الأكل حتى نسأل رسول الله ( فلما رجعوا سألوه فقال لأبي سعيد : " ما يدريك أنها رقية ؟ " فقال : شيء ألقاه الله في ورعي ، الروع القلب والروع - بالفتح - الخوف فإبراهيم لما جاءته الملائكة وأوجس خيفة منهم(1/384)
أخذه روع وأخذته المخافة ثم ذهب عنه الروع . لما عرف حقيقة الأمر ، القصد أن الروع الخوف والروع هو القلب فقال أبو سعيد : هذا شيء ألأقاه الله في روعي وهذا مثل ما يلقى في قلب بعض الطيبين فقال أبو السعيد : هذا شيء ألقاه الله في ورعي وهذا مثل ما يلقى في قلب الطيبين مجيء فلان من السفر ، إحساس باطني لا فيد اليقين ، لكنه يدفع الإنسان إلى أن يتحدث عما جال في خاطره وإن كان لا يسمى علما لكنه هواجس وخواطر تجول في صدره ولا يسمى علم الغيب ، فالرسول ( قال لهم جوابا عن سؤالهم : هل هذا من الكسب الحلال أو الكسب الحرام ؟ قال : " إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله " يريد بهذا أن العلاج قد يكون بالكي وقد يكون بسحب السم من اللديغ من المكان الذي لدغ فيه وسحب السم منه بشرط جلده ويخرج الدم أو يمتص طبيا وقد يكون برقية وقد يكون بدعوة له ، أنواع كثيرة ، فقراء الرقية بقراءة القرآن التي ترتب عليها الشفاء لصاحبها أحق بالأجر من الشخص الذي يعالج علاجا ماديا - دكتوراً أو غيره . فهذا بيان من النبي( لمشروعية الرقية بالفاتحة وهذا بيان لنتيجة الرقية بها شفاء هذا وإن كان كافرا وليس المراد بهذا الحديث أن يأخذ الإنسان أجرا على تلاوة القران مثل الصييت أو أن يأخذ أجرا يأخذ الإنسان أجرا على قراءة القرآن على الأموات فإن هذا لم يفعله الرسول ( وهو معلم البشر وهو المبلغ عن الله عز وجل فقراءة القرآن على الأموات رجاء أن يرحمهم الله بدعة من البدع . وأخذ أجر على مجرد تلاوة القرآن أيضا لا يجوز والذين أعطوا الصحابة قطيعا من الغنم ما أعطوهم إياه حبا للقرآن أو محبا فيه أو حبا للقاريء وللمسلمين وللإسلام ، بل القرآن أبغض إليهم من كل شيء ورسولهم أبغض إليهم من كل شيء ومع ذلك دفعوا الأجر فالأجر ليس للتلاوة : إنما هو للعلاج ولما تم بعده من الشفاء فهم جاعلوه على الشفاء لا على التلاوة وعلى هذا دفعوا الأجر فالاستدلال بهذه الجملة من(1/385)
الحديث على جواز تلاوة القرآن وأخذ أجر عليه لإسماع الناس التلاوة أو القرآن ، الاستدلال بها على هذا لا يجوز ولا يصح وهو من تحريف الكلم عن مواضعه وهذا من فوائد هذا الحديث إلى جانب الفائدة الجليلة التي بينها النبي( بين بها منزلة القرآن ومكانته من غيره من القربات ، بل مكانتها من سائر القرآن ، هذا بيان لجانب آخر من جوانب فضيلة سورة الفاتحة وأن من فضيلتها أنها جعلت فرضا في كل ركعة من ركعات الصلاة بخلاف السورة التي بعدها فإنها من سنن الصلاة ، لو تركها الإنسان تكون صلاته صحيحة أما الفاتحة فلو تركها فصلاته باطلة والقرآن كله خير وفضله على كلام البشر كفضل الله على عباده .
وأسأل الله جل شأنه أن يبصرنا بديننا وأن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا وأن يجعله غذاء لأرواحنا وأن يجعله مصدر تشريعنا - يستميل إليه حتى لا نحكم سواه وسوى سنة رسول الله ( فإن من أخذ بهما أخذ بالحق وكان على بينة وبصيرة من أمر دينه مع ربه ومع المخلوقات وكان حبيبا لله في الدنيا والآخرة سعيدا في دنياه وفي آخرته .
والحمد لله رب العالمين .
من وحي قصص القرآن الكريم
قصة يوسف عليه الصلاة والسلام
بين سبحانه لرسوله محمد ( في كثير من قصص القرآن الطريقة المثلى التي يثبت بها رسالته ويحاج بها أمته . وأرشده إلى كون ذلك القصص آية بينة توجب عليهم أن يستجيبوا لما دعاهم إليه من التصديق برسالته والإيمان بسائر ما جاءهم به من عند الله .
من ذلك قصة يوسف عليه الصلاة والسلام . إن هذه القصة فيها كثير من العجائب والعبر والعظات والأحكام والأخلاق وألوان الابتلاء والامتحان والفضل والإحسان . والذي أقصد إليه من مباحثها أمرين لمزيد اتصالهما بما أنا بصدد الكلام عنه ، الأول : كيف كانت هذه القصة معجزة لرسول الله محمد ( . الثاني : كيف كانت هذه القصة دليلا على أن الله يعد رسله في حياتهم الأولى قبل الرسالة لتحمل أعبائها حين إرسالهم إلى أممهم .(1/386)
أما الأول : فإنه تعالى ذكر قصة يوسف عليه الصلاة والسلام في القرآن مفصلة لتكون آية بل آيات على نبوة رسوله محمد ( وبيان ذلك أنه كان أميا لم يقرأ شيئا من كتب الأولين ولا درس شيئا من تاريخهم ولا خط من ذلك شيئا بيمينه حتى يرتاب في أمره ويتهم بأنه تكلم بما قرأ أو درس قال تعالى : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) .
بل كان من الغافلين عن قصة يوسف وأمثالها لم تخطر له ببال ولم تقرع له سمعا قبل أن يوحي الله بها إليه ويذكرها له في محكم كتابه قال تعالى في مطلع سورة يوسف : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) .
وقال بعد ذكر يوسف لرؤياه وعرضها على أبيه ووصية أبيه له : ( لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ) .
ولم تكن قصة يوسف بالأمر الذي اشتهر في العرب وتناولوه بالحديث فيما بينهم بل كانت غيبا بالنسبة إليهم ولا كان محمد مع يوسف وأخوته ولا شهد مكرهم به ولا كيدهم له فيتهم بأنه تكلم بأمر شهده أو انتشر بين قومه قال تعالى لنبيه محمد في ختام قصة يوسف عليهما الصلاة والسلام : ( ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ).(1/387)
ولا يسع أحد أن يقول إنه عرف تفاصيل القصة من اليهود . فإن السورة مكية واليهود كانوا يعيشون بالشام والمدينة وما حولها . ولم يعرف عنه أنه اتصل بهم قبل الهجرة ولا دارسهم شيئا من العلوم . ولو كان تم شيء من ذلك لانكشف أمره لطول العهد وكثرة الخصوم وحرج قومه من دعوته وسعيهم جهدهم في الكيد له والصد عنه وحرصهم على تشويه سمعته والقضاء عليه وعلى دعوته حتى رموه بالسحر والكهانة والجنون واتهموه زورا بالكذب وهو في قرارة أنفسهم الصادق الأمين . وتبادلوا الرأي فيما يوقعونه به من حبسه أو طرده من بيتهم وتشريده وانتهى أمرهم بالاتفاق على قتله فأنجاه الله من كيدهم وكتب له الهجرة إلى المدينة حيث عز الإسلام وقامت دولته . قال تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) .
فقوم هذا شأنهم معه لا يخفي عليهم أمره وهو يعيش بين أظهرهم وهم له بالمرصاد . فلو وجدوا سبيلا إلى الطعن عليه باتصاله باليهود والأخذ عنهم لسارعوا إلى فضيحتة والتشنيع عليه بذلك ولم يضطروا إلى الإفتراء عليه ولا إلى التفكير في قتله أو تشريده ولا إلى نشوب الحرب بينه وبينهم سنين طويلة ولم يلجئوا إلى اتهامه تهمة تحمل ردها في طيها فقد اتهموه برجل أعجمي بمكة وادعوا أنه يعلمه فسفه الله أحلامهم وألقمهم الحجر قال تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) .(1/388)
وليست قصة يوسف خبرا مقتضبا عبر عنه بالجملة أو الجملتين فيقال : إن صدقة في الحديث عنها وليد الصدفة والاتفاق . بل هي قصة كثيرة العجائب متشعبة الموضوعات . وقعت بين أطراف مختلفة في أزمان متباعدة . فمن رؤيا صادقة إلى مؤامرة ثم نجاة يتبعها بيع ثم إيواء . إلى مراودة يتبعها هم ثم عصمة من الفحشاء . إلى سجن فيه دعوة إلى التوحيد مع رفق وحسن سياسة وتأويل للرؤيا أصدق تأويل ، يتبع ذلك خروجه عليه السلام من السجن بريئا من التهمة وتوليه شؤون الدولة واجتماع إخوته به مع معرفته لهم وإنكارهم إياه وما أكثر ما دار بينه وبينهم من الأحاديث وما جرى من الأحداث . إلى أن انتهى ذلك بتعريفه لهم بنفسه وعفوه عنهم وحضور أبويه إليه على خير حال إلى غير ذلك من التفاصيل التي يعرفها البصير بكتاب الله . وقد سيقت القصة مفصلة في جميع نواحيها مستوفاة في جميع فصولها في أدق عبارة وأحكم أسلوب .
أفيعقل بعد ذلك أن يقال : إن صدقه( فيما سرده من قضايا ووقائعها وعجائبها على هذا النهج الواضح والطريق السوي وليد الصدفة والاتفاق !!.(1/389)
ختم سبحانه سورة يوسف بمثل ما بدأها به من الإرشاد إجمالا إلى القصد الذي من أجله سيقت القصة وهو أن تكون آية على نبوة محمد( وصدقه فيما جاء به من التشريع وأ، قصة يوسف ونحوها مما نزل به الوحي مستقى من المشكاة التي أخذ منها الأنبياء فليس حديثا مفتري ولكنه تصديق لما بين يديه من كتب المرسلين وتفصيل لما يحتاج إليه المكلفون من التشريع في معاشهم ومعادهم . وجماع الهداية والرحمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . أفيمكن أن تكون هذه القيادة الرشيدة بهذا التشريع المستقيم من لإنسان أمي عاش في أمة أمية من عند نفسه دون وحي من الله . كلا إنها العناية الربانية والرسالة ليكون رحمة للعالمين ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
وأما الثاني : فإن في تفاصيل القصة كثيرا من الأسرار والعجائب التي يعد الله بها رسله ويهيء بها رسله ويهيء بها أنبياؤه لقيادة الأمم وسياسة الشعوب من أخلاق سامية وآداب عالية وحكمة بالغة وقوة عزيمة وعقائد صحيحة وبيان ذلك من وجوه كثيرة .
أ - منها صفاء روح يوسف ونقاء سريرته وهذا واضح من الرؤيا الصادقة التي رآها في صغر سنه وأول نشأته فتحقق تأويلها بسجود أبويه وإخوته له في كبر سنه وختام حياته (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) .
وقال : ( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) .(1/390)
ب - ومنها ما خصه الله به من الميزات التي زادت تعلق والده به وحبه له وحملت أخوته على التآمر عليه والكيد له فأشار بعضهم بقتله ليخلو لهم وجه أبيهم وتطيب لهم الحياة مع أبيهم من بعده . ورأى آخرون إن في إبعاده عن أبيه الكفاية فلما أجمعوا أأمرهم على ذلك ورموه في غيابة الجب ، أوحى الله إليه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .
إيناسا له وإزاحة للغمة عن نفسه وهيأ له من أخرجه من البئر لكنهم باعوه بثمن بخس دارهم معدودة . فرعاه الله وجعله عند من يكرم مثواه ومكن له في الأرض وعلمه من تأويل الأحاديث ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
ج - ومنها عفة فرجه ونزاهة نفسه مع توافر دواعي الشهوة وتهيء أسباب الجريمة من دوام الخلوة ومزيد الخلطة ودعوة امرأة العزيز له ومراودتها له عن نفسه وأخذها الحيطة في إغلاق الأبواب . قال تعالى :(1/391)
( وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ) .
لقد كان يوسف عليه السلام من المخلصين لله . فاستعاذ به ولجأ إليه وفزع إلى من بيده مقاليد الأمور والقلوب يصرفها كيف يشاء وتبرأ من حوله وقوته إلى حول الله وقوته واستقبح أن يقابل جميل من أحسن مثواه بخيانته في عرضه وذكر ما يصيب الظالمين في العواقب من الخسارة والدمار ولم يأبه بالسجن والوعيد بالأذى إن لم يكن عند رغبتها ويحقق لها ما تريد .
( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(1/392)
ثم قص الله على رسوله( خبر يوسف مع صاحبيه في السجن فقال تعالى :
( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَان ِ) .(1/393)
فانظر إلى سلامة فطرته وصحة عقيدته وتناسيه البلاء وذكره لأسلافه وأجداده الطاهرين المصلحين ، إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ليتخذ منهم قدوة له في التوحيد والدعوة إليه والحذر من الشرك وبيان فساده بالأدلة والبرهان . وأنظر إلى كرم خلقه مع صاحبيه حتى شهدا له بالمعرفة والفضل والإحسان وإلى حسن سياسته معهم في الدعوة إلى الله حيث انتهز حاجتهم إلى تأويل ما رأياه فعرفهم بنفسه وبين لهم مكانته ليقبل منه قوله وينتفع بنصحه فدعاهما إلى التوحيد وزينه وحذرهما من الشرك وفبحه وإيثاره ذلك على ما سألاه عنه دون تضييع لما تعلقت به نفوسهما من تأويل الرؤيا ولا مجابهة بالمكروه لمن دلت رؤياه على سوء عاقبته ، بل أبهم الأمر فقال : أما أحدكما فيسقى ربه خمراً وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه . وقد حقق الله ما قال فصار كل منهما إلى ما ذكره له في تأويل رؤياه .
د - ومنها أن يوسف مع ثقته بربه وتوكله عليه ، أراد أن يأخذ بأسباب الخلاص مما أصابه من البلاء وليس في ذلك ما يعيبه أو يغض من توكله على الله فإنه قد زج به في السجن ظلما وعدوانا بشهادة خصومه . ودفع الظلم مشروع بل قد يكون واجبا ( وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ) .
ولكن الله أراد أن يزيده تمحيصا وصدقا في التوكل عليه وحده وقوة في الصبر على البلاء فأنسى الشيطان ذلك الفتى أن يذكر يوسف لربه بالخير فلبث في السجن بضع سنين . ثم اختار الله له طريقا إلى الخلاص خيرا من الطريق التي رسمها لنفسه كما سيأتي بيانه .(1/394)
ه - ومنها إن الله سبحانه شاء أن تكون نجاته بما آتا من العلم والحكمة وبما علمه من تأويل الأحاديث ، لا بشفاعة أحد ولحاجة الأمة راعيها ورعيتها إليه دون حاجته إليهم ، ليكون ذلك أكرم لنفسه وأعز لها ولئلا يكون لأحد عليه سوى الله منة فهيأ له السبيل لذلك ورأى ملك مصر رؤيا هاله أمرها وعجز إشراف قومه عن تعبيرها ( وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ * قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ) .
ولما أنتهى أمر الرؤيا إلى يوسف أولها أصدق تأويل وبين أنها كشفت للأمة عن مستقبلها في رخائها وشدتها أربع عشرة سنة ( قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) .
فأخذ ذلك التعبير من قلب الملك مأخذه ولم يسمعه إلا أن يرسل بإحضار يوسف إليه فأبى حتى ينظر في قضيته مع النسوة . فإنه قد زج به في السجن من أجلهن ( قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) .(1/395)
ففعل الملك وظهرت براءة يوسف ( قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ) .
ولما طلبه الملك بعد ذلك وحضر عنده (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
ثقة منه بنفسه وعلما منه بأنه ليس في الأمة من يصلح لتدبير شؤون الدولة الاقتصادية وتصريف أمورها علةى وجه يحفظ كيانها سواه فطلب ذلك لمصلحة الأمة لا لحظ نفسه فاستجاب له الملك لعلمه وصدقه وأمانته وأتم الله ليوسف ما شاء من نعمته ( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) .
وبذلك يتبين أن الله محص يوسف ورعاه بتتابع البلاء والإنجاء .
ابتلاه بكيد إخوته له ورميهم إياه في الجب ثم أنجاه . وابتلاه ببيع السيارة له ثم هيأ له من أحسن مثواه . ابتلاه بتسليط امرأة العزيز عليه وبالنسوة اللاتي قطعن أيديهن ثم عصمه وحماه وابتلاه بالسجن ثم أخرجه منه بريئا من التهمة عليما بربه وبشؤون الأمة في وقت اشتدت فيه حاجة البلاد إلى حفيظ عليم يدبر أمرها ويقودها في حياتها خير قيادة فتولى أمرها واستسلم له أهلها . وفي قصة يوسف سوى ما ذكر شيء كثير يدل على أن الله سبحانه تعهد يوسف برعايته وتولاه في أطوار حياته ليتخذه رسولا يضطلع بأعباء الرسالة . وليجعل من سيرته الحميدة آيات بينات على صدقه فيما جاء به وأمانته في البلاغ عن رب العالمين .
قصة موسى عليه الصلاة والسلام(1/396)
ذكر الله سبحانه وتعالى في أول سورة القصص بيانا عن نشأة موسى عليه الصلاة والسلام وحاله قبل الرسالة وأتبع ذلك بيانا عن رسالته إلى أن أنجاه ومن آمن معه وأهلك أعداءه ، ليكون ذلك القصص في جملته آية على نبوة محمد( وصدقه فيما أنزل عليه من الوحي ودعا إليه أمته كما يرشدنا إلى ذلك بقوله تعالى في مطلع السورة : ( تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
وقوله تعالى : عند إنتهاء ما أراد ذكره من القصة : ( وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ )
أما ما ذكر في هذه السورة من تفاصيل القصة فآيات بينات تدل على كمال رعاية الله لموسى عليه الصلاة والسلام ، في جميع شؤونه : في رضاعته وكفالته وعلمه وحكمته وإعداده بالقوة والأخلاق الفاضلة من نصرة المظلوم وإعانة الضعيف وعزة النفس وصدق التوكل على الله والأمانة وحسن المعاملة ، ليكون رسولا ينقذ به - سبحانه - الشعوب من الاستعباد ويخلصها من الطغيان والاستبداد ويهدي به القلوب وينير به البصائر وإليك شيئا من تفصيلها ترى منه ما ذكرت :
1- قدم الله بين يدي هذه القصة جملة من الآيات بين فيها سنته العادلة وحكمته البالغة في القضاء على من علا في الأرض وأفسد فيها . ومنة على المستضعفين والتمكين لهم وإدالتهم من عدوهم ، فضلا منه ورحمة والله عليم حكيم . (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) .
ثم فصل ذلك فيما ذكره بعد من القصة .(1/397)
2 - ولد موسى بن عمران عليه السلام في مصر وكان ملكها إذ ذلك جبارا جائرا يقتل ذكران بني إسرائيل ويستحي نساءهم فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في اليم إذا خافت عليه من فرعون وجنوده ووعدها وعدا صادقا أن يرده إليها ففعلت وأنجاه الله والتقطه آل فرعون وتداولوا الرأي فيه .
وعند ذلك مر موسى بطور آخر من أطوار الخطر ثم كتب الله أن ينتهي بهم التفكير في أمره إلى أن يتخذه الفرعون ولدا وأن ينشأ في بيت ملك يتربى فيه على العزة وشدة البأس وقوة العزم والأخذ بالحزم ولا يصاب بما أصيب به قومه من العذاب والذل والهوان .
وبذلك يصلح لحمل أعباء الرسالة . ومواجهة فرعون في جبروته وطغيانه
ثم أولاه الله نعمة أخرى فكتب عليه ألا يرضع إلا من أمه حتى اضطر فرعون ومن معه إلى أن يردوه إلى أمه وهم لا يشعرون وبهذا التدبير الحكيم واللطف الخفي أنجز الله لأم موسى وعده . فرجع إليها ولدها لتكفله ويتمتع بعطفها وينعم بحنانها وتقر به عيناها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق .
3- هذه الحلقة من حياة موسى كلها عبر وآيات : منها :
إن الله سبحانه وتعالى جعل نجاته مما أصاب غيره من أبناء قومه فيما يراه الناس دمارا وإلقاء بالنفس إلى التهلكة .
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .
ومنها : أنه سبحانه وتعالى كتب لموسى الحياة السعيدة في بيت من يخشى عليه منه ، فعاش بين أظهرهم عيشة الملوك .
(وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) .(1/398)
ومنها : أن الله حرم عليه تحريما كونيا أن يرضع من امراة سوى امه فكان ذلك فيما يرى الناس ، بلاء اصابه وهو في الأمر نفسه كمال اللطف من الله والرحمة بموسى ليرجعه إلى أمه وهم لا يشعرون فاجتمع له إلى السلامة والنجاة عطف الأمهات وعز الملوك .
()وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (القصص:13)
ومنها : حفظ الله سبحانه وتعالى على موسى صفاء روحه وسلامة فطرته فمع أنه عاش في بيت ملك واوساط ظلم وطغيان فإنه لم يتأثر بما تأثر به من قضى ايامه الأولفى من حياته في بيئة إستشرى فيها الفساد وطبعت بطابع الجبروت والاستبداد ولم يصب بما يصاب به أبناء الملوك ومن يتقلب في النعمة ورغد العيش حين تهمل تربيته من جهل ومن استهتار أو رخاوة وخلاعة ومجون بل صانه الله من كل ما يشينه وآتاه العلم النافع والحكمة البالغة وسداد الرأي كما حفظ عليه نعمته من قبل في بدنه .
()وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:22)
4- جبل الله نبيه موسى على الحزم والأخذ بقوة في نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم وذلك يتجلى في الخصومة التي كانت بين إسرائيلي وفرعوني فإن موسى لم يلبث أن أغاث من اشتغاث به فوكز القبطي فقضى عليه اقامة للعدل وانصافا للمظلوم كما طبعه على الرفق بالضعيف والعطف عليه ومد يد العون إليه ويتجلى ذلك منه في قوله تعالى :(1/399)
()وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) .
فجمع له بين شدة البطش على الظالمين وكمال الرفق .
5- كان من آثار عناية الله بموسى ورعايته له أنه قوى فيه الوعي الديني واستحكمت الصلة بينه وبين ربه . فأحب ما يحبه الله من العدل والإنصاف وكره ما يبغضه الله من الظلم والعدوان لذلك فزع إلى ربه واعترف بظلمه لنفسه حينما قضى القبطي نحبه من وكزته واسرع إلى الاستغفار لله تعالى من ذنبه .
()قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * لَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) .
وفاض قلبه ايمانا بالله فعظمت ثقته وتوكله عليه لذلك قصد إليه وحده في غربته وحيرته رجاء أن يهديه سواء السبيل .
()وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ) (القصص:22)
ولما استبدت به الحاجة واخذ منه الرجوع مأخذه توجه إلى ربه فسأله من فضله فأبت عليه عزة نفسه إن يشكو حاجته لغيره او يعرض لمن سقى لهما بطلب الأجر
()فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) (القصص:24)(1/400)
وقد استجاب الله دعاءه . وهيأ له بيئة صالحة يحيا فيها حياة طيبة فقد عرض عليه شعيب لما عرفه عنه من القوة والامانة إن يزوجه احدى ابنتيه على إن يرعى له الغنم ثماني حجج وان اتم عشر سنوات كان ذلك مكرمة منه فالتزم موسى بذلك ولم يمنعه ما كان فيه اولا من رغد العيش وحياة الملوك إن يكون اجيرا يأكل ويتزوج من كسب يده وأشهد ربه على ذلك :
()قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:28)
وقد ثبت أنه أتم أبعد الأجلين .
فهذه سلسلة من حياة موسى عليه السلام قبل الرسالة تضمنت شيئا من مما حباه الله به من العلم والحكمة والمروءة والنجدة ونصرة المظلوم والأخهذ على يد الظالم والعطف على الضعيف وقوة الإيمان بالله والصدق في الاتجاء إليه والتوكل عليه والتواضع مع عزة النفس وغير ذلك من مكارم الاخلاق التي يعد بها الله من اختاره للرسالة وقيادة الأمم .
6- سئل من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسله معه ليكون عونا له في الحجاج وخاف إن يبطش بهما فرعون وجنوده وان يقتلوا موسى بالقبطي الذي سبق إن قتله فقال الله له :
()قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) (طه:46)
وجعلف لهما سلطانا من الآيات تقوم به الحجة وتنخلع به قلوب الجبارين وتمتليء بالوهن والضعف وبذلك يثبت موسى في ميدان الدعوة إلى الله فبات واثقا بربه مؤمنا بما يدعو إليه من الهدى والنور وتجلى في حجاجة صولة الحق واحس في نفسه بالعزة والقوة وبذلك ذل جبروت فرعون وتلاشى عند تألهه وتعاليه ولم يعد يملك لموسى من الكيد الا إن يرعد ويبرق ويموه ويخدع .
()وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر:26)(1/401)
ولم يكن ليأخذ على يديه احد ولا هناك من الاسباب الداعية ما يمنعه من إن يبطش بموسى فإن الدولة دولته والجنود دجنوده لكنها عهناية الله برسوله وما آتاه وسلطان قد بهر فرعون وقطع نياط قلبه ولم يملك - ايضا - ملأ فرعون سوى إن يسيروا حفيظته ويغروه بموسى ومن آمن به :
()وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (لأعراف:127)
افلا يرى العاقل إن موسى وهو وحيد غريب وقومه مستعبدون لم يقف هذا الموقف من فرعون وملئه . والدولة دولتهم الا وهو مؤيد من ربه صادق في دعوته وإن هذا لهو الحق المبين .
7- جرت سنة الله العادلة إن يفتح بالحق بين رسله ومن آمن بهم من الامم ومن سار سيرهم ويجعلهم خلفاء الارض ويهلك من كذب بهم وانحرف6 عن طريقهم ليكون ذلك من آيات الله التي يفصل بها بين الصادق والكاذب والحق والباطل والشريعة والقوانين الجائرة .
()إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51)
()وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) (القصص:37)
()قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * ُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (لأعراف:129)
وهذا هو ما انتهى به امر موسى وقومه مع فرعون ومثله .(1/402)
()فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) .
()فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * َزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * َنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * َّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) .
فانظر كيف اتحدت وسيلة النجاة للأولياء والهلاك للأعداء إنها آية الله الباهرة لقد اهلك فرعون وجنده بما جعله طريقا لنجاة موسى وقومه هذا إلى جانب انفلاق البحر وتماسك مائة وخروجه عن طريق السيلان بضربة عصا .
وفي قصص موسى من الآيات سوى ذلك ما يبهر العقول ويأخذ بمجامع القلوب ولا يدع مجالا للريب وقولا لقائل الا من سفه نفسه وسعى في هلاكها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل .
****************************
نماذج من مقاصد
بعض السور القرآن الكريم
ــــــــــــــ
هذه سورة من سور القرآن الكريم ومنها يتضح وحدة السورة والمقصد الذي تدور آيات هذه السورة حوله من اجل هذا البيت أحببت إن اتكلم عن نماذج من مقاصد بعض السور تكون فاتحة لبعض معرفة مقاصد السور وتكون معينة للإنسان على فهم المحور الذي تدور عليه احكام السورة واخترت لهذا : اولا سورة العقود وثانيا سورة الأحزاب وان اتسع الوقت فإلى جانب هذا سورة الصافات او اخرى اقصر منها .
يذكر الله جل شأنه في مطلع سورة العقود هذه الآية :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة:1)(1/403)
هذه الآية تشير اشارة واضحة إلى ما تدور حوله الآيات وتدور حوله الأحكام التي تضمنتها هذه السورة فالله يأمرنا في هذه الآية بالوفاء بالعقود والعقود المواثيق والعهود كلها ترجع إلى معنى واحد هو الاتفاق الذي يكون بين العبد وربه ميثاق يأخذه الله جل شأنه على عبده وتكون للاتفاقات التي تجري بين انسان وآخر في بيع وشراء في مواعيد في جهاد وحروب في امر بالمعروف ونهي عن المنكر فكلمة العقود كلمة جامعة عامة شاملة تشمل كل الاتفاقات التي تكون فيما بين العباد على خير وتشمل ما أخذه الله جل شأنه على عبادة من عهود التكاليف التي كلف بها خلقه وما سيأتي في السورة يدور حول هذا ، كل ما في السورة من التفاصيل دائر حول قوله تعالى :
() أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: من الآية1)
وحول مذمة من نقض العقود وجزاء من وفى وجزاء من نقض وخان ويتبين هذا بالتفاصيل الآتية أو بذكر شيء من التفاصيل الآتية بقوله تعالى في الاية الثانية من هذه السورة :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) .(1/404)
فهذه الاية فيها عقد عهد وميثاق على المسلمين بعد أن تمكنوا في الارض وصارت لهم دولة وبعد إن اكمل الله لهم دينهم واتم عليهم نعمته وصاروا لهم دولة وبعد انهاكمل الله لهم واتم عليهم نعمته وصاروا بإمكانهم إن يثأروا لأنفسهم وان ينتقموا ممن سبب لهم اذى يأخذ الله تعالى عليهم إن لا يقابلوا السيئة بالسيئة وان لا يعتدوا على القاصدين لبيت الله الحرام إلى غير هذا مما ذكره الله في هذه الآية وخاصة ما تحدث العبد به نفسه من إن يثأر لنفسه ممن ارتكب جريمة في شأنه واعتدى عليه في سابق حياته يبين الله جل شأنه في العهد الذي اخذه على عباده الموحدين انه لا ينبغي لهم إن يحملوا ما سبق من تالكفار من صدهم المسلمين في السنة السادسة من الهجرة عن بيت الله الحرام ومن موقفهم السيء مع المسلمين سنة الفتح عند دخول مكة يبين لهم أنه لا ينبغي إن يحملهم ما سبق من اولئكم الكافرين على إن يعتدوا على الكافرين وان يثأروا لأنفسهم منهم وليجعلوا نعمة الله بإقدارهم لهم على الانتقام من عدوهم ونعمة الله لهم بتمكينه اياهم من رقاب خصومهم سببا في شكر نعمة الله جل شأنه على هذا الإقدار بالعفو عن اولئك الذين سبقت منهم السيئات بعد إن تمكن المسلم من اقامة العدل فلا يراعي حظ نفسه بل يقف موقفا يرضى به ربه ويتألف به قلوب من سبقت منهم اساءة له فيقول تعالى :
() وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ)(المائدة: من الآية2)
لا تحملكم عداوة قوم إن صدوركم عن المسجد الحرام ات تعدوا ثم امرهم بأن يتعاونوا عموما على البر والتقوى وحذرهم من إن يتعاونوا على الإثم والعدوان وحذرهم شديد بأسه واليم عقابه إن هم نقضوا عهده وخانوا ما اخذه عليهم من هذا التكليف وامثاله فيشتد بهم بأسه حذرهم في ذلك بقوله سبحانه :
() وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(المائدة: من الآية2)
ثم بين لهم تفصيل اشياء مما حرم عليهم واستثنى من هذا اشياء فقال :(1/405)
()حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) إلى قوله : () وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) .
فكان هذا تفسيرا لقوله تعالى : () أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ)(المائدة: من الآية1)
فالاية الاولى اجمال وهذه الاية :
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) . إلى اخرها
فيهما تفصيل او بعض التفصيل لما اجمل في الآية الأولى فهذا من الأدب أو من المقاصد التي اشتملت عليها الآية الأولى من هذه السورة ثم ذكر سبحانه وتعالى عهدا آخر اخذه على عباده الموحدين من احكام الوضوء واحكام الغسل وذكر تفصيل هذا في آية ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ).
ثم قال : ()وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ)(المائدة: من الآية7)
فأوجب عليهم إن يتذكروا مواثيق الله سبحانه التي اخذها عليهم اجمالا في قوله :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(المائدة: من الآية1)
وتفصيلا فيما ذكره من تفاصيل القرآن في هذه السورة وغيرها وما بينته سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
ميثاق ثالث ذكره جل شأنه في قوله : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .(1/406)
فأوجب عليهم سبحانه أن يرعوا العدالة وأن يوفوا بالعهد والميثاق وأن لا تكون الخصومة متسلطة على نفوسهم تسلطا يجوز بهم عن الجادة ويحملهم على نقض ما أخذه الله عليهم من عهد وميثاق ولا يجرمنكم شنآن قوم - أي عداوة قوم - على إن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى وأنذرهم وحذرهم من نقض هذا العهد والميثاق بقوله : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) .
ثم ذكر العدة الطيبة والجزاء الكريم العدة الطيبة لمن وفي بالعهد والميثاق والوعيد الشديد لمن لم يف بذلك بل خان ونقض فقال : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) .
هذه منزلة أخرى أو مرحلة أخرى ثالثة في تفصيل قوله تعالى في مطلع سورة :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .
ميثاق رابع فيه تفصيل لمطلع السورة يذكر الله عباده نعمته عليهم برد كيد خصومهم ومكر أعدائهم في محاولة سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاء المسلمين في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكف أيدي هؤلاء جميعا وأبطل كيدهم وأحبط سعيهم وشردهم عن بلادهم فقال جل شأنه : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .(1/407)
بنو النضير دبروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تدبيرا سيئا وذلك حينما جاء إليهم يطلب منهم شيئا من المال يستعين به في بعض المصالح فوعده خيرا وهم يضمرون الفتك به وأجلسوه تحت جدار وصعد بعضهم فوق البيت ليرمي عليه حجرا يقضي به عليه فأوحى الله إليه أن يقوم فقام وقد ارسل بعض أصحابه إلى المدينة فذهب إلى جهة المدينة وبلغ أصحابه وجمعوا جموعهم وجاء إلى بني النضير محاربا لهم استجابة لأمر الله جل شأنه ثم رضوا بأن يخرجوا من ديارهم فأذن لهم في ذلك بأمر من الله جل شأنه وأذن لهم في أن يأخذوا من أموالهم ما حملت حمولاتهم وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) . هم بنو النضير (ِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَار)
هذا وما سواه من آيات سورة الحشر فيه تفصيل لما ذكر الله في هذه الآية التي أخذ الله فيها العهد والميثاق على المؤمنين أن لا يعتدوا بل عليهم أن يلزموا العدالة فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ) .(1/408)
يعني بسفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التدبير الذي دبره بنو النضير واليهود كما هو مشهور عند العالم لا عند المسلمين فقط هم سوسة تنخر في عظام الأمم فهم في كل دولة من اللأمم يسعون فسادا في الأرض ودبرون التدبير السيء ويمكرون المكر السيء ما دبروه من هذا الحادث لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة منهم في القضاء عليه ثم بدا الله جل شأنه بدءا جديدا وذكر لنا لونا آخر من العهود والمواثيق ليست عهود=ا أخذها على المسلمين كالعهود التي مضت تفصيلها بل هذه عهود أخذت على أهل الكتاب من اليهود والنصارى وعلى أمثالهم فلم يكن منهم إلا التبرم لها والتنكر لها ونقضها شر نقض فنزل بهم بأس الله وعذابه فهذا مما يتصل أفسدوا به الأرض واستوجبوا به مقت الله وغضبه يقول تعالى : ()وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ ) .
فالآية في العهود والمواثيق التي هي في الآية الأولى ( وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) .
وقال الله جل شأنه : ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ ) .
هذا هو العهد ( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ) .
أي عظمتموهم وأيدتموهم ( وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ) .
هذه العدة السابقة الجميلة التي وعدها من وفى بهذا العهد الذي فصله في الجملة السابقة ثم هدد وأنذر من نقض العهد والميثاق فقال : ( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) .
وقد نقض هؤلاء العهد والميثاق فأصابهم الله شر إصابة وقال :
( َبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ) .(1/409)
وهذا شأن السيئات وهذه هي عدالة الله جل شأنه من كسب سيئة نكت في قلبه نكتة سوداء وبقدر تلك السيئة فإذا ما تكاثرت منه السيئات طبع الله على قلبه وجعل عليه الران حتى يصير قلبه متبلدا أو كالحجر الصلب لا يتأثر بموعظة ولا يعتبر بعبرة ولا تنفذ إليه نصيحة بل يكون منه الصدود والإعراض عما يوجه إليه من آيات القرآن ومن الحجج والبراهين والمواعظ والعبر فلا أدلة تناجي بها العقول ولا مواعظ وعبر تؤثر في عواطفه ووجدانه وذلكم لما طبع على قلبه وكان عليه من الران والحجاب الذي يحول بينه وبين الدلائل والبراهين فلا ينصاع لها والذي يحول بين قلبه وبين وجدانه وعاطفته وبين المواعظ والعبر حيث قد مسخ الله فطرته فجعل قلبه قاسيا يقول تعالى : (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) .
ثم ذكر الله جل شأنه الصنف الثاني بقوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ) . أيضا أخذ على الطائفة الأخرى طائفة النصارى عهدا وميثاقا(1/410)
( فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) نقضوا أيضا العهد والميثاق القصد أن الله ذكر في هذه الآيات أنه أخذ عهودا ومواثيق على اليهود والنصارى بتكاليف كلفهم بها فوقفوا منها موقف الخائن وقفوا منها موقف الغادر المستهتر الذي لا يبالي لعهد الله وميثاقه بالا ولا يلفت له نظر وليس لله وقار في قلوبهم فأصابهم الله باللعنة وقساوة القلوب وأصابهم بنسيانهم الكثير من حظوظهم ثم ذكر الله جل شأنه أنه بين لهم ما أخفوا من التكاليف وما حرفوا من نصوص كتبهم التي أنزلها الله عليهم أنزلها الله على موسى وعيسى وعلى داود بين أنه أ{سل إليهم رسولا فجاءهم هذا الرسول وبين ما كانوا يخفون من كتاب الله فإنهم كانوا يجزأونه أجزاء فيخفون بعضه ويبدون بعضه تبعا للهوى فما رأوه في مصلحتهم ومتفقا مع هواهم أعلنوه ونشروه بين الأميين والرعية ( العوام ) وما كان مخالفا لأغراضهم وأهوائهم أخفوه يقول تعالى في هذه الآية :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * هدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) .
إلى آخر الآيات فذكر جل شأنه أن هذا الذي جاءهم على يد رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من العهود والمواثيق التي تكشف أحوالهم فيجب عليهم حينئذ أن يعتبروا وأن يخشوا الفضيحة من كشف الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دبروه ولما خانوا فيه كان عليهم إن يرتعدوا وان يعملوا بالحق وان يتبعوا رضوان الله جل شأنه ويسيروا على الصراط المستقيم لكنهم أبوا إلا النجاح اللجاج والعناد وإلا نقض العهد والميثاق فنقضوا عهد الله في حياتهم في وحدانيته وفي كماله وانتقصوه بنسبة الولد له كما قال الله عنهم :(1/411)
( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) .
ورد عليهم بقوله : () قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
عيسى لا يملك شيئا من الوجود ، لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ومريم أمه لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا عيسى يحتاج إلى الطعام والشراب والى إن يقضي من شأنه ويتخلص من فضلات طعامه ومريم أيضا صديقة إنسانة تأكل وتشرب وتحتاج إلى إن تتخلص من الفضلات فضلات الطعام الذي تناولته فيقول تعالى : ( فَمَنْ يَمْلِكُ )
من يملك لعيسى ولأمه التخلص من مقت الله وغضبه إذا أراد إن يهلكهما وان يقضي عليهما في هذه الحياة فكيف يصلحان لأن يكونا آلهة مع الله أو من دون الله ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً ) .
شيئا ما قليلا أو كثيرا (ً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
ويبين أن ملك السماوات والأ{ض إليه سبحانه فإنه يخلق ما يشاء فمن يخلق ما يشاء فمن يخلق ما يشاء كيف يحتاج إلى ولد يولد منه وله من في السماوات والأرض وكيف يتخذ صاحبة وكيف يكون له منها الولد ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .
وقال سبحانه : (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) .
أي ولدا وزوجة ( لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ ) .(1/412)
القصد إن نسبة النصارى الولد إلى الله في قولهم عيسى ابن الله أو ولد الله والزوجة لله في قولهم إنه اتخذ مريم زوجة له هذا من نقض العهد والميثاق في أصل من أصول الدين وهو أصل التوحيد وإثبات الكمال لله وحده وتنزيه الله سبحانه عن الصحابة والولد ( مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً) .
فهذا نوع من أنواع نقض العهود والمواثيق وقد رد الله عليهم إجماليا وتفاصيل القرآن فيها تفاصيل الردود لمثل هذا .
الله سبحانه وتعالى ذكر نقضا أيضا للعهود عن اليهود والنصارى فقال سبحانه :
( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .
فنسبوا إليه أنفسهم على أنهم أبناء الله ويقول اليهود : نحن أبناء الله ويقول النصارى : نحن أبناء الله هذا أكثر من دعواهم بنوة عيسى لله ، جعلوا كل النصارى على كثرتهم وكل اليهود على كثرتهم أبناء لله وزادوا أن قالوا وأحباء لله فهذا من نقضهم للعهود والمواثيق فالله تعالى منزه عن الولد كما تقدم في الآية ذكرا أو أنثى فهو سبحانه منزه عن الولد على الإطلاق ثم ميزان محبة الله لعباده الاستقامة على الجادة والطريق السوي واليهود والنصارى قد انحرفوا عن الجادة وغيروا وبدلوا فيما أ،زل عليهم من الكتب السماوية فكيف يدعون زورا وبهتانا أ،هم أحباء الله سبحانه وتعالى ( ى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) .
قال تعالى في الرد عليهم : ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) .
رسول جاء لإسقاط المعاذير ولإقامة الحجة حتى لا يقولوا ما جاءنا بشير ونذير حتى نتعرف منه الحق فنحن معذورون يقول جاءكم الرسول على فترة من الرسل فهذا تكذيب للعهود والمواثيق التي أمر الله بالوفاء بها في مطلع السورة في قوله : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .(1/413)
ثم ذكر جل شأنه أن بني إسرائيل موسى إليهم وإنجائهم من الضلالة ومع ما أنعم الله عليهم من إرسال موسى إليهم وإنجائهم من الضلالة ومع متا أنعم الله عليهم من إهلاك خصومهم ، نجاتهم نعمة وإهلاك خصومهم نعمة أخرى فإن الإنسان إذا نجى من خصمه وخصمه لا يزال حيا فتوسوس له نفسه بأنه سيأتي عليه يوم من الأيام يفتح له الطريق إلى التسلط عليه وإلأى التمكن منه فيسومه سء العذاب في مستقبل حياته كما سامه من قبل سوء العذاب فبين الله جل شأنه أنه أنعم على اليهود أنعم على بني إسرائيل الذين هم قوم موسى لأنه جعلهم أئمة وأنه مكنهم في الأرض وأنه جعلهم ملوكا بعد أن انجاهم من عدوهم وخصمهم بين سبحانه وتعالى أنهم لما أمرهم موسى إن يدخلوا البيت المقدس وهذا أمر من الله وعهد وميثاق أخذه على قوم موسى فأمر موسى أن يدخلوا وان يجعلوه وطنا لهم وان يقيموا دولة فتية لهم في بيت المقدس يعلمون فيها بشرع الله جل شأنه فلم يكن من هؤلاء إلا إن تنكروا لموسى فيها بشرع الله جل شأنه فلم يكن من هؤلاء الا إن تنكروا لموسى وتبرموا بأمره لهم بالجهاد ليدخلوا بيت المقدس وجاءهم رجلان قد عرفا أخبار سكان بيت المقدس من الجبارين جاءوا إلى قوم موسى وقالا لقوم موسى لو إنكم تجمعتم وتعاونتم وتآزرتم ثم هجمتم هجمة رجل واحد على أولئك الجبارين لفتح الله عليكم بيت المقدس ومكنكم من رقاب هؤلاء :
(قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ) .
فأبوا أيضا بالرغم من هذه البشارة المباركة فموسى قال ، وهارون قال وبعض الجماعة من بني إسرائيل قالوا فانتهى امر بني إسرائيل إلى أن يقولوا لموسى :
( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) .(1/414)
وماذا يصنع موسى ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) .
هذا شأن بني إسرائيل مع موسى أرادوا إن يتحكموا فيه ويقولون :
نريد اكل طيب فجاءهم بالمن والسلوى فقالوا : هذا لا يصلح لنا نريد عدسا وبصلا وثوما قال هذا أزين لكم أتتبدلون الطيب إلى الخبيث قالوا : ما نريد إلا هذا قال : اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم ثم يضرب الحجر فتخرج منه العيون على عدد الأسباط إثنا عشر سبطا كل سبط له عين حتى لا تتزاحم كل جماعة متقاربة تشرب من العين حتى تتعاطف فيما بينها ثم بعد ذلك يتنكرون لموسى لذلك ابتلى الله هؤلاء على نقضهم العهد والميثاق بأن شردهم أربعين سنة يتيهون في الأرض
قال تعالى : ( فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) .
وليست محرمة عليهم أربعين سنة فقط بل إلى جانب ذلك عدم الاستقرار يتيهون في الأرض . القصد إن هذه القصة من عند قوله تعالى :
( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .
( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ ) .(1/415)
يذكرهم بفضل الله عليهم حتى إذا ذكروا هذا انبعثت نفوسهم بالوفاء لأوامره ولكن قلوبهم صلدة لم تتأثر ولم تتذكر فضل الله عليها فلذلك تنكروا لموسى عليه السلام هذه القصة إلى آية ( التيه ) التي أمضاها الله فيهم وعذبهم بعذابها هذه كلها فيها عهد أخذه الله على اليهود عن طريق موسى ونقض للعهد فهي تفسير وتفصيل جزئي لقوله تعالى في مطلع السورة :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود) .
نوع آخر
أولاد آدم من صلبه كانوا على الفطرة ولم يداخلهم شر وقتل النفس معروفة حرمته عند أولاد آدم وعند آدم عليه السلام وجميعهم يعرفون شريعة الله في عصمة الدم ووجوب حفظ النفوس ومع ذلك نقض أحد الأخوين هذا العهد فقتل أخاه هذا من نقض العهد والميثاق راجع إلى الآية في مطلع السورة .
والله اعلم وصلى الله على رسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
******************
****************************
بناء البيت الحرام
وجعله مثابة للناس وأمنا
ـــــــــ
قال الله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ) .
أمر الله جل شأ،ه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أ، يبني الكعبة المشرفة في البلد الأمين لتكون قبلة للناس يستقبلونها في صلاتهم ودعائهم ويحجون إليها ويطوفون حولها وأعلن المكان الذي يقيم بناءها فيه بما شاء من الآمارات والعلامات فذهب إبراهيم من الشام إلى مكة المكرمة حيث يقيم ابنه إسماعيل عليهما السلام فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بولده والولد بوالده ثم قال : يا إسماعيل إن الله امرني أن أبني ها هنا بيتا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها فعند ذلك بدأ يرفعان القواعد من البيت فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء وضعف إبراهيم جاءه إسماعيل بحجر فوضعه له ليقوم عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان :(1/416)
(ُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) .
فاستجاب الله دعاءهما وأراهما مناسك الحج وأمر إبراهيم أن يؤذن في الناس بالحج ليفدوا إلى حج بيت الله الحرام رجالا ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) .
وكما عهد الله إلى إبراهيم واسماعيل عليهما الصلاة والسلام ببناء البيت أمرهما أن يطهراه من كل رجس معنوي وحسي يبنياه خالصا لوجه الله الكريم ويجنباه الاصنام وعبادتها والأزلام والاستقسام بها وكل شائبة من شوائب الشرك بالله ويصوناه من الأوساخ والأقذار ومن غشيان الكفار ومن الضجيج ورفع الأصوات وكل ما تأباه النفوس الطاهرة والفطرة السليمة تعظيما لحرمات الله وليكون أدعى لإخلاص الطائفين به والعاكفين فيه والمصلين إليه وأجمع لقلوبهم على عبادة الله وحده ولجئهم إليه دون سواه .
اتفق العلماء على أن الكعبة شرفها الله أول بيت وضع للناس فيس الأرض للعبادة لقوله تعالى : ( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ ) .(1/417)
واختلفوا في أول من بناه فذكر ابن كثير عن أبي جعفر الباقر محمد بن على بن الحسين أن أول من بناه الملائكة قبل آدم وروى عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء وسعيد بن المسيب أن آدم بناه من خمسة أجبل ثم عدها ثم حكم بأن كلا من الأثرين غريب وروى عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة ووهب بن منبه أن اول من بناه شيث " ثم قال : وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها واما إذا صح الحديث في ذلك فعلى العين والرأس "
والحق أن هذا الاختلاف مما لا تنبنى عليه فائدة في شعائر الحج ولا في أحكام مناسك الحج - فلا ينبغي قطع الوقت وشغل البال في زيادة الاشتغال به وإنما ينبغي الوقوف عند ظاهر ما ثبت في الكتاب والسنة من أن أول من بناه ورفع قواعده بإذن الله إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام .
جعل الله سبحانه وتعالى للبيت الحرام مزايا كثيرة فجعله مباركاً كثير الخير في الدين والدنيا فيضاعف ثواب العمال الصالحات فيه والقصد إليه لأداء النسك أو التعبد به وتعزف النفوس الطيبة وهي به عن الدنايا والفواحش أكثر مما لو كانت في غيره مهابة له وتعظيماً لحرمانه وخص بالوفود إليه للحج والعمرة واستجاب دعوة خليله إبراهيم فيه فجعل أفئدة من الناس تهوى إلى ذريته في الحرم ورزقهم من الثمرات وقضى أن تجبي إليه ثمرات كل شئ رزقاً من لدنه وفضلاً منه ورحمة بسكان بلده الحرام ومن يفد إليهم تعظيماً للبيت وبارك لهم في طعامهم وشرابهم وبعث فيهم رسولاً منهم إلى الناس كافة وختم به النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
قال ( : " أنا دعوة أبي إبراهيم " وجعل له في البلد الحرام آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً فمن دخله معظماً وقصده محتسباً وأدى المناسك كما شرعت كان آمناً من عذاب الله(1/418)
لقوله ( : " من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ، وقوله : " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "
ومن دخلاه كان آمناً من التشفي والانتقام كما كان معهوداً عند العرب فيمن أناب إلى الحرم من تركها الحق يكون لها عليه ، فقد كان يلقي الرجل فيه من له عنده ثأر فلا يتعرض له بالقتل والقتال اللهم إلا في القصاص ونحوه وفيما لو قاتل في الحرم .
قال تعالى : ) وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ)(البقرة: من الآية191)
بل حرم الصيد فيه وأن تقطع أشجاره وأن يختلي خلاه إلا ما استثناه الرسول ( وفي بيان مزايا هذا البيت وانه بني للناس جميعاً للعبادة فيه واستقباله في الصلاة والحج إليه وأن الذي بناه إبراهيم الخليل بأمر الله رد على اليهود والنصارى مع أنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ويعلمون أنه إنما بني هذا البيت للحج إليه والاعتكاف فيه والصلاة عنده وإليه ثم لا يفعلون شيئاً من ذلك .
فكيف يزعمون أنهم أولى بإبراهيم وأنهم على ملته ولا يفعلون ما شرع الله له وبهذا تعرف المناسبة بين هاتين الآيتين وقوله تعالى قبلها :
)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا)(آل عمران: من الآية65)
إلى قوله تعالى : ) وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران: من الآية68)فكذبهم في زعمهم أنهم على ملته ووبخهم على صدهم وإعراضهم عن معالم شريعته من التوحيد وتعظيم حرمات الله وشعائر بيته الحرام وبين ما بين قولهم وعملهم من اختلاف واضح وتناقض فاضح .
*********************
المبحث التاسع
مكتبته وعمل يومه وليلته
ـــــــ
مكتبته :(1/419)
إن مما لاشك فيه أن المكتبات في كل أمة عنوان وعيها وتطورها كما أنها هي المقياس لتقدم تلك الأمم ونهوضها إذ هي من أهم ركائز المعرفة وأقوى دعامات العلم فهي زاد لا ينضب ومعين لا يجف تتحف القارئ والباحث والطالب والمعلم ورواد العلم والمعرفة بروافد ثرة وينابيع متدفقة من الفوائد والمعارف والعلوم .
إن جمع الكتب وإدامة النظر فيها والغوص في أعماقها من اهم الأسباب المعينة على تحصيل العلم .
قال عبد الله بن المبارك : من أحب أن يستفيد فلينظر في كتبه .
ولقد صدق من قال :
نعم المؤانس والرفيق كتاب ……تخلو به إن ملك الأصحاب
لا مفشياً سراً ولا متكبراً ………وتفاد منه حكمة وصواب
وقال ابن الأعرابي يصف الكتب :
لنا جلساء ما نمل حديثهم………ألباء مأمونون غيباً ومشهداً
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى……وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدداً
بلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة……ولا نتقي منهم لساناً ولا يداً
وقال ابن الجوزي :
ومع ما في الكتب من المنافع العميمة والمفاخر العظيمة فهي أكرم مال وأنفس جمال والكتاب آمن جليس وآسر أنيس وأسلم نديم وأفصح عليم .(1/420)
لقد كان السلف الصالح - رحمهم الله ورضي عنهم - يحرصون على إدامة النظر في الكتب لأنها خزائن العلم وكان الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من هذا الطراز الموفق من العلماء موسوعي المعرفة له نفس طلعة لا تمل من القراءة ولا تكل من المعرفة ربي نفسه بنفسه وجمع من العلوم فأوعى ولم تكن له مكتبة ضخمة كما عند غيره ولكنه جمع نفائس المصادر والمراجع العلمية التي لا يستغنى عنها عالم فضلاً عن طالب علم وكان - رحمه الله - حسن الاختيار للكتاب فلا يقتني من الكتب إلا ما كان مفيداً ونافعاً ولقد كانت له عناية خاصة بالكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد وتوضح عقيدة أهل السنة والجماعة ولم يكن جمعه لأمهات الكتب والمراجع العلمية على سبيل المباهاة والمفاخرة كما هو الحاصل عند كثير ممن ينتسبون إلى العلم اليوم . بل كان جمعه لها لرغبة أكيدة وغاية نبيلة هي الوقوف على مصادر العلم الثرة ومراجع المعرفة المختلفة وإرواء ظمأه منها حتى ينفع نفسه أولاً وينتفع الناس بعلمه ثانياً .
وإني لأعجب للشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من كثرة إهدائه للكتب من مكتبته وظني به أنه كان يقرأ كتبه التي تهدي إليه أو يقوم بشرائها قراءة فهم وتدبر حتى إذا انتهى من قراءتها أهداها إلى أحد طلابه ومحبيه وهذا إن دل فإنما يدل على متانة علمه وقوة حافظته وقدرته الهائلة على الاستيعاب كما يدل هذا التصرف النبيل على سخاء نفسه وصفاء سريرته وحبه للبذل والعطاء ومن مآثره الأثيرة على أنه أهداني كتاب الحافظ ابن رجب الحنبلي " شرح علل الترمذي " في مجلدين فجزاه الله خير الجزاء وتغمده بواسع رحمته .(1/421)
إن من يتأمل أحوال الناس اليوم بصفة عامة وطلبة العلم بصفة خاصة يجد العجب العجاب فكثير من هؤلاء خزائنهم مترعة بنفائس المخطوطات ورفوفهم مثقلة بأنواع المعارف والعلوم وهم مع ذلك إلا القليل منهم - لا يقرأون كتبهم ولا يفتشون خزائنهم وشعارهم ودثارهم جمعت كذا واقتنيت كذا .
وإذا سألته عن علمه………قال علمي يا خليلي في سفط
في كراريس جياد أحكمت……وبخط أي خط أي خط
وإذا سألته عن مشكل……حك لحييه جميعاً وامتخط
وقال بعضهم :
إذا لم تكن حافظاً واعياً ……فجمعك للكتب لا ينفع
وتحضر بالجهل في موضع……وعلمك في الكتب مستودع
ومن كان في عمره هكذا……يكن دهره القهقري يرجع
وقال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي - رحمه الله :
ببيت الشيخ كتب قد شراها………وجمعها ولكن ما قراها
وطابت نفسه منها بسلوى………إذا فتح المكان بأن يراها
وينظر في قطائعها ويمضي………وهل تدري القطائع ما وراها
فوا أسفي على الأيام ضاعت……هباءً وقضى على نفس كراها
وقد قنعت من الدنيا بدون………وباعتها ببخس في شراها
عمل يومه وليلته
يذكر أبناؤه أن يوم الشيخ كان يبدأ مع آذان الفجر حيث يلبي نداء الله متوجهاً إلى المسجد القريب من بيته سيراً على الأقدام مع أبنائه وكانت الصلاة في المسجد وحضور الجماعة أحب شئ إلى قلبه ومن توفيق الله لفضيلته أنه حافظ على أداء الصلوات الخمس كلها في المسجد حتى آخر أيام حياته تغمده الله بواسع رحمته.
وبعد أن يفرغ من أداء الصلاة يعود إلى بيته وفي غرفته الخاصة به والتي أعدت للقراءة والاطلاع وإعداد الفتاوي والبحوث في هذه الغرفة يقبل على الله تعالى بكليته قارئاً للقرآن متدبراً آياته والقرآن معجزة الله الخالدة وحجته الدامغة وهو عمدة الملة وينبوع الحكمة وآية الرسالة ونور الأبصار والبصائر فلا طريق إلى الله سواه ولا نجاة بغيره ولا سعادة إلا به .(1/422)
ولذا فإن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يحرص كل الحرص على أن يخلو بكتاب ربه في بضع ساعات من ليل أو نهار تالياً له حافظاً وعاملاً بأحكامه قدر استطاعته ثم يذهب إلى عمله مبكراً وكان رحمه الله منظماً في عمله محافظاً على وقته أميناً في مهنته يحرص كل الحرص على استثمار وقته فيما يعود بالنفع على المسلمين وكان يقضي جل وقته في عمله بالرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء في مراجعة المستفتين ويستمر عمل فضيلته الدؤوب حتى حلول موعد آذان الظهر حيث يذهب للصلاة في المسجد القريب منه ثم يعود إلى عمله فيخص ما بقى من الوقت في قراءة المعاملات والاستفتاءات الرسمية واستقبال بعض الزائرين الذين يقصدون فضيلته للسلام عليه - رحمه الله - وبعد انتهاء العمل يعود الشيخ إلى بيته ليتناول طعام غدائه ثم يأخذ قسطاً من الراحة قبل صلاة العصر .
وبعد صلاة العصر - يقول ولده الأكبر : كان يجلس والدي رحمه الله - في كثير من الأحيان بعد صلاة العصر في المنزل يقرأ ويطالع وينظر في الفتاوي والبحوث العلمية أما بعد صلاة المغرب فيستقبل طلبة العلم والزوار إلى صلاة العشاء حيث يؤدي الصلاة جماعة ثم يدخل غرفته الخاصة به للقراءة والاطلاع ومن ثم الراحة بعد ذلك .
********************
المبحث العاشر
تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء
ـــــــ(1/423)
لقد أشرت سابقاً إلى أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان مشرق الأسلوب محرر العبارة تتسم كلماته بالجزالة وألفاظه بالأصالة لا لذة له في غير نشر العلم وتدوينه والعمل بمقتضاه ولعل من نافلة القول ومكرور الكلام أن ( المترجم له) عرف بدقة فهمه وأمانته العلمية واستيعابه الواسع لجوانب المباحث المطروحة ومن ثم كان -رحمه الله - نقاداً وصيرفياً محنكاً يميز بين صحيح الكلام وسقيمه وجيده ورديئه يتناول الموضوع بالتحليل والشرح والتمييز والحكم ويعلق على فقراته بتعليقات موجزة قليلة المبنى غزيرة المعنى محققة للمقصود وقد قضي حياته في تأصيل المسائل العلمية وتحليل فروعها وتحرير مواطن الخلاف فيها فحياته كلها عمل وجد ومثابرة فلا تراه إلا معلقاً على كتاب أو مصححاً لأثر أو مقوماً لمؤلف أو مصوباً لنتاج علمي أو مفنداً لحادثة أو راداً لشبهة كل ذلك في أدب جم وخلق محمود ونقد بناء إلى جانب ذلك كان له - رحمه الله - جولات نقدية في دروسه لا يدركها إلا الصفوة من تلاميذه وكان إذا نقد أحداً أو موقفاً أجمل في الكلام .
وأما تعليقاته فتمتاز بوضوح الكلام وقلته ودقة معانيه والرغبة في الوصول إلى الحق من أقصر طرقه مع البعد عن التكلف المذموم والإسهاب المخل ومن أنفس تعليقاته تعليقه على كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدي وتعليقاته على " تفسير الجلالين " و " العقيدة الواسطية " و " الحمومية " و " الرسالة التدمرية " وتعليقاته على كتاب " الاعتقاد " للبيهقي و " الكافي " لابن عبد البر و " الرسالة التبوكية" لابن القيم وغيرها من الرسائل والكتب والبحوث مما يصعب حصره واستقصاؤه .
والحق يقال : أن هذا الرجل ظل طيلة حياته داعياً إلى الخير صادق العزم حسن التوجه الحكمة ضالته والحق وجهته والصبر معوله وإنكار الذات صفته والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دأبه .(1/424)
وفي الصفحات التالية صور مشرقة ونماذج كثيرة من تعليقاته القيمة ونقده الهادف البناء الذي كان يتسم بالموضوعية والجدية بعيداً عن الإثارة والغلو . ولا شك أن هذه النماذج النقدية والتعليقات القيمة تدل دلالة قاطعة على أنه كان - رحمه الله - مثالاً حياً لما كان عليه السلف الصالح من تقى وإخلاص وتجرد وإيثار للحق ونفرة من الباطل فعاش - رحمه الله - ذات الله لومة لائم وصدق رسول الله ( إذ يقول : " من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس " .
ومن هذه النماذج النقدية النيرة نقده لكتاب : " تأملات وكشوف حديثة في القرآن الكريم " وقد نقد الشيخ هذه الكشوف الزائفة وبين عوارها وجلى ضلالها فقال :
أولاً : ذكر المؤلف تفسيراً عن ابن كثير لسورة الكوثر وقال : هذا هو التفسير المعروف لهذه السورة ثم بدأ يفسرها برأيه تفسيراً منكراً مدخولاً لا يمت إلى الموضوع بصلة ولم يبين ما فيها من أحكام ولم يحم حول المقصود منها من أمر الله سبحانه ورسوله ( بإخلاص العبادة له صلاة ونحراً شكراً لربه على عظيم عطائه ووفاء بحق إنعامه .
ثانياً : تكلف تكلفاً كريهاً في محاولته إظهار الترابط بين آيات السورة الواحدة بما اكتشفه من فكرة واحدة تسري في آياتها جميعاً بل أساء إلى نفسه وإلى كتاب الله تعالى والمسلمين ويا ليته ما اكتشف تلك الفكرة فإنها محض وهم وخيال ومجرد قراءتها أو سماعها يغني عن نقدها وينادي بسوئها وفسادها .
ثالثاً : ذكر أمثلة تطبيقية في سورة من القرآن لفكرته التي اكتشفها فكشف بذلك عن وهم باطل وخيال كاذب وإلحاد في آيات الله يتبين ذلك مما يأتي في الفقرة الرابعة .
رابعاً : جعل النهر المفهوم من كلمة الكوثر - فكرة واحدة محوراً يدور حوله جمل " إنا أعطيناك الكوثر " وكلماتها .(1/425)
فالصلاة كنهر يغتسل فيه الإنسان فيطهر من ذنوبه ويسبقها وضوء وهو من النهر وتنهي عن الفحشاء والمنكر وهذا من الطهارة التي تكون بالنهر والنهر في النحر هو دم الأضحية إذا نحرت فسال دمها كالنهر وجرى متدفقاً في الجسم فأشبه النهر العادي في صفات الثقل والتغذية والتطهير ويتجلى هذا في تجميعه لسموم الجسم ثم طرحها في الكليتين للتخلص منها عن طريق الجهاز البولي وهناك طهارة أخرى وهي تزكية النفس من الشح بدفع ثمن الأضحية .
وأما النهر فيتجلى في استمرار العطرة للنبي( على مر الزمان وفي بتر ذكرى خصومه ومبغضيه مدى الدهر .
ثم رتب المعنى الإجمالي لسورة الكوثر على ذلك فقال : " وهكذا تتجلى فكرة النهر في جميع أجزاء السورة مما يدل على أن هناك هندسة إلهية خاصة لهذه السورة الكريمة وضعت لتفيد معنى إجماليا رائعا متكاملا متناسقا : فكأن الله تعالى يخاطب رسله ويخاطب كل مسلم من أتباعه قائلا : " طهر نفسك في نهر من أنهار الدنيا تنل نهرين خالدين لا ينقطعان أبدا : اغتسل في نهر الصلاة مطهرا جسمك ونفسك وفي نهر الأضاحي مطهرا روحك من أدران الشح تنل نهر الذكر المرفع الدائم في الدنيا والآحرة كما تنال نهر الكوثر الخالد العظيم في الآخرة " أ . هـ
أقول :
أولا : إن القرآن نزل بلغة العرب وله مقاصد سامية وأهداف عالية فيجب أن يفسر باللغة التي نزل وأن يراعى في تفسيره مقاصده وأهدافه وما كتبه مؤلف الرسالة أقول لا يتفق مع لغة العرب وأساليبها ولا يمت إلى مقاصد القرآن وأسس التشريع بصلة بل هو تحريف للكلم عن مواضعه وإلحاد في آيات الله اتباعا للهوى والظنون الكاذبة فليكف عن التأليف وليتعلم اللغة العربية وأصول الإسلام أولا حتى إذا بلغ أشده في العلم أخذ في تمرين نفسه على التأليف فيما يقواه .
ثانياً : زعم أن فكرة النهر تدل على هندسة خاصة بهذه السورة(1/426)
أقول : هل يفهم من الخرط والخوض هندسة أو حسن تنسيق وهل يجني من الشوك العنب فيالله العجب العجاب .
- خامسا : سلك ذلك المسلك في سورة العصر فذكر تفسيرا لها عن ابن كثير رحمه الله تعالى وقال هذا هو التفسير المألوف للسورة وكأنه لم يرق في نظره ولم يحز قبولا ولذا بدأ يفسرها بما زعمه متناسقا تناسقا عجيبا فزعم أن العصر وهو الزمان قد سرى في آيات السورة وكلماتها فإن الإنسان قد سرى فيه الزمان حتى إنه لا يمكن أن ينفك عنه في جميع أطواره من حمل أمه به إلى مماته فهو الإطار الذي يحدد بدايته ونهايته بل ليس الإنسان إلا عمره وسرى الزمان أيضا في الخسارة والريح فكل منهما لا ينفك عن الزمان عملا ناجحا لتحصيل الكسب أو فاشلا للوقوع في الخسارة .
أو حسابا لكل منهما والمراد بالخسارة ما قبل الاستثناء - إلا - وبالربح ما بعد - إلا - وسرى الزمان في الإيمان فإنه كالشجرة تبدأ بذرة ثم تنبت وتنمو وتزهر وتثمر وكذا الإيمان في نموه فيحتاج كل منهما إلى زمان .
وسرى الزمان أيضا في التواصي بالحق فإن التواصي بذلك يتوقف على تعلمه والتمييز بينه وبين الباطل والتعلم يحتاج لزمن طويل كما أن التواصي بالحق نفسه يحتاج إلى زمن طويل فتعلمه والتواصي به كلاهما لا ينفك عن الزمان .
وسرى الزمان أيضا في التواصي بالصبر فإنه لا بد للصبر من قياسين لتقويم حقيقته :
الأول : شدة الألم وخفته والثاني : الزمان الممتد مع الألم طولا وقصرا والممتد مع الصبر كذلك بهذا يتبين أن الزمان يسري في سورة العصر فيصبح معناها الإجمالي(1/427)
إن سورة العصر آي الزمان إذ يتصدرها القسم بالعصر لتلفت النظر إلى أهمية الزمان العظمى ، إن الحضارة التي نعيشها اليوم تحسب للزمن . . . وكأن السورة تريد أن تقول : أيها الإنسان إن رأس مالك هو الزمان هو عمرك الذي في نهايته ستحسب أرباحك وخسائرك وإنك لخاسر إلا إذا أنفقت عمرك في أعمال معينة ، إن زمنا تقضيه في نمو إيمانك زمن رابح وإن زمنا تقضيه في الأعمال الصالحة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر زمان رابح .
أقول : إن هذا تفسير يكشف عن عوار نفسه تكلفا وتحريفا وزيغا وإلحادا ولا يحتاج إلى تقرير والغريب أن المؤلف يزعم أنه بين به هندسة إلهية في السورة وهذا مما يضحك الثكلى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد استمر المؤلف في تفسيره سورا أخرى على الأسلوب الكريه الذي لا يتفق مع عقل ولا نقل ، نسأل الله العافية والهداية إلى سواء السبيل .
وأخيرا لا أجدني في حاجة إلى إبداء عوار الرسالة والحكم عليها بالعقم والفساد فإنها تنادي على نفسها بما هي له أهل وقديما قيل :
حسبك من شر سماعه . نسأل الله السلامة والتوفيق .
عبد الرزاق عفيفي
وفي الصفحات التالية نماذج أخرى من كتاباته وتعليقاته القيمة وتقريراته الوافية وجولات في أعماق كتب التراث ونظرات وتأملات في عدد من الكتب والمصنفات وكل هذه التعليقات والتقريرات والجولات النقدية لتقدم البرهان الساطع والدليل القاطع على أن الشيخ غير مدافع في سعة علمه واطلاعه ووقوفه على مناهج العلماء وإحاطته الواسعة بمصنفاتهم ومؤلفاتهم وتمييز الصحيح من السقيم منها وإيراد ما يؤخذ عليها في أسلوب رائع وعبارات سهلة واضحة .
*********************
نظرات وتأملات
في كتب ومؤلفات فضيلة الشيخ العلامة
محمد الخضر حسين شيخ الأزهر
بقلم فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
ــــــــــ(1/428)
كتب فضيلة الشيخ العلامة الجهبذ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - تقريرا وافيا وبيانا كافيا تناول فيه عددا من كتب ومؤلفات العلامة الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر في زمنه موضحا في تقريره وبيانه ما تمثله هذه الكتب وتلك المؤلفات من قيمة علمية عالية مع الإشادة بالمكانة العلمية والأدبية التي تبوأها المؤلف وذلك واضح جلي من خلال تصويبه وتعليقه على ستة من هذه الكتب والمؤلفات وقد جاء تعليق فضيلته مجملا ومفصلا مبتدئا ببيان الخصائص العامة والمجملة لهذه الكتب وما تشترك فيه من أمور ثم أعقب ذلك بكلمة مختصرة عن كل كتاب من هذه الكتب الستة فجاء تعليقه على النحو التالي :
أولا : بيان عن هذه الكتب جملة في أمور مشتركة بينها :
أ - تشترك هذه الكتب الستة في قوة الأسلوب وعلوه مع سلاسة العبارة ووضوحها وسمو المعاني ودقتها وإصابة الهدف من قرب فلا تكلف فيها ولا غموض ولا حشو ولا تكرار .
ب- تشترك في الدلالة على سعة علم المؤلف وتضلعه في علوم شتى في العلوم العربية والاجتماعية والدينية واستقصائه في بحثه وفي نقاشه لآراء مخالفيه وأدلتهم واعتداله في حكمه وفناويه .
جـ - يتمثل فيها النزاهة قلم المؤلف وحسن أدبه ونبل أخلاقه . لكن لم يمنعه ذلك أن ينقذ الملحدين ومن انحرف به هواه عن الجادة والصراط المستقيم نقدا لاذعا لا يخرج به عن الإنصاف ولا يتجاوز به حد الأدب في المناقشة لرعاية حق مخالفيه وصيانة لعلمه ولسانه عما يشينه وسيرا مع الكتاب والسنة وآدابهما في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة فلا جهل ولا سفاهة إنما يقابل سيئة خصمه وسبه بالحسنة أو غض الطرف عنها .
د - يتمثل فيها الصدع بالحق والكفاح عنه بحسن البيان وقوة الحجة ما استطاع إلى ذلك سبيلا لا يخشى في ذلك لومة لائم ، عماده في ذلك كتاب الله وسنة رسوله ودليل العقل وشاهد الحس والواقع مع ذكر الشواهد من اللغة والقضايا التي أجرت في العالم .(1/429)
ثانيا : كلمة مختصرة عن كل كتاب من هذه الكتب الستة :
أ - تونس وجامعه الزيتونة :
في هذه الرسالة كلمات تاريخية عن تونس وفقهائها وشعرائها وعن جامعة الزيتونة وجملة من الأحكام الإسلامية ونماذج من الشعر الأدبي الرفيع وتراجم لجملة من الفقهاء والأدباء وفي هذا قيام من الشيخ بشيء من حق بلاده عليه وحق مشايخه وعلماء بلاده ويتجلى في هذه الرسالة حنين الشيخ النغلغل في سويداء قلبه إلى تونس ومن فيها وكأن ما كتبه من ذلك استجابة لهذا الحنين وصدى للخواطر التي تخالج والرسالة فيها خير كثير من الفوائد الفقهية والتاريخية والأدبية . غير أني ألمس فيها نوعا ما من الغلو في بعض المشايخ بتسديدهم وزيادة إجلالهم وفيها غض الشيخ طرفه على خلاف عادته عن أبيات فيها غلو في مديح صاحب تونس لابن خلدون منها ص 56 .
ورضاك رحمتي التي أعتدها ……تحيي مني نفسي وتذهب بؤسي
ب - بلاغة القرآن :(1/430)
تشتمل هذه الرسالة على مجموع محاضرات ومقالات أهمها بلاغة القرآن وإعجازه في بلاغته وعلو أسلوبه وفي تشريعه وقصصه وإخباره بالمغيبات وفي حكمه وأمثاله ولهذا سميت الرسالة بهذا الأسم وإن كانت مشتملة على كثير من الموضوعات الأخرى النافعة مثل حكم ترجمة القرآن والردود القوية على من حرف آيات الحدود وتأول قصص القرآن على غير وجه تأويلا تنكره اللغة العربية ويأباه الواقع العملي في زمن النبي( وأصحابه الى يومنا هذا وإن تقلص ظل تطبيق هذه الآيات في كثير من الأمم التي تنسب الى الاسلام لتفريطها ونوم علمائها وغفلتهم عن أداء الواجب الإسلامي واتباع حكام تلك الأمم لهواها وتأثرها بالدول الكافرة أو تسلط الدول الكافرة عليها تسلطا غير عليها معالم دينها ولبس عليها حتى زعمت أن شريعة الله غير صالحة لكل زمان ومكان وقد فصل المؤلف الرد على أولئك وخاصة من تأول حد السرقة وحد الزنا ومن تأول قصة أيوب عليه السلام مثل الشيخ جان محيسن أو قصص القرآن جملة فزعم أنه تمثيل خيالي لا واقع له أو ليس بلازم أن يكون له واقع يحيكه مثل الدكتور خلف في رسالته التي قدمها لنيل الدكتوراه من إحدى الجامعات . وقد أجاد المؤلف وأفاد في كل ما تعرض له من مباحث هذه الرسالة غير أنه خالف مذهب السلف في مبحث المحكم والمتشابه في ( ص 38 - 44 ) فجعل نصوص المحكم والمتشابه في الكتاب والسنة من المتشابه وتأولها بحملها على معنى مجازي معين سوى المعنى الحقيقي أو التفويض في أصل المعنى مع أن إمامهم أبا الحسن الأشعري لا يرى التأويل لهذه النصوص ولا التفويض في أصل المعنى بل يثبت نصوص الاسماء والصفات المنصوصة التي في الكتاب والسنة على حقيقتها ويفوض في كيفيتها كما هو مذهب السلف من الصحابة ومن تبعهم من أئمة المسلمين المحققين قديما وحديثا فلو سلك مسلك المحققين في نصوص الاسماء والصفات لكان أرشد له وأسلم ولكن المذهب جمهور العلماء من المتأخرين سطوة لا يكاد يسلم منها(1/431)
إلا من عصم الله والله المستعان .
جـ - رسائل الإصلاح :
رسائل الإصلاح هي أيضا مجموع محاضرات ومقالات تحدث فيها المؤلف عن جملة من أخلاق الكريمة وأثرها في النهوض بالأمة وتماسكها وعن عناية الإسلام بها وحثه على معالى الأمور والترفع عن سفسافها وبين فيها معنى المساواة في الإسلام ونوه بشأن القضاء العادل في الإسلام وأفاض القول في بيان ضلالة فصل الدين عن السياسة ومضرة الانحراف عن الإسلام .
وبين سماحة الإسلام وعدالته في معاملة غير المسلمين في السلم والحرب ومضرة محاكاة المسلمين للكفار إلى غير هذا من الموضوعات النافعة . . وهذه الرسائل من خير ما كتب المؤلف وقد أفاض فيها وأوجاد وجاء بما لا غنى للطالب العلم عنه . إلا أنه سلك مسلك المؤولين لنصوص الاسماء والصفات فأول حديث " إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا " فخالف في ذلك مذهب السلف الذين أثبتوا صفة اليمين للرحمن حقيقة مع قولهم بالمعنى الكنائي الذي فسره الشيخ أيضا ولكن المؤلف كما تقدم لم ينفرد بذلك بل تبع فيه مذهب الأشعرية ومن سلك مسلكهم كما تقدم والله الموفق .
د - الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان :(1/432)
هذه الرسالة كسابقتها مجموع محاضرات ومقالات في جوانب متنوعة من الشريع الإسلامية وفي فقهائها ولكن سميت باسم الأولى منها لأنها أهمها وقد أفاض المؤلف القول فيها وفصله تفصيلا يحتاج إليه كل طالب علم فقد تكلم كلاما حسنا عن الفقهاء وطبقاتهم وعن صلتهم بالحكام ونصيحتهم لهم وبين أسباب انتشار مذاهبهم وجملة من أسباب اختلافهم في المسائل الفقهية وتكلم في مسائل اجتماعية وأفاض القول في تعدد الزوجات والسحر ورد على شبهات المشبهين وفصل آراء العلماء في التصوير وبين مضار الطيرة والتشاؤم في العقيدة والكد في الحياة والنشاط في الأعمال وختمت المجموعة بجملة من الفتاوى والأحكام غير أنه - فيما رأى - لم يخالفه الصواب في قوله بإحياء ليلة النصف من الشعبان بالعبادة رجاء أن يكون لها مزية في استجابة الدعاء وقبول العبادة مع اعترافه بأن ما ورد فيها من الأحاديث لم يبلغ درجة الصحيح في نظره وهي في نظر غيره لم تصح بل هي مردودة إذ لو صحت لكان خير الخلق صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه أولى بإحيائها بدعة وترك إحيائها سنة وكلامه في مبحث السنة والبدعة ص ( 98 ) من " مجموعة الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان " يشهد لما ذكرته من أن إحياءها بدعة وتركها سنة وقد حاول المؤلف في صفحة ( 174 - 190 ) من هذه المجموعة أن يجعل للتصوف أصلا صحيحا مع الاحتياط منه في ذلك وإنكاره لبعض أعمالهم ورده على طوائف منهم إلا أنه بالرغم من هذا الاحتياط جعل من المتصوفة جماعة من أهل الزندقة والإلحاد وترجم لهم في نهاية مبحث التصوف منهم عمر بن الفارض ومحيي الدين بن عربي وعلى كل حال فكل إنسان يؤخذ من قوله وعمله ويرد عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فله العصمة من ربه فضلا وإحسانا .
ه- محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين :(1/433)
هذه أيضا مجموع محاضرات ومقالات ألقيت ونشرت في مناسبات مختلفة كالهجرة النبوية والمولد النبوي والرد على ما يراه الشيخ خطأ في مقالات كتبها بعض العلماء والكتاب وقد تكلم فيها الشيخ عن الأمم قبل إرسال الرسل إليهم وما كانت عليه من جهل وضلالة وشرك فاضح وفوضى مهلكة وبين موقف الرسل منهم حتى فصل الله بهم بين الحق والباطل وأفاض القول في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وفي معجزاته الكونية والروحية فجمع فيما كتبه خيرا كثيرا . غير أنه لما عرض للمولد النبوي في محاضراته ومقالاته قرر مشروعية الاحتفال به ورضى بذلك لنفسه وللمسلمين دينا وامتدح كمن عنى بذلك بحجة أن من احتفل به يفعلوا إلا مثل ما فعله حسان بن ثابت وعلي بن أبي طالب والبراء بن عازب وأنس بن مالك رضي الله عنهم ممن يتحدثون عن محاسن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة .
وهذا الذي قرره الشيخ هو في نظره ونظر الكثيرين من أهل السنة بدعة منكرة باعتراف المؤلف نفسه في مبحث السنة والبدعة في صفحة ( 98 ) من المجموعة التي عنوانها الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان حيث قال : " والترك الذي يدل على عدم الإذن هو ما يروي في لفظ صريح كتركه عليه الصلاة والسلام الأذان والإقامة في صلاة العيدين وتركه غسل الشهداء والصلاة والسلام الأذان والإقامة في صلاة وتركه غسل الشهداء والصلاة عليهم ويلحق بهذا تركه الذي لم ينقل بلفظ صريح ولكنه يفهم من عدم نقلهم للفعل الذي من شأنه أن تتوفر الدواعي على نقله لو وقع . فيصح لنا أن نقول : من السنة ترك رفع الأصوات بالذكر أمام الجنازة ويكفي في الاستشهاد على أن السنة ترك هذا الرفع عدم نقلهم لفعله وهو من الأمور التي لو فعلت لتوفرت الدواعي على نقلها " .(1/434)
وأقول تطبيقا لهذه القاعدة الصحيحة التي يجب التسليم لها من كل منصف أن النبي ( لم يحتفل بمولد نفسه ولا بمولد غيره من الرسل والصحابة مع امتداد حياته بعد الرسالة ولا احتفل بمولده أحد من الصحابة وهم خير القرون المشهود لها بالخير ورسول الله ( أكرم الخلق على نفوسهم وأحب العالمين إلى قلوبهم ولو احتفلوا بمولده لنقل لتوفر الدواعي على نقله . فيكفي في الاستشهاد على أن ترك الاحتفال بمولده سنة وأن فعله بدعة عدم نقلهم لفعله . . أما ما ذكر عن حسان وغيره من الصحابة من الثناء على النبي( فإنهم لم يلتزموا فيه وقتا معينا يتخذونه موسما ومجتمعا وهذا متفق عليه ومندوب إليه لشرح سيرة النبي( تدريسا أو دفاعا عنه عند وجود الدواعي لذلك دون التزام حال معينة أو زمان أو مكان معين وإنما البدعة التزام زمن أو مكان بعينه يعتبر موسما ويعتاد الناس الاجتماع فيه شأنهم فيه كشأنهم في الأعياد بل هذا ربما أدى إالى الغلو في إعظام النبي( وإطرائه وقد نهى عن ذلك فقال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم " بل حصل الغلو والإطراء بالفعل حتى ممن ينتسبون إلى العلم وشغلوا مناصب كبيرة لها شأنها في دولتهم يضاف الى ما تقدم قوله في ص ( 54 ) من نفس المجموعة وأذكر بهذه المناسبة أي المناسبة الاحتفال بالمولد بيتبين ينسبان إلى صاحبنا الأستاذ السيد فلان :
سيد الرسل ومن بعثته ……كست الكون بهاء وفخارا
قم إلى النور الذي جئت به ……افترضي إن يصير النور نارا(1/435)
ثم شطر البيتين بما يدل على رضاه بما فيهما وان ادعى احد تأويل هذا بحمله على التحسر على أحوال المسلمين والتباكي على ما هم فيه من ضعف وجهل وتأخر فهو تأويل بعيد إذ الظاهر الاستنجاد بالرسول والاستعانة به لإنقاذ المسلمين مما هم فيه من النار والشقاء إلى النور والسعادة فهو ما يفتح باب شر وشرك على المسلمين وخاصة إذا حصل ممن ينتسب إلى العلم . فعلى العلماء أن يمسكوا عن مثل هذا وإلا فتحوا على المسلمين أبواب فتنة لا يطفأ أوارها ولا يسد بابها والله النوفق .
و - الخيال في الشعر الجاهلي :
هذه الرسالة تكلم فيها الشيخ عن الخيال عند الناس على أختلاف جنسياتهم ولغاتهم وعن أنواع الخيال وأطواره وتفاضله ثم عن الخيال في الشعر الجاهلي وهو المقصود وذكر إلى جانبه مباحث الخطابة عند العرب وما يتصل بها من أبحاث ومحاضرتين ألقاهما في نشأة علوم البلاغة " المعاني والبيان والبديع " وقد أبدع المؤلف في هذه الرسالة أيما إبداع وأخذ فيها بأطراف كثيرة من علوم اللغة العربية ولا عجب فللمؤلف الباع الطويل في هذه العلوم كما أن له قدما راسخا أيضا في العلوم الدينية وخاصة الفقه وأصوله .
وقد تجلى في هذه الرسالة جمال خلق الشيخ وكمال أدبه واعتداله في ميوله ودوافع نفسه . فإنه لم يعرج فيما ذكره من النماذج الشعرية على شعر ماجن أو قول تجاوز حد الأدب واللياقة .
غير أنه على خلاف عادته سكت عن أبيات قليلة فيها غلو كثير وكذب واضح منها قول أبي العتاهية في قصيدته التي هنأ بها المهدي بالخلافة :
ولو رامها أحد غيره ……لزلزلت الأرض زلزالها
ولو لم تطعه بنات القلوب ……لما قبل الله أعمالها
ومن ذلك قول أبي الفضل :
لم يبق للجور في أيامهم أثر ……غير الذي في عيون الغيد من حور(1/436)
وقد دافع عن حسان بن ثابت رضي الله عنه فيما نسب إليه من الأحاديث المشينة دفاعا يدل على سعة علمه بأحوال الشعراء ووزنهم بما عهد منهم في حياتهم الشعرية وما هم عليه من أخلاق . . كما يدل على صدق حبه للصحابة ووفائه لهم وانزالهم منازلهم رضي الله عنهم .
وبالجملة فهذه الرسائل جمة الخير ، كثيرة النفع ، لا يغض من قيمتها تلك المآخذ ولا ينبغي أن يحول دون الانتفاع بما فيها هذا النزر اليسير الذي لا تكاد تسلم منه كتابة كاتب أو تأليف مؤلف .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
عبد الرزاق عفيفي
نائب رئيس
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
**********************
التقرير الوافي عن كتاب ( الكافي )
لابن عبد البر رحمه الله
ـــــــ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد . . .
فبناء على ما أشار به سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد من الاطلاع على كتاب " الكافي " للإمام أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري رحمه الله وكتابة تقرير عنه .
فقد قرأت منه أبواب الطهارة والصلاة والحج وأبوابا من المعملات وأبوابا من الجنايات ومسائل من المواريث فوجدته كما يلي :
أولا : سلك المؤلف في كتابه الكافي مذهب مالك بن أنس - رحمه الله - وجمع فيه من المسائل أصولا يبنى عليها كثير من الفروع واستقى ذلك من كتب المالكيين ومذهب المدنيين وتعهد في مقدمة كتابه أن يقتصر على الأصح علما والأوثق نقلا وعول على كتاب " الموطأ " - لعبد الله بن عبد الحكيم وكتاب " المدونة " وكتاب " المختصر الكبير " لعبد الله بن عبد الحكم وكتاب " المبسوط " للقاضي إسماعيل بن اسحاق البغدادي وكتاب " الحاوي " لأبي الفرج القاضي و " مختصر بن مصعب " أحمد بن أبي بكر الزهري " و موطأ " عبد الله بن وهب القرشي وكتاب " الموازين " لأبي المواز وكتاب " الواضحة " لعبد الملك بن حبيب.(1/437)
ثانيا : التزم المؤلف طريقة المتقدمين في تأليفهم من عدم التكلف في التعبير فكان كتابه سهل العبارة قوي الأسلوب حسن التنسيق والترتيب قريب المأخذ يستفيد منه الطالب دون عناء .
ثالثا : كثيرا ما يعبر المؤلف في كتابه " الكافي " عن المسألة بلفظ الحديث أو الأثر أو بما يقارب ذلك ويستدل بالآيات والأحاديث والآثار أحيانا بعد ذكر المسائل إلا أنه لا ينسب ذلك إلى ديوان من دواوين السنة ولا يبين درجته وإنما يعني ببيان وجه الاستدلال والترجيح وأقرب الكتب شبها به في طريقته من حيث السهولة والاستدلال كتاب " الرسالة " لابن أبي زيد القيرواني وكتاب " المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات " وكتاب " الكافي " لابن قدامة .
رابعا : قام محقق هذا الكتاب بإصلاح الأخطاء الإملائية وبيان معاني المفردات الغامضة وخرج الأحاديث التي استدل بها المؤلف في كتابه " الكافي " وبين درجتها باختصار معتمدا في ذلك غالبا على ما ذكره أبو البركات ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " بلوغ المرام " وكتابه " التلخيص الحبير " كما أنه بين مواضع الآيات من سورها وذكر نبذة من اختيارات المؤلف ليدل على أنه حرر المسائل ودققها وعقب عليها وليس مجرد ناقل لها ونقل هذه الاختيارات في الفصل الثامن من القسم الأول من رسالته ابتداء من ( ص 231 إلى ص 841 ) وترجم للأعلام المذكورة في الكتاب وعرف المصادر التي اعتمد عليها المؤلف في جميع مسائل كتابه " الكافي " والتي أشار إليها في مقدمة " الكافي " وفي خاتمته .
خامسا : ذكر محقق الكتاب أثناء التعريف بعمله فيه ( ص 751 ) أن أبا عمر أشار في مقدمة كتابة خاتمته إلى مصادرة التي استقى منها كتابه .
وذكر في تعليقه على كتاب " الكافي " ص ( 171 - 371 ) أن أبا عمر سيذكرها في الخاتمة بأسانيدها إلى مؤلفيها .(1/438)
وبرجوعي إلى النسخة الأصلية الموريتانية التي اعتمد عليها محقق الكتاب وجدت الإشارة إلى المصادر أو الدواوين بآخر صفحتين ذكر المحقق أنهما من النسخة الفارسية التي كان يرجع أيضا إلى ما وجدهمن صفحاتها .
سادسا : وجدت غلطات مطبعية كثيرة في النسخة المكتوبة على الآلة وتفاوتا يسيرا في حروف أو كلمات بينها وبين النسخة الأصلية المخطوطة لكن يمكن تدارك ذلك عند الطبع بالرجوع إلى الأصل .
سابعا : في الكتاب ثروة علمية مع سهولة تناولها والانتفاع بها وقد خدم به المؤلف مذهب المالكية وسهل على رواده معرفة أحكامه والانتفاع به فلو طبع كان فيه إحياء للتراث العلمي ولذكرى المؤلف وخدمة لطلاب العلم .
وينبغي أن يرجع عند الطبع إلى الأصل والى نسخة أخرى أو أكثر وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
عبد الرزاق عفيفي
************************
مقدمة وتعليق
على كلمة
ــــــ
( الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي ، رحمه الله )
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه .
أما بعد : فإن العلماء في هذا العصر كثير ولكن قل منهم من يستقى الحكم من منبعه و يسنده إلى اصله ويتبع القول العمل ويتحرى الصواب في كل ما يأتي ويذر وإن من ذلك القليل فيما اعتقد الشيخ الجليل عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي - رحمه الله - فإن من قرأ مصنفاته وتتبع مؤلفاته وخالطه وسبر حاله أيام حياته عرف منه الدأب في خدمة العلم اطلاعا وتعليما ووقف منه على حسن السيرة وسماحة الخلق واستقامة الحال وإنصاف إخوانه وطلابه من نفسه وطلب السلامة فيما يجر إلى شر أو يفضي إلى نزاع أو شقاق فرحمه الله رحمة واسعة .
وإن من مؤلفاته تلك الكلمة الوجيزة الجامعة التي كتبها جوابا عن سؤال الأخ الكريم على الحمد الصالحي في حكم شرب الدخان فهي على قصرها قد أصابت الهدف وصدعت بالحق وقامت بها الحجة على من عاند واتبع هواه بغير هدى من الله .(1/439)
حيث استند فيها المؤلف إلى عموم نصوص الكتاب والسنة الدالة على تحريم شرب الدخان والى ما ينشأ عن شربه من الأضرار المالية والبدنية والاجتماعية وليس لأحد أن يتشبث بالمطالبة بذكر دليل خاص على التحريم الدخان بخصوصه غير قانع بعموم النصوص إلا أن يكون قصير النظر ضعيف الفكر جاهلا بمصادر الشريعة والاستفادة منها .
فإن الأدلة الشرعية كما تجيء جزئية أحيانا تجيء كثيرا قواعد كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات التي تتضمنها وتندرج تحتها وإن طالب الحق الباحث عنه لا يقف في سبيله مثل هذه العادة فكان أسيرا لها واستهواه الشيطان فاتخذه إماما لهيزين له الخبائث ويحببها إلى نفسه ويزيغ قلبه بما يلقيه من الوساوس والشبه الزائغة .
ولقد ظهر في شرب الدخان من الخطر والضرر وقرر علماء الطب ذلك وسأذكر لك شيئا من المنقول عنهم لا لأستدلال بذلك على حكم شرب الدخان فإن الغني في دينه من أغناه الله بكتابه وسنة نبيه فهما المناهج الواضح والطريق المستقيم وفيهما المقنع لمن رزقه الله سدادا وكان على نور من ربه . إنما أذكر ذلك لأولئك الذين ابتلوا بتقليد من يرون أنهم رجال العلم والحضارة وأهل الذوق والمدنية ليتبينوا أن من يدينون لهم قد اعترفوا بضرره فيرجعون عن شربه وإن رأوهم يدمنون شربه .
وإليك النقول من كتاب " البيان " للشيخ إبراهيم عبد الباقي - رحمه الله - قال في " أدب المحلي " ص 122 التنباك هو نبات سمته العرب الطباق وبتحليله اتضح أنه يحتوي على مادة سامة إذا وضع منها نقطتان في فم كلب مات في الحال وخمس نقاط منها تكفي لقتل جمل والأمم المتوحشة تمضغه .
وهذه أكثر الطرق ضررا لدخوله في المعدة مع الريق وقد فشا استعمال الطباق يؤثر في القلب فيحدث فيه الخفقان وفي الرئتين فيحدث سعالا وفي المعدة فينشئ فيها ضعفا في شهوة الأكل وفي العينين فيحدث فيهما رمدا وفي المجموع العصبي فتورا . ا . هـ
وقال الدكتور ( دمرداش احمد )(1/440)
لا أظن الجنس البشري منذ بدء الخليقة ضعف واستكان أمام عدو من أعدائه كما فعل أمام تدخين التبغ كما أسرته هذه العادة وأوثقته وأذلت كبرياؤه استوى في ذلك صغار العمال الكادحين الذين يقتطعون من أقواتهم وأقوات عيالهم وكبار الأطباء والفلاسفة المفكرين الذين أضاءت الكون عبقرياتهم وكشفوا هذه الآفاق البعيدة في مختلف العلوم والفنون وقد كان السائد المعروف أن التدخين باعتدال قليل الضرر أو عديمة للشخص السليم ولكن البحوث العلمية المتصلة بالسنين الأخيرة أثبتت أن الضرر الذي يحدثه التدخين لم يخطر أبدا على بال مدخن واليك الحقائق التي أثبتتها هذه البحوث .
قام الأستاذ ( ديموند بالمير ) بتتبع عشرين الف حالة منهم مسرفون ومعتدلون وممتنعون أنشأ لكل منهم سجلا خاصا بجامعة جون ( هويكنز ) أثبت فيه كل ما يتعلق بصحتهم وأمراضهم وعوائدهم وبدأت أبحاثه سنة 1919 م وانتهت سنة 1940 م بالنتيجة الآتية :
يؤثر تدخين التبغ على حياة الإنسان أثرا بالغا فتقصر هذه الحياة قصرا بينا يتناسب مع كمية التبغ . والممتنعون أطول أعمارا من المعتدلين والمعتدلون أطول من المسرفين . أ . هـ .
وأسأل الله سبحانه أن يهدينا سواء السبيل وأن يرزقنا قبول النصيحة ويجنبنا كل ما فيه خطر ومضرة وأن يرحم المؤلف وينفع بتأليفه ويجمعنا به في دار كرامته .
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
عبد الرزاق عفيفي
********************
مقدمة كتاب الولاء والبر
ـــــــ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
فموضوع هذا الكتاب له شأنه وله أهميته في نفسه وبالنسبة لكتابته في هذا الوقت فبين كتابته وبين الوقت الذي نعيش فيه الآن مناسبة قوية .
أما أهميته في نفسه : فذلك لأنه في أصل من أصول الإسلام هو : " الولاء والبراء" .
وهما مظهران من مظاهر إخلاص المحبة لله ثم لأنبيائه وللمؤمنين .(1/441)
والبراء : مظهر من مظاهر كراهية الباطل وأهله وهذا أصل من أصول الإيمان وأما أهميته بالنظر للوقت الحاضر : فأنه قد اختلاط الحابل بالنابل ! وغفل الناس عن مميزات تالمؤمنين التي يتميزون بها عن الكافرين وضعف الإيمان في قلوبهم حتى ظهرت فيهم مظاهر يكرهها المؤمن .
والولاء للكافرين امما ودولا وزهدا في كثير من المؤمنين وحطوا من قدرهم وساموهم سوء العذاب .
ومن هنا : تأتي أهمية نشر هذا الكتاب في هذا الوقت الحاضر بالذات .
ولقد جاء المؤلف على جانب الولاء والبراء ونقل في ذلك كثيرا من كلام العلماء وقدم له ومهد وعقب عليه وعلق واستدل على ما جاء به من مباديء الولاء والبراء بآيات من القرآن والأحاديث صحيحة عن رسول الله ( وبكثير من أقوال الصحابة ومن تبعهم من السلف .
وبين وجه الاستشهاد بهذا وبهذا ورقم للآيات وبين سورها وبين الأحاديث والآثار وبين درجتها في الغالب الكثير .
وأسأل الله جل شأنه أن ينفع المسلمين بهذا الكتاب وأن يهيء لمؤلفه إخوانا ينهجون نهجه فالأمل كبير ، الأمل في الله عظيم أن ينشأ كثير من شبابنا الحاضر على هذا المبدأ القيم ، مبدأ نصرة دين الإسلام وإحياء ما اندرس منه فإن ربي مجيب الدعاء .
عبد الرزاق عفيفي
***************
مقدمة لكتاب
المقاصد العلية من القصيدة النونية
ــــــ(1/442)
الحمد لله رب العالمين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد وأشهد أن لا اله إلا الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين وقائد الغر المحجلين أرسله الله تعالى رحمة للعالمين وهدى للمتقين ففتح به قلوبا غلفا وآذانا صما وأعينا عميا وبين للناس ما نزل إليهم من ربهم لعلهم يتفكرون صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الذين عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وحافظوا على شريعته الغراء وعلى سنته المطهرة حتى ورثها عنهم من جاء بعدهم من التابعين إلى أن وصلت الينا غضة طرية ورضى الله عنهم وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
وبعد فقد كتب فضيلة الأخ الشيخ محمد بن احمد سيد احمد تعليقا موجزا مفيدا بعبارات واضحة على " القصيدة النونية في التوحيد " المسماة " الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية " للعلامة أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الشهير بابن قيم الجوزية ناصر السنة وقامع البدعة - وقوته وطول باعه في شتى العلوم وفصاحة لسانه وحسن بيانه نثرا ونظما غنى عن الحديث عنه . وقد سمي فضيلته التعليق - ( المقاصد العلية من القصيدة النونية في بيان عقيدة أهل الحديث وسلامة منهجهم وأنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ) بين في تعليقاته معاني المفردات والمراد من الآبيات بعبارات واضحة دقيقة على طريقة السلف الصالح رضي الله عنهم وذكر شواهد الأحكام من الآيات والأحاديث التي أشار إليها الإمام ابن القيم في قصيدته مع بيان رقم الآية وسورتها ونسبة الأحاديث إلى دواوينها من كتب السنة فجزاه الله خيرا ونفع المسلمين بما كتبه وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
عبد الرزاق عفيفي(1/443)
تقرير عن رسالة الدعوة الحموية
في مرآة الطريقة الأحمدية
ــــــــ
1- ألف هذه الرسالة الأستاذ طاهر بن أبي بكر لنب دكري التجاني بأسلوب قوي في الجملة مع نوع من التكلف في التعبير حمية للتجانية ودفاعا عن محمد بن سيده حمى الله الشريف إمام الدعوة الحموية ( فرقة تجانية ) . 2- ذكر المؤلف 2- نبذة تاريخية عن احمد محمد التجاني وأخرى عن محمد بن سيده حمى الله وآخرين من التجانية وغلا في الثناء عليهم وذكر انتشار الدعوة الحموية في كثير من الدول رغم وضع الحساد الكثير من العقبات في سبيلها .
3- بين ما جرى من الأحداث على حمى الله وما حيك له من مؤمرات دبرها خصومه حسدا له وبغيا عليه غير أنها فشلت واستمرت دعوته في طريق الانتشار وأصيب من كاد له وآذاه . وسمي ذلك معجزة .
4- تعرض المؤلف في هذه الرسالة أثناء حديثه عن الأطوار التي مر بها حمى الله لمسائل خطيرة تعلن عن الضلال الفاضح والخطأ الواضح منها ما يأتي :
رؤية كل من احمد بن محمد التجاني وحمى الله التجاني محمدا( يقظة وأخذهما الأوراد وسائر التشريع عنه يقظة وأن كتاب جواهر المعاني ألفه علي حرازم بأمر المصطفي( يقظة بحديث " من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة " . انظر ص 8- 13 - 14 - 19 - 58 - 85 - 88 - 89 .
ب - ما زعمه محمد سيده حمى الله من القصر الحموي وهو قصر الصلاة الرباعية بآدائها ركعتين في الحضر عند خوف المسلم على نفسه من خصومه واستدل لذلك بآية ( وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(النساء: من الآية101) . .
وذكر عن ابن قيم الجوزية رحمه الله ما يشهد لمقالته في زعمه وهو كاذب في ذلك . انظر ص 62 ، 63 ، 64 ، 65 ، 66 .(1/444)
جـ - زعم أن عمل أهل فاس من التجانيين كعمل أهل المدينة وأنه ينسخ ما قبله من الأحكام المخالفة له - انظر ص 85 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 90 .
5- مرجعه كتاب جواهر المعاني لعلي حرازم ونحوه من كتب المبتدعة غالباً .
وكتبه
عبد الرزاق عفيفي
*******************
تقرير عن كتاب بغية المهتدي
في رد شبهات المعتدي
ــــــ
ألف هذا الكتاب أبو بكر بن محمد بن عثمان حوص المرجي للرد على طاهر دكري فيما زعم من مسائل ضل فيها عن طريق الهدى والصواب وللدفاع عن جده محمد عمر المرجي .
2- قسم المؤلف كتابه قسمين : الأول رد فيه ما زعمه طاهر دكري من رؤية كل من أحمد بن محمد التجاني ومحمد بن سيد حمى الله النبي( يقظة وأخذهما التشريع والأوراد عنه يقظة وناقشه في استدلاله على زعمه بحديث " من رآني في المنام فكأنما رآني في اليقظة . . . "
انظر ص 6 - 26 .
الثاني في مهاجمة طاهر دكري ورد المؤلف عليه انتصاره لجده وقد ضمنه الرد على القصر الحموي - قصر عدد ركعات الرباعية في الحضر من أجل الخوف من الخصوم والرد على جعل عمل أهل فاس كعمل أهل المدينة فيستدلون به كما يستدل المالكية بعمل أهل المدينة ويجعلونه ناسخا لغيره وذكر أنواعا أخرى من بدع طاهر دكري في رسالته موقف المحق من المبطل إلا أنه ضعيف في تعبيره مسرف في شتائمه مقذع فيها كثير النقل من كتب المبتدعة مثل احمد الصاوي وغيره .
وبالجملة فهذه خصومة بين حمى الله التجاني وأتباعه وبين من خرجوا عليه وفيها عصبية من الطائفتين إلا أن من خرجوا على حمى الله أقرب إلى الحق والى نصرته .
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
كتبه
عبد الرزاق عفيفي
*******************
نماذج من بدع التجانية
ــــــــ(1/445)
وإتماما للفائدة فقد رأيت أن يلحق بهذين التقريرين ما كتبته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإتاء في هذا الخصوص وما صدر عنها من فتاوي توضح جملة من عقائد التجانية المبتدعة . وقد كتبت اللجنة ما يلي :
نلخص فيما يلي جملة من عقائد التجانية المبتدعة مأخوذة من أوسع كتبهم وأوثقها في نظر علمائهم مثل كتاب " جواهر المعاني " لعلي حرازم وكتاب " رماح حزب الرحيم " لعمر بن سعيد الفوتي :
10- غلو احمد بن محمد التيجاني مؤسس الطريقة وغلو اتباعه فيه غلوا جاوز الحد حتى أضفى على نفسه خصائص الرسالة بل صفات الربوبية والإلهية وتبعه في ذلك مريده .
11- إيمانه بالفناء ووحدة الوجود وزعمه ذلك لنفسه بل زعم أنه في الذروة العليا من ذلك وصدقه فيه مريدوه فآمنوا به واعتقدوه .
12- زعمه رؤية النبي( يقظة وتلقين النبي( إياه الطريقة التجانية وتلقينه وردها يقظة والإذن له يقظة في تربية الخلق وتلقينهم هذا الورد واعتقاد مريديه وأتباعه ذلك .
13- تصريحه بأن المدد يفيض من الله على النبي( أولا ثم يفيض منه على الأنبياء عليه ثم منه يتفرق على جميع الخلق من آدم الى النفخ في الصور ويزعم أنه يفيض أحيانا من النبي( عليه مباشرة ثم يفيض منه على سائر الخليقة ويؤمن مريدوه بذلك ويعتقدونه .
14- تهجمه على الله وعلى كل ولي لله وسوء أدبه معهم إذ يقول قدمي على رقبة كل ولي - فلما قيل له أن عبد القادر الجيلاني قال : فيما زعموا قدمي على رقبة كل ولي - قال صدق ولكن في عصره أما أنا فقدماي على رقبة كل ولي من آدم إلى النفخ في الصور - فلما قيل له اليس الله بقادر على أن يوجد بعدك وليا فوق ذلك . قال : بلى ولكن لا يفعل كما أنه قادر على أن يوجد نبيا بعد محمد( ولكنه لا يفعل ومريدوه يؤمنون بذلك ويدافعون عنه .
15- دعواه كذبا أنه يعلم الغيب وما تخفي الصدور وأنه يصرف القلوب وتصديق مريديه ذلك وعدوه من محامده وكراماته .(1/446)
16- الحاده في آيات الله وتحريفها عن مواضعها بما يزعمه تفسيرا إشاريا كتفسيره قوله تعالى : ( مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ).
ببحر الألوهية وبحر الوجود المطلق وبحر الخليقة وهو الذي وقع عليه كن وهو البرزخ بينهما( ولولا برزخيته ( لاحترق بحر الخليقة كله من هيبة الذات . . الخ .
ويعتقد مريدوه إن ذلك من الفيض الإلهي .
17- تفضيله الصلاة على النبي ( على تلاوة القرآن بالنسبة لمن يزعم أنهم أهل المرتبة الرابعة وهي المرتبة الدنيا في نظره .
18- زعمه هو واتباعه أن مناديا ينادي يوم القيامة والناس في الموقف بأعلى صوته يا أهل الموقف هذا إمامكم الذي كان منه مددكم في الدنيا . . . الخ
يريدون بالإمام احمد التيجاني .
10- زعمه إن كل من كان تجانيا يدخل الجنة دون حساب ولا عذاب مهما فعل من الذنوب .
11- زعمه أنه من كان على طريقته وتركها إلى غيرها من الطرق الصوفية تسوء حاله ويخشى عليه سوء العاقبة والموت على الكفر .
12- زعمه انه يجب على المريد إن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي المغسل لا اختيار له بل يستسلم لشيخه فلا يقول : لم ولا كيف ولا علام ولا لأي شيء . . الخ .
13- زعمه أنه أوتي اسم الله الأعظم علمه إياه النبي( ثم هول أمره وقدر ثوابه بالآلاف المؤلفة من الحسنات حرصا وتخمينا ورجما بالغيب واقتحاما لأمر لا يعلم إلا بالتوقيف .
14- زعمه أن الأنبياء والمرسلين والأولياء لا يمكثون في قبورهم بعد الموت إلا زمنا محدودا يتفاوت بتفاوت مراتبهم ود\رجاتهم ثم يخرجون من قبورهم بأجسادهم كما كانوا من قبل إلا أن الناس لا يرونهم كما أنهم لا يرون الملائكة مع أنهم أحياء .
15- زعمه ان النبي( يحضر بجسده مجالس أذكارهم وأورادهم وكذا الخلفاء الراشدون . . الخ .(1/447)
الى غير ذلك مما يخالف أصول الإسلام ويعتبر شركا والحاداً في الدين افتراء على الله ورسوله وتشريعه وتضليلا للناس وتهجما منه بعلمه الغيب والله الموفق - وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبد الرزاق عفيفي
عبد الله بن عبد الرحمن بن غديان عبد العزيز بن عبد الله بن باز
******************
التعليق على
" مختصر تفسير ابن جرير "
ـــــــ
قال رحمه الله : راجعت مختصر تفسير ابن جرير الطبري للقرآن الكريم فوجدته كما يلي :
6- ليس دقيقا في التعبير عما فهمه واختصره من تفسير ابن جرير كما في تفسيره الرحمة بالرقة في بسم الله الرحمن الرلحيم وقد يقتصر على بعض المعنى المطلوب كما في سورة الفاتحة .
7- لم يستوعب تفسير الكلمات الغريبة بل اكتفى بتفسير جملة من الكلمات .
8- قد يخطيء في اختياره كقوله في قصة زينب بنت جحش كان رسول الله ( قد رأى زينب بنت جحش زوجة زيد فأعجبته . فأوقع الله في نفس زيد كراهتها فأراد فراقها فذكر ذلك لرسول الله( فقال صلى الله عليه وسلم له : " أمسك عليك زوجك واتق الله " وهو في ذلك يحب ان تكون قد بانت منه لينكحها " وتخشى الناس " أن يقولوا أمر رجلا أن يطلق امرأته ثم نكحها حين طلقها ( فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ) حاجة منها وهي الوطء (لِكَيْ لا) لئلا " حرج " إثم . . وكقوله في تفسير سورة النجم (ذُو مِرَّةٍ) ذو منظر حسن أو ذو قوة ( فَاسْتَوَى) أي ارتفع واعتدل ومعنى الكلام فاستوى جبريل ومحمد عليهما السلام وهو بالأفق الأعلى . وكقوله : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) قيل علا عليها .
9- وضع الكلمات القرآنية في الهامش على شكل مربع بالرسم اللائملائي وقد حافظ على رسمها العثماني في المصحف . وعلى كل حال لا يمتاز في تفسيره للكلمات عن غيره . فالجميع فيه مأخذ .(1/448)
10- وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وأرى أن يكتفي بشراء مصاحف مجردة من التفسير وتوزع على الفنادق .
نائب رئيس اللجنة الدائمة
للبحوث العلمية والإفتاء
عبد الرزاق عفيفي
من أسباب الانحراف والصدود عن الحق
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد .
فللصدود عن الحق اسباب عديدة وموانع كثيرة منها الغرور الفكري والتقليد عن غير بينة وبصيرة وتحكم العادات السيئة في النفوس والأنفة والاستكبار والحسد الممقوت وطاغوت الافتتان بالمركز والجاه وكثرة المال وما إلى ذلك وكلها امراض أخلاقية وبيلة وأدواء مستعصية فتاكة والحديث عنها يطول فليكن حديثي في هذه الحلقة عن الغرور الفكري :
الغرور الفكري هو إعجاب الإنسان بعقله وافتتانه برأيه وإنزاله فوق منزلته وإعطاؤه من القداسة ما ليس بأهل له حتى يدخل فيما لا يعنيه وما ليس في وسعه وحدود طاقته فيعارض العبد به ربه في خلقه وتشريعه فضلا عن معارضته لنظرائه ومن هو أوسع منه فكرا وأكثر تجربة من العلماء .
لقد وجد الشيطان منفذا لوسوسته في اغترار قوم بعقولهم وعلومهم فاستهواهم وزين لهم إن يخوضوا فيما ليس من شأنهم وأن يهجموا على بحث ما ليس في وسعهم بحثه .(1/449)
من ذلك تفاصيل القضاء والقدر وكنه الله وصفاته وكيفيات ذلك فاضطربت افكارهم وتفرقت بهم السبل عن الجادة والصراط المستقيم فمنهم من غلا في نفي ذلك زعما منه انه سلك مسلك العدل والتنزيه لله عن الظلم والجور وعارضوا بذلك نصوص الإثبات للقضاء والقدر ومنهم من غلا في الإثبات حتى سلب المكلفين اختيارهم وأعمالهم زعما منهم أن نصوص عموم مشيئة الله واقتداره تنافي ثبوت الاختيار والكسب للمكلفين فعارضوا بذلك الحس وأدلة الشرع والعقل ولم يكن - من اقتحم باب البحث في كنه الله وكيفيات صفاته فغلوا في ذلك نفيا - أو إثباتا بأهدى سبيلا من هؤلاء بل وقع الجميع في حيرة ومتاهات لا نجاة لهم منها إلا بمعرفتهم قدر أنفسهم والحدود التي يجب إن تنتهي إليها أفكارهم ويعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ويلتزموا بما جاء في شريعة الله فما تبين من ذلك وجب اعتقاده وما لم يتبين من التفاصيل والكيفيات وجب التسليم له والقول بما قال به الراسخون في العلم : ( آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وحرم الخوض فيه لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ً) .(1/450)
واستهوى الشيطان من هؤلاء المغرورين طائفة أخرى فزين لها أن تسن قوانين من عند أنفسهم لتتحاكم إليها وتفصل بها في خصوماته وسول لها أن تضع قواعد بمحض تفكيرها وهواها تنظم بها اقتصادها وسائر معاملاتها محادة لكتاب الله وسنة رسوله ( وانتقاصا لتشريعهما وزعما منها أن تشريع الله لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم ولا يكفل لهم مصالحهم ولا يعالج ما جد من مشاكلهم حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحي واتسع نطاق المعاملات وكثرت المشكلات فلا بد لتنظيم المعاملات والفصل في الخصومات من قواعد وقوانين جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر الواقفون على أحوال أهله المطلعون على المشاكل العارفون بأسبابها وطرق حلها لترتكز على واقع الحياة وتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم الراهنة .
فهؤلاء لم يقدروا عقولهم قدرها ولم ينزلوها منزلتها ولم يقدروا الله حق قدره ولم يعرفوا حقيقة شرعه ولا طريق تطبيق منهجه وأحكامه ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علما فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال وكثرة المشاكل وأنه أنزل شريعة عامة شاملة وقواعد كلية محكمة وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، جعلها صالحة لكل زمان ومكان فمهما اختلف الطبائع والحضارات وتباينتا الظروف والأحوال فهي صالحة لتنظيم معاملات العباد وتبادل المنافع بينهم والفصل في خصوماتهم وحل مشاكلهم وصلاح جميع شؤونهم في عبادتهم ومعاملاتهم .(1/451)
إن العقول التي منحها الله عباده ليعرفوه بها وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلى ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل قد اتخذوا منها خصما لدودا لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره وضاقوا ذرعا بتشريعه وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون لأنهم لغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل فكانوا من الأخسرين أعمالا ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) .
وكانوا ممن ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ) .
إن الله سبحانه كثيرا ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ويحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم نظر عظة واعتبار ليتنكبوا طريقهم اتقاء لسوء مصيرهم ولفت النظر في بعض السور إلى جريمة الغرور الفكري لشدة خطره وبين أنه الفتنة الكبرى التي دفعوا بها في صدور الرسل وردوا بها دعوتهم ليعرفونا بقصور عقول البشر وأنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل وردوا بها دعوتهم ليعرفونا بقصور عقول البشر وأنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل وليحذرنا من خطر الغرور الفكري الذي هلك به من قاوم المرسلين . قال تعالى:(1/452)
( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )
إن اعتبار الإنسان لفكره واعتداده به درجات منها المحمود ومنها المذموم فما جاوز الحد وبلغ درجة الإعجاب بالرأي والعصبية له ودفع الحق به بعد أن يتبين على نحو ما مضى من الحديث عنه فهو المحقوق وما موقف بالمفكر عند حده فاعتقد ما فهم من الدليل عن بينة وبصيرة واعتز به لكونه الحق في نظره دون أن يتعارض به صريح كتاب ولا صحيح سنة ولا إجماع أمة فليس بممقوت بل هو الواجب عليه وعلى تمسكه به يحمد لكن ينبغي له أن ينصف مناظره من نفسه ويحترم فكر صاحبه كما يجب أن يقابله بمثل هذا الاحترام ليستمر البحث والمناظرة ويتبين الحق من قريب مع المحافظة على الأخوة وأواصر المحبة والوئام .
والله الموفق . وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم .
**********************
المبحث الحادي عشر
فتاواه وبحوثه
ــــــ(1/453)
لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد على العلم بما يبلغ والصدق فيه لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق فيكون عالما بما يبلغ صادقا فيه ويكون مع ذلك حسن الطريقة ، مرضي السيرة عدلا في أقواله وأفعاله متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره وهو من أعلى المراتب السنيات فكيف بمنصب أن يعد له عدته وأن يتأهب في صدره حرج من قول الحق والصدع به فإن الله ناصره وهاديه وكيف لا وهو المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب فقال تعالى :
( وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ ).
وكفى بما تولاه الله بنفسه شرفا وجلالة إذ يقول سبحانه في كتابه :
( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة ) .
وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه وليوقن أنه مسئول غدا وموقوف بين يدي الله .
وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين ( وإمام المتقين وخاتم النبين محمد عبد الله ورسوله( فكان يفتي عن الله بوحيه المبين فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلا وقد امر الله عباده بالرد إليها حيث يقول : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .(1/454)
ثم قام بالفتوى من بعده برك الإسلام وعسكر القرآن وجند الرحمن الين الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأحسنها بيانا وأصدقها إيمانا وأعمقها نصيحة وأقربها إلى الله وسيلة وكانوا بين مكثر فيها ومقل ومتوسط . ثم صارت الفتوى من بعدهم في التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا .
وممن قام بهذا العمل الشريف " الإفتاء " في عصرنا الحاضر كوكبة من الأئمة الأعلام الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله ومن هؤلاء الحملة العدول والعلماء الفحول الذين عنوا بضبط قواعد الحلال والحرام وخصوا باستنباط الأحكام فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - فقد كتب كما هائلا من الفتاوي والبحوث وقد بلغ عدد الفتاوي التي قرأها ووقع عليها وشارك في صياغتها قرابة خمسة عشر ألف فتوى وذلك من خلال عمله في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
لقد كان الشيخ - رحمه الله - مثالا يحتذى في الفتاوي ، دقة في النقل والتزاما في السلوك وكان يختار من الألفاظ المعبرة ما يتضح به المعنى ولقد بلغ مبلغا عظيما في احترام وتقدير أقوال العلماء فإذا صدرت فتوى في مسألة وله رأي مخالف فيها وسأله أحد عن هذه الفتوى أفتى بقول جماعة العلماء وقد يحبس رأيه أحيانا عن المستفتي إذا وجد أن هذا الرأي قد يحدث شقاقا بينهم ولا يبرزه إلا طلبة العلم الذين يلتزمون الأدب عند الاختلاف ويوقرون العلماء وينزلونهم منازلهم اللائقة بهم .
يقول فضيلة الشيخ يوسف المطلق : " لقد نما إلى علمي انه كان يقرأ كثيرا ولا يبت في الجواب على الفتوى إلا بعد تريث وسؤال عن دقائق الموضوع حتى يستوعب ويقوم عنده تصور صحيح دقيق للموضوع " .
ويصفه أحد المستفتين - ممن نهلوا من علمه واستفادوا من فتاواه فيقول :(1/455)
لقد كان - رحمه الله - رحب الصدر عميق الفكر واسع المدارك عالما بعصره وما يدور فيه ولهذا كانت فتاواه وإجاباته عن أسئلة تلاميذه أقرب للواقع والعصر الذي نعيشه وكان يستشيره عدد من كبار علمائنا الأفاضل ويأخذون برأيه في المسائل المختلفة وخاصة تلك التي لها مساس بالتجارب والخبرات والمسائل التي تتعلق بما ظهر في عصرنا وعالمنا من أمور حديثة .
في جلسة حوار دارت حول تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي بينه وبين عدد من خبراء الاقتصاد الذين ينشدون السعي لتطوير النظام الاقتصادي الإسلامي سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي عن إمكانات عديدة تسمح بالتدرج في تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي وعدم التشديد والتضييق أول الأمر فأجاب بقوله : يجب ألا نكتفي بالأسئلة النظرية التي ليس لها أي مردود عملي ثم أردف قائلا : لقد درسنا كثيرا من الأمور النظرية بل قدمنا فيها الفتوى المناسبة بهدف أن تجد التطبيق العملي لها . وإذا بها تتعثر لعدم وجود الدعم الكافي لها أو أن الكثير تخطاها بفتاوي تجاوزت الحدود الإسلامية المقبولة . وذهبت مرة أستفتي أحد كبار العلماء الأفاضل في مسألة خاصة واستدعت الفتوى أن أراجع العالم الفاضل وأستوضح بعض جوانب فتواه ولم يزد ذلك عن سؤالين أو ثلاثة وبهت عندما هب هذا العالم واقفا وأقفل الحديث وخرج من المجلس . ذهبت بعدها مباشرة إلى الشيخ عبد الرزاق عفيفي وهو مريض على فراشه في غرفة نومه فأحسن استقبالي وأحضر لي الشاي وحاورته في مسألتي حتى اتضحت لى الأمور . وغادرت بيته معجبا بعلمه ورحابة صدره وصبره وتمثلت فيه العالم القدوة ودعوت الله له بدعوات حارة صادرة من أعماق قلبي .(1/456)
قلت : ومن هذا يتضح أن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - لم يكن عالما متخصصا يغلق فكره على فرع معين من فروع المعرفة وإنما كان رجلا متعدد المواهب مجيدا في كل ما اقتحمه من ميادين العلم والمعرفة فهو فقيه محدث أصولي اقتصادي عالم بالتحليل النفسي خبير بالمجتمع وتحركاته الظاهرة والخفية مطلع على مذاهب الفقهاء ناقد بصير لاسيما ما يكتب في أمور العقيدة والتوحيد والفرق والمذاهب المعاصرة .
لقد كان - رحمه الله - ملتزما بكل ما يقول ويكتب فلم يكتب بحثا أو يصدر فتوى إلا التزم بها سلوكا ولم يكن يعتمد على عموميات مشهورة في إصدار إنما كان يعتمد على الأدلة الصحيحة الصريحة التي تبنى عليها فتاواه فضلا عن ذلك فإن الشيخ - رحمه الله - لم يكن متسرعا في فتاواه ولا يحاول الانتصار لنفسه فيما يقول ويفتي به بل كان يود أن غيره يكفيه الفتيا؛وهذا والله مسلك الصالحين ؛ودأب الناصحين ؛ وما كان عليه سلف هذه الأمه من الصحابه والتابعين .
فقد كانوا يكرهون التسرع في الفتوى ويحذرون من ذلك أشد التحذير فعن عبد الرحمن بن ليلى قال : أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله ( أراه قال في المسجد فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون .
وقال سحنون بن سعيد : أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه .(1/457)
قلت : وأما البحوث ورسائله فتتسم بالأصالة والعمق والبعد عن الحشو والتعقيد فأسلوبه سهل ممتنع يكاد من يقرا له يستحضر شخصيته من خلال قراءته له ويدرك تماما أنه يقرأ لعالم من الرعيل الأول فما من مسألة أوبحث إلا ويوفيه حقه مع عرض المسائل مقرونة بالأدلة والتعليلات وإسناد كل قوله لصاحبه بأمانة وحسن نية فمن يقرأ بحوث الشيخ وكتاباته يعلم أنه يقرأ فقها مقارنا ويدرك أنه يطوف بنظره وفكره في مذاهب العلماء رحمهم الله .
ومما تجد الإشارة إليه أن أكثر هذه البحوث تعني بأمر المعتقد وفقه البيوع والمعاملات والعناية بمسائل الحلال والحرام ومن هذه البحوث القيمة بحث إثبات خلافة الخلفاء الراشدين وفي هذا البحث وضح الشيخ ما ذكره ابن أبي العز في شرحه على " العقيدة الطحاوية " وضوحا لا مزيد عليه . فقد ذكر أن الخلافة تثبت أحيانا بالنص من النبي( أو من الخليفة السابق وتثبت أحيانا بالبيعة ثم ذكر اختلاف العلماء فيما تثبت به الخلافة لأبي بكرا الصديق رضي الله عنه فوضح الشيخ هذا الخلاف قائلا :
اختلف العلماء فيما تثبت به الخلافة لأبي بكر رضي الله عنه فقيل تثبت بالأمر الجلي من النبي صلى الله عليه وسلم على أنه الخليفة من بعده وقيل ثبت بالنص الخفي منه على ذلك وقيل ثبتت ببيعة ذوي الشأن وأهل الرأي له واختيارهم إياه خليفة للمسلمين ولم يختلف عن بيعته إلا علي بن أبي طالب وسعد بن عبادة رضي الله عنهما فقد تخلفا عن بيعته مدة ثم بايعا بعد ذلك .(1/458)
وقد استدل من قال تثبت بالنص الجلي أو الخفي بما ثبت أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم وكأنها تسأله عطاء فأمرها أن ترجع إليه قالت : أرأيت إن جئت ولم أجدك وكأنها تعني الموت قال : " إن لم تجديني فأتي أبي بكر وعمر " . . رواه أصحاب السنن . واستدلوا بما رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بديء فيه فقال : " ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابا ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر " وبما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال على بعيره : " لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، لا لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبا بكر " . واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " ولما روجع في ذلك مرات لم يأمر غيره باتلصلاة بالناس بل كرر الأمر بصلاة أبي بكر بهم فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر ديننا أفلا نرضاه إماما لنا في أمر دنيانا .
ثم ذكر الشيخ بعد ذلك أدلة من قالوا بثبوت الخلافة بالبيعة لا بالنص ثم ختم كلامه في هذا المبحث بما رجحه ابن تيمية من ثبوت الخلافة لأبي بكر ببيعة الصحابة له واختيارهم إياه .
وبعد هذه المقتطفات من هذا البحث القيم رأيت أنه من الأكمل أن أضع بين يدي القاريء الكريم نماذج من بحوث الشيخ بصورتها المتكاملة وما أضيف إليها مما هو منها وغالب ظني أنها لم تنشر من قبل ولعل ذلك راجع الى عزوفه - رحمه الله - عن النشر وزهده في الشهرة وإيثاره للظل ثم أتبعت ذلك كله نماذج مختارة من فتاوي الشيخ وما شابهها من فتاوي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفناء إتماما للفائدة وتعميما للنفع وقد بدا لي أن أبدأ بإيراد الفتاوي أولا ثم البحوث ثانيا مراعاة للترتيب وتمشيا مع العنوان .
العذر بالجهل
ــــــ(1/459)
سئل رحمه الله : هل يوجد عذر بالجهالة في أصل التوحيد علما بأن بعض أهل السنة ذكر أنه لا عذر لأحد بالجهل في أصل التوحيد .
إن وجوب الإيمان بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر وما يتصل بذلك من أصول وفروع والعمل بمقتضاه : يتوقف على البلاغ الصحيح ومعرفة ما تضمنه البلاغ من الحق وهذا مما يتفاوت بتفاوت الناس في مداركهم وقواهم العقلية وكثرة العلماء والدعاة الى الإسلام وما الى هذا مما يتيسر معه معرفة الحق وتأييده واستبانة شبه الباطل وتمييزها من الحق والقضاء عليها أو بعدهم عن ديار الإسلام والدعاة اليه وما إلى ذلك من الحواجز التي يشق معها الوصول الى معالم شرع الله تعالى والوقوف على حقيقته جملة أو التبحر فيه .
فيجب أن يراعي ذلك وأمثاله في الحكم على الناس فقد يجب على بعض الناس الإيمان بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله إجمالا إذا لم يبلغه إلا ذلك ولم يتيسر له سواه مع بذل وسعه في التعرف على الحق لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفس بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من اصحاب النار " . رواه مسلم .
ولما ثبت عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلا رزقه الله مالا قال لبنيه لما حضره الموت : أي أب كنت لكم قالوا خير أب قال : فإني لم أعمل خيرا قط فإذا مت فاحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ففعلوا فجمعه الله عز وجل فقال : ما حملك قال : مخافتك فتلقاه برحمته " . متفق عليه ورواه البخاري عن حذيفة أيضا ورواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وسئل - رحمه الله - عن حكم من أنكر معلوما من الدين بالضرورة ومن خالف حكما ثابتا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فأجاب رحمه الله :(1/460)
أول : إذا خالف مسلم حكما ثابتا بنص صريح من الكتاب والسنة لا يقبل التأويل ولا مجال فيه للأجتهاد أو إجماعا قطيعا ثابتا بين له الصواب في الحكم فإن تقبل فالحمد لله وإن أبى بعد البيان وإقامة الحجة وأصر على تغيير حكم الله بكفره وعومل معاملة المرتد عن دين الإسلام مثال ذلك من أنكر الصلوات الخمس أو إحداها أو فريضة الصيام أو الزكاة أو الحج إلى بيت الله الحرام وتأول ما دل عليها من نصوص الكتاب والسنة ولم يعبأ بإجماع الأمة .
وإذا خالف حكما ثابتا بدليل مختلف في ثبوته أو قابل للتأويل بمعان مختلفة وأحكام متقابلة فخلافة خلاف في مسألة اجتهادية فلا يكفر بل يعذر في ذلك من أخطا ويؤجر على اجتهاده أجرا واحدا وعمله بهذا الاجتهاد مشروع ويحمد من أصاب ويؤجر أجرين أجرا على اجتهاده وأجرا على إصابته مثال ذلك : من أنكر وجوب قراءة الفاتحة على المأموم ومن قال بوجوب قراءتها عليه ومثاله ايضا من قال بوجوب العمرة ومن قال ليست واجبة بل سنة ومن قال بتوريث الأخوة مع الجد ومن خالفهم فقال : بحجبهم بالجد . . فمثل هذا لا يجوز تكفيره ولا إنكار الصلاة وراءه ولا يحرم الأكل من ذبيحته بل تجب مذكراته والتفاهم معه في ذلك على ضوء الأدلة الشرعية لأنه أخ مسلم له حقوق المسلمين والخلاف في مثل هذه المسائل خلاف في مسائل فرعية اجتهادية جرى مثلها في عهد الص-حابة رضي الله عنهم وأئمة السلف ولم يكفر بعضهم بعضا ولم يهجر بعضهم بعضا من أجلها
وفي الصفحات التالية فتوى للجنة الدائمة للبحوث العلمية والافتاء في هذا الخصوص أحببت أن يطلع القاريء عليها نظرا لأهمية الموضوع وخطورته وخفائه على بعض طلبة العلم .
فتوى رقم 11043 وتاريخ 20 / 5 / 1408 هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه . . وبعد :(1/461)
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على السؤال المقدم من جمال بن ضاحي بن عبد رب الرسول بن شاويش الى سماحة الرئيس العام والمحال اليها برقم 3340 في 20 / 7 / 1405 ونصه :
" عندنا تتفشى ظاهرة عبادة القبور وفي نفس الوقت وجود من يدافع عن هؤلاء ويقول : إنهم مسلمون معذورون بجهلهم فلا مانع من أن يتزوجوا من فتياتنا وأن نصلي خلفهم وأن لهم كافة حقوق المسلم على المسلم ولا يكتفون بذلك بل يسمون من يقول بكفر هؤلاء أنه صاحب بدعة يعامل معاملة المبتدعين بل ويدعوا أن سماحتكم تعذرون عباد القبور بجهلهم حيث أقررتم مذكرة لشخص يدعى الغباشي يعذر فيها عباد القبور . لذلك أرجو من سماحتكم إررسال بحث شاف كاف تبين فيه الأمور التي فيها العذر بالجهل من الأمور التي لا عذر فيها كذلك بيان المراجع التي يمكن الرجوع اليها في ذلك ولكم منا جزيل الشكر " .
يختلف الحكم على الإنسان بأنه يعذر بالجهل في المسائل الدينية أو لا يعذر باختلاف البلاغ وعدمه وباختلاف المسألة نفسها وضوحا وخفاء وتفاوت مدارك الناس قوة وضعفا .
فمن استغاث بأصحاب القبور دفعا للضر أو كشفا للكرب بين له أن ذلك شرك وأقيمت عليه الحجة أداء لواجب البلاغ فإن أصر بعد البيان فهو مشرك يعامل في الدنيا معاملة الكافرين واستحق العذاب الأليم في الآخرة إذا مات على ذلك . قال الله تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) .
وقوله تعالى : ( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) .(1/462)
وثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم مات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " . رواه مسلم إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب البيان وإقامة الحجة قبل المؤاخذة ومن عاش في بلاد يسمع فيها الدعوة الى الإسلام وغيره ثم لا يؤمن ولا يطلب الحق من أهله فهو في حكم من بلغته الدعوة الإسلامية وأصر على الكفر ويشهد لذلك عموم حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم كما يشهد له ما قصه الله تعالى من نبا قوم موسى إذ أضلهم السامري فعبدوا العجل وقد استخلف فيهم أخاه هارون عند ذهابه لمناجاة الله فلما أنكر عليهم عبادة العجل قالوا : لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى فاستجابوا لداعي الشرك وأبوا أن يستجيبوا لداعي التوحيد فلم يعذرهم الله في استجابتهم لدعوة الشرك والتلبيس عليهم فيها لوجود الدعوة للتوحيد الى جانبها مع قرب العهد بدعوة موسى الى التوحيد
ويشهد لذلك أيضا ما قصه الله من نبأ نقاش الشيطان لأهل النار وتخليه عنهم وبراءته منهم قال الله تعالى :
( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
فلم يعذروا في تصديقهم وعد الشيطان مع مزيد تلبيسه وتزيينه الشرك واتباعهم لما سول لهم من الشرك لوقوعه الى جانب وعد الله الحق بالثواب الجزيل لمن صدق وعده فاستجاب للشريعة واتبع صراطه السوي .(1/463)
ومن نظر في البلاد التي انتشر فيه الإسلام وجد من يعيش فيها يتجاذبه فريقان فريق يدعو الى البدع على اختلاف أنواعها شركية وغير شركية ويلبس على الناس ويزين لهم بدعته بما استطاع من أحاديث لا تصح وقصص عجيبة غريبة يوردها بأسلوب شيق جذاب وفريق يدعو الى الحق والهدى ويقيم على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة ويبين بطلان ما دعا اليه الفريق الآخر وما فيه من زيف فكان في بلاغ هذا الفريق وبيانه في إقامة الحجة وإن قل عددهم فإن العبرة ببيان الحق بدليله لا بكثرة العدد فمن كان عاقلا وعاش في مثل هذه البلاد واستطاع أن يعرف الحق من أهله إذا جد في طلبه وسلم من الهوى والعصبية ولم يغتر بغنى الأغنياء ولا بسيادة الزعماء ولا بوجاهة الوجهاء وإلا أختل ميزان تفكيره وألغى عقله وكان من الذي قال الله فيهم :
( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) .
أما من عاش في بلاد غير إسلامية ولم يسمع عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن القرآن والإسلام فهذا على تقدير وجوده ،حكمه حكم أهل الفترة يجب على علماء المسلمين أن يبلغوه شريعة الإسلام أصولا وفروعا إقامة للحجة وإعذارا اليه ويوم القيامة يعامل معاملة من لم يكلف في الدنيا لجنونه أو بلهه أو صغره وعدم تكليفه . وأما ما يخفي من أحكام الشريعة من جهة الدلالة أو لتقابل الأدلة وتجاذبها فلا يقال لمن خالف فيه آمن وكفر ولكن يقال أصاب وأخطأ فيعذر فيه من أخطأ ويؤجر .
اللجنة الدائمة
عبد الرزاق عفيفي…………زيز بن عبد الله بن باز(1/464)
***************
حكم الموسيقى
ــــــ
سئل رحمه الله عن حكم الموسيقى بجميع أنواعها ومختلف أدواتها فأجاب :
الموسيقى من أنواع اللهو وكل لهو باطل لما ثبت من قوله صلى الله عليه وسلم :
" كل شيء يلهو به ابن آدم باطل إلا رميه بقوسه وتأديب فرسه وملاعبة زوجته " .
فهي محرمة أيا كانت آلاتها وكيفما كانت طرق استعمالها سواء كانت مصحوبة بغناء أم لا والمصحوبة بغناء أشد تحريما .
وسئل رحمه الله عن حكم استخدام الطبل والدفوف فأجاب :
الطبل والدف : الطبل يكون ذا وجه وا وجهين ويسمى الكوبة فهو أيضا من أنواع اللهو وكل لهو باطل لما تقدم من الآية والحديث وكذا الدف إلا أنه رخص في استعماله في إعلان النكاح للنساء خاصة دون الرجال .
وقد صار منا فتوى في ذلك هذا نصها : " إعلان النكاح سنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم ( أعلنوا النكاح ) {,أ÷ أ؛/> ,ً؛؛÷ أ[، ؛[أ، ,ألأ؛أ:/ ,/، ,ٍأ~لأ 'لآ،÷ ألأَ{[ [ألأ>ف لكنه من النساء دون الرجال لثبوته منهن عمليا دون الرجال في الصدر الأول وقد وردت أحاديث في الضرب بالدف في النكاح منها ما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : " إعلنوا النكاح واضربوا عليه بالغربال " أي الدف وفي سنده عيسى بن ميمون وهو ضعيف وأخرجه ابن ماجة وفي اسناده خالد بن إياس وهو منكر الحديث وروى من طرق أخرى لا تخلو من مقال فلا يصح الاستدلال بهما على جوازه للرجال .
وصلى الله عليه وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
عبد الرزاق عفيفي
**************
حكم سماع الأغاني
ـــــ
وفيما يلي فتوى في حكم سماع الأغاني للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا نصها :
سؤال وجواب في حكم سماع الأغاني
فتوى رقم 3719 وتاريخ 10 / 6 / 1401 هـ
س : ما حكم سماع الأغاني ؟(1/465)
جـ : الأصل تحريم سماع الأغاني وقد صدرت فتوى من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء هذا نصها : الاستماع للصوت يتضمن معني الميل له والأصغاء إليه فاستماع الأغاني فيه معنى الميل لها والإصغاء إليها أما فاستماع الأغاني فقد يكون عن قصد وإصغاء فيسمى استماعا أيضا ويأخذ حكمه وقد يكون من غير قصد ولا إصغاء للصوت فلا يسمى استماعا ولا يحكم له بحكمه وعلى ذلك فالاستماع إلى ما ذكر السائل من الأغاني المشتملة على جميع أنواع الطرب محرم على كل من أصغى إليها ، رجلا كان أم امرأة في بيته أو في غير بيته كالسيارات والمجالس العامة والخاصة لما له في ذلك من الاختيار والميل إلى مشاركة فيما حرمته الشريعة .
قال الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) .(1/466)
وما ذكره السائل من الغناء هو من لهو الحديث فإنه فتنة للقلب يستهويه إلى الشر ويصرفه عن الخير ويضيع على الإنسان وقته دون جدوى فيدخل في عموم لهو الحديث ويدخل من غنى ومن استمع إلى تلك الأغاني في عموم من اشترى لهو الحديث ليصرف نفسه أو غيره عن سبيل الله وقد ذم الله ذلك وتوعد من فعله بالعذاب المهين وكما دل القرآن بعمومه على تحريم الغناء والاستماع إليه دلت السنة عليه من ذلك قوله( : " ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم - يعني الفقير - رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غداً فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة " رواه البخاري وغيره من أئمة الحديث . والمعازف : اللهو وآلاته ومن ذلك الغناء والاستماع إليه فذم رسول الله صلى الله عليه وسلم من يستحلون الزنا ولبس الرجال للحرير وشرب الخمور وآلات اللهو والاستماع لها وقرن المعازف بما قبلها من الكبائر وتوعد في نهاية الحديث من فعل ذلك بالعذاب . فدل على تحريم العزف بآلات اللهو والاستماع لها أما السماع دون قصد ولا إصغاء كسماع من يمشي في الطريق غناء آلات اللهو في الدكاكين أو ما يمر به من السيارات ومن يأتيه وهو في بيته صوت الغناء من بيوت جيرانه دون أن يستهويه ذلك - فهذا مغلوب على أمره لا إثم عليه وعليه أن ينصح وينهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة ويسعى في التخلص مما يمكنه التخلص منه وسعه وفي حدود طاقته فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وقد جرى جماعة من العلماء على أن يستدلوا على مطلوبهم بالأدلة الصحيحة ثم يتبعوا ذلك بأحداث فيها شيء من في سندها أو في وجه دلالتها على دعواهم وهذا لا يضرهم في ثبوت أصل مطلوبهم فإنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستئناس والاستشهاد لا على سبيل الاحتجاج والاعتماد من ذلك ما يذكره بعض العلماء من الأحاديث في مقام تحريم الغناء والاستماع(1/467)
إليه بعد إثباته بالأدلة الصحيحة فلا يضر الطعن فيها فيما ذكر تبعا في ثبوت التحريم بما استدلوا به أولا وأصالة من الدلالة الصحيحة فمن ذلك ما رواه الحكيم الترمذي عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من استمع إلى صوت غناء لم يؤذن له أن يستمع إلى الروحانيين في الجنة " والثاني ما رواه ابن عساكر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة " وما رواه البيهقي عن جابر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع " . وما رواه أبو داود عن سلام بن مسكين عن شيح شهد أبا وائل في وليمة فجعلوا يلعبون ويتغنون فحل أبو وائل حبوته وقال سمعت عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الغناء ينبت النفاق في القلب " .
فهذه الأحاديث ضعيفة لكن لا يؤثر ضعفها في تحريم الغناء والاستماع إليه لثبوت التحريم بأدلة أخرى صحيحة من الكتاب والسنة أما العرضات الشعبية ففيها تفصيل لاختلاف أنواعه والمقتضى لها ويمكن أخذ حكمها مما ذكر في الفتوى .
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو عضو نائب رئيس اللجنة الرئيس
عبدالله بن قعود عبدالله بن غديان عبد الرزاق عفيفي عيد العزيز بن عبدالله بن باز
*****************
حكم التمثيل
ــــــ
سئل رحمه الله عن حكم التمثيل فأجاب :
أ - إذا كانت أهداف كل من التمثيل للمواقف التاريخية وللمواقف المعاصرة الواقعة - نبيلة باعثة على الخير ولم يكن فيها كذب ولا أفتراء ولا انتفاض لشخصيات إسلامية أو مجتمع اسلامي ولم يكن مما يتوقع من ورائه حدوث فتنة أو إثارة شر فهو جائز وإلا فلا .(1/468)
ب - أما التمثيل الفكاهي غير جائز لأن المقصود منه مجرد التسلية والترويح عن النفس مع غلبة اللهو عليه وعد المبالاة وكثرة المزاح الكاذب والكلمات المبتذلة والأساليب الساخرة المرذولة وأمثال ذلك مما يتفق مع ذوي الأهواء ويضحك النفوس المريضة ويسري عنها الهموم لكنه من غير شك يثير الفتن ويبعث الشر من مكمنه ويسيء إلى المجتمع ويذهب بمكارم الأخلاق وعمل هذا شأنه وهذه عواقبه ونتائجه يأباه الشرع وتنفر منه الفطر السليمة .
*************
حكم تربية الحمام والأرانب
بمكة المكرمة وذبحها فيها
ــــــــ
سئل - رحمه الله - عن حكم تربية الحمام والأرانب بمكة المكرمة وذبحها فيها هل يجوز أم لا ؟
الأصل في الطيور وسائر الحيوانات أنها مباح ذبحها وأكلها إلا ما نص الشرع على تحريمه من كل ذي ناب من السباع أو مخلب من الطير ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) .
وقال تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ).
( وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُب ِ) .(1/469)
وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ) .
الآيات إلى قوله تعالى : ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير " رواه مسلم وروى أبو هريرة عن النبي ( أنه قال : " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام " . وقال ابن عمر رضي الله عنهما : نهى رسول الله ( عن أكل الجلالة وألبانها رواه احمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه ولم يرد نص في الشريعة بتحريم شيء إلا ما كان منها غير مستأنس وصاده محرم بحج أو عمرة أو صيد بالحرم فهو محرم لقوله تعالى : (ِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ) .
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله حرم مكة فلم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار لا يختلي خلالها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها " رواه مسلم .(1/470)
وعلى هذا فكل ما صاده غير المحرم في الحل ودخل به الحرم أو أخذه منه محرم بشراء أو هبة أو إرث فحلال للمحرم ولمن بالحرم ملكه وذبحه وأكله ومن أحرم وبيده صيدا أو منزله أو في قفص عنده وقد ملكه قبل ذلك فحلال له كما كان من قبل فله ذبحه وأكله وبيعه وإنما يحرم على المحرم وعلى من في الحرم ابتداء تصيد الصيد فقط فإن فعل فلا يملكه وإن ذبحه فهو ميتة .
قال هاشم بن عروة : كان أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير بمكة تسع سنين يراها في الأقفاس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدمون بها القماري والبيعاقيب لا ينهون عن ذلك وروى ابن حزم عن مجاهد لا بأس أن يدخلف الصيد في الحرم حيا ثم يذبحه وروى أيضا أن صالح بن كيسان قال : رأيت الصيد يباع بمكة حيا في إمارة ابن الزبير .
********************
نماذج من بحوثه
الجنة والنار
ــــــ
مبحث في أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن وأنهما باقيتان لا تفنيان .
هذا المبحث يتضمن أمرين :
الأول : خلق الجنة والنار ووجودهما في الدنيا .
والثاني : بقاؤهما أبد الآبدين .
وفي كل منهما خلاف بين العلماء وفيما يلي بيان مذهب أهل السنة ومخالفيهم في الأمرين مع الدليل .
1- الأمر الأول : اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار موجودتان في الدنيا . ولم يعرف لهم مخالف في صدر الإسلام واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .
أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) .
وقوله تعالى : ( سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) .(1/471)
فدل التعبير عن إعداد الجنة للمؤمنين بالفعل على أنها موجودة بالفعل في الدنيا وقوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .
وقوله : ( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) .
وقوله : ( إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً ) .
فدل التعبير بالماضي على أن النار وجدت فعلا .
وأما السنة فالأحاديث الدالة على وجودهما الآن كثيرة منها ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة " .
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد لأهلها فيها فذهب فنظر إليها وإلى ما اعد لأهلها فيها فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها فأمر بالجنة فحفت بالمكاره فقال : إرجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها قال : فنظر إليها ثم رجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد قال ثم أرسله إلى النار قال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها : فنظر إليها فإذا هي نفحة يركب بعضها بعضا ثم رجع فقال : إذهب فانظر إلى أحدسمع بها فأمر بها فحفت السماء بالشهوات ثم قال : إذخهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها فذهب فنظر إليها فرجع فقال : وعزتك لقد خشيت ألا ينجو منها أحد إلا دخلها
فهذان الحديثان صحيحان صريحان في إعداد كل من الجنة والنار لأهلهما .(1/472)
وروى مالك في الموطأ وأصحاب السنن من حديث كعب بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما نسمة المؤمنين طير تعلق في شجر الجنة حتى يرجعهخا الله إلى جسده يوم القيامة " .
وجاء في حديث خسوف الشمس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجنة والنار وهو يخطب أصحابه وأنه حدثهم عنها .
وأما الإجماع فإن صدر هذذه الأمة لم يزالوا على القول بوجودهما في الدنيا حتى نبتت نابتة من القدرية والمعتزلة فأنكرت ذلك . وهم محجوجون بالنصوص وبإجماع الأمة قبل وجودهم .
شبهة من أنكر وجود الجنة والنار الآن .
* قالوا أولا : خلق الجنة والنار قبل يوم الجزاء عبث - لأن كلا منهما تبقى معطلة مدة طويلة دون أن يجزى بها أحد والعبث محال على الله .
* وأجيب أولا : بأنه معارضة للنصوص الصحيحة الصريحة بالفعل في أمر غيبي لا يعرف إلا من قبل النقل .
* وثانياً : بأن وجودهما في الدنيا فيه فائدة لأن المؤمنين ينعمون في قبورهم وأرواحهم نسمات تعلق في شجر الجنة والكفار يعذبون في قبورهم بالعرض على النار ورؤية كل منهم لمقعده فيها إلى أن يبعثه الله كما تقدم بيانه فوجودهما ليس بعبث .
* واستدلوا ثانيا : بقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه )
وقوله : ( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ) .
قالوا فلو كنتا موجودتين الآن لهلكتا وذاق كل من فيهما الموت عند النفخة الأولى في الصور من أجل إنهاء الدنيا وتخريبها .
* وأجيب : بأن كلا من الجنة والنار مستثنى ممايصيبه الهلاك والفناء عند النفخة الأولى لأنهما خلقتا للبقاء ، قال الله تعالى :
( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ) .
داخلتان في عموم (مَنْ شَاءَ اللَّهُ ) بقاءه جمعا بين الأدلة .(1/473)
* وأيضا المعنى كل شيء كتب عليه الهلاك أو ذوق الموت هالك والجنة والنار ليستا مما كتب عليه الهلاك ، لأنهما خلقتا للجزاء وأيضا معنى :
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه ) كل عمل حابط إلا ما أريد به وجه الله بدليل قوله في صدر الآية : ( وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُو ) .
* واستدلوا ثالثا : بما ذكره الله عن امرأة فرعون من قولها :
( رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّة ) . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال : يا محمد أقريء أمتك مني السلام وأخبرهم بأن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر .
وقوله صلى الله عليه وسلم : " من قال : سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة " رواهما الترمذي في سننه .
قالوا : فلو كانت الجنة مخلوقا مفروغا منها لما طلبت امرأة فرعون من ربها أن يبني لها بيتا فيها وقال صلى الله عليه وسلم : " إنها قيعان وأنها لا تزال يغرس فيها كلما كان التسبيح والحمد والتهليل والتكبير من العابدين " .
* وأجيب : بأن ما ذكرتم دليل على وجود الجنة الآن لا على عدمها إلا أنها لا تزال يخلق الله فيها أنواعا من النعيم ما ذكره الذاكرون بل يجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم ما ذكره الذاكرون بل يجدد الله فيها يوم القيامة أنواعا من النعيم فالإنشاء فيها مستمر اليوم ويوم القيامة والنعيم فيها متجدد أبد الآبدين .
2- الأمر الثاني : اتفق أهل السنة على أن الجنة لا تفنى وذهب الجمهور منهم إلى أن النار أيضا لا تفنى وقالت : طائفة قليلة منهم بفناء النار .
والدليل على بقاء الجنة قوله تعالى :
( مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ) .(1/474)
وقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ )
وقوله تعالى : ( لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) (الحجر:48)
وقوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ ) (صّ:54)
وقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود:108)
واختلف السلف في الاستثناء من خلود المؤمنين في الجنة :
( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ )(هود: من الآية108)
* فقيل : إنه استثناء للمدة التي يمكثها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة من مدة خلودهم في الجنة فالمعنى : يخلد المؤمنون في الجنة ما دامت السماوات والأرض إلا مدة شاء ربك أن يقضيها عصاة المؤمنين في النار قبل دخولهم الجنة :
* وقيل : إنه استثناء الرب ولا يفعله كقولك : والله لا أكرمن إلا أن أرى غير ذلك وأنت لا ترى إلا إكرامه .
* وقريب منه ما قيل : من أن الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله لا أنهم باستقرارهم في الجنة وتمكنهم فيها خرجوا من مشيئة الله .
ولا ينافي ذلك عزمه وجزمه لهم بالخلود ونظيره :
قوله تعالى : ( وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً )
وهو سبحانه بقاء ما أوحى به إلى رسوله وقوله : ( فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ)
وهو سبحانه لا يشأ الختم على قلب رسوله بل أراد له استمرار الهداية والإمداد بالنور وصفاء البصيرة .
وقوله : ( قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون َ) .(1/475)
وقد شاء سبحانه إعلامهم به وتلاوة رسوله القرآن عليهم إلى غير هذا من النظائر التي يقصد بذكر المشيئة فيها اثبات كمال الاختبار وأن هذا من النظائر التي يقصد بذكر الأمور لم تخرج من دائرة تقديره سبحانه وتصريفه واختار ابن جرير أن " إلا " بمعنى " لكن " وعليه يكون الاستثناء منقطعا والمعنى خالدين فيها سوى ما شاء ربك من زيادة نعيم إلى جانب خلودهم في الجنة بدليل : ما ختمت به الآية من قوله تعالى : (َ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .
والدليل من السنة على أبدية الجنة قوله صلى الله عليه وسلم : " من يدخل الجنة وقوله ينادي مناديا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا وأن تشبوا فلا تهرموا أبدا وأن تحيوا فلا تموتوا أبدا " رواه مسلم .
وقوله : " يا أهل الجنة خلود فلا موت وياأهل النار خلود فلا موت " رواه مسلم .
* أما أبدية النار : ففيها آراء كثيرة للسلف منها رأيان :
الرأي الأول : رأي الجمهور السلف قالوا إن النار باقية لا تفنى ومن دخل بقي مخلدا فيها أبدا إلا من دخلها من عصاة المؤمنين فأنهم يخرجون منها على ما تقدم بيانه في مبحث الشفاعة .
واستدلوا على بقائها ومن بها الكافرين بقوله تعالى :
( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) .
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) .
وقوله : ( لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ) .(1/476)
وقوله : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) .
وقوله : ( فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً ) .
وقوله : ( مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ) .
وقوله : ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) .
* الرأي الثاني : أن النار تفنى بعد أن يستوفى الكفار نصيبهم من العذاب فيها ونسب القول بهذا إلى : عمر بن الخطاب وعبد الله ابن مسعود وأبي هريرة من الصحابة رضي الله عنهم - وبه قال ابن تيمية وابن القيم وجماعة .
واستدل لهذا الرأي بقوله تعالى :
( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْأِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْأِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) .
وقال : ( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) .(1/477)
قالوا : استثنى من الخلود في الآيتين بقوله في الآية الأولى : ( إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) ولم يأت بعد الاستثنائين ما يدل على عدم الانقطاع وانتهاء العذاب كما جاء عقب الاستثناء من الخلود في نعيم الجنة فإن الآية ختمت بقوله : ( عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) وهو دال على دوام النعيم واستمراره فكان قرينه على أن الاستثناء الذي قبله لا يراد به الإخراج إنما يراد به إثبات كمال الاختيار .
واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً) فجعل اللبث في النار مدة محدودة فدل على انتهاء العذاب واستدلوا أيضا بأن النار موجب غضبه والجنة موجب رحمته وقد روى البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبي " وفي رواية : " تغلب غضبي " .
قالوا : فلو بقي الكفار في النار ولم تفن النار لكان غضبه قد سبق رحمته وفي هذا خلف لخبر الصادق صلى الله عليه وسلم عن ربه وخلف خبره مستحيل .
قالوا وما ورد من النصوص الدالة على خلود الكفار فيها أبدا وعدم خروجهم منها فلا نزاع فيه لكنه يقتضي البقاء في العذاب ما دامت النار باقية وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد وهناك فرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس قائم وبين من ينهدم حبسه وينقض بناؤه فيبطل حبسه وينتهي سجنه بانتقاض البناء وقد يناقش هذا بأنه وإن صلح جوابا عند أدلة الخلود فلا يصح جوابا عن النصوص الصريحة في أن عذابها مقيم وأنه كان غراما وأن النار كلما خبت زادها الله سعيرا وأنهم لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف بل يزيدهم الله عذابا وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها ليذوقوا العذاب .
اللهم إلا أن يقال : إن الاستثناء بالمشيئة في الآيتين السابقتين مسلط على جميع النصوص التي دلت على دوام العذاب واستمراره وعلى كل حال فالموضوع من شؤون الله فليترك إلى الله سبحانه . والله اعلم .(1/478)
وجوب الإيمان بالبعث
وجزاء الأعمال يوم القيامة والعرض والحساب وقراءة
الكتاب والثواب والعقاب والصراط والميزان
أ - البعث : هو إحياء الله الموتى وإخراجهم من قبورهم يوم القيامة ويسمى يوم المعاد لإعادة الأرواح إلى الأبدان فتعود بهذا الحياة إلى الأبدان ويسمى أيضا يوم النشور لانتشار المخلوقات إلى الموقف ويسمى يوم الدين لأن الناس يدانون فيه بأعمالهم أي يجزون عليها وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على وجوب الإيمان ببعث الأبدان بعد نفخ الأرواح فيها كما جاءت شرائع الأنبياء السابقين بالأخبار عنه ووجوب الإيمان به .
قال الله تعالى مخاطبا آدم وزوجته وإبليس :
( قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ) .
وقال تعالى في بيان دعوة نوح قومه إلى الإيمان بالله واليوم الآخر :
( وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً ) .
وقال تعالى عن إبراهيم عليه الصلاة السلام :
()وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)
ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء وقال تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام : ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ) .
وأخبر تعالى عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها :(1/479)
()وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)
اعترفوا بأن الرسل تلت عليهم آيات ربهم وأنذرتهم اليوم الآخر كما قالتعالى عنهم : ()وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71)
وأمر سبحانه نبيه محمد عليه الصلاة والسلام إن يقسم به على البعث والجزاء . فقال تعالى : ()زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) فقد ذم تعالى من يشك في يوم القيامة أو يكذب به أو يماري فيه . قال تعالى : ()بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ) وقال تعالى : ()وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) وقال تعالى : ()يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) .(1/480)
وقال في بيان جزاء الكافرين به وبيان شبهتهم في إنكارهم يوم القيامة :
()وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) ورد عليهم هذه الشبهة بدليل كوني نقلي بين فيه أن من قدر على خلق ما هو أعظم منهم كالسماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وأن يعيدهم بعد موتهم فقال : ()أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) وقال : ()لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (غافر:57)
وقال : ()أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) (يّس:81)
واستدل على قدرته على الإعادة بقدرته على بدء الخلق .
فقال : ()وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم:27)
وقال في بيان غفلة المكذبين عن النشأة الأولى أو تغافلهم عنها وأنهم لو تذكروها وتبصروا فيها ما وسعهم إلا أن يؤمنوا بيوم القيامة :(1/481)
( وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) وقال تعالى في بيان أن قيام الساعة ومجازاة العباد مقتضى حكمته وكمال عدله : ()أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) .
وقال : ()أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) أي لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب وقال : ()وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) .
بالجملة فكمال علمه يوجب ألا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض . وكمال حكمته يقتضي ألا يترك الناس سدى بلا أمر ولا نهي ولا شرع ولا ثواب ولا عقاب ومعلوم أن ما حصل في الدنيا لا يكفي للجزاء فلا بد من يوم بتحقق فيه كمال عدل الله وحكمته في الفصل بين عباده وهو اليوم الذي أعده الله لفصل القضاء بين العباد وكمال قدرة الله يقتضي ألا يعجز الله شيء فهو قادر على أن يعيد العظام والرفات والذرات بشرا سويا ()بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إلى غير ما تقدم من نصوص القرآن الصريحة في البعث والأرواح والأبدان .
أما السنة فمنها حديث : " كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب " . وستأتي نصوص أخرى متضمنة في تفاصيبل ما يجري على العباد يوم القيامة وهي متضمنة لقيام الساعة .(1/482)
ب - وأما جزاء الأعمال فقد دل على ثبوته قوله تعالى : ()مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) أي يوم الحشر الجزاء على الخير والشر وقال : ()مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .
ودل على ثبوته الحديث القدسي الذي رواه احمد ومسلم من طريق أبي ذر الغفاري وفيه : " يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " .
جـ- وأما العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب فالمراد بذلك عرض العباد على الله وعرض كتب أعمالهم عليهم حين تتطاير صحف أعمالهم فمن آخذ كتابه بيمينه ومن آخذ كتابه بشماله يقرأ كل ما في كتابه ويحاسب على عمله ويثاب المحسن بإحسانه ويعاقب المسيء بإساءته قال الله تعالى : ()وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (الكهف:49)(1/483)
وقال تعالى : ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَة * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) .
الآيات إلى آخر سورة الحاقة .
وقال تعالى : ( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) .
وروى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك " فقلت يا رسول الله أليس قد قال الله تعالى " ( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما ذلك العرض وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب " .(1/484)
فهمت عائشة رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم أولا عموم الهلاك لكل من حوسب فكان الحديث معارضا حسب فهمها ليسر الحساب في الآية وانقلاب من أخذ كتابه بيمينه إلى أهله مسرورا فاستفسرت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين لها أن الحساب الذي ذكر في الآية مجرد عرض أعمال المؤمنين عليه وأن الحساب الذي ذكر في الحديث أريد به المناقشة في الحساب فلا تعارض بين الآية والحديث .
د - وأما الصراط فمعناه في اللغة : الطريق .
ومعناه المقصود منه هنا الجسر الممتد على متن جهنم الذي يمر عليه العباد إذا انتهوا من الموقف إلى منازلهم في الجنة أو النار .
وهناك ظلمة دون الصراط يكون فيها الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات روى مسلم من طريق عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات فقال : " هم في الظلمة دون الجسر " .
وفي هذه الظلمة يكون للمؤمنين نور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فيقول المنافقون لمن صدقوا في إيمانهم : أنظرونا نقتبس من نوركم فيقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فإذا ما رجعوا حيل بينهم وبين المخلصين بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب .(1/485)
قال الله تعالى : ( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) .
والدليل من القرآن الكريم على الصراط قوله تعالى : ()وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) (مريم:71)
فإن المراد بالورود في الآية على جهنم فوق الصراط المضروب على متنها ثم من الناس من يسقط ومنهم من يسقط ومنهم من ينجوا قال تعالى : ()ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً) (مريم:72)(1/486)
فلا يلزم من المرور على الصراط فوقها دخول كل من مر في النار وتعذيبه بها ولا يلزم أيضا من التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء دخول من أنجاهم الله فيها فإنه يكفي في صحة التعبير بالإنجاء انعقاد أسباب الهلاك مع تخليص أهل الخير منه كما في قوله تعالى : ()فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحا) وقوله تعالى : ()وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً) وقوله : ()وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً ) .
فأخبر الله سبحانه بإنجائهم ولم يكن أصابهم ولا أصاب من آمن بهم شيء من العذاب الذي أهلك الله به من كذبهم وكفر بهم فكان توفر أسباب العذاب إجمالا كافيا لتصحيح التعبير بالإنجاء من الهلاك .
وقال صلى الله عليه وسلم : " يجمع الله الناس يوم القيامة . . . إلى أن قال فيعطون نورهم على قدر أعمالهم وقال : فمنهم من يعطي نوره مثل الجبل بين يديه ومنهم من يعطي نوره فوق ذلك ومنهم من يعطي نوره مثل النخلة بيمينه ومنهم من يعطي نوره دون ذلك بيمينه حتى يكون آخر من يعطي نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة إذا أضاء قدم قدمه وإذا أطفيء قام قال : فيمر ويمرون على الصراط والصراط كحد السيف دحض مزلة فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم . فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ومنهم من يمر كالريح ومنهم من يمر كالطرف ومنهم من يمر كشد الرحل يرمل رملا فيمرون على قدر أعمالهم حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تخر يد وتعلق يد وتجر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار فيخلصون فإذا خلصوا قالوا : الحمد لله الذي نجانا منك بعد أن أراناك لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد " .
الحديث . رواه البيهقي من طريق عبد الله بن مسعود .(1/487)
هـ - وأما الميزان فقد أخبر الله تعالى عنه وعن وزن الأعمال به لحكم كثيرة منها : ظهور عدله تعالى لجميع عباده قال تعالى : ()وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (الانبياء:47)
وقال : ()يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوزن الأعمال ، روى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان " .
وروى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم " .
وجاء في حديث البطاقة المشهور أن البطاقة التي فيها " أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله " توضع في إحدى كفتي الميزان . وأن سجلات السيئات توضع في الكفة الأخرى فترجح كفة البطاقفة وتطيش كفة سجلاتت السيئات . ولهذه الأدلة ذكر أهل السنة أن الميزان له كفتان وأنه توزن فيه الأعمال وصحف الأعمال وأرباب الأعمال والله أعلم .
وعلى كل حال يجب الإيمان بالوزن والميزان وأن العبرة بالأعمال لا بالشخص نفسه ولا بالصحف نفسها وإنما المعتبر في الوزن هو الأعمال في الرجحان والخفة وشؤون الآخرة من الأمور الغيبية التي لا مجال للعقل فيها إثباتا ونفياً فعلينا أن نؤمن بما صح من النقل في ذلك كتابا وسنة .(1/488)
ولا نعارضه بعقولنا لقصورها عن إدراكه ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه ولم يتجاوز حده ومن أنكر ذلك أو تأول ما ورد فيه من النصوص فقد رام ما ليس إليه ولا في دائرة تفكيره . والله الهادي إلى سواء السبيل .
الفصل الثالث
أعماله ومناصبه
المبحث الأول : أعماله ووظائفه في مصر .
المبحث الثاني : أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية .
المبحث الثالث : علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء ورجال
العلم والسياسة .
الفصل الثالث
أعماله ومناصبه
المبحث الأول
أعماله ووظائفه في مصر
ــــــــ
لقد تسلم الشيخ عبد الرزاق عفيفي في مصر وظائف عديدة وشغل مناصب علمية ودعوية مهمة وأهم هذه الوظائف وأجلها : وظيفة الدعوة إلى الله عز وجل فهي وظيفة الأنبياء والمرسلين والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين قال تعالى : ()وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)
فهذه الآية الكريمة فيها التنويه بالدعاة والثناء عليهم وأنه لا أحد أحسن قولا منهم لكونهم يدعون إلى الله ويرشدون إليه فهم أقوم الناس سبيلا وأهداهم طريقا وهم الحملة العدول والأئمة الفحول يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرونه منهم على الأذى فهم - على بعد الشقة بينهم وبين الضائقين بدعوتهم - يظلون ثابتين على دعواتهم يشرحون أصولها ويبينون حدودها ويوضحون معالمها . إنهم أوفر أحلاما وأقوى أركانا من أن يستخفهم طيش أو ينال منهم مستهزيء .
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من هذا الطراز الموفق من الدعاة كان داعية صدق يدعو إلى الله على بصيرة واضعا نصب عينيه قوله تعالى : ()ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل:125)(1/489)
ففي هذه الآية الكريمة شرع الله لعباده - بما أنزل من كتابه وما كان من بيان رسوله - ما فيه استنارة عقولهم وزكاء نفوسهم واستقامة أعمالهم وسماه سبيلا ليلتزموه في جميع مراحل سيرهم في هذه الحياة ليفضي بهم إلى الغاية المقصودة وهي السعادة الأبدية في الحياة الأخرى .
وإضافة إلى نفسه ليعلموا أنه لا شيء يوصل إلى رضوانه سواه .
لقد ظل الشيخ عبد الرزاق يؤدي دورا مهما وفاعلا في الحياة العلمية والاجتماعية على نحو مشرف وغاية سامية ونبيلة .
لقد سار في درب الشريعة يافعا ……يطير به عزم له وإباء
وأنفق في بسط الشريعة عمره……يسير به خوف له ورجاء
كان عالما سنيا وداعية سلفيا ومجاهدا ربانيا قضى حياته في ميادين العلم والدعوة والتربية حارب البدع وهو يحمل لواء التوحيد يحافظ عليه بكل ما أوتي من قوة وما حباه الله من عزيمة لا يصده عن دعوته صاد ولا تلين له - في محاربة المبتدعين - قناة .
لقد تقلد الشيخ وظائف عديدة وظفها لخدمة دينه وتصحيح عقائد المسلمين وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي .
ومن الوظائف التي تقلدها :
أ - رئاسته لأنصار السنة المحمدية في مصر خلفا للشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله - مؤسس الجماعة .
ب - اشتغاله بالتدريس في المعاهد الدينية الأزهرية ومنها معهد شبين الكوم سنة 1355 هـ ثم معهد الزقازق الديني .
جـ - تقلده لمنصب وكالة المعهد الديني بالأسكندرية وقيامه بأعباء هذا المنصب خير قيام .
د - إمامته للمسلمين في الأسكندرية وضواحيها وقيامه بإلقاء الخطب والمحاضرات في المساجد والمحافل العلمية وقد هدى الله على يديه آلافا من الشباب والشيبة والرجال والنساء .
هـ - نشره وتحقيقه للكتب النافعة التي تعني بأمر العقيدة الإسلامية ومن ذلك نشره لكتاب " العلو " للذهبي إلى غير ذلك من الجهود المشكورة والأعمال المبرورة التي قام بها " المترجم له " رحمه الله .
المبحث الثاني
أعماله ووظائفه في المملكة العربية السعودية(1/490)
في الأيام الأولى من دخول الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه - مكة المكرمة رأي بثاقب نظره وصواب تفكيره أن يعقد أول اجتماع تعليمي في تاريخ المملكة ليكون البداية الحقيقية واللبنة الأولى للنهضة التعليمية الشاملة التي أرسى أسسها ووطد دعائمها بكل ما يملك من قوة وما أتيح له من عطاء ولذا فقد دعا هذا الملك الموفق والمؤسس الباني العلماء ورجال التربية والتعليم إلى اجتماع في مكة المكرمة وكان ذلك في جمادي الأولىعام 1343 هـ وفي هذا الأجتماع حث العلماء على نشر العلم وتيسير سبله ثم أصدر أمره السامي بإنشاء مديرية المعارف العامة في 19 / 1 / 1344 هـ للإشراف على جميع المدارس والمعاهد العلمية في البلاد ويعد إنشاء هذه المديرية اللبنة الأولى لنظام التعليم الحديث في المملكة وبعد أن تعددت وتنوعت مهام مديرية المعارف العامة صدر الأمر الكريم بتحويل هذه المديرية إلى وزارة سميت ( بوزارة المعارف ) لتشرف على مختلف شؤون التربية والتعليم والثقافة في البلاد وقد تم ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام 1373 هـ ( 1953 م ) حيث صدر الأمر الملكي رقم 5326 - 4950 وتاريخ 18 / 3 / 1373 هـ القاضي بتأسيس وزارة المعارف وتعيين صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ( الملك فهد بن عبد العزيز حاليا ) أول وزير للمعارف بالمملكة .(1/491)
لم يكن الملك عبد العزيز - يرحمه الله - موحدا لبناء دولة فحسب بل كان صاحب دعوة إصلاحية وعقيدة راسخة مستمدة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما كان - يرحمه الله - ذا بصيرة نافذة وخلق رفيع ومنهج متميز يهدف إلى القضاء على الفساد والجهل بكل صوره وأشكاله . ومن أجل تحقيق هذه الغايات السامية والمقاصد النبيلة أصدر الملك المؤسس عبد العزيز بن الرحمن آل سعود أوامره إلى المديرية العامة للمعارف آنذاك لإرسال ممثلين عنها إلى مصر لاختيار نخبة من العلماء ممن يتسمون بالصلاح وصحة المعتقد والمتانة العلمية والمعرفية وذلك للمشاركة في التدريس ووضع المناهج والمقررات الدراسية لعدد من المعاهد والكليات في المملكة .
واستجابة لهذه الأمور الكريمة توجهت بعثة تابعة لمديرية المعارف سنة 1368 هـ برئاسة فضيلة الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع - رحمه الله - للتعاقد مع عدد من العلماء ورجال العلم والتربية فكان صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في طليعة من رشحزا للمشاركة في النهضة العلمية السعودية التي وضع لبناتها الأولى الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه .
قدم - رحمه الله - إلى المملكة العربية السعودية على علمه وسجيته لم يجتذ طمع في مال أو جاه أو منصب وعلم الله صدق نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوي مع أنه لم يطلبها فكلان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق تتلمذ عليه أبناء ما بين السبعين إلى الثلاثين ولا يزالون مربين للأجيال أهل منابر وحلقات تدريس وتأليف
قلت : وممن قدم مع الشيخ العلامة في تلك السنة ( 1368 هـ ) أصحاب الفضيلة الشيخ محمد على عبد الرحيم والشيخ محمد بن حسين الذهبي والشيخ عبد النمر والشيخ يوسف الضبع وغيرهم من مشاهير علماء الأزهر .(1/492)
وأول عمل عمل بدأ به الشيخ الشيخ عبد الرزاق حياته وجهاده في ميادين العلم وساحات المعرفة اشتغاله بالتدريس مدة عامين في " دار التوحيد " بالطائف ابتداء من عام 1368 هـ إلى عام 1370 هخـ .
وكانت دار التوحيد بالطائف هي أول مدرسة درس فيها الشيخ الشيخ فضلا عنم كونه عن كونه عضوا في مجلس إدارتها . وفي شهر المحرم سنة 1370 هـ انتقل الشيخ إلى مدينة عنيزة - إحدى مدن القصيم - للتدريس بمعهد عنيزة العلمي الذي قام بافتتاحه فضيلة الشيخ محمد بن مانع - رحمه الله .
وفي عنيزة عرف الشيخ عبد الرزاق بين أقرانه وإخوانه أعضاء هيئة التدريس بالمعهد العلمي بشدة متابعته للسلف وتضلعه في كثير من العلوم والمعارف ودقة فهمه لأحكام الشريعة فضلا عن قوة شخصيته وسداد رأيه وقد أعجب بعلمه جم غفبير ممن درسوا على يديه ونهلوا من علمه وتناقل الناس أخباره حتى بلغ ذلك سماحة الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم مفتي عام المملكة العربية السعودية آنذاك والرئيس العام للكليات والمعاهد العلمية فرغب سماحته في قدوم الشيخ إلى الرياض ليكون موضع مشورته وليقوم بالتدريس في المعاهد العلمية التابعة لسماحته .
وبالفعل غادر فضيلة الشيخ عبد الرزاق " عنيزة " متوجها إلى الرياض وكان ذلك في شوال سنة 1370 هـ .
وفي الرياض واصل الشيخ عبد الرزاق نشاطه العلمي مبتدئا بالتدريس في معهد الرياض العلمي وكان - رحمه الله - سابه سبعة هو في مقدمتهم ومعه فضيلة العلمي وكان - رحمه الله - سابع سبعة هو في مقدمتهم ومعه فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله .
لقد أدرك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - رئيس المعاهد والكليات ومؤسسها بثاقب نظره وبقدرته على معرفة الرجال ما اتصف به هذا العالم الفذ من علم وبعد نظر وقدرة على معالجة الأمور فقربه وعرف مكانته ومكن له لإفادة الباحثين والعلماء .(1/493)
استمر الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - في آداء رسالته وتواصلت نشاطاته العلمية والتربوية وجهوده المكثفة في إعداد الأجيال وبناء الرجال وذلك من خلال عمله في المعهد العلمي وفي كليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض وكان فضيلته من المؤسسين لهاتين الكليتين ومن أبرز وأشهر المدرسين بهما وذلك بسبب سعة علمه وغزارة مادته وثاقب نظره وقوة بيانه وحسن أسلوبه .
وعندما توفرت الدواعي لإنشاء دراسات عليا ورفع مستوى القضا ء أنشيء المعهد العالي للقضاء سنة 1358 هـ وأوكل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم إدارته إلى فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ثقة به وحسن ظن إدارته فقام الشيخ عبد الرزاق بهذا الواجب خير قيام وتحمل تبعاته بكل صدق وإخلاص وكان من المخططين لمناهج هذا الصرح العلمي الكبير ومن المدرسين فيه والمشرفين على رسائل طلابه ومن هذه الرسا التي أشرف عليها وكان له القدح المعلي في تقويمها :
40- مجمل أسباب اختلاف الفقهاء لفضيلة الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي
41- جريمة الحرابة لفضيلة الشيخ صالح بن عبد الرحمن الأطرم .
42- الطلاق السني والبدعي لفضيلة الشيخ عبد الشيخ عبد الله بن محمد اسحاق .
43- الوقف في الشريعة لفضيلة الشيخ محمد بن حمود الراجحي .
44- الولاية في الزواج لفضيلة الشيخ سليمان بن إبراهيم الرشودي .
45- الخلافة الإسلامية لفضيلة الشيخ سليمان بن قاسم الفيفي .
46- حجية أخبار الآحاد لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين .
47- التملك في الإسلام لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن الجنيلد .
48- الإيضاح في شروط النكاح لفضيلة الشيخ صالح بن غانم السدلان .
49- الشركات في الفقه الإسلامي والقانون لفضيلة الشيخ سعود بن سعد الديب .
50- تعليل الأحكام لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح التويجري .
51- الموارد المالية للدولة الإسلامية لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم بن قعود .(1/494)
52- حقيقة الورق النقدي لفضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع .
53- الإقرار في الشريعة لفضيلة الشيخ صالح بن لحيدان .
54- الاجتهاد في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش .
55- القصاص في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ عبد الرحمن القفاري
56- تعدد الزوجات لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عبد السلام
57- موقف الشريعة الإسلامية من التأمين لفضيلة الشيخ سفر البحري .
58- مباحث القسامة لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الله بن الأمير .
59- اقتضاء النهي الفساد لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الهويش
60- الديات في الإسلام لفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الراشد .
61- موقف الإسلام من الخمر لفضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز المنصور .
62- أحكام الوصية لفضيلة الشيخ محمد حسن الهلالي .
63- مكافحة الجريمة لفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد الله الناصر .
64- الجناية على ما دون النفس لفضيلة الشيخ سعد بن محماس المخيمر
65- مكافحة جريمة الزنا لفضيلة الشيخ حمد بن محمد الحناكي .
66- الضمان والكفالة لفضيلة الشيخ محمد بن عبد الرحمن السدحان .
67- الإجازة لفضيلة الشيخ على بن محمد التركي .
68- النبراس على مسالك القياس لفضيلة الشيخ إبراهيم بن حمد السلطان .
69- الربا وموقف الإسلام منه لفضيلة الشيخ سعد بمن محمد الرشيد .
70- الاستفادة من أحكام الشهادة لفضيلة الشيخ محمد بن مرزوق المعيتق .
71- حجية السنة لفضيلة الشيخ محمد لقمان السلفي .
72- المرأة بين السفور والحجاب لفضيلة الشيخ محمد احمد العسكري .
73- مكافة جريمة السرقة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن إبراهيم العريني .
74- الاستدلال في الشريعة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد العزيز الكلية .
75- التعارض والترجيح لفضيلة الشيخ علي العنزان .
76- التعزير في الشريعة الإسلامية لفضيلة الشيخ غيهب بن محمد النهيب .(1/495)
77- المصالح المرسلة لفضيلة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله الدويش .
78- يسر الإسلام لفضيلة الشيخ سالم بن محمد السالم .
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إبان إدارته للمعهد العالي للقضاء - والتي استمرت خمس سنوات ( 1385 هـ - 1390 هـ ) - مثالا يحتذى وقدوة تؤتسى في عمله ونصحه لطلابه وأدبه وحسن إدارته وبهذه الخلال الكريمة أضحى الشيخ موقف تقدير واحترام الجميع وبخاصة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - الرئيس العام للمعاهد والكليات آنذاك . فقد كان سماحته يقدر فضيلة الشيخ عبد الرزاق ويستشيره ويعتمد رأيه في كثير من الأمور تقديرا لعلمه الواسع ورأيه الصائب وإخلاصه الجم والفضل يعرفه ذووه .
كان الشيخ عبد الرزاق عفيفي إلى جانب إدارته للمعهد مربيا ومعلما ومرشدا تخرج به أجيال من العلماء والمربين وطلبة العلم وقد تسم كثير من هؤلاء مناصب علمية ودعوية مهمة في الوقت الحاضر .
وجدير بالذكر أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان سببا في استقدام نخبة من علماء الأزهر للتدريس بالمعهد العالي للقضاء وكان على رأس هؤلاء فضيلة الشيخ أحمد لاشين وفضيلة الشيخ محمد هاشم عبد الدائم . . . وغيرهم .
وفي سنة ( 1386 هـ ) بلغ فضيلة الشيخ عبد الرزاق سن التقاعد فكتب سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم إلى جهات المسؤولة بتاريخ 26 / 11/ 1386 هـ مؤملا استثناء الشيخ عبد الرزاق لمسيس الحاجة إليه وقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم 411 وتاريخ 25 / 6 / 1387 هـ بالموافقة على تمديد خدمات فضيلة الشيخ عبد الرزاق لمدة خمس سنوات اعتبارا من بلوغه سن الستين وإعفائه من التقاعد . وبهذا ظل الشيخ عبد الرزاق يواصل رسالته المباركة في نشر العلم وتعليم الأجيال بهمة لا تعرف الكلل أو الملل وقد استمر عطاؤه في المعاهد والكليات في حياة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وبعد وفاته - رحمهما الله .(1/496)
وفي سنة 1391 هـ انتقل فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي إلى الرئاسة العامة للإفتاء حيث عين نائبا لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والتي تم تشكيلها عقب صدور الأمر الملكي رقم 1137 وتاريخ 8 / 7 / 1391 هـ والقاضي بإنشاء هيئة كبار العلماء وقد جاء في المادة الرابعة من هذا الأمر ما نصه :
تتفرع عن الهيئة لجنة دائمة متفرغة يختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة بأمر ملكي وتكون مهمتها إعداد البحوث وتهيئتها للمناقشة من قبل الهيئة وإصدار الفتاوي في الشئون الفردية وذلك بالإجابة على أسئلة المستفتين في شئون العقائد والعبادات والمعاملات الشخصية وتسمى هذه اللجنة " باللجنة الدائمة للبحوث والفتوى " .
وجاء في المادة الثامنة من اللائحة المرفقة بالأمر الملكي لا تصدر الفتاوي عن اللجنة الدائمة إلا إذا وافقت عليها الأغلبية المطلقة من أعضائها على الأقل على أن لا يقل عدد الناظرين في الفتوى عن ثلاثة أعضاء وإذا تساوت الأصوات يكون الصوت الرئيس مرجحا .
وتنص المادة التاسعة من اللائحة على أن " يعين رئيس اللجنة فيها وأعضاؤها بأمر منا بترشيح من رئيس إدارات البحوث " .
وقد شكلت اللجنة الدائمة بعد صدور الأمر على النحو التالي :
5- فضيلة الشيخ إبراهيم بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ رئيسا .
6- فضيلة الشيخ عبد الرزاق بن عفيفي عطية نائبا للرئيس .
7- فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الغديان عضوا .
8- فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع عضوا .(1/497)
وفي آواخر سنة ( 1395 هـ ) عين معالي الشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ وزيرا للعدل وعين سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رئيسا لإرادات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ورئيسا للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ظل الشيخ عبد الرزاق نائبا للرئيس منذ تأسيس اللجنة وحتى وفاته - رحمه الله - أي ظل قرابة أربعة وعشرين عاما أصدرت اللجنة وحتى وفاته - رحمه الله - أي ظل قرابة أربعة وعشرين عاما أصدرت اللجنة خلالها أبحاثا قيمة وآلاف الفتاوي في شتى المباحث الشرعية والقضايا الإسلامية وفي نفس الوقت كان الشيخ عبد الرزاق عضوا في هيئة كبار العلماء والصادر برقم 1137 وتاريخ 8 / 7 / 1391 هـ ويتضمن المرسوم تكوين الهيئة من عدد من كبار المختصين في الشريعة الإسلامية من السعوديين ويجري اختيارهم بأمر ملكي وقد صدر الأمر الملكي بتعيين سبعة عشر عضوا في هيئة كبار العلماء كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق في مقدمة أصحاب الفضيلة العلماء الذين تم اختيارهم لهذه الهيئة . وقد ظل فضيلته عضوا في هيئة كبار العلماء كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق في مقدمة أصحاب الفضيلة العلماء الذين تم أختيارهم لهذه الهيئة .
وقد ظل فضيلته عضوا في هيئة كبار العلماء إلى تاريخ 8 / 6 / 1413 هـ حيث أعفى - رحمه الله - من عضوية الهيئة نظرا لمرضه وانحراف صحته ومع ذلك ظل يواصل عمله في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء إلى أن توفاه الله .
********************
المبحث الثالث
علاقاته الطيبة والمتميزة بالعلماء والوجهاء
ورجال العلم والسياسة
ــــــــ(1/498)
إن المتأمل لتاريخ البشرية يدرك أن السعة والشمول في علاقات العالم بالمجتمع الذي يعيش فيه مؤشرا حيا وبارزا من مؤشرات اكتشاف مؤهلاته للعمل الخيري وعاملا من عوامل وفرة عطائه وكثرة الانتفاع بعلمه وعمله ولا يمكن لأحد أن يدعي أنها عامل سلبي في الدعوة إلى الله ولا في العودة إلى دينه الخالص بل على العكس من ذلك تعتبر العلاقات المتسمة بالسعة والشمول من أهم أسباب نجاح العالم إذا كان يقصد بها وجه الله لا مجرد تحقيق مكاسب وأهداف مادية .
إن الواقف على سيرة وأخلاق وسلوق فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - يرحمه الله - يدرك للبوهلة الأولى أن الشيخ كان يتمتع بمؤهلات عالية من حسن الخلق وطيب المعشر وسعة الصدر والحلم والأناة وحسن المناقشة مما كان له أبلغ الأثر في تميز علاقات الشيخ وسعتها وخاصة مع ولاة الأمر وأهل العلم ورواد المعرفة ورجال التربية كما كان - رحمه الله - حسن السمعة ذا علاقات طيبة مع سائر الناس لا يحقد ولا يحسد بل كان موضع احترام الناس وتقديرهم وحسن ظنهم وثقتهم ولا أدل على ذلك من قول أحد كبار معاصريه :
" العلماء نوعان : علماء ينعزلون عن الناس ويتفرغون لكتابة الكتب والمصنفات وعلماء يعنون ببناء النفوس وتوجيه العامة وإرشادهم وبالإجابة على اسئلتهم وحل مشكلانهم وقد كان فقيدنا العظيم من النوع الثاني وقد انتفع بعلمه وتوجيهه خلق كثير "
ويقول آخر في كلمة رثاء وعزاء : " وقبل أيام توفى الله لارجلا من أهل العلم والتقوى والحياة المثمرة في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله قد حظي بفضل من الله بمحبة الناس في مصر والمملكة العربية السعودية .
علاقاته المتميزة بولاة الأمر في المملكة العربية السعودية :
إن حسن الظن بالمسلمين سنة حسنة وأمر لازم وأوجب ما يكون ذلك في حق العلماء والأمراء والحكام الذين أمرنا الله بطاعتهم .(1/499)
قال تعالى : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء:59)
وأولوا الأمر : قيل هم العلماء وقيل هم الأمراء قال ابن القيم : والتحقيق أن الآية تعم الطائفتين وإنما تجب طاعتهم إذا أمروا بطاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم .
إن السلطان هو زمام الأمور ونظام الحقوق وقوام الحدود والقطب الذي عليه مدار الدنيا وهو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده به يمتنع حريمهم وينتصر مظلموهم وينقمع ظالمهم ويأمن خائءفهم .
قال بعض الحكماء : إمام عادل خير من مطر وابل وإن الله ليزع أمور خلقه واختصه بإحسانه ومكن له في سلطانه أن يكون له من الاهتمام بمصالح رعيته والاعتناء بمرافق أهل طاعته .
قال تعالى : ()الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج:41)
فعلى الرعية أن يحسنوا الظن بولاة أمورهم والاطمئنان إلى طويتهم والثقة بحسن نواياهم فإن ذلك من أهم الاسباب التي توثق العلاقة بين الحاكم والمحكوم . ومما يؤكد على حسن الظن بالعلماء والأمراء ما روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إذا كان الإمام عادلا فله الأجر وعليك الشكر وإذا كان الإمام جائرا فعليه الوزر وعليك الصبر .
وقال حذيفة رضي الله عنه : ما مشى قوم إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم .(1/500)
وقال صلى الله عليه وسلم : " من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله " . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني " . وفي صحيح مسلم فقد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال ك ط سمعت رسول الله صلى الله عليه وسبلم يقول : " من فارق الجماعة وخرج من الطاعة فمات فميتته جاهلية " .
إن في نصح الإمام بالرفق واللين في السر والدعاء له واتباع أمره ونهيه في طاعة ربه فرض لازم وأمر واجب لا يثبت إسلام إلا عليه ولا يتم إيمان إلا به ولله در من قال ك
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم …ولا سرتاة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتني إلا له أعمدة ……ولا عماد إذا ما ترسى أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة …………يوما فقد بلغوا الذي كادوا
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - نموذجا طيبا يحتذى وجوهرة وضاءة يهتدي بها في السلوك والأخلاق وفي تعامله مع الأفراد وعلاقته بالجماعات من الناس حاكمين ومحكومين .
عاش فضيلته آلام الأمة وآمالها فكان يدرك بعمق شراسة الغزو الفكري الاستعماري للمسلمين ويعرف التيارات الفكرية والسياسية التي تغزو العالم وتسود بلاد المسلمين يعرفها تمام المعرفة ويدرك ما يتعرض له شباب الإسلام من وسائل خادعة وأساليب ملتوية هدفها وغايتها إبعاد المسلمين عن دينهم وصرفهم عن عقيدتهم .
كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق حريصا أشد الحرص على التئام الصف وتوحيد الكلمة واجتماع الأمة والائتلاف بينها ونبذ الفرقة والخلاف الذي يهدد كيانها . وكان يدعو بقوله وفعله إلى التزام جماعة المسلمين والتحذير من الخروج عليها ودليل ذلك ما سطره بقلمه في مبحث " إثبات خلافة الخلفاء الراشدين " فكتب ما نصه :(2/1)
إقامة ولي أمر عام للمسلمين يتولى شؤونهم وتنتظم به أمورهم ويجمع شملهم واجب على المسلمين فيجب عليهم أن يختاروا من بينهم من يصلح للقيام بواجب الأمة وإن لم يكن في الأمة من يصلح لذلك إلا واحدا تعين عليهم أن يقيموه وليا عاما عليهم وتعين عليه أن يتقبل تولي هذا حفظا لكيانها وتحقيقا لما ينهض بها سياسة وتدبيرا وثقافة وعلما وانتاجا وكسبا في السلم والحرب والشدة والرخاء وفي جميع الأحوال .
والحكمة في ذلك : رعاية مصلحة الأمة وصيانتها من أن يدب إليها دبيب الفشل فتضعف شوكتها وتذهب ريحها فيطمع فيها أعداؤها ويستولوا عليها وعلى مرافق حياتها ويسخرونها لمصالحهم ويسومونها سوء العذاب .
وقد شهدت الفطرة بضرورة إقامة ولي عام على المسلمين يسهر على مصالحهم ويسعى جهده في دفع كيد أعدائهم ويبذل وسعه في توحيد كلمتهم ولم شعثهم بل عرف الإنسان أن اتخاذ القيادة وضرورتها أمر جبلت عليه الحيوانات العجماوات فإنا لا نكاد نجد طائفة من الحيوانات على اختلاف أنواعها كالنكمل والنحل في المأوى وجمع الغذاء وكالطيور في الهواء والأسماك في الماء إلا وقد اتخذت لنفسها قيادة تنظم سيرها وعملها ورئاسة تهيمن شؤونها وحركاتها ولو قدر تخلف ذلك كان تخلفه نادرا وفي أمة من الحيوانات ضربت أطنابها في الفوضىةصارت يضرب بها المثل في الهمجية والتهرج والاضطراب كأمة الجراد .(2/2)
وقد دلت عناية الكتاب والسنة بالحث الكثير على طاعة ولاة الأمور والتحذير الشديد من الخروج عليهم ومنازعتهم والحديث في أصل الولاية بالخبر عنها وانتظام الأمر بها مبسوط في مصنفات العلماء وهي تنص على أن وجوب تنصيب الولاة والأئمة أمر معروف طبعت عليه القبائل والأمم كما دل العمل المستمر من النبي صلى الله عليه وسلم في بعث السرايا على أنه ما بعث سرية إلا وقد أمر عليها أميرا وأوصادها بطاعته ودل عمله في البلاد الاسلامية أنه لم يترك بلدا دون أن يؤمر على أهلها أميرا ولم يسافر عن المدينة إلا وقد أمر عليها أميرا فإذا كان هذا شأنه في الولايات الخاصة فالولاية العامة ألزم والعناية بها أتم وأوجب بل لا تكون ولاية خاصة في أمة إلا عن طريق الولاية العامة ومستمدة منها .
وبهذه الكلمات المضيئة التي دلل بها فضيلته الشيخ عبد الرزاق عفيفي على وجوب طاعة ولاة الأمر ( في المعروف ) وأن طاعتهم من طاعة الله ومعصيتهم من معصية الله يتأكد ما ذكرته آنفا من الشيخ - رحمه الله - على توحيد الكلمة واجتماع الناس على حكامهم وعلمائهم وبهذا تعز الأوطان وتصان الأعراض وتعظم الألفة وتتحقق المحبة والرحمة ويكبت الأعداء وينتصر الحق ويزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
ولشيخ الإسلام احمد بن عبد الحليم عبد الحليم بن تيمية في هذا كلام نفيس فليرجع إليه في كتبه ومنها كتابة القيم " منهاج السنة النبوية " و " مجموع الفتاوي " التي قام بجمعها فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وكتاب " السياسة الشرعية " وفي هذا الأخير يوضح ابن تيمية أهمية الولاية العامة وحاجة الناس إليها فيقول :
يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا إنها بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع من رأس . . . إلى أن قال - رحمه الله :(2/3)
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة وكذلك سائر ما أوجبه من " الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم وإقامة الحدود " لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روى " إن السلطان ظل الله في الأرض " ويقال : " ستون سنة مع إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان " والتجربة تبين ذلك .
ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض واحمد بن حنبل وغيرهما يقولون : " لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان " .
إلى أن قال رحمه الله :
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات وإنما ينسب فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرئاسة أو المال بها . أ . هـ
علاقته بالملاك عبد العزيز - طيب الله ثراه :
لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - على علاقة طيبة ومتميزة مع موحد هذه هذه المملكة ومؤسسها الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود والذي يعتبر بحق الشخصية نادرة وعبقرية قل من يفري فريها ويترسم خطاها كان مضرب الامثال في الشجاعة حتى هابه الابطال وأذعن له الرجال وكان عقله يسبق لسانه ولا يقول إلا ما يعتقده صوابا .
كان سلفي العقيدة داعية إلى توحيد يوالي ويعادي من أجله ومن كلماته التي القاها في الحفل الذي أقيم له في القصر الملكي بمكة المكرمة في غرة ذي الحجة سنة 1347 هـ الموافق 11 / 5 / 1929 م :
" عقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح هذه هي عقيدتنا وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعوا إليها وهي خير ما داموا على كتاب الله وسنة رسوله وما هم ببالغين سعادة الدارين إلا بكلمة التوحيد الخالصة " .(2/4)
لقد كانت عناية الملك عبد العزيز - يرحمه الله - واهتمامه بالعلم والعلماء تجسيدا لاهتمام الدولة بالعلم وتأكيدا لحفاوتها بالعلماء وأظهر دليل على ذلك أن الملك المؤسس - رحمه الله - كان كثيرا ما يحضر الدروس العلمية التي تعقد في قصره ويوجه الدعوة إلى كبار العلماء والدعاة لحضور هذه المجالس العلمية ومن بين هذه الدروس التي كانت تعقد في قصر الملك عبدج العزيز درس لفضيلة الشيخ عبد الرزاق يحرص في هذا الدرس على إفادة الحاضرين والنصح الطيب للملك وكان الملك عبد العزيز - يرحمه الله - يسعد بذلك .
ويذكر فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان معجبا بحركة الإصلاح والتجدبيد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومنهجه في الدعوة ويلمس منه إعجابه في مجال السياسة والقيادوة والحكمة بالملك غعبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل في توحيد المملكة العربية السعودية .
وقد ظل الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على هذه العلاقات الطيبة مع الملك عبد العزيز وأبنائه أصحاب السمو الأمراء من بعده وهذا إن دل فإنما يدل علىتقدير ولاة الأمر - في هذه المنملكة المباركة - للعلم والعلماء ابتداء من الملك المؤسس عبد الهعزيز آل سعود - رحمه وحتى يومنا هذا في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - حفظه الله . ونصر به العلم وأهله .
فجزى الله ولاة الأمر في هذه المملكة خير الجزاء فقد كان هذا العالم الفذ محل اختيارهم وموضع تقديرهم وهذا بحمد الله ديدن هذه المملكة حيث تعرف لأهل الفضل فضلهم ويجد في رحابها أصحاب المواهب والقدرات ما يفيدون مجتمعهم وأمتهم .
علاقته بسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمهما الله تعالى :(2/5)
من العلماء أفذاذ جمعوا أشتات المكارم وكانوا أعلاما في كل المعالم ومن هؤلاء الأفذاذ الذين أناروا السبيل للسالكين فأرشدوا إلى الهدى خطى اللاحقين ومروا على هذه الدنيا مرور الغيث الهامع فاخضلت الارض غب عبورهم فحمدهم الوارد ومدحهم الراقع فسجل التاريخ حديثهم للرواة وجعل أيامهم عبرة للوعاة .
أقول من هؤلاء : سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ينتهي نسبه إلى مضر بن نزار بن معد بن عدنان فهو عالم من عالم من عالم وفقيه من فقيه من فقيه وزعيم من زعيم من زعيم توارث آباؤه وأجداده الصدارة في العلم والوجاهة والقيادة .
لقد كان سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - إماما مجمعا على إمامته ووفور علمه وشفوف حسه وزكاء نفسه وكرم أخلاقه وشرف منازعه وجمعه بين الشمائل الباهية والمعارف المتناهية . كان من الذي يحرص اشد الحرص على اتباع السنة وفهمها والالتزام بها على منهج السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين .
فضلا عن ذلك فقد كان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - صاحب المعية نادرة ونجابة ظاهرة وكان ذا هيبة ووقار وقدرة مذهلة على معرفة الرجال وكان ذا فراسة نادرة في اكتشاف المواهب وتقييم الكفاءات وبالجملة فقد كان سماحته - رحمه الله - سابقا لعصره بحرا في علمه سديدا في توجيهه وقد مكنته مؤهلاته العالية في حسن الخلق من أن يعرف لذوي الفضل فضلهم والفضل يعرفه ذووه .(2/6)
لقد أدرك سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - رئيس الكليات والمعاهد ومؤسسها ادرك بثاقب نظره ما يتصف به فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - من علم وبعد نظره ما يتصف به فضيلة ورجاحة عقل وحسن معالجة للأمور فقربه وعرف مكانته ومكن له واعتمد رأيه في المناهج والكتب الكمقررة واختيار الكفاءاتن العلمية من المدرسين والمتخصصين للقيام بمهمة التربية والتعليم في الكليات والمعاهد العلمية في جميع انحاء المملكة .
وهذا إن دل فإنما يدل على توطيد أواصر الأخوة والعلاقة الطيبة بين الشيخين الجليلين والعالمين المبرزين - رحمهما الله تعالى .
ومن جهة أخرى كان فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - يعرف لسماحة المفتي عام المملكة العربية السعودية في وقته الشيخ محمد ن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - أقول : كان يعرف له فضله ويقدر فيه علمه ورسوخه في كثير من العلوم والمعارف فضلا عن حسن سياسته التعليمية وسداد رأيه وصواب توجيهاته .
والبرهان الساطع على عمق العلاقة الكريمة ورسوخها بين الشيخين الفاضلين - رحمهما الله تعالى - ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الله بن محمد العجلان - حفظه الله قائلا :
كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - لا يخفي إعجابه بحركة الإصلاح والتجديد في نجد على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب في رحمته دعوته ويلمس منه اعجابه في مجال القيادة والسياسة بالملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - رحمه الله - في توحيد المملكة العربية السعودية ويظهر بجلاء احترامه وتقديره لكثير من علماء المملكة العربية السعودية وفي مقدمتهم الشيخان الجليلان الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - والشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - في علمهما وعملهما .
علاقته بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله :(2/7)
إن من عرف سماحة العلامة المحقق الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن قرب وخالطه وجلس إليه يدرك لأول وهلة ما من الله به على هذا الإمام العالم من عقل زكي وقلب نقي وخلق رضي وعزم أبي وغيرة على حرمات الله .
لقد عرفت سماحة العالم المربي والداعية المصلح والعلامة المتقن بقية السلف شيخ العلماء المحققين الإمام الرباني والمحدث الجهبذ الشيخ عبد العزيز بن باز .
أقول : لقد عرفت سماحة الشيخ فما عرفت فيه إلا الشفقة على هذه الأمة والنصرة لهذا الدين والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم . لقد عرفت سماحته منذ خمسة عشر عاما عرفته أبا رحيما وشيخا كريما وعالما مسددا جمع أشتات المكارم وتحلى بفضائل الأخلاق فهو بحق أئمة في إمام.
لقد عرفته وعرفه غيري من أبناء هذه الأمة عرفناه رقيق القلب قريب الدمعة نقي السريرة طاهر الفؤاد صافي الروح حلو الموعظة كريم الخلق باسم المحيا ذكارا شكارا صواما قواما عذب الحديث هينا لينا متواضعا مخبتا لله لا يحقد ولا يحسد ولا يتكلف ماليس عنده يده بالعطاء ندية ونفسه بالخير سخية فهو بحق فريد زمنه وشمس عصره أدبا وفضلا وكرما ونبلا .
وأقسم بالله أن عيني لم تر مثله ولا نكر منصف بعد فضل الله فضله . إنه بحق غرة الزمان وحصن الفضيلة وسيف الإسلام المنافح عن عقيدة التوحيد والذاب عن حياض السنة والمكافح ضد البدع والمنكرات .
ووالله لوددت أني أخدم مثله وإذا ذكر الصالحون فحي هلا بسماحة شيخنا عبد العزيز بن باز - حفظه الله .
لقد أدرك فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - ما من الله به على هذا العالم العامل من صفات جليلة وخلال كريمة كان لها أعظم الأثر في توطيد أواصر الأخوة والمحبة في الله بين العالمين الجليلين والشيخين الفاضلين فحرص - رحمه الله - على هذه الإخوة المباركة والزمالة التي قل أن يوجد لها نظير بين الأقران .(2/8)
وكلمة حق أقولها : إن الشيخ عبد الرزاق كان أبعد الناس عن المدح وكان يكره أن يمدح أو يمدح وكان إذا مدحه إنسان عرفت الكراهية في وجهه وبالرغم من كراهيته للمدح والثناء إلا أنه - رحمه الله -
كان إذا ذكر أمامه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو سئل عنه يثنى عليه ثناء عطرا ويعدد محاسنه وما عليه من خصال الخير وقد قال لي يوما : " إن الشيخ عبد العزيز لا يعمل موظفا عند أحد إنما يعمل موظفا عند ربنا " .
ولا شك أن هذا كله يبرهن على صدق محبة الشيخ عبد الرزاق لهذا الطود الشامخ الذي زامله ورافقه في العمل الدعوى من خلال اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على مدى عشرين عاما ومن أظهر الأدلة وأقوى البراهين على ما ذكرته - من تميز هذه العلاقة الطيبة بين الشيخين وصفائها - ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الرزاق بخط يده معرفا بسماحة الشيخ عبد العزيز ومنوها بجهوده فقال :(2/9)
هو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله آل باز ولد بالرياض في شهر ذي الحجة عام 1330 هـ وحفظ فيها القرآن وجوده على الشيخ سعد وقاص البخاري بمكة المكرمة وأخذ علومه في الشريعة واللغة العربية من مشاهير علماء علماء نجد منهم الشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسين آل الشيخ والشيخ سعد بن حمد بن علي بن محمد بن عتيق والشيخ حمد بن فارس وسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ وكان أكثر ما تلقاه عن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وعليه تخرج في علوم الشريعة واللغة العربية ورأى أن من الغبن لنفسه أن يكتفي بما حصله من تلك العلوم أيام طلبه وتلقيه عن مشايخه لما في ذلك من هضمها حقها وحرمانها من الحظ الوافر في العلم والدين فتابع الإطلاع والبحث ودأب في التحصيل وبذل جهده في تحقيق المسائل بالرجوع إلى نطاقها في أمهات الكتب كلما دعت الحاجة إلى ذلك في تدريسه وفيما يعرض له من القضايا المشكلة أيام توليه القضاء وفي إجاباته عما يوجه إليه من اسئلة تحتاج إلى بحث وتنقيب وفي رده على ما ينشر من أقوال باطلة وآراء منحرفة فازداد بذلك تحصيله ورسوخه ونبغ في كثير من علوم الشريعة وخاصة الحديث متنا وسندا والتوحيد على طريقة السلف والفقه على مذهب الحنابلة حتى صار فيها من العلماء المبرزين وقد ولى القضاء أول عهده بالحياة العملية أربعة عشر عاما تقريبا أبتداء من 1357 هـ ثم دعى إلى التدريس بالكليات والمعاهد العلمية في الرياض عام 1372 هـ فكان مثالا للعالم المحقق المخلص في عمله فنهض بطلابه واستفادوا منه كثيرا واستمر على ذلك إلى أن أنشئت الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة فعين نائبا لرئيسها العام فضيلة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ فأحسن قيادتها والإشراف عليها .(2/10)
والى جانب ما كلف به من أعمال وحمله من أعباء ومسئوليات كانينتهز الفرصة لوعز الناس وارشادهم في المساجد ويغشى النوادي لإلقاء المحاضرات ويحرص على قراءة الكتب النافعة مع إخوانه ويستجيب لمن رغب إليه من طلبة العلم في دراسة بعض الكتب عليه فيحقق لهم أمنيتهم بصدر رحب ورغبة صادقة ولم يحرم نفسه من نفع الناس بالتأليف مع قلة فراغه فألف جملة من الكتب والرسائل في مناسبات وظروف تدعو إلى ذلك .
منها " الفوائد الجلية في المباحث الفرضية " و " نقد القومية العربية " و " توضيح المناسك " و " رسالة في نكاح الشغار " و " رسالة في التبرج والحجاب " و " الجواب المفيد في حكم التصوير " ومقال نشر في الصحف تحت عنوان " ما هكذا تعظم الآثار " وهي الرسالة التي طبعت ضمن رسائل وكتب الجامع الفريد .
ويغلب على مؤلفاته وضوح المعنى وسهولة العبارة وحسن الاختيار مع قوة الحجة والاستدلال وغير ذلك مما يدل على النصح وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وحدة الزكاء وسيلان الذهن وصفاء النفس وسعة الأفق والاطلاع وبالجملة فالشيخ فقد وهب نفسه للعلم والمتعلمين وبذل جهده في تحقيق المصالح لمن قصده أو عرف به مع رحابة صدر وسماحة خاطر فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأرجو أن أكون صادقا فيما ذكرت من الحديث عنه وألا يكون ذلك فتنة لي وله وأن يزيده الله به رغبة في الخير وقوة في الإقدام عليه إنه مجيب الدعاء وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
قلت : ومن المعلوم الذي لا يخفى على أحد أن الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن بتز - حفظه الله - كان يعرف لفضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - قدره ويقدر فيه علمه وقد قال لي سماحته يوما : إن التواضع مثالا جيدا في حسن السيرة والمخاطبة للجمهور ويؤكد هذا فضيلة الشيخ ابن عقيل الظاهري قائلا :(2/11)
كان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أكثر الناس تعلقا بالشيخ عبد الرزاق لما جربه من غزير علمه ورجاحة عقله وعفته وتورعه ولم يأذن له بالأستراحة وقد شارف على التسعين من عمره واحتنكه أمراض عديدة فالتزم الشيخ جانب الحسبة ما دامت قوته العقلية لم تضعف فكان يذهب إلى عمله يدف على العجل .
وبالجملة فقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - محل الاحترام والتقدير من كبار العلماء المملكة وعلى رأسهم سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومن قبله سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة في وقته ومرجع علمائها وقضاتها - رحمه الله .
علاقته بالأزهر ودور العلم والمعرفة في مصر :
لقد كانت علاقة فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي بالأزهر علاقة وثيقة ومتميزة على الرغم من وجوده بالمملكة العربية السعودية . فهو من أبناء الأزهر ومن خريجيه درس فيه وتخرج من أعلى مستوياته وزامل في أروقته جهابذة من العلماء أمثال : الشيخ نمحمد حسين الذهبي والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة والشيخ محمد بن عبد المنعم النمر والشيخ محمد محمد أبو شهية والشيخ محمد أبو زهو وغيره وقد تولى تدريسهم نفر من فحول الأزهر وجماعة كبار العلماء في مصر وفي طليعتهم الشيخ احمد نصر شيخ السادة المالكية والشيخ دسوقي العربي والشيخ عبد المعطي الشرشيبي والشيخ إبراهيم الجبالي وغيرهم وقد أنضجوا فوجا بل أفواجا من خيرة العلماء في مقدمتهم الشيخ عبد الرزاق عفيفي .(2/12)
لقد عايش الشيخ الأزهر جامعا وجامعة فترة من الزمن ونهل من علمه كان أزهري الشارة سلفي المعتقد محبا للسنة مؤثرا لأهلها وانتساب الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - إلى الأزهر شرف للأزهريين الذين نهلوا من روافده الثرة وينابيعه المتدفقة . وكلمة حق تقال للذين يغضون من قدر الأزهر ويبخسونه حقه وينتقصوه بسبب وبدون سبب أقول : لقد أمضى الأزهر أكثر من ألف عام كفاحا في ميادين العلم والمعرفة خدمة للإنسانية وللأمة الإسلامية حفظ عليها تراثها ودفع عنها عاديات الزمن وحماها من العواصف التي هبت عليها في فترات متعاقبة عبر تاريخها الطويل وأسهم في صنع الحضارة إسهاما لم يغفله التاريخ في جميع مجالات الحياة .
لقد جلس علماء الأزهر على مدى عشرة قرون تعليما وتدريسا ووفاء للأمة الإسلامية فقها في الدين وتوجيها للمسلمين . ومن أجل هذا الدور الرائد للأزهر وجهوده المتميزة في خدمة العلم والدين ونظرا لما تخرج من أروقته من علماء عاملين منهم ما نحن بصدد ترجمته فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي . فقد بدا لي أن أتوسع في الكتابة عن الأزهر ليعرف القاريء الكريم شيئا موثقا عن تاريخه وجهاد رجاله وأبرز علمائه ومراكزه العلمية المتخصصة فينزله المنزلة اللائقة به بلا غلو ولا إجحاف ودونك - أخي القاريء - ما كتبته في هذا الخصوص مفصلا!
الأزهر وجهوده في ميادين العلم والمعرفة
لمحة تاريخية عن نشأته ومناهجه وجهوده في مجال العلم
والمعرفة وأشهر علمائه ودعاته
عرف الجامع الأزهر في باديء الأمر بجامع القاهرة نسبة إلى العاصمة الجديدة التي أنشأها جوهر بن عبد الله الصقلي ( ت 358 هـ ) أما تسميته بالجامع الأزهر فيظهر أنها أطلقت عليه في عصر العزيز بالله الفاطمي .(2/13)
بعد إنشاء القصور الفاطمية التي كان يطلق عليها اسم القصور الزاهرة وقال آخرون إنما سمي بذلك لما سيكون له من الشأن العظيم والمكانة الكبرى بازدهار العلوم فيه ولم ينشأ الجامع الأزهر في بداية الأمر ليكون جامعة أو معهدا للدراسة بل أنشأ ليكون مسجدا للدولة الفاطمية ومركزا لنشر دعوتها .
وقد ظهرت فكرة الدراسة بالجامع الأزهر في أواخر عهد المعز لدين الله الفاطمي وكانت أول حلقة دراسية في الجامع الأزهر هي : حلقة قاضي القضاة الشيخ أبي الحسن علي بن النعمان المغربي حضر فيها جمع من العلماء والأعيان .
أما أتخاذه معهدا للدراسة في الجامع المنظمة فكان أول من فكر في ذلك الوزير يعقوب بن كلس فقد عين بالأزهر جماعة أول من فكر في ذلك العلماء يعقدون مجالس في كل جمعة بعد الصلاة حتى العصر .
وكان ذلك في سنة ( 378 هـ ) .
الدراسة الجامعية بالأزهر :
بدأت الحياة الجامعية في الأزهر منذ أوائل العصر الفاطمي ثم تردد إليه طلبة العلم وازدادوا يوما بعد يوم وهاجر إليه طلاب العلم ورواد المعرفة من شتى بقاع العالم الإسلامي لينهلوا من معينه ومنابعه وكان نظام الحلقة الدراسية هو نظام الدراسة في الأزهر فيجلس الأستاذ ليقرأ درسه وسط حلقة من تلاميذه والمستمعين إليه وتنظم الحلقات وفقا للمواد التي تدرس فيجلس الفقهاء في المكان المخصص لهم وأمامهم الطلبة يستمعون لهم وقد بلغت الحركة العلمية والثقافية في مصر ذروتها من التقدم والازدهار في أواخر القرن الثامن الهجري وأوائل القرن التاسع الهجري حيث كان الأزهر يتمتع برعاية خاصة من الحكام .
لقد أخذ الأزهر يؤدي دورا هاما في الحياة العلمية والاجتماعية والسياسية حتى تبوأ في العالم الإسلامي منزلة هامة من الزعامة الدينية والعلمية والمعرفية وكان الأزهر يعيش العصر الذهبي له من حيث الإنتاج العلمي والنفوذ الاجتماعي .
مناهج الأزهر وعلومه :(2/14)
كان يدرس بالجامع الأزهر العلوم النقلية والعقلية يقول المقريزي :
" فلا يزال الجامع الأزهر عامرا بتلاوة القرآن ودراسته وتلقينه والاشتغال بأنواع العلوم والفقه والحديث والتفسير والنحو ومجالس الوعظ وحلق الذكر فيجد الإنسان إذا دخل هذا الجامع من الأنس بالله والارتياح وترويح النفس ما لا يجده في غيره " .
ويستدل من نماذج الإجازات العلمية التي أوردها القلقشندي على كتب الدراسة التي كانت تدرس في الجامع الأزهر وغيره من مدارس مصر ومنها : كتب الحديث الستة : وهي " صحيح البخاري " و " صحيح مسلم " و " سنن أبي داود " و " الترمذي " و " النسائي " و " ابن ماجة " و " المسانيد " و " عمدة الأحكام " للحافظ عبد الغني المقدسي و " شذور الذهب " للشيخ جمال الدين بن هشام و " المنهاج في فقه الإمام الشافعي " لأبي زكريا النووي و " كتاب الأربعين حديثا " للشيخ محيي الدين النووي - و " الورقات في الأصول " لإمام الحرمين و " اللمحة البدرية في النحو " للشيخ أثير الدين أبي حيان وغير ذلك من الكتب .
وقد جرت العادة على تدريس العلوم النقلية التي عبر عنها ابن خلدون . بأنها مختصة بالملة الإسلامية في الصباح . أما العلوم الأخرى فكانت تدرس بعد العصر
ومن أشهر العلماء الذين درسوا بالأزهر :
ابن زولاق - ( ت 783 هـ ) ومن تصانيفه : كتاب " فضائل مصر " - وكتاب " قضاة مصر " .
ومنهم أيضا أبو عبد الله القضاعي الذي ولد بمصر في أواخر القرن الرابع الهجري وتوفي بها سنة ( 454 هـ ) وقد ألف عدة كتب في الفقه والتاريخ منها
كتاب " مناقب الإمام الشافعي وأخباره " - وكتابا في خطط مصر سماه " المختار " وكان هذا الكتاب عونا للمقريزي على كتابه " المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار " .
الأزهر وجهوده في مجال العلم والمعرفة :
إن الأزهر قد أمضى أكثر من ألف عام في ميادين العلم والمعرفة والثقافة خدمة للأمة الإسلامية خاصة وللإنسانية عامة .(2/15)
فقد حفظ على الأمة الإسلامية تراثها ودافع ونافح عنها وحماها من العواصف والتقلبات حيث كان يمثل القوة الحقيقية في وجه طوفان المادية المتلاطم وشرها المتدافع فهو يمثل القوة الحقيقية أول من يصدم السيل بسيل يدفعه ويقذف الباطل بحق يدفعه ويدفع في صدر الشر بخير يصرعه .
إنه للأمة الإسلامية نورها ومرشد أمين ومنارة ثقافية يستمد منها علومها على تنوعها وكثرتها .
كان الأزهر على مر القرون هو القلعة الشامخة التي حفظت للقرآن لغته وللحديث مكانته وللدين تعاليمه وللشريعة أحكامها وللفقه أصوله وضوابطه وللأمة الإسلامية تراثها الحضاري الفريد وأصالتها العلمية الراسخة .
وكلمة الأزهر في حياة الأمة الإسلامية كلها تمثل قمة الهرم وعلماؤه الأفاضل هم اللبنات القوية التي قام عليها صرحه وتشامخ بها علوه حتى غدا معلما على الطريق .
رسالة الأزهر :
إن رسالة الأزهر ليست من الرسلات المحلية إنها رسالة تتجاوز توصيل المعرفة للفرد والجماعة إلى تنمية العلاقات بين الشعوب العربية والإسلامية بإعتبارها أمة واحدة تجمعها أخوة الإسلام .
إن رسالة الأزهر في ذاتها تنبعث من تراثها الإسلامي الأصيل لقد تبوأ الأزهر مكانة عالية في دراسة علوم القرآن والسنة وشتى العلوم والمعارف الإسلامية والحفاظ على اللغة العربية والدعوة إلى العمل بأحكام الإسلام وتعاليمه ونظمه وقوانينه .
إن علماء الأزهر قد جلسوا على مدى أكثر من عشرة قرون تعليما وتدريسا ووفاء للأمة الإسلامية فقها في الدين وتوجيها للمسلمين .
وذبا عن حرماتهم ودفاعا عن مقدساتهم .
علماء الأزهر ودعاته :
وإن الأزهر ليذكر من علمائه وأبنائه ودعاته :(2/16)
عز الدين بن عبد السلام - وابن دقيق العيد - والبلقيني - وابن خلدون - والسخاوي - والمنذري - والعراقي - وابن تغري بردي - وابن حجر العسقلاني - والمناوي - وابن عبد الوهاب المالكي - وابن الحاجب - والقرطبي - والزيلعي - والكرماني - والحافظ العيني - وابن الهمام - والبهوتي - والسيوطي - والشرقاوي - والدردير - وابن هشام المصري - والخطيب الشربيني . . .
وغير هؤلاء من العلماء المبرزين الذين قدموا الكثير في علوم القرآن والتفسير والحديث والفقه والأصول والتاريخ والأدب وعلوم اللغة وغيرها .
إن الكثير من تراث الإسلام حفظه جهابذة صادقون من علماء الأزهر وقدموه للمسلمين في مؤلفات عظيمة اتخذها ويتخذها المسلمون كمراجع لدراستهم وينتفعون بها في دينهم ودنياهم .
وهذا مما يؤكد ويدلل على أن رسالة الأزهر رسالة سامية فهو يؤدي دورا فعالا في حياة الأمم والمجتمعات الإسلامية .
وهو يدعو إلى العبادة الصحيحة في اسلوب سهل ومسلك رشيد كما يدعو إلى تنقية التراث الإسلامي مما علق به من الأباطيل والأوهام .
تطوير الأزهر :
في الثاني عشر من شهر محرم سنة ( 1381 هـ ) الموافق ( 7 / 6 / 1991 م ) أصدرت الحكومة المصرية القانون رقم 103 لسنة 1961 م بشأن إعادة تنظيم الأزهر والهيئات التي يشملها وعرف هذا القانون باسم قانون ( تطوير الأزهر ) .
وقد نص هذا القانون على أن الأزهر هو الهيئة العلمية الإسلامية الكبرى التي تقوم على حفظ التراث الإسلامي ودراسته وتجليته ونشره وتحمل أمانة الرسالة الإسلامية إلى كل الشعوب وتعمل على إظهار حقيقة الإسلام وأثره في سعادة البشر وكفالة الأمن والطمأنينة وراحة النفس لكل الناس في الدنيا والآخرة .(2/17)
وتعمل على تزويد العالم الإسلامي والزوطن العربي بالمختصين من العلماء والدعاة فيما يتصل بالشريعة الإسلامية والعلوم الدينية والعربية ولغة القرآن وتخريج علماء عاملين متفقهين في الدين يجمعون إلى جانب الإيمان بالله وتوحيده كفاية علمية وعملية ومهنية لتأكيد الصلة بين الدين والحياة والربط بين العقيدة والسلوك ومن ثمرات هذا التطوير التي تذكر فتشكر . إنشاء مجمع البحوث الإسلامية ويختص بالبحث العميق الواسع في الفروع المختلفة للدراسات الإسلامية والعمل على تجديد التراث الإسلامي وتنقيته وتجريده من الفضول والشوائب وآثار التعصب السياسي والمذهبي وتجليته في جوهره الأصيل الخالص وتحقيق التراث الإسلامي ونشره وبيان الرأ ي فيما يستجد من مشكلات مذهبية أو اجتماعية تتعلق بالعقيدة وحمل تبعة الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ومعاونة جامعة الأزهر في توجيه الدراسات الإسلامية في مرحلة الدراسات الإسلامية العليا والإشراف عليها والمشاركة في أمتحاناته .
وقد أنشيء مجمع البحوث الإسلامية في سنة ( 1381 هـ - 1961 م ) .
وقد استهل المجمع نشاطه بعقد مؤتمرات قدم فيها مجموعة من البحوث والدراسات الإسلامية وحرص المجمع على إصدار بحوثه باللغتين العربية ولإسلامية ومجمع البحوث الإسلامية هو الهيئة العليا للبحوث الإسلامية ورئيسه هو شيخ الأزهر .
ويعد مجمع البحوث الإسلامية ركيزة للفكر الأكاديمي بين علماء المسلمين وتوحيدا لاتجاهاتهم في رحاب العقيدة الإسلامية .
وقد عني المجمع بثروة كبيرة من البحوث والدراسات الإسلامية ومنها :
9- بحوث في علوم القرآن والسنة .
10- بحوث في العقيدة الإسلامية .
11- بحوث في مجال التشريع .
12- بحوث في مجال الإقتصاد والمال .
13- بحوث في العلاقات الدولية .
14- بحوث في الجهاد الإسلامي .
15- بحوث في الدعوة الإسلامية .
16- بحوث في شؤون المجتمع والتربية والأسرة .
مكتبة الأزهر :(2/18)
كان للأزهر مكتبة عامرة وهناك من الأدلة التاريخية ما يثبت أن الجامع الأزهر يحتوي على مكتبة كبيرة منذ العصر الفاطمي ما ذكره ابن ميسر في حوادث سنة ( 517 هـ ) أنه أضيف إلى أبي الفخر صالح الخطابة بالجامع مع خزانة الكتب .
وفي القرن التاسع الهجري أصبح لكل رواق كبير من أورقة الأزهر مثل " رواق المغاربة ورواق الشوام " مكتبة عامرة بالكتب وذلك لتيسير البحث والدرس للمجاورين المنتمين إلى كل رواق .
واحتوت خزانة الكتب في بعض الأروقة على بضعة آلاف مجلد وقد آلت معظم هذه الكتب إلى الأزهر عن طريق الوقف .
وذكر المقريزي أن الحاكم أمر بنقل نصف الكتب التي كانت بدار الحكمة إلى الجامع الأزهر من أشهر والباقي إلى مسجده وقد أشار المقريزي في خططه إلى أن عدد الكتب بدار الحكمة بلغت مائة الف كتاب .
وقد صارت مكتبة الأزهر من أشهر المكتبات في العالم يعرفه أهل البصر بالكتب والباحثون من الشرق والغرب ويشيرون إلى ما فيها من الكتب واحتوائها على كثير من نوادر المؤلفات المخطوطات .
ومكتبة الأزهر - كغيرها من المكتبات العامة - تزود روادها على اختلاف أعمارهم ومستوياتهم بالمواد العلمية في جميع فروعها .
والمكتبة الأزهرية لا تختصر رسالتها على أهل الأزهر من العلماء والطلاب بل تفتح أبوابها لمحب الاطلاع ورواد المعرفة على اختلاف أجناسهم ودياناتهم ومعاهدهم وتعد المكتبة الأزهرية بمثابة المكتبة الأم لمكتبات الكليات والمعاهد في القاهرة والأقاليم .
لقد كان عدد الكتب التي بدأت بها المكتبة الأزهرية في سنة ( 1897 ) عند الشروع في تنظيمها ( 7703 كتابا ) ويبلغ عدد كتبها الآن ( 79123 ) كتابا تقع في ( 183668 ) مجلدا موزعة على فنون العلم العلم على فنون العلم المختلفة .
نصيحة للأزهر :(2/19)
لا بد لعلماء الأزهر إذا ما أرادوا أن تستمر هذه المسيرة المباركة لهذا الصرح العلمي الكبير الذي خرج أجيالا من جهابذة العلماء ودعاة الحق ورجال الدين لا بد لهم من الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والعض عليهما بالنواجذ مع وجوب التمسك بعقيدة السلف الصالح قولا وفعلا والذب عن حياضها ونفى الشبه عنها إلى جانب تصفيتها من شوائب الشرك والبدع والمعاصي وتدريسها لطلبة العلم وحملة الشريعة نقية صافية لا يكدرها شوائب المتكلمين وأقوال المؤولين وشطحات الفلاسفة المغرضين .
ذلك أن العقيدة الإسلامية كانت ولا تزال هدفا لأعداء الإسلام الطاعنين عليه المتربصين به .
ذلك أن العقيدة الإسلامية كانت ولا تزال هدفا لأعداء الإسلام الطاعنين عليه المتربصين به .
فحق على الأزهر أن يصحح مسيرة التوحيد ويقوم منهج العقيدة ويعيد النظر فيما كتب ويكتب ويدرس في هذا المنتدى العلمي الكبير .
وإنه لأحرى بالأزهر أن يكون له الحظ الأوفر والقدح المعلي من تدريس كتب حفاظ السنة وجهابذة العقيدة وأئمة الحديث والعناية بمصنفاتهم وإدامة النظر في مؤلفاتهم .
ويأتي في مقدمة هذه الكتب التي ينبغي أن يعني بها وبتدريسها " كتاب السنة " للإمام احمد بن حنبل - و " السنة " لابن أبي عاصم - و " شرح السنة " للبغوي - و " شرح السنة " للبريهاري - و " الشريعة " للآجري - و " شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة " للالكائي - و " منهاج السنة " لابن تيمية - و " الصواعق المرسلة " لابن القيم . . . . . . وغيرها كثير .
وكم هو جميل أن يقترن العلم بالعمل والقول بالفعل والعقيدة مع السلوك مع استقامة في الظاهر وصلاح في الباطن .
إن الأمة الإسلامية اليوم أحوج ما تكون إلى قيادة الأزهر وجهود علمائه حين تكون له كلمة نافذة واستقلال صحيح حتى تعود الثقة إلى الأزهر كما كانت عليه من قبل .
تراجم لبعض علماء الأزهر
ــــــــــ(2/20)
ومن علماء الأزهر الذين حملوا رسالة الإسلام وبلغوا أمانته ونشروا دعوته وكان لهم قدم صدق في الدعوة إلى الله عز وجل .
الشيخ محمد الخراشي :
هو الشيخ محمد بن عبد الله الخراشي ولد في بلدة أبو الخراش مركز شبراخيت محافظة البحيرة في عام ( 1010 هـ ) . كان الشيخ المالكين في عصره ورعا تقيا متقربا إلى الله بالعلم وخدمة الدين .
تلقى علومه على يد نخبة من العلماء الأعلام منهم والده الشيخ جمال الدين الخراشي والشيخ إبراهيم اللقاني وغيرهما .
درس العلوم المقررة بالأزهر ومكث عشرات السنين يتلقى العلم ويلقنه ومن تلامذته بعض مشايخ الأزهر كالشيخ عبد الباقي القليني والشيخ إبراهيم الفيومي .
وقد عرف عنه التواضع ودماثه الخلق وكرم النفس وكان زاهدا متقشفا .
من آثاره العلمية : " رسالة في البسلمة "" فتح الجليل " " الشرح الكبير في الفقه "
الشيخ إبراهيم الفيومي :
ولد الشيخ إبراهيم الفيومي عام ( 1062 هـ ) وتلقى علومه بالأزهر وتتلمذ على طائفة من علمائه ويعد الشيخ الفيومي من علماء الحديث والمتبحرين في اللغة تتلمذ عليه الكثير من العلماء الأفذاذ كالشيخ الدمياطي والشيخ الصعيدي . وكان عالما ورعا من كبار علماء المالكية المشهود لهم بالورع والتقوى .
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1133 هـ ) وتوفى سنة ( 1137 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " شرح على العزية في فن الصرف " وهو مجلدين .
الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي :
هو الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي - ولد بقرية وراق الحضر من قري محافظة الجيزة سنة ( 1264 هـ ) .
وتلقى تعليمه بالأزهر على يد أفاضل العلماء مثل الشيخ عليش وغيرهم .
عين عضوا في إدارة الأزهر ثم وكيلا للأزهر ولم يترك التدريس طيلة هذه الفترة(2/21)
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1335 هـ ) وقد عاصر أحداث الثورة المصرية سنة ( 1919 م ) وما تلاها من صراع بين الشعب والمستعمرين وحكامه وقد قاد مسيرة الأزهر في خضم تلك الأحداث حتى توفى سنة ( 1346 هـ ) من آثاره العلمية :
" الطراز الحديث في فن مصطلح الحديث " ، " حاشية على شرح العضد في أصول الفقه " .
الشيخ عبد الرحمن الشربيني :
هو الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن احمد الشربيني تلقى تعليمه بالأزهر واشتهر بالتعمق في دراسة المصادر القديمة .
أخذ مكانه في التدريس بالأزهر وأصبح معروفا بالعكوف على القديم من كتب التراث حيث إنه كان من أنصار القديم وقد كان مشفقا علىالأزهر من الانغماس في البعلوم الحديثة واهماله لعلومه الأصلية .
تولى مشيخة الأزهر عام ( 1323 هـ - 1905 م ) . وتوفى سنة ( 1344 هـ
من آثاره العلمية : " فيض الفتاح على شرح المفتاح " في البلاغة .
الشيخ عبد الله الشرقاوي :
هو الشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشرقاوي ولد في قرية الطةويلة من قرى محافظة الشرقية سنة ( 1150 هـ ) .
حفظ القرآن الكريم في قريته ثم رحل إلى القاهرة فتلقى تعليمه في الأزهر على يد أعلام العلماء كالملوي والجوهري والصعيدي والحفني والدمنهوري .
تولى الشيخ المشيخة عام ( 1208 هـ ) في مرحلة من أهم مراحل التاريخ المصري حيث عاصر الثورة ضد الفرنسيين وكان في مقدمة زعماء الشعب وواحدا من عشرة هم أعضاء مجلس الشورى الذي تقرب به نابليون إلى الشعب المصري .
عاش ثورة الشعب المصري وانتفاضته وأبلى بلاء حسنا في حفاظه على الأزهر وحمايته .
توفى عام ( 1227 هـ ) .
من آثاره العلمية : " التحفة البهية في طبقات الشافعية " تراجم فقهاء الشافعية - " فتح المبدي ، شرح مختصر الزبيدي " في الحديث - " حاشية على كتاب التحرير " في الفقه الشافعي - " تحفة الناظرين فيمن ولى مصر من الولاة والسلاطين " .
الشيخ سليم البشري :(2/22)
هو الشيخ سليم بن أبي فراج البشري - ولد في محلة بشر من قرى محافظة البحيرة عام ( 1248 هـ ) .
تلقى علومه بالأزهر على يد نخبة من علمائه وذاع صيته وقد تخرج على يديه كثير من الأزهريين النابهين وبجانب تدريسه للعلوم الشرعية واللغوية في الأزهر كان شيخا في المالكية وعضوا في مجلس إدارة الأزهر .
تولى مشيخة الأزهر عام ( 1317 هـ ) .
كانت له مواقف تشهد بشجاعته وبع نظره وحكمته ممات رفع من شأن الأزهر ومنسوبيته .
من آثاره العلمية : " تلاستئناس في بيان الأعلام واسماء الأجناس " وغيرها .
الشيخ محمد مصطفى المراغي :
ولد الشيخ محمد مصطفى المراغي ببلدة المراغة التابعة لمركز سوهاج سنة ( 1298 هـ ) . حفظ القرآن الكريم . ثم حضر إلى الازهر فتلقى علومه ودرس على كبار علمائه - واتسم الشيخ بسعة افقه وأقبل على كل مصادر المعرفة وقد عمل قاضيا بالسودان ثم رئيسا للمحكمة الشرعية العليا عام ( 1341 هـ ) ثم عين شيخا للأزهر سنة ( 1346 هـ ) - ثم استقال ثم عاد إلى المشيخة عام ( 1353 هـ ) . وتوفي سنة ( 1363 هـ ) .
ومن جهوده تعديل نظام هيئة كبار العلماء وإضافة شروط جديدة لاختيار أعضائها . وقد أنشأ مراقبة البحوث والثقافة الإسلامية عام ( 1363 هـ ) وتختص بالنشر والترجمة والبعوث الإسلامية والدعاة .
من آثاره العلمية : " تفسير جزء تبارك " و " مباحث لغوية وبلاغية " وتفسير كامل للقرآن الكريم " تفسير المراغي " .
الشيخ عبد المجيد سليم :
هو الشيخ عبد المجيد سليم ولد سنة ( 1303 هـ - 1882 م ) في قرية ( ميت شهالة ) من قرى المنوفية وتلقى تعليمه بالأزهر على يد علمائه .
حصل على العالمية من الدرجة الأولى عام ( 1326 هـ ) وقد عاصر أحداث وطنه وشارك فيها وشغل الكثير من المناصب الدينية صدى في الأزهر الشريف والقضاء الشرعي والإفتاء وكان لآرائه الدينية صدى بعيد في العالم الإسلامي .(2/23)
أشرف على الدراسات العليا في الأزهر - ورأس لجنة الفتوى وأسهم في تطوير الأزهر توفى عام ( 1372 هـ ) .
من آثاره العلمية : فتاوي تبلغ بضعة عشرل الف فتوى وله مقالات ودراسات في الصحف والمجلات .
الشيخ إبراهيم حمروش :
ولد الشيخ إبراهيم بن إبراهيم الحمروش في قرية الخوالد مركز ايتاي البرود - سنة ( 1301 هـ ) ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر ودرس على اعلام العلماء وقد حصل على العالمية من الدرجة الأولى سنة ( 1324 هـ )
وقد عمل مدرسا بالأزهر ثم قاضيا بالمحاكم الشرعية ثم عميدا لكلية اللغة العربية ثم رئيسا للجنة الفتوى كما كان عضوا في مجمع اللغة العربية منذ أنشأته سنة ( 1350 هـ ) .
تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1369 هـ ) وله مواقف شجاعة توفى سنة ( 1378 هـ ) .
من آثاره العلمية : " عوامل نحو اللغة " فصول ودراسات في مجلة المجمع اللغوي - وغيرها .
الشيخ محمد الخضر حسين :
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نقطة بتونس سنة 1293 هـ وحفظ القرآن الكريم ثم التحق بجامعة الزيتونة ونال شهادة العالمية سنة 1321 هـ .
تولى التدريس في الزيتزنة وأنشأ مجلة السعادة العظمى ثم ولى قضاء نزرت إلى جانب التدريس والخطابة بمسجدها كرس قلمه وبيانه لمحاربة الاستعمار وقد استقر المقام به في القاهرة حيث حصل على العالمية من الأزهر وأصبح من علمائه واساتذته وشارك في النشاط العلمي والعملي - وعين رئيسا لتحرير مجلة الأزهر ثم عضوا في مجمع اللغة العربية ثم رئيسا لمجلة لواء الإسلام وقد تولى مشيخة الأزهر سنة ( 1371 هـ ) وقد توفى رحمه الله سنة ( 1377 هـ - 1958 م ) .
من آثاره العلمية : " كتاب القياس في اللغة العربية " ، " نقد كتاب الإسلام وأصول الحكم " ، " نقد كتاب الشعر الجاهلي " .
الشيخ محمود شلتوت :(2/24)
هو الشيخ محمود شلتوت من علماء الأزهر ولد في ( منية بني منصور ) مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة حفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر وحصل على العالمية سنة ( 1336 هـ ) عمل مدرسا بمعهد الإسكندرية الديني سنة ( 1337 هـ ) وقد انتقل إلى القاهرة مدرسا بالقسم العالي بالأزهر وقد حظيت رسالته ( المسؤولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية ) بالتقدير والإعجاب
واكتسب الشريعة الإسلامية واللغة العربية في عهده ذيوعا وانتشارا .
وقد عين عضوا في مجمع اللغة العربية سنة ( 1364 هـ ) عين مراقبا عاما للثقافة والبحوث الإسلامية بالأزهر وفي عام ( 1375 هـ ) عين وكيل للأزهر ثم تولى مشيخة عام ( 1376 هـ ) .
توفى سنة ( 1383 هـ - 1963 م ) .
من آثاره العلمية : "فقه القرآن والسنة " ، " منهج القرآن في بنالء المجتمع " و " القرآن والمرأة " و " القرآن والقتال " و " تنظيم العلاقات الدولية في الإسلام " و " الإسلام عقيدة وشريعة " .
الشيخ محمد شاكر :
ولد الشيخ محمد شاكر بجرجة من أعمال الصعيد عام ( 1287 هـ ) حفظ القرآن الكريم وتلقى علومه بالأزهر .
عين أمينا عاما بالفتوى عام ( 1311 هـ ) ثم قاضيا بالمحاكم الشرعية ثم قاضيا لقضاة السودان ثم شيخا لعلماء الإسكندرية عام ( 1322 هـ ) ثم عين وكيلا للأزهر عام ( 1347 هـ ) .
وكان عضوا في هيئة كبار العلماء كما كان عضوا في الجمعية التشريعية وكان علما من أعلام أحداث عام ( 1919 م ) . توفى سنة ( 1357 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " القول الفصل في ترجمة القرآن " و " الدروس الأولية في العقائد الدنية " .
الشيخ محمد حسنين مخلوف :
ولد الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي ببني عدي مركز منفلوط محافظة أسيوط سنة ( 1281 هـ ) في بيئة علم وصلاح .(2/25)
حفظ القرآن الكريم ثم تلقى علومه بالأزهر وحصل على العالمية بامتياز سنة ( 1308 هـ ) ثم عمل مدرسا بالأزهر ثم أمينا لمكتبة الأزهر . وقد عين مفتشا أول للأزهر والمعاهد الدينية ثم عضوا بمجلس إدارة الأزهر .
ثم مديرا عاما للأزهر والمعاهد الدينية ثم عضوا في مجلس الأزهر الأعلى - ثم عضوا بهيئة كبار العلماء وقد نال احترام الحكام ورجال الدولة .
وتوفى سنة ( 1354 هـ ) رحمه الله .
من آثاره العلمية : " حكم ترجمة القرآن " و " عنوان البيان في علوم التبيان " و " رسالة في مباديء الفنون " و " القول المبين في حكم زكاة الأوراق المالية " و " القرآن تفسير وبيان " .
هذا وقد خرج الأزهر غير هؤلاء أفواجا من جهابذة العلماء وأجيالا من الدعاة والمربين والأدباء وحملة الشريعة وأمما لا يحصون كثرة ممن دافعوا ونافحوا عن دين الله وحملوا لواء السنة ويأتي في مقدمة هؤلاء ممن تخرجوا من الأزهر في القرن الرابع عشر الهجري فضيلة الشيخ العلامة عبد الرزاق عفيفي ( المترجم له ) وفضيلة الشيخ جاد الحق على جاد الحق وغيرهما ممن أبلوا بلاء حسنا في نصرة هذا الدين وأهله تغمد الله الجميع بواسع رحمته .
علاقته بالجماعات الإسلامية وموقفه منها :
إن الإسلام دين كامل وتنظيم شامل إنه نور في البصائر وصلاح في الباطن والظاهر لا خير إلا وقد احتواه ولا شر إلا وقد نفاه إنه ينبوع المحلل وأساس الديانات قال تعالى : ()إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام)(آل عمران: من الآية19)
وقال سبحانه : ()وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)(2/26)
لقد جاء الإسلام فكان أعظم مقاصده توحيد الله وإخلاص العبادة له ثم العناية بجمع شتات الأجناس والأمم في إطار واحد لا فرق بين أبيض وأسود ولا بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى حتى أفرغ جميع أتباعه في قالب واحد وهو قالب الأمة الوسط التي جمعت شتات الفضائل ونبذت كل عوامل الانحطاط .
لقد بلغ المسلمون الغاية عندما كانت صلتهم بهذا الدين قوية فانتظم أمرهم واجتمع شملهم وعزت دولهم .
قال تعالى : ()مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ )
إن المسلمين اليوم في مسيس الحاجة إلى اجتماع الكلمة والتئام الصف وتوحيد القصد والهدف والدعوة إلى ما يؤلف بين قلوبهم ويوفق بين مشاعرهم ووجدانهم وسلوكهم وأعمالهم ولا يكون ذلك ولن يكون إلا بالأعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو القائل : " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم "
إن حاجتنا إلى التمسك بالكتاب والسنة فوق كل حاجة وضرورتنا إلى ذلك فوق كل ضرورة خاصة في هذه الأيام التي انقسمت فيها الأمة الإسلامية إلى فرق وأحزاب متناجرة أسرت نفسها في ربقة الرمز وضيق الشعار ومستحدث اللقب الذي يكون في البداية - " كلمة " وفي النهاية " نحلة " واشتد طمع الأعداء في فرقتها وتناحرها فكثرت دعوتهم إلى ذلك وتنوعت الشبه التي يوزعونها بين الصفوف .(2/27)
وكان من أثر ذلك أن دب الضعف إلى جسد الأمة الإسلامية وأصيب بنيانها بالتصدع واجتماعها بالتناثر وطرقت النداءات والنزعات والشعارات أبوب البلاد الإسلامية وعقدت مع الإسلام مصالحة مشبوهة وهنت معها أواصر الأخوة وتزعزع فيها الولاء لله ورسوله واهتزت فيها روابط العقيدة ولم تزل الأواصر تضعف والخلاف يستشرى حتى أصبح روابط العقيدة ولم تزل الأواصر تضعف والخلاف يستشرى حتى أصبح واقعا ملموسا ومنهجا محسوسا أستبيح بسببه الحمى ونهبت من أجله الديار ووقع كثير من بلاد المسلمين في أزمات مادية ومعنوية خانقة وتداعت عليها الأمم وأودت بها الأهواء إلى منعطفات خطيرة ومسالك وعرة وأقبل أبناء الأمة بعضهم على بعض يتلاومون ولعمر الله إنهم لن يزالوا كذلك حتى يطهر الإيمان قلوبهم ويعيد بناءهم وتماسكهم ويرصهم في ميادين الإصلاح والجهاد والعمل المثمر البناء أشرافا كرماء .
لقد أدرك فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - أنه لا سعادة ولا حياة لأمة الإسلام إلا الإسلام بقاؤها مرهون بالتمسك به وفناؤها راجع إلى التفريط فيه ولذا كان شغله الشاغل وهدفه الأسمى جمع الأمة على الكتاب والسنة فحذر من سلاح الدس والخديعة للأعداء وهو سلاح بغيض يلجأون إليه إذا أعيتهم الحيل للنيل من الإسلام وأهله بالقوة والسيف .
لقد أبان عن هذا كله - رحمه الله - تحذيرا للأمة وإعذارا إليها وذلك في كلمته الضافية في العدد الأول من مجلة الهدى النبوي .
ومما جاء في هذه الكلمة قوله : فلما أعيتهم الحيل للنيل من الإسلام وأهله بالقوة والسيف أو بالحجة والبرهان عمدوا إلى السلاح النسوي سلاح الدس البغيض والتلبيس فلبسوا لذلك لأمة النفاق وتدرعوا بدروع التقية خشية الظنون والريب وخشية أسياف الغيورين من المجاهدين مستنبطين الكفر والعدوان فأوضعوا خلال المسلمين يبغونهم الفتنة .(2/28)
وفي موضع آخر يقول - رحمه الله - : إن ما ترزح تحته الأمة الإسلامية اليوم من تفرق في الرأي وضعف في الدفاع وتأخر إلى الوراء حين يتقدم غيرهم ليس كل هذا إلا نتيجة غفلتهم عن مخططات أعدائهم وبعدهم عن تراث السلف الصالح وسلوكهم لغير خطتهم وعملا وفي موضع ثالث يتحدث الشيخ - رحمه الله - عن حقيقة العداوة بين المؤمنين والكافرين وطرق مواجهتها فيقول :
إن العداوة التي بين المؤمنين والكافرين عداوة قديمة مستأصلة وأن الخصومة التي بين الفريقين خصومة مستحكمة وأن قلوب الكافرين لم تزل ولا تزال تتوهج فيها الجمرات الغيظ وتشتعل فيها نيران الضغائن والأحقاد لا يكاد يخبو لهيبها أو تخمد جمرتها بل لا تزال تزداد يوما بعد يوم وتتخذ الوانا مختلفة من الكيد والتلبيس وأشكالا من الحروب الضارية خفية وجهرة سرا وعلانية وما خفي منها أشد ضراوة وأعظم فتكا بالمسلمين مما ظهر ولذا حذرنا الله من موالتهم واتخاذ بطانة منهم قال تعالى :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) .(2/29)
تارة تكون حربا مادية تدور رحاها في الجو أو البحر أو على بساط الأرض بالطائرات والغواصات والدبابات وأمثال ذلك من الأسلحة الفتاكة وتارة تكون نظرية الإلحاد ونحوها لتشكيك المسلمين في دينهم وبزلزلة العقيدة في نفوسهم ومحو ما في قلوبهم من حق ويقين وآونة تكون حرب أعصاب وفتن توهن العزائم وتبعث الرعب في القلوب وتحطم وحدة المسلمين وتفرق جماعتهم بما تلقيه في نفوسهم من بذور الأثرة وأسباب العداوة والبغضاء وتجعل بعضهم حربا على بعض إلى غير ذلك من ألوان الكيد والحروب فلا بد للمسلمين أن يواجهوهم بمثل أسلحتهم يواجهزنهم بأدلة علمية يثبتون بها الحق في قلوب المؤمنين ويمحون الشبه حتى لا تكون فتنة ولا إلحاد ولا حيرة ولا شكوك ويواجهونهم بإيجاد يقظة في الأمة الإسلامية ونشر الوعي فيها حتى ينكشف لهم ما بخصوصهم من الكيد والدس وحتى لا يغتروا بالبهرج الكاذب والمظاهر الخداعة ولا يأخذ التهريج من نفوسهم مأخذه .
وكل هذه المواجهات والمكافحات أنواع من الجهاد في سبيل الله فيجوز أن يستعين في القيام بها بأموال الزكاة وغيرها من تبرعات المحسنين من أغنياء المسلمين وبيوت الأموال في الدول الإسلامية عن طريق ولاة الأمور لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم والله الموفق . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
وفي معرض حديثه عن الفرق وثمار التفرق المرة يقول فضيلته :
كان الناس أمة واحدة على الحق بما أودع الله فيهم من فطرة الإسلام وبما عهد إليهم من الهدى والبيان فلما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاجتالتهم الشياطين عن الصراط المستقيم وسلكت بهم بنيات الطريق فتمزقت وحدتهم واختلفت كلمتهم فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما .(2/30)
قال تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
وقال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " . الحديث وقد أمر الله - تعالى - في كتابه وعلى ألسنة رسله بوحدة الكلمة والاعتصام بشرعه وحذر من الفرقة والاختلاف وبين عاقبة ذلك بما ذكر من أحوال الأمم الماضية وما حاق بها من الدمار وأصابها من الهلاك وحثهم على البيان والبلاغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نصرة للحق وإزالة للشبهة وإحباطا لكيد دعاة السوء واستهوائهم النفوس الضعيفة .
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) وقال : (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(2/31)
وعن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل : يا رسول الله كأنها موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : " أوصيكم بالسمع والطاعة فإنه من يعش منكم بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي فسيري اختلافا كثيرا فعليكم تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " . إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .
ومع ذلك دب الخلاف بين الناس فما من أمة من الأمم إلا وقد اختلفت بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا يبني عليها مذهبه وإليها بهم الأهواء حتى وضع كل لنفسه أصولا يبنى عليها مذهبه وإليها يرجع في خصومه . فتناقضت مذاهبهم وصار كل واحد حربا على أخيه وشغل بذلك عن كتاب الله وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه - سبحانه - جرت سنته واقتضت حكمته أن يقيض للحق في كل عصر جماعة تقوم عليه وتهدي الناس إليه إنجازا للوعد بحفظ دينه وإقامة للحجة وإسقاطا للمعاذير قال تعالى : ( وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)
وقال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : " افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وستفترق النصارى على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة " . وفي روايه قالوا : يا رسول الله ! من الفرق الناجية ؟ قال : " من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي " . وفي رواية قال : : هي الجماعة يد الله على الجماعة " . رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم . وفي الحديث : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق . . . " الحديث .(2/32)
وقد تبين من ذلك أن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وإن شعارها كتاب الله وهدى رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه سلف الأمة الذين يؤمنون بمحكم النصوص ويعملون بها ويردون إليه ما تشابه منها وأما الفرق الضالة فشعارها مفارقة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة واتباع الأهواء وشرع ما لم يأذن به الله من البدع والآراء الزائفة بناء على أصول وضعوها يوالون عليها ويعادون فمن وافقهم عليها أثنوا عليه وقربوه وكان في زعمهم من أهل السنة والجماعة ومن خالفهم تبرءوا منه ونبذوه وناصبوه العداوة والبغضاء وربما رموه بالكفر والخروج من ملة الإسلام لمخالفته لأصولهم الفاسدة .
وبعد هذه المقتطفات من مقالات الشيخ وكتاباته يدرك القارئ الكريم حرص الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - على اجتماع كلمة المسلمين والتمسك بالإسلام لأنه الدين الذي تتجمع عليه القلوب وتتآلف به الشعوب جامعة تتضاءل أمامها الشعارات القبلية والدعوات العنصرية والانتماءات الحزبية وبه تتلاشى كل الدعاوي الجاهلية .
ولأجل هذا كرس الشيخ حياته خدمة لدينه ودفاعا عن عقيدته فضلا عن الدعوة الصادقة والمستمرة في العودة إلى كتاب الله تلاوة له وتفقها فيه والاعتصام بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والعض عليهما بالنواجز .
وقد حاول - رحمه الله - إرجاع الناس إلى هذين الأصليين العظيمين والمصدريين الكريمين من مصادر التشريع وبذل من أجل ذلك كل ما يمكن بذله .(2/33)
حقا لقد أحب السنة كيف لا وهو إمام من أئمتها حمل لوائها وذب عن حياضها ودافع ونافع عنها وكان عطوفا حدبا على المنتسبين إليها وفضلا عن ذلك كله فقد كان عطوفا حدبا له القدح العلمي في تأسيس أول جماعة لها تعرف بـ " جماعة أنصار السنة المحمدية في الإسكندرية " وهي فرع من جماعة أنصار السنة في القاهرة وقد وضحت سابقا أن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - كان وكيلا لجماعة أنصار السنة المحمدية في القاهرة ثم آل به الأمر إلى توليه رئاسة جماعة أنصار السنة في مصر كلها خلفا لمؤسسها الأول فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي - رحمه الله .
وكلمة حق أقولها وشهادة أدين الله بها : إن هذه الجماعة هدفها الأعظم وسبيلها الأقوم إحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا واعتقادا ومحاربة البدع ومحدثات الأمور ودحض الأباطيل والأوهام التي لا تمت إلى الدين بصلة وهي أسم على مسمى فهي بحمد الله قائمة على التوحيد داعية إليه مؤثرة له وقد شهد لها بذلك كبار حملة الشريعة ورواد العلم ودعاة الهدى وقد ورد استفتاء إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز - حفظه الله - يسأل فيه المستفتي عن حقيقة جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر والسودان فأجابت اللجنة بقولها :
جماعة أنصار السنة المحمدية في مصر ثم السودان جماعة إسلامية سنية سلفية تدعو إلى الله على منهاج النبوة في التوحيد والتعبد والسلوك وتعقد الولاء والبراء على الكتاب والسنة هذا معروف عنها - ولله الحمد - فهي تمثل جماعة المسلمين الحقة في وسط المجتمعات التي تعج بأنواع الفرق والنحل وقد نفع الله بهم خلقا كثيرا من العلماء وطلبة العلم وعامة الناس .(2/34)
وهذا الاسم " جماعة أنصار السنة المحمدية " إنما صار لتتميز به أمام الجماعات والفرق التي داخلتها البدع والأهواء المضللة وعقد الولاء والبراء ليس على هذا الاسم وإنما هو على الكتاب والسنة والحب في الله والبغض في الله .
ولهذا لا يجوز تفرقهم ولا تفريق كلمتهم ومن سعى في هذا أو رماهم بالتحزب المقيت فقد اعتدى عليهم وظلم نفسه .
ويمتدح سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية " مجلة التوحيد " التي تصدرها جماعة أنصار السنة قائلا : بخصوص مجلة " التوحيد " التي تصدرها جماعة أنصار السنة المحمدية في جمهورية مصر العربية - هي مجلة إسلامية تنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة وتدعو إلى الأخلاق الفاضلة وتحذر من البدع وسائر الأمور المخالفة للشرع المطهر فهي جديرة بالدعم والمساعدة والاشتراك فيها حتى تستمر في جهادها المبارك في نشر الحق والفضيلة .
ويذكر فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس - إمام وخطيب المسجد الحرام - بأن هذه الجماعة ليست جماعة حزبية وإنما هم إناس نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله ولنصرة السنة والتركيز على العقيدة الصحيحة والى دعوة الناس إلى الوحيين .
ومما يؤكد ما ذكره فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - عن هذه الجماعة ما كتبه فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي في كلمته الضافية " مبدأ وميثاق " موضحا منهج هذه الجماعة ولب دعوتها قائلا :
من أجل ذلك نجد جماعة أنصار السنة المحمدية يكثرون من الكلام في التوحيد في دروسهم وخطبهم وكتاباتهم ولهم في ذلك خير أسوة ، أسوتهم في ذلك أئمة الهدى وقادة الإصلاح المؤيدون من الله بوحيه ونصره أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام .(2/35)
هذا وإن جماعة أنصار السنة المحمدية قد أخذت على نفسها أن تعتصم بكتاب الله وتهتدي بهدي رسوله عليه الصلاة والسلام وتجعل سيرة السلف الصالح نصب أعينها عقيدة وقولا وعملا لا تؤثر على ذلك شيئا ولا ترضى به بديلا من آراء الرجال الضالة وأهوائهم الزائفة عملا بقوله تعالى :
()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) . وما معناه من الآيات والأحاديث والتزمت ما ألزمها الله به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر وعهدت إلى رئاسة الجماعة بعد وفاة مؤسسها بمصر ورئيسها السابق فضيلة الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله وحمة واسعة وجزاه الله عن الدعوة إلى الدين ونشر التوحيد خير الجزاء فكان لزاما على أن أقوم بهذا الواجب وأسير بالجماعة على هدي كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام ابتغاء مرضاة الله في نشر دينه وتحقيقا لمبدأ التعاون في نصرة الحق .
وأرجو الله أن يهيئ لنا جميعا من أمرنا رشدا وأن يلهمنا الرشد والصواب في العقول والعمل والقول فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .(2/36)
وبعد هذا التعريف بجماعة أنصار السنة المحمدية في مصر وبيان حقيقة دعوتها وثناء العلماء عليه فإنه يمكن القول بأن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان على علاقة حسنة وطيبة مع سائر الجماعات الأخرى في مصر مع عدم إقراره - رحمه الله - لمناهج الكثير منها وكان أبعد الناس عن الغلو فلم يغلو في أحد أو يخفو أحدا ومع ذلك لم يأل جهدا في النصح لهذه الجماعات باتباع سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين والبعد عن التفرق في الدين وأن يكونوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين ومن تبعهم بإحسان وذلك بالتزام جماعة المسلمين ويد الله على الجماعة ومن شذ في النار قال الله تعالى في محكم تنزيله :
( مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) .
وقوله تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) .
وكان الشيخ - رحمه الله - إذا سئل : هل على المسلمين أن يلتزم جماعة بعينها قال : من أراد أن يلتزم جماعة معينة فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين .
والواجب على كل إنسان أن ينضوي تحت جماعة المسلمين " أهل السنة والجماعة " الذين درجوا على منهاج النبوة ولم ينفصلوا عنها لحظة واحدة فليس لهم شخص ينتمون إليه سوى النبي صلى الله عليه وسلم وليس لهم منهاج سوى منهاج النبوة " الكتاب والسنة " .(2/37)
لقد كان لنصح الشيخ ورفقه بالمنصوحين الأثر البالغ في إقبال الناس على الناس السنة وتعظيمهم لها وتقديم الكتاب والسنة على ما سواهما وهذا والله منهج العلماء العاملين والدعاة المصلحين فإن غاية الغايات عندهم دعوة الناس وإرشادهم إلى ربهم وخالقهم ومعبودهم مع الرفق بهم ورحمتهم . ومع الرفق واللين يقبل الناس على الدين . وهذا ما حدث بالنسبة لمن جلسوا إلى الشيخ وقعدوا منه مقعد الدرس والتحصيل فقد استفادوا من علمه وتأثروا بأخلاقه وسعة صدره وأفادوا غيرهم من طلبة العلم ومحبي المعرفة وغدوا دعاة وهداة يدعون إلى الله على بصيرة لقد غدوا سنين ودعاة ربانيين أحلوا السنة سويداء قلوبهم فجدوا في الدعوة إليها وصبروا على الأذى في سبيلها فرحم الله الشيخ عبد الرزاق رحمة واسعة وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء .
??
??
??
??
سيرة العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي محمد بن احمد سيد احمد
16(2/38)
سيرة حياة العلامة عبد الرزاق عفيفي
محمد بن احمد سيد احمد
كتاب عن حياة الشيخ رحمه الله الجزء الثاني
الشيخ العلامة
عبد الرازق عفيفى
حياته العلمية ، وجهوده الدعوية ، وآثاره الحميدة
تأليف
محمد بن أحمد سيد أحمد
المدرس بدار الحديث الخيرية بمكة المكرمة
تقديم وتقريظ
جماعة من كبار العلماء
بالمملكة العربية السعودية
الجزء الثاني
المكتب الإسلامى
الفصل الرابع
عقيدته السلفية
وجهوده في مجال العقيدة
المبحث الأول : معنى العقيدة وأهميتها.
المبحث الثانى : منهجه في العقيدة وعنايته البالغة بالتوحيد .
المبحث الثالث : إمامته في السنة وحثه على التمسك بها.
المبحث الرابع : اهتمامه بكتب العقيدة وتأثره بعلماء السلف.
المبحث الخامس : كفاحه ضد البدع والمنكرات ودعوته إلي الاعتصام بالكتاب والسنة.
المبحث السادس : نماذج من كتاباته وتعليقاته وتحقيقاته في العقيدة.
الفصل الرابع
عقيدته السلفية وجهوده شفي مجال العقيدة
المبحث الأول
معنى العقيدة ، وأهميتها
معنى العقيدة ، لغة :
…العقد : نقيض الحل ، وعقد الحبل والبيع والعهد واليمين يعقده عقداً : أحكمه وشده.
والعقدة : العهد : والجمع عقود ، وهى أوكد والعهود ، وتعاقد القوم : تعاهدوا.
وعقد العهد واليمين يعقدهما عقداً ، وعقدهما أكدهما.
…وفي القرآن الكريم ( وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ )
…قال ابن عباس رضي الله عنهما ، المعاقدة : المعاهدة والميثاق .
وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )
قيل العهود ، وقيل هي الفرائض التى ألزموها .
(1) سورة النساء الآية (33)
(2) سورة المائدة : الآية (1)
(3) انظر لسان العرب لابن منظور ( 3/296،297) والمصباح المنير للفيومى ( ص 160) مادة ( عقد) ، ومحيط المحيط ( ص 618 مادة عقد ).
واصطلاحاً : هى الأمور التى تصدق بها النفوس ، وتطمئن إليهام القلوب ، وتكون يقيناً عند أصحابها ، لا يمازحها ريب ولا يخالطها شك. (1)(3/1)
والعقيدة في الإسلام تقابل الشريعة إذ الإسلام عقيدة وشريعة والشريعة تعنى التكاليف العملية التى جاء بها الإسلام في العبادات والمعاملات. (2)
والعقيدة ليست أموراً عملية ، بل هى ما يصدقه العبد ويدين به ، فإن كانت هذه العقيدة موافقة لما بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، فهى عقيدة صحيحة سليمة ، تحصل بها النجاة من عذاب الله ، والسعادة في الدنيا والآخرة ، وإن كانت هذه العقيدة مخالفة لما أنزل الله به رسله وأنزل به كتبه ، فهى عقيدة توجب لأصحابها العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة.
والعقيدة الإسلامية : إيمان راسخ بأن الله رب كل شيء ومليكه خلقاً وتقديراً ن وملكاً وتدبيراً وأن العبادة بجميع أنواعها حق له وحده ، لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبى مرسل ، وله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العليا التى جاءت بها نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
أهمية العقيدة :
…أرسل الله تعالي رسوله محمداً ( بالهدى ودين الحق ،أرسله بشيراً ونذيراً وداعياً إلي الله بإذنه وسراجاً منيراً ، أرسله سبحانه إلي الإنسانية - وهو ( مثال الإنسانية الكاملة ليردها إلي وحدة صادقة ، في ظل توحيد صادق ، وعقيدة نقية راسخة ، ذلك لأنه لا حياة للقلوب ، ولا نعيم ولا طمأنينة ، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها ، بأسمائه وأفعاله ، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
…إن العقيدة الإسلامية هي الغذاء الواقي لقوى النفس المختلفة ، والمداد القوى لحيويتها ، وليس على وجه الأرض قوة تساوى قوة العقيدة أو تدانيها في ضمان تماسك المجتمع ، واستقرار نظامه ، والتئام أسباب الراحة والطمأنينة فيه ، وترجع أهمية العقيدة والعناية بها ، ودراسة مصنفاتها إلي الأسباب الآتية :(3/2)
…أولاً : أنها هي التى استطاعت أن توحد بن القلوب ، وتؤلف بين النفوس وتجمع الأمة على هدف واحد ، وغاية واحدة ، هى إخلاص العبادة لله ، ومحاربة الشرك والضلال ، فهى خير ضمان لقيام التعامل بين الناس على قواعد من الإنصاف العدالة ، كما أنها تعمل على نشر الحق والخير بين الناس ، وأصدق دليل على ذلك عصر صدر الإسلام ، الذي ضرب فيه الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن تبعهم بإحسان ، أروع الأمثلة في التضحية والفداء في الدفاع عن هذه العقيدة ، وحمايتها ، وكان لهم القدح المعلى في العمل على نشرها ، حيث كانت حية صافية في نفوسهم لم تتسرب إليها الشبهات ، ولم تؤثر فيها الشهوات.
…ثانياً : إن العقيدة الإسلامية متى رسخت في الفرد استقام سلوكه في حياته ، ومتى أظلت مجتمعاً إنسانياً أنضبط ذلك المجتمع وارتقي إلي ذروة الكمال الإنساني. كما أنها تبعث من دان الله بها إلي العمل الصالح والأخلاق الفاضلة والآداب السامية.
…ثالثاً : تميزت عقيدة السلف الصالح بالوضوح ، حيث انها تتخذ من نصوص الكتاب قاعدة لها تنطلق منها في التصور والفهم بعيداً عن شبه المعطلين والمحرفين ، والمؤولين والمشبهين ، وتربط المسلم برسول الله ( وأصحابه رضي الله عنهم.
…رابعاً : ثم إن في التزام عقيدة السلف الصالح اتباعاً لما أمر به القرآن ، ودعت إليه السنة من ضرورة اتباع صفوف المسلمين ويجمع كلمتهم دون ان يزيغوا بعقولهم عن هذا الصراط المستقيم.(1)
خامساً : ليس هناك ما يوحد بين صفوف المسلمين ويجمع كلمتهم دون أن تتوزعها الأهواء ، وتتجاذبها الفرق ، كالعودة إلي عقيدة السلف ، والانطلاق منها للبناء والتربية والتوجيه.
…سادساً : إن المتمسك بعقيدة السلف الصالح يحصل له النجاة من عذاب الله وتحصل له السعادة في الدنيا والآخرة ، ويحصل له كمال الأمن والاهتداء في الدارين ، كما أنه ينجو من مهلكات الخوض في ذات الله ، أو الرد لشيء مما صح عن رسول الله (.(3/3)
…سابعاً : إن العقيدة الإسلامية هى وحدها التى تجيب على التساؤلات التى تشغل الفكر الإنساني وتحيره ، ولا توجد عقيدة سوى العقيدة الإسلامية تجيب على هذه التساؤلات إجابة صادقة مقنعة، وكل من لم يعرف هذه العقيدة ، ومن لم يعتنقها ، فإنه يظل ضائعاً تائهً ، فاقداً لذاته ووجوده.
…ثامناً : إنه ليس للعالم في زماننا الحاضر وفى كل زمان - من سبيل إلي الخلاص من طوفان المادية التلاطم وشرها المتدافع غلا بعقدة الإسلام ، فالمجتمعات المعاصرة على امتداد العالم ف حالة من الصراع والقلق النفسى تنذر بالشر والخطر وتهدد الحياة الإنسانية بالتحلل والضياع ، وذلك راجع بلا شك إلي الفراغ الديني والبعد عن الله والإسراف ف الملذات والانهماك في الشهوات التى أرهقت الإنسان وحرمته من كل معانى الاستقرار ، وجردته من كثير من القيم التى تصله بالله ثم بالحياة والناس.
المبحث الثانى
منهجه في العقيدة وعنايته البالغة بالتوحيد
…كان الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمة الله - سلفى العقيدة ، من كبار علماء التوحيد ، يرجع في أمر المعتقد إلي مذهب السلف الصالح ، وقد عُرف بشدة الانتصار له ، والدفاع عنه ، يعض عليه بالنواجذ ، ويحاول إرجاع الناس إليه بكل الوسائل.
…لقد كان مدافعاً ومنافحاً عن العقيدة الإسلامية الصافية " عقيدة التوحيد " فقد حارب البدع وهو يحمل لواء التوحيد ، يحافظ عليه بكل ما أتاه الله من قوة ، وما حباه من عزيمة.(3/4)
…إن عقيدة الشيخ عبد الرازق - رحمة الله - هي العقيدة التى جاء بها الإسلام ، فهى عقيدة تتسم بالقوة والوضوح ، والبعد عن الشطط والانحراف ،وهى عقيدة تقوم أولاً وأساساً على الإيمان بالله رباً واحداً له الربوبية المطلقة على الأشياء كلها خلقاً وملكاً وتدبيراً ورعاية وحفظاً لا شركة لأحد معه أصلاً في خلق شيء ، ولا في تدبير أمر ، كما قال سبحانه في سورة الأعراف : ( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)(لأعراف: من الآية54) .
…وأن خلقه للأشياء تم بقدرته وحدها على وفق علمه ومشيئته دون معين أو وسيط ، وأن تدبيره لها كذلك يجرى وفق قوانين ثابتة وسنن مطردة اقتضتها حكمته ، فلا يستطيع أحد لها تحويلاً ولا تبديلاً.
وتقوم على الإيمان به كذلك إلهاً واحداً ، لا تنبغي الإلهية إلا له ، فهو الإله المعبود الذي تألهه القلوب ، يعنى تعبده محبة ومخافة وذلاً ، وإنابة واستكانة ، وخضوعاً وتعظيماً ، إلي غير ذلك من أنواع العبادة التى يحبها الله ويرضاها والتى أمر عباده أن يتقربوا إليه بها.
وأن منهم السفراء بينه وبين رسله من البشر ، يحملون إليهم وحى الله ورسالاته ليقوموا بتبليغها إلي من أرسلوا إليهم من الناس ، ومنهم من وكل بالأرزاق والأمطار والنطف وقبض الأرواح وكتابة الأعمال ..
وتقوم على الإيمان باليوم الآخر وبكل ما أخبر به النبي ( مما يكون بعد الموت ، ويدخل في الإيمان باليوم الآخر ، الإيمان بالبعث والجزاء وخروج النس من قبورهم أحياء ، وحشرهم إلي ربهم ، وفصل القضاء بنهم ومحاسبتهم على كل ما قدموا لأنفسهم وما كسبته أيديهم من خير وشر.(3/5)
وتقوم كذلك على أن الدين كله لله ، فهو الذي يتعبد عباده بما يشاء ، ويشرع لهم من الأحكام والحدود والفرائض والآداب ما اقتضته حكمته مما يعلم أن فيه صلاحهم وسعادتهم ، فلا يجوز لأحد أن يزيد في دين الله ما ليس منه ، أو ينقص منه ما هو فيه ، أو يبدل كلماته ، أو يحرفها عن مواضعها بتأويل زائغ ، أو يشرع ما لم يأذن به الله.
وتقوم أيضاً على أن دين الله واحد وهو الإسلام الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه ، وأن الأنبياء كلهم إخوة أبناء علات ، أصول دينهم واحدة وشرائعهم شتى ، وأن الواجب هو الإيمان بهم وبما أنزل إليهم جميعاً ، قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285) .
وبعد إلقاء الضوء على عقيدة الشيخ والأسس التى قامت عليها يستطيع القارئ والمطلع على كتابات الشيخ عبد الرازق وإملاءاته وتحقيقاته وتعليقاته على بعض الكتب والرسائل والبحوث ، أن يقف على أبرز سمات المنهج العقدى للشيخ والتى يمكن إجمالها فما يلى :
1- التعويل الدائم على الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله ( والالتزام بمنهج السلف الصالح في كل قول وفعل.
2- وضوح العبارات ، ودقة المعانى والرغبة في الوصول إلي الحق من أقصر طرقه مع البعد عن مصطلحات المتكلمين ، وتعقيداتهم وتخرصاتهم.
3- الفهم الدقيق والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطرحة مع الإلمام بالأصول والأمانة والعلم .
1- تكييف الموضوع وتصوره ، والحكم عليه وفق الأصول الصحيحة والأسس الثابتة التى التزامها السلف الصالح والأئمة الكبار ، المشهود لهم بالخيرية والأمانة والعلم.(3/6)
تفصيل المسائل وتأصيلها ، وتوضيح الغامض ، وحل المشاكل ، وتقديم البراهين والأدلة على صحة القول.
الإنصاف والتجرد عند عرض الآراء ، ومناقشة الأدلة ، والرد على الخصوم مع عدم الانتصار للرأي وإن كان صواباً.
1- الالتزام النصوص الشرعية وإقامة الحجج العقلية والأدلة النقلية عند عرض قضايا العقيدة ، وطرق الدعوة ووسائلها.
2- الاهتمام بتعقيد القواعد التى تبنى عليها الأقوال ، وضبط الأصول التى يتفرع منها غيرها ، مع الإحاطة بمستجدات الواقع ، وأحداث العصر.
وفيما يلي تفصيل لهذه السمات وبيان لها.
أولاً : التعويل الدائم على الدليل من الكتاب والسنة الصحيحة والالتزام بمنهج السلف الصالح في كل قول وفعل :
إن المتأمل لكتاب الله وسنة رسوله ( يجد أنهما متظاهران على وجوب امتثال أمر الله وامتثال أمر رسوله ( ، وطرح كل قول يخالف الكتاب والسنة دون شقاق أو عناد ، فإن ذلك من تمام الانقياد ، الذي هو قيد من قيود لا إله إلا الله ، فلا توحيد إلا بطاعة الله ورسوله ( ولا فوز ولا فلاح إلا بتقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال ، كما أنه لا شفاء للقلوب والأرواح ولا حياة لها إلا بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله ( والاستجابة لله تعالى ولرسوله ( ، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )(لأنفال: من الآية24).
فقد ذكر - رحمة الله - في مقدمة كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدى ، أن العلماء لهم منازع شتى ، ومشارب متباينة ، وأسعدهم بالحق من كانت نزعته إلي كتاب الله وسنة رسوله ( ، ووسعه ما وسع السلف مع رعاية ما ثبت من مقاصد الشريعة باستقراء نصوصها ، فكلما كان العالم أرعى لذلك وألزم له كان أقوم طريقاً ، وأهدى سبيلاً.(3/7)
وفي كلمة له - رحمة الله - بعنوان " أمانة العلم وصفات العلماء " يؤكد فضيلته على وجوب التمسك بالكتاب والسنة ، ونبذ كل قول أو رأي أو فعل يخالفهما ، ففى هذه الكلمة يقول فضيلته :
لقد راجت شبه الملحدين من جديد رواجاً مخيفاً جمد إزاءه المسلمون ولو أنهم رجعوا إلي أقوال سلفهم الصالح ، وسلكوا طريقهم لردوا كيد الكائدين إلي نحورهم. فإنه ما من شبهة تذاع اليوم إلا وقد سبق لها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى ووقفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ، ببراعة فائقة ، فلا سبيل أرشد من سبيلهم ، ولا هدى أقوم مما كانوا عليه.
فالخير الخير في العودة إلي كتاب الله تلاوة له ، وتفقهاً فيه ، وإلي أحاديث المصطفي صاحب جوامع الكلم ( دراية ورواية ، والفتيا بهذين الأصلين ، وعرض أعمال الناس عليهما. فذلك هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد.
وفى مقال بعنوان " الحكم بغير ما أنزل الله وأثره على الأفراد والشعوب " يقول فضيلته :
أوصى سبحانه وتعالى من وكل إليه الحكم في خصومة أو الفصل بين الناس في أمر ما أن يحكم بينهم بالعدل ، سواء كان محكماً أو ولى أمر عام أو خاص ، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ( فذلك الهدى والنور والصراط المستقيم.
ثانياً : وضوح العبارات ، ودقة المعانى ، والرغبة في الوصول إلي الحق من أقصر طرقه مع البعد عن مصطلحات المتكلمين وتعقيداتهم وتخرصاتهم ك
سبق وأن ذكرت أن الشيخ عبد الرازق - رحمة الله - كان يتمتع بمزايا فريدة ، وخلال حسنة لا تكاد تتوافر إلا في القليل من الرجال ، ومن هذه المزايا ؛ فصاحة لسانه عباراته بالإيجاز والوضوح والإحكام والبيان ، وكلماته بالجزالة والفصاحة مع خلوها من الحشو وبعدها عن التعقيد ، وكانت كلماته تل إلي القلوب وصل إلي القلب.(3/8)
إن الشيخ - رحمة الله - على الرغم من أنه درس بالأزهر ، وسبر كتب الأشاعرة ، وألم بها ، وخبر مناهجها ، إلا أنه لم يتأثر بشيء منها ، وظل على سلفيته ، مع بعده عن مصطلحات أهل الكلام وسفسطهم ، ويتضح هذا جلياً في كلمته القيمة تحت عنوان " مبدأ وميثاق ".
ففي هذه الكلمة ، أوضح فضيلته أن الإسلام عقيدة ، وقول وعمل. فالعقيدة إيمان راسخ بأن الله رب كل شيء ومليكه ، خلقاً وتقديراً ، ملكاً وتدبيراً ، وأن العبادة بجميع أنواعها حق له وحده لا يشركه فيها ملك مقرب ولا نبى مرسل ، فله سبحانه الأسماء الحسنى والصفات العليا التى جاءت بها نصوص الكتاب والسنة الصحيحة.
ثم وضح الشيخ أن هذه النصوص تمر كما جاءت اقتداء بسلف هذه الأمة وخير قرونها ، وأن تفسر بمعانيها التى تدل عليها حقيقة ف لغة العرب التى نزل بها القرآن ، وكانت لسان النبى ( مع تفويض العلم بكيفياتها إلي الله من غير تحريف ولا تعطيل ، ولا تكييف ولا تمثيل (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11) .
ولا يلزم من ذلك تشبيهاً لله بعباده ، وذلك لأن الله أعلم بنفسه من خلقه ، وأرحم بهم منهم بأنفسهم ،وكلامه أبلغ الكلام وأبينه ، وله سبحانه الحكمة البالغة ، فيستحيل أن تتوارد النصوص وتتابع النصوص وتتابع الآيات والأحاديث على إثبات أسماء الله وصفاته بطريقة ظاهرة واضحة ، والمراد غير ما دلت عليه حقيقة ، ويقصد الله منها ، أو يقصد رسوله ( إلي معان مجازية من غير أن ينصب من كلامه دليلاً على ما أراد من المعانى المجازية اعتماداً على ما أودعه عباده من العقل وقوة الفكر. فإن ذلك لا يتفق مع كمال علمه تعالى ، وسعة رحمته ، وفصاحة كلامه ، وقوة بيانه ، وبالغ حكمته. ……(3/9)
فمن جحد شيئاً من النصوص أو تأولها على معان مجازية من غير دليل يرشد إلى تأويلها عليه ، فقد ألحد في آيات الله وأسمائه وصفاته ، وحق عليه ما توعد الله به الملحدين في ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أ)(فصلت: من الآية40)
وقوله : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (لأعراف:180)
وقد زادت السنة عن نصوص الكتاب في إثبات الأسماء والصفات توكيداً وبياناً فقضت على قول كل متأول يحرف كلام الله عن مواضعه ، كما فعلت اليهود في تحريفها الكتاب ربها وتلاعبها بشريعة نبيها.
ومما يدل دلالة قاطعة على أن الشيخ عبد الرازق - رحمة الله - كان سلفى النزعة ، بعيداً كل البعد عن شطحات المتكلمين وخرعبلاتهم أنه المتكلمون من الأشاعرة ، نجد أنه يسلك مسلكاً غير مسلكهم في البحث المناظرة والاستشهاد ، فهو دائماً يعول على الدليل من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ( مع ربط كل مسألة وبحث بالمصدرين العظيمين والأصلين الكريمين ، القرآن والسنة ، فضلاً عن ذلك فإن الشيخ عبد الرازق عندما يتعرض لمسألة من المسائل العقدية أو حتى العلمية ، فإنه يحيط بالمسألة من جميع جوانبها ويوسعها بحثاً واستقصاء وبأسلوب مركز يتسم بالقوة والموضوعية.
وفى الصفحات التالية نماذج من هذه المسائل التى أملاها الشيخ على طلبته في كلية الشريعة بالرياض ، ومنها مسألة إثبات أن العالم ممكن ، وأن الممكن محتاج إلي موجد ومؤثر ، وإثبات وجوب الوجود لله سبحانه بالأدلة العقلية والنقلية ، وكلها تبرهن وتؤكد على صحة ما ذكرته آنفاً.
المسالة الأولى
إثبات أن العالم ممكن(3/10)
…إن ما شاهدناه في ماضينا من الكائنات ، وما نشاهده منها في حاضرنا ممكن : أي جائز الوجود ، والعدم : وذلك لأنا نراه يتحول من عدم إلي وجود ، ومن وجود إلي عدم ، وهذا التغير والتحول دليل إمكانه ، إذ لو كان واجباً لما سبق وجوده العدم ، ولقما لحقه فناء ، ولو كان مستحيلاً لما قبل الوجود لأن المستحيل لذاته لا يوجد ، وحيث إننا شاهدناه موجوداً بعد عدم ثبت أنه ممكن.
المسألة الثانية
الممكن محتاج إلي موجد ومؤثر
…وحيث ثبت أن العالم ممكن ، والممكن ما استوى طرفاه - الوجود والعدم - بالنسبة إلي ذاته ، فوجوده ليس من ذاته ، وعدمه بعد وجوده ليس من ذاته ، إذن لابد له من سبب يرجح وجوده على العدم ، إذ لو وجد بدون سبب خارج عن ذاته وحقيقته للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجح ، وهو باطل : ولو أوجد الممكن نفسه للزم من ذلك أن يكون متقدماً على نفسه باعتباره خالقاً لها ، ومتأخراً على نفسه باعتباره مخلوقاً لها ، وتقدم الشيء على نفسه وتأخره عنها محال بالضرورة لما فيه من التناقض الواضح ، فثبت أن الممكن لا بد له من موجد غير ذاته وحقيقته ، يوجده ويدبر شؤونه في كل أحواله ، هذا المغاير : إما المستحيل ، وإما الواجب ، لا جائز أن يكون موجده هو المستحيل ،لأن المستحيل غير موجود فلا يؤثر ولأن فاقد الشيء لا يعطيه. فثبت أن موجده هو الواجب ، وهو الله - تعالى.
…وقد أرشدنا الله - تعالى - إلي ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم.
قال تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35)
…فقد أنكر - سبحانه - أن يكونوا قد خلقوا بلا خالق ، وأن يكونوا قد خلقوا أنفسهم ، فإذن لا بد من خالق موجود مغاير لهم وهو الله - تعالى .
…ومن ذلك يتضح اتفاق الفطرة ، والعقل السليم والسمع على أن العالم محتاج إلي صانع ، ومستند إلي موجد أوجده.
المسالة الثالثة
في إثبات وجوب الوجود لله - سبحانه وتعالى(3/11)
…إن لفظ الوجود ، ومعناه المطلق ، يشترك فيهما كل من الممكن الواجب ، والحادث والقديم الأزلى . فالله يوصف بأنه موجود والحادث يقال له - أيضاً - إنه موجود - ولكن للممكن وجد يخصه ، فإنه حادث سبق وجوده عدم ، ويلحقه الفناء ، وهو في حاجة دائمة ابتداءً ، ودواماً ، إلي من يكسبه ، ويعطيه الوجود ، بل يحفظه عليه. ولله تعالى - وجود يخصه ، فهو - سبحانه - واجب الوجود لم يسبق وجوده عدم ، ولا يلحقه فناء ، ووجوده من ذاته لم يكسبه من غيره.
…وذلك لأنه - تعالى - الغنى عن كل ما سواه ، وبذلك جاء السمع ، وشهد العقل.أما السمع : فمنه قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد:3)
…وأما العقل : فبيانه أنه - تعالى - لو كان مستحيل الوجود لم يصح أن يستند إليه الممكن في حدوثه بداهة ، لأن المستحيل ما لا يتصور في العقل وجوده وفاقد الشيء لا يعطيه.
…ولو كان ممكناً لافتقر في حدوثه إل يمن يرجح وجوده على عدمه لما تقدم ، فإن استمرت الحاجة ، فاستند كل في وجوده إلي نظير له من الممكنات لزم إما الدور القبلى . ، وأما التسلسل في المؤثرات إلي ما لا نهاية ، وكلاهما محال . وإذا انتفي عنه الإمكان. والاستحالة ثبت له الوجوب ضرورة. لأن أقسام الحكم العقلى ثلاثة ، وقد انتفى اثنان ، فتعين الثالث ، وهو الوجوب فالله - تعالى - واجب الوجود.
…منهاس قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة:164)(3/12)
الدور السبقي ، ويقال له القبلي : هو توقف الشيء على ما توقف عليه ، وهو قسمان : مصرح ، ومضمر. فالمصرح ما كانت الواسطة فيه واحدة ، مثاله كأن يقال مثلاً خالد أوجد بكراً ، وبكر أوجد خالداً ، فبكر متوقف في وجوده على خالد ثم خالد توقف في وجوده على بكر والواسطة واحدة وهى بكر. ويقال له : هذا دور بمرتبة. فإن تعددت المراتب كانت بحبسها ، وهذا الدور باطل لما يلزمه من التناقض ، إذ يلزمه أن يكون الشيء سابقاً مؤثراً لا مؤثراً إلخ. بل يلزم أن يكون الشيء نقيض نفسه ضرورة المغايرة بين المتقدم والمتأخر ، والأثر والمؤثر. أما الدور المعنى مثل توقف الأبوة على البنوة والبنوة على الأبوة ، فجائز. لأنه من باب الإضافات ، وهى اعتبارية لا وجود لها. والتسلسل هو ترتب أمور بعضها على بعض بحيث يكون كل متأخر منها يتوقف في وجوده على سابق عليه. يكون علة له في وجوده إلي غير نهاية. ويسمى هذا النوع التسلسل بعبارة جامعة لهما فقال : هما أن يتوالى عروض العلية والمعلولية لا إلي نهاية ، بأن يكون كل ما هو معروض للعلية معروضاً للمعلولية ، ولا ينتهى إلي حالة تعرض له العلية دون المعلولية ، فإن كانت المعروضات متناهية ، فهو الدور بمرتبة إن كان اثنين ، وبمراتب إن كانت المعروضات فوق اثنين وإلا فهو التسلسل.
- وهذه الآية ، وإن سيقت للاستدلال على توحيد الألوهية الذي تقدم قبلها في قوله تعالى (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة:163)
إلا أنها تدل قاطعة على توحيد الربوبية ، فإن استحقاقه - تعالى - للعبادة ،واختصاصه بها فرع عن وجوده ، وانفراده بالخلق ، والتدبير ، والتصريف ، والتقدير.(3/13)
ومنها قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ* أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ)
فهذه الآيات ، وإن ذكرت لتنزيه الله - تعالى - وتقديسه عما ظنه به منكرو البعث ، وسيقت لإثبات قدرته على المعاد . كما يرشد إليه ما قبلها من الآيات ، فهى دليل - أيضاً - على وجوده - تعالى - ولا يعقل ذلك إلا إذا كان واجب الوجود.
فمن نظر إلي ما ترشد إليه هذه الآيات ، ونحوها من سنن الله في العالم نظراً ثاقباً ، وفكر في عجائب خلقها ، وحسن تنسيقها ، وشدة أسرها تفكيراً عميقاً ، وبحث في أحكامها ، وبديع صنعها بحثاً بريئاً من الهوى ، والحمية الجاهلية ، وأنصف مناظره من نفسه ، فلم يمنعه من فهم ما عرض عليه من الق ، والإذعان له كبر يرديه ، ولا عناد يطغيه ، واتضح له طريق الهدى . واضطره ذلك أن يستيقن النتيجة ، ويؤمن من أعماق قلبه ، بأن للعالم رباً خلاقاً فاعلاً مختاراً حكيماً في تقديره ، وتدبيره أحاط بكل شيء علماً ، وهو على كل شيء قدير.
ومع قيام الدليل ، ووضوح السبيل ، تعامى فرعون موسى عن الحق ، وتجاهل ما استيقنته نفسه ، وأنكر بلسانه ما شهدت به الفطرة ، دل عليه العقل من وجود واجب الوجود ، فأقام موسى عليه الحجة ، بدلالة الأثر على المؤثر ، والصنعة على الصانع ، ووجود العالم ، وعظم خلقه على وجود الخالق ، وعظيم قدرته ، وسعى علمه ، وكمال حكمته ، فغلبه بحجته .(3/14)
وذلك بين واضح فيما حكاه الله عنهما من الحوار ، والسؤال والجواب : قال تعالى ( قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ* قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) .
فانظر كيف وقف موسي موقف من يصدع بالحق ، ويقيم عليه البرهان ؟
وكيف وقف فرعون من موسى موقف السفهاء ، لا يملك إلا الشتم والسباب ، والسخرية ، والاستهزاء ، والتهديد بأليم العذاب ؟ !!
وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرائيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً) (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) وقال تعالى : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
إن فرعون حينما أخذته الحجة ، وانتصر عليه موسى ، لم يبق بيده سلاح إلا التمويه على قومه ، وإنذار موسى ومن آمن به أن يذلهم ، ويذيقهم العذاب الأليم.
وإني له ذلك ! والله من ورائهم محيط ؟ ! وقد كتب على نفسه ان يجعل العاقبة للمتقين.
وقال تعالى : (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً).(3/15)
وقد ورث ذلك الزيغ ، والإلحاد أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة ، واشتهروا بألقاب متنوعة.
فتارة يسمون بالدهريين : وأخرى برجال الحقيقة ووحدة الوجود وأحياناً بالشيوعيين ، وأخرى بالوجوديين. ( اللقب الجديد ) وآونة بالبهائيين.
إلي غير ذلك من العبارات التى اختلفت حروفها ومبانيها ، وائتلفت مقاصدها ، واتحدت معانيها ، فكلها ترمى إلي غرض واحد ، وتدور حول محور واحد ، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر ، وليس له إله يعبد ويقصد.
وبما تقدم من دليل حاجة الممكن إلي موجد ، ودليل وجوب وجوده - تعالى - يظهر لك فساد مذهبهم ، وخروجه عن مقتضي النظر ، وموجب العقل ، وما يصدق ذلك ، أن وجود العالم وليد الصدفة والاتفاق.
أو أنه نشأت أطواره عن تفاعل بين عناصر المادة ، فتفرقت إلي وحدات بعد اجتماع ، أو اجتمعت ، وائتلفت بعد تفرق واختلاف. وصار لتلك الوحدات ، أو المركبات من الخواص ما لم يكن لها قبل هذا التفاعل ، وبذلك تجددت الظواهر ، وحدث ما نشاهده من تغيير ، وآثار مع جريانها على سنة لا تتبدل ، وناموس لا يختلف ، ولا يتغير.
وقيل له : من الذي أودع تلك المادة طبيعتها ، وأكسبها خواصها ، فإنها إن كانت لها من ذاتها ، ومقتضي حقيقتها لم تقبل التغير والزوال لأن ما بالذات لا يتخلف ولا يزال ، وقد رأيناها تتبدل ، فلا بد لها من واهب هبها ، وفاعل مختار حكيم عليم يدبرها ، ويضعها في محالها ، وليس ذلك من المادة وحدها ، ولا من خواصها ، أو طبيعتها القائمة بها ، فإنها ليس لها من سعة العلم ، وكمال الحكمة ، وشمول المشيئة ، وعظيم القدرة ما ينتظم معه الكون على ما نشاهده من إحكام تبهر العقول دقته وجماله ، ومن إبداع يأخذ بمجامع القلوب ما فيه من شدة الأسر ، وقوة الربط بين وحداته ، وكمال التناسب ، والتكافؤ بين أجزائه ، وقيام كل من الآخر مقام الخادم من سيدة ، والراعى من رعيته.(3/16)
ألا أن الطبيعة صماء لا تسمع ، بكماء لا تنطق ، عمياء لا تبصر ، جاهلة لا تعلم ، مسخرة لمن أودعها المادة ، خاضعة لتصريفه وتقديره ، سائرة على ما رسم لها من سنن لا تعدوها ، ونواميس لا تخرج عنها ، فأنى يكون لها خلق وإبداع أو إليها تنظيم وتدبير أو منها وحى وتشريع ؟ إنما ذلك إلي الله وحده ، تعالى الله عما يقول الملحدون : (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً) (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ* وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ).
ولا يعيب الحق بعد ذلك ان يتنكب طريقة من مسخت فطرته ، واتخذ إلهه هواه ، وأضله الله على علم ، وختم على سمعه ، وقلبه ، وجعل على بصره غشاوة ، ولا يضير الدعاة إلي الحق أن عدل عن طريقه المستقيم من انحراف مزاجه ، أو غلبته شهوته ، فخشي أن تحد الشريعة من نزغاته الخبيثة، وتحول دون وصوله إلي نزواته الدنيئة. أو أطغاه كبره وسلطانه ، وخاف أن تذهب الشريعة بزعامته الكاذبة ، وسلطانه الجائز ، فوقف في سبيلها ، ولج في خصامها بغياً وعدواناً . فإن الله ناصر دينه ، ومؤيد رسله وأولياءه.
قال تعالى (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) وقال سبحانه (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(3/17)
ثالثاً : الفهم الدقيق والاستيعاب الواسع لجوانب المباحث المطروحة مع الإلمام بالأصول والقواعد التى تصدر عنها الأحكام :
لقد تميز فضيلة الشيخ العلامة عبد الرازق عفيفي - رحمة الله - بدقة الفهم لمختلف المسائل العقدية والعلمية ، واستيعابه للأصول والقواعد التى تصدر عنها الأحكام مع سرعة استحضاره لكلام أهل العلم ، وأدلة الشريعة ، فضلاً عن إدراكه لأشباه المسائل نظائرها ، وهذه الميزات وغيرها جعلت الشيخ مرجعاً لطلاب العلم والمستفتين من مختلف الطبقات.
ويؤكد هذا كله أحد طلابه وهو فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد العجلان بقوله : لقد عرفت فضيلة الشيخ عبد الرازق أستاذاً ماهراً ، وبحراً زاخراً بمختلف علوم التفسير والعقيدة والفقه والأصول وغيرها من جوانب العلم الشرعية واللغة العربية ، وعرفته كذلك محدثاً واعظاً ومرشداً جم المعرفة غزير العلم.
ويقول فضيلة الدكتور محمد بن لطفي الصباغ : كان شيخنا يمتاز بسعة علمه ، وكان إذا تكلم في فن من فنون العلم ظن السامع أنه لا يحسن غيره ، وأنه متخصص فيه وحده ، لقد كان موسوعى المعرفة ، فضلاً عن أنه كان مفسراً يغوص في المعانى الدقيقة في الآية ، ويذكر ارتباطها بما قبلها وما بعدها ،ويصل بين تلك المعانى وبين حياة الناس.
وبعد هذه النقول عن طلبة الشيخ ، شيمكن القول أن الشيخ - رحمة الله - تميز بدقة الفهم وجودة العبارة وحسن العرض ومع أن الشيخ عبد الرازق - رحمة الله - كان يميل إلي الاختصار والإيجاز والاختصار في حقيقة الأمر كان مفيداً ومحققاً للمقصود.
ومن قرأ بحوث وتعليقات الشيخ مما حوته هذه الترجمة ، يدرك للوهلة الأولى ما من الله به على هذا العالم الجهبذ من علم ثر ، وإلمام بأصول المسائل والقواعد الشرعية التى تصدر عنها الأحكام.(3/18)
رابعاً : تكييف الموضوع وتصوره ، والحكم عليه وفق الأصول الصحيحة ، والأسس الثابتة التى التزامها السلف الصالح والأئمة الكبار المشهود لهم بالخيرية والأمانة والعلم.
كان الشيخ عبد الرازق - رحمة الله - واسع الإطلاع - طويل الباع ، راسخ القدم في كثير من العلوم ، كما كان قوى الحجة ، ناصع البرهان ، صحيح المعتقد ، ذا رأي سديد ، وتوجيه رشيد وإحاطة بكثير من المعارف والعلوم ، فما من موضوعي شرعي أو بحث علمي إلا وله فيه مساهمة مشكورة ، وجهد متميز لا ينكر.
كان - رحمة الله - ذا منهج متميز في كتابة البحوث والموضوعات العقدية ، وكان يضع لكل موضوع يبحثه بداية ووسطاً وخاتمة ، مع تصدير كل بحث أو موضوع بمقدمة في تصور الموضوع أو المسألة المراد بحثها ، وذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره ، فضلاً عن ذلك فقد كان - رحمة الله - يصدر كل بحث ببيان الأمور التى اشتمل عليها هذا البحث.
خامساً : تفصيل المسائل وتأصيلها ، وتوضيح الغامض منها ، وحل المشكل ، وتقديم البراهين والأدلة على صحة القول.
سبق وأن ذكرت أن فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - رحمة الله - عرف بالدقة العلمية ، والاستيعاب الواسع فضلاً عن دقة الفهم لمختلف مسائل العلم وتأصيلها وتحليل فروعها ، وتحرير مواطن الخلاف فيها ، والترجيح السديد بين الآراء المعتمدة. يقول فضيلة الدكتور صالح الأطرام : لقد كانت منهجية الشيخ تمتاز بوضوح الكلام وقلته ، وتكييف المادة بحيث تصل إلي الأذهان من أول وهلة ، بديع في تفكيك عبارات المؤلفين على اختلاف المواد.
لقد كان الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - يقرر في حلقة الدراسية العلم ويحقق المسائل ، ويوضح الغامض ، ويحل المشكل ، ويدفع الشبه ، ويقرع الحجة بالحجة ، ويقيم البراهين والأدلة على صحة قوله ، وفي كل هذا ينشد الحق ، ويلتزم الأدب فلا يجرح سائلاً ولا يحرج مستفتياً.(3/19)
ويؤكد هذا كله أحد طلبة الشيخ قائلاً : الشيخ - رحمة الله - ذا بيان مشرق متدفق ، لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يلحق ، وكان مناظراً قوى الحجة ، مستحضر الدليل ، يحيط بأطراف الموضوع الذي يناقشه ، وكان ينظر إلي العبارة العويصة فيحلها ، ويشير إلي مراميها ، ومقاصد كاتبها على نحو لا تجده عند غيره.
والحق يقال : إن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - كان رجلاً متعدد المواهاب ، غاية في معرفة المسائل العلمية العقدية ، لا يقلد أحداً ، كما كان سريع الاستحضار لأحكام الشريعة ، محيطاً بالكثير من أدلتها ، عالماً بقواعدها وأصولها.
وفي بحث " العرش والكرسي وما يتعلق بهما " والذي يتلو هذه الصفحة برهانم ساطع على ما ذكرته ، وهذام البحث وإن كان منتزعاً من العقيدة الطحاوية مع شرحها إلا أن جمال العرض ، وروعة الأسلوب ، وتسلسل المسائل ، وغزارة الأدلة ودقة النقل ، كل ذلك جعل منه بحثاً متميزاً جديراً بالتأمل والمطالعة.
" بحث العرش والكرسي وما يتعلق بهما "
…العرش والكرسي كلاهما حق ، و للعرش حملة من الملائكة يحملونه فوقهم ، قال تعالى : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ) ، وقال تعالى : ( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وقد ميز الله العرش بنسبته إليه ، وخصه باستوائه عليه ، قال تعالى ( وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) ،وقال تعالى (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) ، وقال تعالى : (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ ) ، وقال : ( لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ، وقال : (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، وقال في أكثر من آية : (ُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) فدل ذلك على وجوده وامتيازه واستواء الله عليه ، كما دلت الآية الثانية على وجود الكرسي.(3/20)
واختلف في صفة العرش وموقعه من المخلوقات ، فقيل ك إن العرش مثل القبة فوق المخلوقات ، واستدل لهذا بما رواه أبو داود وغيره في حديث الأطيط من قوله ( : " إن عرشه على سماواته لهكذا ،وقال بأصابعة ، مثل القبة " أي أشار بأصابعة إشارة تدل على أن العرش يشبه القبة ، لكن هذا حديث ضعيف الإسناد ، واستدل لذلك أيضاً بما رواه البخارى في صحيحه أن النبي ( قال : " إذا سألتم الله فسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة واعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ". لكن هذا لا يدل على أن العرش كالقبة فوق السماوات من جانب واحد ، فإن السماوات محيطة بالأرض ، ومع ذلك فهى كالقبة بالنسبة لكل جمافعة على سطح الأرض من الجهة الى تليهم.
وقيل : إن العرش فلك مستدير محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سماه أصحاب هذا القول الفلك الأطلس أو الفلك التاسع ، ورد هذا بأن للعرش قوائم تحمله الملائكة ، لما ورد في حديث بيان النبي ( فضل موسى عليه الصلاة والسلام من قوله ( " فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسي آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدرى أفاق ، وأن الملائكة تحمله من هذه القوائم ، وأيضاً العرش في اللغة : السرير الذي أعد للملك ليجلس عليه ، ولا تفهم منه العرب إلا ذلك ، وقد نزل القرآن بلغة العرب وإذن ليس العرش فلكاً مستديراً ، بل هو كالقبة على العالم وسقف للمخلوقات ، وقد استشهد لكونه سريراً بشعر أمية ابن أبي الصلت :
مجدوا الله فهو للمجد أهل ………ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء العالى الذي بهر النا………س وسوى فوق السماء سريرا
واستشهدوا لذلك أيضاً بما ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة ، من أن عبد الله بن رواحة عرض لامرأته بشعر عن القراءة حينما اتهمته بجاريته ليوهمها به أنه قرآن ، وأنه ليس بجنب ، قال :
شهدت بأن وعد الله حق …………وأن النار مثوى الكافرينا
وأن العرش فوق الماء طاف ……وفوق العرش رب العالمينا(3/21)
وتحمله ملائكته شداد …………ملائكة الإله مسومينا
وتأول جماعة العرش فقالوا : إنه عبارة عن الملك ، وهذا تحريف لكلام الله وإخراج له عن المعنى المتبادر منع بلا دليل ، فإنه يبعد أن يقال في تفسير الآيات السابقة ويحمل ملك ربك فوقهم يومئذ ثمانية ، وأن يكون معنى " وكان عرشه على الماء " وكان ملكه على الماء ، ويكون معنى تفسير العرش بالملك باطلاً.
أما الكرسي فقيل : إنه موضع القدمين . وإنه بين يدى العرش كالمرقاة إليه ، فهو غير العرش لقول أبي ذر رضي الله عنه سمعت رسول الله ( يقول : " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهرانى فلاة من الأرض" ولقول ابن عباس : الكرسي موضع القدمين والعرش لا يقدر إلا الله وقيل ك أن الكرسي هو العرش ، ويرده ما تقدم عن ابن عباس ، وفسر الكرسي بالعلم ، ونسب هذا إلي ابن عباس ، ولكن المحفوظ عنه التفسير الأول.
هذا والسكوت عن الكلام في العرش وأنه كالقبة أو فلك مستدير محيط بالكائنات خير من الخوض في ذلك ، وكذا ترك التعمق في كون العرش هو الكرسي أو خلافه خير من الجدل وكثرة الحديث فيه ، فإن الخوض في ذلك والتعمق فيه من شره الفكر ، واستشراف العقل إلي أدارك أمر غيبي لا يعلم إلا بالتوقيف ، فينبغي الوقوف عند النقل.(3/22)
ويجب أن يعلم أن استواء الله على العرش ليس لحاجته إليه ، ولا يكون العرش حاملاً له ، فإن السماء فوق الأرض ومحيطة بها ، ولم يلزم أن تكون السماء في قيامها وتماسكها محتاجة إلي الأرض ، ولا أن تكون الأرض حاملة لها ، فالله مستو على عرشه ، وهو مستغن عنه وعما فيه من الكائنات وهو فوق عباده حقيقة ، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما شفيه من الكائنات وهو فوق عباده حقيقة ، محيط بهم إحاطة تليق بجلاله لا كإحاطة الفلك بما فيه من الكائنات ، والجميع قائم بحوله وقوته ابتداءً ودواماً ، محفوظاً بعنايته ورعايته ، جلت قدرته ، وتعالت عظمته علواً كبيراً قال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ). وقال : (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).
وقال : (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً).
وقال : ( أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) . وقال (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ).
وهذا هو مذهب السلف في صفة الاستواء ، وعلو الله على عرشه حقيقة مع التفويض في الكيفية ، فقد سئل مالك بن انس رضي اله عنه كيف استوى الله على العرض ، فقال الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، وذكر ذلك حسان بن ثابت في شعره ، قال :
شهدت بإذن الله أن محمداً ……رسول الذي فوق السماوات من عل
وأن أبا يحيى كلاهما له ………له عمل من ربه متقبل(3/23)
يريد النبيين يحيى بن زكريا وأباه زكريا ، وسأل مطيع البلخى أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض فقال ك قد كفر ، لأن الله يقول (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) . ، وهرشه فوق سبع سماوات ، قلت فإن قال : إنه علىالعرش ولكن يقول : لا أدرى العرش في السماء أم في الأرض فقد كفر وفى بعض الروايات عنه زيادة " لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى لا من أسفل ومن أنكر نقل هذا عن أبي حنيفة فهو ممن انتسب إلي مذهبه الفقهى مع مخالفته له فى بعض مسائل الاعتقاد كالمعتزلة".
وشهدت العقول السليمة ، والفطر المستقيمة على علو الله على خلقه وكونه فوق عاده ، كما صرحت بذلك نصوص الكتاب والسنة المتنوعة المحكمة ، فمن ذلك التصريح بالفوقية مقروناً تارة بحرف (من) المعينة لفوقيته تعالى بنفسه ، ومجرداً منها تارة أخرى ، قال الله تعالى : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) . ، قال : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ، ومنها التصريح بالعروج إليه ، قال تعالى : (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) .
وقال ( : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم ، فيسألهم ربهم كيف تركتم عبادى ، فيقولون تركناهم وهم يصلون ، وأتيناهم وهم يصلون " ، ومنها التصريح بصعود العمل الصالح إليه ، ويرفعه بعض المخلوقات إليه ، قال تعالى ( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) ، وقال : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ) وقال : ( إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ).(3/24)
وكذا عروج النبى محمد مع جبريل عليهما الصلاة والسلام إلي السماوات ليلة الإسراء والمعراج ، وإخبار النبى ( أنه تردد بين موسى وبين ربه تلك الليلة بشأن تخفيف الصلاة ، فيصعد إلي ربه ثم يعود إلي موسى عليه الصلاة والسلام عدة مرات ، ومها التصريح بالعلو المطلق الدال على إثبات جميع مراتب العلو ، علو الذات والقدر والشرف.
قال تعالى في آية الكرسى : (ا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) ، وقال : (ُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ، وقال : ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ). ومنها التصريح في كثير من الآيات بنزول القرآن منه وتنزيله إلي الأرض يقتضي أنه فوق عباده ، قال تعالى : (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ، وقال : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).
وقال : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ) ، ومنها التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) ففرق سبحانه بين من له عموماً وبين من عنده من ملائكته وعبيده خصوصاً ، وقد بين النبي ( أن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش كتب فيه " رحمتي سبقت غضبى " ، ومنها التصريح بأنه تعالى في السماء قال تعالى " (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ) . وبيان ذلك أن "فى" بمعنى على .(3/25)
وتقدير المعنى (أَأَمِنْتُمْ مَنْ ) على السماء ، أو " في" على حقيقتها ، والسماء معناها العلو ، وتقدير المعنى " أمنتم من في العلو ... " لا يجوز في معنى هذا النص إلا هذان الوجهان ، ومنها التصريح بأنه مستو على العرش خاصة مع التعدية بعلى وذكر " ثم " في الأكثر ،وهى دالة على الترتيب والمهلة فلا يتأتى مع ذلك تأويل استوائه على العرض بالقدرة أو الاستيلاء عليه ، ومنها التصريح بمشروعية رفع الأيدى إلي السماء في الدعاء فقد رفع النبى ( يديه إلي السماء وهو يدعو في الاستسقاء وغيره وثبت عنه أنه قال : إن الله يستحى من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً " أخرجه الحاكم وغيره ).
ومنها أشار ( إشارة حسية إلي جهة السماء وهو يخطب الناس في حجة الوداع يوم عيد الأضحى حينما قال في خطبته : " أنتم مسؤولون عنى ، فماذا أنتم قائلون " . قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فرفع إصبعه الكريمة إلي السماء ، مشيراً بذلك إلي أن الله فوقها وفوق كل شيء ومنها سؤاله الجارية بلفظ صريح في ذلك حيث قال لها : " أين الله ؟ " وشهادته لها بالإيمان حينما أجابته بأن الله في السماء وشهدت له بالرسالة ، فقال لسيدها : " أعتقها فإنها مؤمنة " ، فهذا السؤال والإقرار والحكم بإيمان الجارية منه ( وهو أعلم الخلق بربه ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم باناً عنه للمعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه من الوجوه ، دليل على أن الله فوق السماء وأنه فوق كل شيء بنفسه والأدلة المتعلقة بعلو الله على خلقه كثيرة متنوعة يؤيد بعضها بعضاً ، فمن رام أن يتأولها فقد رام باطلاً ، ومن سلك طريق التأويل لهذه النصوص فتح على نفسه باب شر لا يمكنه إغلاقه فإنه يسلط على نفسه بذلك الباطنية الذين يتأولون نصوص الصلاة والزكاة والصيام وسائر فرائض الإسلام ، وبهذا يعود الشرع كله مؤولاً.(3/26)
ومع هذا تأول كثير من المتأخرين الفوقية في قوله تعالى : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ) بأنه تعالى خير من عباده ، وأنه خير من العرش وأفضل منه وهو كما ترى تأويل بعيد تنفر منه العقول الرشيدة وتأباه الفطر السليمة ، فإنه لا تمجيد لله في ذلك ولا تعظيم له ، بل هو تأويل سمج مرذول فإنه يشبه قول القائل الجبل أثقل من الحصى ،ورسول الله أفضل من اليهود والجوهر فوق قشر البصل أو قشر البصل أو قشر السمك ونحو ذلك مما التفاوت فيه عظيم ، ولا شك أن التفاوت بين الله وبين عباده أعظم ، ولو أن هذا المتأول أثبت الفوقية مطلقاً ، فوقية الذات ، وفوقية القهر والغلبة ، وفوقية القدر والمنزلة لكان ذلك صواباً ، لاتفاقه مع نصوص الكتاب والسنة مع عدم المحذور ، أما أن يخص بتأويله نوعاً منها بلا دليل فذلك باطل . وقد بعبر بالخيرية بين الله وبين بعض خلقه إذا اقتضي المقام ذلك ، كمقام الاحتجاج على من أشرك مع اله غيره ، ودعوته إلي التوحيد ، قال تعالى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) وقال حكاية لمقالة يوسف عليه السلام لصاحبيه في السجن ، ودعوته إياهما إلي التوحيد (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .وقد دلت الأدلة العقلية على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من أن الله بائن من خلقه وأنه فوق عباده بنفسه ، وبيانه أن وجود الله إما أن يكون ذهنياً فقط ، وأما أن يكون في خارج الأذهان ، الأول : ممنوع بإجماع . وإذا تعين أن يكون وجوده خارج الأذهان ، فإما أن يكون عين العالم أو صفة قائمة بالعالم وإما ألا يكون عين العالم ولا غيره وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من خلقه ، وكل من الأول والثانى ممنوع فتعين أن يكون الله موجوداً قائماً بنفسه بائناً من خلقه.
1. الاستدلال بالفطرة على أن الله فوق عباده ك(3/27)
وإذا ثبت ذلك كان سبحانه فوق عباده ، مستوياً على عرشه ، لأن السفول صفة ذم لا تتضمن مدحاً ولا ثناءً ولا يليق بالله ، والعلو صفة مدح وثناء ً وكال لا نقص فيه ولا يستلزم نقصاً ، ولا يوجب محذوراً ، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ، بل النصوص وإجماع السلف تثبت ذلك وتقتضيه فوجب اعتقاده ، وإنكار التأويل وصرف النصوص عن ظواهرها ، لكونه عين الباطل الذي لا تأتي به الشريعة ، ولا يراه عقل سليم ، فإن قيل ك إن أكثر العقلاء يتأولون نصوص الاستواء والعلو والفوقية بالاستيلاء والقهر والغلبة ، وبعلو القدر والمنزلة ، وبالخيرية وكمال الفضل ن فكان تأويلهم مقتضي العقل ، إذ يبعد أن يرمى جمهور العلماء بالجهل والسفاهة وتحريف النصوص الصحيحة عن مواضعها ، ولا يكون لهم وجه يعتمدون عليه فيما ذهبوا إليه. قيل : ليس الأمر كما زعم ، فإن الذين يصرحون بأن خالق العالم شيء موجود خارج الأذهان لكنه ليس فوق العالم وأنه ليس مبايناً للعالم ولا داخلاً فيه طائفة من النظار ، وأول من ابتدع ذلك في الإسلام الجعد بن درهم، وتبعه في التحريف والتعطيلالجهم بن صفوان فقام هو وأتباعه بنشر هذه البدعة بين الناس ، وهم مسبوقون بإجماع الصحابة والتابعين وأئمة التفسير والفقه والحديث على إجراء النصوص كما جاءت وإمرارها على ظواهرها إثباتاً بلا تمثيل ، وتنزيهاً بلا تعطيل ، عملاً بقوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ، وقوله : (ِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).(3/28)
وقد شهدت بذلك الفطر السليمة أيضاً ، فإن الخلق جميعاً يرفعون أكفهم إلي السماء عند الدعاء بمقتضي فطرهم وبدافعس قوى من طباعهم التى لم بداخلها إلحاد ولم ينحرف بها عن جادة الحق تمويه ولا تلبيس ، ويتصدون جهة العلو بقلوب كلها خشوع وضراعة إلي الله راجين أن يتقبل أعمالهم ، ويستجيب دعاءهم ، ويسبغ عليهم نعمه ، ويعمهم بفضله وإحسانه.
وقد ذكر محمد بن طاهر المقدسى ، أن الشيخ أبا جعفر الهمدانى حضر مجلس الأستاذ أبي المعالى الجوينى المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلمس في نفى صفة العلو ، ويقول : كان الله ولا عرش ، وهو الآن على ما كان ، فقال الشيخ أبو جعفر أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التى نجدها في قلوبنا فإنه ما قال عارف قط : يا الله إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو ، لا يلتفت يمنه ولا يسره ، فكيف تدفع بهذه الضرورة عن أنفسنا ، قال : فلطم أبو المعالى على رأسه ونزل . وأظنه قال : وبكى ، وقال : حيرتى الهمدانى حيرتى ، وكأن الشيخ أبا جعفر أراد أن هذا أمر فطرى ، فطر الله عليه من غير أن يتلقوه عن المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يدفعهم للتوجه إلي الله وطلبه في العلو.
فإن قيل : إن رفع الأيدى إلي السماء وتوجه القلوب إلي جهة العلو إنما كان من أجل أن السماء قبلة الدعاء ، كما أن الكعبة قبلة الصلاة ، لا لأن الله في السماء فوق عباده ، ثم منقوض بشرع السجود ووضع الجبهة على الأرض مع أن الله ليس في وجهة الأرض.
أجيب أولاً : بمنع أن تكون السماء قبلة الدعاء فإن كون الشيء قبلة لا يعرف إلا من طريق الشرع ولم يثبت في جعل السماء قبلة للدعاء كتاب ولا سنة ، ولا قال بقه أحد من سلف الأمة وهو لا يخفي على جميعهم مثل هذا الأمر.(3/29)
وثانياً : ثبت أن الكعبة قبلة الدعاء كما أنها قبلة الصلاة ، فقد كان النبى ( يستقبل الكعبة ف دعائه في مواطن كثيرة فمن ادعى أن للدعاء قبلة سوى الكعبة أو ادعى أن السماء قبلته كما أن الكعبة قبلة له فقد ابتدع في الدين وخالف جماعة المسلمين.
وثالثاً : أن القبلة ما يستقله العابد بوجهة كما يستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح ودفن الميت ونحو ذلك مما يطلب فيه استقبال القبلة ، ولذا سميت القبلة وجهة لاستقبالها بالوجه ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعى وجهه إليها لكنه لم يشرع بل نهى عنه ، وغنما شرع رفع اليدين ، ورفع اليدين إلي السماء حين الدعاء لا يسمى استقبالاً لها شرعاً ولا لغة لا حقيقة ولا مجازاً.
ورابعاً : أن الأمر باستقبال القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كالأمر باستقبال بيت المقدس في الصلاة نسخ بالأمر باستقبال الكعبة ، ورفع الأيدي إلي إلي السماء في الدعاء والتوجهس بالقلب إلي جهة العلو أمر فطرى مركوز ف طبائع الناس لم يتغير في جاهلية ولا إسلام ، يضطر إليه الداعى عند الشدة والكرب مسلماً كان أم كافراً .
وخامساً : أن من استقبل الكعبة لا يقع في قلبه أن الله هناك جهة الكعبة بخلاف الداعى فإنه يرفع يديه غلي ربه وخالقه وولى نعمته ، يرجو أن تنزل عليه الرحمات من عنده ، وأجيب عن نقضهم الاستدلال الفطرة على أن الله فوق خلقه بما ذكروه من السجود ووضع الجبهة على الأرض بأنه باطل ، فإن واضع الجبهة على الأرض في السجود إنما قصده اخضوع لله ، وغعلان كمال ذل العبودية من الساجد لربه ومالك أمره لا لأنه يعتقد أنه تحته فيهوى إليه ساجداً ، فإن هذا لا يخطر للساجد ببال. بل ينزه ربه عن ذلك ، ولهذا شرع له أن يقول في سجوده : " سبحان ربي الأعلى " . تعالى الله عن الظنون الكاذبة علواً كثيراً.(3/30)
سادساً : الإنصاف والتجرد عند عر الآراء ومناقشة الأدلة والرد على الخصوم مع عدم الانتصار للرأي وإن كان صواباً .
إن الواقف علي سيرة وحياة فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي _ يرحمه الله - يدرك تماماً أنه كان رجلاً قوى الشخصية ، متميز التفكير ، مستقل الرأي ، لا يعول إلا على الدليل ، ولا ينتصر إلا له ولا يتنقص آراء الآخرين . بل على العكس كان يقدر الرأي الآخر وإن كان مخالفاً لرأيه.
يركد هذا أحد كبار طلبة الشيخ قائلاً : اختلفت يوماً مع شيخى فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي في مسألة ، وكان الشيخ مشرفاً على في مرحلة الماجستير بالمعهد العالى للقضاء ، وكان في نفس الوقت مديراً للمعهد ، فقلت له : إذا كنت ستتمسك برأيك في هذه المسألة عند مناقشة رسالتي وتعتبر رأي خطأ تؤاخذنى عليه فسأخذ برأيك بصفة مؤقتة حتى ينتهى ام مناقشة هذه الرسالة ثم أعود غلي رأيي المخالف لرايك.
فما كان من الشيخ عبد الرازق - رحمه الله - إلا أن قال لي : يا عبد الله أنا احترم الرأي العلمى وإن كنت لا أراه ما دام مبنياً على اجتهاد فيما يجوز فيه الاجتهاد ، وأنى لا أعتقد العصمة في الإصابة لنفسى ولا الخطأ لمخالفتى ، وعليك أن تجتهد في الاستزادة من تبرير رأيك المخالف ، وسأعتبر تمسك برأيك منفية علمية أكافؤك عليها.
وفضلاً عن ذلك فإن من يقرأ للشيخ عبد الرزاق يلحظ إنصاف الشيخ وتجرده عن عند عرض الآراء ومناقشة الأقوال والرجيح بينها ، ومن قرأ مقدمة " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدى يدرك صواب ما قلته.
إن الشيخ عبد الرزاق - رحمه الله - من العلماء الذين عرفوا بالإنصاف والتجرد ، لا يخضع لغير سلطان الحق والعلم مع أدب رفيع وفهم دقيق.
سابعاً : الالتزام بالنصوص الشرعية ، وإقامة الحجج العقلية والأدلة النقلية عند عرض قضايا العقيدة وطرق الدعوة ووسائلها :(3/31)
كتب الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - في مقال له بعنوان " وجوب تقديم المنقول على المعقول " ما نصه : لقد أنزل الله القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، وأوحى إليه من الأحاديث ما فيه بيان لما أجمل في القرآن ، وتفصيل لقواعده ، وشرح العقائد والشرائع ، فضلاً من الله ورحمة الله عليم حكيم .
قال تعالى (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فوجب تصديق ما جاء في كتاب الله ن وما صح من الأحاديث عن رسول الله (…وتحكيمها في كل شأن ، والرضا والتسليم لحكمها دون حرج أو ضيق في الصدر تحقيقاً للإيمان ، وتطهيراً للقلوب من دون الشرك والنفاق.
ولم يغفل الشيخ - رحمة الله - في كتاباته وإملاءاته جانب العقل وأهمية إقامة الحجج العقلية التى ترشد إلي معرفة الله والدعوة إلي التوحيد ، موضحاً أن هذا هو مسلك الرسل في الدعوة إلي الله ومعرفة الحق فيقول ك لقد بدات الرسل دعوتها بالتوحيد ، وإثبات الرسالة والجزاء يوم المعاد ، فجرت على موجب العقل وقتضي الفطرة ، وقد سلكت فى إثبات وجود الله وتوحيده وصدقهم ف دعوى الرسالة وخبرهم عن اليوم الآخر ، مسلك الاقناع بالحجة والبرهان ، وضرب الأمثال ، وجمعت في ذلك بين مناجاة العقل والتأثير على العاطفة والتذكير بما جبلت عليه النفوس ، وفطر عليه الخلق من الإقرار بالحق والميل إلي العدل مع لين الجانب والرفق في الخطاب والصفح الجميل في غير ذلة نفس ولا مواربة أو مداهنة في الحق.
وفي موضع آخر بشير الشيخ إلي أن مسلك الإقناع بالحجة والبرهان هو أيسر الطرق في الدعوة إلي التوحيد أقربها غلي معرفة الحق فيقول ك(3/32)
وقد أرشد الله الناس إلي أيسر الطرق في الدعوة إلي التوحيد وأسهلها ، واقربها إلي معرفة الحق وأعدلها. وهو الاستدلال بآيات الله وسننه الكونية وتفرده سبحانه بتصريفها وتدبيرها على تفرده بالإلهية واستحقاقه أن يعبد وحده لا شريك له ، فذلك أهدى سبيلاً وأقوم دليلاً ، وأقوى في إقناع الخصم وإلزامه الحجة ، فإنه مقتضي العقل الصريح وموجب الفطرة السليمة.
قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .
فرتب سبحانه نهيه إياهم عن اتخاذهم شركاء له في العبادة على علمهم وإقرارهم بأنه تعالىس وحده هو الذي خلقهم وخلق الذين من قبلهم ، وهو الذي جعل الأرض قراراً وذللها لهم ليمشوا في جوانبها وليبتغوا من فضله ، ورثفع السماء بلا عمد وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم ، لينعموا بما آتاهم من النعم ، وليتمتعوا بما أفاض عليهم من الخيرات لعلهم يتقون ربهم وولى نعمتهم فيعبدوه وحده لا شريك له مخلصين له الدين ، شكراً له على نما أسبغ عليهم من نعمه وأفاض عليهم من بركاته.
وفى القرآن كثير من النظائر لهاتين الآيتين في بيان أسلوب الدعوة ورسم الطريق الناجحة في إقامة الحجة وإلزام الخصم.
لقد سلك الأنبياء والمرسلون هذه الطريقة في دعوتهم أممهم إلي الهدى ودين الحق ، اهتداء بهدى الله واسترشاداً بإرشاده وهو العليم الحكيم ، ومن أبرزهم في ذلك أولو العزم من الرسل ، ومنهم إبراهيم الخليل 0 عليهم الصلاة والسلام)(3/33)
أرسل الله جل شأنه خليله إبراهيم 0 عليه الصلاة والسلام ) إلي قوم من الفرس عتاة جبارين يعبدون التماثيل فأنكر عليهم عكوفهم لها وتقربهم إليها. قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) .
ولما لم يكن لديهم حجة يعتمدون عليها في عبادتهم الأصنام تعللوا لباطلهم بما وجدوا عليه آباءهم من التقرب إلي التماثيل وعبادتهم إياها فألغوا عقولهم وقلدوا آبائهم على غير هدى وبصيرة : (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ).
فسفه إبراهيم ( عليه الصلاة والسلام ) أحلامهم ن وحكم عليهم وعلى آبائهم بالحيرة والضلال المبين (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وبين لهم أن التماثيل لا تسمع النداء ، ولا تستجيب الدعاء ولا تملك نفعاً ، ولا توقع ضراً فلا يليق بعاقل أن يتخذها آلهة مع من فطر السموات والأرض ،وإليه مقاليد الأمور ، يؤتى الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويضر من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير، وهو على كل شيء قدير (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ).(3/34)
فلما ركبوا رؤوسهم ، وأبوا إلا اللجاج والعناد ، والعصبية الممقوته في تقليد الآباء والأجداد ، أعلن براءاته منهم ، وشدة عداوته لهم ولما يعبدون من دون الله : (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ* فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) .
وجد إبراهيم 0 عليه الصلاة والسلام ) أنه لابد له من سلوك طريق آخر عملى في إقامة الحجة ليكون أقوى في الإبانة عن الحق ، وأملك في إلزام الخصم ، يضطرهم به إلي الاعتراف بما هم فيه من ضلال وظلم وانحراف ، فأقسم بالله ان يكيد لأصنامهم وهم عنها غائبون ، انتهز فرصة خروجهم من البلد لبعضس شأنهم ، وذهب إلي آلهتهم خفية لئلا يره أحد فيصده عن تنفيذ ما أراد فجعلهم قطعاً صغاراً إلا كبيراً لهم تركه سالماً ، ليكون سله ولهم معه شأن عند التحقيق فيما جرى على أصنامهم ، فلما عادوا إلي منازلهم وشاهدوا ما أصيبت به آلهتهم : ( قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ).(3/35)
فلماس حضر مجلسهم أخذوا يقررونه بما صنع بآلهتهم : (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ) فأجابهم بنسبة ما حدث إلي من لا يتأتى منه ، نسبة غلي كبير التماثيل وهو - كما يعلم ويعلمون - جماد لا حراك به ، ذلك ليرشدهم إلي مكان الخطأ في عكوفهم على التماثيل ، عبادة لها تقرباً إليها ويصرفهم عنها إلي عبادة الله وحده لا شريك له ، ويوحى إليهم بأنه هو الذي كاد لصنامهم وأنزل بهم ما يكرهون ، وقد أكد ذلك بأمره إياهم أن يسألوا التماثيل عمن أصباهم بالتكسير والتحطيم عن كانوا يحيرون جواباً (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ).(3/36)
وقد نجحت هذه الطريقة إلي حد ما ، وأوجدت فيهم وعياً ، فثابوا غلي رشدهم وما كان في أصل فطرتهم واعترفوا بأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم تماثيل لا تملك لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها بأساً ، وظلموا إبراهيم ( عليه السلام ) بصدهم عن دعوته ، وإعراضهم عما جاءهم به من الآيات البينات على التوحيد وإخلاص العبادة لله رب العالمين ، لكنهم لم يلبثوا أن ركبوا رؤوسهم ونكصوا على أعقابهم وارتكسوا في حمأة الضلال والحيرة عصبية لما ورثوه عن آبائهم من الشرك والبهتان المبين.قال الله تعالى (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) لقد ازداد طريق الحق وضوحاً وبياناً ، واستحكمت حلقات الحجة لإبراهيم على أبيه وقومه ، وحق له أن يضيق ذرعاً من صدورهم وأن يتأفف ضجراً من طغيانهم وشركهم ، وأن ينكر عليهم ذلك إنكاراً صارخاً ويرميهم بالخبال وإلغاء العقول (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).لقد أخذت الحمية الجاهلية للباطل من نفوس قوم إبراهيم ( عليه السلام ) مأخذها وتمكنت منهم العصبية لظاغوت التقليد للآباء فيما أصيبوا به من الشرك والانحراف عن الحق حتى ملكت مشاعرهم ووجهت عقولهم وأفكارهم إلي شر وجهة ، وصرفتهم عن الحق المبين والصراط المستقيم ، وزينت لهم أن يتخلصوا من إبراهيم ( عليه السلام ) وينزلوا به أشد العقاب انتصاراً لألهتهم الباطلة ، وانتقاماً منه جزاء له عما صنع بها من تحطيم وتكسير.
ويعلم الله أنه ما أراد بذلك إلا الخير لهم ، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلي نور التوحيد. (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ).(3/37)
لكى يأبي الله إلا أن ينصر رسوله وخليله إبراهيم ( عليه السلام) وأن يخذل أعداءه وأعداء دينه ، ويبطل ما كادوا به لأوليائه فيبوءوا بالخسران المبين ، إمضاء لسنته العادلة الحكيمة في أوليائه وأعدائه.
قال تعالى (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).
وقال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).
وقال تعالى (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)
ثامناً : الاهتمام بتعقيد القواعد التى تبنى عليها الأقوال ، وضبط الأصول التى يتفرع منها غيرها مع الإحاطة بمستجدات الواقع وأحداث العصر :(3/38)
من أبرز سمات الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - التى تحلى بها أنه كان يملك عقلاً كبيراً ، وعلماً غزيراً وشخصية يجللها الوقار وتكسوها الهيبة ، فضلاً عن ذلك فقد كان غاية في معرفة الخلاف ، فقهياً مجتهداً لا يقلد أحداً ، ميالاً إلي التقعيد وضبط الأصول ، مغرماً بمناقشة الأدلة والترجيح السديد بينها ، وهذه في الحقيقة سمة عامة في كتابات الشيخ وقد وضحت في الفصل الثاني وعلى وجه التحديد في المبحثين الخامس والسادس الدقة العلمية التي تميز بها الشيخ والرغبة الشديدة في تأصيل المسائل وتفصيلها وتصدير كل بحث بمقدمة ينبني عليها ما بعدها ، وأما علمه بمستجدات الواقع وأحداث العصر . فهو أمر متفق عليه لا يجحده إلا مكابر ، ولعل القارئ للفتاوى التى أصدرتها اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في مسائل العقيدة وغيرها من الفتاوى ، اكبر شاهد على ما ذكرت من رغبة الشيخ في التعقيد والتأصيل والإيجاز في العبارة مع جزالة اللفظ ووضوح المعنى.
وبعد توضيح وبيان ابرز سمات المنهج العقدى للشيخ ، انتقل إلى الحديث عن عنايته البالغة بالتوحيد :
عنايته البالغة بالتوحيد :
التوحيد هو أساس الإسلام ، وقوام الدين ، وهو زبدة الرسالات الإلهية وغايتها ، وقطب رحاها وعمدتها ، ترتكز كلها عليه ، وتستند في وجودها إليه وتتبدىء منه وتنتهي إليه.
قال العلامة ابن القيم - رحمة الله - التوحيد مفزع أعدائه وأوليائه ، فأما أعداؤه فينجيهم من كرب الدنيا وشدائدها (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) .(3/39)
وأما أولياؤه فينجيهم من كربات الدنيا والآخرة وشدائدها . ولذلك فزع إليه يونس فنجاة الله من تلك الظلمات ، وفزع إليه اتباع الرسل فنجوا به مما عذب به المشركون في الدنيا وما أعهد لهم في الآخرة ، ولما فزع إليه فرعون ، عند معاينة الهلاك وإدراك الغرق ، لم ينفعه ، لن الإيمان عند المعاينة لا يقبل ، هذه سنة الله في عباده ، فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ، ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد ، ودعوة ذى النون التى ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد ، فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك ، ولا ينجى منها إلا بالتوحيد ، فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها. لقد كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - من كبار علماء التوحيد ، يقرر مسائلة ويعرض قضاياه الدقيقة فيه بأسلوب مميز واضح. وكان شرحه لكتاب التوحيد للعلامة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب مثار إعجاب طلابه الذين شهدوا له بالتمكن والرسوخ في العلم وبخاصة علم التوحيد ، ويؤكد هذا ويدعمه ما كتبه أحد كبار طلبته قائلاً :
لقد عرفت الشيخ عبد الرزاق عفيفي أول ما عرفته عام 1369 هـ عندما تتلمذت عليه في مدرسة دار التوحيد ، فتلقيت على فضيلته مادة التوحيد ، وكان يدرس لنا كتاب " التوحيد الذي هو حق الله على العبيد " فكان في تفسيره للآيات وتقريبه لمعاينها ، وشرحه للأحاديث ولأقوال السلف وبيان مطابقتها للترجمة ، ودقته في استنباط المعانى من النصوص ، وتقريبها لأذهان المتعلمين ، ىية في ذلك ، ومثالاً يحتذى ، لا سيما في المواءمة بين المعانى الجليلة وين عقول ومدارك المتلقين من الطلاب ، وهم ما بين مبتدئ في المراحل الأولى من التعليم وما بين متوسط ، ومن قطع شوطاً لا بأس به في التعليم.(3/40)
ولقد كان في أثناء ذلك يولى عناية بالمسائل التى لختم بها المؤلف - رحمة الله - كل باب من أبواب كتاب التوحيد ، ويثنى على الشيخ محمد بن عبد الوهاب في فقهه للمسائل وغوصه على دقيق المعانى من ظاهر النصوص ، مما يضمنه تلك المسائل وكان ينتهز الفرصة بين الحين والحين فيوصى الطلبة بالعناية بكتب السلف ، والإطلاع عليها ، والاستفادة من العطلة الصيفية بمواصلة القراءة لا سيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله .
ويتحدث فضيلة الشيخ الدكتور عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام عن دعوة الشيخ عبد الرزاق إلي التوحيد وتركيزه على العقيدة فيقول :
فالشيخ - رحمة الله - اتسمت حياته العلم وبالعمل والدعوة إلي الله سبحانه وتعالى وأحياء السنة والتركيز على العقيدة ونبذ البدع والخرافات كل ذلك بأسلوب حسن وهذا مما يبين الأولويات في الدعوة إلي الله.
فينبغي على الدعاة إلي الله أن يبنوا دعوتهم عل الأولويات التي دل عليها الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وقضية العقيدة هي أم القضايا على الإطلاق ، وهى أصل القضايا بالاتفاق وهى دعوة الرسل الذين دعوا أقوامهم إلي التوحيد والعقيدة (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
ويكفى الشيخ في ذلك شرفاً أنه يصير على منهاج النبوة وعلى مشكاة الرسالة وعلى منهج الأنبياء في الدعوة إلي الله تبارك وتعالى .
وفي الصفحات التالية ، نماذج مشرقة من كتاباته في التوحيد وبيان أنواعه ، وحاجة الناس إليه.
أنواع التوحيد
أنواع التوحيد ثلاثة :
1. توحيد الربوبية.
2. توحيد الأسماء والصفات . ويقال له أيضاً : توحيد الخبر ، وتوحيد المعرفة والإثبات.
3. توحيد العبادة ويسمى - أيضاً - توحيد الإلهية ، وتوحيد الإرادة والقصد ، وتوحيد الطلب .
توحيد الربوبية(3/41)
- أما توحيد الربوبية : فهو توحيد الله - تعالى - بأفعاله. والإقرار بأنه خالق كل شيء ومليكه ، وغليه يرجع الأمر كله في التصريف والتدبير.
- فهو الذي يحيى ويميت ، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، وهو الذي يرسل الرسل ، ويشرع الشرائع ، ليحق الحق بكلماته ، ويقيم العدل بين عباده شرعاً وقدراً إلي غير ذلك مما لا يحصيه العد ، ولا تحيط به العبارة. وهذا النوع من التوحيد قد أقرت به الفطرة ، وقام عليه دليل السمع والعقل ، ولم يعرف عن طائفة بعينها القول بوجود خالقين متكافئين في الصفات والأفعال. ومن نقل عنهم من طوائف المشركين نسبة شيء من الآثار والحوادث لغير الله ، كقوم هود ، حيث قالوا فيما حكاه الله عنهم :
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ).
…فإن ما نسبوه إلي آلهتهم إنما كان لزعمهم أنها وثيقة الصلة بالله ، وأنها شفيعة لمن عبدها ، وتقرب إليها بالقربين عند الله ، في جلب النقع له ، ودفع الضر عنه.
ومن أجل هذه الشائبة من الشرك في الربوبية نبه الله سبحانه على بطلانه ، وأنكر على من زعمه فقال تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(3/42)
فبين - سبحانه وتعالى - أنه لو كان معه إله يشركه في استحقاقه العبادة لكان له : خلق ، وملك ، وقهر وتدبير. إذ لا يستحق العبادة إلا من كان كذلك ، ليرجى خيره ونفعه ، فيطاع أمره وينفذ قصده ، و يخشي بأسه وبطشه. فلا يعتدى على حدوده ، ولا ينتهك حماه ، ولو كان له خلق ، وتدبير ، وملك وتقدير لعلا على شريكه وقهره إن قوى على ذلك ليكون له الأمر وحده ، ولذهب بخلقه ، وتفرد بملكه دون شريكه. إن لم يكن لديه القوة والجبروت ما يفرض به سلطانه على الجميع. فإن من صفات الرب - تعالى - كمال العلو ، والكبرياء ، والقهر ، والجبروت. وفي معنى هذه الآية قوله تعالى (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً).
-إذا كان المعنى المرادس لا تخذوا سبيلاً إلي مغالبته . وقيل : المعنى لا تخذوا سبيلاً إلي عبادته ، وتأليهه ، والقيام بواجب حقه. وابتغوا إلي رضاه سبيلاً. كما قال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً) .
وقد استخلص بعض العلماء من ذلك دليلاً سموه : دليل التمانع ، استدلوا به على توحيد الربوبية. قالوا : لو أمكن أن يكون هناك ربان يخلقان ، ويدبران أمر العالم لأمكن أن يختلفا بأن يريد أحدهما وجود شيء ويريد الآخر عدمه ، أو يريد أحدهما حركة شيء ويريد الآخر سكونه. وعند ذلك إما أن يحصل مراد كل منهما ، وهو محال . لما يلزمه من اجتماع النقيضين ، وإما أن يحصل مراد واحد منهما دون الآخر فيكون الذي نفذ مراده هو الرب ون الآخر لعجزه ، والعاجز لا يصلح أن يكون رباً .
توحيد الأسماء والصفات(3/43)
وأما توحيد الأسماء والصفات : فهو أن يسمى الله ويوصف ، بما سمى ووصف به نفسه ، أو سماه ، ووصفه به رسوله ( ، من غير تحريف ، ولا تأويل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
ومن تبصر في العالم ، وعرف شؤونه وأحواله تبين له كمال تعلقه خلقاً وأمراً بأسماء الله الحسنى ، وصفاته العليا ،وارتباطه بها أتم ارتباط ، وظهر له أن الوجود كله آيات بينات ، وشواهد واضحات على أسماء الله وصفاته.
وقد ذكر ( ابن القيم ) في ك " مدارج السالكين " طريقين لإثبات الصفات :
1- الوحى الذي جاء من عند الله تعالى على لسان رسوله (.
2- الحس الذي شاهد به البصير آثار الصنعة قال - رحمة الله تعالى - في بيان الطريق الأول :
فأما الرسالة فإنها جاءت بإثبات مفصلاً على وجه أزال الشبهة ، وكشف الغطاء ، وحصل العلم اليقين ورفع الشك المريب ،م فثلجت له الصدور ، واطمأنت به القلوب ،واستقر به الأيمان في نصابه .
ففصلت الرسالة الصفات ، والنعوت ، والأفعال ، أعظم من تفصيل الأمر والنهى ، وقررت إثباتها أكمل تقرير . فما ابلغ لفظة وأبعده من الإجمال ، والاحتمال ، وأمنعه من قبول التأويل ، ولذلك كان التأويل لآيات الصفات ، وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره. بل أبعد منه . لوجوده كثيرة ذكرتها في كتاب : " الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة ". بل تأويل آيات الصفات بما يخرجها عن حقائقها ، كتأويل ىيات الأمر والنهى سواء ، فالباب كله باب واحد ، ومصدره واحد ، ومقصده واحد ، وهو إثبات حقيقتها والإيمان بها.
وكذلك سطا على تأويل المعاد قوم. وقالوا : فعلنا فيها ، كفعل المتكلمين في آيات الصفات ، بل نحن أعذر فإن اشتمال الكتب الإلهية على الصفات ، والعلوم ، وقيام الأفعال اعظم من نصوص المعاد للأبدان بكثير ، فإذا ما ساغ لهم تأويلها ، فكيف يحرم علينا نحن تأويل آيات المعاد !(3/44)
وكذلك سطا قوم آخرون على تأويل آيات الأمر ، والنهى وقالوا ك فعلنا فيها ، كفعل أولئك في آيات الصفات مع كثرتها ، وتنوعها. وآيات الأحكام لا تبلغ زيادة على خمسمائة آية . قالوا : وما يظن أنه معارض من العقليات لنصوص الصفات ، فعندنا معارض عقلى لنصوص المعاد من جنسه ، وأقوى منه.
- وقالوا متأولو آيات الأحكام على خلاف حقائقها ، وظواهرها ، والذي سوغ لنا هذا التأويل القواعد التى اصطلاحتموها لنا ، وجعلتموها أصلاً نرجع إليه ، فلما طردناها أن الله ما تكلم بشيء قط ، ولا يتكلم ، ولا يأمر ، ولا له صفة تقوم به ، ولا يفعل شيئاً.
- وطرد هذا الأصل لزوم تأويل آيات الأمر والنهى ، والوعد ، والوعيد والثواب ، والعقاب ، وقد ذكرنا في كتاب الصواعق أن تأويل آيات الصفات ، وأخبارها بما يخرجها عن حقائقها هو أصل فساد الدنيا الدين ، وزوال الممالك ، وتسليط أعداء الإسلام عليه إنما كان بسبب التأويل. ويعرف هذا من له اطلاع ، وخبرة بما جرى في العالم .
ولهذا يحرم عقلاء الفلاسفة التأويل مع اعتقادهم بصحته ، لأنه سبب لفساد العالم ، وتعطيل للشرائع. ومن تأمل كيفية ورود آيات الصفات في القرآن والسنة علم قطعاً بطلان تأويلها بما يخرجها عن حقائقها ، فإنها وردت على وجه لا يحتمل التأويل بوجه. فانظر غلي قوله تعالى :
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ). هل يحتمل هذا التقسيم والتنويع تأويل إتيان الرب جلل جلاله - بإتيان ملائكته وآياته ؟ وهل يبقي مع هذا السياق شبهة أصلاً في أنه إتيانه بنفسه !
وكذلك قوله تعالى (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلي أن قال : ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً).(3/45)
ففرق بين الإيحاء العام ، التكلم الخاص ، وجعلهما نوعين ، ثم أكد فعل التكليم بالمصدر الرافع لتوهم ما يقوله المحرفون. كذلك قوله : (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ).
فنوع تكليمه إلي تكليم بغير واسطة وكذلك قوله لموسى ، عليه السلام : (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي ) ففرق بين الرسالة والكلام . والرسالة إنما هى بكلامه. وكذلك قول النبى ( : " إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون القمر ليلة البدر في الصحو ليس بينه سحاب وكما ترون الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب "
ومعلوم أن هذا البيان والكشف ، والاحتراز ينافى إرادة التأويل قطعاً ولا يرتاب في هذا من له عقل ودين.
الطريق الثانى : من طرق إثبات الصفات دلالة الصفة عليها ، فإن المخلوق يدل على وجود خالقه ، وعلى حياته ، وعلى علمه ، ومشيئته. فإن الفعل الاختياري يستلزم ذلك استلزاماً ضرورياً. فما فيه من الإتقان ، والإحكام ووقوعه على أكمل الوجوه يدل على حكمة فاعله وعنايته ، وما فيه الإحسان ، والنفع ،ووصول المنافع العظيمة إلي المخلوق يدل على رحمة خالقه ، وإحسانه ، وجوده ، وما فيه من آثار الكمال يدل على أن خالقه أكمل منه ، فمعطى الكمال أحق بالكمال.
وخالق الأسماع ، والأبصار ، والنطق أحق أن يكون سميعاً بصيراً متكلماً.(3/46)
وخالق الحياة ، والعلوم ، والقدر ، والإرادات أحق بأن يكون هو كذلك في نفسه ، فما في المخلوقات من أنواع التخصيصات هو من أدل شيء على إرادة الرب - سبحانه - ومشيئتهس ، وحكمته التى اقتضت التخصيص ، وحصول الإجابة عقب سؤال الطالب على الوجه المطلوب دليل على علم الرب تعالى بالجزيئات ، وعلى سمعه لسؤال عبيده ، وعلى قدرته على قضاء حوائجهم ، وعلى رأفته ورحمته بهم ، والإحسان غلي المطيعين ، والتقرب إليهم ، والإكرام لهم ، وإعلاء درجاتهم يدل على محبته ورضاه. وعقوبته للعصاة والظلمة ، وأعداء رسله بأنواع العقوبات المشهودة تدل على صفة الغضب. والسخط والإبعاد ، والطرد ، والإقصاء يدل على المقت والبغض.
- فهذه الدلالات من جنس واحد عند التأمل ، ولهذا دع - سبحانه - عباده إلي الاستدلال بذلك على صفاته . فهو يثبت العلم بربوبيته ، ووحدانيته ، وصفات كماله بآثار صنعته المشهودة ، والقرآن مملوء بذلك ، فيظهر شاهد اسم الخالق من المخلوق نفسه ، وشاهد اسم الرزاق من وجود الرزق والمرزوق ، وشاهد اسم الرحيم من شهود الرحمة المبثوثة في العالم ، واسم المعطى من وجود العطاء الذي هو مدار لا ينقطع لحظة واحدة ، واسم الحليم من حلمه على الجناة ، والعصاة وعدم معاجلتهم بالجزاء واسم الغفور ، والتواب من مغفرة الذنوب ،وقبول التوبة . ويظهر اسم الحكيم من العلم بما فى خلقه ، وأمره من الحكم ، والمصالح ، ووجود المنافع .(3/47)
- وهكذا كل أسم من أسمائه الحسنى له شاهد في خلقه وأمره. يعرفه من عرفه ، ويجهله من جهله. فالخلق ، والأمر من أعظم شواهد أسمائه وصفاته . وكل سليم العقل ، والفطرة يعرف قدر الصانع ، وحذقه على غيره ، وتفرده بكمال لم يشاركه فيه غيره من مشاهدة صنعته فكيف لا تعرف صفات من هذا العالم العلوى والسفلي ، وهذه المخلوقات من بعض صنعه ، وإذا اعتبرت المخلوقات ، والمأمورات ، وجدتها بأسرها كلها دالة على النعوت ، والصفات ، وحقائق الأسماء الحسنى ، وعلمت أن المعطلة من أعظم الناس عمى ، ومكابرة ، ويكفى ظهور شاهد الصنع فيك خاصة ، كما قال تعال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) .
فالموجودات بأسرها شواهد صفات الرب - جل جلاله - ونعوته ، وأسماؤه ، هي كلها تشير إلي الأسماء ، هى كلها تشير إلي الأسماء الحسنى ، وحقائقها ، وتنادى بها وتدل عليها ، وتخبر بها بلسان النطق والحال ، كما قيل ك
تأمل طور الكائنات فإنها ………من الملك الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت ما بها ……ألا كل شيء ما خلا الله باطل
تشير بإثبات الصفات لربها ………فصامتها يهدى ومن هو قائل
- فلست ترى شيئاً أدل على شيء من دلالة المخلوقات على صفات خالقها ، ونعوت كماله ، وحقائق أسمائه. وقد تنوعت أدلتها بحسب تنوعها فهى تدل عقلاً ، وحساً ، وفطرة ، واعتباراً. أ هـ .
توحيد الإلهية
- وأما توحيد الإلهية : فهو إفراد الله بالعبادة : قولاً وقصداً ، وفعلاً فلا ينذر إلا له ، ولا تقرب القرابين إلا إليه ولا يدعى في السراء والضراء إلا إياه ،ولا يستغاث إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، إلي غير ذلك من أنواع العبادة. وهذا النوع هو الذي بعثت به الرسل ، وأنزلت به الكتب ، وبدأ به كل رسول دعوته ، ووقعت فيه الخصومة بينه وبين أمته.
وهو الذي من أجله شرع الجهاد ، وقامت الحرب على ساقها بين الموحدين والمشركين.(3/48)
والطريق الفطرى فثبات توحيد الإلهية الاستدلال عليها بتوحيد الربوبية. فإن قلب الإنسان يتعلق أولاً بمصدر خلقه ومنشأ نفعه وضره ، ثم ينتقل بعد ذلك إلي الوسائل التى تقربه إليه ، وترضيه عنه ، وتوثق الصلات بينه وبينه ، فتوحيد الربوبية باب لتوحيد الإلهية.
من أجل ذلك احتج الله على المشركين ، , أرشد رسوله إلي هذه الطريقة وأمره أن يدعو بها قومه ، قال تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ).
-فقد استدل بتفرده بالربوبية ، وكمال التصرف ، وحمايته ما يريد أن يحميه ، على استحقاقه وحده للعبادة ، ووجوب إفراده بالإلهية قال تعالى : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ). فأخبر بأن البعث آت لا محالة ونزه نفسه عما زعمه المشركون من الشركاء ، ثم استدل - سبحانه - على قدرته على البعث ، وتفرده باستحقاقه الإلهية بآياته الكونية ، فقال تعالى :( خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) .(3/49)
إلي قوله تعالى ( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ*وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُون وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ* إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) وقال تعالى :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ، إلي أن قال (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) . فجعل - سبحانه - تفده بالربوبية خلقاً للحاصرين والسابقين ،وتمهيده الأرض ، ورفعه السماء بغير عمد يرونها ، وإنزاله الأمطار ليحيى بها الأرض بعد موتها. ويخرج بها رزقاً لعباده باباً إلي توحيد الإلهية وآية بينه على استحقاقه وحده العبادة.
وقال تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ). فقررهم - سبحانه - بما لا يسعهم إنكاره ، ولا مخلص لهم من الاعتراف به من تفرده بالرزق ، والملك والتدبير ، والإحياء والأمانة ، والبدء ، والإعادة والإرشاد ، والهداية ليقيم به عليهم الحجة في وجوب تقواه دون سواه. وينكر عليهم حكمهم الخاطئ وشركهم الفاضح ، وعكوفهم على من لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ، ولا حياة ولا نشوراً.(3/50)
قال تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ) ، إلي قوله تعالى : (أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
فأنكر - سبحانه - أن يكون معه من خلق ، ودبر ، أو صرف وقدر ، أو يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف السوء ، أو يولى ، أو يعزل ، وينصر ، ويخذل ، أو ينقذ من الحيرة ، ويهدى من الضلالة ، وأو يبدىء ويعيد ، ويبسط الرزق لمن يشاء ، ويقدر إلي غير ذلك مما أستأثر الله به.
وهذا مما استقر في فطرتهم ، ونطقت به ألسنتهم ، وبه قامت الحجة عليهم فيما دعتهم إليه الرسل من توحيد العبادة. وما ذكر من الآيات قليل من كثير.
- من سلك طريق القرآن في الاستدلال ، واهتدى بهدى الأنبياء في الحجاج اطمأنت نفسه ، وقوى يقينه ، وخصم مناظره ( أي انتصر عليه).
فإن في ذلك الحجة ، والبرهان من جهتين :
الأول : أنه خبر المعصوم.
الثاني : أنه موجب الفطرة ، ومقتضى العقل الصحيح.
المبحث الثالث
إمامته في السنة وحثه على التمسك بها
السنة في اللغة : الطريقة حسنة كانت أو سيئة ، ومنه قوله ( : " من سنن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها ، وأجر من عمل بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، من سنن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء " .
وقال خالد بن عتبة الهذلى :
فلا تجزعن من سيرة أنت سرتها ………فأول راضٍ سنة من يسيرها(3/51)
واصطلاحاً : ما أثر عن النبى ( من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية أو خلقية أو سيرة ، سواء كان قبل البعثة أو بعدها .
والسنة هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية ، بل هى قطب رحاها ، ومصدر شعاعها ، وشمس الحقيقة ، ومنبع الهداية ، وهى السراج الوهاج في ليل داج ، فقد كانت البشرية في الجاهلية الأولى تتخبط خبط عشواء ، وهى منغمسة في شهواتها ، ومنتهية في جهالاتها ، ومرتطمة في نزواتها ، لا تهتدى سبيلاً ، ولا تجد طريقاً حتى من الله عليها ببعث نبيها الكريم ( وأنزل عليه كتابه العظيم. ولما كان القرآن الكريم محتوياً للأصول غير مستقص لجميع التفاصيل ، وفيه من الإجمال شيء غير قليل ، فوض الله بيانه إلي رسوله الكريم ( بقوله تعالى : (ِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
فبين رسول الله ( أحكامه ، ورفع إبهامه ، وخصص إطلاقه ، وشرح أهدافه .
ومن هنا يظهر جلياً ، أنه لا يمكن فهم كتاب الله تعالى والعمل به على مراد الله سبحانه إلا ببيان رسوله النير ، وأسوته الحسنة ، فمن رام الهداية من غيرهما فقد رام المحال.(3/52)
ولما كان للسنة هذه المنزلة العظيمة ، وكان كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قام أعداء الإسلام بالتشكيك في السنة وزعزعة الثقة بها ، وإثارة الشبهات حولها ، ولكن من رحمة الله وتوفيقه أن قيض لهؤلاء المبتدعة والفرق الضالة ، علماء عاملين ، نذروا أنفسهم لنصرة الدين دعوة وجهاداً ، وقاموا أعداءه جماعات وفرادى ، ولم يخشوا في الله لومة لائم ، ولم يبالوا بعداوة من عادى ، فقهروا البدع المضلة ، واجتثوا شجرة الإلحاد بمعاول السنة ، وردوا على المبتدعة فبهتوهم بالبراهين القطعية ، وصنفوا في رد شبههم ، ودفع باطلهم ودحض حججهم ،الكتب المفيدة ، ولم تنجم بدعة من الضالين المضلين إلا ويقيض الله لها جيشاً من العلماء المخلصين ، فحفظ الله عز وجل بعلمهم دينه على العباد وأخرجهم بهم وبعلمهم من ظلمات الزيغ والضلالة إلي نور الهدى والرشاد.
ومن هؤلاء العلماء فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - ولا نزكى على الله أحداً ، فقد كان من العلماء الناصحين ، والدعاة المصلحين ، الذين يدعون من ضل إلي الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، كيف لا وهو المحب للسنة ، العاض عليها بنواجذه الحامل للوائها ، المدافع المنافح عنها ، المحيى لما اندرس منها بالعلم والعمل والتعليم والتهذيب ، فلا عجب إذ وصف بأنه إمام في السنة وذلك لشدة تمسكه بها والذب عنها ، والاعتصام - بعد كتاب اله - بها ، وأصدق دليل علي ذلك ما كتبه إبان رئاسة لجماعة أنصار السنة المحمدية بمصر قائلاً :(3/53)
إن ما ترزح الأمم الإسلامية اليوم من تفرق فى الكلمة ، وانحراف في الرأي ، وضعف في الدفاع ، وتأخر إلي الوراء حين يتقدم غيرهم، ليس كل ذلك إلا نتيجة غفلتهم عن تراث السلف الصالح ، وسلوكهم لغير خطتهم علماً وعملاً ، ولقد راجت شبه الملحدين من جديد ، رواجاً مخيفاً جمد إزاءه المسلمون ، ولو أنهم رجعوا إلي أقوال سلفهم الصالح ، وسلكوا طريقهم لردوا كيد الكائدين إلي نحورهم ، فإنه ما من شبهة تذاع اليوم ، إلا وقد سبق إليها شياطين الملحدين السابقين في العصور الأولى ، ووقفها وردها وأبطلها أجلة علماء السلف ، براعة فائقة ، فلا سبيل أرشد من سبيلهم ، ولا هدى أقوم مما كانوا عليه.
فالخير كل الخير في العودة إلي كتاب الله تعالى تلاوة له ، وتفقها فيه ، وإلي أحاديث المصطفي ، صاحب جوامع الكلم (… دراية وراية ، والفتيا بهذين الأصلين ، وعرض أعمال الناس عليهما ، فذلك هو الفلاح والرشاد الذي ليس بعده رشاد.
هذا وإن جماعة أنصار السنة المحمدية ، ممن شعر بهذا منذ زمن بعيد ، وعرفت مصدره وعلاجه ، فبدأت الجماعة تكافح الخرافات ، لا سيما ما كان متعلقاً منها بالعقائد ، وترجع بأعضائها وكل من يشرفها إلي سنة النبى ( وطريق السلف الصالح ، وتنيرهم بالمعارف النبوية ، وتنشئتهم على حب الكتاب والسنة وتمزنهم على النزول على حكمها من غير عصبية.(3/54)
وبالجملة فقد كانت عناية الشيخ بالسنة بالغة ، وقد وصفه كثير من طلابه بأنه صاحب سنة ورجل عقيدة. فالعقيدة باعتبارها قاعدة الإطلاق ، ومركز الانطلاق ، والسنة باعتبارها الوحى الثانى ، والواجهة التى تتعرض للأهباء والأقذاء ، كانتا مناط اهتمام الشيخ - رحمة الله - يركز عليهما ، أو يلمح إليهما ، أو يذكر بهما ويمسهما مساساً رفيقاً في شتى حديثه ، ويتعرض لهما ، لأدنى ملابسه بينهما وبين الموضوع الذي يعالجه ، وهذا أن دل فإنما يدل على أنه كان من العلماء الذين أسهموا بشكل فعال في نشر السنة وإحياء ما اندرس منها ، فضلاً عن محاربة أهل البدع والإنكار عليهم ، ورد شبههم ودحض مزاعمهم الباطلة .
كان - رحمة الله - في جل مناظرته ينفى عن السنة ما عراها من غيرة كما ينفى عنها تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ، ولعل محاضرته القيمة " شبهات حول السنة" أصدق دليل على ما ذكرته ، فقد أوضح فيها موقف المسلم الداعية من خصوم السنة المنكرين لها قائلاً :
المسلم الداعية أو المناظر الذي يثبت حجية السنة ، والذي يدفع الشبه عنها يختلف موقفه باختلاف خصمه أو من يناظره ، فتارة يكون منكراً للسنة من أضلها ، وينكر جميع ما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الأحاديث قولاً وعملاً أو خلقاً ، ينكره ويكتفى بما جاء في القرآن الكريم ، موقفه مع هؤلاء أن يثبت لهم حاجة المسلمين في فهمهم للقرآن ، وعملهم بالقرآن ، أن يثبت حاجتهم في ذلك ، إلي السنة التى جاء بها النبى ( قولاً وعملاً وصفة ، فإذا احتج علينا بالقرآن فقال : إن الله تعالى أغنانا بالقرآن لقوله فيه : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).(3/55)
فالقرآن بين واضح ومبين لكل شيء فلا يحتاج معه إلي سنة ، فلماذا نتكلف البحث فيها والركون إليها أو الاحتجاج لها ، لماذا نتكلف هذا مع أن الله تكفل لنا ببيان كل ما نحتاج إليه في محكم كتابه لقوله ونزلنا عليك الكتاب " وهو القرآن " تبياناً لكل شيء وهدى ورحم وبشري للمسلمين فلا حاجة إلي أن نكلف أنفسنا عناء البحث في سنة رسول الله (…لنعمل بما فيها لغنانا بالقرآن عنها ويقول سبحانه في آية أخرى : (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ). ويريدون بالكتاب القرآن ، فيكون المعنى ما فرطنا في القرآن من شيء ففى القرآن كل شيء فلا حاجة غلي السنة ، وهذا إنكار للسنة بجملتها أو إنكار للحاجة إليها وإلي الاحتجاج بها بالجملة ، اكتفاء بما جاء في القرآن بهاتين الآيتين ، وقد أجاب العلماء عن الاستدلال بهاتين الآيتين بأجوبة منها :
أن المراد بقوله تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) المراد به اللوح المحفوظ ، والسورة مكية ولم يكن نزل من القرآن إلا قليل ، سورة البقرة مدنية ، براءة مدنية ، النساء مدنية ، آل عمران مدنية ، كثير من آيات الأحكام والفروع ، كثير منها مدنى ، وما يتصل بالصلاة إنما وضح وتبين وتكامل فى المدينة.(3/56)
وأحكام المعاملات إنما نزلت في القرآن بالمدينة ، نزلت أصولها في القرآن ، بعد الهجرة ، وأحكام الجنايات من قصاص وديات نزلت في المدينة ، والسورة ، سورة الأنعام كلها مكية على الصحيح أنها جميعاً مكية ، قد يكون منها آيات مكية تشبه الآيات المدنية كآيات الذبح وذكر الله على الذبائح ، قد يكون مثل هذا نزل بالمدينة ، لكن الغالب عليها أنها مكية ، فكيف يكون في الكتاب الذي هو القرآن بيان كل شيء في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآية ، مع أن تلكم الأحكام إنما نزلت أصولها المدينة لا في مكة. ثم عدد الصلوات وتحديد أوقاتها ، وعدد ركعاتها ن وسائر كيفياتها لم تعرف من القرآن ، إنما عرفت من السنة.
وأحكام الزكاة من جهة النصاب ومن جهة المستحقين لم تكن عرفت في مكة ، ل لم تكن فريضة الزكاة شرعت في مكة إنما الذي شرع الصدقات العامة ، وفرض الزكاة وجبايتها إنما كان في المدينة وبيان المستحقين للزكاة إنما نزل في المدينة في سورة التوبة (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ) إلي آخر الآية التى فيها الأصناف الثمانية ثم النصاب ، نصاب الزكاة ليس محدداً في القرآن وكذا شرطها وهو حلول الحول ليس محدداً في القرآن ولا مبيناً فيه ، فالواقع يدل على أن القرآن اشتمل على الأصول العامة ، وأنه لم يكن فيه كل شيء فتفسير الكتاب بالقرآن في آية ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ) تفسير غير صحيح ، إنما المراد به اللوح المحفوظ الذي أمر الله تعالى القلم أن يكتب فيه ما كان وما هو كائن إلي يوم القيامة.(3/57)
أما الآية الأخرى وهى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) فيقال فيها مثل ما قيل في الأولى ، المراد بالكتاب القرآن ، ولكن سورة النحل التى نزلت فيها هذه الآية أو هذه الجملة سورة مكية ، النحل من السور المكية ، ولم يكن نزل التشريع كله في مكة ، إنما نزلت أصول التوحيد ، وما يتصل بمعجزات الرسول صلي الله عليه وسلم ، إنما نزلت أصول هذا وهذا في مكة وأما الفروع فقد نزلت في المدينة ، فكيف يقال ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ).
فالمراد الكتاب في هذه الآية من سورة النحل القرآن ، لكن ليس المراد ببيانه لكل شيء بيان لجميع أحكام الفروع ، إنما هو مثل الآية التى قال الله فيها : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ) إخباراً عن الريح التى أرسلها الله جل شأنه على عاد قوم هود أرسل عليهم ريحاً وقال : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ). وهى إنما دمرت قوم هود ، دمرت عاد ، ودمرت ديارهم ، فالأمارات الحسية أو الأدلة الحسية ، وواقع الهالكين الذين هلكوا وتحدث الله عنهم في القرآن يدل على أن المراد بالآية الخصوص لا العموم.(3/58)
كذلكم قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ ) إلي آخر الآية هي مما أريد بها الخصوص وإلا ففي أي أية من الآيات بيان عدد الصلوات ، أو بيان تفاصيل الزكوات ، أو بيان الحج إلى بيت الله الحرام ، بأصله وتفاصيله ، لم يكن ضرع في هذا الوقت ، إنما شرع فى المدينة في السنة التاسعة أو السنة العاشرة على الخلاف بين العلماء ، وما كان من حج قبل ذلك ، فهو على الطريقة الموروثة عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لما بنى البيت هو وابنه إسماعيل وأمره الله أن يؤذن في الناس ، كان الحج مشروعاً وممتداً شرعه من أيام رسالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلي أيام العرب في زمن النبى ( وبعد زمنه ، أما فرضه في شريعة محمد (… فقد نزل من آيات سورة آل عمران ، وهذا لم ينزل في مكة إنما نزل في السنة التاسعة من الهجرة أو في السنة العاشرة التى حج فيها رسول الله ( .
فكيف يقال تبياناً لكل شيء وهو لم يتبين فيه أصل فرضية الحج ولا تفاصيل الحج ولا تفاصيل الصيام ، والصيام أيضاً فرض في المدينة بعد الهجرة بسنة ، اين الجهاد وتفاصيله ، الجهاد بالسلام أين هو وتفاصيله ، البيوع أين هى وتفاصيلها وأين تحريم الربا وهو لم ينزل إلا في المدينة ، فالآية إما أن يقال فيها أنها من العام الذي أريد به الخصوص ، وإما أن يقال تبياناً لكل شيء أوجبه على المسلمين وهم في مكة لأن السورة مكية بيان لكل شيء مما أوجبه عليهم وشرعه لهم ، لا أنها بيان لكل حكم من أحكام الإسلام .(3/59)
فهؤلاء الذين أنكروا السنة جملة أو قالوا : لا حاجة إليها جملة أكتفاء بالقرآن واستدلالاً بهاتين الآيتين قد أخطأوا الطريق ، ولم يعرفوا تاريخ التنزيل ، ولم يعرفوا واقع التشريع وأن بيان ما في القرآن من العبادات والمعاملات ، واقعة في السنة ، ثم أين تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، والمرآة وخالتها ، أين تحريم زواج الإنسان بامرأة أبيه ، إنما كان هذا في المدينة ، تفاصيل الأحوال الشخصية من وقف ومواريث وهبات ووصايا ونكاح وطلاق ، تفاصيل هذا كله إنما كان بالمدينة ، في الآيات التى نزلت في المدينة وبينها الرسول ( في سنته.
فواقع التشريع وعمل المسلمين جميعاً ، برهان واضح يدل ضروة أو دلالة ضرورية على أن السنة جاءت بياناً للقرآن ، بين في مكة ما يحتاجون إليه بقدر ما نزل من أحكام أصول التشريع ، وبين في المدينة ما طرأت الحاجة إليه من بيوع وغيرها من المعاملات والجنايات والحدود ، كل هذا ما نزلت آياته إلا بالمدينة ، ولا بين الرسول ( تفصيله قولاً وعملاً إلا بالمدينة عليه الصلاة والسلام . فالاستدلال بالآيتين استدلال مرود ولا يقال الدليل مردود .
قلت ابتداءاً إن موقف الداعية من المدعوين يختلف لاختلاف حالهم ، فمن أنكر الاحتجاج بالسنة جملة اكتفاء بكتاب الله احتج بالآيتين والردعليه كما علمتم.(3/60)
موقف آخر يكون لبعض الناس من المسلمين ، يرد بعض الأحاديث ، إما بالنسبة لمعارضتها لفكرة فيما يزعم ، أو لمعارضتها لما يرونه أن الطب جاء به ، أن الطب قرر قراراً صحياً في أمور لا يليق أن يأتي على خلافها حدي عن الرسول ( ، فأمثال هؤلاء يردون أحاديث إما لمعارضتها لعقولهم ، وإما لمعارضتها لقواعد صحية مثلاً. كحديث الذباب والأمر بغمسه إذا سقط في الطعام ، أو في الشراب ، الأمر بغمسه بالشراب يرده جماعة ممن اقتنعوا بالطب وبالنظريات الطبية ، وقدسوا النظريات الطبية ووثقوا بعقول الأطباء وبتجارب الأطباء أعظم وأقوى من ثقتهم بتشريع الله ، وبما صح عن رسول الله ( حسنوا ظنهم بالنظريات الطبية أكثر من تحسين ظنهم بما ثبت عن رسول الله (س أو تخصيص لوظيفته ومهمته ، يقولون إن وظيفته تشريع صلاة وصيام وكذا ، وليس له دراية بالطب ، ما الذي يدخله في الطب ، هو له دائرة محدودة يجول فيها هى دائرة التشريع منس صلاة وصيام وبيع وشراء وأمثال 1لك ، فما الذي يدخله في هذا ، هذا ليس من اختصاصه فالعمل فيه إنما يكون على النظريات الطبية ، لا على ما جاء عن الرسول (
إن الفن ليس مقاله ولا هو اختصاصه وإما أن يكون ردهم لهذا الحديث من جهة أخرى هى طعنهم في الرواة رووا هذا الحديث ، أما من الجهة الأولى فالرسول ( بين لهم العلة . قال ك أن في أحد جناحية داء وفي الأخر شفاء ، وتعليله هذا وهو أمى لم يدخل مدارس طب ولم يتفنن بتجارب قام بها ، دليل على أنه إنما تكلم بهذا عن طريق الوحى من الله جل شأنه ، والله سبحانه عليم بخواص مخلوقاته فهو عليم بجناح الذباب وما فيه من داء وما فيه من دواء، وأن هذا يكون علاجاً لهذا.(3/61)
ومعروف في الذباب وفي كل طائر أنه إذا هبط من أعلى إلي أسفل أنه يهبط بميل حتى الطائرات لا تنزل الطائرة رأسية ، لا بد أن تنزل مائلة إلا أن كانت طائرات خاصة إنما الطائرات العادية المعروفة تنزل هكذا ، ثم إذا أرادت أن تنزل للجنب الثاني لابد ان تميل هكذا ، هذا النظام الدولى. والطيور إذا نزلت بجناح كذا ، وإذا أرادت أن تصف وتقف شفي الجو تنصب الجناحين إلي الجانبين كذا.
فالقصد ان الذباب كسائر الطيور إذا نزل بالجناح ، فإذا غمسته كان جناحه الثاني وما فيه من شفاء علاجاً لما أصاب الشراب أو الطعام من الداء الذي نزل في الطعام من الجناح الآخر. فهذا التعليل دليل على أن تعليله بهذا ليس تخميناً من عند نفسه ودخولا فيما لا يخصه ، إنما هو بوحى من الله جل شأنه ، والله عليم بمخلوقاته وما فيها من خواص ، فالرسول ( إليه البلاغ عن الله ، وقد بلغ هذا عن ربه.
ويجب على الإنسان أني يثق بوحى الله جل شأنه أعظم من ثقته بنظريات الأطباء ، ثم هم لم يتفقوا ، الأطباء لم يتفقوا على ما بنى عليه هؤلاء المعترضون على هذا الحديث ، هم مختلفون أيضاً فيما بينهم والمسألة مسالة نظرية اجتهادية للأطباء ، فكيف يرد بمسألة نظرية اجتهادية ما زالت تحت البحث ، يرد بها حديث رسول الله ( .(3/62)
وأما من جهة السند ، فالسند على طريقة المحدثين سند صحيح متوف للشروط التى اشترطها علماء الحديث ، والناس الذين اعترضوا على هذا الحديث من جهة رجاله ليس عندهم سند يستندون إليه في ذلك ، وهم في معاملتهم وقبولهم للأخبار التى تصل إليهم يعتقدون يقيناً أو يظنون ظناً غالباً بما وصلهم من الأخبار ، يعتقدون ما دلت عليه فيلزمهم أن يقبلوا ما جاء عن رواة هذا الحديث لأنهم أوثق وأضبط وأعدل من الرواة الذين يروون لهم أخباراً في سفر فلان وفى إدانة فلان ، وفي شهادة الشهود في قضية يقبلون ذلك من اقل من هؤلاء الذين رووا عن رسول الله ( هذا الحديث. قلت : إن طعنهم غما ان يكون في الرسول ( من جهة أن هذا ليس من اختصاصه ، وانه أخبر بشيء يخطئ فيه ويصيب ، وبينت الجواب عنه بأن تعليله يشعر بأنه إنما جاء به من عند الله جل شأنه.
الناحية الثانية : الطعن من جهة الرواة ، والرواة قلت : إنهم أوثق وأعدل واضبط من أولئك الذين يقبلون أخبارهم العادية ويقبلون في البيع والشراء ، والسفر والحضر ، وفي الشهادات في القضايا. يقبلون أخباراً أقل من خبر هؤلاء الذين رووا هذا الحديث ، الذين يروون بعد الأحاديث قد يرونها لأنها لا تتفق مع أفكارهم ومداركهم ن فإما أنم يردوها ويكذبوها ويقولون : خالفت صريح العقل إن لم يمكنهم أن يؤولوها ، وإما أن يتأولوها على خلاف ما دلت عليه مع كثرتها ، وهذا أيضاً وضع غير سليم واعتراض غير سليم ، فإن عقلهم يعتريه الخطأ والصواب .(3/63)
والوحى الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام وثبت عنهم جاء عن الصادق الأمين بوحى من ربه وهو لا ينطق ن الهوى فيجب على الإنسان أن يتهم عقله وتفكيره بدلاً من أن يتهم رسوله أو الرواة العدول أو أن يتهم ربه في وحيه ، وليثق بربه وبرسوله ( أكثر من ثقته بتفكيره ، فإن العقل قاصر وجرب عليه الخطأ كثيراً ومداه محدود وما يجهله أكثر مما يعلمه ، فعليه أن يعتقد في تفكيره القصور ، وأن يعتقد في وحى الله الكمال والصدق ، وأن يعتقد في الرواة الذين استوفوا شروط النقل المضبوط المعروفة عند المحدثين ، عليه أن يثق بهؤلاء أكثر من ثقته بتفكيره.
هذا جواب عمن ينكر الحديث لمعارضته لتفكيره ، فيقال اتهم عقلك بالقصور فإن ما يعلمه اقل مما يجهلة ، أتهم عقلك بالخطأ وبالجهل في تفكيره ، لأنك كثيراً ما أخطأت وجرب عليك هذا ، أما هؤلاء العدول الضباط الذين استوفوا النقل ، نقل الأحاديث فهؤلاء يندر فيهم أن يخطئ أحدهم ، خطوة إلي جانب صوابه قليل جداً ونادر ، والذين يتأولون نصوص الأحاديث ويحملونها على ظاهرها ن هم يسلكون أيضاً هذا المسلك في كتاب اله جل شانه فيتأولون كثيراً من نصوص آيات الأسماء ومن نصوص الرؤية.
نصوص الرؤية في القرآن : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ).س (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) . آيات الأسماء والصفات ، أحاديث عذاب القبر ونعيم القبر وسؤال القبر ، عذاب الأبدان ، تعذيب الأبدان ، ويحملون العذاب على عذاب الأرواح ، ويحملونه على ضعف الأرواح ، ينكرون عروج الرسول ( ببدنه إلى السماء وإسرائه من مكة إلي بين المقدس ببدنه ، ويقولون هذا إسراء بالروح ، وعروج بالروح ، تحكيماً للسنن الكونية ، والعادات المألوفة في الخلق ، فإن الإنسان لا يسر تلك المسافة في جزء ليلة ، ولا يعرج إلى السماء السابعة في جزء ليلة ولا ينظرون إلي أن الأنبياء جاءوا بخوارق العادات.(3/64)
فخوارق العادات بالنظر للأنبياء والمعجزات للأنبياء والمعجزات الكونية التى خص الله بها الأنبياء هذه تعتبر عادية بالنظر لخصوص الأنبياء وإن كانت خارقة للعادة ، وغير مألوفة بالنظر لغير الأنبياء ، فلماذا نقيس الأنبياء فيما أوتوا من الله على الأفراد العاديين هذا قياس باطل ، على فرض أن القياس في نفسه صحيح وقامت عليه الأدلة وثبتت حجيته على فرض هذا فهذا قياس باطل ، لا يصح الاحتجاج به ، لأن الأنبياء يختلفون عن غيرهم في جريان خوارق العادات على أيديهم معجزة لهم ، ثم الإسراء قد ثبت في القرآن وجاء به ، فتأويلهم لا يكون تأويلاً لحديث الإسراء غنما هو تأويل أيضاً للقرآن ، القرآن جاء فيه (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ). إن النصارى يعتقدون في عيسي أنه يحيى الموتى بإذن الله ، وأنه يبريء الأكمة الذي ولد أعمى بإذن الله ، وانه يصور طيراً فينفخ فيه فيكون طيراً يمر بإذن الله ، وأنه يبريء الأبرص بإذن الله وليس بطريقة علاج وما فتح مستشفي ، إنما هو خوارق عادات . وكذلكم اليهود يؤمنون بخوارقس العادات ، فما الذي جعل خوارق العادات بالنظر لموسى بانفلاق البحر ونجاة موسى ومن معه إلي الشاطئ الآخر وجعل الممر يبسا إثنا عشر طريقاً يمرون فيها في هذه الممرات دون أن يغرقوا والماء متماسك بدون حواجز ، ما وضعت صبات من الأسمنت ، ثم هذا سلب لخاصية الماء معجزة لموسى وإكراماً له ولمن معه ، حيث انجاهم بإذنه سبحانه وتعالى ثم ما جعله نجاة لموسى ومن معه ، جعله نفسه دماراً وهلاكاً لخصومه وأعدائه الكفار من اليهود والنصارى وهم يعترفون بخوارق العادات وبهذه المعجزات.(3/65)
العرب يؤمنون بإبراهيم عليه السلام وبأن الله نجاه من النار ، القي في النار فنجاه الله نها فما الذي يجعلهم يؤمنون بسلب الله خاصة النار حتى تكون برداً وسلاماً على إبراهيم ولا يؤمنون بالإسراء بمحمد ( من مكة إلي بيت المقدس ثم العروج به إلي السماء السابعة ، يذكرون شبهاً في هذا أيضاً في عروجه وفى إسرائه يقولون هذه السرعة إلي هذا الحد تحرق البدن ، يعنى الاحتكاك بين بدنه وبين الهواء الذي في الجو الطبقات المحيطة به ، هذا الاحتكاك يولد ناراً فيحترق ، كذلك الصعود بهذه السرعة يولد ناراً فيحترق ، شيء آخر إذا صعد هؤلاء إلي أعلى حتى إذا لم يكن هناك هواء ينفجر ويتمزق ، لأن الضغط الخارجى على جلده وعلى جسمه من جميع الجهات بالهواء ، فينفجر حيث يوجد ضغط في الخارج وضغط في الداخل فيخرج الدم. يقولون في الطبقات التى لا هواء فيها كيف يتنفس ؟
الذين يصعدون في هذه الأيام ويريدون القمر ، يأخذون لنفسهم هواء ، ويأخذون وقايات من هنا ومن هناك. العرب ما كان عندهم هذا الاختراع فكيف صعد هؤلاء إلي أعلى ، كذلك الرسول ( كيف صعد وتغلب على الجاذبية الأرضية ، وكيف لم يسقط على الجاذبية التى فوق جاذبية الكواكب ( المجموعات الشمسية وأمثالها) كان يهلك ، كيف خلص من الجاذبية الأرضية ولا أجنحة له ، ولا طيارة ركبها ، إنما هو " براق " وأولئك ما يعرفون البراق الذي ركبه صعد وعاكس الجاذبية الأرضية ، وكيف تماسك ولم يسقط على سطح الكواكب السماوية. حينما وقع في دائرة جاذبيتها ، فهذه شبه يوردونها على الإسراء ويوردونها أيضاً على المعراج .(3/66)
وقد الف بعض أهل السنة في هذا تأليفاً يرد به على أولئك منهم الشيخ محمد عبد الحليم الرمالى له رسالة صغيرة في الإسراء والمعراج ذكر فيها جميع الشبه التى ترد على الإسراء والمعراج إن كانت في الحديث أو كانت منة جهة السنن الكونية ، والرد أمر واحد هو أن خوارق العادات بالنظر للأنبياء سنن عادية تشبه السنن العادية بالنظر لسائر الخلق ، فهم في معجزاتهم يسيرون في طريق كونى عادى بالنظر لهم ، كما أن الناس يسيرون على سطح الأرض سيراً عادياً ، وكما أن الطيور ترتفع إلي اعلي بأجنحتها ارتفاعاً وصعوداًَ عادياً ، فالرد كما ذكرت شيء واحد ، هو أن هذا من خوارق العادات والمعجزات التى أجراها الله جل شأنه على يد رسوله ( .
والخلاصة أن الذين يعترضون على الأحاديث أو على بعض الأحاديث ، يؤمنون بما تواتر من الأحاديث لفظاً ومعنى وهو عدد قليل من الأحاديث كحديث ط من كذب على متعمداً فليتوبوا مقعده من النار " أو الأحاديث المتواترة معنى كأحاديث رؤية الله تعالى وأحاديث المسح على الخفين ، وأحاديث عذاب القبر ونعيم القبر. يؤمنون بمثل هذا إما لمجيئه في القرآن ، وإما لتواتره في السنة ، وإما لوجوده في الاثنين جميعاً ، لكنهم لا يؤمنون بأحاديث الآحاد ، وذلك لأنهم يرون أنها لا تفيد إلا ظناً قد يكون ظناً غير غالب ، فيردون أمثال هذه الأحاديث ولا يحتجون بها أصلاً أو يحتجون بها في الفروع دون الأصول.(3/67)
أما شبهتهم في رد أحاديث الآحاد فهم يقولون إن الراوى يخطئ ويصيب ، وإن الراوى قد يكون عدلاً فما يظهر وهو كذاب أو منافق في باطن أمره ، ويقولون إن عمر بن الخطاب رد على أبي موسى الأشعرى قوله في السلام في الاستئذان وأن الإنسان إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف وقد استئذان على عمر بن الخطاب رد على أبي موسى الأشعرى قوله في السلام ف الاستئذان وأن الإنسان إذا استأذن ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف وقد استئذان على عمر بن الخطاب وهو مشغول بشغله في بيته الله أعلم به ، سلم عند الباب سلام الاستئذان ، فلم يسمعه عمر فما أجابه ثم سلم فما أجابه أحد ولا آذن له أحد ثم سلم فما أذن له أحد انصرف بعد أن انتبه عمر بن الخطاب أو خلص من شغله الذي شغل باله ولم يمكنه من الإذن أو إجابةس من سلم عليه. قال كأنى كذا يعنى أسمع منادياً يستأذن أو مسلماً يسلم فطلب من سلم فإذا به أبو موسى فقال له : ما الذي منعك أن تدخل ، ما الذي جعلك تنصرف فذكر له الحديث " : إذا استئذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف".(3/68)
وهذا يؤيده القرآن في الجملة. وليس فيه تحديد للعدد ، لكن أصل الانصراف موجود في سورة النور ، وربنا قال في الانصراف (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ) الانصراف أزكى لكم ، لم يحدد العدد فعمر بن الخطاب قال لأبي موسى غما أن تأتينى بشاهد يشهد معك بأن الرسول ( قال هذا ، وإما أن أفعل بك وأفعل ، يعنى هدده ، قال موسى أنا كذا ، ولم ستجب له وقط في يده وتعب وقال ماذا أفعل ، ذهب إلى مجلس الأنصار وأخبرهم الخبر ، فصدقوه ، صدقوه في هذا الحديث فقال : ليذهب معك أحدكم فقالوا له : لا يذهب معك إلا أصغرنا فذهب أبو سعيد الخدرى وكان أصغر الجالسين وشهد معه عند عمر بن الخطاب بأن رسول الله (… قال هذا الحديث فقبل منه الحديث وأعفاه مما نهدده به. فيقولون عن هذا عمر بن الخطاب اتهم صحابياً روى له حديثاً ، فهذا مما يدل على أن راوية الواحد لا تقبل وأنه مصار تهمة فلا تعمل به حتى يتأيد بغيره.
هذا وأمثاله مما ورد عن الصحابة يرد عليه بأمرين الأمر الأول : أن عمر بن الخطاب لم يكذبه إنما أراد أن يثبت من جهة وإلي جانب التثبت أمر آخر ، خاف أن يجترئ الناس على سنة رسول الله ( فأظهر لهم القوة حتى يحتاطوا لأنفسهم عند البلاغ فلا يبلغ إلا وهو واثق مما تكلم به ، هذا جانب ، بدليل أنه قبل خبر الواحد في مواضع اخرى : قيل خبر الواحد في إملاص المرأة.(3/69)
ثم الرسول عليه الصلاة والسلام قد اعتمد خبر الواحد فكان يرسل رسولاً واحداً بكتابه ، وما أدرى أولئك بأن هذا صادق في أن هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهم ما عندهم بصمة ولا عندهم صورة لخاتمة ، ما الذي يدربهم بأن دحية الكلبي رسول رسول الله ( وكيف لزمهم البلاغ ، وكيف أصيب كسرى بعذاب من عند الله حينما مزق الكتاب ، كيف لزمتهم الحجة فالرسول ( لم يرسل الواحد إلا وهو يعتقد أن الحجة تقوم به هذا أمر معلوم بالضرورة من إرسال الرسول ( أفراداً إلي جهات لنشر الدعوة وإقامة الحجة ن وقد أرسل معاذ بن جبل ليقضي ويكون أميراً في اليمن ، وأرسل علياً ، وأرسل أبا موسى الأشعري .
القصد أن الإرسال الواحد من الرسول ( قد تكرر مرات ، وهو لا يرسله إلا إذا كان يعتقد أن الحجة تقوم به ، وأن خبره يجب أن يصدق ، والمهم فيه أن يتخبره عدلاً أميناً ضابطاً لما يبلغه من الخبر وأنه يقوى على البلاغ. عنده لسان يقوى به على البلاغ ، المهم أن يتخبره ، وليس من المهم أن يكون عدداً ، بدلل أنه أرسل فرداً فرداً إلي دول لا إلي أفراد ، في أصل الدين وهو العقيدة ليس في الفروع فقط إنما في أصل الدين ، فهذا بيان من النبي ( يحتج به على قبول خبر الواحد ضد هؤلاء الذين يتهمون الراوى إذا كان واحداً عدلاً ضابطاً مع اتصال الإسناد ، ومع عدم مخالفة من هو أوثق منه ، ومع عدم الوقوف على علة قادحة يرد بها الحديث.
هذا العمل من الرسول ( يرد عليهم وعمر بن الخطاب نفسه كان يقبل خبر الواحد قبله مرات فلماذا يتمسكون بهذه القصة ولا يتمسكون بغيرها وغيرها أكثر منها هذا رد عليهم .(3/70)
جهة أخرى في عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمر بن الخطاب كان عنده قوة في التثبت وكان يجتهد ويستوثق أكثر لا لأنه متهم لمن استوثق في خبره ويدلكم على هذا أنه في حادث التحقيق مع سعد بن أبي وقاص لما كان أميراً جهة العراق أميراً قاضياً قائداً للسرية إماماً في الصلاة خطيباً في الجمعة اشتكاه رجل من أولئك الجماعة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكتب إليه وثيقة كتاباً يقول فيه إنه لا يخرج بالسرية ولا يعدل في القضية ولا يقسم بالسوية ولا يحسن الصلاة لا يحسن يصلي ، فأرسل شخصاً يحقق في الموضوع مع وثوقه من سعد بن أبي وقاص لكنه ما يريد الفتن ولا القلاقل فأراد أن يستوثق أكثر فأرسل من يحقق .
وفعلاً حقق ودخل المساجد ومر على أناس هنا وهناك فكلهم يثنون خيراً على سعد بن ؟أبي وقاص إلا المكان الذي فيه بؤرة الفساد الرجل الذي بلغ سأله الرسول فانتظر له هذا الرجل فحكى نفس الكلمة وسعد يسمع فقال : اللهم إن كان كاذباً فأطل عمره وأدم فقره ، وأكثر عياله وعرضه للفتن . أربع دعوات نظير أربع تهم وجهها الرجل إلى سعد بن أبي وقاص فطال عمر هذا الرجل وكثر عياله ودام فقره وكبر في السن حتى صار وهو يمشي في الطريق ينظر للنساء بعين خائنة وقد سقط حاجبه فيقال له : ما لك وقد شبت فيقول مسكين أصابتني دعوة سعد .(3/71)
أقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما استخلف ستة عندما طعن وأيس من أن يبقى وقالوا له : استخلف ؟ فقال : لا أحملكم حياً وميتاً ولما ألحوا عليه استخلف ستة ليختاروا من بينهم خليفة يعني استجاب لهم في الجملة ثم جعل من الستة سعداً ثم قال : اعملوا أني لم أعزله عن شك فيه ولا اتهام له يريد أن يطفئ فتنة وأن يسد أبواب فساد وليس سوء ظن بسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول هذا سعد أنا لم أعزله لعدم ثقتي به وبرأيه فإن أصابته الخلافة فالحمد لله . وإن لم تصبه خلافة فليستشره من تكون الخلافة إليه . يعني رضي به خليفة وإن لم يعينه لكن باختيارهم إياه .
فهذا يدلكم على اتجاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه . القصد إن هذا جواب في اعتمادهم على طلب عمر من أبي موسى الأشعري أن يأتيه بآخر يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحديث إذا ستأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف .
وأسأل الله أن يوفقني وإياكم لما فيه رضاه وأن يشرح صدورنا للعلم النافع وان يجعل لنا بصيرة في إصابة الحق ، وأن يوفقنا للعمل بما علمنا فإنه مجيب الدعاء .
وفي مقال بعنوان : " وجوب تقديم المنقول على المعقول " يوضح الشيخ -رحمه الله - انه ينبغي على الإنسان ألا يغتر بقوة عقله وسعة تفكيره ويجعل ذلك حكماً على نصوص القرآن والسنة فيقول :(3/72)
ولا يغتر إنسان بما آتاه الله من قوة في العقل وسعة في التفكير وبسطة في العلم فيجعل عقله أصلاً ونصوص الكتاب والسنة الثابتة فرعاً فما وافق منهما عقله قبله واتخذه ديناً وما خالفه منهما لوى به لسانه وحرفه عن موضعه وأوله على غير تأويله إن لم يسعه إنكاره وإلا رده ما وجد في ظنه إلى ذلك سبيلاً ثقة بعقله واطمئناناً إلى القواعد التي أصلها بتفكيره واتهاماً لرسول الله ( أو تحديد مهمة رسالته وتضيق دائرة ما يجب اتباعه فيه واتهاماً لثقاة الأمة وعدولها وأئمة العلم وأهل الأمانة الذين نقلوا إلينا نصوص الشريعة ووصلت إلينا عن طريقهم إلى تفويض دعائم الشريعة المفضية إلى القضاء على أصولها إذ طبائع الناس مختلفة واستعدادهم الفكري متفاوت وعقولهم متباينة وقد تتسلط عليهم الأهواء ويشوب تفكيرهم الأغراض فلا يكادون يتفقون على شئ اللهم إلا ما كان من الحسيات أو الضروريات .
فأي عقل من العقول يجعل أصلاً يحكم في نصوص الشريعة فترد أو تنزل على مقتضاه فهماً وتأويلاً أعقل الخوارج في الخروج على الولاة ، وإشاعة الفوضى وإباحة الدماء ؟ ام عقل الجهمية في تأويل نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها ؟ أم عقل المعتزلة ومن نصوص الأسماء والصفات وتحريفها عن موضعها ؟ ام عقل المعتزلة ومن وافقهم في تأويل نصوص أسماء الله وصفاته ونصوص القضاء والقدر وإنكار رؤية المؤمنين أين ربهم يوم القيامة ؟ أم عقل الغلاة في إثبات الأسماء والصفات والغلاة في سلب المكلفين المشيئة والقدرة على الأعمال ؟ أو عقل من قالوا بوحدة الوجود ......الخ .(3/73)
ولقد أحسن العلامة أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - رحمه الله - إذ يقول " المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين في هذا الباب في أمر مريج ، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وانه مضطر فيها إلى التأويل ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول إن العقل أحاد ذلك فاضطر إلى التأويل بل من ينكر حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل "
ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله فياليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال : أو كلما جاء رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد ( لجدل هؤلاء ، انتهى .(3/74)
هذا وإن فريقاً ممن قدسوا وخدعتهم أنفسهم واتهموا سنة نبيهم قد أنكروا رفع الله نبيه عيسى بن مريم عليه السلام إلى السماء حياً بدناً وروحاً ونزوله آخر الزمان حكماً عدلاً لا لشئ سوى اتباع ما تشابه من الآيات دون ردها إلى المحكم منها اتباعاً لما ظنوه دليلاً عقلياً وما هو إلا وهم وخيال وردوا ما ثبت من سنة النبي ( نزولاً على ما أصلوه من عند أنفسهم من ان العقائد لا يستدل عليها بأحاديث الآحاد واتهاماً لبعض الصحابة فيما نقلوا من الأحاديث وفي ذلك جرأة منهم على التقاة الأمناء من أهل العلم والعرفان دون حجة أو برهان وتطاولوا على علماء الأحاديث وتناولوا رجال الجرح والتعديل بألسنة حداد جهلاً منهم بما قدموه من خدمة للدين وحفظ الأصل الثاني من أصول الإسلام وهو السنة النبوية وعجزاً منهم عن أن يهضموا ما دون أولئك الأمة الأخيار من كتب في قواعد علوم الحديث ودواوين في تاريخ رواة الحديث وبيان درجاتهم ومراتبهم في الرواية وطبقاتهم ومواليدهم ووفايتهم ولقاء بعضهم بعضاً أو سماعه تمييزاً لمن تقبل روايته ممن ترد روايته وما يقبل من الأحاديث وما يرد وذباً عن السنة النبوية وحفاظاً عليها .
ومع هذا اغتر الناشئة من طلبة العلم بهؤلاء المتهمين للسنة الصحيحة ورواتها المفترين على سلف الأمة وأئمتها وتردد آخرون وتساءلوا بينهم فكتبوا إلى الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء يستفسرون عما أشكل عليهم من ذلك فأجابتهم اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بما يناسب الحال ويقضي حاجة السائلين .
وفيما يلي ذكر ما ورد منهم إلى اللجنة من الأسئلة المتعلقة برفع عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حياً إلى السماء ونزوله آخر الزمان حكماً عدلاً وما أجابت به اللجنة في هذا .
فتوى
عن المسيح عليه السلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه وبعد :(3/75)
فقد أطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على الأسئلة المقدمة من أحد السائلين حول المسيح عليه السلام وأجابت عن كل سؤال منها عقبه :
السؤال الأول : هل عيسى ابن مريم حي أو ميت وما الدليل من الكتاب والسنة ؟
السؤال الثاني : إذا كانت حياً أو ميتاً فأين هو الآن وما الدليل من الكتاب والسنة
الجواب على السؤالين : عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام حي لم يمت حتى الآن ولم يقتله اليهود ولم يصلبوه ، ولكن شبه لهم بل رفعه الله إلى السماء ببدنه وروحه وهو إلى الآن في السماء والدليل على ذلك قوله تعالى في فرية اليهود والرد عليها : )وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً) )بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
فأنكر سبحانه على اليهود أنهم قتلوه او صلبوه وأخبر انه رفعه إليه وقد كان ذلك منه تعالى رحمة به وتكريماً له وليكون آية من آياته التي يؤتيها من يشاء من رسله وما أكثر آيات الله في عيسى ابن مريم عليه السلام أولاً وآخراً ومقتضى الإضراب في قوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ) أن يكون سبحانه وتعالى قد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام بدناً وروحاً حتى يتحقق به الرد على زعم اليهود أنهم صلبوه وقتلوه لأن القتل والصلب إنما يكون للبدن أصالة ولن رفع الروح وحدها لا ينافي دعواهم القتل والصلب فلا يكون رفع الروح وحدها رداً عليهم ولن اسم عيسى عليه السلام حقيقة في الروح والبدن جميعاً فلا ينصرف إلى أحدهما عند الإطلاق إلا بقرينة ولا قرينة هنا ولأن رفع روحه وبدنه جميعاً مقتضى(3/76)
كمال عزة الله وحكمته وتكريمه ونصره من شاء من رسله حسبما قضى به قوله تعالى في ختام الآية : (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) وسيأتي لهذا زيادة بيان وتأكيد في الجواب عن السؤال الثالث إن شاء الله تعالى .
السؤال الثالث والرابع : إذا كان عيسى عليه السلام حياً فهل سينزل آخر الزمان ويحكم بين الناس ويتبع في ذلك دين محمد ( وما الدليل ؟ وبم نرد على من زعم أن عيسى لن يبعث آخر الزمان ولن يحكم بين الناس ؟
الإجابة عن السؤالين : نعم سينزل نبي الله عيسى ابن مريم آخر الزمان ويحكم بين الناس بالعدل متبعاً في ذلك شريعة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام وسيؤمن به اهل الكتاب اليهود والنصارى جميعاً قبل موته بعد أن ينزل آخر الزمان قال الله تعالى : )وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)
فاخبر تعالى بأن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى سوف يؤمنون بعيسى ابن مريم عليه السلام قبل موته - أي موت عيسى - وذلك عند نزوله آخر الزمان حكماً عدلاً داعياً إلى الإسلام كما سيجئ بيانه في الحديث الدال على نزوله .(3/77)
وهذا المعنى هو المتعين فغن الكلام سبق لبيان موقف اليهود من عيسى وصنيعهم معه عليه الصلاة والسلام ولبيان سنة الله في انجائه ورد كيد أعدائه فيتعين رجوع الضميرين المجرورين إلى عيسى عليه السلام رعاية لسياق الكلام وتوحيداً لمرجع الضميرين وثبت في أحاديث كثيرة صحيحة من طرق متعددة بلغت مبلغ التواتر ان الله تعالى رفع عيسى إلى السماء وأنه سينزل آخر الزمان حكماً عدلاً وانه سيقتل المسيح الدجال .. قال ابن تيمية بعد أن ذكر أحاديث رفع عيسى عليه السلام نزوله آخر الزمان من طرق كثيرة : فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله ( من رواية أبي هريرة وابن مسعود وعثمان بن أبي العاص وأبي أمامة والنواس بن سمعان وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم ومنها دلالة على صفة نزوله ومكانه ...الخ .(3/78)
ومن هذه الأحاديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ( قال : " والذي نفسي بيده لويشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض الماء حتى لا يقبله أحد " ..قال أبو هريرة : اقرؤا إن شئتم )وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ )(النساء: من الآية159) وفي رواية عنه أن النبي ( قال : " كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم وإمامكم منكم " .. وثبت في الصحيح أيضاً ان جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع النبي ( يقول : " لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة قال فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام فيقول أميرهم : تعال صل لنا فيقول لا إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله لهذه الأمة " .. فدلت الأحاديث على نزوله آخر الزمان وعلى أنه يحكم بشريعة نبينا محمد ( وعلى أن إمام هذه الأمة في الصلاة وغيرها أيام نزوله من هذه الأمة لا مجال فيها للشك وليس هناك منافاة بين نزوله وبين ختم النبوة بنبينا محمد ( حيث لم يأت عيسى عليه السلام بشريعة جديدة ولله الحكم أولاً وآخراً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه وهو العزيز الحكيم .
السؤال الخامس : بما ان محمداً ( أفضل الأنبياء فلم لم يرفع إلى السماء بدلاً من عيسى إذا كان عيسى رفع إليها حقيقة ؟ ولماذا اختص عيسى بالرفع دون سائر الأنبياء ؟ علل ودلل ؟(3/79)
الإجابة : إن الله تعالى وسع كل شئ رحمة وعلماً وأحاط بكل شئ قوة وقهراً سبحانه له الحكمة البالغة والإرادة النافذة والقدرة الشاملة اصطفى من شاء من الناس أنبياء ورسلاً مبشرين ومنذرين ورفع بعضهم فوق بعض درجات وخص كلا منهم بما شاء حمن المزايا فضلاً منه ورحمة فخص بالخلة خليله إبراهيم ومحمداًً عليهما الصلاة والسلام وخص كل نبي بما أراد من الآيات والمعجزات التي تتناسب مع زمنه وبها تقوم الحجة على قومه حكمة منه وعدلاً لا معقب لحكمه وهو العزيز الحكيم اللطيف الخبير .
وليس كل مزية بمفردها بموجبة للأفضلية فاختصاص عيسى برفعه إلى السماء حياً جار على مقتضى إرادة الله وحكمته وليس ذلك لكونه أفضل من إخوانه المرسلين كإبراهيم ومحمد وموسى ونوح عليهم الصلاة والسلام فإنهم أعطوا من المزايا والآيات ما يقتضى تفضيلهم عليه أو بالجملة فمرجع الأمر في ذلك إلى الله يدبره كما يشاء لا يسأل عما يفعل لكمال علمه وحكمته ثم إنه لا يترتب على السؤال عن ذلك عمل أو تثبيت عقيدة بل ربما أصيب بالحيرة من حام حول ذلك واستولت عليه الريب والشكوك وعلى المؤمن التسليم فيما هو من شئون الله وليجتهد فيما هو من شئون العباد عقيدة وعملاً وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين وطريق الخلفاء الراشدين وسلف الأمة المهديين .
السؤال السادس : لماذا سمي عيسى ابن مريم المسيح ؟
الإجابة : سمي عيسى بن مريم بالمسيح لأنه ما مسح على ذي عاهة إلا برئ بإذن الله وقال بعض السلف : سمي مسيحاً لمسحه الأرض وكثرة سياحته فيها للدعوة إلى الدين .
وعلى هذين القولين يكون المسيح بمعنى ماسح وقيل سمي مسيحاً لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص له وقيل لأنه مسح بالبركة أو طهر من الذنوب فكان مباركاً وعلى هذين القولين يكون مسيح بمعنى ممسوح والأظهر الأول والله أعلم.
وعلى كل حال لا يتعلق بذلك عقيدة ولا عمل فالجدوى في ذلك ضعيفة أو معدومة .(3/80)
مع هذه الأسئلة نصوص يستدل بها القاديانيون على موت عيسى ودفنه . أرجو بيان تلك النصوص وكيف نرد عليهم ؟
الآية الأولى : )مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ )(المائدة: من الآية75)
الجواب : القصد من هذه الآية الرد على من قال : ( إن الله هو المسيح ابن مريم )
ومن قالوا : ) إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة)(المائدة: من الآية73)
ببيان أن عيسى المسيح عليه السلام ليس رباً ولا إلها يعبد بل رسول كرمه الله بالرسالة شأنه شأن ارسل الذين مضوا من قبله أجله محدود لكن لم تبين هذه الآية متى يموت وقد بينت الأدلة الماضية من الكتاب والسنة انه رفع حياً وانه سينزل حكماً عدلاً ثم يموت بعد نزوله آخر الزمان وحكمه بين الناس ثم ذكر تعالى أن عيسى وامه عليهما السلام كانا يأكلان الطعام فدل بذلك على انهما ليسا إلهين مع الله لشدة حاجتهما إلى ما يحفظ عليهما حياتهما من الطعام والله تعالى فرد صمد له الغنى المطلق يحتاج إليه كل ما عداه ولا يحتاج هو إلى حد سواه .
يؤيد أن المراد بالآية ما ذكر سابقها ولاحقها من الآيات فقد سبقها آية : )َقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)(المائدة: من الآية72)
وآية : )لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)(المائدة: من الآية73)
وقد ذكر بعدها النهي عن الغلو في الدين وإنكار عبادة غير الله ولعن من فعل ذلك أو سكت عنه ولم ينكره ويوضح ذلك أيضاً قوله تعالى في سورة الأنعام : )قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ )(الأنعام: من الآية14)(3/81)
الآية الثانية : )وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق)(الفرقان: من الآية20)
الجواب : القصد من الآية الرد على من كفر برسالة محمد ( لزعمه أن الرسول إنما يكون من الملائكة لا من البشر فرد الله عليهم زعمهم ببيان أن سنة الله سبحانه في إرسال الرسل إلى البشر أن يصطفيهم من البشر وأنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق شانهم في ذلك شأن البشر وليس في الآية تحديد لأجل عيسى عليه السلام وقد بينت الآيات الأخرى والأحاديث رفعه حياً ثم نزوله وحكمه بعد نزوله آخر الزمان ثم موته كما تقدم .
الآية الثالثة : )وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ)
جواب : ليس في هذه الآية أي دلالة على موت عيسى عليه السلام حينما تآمر اليهود على قتله وصلبه وإنما فيها الدلالة على أن الأنبياء والمرسلين ومنهم عيسى ليسوا أجساداً لا تأكل بل يأكلون كما يأكل الناس وفيها الحكم بأنهم لا يخلدون في الدنيا وأهل السنة يؤمنون بذلك وأن عيسى كغيره من المرسلين يأتي عليه الموت كغيره إلا أن الكتاب والسنة دلا أن ذلك بالنسبة له لا يكون إلا بعد نزوله من السماء حكماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير كما تقدم .
الآية الرابعة : ) وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)
الجواب : هذه الجملة وإن كانت عامة إلا انها خصصت بالآيات والمعجزات التي اجراها الله على أيدي رسله وكانت حجة لهم على اممهم في إثبات الرسالة كانفلاق البحر لموسى اثنى عشر طريقاً يبساً بضربة عصا وكإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحيائه الموتى بإذن الله إلى غير هذا مما هو كثير معلوم فرفع عيسى حياً وإبقاؤه قروناً ونزوله بعد ذلك مما استثنى من هذا العموم كغيره من خوارق العادات التي هي سنة اله مع رسله ولا غرابة في ذلك .(3/82)
الآية الخامسة : )إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ)
الجواب : هذه الآية تثبت العبودية لعيسى عليه السلام وان الله أنعم عليه بالرسالة وليس ربا ولا إلها وانه آية على كمال قدرة الله ومثل أعلى في الخير يقتدي به ويهتدي بهديه فهي شبيهة في مغزاها بالآية الأولى وليس فيها أي دلالة على تحديد لأجل عيسى عليه السلام وإنما يؤخذ بيان ذلك وتحديده من نصوص أخرى كما تقدم .
الاية السادسة : ) قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )
الجواب جاء في صدر الآية : )لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ)
فكان قوله تعالى : ) قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئا)رداً على زعمهم أن عيسى عليه السلام هو الله ببيان أن عيسى وأمه عبدان ضعيفان كسائر خلق الله لو شاء الله أن يهلكه وأمه ومن في الأرض جميعاً من المخلوقات لفعل ولكنه لم يعمهم بالهلاك بل أجرى فيهم سنته بالإهلاك في مواقيت محدودة اقتضتها حكمته سبحانه وكان من حكمته أنه لم يهلك عيسى عليه السلام حينما تآمر عليه اليهود ولا بعد رفعه وإنما رفعه حياً وأبقاه حياً حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد ( ثم يميته بعد ذلك كما تقدم .
الآية السابعة : )وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)(3/83)
الجواب : حملت مريم بعيسى عليهما السلام بلا أب بل على خلاف السنة الكونية في غيرهما من الآيات البينات الدالات على كمال قدرة الله سبحانه وقد آواهما الله إلى ربوة مكان مرتفع خصيب فيه استقرار وماء معين ظاهر تراه العيون والمراد بذلك بيت المقدس من فلسطين رحمة من الله بهما ونعمة من الله عليهما وكان ذلك في فلسطين لا في بلد من بلاد باكستان وكان ذلك قبل ميلاد نبينا محمد ( بأكثر من خمسمائة عام لا بعد هجرة نبينا محمد ( بأكثر من اثنى عشر قرناً فمن حمل الربوة على مكان بباكستان أو تاول ابن مريم على غلاف أحمد فقد حرف الآية وافترى على الله كذباً وخرج عن واقع التاريخ .
الآية الثامن : )إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا)
الجواب : استدلال القاديانيين بهذه الآية على موت عيسى عليه السلام فيما مضى مبني على تفسير المتوفي بالإماتة وهو مخالف لما صح عن السلف فيما من تفسيره بقبض الله رسوله عيسى عليه السلام من الأرض ورفعه إليه حياً وتخليصه بذلك من الذين كفروا جميعاً بين نصوص الكتاب والسنة الصحيحة الدالة على رفعه حياً وعلى نزوله آخر الزمان وعلى إيمان أهل الكتاب جميعاً وغيرهم به .
أما ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من تفسير التوفي هنا بالأمانة فلم يصح سنده لانقطاعه إذ هو من رواية على بن أبي طلحة عنه وعلى لم يسمع منه ولم يره ولم يصح أيضاً ما روى عن وهب بن منبه اليماني من تفسير التوفي بالإماتة لأنه من رواية محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب ففيه عنعنة ابن اسحاق وهو مدلس وفيه مجهول ثم هذا التفسير لا يزيد عن كونه احتمالاً في معنى التوفي فإنه قد فسر بأن الله قد قبضه من الأرض بدناً وروحاً ورفعه إليه حياً وفسر بأنه أنامه ثم رفعه وبأنه يميته بعد رفعه ونزوله آخر الزمان إذ الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي جمع الأمرين له فقط .(3/84)
وإذا اختلفت الأقوال في معنى الآية وجب المصير إلى القول الذي يوافق ظواهر الأدلة الأخرى جمعاً بين الأدلة ورداً للمتشابه منها إلى المحكم كما هو شأن الراسخين في العلم دون أهل الزيغ الذي يتبعون ما تشابه من التنزيل ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وقانا الله شرهم .
الآية التاسعة : ) وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ )(المائدة: من الآية117)
الجواب : الاستدلال بالآية على موت عيسى عليه السلام قبل رفعه إلى السماء أو بعد رفعه وقبل نزوله آخر الزمان مبني على تفسير التوفي بالإماتة كما سبق في الكلام على الآية الثامنة وقد تقدم أن هذا التفسير غير صحيح وأنه على خلاف ما فسره به السلف جمعاً بين نصوص الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة.
الاية العاشرة : ) وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)(مريم: من الآية31)
الجواب : هذه الكلمة مما حكاه الله سبحانه في القرآن من كلام عيسى عليه السلام في المهد وفيها أنه سبحانه امره بالصلاة والزكاة ما دام حياً وليس فيها تحديد لحياته ولا بيان لوقت مماته وقد بينت ذلك الآيات التي تقدم ذكرها فيجب حمل المجمل على المفصل من النصوص وألا يضرب بعضها ببعض ولا يوقف عند لذي يتشابه فإن جميع ذلك من عند الله يبين بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً .
الآية الحادية عشرة : )وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً) الجواب : هذه كالتي قبلها ، فيها إثبات السلام والمن له من الله في كل احواله وليس فيها تحديد لمدة حياته ولا لوقت موته فيجب الرجوع إلى النصوص الأخرى التي تبين ذلك كما تقدم بيانه 0
الآية الثانية عشرة : )وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)(3/85)
الجواب : هذه الآية سيقت للرد على من عبد غير الله من الملائكة وعزيز وعيسى واللات والعزى ومناة ببيان أنهم لا يخلقون شيئاً ما ولا ذباباً بل هم مخلوقون مربوبون أموات غير أحياء .
لكن الأدلة الأخرى دلت على بقاء عيسى عليه السلام حياً ، حتى ينزل ويحكم بين الناس بشريعة محمد ( ثم يموت .
الآية الثالثة عشرة : )قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (البقرة:136)
الجواب : هذه الآية أمر الله فيها بالإيمان بجميع الأنبياء وما انزل إليهم من ربهم وبين أنه سبحانه لا يفرق بينهم في وجوب الإيمان بهم وما أنزل إليهم من الله وفي هذا رد على اليهود والنصارى الذين قالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا وبيان لما أجمل من الرد عليهم في قوله تعالى لنبيه محمد ( : ) قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(البقرة: من الآية135)
وليس المراد الأمر بعدم التفريق بينهم في الموت والحياة فإن هذا لا يرشد إليه سياق الكلام بل يرشد إلى ما ذكرنا . كما أن ذلك مما لم تدع إليه الرسل فحمل الاية عليه تحريف لها عما سيقت له من المعنى وعلى تقدير حمل قوله تعالى : ) لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُم)(البقرة: من الآية136)
على عمومه حتى يشمل عدم التفريق بينهم في جنس الموت والحياة بدليل الواقع والنصوص فإن ذلك يدل على التفاوت بينهم في كثير من صفات الموت والحياة وانواعها وزمنها ومكانها وطول العمر وقصره إلى غير ذلك فلتكن من حياة عيسى وامتدادها طويلاً ومكانها وموته بعد ذلك مما اختلف فيه عن إخوانه النبيين بدليل النصوص السابقة .(3/86)
الآية الرابعة عشرة : )تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الجواب : القصد من هذه الاية بيان ان كل إنسان مجزي بعمله لا يتجاوزه إلى غير ولا يسأل عنه سواه كما في قوله تعالى : ) كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) وقوله تعالى : ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فعليه أن يسعى جهده في كسب الخير واجتناب الشر وألا يتعلق على غيره فخراً به أو املاً في النجاة من العذاب يوم القيامة بقرابته منه أو صلته به وتعظيمه له في دنياه.
وعيسى عليه السلام وإن دخل في عموم الأمة الماضية إلا أن الأدلة من الكتاب والسنة قد خصصته برفعه إلى السماء وإبقائه حياً ثم إنزاله آخر الزمان إلى آخر ما تقدم بيانه ومن الأصول المعلومة في الشريعة الإسلامية أن النصوص الخاصة يقضي بها على النصوص العامة فتخصها والنصوص التي نحن بصددها من ذلك
الآية الخامسة عشرة : ) وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً)
الآية السادسة عشرة : )وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً)
الجواب ك تقدم الكلام على هاتين الآيتين في الكلام على الآية الأولى والثانية والثالثة والرابعة .
وبالجملة فمل يتعلل يه القاديانيون من الآيات القرآنية لإثبات ما زعموا أن عيسى عليه السلام قد مات ودفن :
1- إما عموميات خصصتها أدلة أخرى من الآيات والأحاديث دلت على رفع عيسى حياً وبقائه كذلك حتى ينزل آخر الزمان ويحكم بشريعة القرآن .
ووقف القاديانيون عند عموم الآيات بعد تخصيصها وذلك باطل لمخالفته للقواعد والأصول الإسلامية .(3/87)
2- وإما آيات مجملة فسرتها نصوص أخرى يجب المصير إليها فوقف القاديانيون عند المجمل يتعللون به لباطلهم دون أن يرجعوا إلى المحكم الذي فسره وهذا شأن من في قلوبهم زيغ ونفاق الذين يتبعون ما تشابه من نصوص الكتاب والسنة ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله على ما يوافق هواهم .
3- وإما كلمات اعتمدوا في تفسيرها على آثار لم يصح نسبتها إلى السلف . وقد قام بيان ذلك عند الكلام على الآية الثامنة . )إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ) ففرح هؤلاء بهذه الآثار لموافقتها لهواهم وموهوا بها على الجمهور ولم ينظروا إلى أسانيدها إما لجهلهم وإما تدليساً وخداعاً وترويجاً لباطلهم وما ذلك إلا لزيغهم ورغبتهم في الفتنة .
قال الله تعالى : )هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) (آل عمران:7)
واله الموفق للصواب وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء .
المبحث الرابع
اهتمامه بكتب العقيدة وتأثره بعلماء السلف
سبق وان وضحت أن الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمه الله - كان موسوعي المعرفة له نفس طلعة لا تمل من القراءة ولا تكل من المعرفة ولم تكن له مكتبة ضخمة كما عند غيره ولكنه كان ينتقي الكتب انتقاء فكان - رحمه الله - حسن الاختيار للكتاب فلا يقتني من الكتب إلا ما كان مفيداً ونافعاً .(3/88)
ولقد كانت له عناية خاصة بكتب العقيدة وبكل الكتب السلفية التي تعني بأمر المعتقد وتوضح عقيدة أهل السنة والجماعة .
ويؤكد هذا احد كبار طلبته وهو فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد المنعم فيقول : كان الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - ينتهز الفرصة بين الحين والحين فيوصى الطلبة بالعناية بكتب السلف والاطلاع عليها والاستفادة من العطلة الصيفية بمواصلة القراءة لاسيما كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى .
ويقول فضيلة الدكتور عبد الله بن حافظ الحكمي : لقد كان - يرحمه الله - واسع العلم بمسائل العقيدة شديد التمسك بمذهب السلف الصالح مع المعرفة التامة بالملل والنحل المختلفة وأصولها التي تصدر عنها عالماً بعوارها ومواطن دحضها لقد كان رحمه الله - شديد الإعجاب بشيخ الإسلام ابن تيمية كثير الرجوع إلى مؤلفاته وكان مما سمعته منه :" لم أر لدى أكثر المؤلفين في العصور المتأخرة جديداً بل تكرار لما ذكره من سبقهم سوى شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فإنك تجد في مؤلفاته الكثير منه ولا يتغير فيه شئ "
ويتحدث فضيلة الدكتور محمد بن لطفي الصباغ عن اهتمام الشيخ بكتب العقيدة وسعة اطلاعه عليها قائلاً : كان - رحمه الله - من كبار علماء التوحيد على مذهب السلف - رحمه الله - واقفاً على كلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وقد استطاع أن يرد ما جاء في شرح الطحاوي وهو مقتبس من كلام ابن تيمية وتلميذه إلى مواضعه من كتبهما وقد تضمنت طبعة المكتب الإسلامي الأخيرة للكتاب هذه الإحالات .(3/89)
قلت : ومما لا شك فيه أن كتب العقيدة السلفية كانت أحب الكتب إلى قلب الشيخ وكانت عنايته بها بالغة ويرجع ذلك إلى زمن بعيد منذ أن كان طالباً بالأزهر فقد حرص على قراءة واقتناء كتب شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم - رحمهام الله تعالى - وقد أخبرني الثقات ممن زاملوا الشيخ أنه كان حريصاً على شراء كتب الشيخين " ابن تيمية وابن القيم " على الرغم من ندرة كتبهما والزهادة والتنفير من قراءة مؤلفاتهما ومما تجدر الإشارة إليه أن أكثر تعليقات الشيخ عبد الرزاق وتصويباته كانت على كتب الشيخين ومن هذه التعليقات النفيسة تعليقه على " العقيدة الحموية " و " العقيدة الواسطية " و " العقيدة الطحاوية " و " الرسالة التدمرية " .. وغيرها .
المبحث الخامس
كفاحه ضد البدع والمنكرات
ان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - صاحب سنة ورجل عقيدة كان يهتم بحماية السنة والقضاء على البدع والإنكار على أهلها وكانت تأخذه الغيرة في ذلك ومع ذلك لم يكن ينتصر لنفسه ولا يزهو على غيره لقد حارب المبتدعة وهو يحمل لواء السنة يزود عن حياضها ويدافع وينافح عنها ويؤكد هذا أحد تلاميذه في مصر قائلاً :
ولقد عاش - رحمه الله - في مصر أياماً اتسع فيها مد الصوفية وراجت أفكارهم التي تزعم في الأنبياء زعماً اقرب إلى زعم النصارى في نبيهم وغالي بعضهم فزعم ان محمداً وربه حقيقة واحدة وفيهم من زعم أنهم خلقوا من نور وإن أجسادهم شفافة شفافية البلور النقي ، وأن .. وأن .. إلى آخر إلي أخر تلك الأباطيل التى باركتها السياسة ، ومكن الاستعمار لأقطابها في الأرض.(3/90)
ولقد تصدى الشيخ - رحمة الله - لمثل هذه النزعات الضالة ، وكان أخشي ما يخشاه أن يفيض المستنقع الصوفي ، ويلوث ما حوله ، ويتسلل إلي خلد بعض تلاميذه الموحدين. رأي بأن الخطر داهم ، وأنه يتفخر من مراكز قوة. وأن فصائل الغرب المستعمر يفسحون لهذه الأفكار ويهشون لها باسم حرية الفكر وباسم الفلسفة الإسلامية.
ومما يدل على فطنة الشيخ عبد الرزاق وإلمامه بواقع الناس وحس معالجته للأمور ما ذكره فضيلة الشيح الدكتور محمد بن لطفى الصباغ قائلاً :
وقد حدثنى رحمة الله - أنه أراد أن يحذر إخوانه في مصر من دجل الدجالين من القصاص والوعاظ الذين يأتون في دروسهم بالأقاصيص الممتعة التى تشد السامعين وتمتعهم وتستحوذ على إعجابهم ولا أصل لها ، والعامة هذا شانهم في أغلب البلاد ، فألقي عليهم درساً ملأه بمثل تلك الأقاصيص الغريبة فأعجبوا بالدرس واستمتعوا ، فلما رأي ذلك بادياً على وجوههم سألهم : ما رأيكم : أهذا الدرس أحسن أم الدروس السابقة ؟ قالوا : بل هذا. إنه درس جميل ممتع. فقال لهم : هذا كله غير صحيح ، وما كنا عليه في دروسنا السابقة هو الصواب.
ويتحدث فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام عن تصدى الشيخ لأهل البدع قائلاً :(3/91)
ولم يكن - رحمة الله - مقتصراً على العلم فقط ، وإنما كان يحرص على العل والعمل وعلى التعليم أيضاً وعلى الدعوة إلي الله سبحانه وتعالى وهو في قريته وبعد التحاقه بالأزهر ، كان - رحمة الله - حريصاً على الدعوة إلي الله مركزاً على ما يحتاج إليه مجتمعه آنذاك ، وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على فقهه لواقعة الذي يعيشه ، فالشيخ - رحمة الله - وجد في عالم يموج في كثير منه بالبعد عن الله عز وجل والوقوع في معتقدات تخالف العقيدة الصحيحة والوقوع فى الشركيات والبدع وعبادة القبور والخرافات ، فكان - رحمة اله - داعية إلي التوحيد وهو في مقاعد التحصيل والعلم والدراسة وكان له في ذلك أسلوب حسن ، ومن أساليبه في ذلك - رحمة الله - أنه كان حريصاً على أن يبنى المساجد وعلى أن يسهم فيها وأن يوجد في كل مكان من قريته مسجد يجتمع فيه الناس ويؤدون فيه شعائر الإسلام ، ولم يك ينظر إلي انه يردي فيه شعائر الإسلام فقط ، وإنما كان يرى أن رسالة المسجد رسالة علم وتعليم ودعوة إلي الله وما المسجد إلا بمثابة قلعة إيمان ، وحسن فضيلة ، ومحلاً للدعوة إلي الله وإشعاع النور في بيئة تموج فيها الخرافة والعقيدة المخالفة لعقيدة أهل السنة رحمهم الله.
قلت : ومما يدل كذلك على علمه بواقع عصره ، وظروف بيئته ووقوفه على طرق المبتدعة ومناهجهم الخبيثة ما حرره بيده موضحاً حقيقة أخل الزيغ والإلحاد والابتداع قائلاً : وقد ورث ذلك الزيغ والإلحاد ، أناس ظهروا في عصور متعاقبة بأسماء مختلفة واشتهروا بألقاب متنوعة . فتارة يسمون بالدهرين ، وأخري برجال الحقيقة ووحدة الوجود ، وأحياناً بالشيوعيين التى اختلفت حروفها ومبانيها ، وائتلفت مقاصدها واتحدت معانيها ، فكلها ترمى إلي غرض واحد ، وتدور حول محور واحد ، هو أنه ليس للعالم رب يخلق ويدبر ، وليس له إله يعبد ويقصد.(3/92)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الشيخ عبد الرزاق كان له القدح المعلى في تخليص قريته " شنشور " من العادات التى تتنافي مع الدين وهى من الأمور المبتدعة والمنكرة ومن ذلك النياحة على الميت ، ولطم الخدود ، وزيارة النساء للقبور والأضرحة ، وبناء المساجد على القبور والطواف بالأضرحة داخل المساجد وخارجها ، إلي غير ذلك من البدع والضلالات التي كانت منتشرة شفي ذلك الوقت.
المبحث السادس
نماذج من كتاباته وتحقيقاته في العقيدة
… سبق وأن ذكرت في المبحث العاشر من الفصل الثاني أن الشيخ عبد الرزاق - يرحمه الله - علق على كتب كثيرة ورسائل متنوعة وبعض هذه الكتب والرسائل لم يطبع حتى الآن ، وفي هذا المبحث ، أوردت نماذج أخرى من كتابات الشيخ وتعليقاته وتصويباته لبعض الكتب التي ألفت في العقيدة حاجة البشر إلي الرسالة والحكمة من إرسال الرسل ، والطريقة المثلي للدعوة إلي الله ، وقد صدر - رحمة الله - مبحث الرسالة بقوله :
الإيمان بالرسل عليهم الصلاة والسلام ركن من أركان الدين ، فلا يستقيم لأحد دين ولا يقبل منه عمل إلا إذا أيقن برسالتهم وأذعن لكل ما جاؤوا به من الشرائع كل حسب طاقته وبقدر ما بلغه من ذلك أجمالاً أو تفصيلاً. قال تعالى : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ). وفى الحديث أن جبريل سأل النبى عليهما الصلاة والسلام عن الإيمان فبينه بقوله : " أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ".(3/93)
ومن زعم أنه آمن ببعض الرسل دون بعض لم يقبل منه ذلك ، وكان في حكم من كفر بالجميع ، وذلك لأمرين الأول : أن من تقدم من الرسل قد بشر بمن تأخر منهم وأخذ عليه وعلى من تبعه العهد والميثاق إن أدركهم أن يؤمنوا به وينصروه وإن من تأخر منهم مصدق لما بين يديه منهم. فمن كفر بواحدٍ منهم تقدم أو تأخر فهو كافر بجميعهم. الثانى أن المر الذي ثبت به رسالة من آمن به منهم ومن أجله صدقه وهو " المعجزة " قد أجرى الله مثله على يد من كفر به من الأنبياء تصديقاً لهم فى دعوى الرسالة قال ( " ما من الأنبياء نبى إلا وقد أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة " فكان إيمانه بمن آمن به وكفره غيره منهم اتباع للهوى لا لدليل النبوة وإلا لأمن بالجميع ، ومن كان إيمانه تبع هواه ولو تغير هواه لتغير إيمانه فليسس بمؤمن في حكم الشريعة.
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً).(3/94)
والقول في رسالة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، يتشعب شعباً كثيرة ويرجع إلي مباحث عدة ، يرجع إلي إمكان أن يوحى الله إلي بعض من يصطفية من عباده بشريعة ليهدى بها أمته سواء السبيل. ثم إليم حاجة العالم إلي هذه القيادة الرشيدة والشريعة المستقيمة ، ليكون إرسالهم على مقتضى الحكمة وموجب العدالة الإلهية . ثم إلي بيان ما يؤيدهم الله به من الآيات البينات ، والمعجزات الباهرات التى تدل على صدقهم فيما ادعوه من الرسالة والبلاغ عن الله ، لتقوم بذلك الحجة ، وينقطع العذر ، ثم إلي بيان ما يتعلق بذلك من تنوع المعجزات وحكمته. وبيان الفوارق بين المعجزات والسحر والكهانة. وبيان ما يعد الله به رسله قبل الرسالة من السيرة الحميدة والأخلاق الفاضلة ، ليكون ذلك أقرب إلي أن تستجيب لهم أممهم وتتقبل عنهم ما دعوهم إليه.
وقد تكفل الله ببيان ذلك كله خبراً وعقلاً وفطرة فيما أنزل علىس رسله فعلمهم سبحانه طريق الحجة والبرهان التى يخضع لها العقل الصريح ، وسلك بهم الطريقة المثلى التى لا يرتاب فيها إلا من سفه نفسه وأنكر فطرته.
وإليك تفصيل ذلك لتعلم أن الشرائع الإلهية تعتمد غي أصولها الحجة والإقناع ، وإن جاء في فروعها وتفاصيل أصولها ما قد يعجز العقل عن إدراك حكمته ، فطريق ثبوت مثل هذا الخبر عن المعصومين عليهم الصلاة والسلام.
1. إمكان الوحى والرسالة :(3/95)
لا يبعد في نظر العقل ، ولا يستحيل في تقدير الفكر ، أو يختص واهب النعم ومفيض الخير سبحانه ، بعض عباده بسعة في الفكر ورحابة في الصدر ، وحسن قيادة وكمال صبر وسلامة في الأخلاق ليعدهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة ، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم ، ويوحى إليهم بما فيه سعادة الخلق وصلاح الكون ، رحمة للعالمين وأعذاراً إلي الكافرين ، وإقامة للحجة على الناس أجمعين فإنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء وهو الفاعل المختار لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع وهو على كل شيء قدير ، وآية ذلك أنا نشاهد الله سبحانه خلق عاده على طرائق شتى في أفكاره ، ومذاهب متباينة في مداركهم ، فمنهم من سما عقله واتسعت مداركه وأطلع من الكون على كثير من أسراره حتى وصل بما منحه الله من ثاقب الفكر ويسر له من التجارب إلي أن اخترع للناس ما رفع إليه من أجله أولو الألباب رؤوسهم إعجاباً به ، وشهادة له بالمهارة ، وأنكره عليه صغار العقول وعدوه شعوذة وكهانة أو ضرباً من ضروب السحر. ولم يزالوا كذلك حتى استبان لهم بعد طول العهد ومر الأزمان ما كان قد خفى عليهم فأذعنوا له وأيقنوا بما كانوا به يكذبون.
ومنهم من ضعف عقله وضاقت مداركه ، فعميت عليه الحقائق واشتبه عليه الواضح منها ، فأنكر البديهات ورد الآيات البينات ، ومنهم من انتهى به انحراف مزاجه واضطراب تفكيره إلي أن أنكر ما تدركه الحواس كطوائف السوفسطائية.
وكما ثبت التفاوت بين الناس في العقول والأفكار بضرورة النظر وبديهة العقل ، ثبت التفاوت بينهم أيضاً في قوة الأبدان وضعفها ، وسعة الأرزاق وضيقها ونيل المناصب العالية والاستيلاء على زمام الأمور ، وقيادة الشعوب والحرمان من ذلك إما للعجز وإما للقصور أو التقصير وإما لحكم أخرى يعلمها بارئ الكائنات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورما كشف الغطاء عن كثير منها لمن تدبر القرآن وعرف سيرة الأنبياء وتاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.(3/96)
فمن شاهد ما مضت به سنة الله في عباده ، من التفاوت بينهم في مداركهم وقواهم وإرادتهم وغير ذلك من أحوالهم ، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع ويستيقن أن الله ينبى من شاء من خلقه ، ويصطفى من أرادس من عباده (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً). (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) . (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
بل هذا الحوار وأمثاله مما دار بين الرسل وأممهم يدل على أنهم لم يكونوا أصل الرسالة ، ولم يكونوا يستبعدون أن يصطفي الله روحاً طيبة لوحيه أو يختار نفساً طاهرة لتبلغ رسالته وهداية خلقه ، لكنهم استبعدوا أن كون ذلك الرسول من البشر ، وظنوا خطأ أنه إنما يكون من الملائكة ، زعماً منهم أن البشرية تنافى الرسالة ، فمهما صفت روح الإنسان وسمت نفسه ، واتسعت مداركه ، فهو في نظرهم أقل من أن يكون أهلاً لأن يوحى الله إليه وأحقر من أن يختاره سبحانه لتحمل أعباء رسالتهم .
وقد ذكر الله عنهم هذه الشبهة وردها بما لا يسع العاقل إلا قبوله والإذعان له ، ومن نظر في الكتب المنزلة وتصفح ما رواه علماء الأخبار مما دار بين الأنبياء وأممهم من الجدال والحجاج اتضح له ذلك.(3/97)
قال تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ). الآيات إلي قوله )قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ).
فانظر كيف فروا من ميدان المناظرة إلي استعجال الهلاك ، وطلبوا ذلك من نوح فبين لهم أن ذلك إلي الله لا إليه إن عليه إلا النصح والبلاغ المبين ، وإقامة الحجة والبرهان. وقال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ* سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ ) . فذكر شبهتهم ثم ردها بما آتاه من المعجزة الدالة على صدقه ، وبنصره وإهلاكهم فإن العاقبة للمتقين.
وقال تعالى (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً )(3/98)
وقال تعالى : (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) . إلي غير ذلك من الآيات التى دلت على أن إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ، إنما كان لبعث رسول إليهم من جنسهم.
ولو قال قائل ، إن أئمة الكفر ، وزعماء الضلالة ، كانوا يوقنون بإمكان أن يرسل الله رسولاً من البشر ، غير أنهم جحدوا ذلك بألسنتهم حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، وتمويهاً على الطغام من الناس ، وخداعاً لضعفاء العقول ، وتلبيساً عليهم خشية أن يستجيبوا إلي مقتضى الفطرة ، ويسارعوا إلي داعى الدين ومتابعة المرسلين - لو قال ذلك قائل التى تؤيد ذلك وتصدقه وسبق إلي لسانهم ما يرشد البصير إلي ما انطوت عليه نفوسهم من الحسد والاستكبار أن يؤتى الرسل ما أوتوا دونهم وأن ينالوا من الفضيلة وقيادة الأمم لي الإصلاح ما لم ينل هؤلاء قال تعالى : (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ )
وقال تعالى (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)
وقال تعالى (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وقال تعالى : ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ).(3/99)
وقال تعالى (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
هذا وليس بدعاً أن يختار الله نبياً من البشر ، ويبعث إليهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، بل ذلك هو مقتضي الحكمة وموجب العقل . فإن الله سبحانه قد مضت سنته في خلقه أن يكونوا أنواعاً مختلفة على طرائق شتى ، وطبائع متباينة ، لكل نوع غرائزه وميوله أو خواصه ومميزاته التي تقضي الأنس والتآلف بين أفراده ، وتساعد على التفاهم التعاون بين جماعاته ليستقيم الوجود ، وينتظم الكون ، فكان اختيار الرسول من الآمة أقرب إلي أخذها عنه ، وأدعى إلي فهمها منه ، وتعاونها معه لمزيد التناسب ومكان الألف بين أفراد أنوع الواحد. لو كان عمار الأرض من الملائكة لاقتضت الحكمة أن يبعث الله إليهم ملكاً رسولاً وقد أرشد الله إلي ذلك في رده على من استنكر أن يرسل إلي البشر رسولاً منهم . قال تعالى (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً)
ولكن شاء الله أن يجعل عمارة الأرض من البشر ، فاقتضت حكمته أن يرسل إليهم رسولاً من أنفسهم ، بل اقتضت حكمته ما هو أخص من ذلك ليكون أقرب إلي الوصول للغاية وتحصيل المقصود من الرسالة. فكتب على نفسه أن يرسل كل رسول بلسان قومه قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )(3/100)
ولو قدر أن الله أجاب الكفار إلي ما طلبوا من إرسال ملك إليهم لجعل ذلك الملك في صورة رجل ، ليتمكنوا من أخذ التشريع عنه والاقتداء به فيما يأتى ويذر ، و يخوض معهم مادين الحجاج والجهاد. وإذ ذاك يعود الأمر سيرته الأولى ، كما لو أرسل الله رسوله من البشر ، ويقعون في لبس وحيرة جزاء وفاقاً قال تعالى (وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)
ومن نظر في آيات القرآن وعرف تاريخ الأمم تبين له أن سنة الله في عباده أن يرسل إليهم رسولاً من أنفسهم . قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)
وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً).أفكاره
2. حاجة البشر إلى الرسالة :
الأفعال الاختيارية : منها ما تمد عقباه فيجمل فعله ، والحرص عليه ، ولو ناله في سبيل تحصيله حرج ومشقة ، وأصابه في عاجل أمره كثير من الآلام . ومنها ما تسوء مغبته ، فيجدر بالعاقل أن يتماسك دونه ، وأن يتنكب طريقه ، خشيه شره ، وطلباً للسلامة من ضره ، وإن كان فيه ما فيه من الملذات العاجلة التى تغرى الإنسان بفعله وتخدعه عما فيه سلامة نفسه.(3/101)
غير أن عقله قد يقصر في كثير من شؤونه ، عن التميز بين حسن الأفعال وتقبيحها ، ونافعها وضارها ، فلا بد من معين يساعده على ما قصر عنه إدراكه ، وقدس يعجز كلياً عن العلم بما يجب عليه علمه ، لأنه ليس في محيط عقله ، ولا دائرة فكره ، مع ما في علمه من صلاحه وسعادته ، وذلك : كمعرفته الله ، واليوم الآخر والملائكة تفصيلاً ، فكان في ضرورة إلي من يهديه إلي الطريق في أصول دينه ، وقد يتردد في أمر إما لعارض هوى وشهوة ، أو لتزاحم الدواعى واختلافها ، فيحتاج إلي من ينقذه من الحيرة ، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية ، فبان بذلك حاجة الناس إلي رسول يخرجهم من الظلمات إلي النور ، ويكلمهم بمعرفة ما قصرت عنه أفهامهم ، ويوقفهم على حقيقة ما عجزوا عنه ، ويدفع عنهم الألم والحيرة ، ومضرة الشكوك.
-ضف إلي ذلك أن تفاوت العقول والمدارك ، وتباين الأفكار ، واختلاف الأغراض ، والمنازع ، ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب ، وذلك يفضي إلي سفك الدماء ، ونهب الأموال ، والاعتداء على الأعراض وانتهاك الحرمات ، وبالجملة ينتهى إلي تخريب وتدمير ، لا إلي تنظيمٍ وحسن تدبير ، ولا يرتفع ذلك إلاس برسول يأتي بفصل الخطاب ، ويقيم الحجة ، ويوضح المحجة ، فاقتضت حكمة الله أن يرسل رسله رحمة بعباده ، وإقامة للعدل بنهم ، تبصيراً لما يجب عليهم من حقوق خالقهم ، وإعانة لهم على أنفسهم ، وأعذاراً إليهم ، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله.
من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب.
ومما تقدم يعلم أن إرسال الله الرسل مما يدخل في عموم قدرته - تعالى - وتقتضيه حكمته ، فضلاً منه ، ورحمة ، والله عليم حكيم ، هذا هو القول الوسط ، والمذاهب الحق.
وقد أفرط المعتزلة فقالوا : إن بعثة الرسل واجبة على الله - تعالى - إبانة للحق ، وإقامة للعدل ، ورعاية للأصلح ، وهذا مبنى على ما ذهبوا إليه من القول التحسين والتقبيح العقليين ، وهو أصل فاسد.(3/102)
-تطرف البراهمة فأحالوا أن يصطفى الله نبياً ، ويبعث من عباده رسولاً ، وزعموا أن إرسالهم عبث ، إما لعدم الحاجة إليهم اعتماداً على العقل في التمييز بين المفاسد والمصالح ، واكتفاء بإدراكه ما يحتاج إليه العباد ف المعاش والمعاد ، وإما لاستغناء الله عن عباده ، وعدم حاجته إلي أعمالهم ، خيراً كانت أم شراً ، إذ هو - سبحانه - لا ينتفع بطاعتهم ، ولا يتضرر لمعصيتهم ، وقد سبق بيان عدم كفاية العقل في إدراك المصالح والمفاسد وحاجة العالم إلى الرسالة تحقيقاً لمصالحهم مع غنى الله عن الخلق وأعمالهم ، فليس إرسالهم عبثاً بل هو مقتضي الحكمة العدالة.
3. الحكمة من إرسال الرسل (*)
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولى المتقين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله بالحق بشيراً ونذيراً ليخرج الناس من الظلمات إلي النور بإذن ربهم إلي صراط العزيز الحميد ، صلي الله عليه وعلى إخوانه النبيين والمرسلين ، ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وبعد :(3/103)
فإن الله تعالى وسع كل شيء رحمة وعلماً سبحانه له الحكمة البالغة والقدرة الشاملة ، والإرادة النافذة ، لم يخلق عباده عبثاً ، ولم يتركهم سدى ، بل بعدله قامت السماوات والأرض ، وبحكمته وتشريعه وإرسال رسله قامت الحجة ، وسعد من اتبعهم وسلك طريقهم في الدنيا والآخرة وخاب وخسر من سلك غير سبيلهم ، واتبع هواه بغير هدى من الله ، قال تعالى (أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) وقال (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)، وقال (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ*أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)
لا يليق بعاقل رشيد عرف كمال حكمه الله وسعة رحمته وعرف واقع الناس وما هم فيه من هرج وفساد وضلالة أن ينكر حاجة البشر إلي قيادة رشيدة ، عمادها وحى الله وشريعته ، تعتصم به ، وتدعو الناس إليه وتهديهم إلى سواء السبيل.(3/104)
فإن الإنسان قد يقصر عقله فى كثير من أحواله وشؤونه عن التميز بين الحسن من الأفعال وقبيحها ، ونافعها وضارها ، وقد يعجز عن العلم بما يجب عليه علمه ، لأنه ليس في محيط عقله ولا دائرة فكره ، مع ما في علمه به من صلاحية وسعادة ، كمعرفته بالله واليوم الآخر والملائكة تفصيلاً ، فكان في ضرورة إلي معين يساعده في معرفة ما قصر عنه إدراكه أو عجز عنه فهمه ، ويهديه الطريق في أصول دينه. وقد يتردد الإنسان في أمر من شؤون حياته وتتملكه الحيرة فيه ، إما لعارض هوى وشهوة من الحيرة ، ويكشف له حجاب الضلالة بنور الهداية ، ويخرجه من الظلمات إلي النور ، ويكمله بمعرفة ما عجز عنه فكره وفهمه ، ويوقفه على حقيقة ما تردد فيه أو عجز عنه عقله ، ويدفع عنه غائلة الألم والحيرة ومضرة الشكوك والأوهام.(3/105)
إن تفاوت العقول والمدارك ، وتباين الأفكار ، واختلاف الأغراض والمنازع ،ينشأ عنه تضارب الآراء وتناقض المذاهب وذلك مما يفضي إلي سفك الدماء ، ونهب الأموال ، والاعتداء على الأعراض وانتهاك الحرمات ، والجملة ينتهي بالناس إلي تخريب وتدمير ، لا إلي تنظيم وحسن تدبير ، ولا يرتفع هذا إلا برسول يبعثه الله بفضل الخطاب ليقيم به الحجة ، ويوضح به المحجة ، فاقتضت حكمة الله أن يرسل رسله بالهدى ودين الحق ، رحمة منه بعباده وإقامة للعدل بينهم ، وتبصيراً لهم بما يجب عليهم من حقوق خالقهم وحقوق أنفسهم وإخوانهم ، وإعانة لهم على أنفسهم ، وأعذاراً إليهم ، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن سعد بن عبادة قال : لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ( أي بحده لا بصفحته )فبلغ ذلك رسول الله ( فقال " أتعجبون من غيرة سعد ، لأنا أغير منه ، والله أغير منى ، ومن أجل غيره\ة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة ).
بهذا يتبين أن إرسال الله لرسل إلي الناس مبشرين ومنذرين هو مقتضي حكمته ، وموجب فضله وإحسانه ورحمته بعباده والله عليم حكيم.
ومن شاهد أحوال الناس وعرف واقعهم المرير الصاخب وعرف أن الله لم يرسل الرسل لمصلحة تعود إليه أو مضرة يدفعها عن نفسه تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً بل أرسلهم لمصالح البشر وسعادتهم في الدنيا والآخرة، أقول من عرف ذلك عرف فساد مذهب البراهمة ، لمناقصته مقتضي الحكمة والرحمة ، ومجافاته لواقع الناس.(3/106)
إن إرسال الله للرسل ليس مستحيلاً في نفسه ، ولا عبثاً حتى يجافى حكمة الله ، بل هو جائز عقلاً داخل في نطاق قدرة الله الشاملة وإرادته النافذة ، فإنه سبحانه لا مانع لما أعطى ، ولا معطى لما منع ، ولا راد لما قضي ، وهو على كل شيء قدير ، يشد بهذا سنة الله في تدبيره لشؤون خلقه وتصريفه لأحوالهم في عقولهم ومداركهم وفي أبدانهم وأرزاقهم ، وفي وجاهتهم ومراكزهم في الحياة.
فإنا نشاهد أن الله سبحانه خلق عباده على طرائق شتى في أفكارهم ومذاهب متباينة في مداركهم ، فمنهم من سما عقله،واتسعت مداركه حتى وصل بثاقب فكره وانتهت به تجاربه إلي أن اخترع للناس ما رفع أولو الألباب إليه أبصارهم من أجله ، إعجاباً به ، وشهادة له بالمهارة وأنكره عليه صغار العقول فعدوه شعوذة وكهانة ، أو ضرباً من ضروب السحر ، ولا يزالون كذلك حتى يستبين لهم بعد طول العهد ومر الأزمان ما كان قد خفى عليهم فيذعنوا له ويوقنوا بما كانوا به يكذبون.
ومنهم من ضعف عقله ، أو ضاقت مداركه ، فعميت عليه الحقائق ، واشتبه عليه الأمر الواضح ،فأنكر البديهيات ورد الآيات البينات ، بل لمنهم من انتهى به انحراف مزاجه وضعف عقله إلي أن ينكر ما تدركه الحواس كالسوفسطائية ، وكما ثبت التفاوت بين الناس في العقول والأفهام ، ثبت التفاوت بينهم أيضاً في قوة الأبدان وضعفها وسعة الأرزاق وضيقها ، ونيل المناصب العالية ، والاستيلاء على زمام الأمور ، وقيادة الشعوب والحرمان من ذلك إما للعجز أو القصور ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، وإما لحكم أخرى علمها مدبر الكائنات وربما كشف عن كثير منها الغطاء لمن تدبر القرآن ، وعرف سيرة الأنبياء وعرف تاريخ الأمم وما جرى عليها من أحداث.(3/107)
فمن بعضاً سخرياً ، وإما لحكم أخرى علمها مدبر الكائنات ، وربما مداركهم وإرادتهم وسائر قواهم وغير ذلك من أحوالهم ، لم يسعه إلا أن يستسلم للأمر الواقع دون جدل أو مراء ، ويستيقن بأن الله الواهب النعم ، المفيض للخير له سبحانه أن يختص بعض عباده بسعة الفكر ، ورحابة الصدر وكمال الصبر ، وحسن القيادة وسلامة الأخلاق ليعدهم بذلك لتحمل أعباء الرسالة ، ويكشف لهم عما أخفاه عن غيرهم ، ويوحى إليهم بما فيه سعادة الخلق ، وصلاح الكون رحمة للعالمين ، وأعذارً للكافرين وإقامة للحجة على الناس أجمعين ، فإنه سبحانه بيده ملكوت كل شيء لا يرد قضاؤه ، ولا يمنع عطاؤه بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير.
قال الله تعالى (َرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) ، وقال : (ُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً).
إن الفطر السليمة التى فطر الله عليها الناس لا تستبعد أيضاً ما مضت به سنة الله في عباده ، و قضت به حكمته وعدله في خلقه من إرساله سبحانه رسلاً مبشرين ومنذرين ، بل أذعنت له ، وأيقنت به ، استجابة لمقتضي العقول الرشيدة ، بل اعترف الكفار بذلك مع انحرافهم وسلوكهم غير المنهج القويم ، ولم ينكروا الرسالة نفسها ، ولم يستبعدوا حاجتهم الهداية من الله عن طريق روح طيبة يختارها الله لوحيه أو نفس طاهرة يصطفيها الله لتبليغ شرعه، لكنهم استبعدوا أن يكون الرسل من البشر ، وظنوا خطأ أنها إنما تكون من الملائكة ، زعماً منهم أن البشرية تنافي هذه الرسالة فإنه مهما صفت روح الإنسان وسمت نفسه ، واتسعت مداركه ، فهو في نظرهم أقل في نظرهم أقل شأناً من أن يوحى الله إليه ، وأحقر في زعمهم من أن يختاره الله لتحمل أعباء رسالته ، وإبلاغ شريعته.(3/108)
ومن نظر في الكتب المنزلة ، وتصفح ما رواه علماء الأخبار ، اتضح له اعترافهم بإمكان الوحى وحاجتهم إليه حتى الكفار فإنهم إنما استبعدوا أن يختار الله لوحيه رسولاً من البشر ، قال الله تعالى (َلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) وقال تعالى (َذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ * )فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * )أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) ، وقال تعالى ()وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) الآيات . وقال تعالى ()وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ* إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُون ) الآيات : وقال تعالى : )قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ(3/109)
لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ)قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .
وقال تعالى (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) * قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). إلي غير ذلك من الآيات والأخبار التى تدل على أن إنكار الأمم لم يكن لأصل الرسالة ولا لحاجتهم إليها إنما كان لبعث رسول إليهم من جنسهم.
4. طريقة الرسل في إثبات العبادة :
لم يدع الأنبياء أممهم إلي الإيمان بما جاءوا به من الشرائع دون بيئة أو برهان يكون شاهد صدق على إثبات أن ما دعوهم إليه وحى من الله وشرعه الذي ارتضاه لعباده ديناً ، ولم يلزموهم بذلك دون إقناع تقوم به الحجة ويسقط ب\ع العذر ، بل تحدى كل رسول أمته بما آتاه الله من الآيات البينات ، والمعجزات الباهرات التى يخضع لها العقل السليم ، وتتصاغر أمامها قوى البشر ، وطلب منهم أن يأتوا بمثل أن يأتوا بمثل ما ظهر علي يده من خوارق العادات - وأنى لهم ذلك وهو من اختصاص واهب القوى والقدر - فلما عجزوا عنه كان دليلاً واضحاً على صدقهم في دعوى الرسالة ، وأن ما جاءوا به شرع الله ودينه الحق.(3/110)
فإن الله سبحانه من كمال الحكمة والعدالة وسعة الرحمة والجود وسابغ الكرم والإحسان ما يمتنع معه أن يؤيد متنبئاً كذاباً يخدع العباد ويفسد عليهم أمر دينهم ودنياهم : بل يستحيل في حكمه وعدله أن يبقي عليه أو يهمله ؛ لما في ذلك من التلبيس والتضليل وفساد الكون وتحزيبه ، وهو شر محض ، والشر ليس إليه سبحانه ، ففي الحديث : " الخير كله بيديك والشر ليس إليك "
وقد بين سبحانه أنه بالمرصاد لمن افترى عليه كذباً ، أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه بشيء ، فقال تعالي (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ* لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ).
وإذا أبت حكمة الله وسعة رحمته أن يترك عباده سدى ، فلا يرسل إليهم رسولاً يأمرهم وينهاهم ، ويبين لهم معالم الهدى وشرائع الحق ، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة ، فالأولى في حكمه العدل ورحمته الواسعة أن يقضي على المتنبئين كذباً وافتراء ، وأن يعاجلهم بالعقوبة والهلاك رحمة للعالمين وتمييزاً بين رسله الصادقين والمتنبئين الكاذبين.
هذا وأرجو أن أكون قد بينت بهذه الكلمة الموجزة بعض الدواعي التي تقضي إرسال الرسل ، وجوانب من حكمة الله في إعدادهم واصطفائهم لتلقي الوحي عنه ، وتحمل أعباء البلاغ. وقيادتهم الأمم إلي ما فيه الصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة ، كما أرجو أن أكون قد أوضحت الحكمة في اختيار الرسل إلي البشر من جنسهم ، وبلسان أممهم ، والرد علي من يخالف في أصل إرسال الرسل ، أو يمنع أنى يكون رسل الله إلي البشر من جنسهم ، ويخيل إليه اختصاص ذلك بالملائكة والله الهادى إلي سواء السبيل ، وصلي الله وسلم على نبينا محمد وإخوانه النبيين والمرسلين ومن اهتدى بهديهم وسلك منهجهم القويم.
1)طريقة المثلى للدعوة إلي الله :(3/111)
لم يرسل الله - تعالى - رسولاً إلا أمره بالتوحيد والدعوة إلي عبادة الله وحده لا شريك له ، قال الله تعالى (َلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ، وقال تعالى : (َمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وقد عنى الرسل عليهم الصلاة والسلام بذلك ، فبدءوا البلاغ بدعوة أممهم إلي أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً ، وقطعوا فيه شوطاً بعيداً حتى شغلوا به الكثير من أوقات البلاغ ، ولا عجب في ذلك فإن التوحيد أصل الدين وذروة سنامه ، وملاك والإسلام ودعامته الأولى ، لا تصح من إنسان قربه ، ولا يتقبل الله منه عبادة إلا إذا كانت مقرونة بالتوحيد وإخلاص القلب لله وحده ، قال تعالى (ِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) ، وقال : (َمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) ، وقد أرشد الله الناس إلي أيسر الطرق في الدعوة إلي التوحيد وأسهلها ، وأقربها إلي معرفة الحق وأعدلها ، وهو الاستدلال بآيات الله وسننه الكونيه وتفرده سبحانه بتصريفها وتدبيرها على تفرده بالإلهية واستحقاقه أن يعبد وحده لا شريك له ، فذلك أهدى سبيلاً وأقوم دليلاً، وأقوى في إقناع الخصم وإلزامه الحجة ، فإنه مقتضى العقل الصريح وموجب الفطرة السليمة ، قال الله تعالى : (َا أَيُّهَا(3/112)
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، فرتب سبحانه نهيه إياهم عن اتخاذهم شركاء له فى العبادة على علمهم وإقرارهم بأنه - تعالى -وحده هو الذي خلقهم وخلق الذين من قبلهم ، وهو الذي جعل الأرض قراراً ، وذللها لهم ليمشوا في جوانبها ، وليبتغوا من فضله ، ورفع السماء بلا عمد وأنزل من والسماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لهم ، لينعموا بما آتاهم من النعم وليتمتعوا بما أفاض عليهم من الخيرات لعلهم يتقون ربهم وولى نعمتهم ، فيعبدوه وحده لا شريك له مخلصين له الدين ، شكراً له على ما أسبغ عليهم من نعمة وأفاض عليهم من بركاته ، وفي القرآن كثير من النظائر لهاتين الآيتين في بيان أسلوب الدعوة ورسم الطريق الناجحة في إقامة الحجة وإلزام الخصم ، لقد سلك الأنبياء والمرسلون هذه الطريقة في دعوتهم أممهم إلي الهدى ودين الحق ، اهتداءً بهدى الله واسترشاداً بإرشاده وهو العليم الحكيم ، ومن أبرزهم في ذلك أولو العزم من الرسل ، ومنهم إبراهيم الخليل عليهم الصلاة والسلام.(3/113)
أرسل الله جل شأنه خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلي قوم من الفرص عتاة جبارين يعبدون التماثيل ، فأنكر عليهم عكوفهم لها وتقريهم إليها ، قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) ، ولما لم يكن لديهم حجة يعتمدون عليها في عبادتهم الأصنام تعللوا لباطلهم بما وجدوا عليه آباءهم من التقرب إلي التماثيل وعبادتهم إياها ، فألغوا عقولهم وقلدوا آباءهم على غير هدى وبصيرة (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ)، فسفه إبراهيم عليه الصلاة والسلام أحلامهم ، وحكم عليهم وعلى آبائهم بالحيرة والضلال المبين (قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، وبين لهم أن التماثيل لا تسمع النداء ، ولا تستجيب الدعاء ، ولا تملك نفعاً ، ولا توقع ضراً ، فلا يليق بعاقل أن يتخذها آلهة مع من فطر السماوات والأرض ، وإليه مقاليد الأمور ، يؤتى الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ، ويعز من يشاء ، ويذل من يشاء بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير قال : (قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) .(3/114)
فلما ركبوا رؤوسهم ، وأبو إلا اللجاج والعناد ، والعصبية الممقوتة في تقليد الآباء والأجداد أعلن براءته منهم وشدة عداوته لهم ولما يعبدون من دون الله (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ *الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ *وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ) وجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه لا بد له من سلوك طريق آخر عملى في إقامة الحجة : ليكون أقوى فى الإبانة عن الحق ، وأملك في إلزام الخصم ، يضطرهم به إلي الاعتراف بما هم فيه من ضلال وظلم وانحراف ، فأقسم بالله أن يكبد لأصنامهم وهم عنها غائبون ، وانتهز فرصة خروجهم من البلد لبعض شأنهم ، وذهب إلي آلهتهم خفية لئلا يراه أحد فيصده عن تنفيذ ما أراد ، فجعلهم قطعاً صغاراً إلا كبيراً لهم تركه سالماًُ ، ليكون له وهم معه شأن عند التحقيق فيما جرى على أصنامهم ، فلما عادوا إلي منازلهم ما أصيبت به آلهتهم (َالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ *قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) ، فلما حضر مجلسهم أخذوا يقررونه بما صنع بآلهتهم ، قالوا : من فعل هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ فأجابهم بنسبة ما حدث إلي من لا يتأتى منه ، نسبة إلي كبير التماثيل وهو - كما يعلم ويعلمون - جماد لا حراك به ، ذلك ليرشدهم إلي مكان الخطأ في عكوفهم على التماثيل ، عبادة لها وتقرباً إليها ، ويصرفهم عنها إلي عباد الله وحده لا شريك له ، ويوحى إليهم بأنه هو الذي كاد لأصنامهم وأنزل بهم ما يكرهون ، وقد أكد ذلك(3/115)
بأمره إياهم أن يسألوا التماثيل عمن أصابهم بالتكسير والتحطيم إن كانوا يملكون جواباً (َالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) ، وقد نجحت هذه الطريقة إلي حد ما، وأوجدت فيهم وعياً ، فثابوا إلي رشدهم وما كان في أصل قرائحهم واعترفوا بأنهم هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم تماثيل لا تملك لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها بأساً ، وظلموا إبراهيم عليه السلام بصدهم عن دعوته ، وإعراضهم عما جاءهم به من الآيات البينات على التوحيد وإخلاص العبادة لله رب العالمين ، لكنهم لم يلبثوا أن ركبوا رؤوسهم ونكصوا على أعقابهم وارتكسوا في حماة الضلال والحيرة عصبية لما ورثوه عن آبائهم من الشرك والبهتان المبين ، قال تعالى : (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ، وقد نجحت هذه الطريقة إلي حد ما ، وأوجدت فيهم وعياً ، فثابوا هم الذين ظلموا أنفسهم بعبادتهم تماثيل لا تملك لنفسها نفعاً ولا تدفع عنها باساً ، وظلموا إبراهيم عليه السلام بصدهم عن دعوته ، وإعراضهم عما جاءهم به من الآيات البينات على التوحيد وإخلاص العبادة لله رب العالمين ، لكنهم لم يلبثوا أن ركبوا رؤوسهم ونكصوا على أعقابهم وارتكسوا في حماة الضلال والحيرة عصبية لما ورثوه عن آبائهم من الشرك والبهتان المبين ، قال تعالى (فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ، لقد ازداد طريق الحق وضوحاً وبياناً ، واستحكمت حلقات الحجة لإبراهيم على أبيه وقومه ، وحق له أن يضيق ذرعاً من صدودهم ، وأن يتأفف ضجراً من طغيانهم وشركهم ، وأن ينكر عليهم ذلك إنكاراً صارخاً ، ويرميهم بالخبال وإلغاء العقول (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ(3/116)
دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) لقد أخذت الحمية الجاهلية للباطل من نفوس قوم إبراهيم عليه السلام مأخذها ، وتمكنت منهم العصبية لطاغوت التقليد للآباء والأجداد فيمل أصيبوا عقوله وأفكارهم إلي شر وجهة ، وصرفتهم عن الحق حتى ملكت مشاعرهم ، ووجهت عقولهم وأفكارهم إلي شر وجهة ، وصرفتهم عن الحق المبين والصراط المستقيم ، وزينت لهم أن يتخلصوا من إبراهيم عليه السلام ، وينزلوا به أشد العقاب انتصاراً لآلهتهم الباطلة ، وانتقاماً منه جزاء له عما صنع لها من تحطيم وتكسير ، ويعلم الله انه ما أراد بذلك إلا الخير لهم ، وإخراجهم من ظلمات الشرك إلي نور التوحيد (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) ، لكن يأبي الله إلا أن ينصر رسوله وخليله إبراهيم عليه السلام ، وأن يخذل أعداءه وأعداء دينه ، ويبطل ما كادوا لأوليائه فيبوءا بالخسران المبين ، إمضاء لسنته العادلة الحكيمة في أوليائه وأعدائه ، قال تعالى (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلّاً جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ )(3/117)
وقال تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ *يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) ، وقال تعالى : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) .
والله الموفق ، وصلي الله على نبينا محمد وآله وسلم.
(أ ) الطريقة المثلى للدعوة إلي الله :
عنى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بالدعوة إلي الإسلام ، ووجه جل همه واعظم عنايته إلي إيضاح التوحيد وبيانه وإقامة الحجة عليه ، فبدأ به وكرر الدعوة مع اختلاف لهجته في ذلك ليناً وشدة ، وذكر أنواعاً من الأدلة على التوحيد ، وسلك طرقاً شتى في الاستدلال بها عليه ، إتماماً لإقامة الحجة ، وزيادة في الأعذار إلي الأمة ، وأملأ في أن يجد كل نوع منها ، أو وجه من وجوه الاستدلال بها منفذاً إلي القلوب ، فإن الناس مختلفون في مداركهم للحق وعناداً وصدوداً عنه ، فما يجدى من الأدلة وطرق الاستدلال بها مع طائفة قد لا تؤثر على طائفة أخرى.
وفيما يلي بيان ذلك :(3/118)
أنكر إبراهيم عليه الصلاة والسلام علىأبيه آزر أن يتخذ أصناماً آلهة ، ولم يقرن ذلك فيما ذكر الله عنه في سورة الأنعام بما يخفف من وطأة الإنكار على نحو ما ذكر الله سبحانه عنه في سورة مريم ، حيث مهد فيها قبل الإنكار بندائه بقلب الأبوة ، ولما أشرك قومه مع أبيه في الحكم كان أشد لهجة وإنكاراً، قال تعالى (َإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ *. فحكم عليهم بالجهل البين ، وعمى البصائر ذلك ليثير عواطفهم ، ويدفع بهم إلي التفكير فيمن يستحق أن يعبدوه مخلصين له الدين ولا يشركوا به شيئاً ، أهو من بيده ملكوت كل شيء وهو ولى نعمتهم ، أم الهياكل الأرضية والسماوية وهى لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ، ولا تغنى عنهم من الله شيئاً ثم عسى أن تجد هذه الإثارة من أبيه وقومه قلوباً واعية تحفظ عنه ما يقول ، وعقولاً رشيدة تفقه ما سمعت من البلاغ وإحساساً مرهفاً فتتأثر بذلك وتستجيب إلي دعوة الحق ( نَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) .
بصر الله عز وجل خليله إبراهيم عليه السلام بالدلائل الكونية الدالة على وحدانيته سبحانه في ربوبيته وألوهيته ، فأراه آياته في ملكوت السماوات والأرض ، ليتعلم حقيقة التوحيد ، أو ليزداد علماً به ويقيناً إلي يقينه ، وأرشده إلي وجد الاستدلال بها ، وكيف يسلك طريقها في البلاغ أو البيان ومناظرة الخصوم ، ليفصل بذلك بين الحق والباطل ، ويلزمهم الحجة والبرهان .(3/119)
قال الله تعالى (َكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ *فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ *فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
كان قوم إبراهيم الخليل صابئة يعبدون الكواكب السيارة ، ويقيمون لها الهياكل في الأرض من الأحجار ونحوها ، وكانوا يعظمونها ويتقربون إليها بالذبائح وغيرها ، وكانوا يستغيثون بها ويضرعون إليها ، فناظرهم عليه السلام في ذلك ، ولم يشأ أنى يسلك في هذه المناظرة طريق الاستدلال الإيجابي المباشر على أن الله لا رب غيره ولا إله سواه ، بل دعوى قومه وعقيدتهم الشركية موضوع وبحثه ونقاشه معهم ، وفرضها فرض المستدل لما لا يعتقده ثم يكر عليه بالنقض والإبطال ، ويكشف عن وجه الحق.
فحينما أظلم الليل ورأي إبراهيم عليه الصلاة والسلام النجم قال : هذا ربي ، فرضاً وتقديراً ، أو أهذا ربي ، فلما غاب عن أعين الناس علم أنه مسخر ليس أمره إليه ، بل إلي مدبر حكيم يصرفه كيف يشاء أما الرب فأمره إلي نفسه ، بل أمر غيره إليه ، وهو دائم لا يحول ولا يزول ، بيده مقاليد الأمور ، وهو على كل شيء قدير.(3/120)
ثم انتقل بهم في البحث إلي كوكب آخر هو في نظرهم أشد ضوء ، وفي مرآي أعينهم أكبر حجماً ، وهو القمر. فلما رآه طالعاً قال : هذا ربي فرضاً منه لذلك وتقديراً ، أو أهذا ربي ؟ فلما ذهب عن أعين الناظرين تبين أنه ليس بالرب الذي يجب أن تألهه القلوب ، ويضرع إليه العباد في السراء والضراء يرجون رحمته ويخافون عذابه. ويستهدونه فيهديهم إلي سواء السبيل ، ولذا قال : (فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).
ثم انتقل بهم إلي معبود آخر لهم أكبر جرماً من النجم ومن القمر ، وأعظم ضياء منهما وهو الشمس ، فلما رأي الشمس بازغة قال : (فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). فاستدل بما يعرض لها من غيرها على أنها مأمورة بأمر ربها وأنها مدبرة مسخرة بتسخير خالقها.(3/121)
فإذا كانت هذه الكواكب الثلاثة أرفع من الكواكب السيارة شأناً ، وأعلى قدراً ، وأعم نفعاً عندهم. وقد قضت لوازمها بانتفاء سمات الربوبية والألوهية عنها ، وأحالت أن تستوجب لنفسها حقاً لها في العبادة والتقرب إليها فما عداها من سائر الكواكب أبعد من أن يكون له حظ ما في الربوبية أو الإلهية ، وأحرى بنفى ذلك عنه ، واستحالته عليه. ولذا أعلن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في ختام المناظرة براءته مما يزعمون من الشركاء وأسلم وجهه لله وحده الذي فطر السماوات والأرض ، وأبدع خلقها دون شريك أو ظهير يعينه في ذلك ، وضمن إعلان النتيجة الاستدلال بتوحيد الربوبية على توحيد الألوهية ، وهذا هو معنى لا الله ، فإن ما فيه البراءة من الشركاء نظير نفى الإلهية الحقه عن الشركاء في كلمة التوحيد ، وما فيه من إسلام وجهه لله نظير الاستثناء في كلمة التوحيد ، لدلالته على إثبات الإلهية الحقة لله ، ومثله قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ).
وهذا الضرب من الاستدلال قد سلك سبيله في المناظرة كثير في العلماء قديماً وحديثاً ، وقد جاء في الكتاب والسنة كثيراً لكن على منهج العرب في حديثهم وطريقتهم في المناظرة والحجاج ، فإن رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قد بدأت في العرب ، وبلغتهم نزل القرآن لا على طريق الصناعة المنطقية ، حيث يقولون في مثل هذا الموضع إجمالاً : لو كانت هذه الكواكب أرباباً أو آلهة ما حالت ولا زالت ، لكنها تحول وتزول ، فليست أرباباً ، فإن الله حى دائم لا يحول ولا يزول.(3/122)
للداعية إلي الإسلام أن يسلك هذه الطريقة ،طريقة إبراهيم عليه السلام حسبما تقتضية الحال ، فيتنزل مع مناظره من دعاة الباطل ، ويفرض دعواه واقعة ويرتب عليها لوازمها الباطلة وآثرها الفاسدة ، ثم يكر عليها بالنقض والإبطال ، وقد توجب عليه الأحوال والظروف سلوكها والدعوة بها أحياناً ، فإن الدعوة إلي الحث كما تكون بتزيينه وذكر محاسنه للترغيب فيه ، واستمالة النفوس إليه تكون بتشويه الباطل وذكر مساويه ومخازيه ، تنفيراً منه ليهرب المبطلون عنه. وتتفتح قلوبهم للحق ، فلتزموه.
هذا وقد ذهب جماعة من المفسرين وغيرهم إلي ما تقدم من أن حديث إبراهيم في شأن الكواكب مع قومه كان على سبيل المناظره والحوار مع المشركين ، ليقيم عليهم الحجة لا ليكسب هدى بعد حيرة ، ولا ليستفيد علماً بعد شك ، واختار ذلك ابن كثير في تفسيره ، قال : والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبيناً لهم بطلان ما كانوا عليه من عباده الهياكل ، وهى الكواكب السبعة المتحيزة 00 ثم قال : وكيف يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ).
وقال تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).(3/123)
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
ثم استدل بنصوص خلق الناس على الفطرة السليمة : كقوله تعالى (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ). وحديث " كل مولود يولد على الفطرة " .. والحديث القدسى " إنى خلقت عبادى حنفاء " ثم قال : فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ناظراً في هذا المقام ، بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة بعد رسول الله (() بلا شك ولا ريب ، ومما يؤكد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً لقوله تعالى ( وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) .. مع تصرف .
ويؤيده أيضاً ما ذكر في مطلع هذه الآيات من دعوة إبراهيم لأبيه وقومه إلي التوحيد ، وإنكاره ما كانوا عليه من الشرك وعبادة الأصنام التى جعلت تماثيل وهياكل رمزية للكواكب ، قال تعالي (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). فبدأ الآيات التوحيد والبراءة من الشرك وختمها بذلك ، فدل على أنه كان مؤمناً بذلك مؤقتاً به أولاً وآخراً على السواء ويؤيده أيضاً قوله تعالى في ختام المحاجة : (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).(3/124)
وروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ما يقتضي أن مقام إبراهيم في هذه الآيات مقام نظر لا مقام مناظرة واختاره واستدل عليه بقوله : ( لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(الأنعام: من الآية77)
وذكر محمد بن إسحاق ما يفيد أن ذلك حين خرج إبراهيم من السرب الذي ولدته فيه أمه لما خافت عليه من نمرود بن كنعان . أ .هـ باختصار .
وبيان ذلك أن إبراهيم كان قبل الرسالة في حيرة في تعيين من يعبده وإن كان يعتقد بفطرته السليمة أن للعباد ربا له قدره وعظمته وجلاله وحكمته في تدبيره وتصريفه لشئون خلقه فنظر في السنن الكونية نظرة اعتبار واستدلال لنفسه نظر في النجم ثم الشمس ليخرج نفسه من القلق والحيرة إلى العلم والهدى والرشاد فلم يجد فيها سمات الربوبية ولا الصفات التي تستحق بها ان تؤله وتعبد وانتهى به نظره واستدلاله لنفسه إلى ما أعلنه أخيراً من البراءة من الشرك والشركاء والتوجه لله رب العالمين وحده ثم كان مقام دعوته لأبيه وقومه إلى التوحيد ومناظرته لهم فيما كانوا عليه من الشرك بعد الرسالة .
وعلى هذا يستطيع الداعية إلى الإسلام أن يجد لنفسه أيضاً قدوة حسنة وأسوة رشيدة في سيرة إبراهيم عليه السلام وفي خبر الله عن منهجه في هذه الآيات فيبدأ بالنظر في الآيات الكونية والدلائل الشرعية ليعلم الحق في نفسه أولاً ثم يتبع ذلك الدعوة إليه ليكون في دعوته على بينة وبصيرة فعلى كلا المعنيين لهذه الآيات يجد الداعية إلى الحق في خليل الرحمن مثالاً حسناً يحتذيه وميزاناً عادلاً يزن به عقيدته وعمله ودعوته ويقتفي أثره فيه .(3/125)
إن دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أباه وقومه إلى التوحيد مع سلامتها وقوة استدلاله عليها ، وحسن سياسته وحكمته واستقامة منهجه فيها لم تجد لديهم قبولاً لأن قلوبهم في غلاف من العناد والصدود واللجاج فلم تتفتح لدعوة الحق ولم تشأ أن تتقبلها ولأن عواطفهم متبلدة بل ممسوخة قد انحرف بها الهوى وتقليد الآباء وتحكم العادات السيئة عن الجادة والاعتدال فلم تتأثر بالحق ولم تجد لنفسها فيه لذة ولا راحة بل ذهبوا يجادلونه في الحق بعدما تبين ويهددونه ويخوفونه أن تصيبه آلهتهم بسوء فلا يحمد العاقبة فما كان من إبراهيم عليه السلام إلا أن ثبت على الحق واطمأنت به نفسه وازداد إيماناً به فأنكر عليهم جدالهم إياه بالباطل وتخويفه من خطر آلهتهم مع أنها لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً ولا تدفع عنها بأساً وهو يركن إلى الركن الركين ويتوكل على رب العالمين قد أخلص له قلبه وأسلم له وجهه وقام بما أمره به من الدعوة للحنيفية السمحة فهو أحق بالأمن والسلام ممن هددوه وخوفوه لكن على تقدير أن يصيبه مكروه فهو من الله سبحانه ابتلاء وامتحاناً اقتضته حكمته وعدله قال الله تعالى : (وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُون )وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون )الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)(3/126)
فعليكم معشر الدعاة أن تثبتوا على الحق في ميدان الدعوة وأن تصبروا على الأذى وألا تنخلع قلوبكم لكيد الكائدين وتهديد المعتدين : وتوكلوا على الله أسوة بخليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين.
لما فات إبراهيم عليه السلام أن يؤمن به قومه فتستقر حياته بين أظهرهم ويشتد عضده بهم وتولوه بالأذى وبلغ بهم الكيد له أن القوة في النار ففر إلى ربه وهاجر طالباً لدعوته قوماً آخرين لما أصيب بذلك لم يكله الله إلى نفسه ولم يحرمه جزاء عمله فوهب له من تقر بهم عينه وهب له إسحاق ويعقوب وجعلهما من أنبيائه وهادهما إلى الصراط المستقيم وتتابعت النبوة والرسالة من بعده في ذريته إلى أن ختمت بنبوة الرسول الكريم محمد ( .
فيا معشر الدعاة إلى الحق :كونوا واثقين بالله مطمئنين إلى صادق وعده مؤملين النصر والخير وحسن العواقب ولكن لابد لكم من الابتلاء بالسراء والضراء فاشكروا ربكم على ما أولاكم من الخير واصبروا على الشدة واللأواء وليكن لكم في خليل الرحمن وإخوانه الأنبياء خير أسوة فقد ابتلوا فصبروا وشكروا فجزاهم الله خير الجزاء قال الله تعالى : )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(3/127)
وقال تعالى : )وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِين )فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)
والله الموفق وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم .
التعليق على كتاب " الاعتقاد "
لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله
سماحة الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد 00
فبناء على كتاب سماحتكم الذي تطلب فيه تقريراً عن كتاب الاعتقاد للبيهقي .
قرأت الكتاب فوجدته موافقاً للسلف في مواضع كثيرة ، ومخالفاً لهم في مواضع أخرى وسأجمل فيما يلي ما يؤخذ عليه مما خالف فيه السلف في العقيدة :
1- الله وأسماءه بالقدم ويسميه القديم كما يتبين من الصفحات ( 6 ، 20 ، 22 ، 37 ، 60 ، 61 ) من الكتاب .
2- دل على حدوث الكونيات بأنها محل للحوادث كسائر الأشعرية فلزمهم بذلك نفي قيام الصفات الفعلية بالله والتزموا تأويل النصوص المثبتة لصفات الأفعال بما يسمونه قديماً كما تبين ذلك بالرجوع إلى ص (7) .
1- يل اسم الله - الرحمن - بالمريد لرزق كل حي في الدنيا واسمه - الرحيم - بالمريد لإكرام المؤمنين في الجنة وقال : فيرجع معناهما إلى صفة الإرادة التي هي صفة قائمة بذاته تعالى ويعني بالإرادة - الإرادة الكونية الأزلية لا الإرادة الدينية التي بمعنى المحبة يتبين ذلك من ص (15-19) أيضاً فسر الإلهية بالقدرة على اختراع الأعيان .(3/128)
1- في صفة الكلام إلى مذهب الكلابية كسائر الأشعرية فجعلها صفة نفسية ذاتية قديمة قائمة بذات الله تعالى ورد صفة الحكم المفهومة من اسم الله الحكم وقال : " وقد يكون بمعنى حكمه لواحد بالنعمة والآخر بالمحنة فيكون من صفات فعله " وقال مثل ذلك في اسم الله " الشكور " وفي اسمه " العدل " يتبين ذلك من ص (16).
2- اسم الله - العلي - بالعالي القاهر وبالذي علا وجل عن أن يلحقه صفات الخلق وقال : هذه يستحقها بذاته.
وتأويل محبة الله عباده بإرادته رحمتهم وبمدحهم قال : فيرجع معناه إلى صفة الإرادة والكلام بمعنى الإرادة الكونية والكلام النفسي وقال : وقد يكون بمعنى إنعامه عليهم فيكون من صفات الأفعال . كما تقدم بيانه يتبين ذلك من نص 19 : 17.
1- في اسم الله " المتعالى " هو المنزه عن صفات الخلق ، وهذه صفة يستحقها بذاته وقد يكون العلى فوق خلقه بالقهر. أ. هـ وهذا إقرار من إثبات علو الله على خلقه بذاته ص 17 -19 .
2- أن فسر أسماء الله الحسنى وذكر ما رآه فيها من احتمال ووجوه قال : وهذه الوجوه التى فى معانيها كلها صحيح ، وسربنا جل جلاله ، وتقدست أسماؤه متصف بجميع ذلك ، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى لا شبيه له في خلقه ، ولا شريك له في ملكه ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " أ. هـ ص 21.
3- في ص (21) أيضاً : فلله عز اسمه أسماء وصفات ، وأسماؤه صفاته ، وصفاته أوصافه " أ. هـ .
فجعل أسماءه صفاته ، ومعلوم أن الاسم يتضمن الصفة ، وأنها بعض مفهوم لا أنه الصفة.(3/129)
في ص ( 21-22) قسم صفات الله قسمين ، صفات ذات ، وصفات أفعال ، وقسم صفات الذات قسمين ، عقلياً وهو ما كان طريق إثباته أدلة العقل مع ورود السمع به ، فإذا دل وصف الواصف به على الذات فالاسم عين المسمى مثل شيء ذات ، موجود ، جليل عزيز ، عظيم ، متكبر ، وإن دل وصف الواصف به على صفات زائدة على ذاته قائمة به مثل حى ، عليم ، قادر ، سميع ، بصير متكلم ، فالاسم في هذا لا يقال : أنه هو المسمى ولا أنه غير المسمى.
وأما السمعى فما كان طريق إثبات السمع فقط ، كالوجه واليدين والعين ، وهذه أيضاً صفات قائمة بذاته ، لا يقال فيها : أنها هى المسمى ولا غير المسمى ، ولا يجوز تكييفها ، فالوجه صفة وليست بصورة ، واليدان له صفتان ، وليستا الجارحتين ، والعين له صفة ، وليست بحدثة 000 إلي آخر ما ذكره في ص ( 22 -44 ) …ولا يخفى ما في هذا من المخالفة للسلف أهل السنة والجماعة ، إذ فيه نفى تفصيلى ، والسلف على خلافه ، وإنما يمنعون الخوض في الكيف ويقولون : أنه مجهول أو غير معلوم ، فيفوضون علمه إلي الله تعالى ، كما يمنعون عموماً الخوض فيما لم يخوضوا فيه نفياً وإثباتاً.
قال في صفات المعانى السبعة : القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام : أنها زائدة على الذات على الذات قائمات بها ليرد على المعتزلة وقال : إنما قال النبى ( " أعوذ بكلمات الله التامة 000 " الحديث على طريق التعظيم أ. هـ يعنى أن الجمع للتعظيم لا لكون كلامه تعالى متعدداً يل هو شيء واحد هو الكلام النفسى الأزلى ، يتبين ذلك في ص ( 25-29 ، وفى ص 32 -37 ).
ذكر في الاستواء طريقتين : طريقة التفويض في معناه مع نفى الكيفية وطريقة حمله معلى وجه يصح في اللغة و أتبع ذلك نفياً تفصيلياً للكيفية في الاستواء وفى النزول وفي المجيء والإتيان 000 الخ . ويتضح ذلك في ص 44 من الكتاب . وأحال سفي ذلك على كتابة " الأسماء والصفات " .(3/130)
أحسن في إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة بالأبصار ، وفي إقامة الأدلة على ذلك ، وفى رده على منكرى رؤيته تعالى ، لكنه يرى أن الله عز وجل لا يرى في جهة بل يراه الراءون في جهاتهم كلها لأنه يتعالى على الجهة يتضح ذلك في ص 51 من الكتاب.
قال في أفعال العباد أنها كسب لهم على معنى تعلق قدرتهم بمباشرتهم التى هى أكسابهم ، ووقوعك هذه الأفعال أو بعضها على وجوه تخالف قصد مكتسبها يدل على موقع أوقعها كما أراد غير مكتسبها ، والله ربنا ، خلقنا وخلق أفعالنا 000 ألخ ، ص ( 60 -61).
وهذه إلي القول بالجبر اقرب منه إلي القول بإثبات الاختيار للعبد في أفعاله.
وفسر ما جاء في الحديث من أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وبأن المراد به كون القلب تحت قدرة الرحمن.
1- ذكر كثيراً من الأحاديث ولم يبين درجتها من الصحة والضعف . والمقام مقام الاستدلال في العقيدة.
وبالجملة فالكتاب نافع ، وفيه خير كثير ، ويمكن التعليق عليه في مواضع الخطأ ، أو التنبيه على ذلك في مقدمة له.وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
كتبه
عبد الرازاق عفيفي
الحكم بغير ما أنزل الله وأثره على الأفراد والشعوب
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) .(3/131)
أمر الله جل شأنه جميع الناس أن يرد كل منهم ما لديه من الأمانة إلي أهلها ، أياً كانت تلك الأمانة ، فعم سبحانه بأمره كل مكلف ، وكل أمانة ، سواء كان ما ورد في نزول الآية صحيحاً أم غير صحيح ، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- ثم أوصى سبحانه من وكل إليه الحكم في خصومه أو الفصل بين الناس في أمر ما ان يحكم بينهم بالعدل، سواء كان محكماً أو ولى أمر عام أو خاص ، ولا عدل إلا ما جاء في كتاب الله أو سنة أسداه إلي عباده من الموعظة إغراء لهم بالقيام بحقها والوقوف ةعند حدودها ، وختم الآية بالثناء على نفسه بما هو أهله من كمال السمع والبصر ترغيباً في امتثال أمره رجاء ثوابه ، وتحذيراً من مخالفة شرعه خوف عقابه ، ثم أمر تعالى المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ( مطلقاً ، لأن الوحى وكله حق ، وأمر بطاعة أولى الأمر فيما وضح أمره من المعروف لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما دلت عليه النصوص الثابتة الصريحة في ذلك ، فإن اشتبه الأمر ووقع النزاع وجب الرجوع في بيان الحق والفصل فيما اختلف فيه إلي الكتاب والسنة لقوله سبحانه : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).
…وقوله (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).(3/132)
وأمثال ذلك من نصوص الكتاب والسنة فإن الرجوع إليهما عند الحيرة أو النزاع خير عاقبة وأحسن مالاً ، وهذا إنما يكون فيما فيه مجال للنظر والاجتهاد ، فمن بذل جهده ونظر في أدلة الشرع وأخذ بأسباب الوصول إلي الحق ، فهو مأجور ، أجران إن أصاب حكم الله ، ومعذور مأجور أجراً واحداً إن أخطأه ، وله أن يعمل بذلك في نفسه وأن يحكم به بين الناس ، ويعمله الناس مع بيان وجهة نظره المستمدة من أدلة الشرع على كلتا الحالتين بناء على قاعدة التيسير ورفع الحرج وعملاً بقوله تعالى (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ).
وبقول النبي ( " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ولقوله ( " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد " رواه أحمد والبخارى ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذى وابن ماجه. ومن لم يبذل جهده في ذلك ولم يسأل أهل العلم وعبد الله على غير بصيره ، أو حكم بين الناس في خصومة فهو آثم ضال مستحق العذاب إن لم يتب ويتغمده الله برحمته قال تعالى : (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً).
وكذا من علم الحق ورضي بحكم الله لكن غلبه هواه أحياناً فعمل في نفسه ، أو حكم بين الناس في بعض المسائل أو القضايا على خلاف ما علمه من الشرع لعصبية أو لرشوة مثلاً فهو آثم لكنه غير كافر كفراً يخرج من الإسلام ، إذا كان معترفاً بأنه أساء ولم ينتقص شرع الله ولم يسيء الظن به بل يجز في نفسه ما صدر منه ويرى أن الخير والصلاح في العمل بحكم الله تعالى ، روى الحاكم عن بريدة رضي الله عنه عن النبى ( أنه قال : " قاضيان في النار وقاض في الجنة ، قاض عرف الحق فقضي به فهو في الجنة ، وقاض عرف الحق فجار متعمداً ، أو قضي بغير علم فهو في النار ... ".(3/133)
إن من كان منتسباً للإسلام عالماً بأحكامه ، ثم وضع للناس أحكاماً وهيأ لهم نظماً ليعلموا بها ويتحاكموا إليها ، وهو يعلم أنها تخالف أحكام الإسلام ، فهو كافر خارج من ملة الإسلام ، وكذا الحكم فيمن أمر بتشكيل لجنة أو لجان لذلك.
ومن أمر الناس بالتحاكم إلي تلك النظم والقوانين أو حملهم على التحاكم إليها وهو يعلم أنها مخالفة لشريعة الإسلام ، وكذا من يتولى الحكم بها ويطبقها فيلا القضايا ، ومن أطاعهم في التحاكم إليها باختياره مع علمه بمخالفتها للإسلام فجميع هؤلاء في الإعراض عن حكم الله ، لكن بعضهم بوضع تشريع يضاهى به تشريع الإسلام ويناقضه على علم منه وبينة ، وبعضهم بالأمر بتطبيقة أو حمل الأمة على العمل به أو ولى الحكم به بين الناس أو تنفيذ الحكم بمقتضاه ، وبعضهم بطاعة الولاة والرضا بما شرعوا لهم بما لم يأذن به الله ويم ينزل به سلطاناً ، فكلهم قد اتبع هواه بغير هدى من الله ، وصدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه وكانوا شركاء في الزيغ والألحاد والكفر والطغيان ، ولا ينفعهم علمهم بشرع الله واعتقادهم ما فيه من إعراضهم عنه وتجافيهم لأحكامه وإتيانهم بتشريع من عند أنفسهم وتطبيقه والتحاكم إليه ، كما لم ينفع إبليس علمه بالحق واعتقاده إياه مع إعراضه عنه وعدم الاستسلام والانقياد له.
وبهذا قد اتخذوا هواهم إلهاً فصدق فيهم قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ)(3/134)
وقوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ). الآيات إلي قوله سبحانه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) إلي قوله تعالى (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
وقوله سبحانه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً). إلي قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(3/135)
إن هؤلاء قد صدوا عن تحكيم شرع الله انتقاصاً له وإساءة للظن بربهم الذي شرعه له ، وابتغاء الكمال فيما سولته لهم أنفسهم وأوحى به إليهم شياطينهم ، كأن لسان حالهم يقول : " إن شريعة الكتاب والسنة نزلت لزمان غير زماننا ليعالج مشاكل قوم تختلف أحوالهم عن أحوالنا وقد يجدى في إصلاحهم ما لا يناسب أهل زماننا ، فلكل عصر شأنه ، ولكل قوم حكم يتناسب مع ظروفهم ونوع حضارتهم وثقافتهم" فكانوا كمن أمر الله رسوله أن ينكر عليهم ويبكتهم بقوله : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ) إلي قوله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وكانوا ممن حقت عليهم كلمة العذاب وحكم الله عليهم بأن لا خلاق لهم فى الآخرة بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) .
لقد استهوى الشيطان هؤلاء المغرورين فزين لهم أن يسنوا قوانين من عند أنفسهم ليتحاكموا إليها ويفصلوا بها فيم خصوماتهم ، وسول لهم أن يضعوا قواعد بمدى تفكيرهم القاصر وهواهم الجائر لينظموا بها اقتصادهم وسائر معاملاتهم ، محادة لكتاب الله واعتقاداً منهم أنه لا يصلح للتطبيق والعمل به في عهدهم ، ولا يكفل لهم مصالحهم ، ولا يعالج ما جد من مشاكلهم ، حيث اختلفت الظروف والأحوال عما كانت عليه أيام نزول الوحى ، واتسع نطاق المعاملات وكثرت المشكلات ، فلا بد لتنظيم المعاملات ، الفصل في الخصومات من قوانين وقواعد جديدة يضعها المفكرون من أهل العصر ، والواقفون على أحوال أهله ، المطلعون على المشاكل ، العارفون بأسبابها وطرق حلها لتكون مستمدة من واقع الحياة فتتناسب مع أحوال الناس وظروفهم الحاضرة ومع مستوى ثقافتهم وحضارتهم.(3/136)
فهؤلاء وقد طغى عليهم الغرور الفكرى ، فركبوا رؤوسهم ولم يقدروا عقولهم قدرها ولم ينزلونها منزلتها ، ولم يقدروا الله حق قدره ، ولم يعرفوا حقيقة شرعه ، ولا طريق تطبيق مناهجه وأحكامه ، ولم يعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علماً ، فعلم ما كان وما سيكون من اختلاف الأحوال ، وكثرة المشاكل ، وأنه أنزل شريعة عامة شاملة ، وقواعد كلية محكمة وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، وجعلها صالحة لكل وقدرها بكامل علمه وبالغ حكمته فأحسن تقديرها ، جعلها صالحة لكل زمان ومكان ، فمهما اختلفت الطبائع والحضارات ، وتباينت الظروف والأحوال ، فهى صالحة لتنظيم معاملات العباد وتبادل المنافع بينهم والفصل في خصوماتهم وحل مشاكلهم ، وصلاح جميع شؤونهم في عباداتهم ومعاملاتهم.
إن العقول التى منحها الله عباده ليعرفوه بها ، وليهتدوا بفهمها لتشريعه إلي ما فيه سعادتهم في العاجل والآجل ، قد اتخذوا منها خصماً لدوداً لله فأنكروا حكمته وحسن تدبيره وتقديره ، وضاقوا ذرعاً بتشريعه وأساءوا الظن به فانتقصوه وردوه ، وقد يصابون بذلك وهم لا يدرون لأنهم بغرورهم بفكرهم عميت عليهم معالم الحق والعدل فكانوا من الأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وكانوا ممن بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار.(3/137)
إن الله وسبحانه كثيراً ما يذكر الناس في القرآن بأحوال المعتدين الهالكين ، ويحثهم على أن يسيروا في الأرض لينظروا ما كانوا فيه من قوة ورغد عيش وحضارة وبسطة في العلم ، نظر عظة واعتبار ، ليتذكروا طريقهم ، إتقاء لسوء مصيرهم ، ولفت النظر في بعض الأمور إلي جريمة الغرور الفكرى ، لشدة خطره ، وبين أنه الفتنة الكبرى التى دفعوا بها في صدور الرسل ، وردوا بها دعوتهم ليعرفنا بقصور عقول البشر ، أنها لا تصلح لمقاومة دعوة الرسل ، وليحذرنا من خطر الغرور الفكرى الذي هلك به قاوم المرسلين.
قال تعالى (َفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ *فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ).
محبة أصحاب رسول الله ( وموالاتهم
مبحث محبة أصحاب الرسول ( وموالاتهم
والرد على الروافض والنواصب
…أهل السنة والجماعة يحبون أصحاب رسول الله ( ويثنون عليهم ويترضون عنهم كما أثنى الله عليهم وترضي عنهم ، قال الله تعالى : (َالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).(3/138)
وقال : (َقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً).
وقال : (ُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ). إلي أخر السورة.
وقال (ِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ*وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ). إلي غير هذا من الآيات التى وردت في ثناء الله عليهم وترغيب المؤمنين في حبهم والدعاء لهم ولمن تبعهم بإحسان ، وهم متفاوتون فيما بينهم. فبعضهم فوق بعض درجات. فأعلاهم درجة أهل بيعة الرضوان وكل من آمن قبل فتح مكة وأنفق في سبيل الله وقاتل إعلاء لكلمة الله.
قال تعالى (َمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).(3/139)
وعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أنه كان بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد شيء ، فسبه خالد ، فقال رسول الله ( : " لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه " رواه البخارى ومسلم واللفظ له. فدل الحديث على أن)وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)( وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
وعن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه أنه كان بين عبد الرحمن بن عوف وبين خالد بن الوليد شيء فسبه خالد ، فقال رسول الله ( : " لا تسبوا أحداً من أصحابي فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه " رواه البخارى ومسلم واللفظ له. فدل احديث على أن من أسلم قبل فتح مكة وقبل صلح الحديبية كخالد بن الوليد ، وإذا كان حال خالد بن الوليد ومن أسلم معه أو بعده من الصحابة بالنسبة لعبد الرحمن بن عوف والسابقين معه إلي الإسلام هو ما ذكر في الحديث. فكيف بحال من جاء بعد الصحابة بالنسبة إلي الصحابة رضي الله عنهم.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : قال النبى ( : " لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد ، الذين بايعوا تحتها ".(3/140)
وفي حديث عمران بن حصين أن النبي ( قال : " خير الناس وقرنى ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدرى أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة. رواه البخارى ومسلم.
يرى أهل السنة أن حب الصحابة دين وإيمان وإحسان لكونه امتثالاً للنصوص الواردة في فضلهم وأن بغضهم نفاق وضلال لكونه معارضاً لذلك ، ومع ذلك فهم لا يتجاوزون الحد في حبهم أو في حب أحدٍ منهم.
ولقوله تعالى : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ) . ولا يجهلون أحداً منهم ولا يتبرؤون منه ، ولهذا ورد عن جماعة من السلف كأبي سعيد الخدرى والحسن البصري وإبراهيم النخعى أنهم قالوا : الشهادة بدعة - والبراءة بدعة ، ومعنى ذلك أن الشهادة على مسلم معين أنه كافر أو من أهل النار بدون دليل يرتد الحكم عليه بذلك بدعة. وأن البراءة من بعض الصحابة بدجعة.
الفصل الخامس
أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة
المبحث الأول : سعيه الحثيث في قضاء الحوائج وبذل المعروف
المبحث الثاني : تلطفه بتلاميذه واحتفاؤه بهم وحسن توجيهه لهم.
المبحث الثالث : عمله الذؤوب في إنشاء المؤسسات الإسلامية والصروح العلمية.
الفصل الخامس
أعماله المبرورة ومساعيه المشكورة
المبحث الأول
سعيه الحثيث في قضاء الحوائج وبذل المعروف
…إن الفرد المسلم - في أي مجتمع مسلم - لا يستطيع أن يعيش بمنأى عن إخوانه المسلمين ، أو أن يكفى نفسه حوائجه دون أن يساعده في تحقيق ذلك غيره ولذا حرص الإسلام ورغب في قضاء حوائج الناس وبذل المعروف لهم.
قال الله تعالى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ).(3/141)
وقال رسول الله ( " المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه ، من كان في حاجة أخية كان الله في حاجته ، ومن فرج عن مسلم كربة ، فرج الله عنه بها كربه من كرب يوم القيامة ، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة " رواه البخارى ومسلم. وفي لفظ عند مسلم " من نفس عن مؤمن كربه من كرب الدنيا ن نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر ، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخية ".
إن قضاء حوائج الناس وإقالة عثراتهم ، وتفريج كرباتهم خلق جميل وسلوك نبيل ، وقد تجسد هذا الخلق في فضيلة الشيخ عبد الرازق عفيفي - يرحمه الله - فقد كان رضي النفس كريماً متواضعاً ، يبسط يده بالخير ويبذل نفسه لقضاء حوائج الناس ، وكان حريصاً أشد الحرص على أن يكون عمله في ديوان السر ، وكان يفد إلي بيته كل ليلة طلبة العلم والعلماء والدعاة حتى عامة الناس ممن يبغون الشفاعة في أمر من الأمور ، فكان بيته ملتقى الضيوف وذوى الحاجات ومنتدى العلماء وطلبة العلم.
يقول أحد كبار طلبته : إن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي كان يتصف بصفات يندر أن تجتمع في شخص ، ومن ذلك غزارة العلم ورجاحة العقل والزهد في الدنيا ومظاهرها وجب الخير للآخرين وبذل جاهه وماله في ذلك.
ويقول الدكتور محمد بن لطفى الصباغ : وكان الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - متواضعاً زاهداً في متاع الدنيا ومباهجها ، لا يغشي منازل الوجهاء والأغنياء إلا أن دعى . وكان يتعفف إن حضر ولا يقول إلا ما يرضي ضميره ، ولعل زهده هذا هو السبب في عزوفه عن إلقاء المحاضرات وحضورها.
وكان يبذل جاهه في خدمة الصالحين ومعونتهم ، ولا يرد صاحب حاجة يستطيع أن يقضيها له.(3/142)
وبالجملة فإن الشيخ عبد الرزاق كانت له عناية بالغة بأصحاب الحوائج والمعوزين وكان ينفق جزءاً كبيراً من راتبه أول كل شهر على طلبة العلم والمعسرين ، وكان يقرض طلبة العلم المال ويمدهم بالكتب ، وغيرها مما تسخو به نفسه.
يذكر أحد معاصريه : أن الشيخ استأجر داراً بالإسكندرية وأسكن معه عدداً من طلبة العلم مدة من الزمن دون أن يتقاضي منهم شيئاً .
المبحث الثاني
وفاؤه لزملائه وتلطفه بتلاميذه واحتفاؤه بهم
كان فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - يعرف للناس أقدارهم ، وينزلهم منازلهم اللائقة بهم ، ولا سيما إن كانوا غرباء ، وكان في وفائه لزملائه وتلطفه بتلاميذه محل القدوة ، يجل كبيرهم ، ويتودد إلي صغيرهم. وعن وفاء الشيخ لزملائه ، وحسن معاملته له يتحدث فضيلة الشيخ يوسف الضبع ، وهو من أقران الشيخ وزملائه قائلاً :
وفلا خلال قرابة خمسين عاماً كان لى معه - رحمه الله - أخوة في الله لو تزدها الأيام إلا قوة ، ولقد لمست فيه الصلاح والتقى والورع والتواضع وإنكار الذات والنبوغ في العلوم الدينية والعربية واللغوية ، كما كان وفياً لإخوانه وبنيه وما أكثرهم في مصر وفي السعودية ، حيث كان حلقة الاتصال والرائد الموفق في تذليل العقبات لمن تزل قدمه بعد ثبوتها من غير من ولا أذي ، وله أياد بيض على عديد ممن يعملون الآن في حقول التعليم وغيرها في المملكة العربية السعودية ، ومنهم من ناله بسعيه المشكور خير كثير ، وكان - رحمة الله - طويل الباع ، واسع الإطلاع ، راسخ القدم ، عميق التفكير ، دقيق التصوير ، قوى الحجة. ناصع البرهان ، أشبه ما يكون بالإمامين الجليلين الشيخ محمد مصطفى المراغى ، والشيخ عبد المجيد سليم شيخي الأزهر السابقين - رحمهما الله.
ويؤكد هذا كله فضيلة الشيخ ومحمد بن عبد الوهاب البنا قائلاً :(3/143)
عرفت شيخنا عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - في عام 1937م ، ورافقته وتجولت معه للدعوة إلي الله ، وسافرت معه إلي بعض مدن وقرى القاهرة ، فكان نعم المربي وخير الرفيق ، حسن توجيه مع دماثة خلق ، وسعة إطلاع ، وغزارة علم ، يجادل بالتى هى أحسن ، ويحلم على من يجهل عليه.
كنت بالقاهرة وكان هو بالإسكندرية ، فإذا شرف القاهرة لازمته في زياراته إلي فروع الجماعة " أنصار السنة" كما كنت أزوره بصحبة الأستاذ محمد صادق عرفوس - رحمة الله - فيحتفى بنا ويكرمنا أكرمه الله وأحسن مثوبته وكان منزله - رحمة الله - مثابة للأخوة الوافدينم من كل فج.
سعدت بصحبته عام 1370 هـ في طريقة للحج ، ومعنا الشيخ محمد على عبد الرحيم " رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية " - رحمة الله ، مع عوائلنا بالباخرة ، وكان خير رفيق ، فمع تقدمه وفضله وكبر سنة ، كان كثيراً ما يخدمنا ، ويؤثرنا على نفسه ، ففي الباخرة ، كان يختار لنا أحسن الغرف ، وكذلك فعل لما نزلنا مكة وجدة ، في الفنادق يقدمنا وعوائلنا على نفسه وعائلته ، أتممنا مناسك الحج ، وسافرنا جميعاً إلي الرياض للتدريس بمعهد الرياض العلمي ، حيث التقينا مع خير مجموعة عرفت من أفاضل العلماء منهم : سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة ، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي ، والشيخ عبد الله الخليفى - رحمهم الله - وغيرهم.(3/144)
أما من جهة تلطفه بتلاميذه واحتفاؤه هم فهو بحر لا يدرك غوره ، فقد عرف عن الشيخ - رحمة الله - لين الجانب وطلاقة الوجه وحسن الملاطفة ، فهو أمام الزوار والتلاميذ والزملاء دائم البشر ، يظهر الفرح والسرور والانبساط في الكلام والإجابة على الأسئلة دون غضب أم تبرم أو رد شديد للسائل ، فجليسه يلقى منه كل المؤازؤة والتبسم بحيث لا يمل ، كما أنه يكرم من زاه ويقدم ما عنده بدون تكلف ، ويجود بما يقدر عليه دون أن يمن يما أعطاه أو يرد من سأله ، وهكذا دابة مع العلماء وطلبة العلم والأصحاب والزملاء وغيرهم.
المبحث الثالث
عمله الدؤوب في إنشاء المؤسسات الإسلامية
والصروح العلمية
سبق وأن ذكرت أن فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - يرحمه الله - كان له القدح المعلى في تخلص قريته " شنشور " من البدع والعادات التى نهى عنها الشرع ، ويؤكد هذا فضيلة الشيخ عبد الحميد الهلالى من أعيان قرية ط شنشور " وعلمائها قائلاً :
لقد كان لدعوة فضيلة الشيخ عبد الرزاق في تلك المجالات لإرساء قواعد الدين الصحيحة الأثر الطيب والحسن على عامة أهالى " شنشور " وخاصتهم وذلك لما له - يرحمه الله - من مكانة بارزة بين أهلها.
لقد ساهم فضيلة الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - في النهضة الدينية والعلمية التى تشهدها قرية " شنشور " بما لا ينكر أثره بالتعاون مع الشيخ عبد الحميد الهلالى رفيق دراسته.
ولقد كان من أثر هذه المساهمات المادية الكبيرة إنشاء كل من المعهد الدينى الابتدائي الأزهرى بـ " شنشور " عام ( 1404 ، 1406 هـ) والمدرسة الثانوية العامة والمدرسة الثانوية التجارية والتى تم افتتاحها على الترتيب عام ( 1414 هـ ) ثم المعهد الديني الإعدادي الثانوي للفتيات المنشأ حديثاً وهو تابع أيضاً للأزهر الشريف ، كذلك مدرسة " شروة حسن " الابتدائية المشتركة.(3/145)
ثم يأتي بعد ذلكس مسك الختام وهو المركز الإسلامي الكبير الذي يتصدر القرية في مدخلها من الجهة القبلية ويضم في جنباته مسجداً واسعاً وداراً للمناسبات ومستوصفاً خيرياً ومكتبة كبيرة ومرافق أخرى عديدة بعضها لا يزال تحت الإنشاء والاستكمال.
أما المساجد التى ساهم - رحمة الله - في بنائها وإقامتها فهى : مسجد القطان - مسجد أبو عافية - مسجد التقوى - مسجد الصحابة - مسجد العاشر من رمضان - مسجد الرحمة - مسجد شروة حسن - مسجد عمر بن الخطاب - مسجد فجر الإسلام.
ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه المساهمات المادية بعضها كان من خاصة مال الشيخ والبعض الآخر من المحسنين بواسطته - رحمة الله.
قلت : وفي الرسالة التالية برهان واضح ودليل قاطع على صحة ما ذكرته من كثرة اشتغاله - رحمة الله - بالأعمال الجادة التى تعود بالخير والنفع على الإسلام والمسلمين.
خطاب نائب رئيس مجلس إدارة
المركز الإسلامي بـ " شنشور "
…فضيلة أستاذنا الشيخ الموقر صاحب السماحة والفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي أبدأ رسالتى بسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته مع وافر تحيات جميع الأهل والمعارف بشنشور أما بعد :
فإنه كان لى شرف قراءة رسالة سيادتكم للأخ الفاضل أستاذنا الحاج عبد الحميد الهلالى والتى جاء فيها نصيحة سيادتكم لنا جميعاً بالبدء في الأعمال التنفيذية لإقامة المركز الإسلامى بشنشور ، خاصة وأن بعض المتبرعين يرغبون في الاطمئنان على أموالهم وأنها أي هذه الأموال قد استعملت في الأغراض الخيرية المخصصة لها .(3/146)
هذا ونظراً لأننى أقع في موقع نائب رئيس جمعية المركز الإسلامى بشنشور، أود هنا أن أعرفكم بالأسباب التى أدت إلي التأخير في التنفيذ ، ولعل أهم هذه الأسباب هى الرسوم التنفيذية للمشروع ، فلقد تقدم لنا حتى الآن ثلاثة مشروعات وجميعها لا تفى بالغرض المطلوب وأحدها فقط يجمع بين كل الأهداف 00 لكن بصورة هستيرية لا نظام فيها ولا جمال ، ولقد كنت أنا شخصياً أول من منعوا أخذ التراخيص اللازمة لتنفيذ هذا المسح لأننا يا فضيلة الشيخ نريد أن نقيم صرحاً جميلاً يكون منبعاً للخير والبركات ومنبراً للهداية مركز إشعاع للدعوة الإسلامية اليوم وفي المستقبل إن شاء الله ، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بإذن الله 00
لذا كان التريث لمدة سنة أو سنتين في بدء التنفيذ لا يعد تأخيراً ، بمعنى الكلمة بالنسبة للعمر الافتراضي للمشروع 00 ومن الكرم الإلهى أننا وفقنا في الفترة الأخيرة لأحد المكاتب الهندسية المتخصصة في المشروعات الإسلامية تحت إشراف اثنين من أكفأ المهندسين في هذا الشأن ، وهما المهندس المعمارى نبيل صالح شحاته والمهندس الإنشائي يسري رمضان محروس 00 ولهما خبرة عريضة في إتمام مثل هذه المشروعات حيث عملا معاً في قطر بالدوحة بالإدارة الهندسية في رئاسة المحاكم الشرعية والتركات وهى الهيئة المهيمنة على بناء جميع المباني الإسلامية والمساجد الجامعة 000 الخ.
هذا بالإضافة إلي أن أحدهما هو من أبناء شنشور والمتحمس للمشروع وهو أخى المهندس يسري رمضان محروس000 وقد تبني مكتبهم الهندسي العمل في هذا الشأن أي تصميم المركز الإسلامي والإشراف الهندسي على تنفيذه من مدة أسبوعين اثنين فقط00
لذا فنحن نستبشر خيراً 00 وجميعاً هنا نرى أن الله قد قيض لنا أهل الخير للمساهمة في وضع الخطوط الأولى والخطوات الأولى على طريق تنفيذ هذا الصرح الدينى العظيم.(3/147)
والآن استسمح سيادتكم أن أنوه أن الأموال المتوفرة لدينا الآن قد تكون مناسبة للعمليات المبدئية ، مثل عمليات المسح والأساسات والحفر والردم 000 الخ ولسوف نعطيكم دائماً فكرة عن آخر التطورات طرفنا ، فإنكم مفتاح كل خير وعلى أيديكم فتحت لنا أبواب تبرعات كثيرة ولنرد الفضل لأهله.
وفقكم الله للخير والهدى 00 وجعلكم دائماً أبدأ نوراً نستنير به معلماً نتعلم منه ، ودمتم لنا على طول الطريق.
وفي ختام هذه الرسالة أطمئنكم إلي أن كل تبرع تبرعتم به من أجل إقامة صرح المركز الإسلامى بشنشور سيوضع في موضعه الصحيح ، فهذه الأموال التى تتبرعون بها قرشاًَ وخمسة وعشرة وجنيهاً ومائة ، وآلاف 00 والله إن مسؤوليتنا عن القرش الواحد لهى نفس مسؤوليتنا عن الآلاف ولن تبرأ ذمتنا أمام الله ثم أمام الناس إلا إذا استعملت فيما دفعت له . والحمد لله .. فجميع المسئولين عن المركز الإسلامي من خيرة الناس 00 جميعهم لا يبغون مدحاً ولا مديحاً بل خيراً ورحمة من الله 00 وجميعهم خيار من خيار والآن استودعكم الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نائب رئيس مجلس إدارة المركز الإسلامي بشنشور
د. محمود ياسر رمضان
الفصل السادس
ثناء العلماء عليه
…من الخير للعلم حملته أن يكتب العلماء عن العالم ، والأدباء عن الأديب ، ولا شك أن ما كتبه العلماء والأدباء عن هذا العالم الفحل والشيخ الثقة يمثل صوراً صادقة وتراجم حية لما كان إليه هذا العالم من تواضع وتقى وزهد وصبر وإخلاص وتجرد وصدق وحب لهذه الأمة ، وحرص على أن تظل منارة هدى ومصدر خير وعز للإسلام والمسلمين .
إنه ما من أحد عاصر الشيخ عبد الرزاق وعرفه وجلس إليه واستمع منه ، إلا وأثنين عليه ، أجمل الثناء بما هو له أهل ، بل دون ما هو له أهل ..
ولله در من قال :
شهادة أهل العلم بالحق تقصد ……ويرغب فيها للمعاد و تحمد
واحرى إذا أدى الشهادة عالم ……خبير بمن ضلوا خبير بمن هدوا(3/148)
إن ما كتب عن الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - يبين عن وفاء عميق ، وشعور شريف نحو هذا العالم الذي عاش لدينه وخشي الله بعلمه ، وأطاعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه .
وما يستطيع مثلى أن يحصى ثناء الناس عليه ، ولا حصر فضائله ومحاسنه ، وكان ينبغى أن يكتب بكل فضيلة له كتاب مستقل ، وجميع ما كتب عنه دون منزلته.
وإليك أخى القارئ باقة ومن الآراء والأقوال فيه ، هى دليل صدق وشاهد عدل على سعة علمه وكثرة محاسنه ، وغزارة محامده ، ورجاحة عقله وتقدمه وفضله.
الشيخ عبد الرزاق عفيفي كما عرفته
…صاحب الفضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - أعرف عنه التواضع والعلم الجم والسيرة الحميدة ، والعقيدة الطيبة ، والحرص العظيم في أداء عمله علتى خير وجه - رحمة الله .
وكان مثالاً في الجد وفي أداء عمله على الوجه المطلوب ، ومثالاً جيداً أيضاً في حسن السيرة والمخاطبة للجمهور مع سعة الصدر لإجابات السائلين.
فنسأل الله له المغفرة والرحمة ورفع الدرجة وأن يصلح عقبه وصلي الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
من الراسخين في العلم
" الشيخ عبد الرزاق عفيفي "
…الحمد لله ب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، إله الأولين والآخرين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين وإمام المتقين. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلي يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً 000 وبعد :
…فقد طلب منى الأخ محمد بن أحمد سيد أحمد أن أكتب له ما أعرفه عن الشيخ عبد الرزاق عفيفى- رحمة الله - ، فأجبته إلي ذلك بأن الشيخ - رحمة الله - كان ذا عقل راجح وبعد نظر وكثرة صمت إلا إذا كان الكرم خيراً . مع ما حباه الله به من العلم الراسخ وحسن التعليم وقلة الحشو في كلامه.
قدم عنيزة سنة 1370 هـ للتدريس في المدرسة الثانوية واجتمع بشيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدى - رحمة الله - فأعجب به .(3/149)
جلس لتدريس العربية والبلاغة فكنت من تلاميذه وانتفعت به كثيراً غي علم الصرف والبلاغة. وشاركته في مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية فكان رأيه محل التوفيق والسداد.
أسأل الله تعالى له المثوبة والرضوان وأن يجمعنا به وإخواننا المؤمنين في أعالى الجنان أنه تعالى هو الوهاب المنان.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 23 ربيع الثاني عام 1417 هـ
فضيلة شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي كما عرفته
هو شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي العالم الأزهرى الجليل ، كان سلفي العقيدة متمكناً في العلوم الشرعية والعربية ، قدم إلي المملكة العربية السعودية مدرساً في المعارف ثم في المعاهد العلمية وكلية الشريعة بالرياض ، ثم مديراً للمعهد العالى للقضاء ، ثم عمل في دار الإفتاء نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للإفتاء وعضواً في هيئة كبار العلماء واستمر في ذلك إلي أن توفاه الله.
وكان إلي جانب هذه الأعمال الجليلة يشارك في الإشراف ومناقشة الرسائل الجامعية ، وكان مرجعاً لطلاب العلم والمستفتين من مختلف الطبقات ، ويقوم بالدعوة إلي الله بإلقاء المحاضرات والمشاركة في الندوات العلمية والوعظ والخطابة. فقد كان إماماً وخطيباً في أحد الجوامع الكبار في مدينة الرياض مدة طويلة من الزمن . كان متخصصاً في كثير من العلوم خصوصاً علم التفسير والحديث والتوحيد 00 تخرج عليه أجيال من الطلاب استفادوا من علمه واقتبسوا من سيرته.
عرفت الشيخ - رحمة الله - معرفة خاصة حيث درست عليه في المعهد العلمي ببريده وفي كلية الشريعة في الرياض وفي المعهد العالي للقضاء وآخذت عنه في هذه المراحل التفسير والحديث والعقيدة ، كما تشرفت بإشرافه على رسالتي في الماجستير والدكتوراه فكان لي نعم الموجه الناصح والمعلم المخلص الخبير ، استفدت كما استفاد الكثيرون غيري مكن علمه الغزير وطريقته الفذة في التدريس وإلقاء الدروس والمحاضرات.(3/150)
كان ذكياً بعيد النظر ذا أناة وروية في الأمور ، ولذلك فقد اتخذه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتى الديار السعودية - رحمة الله - مستشاراً يعتمد عليه حين تأسيس الكليات وفي اختيارك القضاة والمدرسين والدعاة. وكان لآرائه السديدة أثراً بالغاً وقبولاً طيباً لدى سماحة الشيخ وغيره من المشايخ . كان الشيخ عبد الرزاق - رحم الله - ذا سمة ووقار وعفة وقناعة واستقامة وورع مع تبحر في العلم ، وإجادة في أداء العمل ، مما يجعله في مصاف الرجال العظماء وكبار العلماء.
رحم الله شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
تلميذه صالح بن فوزان
العالم العامل 00 فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
" رحمة الله "
فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله - أحد أعلام هذه الأمة وعلمائها في هذا العقد من الزمان ، أحسبه كذلك ولا أزكى على الله أحداً ، فقد كان يعمل بصمت وهدوء وسكينة لخدمة هذا الدين ونشر علومه وإبلاغ دعوة الله عز وجل ، والعناية بطلبة العلم وتوجيههم إلي أصول العقيدة الإسلامية الصافية ، ويزودهم بالنصائح الثمينة التى تمكنهم من تلقى العلوم العلم ونقله للآخرين ، وقد ملأ - رحمة الله - فراغاً كبيراً في هذا المجال ، وعمل - رحمة الله - باقتدار في جميع المسؤوليات والمهام التى أنيطت به طوال نصف قرن من الزمان ، من خلال عضويته في هيئة كبار العلماء ، وفي اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء باعتباره نائباً لرئيسها ، وفي هذه الميادين العلمية والدعوية كان الشيخ عبد الرزاق يتمتع بمزايا فريدة لا تكاد تتوافر إلا في القليل من الرجال الذين وهبهم الله ذكاءً وفطنة وجلداً وأخلاصاً .
لقد عرفت الشيخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله -عن قرب ، فعرفت فيه الورع والزهد والبلاء الحسن في العمل ، وإفادة الناس ، وإرشادهم إلي ما فيه عزهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة.(3/151)
كان - رحمة الله - مثالاً في علمه وأدبه وأخلاقه ، وقدوة في تصرفاته ، كان مجاهداً ربانياً ، قضي حياته في العلم والتعليم والتربية والدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكان يكره الإثارة ، حريصاً على التالف والتئام الصف واجتماع الكلمة ، وتوحيد القصد والهدف ، ولا شك أن هذه الأمور من أنبل المقاصد وأعظم الغايات.
لقد أوتى الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - عقلية جبارة مكنته من التكييف الفقهى للمسائل والنوازل ، واستخراج الأحكام من النصوص ، وتطبيقها على مستجدات الواقع. وكانت له إسهامات مشكورة في المجامع الفقهية والمؤسسات الدعوية. وكان على صلة طيبة بالعلماء والدعاة وولاة الأمر ، وكان ناصحاً أميناً رفيقاً صادقاً في نصحه ، لا يخشي في الله لومة لائم ، يعرف للناس قدرهم ، وينزلهم منازلهم اللائقة بهم.
وكان الشيخ - رحمة الله - على صلة قوية بجدى الشيخ محمد نصيف ،وكان جدى - رحمة الله - يعرف له حقه وقدره ، وكان بينهما مراسلات ومكاتبات لها صلة وثيقة بالمطبوعات ونشر الكتب وتحقيق التراث ، علماً بأن الشيخ عبد الرزاق كان مقلا في التأليف ، ولكنه كان حريصاً هلى نشر وتحقيق كل ما يعود بالنفع على المسلمين في العاجل والآجل.
ومن أهم المؤلفات والكتب التى اعتني بها الشيخ عبد الرزاق - رحمة الله - وعلق عليها كتاب " الإحكام في أصول الأحكام " للآمدى ، و " العقيدة الواسطية " و " مذكرة في التوحيد " وهي من إملاءاته.
رحمة الله واسعة ، وأسكنه فسيح جناته 000
والله الموفق الهادى إلى سواء السبيل .
عبد الله عمر نصيف
كلمة عزاء ورثاء بقلم :
فضيلة الدكتور الشيخ عبد الملك بن عبد اللهم بن دهيش
الرئيس العام السابق لرئاسة تعليم البنات
بالمملكة العربية السعودية
في فضيلة الشبخ عبد الرزاق عفيفي - رحمة الله(3/152)
…كان - رحمة الله - علماً من علماء الإفتاء وإماماً من أئمة الدعوة والإرشاد ورائداً من رواد العلم وحملة القرآن الكريم ، وداعياً من دعاة الشريعة والحق والخير ، قضي طلبة العلم ، ومعيناً لا ينضب بعلمه الغرير ، وسلوكه القويم ، ونبراساً للأجيال القادمة.
إنه المغفور له إن شاء الله فضيلة الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الذي درس العلم من منابعة حتى نال الشهادة العالمية من الأزهر ، وتدرج في سلك التدريس بدءاً بدار التوحيد بالطائف ، ثم في كليتى الشريعة واللغة العربية بالرياض قبل أن يعين - رحمة الله - مديراً للمعهد العالى للقضاء.
وقد عرفته - رحمة الله - عن قرب ، حيث حضرت كثيراً من مجالسه العلمية برفقه والدى - رحمة الله - الشيخ عبد الله دهيش ، فقد كانت بينهما زمالة ومعرفة ، وحب للعلم ونشره ، كما كان والدى كثير الثناء عليه ، مشيداً بعلمه الغزير.
رحم الله الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمة واسعة ، وأرجو الله أن يجعله من العلماء المخلصين المقبولين ، وأن يحشره مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسنك أولئك رفيقاً . إنه ولى ذلك والقادر عليه
كتبه
د. عبد الملك بن عبد الله بن دهيش
الرئيس العام لتعليم البنات
بالمملكة العربية السعودية سابقاً
إنما كان إماماً
بقلم : أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهرى
لا أزال أذكر احتجاج الإمام أبي محمد بن حزم في رسالته الميزان التى فاضل بها بين الأندلس والقيروان ، وقد أوردها المقرى كاملة في " نفخ الطيب " وعنون لها بالوصف لا بالاسم على أنها في فضل أهل الأندلس ثم طبعها الدكتور المنجد عن هذا الأصل بهذا العنوان في رسالة مستقلة ، وقد احتج في هذا الفصل على أن من كان من غير أهل الأندلس وقد عاش فيها ومات بها فهم ( أي الأندليسون ) أولى به ، وهو معدود من مفاخرهم ما دام من الأعلام الثقافية والعلمية.(3/153)
ومن كان أصلاً الأندلس ثم أستبدلها بدار أخرى فعاش فيها ومات عندهم فهم أولى به.
قال أبو عبد الرحمن : وعلى هذا القانون تفخر سعوديتنا بعلامتها الإمام سماحة الشيخ عبد الرزاق عفيفي قدس الله روحه ونور ضريحه ولقاه ربه الروح والريحان والرضوان وأدخله فسيح جناته ،فقد اختار الرياض بلده ومثواه في النصف الأخير من عمره المبارك ، وهو النصف الناضج المليء بالعلم والعطاء.
ولم يأت عبد الرزاق إلي المملكة ليكون سلفياً ولا ليكون موظفاً 00 بل كان منهجه العلمى في الرياض هو منهجه العلمى بمصر قبل أن يدور بخلده أنه يأتي للسعودية ، بلم عندما كانت مصر أكثر خيراً وقبل أن تتدفق عندنا ينابيع الذهب الأسود.
كان نشر " العلو للعلى الغفار " للحافظ الذهبي - من كتب السلف - من أوائل تحقيقاته المطبوعة القليلة ، وذلك عندما كان بمصر بشبين الكوم ، وكان زملاؤه من أمثال الشيخ محمد بن عبد الوهاب بحيرى ، ومحمد بن راشد وابن يابس ، يقصون أخباره وهو بمصر يخرج التلاميذ أكثر مما يخرج الكتب ، فذكروا عنه علماً وعقلاً وعفة وسلفية .
ووصلت أخباره لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم فحرص على استقدامه.
وكانت السعودية مقر السلفية وناشرة علم ابن تيمية ، وزينتها الحرمانم الشريفان فرغب الشيخ عبد الرزاق في السعودية لهذه الأشياء لأنه سلفي بعقله ووجدانه.
وجاء إلي السعودية على علمه وسجيته لم يجتذبه طمع في مال أن جاه أو منصب ، وعلم الله نيته فانقادت له كل أسباب العز الدنيوى : وهو لم يطلبها فكان في هذه المملكة أستاذ جيل بحق تتلمذ عليه أبناء ما بين السبعين إلي الثلاثين ، ولا يزال تلامذته مربين للأجيال أهل منابر وحلقات وتدريس وتأليف.
والبرهان على أنه ليس طالب مجد دنيوى أنه ما التمس سبيلاً لازدياد كسب مادى غير رويتبه تلقاء عمله الوظيفى الذي كرس له كل وقته.
وما أكثر سبل الكسب المادى لو أردها(3/154)
وبعد عن الإعلام والإعلاميين بعداً لا وهوادة فيه ، وما عرفت من عبد الرزاق حياة قط غير حياته بين طلابه في الصف ، أو بين مريديه في بيته يقرأون عليه ويسألونه ، أو في صميم عمله الوظيفى لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم يذاكره في العلم ويستفتيه في واقع الطلبة الذين يرشحون للقضاء والمناصب القيادية وكان رحمة الله عمدة في ترشيح الخريجين وتزكيتهم.
ولما أحيل للتقاعد مرت سنين لم يراجع لاستلام استحقاقه لأنه وقلة من المشايخ خارج المملكة عن التقاعد من دون أن يكتب فتوى في ذلك ، وإنما حمل نفسه على الأشد لأن كثيرين من السلف يتورعون عن بعض المباح ، وباب الزهد واسع عند الأسلاف.
وأبي الملك فيصل رحمة الله إحالة أمثال عبد الرزاق إلي التقاعد وأوصي بأن يظل منبعاً ثراً مدى حياته.
وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أكثر تعلقاً به لما جربه من غزير علمه ورجاجة عقله وعفته وتورعه ، فلم يأذن له بالاستراحة وقد أناف على التسعين واحتنكته أمراض عديدة ، فالتزم الشيخ عبد الرزاق جانب الحسبة ما دامت قوته العقلية لم تضعف ، فكان يذهب إلي مكتبه يدف على العجل.
ومع أنه اكتفى برويتبه وبقى في فليلة بحارة شعبية لا تليق بأصغر تلامذته ، فإنه لم يدخر من هذا الرويتب شيئاً ، فقد كان يوزعه على أسر فقيرة في مصر ، وكانت له صدقات في رمضان سخية على بعض المستحقين بالمملكة ، وعندما كنت بمعهد القضاء العالى كان هناك مكافآت للطلاب المغتربين تتأخر فكان يقرضهم وكان يتنازل عن حقه لدى هذا ويأخذ بعض حقه من ذاك.
وكان العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي فرسي رهان ويظل لكل واحد منهما ميزته.
وقد جريت دروسه في التفسير والأصول والعقيدة ، وسبرت شيئاً من علمه بالعقليات في نقاش شفهي إلا أنني عندما جئت إلي معهد القضاء العالى وكان مديره وكان مدرساً فيه ، وكنت من قدماء من التحق بالمعهد وبالعكس كنت من أواخر المتخرجين منه.(3/155)
وقد زاملت في هذا المعهد من هو في دور مشايخي وما دام التغابن في العلم من باب التنافس المحمود فما غبنني إلا جبهات وكتل من العقل البشري جاءت إلي المعهد بعدى وتخرجت قبلي بسنين منهم من كان أول ممتازاً منذ بدأ إلي أن انتهى مثل أصحاب المعالى الدكاترة : عبد الله التركى وحمود الفايز وعبد العزيز الربيعة.
جئت إلي المعهد وكان الشيخ عبد الرزاق يكن لى ذكريات حب وإعجاب كما يفرح الأب بابنهم النجيب إلا أنه وجدنى على غير عهده ، إذ وجد شيئاً من الأناقة في الملبس والمظهر مع توسع الأدباء والظرفاء فلم يغسل يده منى لأنه يحس عندى عناصر من التأصيل الشرعي ، ولم يفرح بي كما يفرح بنجباء تلامذته الذين لا يزالون على سمتهم.
وقد فضحتنى الصحافة أو فصحت نفسى بها بشيء من الترطيب الفنى ، حتى أنني لم أبال بمشايخي في مقدمتى لكتيبى " نظرات لأهية " وكان إذا رآني وأحس بأن الساحة خلية من سامع رمى كليمة من مثل قوله : " يا أبا عبد الرحمن لا تسقط من الزنبيل ".
كأنه يريد أننا نريد رفعتك وأنت تأبي إلا أن تتدلى
وعندما كنت طالباً في المعهد كنت أحمل شيئاً من الصلف الأدبى والصحفى أمام جهابذة العلم ، وأحضر فصول الدراسة للاعتداد بنفسي أكثر من الاستفادة من مشايخى.
وقد نغصت على مشايخ لى من أمثال البحيرى والدسوقى إلا أن الشيخ عبد الرزاق لا يترك مجالاً لفضولى لأنه يأسرنى فكراً ووجداناً ولغة إذا تحدث فأصغى للدرس وأستفيد على الرغم منى.
ومن سخافاتى أنني أحضر للآية التى سيفسرها من أكثر من تفسير لاستدرك عليه شيئاً فاته ، فإذا شرع بدرسه تبخر كل شيء في جعبتى لأنه يتناول الموضوع تناول خاصة من العلماء جمعوا بين الحفظ والذكر.
فكانت مادته دسمة ، وكان قديراُ على التوصيل لأنه كمان جذاباً وغرياً.
وما سمعت منه قط كلمة مؤذية ولكنه كان يفرض هيبته واحترام الطلاب له تلقائياً بشكل عجيب.(3/156)
و انتهيت من المعهد بدرجة مقبول ، وكانت هذه الدرجة إنقاذاً منه لى ، وقد صرح أمام لجنة المناقشة أن انتشالي تقديراًُ لي وليس لبحثى.
إذن لم أنل من عبد الرزاق شهادة علمية وإنما فزت منه بمنهج تربوى تعليمى كريم ، فعندما تأزمت لشيخي البحيرى رحمة الله وتولى الإشراف على فترة قليلة ريثما أعادنى إلي مشرفي الأول تخلقت منه بخلق علمي فكنت ألخص أقوال بعض العلماء بفهمي وأسلوبي فيطالينى بالتنصيص ثم يستعيد النص منى مراراً حتى يبين لي أن ما فهمته ولخصته كان فهماً خاطئاً .
وأحياناً أنقل نقلاً عن عالم ثم أحيل أقوال آخرين ظننت أن مذهبهم كان واحداً فيطالبني بالتنصيصى ثم يظهر لي فروقاً دقيقة يتضح منها أن المذهب ليس واحداًُ.
وغننى لأعجب من استحضاره ذلك وقد فاجأته بالبحث مفاجأة : فنهجت في حياتي العلمية بعد ذلك أن أقرأ النص جيداً ، وأن أنقله تنصيصاً فإن اضطررت إلي تلخيصه وعرضه بغير لغة مؤلفه أدمنت قراءاته حتى أتأكد من فهمى له فهماً يطابق مراد كاتبه .
وكان رحمة الله منصفاً في جدله العلمي يفرق بين صحة الدعوى في ذاتها أو فسادها وبين صحة أو فساد البرهان المستدل به على الدعوى ، ويري أن فساد حجة ما لا يعنى فساد المدعى ، ولهذا تراه يناقشك في أدلتك أو اعتراضاتك ثم يلهمها مع أنه يوافقك في المدعى.
وتكوينه العلمي يعلم طلابه الحرية الفكرية ، ولهذا فهو يرى النقاش في الدرس والأطروحات وسيلة للاستقلال الفكرى بأن يكون الطالب قادراً لاجتهاد طالب العلم خارج أسوار المعهد وفق ما لديه من حصيلة علمية وفطرية فكرية ونزاهة خلقية.
والشيخ له باع في المنطق والعقليات وعلم الكلام ، وعلى علم وخبرة بمواقع الضعف في كتب العقيدة التى تدرس خارج المملكة على أسلوب المتكلمين كالسنوسية.(3/157)
بل كان الشيخ ذا عناية بالسلفية قبل أن يصل إلي السعودية إلا أن سماحتة لا يتظاهر بعمله ، ولكنه إذا سئل ، أو ناقش أو طلب منه الدليل والتأصيل كانت فتواه عن علم مؤصل لا يملكه إلا خاصة من الأسلاف جمعوا بين المعقول والمنقول حديثاً وتفسيراً وأصولاً ولغة ومنطقاً.
وتعليقاته القليلة على بعض الكتب الفحل ، " إحكام الأحكام " للآمدى في الأصول كانت قليلة ، وكانت لمحة عالم.
والشيخ في جبلته يؤمن بتخريج الطلاب وتسهيلا العلم الذي ورثناه عن الأسلاف دون حاجة إلي مزيد من التأليف.
ولهذا نفع الله بدروسه وتلاميذه فكانت له في وسطنا العلمى بالسعودية بصمة متميزة تجمع بين المعقول والمنقول.
رحم الله الفقيد وجمعنا به في دار كرامته 00000000
السيرة الذاتية للشيخ عبد الرزاق عفيفي
بقلم فضيلة الشيخ مناع بن خليل قطان
استمع إلي الشيخ مناع بن خليل القطان رفيق الشيخ عفيفي في دربه الطويل أحد تلامذته وابن قريته ، وأحد أقرب الناس إليه ، وهو يتحدث عن سيرة الشيخ قائلاً : في قرية هادئة متواضعة تترابط أسرها ، وتمتزج في كيان واحد ، وتنسم عبير الإخاء والود في مجتمع ريفي صغير هى قرية ( شنشور ) إحدى قرى محافظة المنوفية بمصر في هذه القرية كانت ولادة الفقيد سنة 1323 هـ وكانت النشأة التى تغمرها العاطفة الدينية ، فتحرك مشاعر الإيمان وتجعل من الدعوة إلي الله سياجاً حصيناً ، وأصبح عبد الرزاق عفيفي بين أقرانه الفتى الموهوب في حفظه للقرآن الكريم وإقباله على العلم .
التحق رحمة الله بالأزهر وأنهى الدراسة العليا في التخصص بالفقه وأصول والعالمية وهى الشهادة التى تسمى في الاصطلاح العصري ( بالدكتوراه ) ودرس في الأزهر بمعهد شبين الكوم ، ثم معهد الإسكندرية.(3/158)