تاريخ الخلفاء الراشدين (4)
سيرة أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -
شخصيته وعصره
دراسة شاملة
تأليف : علي محمد محمد الصلابي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى للناشر
1426هـ - 2005م
رقم الإيداع: 9849/2005
الترقيم الدولي: I.S.B.N
977- 6119 - 61 -1
الإهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله تعالى أهدى هذا الكتاب، سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يكون خالصًا لوجهه الكريم. قال تعالى {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110].
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا - يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70، 71].
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، ولك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، أما بعد..(1/1)
هذا الكتاب الرابع في دراسة عهد الخلافة الراشدة، فقد صدرت عدة كتب عن الصديق والفاروق وذي النورين، وقد سميت هذا الكتاب:«سيرة أمير المؤمنين علىَّ بن أبى طالب، شخصيته وعصره»، ويتحدث هذا الكتاب عن أمير المؤمنين علىَّ من الميلاد حتى الاستشهاد، فيبدأ بالحديث عن اسمه ونسبه ولقبه ومولده وأسرته وقبيلته، وإسلامه، وأهم أعماله في مكة، وعن هجرته، ومعايشته للقرآن الكريم وأثرها عليه في حياته، وعن تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر، وعن مكانة القرآن الكريم عنده، وما نزل فيه من القرآن الكريم، وعن الأصول والأسس التي سار عليها أمير المؤمنين علىٌّ في استنباط الأحكام من القرآن الكريم وفهم معانيه، وعن تفسير أمير المؤمنين علىٍّ لبعض الآيات الكريمة، وعن ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ طفولته، ومعرفته العميقة بمقام النبوة وكيفية التعامل معه، فقد أوضح معالمه بأقواله وأفعاله، وكان حريصًا على تعليم الناس وحثهم على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله وتقريراته. فبيَّن وجوب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولزوم سنته والمحافظة عليها، وأوضح دلائل نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفضله وبعض حقوقه على أمته- صلى الله عليه وسلم -. ويجد القارئ الكريم نماذج من اتباع أمير المؤمنين علىٍّ للسنة النبوية المطهرة، ويتحدث الكتاب عن أسماء بعض الرواة عن أمير المؤمنين علىٍّ من الصحابة والتابعين وأهل بيته.(1/2)
وينتقل الكتاب بالقارئ إلى حياة أمير المؤمنين في المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتكلم عن زواج أمير المؤمنين علىٍّ من السيدة فاطمة رضي الله عنها، وما في هذا الزواج من دروس وعبر في المهر والجهاز، والزفاف والمعيشة والزهد، وصدق لهجة السيدة فاطمة وسيادتها في الدنيا والآخرة، وترجمت للحسن والحسين رضي الله عنهما ترجمة مختصرة، وبينت فضلهما وما ورد فيهما من أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتكلمت عن مفهوم أهل البيت عند أهل السنة، وما يخصهم من أحكام، كتحريم الزكاة عليهم، وكونهم لا يرثون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحقهم في خمس الخمس في الغنيمة والفيء، والصلاة عليهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووجوب محبتهم واحترامهم ومودتهم، وبينت مواقف أمير المؤمنين في سرايا رسول الله وغزواته، كبدر وأحد والخندق، وبنى قريظة، والحديبية وخيبر، وفتح مكة، وغزوة حنين، وعن استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلىٍّ على المدينة في غزوة تبوك 8هـ وحج أبى بكر بالناس، ودور علىٍّ رضي الله عنه الإعلامى، ووفد قد نصارى نجران وآية المباهلة، وإرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا داعيًا وقاضيًا لليمن، وأقضيته التي حكم بها في اليمن السعيد الحبيب، ومواقف علىٍّ في حجة الوداع، وقصة الكتاب الذي هم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابته في مرض موته، وعن العلاقة بالخلفاء الراشدين، ومكانته في دولة الخلافة الراشدة، فتكلمت عن مبايعته لأبى بكر بالخلافة ومساندته له في حروب الردة، وتقديمه وتفضيله للصديق، وإقتدائه به في الصلوات وقبول الهدايا منه، وأشرت إلى العلاقة بين الصديق والسيدة فاطمة وقصة ميراث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورددت على الشبهات الرافضية حول قصة الميراث ونسفت حججهم وأدلتهم بالبراهين القاطعة والأدلة الناصعة، وكشفت الستار عن رواياتهم الضعيفة والموضوعة، وأثبت محبة السيدة فاطمة للحق والتزامها بالشريعة، واحترامها لخليفة رسول الله أبى بكر، وتسامحها معه، واحترام أهل البيت للصديق والمصاهرات المتبادلة بين آل الصديق وأهل البيت، ومحبتهم له وتسمية(1/3)
أولادهم عليه، وتحدثت عن مساهمات علىٍّ في عهد الفاروق في الأمور القضائية، والتنظيمات المالية والإدارية واستخلاف عمر لعلىٍّ على المدينة مرارًا، ومشاورته له في أمور الجهاد وشئون الدولة، وعن العلاقة الحميمة المتينة بين الفاروق وأهل البيت، وزواج عمر من أم كلثوم بنت على بن أبى طالب، وحقيقة هذا الزواج الميمون المبارك، وتركت الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة تنسف الأكاذيب من جذورها فتركتها قاعًا صفصفًا، وأخذت الحقائق التاريخية ترسم لنا حقيقة المحبة والمودة بين الصحابة الكرام، كما جاءت في القرآن الكريم، ووضحت بيعة على لعثمان رضي الله عنه ورددت على الأكاذيب التي ألصقت بها، وتحدثت عن جهوده في دعم دولة ذي النورين، ودفاعة عنه أمام الغوغاء، ومواقفة في فتنة مقتلة في بدايتها، وأثناء الحصار، وبعد استشهاده، وتحدثت عن المصاهرة بين آل عثمان، وأتيت بأقوال علىًّ في الخلفاء الراشدين الذين سبقوه، والتي تدل على محبتهم واحترامهم ومودتهم، والبراءة ممن يسبهم ويشتمهم وإقامة حد المفتري على من يسب الشيخين، ولا يتمالك القارئ المسلم نفسه من البكاء وهو يتأمل في أقوال أمير المؤمنين في الخلفاء وتعامله مع ذلك الجيل القرآني الفريد وساداته الكرام. قال الشاعر.
ومن عجب أنى أحن إليهم
... وأسأل عنهم من لقيت وهم معى
وتطلبهم عينى وهم في سوادها ... ويشتاقهم قلبى وهم بين أضلعى
وقال الشاعر:
إنى أحب أبا حفص وشيعته ... كما أحب عتيقًا صاحب الغار
وقد رضيت عليًا قدوة وعلمًا
... ما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة سادتى ومعتقدى ... فهل علىَّ بهذا القول من عار(1/4)
هذا وقد تحدثت عن بيعة علىٍّ بالخلافة وكيف تمت، وعن أحقيته بها، وإجماع الصحابة على ذلك، وبيعة طلحة والزبير له طوعًا بدون ضغط أو إكراه، وانعقاد الإجماع على خلافته، وشروط أمير المؤمنين في بيعته، أول خطبة له، وأهل الحل والعقد في دولته، وشيء من فضائله وأهم صفاته وقواعد نظام حكمه، وتوسعت في الحديث عن صفاته، فبينت علمه الواسع وفقهة الغزير، وزهده، وتواضعة، وكرمه وجوده، وحياءه، وشدة عبوديته، وصبره، وإخلاصه، وشكره لله، ودعاء الخاشع، وعن المرجعية العليا لدولته، وسيرها على كتاب الله وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، والاقتداء بالخلفاء الراشدين الذين سبقوه، وعن حق الأمة في الرقابة على الحكام، والشورى، والعدل والمساواة، والحريات، وعن حياته في المجتمع واهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ودعوته للتوحيد ومحاربته للشرك، وتعريفه الناس بأسماء الله وصفاته، وبنعم الله المستوجبة لشكره، وحرصه على محو آثار الجاهلية، وحرصه على بطلان الاعتقاد بالكواكب، وإحراقة لمن غلوا فيه وادعوا فيه الألوهية، وحديثه عن كيفية بداية الإيمان في القلب وتعريفه للتقوى، ومفقهوم القضاء والقدر، وكيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم.(1/5)
ونقلت شيئًا من خطبة ومواعظة، وما ينسب إليه من شعر، أو يتمثل به في مناسبات عديدة، واخترت مجموعة قيمة من حكمه التي سارت مضرب المثل بين الناس، وتكلمت عن حديثه عن صفات خيار العباد، وعن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ووصف الصحابة الكرام، وتحذيره من الأمراض الخطيرة التي تصيب القلوب، كطول الأمل واتباع الهوى، والرياء، والعجب، وعن اهتمامه بترشيد الأسواق، ومحاربته للبدع، والأعمال التي تخالف الشرع في أوساط الناس، وتحدثت عن المؤسسات التي في دولته، كالمالية، والقضائية، ومؤسسة الولاة، وعن الخطة القضائية والتشريعية في عهد الخلفاء الراشدين، والمصادر التي اعتمدها الصحابة في ذلك العهد، وعن ميزات القضاء في عهد الراشدين، وعن أشهر قضاة أمير المؤمنين على، وعن أسلوبه القضائي، ونظرته للأحكام الصادرة قبله، والمؤهلين للقضاء، ومجانية الحصول على الحكم، وعن اجتهاداته الفقهية في العبادات، والمعاملات المالية، والحدود والقصاص والجنايات. وأشرت إلى مسألة حجية قول الصحابى والخلفاء الراشدين، وبينت في حديثى عن مؤسسة الولاة، وأقاليم الدولة في عهده وما وقع في كل إقليم، من أمور جسام، وتكلمت عن منجهه في تعيين الولاة، ومراقبته لعماله وبعض توجيهاته، والصلاحيات الممنوحة للولاة..من تعيين وزراء مع كل وال في كل أقليم، وتشكيل مجالس الشورى وإنشاء الجيوش في كل ولاية، وترسيم السياسة الخارجية في مجال الحرب والسلم والحفاظ على الأمن الداخلي وتشكيل الجهاز القضائي في كل ولاية، والنفقات المالية، والعمال التابعين لكل ولاية ومتابعتهم ودور العرفاء والنقباء في تثبيت نظام الولايات، ووضحت بعض المفاهيم الإدارية من أقوال أمير المؤمنين على رضي الله عنه، كتأكيده على العنصر الإنساني، وعامل الخبرة والعلم، والعلاقة بين الرئيس المرءوس، ومكافحة الجمود، والرقابة الواعية، والضبط، والمشاركة في صنع القرار، وحسن الاختيار لدى الوالى والضمانات المادية والنفسية لموظفى(1/6)
الدولة، ومرافقة ذوي الخبرة، ومفهوم الإدارة الأبوية، وكون التوظيف يتم عبر الضوابط وليس الروابط الشخصية، ثم انتقلت إلى المشاكل الداخلية في عهد علىٍّ رضي الله عنه، فتحدثت عن معركة الجمل مبتدئًا بالأحداث التي سبقتها وعن أثر التنظيم السبئي في اندلاعها، ودور عبد الله بن سبأ في إذكاء الفتن الداخلية، وعن اختلاف الصحابة في الطريقة التي يؤخذ بها القصاص من قتلة عثمان، وعن موقف السيدة عائشة أم المؤمنين، وطلحة والزبير ومعاوية بن أبى سفيان ومن كان معهم في الإسراع بالقصاص من قتلة عثمان، وبينت موقف معتزلى الفتنة، كسعد بن أبى وقاص وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة، وأبى موسى الأشعرى، وعمران بن حصين وأسامة بن زيد ومن سار عن نهجهم، وتكلمت عن موقف المتريثين في تنفيذ القصاص حتى تستقر الأحوال، كأمير المؤمنين علىٍّ، وعن محاولات الصلح قبل اندلاع معركة الجمل، وعن نشوب القتال، وجولته الأولى والثانية، واستشهاد طلحة والزبير، ومبايعة أهل البصرة لعلىٍّ رضي الله عنه، وعن موقف علىٍّ رضي الله عنه من أم المؤمنين عائشة وكيف عاملها واحترمها وقدرها وردها إلى المدينة معززة مكرمة، وأشرت إلى فضائلها وشيء من سيرتها، كما ترجمت للزبير وطلحة رضي الله عنهما لكونهما من الشخصيات المؤثرة في عهد النبوة والخلافة الراشدة وفي عهد أمير المؤمنين علىٍّ، ودافعت عنهما دفاعًا عن الحق لكونهما ظُلما، فبينت فضلهما ومكانتهما في الإسلام، ورددت على الشبهات والأكاذيب التي ألصقت بهما من خلال إثبات الحقائق الناصعة، والحجج الدامغة، وصفاتهما الرفيعة، وأخلاقهما الكريمة، بحيث يخرج القارئ المسلم بمعرفة حقيقية لا لبس فيها ولا غموض، لهذه الشخصيات الفذة، فلا يتأثر بالروايات الضعيفة، ولا القصص الموضوعة التي وضعها مؤرخو الشيعة الرافضة، والتي شوهت ثقافة الناس عن هذه الشخصيات العظيمة، فالحديث عن ترجمة عائشة، أو طلحة والزبير، أو غيرهم من كبار الصحابة،(1/7)
الذين ساهموا في الأحداث التي وقعت في عهد أمير المؤمنين علىٍّ رضي الله عنه ينسجم مع منهجي في دراسة شخصية أمير المؤمنين وعصره، والشخصيات التي أثرت في ذلك العهد ملتزمًا في طرحى بمنهج أهل السنة والجماعة جملة وتفصيلاً، أصولاً وفروعًا.
قال الشاعر أبو محمد القحطانى:
أكرم بطلحة والزبير وسعدهم ... وسعيدهم وبعابد الرحمن
وأبى عبيدة ذى الديانة والتقى ... وامدح جماعة بيعة الرضوان
قل خير قول في صحابة أحمد ... وامدح جميع الآل والنسوان
دع ما جرى بين الصحابة في الوغى ... بسيوفهم يوم التقى الجمعان
فقتيلهم منهم وقاتلهم لهم ... وكلاهما في الحشر مرحومان
والله يوم الحشر ينزع كل ما ... تحوى صدورهم من الأضغان
لا تركنن إلى الروافض إنهم ... شتموا الصحابة دون ما برهان
لعنوا كما بغضوا صحابة أحمد ... وودادهم فرض على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة ... ألقى بها ربى إذا أحياني
وقال أيضًا:
إن الروافض شر من وطئ الحصى ... من كل إنس ناطق أو جان
مدحوا النبي وخونوا أصحابه ... ورموهم بالظلم والعدوان
حبوا قرابته وسبوا صحبه ... جدلان عند الله منتقصان
فكأنما آل النبي وصحبه ... روح يضم جميعها جسدان
فئتان عقدهما شريعة أحمد ... بأبى وأمي ذانك الفئتان
فئتان سالكتان في سبيل الهدى ... وهما بدين الله قائمتان(1/8)
هذا وقد تحدثت عن معركة صفين، ودوافع معاوية رضى الله عنه في عدم البيعة، والمراسلات التي تمت بينه وبين علىًّ رضي الله عنه، ومحاولاتع الصلح، ونشوب القتال، والدعوة إلى التحكيم، ومقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه وأثره على المسلمين، وعن المعاملة الكريمة من الطرفين أثناء الحرب والمواجهة، ومعاملة الأسرى، وعدد القتلى، وترحم أمير المؤمنين على رضي الله عنه على قتلى الطرفين، ونهيه عن شتم معاوية ولعن أهل الشام، ثم تكلمت عن قصة التحكيم، فترجمت ليسرة أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، وبينت بطلان الأكاذيب والقصص الواهية، والموضوعة التي ألصقت بهما في حادثة التحكيم، وأشرت إلى كيفية الاستفادة من قصة التحكيم في فض النزاعات بين الدول الإسلامية. وركزت على موقف أهل السنة من تلك الحروب، وحذرت من بعض الكتب التي شوهت تاريخ الصحابة بالظلم والعدوان، ككتاب الإمامة والسياسة المنسوب زورًا لابن قتيبة، وكتاب الأغاني للأصفهاني، وتاريخ اليعقوبي، والمسعودي وغيرهم من الكتب المنحرفة عن منهج أهل السنة والجماعة، وبينت دور المستشرقين في تحريف التاريخ الإسلامي وتزويره وتشويهه، وكيف استفادوا من كتب الشيعة الروافض، وكيف أسسوا مدرسة معارضة ساهمت في تلويث الأفكار، وتحريف الوقائع وطمس الحقائق، وتوسيع النقاط السوداء في تاريخنا مع المبالغة والتهويل تحت شعارات براقة، كالبحث العلمي النزيه، والواقعية، والموضوعية والحياد، وتبنى تلك الأفكار التدميرية مجموعة من أبناء المسلمين؛ ينتمون للإسلام، لا يحسنون فهمه، ولا عرضه، ولا العمل به، ولا الدفاع عنه، بل تورطوا في شباك أعداء الإسلام الذين يعملون على تشويه تاريخ هذه الأمة وحضارتها التي صنعها دينها العظيم.(1/9)
هذا وقد قمت بدراسة موضوعية علمية في الفصل الأخير عن الخوارج والشيعة الرافضة، فبينت نشأة الخوارج وعرفت بهم، وذكرت الأحاديث النبوية التي تضمنت ذمهم، وانحيازهم إلى حروراء، ومناظرة ابن عباس لهم، وسياسة أمير المؤمنين في التعامل معهم، وأسباب مقاتلته لهم، ونشوب القتال معهم، وقصة ذي الثدية أو المخدج، وأثر مقتله على جيش علىٍّ رضي الله عنه، ووقفت مع الأحكام الفقهية التي اجتهد فيها أمير المؤمنين علىٍّ في معاركة في الجمل وصفين ومع الخوارج، وكيف اعتمد عليها الفقهاء فيما بعد، ودونوها في كتبهم بما يعرف بأحكام فقه البغاة، وأشرت إلى أهم صفات الخوارج في عهد أمير المؤمنين علىًّ، كالغلو في الدين، والجهل به، وشق عصا الطاعة، والتكفير بالذنوب واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، والطعن والتضليل، وسوء الظن، والشدة على المسلمين، وناقشت بعض الآراء الاعتقادية للخوارج، كتكفير صاحب الكبيرة، ورأيهم في الإمامة، وطعنهم في بعض الصحابة وتكفيرهم لعثمان وعلى رضي الله عنهما، وتطرقت لأسباب انحراف الخوارج ونزعاتهم في العصر الحديث، كالجهل بالعلوم الشرعية بسبب الإعراض عن العلماء، والقراءة من الكتب بدون معلم، وغلوهم في ذم التقليد، وتخلى كثير من العلماء عن القيام بواجبهم، وشيوع الظلم والتحاكم للقوانين الوضعية، وانتشار الفساد بين الناس، وعدم تزكية النفوس، وأشرت إلى أهم مظاهر غلوهم، كالتشدد في الدين على النفس والتعسير على الآخرين، والتعالم والغرور، والاستبداد بالرأي وتجهيل الآخرين، والطعن في العلماء العاملين، وسوء الظن، والشدة والعنف مع الاخرين، وتكفير المسلمين.(1/10)
وتكلمت عن فرقة الشيعة الرافضة، فبينت معنى الشيعة في اللغة والاصطلاح، ومعنى الرفض في اللغة والاصطلاح، وسبب تسميتهم بالرافضة، ونشأتهم ودور اليهود في ذلك، والمراحل التي مر بها الشيعة، وأهم عقائد الشيعة الرافضة، وموقف أمير المؤمنين وعلماء أهل البيت من تلك العقائد المنسوبة إليهم، كعقيدة الإمامة وحكم من جحدها، والعصمة ومناقشة أدلتهم على العصمة وبيان بطلانها، وكذلك أدلتهم على النص من القرآن الكريم؛ كآية التطهير، والمباهلة، والولاية، وأدلتهم المزعومة من السنة، كخطبة غدير خم، وحديث: «أنت منى كمنزلة هارون من موسى»، وبيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي استدلوا بها على الإمامة، كحديث الطائر، وحديث الدار، وأنا مدينة العلم وعلىّ بابها، وألحقت بالكتاب فهرسًا للأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يحتج بها الشيعة الرافضة لتحذير المسلمين من الوقوع في حبائلهم، وبينت حقيقة التوحيد عند الشيعة الرافضة، وكيف حرفوا نصوص التوحيد وجعلوها في ولاية الأئمة، وجعلوا الإمامة أصل قبول الأعمال، واعتقادهم أن الأئمة هم الواسطة بين الله وخلقه، وقولهم لا هداية للناس إلا بالأئمة، ولا يقبل الدعاء إلا بأسماء الأئمة، وكون الحج إلى المشاهد الشيعية أعظم عندهم من الحج إلى بيت الله، وكون الإمام عندهم يحرم ما يشاء ويحل ما يشاء، وأن الدنيا والآخرة للإمام يتصرف فيهما كيف يشاء، وإسناد الحوادث الكونية إلى الأئمة، وقولهم: إن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء، وغلوهم في الإثبات، وحقيقة التعطيل عندهم، ومسألة خلق القرآن، ومسألة رؤية الله عز وجل في الآخرة، وتفضيلهم الأئمة على الأنبياء والرسل، وموقفهم من القرآن الكريم واعتقاد بعض علمائهم بتحريف كتاب الله عز وجل والرد عليهم، وموقف الشيعة الرافضة من الصحابة الكرام والسنة النبوية المطهرة، ومفهوم التقية عند القوم، وعقيدة المهدي المنتظر عندهم، والرجعة، وقولهم(1/11)
بالبداء على الله سبحانه وتعالى، وقد بينت موقف أمير المؤمنين على بن أبى طالب وأئمة أهل البيت الأطهار، وعلماء أهل السنة من تلك العقائد الفاسدة والمنحرفة عن كتاب الله تعالى، والتزمت في مناقشتي بالأدب والابتعاد عن السب والشتم، ومناقشة القوم من خلال أصولهم وكتبهم المعتمدة، والحرص على بيان الحقيقة لمحبى أهل البيت من الشيعة ودعوتهم بالاقتداء بأمير المؤمنين علىٍّ رضي الله عنه، وتحذيرهم من المندسين تحت عباءة أهل البيت لغرض إفساد عقائد الناس وإبعادهم عن كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما أن هناكم رغبة صادقة مخلصة لتعريف الجمهور العريض من أهل السنة بحقيقة هؤلاء الشيعة الرافضة، فالقضية لها وجودها وآثارها بين الشعوب في أفريقيا، وآسيا وأوروبا والأمريكتين، ودعاة التشيع الرافض نشطون في دعوتهم المنحرفة يبذلون في سبيلها الغالي والنفيس، ويتحالفون مع خصوم الإسلام الصحيح لضربه والقضاء عليه، وتشويه منهجه، وهذا ليس بجديد، وأهل السنة- إلا من رحم الله - في استرخاء عجيب، ونوم عميق وغفلة عما يراد بهم، وبعضهم يقول: إن الصراع السنى الشيعي الرافضى قد عفا عليه الزمن، وهذا الكلام عار من الحقيقة، ودليل على الجهل، وفي طياته خداع لجمهور المسلمين العريض، باسم التقريب وتوحيد الصف الإسلامي.(1/12)
إن المنهج الصحيح للتقريب هو أن يقوم علماء أهل السنة بجهد كبير لنشر اعتقادهم الصحيح المنبثق من كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبيان صحته وتميزه عن مذهب أهل البدع، فأهل السنة والجماعة هم المتبعون لما كان عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ونسبتهم إلى سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي حث على التمسك بها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»(1)،وحذر من مخالفتها بقوله: «وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة»(2)، وقوله: «من رغب عن سنتي فليس مني»، وهذا بخلاف غيرهم من أهل الأهواء والبدع الذين سلكوا مسالك لم يكن عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأهل السنة ظهرت عقيدتهم بظهور بعثته - صلى الله عليه وسلم -- وهي محفوظة بحفظ الله لها في كتابه وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، وأهل الأهواء ولدت عقائدتهم بعد زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ومنها ما كان في آخر عهد الصحابة، ومنها كان بعد ذلك، والرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر من عاش من أصحابه سيدرك هذا التفرق والاختلاف فقال: «وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا»(3)، ثم أرشد إلى سلوك الصراط المستقيم، وهو أتباع سنته وسنة خلفائه الراشدين، وحذر من محدثات الأمور، وأخبر بأنها ضلال، وليس من المعقول ولا المقبول أن يُحجب حق وهدى عن الصحابة رضي الله عنهم، ويدخر لأناس يجيئون بعدهم، فإن تلك البدع المحدثة كلها شر، ولو كان في شيء منها خير لسبق إليه الصحابة، لكن ابتُلى به كثير ممن جاء بعدهم ممن انحرفوا عما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال الإمام مالك رحمه الله: «لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها»، ولذا فإن أهل السنة ينتسبون إلى السنة وغيرهم بنتسبون إلى نحلهم الباطلة، أو إلى أسماء أشخاص معينين.
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/647، 648).
(2) مسلم (2/592).
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/647، 648).(1/13)
إن المنهج الأصيل للتقريب هو بيان الحق وكشف الباطل وتقريب الشيعة إلى كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم -، وفهم الإسلام الصحيح من خلال علماء أهل السنة، وعلى رأسهم فقهاء وعلماء أهل البيت، كأمير المؤمنين على رضي الله عنه وأبنائه وأحفاده، كما أنه ينبغي التنويه، وتشجيع الأصوات الإصلاحية الشيعية الصادقة واحترامها وتقديرها والوقوف معها في نصيحة أقوامها، كالذي قال به السيد حسين الموسوى في كتابه القيم: «لله ثم للتاريخ، كشف الأسرار وتبرئه الأئمة الأطهار» وكالجهد العلمي الذي قام به السيد أحمد الكاتب مشكورًا في كتابه «تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه»، وعلينا أن نقف مع كل محب صادق لأهل البيت مقتفيًا آثارهم الصحيحة وهديهم الجميل في إرشاد الناس لكتاب الله وسنة نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، ونعاملهم بكل احترام وتقدير، ونأخذ بأيديهم نحو شواطئ الأمان، ونحثهم على إعمال العقل، وتحريره من أغلاله، وإزاحة الركام الثقيل من الأباطيل التي على الفطرة حتى تأخذ العقول النيرة، والفطرة السليمة مجالها في الوصول للحقيقة التي لها نور ساطع وبريق لامع لا تخفيه الغيوم.(1/14)
وعلى علماء أهل السنة أن يلتزموا أسلوب البحث العلمي الهادئ في مناقشة بدع المبتدعة وأن يترفقوا معهم، وقد يكون من تمام الترفق زيارتهم ومعاونتهم في الحدود التي لا خلاف فيها، أو نجدتهم في الملمات وأيام المصاعب، أو نصرهم إذا كانوا في نزاع مع الكافر أو الظالم لهم، وفق فقه السياسة الشرعية الخاضعة للمصالح والمفاسد، إلا أن هذا الأصل في التعاون وحسن العلاقة وهدوء البحث لا يمكن أن يطرد دائمًا ليشمل من يأتي من الشيعة الرافضة بغلو قد يكون في السكوت عنه تحريك الغوغاء والدهماء، بل الواجب أن ننكر على أهل الغلو الشديد الأقوال الشاذة في كل الأحوال، والحد المميز بين الطائفتين؛ الأولى التي نترفق معها في الكلام، والثانية التي نغلظ لها الكلام، إنما يكون كامنًا في مدى اعتماد القائل على نص شرعي تتكون منه شبهة، أو على تأويل قد تميل إليه بعض الأذهان، وأما من يتبع غرائب النقول عن المجاهيل والمتأخرين ومن لا تاويل له، فالإنكار منا تجاهه أولى، وربما كان الإغلاظ في إنكار بدعته أوجب.
قال الشاعر:
واحذر مجادلة الرجال فإنها ... تدعو إلى الشحناء والشنآن
وإذا اضطررت إلى الجدال ولم تجد ... بك مهربًا وتلاقت الصفان
فاجعل كتاب الله درعًا سابغًا ... والشرع سيفك وابد في الميدان
والسنة البيضاء دونك جُنة ... واركب جواد العزم في الجولان
واثبت بصبرك تحت ألوية الهدى ... فالصبر أوثق عدة الإنسان
واطعن برمح الحق كل معاند ... لله در الفارس الطعان
واحمل بسيف الصدق حملة مخلص ... متجردًا لله غير جبان(1/15)
كما أن علماء أهل السنة وأهل الحل والعقد منهم في المجتمعات الطائفية لهم دور كبير في قيادة المسلمين نحو الخير. فهم الذين يقدرون المواقف السياسية والتحالفات الحزبية مع الطوائف الأخرى وفق فقه المصالح والمفاسد الذي تضبطه قواعد السياسة الشرعية، وهذا لا يمنع العلماء والدعاة من تعليم المسلمين أصول منهج أهل السنة وتربيتهم عليه ودعوة الناس إليه، والتحذير من العقائد الفاسدة المندسة في أوساط المسلمين حتى لا يتأثروا بها، والتي يجتهد دعاتها في نشرها بالليل والنهار، والسر والإعلان بدون ملل ولا كلل، ولنا أسوة حسنة في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إبان هجرته للمدينة عندما عقد المعاهدات مع اليهود التي تؤمن لهم حياة كريمة في ظل الدولة الإسلامية، وكان القرآن الكريم في نفس الوقت يتحدث عن عقائد اليهود وتاريخهم وأخلاقهم حتى يتعرف المسلمون على حقيقة الشخصية اليهودية فلا ينخدعون بها، وعندما غدر اليهود كان الصف الإسلامي محصنًا ضد هذه الطائفة.(1/16)
إن الدارس لحركة التاريخ الإسلامي، كمرحلة الحروب الصليبية في عهد نور الدين وصلاح الدين، وزمن العثمانيين في عهد السلطان محمد الفاتح وغيره، المربطين في عصر يوسف بن تاشفين، يلاحظ أن عوامل النهوض، وأسباب النصر كثيرة منها: صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وتحكيم شرع الله في الدولة، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله، وقدرتها على التعامل مع سنن الله في تربية الأمم، وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة علل المجتمعات، وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين واليهود والملاحدة والفرق الباطنية، والمبتدعة، وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه، فقضايا فقه النهوض، والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلامن فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسول - صلى الله عليه وسلم -، وارتبط بالفقه الراشدي المحفوظ عن سلفنا العظيم، فعلم معالمه وخصائصه وأسباب وجوده وعوامل زواله، واستفاد من التاريخ الإسلامي وتجارب النهوض، فأيقن أن هذه الأمة ما فقدت الصدارة قط وهي وفية لربها ونبيها - صلى الله عليه وسلم -، وعلم أن الهزائم العسكرية عرض يزول، أما الهزائم الثقافية فجرح مميت، والثقافة الصحيحة تبني الإنسان المسلم والأسرة المسلمة والمجتمع المسلم والدولة المسلمة على قواعدها المتينة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهدى الخلفاء الراشدين ومن سار على نهجهم، وعبقرية البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا- بعد توفيق الله وحفظه.(1/17)
فعلينا أن نعمل لهذا الدين، وسعادتنا ليست باقتطاف الثمر العاجل، وإنما في الشعور بتوفيق الله والأمل في رضاه. إننى في دراستي لعهد الخلافة الراشدة حاولت أن أنتقى الكلمات وأصف الأسطر والجمل لتجلية عهد الخلافة الراشدة، من خلال الروايات الصحيحة، لكي يستفيد أبناء المسلمين من تلك الحقبة العلم الغزير والفقة الدقيق، وشمولية فهم الإسلام، فلعل الله سبحانه أن يبارك في هذا الجهد وينتفع به أولئك الدعاة الذين لا نعرف أسماءهم، ولكن سيرى التاريخ آثارهم وسيقيلون العالم الإسلامي من عثرته وينهضون به من كبوته، أولئك الربانيون المتجردون الذين عرفوا الحق واستشعروا السعادة في نصرته، وتعصبوا له، ودافعوا عنه، ووقفوا بجابنه على رقة الحال وقلة النصير. فأخذ الله بأيديهم لصدقهم وإخلاصهم ومتابعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأولئك العلماء، وطلاب العلم الذين توزن مداد أقلامهم بدماء الشهداء، وأولئك التجار الذين يقفون خلف موكب الدعوة بأموالهم وثرواتهم وأنفسهم ولسان حالهم يقول: {لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُورًا - إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:9، 10] وأولئك الجنود المجهولون في هذه الدنيا ولكنهم غدًا أعلام شامخة في ربُى الخلد. إن العواصف العاتية تهب بعنف تريد اجتياح إسلامنا وديننا وعقيدتنا من جذورها، وجهود خصوم الإسلام من الصليبية واليهودية والعلمانية والباطنية والمبتدعة تستبيح قادتنا وكبراءنا في ميدان العلم والأدب والسياسة وتريد تشويه تاريخنا فعندما نكون أمة بدون تاريخ، فلن نكون أمة صالحة. فما قيمة أمة ليس لها رجال؟ وما قيمة دين لم يصنع رجالاً على تراخي العصور؟ فهل يمكننا أن نستلهم من الدروس والعبر من تاريخنا، ما يخزى أعداء الله ويرد كيدهم في نحورهم، وما يساعدنا على استئناف رسالتنا ودعم حضارتنا؟(1/18)
إن الإنسانية تترنح في هذه الآونة الكالحة من التاريخ لبعدها عن منهج الله تعالى، والدواء عند المسلمين وحدهم، فهل ينصفون أنفسهم، وينقذون الآخرين؟ قال الشاعر:
ومن العجائب والعجائب جمة ... قرب الحبيب وما إليه وصول
كالعيس في البيداء يقتلها الظما ... والماء فوق ظهورها محمول
فهل من عودة إلى الإسلام، تزكي السرائر، وتبني الأخلاق، وتصلنا بالقرآن الكريم، وتشعرنا بشرف الانتماء إلى محمد ودينه، وضرورة العمل بدعوته وسنة خلفائه الراشدين، أبى بكر وعمر وعثمان وعلى وسائر أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، ونكون حلقه موصولة في دعم رسالة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - التي استوعبت الزمن كله.(1/19)
وقبل الحديث عن المصادر والمراجع التي تعاملت معها، لابد من الاعتراف بأن هذا الجهد، لولا توفيق الله سبحانه وتعالى، ثم جهود علماء أهل السنة وطلاب العلم، ممن ساروا على منهجهم، ما استطعت أن أبحر في هذا البحر العميق، ولذلك أقرر بأنني استفدت من الرسائل العلمية التي طبعت والتي لم تنشر، من حيث المادة والمنهج، والحكم على الروايات، والرجوع إلى المصادر الحديثة، والتاريخية وغيرها مع محاولة التطوير والاستفادة من جهود الآخرين في البناء، وأخص بالذكر الدكتور أكرم ضياء العمري الذي أشرف وناقش الكثير من هذه الرسائل في هذا المجال، فقد استفدت من كتبه، كالسيرة النبوية الصحيحة، وعصر الخلافة الراشدة، ومن الرسائل التي أشرف عليها، كرسالة الدكتور يحيى اليحيى «الخلافة الراشدة والدولة الأموية من فتح الباري جمعًا وتوثيقًا» ورسالة الأستاذ عبد العزيز المقبل في خلافة أبى بكر الصديق رضي الله عنه من خلال كتب السنة والتاريخ دراسة نقدية للرويات باستثناء حروب الردة، ورسالة الدكتور عبد العزيز بن محمد الفريح في تحقيق كتاب «محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» ليوسف بن الحسن بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي الحنبلي، ورسالة الدكتور محمد عبد الله الغبان في فتنة مقتل عثمان بن عفان، ورسالة عبد الحميد على ناصر في خلافة على بن أبى طالب، وغير ذلك من الرسائل الجامعية التي أشرف عليها أساتذة آخرون، كرسالة د. محمد أمحزون في تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة من روايات الطبري والمحدثين، ورسالة سلمان العودة، عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، ورسالة الأستاذة أسماء محمد أحمد زيادة، دور المرأة السياسي في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، وغير ذلك من الرسائل الجامعية، فالفضل لله سبحانه وتعالى ثم لأساتذتي وإخواني الذين مهدوا لي الطريق، فلهم منى الدعاء بظهر الغيب بأن يتقبل الله جهودهم وتكون في ميزان حسناتهم يوم(1/20)
لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أما المصادر التي في هذه الدراسة المتعلقة بعهد الخلافة الراشدة فقد بدات:
1- كتب الحديث: وقد بدات بالكتب السنة؛ صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، ثم موطأ مالك ومسند أحمد، فبذلت جهدًا لاستخراج المادة التاريخية، التي لها علاقة بعهد الخلافة الراشدة ثم جمعت مادة تاريخية من مصنف عبد الرزاق وابن أبى شيبة ومستدرك الحاكم والسنن الكبرى للبيهقي وسنن سعيد بن منصور، ومسند الحميدي والطيالسي، ومجمع الزوائد وكشف الستار عن زوائد البزار، وموارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، ولم أغفل المعجم الكبير للطبراني وسنن الدار قطني، واستفدت من جهود المحققين لما سبق ذكره من كتب الحديث في الحكم على الروايات.
2- كتب شروح الحديث:وأهمها فتح الباري لابن حجر، وشرح النووي على صحيح مسلم ففيهما مادة تاريخية لا يستهان بها، كما أن تعليقات ابن حجر والنووي على بعض الأحداث التاريخية ذات أهمية تاريخية.
3- كتب التفسير: وأهم هذه الكتب، تفسير الطبري، والقرطبي، وابن كثير، وأهتم بتعليقاتهم أكثر من الروايات التي نقلوها حيث إن معظمها ذكر في كتب الحديث والتاريخ.
4- كتب العقائد: وأهم هذه الكتب، منهاج السنة النبوية، لابن تيمية، وهذا الكتاب استفدت منه فائدة عظيمة، وشرح الطحاوية، والإبانة في أصول الديانة، والاعتقاد للبيهقي، والشريعة للآجرى وغيرها من كتب العقائد، حيث نقلت منها أقوال السلف فيما يتعلق بالخلفاء الراشدين، ومكانة الصحابة رضي الله عنهم.
5- كتب الفقه: وأهمها المغنى لابن قدامة، والمجموع للنووي، وبداية المجتهد لابن رشد وغيرها من كتب الفقه، حيث استفدت منها في المسائل الفقهية والقضائية التي اجتهد فيها الخلفاء الراشدون.(1/21)
6- كتب الأدب: حيث استخرجت منها بعض الأبيات المنسوبة للخلفاء الراشدين أو تمثلوا بها، أو استمعوا إليها، ولكون كتب الأدب ليس لها أسانيد وفيها الغث والسمين، لذلك كان اختياري للأبيات الشعرية التي تنسجم مع كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأخلاق ذلك الجيل الفريد، ومن أهم هذه الكتب، عيون الأخبار لابن قتيبة، والأدب الإسلامي في عهد النبوة لنايف معروف.
7- كتب الزهد والرقائق: واستخرجت منها أقوال الخلفاء الراشدين في هذا العلم ومن أهم هذه الكتب، عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم، ومدارج السالكين لابن القيم، مختصر منهاج القاصدين لأحمد بن عبد الرحمن المقدسى، وغيرها من الكتب.
8- كتب الفرق والمذاهب: وأهم هذه الكتب، الفصل في المل والأهواء والنحل، لأبى محمد بن حزم الظاهري، وأصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية د. ناصر القفاري.
9- كتب في أنظمة الحكم: وأهم هذه الكتب، نظام الحكومة الإسلامية للكتاني: المسمى التراتيب الإدارية، ونظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، لظافر القاسمي.
10- كتب في التراجم: وأهم هذه الكتب، سير أعلام النبلاء للذهبي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لعبد الحي الحنبلي، أسد الغابة، لابن الأثير، سير السلف لأبى القاسم الأصفهاني.
11- كتب في الجرح والتعديل: وأهم هذه الكتب، تهذيب الكمال في أسماء الرجال، للحافظ المزى، والجرح والتعديل، لابن أبى حاتم، الثقات لابن حبان، الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدى.(1/22)
12- كتب التاريخ: وأهمها تاريخ الطبري، وهذا الكتاب نقل إلينا الروايات الصحيحة والضعيفة والموضوعة بأسانيدها، وفيما يتعلق بالعقيدة والأحكام الشرعية والأحداث التي تتعلق بالصحابة، لابد من خضوع الروايات للجرح والتعديل وبيان الروايات الشيعية الرافضية، والكذابين والمجاهيل، وقد استفدت في هذا الشأن من كتاب استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري، لخالد الغيث، ومرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، للدكتور يحيى إبراهيم اليحيى، وأثر التشيع على الروايات التاريخية د. عبد العزيز نور ولي، ومن أهم هذه الكتب، البداية والنهاية لابن كثير، وغيرها من الكتب التاريخية.
هذا أهم المصادر التي رجعت إليها مع كم كبير من المراجع الحديثة المتنوعة.
هذا وقد تشددت في تصحيح الروايات أو الحكم عليها فيما يتعلق بالعقائد والأحكام والصحابة رضي الله عنهم، وفي هذا الشأن ما أنا إلا ناقل لأقوال العلماء المتخصصين في هذا العلم، فالفضل لله ثم لهم، واجتهدت في تصوير الحدث التاريخي من الروايات الصحيحة فقدمتها وأخذت بالحسنة ولم أهمل الروايات الضعيفة، فقد أفدت منها في إكمال الصورة التي لا تسدها الروايات الصحيحة والحسنة بما يتوافق مع روح ذلك العصر، لكن فيما لا يتعلق بعقيدة أو شريعة، ودخلت في مناقشات لشبهات وافتراءات الرافضة والمستشرقين وبعض الكتاب المعاصرين، وقد حرصت على طرح منهج أهل السنة فيما يتعلق بالعهد الراشدي والرد على الشبهات، خصوصًا في عهد عثمان وعلى رضي الله عنهما، وقد جدّت أفكار كثيرة من بعض الإخوة الأعزاء حول دراسة عهد الخلافة الراشدة، والعزم ماض بإذن الله على تطويرها، بما يلائم ذلك العصر الزاهر ونسأل الله تعالى السداد والتوفيق.(1/23)
هذا وقد أفردت خامس الخلفاء الراشدين، الحسن بن على بن أبى طالب بدراسة خاصة نظرًا لأهمية اجتهاداته في فقه السياسة الشرعية وفقه المصالح والمفاسد، وما كان يملكه من رؤية إصلاحية توجت بتنازله عن الخلافة لمعاوية رضي الله عنه، وما تعرض له أثناء اتخاذه الخطوات التنفيذية لتلك الرؤية من عوائق ومصائب، وما تميزت به شخصيته الفذة من قدرة على امتلاك مشروع إصلاحي وعزم على التنفيذ كان سببًا في توحيد الأمة وتحقيق نبوءة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»،وبتنازل الحسن بن على عن الخلافة ومبايعته معاوية رضوان الله عليهم أجمعين تنتهي بذلك فترة خلافة النبوة وهي ثلاثون سنة، والحجة في ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك، أو ملكة من يشاء» (1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الخلافة في أمتى ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك» (2)،وقد علق ابن كثير على هذا الحديث فقال: وإنما كملت الثلاثون بخلافة الحسن بن على، فإنه نزل على الخلافة لمعاوية في ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين، وذلك كمال ثلاثين سنة من موت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه توفى في ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وهذا من دلائل النبوة صلوات الله وسلامه عليه وسلم تسليمًا(3). وبذلك يكون الحسن بن على رضي الله عنه خامس الخلفاء الراشدين، وبإذن الله تعالى سوف يكون مع كتاب الحسن بن على خلاصات مهمة فيما يتعلق بدراسة عهد الخلافة الراشدة من معالمها وخصائصها، وأسباب زوالها، ونظام حكمها وصفات جيلها، وقادتها ودستورها، وإدارة الأزمات فيها، واستنباط قوانين وسنن للنهوض، ومكانة المرأة في العهد الراشدي، ومؤسسات الدولة، وفقه القدوم على الله عند ذلك الجيل.
__________
(1) صحيح سنن أبى داود (3/879) للألباني.
(2) سنن الترمذي مع شرح الأحوذي (6/395- 397) قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(3) البداية والنهاية (8/16).(1/24)
هذا وقد حرصت على تناول شخصية أمير المؤمنين علىٍّ من جوانبها المتنوعة، فحياته صفحة مشرقة في تاريخ الأمة، وهو من الأئمة الذين يتأسى الناس بهديهم وأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسيرته من أقوى مصادر الإيمان، والعاطفة الإسلامية الصحيحة، والفهم السليم لهذا الدين، فنتعلم منه فقهه في التعامل مع السنن وحسن توجيهها، وكيف نعيش مع القرآن الكريم ونهتدي بهديه ونقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأهمية الخوف من الله والإخلاص له وابتغاء ما عنده في نجاح العبد في الدارين، وأثر هذه المعاني في حياة الأمة الإسلامية ونهوضها وقيامها بدورها الحضاري المنشود، فلذلك اجتهدت في دراسة شخصيته وعصره حسب وسعي وطاقتي، غير مدع عصمة، ولا متبرئ من زلة، ووجه الله الكريم لا غيره قصدت، وثوابه أردت، وهو المسئول في المعونة عليه، والانتفاع به، إنه طيب الأسماء
وسميع الدعاء.
هذا وقد انتهيت من هذا الكتاب يوم السبت الساعة الواحدة إلا خمس دقائق ظهرًا بتاريخ 17ربيع الآخر 1424هـ - الموافق 7يونيو 2003م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصًا ولعباده نافعًا، وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي، وأن يثيب إخواني الذين أعانوني بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا الجهد المتواضع، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب ألا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}.وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا أله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه
على محمد الصَّلابي(1/25)
الفصل الأول : على بن أبى طالب رضي الله عنه بمكة
المبحث الأول : اسمه ونسبه وكنيته وصفته وأسرته
أولاً: اسمه وكنيته ولقبه
1- اسمه ونسبه: هو على بن أبى طالب (عبد مناف) (1) بن عبد المطلب، ويقال له شيبة الحمد (2) بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن لؤى بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان(3)، فهو ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلتقي معه في جده الأول عبد المطلب بن هاشم، وولده أبو طالب شقيق عبد الله والد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان اسم علىٍّ عند مولوده أسد، سمته بذلك أمه رضي الله عنها باسم أبيها أسد بن هاشم، ويدل على ذلك ارتجازه يوم خيبر حيث يقول:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة(4) ... كليث غابات كريه المنظرة (5)
وكان أبو طالب غائبًا فلما عاد، لم يعجبه هذا الأسم وسماه عليًا (6).
__________
(1) أبو طالب اسمه عبد مناف.
(2) عبد المطلب اسمه شيبة الحمد، الاستيعاب (3/1089).
(3) الطبقات الكبرى (3/19)، صفة الصفوة (1/308)، البداية والنهاية (7/333)، الإصابة (1/507)، الاستيعاب (10891)، المنتظم (5/66)، المعجم الكبير للطبراني (1/50).
(4) حيدرة: من أسماء الأسد.
(5) الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص (617).
(6) غريب الحديث للخطابي (2/170)، خلافة علىّ بن أبى طالب، عبد الحميد بن على ناصر فقيهي ص (18).(1/26)
2- كنيته: أبو الحسن، نسبه إلى أبنه الأكبر الحسن وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويكنى أيضًا بأبى تراب، كنية كناه بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يفرح إذا نودي بها، وسبب ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بيت فاطمة رضي الله عنها فلم يجد عليًا في البيت، فقال: أين ابن عمك؟ قالت كان بيني وبينه شيء فغاضبني فخرج فلم يقل (1) عندي، فقال - صلى الله عليه وسلم - لإنسان: انظر أين هو؟ فجاء فقال: يا رسول الله هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مضطجع وقد سقط رداءه عن شقه وأصابه تراب، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحه عنه ويقول: قم أبا تراب(2)، ومن رواية البخاري: والله ما سماه إلا النبي (3)، ومن كناه: أبو الحسن والحسين وأبو القاسم الهاشمى (4)، وأبو السبطين (5).
3- لقبه: أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين (6).
ثانيًا: مولده:
__________
(1) من قال يقيل فالقيلولة: الظهيرة، وتكون بمعنى النوم في الظهيرة، اللسان (11/577).
(2) مسلم في صحيحه رقم (2409).
(3) البخاري في صحيحه رقم (441، 3703، 3280).
(4) البداية والنهاية (7/223).
(5) أسد الغابة (4/16)، والسبطان: الحسن والحسين.
(6) تاريخ الإسلام للذهبي: ص (376)، البداية والنهاية (7/223)، خلاصة تهذيب الكمال (25012).(1/27)
اختلفت الروايات وتعددت في تحديد سنة ولادته، فقد ذكر الحسن البصري أن ولادته قبل البعثة بخمس عشرة أو ست عشرة سنة (1)، وذكر ابن إسحاق أن ولادته قبل البعثة بعشر سنين (2)، ورجح ابن حجر قوله (3)، وذكر الباقر محمد بن على قولين: الأول: كالذي ذكره بن إسحاق، ورجحه ابن حجر، وهو أنه ولد قبل البعثة بعشر سنين (4)، وأما الثاني: فيذكر أنه ولذ قبل البعثة بخمس سنين (5)، وقد ملت إلى قول ابن حجر وابن إسحاق فيكون مولده على التحقيق قبل البعثة بعشر سنين (6).
وذكر الفاكهي (7)، أن عليًا أول من ولد من بنى هاشم في جوف الكعبة، وأما الحاكم فقال: إن الأخبار تواترت أن عليًا ولد في جوف الكعبة (8).
ثالثًا: الأسرة وأثرها في الأعقاب:
لقد دل علم التشريح، وهو دراسة التركيب الجسدي، ولعم النفس، وعلم الأخلاق، وعلم الاجتماع، على تأثير الدم والسلالات في أخلاق الأجيال وصلاحياتها ومواهبها، وطاقاتها، إلى حد معين، في أكثر الأحوال، وذلك عن ثلاث طرق:
(أ) القيم والمثل التي مازال آباء هذه الأسرة وأجدادها يؤمنون بها أشد الإيمان ويحافظون عليها، أو يحاولون أن يحافظوا عليها أشد المحافظة، ويتنبلون لها ويمجدون، ويعتبرون من جار عليها من أبناء الأسرة، أو خالفها وحاد عنها شاردًا غريبًا، ويرون في ذلك غضاضة، وسقوط همة وقلة مروءة، وعقوقًا للآباء وإساءة إليهم لا تغتفر في قوانين هذه الأسرة العرفية المتوارثة.
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (1/54) رقم 163بسند مرسل.
(2) السيرة النبوية (1/262)دون إسناد.
(3) الإصابة (2/501)ترجمة على.
(4) المعجم الكبير اللطبراني (1/53) رقم 165إسناده حسن.
(5) المصدر السابق (1/53) رقم 166إسناده حسن إلى محمد الباقر حيث أرسلها.
(6) فتح الباري (7/174)، والإصابة (2/507).
(7) صاحب أخبار مكة، حقق الكتاب عبد الملك بن دهيش.
(8) المستدرك على الصحيحين (3/483) دون إسناد.(1/28)
(ب) حكايات الآباء وعظماء الأسرة في البطولة والفتوة والفروسية، والشهامة، والأنفة والإباء، والجود والسخاء، وحماية المظلومين والضعفاء، تتناقلها الأجيال وتتباهى بها، وذلك في سن مبكرة، ومن أيام الصبا إلى سن الشباب والكهولة، فتؤثر في تكوين عقليتها ومشاعرها، وتعيين المقاييس للعظة والرجولة، والبر بالآباء، وتبرير شهرة الأسرة والسلالة.
(ج) تأثير الدم الموروث في أعضاء الأسرة كابرًا عن كابر، في أسرة حافظت على أنسابها وأصالتها، وذلك ما أيده علم السلالات(1)، وهذا ليس على إطلاقه، وقاعدة مطردة، لا تقبل استثناء، ولا شذوذًا كالسنن الإلهية التي قال الله عنها {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43]، وإلى ذلك أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»(2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» (3)، وليس في ذلك من تقديس الدم الموروث الدائم، وتركيز الرئاسة الدينية والزعامة الروحية العلمية في أسرة معينة، واحتكارها لقيادة امة، دينيًا وروحيًا وعلميًا بشكل دائم، وهو الذي عانى منه العالم القديم – قبل الإسلام – فسادًا اجتماعيًا وخلقيًا جارفًا، واستبدادًا فظيعًا، واستغلالً ماديًا شنيعًا، تزخر به كتب التاريخ وشهادات المؤرخين للإمبراطوريتين الرومية والساسانية، والمجتمعين الإغريقي والهندي (4)، وغيرها من الجاهليات، ولذلك يحسن بنا أن نشير إلى وضع الأسرة والسلالة- اللتين ولد ونشأ فيهما أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه – العرقي والاجتماعي، وما كانتا تمتازان به من خصائص وأعراف، وتقاليد وتراث خلقي ونفسي، وكيف
__________
(1) المرتضى سيرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب، لأبى الحسن الندوى ص 19-20.
(2) مسند أحمد (2/539) إسناده صحيح.
(3) مسلم. ك الذكر والدعاء والتوبة.
(4) المرتضى للندوى: ص(20).(1/29)
كان العرب ينظرون إليهما ويقرون لهما بالفضل، ونبدأ في ذلك بقريش، ثم ببنى هاشم (1).
1- قبيلة قريش:أقر العرب كلهم بعلو نسب قريش، وسيادتها، وفصاحة لغتها، ونصاعة بيانها، وكرم أخلاقها وشجاعتها وفتوتها، وذهب ذلك مثلاً لا يقبل نقاشًا ولا جدالاً (2)،وكانوا حلفاء متآلفين متمسكين بكثير من شريعة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ولم يكونوا كالأعراب الذين لا يوقرهم دين، ولا يزينهم أدب، وكانوا يحبون أولادهم، ويحجون البيت، ويقيمون المناسك، ويكفنون موتاهم، ويغتسلون من الجنابة، ويتبرءون من الهرابذة (3)،ويتباعدون عن المناكح من البنت وبنت البنت والأخت وبنت الأخت، غيرة وبعدًا من المجوسية، ونزل القرآن بتأكيد صنيعهم وحسن اختيارهم، وكانوا يتزوجون بالصداق والشهود ويطلقون ثلاثًا (4)، ومما زاد شرفهم أنهم كانوا يتزوجون من أي قبيلة شاءوا، ولا شرط عليهم في ذلك، ولا يزوجون أحدًا حتى يشترطوا عليه أن يكون متحمسًا (5) على دينهم، يرون ذلك لا يحل لهم ولا يجوز لشرفهم، حتى يدان إليهم وينقاد(6).
__________
(1) فيما يتعلق بخصائص ومزايا العرب ينظر إلى السيرة النبوية للندوى.
(2) السيرة النبوية للندوي: ص(74).
(3) الهرابذة: قوام بيت النار، فارسى معرب وقيل: عظماء الهند أو علماؤهم.
(4) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب (1/243) للألوسى.
(5) متحمسًا: التحمس: التشدد في الدين.
(6) المرتضى للندوي: ص(22)، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب (1/243).(1/30)
2- بنو هاشم:أما بنو هاشم فكانوا واسطة العقد في قريش، وإذا قرأنا ما حفظه التاريخ وكتب السيرة من أخبارهم وأقوالهم – وهو قليل من كثير جدًا – استدللنا به على ما كان يمتاز به هؤلاء من مشاعر الإنسانية الكريمة، والاعتدال في كل شيء، ورجاحة العقل، وقوة الإيمان بما للبيت من مكانة عند الله، والبعد عن الظلم ومكابرة الحق، وعلو الهمة، والعطف على الضيف والمظلوم، والسخاء، والشجاعة، وما تشتمل عليه كلمة (الفروسية) عند العرب من معان كريمة وخلال حميدة، والسيرة التي تليق بأجداد الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم -، تتفق ويتفق مع ما كان يفضله ويدعو إليه من مكارم الأخلاق، غير أنهم عاشوا في زمن الفترة، وسايروا أبناء قومهم في عقائد الجاهلية، وعباداتها (1) ولم يصل بنو هاشم إلى هذه المكانة في مجتمعهم إلا بالتضحية والعطاء والبذل وخدمة الناس.
3- عبد المطلب بن هاشم:جد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وعلىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: ولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة (2)، بعد عمه المطلب، فأقامهما للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشرف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبه قومه وعظم خطره فيهم (3).
__________
(1) بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب للألوسى (1/243).
(2) الرفادة: إطعام الحجاج في أيام الموسم حتى يتفرقوا.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/142).(1/31)
ولم يكن عبد المطلب أغنى رجل في قريش، ولم يكن سيد مكة الوحيد المطاع، كما كان قُصى، إذا كان في مكة رجال كانوا أكثر منه مالا وسلطانًا، إنما كان وجيه قومه، لأنه كان يتولى السقاية والرفادة، وبئر زمزم، فهي وجاهة ذات صلة بالبيت (1)، ويتجلى إيمان عبد المطلب بأن لهذا البيت مكانة عند الله، وأنه حاميه ومانعه، وتتجلى نفسية سيد قريش السامية، وشخصيته القوية الشامخة في حديث دار بينه وبين أبرهة ملك الحبشة، وقد غزا مكة وأراد أن يهين البيت ويقضى على مكانته، وقد أصاب لعبد المطلب مائتى بعير، فاستأذن له عليه، وقد أعظمه أبرهة ونزل له عن سريره فأجلسه معه، وسأله عن حاجته، فقال: حاجتي أن يرد علىّ الملك مائتى بعير أصابها لي. فلما قال له ذلك زهد فيه الملك وتفادته عينه، وقال: أتكلمني في مائتى بعير أصبتها لك، وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك، قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه؟! قال عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًا سيمنعه، قال: ما كان يمتنع مني، قال: أنت وذاك (2)، وقد كان ما قاله عبد المطلب، فحمى رب البيت بيته، وجعل كيد أبرهة وجيشه في تضليل، قال تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل:3-5].
وكان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيئات الأمور (3)،ومات عبد المطلب بعد أن جاوز الثمانين، وعمر الرسول ثماني سنين، ومعنى ذلك أنه توفى حوالي سنة 578للميلاد (4)، وذكر أنه لم تقم بمكة سوق أيامًا كثيرة لوفاة عبد المطلب (5).
__________
(1) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد على (4/58)، المرتضى: ص(22).
(2) سيرة ابن هشام (1/49) المرتضي: ص (23).
(3) بلوغ الأرب في معرفة احوال العرب (1/324).
(4) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (4/78).
(5) أنساب الأشراف للبلاذرى (1/78).(1/32)
4- أبو طالب والد على بن أبى طالب رضي الله عنه: أبو طالب لا مال له، كان يحب ابن أخيه حبًا شديدًا، فإذا خرج خرج معه، فقد كان أبو طالب هو الذي يلي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد جده، فكان إليه ومعه (1)، وعندما أعلن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدعوة إلى الله وصدع بها وقف أبو طالب بجانب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصمم على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًا وحسدًا ومكرًا، وإن المرء ليسمع عجبًا ويقف مذهولاً أمام مروءة أبى طالب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن اخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بنى هاشم، وبنى المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، دفاعًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسلمهم ومشركهم على السواء (2)، وأجار ابن أخيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - إجارة مفتوحة لا تقبل التردد والإحجام، ولما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معه، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم، وفضل رسول الله فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم وليحبوا معه على أمره (3) فقال:
إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر ... فعبد مناف سرها وصميمها
وإن حصلت أشراف عبد منافها ... ففي هاشم أشرافها وقديمها
وإن فخرت يومًا فإن محمدًا ... هو المصطفى من سرها وكريمها
تداعت قريش غثها وسمينها ... علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديمًا لا نقر ظلامة ... إذا ما ثنوا صُعْر الخدود نقيمها
ولما خشى أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانة منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره، أنه غير مسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تاركه لشيء أبدًا حتى يهلك دونه فقال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم ... وقد قطعوا كل العرى والوسائل
__________
(1) المرتضى ص (24)،السيرة النبوية لابن هشام (1/179).
(2) فقه السيرة النبوية للغضبان ص(184).
(3) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للصلابي (1/158).(1/33)
وقد صارحونا بالعداوة والأذى ... وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قوما علينا أظنة ... يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة ... وأبيض عضب من تراث المقاول
وأحضرت عند البيت رهطى وإخوتي ... وأمسكت من أثوابه بالوصائل
وتعوذ بالبيت وبك المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدًا ولو سالت الدماء أنهارًا، واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيت الله نُبْزى (1) محمدًا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونُسلمه (2) حتى نصرع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل(3)
وينهض قوم في الحديد إليكم ... نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل(4)
__________
(1) نُبْزى: أي نسلمه ونغلب.
(2) أي كذبتم أن نسلمه قبل أن نصرع حوله.
(3) الحلائل: الزوجات.
(4) الصلاصل: المزادات لها صلصلة بالماء.(1/34)
واستمر أبو طالب في مناصرة ابن أخيه واستطاع أن يغزو المجتمع القرشي بقصائده الضخمة التي هزت كيانه هزًا، ولما تغلغل الإسلام في قلوب أبناء بعض القبائل، اجتمعت قريش فائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابًا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئًا ولا يبتاعوا منهم، وكتبوا صحيفة وعلقوها في جوف الكعبة، وتواثقوا على ذلك، وانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب فدخلوا معه في شعبه (1)، وذلك في محرم سنة سبع من النبوة ومكث بنو هاشم على ذلك نحو ثلاث سنوات لا يصل إليهم شيء إلا سرًا، ثم كان ما كان من أكل الأرضة للصحيفة، وإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طالب بذلك، وتمزيق الصحيفة، وبطلان ما فيها (2)، ومات أبو طالب في النصف من شوال في السنة العاشرة من النبوة، وهو ابن بضع وثمانين سنة، ولم يسلم أبو طالب (3)، وهو العام الذي ماتت في خديجة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتتابعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصائب، وسمى هذا العام بعام الحزن (4).
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (1/350، 351).
(2) المصدر نفسه (1/373- 377)، المرتضى: ص(26)، وقد فصلت ذلك في كتابي السيرة النبوية.
(3) بلوغ الأرب (1/324).
(4) السيرة لابن هشام (1/45، 46) المرتضى: ص(26).(1/35)
5- أم أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه: هي الصحابية الجليلة السيدة الفاضلة فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصى الهاشمية (1)،وهي أول هاشمية ولدت هاشميًا (2)، وقد حظيت برعاية النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما كفله عمه أبو طالب بناء على وصية أبيه عبد المطلب، فكانت له أمًا بعد أمة تقوم على شئونه وترعي أموره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وقد قضى الحبيب المصطفى قرابة عقدين من حياته في كنفها، وقد استجابت لدعوة الإسلام وأصبحت من السابقات الأوليات وصارت من صفوة النساء ممن أخذن المكانة العليا في ساحة الفضيلة، وكانت رضي الله عنها مثالاً للرأفة والرحمة في معاملة الزهراء رضي الله عنها، إذ كانت تقوم بمساعدتها برًا بها وبوالدها - صلى الله عليه وسلم -، وروى عن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أنه قال: قلت لأمي: أكفي فاطمة بنت رسول الله سقاية الماء والذهاب في الحاجة، وتكفيك هي الطحن والعجن (3).كما أن صلتها بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أضافت إلى شخصيتها مكرمة حفظ الحديث وروايته، فقد روت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجموعة من الأحاديث، وقد كانت لها مكانة كبرى عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويخصها بالهدية، فقد أورد ابن حجر بالإصابة أن عليًا رضي الله عنه قال: أُهدى إلى رسول الله حلة إستبرق فقال: «اجعلها خُمُرًا بين الفواطم» (4). فشققتها أربعة أخمرة، خمارًا لفاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وخمارًا لفاطمة بنت أسد رضي الله عنها، وخمارًا لفاطمة بنت حمزة رضي الله عنها، ولم يذكر الرابعة(5).
__________
(1) نسب قريش: ص(40) فضائل الصحابة (2/ 685).
(2) فضائل الصحابة (2/ 685).
(3) مجمع الزوائد (8/356) رجال السند رجال الصحيح.
(4) سنن ابن ماجة، ك اللباس رقم 3596.
(5) الإصابة (8/27) رقم 1153.(1/36)
ولقد كان حظ السيدة فاطمة مباركًا في حياتها وعند وفاتها، وحظيت بالتكريم إذ توفيت في حياة الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (1)، وأما ما روى عن أنس في دفنها فهو واه ضعيف شديد الضعف ولا يتقوى من طرقه الأخرى التي جاءت لأنها كلها ضعيفة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم على رضي الله عنها دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس عند رأسها فقال: رحمك الله يا أمي، كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيننى، وتعرين وتكسيننى، وتمنعين نفسك طيبا وتطعميننى، تريدين بذلك وجه الله والدار الأخرة، ثم أمر أن تغسل ثلاثًا ثلاثًا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده، ثم خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه وقال:«الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقتها حجتها ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي. فإنك أرحم الراحمين» وكبر عليها أربعًا وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر رضي الله عنهما (2).
__________
(1) أمير المؤمنين على بن أبى طالب، أحمد السيد: ص(24).
(2) السلسلة الضعيفة للألباني (1/32)رقم 23.(1/37)
وقد احتج من احتج (1) بهذا الحديث على جواز التوسل بالذوات، وقد قام الأستاذ أبو عبد الرحمن جبلان بن خضر العروسى في رسالته لمرحلة الماجستير بتتبع طرق الحديث وبين ضعفها وبطلانها (2)،ووضح أن الحديث قد روى من خمسة طرق: ثلاثة موصولة، ومرسلتان، فلم تخل واحدة منها من عدة علل فهو شديد الضعف، ومع هذا لم يرد التوسل المزعوم إلا في طريق واحدة، وهي طريق أنس، فهذه الأحاديث يمكن أن يعل بها الحديث لأن الكل ضعيف فيعل بعضه البعض ولا يزيدها إلا وهنا وضعفا، وأما من ناحية المتن فهو منقوض من عدة وجوه:
- إن في هذا الحديث مبالغة وإطراء وتجاوزًا للمألوف في ذلك العهد النبوي.
- هذا الحديث يخالف هدية وسننه في غسل جنازة المرأة، وذلك في أمور منها:
- سكبه بيده الشريفة لم يرد إلا في هذه القصة، وأما الذي ورد في غسل بنته زينب أنه أمرهم بالغسل، ولم يسكب بنفسه، فقد روى البخاري ومسلم عن محمد بن سيرين عن أن أم عطية قالت: دخل علينا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسل ابنته فقال: «اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورًا، فإذا فرغتن فآذننى» وقالت:فلما فرغنا ألقى إلينا حقوه فقال: «أشعرنها إياه»، ولم يزد على ذلك (3).
- إن الحفر بيده وإخراجه التراب بيده والاضطجاع فيه كلها لم تعهد إلا في هذا الحديث الضعيف، مخالفًا هديه المشهور عنه وهو من المبالغة والإطراء.
- ثم لفظ الدعاء الذي بدأ بلفظة الغيبة ثم الخطاب بعيد عن أسلوبه المعهود في الدعوات المأثورات «اللهم أنت...» ولم نر في غير هذا الدعاء «الله الذي...».
__________
(1) السمهودي في وفاء الوفاء (4/1373)، والكوثري في محق التقول: ص (379- 391)، والبوطي في السلفية مرحلة،(155)، والعلوي في مفاهيم: ص (65)نقلا عن الدعاء ومنزلته من العقيدة، جبلان بن خضر.
(2) الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية: ص(794- 798).
(3) الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية: ص (799).(1/38)
- ومما يدل على ضعفه أن الراوى اعترف بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذه الأفعال إلا في هذه المرة، ولكنه أراد أن يبرر ذلك بما ذكره، وهيهات (1).
6- إخوة علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه: كان لأبي طالب أربعة أبناء، وهم: طالب، وهو الذي تكنى به، وعقيل، وجعفر، وعلى، وبنتان هما: أم هانئ، وجمانة، وكلهم من فاطمة بنت أسد، وكان بين كل واحد منهم وبين أخيه عشر سنوات، فطالب كان أكبر من عقيل بعشر سنوات، وكذلك الشأن مع جعفر وعلى، فكان جعفر أكبر من على بعشر سنوات (2)، وهذه نبذة مختصرة عن إخوة على رضي الله عنه.
(أ) طالب بن أبى طالب:هلك طالب مشركًا بعد غزوة بدر، وقيل إنه ذهب فلم يرجع، ولم يدر له موضع ولا خبر، وهو أحد الذين تاهوا في الأرض، وكان محبًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وله فيه مدائح، وكان خرج إلى بدر كرهًا، وجرت بينه وبين قريش حين خرجوا إلى بدر محاورة فقالوا: والله يا بنى هاشم لقد عرفنا- وإن خرجتم معنا- أن هواكم مع محمد، فرجع طالب إلى مكة مع من رجع، وقال شعرًا وقصيدة ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وبكى فيها أصحاب قليب بدر (3).
(ب) عقيل بن أبى طالب:فكان يكنى أبا يزيد، تأخر إسلامه إلى عام الفتح، وقيل أسلم بعد الحديبية، وهاجر في أول سنة ثمان، وكان أسر يوم بدر ففداه عمه العباس، وقع ذكره في الصحيح في مواضع، وشهد غزوة مؤته، ولم يسمع له ذكر في الفتح وحنين، لأنه كان مريضًا، أشار إلى ذلك ابن سعد، لكن روى الزبير بن بكار بسنده إلى الحسن بن على أن عقيلا كان ممن ثبت يوم حنين ومات في خلافة معاوية، وفي تاريخ البخاري الأصغر بسند صحيح أنه مات في أول خلافة يزيد قبل الحرة (4)،وعمره ست وتسعون سنة (5).
__________
(1) المصدر نفسه: ص (794- 798).
(2) البداية والنهاية (7/ 223)، المرتضى: ص (26).
(3) الجوهرة في نسب النبي وأصحابه من المرتضى للندوى: ص(23).
(4) الإصابة في تميز الصحابة (2/494).
(5) المرتضى للندوى: ص(24).(1/39)
(ج) جعفر بن أبى طالب: فهو أحد السابقين إلى الإسلام وكان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم، ويحدثهم ويحدثونه، وهاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشى ومن تبعه على يديه، ولقد تحدثت عنه في كتابي السيرة النبوية..عرض وقائع وتحليل أحداث، واستشهد بمؤتة من أرض الشام مقبلاً غير مدبر (1).
(د) أم هانئ بنت أبى طالب: ابنه عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل اسمها فاختة، وقيل اسمها فاطمة وقيل هند، والأول أشهر، وكانت زوج هبيرة بن عمرو بن عائذ المخزومي، وكان له منها عمرو، وبه كان يكنى، وفي فتح مكة أجارت أم هانئ رجلين من بنى مخزوم، وقال لها
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أجرنا من أجرت يا أم هانئ.وروت أم هانئ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكتب الستة وغيرها(2)، قال الترمذي وغيره: عاشت بعد على رضي الله عنه (3).
(هـ) جمانة بنت أبى طالب: هي أم عبد الله بن أبى سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ذكرها ابن سعد في ترجمة أمها فاطمة بنت أسد، وأفردها في باب بنات عم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: ولدت لأبى سفيان بن الحارث ابنه جعفر بن أبى سفيان، وأطعمها رسول الله من خيبر ثلاثين وسقا (4).
__________
(1) المرتضى: ص(25).
(2) المصدر نفسه: ص(27).
(3) الإصابة في تمييز الصحابة (9/317، 318).
(4) الإصابة (4/259، 260)، المرتضى:ص (27).(1/40)
7- أزواجه وأولاده: ولد له من فاطمة (1) بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحسن والحسين (وسيأتي الحديث عنهما مفصلا)...وزينب الكبرى وأم كلثوم الكبرى، وولد له من خولة بنت جعفر ابن قيس بن مسلمة، محمد الأكبر (محمد ابن الحنفية)،وُولد له من ليلى بنت مسعود بن خالد من بنى تميم، عبيد الله وأبو بكر، وولد له من أم البنين بنت حزام (2) بن خالد بن جعفر بن ربيعة: العباس الأكبر، وعثمان، وجعفر الأكبر، وبعد الله، وولد له من أسماء بنت عميس الخثعمية: يحيى وعون (3)،وولد له من الصهباء (4)، عمر الأكبر ورقية، وولد له من أمامة (5) بنت العاص بن الربيع، محمد الأوسط، وولد له من أم سعيد بنت عروة بن مسعود الثقفي، أم الحسن، ورملة الكبرى، وولد له من أمهات أولاد، محمد الأصغر، وأم هانئ وميمونة، وزينب الصغرى، ورملة الصغرى، وأم كلثوم الصغرى، وفاطمة، وأمامة، وخديجة، وأم الكرام، وأم سلمة، وأم جعفر، جمانة ونفيسة، وولد له من محياة بنت أمرئ القيس، ابنة هلكت وهي جارية. قال ابن سعد: لم يصح لنا من ولد على رضي الله عن غير هؤلاء(6)، وجميع ولد على بن أبى طالب رضي الله عنه لصلبه أربعة عشر ذكرًا، وتسع عشرة امرأة، وقيل: سبع عشرة امرأة، وكان النسل من ولده لخمسة، الحسن والحسين، ومحمد ابن الحنفية، والعباس ابن الكلابية، وعمر ابن التغلبية (7)،وسيأتي الحديث عن السيدة فاطمة وذريتها، الحسن والحسين، وأم كلثوم في ثنايا هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
__________
(1) هى أول زوجة تزوجها على بن أبى طالب ولم يتزوج عليها حتى ماتت.
(2) ، (4) البداية والنهاية (7/332).
(3) البداية والنهاية (7/332).
(4) وهى أم حبيب بنت ربيعة بن بجير، من سبي عين التمر في عهد الصديق.
(5) وأمها زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(6) الطبقات الكبرى (3/20).
(7) الطبقات (3/19، 20)، البداية والنهاية (7/331- 333) منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله، سليمان العبد: ص (29، 30، 31).(1/41)
8- صفاته الخَلقية:يقول ابن عبد البر رحمه الله: وأحسن ما رأيت في صفة على
رضي الله عنه أنه كان ربعة من الرجال إلى القصر ما هو، أدعج العينين، حسن الوجه، كأنه القمر ليلة البدر حسنًا، ضخم البطن، عريض المنكبين، شئن الكفين (عَتَدًا) (1) أغيد، كان عنقه إبريق فضة، أصلع ليس في رأسه شعر إلا من خلفه، كبير اللحية، لمنكبه مشاش كمشاش السبع الضارى، لا يتبين عضده من ساعده، قد أدمجت دمجًا، إذا مسك بذراع رجل أمسك بنفسه فلم يستطع أن يتنفس، وهو إلى السمن ما هو، شديد الساعد واليد وإذا مشى للحرب هرول، ثابت الجنان، قوى شجاع (2).
المبحث الثاني : إسلامه وأهم أعماله في مكة قبل الهجرة
أولا: إسلامه:
كان من نعمة الله عز وجل على علىّ بن أبى طالب وما صنع الله له وأراد به من الخير أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للعباس عمه - وكان من أيسر بنى هاشم-: يا عباس، إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد ترى ما أصاب الناس من هذه الأزمة، فانطلق بنا فلنخفف عنه عياله، آخذ من بيته واحدًا وتأخذ واحدًا، فنكفيهما عنه،فقال العباس: نعم.. فانطلق حتى أتيا أبا طالب، فقالا له: إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرًا رضي الله عنه فضمه إليه، فلم يزل على بن أبى طالب رضي الله عنه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله نبيًا، فاتبعه علىّ، فأقر به وصدقه، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه (3).
__________
(1) العتد: الشديد التام الخلق.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/1123).
(3) السيرة النبوية (1/246) لابن هشام.(1/42)
ونلاحظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يرد الجميل والمعروف لعمه أبى طالب الذي كفله بعد وفاة جده عبد المطلب، فكان هذا من أكبر نعم الله عز وجل على علىّ رضي الله عنه، إذ رباه وأدبه الذي أدبه الله، عز وجل، وحفظه وعصمه ورعاه، والذي كان خلقه القرآن، فانعكس هذا الخلق القرآني على علىّ رضي الله عنه، وكفى بتربية النبي - صلى الله عليه وسلم - تربية لعلى رضي الله عنه، فقد نشأ في بيت الإسلام وتعرف إلى أسراره في مرحلة مبكرة من حياته، وذلك قبل أن تتخطى الدعوة حدود البيت وتنطلق إلى البحث عن أنصار يشدون أزرها وينطلقون بها في دنيا الناس، ويخرجونهم من الظلمات إلى النور، وقد اختلف العلماء فيمن آمن بعد السيدة خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، هل هو أبو بكر الصديق أم على رضي الله عنهما؟ والذي أميل إليه من بين أقوال العلماء، أن أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر، ومن الصبيان على، ومن النساء خديجة، وهي أول من آمن على الإطلاق، ومن الموالي زيد بن حارثة رضوان الله عليهم (1)، وبهذا يكون أمير المؤمنين أول الصغار إسلامًا.
ثانيًا: كيف أسلم على؟
__________
(1) البداية والنهاية (3/26- 28)، الأوائل من الصحابة وذوو الفضل منهم والنجابة، رضوان جامع
ص (23).(1/43)
روى ابن إسحاق أن على بن أبى طالب رضي الله عنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد إسلام خديجة رضي الله عنها، فوجدهما يصليان، فقال على: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:«دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحد وإلى عبادته، وتكفر باللات والعزى» فقال له على: هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرًا حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يفشى عليه سره، قبل أن يستعلن أمره، فقال له: «يا على إذا لم تسلم فاكتم»، فمكث على تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب على الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى جاءه فقال: ما عرضت علىَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد، ففعل علىّ وأسلم، ومكث علىّ يأتيه على خوف من أبى طالب، وكتم على إسلامه ولم يظهر به(1).
ثالثًا: بين على رضي الله عنه وأبى طالب:
__________
(1) البداية والنهاية (3/4).(1/44)
قال ابن إسحاق: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة، وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيًا من أبيه أبى طالب، ومن جميع أعمامه وسائر قومه، يصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يومًا وهما يصليان، فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا ابن أخي، ما هذا الدين الذي تدين به، قال: «أي عم، هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم»،أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «بعثني رسولا إلى العباد وأنت – أي عم – أحق من بذلت له النصيحة، ودعوته إلى الهدى، وأحق من أجابنى إليه وأعانني عليه»،أو كما قال. فقال أبو طالب: أي ابن أخي، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه، ولكن والله لا يُخلص إليك (1) بشيء تكرهه ما بقيت، ذكروا أنه قال لعلى:أي بنى، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدقته بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته، فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه (2).
رابعًا: هل كسر على رضي الله عنه الأصنام مع رسول الله في مكة؟
__________
(1) لا يُخلص إليك: لا يصل إليك.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/246)، المرتضى: ص(35).(1/45)
عن علىّ رضي الله عنه، قال: انطلقت أنا والنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتينا الكعبة، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اجلس) وصعد على منكبي، فذهبت لأنهض به، فرأى مني ضعفًا، فنزل، وجلس لي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اصعد على منكبي، قال: فصعدت على منكبيه، قال: فنهض بي، قال: فإنه يخيل إلىّ إني لو شئت لنلت أفق السماء، حتى صعدت على البيت، وعليه تمثال صفر أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله، وبين يديه ومن خلفه، حتى إذا استمكنت منه قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «اقذف به»، فقذفت فانكسر كما تتكسر القوارير، ثم نزلت، فانظلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستبق حتى توارينا بالبيوت، خشية أن يلقانا أحد من الناس (1)،وهذا الحديث إسناده ضعيف، وبالتالي لا يمكن أن يبني عليه حكم كما زعم بعض الناس، ويبقى الأصل الثابت في الفترة المكية، في منع النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة لاستخدام القوة مع الخصوم أو الاعتداء على أصنامهم وأوثانهم بالقوة، وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتطهير مكة في عام الفتح من الأوثان وأرسل السرايا بعد ذلك الفتح العظيم لهدم وتطهير الجزيرة العربية، من مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على إزالتها وإبطالها.
خامسًا: هل دفن على رضي الله عنه أبا طالب بإرشاد رسول الله؟
__________
(1) مسند أحمد، الموسوعة الحديثة رقم (644) إسناده ضعيف، وصحح الحاكم إسناده واستدرك عليه الذهبي فقال: إسناده ضعيف ومتنه منكر، وقد قام أحمد ميرين البلوشي في رسالته التي حقق فيها خصائص أمير المؤمنين على بن أبى طالب بالحكم على رجال السند وحكم عليه بالضعف، خصائص على بن أبى طالب: ص (135، 136)، وقد صحح الحديث أحمد شاكر (2/ 58).(1/46)
عن على رضي الله عنه: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أبا طالب مات، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: اذهب فواره، فقال: أنه مات مشركًا. فقال: اذهب فواره، قال: فلما واريته رجعت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لي: اغتسل (1). وجاء في رواية: اذهب فاغتسل ثم لا تحدث شيئًا حتى تأتينى، قال: فاغتسلت ثم أتيته، قال: فدعا لي بدعوات ما يسرني أن لي بها حمر النعم وسودها، قال الراوى عبد الرحمن السلمي: وكان علىّ رضي الله عنه إذا غسل ميتًا اغتسل (2).
سادسًا: الحس الأمنى عند علىّ رضي الله عن ودوره في إيصال أبى ذر رضي الله عنه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) مسند أحمد، الموسوعة الحديثية رقم (759) إسناده ضعيف، وفي الموسوعة تفصيل مفيد في الحكم على رجال السند.
(2) الصحيح المسند في فضائل الصحابة: ص (188)، وقال مصطفى العدوي: حسن بمجموع طرقه، وجاء بشواهد للحديث.(1/47)
إن من معالم المرحلة المكية، الكتمان والسرية، حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وقد قام على رضي الله عنه بدور عظيم في أخذ أبى ذر إلى مقر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان رضي الله عنه منكرًا لحال الجاهلية، ويأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله، وكان يصلى لله قبل إسلامه، بثلاث سنوات، دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويظهر أنه كان على نهج الأحناف، ولما سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه، حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علىّ رضي الله عنه، فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادر صباحًا إلى المسجد الحرام، فمكث حتى أمسى فرآه على فاستضافه لليلة ثانية، وحدث مثل ذلك الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه، فلما استوثق منه أبو ذر أخبره بأنه يريد مقابلة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقال له علىّ: فإنه حق، وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئًا أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه وقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واستمع إلى قوله، فأسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:«ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري»، فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بين ظهرانيهم فخرج حتى أتى المسجد فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فثار القوم حتى أضجعوه فأتى العباس بن عبد المطلب، فحذرهم من انتقام غفار والتعرض لتجارتهم، التي تمر بديارهم إلى الشام، فأنقذه منهم (1)، وكان أبو ذر قبل مجيئة قد أرسل أخاه، ليعلم له علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسمع من قوله ثم يأتيه، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبى ذر، فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلامًا ما هو بالشعر، فقال: ما شفيتني (2) مما أردت، وعزم على الذهاب بنفسه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أخوه له: كن على حذر من أهل مكة فإنهم
__________
(1) صحيح البخاري (فتح الباري) (7/173).
(2) ما شفيتني مما أردت: ما بلغني غرضي وأزلت عني همي.(1/48)
قد شنفوا له وتجهموا (1).
ومن الدروس والعبر والفوائد من هذه الحادثة:
1- التأني والتريث في الحصول على المعلومة:
حيث يعرف أبو ذر رضي الله عنه كراهية قريش لكل من يخاطب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التأني تصرف أمنى، تقتضيه حساسية الموقف، فلو سأل عنه لعلمت به قريش، وبالتالي قد يتعرض للأذى والطرد ويخسر الوصول إلى هدفه الذي من أجله ترك مضارب قومه وتحمل في سبيله مصاعب ومشاق السفر.
2- الاحتياط والحذر قبل النطق بالمعلومة:
حين سأل على رضي الله عنه أبا ذر رضي الله عنه عن أمر وسبب مجيئة إلى مكة، لم يخبره بالرغم من أنه استضافه ثلاثة أيام إمعانًا في الحذر، فاشترط عليه قبل أن يخبره أن يكتم عنه، وفي الوقت ذاته يرشده، فهذا غاية في الاحتياط وتم ما أراده.
3- التغطية الأمنية للتحرك:
الاتفاق بين على وأبى ذر رضي الله عنهما على إشارة، أو حركة معينة، كأنه يصلح نعله، أو كأنه يريق الماء، وذلك عندما يرى على رضي الله عنه من يترصدهما أو يراقبهما، فهذه تغطية أمنية لتحركهما تجاه المقر (دار الأرقم)، هذا إلى جانب أن أبا ذر كان يسير على مسافة من على فيعد هذا الموقف احتياطًا، وتحسبًا لكل طارئ قد يحدث أثناء الحركة.
__________
(1) مسلم (4/1923) رقمه (2473)، صحيح السيرة النبوية، إبراهيم العلى: ص(83)، السيرة النبوية الصحيحة للعمرى (1/145)،شنفوا: أي أبغضوه.(1/49)
4- تفوق الصحابة رضي الله عنهم في الجوانب الأمنية، وتوافر الحس الأمنى لديهم: وتغلغله في نفوسهم، حتى أصبح سمة مميزة لكل تصرف من تصرفاتهم الخاصة والعامة، فأتت تحركاتهم منظمة ومدروسة، فما أحوجنا لمثل هذا الحس الذي كان عند الصحابة، بعد أن أصبح للأمن في عصرنا أهمية بالغة في زوال واستمرار الدول والحضارات، وضعف وقوة الأمم والشعوب، والجماعات والمؤسسات والمنظمات، وأصبحت له مدارسه الخاصة وتقنياته المتقدمة، وأساليبه ووسائله المتطورة، وأجهزته المستقلة، وميزانياته ذات الأرقام الكبيرة، وأضحت المعلومات عامة، والمعلومات الأمنية تباع بأغلى الأثمان، ويضحى في سبيل الحصول عليها بالنفس إذا لزم الأمر، وما دام الأمر كذلك فعلى المسلمين الاهتمام بالنواحي الأمنية حتى لا تصبح قضايانا مستباحة للأعداء، وأسرارنا في متناول أيديهم(1).
سابعًا: على رضي الله عنه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طوافه على القبائل، وعرضه للدعوة عليها، وحضوره المفاوضات مع بنى شيبان:
__________
(1) دروس في الكتمان، محمود شيت خطاب:ص(9)، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث للصَّلابي (1/171).(1/50)
عن أبان بن تغلب عن عكرمة عن ابن عباس: حدثني على بن أبى طالب، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه فسلم، وكان أبو بكر مقدمًا في كل خير، وكان رجلاً نسابة.. إلى أن قال: ثم دفعنا إلى مجلس آخر، عليه السكينة والوقار، فتقدم أبو بكر فسلم فقال: من القوم؟ قالوا: شيبان بن ثعلبة، فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: بأبى وأمي، هؤلاء غُرَر الناس، وفيهم مفروق قد غلبهم لسانًا وجمالاً، وكانت له غديرتان تسقطان على ترِيَبَتْه، وكان أدنى القوم مجلسًا من أبى بكر، فقال أبو بكر: كيف العدد فكيم؟ فقال مفروق: إنا لنزيد على الألف ولن تُغلب ألف من قلة، فقال أبو بكر: وكيف المنعة فيكم؟ فقال مفروق: إنا لأشد ما نكون غضبًا حين نلقى، وأشد ما نكون لقاء حين نغضب، وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد، والسلاح على اللقاح، والنصر من عند الله، يديلنا مرة، ويديل علينا مرة أخرى، لعلك أخو قريش؟ فقال أبو بكر: إن كان بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا. فقال مفروق، إلام تدعونا يا أخا قريش؟(1/51)
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني عبد الله ورسوله، وإلى أن تؤووني وتنصروني، فإن قريشًا قد تظاهرت على الله، وكذبت رسوله، واستغنت بالباطل عن الحق، والله هو الغني الحميد»، فقال مفروق: وإلام تدعو أيضًا يا أخا قريش؟ فوالله ما سمعت كلامًا أحسن من هذا، فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُم مِّنْ إِمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].(1/52)
فقال مفروق: دعوت والله إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، ثم رد الأمر إلى هانئ بن قبيصة فقال: وهذا هانئ شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى تركنا ديننا، واتباعنا دينك لمجلس جلست إلينا، لا أول له ولا آخر لذل في الرأي، وقلة نظر في العاقبة. إن الزلة مع العجلة، وإنا نكره أن نعقد على من وراءنا عقدًا، ولكن نرجع وترجع، وننظر، ثم كأنه أحب أن يشركه المثنى بن حارثة، فقال: وهذا المثنى شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى- وأسلم بعد ذلك -:قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب فيه جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا ومتابعتنا دينك، وإنا إنما نزلنا بين صَرَيَيَنْ، أحدهما اليمامة، والأخر السَّمامة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما هذان الصريان؟»، قال: أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وإنا إنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى ألا نحدث حدثًا، ولا نؤوى محدثًا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا أخا قريش مما تكرهه الملوك، فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أسأتم في الرد، إذا أفصحتم بالصدق، وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، أرأيتم إن تلبثوا إلا قليلاً، حتى يورثكم الله تعالى أرضهم وديارهم، ويفرشكم نساءهم، أتسبحون الله وتقدسونه»، فقال النعمان بن شريك: اللهم فلك ذاك (1).
وهذا الحديث فيه دروس وعبر وفوائد تعلمها على بن أبى طالب رضي الله عنه منها:
__________
(1) البداية والنهاية (3/142، 143، 145)، البيهقي دلائل النبوة، إسناده حسن ونقل عنه ابن كثير.(1/53)
1- تعلم على رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفض أن يعطى القوى المستعدة لتقديم نصرتها، أية ضمانات بأن يكون لأشخاص شيء من الحكم والسلطان على سبيل الثمن، أو المكافأة لما يقدمونه من نصرة وتأييد للدعوة الإسلامية، وذلك لأن الدعوة الإسلامية إنما هي دعوة إلى الله، فالشرط الأساسي فيمن يؤمن بها ويستعد لنصرتها أن يكون الإخلاص لله، ونشدان رضاه هما الغاية التي يسعى إليها من النصرة والتضحية وليس طمعًا في نفوذ أو رغبة في سلطان، وذلك لأن الغاية التي يضعها الإنسان للشيء هي التي تكيف نشاط الإنسان في السعي إليه، فلابد إذن من أن تتجرد الغاية المستهدفة من وراء نصرة الدعوة، عن أي مصلحة مادية لضمان دوام التأييد لها، وضمان المحافظة عليها من أي انحراف، وضمان أقصى ما يمكن من بذل الدعم لها، وتقديم التضحيات في سبيلها (1)، فيجب على كل من يريد أن يلتزم بالجماعة التي تدعو إلى الله ألا يشترط عليها منصبًا، أو عرضًا من أعراض الدنيا؛ لأن هذه الدعوة لله والأمر لله يضعه حيث يشاء، والداخل في أمر الدعوة إنما يريد ابتغاء وجه الله، والعمل من أجل رفع رايته، أما إذا كان المنصب هو همه الشاغل فهذه علامة خطيرة تنبئ عن دخن في نية صاحبها (2)،لذلك قال يحيى بن معاذ الرازي: لا يفلح من شممت منه رائحة الرياسة (3).
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/421).
(2) وقفات تربوية من السيرة النبوية، عبد الحميد البلالي: ص(72).
(3) صفة الصفوة (4/94).(1/54)
2- وتعلم على رضي الله عنه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن صفة النصرة التي كان يطلبها رسول الله لدعوته من زعماء القبائل أن تكون غير مرتبطة بمعاهدات دولية، تتناقض مع الدعوة، ولا يستطيعون التحرر منها، وذلك لأن احتضانهم للدعوة والحالة هذه يعرضها لخطر القضاء عليها من قبل الدول التي بينهم وبينها تلك المعاهدات، والتي تجد في الدعوة الإسلامية خطرًا عليها وتهديدًا لمصالحها (1)، إن الحماية المشروطة أو الجزئية لا تحقق الهدف المقصود، فلن يخوض بنو شيبان حربًا ضد كسرى، لو أراد القبض على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه، وبذلك فشلت المباحثات (2).
3- إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه، كان هذا الرد من النبي - صلى الله عليه وسلم - على المثنى بن حارثة، حين عرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حمايته على مياه العرب، دون مياه الفرس، فمن يسبر أغوار السياسة البعيدة ير بُعد النظر الإسلامي النبوي الذي لا يسامى (3).
4- لمس على رضي الله عنه أثر الإسلام على المثنى وقومه بعد أن أسلموا، وكيف تحملت قبيلة بنى شيبان عبء مواجهة الفرس، وكان المثنى بن حارثة – فيما بعد- من قادة فتح العراق في عهد الصديق رضي الله عنه، فقد أكسبهم الإيمان بهذا الدين جرأة على قتال الفرس.
هذه بعض المفاهيم والدروس والعبر التي استفادها على رضي الله عنه من رسول الله عند مفاوضاته لزعماء بنى شيبان.
ثامنًا: تقديمه نفسه فداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (1/421).
(2) التحالف السياسي في الإسلام، منير الغضبان: ص(35).
(3) التحالف السياسي في الإسلام: ص(64).(1/55)
عندمات اجتمعت قبيلة قريش في دار الندوة، وأجمعوا على قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - والتخلص منه، أعلم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحكم خلق الله، فأراد أن يبقى من أراد قتله ينظر إلى فراشه ينتظرونه يخرج عليهم، فأمر على بن أبى طالب رضي الله عنه أن ينام في فراشه تلك الليلة، ومن يجرؤ على البقاء في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأعداء أحاطوا بالبيت يتربصون به ليقتلوه؟ من يفعل هذا ويستطيع البقاء في هذا البيت هو يعلم أن الأعداء لا يفرقون بينه وبين الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مضجعه؟ إنه لا يفعل ذلك إلا أبطال الرجال وشجعانهم بفضل الله (1) – تعالى-، وقد أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم بمكة أيامًا حتى يؤدي أمانة الودائع والوصايا التي كانت عنده إلى أصحابها من أعدائه كاملة غير منقوصة، وهذا من أعظم العدل، وأداء الأمانة (2)، وقد جاء في رواية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: نم في فراشي، وتَسَجَّ ببردي هذا الخضري، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم (3). وقال ابن حجر، وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال: فرقد علىُّ على فراش رسول الله يوارى عنه، وباتت قريش تختلف، وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعلى، فسألوه، فقال: لا علم لي، فعلموا أنه قد فر (4)، وعن ابن عباس: إن عليًا قد شرى نفسه تلك الليلة حين لبس ثوب النبي، ثم نام مكانه (5)، وفي على وإخوانه من الصحابة المجاهدين الذين يبتغون رضوان الله والدار الآخرة نزل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207].
وفي هذا الموقف دروس وعبر وفوائد منها:
__________
(1) الحكمة في الدعوة إلى الله للقحطاني: ص(235).
(2) الطبقات الكبرى (3/22)، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص(166).
(3) السيرة لابن هشام (2/91)، فتح الباري (7/236).
(4) فتح الباري (7/237).
(5) فضائل الصحابة رقم (1168) إسناده حسن.(1/56)
1- إن خطة الهجرة كما رسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت تتطلب أن يأخذ مكانه في البيت رجل تشغل حركته داخل الدار أنظار المحاصرين لها من مشركي قريش، وتخدعهم بعض الوقت عن مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون وصاحبه أبو بكر قد جاوزوا منطقة الخطر (1).
2- في تلبية على رضي الله عنه لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا للجندي الصادق، المخلص لدعوة الإسلام، حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة الدعوة، وفي هلاكه خذلانها، ووهنها، فما فعله على رضي الله عنه ليلة الهجرة من بياته على فراش الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعتبر تضحية غالية، إذ كان من المحتمل أن تهوى سيوف فتيان قريش على رأس على رضي الله عنه، ولكن عليًا رضي الله عنه لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول الله نبي الأمة، وقائد الدعوة (2).
3- في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله، دليل باهر على تناقضهم العجيب الذي كانوا واقعين فيه، ففي الوقت الذي كانوا يكذبونه، ويزعمون أنه ساحر، أو مجنون، أو كذاب، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم من هو خير منه أمانة وصدقًا، فكانوا لا يضعون حوائجهم، ولا أموالهم التي يخافون عليها إلا عنده، وهذا يدل على أن كفرانهم لم يكن بسبب الشك لديهم في صدقه، وإنما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق، الذي جاء به، وخوفًا على زعامتهم وطغيانهم (3)، وصدق الله العظيم: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام:33].
__________
(1) خلفاء الرسول: ص(36)، العشرة المبشرون بالجنة محمد صالح.
(2) السيرة النبوية للسباعي: ص(345).
(3) فقه السيرة للبوطي: ص(153).(1/57)
4- وفي أمر الرسول- صلى الله عليه وسلم - لعلى- رضي الله عنه- بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكة، على الرغم من هذه الظروف الشديدة التي كان من المفروض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتجه التفكير إلا إلى إنجاح خطة هجرته فقط، على الرغم من ذلك فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما كان لينسى أو ينشغل عن رد الأمانات إلى أهلها، حتى ولو كان في أصعب الظروف التي تنسي الإنسان نفسه فضلاً عن غيره (1)، فقد أبى أن يخون من ائتمنه ولو كان عدوًا يحرض عليه، ويؤذيه؛ لأن خيانة الأمانة من صفات المنافقين، ويتنزه عنها المؤمنون (2).
__________
(1) الهجرة في القرآن الكريم: ص(364).
(2) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين: ص(423).(1/58)
5- هذا الحديث العظيم فيه دلالة قاطعة على شجاعة على رضي الله عنه، فإنه يعلم وهو يقوم بتنفيذ ما أمر به أنه معرض لخطر عظيم، فقد يقتحمون عليه داره ويقتلونه دون أن يتثبتوا من هويته، وقد يباغتونه وهو خارج في الصباح من غير أن يتبينوا من هو، والقوم يتربصون به طوال الليل يترقبون هذه اللحظة وقد بلغ منهم الجهد كل مبلغ، فأصبحوا غير قادرين على التأكد من شخصية الخارج من الدار، أهو محمد - صلى الله عليه وسلم - أم رجل آخر؟ لابد أن ذلك كله قد دار في عقل على لكنه بادر وسعد بالتنفيذ فهو أولاً: يحب الله ورسوله حبًا ملك عليه قلبه، فجعل سلامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هدفه الأسمى ولو كلفه ذلك التضحية بحياته، ثانيًا: هي عملية لابد منها لكي يخرج الرسول سالمًا من تدبير الأعداء حتى يتمكن من نشر الإسلام في كل مكان، فالأمر إذن يتعلق بمصلحة الإسلام أولاً وثانيًا، وقد نام على رضي الله عنه في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كل هذه التوقعات، وهذا دليل على عمق إيمانه بقضاء الله وقدره، فهو بحق مؤمن بقوله تعالى: {قُل لَّن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51]. وإننا لنلمح في اختيار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى- ليقوم بهذا الدور الخطير- ثقة تامة لا تعدلها ثقة، واطمئنانًا إلى قدرات خاصة امتاز بها على قد لا تتوافر في غيره، فإنه لم يتردد حين دعاه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لينام على فراشه، وهو يعلم أنه
ليس وراء ذلك إلا الموت الذي أعد له المشركون أشجع فتيان قريش ولم يسمح لنفسه
أن يفكر في العاقبة؛ لأنه يعلم أنه حين يكون فداء لرسول الله ينال بذلك شرفًا لا يناله
بغير هذا الطريق(1).
تاسعًا: هجرته:
__________
(1) المصدر السابق نفسه: ص(426).(1/59)
لما أصبح على، رضي الله عنه، قام عن فراشه، فعرفه القوم وتأكدوا من نجاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا لعلى: أين صاحبك؟ قال: لا أدري، أو رقيبًا كنت عليه؟ أمرتموه بالخروج فخرج. وضاق القوم بتلك الإجابة الجريئة وغاظهم خروج رسول الله من بين أظهرهم، وقد عموا عنه فلم يروه، فانتهروا عليًا وضربوه، وأخذوه إلى المسجد فحبسوه هناك ساعة، ثم تركوه (1)، وتحمل على ما نزل به في سبيل الله، وكان فرحه بنجاة رسول الله أعظم عنده من كل أذى نزل به، ولم يضعف ولم يخبر عن مكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وانطلق على في مكة يجوب شوارعها باحثًا عن أصحاب الودائع التي خلفه رسول الله من أجلها، وردها إلى أصحابها، وظل يرد هذه الأمانات حتى برئت منها ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهناك تأهب للخروج ليلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ثلاث ليال قضاهن في مكة (2).
__________
(1) تاريخ الطبري (2/374).
(2) تاريخ الطبري (2/382)، البداية والنهاية (7/335)، جولة تاريخية: ص(424).(1/60)
وكان على في أثناء هجرته يكمن بالنهار فإذا جن عليه الليل سار حتى قدم المدينة، وقد تفطرت قدماه (1)، وهكذا يكون على رضي الله عنه، قد لاقى في هجرته من الشدة ما لاقى، فلم تكن له راحلة يمتطيها، ولم يستطع السير في النهار لشدة حرارة الشمس وفي مشي الليل ما فيه من الظلمة المفجعة والوحدة المفزعة، ولو أضفنا إلى ذلك أنه - رضي الله عنه - قد قطع الطريق على قدميه دون أن يكون معه رفيق يؤنسه، لعلمنا مقدار ما تحمله من قسوة الطريق ووعثاء السفر ابتغاء مرضاة الله - عز وجل - وأنه في نهاية المطاف سيلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويستمتع بجواره أمنًا مطمئنًا في المدينة، ولم يكد علىّ يقطع الطريق ويصل إلى المدينة حتى نزل في بنى عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم، حيث كان ينزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وهكذا كانت هجرة أمير المؤمنين على بن أبى طالب - رضي الله عنه - تضحية وفداء وتحملاً وشجاعة وإقدامًا.
وقد لاحظ سيدنا على مدة إقامته بقباء امرأة مسلمة لا زوج لها، ورأى إنسانًا يأتيها من جوف الليل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئًا معه، فتأخذه، ولنستمع إليه رضي الله عنه وهو يحدثنا بالقصة حيث قال: فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمة الله، من هذا الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه، فيعطيك شيئًا لا أدري ما هو؟ وأنت امرأة مسلمة، لا زوج لك؟ قالت: هذا سهل بن حنيف بن وهب، قد عرف أني امرأة لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها، ثم جاءني بها فقال: احتطبي بهذا، فكان على رضي الله يؤثر ذلك من أمر سهل بن حنيف حتى هلك عنده بالعراق (3).ونلاحظ صفة النباهة واليقظة التي لابد للمسلم أن يتحلى بها ولا يكون غافلاً عما يدور حوله.
__________
(1) الكامل (2/106).
(2) الطبقات الكبرى (3/22)، السيرة لابن هشام (2/129)، ذكره ابن إسحاق بدون إسناده جولة تاريخية: (425).
(3) محمد رسول الله، صادق عرجون (2/421).(1/61)
المبحث الثالث : معايشة أمير المؤمنين على للقرآن الكريم
وأثرها عليه في حياته
أولاً: تصوره عن الله والكون والحياة والجنة والنار والقضاء والقدر:
كان المنهج التربوي الذي تربي عليه على بن أبى طالب رضي الله عنه هو نفسه الذي خضع له كل الخلفاء الراشدين، والصحابة الكرام، فقد تربوا على القرآن الكريم، وكان المربي سيد الخلق أجمعين محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقى وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج، مع ما يوحي إليه المولي عز وجل من الحكمة، ولقد تربي الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة على العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كانت للآيات الكريمة التي سمعها على من رسول الله مباشرة أثرها في صياغة شخصيته الإسلامية، فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، ونورت عقله، وتفاعلت معها روحه، فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته (1).
فقد عرف على رضي الله عنه من خلال القرآن الكريم والتربية النبوية الراشدة من هو الإلة الذي يجب أن يعبده، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركًا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفي النفوس، وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة على رضي الله عنه إلى الله والكون والحياة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فالله سبحانه وتعالى منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو «واحد لا شريك له ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا».
__________
(1) السيرة النبوية للصَّلابي (1/145).(1/62)
وأنه سبحانه خالق كل شيء ومالكه ومدبره: { إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
وأنه تعالى مصدر كل نعمة في هذا الوجود، دقت أو عظمت، ظهرت أو خفيت، {مَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
وأن علمه محيط بكل شيء، فلا تخفي عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا ما يخفي الإنسان وما يعلن، وأنه سبحانه يقيد على الإنسان أعماله بواسطة ملائكته، في كتاب لا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، وسينشر ذلك في اللحظة المناسبة والوقت المناسب {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون وما يهوون ليعرف الناس معادنهم، ومن منهم يرضى بقضاء الله وقدره، ويسلم له ظاهرًا وباطنًا، فيكون جديرًا بالخلافة والإمامة والسيادة، ومن منهم يغضب ويسخط فلا يساوى شيئًا، ولا يُسند إليه شيء {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه ولاذ بحماه ونزل على حكمة في كل ما يأتي وما يذر: {إِنَّ وَلِيَّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، وأنه سبحانه وتعالى حقه على العباد أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئًا {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66].(1/63)
وأنه وحده المستحق للعبادة وهذا حق الله على العباد، كما قال تعلى: { إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَّشَاءُ وَمَن يُّشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية، وهذا التوحيد في القرآن الكريم (1).
وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: {قُلْ أَئنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ - وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ - ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ - فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت: 9- 12].
__________
(1) منهج الرسول في غرس الروح الجهادية: (10-16).(1/64)
وأما هذه الحياة فمهما طالت فهي إلى زوال، وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، قال تعالى:{اضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 45، 46]، فعرَّف الله تعالى الإنسان المسلم حقيقة الحياة، وأنها ليست دار كرامة، وأن الآخرة خير وأبقى، وهى تهدي من تمكن حب الله ورسوله من قلبه على أن يقدم رضا الله ورسوله على ما سواه، ولو كان الثمن الدنيا وما فيها. وقد عبر عن هذه الحقيقة أمير المؤمنين على عندما قال: «يا دنيا غُرّى غيري، إلىَّ تعرضت أم إلىَّ تشوقت، هيهات هيهات، قد باينتك ثلاثًا لا رجعة فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، أه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق (1) »
وأما نظرته إلى الجنة فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة التي وصفتها فأصبح حاله ممن قال الله فيهم { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17].
وأما تصوره للنار فقد استمده من القرآن الكريم، فأصبح هذا التصور رادعًا له في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة أمير المؤمنين على رضي الله عنه عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشده خوفه من عذاب الله وعقابه، وسيتضح كثير من هذه المعالم في هذا الكتاب بإذن الله تعالى.
__________
(1) الاستيعاب (3/1108).(1/65)
وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه من كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس:61]، وأن الله قد كتب كل شيء كائن { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس:12].
وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، وأن الله خالق كل شيء { ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102].(1/66)
وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر، ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها بإذن الله تعالى في هذا الكتاب، وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبنى الإنسان، وأن حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة (1)، فقال تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ - ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ - ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7- 9]، وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده، وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر الله له ما في السماء والأرض، وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له، وأن من أروع مظاهر تكريم المولى عز وجل سبحانه للإنسان أن جعله أهلاً لحبه ورضائه ويكون ذلك باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
__________
(1) أصول التربية للنحلاوى: ص(31).(1/67)
وعرف أمير المؤمنين على رضي الله عنه حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، يوسوس له بالمعصية، يستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينًا بالله على عدوه إبليس منتصرًا عليه في حياته، كما سنرى في سيرته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم، أن آدم هو أصل البشر، وأن جوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة، وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه، وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر وتقديم مرضاة الله سبحانه وتعالى على كل ما سواه، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع إخوانه من الصحابة، قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسراء: 53]. وسار على منهج رسول الله في تزكية أصحابه لأرواحهم، وتطهير قلوبهم بأنواع العبادات، وتربيتهم على التخلق بأخلاق القرآن الكريم.
ثانيًا: مكانة القرآن الكريم عنده:(1/68)
عاش أمير المؤمنين على رضي الله عنه حياته مع القرآن تلاوة وحفظًا وفهمًا وعملاً، وكان يقول: « من قرأ القرآن فمات فدخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات الله هزوًا» (1) وكان يقول: «طوبي لهؤلاء كانوا أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»(2)، وكان يقول: «ما كنت أرى أحدًا يعقل ينام قبل أن يقرأ الآيات الثلاث الآواخر من سورة البقرة» (3)، أي أهل القرآن وقال يصف القرآن الكريم ويبين عظيم قدره: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم مما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو الحبل المتين وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هُدى إلى صراط مستقيم»(4).
__________
(1) المستطرف (1/29)، فرائد الكلام: ص(375).
(2) التبيان في آداب حملة القرآن: ص(46)، فرائد الكلام: ص(390).
(3) التبيان في آداب حملة القرآن: ص(66)، فرائد الكلام: ص(387).
(4) فضائل القرآن لابن كثير:ص (15) موقوف على أمير المؤمنين علىّ.(1/69)
ولشدة اهتمام أمير المؤمنين على بالقرآن حصل على علم كبير به وبعلومه، فقد روى عنه أنه قال: «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا صادقًا ناطقًا»(1)، وقد قال رضي الله عنه: «سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار، وفي سهل أم في جبل» (2)، ويرى ابن عبد البر أن عليًا رضي الله عنه كان ممن جمع القرآن الكريم على عهد رسول الله وهو حى (3)، وقد قال في آخر عهده: «سلوني قبل أن تفقدوني»(4). وكان ذلك عندما مات أكثر علماء الصحابة، وكان رضي الله عنه بالعراق، فكان من حرصه على تعليم الناس القرآن الكريم والهدى النبوي الشريف في قوم كثر فيهم الجهل ولا يعرفون الكثير من أحكام الدين، فكان رضي الله عنه يحرص على تعليمهم وإرشادهم للحق، فقد كان أعلم أهل زمانه، وهذا نموذج للعالم الرباني الذي يحرص على تعليم الناس الخير وتربيتهم عليه.
ثالثًا: ما نزل فيه من القرآن الكريم:
كان القرآن الكريم ينزل على رسول الله يعالج أحداثًا واقعية حصلت في المجتمع النبوي الكريم، فيثنى على عمل ما، ويشيد بأقوام، ويحذر من آخرين، وينبه على بعض الأخطاء، وقد نزلت بعض الآيات التي خلدت بعض المآثر لأمير المؤمنين وبعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
__________
(1) الطبقات لابن سعد (2/338)، تاريخ الخلفاء للسيوطي: ص(152).
(2) الصواعق المحرقة (2/375)، الطبقات (2/338).
(3) الاستيعاب (3/1130) وجمع القرآن الكريم أي حفظه عن ظهر قلب.
(4) منهاج السنة (8/57، 58).(1/70)
1- منها قول تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ - وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ - كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ - إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 19- 23].
روى البخاري بسنده عن على بن أبى طالب أنه قال: «أنا أول من يجثو بين يدى الرحمن للخصومة يوم القيامة»، وقال قيس بن عبادة: فيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} قال: هم الذين تبارزا يوم بدر، حمزة وعلى وأبو عبيدة بن الحارث وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة (1).
2- وهو أحد من نزل فيهم قول الله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]. وذلك في وفد نجران حينما جادلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في عيسى ابن مريم، وأنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى أمه الطاهرة، فأجابته، وكذبهم في أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة، ودعاهم إلى الإسلام، فأبوها فدعاهم إلى المباهلة، فعن عامر بن سعد بن أبي وقاص قال: ولما نزلت: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دعا رسول الله عليًا، وفاطمة، وحسنًا وحسينًا رضي الله عنهم فقال: اللهم هؤلاء أهلي (2).
__________
(1) البخاري رقم (3965).
(2) مسلم (4/1871) 425، (1/171).(1/71)
3- مواقفة القرآن له في كون الجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام:ففي الصحيح أن رجلاً قال: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، فقال على بن أبى طالب: «الجهاد في سبيل الله أفضل من هذا كله»، فقال عمر بن الخطاب «لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إذا قضيت الصلاة سألته عن ذلك، فسأله، فأنزل الله هذه الآية: { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19-22]. فبين لهم أن الإيمان والجهاد أفضل من عمارة المسجد الحرام والحج والطواف ومن الإحسان إلى الحجاج (1).
__________
(1) الفتاوى (8/166).(1/72)
4- شفقته على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: عن على رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلى: مرهم أن يتصدقوا، قال: يا رسول الله، بكم؟ قال: بدينار، قال: لا يطيقونه. قال: بنصف دينار.قال: لا يطيقونه، قال: فبكم؟ قال: بشعيرة (1)، قال: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلى: إنك لزهيد، قال: فأنزل الله: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة:12]. قال: فكان على يقول: فبي خفف الله عن هذه الأمة(2).
رابعًا: تبليغه تفسير رسول الله لبعض آيات القرآن الكريم:
استفاد على رضي الله عنه من تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبلغ ما تعلم من رسول الله للناس وإليك بعض الأمثلة على ذلك:
(أ) قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82]: عن على رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال: شكركم أنكم تكذبون، مُطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا (3).
__________
(1) بشعيرة: وزن شعيرة من ذهب.
(2) رواء الترمذي رقم 3297وقال: حسن غريب وضعفه الألباني في ضعيف موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان: ص (127، 128).
(3) الموسوعة الحديثية رقم 849حسن لغيره.(1/73)
(ب) فكل ميسر لما خلق له:عن على – رضي الله عنه- قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة فنكس فجعل ينكت بمخصرته، ثم قال: «ما منكم من أحد، من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، ألا وقد كتبت شقية أو سعيدة»، فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل، من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، فقال: «اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون إلى عمل أهل الشقاوة»، ثم قرأ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(1): [الليل: 5- 10]، وفي رواية: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة سيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة سيصير إلى عمل أهل الشقاوة(2).
__________
(1) البخاري رقم(1362).
(2) البخاري رقم (6605).(1/74)
وفي رواية في الصحيحين عن على قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه فقال: «ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار» فقالوا: يا رسول الله فِلمَ نعمل؟، أو لا نتكل؟، فقال: لا..اعملوا، فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى - وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى - وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى - وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}(1) [الليل: 5-10]. فقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأحاديث وغيرها بما دل عليه القرآن الكريم من أن الله – سبحانه وتعالى – تقدم علمه وكتابه وقضاؤه بما سيصير إليه العباد من السعادة والشقاوة كما تقدم علمه وكتابه بغير ذلك من أحوال العباد وغيرهم(2)، قد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك لا ينافي وجود الأعمال التي بها تكون السعادة أو الشقاوة، وأن من كان من أهل السعادة فإنه ييسر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة، وقد نهي أن يتكل الإنسان على القدر السابق ويدع العمل، ولهذا كان من اتكل على القدر السابق وترك ما أمر به من الأعمال هو من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وكان تركهم لما يجب عليهم من العمل من جملة المقدور الذي يسروا به لعمل أهل الشقاوة، فإن أهل السعادة هم الذين يعملون المأمور ويتركون المحظور، فمن ترك العمل الواجب الذي أمر به وفعل المحظور متكلاً على القدر، كان من جملة أهل الشقاوة والميسرين لعمل أهل الشقاوة، وهذا الجواب الذي أجاب به النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعلمه على بن أبى طالب رضي الله عنه وأصحاب النبي في غاية السداد والاستقامة (3).
خامسًا: الأصول والأسس التي سار عليها أمير المؤمنين على في استنباط الأحكام من القرآن الكريم وفهم معانيه:
__________
(1) البخاري رقم (6605)، الفتاوى (8/165).
(2) الفتاوى (8/166).
(3) مصنف عبد الرزاق (1744).(1/75)
كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه على مبلغ كبير من العلم بالقرآن وعلومه، وقد جعله هذا العلم بالقرآن يعتقد أن القرآن فيه جميع الأحكام الشرعية إما صراحة أو ضمنًا، فكان يقول بصدد ذلك: «إن الله لم يك نسيًا» (1)، ولذلك كان كثيرًا ما يحتج بالقرآن ويتلو الآية التي يستند إليها لبيان الحكم الشرعي وكانت طريقته في الاستنباط كالآتي:
1- الالتزام بظاهر القرآن الكريم: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يلتزم أحيانًا بظاهر القرآن الكريم حين لا يرى قرينة تقتضي صرفه عن ظاهره، فإنه كان يتوضأ لكل صلاة ويقرأ هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ...}(2) [المائدة:6]؛ لأن ظاهرها يدل على الوضوء عند إرادة الصلاة كل مرة، وأوجب الصوم على المقيم إذا أدركه الصوم ثم سافر، فقال: من أدركه الصوم وهو مقيم ثم سافر لزمه الصوم؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] (3)، ورأى عدم تحريم إرضاع الكبير؛ لأنه ليس ضمن حولي الرضاعة استنادًا إلى ظاهر آية الرضاعة، حيث روى عنه أنه قال في قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، الرضاعة سنتان فما كان من رضاع في الحولين حرم، وما كان بعد الحولين فلا يحرم (4)، وحمل القرآن الكريم على ظاهره في مكان آخر حيث حكم ببراءة امرأة اتهمت بالزنا لأنها ولدت بعد ستة أشهر من زواجها، فجمع بين قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] وقوله تعالى: { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]. فقال: الحمل ستة أشهر والفصال
__________
(1) المصدر السابق (1744).
(2) تفسير القرطبي (2/80).
(3) فقه الإمام على (1/45).
(4) المجموع للنووي (8/213).(1/76)
أربعة وعشرون شهرًا(1)، أي أنه طرح مدة الرضاعة وهي السنتان من مجموع مدة الرضاعة والحمل وهي ثلاثون شهرًا فبقيت ستة أشهر، فجمع بين ظاهر كلتا الآيتين وحكم بهما(2).
2- حمل المجمل على المفسر: المجمل هو ما خفي مراده بحيث لا يدرك إلا ببيان يرجى(3)، والمفسر: هو ما ظهر المراد منه دون الحاجة إلى بيان(4)،وقد حمل مجمل القرآن في قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95] على مفسره في مواضع أخرى، حيث ورد أنه سأل رجل عليا عن الهدى مما هو؟ فقال: من الثمانية أزواج، فكأن الرجل شك، فقال له على: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل سمعت قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ} [المائدة:1].قال: نعم، قال: فهل سمعته يقول: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ} [الحج:34] قال: فسمعت الله يقول: { مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ - وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ } [الأنعام: 143، 144]. قال: نعم، فهل سمعت الله يقول: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} إلى قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]. فقال: الرجل: نعم، قال: فقتلت ظبيًا فماذا علىَّ؟ قال: هديًا بالغ الكعبة(5).
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (12443)، فقه الإمام على (1/41).
(2) فقه الإمام على (1/46).
(3) مرآة الأصول في شرح مرقاة الوصول: ص(197).
(4) المصدر نفسه: ص(191).
(5) الدار المنثور (3/13).(1/77)
3- حمل المطلق على المقيد في القرآن الكريم: المطلق: هو ما دل على الماهية بلا قيد، والمقيد هو ما قيد لفظا بأي قيد(1)، ولقد حمل أمير المؤمنين على مطلق القرآن على مقيده في استنباط الحكم، إذ حمل مطلق الأمر بالقطع في آية السرقة على مقيده في آية المحاربة بعدم القطع إلا مرتين، وعدم قطع أكثر من يد ورجل عند تكرار السرقة، فإذا سرق مرة قطعت يده اليمنى، وإذا سرق قطعت رجله اليسرى عند على، فإن زاد وسرق مرة ثالثة ورابعة لم يزد على ذلك، ويعزره بدل القطع لأنه حمل قوله تعالى:
{السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] على آية المحاربة { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ} [المائدة: 33]. وقال: إن الله لم يزد على قطع يد ورجل في آية المحاربة، ولذلك كان يعاقب مثل هذا بالسجن(2). فعن الشعبي قال: كان على لا يقطع إلا اليد والرجل، وإن سرق بعد ذلك سُجن ونكل، وإنه كان يقول: إني لأستحيى من الله أن لا أدع له يدًا يأكل بها ويستنجى(3).
4- العلم بالناسخ والمنسوخ: النسخ، هو رفع الحكم الشرعي بخطاب متأخر(4)،ويقول الزركشي: قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ(5)، وعلى هذا المعنى يؤكد أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه، وذلك عندما عاتب قاصًّا بقوله: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت(6).
__________
(1) جمع الجوامع بشرح المحلى (2/79)، فقه الإمام على (1/47).
(2) فقه الإمام على (1/47)، مصنف عبد الرزاق 21874.
(3) مصنف عبد الرزاق 18764، فقه الإمام على (2/818).
(4) فقه الإمام على (1/48).
(5) البرهان في علوم القرآن (2/29).
(6) أبو خيثمة، ك العلم ص(31) تحقيق الألباني وقال: إسناده صحيح.(1/78)
5- النظر في لغة العرب:ومن منهج أمير المؤمنين على في فهم القرآن الكريم النظر في لغة العرب، كما فهم من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أن المراد بالأقراء الحيض، فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة(1)، لذا قال على رضي الله عنه عن المطلقة: لا تحل لزوجها الرجعة عليه حتى تغتسل من الحيضة الثالثة(2) والقروء في كلام العرب جمع قرء، وهو الحيض، والقرء أيضًا الطهر، وأقرأت المرأة: حاضت، وأقرأت: اطَّهَّرت(3).
ومن ذلك فهمه رضي الله عنه من قوله تعالى: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، اللمس هو الجماع فقد قال: اللمس هو الجماع، ولكن الله كنى عنه(4)، وحمل الناس المس في قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة:237] على الخلوة، فقال: المراد بالمس هنا الخلوة(5)، فأوجب الصداق كله بالخلوة(6)،وقد قال: إذا أرخى سترًا على امرأته وأغلق بابًا وجب الصداق والعدة(7).
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/271).
(2) الدر المنثور (1/234).
(3) الصحاح للجوهري (1/64) مادة (قرأ).
(4) فقه الإمام على (1/48)، الفصول في الأصول للجصاص (1/203).
(5) الفصول في الأصول(1/202).
(6) فقه الإمام على (1/48) أي خلوة الرجل بزوجته.
(7) مصنف بن أبى شيبة (4/334)، فقه الإمام على (2/531).(1/79)
6- فهم النص بنص آخر:ومن ذلك ما فهمه أمير المؤمنين على رضي الله عنه من قوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] أن ذلك يكون يوم القيامة، اعتمادًا على قوله سبحانه وتعالى: {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [النساء:141]. وذلك لما جاءه رجل يسأله كيف هذه الآية{لَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فقال على رضي الله عنه: ادنه، فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً(1)، ومنه ما فهمه من قوله تعالى: {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور:5] بأنه السماء لما رواه ابن جرير وذكره ابن كثير عن على {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السماء. قال سفيان: ثم تلا...{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَّحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:32].
__________
(1) تفسير ابن جرير، إسناده صحيح، (9/327).(1/80)
ومن ذلك أيضًا ما فهمه من قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر، معتمدًا في ذلك على نص من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب:«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا»(1)، ومن هذا الباب أيضًا ما ورد في فهمه لقوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا} [النساء:31]. فعن سهل بن أبى خيثمة عن أبيه قال: إني لفى هذا المسجد – مسجد الكوفة- وعلى رضي الله عنه يخطب الناس على المنبر يقول: يا أيها الناس، الكبائر سبع، فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرات، ثم قال: لم لا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين ما هي؟ قال: «الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار يوم الزحف، والتعرب (2) بعد الهجرة(3).وهذا الفهم مبني على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه: «اجتنبوا السبع الموبقات»(4).قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات»(5)، وهذا يدخل ضمن منهج أمير المؤمنين على في تفسير القرآن الكريم بالسنة.
__________
(1) مسلم (1/437).
(2) أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سهمه في الفئ، ووجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه، فرجع أعرابيًا كما كان.
(3) تفسير الطبري (5/25).
(4) الموبقات: جمع موبقة وهي المهلكة.
(5) البخاري، كتاب الوصايا رقم (2766).(1/81)
7- السؤال عن مشكله: ومن منهج أمير المؤمنين على رضي الله عنه في فهم القرآن الكريم سؤاله عما أشكل عليه فيه، ومن ذلك سؤاله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر في قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ} [التوبة:3]. فقد قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر(1)، وبين أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه هذا المنهج فيما يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلت: يا رسول الله، إنا نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ونهي، فما تأمرنا، قال: شاوروا الفقهاء والعابدين، ولا تمضوا فيه خاصة(2).
8- العلم بمناسبة الآيات:إن العلم بالمناسبة التي نزلت فيها الآيات، والسبب الداعي لذلك؛ يفيد في إدراك معنى الآية، واستنباط الحكم منها، لأن بيان النزول طريق قوى في فهم معاني الكتاب العزيز(3)، ولقد بلغ أمير المؤمنين على رضي الله عنه مبلغًا في العلم بأسباب نزول الآيات، كما يقول عن نفسه حاثًا على سؤاله عن كتاب الله: «سلوني، سلوني، سلوني عن كتاب الله تعالى، فوالله، ما من آية إلا وأنا أعلم أنزلت بليل أو نهار(4)» وفي رواية:«والله ما أنزلت آية إلا وقد علمت فيم نزلت، وأين نزلت»(5).
9- تخصيص العام:العام، هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بوضع واحد دفعه واحدة من غير حصر(6)، وقاعدة العموم، كل لفظ عام باق على عمومه حتى يرد التخصيص(7)، وقد يرد من الشارع ما يدل على قصر العام على بعض أفراده وهذا هو تخصيص العام(8).
__________
(1) سنن الترمذي رقم (970)وصححه الألباني (1/282).
(2) تاريخ خليفة بن خياط: ص(66)، منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله: ص(78).
(3) المصدر السابق: ص(79).
(4) الإصابة (2/50).
(5) الطبقات (2/338).
(6) تيسير علم أصول الفقه، عبد الله الجُديع: ص(262).
(7) المصدر نفسه: ص(269).
(8) المصدر نفسه: ص (269).(1/82)
وقد ورد عن على رضي الله عنه ما يفيد قوله بتخصيص العموم، فقد سئل رضي الله عنه عن رجل له أمتان أختان وطئ إحداهما ثم أراد أن يطأ الأخرى قال: لا..حتى يخرجهما من ملكه(1)، وعن ابن الكواء سأل عليًا عن الجمع بين الأختين فقال: حرمتهما آية وأحلتهما آية أخرى، ولست أفعل أنا ولا أهلي(2). وقصد أمير المؤمنين على بالآية التي حرمتهما هي قوله وتعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] وبالتي أحلتهما هي قوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فهاتان الآيتان بينهما عموم وخصوص، إذ خصص عموم التمتع بملك اليمين بخصوص عدم جواز الجمع بين الأختين(3).
__________
(1) فقه الإمام على (1/560)نقلاً عن مصنف ابن أبى شيبة.
(2) المصدر نفسه (2/560).
(3) الأحكام للآمدى (2/445)، روضة الناظر (2/129).(1/83)
ومنها أنه حكم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بأن تعتد أبعد الأجلين، فقال: عدتها أبعد الأجلين(1)، أي أنه خص عموم الآيتين {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]، و { وَأُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، فالحامل المتوفي عنها زوجها إذا وضعت حملها قبل الأربعة الأشهر والعشرة الأيام فإنها تكمل المدة ولا تعمل بعموم الآية الثانية؛ لأن الأولى تخصصها، وإن أكملت المدة فلا تنقضي عدتها إلا بوضع الحمل؛ لأن عموم الآية الأولى مخصص بالثانية، فكل من الآيتين عام في وجه، وخاص في وجه آخر، تخصص إحداهما الأخرى عند على، ولعله عمل بالاحتياط جمعًا بين الآيتين(2)، ولكن الراجح أن عدتها وضع الحمل في كلتا الحالتين، فقد صح عن عبد الله بن عتبة أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل، فقال لها، مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بنكاح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علىَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي(3).
ولعل عليًا قال بذلك لعدم بلوغه حديث سبيعة وإلا فلا يخالف علىّ الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (4).
__________
(1) الفصول في الأصول للجصاص (6/106).
(2) فقه الإمام على (1/50).
(3) مسلم رقم (1484).
(4) فقه الإمام على (2/617).(1/84)
10- معرفة عادات العرب ومن حولهم:ولمعرفة طبيعة وعادات العرب ومن حولهم من اليهود والنصاري وقت نزول القرآن دور كبير في فهم القرآن الكريم، وعلى رضي الله عنه عاش في ذلك الزمان، وعرف الكثير من العادات التي نهى عنها القرآن، أو تلك التي أقرها، ومن أمثلة هذا الفهم ما رواه ابن أبى حاتم: لما نافر ابن وائل أبا الفرزدق، فعقر كل واحد منهما مائة من الإبل، فخرج علىّ على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيضاء وهو ينادي: «يا أيها الناس لا تأكلوا من لحومها، فإنها أهل بها لغير الله» فعلي رضي الله عنه عرف من عادات العرب في وقته أن مثل هذه المنافرة ليست لله وإنما هي للشيطان، فذلك نهى عنها مستدلاً بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ}(1) [المائدة:3].
11- قوة الفهم وسعة الإدراك: وقوة الفهم وسعة الإدراك من المزايا التي امتاز واشتهر بها على رضي الله عنه، والأمثلة التي تدل على هذا كثيرة جدًا نذكر منها ما رواه ابن جرير قال: نادي رجل من الخوارج عليًا رضي الله عنه وهو في صلاة الفجر، فقال: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]، فأجابه على رضي الله عنه وهو في الصلاة { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [الروم:60] (2).
هذه بعض الأصول والأسس التي سار عليها أمير المؤمنين على رضي الله عنه في استنباط الأحكام من القرآن الكريم وفهم معانيه، وهي ترشد محبيه وأبناء المسلمين المخلصين في كيفية التعامل مع كتاب الله سبحانه وتعالى.
__________
(1) تفسير أمير المؤمنين على بن أبى طالب، فهد بن عبد العزيز الفاضل، رسالة علمية جامعية لم تنشر (1/30).
(2) تفسير الطبري (21/59).(1/85)
سادسًا: تفسير أمير المؤمنين على لبعض الآيات الكريمة:
1- الذاريات: عن الثوري عن حبيب بن أبى صابت عن أبى الطفيل قال: سمعت ابن الكواء يسأل على بن أبى طالب عن الذاريات ذروًا قال: الرياح، وعن الحاملات وقرًا، قال: السحاب، وعن الجاريات يسرًا، قال: السفن، وعن المدبرات أمرًا قال: الملائكة(1)، وصححه الحاكم من وجه آخر عن أبى الطفيل.
وقد أطنب الطبري في تخريج طرقه إلى على (2)، وأخرجه عبد الرزاق من وجه آخر عن أبى الطفيل قال: شهدت عليًا وهو يخطب وهو يقول: سلوني..وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل. فقال ابن الكواء- وأنا بينه وبين على وهو خلفي – فقال: ما الذاريات ذروًا؟ فذكر مثله وقال فيه: ويلك سل تفقهًا ولا تسأل تعنتًا وفيه سؤال عن أشياء غير هذا(3).
2- قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير:15]: روى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن على قال: هن الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى(4).
3- بكاء الأرض على العبد الصالح:قال على رضي الله عنه: إذا مات العبد الصالح بكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء والأرض، ثم قرأ { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29].
4- الخشوع في القلب وأن تلين كنفك للمرء المسلم:سئل أمير المؤمنين على رضي الله عنه عن قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2]، قال: الخشوع في القلب، وأن تُلين كنفك للمرء المسلم ولا تلتفت في صلاتك(5).
__________
(1) الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى: ص (486).
(2) الدر المنثور (7/614)، تفسير الطبري (26/ 185- 188).
(3) الخلافة الراشدة، اليحيى: ص(486).
(4) الخلافة الراشدة، اليحيى: ص(487)، الفتح (8/563).
(5) الزهد لابن المبارك: ص(403) رقم (1148).(1/86)
5- خليلان مؤمنان، وخليلان كافران:س ئل أمير المؤمنين رضي الله عنه عن قول الله تعالى: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]. قال: خليلان مؤمنان وخليلان كافران، فمات أحد المؤمنين، فبشر بالجنة فذكر خليله المؤمن، قال: فيقول: يا رب! إنَّ خليلي فلانًا كان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر، فيأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويخبرني أني ملاقيك، فلا تُضله بعدي واهده كما هداني، وأكرمه كما أكرمني، فإذا مات جمع بينهما في الجنة، ويقال لهما: لِيُثْنِ كل واحد منكما على صاحبه فيقول: اللهم كان يأمرني بالخير وينهاني عن الشر، فيأمرني بطاعتك وطاعة رسولك، ويُخبرني أني ملاقيك، فنعم الأخ والخليل والصاحب، قال: ثم يموت أحد الكافرين، فُيبشر بالنار، فيذكر خليله، فيقول: اللهمّ خليلي فلان كان يأمرني بالشر، وينهاني عن الخير، ويأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويخبرني أني غير ملاقيك، اللهمّ فأضله كما أضلَّني، فإذا مات جمع بينهما في النار، فيقال لُيْثن كل واحد منكما على صاحبه قال فيقول: اللهمّ كان يأمرني بالشر وينهاني عن الخير ويأمرني بمعصيتك ومعصية رسولك، ويخبرني أني غير ملاقيك، فبئس الأخ والخليل والصاحب(1).
6- الزهد بين كلمتين من القرآن: قال رضي الله عنه: الزهد كله بين كلمتين من القرآن الكريم: قال سبحانه: {لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23]. ومن لم ييأس على الماضي، ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه(2).
__________
(1) الزهد لابن المبارك رقم(368).
(2) رسالة المسترشدين: ص(224)، فرائد الكلام: ص(376).(1/87)
7- أمير المؤمنين على رضي الله عنه وتدبره في الصلاة:بيَّن أمير المؤمنين رضي الله عن استحباب المصلي إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله تعالى منها، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله تعالى، فعن عبد خير الهمداني قال: سمعت على بن أبى طالب قرأ في صلاة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} فقال: سبحان ربي الأعلى(1).
وعن حجر بن قيس المدري قال: بت عند أمير المؤمنين على بن أبى طالب، فسمعته وهو يصلى من الليل يقرأ بهذه الآية: { أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ - أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} قال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ - أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}، قال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} قال: بل أنت يا رب ثلاثًا، ثم قرأ {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} قال: بل أنت يا رب ثلاثًا(2).
8- قوله تعالى: { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ - إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88، 89]. قال على رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله لأقوام(3).
__________
(1) المحلى (4/118)، السنن الصغرى (1/146).
(2) الدر المنثور للسيوطي (8/22، 23).
(3) تفسير أمير المؤمنين على، لفهد بن عبد العزيز الفاضل (2/661) رسالة جامعية لم تنشر.(1/88)
المبحث الرابع : ملازمته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كان على رضي الله عنه واحدًا من المكيين الذين قرأوا وكتبوا في مجتمعهم الأمي، وهذا دليل على حبه للعلم وشغفه به منذ صغره، وقد وفقه الله تعالى أن يعيش منذ طفولته في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتربي على يديه وزادت عناية رسول الله به بعد إسلامه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرافد القوى الذي أثر في شخصيته وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه، وطهر قلبه ونور عقله، وأحيا روحه، فقد لازم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة والمدينة، وقد كان حريصًا على التتلمذ على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي كان يربي أصحابه على القرآن الكريم، فقد كان هو الينبوع المتدفق الذي استمد منه على رضي الله عنه علمه وتربيته وثقافته، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - تنزل عليه الآيات منجمة على حسب الوقائع والأحداث، وكان يقرؤها على أصحابه الذين وقفوا على معانيها وتعمقوا في فهمها، وتأثروا بمبادئها، وكان له أعمق الأثر في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وأرواحهم، كما كان على رضي الله عنه واحدًا من الذين تأثروا بالتربية القرآنية على يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وتشرّب تعاليمه وتوجيهاته النبوية، وقد اهتم على رضي الله عنه منذ أسلم بحفظ القرآن الكريم وفهمه وتأمله، وظل ملازمًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - يتلقى عنه ما أنزل عليه حتى تم له حفظ جميع آياته وسوره، لقد حصل على رضي الله عنه ببركة صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتربيته على يديه خيرًا كثيرًا، وأصبح من الخلفاء الراشدين فيما بعد، فقد حرص على التبحر في الهدى النبوي الحكيم في غزواته وسلمه، وأصبح لعلي رضي الله عنه علم واسع ومعرفة غزيرة بالسنة النبوية المطهرة، فقد استمد من رسول الله علمًا وتربية ومعرفة بمقاصد هذا الدين العظيم، وقد جمع بين رسول الله وبين على حب شديد، والحب عامل مهم في تهيئة مناخ علمي ممتاز بين المعلم وتلميذه، يأتي بخير النتائج العلمية، والثقافية، لما له من عطاء متجدد، وعلى رضي الله عنه قد أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبًا جمًا، وتعلق فؤاده به، وقدم نفسه فداء له، وتضحية في سبيل نشر(1/89)
دعوته.
أولاً: أمير المؤمنين ومقام النبوة:
أوجب الله سبحانه وتعالى على الثقلين – الإنس والجن – الذين أدركتهم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن يؤمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به، كما شهدت بذلك نصوص الكتاب العزيز، كما أكد الله وجوب الإيمان بنبيه بأن جعله مقترنًا بالإيمان به سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن الكريم منها:
قال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].
وقال- صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار»(1)، وقد أجمعت الأمة على وجوب الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أجمعت كذلك على أن كل من قامت عليه الحجة برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الإنس والجن فلم يؤمن به استحق عقاب الله تعالى، كما يستحقه أمثاله من الكافرين الذين بعث إليهم الرسول، وهذا أصل متفق عليه بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين وسائر طوائف المسلمين من أهل السنة والجماعة وغيرهم(2).
وقد أعطى أمير المؤمنين على رضي الله عنه مقام النبوة حقه وأوضح معالمه بأقواله وأفعاله، وكان يحرص على تعليم الناس وحثهم على الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله وتقريراته، ومن أقواله في هذا المعنى: واقتدوا بهدى نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أفضل الهدى واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن(3).
__________
(1) مسلم (1/93) كتاب الإيمان.
(2) حقوق النبي على أمته في ضوء الكتاب والسنة (1/72).
(3) البداية والنهاية (7/319).(1/90)
1- وجوب طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولزوم سنته والمحافظة عليها: تربي أمير المؤمنين علىّ على وجوب طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو ممن قرأ وحفظ وفهم قوله الله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80]، فهذه الآية ضمن سلسلة من الآيات ربطت بين طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد جعل الله طاعته وطاعة رسوله شيئًا واحدًا، وجعل الأمر بطاعة رسوله مندرجًا في الأمر بطاعته سبحانه وتعالى، وفي ذلك بيان للعباد بأن طاعته سبحانه لا تتحقق إلا بطاعة الرسول- صلى الله عليه وسلم -، والآيات الواردة بهذا المعنى كثيرة، (1) وقد تربى أمير المؤمنين على يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلم منه وجوب طاعته وامتثال أمره واتباع ما جاء به والسير على سنته والاقتداء به في كل ما جاء به عن ربه عز وجل، وأحاديثه- صلى الله عليه وسلم - في هذا المجال أعطت للأمة توجيهات عظيمة متى ساروا عليها وامتثلوا ما فيها واستناروا بها، فقد تحققت لهم سعادة الدارين وفازوا وأفلحوا بإذن الله تعالى، وقد امتازت الأحاديث في هذا الشأن بكثرتها وتنوع عباراتها وتعدد أساليبها واشتمال بعضها على الأمثلة التي ضربها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته في هذا الشأن، ومما لا شكل فيه أن هذه المميزات زادت الأمر توكيدًا وتوضيحًا وبيانًا، بحيث إنها لم تدع مجالاً لمتأول يؤولها أو محرف يغير معناها بهواه ورأيه الفاسد، وهذه الأحاديث على تنوع عباراتها وتعدد أساليبها اتحدت جميعها في مضمون واحد وهو التأكيد على وجوب طاعته- صلى الله عليه وسلم -، واتباع ما جاء به من الترغيب في ذلك إضافة إلى التحذير من مخالفته، وتحريم معصيته وبيان الوعيد الشديد في ذلك(2)، فمن هذه الأحاديث قوله - صلى الله عليه وسلم -: «كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبى» قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى»(3)، طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هى الانقياد لسنته، مع رفض قول كل من قال شيئًا في دين
__________
(1) حقوق النبي على أمته (1/74).
(2) حقوق النبي على أمته (1/86).
(3) البخاري رقم (7280).(1/91)
الله عز وجل بخلاف سنته، دون الاحتيال في دفع السنن بالتأويلات المضمحلة والمخترعات الداحضة(1).
وقد كان أمير المؤمنين على من أحرص الصحابة على طاعة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقد قال رضي الله عنه: «ما كنت لأدع سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - لقول أحد»(2)، وقال أيضًا: «ألا إني لست بنبي ولا يوحى إلىَّ، ولكني أعمل بكتاب الله وسنة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما استطعت».وهو نموذج فريد بالتمسك بالسنة والالتزام بها والدعوة لها(3)، ومن هذا المفهوم والتصور الواضح لأهمية طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته انطلقت أفعال أمير المؤمنين على رضي الله عنه. وكان رضي الله عنه يعتني بالسنة ويتحرى ويتثبت في روايتها وفي أخذها رضي الله عنه، فقد قال رضي الله عنه: «إذا حدثتكم عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فلئن أخرَّ من السماء أحَبُّ إلىَّ من أكذب عليه»(4)، وقال رضي الله عنه: «كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته، فإذا حلف لي صدقته»(5).
وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يحارب ما يناقض الاتباع، فقد قال رضي الله عنه: «لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه».
2- حديث أمير المؤمنين على رضي الله عنه عن دلائل نبوة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: بيَّن أمير المؤمنين على رضي الله عنه بعضًا من دلائل نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - منها ما يلي:
__________
(1) صحيح ابن حبان (1/153).
(2) فتح الباري (3/421).
(3) الشفا للقاضي عياض (2/556).
(4) فتح الباري (6/158).
(5) سنن ابن ماجة رقم (1395).(1/92)
(أ) بركة دعائه: مرض على رضي الله عنه مرة فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحنى، وإن كان متأخرًا فارفعني، وإن كان البلاء فصبرني. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قلت؟ فأعاد عليه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،: «اللهم اشفه، اللهم عافه»، ثم قال: قم. فقمت، فما عاد لي ذلك الوجع بعده(1)،وسيأتي الحديث بإذن الله تعالى عن دعاء رسول الله له في خيبر.
(ب) إخباره بما فتح الله على نبيه من أمور الغيب: قال على بن أبى طالب رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلئن أخر من السماء أحب إلىَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة»(2)، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في فتلهم أجرًا لمن قتلهم يوم القيامة»(3)، وسيأتي شرح هذا الحديث وغيره عند حديثنا عن الخوارج وموقف أمير المؤمنين على منهم بإذن الله تعالى.
(ج) النصر بالرعب: ومن دلائل النبوة التي حدثنا بها على رضي الله عنه ما رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، فقلنا: يا رسول الله ما هو؟ قال: نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، وسميت أحمد، وجعل التراب لي طهورًا وجعلت أمتى خير الأمم»(4).
__________
(1) مسند أحمد (2/151)، تحقيق أحمد شاكر إسناده صحيح.
(2) منهج على في الدعوة إلى الله، ص (117)، فتح الباري (6/158).
(3) البخاري، ك المناقب (1/281) والقوم المذكورون هم الخوارج الذين قاتلهم على بن أبى طالب في خلافته، وسيأتي الحديث عنهم بالتفصيل بإذن الله.
(4) البخاري. رقم (335).(1/93)
(د) خاتم النبوة: وضح على رضي الله عنه من جملة وصفه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجود دلالة من أبرز الدلائل الحسية على نبوته - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: بين كتفيه خاتم النبوة (1). وهذه العلامة كان أهل الكتاب يعرفونه بها، وهى شيء بارز أحمر عند كتفه الأيسر، قدره إذا قُلل قدر بيضة الحمامة، وإذا كبر جمع اليد(2).
(هـ) سلام الجبال على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخبر أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه عن هذه الدلالة حيث قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبل، ولا شجر، إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله(3).
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (11/513)، البخاري، كتاب المناقب.
(2) فتح الباري (6/561- 563).
(3) سنن الترمذي، ك المناقب (5/93)، المستدرك (2/620) صحيح الإسناد.(1/94)
3- الترغيب في هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -:كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يرغب المسلمين في لزوم هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال في خطبة له في الربذة(1): «الزموا دينكم واهتدوا بهدى نبيكم، واتبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه»(2)، وبعد رجوع أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه من قتال الخوارج خطب أصحابه خطبة بليغة نافعة جامعة للخير ناهية عن الشر، وقد ضمن هذه الخطبة الأمر بالتزام هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - والترغيب فيه، حيث يقول: «واقتدوا بهدى نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن»(3)، ولم تشغل الفتن الداخلية أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه والتي حصلت في عهده، عن دعوة أصحابه إلى كل خير، ونهيهم عن كل شر(4)، وتحذيرهم من البدع، ومن قوله في هذا الشأن: «إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها، وكل محدثة بدعة، وكل محدث مبتدع، ومن ابتدع فقد ضيع، وما أحدث محدث بدعة إلا ترك بها سنة»(5).
4- بيان فضله وبعض حقوقه على أمته - صلى الله عليه وسلم -: بيَّن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه في معرض حديثه للمسلمين فضائل النبي- صلى الله عليه وسلم - ومما قاله في هذا المجال: «فكان مما أكرم الله به عز وجل هذه الأمة، وخصهم به من الفضيلة أن بعث إليهم محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فعلمهم الكتاب والحكمة والفرائض والسنة لكيما يهتدوا، وجمعهم لكيما لا يتفرقوا، وزكاهم لكيما يتطهروا، ورفههم لكيما لا يجوروا، فلما قضى من ذلك ما عليه، قبضه الله عز وجل صلوات الله عليه ورحمته وبركاته»(6). وإليك بعض حقوقه- صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) من قرى المدينة على ثلاثة أميال، معجم البلدان (3/24).
(2) البداية والنهاية (7/246)، تاريخ الطبري.
(3) البداية والنهاية (7/319).
(4) البداية والنهاية (7/319).
(5) البداية والنهاية (7/319).
(6) البداية والنهاية (7/262).(1/95)
(أ) وجوب الصدق عنه والتحذير من الكذب عليه: حذر أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه من الكذب على رسول الله، فعن ربعي بن حراش قال: سمعت على بن أبى طالب يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تكذبوا علىَّ فإنه من كذب علىّ فليلج النار»، وحذر أمير المؤمنين على رضي الله عنه من نقل الكذب- وهو يعلم أنه كذب – فيما يرويه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حدث عني حديثًا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»(1).
(ب) البعد عن أسباب تكذبيه: أرشد أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه الناس إلى البعد عن الأمر الذي يكون سببًا في تكذيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كتحديث الناس بما لا تدركه عقولهم من أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال: «حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله»(2)، ومعنى الحديث: بما يعرفون: أي يفهمون، وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، وممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوى البدعة وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب(3).
(ج) إحسان الظن بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: إذا حُدّثتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا فظنوا به هو أهناه وأهداه وأتقاه(4).
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجة (1/13) قال الألباني: صحيح.
(2) البخاري، ك العلم (1/46).
(3) فتح الباري (1/425) باب من خص بالعلم قومًا دون قوم.
(4) مسند أحمد (2/211) أحمد شاكر، إسناده صحيح.(1/96)
(د) الصلاة عليه: قال تعالى: { إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ(1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56].
وهذا إخبار من الله سبحانه وتعالى بمنزلة عبده ونبيه في الملأ الأعلى، بأنه يثنى عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلى عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوى والسفلي جميعًا(2)، ويؤكد أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه هذا الحق لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصف من لم يصلَّ على رسول الله عند سماع ذكره بالبخل، فيما يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: «البخيل الذي ذكرت عنده فلم يصل علىَّ»(3).
__________
(1) صلاة الله تعالى: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء.
(2) تفسير ابن كثير (3/508)، منهج على بن أبى طالب في الدعوة: ص(129).
(3) صحيح سنن الترمذي (3/177) صحيح.(1/97)
(هـ) محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال تعالى: { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24]. فالآية نصت على وجوب محبة الله ورسوله، وأن تلك المحبة يجب أن تكون مقدمة على كل محبوب، ولا خلاف في ذلك بين الأمة(1)، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31]. ففي هذه الآية إشارة ضمنية إلى وجوب محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله تبارك وتعالى قد جعل برهان محبته تعالى ودليل صدقها هو أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الأتباع لا يتحقق ولا يكون إلا بعد الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والإيمان به لابد من تحقق شروطه التي منها محبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده»(2) ومما لا ريب فيه أن حظ الصحابة من حبه- صلى الله عليه وسلم - كان أتم وأوفر، ذلك أن المحبة ثمرة المعرفة، وهم بقدره - صلى الله عليه وسلم - ومنزلته أعلم وأعرف من غيرهم، فبالتالي كان حبهم له- صلى الله عليه وسلم - أشد وأكبر(3)، وقد سئل أمير المؤمنين على رضي الله عنه: كيف كان حبكم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ(4)، وهذه الخصوصية المطلقة ليست لأحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) تفسير القرطبي (8/95).
(2) البخاري رقم 4فتح الباري (1/58).
(3) حقوق النبي على أمته (1/314).
(4) الشفا (2/568) للقاضي عياض.(1/98)
5- المعرفة الدقيقة الشاملة لملامح الشخصية النبوية: لقد ساعدت الصلة الأسرية، والمعايشة الطويلة القريبة، والتتبع الدقيق لما خص الله به نبيه من نفسية نبوية، ومكارم أخلاق وميول واتجاهات، أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه على معرفته الدقيقة الشاملة للشخصية النبوية وخصائصها والقدرة على وصفها، والتنويه بجوانب دقيقة في سيرته وخلقه، يلاحظ ذلك فيما روى عنه من وصف رسول الله وحليته وخلقه وسلوكه(1).
__________
(1) المرتضى: ص (39- 43).(1/99)
(أ) بيان خَلْقه: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل ولا بالقصير، شثن الكفين(1) والقدمين، مشرب وجهه حمرة، طويل المْسْرُبة(2)، ضخم الكراديس(3)، إذا مشى تكفَّأ تكفَّؤًا، كأنما ينحط من صبب(4)، لم أر قبله ولا بعد مثله- صلى الله عليه وسلم -(5)، وعن محمد بن على عن أبيه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضخم الرأس، عظيم العينين، هَدِب الأشفار(6) – قال حسن(7): الشفار- مُشرب العينين بحمرة، كث اللحية، أزهر اللون، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى تكفأ كأنما يمشي في صعد، وإذا التفت التفت جميعًا(8)، وعند الترمذي عن محمد من ولد على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: كان على رضي الله عنه إذا وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يكن بالطويل الممغط(9)، ولا بالقصير المتردد(10)، وكان ربعة من القوم، ولم يكن بالجعد القطط(11)، ولا بالسبط، كان جعدًا رجلاً، ولم يكن بالمطهم(12) ولا بالمكلثم(13)، وكان في الوجه تدوير، أبيض مشرب، شثن الكفين
__________
(1) أي خشن الكفين غليظهما: الصحاح للجوهري (5/214).
(2) الشعر المستدق الذي يأخذ من الصدر إلى السرة.
(3) الكُردوس: كل عظم تام ضخم فهو كردوس، وكل عظمين التقيا في مفصل فهو كردوس، وأراد على أنه - صلى الله عليه وسلم - ضخم الأعضاء.
(4) الصبب هو الموضع المنحدر، وهذه الصفة من المشي تعني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قويًا، فإذا مشى فكأنما يمشي على صدور قدميه من القوة.
(5) مسند أحمد 1/96 برقم (746)ط/ الرسالة – إسناده صحيح، صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي.
(6) هى حروف الأجفان وأصول منابت الشعر في الجفن التي تلتقي عند التغميض.
(7) حسن بن موسى الراوى عن حماد عبد الله بن محمد بن عقيل بن محمد بن على.
(8) مسند أحمد 1/89 برقم (684) ط/ الرسالة- إسناده صحيح.
(9) الممغط: الذاهب طولاً.
(10) المتردد: الداخل بعضه في بعض قصرًا.
(11) القطط: الشديد الجعودة.
(12) المطهم: البادن الكثير اللحم.
(13) المكلثم: الممتلئ لحم الخدين والوجه.(1/100)
والقدمين، إذا مشى تقلع، كأنما يمشي في صبب، وإذا التفت التف(1) معًا.
«كما أن على بن أبى طالب رضي الله عنه بين صفة من صفات جسد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، وأمرًا لم يعرفه غيره – ربما من كان يغسله معه(2) – حيث يقول: غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيبًا حيًا وميتًا - صلى الله عليه وسلم -(3)، وكان على رضي الله عنه يقول وهو يغسله: بأبى أنت وأمي، ما أطيبك حيًا وميتًا(4).
__________
(1) سنن الترمذي، ك المناقب (5/599) حسن غريب إسناده غير متصل.
(2) كالعباس والفضل وقثم بن عباس يقلبونه.
(3) صحيح سنن ابن ماجة للألباني (1/247)، الحاكم في المستدرك (3/59) واللفظ له صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/662).(1/101)
(ب) بيان خُلُقِه: تحدث أمير المءمنين على رضي الله عنه عن أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «كان أجود الناس كفًا، وأشرحهم صدرًا وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة(1)، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله»(2)، وأخبرنا عن شجاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقوة بأسه، وأن عليًا ومن كان معه مع شجاعتهم أيضًا وقوة بأسهم التي سطرتها أخبار المغازي، كانوا إذا اشتدت الحرب يلوذون برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول على رضي الله عنه: «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسًا»(3)، وفي رواية أخرى: كنا إذا احمر البأس، ولقي القومُ القومَ اتقينا برسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فما يكون منا أحد أدنى من القوم منه(4)، وبين على رضي الله عنه من أخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الرحمة والكرم، والشجاعة والتواضع، ما ورد في وصفه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لليهود الذين طلبوا منه ذلك حيث يقول: كان أرحم الناس بالناس؛ لليتيم كالأب الرحيم، واللأرملة كالكريم، أشجع الناس، وأبذلهم كفًا، وأصبحهم وجهًا، لباسه العباء وطعامه خبز الشعير، وإدامه اللبن، ووساده الأدم محشو بليف النخل، سريره أم غيلان مرمل بالشريف(5)، كان له عمامتان إحداهما تدعي السحاب(6)، والأخرى العقاب، وكان سيفه ذا الفقار(7)
__________
(1) العريكة: الطبيعة، وفلان لين العريكة: إذا كان سلسًا، انظر منهج على بن أبى طالب ص 110.
(2) وهو تتمة للحديث السابق.
(3) مسند أحمد (2/64) تحقيق أحمد شاكر، إسناده صحيح.
(4) مسند أحمد (2/343) وقال المحقق: إسناده صحيح.
(5) قال ابن القيم في زاد المعاد: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام على الفرش تارة، وعلى النطع تارة، وعلى الحصير تارة، وعلى الأرض تارة، وعلى السرير تارة بين رماله، وتارة على كساء أسود (1/155) زاد المعاد: السرير المرمل: أي المنسوج، لسان العرب (11/295).
(6) وهى العمامة التي كساها عليًا (زاد المعاد 1/135).
(7) للرسول تسعة أسياف منها ذو الفقار تنفله يوم بدر (زاد المعاد 1/130).(1/102)
، ورايته الغراء وناقته العضباء(1)، وبغلته دلدل(2)، وحماره يعفور، وفرسه مرتجز(3)، وشاتهن بركة، ولواؤه الحمد، وكان يعقل البعير ويعلف الناضح(4)، ويرقع الثوب، ويخصف النعل(5).
6- نماذج من اتباع أمير المؤمنين للسنة: كان أمير المؤمنين على شديد الحرص على الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحياته العملية خير دليل على ذلك، وهذه بعض الأمثلة المتنوعة التي كان يتبع فيها النبي ولا يفرق بين صغيرة ولا كبيرة:
- دعاء الركوب على الدواب: عن عبد الرزاق: أخبرني من شهد عليًا حين ركب، فلما وضع رجله في الركاب، قال: بسم الله، فلما استوى قال: الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم حمد ثلاثًا وكبر ثلاثًا، ثم قال: اللهم لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، قال، فقيل: ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل ما فعلت، وقال مثل ما قلت، ثم ضحك، فقلنا: ما يضحك يا نبي الله؟ قال: العبد – أو قال: عجبت للعبد- إذا قال: لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يعلم أنه لا يغفر الذنوب إلا هو(6).
- الشرب قائمًا، وقاعدًا:عن عطاء بن السائب عن زادان: أن على بن أبى طالب شرب قائمًا، فنظر إليه الناس كأنهم أنكروه، فقال: ما تنظرون؟ (7) إن أشرب قائمًا، فقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب قائمًا، وإن أشرب قاعدًا، فقد رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يشرب قاعدًا(8).
__________
(1) وهى غير القصواء المشهورة والعضباء هي التي كانت لا تسبق.
(2) بغلة شهباء أهداها له المقوقس وله غيرها (زاد المعاد 1/134).
(3) زاد المعاد (1/133) ملك سبعة من الخيل، متفق عليها.
(4) الناضح: البعير الذي يستسقى عليه الماء (لسان العرب 2/619).
(5) الرياض النضرة في مناقب العشرة (2/163).
(6) مسند أحمد الموسوعة الحديثة رقم 930حسن لغيره.
(7) في رواية: ما تنكرون.
(8) مسند أحمد رقم 1128إسناده حسن.(1/103)
- تعليم وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عن عبد خير: علمنا علىّ وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فصب الغلام على يديه حتى أنقاهما، ثم أدخل يده في الركوة، فمضمض واستنشق، وغسل وجهه ثلاثًا ثلاثًا، وذراعيه إلى المرفقين ثلاثًا ثلاثًا، ثم أدخل يده في الركوة فغمز أسفلها بيده ثم أخرجها فمسح بها الأخرى، ثم مسح بكفيه رأسه مرة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثًا ثلاثًا، ثم اغترف هُنّية من ماء بكفه فشربه، ثم قال: هكذا كان رسول الله يتوضًا(1).
- نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي عن أشياء: عن عبد الله بن حنين عن أبيه، قال: سمعت على ابن أبى طالب يقول: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تختم الذهب، وعن لُبس القَسِّ والمعصفر، وقراءة القرآن وأنا راكع، وكساني حلة من سيراء فخرجت فيها، فقال: يا على، إني لم أكسكها لتلبسها، قال: فرجعت بها إلى فاطمة، فأعطيتها ناحيتها فأخذت بها لتطويها معي، فشققتها بثنتين قال: فقالت: تربت يداك يا ابن أبى طالب، ماذا صنعت؟ قال: فقلت لها: نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبسها، فالبسي واكسي نساءك(2).
- الذنوب والمغفرة: عن على رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أذنب في الدنيا ذنبًا فعوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستر الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه»(3).
__________
(1) مسند أحمد الموسوعة الحديثة رقم 876، صحيح لغيره، إسناده حسن.
(2) المصدر نفسه رقم 710 إسناده حسن.
(3) المصدر نفسه رقم 1365 إسناد حسن.(1/104)
- إنما الطاعة في المعروف:عن على رضي الله عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث جيشًا، وأمر عليهم رجلاً، فأوقد نارًا، فقال: ادخولها! فأراد ناس أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها، فذكر ذلك لرسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة». وقال للآخرين قولاً حسنًا، وقال: لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف(1)، والحديث يبين بأن الطاعة للحكام مقيدة بطاعة الله ورسوله، والطاعة المطلقة ليست لأحد إلا لله ورسوله- صلى الله عليه وسلم -.
- لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف: دخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري على علىَّ بن أبى طالب، فقال له علىّ: أنت الذي تقول:« لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف ممن هو حىّ اليوم»، والله إن رخاء هذه الأمة بعد مائة عام(2).
- دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة بالبركة: عن على بن أبى طالب رضي الله عنه، أنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا كنا بالحرة بالسُّقيا التي كانت لسعد بن أبى وقاص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ائتوني بوَضوء»، فلما توضأ قام فاستقبل القبلة، ثم كبر، ثم قال: «اللهم إن إبراهيم كان عبدك وخليلك دعا لأهل مكة بالبركة، وأنا محمد عبدك ورسولك أدعوك لأهل المدينة أن تبارك لهم في مُدهم وصاعهم مثل ما باركت لأهل مكة، مع البركة بركتين»(3).
__________
(1) مسند أحمد رقم 724 إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه رقم 714 إسناده قوى.
(3) المصدر نفسه رقم 936 إسناده صحيح.(1/105)
- دعاء الكرب: عن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: «علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل بي كرب أن أقول: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله، وتبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين»(1). والحديث يرشد إلى ضرورة التعلق بالله وحده والاعتماد عليه والالتجاء إليه، فلا يكشف الكرب إلا هو سبحانه، ولا يجيب المضطر إذا دعاه إلا الذي خلقه، فلا ملجأ من الله إلا إليه، ففيه إرشاد وتعليم إلى كل مسلم بأن يعتمد على الله في كل أحواله وشأنه.
- ما أسر إلىَّ شيئًا كتمه الناس: عن أبى الطفيل قال: قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: ما أسر إلىَّ شيئًا كتمه الناس، ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثًا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر تخوم الأرض، يعني المنار(2)، ففي قوله - صلى الله عليه وسلم -: لعن الله: اللعن من الله: الطرد والإبعاد عن رحمة الله، قوله: من ذبح لغير الله: يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي أو ملك، أو جنى أو غيرهم، فلو كانت هذه الأمور هينة في دين الله لما وصلت إلى درجة يستحق فاعلها اللعن من
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
- إن الله رفيق يحب الرفق:عن على بن أبى طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(3).
- تعجيل الصدقة(4) قبل أن تحل:عن على أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك(5).
- العشر الأواخر من رمضان:عن على رضي الله عنه، قال: كان رسول الله يوقظ أهله في العشر الأواخر، ويرفع المئزر(6).
__________
(1) المصدر نفسه رقم 701 إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه رقم 855 إسناده قوى.
(3) مسند أحمد رقم 902حديث حسن الشواهد.
(4) تعجيل الصدقة: أي تعجيل الزكاة.
(5) مسند أحمد رقم 822إسناده حسن.
(6) مسند أحمد رقم 1116إسناده حسن (3/195).(1/106)
ثانيًا: الرواة عن على بن أبى طالب رضي الله عنه:
كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه أعلم الصحابة بالسنة في عهده، إذ روى أنه ذكر على عند عائشة، فقالت: أما أنه أعلم من بقي في السنة (1)، ومع ذلك فقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسمائة وستة ثمانين حديثًا(2)، وهو أقل مما رواه بعض الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسباب منها.
1- انشغاله بالقضاء والإمارة والحروب التي جعلته لا يتفرغ للفتيا وعقد حلقات الدروس التي كانت سببًا في انتشار عمل بعض الصحابة، كعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس.
2- ظهور أهل الأهواء والبدع من الذين أفرطوا فيه والذين فرطوا به كان سببًا في كثرة الكذب عليه، لذلك بذل العلماء جهدهم في معرفة صحة الطرق الموصلة إليه.
3- كثرة الفتن في زمانه وانشغال بعض الناس بها حال دون ثقته رضي الله عنه بمن يضع فيه علمه، إذا رُوى عنه أنه قال: إن هاهنا علمًا لو أصبت له حملة(3).
وقد لاحظنا في منهج أمير المؤمنين في الرواية وقبول الحديث ما يأتي:
1- الحذر من الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو أحد الرواة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من كذب علىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»(4).
2- الاستيثاق من الرواية فإنه كان يحلف الراوى عليها، فقد روى أنه قال: كنت إذا سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه، وكان إذا حدثني غيره استحلفته، فإذا حلف صدقته(5).
3- عدم رواية المنكر والشاذ من الحديث، إذ ورد عنه أنه قال: حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله(6)، وقد روى على رضي الله عنه عن أبى بكر وعمر والمقداد بن الأسود وزوجته فاطمة.
__________
(1) الطبقات (2/338).
(2) تاريخ الخلفاء ص171.
(3) فقه الإمام على (1/3) نقلا عن أعلام الموقعين.
(4) صحيح سنن ابن ماجة (1/13) وقال الألباني: صحيح.
(5) سنن ابن ماجة رقم 1395إسناده صحيح.
(6) البخاري، ك العلم (1/46).(1/107)
وروى عن على خلق كثير من الصحابة والتابعين وأهل بيته، فمن أشهر من روى عنه من الصحابة:
1- أبو أمامة إياس بن ثعلبة الأنصاري: من بنى حارثة، وهو ابن أخت أبى بردة، له عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أحاديث، وهو الذي أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يقيم على أمه يوم بدر(1).
2- أبو رافع القبطي مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال اسمه إبراهيم، وقيل: سنان، وقيل: يسار، قال ابن عبد البر: أشهر ما قيل في اسمه أسلم، مات في عهد على بن أبى طالب سنة 40هـ(2).
3- أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة الأنصاري، خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة توفى سنة 74هـ(3).
4- جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام بن كعب بن غنم بن كعب الأنصاري السلمى، شهد صفين مع على وتوفى 78هـ، وكان من الحفاظ للسنن.
5- جابر بن سمرة بن جنادة بن جندب العامري السوائي حليف بني زهرة، وأمه خالدة بنت أبى وقاص، يكنى: أبا عبد الله، قال: صليت مع رسول الله أكثر من ألفى مرة، نزل الكوفة وتوفى بها سنة 74هـ(4).
6- زيد بن أرقم بن زيد بن قيس بن النعمان قيل: كنيته أبو عمر، وقيل أبو عامر، مات بالكوفة سنة66هـ، وقيل 68هـ.
7- عبد الله بن جعفر بن أبى طالب ابن أخي على، ولد بأرض الحبشة، وهو أول مولود في الإسلام توفى سنة 80هـ، وهو ابن تسعين سنة(5).
8- عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشى العدوى، أسلم مع أبيه قبل أن يبلغ الحلم، توفى في مكة، سنة 63هـ،وهو ابن أربع وثمانين(6).
9- عبد الله بن مسعود بن غافل بن وائل الهذلي من أوائل المسلمين توفى 32هـ (7).
__________
(1) الاستيعاب (1/1601) أي يقيم على خدمة أمه.
(2) سير أعلام النبلاء (2/16).
(3) الاستيعاب (4/1671).
(4) الاستيعاب (1/219).
(5) الإصابة (4/276).
(6) وفيات الأعيان (2/236).
(7) الاستيعاب (2/988).(1/108)
10- عمرو بن حريث بن عثمان القرشي المخزومي يكنى أبا سعيد، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع منه ومسح على رأسه ودعا له بالبركة، نزل الكوفة وكان له قدر وشرف، مات سنة 85هـ(1).
- من روى عنه من أهل بيته: روى عنه من أهل بيته كل من:
1- ولده الحسن بن على سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
2- ولده الحسين بن على سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل يوم عاشوراء سنة 61هـ وهو ابن 56سنة (2).
3- ولده محمد بن على بن أبى طالب أبو القاسم المدني المعروف بابن الحنفية، نسبة إلى أمه خولة بنت جعفر بن قيس من بنى حنيفة، قال العجلي: تابعي ثقة كان رجلاً صالحًا يكنى أبا القاسم، ولد في ولاية عمر ومات سنة 73، وقيل 80، وقيل 81، وقيل 82، وقيل 93هـ(3).
4- حفيده محمد بن عمر بن على بن أبى طالب ذكره ابن حبان في الثقات(4).
5- حفيده على بن الحسين بن على بن أبى طالب الملقب بزين العابدين من سادات التابعين، وأمه سلافة بنت يزدجرد آخر ملوك فارس، أرسل عن جده على بن أبى طالب. قال العجلي: مدني تابعي ثقة، توفى سنة 94هـ، وكان عمره ثمان وخمسين سنة(5).
6- ابن أخته جعدة بن هبيرة بن أبى وهب بن عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم وأمه أم هانئ بنت أبى طالب، ولد على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وله صحبة، ولي خراسان، وسكن الكوفة، قال العجلي: مدني تابعي ثقة روى عن على (6).
7- سريته أم موسى، قيل اسمها فاختة، وقيل حبيبة، قال الدارقطني: حديثها مستقيم، وقال العجلي: كوفية تابعية ثقة(7).
- أشهر من روى عن على من التابعين:
__________
(1) المصدر السابق (3/1672).
(2) تهذيب التهذيب (2/357).
(3) المصدر نفسه (2/306).
(4) المصدر السابق (2/82).
(5) تهذيب التهذيب (12/481)، لسان الميزان (7/533).
(6) تهذيب التهذيب (12/10/11).
(7) المصدر السابق (12/19).(1/109)
1- أبو الأسود الدؤلي البصري، القاضي، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان، ويقال اسمه عمرو بن عثمان، ويقال عثمان بن عمرو، أسلم على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتل مع على يوم الجمل، وثقه ابن معين والعجلي وغيرهما، وتوفى في ولاية عبيد الله بن زياد سنة 69(1).
2- أبو بردة بن موسى الأشعري الفقيه، واسمه الحارث، وقيل عامر، وثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان، وقال العجلي: كان على قضاء الكوفة بعد شريح، روى عن أبيه وعلى وحذيفة وعبد الله بن سلام وعائشة وغيرهم، قيل: مات سنة 83 وقيل 104، وقيل 107هـ(2).
3- أبو عبد الرحمن السلمى عبد الله بن حبيب بن ربيعة، أبو عبد الرحمن السلمى الكوفي القارئ، ولأبيه صحبة، وثقه العجلي والنسائي وأبو داود، روى عن عمر وعثمان وعلى وسعد، وخالد بن الوليد وابن مسعود وحذيفة وغيرهم، قيل مات سنة 72هـ، وقيل 85، وهو ابن خمس وثمانين سنة، شهد مع على صفين(3).
4- زر بن حبيش بن حبابة بن أوس الأسدي أبو مريم، ويقال أبو مطرف الكوفي، ذكر ابن معين أنه ثقة، مات سنة 81هـ، وقيل 82 وقيل83 وهو ابن مائة وعشرين(4).
5- زيد بن وهب الجهنى من قضاعة، يكنى أبا سليمان، من أجلة التابعين وثقاتهم متفق على الاحتجاج به، وثقه ابن معين وغيره، ومات قبل سنة تسعين أو بعدها من ولاية الحجاج(5).
6- سويد غفلة بن عوسجة بن عامر يكنى أبا أمية، رحل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قبض فلم يره، صحب أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا، مات سنة 81 أو 82هـ وكان عمره 128سنة(6).
7- شريح بن هانئ بن يزيد بن نهيك الحارثي المذحجي ابن المقدام الكوفي، أدرك ولم ير، وهو من كبار أصحاب على، قتل مع أبى بكرة بسجستان سنة 78هـ(7).
__________
(1) المصدر السابق (5/184).
(2) طبقات ابن سعد (6/103).
(3) المصدر السابق (6/103).
(4) المصدر السابق (6/67).
(5) طبقات بن سعد (6/127).
(6) تهديب التهذيب.
(7) المصدر السابق (6/124).(1/110)
8- عامر بن شرحبيل بن عبد، وقيل عامر بن عبد الله بن شرحبيل الشعبي والحميري أبو عمرو الكوفي من شعب همدان، روى عنه أنه قال: أدركت خمسمائة من الصحابة، وعن الحسن، قال: كان والله كثير العلم، عظيم الحلم، قديم السلم من الإسلام بمكان، وعن مكحول قال: ما رأيت أفقه منه. قال ابن عيينة، كانت الناس تقول بعد الصحابة ابن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والثوري في زمانه، ولد لست خلت من خلافة عمر ومات
سنة 109هـ.
9- عبد خير بن يزيد ويقال ابن بجيد بن جوى بن عبد عمرو بن عبد يعرب بن الصائد الهمداني أبو عمارة الكوفي، أدرك الجاهلية، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، وذكر ابن حبان في ثقات التابعين، قيل: عاش مائة وعشرين سنة، وقتل في صفين(1).
10- عبد الرحمن بن أبى ليلى واسمه يسار ويقال بلال، ويقال داود بن بلال بن بليل ابن أصحبة بن الجلاح الحريش الأنصاري الأوسى، ولد لست بقين من خلافة عمر، روى عنه أنه قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار، وثقه ابن معين والعجلي. قيل إنهم أصيب سنة 71هـ وقيل 82 بالجماجم(2).
11- عبيدة السلماني وهو عبيدة بن عمرو، ويقال ابن قيس عمرو السلماني المرادي أبو عمرو الكوفي، أسلم قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بسنتين ولم يلقه، قال الشعبي: كان شريح أعلمهم بالقضاء وكان عبيدة يوازيه، وقال العجلي: كوفي تابعي ثقة(3).
12- عبد الله بن سلمة بن سلمة المرادي الكوفي، صاحب على، كنيته أبو العالية، قال العجلي: كوفي تابعي ثقة، قال البخاري: لا يتابع في حديثه، وعن عمرو بن مرة: يعرف وينكر، كان قد كبر، وقال يعقول بن شيبة: ثقة(4).
__________
(1) المصدر السابق (6/124).
(2) ميزان الاعتدال (20/584).
(3) طبقات ابن سعد (6/90) تهذيب التهذيب (7/85).
(4) ميزان الاعتدال (2/409) تهذيب التهذيب (5/542).(1/111)
13- عبد الله بن شقيق العقيلي، وكنيته أبو عبد الرحمن ويقال أبو محمد البصري، تابعي من أهل البصرة، ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى، وعن ابن معين أنه ثقة من خيار المسلمين لا يطعن في حديثه، وروى أنه كان مستجاب الدعوة، مات بعد المائة وقيل سنة 108هـ(1).
14- علقمة بن قيس النخعي وهو علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك بن علقمة النخعي الكوفي، ولد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن أحمد: ثقة من أهل الخير، وعن ابن معين: روى أنه قرأ القرآن في ليلة، مات سنة 62، وقيل61، قال ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث.
15- عمر بن سعيد النخعي الصهباني، أبو يحيى الكوفي، عن ابن معين:ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، له حديث عن على في حد شارب الخمر، قال ابن سعد: مات سنة 115، وقيل 107هـ(2).
16- هانئ بن هانئ الهمذاني الكوفي، قال النسائي: ليس به بأس، ذكره ابن حبان في الثقات، وقيل كان يتشيع، قال ابن المديني: مجهول، قال ابن سعد: كان منكر الحديث، وعن الشافعي: أهل الحديث لا ينسبون حديثه لجهالة حاله، ذكره ابن سعد في الطبقات الأولى في الكوفة، قال الذهبي: ليس به بأس(3).
17- يزيد بن شريك بن طارق التيمي الكوفي، وعن يحيى بن معين: ثقة ذكره ابن حبان في الثقات، قال ابن سعد: كان ثقة وكان عريف قومه، يقال إنه أدرك الجاهلية، روى عن عمر وعلى وأبى ذر وابن مسعود وحذيفة(4).
هذا إشارات عابرة عن الرواة عن على رضي الله عنه، لمن أراد المزيد، فليراجع رسالة الدكتور أحمد محمد طه «فقه الإمام على بن أبى طالب» المقدمة في جامعة بغداد ولم تنتشر حتى الآن.
__________
(1) تهذيب التهذيب (5/253).
(2) المصدر السابق (8/146)، سير أعلام النبلاء (4/443).
(3) الكاشف للذهبي (3/218).
(4) المصدر نفسه (3/280).(1/112)
المبحث الخامس : أهم أعمال على بن أبى طالب رضي الله عنه ما بين الهجرة والأحزاب
شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخي بين المهاجرين والأنصار، ثم أقام المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد، وكان على رضي الله عنه ملازمًا له في كل أحواله، منفذًا لأوامره، متتلمذًا على هدية.
أولاً: حركة السرايا:
بمجرد الاستقرار الذي حصل للمسلمين بقيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المدينة بدأت حركة السرايا التي استهدفت بسط هيبة الدولة في الداخل والخارج، وكسب بعض القبائل وتحجيم دور الأعراب، وتربية الصحابة على الإعداد القتالي للغزوات الكبرى، وحركة الفتوحات ميدان لصناعة القادة عمليًا، وقد شارك في هذه السرايا أمير المؤمنين على رضي الله عنه التي حدثت قبل بدر وما بعدها، وأما التي شارك فيها قبل غزوة بدر الكبرى فمنها:(1/113)
1- غزوة العشيرة(1): وفيها غزا - صلى الله عليه وسلم - قريشًا، واستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وسميت هذه الغزوة بغزوة العشيرة، فأقام بها جمادي الأولى وليالي من جمادي الآخرة، وادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة، ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق كيدًا، وذلك أن العير التي خرج لها قد مضت ذلك بأيام ذاهبة إلى الشام(2)، فساحلت على البحر، وبلغ قريشًا خبرها فخرجوا يمنعونها، فلقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووقعت عزوة بدر الكبرى(3)، وقد حدثنا عمار بن ياسر عن مشاركته وعلى رضي الله عنهما في تلك الغزوة، فعن عمار ابن ياسر قال: كنت أنا وعلى رفيقين في غزوة ذى العشيرة، فلما نزلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقام بها رأينا ناسًا من بنى مدلج يعملون في عين لهم في نخل، فقال لي على: يا أبا اليقظان هل لك أن تأتي هؤلاء فتنظر كيف يعملون؟ فجئناهم، فنظرنا إلى عملهم ساعة، ثم غشينا النوم، فانطلقت أنا وعلى، فاضطجعنا في صور من النخل، في دقعاء(4) من التراب فنمنا، فوالله ما أهبنّا إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحركنا برجله، وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: يا أبا تراب، لما رأى عليه التراب قال: «ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟» فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: «أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا على على هذه [يعنى قرنه] حتى تُبَل منه هذه [يعنى لحيته]» (5)،وقد تكرر نداء رسول الله لعلي بأبي تراب وسيأتي الحديث عنه.
__________
(1) ناحية من نواحي ينبع بين مكة والمدينة.
(2) طبقات ابن سعد (2/10).
(3) المصدر نفسه (2/11).
(4) الدقعاء: الأرض التي لانبات فيها، القاموس(3/22).
(5) فضائل الصحابة (2/855) رقم 1172إسناده حسن.(1/114)
2- غزوة بدر الأولى: سببها: أن كرز بن جابر الفهري، قد أغار على سَرْح(1) المدينة ونهب بعض الإبل والمواشي، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طلبه، حتى بلغ واديًا يقال له «سفوان» من ناحية بدر، وفاته كرز بن جابر، فلم يدركه، فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة(2)، وقد أعطى الحبيب المصطفى أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه لواءه الأبيض(3).وتعتبر حركة السرايا بداية الجهاد القتالي ضد أعداء الدعوة، مع حركة السرايا والبعوث والغزوات التي خاضها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضد المشركين ظهرت جليًا سنة التدافع التي تعامل معها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن بينهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب، وهذه السنة متعلقة تعلقًا وطيدًا بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز وجاء التنصيص عليها في قوله تعالى: { وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251]، وفي قوله تعالى: { الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
ثانيًا: غزوة بدر:
1- قال النووي رحمه الله: وأجمع أهل التواريخ على شهوده بدرًا، وسائر المشاهد غير تبوك، قالوا: وأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - اللواء في مواطن كثيرة(4).
__________
(1) السرح: الإبل والمواشي التي تسرح للرعي بالغداة.
(2) سيرة ابن هشام (2/601).
(3) تاريخ الإسلام للذهبي (2/48)، على بن أبى طالب للرفاعي: ص(89).
(4) تهذيب الأسماء واللغات (1/245).(1/115)
كان على بن أبى طالب رضي الله عنه أحد المجاهدين الذين شاركوا في غزوة بدر، ولنتركه يقص علينا خبر هذه الغزوة، فعن حارثة بن مضرب بن على أبى طالب رضي الله عنه قال: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخبَّر عن بدر، فلما بلغنا أن المشركين قد
أقبلوا، سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بدر، وبدر بئر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين منهم، رجلاً من قريش ومولى لعقبة بن أبى معيط، فأما القرشي فانقلب، وأما مولى عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول له: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه حتى انتهوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له: كم القوم؟ قال: هم والله كثير عددهم، شديد بأسهم، فجهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخبره كم هم، فأبى، ثم إن النبي- صلى الله عليه وسلم - سأله: «كم ينحرون من الجزر»، فقال: عشرًا كل يوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «القوم ألف، كل جزور لمئة وتبعها»، ثم إنه أصابنا من الليل طش من مطر، فأنطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها، من المطر، وبات رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه عز وجل يقول: «اللهم إنك إن تهلك هذه الفئة لا تعبد»، قال: فلما طلع نادى: الصلاة عباد الله، فجاء الناس، من تحت الشجرة والحجف، فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحرض على القتال، ثم قال: إن جمع قريش تحت هذه الصَّلع الحمراء من الجبل. فلما دنا القوم منا وصاففناهم، إذا رجل منهم على جمل له أحمر يسير في القوم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا على ناد حمزة. وكان أقربهم من المشركين: من صاحب الجمل الأحمر، وماذا يقول لهم، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن يكن في القوم أحد يأمر بخير، فعسى أن يكون صاحب الجمل الأحمر»، فجاء حمزة فقال: هو عتبة بن ربيعة، وهو ينهي عن القتال، ويقول لهم: يا قوم إني أرى قومًا مستميتين لا تصلون إليهم وفيكم خير، يا قوم اعصبوها اليوم برأسي، وقولوا: جَبُن عتبة بن ربيعة، وقد علمتم أني لست بأجبنكم، قال، فسمع ذلك أبو جهل، فقال: أنت تقول هذا؟ والله لو غيرك يقول هذا لأعضضته، قد ملئت رئتك وجوفك(1/116)
رعبًا. قال عتبة: إياى تُعيّر يا مُصفَّر إسته؟ ستعلم اليوم أينا الجبان. قال: فبرز عتبة وأخوه شيبة وابنه الوليد حمية، فقالوا: من يبارز؟ فخرج فتية من الأنصار ستة، فقال عتبة: لا نريد هؤلاء، ولكن يبارزنا من بنى عمنا، من بنى عبد المطلب، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قم يا على، قم يا حمزة، وقم يا عبيدة بن الحارث بن المطلب». فقتل الله تعالى عتبة وشيبة ابنى ربيعة، والوليد بن عتبة، وجرح عبيدة، فقتلنا منهم سبعين، وأسرنا سبعين، فجاء رجل من الأنصار قصير بالعباس بن عبد المطلب أسيرًا، فقال العباس: يا رسول الله، إن هذا والله ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، من أحسن الناس وجهًا، على فرس أبلق، ما أراه في القوم. فقال الأنصاري: أنا أسرته يا رسول الله. فقال: اسكت فقد أيدك الله تعالى بملك كريم.فقال على: فأسرنا من بنى عبد المطلب: العباس وعقيلاً، ونوفل بن الحارث(1)، ومن وصف على رضي الله عنه لغزوة بدر نلاحظ دروسًا وعبرًا وفوائد كثيرة يمكن الرجوع إليها في كتابي السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث.
2- ما قيل من أشعار في بطولة على ببدر: كان لواء المشركين يوم بدر مع طلحة فقتله على رضي الله عنه، فقال الحجاج بن علاط السلمي في ذلك:
لله أي مذنب عن حربه ... أعنى ابن فاطمة المعم المخولا
جادت يداك له بعاجل طعنة ... تركت طليحة للجبين مجندلا
وشددت شدة باسل فكشفتهم ... بالحق إذ يهوون أخول أخولا
وعللت سيفك بالدماء ولم تكن ... لترده حران حتى ينهلا(2)
ثالثًا: زواج على من فاطمة رضي الله عنهما:
__________
(1) مسند أحمد، الموسوعة الحديثية رقم 948 إسناده صحيح.
(2) البداية والنهاية (7/379).(1/117)
هي فاطمة بنت إمام المتقين سيد ولد آدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وأمها خديجة بنت خويلد، كانت تكنى بأم أبيها(1)، ولُدت رضي الله عنها قبل البعثة سنة خمسة وثلاثين من مولد النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، زوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - على بن أبى طالب سنة اثنتين للهجرة بعد وقعة بدر، وولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم، وكانت وفاتها بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر فرضى الله عنها وأرضاها(3).
__________
(1) أسد الغابة (5/520)، الإصابة (4/365).
(2) الطبقات لابن سعد (8/26).
(3) حلية الأولياء (2/39، 43)، سير أعلام النبلاء (2/118، 134)، العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط، د. سليمان السحيمي: ص (132).(1/118)
1- مهرها وجهازها: قال على بن أبى طالب رضي الله عنه: خُطبت فاطمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت مولاة لي: هل علمت أن فاطمة قد خطبت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلت: لا، قالت: فقد خطبت، فما يمنعك أن تأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيزوجك. فقلت: وعندي شيء أتزوج به؟ فقالت: إنك إن جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زوجك. قال: فوالله ما زالت ترجينى حتى دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أن قعدت بين يديه أفحمت، فوالله ما استطعت أن أتكلم جلالة وهيبة. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جاء بك؟ ألك حاجة؟» فسكت فقال: لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فقلت: نعم، فقال: وهل عندك من شيء تستحلها؟ فقلت: لا والله يا رسول الله، فقال: ما فعلت درع سلحتكها؟فوالذي نفس على بيده إنها لحطمية ما قيمتها أربعمائة درهم، فقلت: عندي، فقال: قد زوجتكها، فابعث إليها بها فاستحلها بها، فإنها كانت لصداق فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاطمة في خميل(2)،وقربة ووسادة أدم(3) حشوها إذخر(4)(5)، وقد جاء في روايات الشيعة، فأخذت درعي فانطلقت به إلى السوق فبعته بأربعمائة درهم من عثمان بن عفان، فلما قبضت الدراهم منه وقبض الدرع مني قال: يا أبا الحسن، ألست أولى بالدرع منك وأنت أولى بالدراهم مني؟ فقلت: نعم، قال: فإن هذا الدرع هدية مني إليك، فأخذت الدرع والدراهم وأقبلت إلى رسول الله فطرحت الدرع والدراهم بين يديه، وأخبرته بما كان من أمر عثمان، فدعا له النبي بخير(6).
__________
(1) دلائل النبوة للبيهقي (3/160) إسناده حسن.
(2) خميل: قطيفة.
(3) الأدم: الجلد.
(4) إذخر: نبات.
(5) صحيح السيرة النبوية: ص (667)، مسند فاطمة الزهراء، وما ورد في فضلها للسيوطي تحقيق فؤاد أحمد زمرلي: ص(189).
(6) كشف الغمة للأريلي (1/359)، بحار الأنوار للمجلسي: ص(39) نقلاً عن الشيعة وأهل البيت: ص (137، 138).(1/119)
2- زفافها: قالت أسماء بنت عميس: كنت في زفاف فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحنا جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الباب فقال: يا أم أيمن أدعي لي أخي، فقالت: هو أخوك وتنكحه؟ قال: نعم يا أم أيمن، قالت: فجاء على فنضح النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه من الماء ودعا له ثم قال: ادعي إلى فاطمة، قالت: فجاءت تعثر من الحياء، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسكتي فقد أنكحتك أحب أهل بيتي إلىَّ، قالت: ونضح النبي - صلى الله عليه وسلم - عليها من الماء ودعا لها، قالت: ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى سوادًا بين يديه، فقال: من هذا؟ فقلت: أنا، قال: أسماء؟ قلت نعم، قال: أسماء بنت عميس؟ قلت: نعم، قال: جئت في زفاف بنت رسول الله تكرمة له؟ قلت: نعم، قالت: فدعا لي(1).
3- وليمة العرس: عن بريدة قال: لما خطب على فاطمة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه لابد للعرس(2) من وليمة، قال: فقال سعد: على كبش، وجمع له رهط من الأنصار آصعًا من ذرة، فلما كان ليلة البناء، قال: يا على لا تحدث شيئًا حتى تلقاني، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ منه ثم أفرغه على علىًّ، فقال: «اللهم بارك فيهما وبارك عليهما، وبارك في شبلهما»(3).
__________
(1) فضائل الصحابة (2/955) رقم 342إسناده صحيح.
(2) للعرس: أي للعروس.
(3) المعجم الكبير للطبراني 1153، فضائل الصحابة (2/858) إسناده صحيح.(1/120)
4- معيشة على وفاطمة رضي الله عنهما: كانت معيشة على وفاطمة، وهما أحب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، معيشة زهد وتقشف، وصبر وجهد، فقد أخرج هناد من عطاء، وقال: نبئت أن عليًا رضي الله عنه قال: مكثنا أيامًا ليس عندنا شيء، ولا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرجت فإذا أن بدينار مطروح على الطريق، فمكثت هنيهة أؤامر نفسي في أخذه أو تركه، ثم أخذته لما بنا من الجهد، فأعطيت به الضفاطين(1)، فاشتريت به دقيقًا، ثم أتيت به فاطمة فقلت: اعجني واخبزي، فجعلت تعجن وإن قصتها لتضرب حرف الجفنة من الجهد الذي بها- ثم خبزت، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، فقال: «كلوه فإنه رزق رزقكموه الله عز وجل»(2)، وعن الشعبي، قال: قال على رضي الله عنه: تزوجت فاطمة بنت محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومالي ولها فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه ناضحنا بالنهار، ومالي خادم غيرها(3)، وعن مجاهد قال على: جعت مرة بالمدينة جوعًا شديدًا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا بامرأة قد جمعت مدرًا، فظننتها تريد بلَه(4)، فأيتتها فقاطعتها(5) كل ذنوب(6) على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبًا، حتى مجلت يداي(7) ثم أتيت الماء فأصبت منه، ثم أتيتها فقلت بكفي هذا بين يديها(8)، فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، فأكل معي منها(9). في هذا الخبر بيان لشدة الحال التي مر بها أمير المؤمنين على رضي الله عنه في المدينة، ونأخذ منه صورة من السلوك المشروع في مواجهة الشدائد،
__________
(1) الضفاطون: الحمالون والمكارون الذين يحملون الدقيق من الخارج.
(2) كنز العمال (7/328)، المرتضى للندوي: ص(21).
(3) كنز العمال (7/133)، المرتضى للندوي: ص(41).
(4) المدر: يعني الطين اليابس، تريد بله: يعنى الماء.
(5) فقاطعتها: أي: اتفقت معها على أجرة.
(6) ذنوب: دلو.
(7) مجلت: تورمت من العمل.
(8) يعنى بسطهما وضمهما.
(9) صفة الصفوة (1/320)، الموسوعة الحديثية مسند أحمد 1135، إسناده ضعيف لانقطاعه.(1/121)
حيث خرج على رضي الله عنه وعمل بيديه للكسب المشروع، ولم يجلس منتظرًا ما تجود به أيدي المحسنين، وصورة أخرى من قوة التحمل حيث قام بذلك العمل الشاق وهو يعاني من شدة الجوع ما يضعف قوته، وصورة أخرى من إيثار الأحبة والوفاء لهم، فهو على ما به من شدة الجوع وبالرغم مما قام به من ذلك العمل الشاق قد احتفظ بأجرته من التمر حتى لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكل معه(1).
5- زهد السيدة فاطمة وصبرها: كانت حياتها في غاية البساطة بعيدة عن التعقيد، وهى إلى شظف العيش أقرب منها إلى رغده(2)، وهذه القصة تصور لنا حال السيدة فاطمة من التعب وموقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها عندما طلبت منه أن يعطيها خادمًا من السبى، قال على لفاطمة ذات يوم: والله لقد سنوت(3)، حتى لقد اشتكيت صدري، قال: وجاء الله أباك بسبى فاذهبي فاستخدميه(4)، فقالت: أنا والله طحنت حتى مجلت يداي، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما جاء بك أي بنية. قالت: جئت لأسلم عليك واستحيت أن تسأله ورجعت فقال على: ما فعلت؟ قالت: استحييت أن أسأله، فأتينا جميعًا، فقال على: يا رسول الله والله لقد سنوت حتى اشتكيت صدري، وقالت فاطمة: قد طحنت حتى مجلت يداي(5)، وقد جاءك الله بسبى وسعة فأخدمنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى(6) بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم، ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم، فرجعا فأتاهما النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد دخلا في قطيفتها إذا غطت رءوسهما تكشف أقدامهما، وإذا غطيا أقدامهما تكشفت رءوسهما، فثارا، فقال: مكانكما،، ثم قال: ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟ قالا: بلى. فقال: كلمات علمنيهن جبريل عليه السلام، فقال: «تسبحان في
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي(19/49، 50).
(2) انظر: معين السيرة ص 255للشامي.
(3) سنوت: استقيت.
(4) أي أسأليه خادمًا.
(5) السيرة النبوية للصَّلابيَّ (2/99)، مسلم رقم (2727) البخاري رقم (3705).
(6) تطوي: طوى من الجوع فهو طاو: خالي البطن جائع لم يأكل.(1/122)
دبر كل صلاة عشرًا، وتحمدان عشرًا، وتكبران عشرًا، وإذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين وكبرا أربعًا وثلاثين»(1)، وفي القصة السالفة بعض القيم المهمة منها:
إن هذه الحادثة تبين لنا كيف أدار النبي - صلى الله عليه وسلم - الأزمة الاقتصادية التي مرت بدولة الرسول في المدينة، وذلك من خلال ترتيبه للأولويات، فسد جوع أهل الصفة ضرورة، وأما حاجة على وفاطمة للخادم ليست بمرتبة احتياج أهل الصفة، فقدم رسول الله أهل الصفة عليهم، وكانت وسائل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -في حل الأزمة الاقتصادية كثيرة.
ولقد تأثر على- رضي الله عنه- بهذه التربية النبوية، ويمر الزمن بالفتى على فيصبح خليفة المسلمين، فإذا به من آثار هذه التربية يترفع عن الدنيا وزخارفها وبيده كنوز الأرض وخيراتها، لأن ذكر الله يملأ قلبه ويغمر وجوده، ولقد حافظ على وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وقد حدثنا عن ذلك فقال: فوالله ما تركتهن منذ علمنيهن، فسأله أحد الصحابة: ولا ليلة صفين؟ فقال: ولا ليلة صفين(2).
__________
(1) البخاري: رقم (3705)، مسلم رقم (2727).
(2) مسلم (4/2092).(1/123)
6- إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا: عن علي بن أبى طالب رضي الله عنه قال: دخل علىَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى فاطمة من الليل، فأيقظنا للصلاة، قال: ثم رجع إلى بيته فصلى هويا من الليل، قال: فلم يسمع لنا حسًا، قال: فرجع إلينا فأيقظنا وقال: قوما فصليا، قال: فجلست وأنا أعْرك عيني، وأقول: إنا والله ما نصلي إلا ما كتب لنا، إنما أنفسنا بيد الله، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال: فولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول، ويضرب بيده على فخذه: «ما نصلى إلا ما كتب لنا، ما نصلى إلا ما كتب لنا {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}» [الكهف:54]. وهذا فيه تجرد علي رضي الله عنه للحق وحرصه على نشر العلم ولو كان الأمر متعلقًا به رضي الله عنه، وهذه قيمة كبرى يتعلمها المسلمون من أمير المؤمنين على، ولو أراد لكتم الحديث، علمًا بأن صلاة الليل لم تكن واجبة.
رابعًا: ولداها الحسن والحسين رضي الله عنهما:
الحسن بن على بن أبى طالب الهاشمي:
سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وريحانته في الدنيا، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، أمه فاطمة الزهراء، ولد للنصف من رمضان سنة 3هـ وقيل في شعبان، وقيل في سنة أربع أو خمس(1). وقد توفى عام 50هـ. وقد اخترت في كتابي السيرة النبوية بأنه ولد في العام الرابع للهجرة(2).
هذا وقد سماه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسنًا، قال على رضي الله عنه: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أروني ابنى. ما سميتموه؟قلت: حربًا، قال - صلى الله عليه وسلم -: بل هو حسن(3) وهكذا غير - صلى الله عليه وسلم - ذلك الاسم الحاد باسم جميل يدخل السرور والبهجة على القلوب، فحمل المولود الجديد اسمه الجميل، وحمله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه وقبله.
__________
(1) فضائل الصحابة (2/970)، حلية الأولياء (2/35).
(2) السيرة النبوية للصلابي (2/199)، شذرات الذهب (1/10).
(3) البخاري في الأدب (286).(1/124)
وهذا أبو رافع يخبرنا عن فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذني الحسن حين ولدته فاطمة بالصلاة(1).
وحدثنا أبو رافع عن عقيقة الحسن فقال: لما ولدت فاطمة حسنًا قالت: ألا أعق عن ابنى بدم (بكبشين) قال - صلى الله عليه وسلم -: لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره من فضة على المساكين والأوفاض، وكان الأوفاض ناسًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محتاجين في المسجد أو الصفة ففعلت ذلك(2).
هذا وقد وردت أحاديث كثيرة في فضائل الحسن بن علي رضي الله عنه منها:
أ- عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: رأيت الحسن بن علىًّ على عاتق الني - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: «اللهم إني أحبه فأحبه»(3).
ب- وعن أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال للحسن: «اللهم إني أحبه، فأحبه واحبب من يحبه»(4).
ج- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يأخذه والحسن ويقول: «اللهم إني أحبهما فأحبهما» (5).
د- عن أبى بكرة رضي الله عنهما قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر والحسن إلى جنبه ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة ويقول: «ابنى هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»(6). فإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الحسن سيد مفخرة عظيمة وميزة شريفة له رضي الله عنه وأرضاه، وقد تحققت نبوءة جده - صلى الله عليه وسلم -، فأصلح على يديه بين المسلمين وحقن دماءهم، حيث نزل عن حقه في الخلافة لمعاوية رضي الله عنهم أجمعين، وكان ذلك في سنة إحدى وأربعين، وكانت خلافته رضي الله عنه ستة أشهر وسمى هذا العام عام الجماعة، وهذا ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله: «لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين»(7).
__________
(1) سنن أبى داود رقم 5105إسناده ضعيف حكم عليه الشيخ عثمان الخميس، عن رسالته للماجستير المتعلقة بالأحاديث الخاصة بالحسن والحسين: ص(80).
(2) الطبقات (1/233) إسناده ضعيف.
(3) البخاري رقم 3749.
(4) مسلم 2421.
(5) البخاري: 3747.
(6) البخاري رقم 3746.
(7) البداية والنهاية (8/20)، سير أعلام النبلاء (3/144، 145).(1/125)
قال ابن حجر: فالحديث فيه علم من إعلام النبوة، ومنقبة للحسن بن على، فإنه ترك الملك لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة،بل لرغبة فيما عند الله لما رآه من حقن دماء المسلمين، فراعى أمر الدين ومصلحة الأمة(1)، وسيأتي الحديث بإذن الله عن تنازل الحسن بالخلافة لمعاوية عند حديثنا في عهده في كتاب مستقل.
هـ- وعن سعيد المقبري(2)، قال: كنا مع أبى هريرة رضي الله عنه فجاء الحسن بن على ابن أبى طالب علينا فسلم فرددنا عليه السلام ولم يعلم به أبو هريرة فقلنا: يا أبا هريرة هذا الحسن بن على قد سلم علينا فلحقه وقال: عليك السلام يا سيدي ثم قال: إنه سيد(3).
و- ومنها مشابهته رضي الله عنه للنبي في الخلق، فقد روى البخاري بإسناده إلى أنس ابن مالك رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن على (4).
ز- وروى أيضًا بإسناده إلى عقبة بن الحارث قال: رأيت أبا بكر رضي الله عنه وقد حمل الحسن وهو يقول: بأبى شبيه بالنبي ليس شبيهًا بعلي، وعلى يضحك(5)، فكونه رضي الله عنه شبه جده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في الخلق منقبة عظيمة له وفضيلة ظاهرة(6).
2- الحسين بن على رضي الله عنه:
هو أبو عبد الله الحسين بن على بن أبى طالب، سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وريحانته ومحبوبه، ابن بنت رسول الله، فاطمة رضي الله عنها، كان مولده سنة 4هـ، وقيل غير ذلك، ومات رضي الله عنه قتيلاً شهيدًا، في يوم عاشوراء من شهر المحرم سنة إحدى وستين هجرية بكربلاء من أرض العراق، فرضي الله عنه وأرضاه(7)، وقد وردت في مناقبة وفضائله أحاديث كثيرة منها:
__________
(1) فتح الباري (13/66).
(2) هو: كيسان المدني مولى أم شريك، ثقة ثبت مات سنة 10، التقريب 463.
(3) المستدرك، ك معرفة الصحابة (3/169) صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.
(4) البخاري، ك الفضائل رقم 3752.
(5) البخاري رقم 3750.
(6) العقيدة في أهل البيت، ص(147).
(7) البداية والنهاية (8/152)، الإصابة (1/331- 334).(1/126)
1- ما رواه أحمد بإسناده إلى يعلي العامرى رضي الله عنه أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - -يعني إلى طعام دعوا له- قال: فاستمثل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمام القوم، وحسين مع غلمان يلعب فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذه فطفق الصبي يفر هنا مرة وها هنا مرة، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يضاحكه حتى أخذه قال: فوضع إحدى يديه تحت قفاه والأخرى تحت ذقنه ووضع فاه وقبله وقال: «حسين مني وأنا من حسين، اللهم أحب من أحب حسينًا، حسين سبط من الأسباط»(1)، وفي ذلك منقبة ظاهرة للحسين رضي الله عنه، إذا حث على محبته وكانه - صلى الله عليه وسلم - علم بنور الوحي ما سيحدث بينه وبين القوم فخصه بالذكر، وأكد على وجوب المحبة وحرمة التعرض والمحاربة، وأكد ذلك بقوله: «أحب الله من أحب حسينًا» فإن محبته تؤدي لمحبة الرسول ومحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله»(2).
ب- ومنها ما رواه البخاري بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُتى عبيد الله ابن زياد(3) برأس الحسين عليه السلام فجعل في طست، فجعل ينكت وقال في حسنه شيئًا، فقال أنس: كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان مخضوبًا بالوسمة(4)(5).
__________
(1) فضائل الصحابة رقم 1361، إسناده حسن.
(2) تحفة الأحوذى (10/279).
(3) قُتل عبيد الله عام 76هـ، الإعلام (4/193).
(4) الوسمة بكسر السين وقد تسكن: نبت، وقيل شجر باليمن يخضب بورقه الشعر.
(5) البخاري رقم 3748.(1/127)
ج- وفي رواية أخرى عن أنس أيضًا قال: لما أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكت بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان أحسبه قال جميلاً فقلت: والله لأسوءنك، إني رأيت رسول الله يلثم حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض(1). فالحديثان يدلان على فضل الحسين رضي الله عنه، وأنه كان أشبه أهل البيت به، ولكن قد يرد إشكال ولا سيما أنه قد تقدم في فضائل الحسن، أنه لم يكن أحد أشبه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن على، فيحدث التعارض، وقد أزال الإشكال والتعارض ابن حجر رحمه الله حيث جمع بينهما فقال: ويمكن الجمع بأن يكون أنس قال ما وقع في رواية الزهري في حياة الحسن لأنه يومئذ كان أشد شبهًا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أخيه الحسين، وأما ما وقع في رواية ابن سيرين فكان بعد ذلك كما هو ظاهر من سياقه، أو المراد بمن فضل الحسين عليه في الشبه ما عدا الحسن، ويحتمل أن يكون كل منهما أشد شبهًا في بعض أعضائه، فقد روى الترمذي وابن حبان من طريق هانئ بن هانئ عن على قال: الحسن أشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما بين الرأس إلى الصدر، والحسين أشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان أسفل من ذلك(2)، فهذه بعض الأحاديث الواردة في الحسين رضي الله عنه وأرضاه.
3- ما ورد من أحاديث في مناقب مشتركة بين الحسن والحسين رضي الله عنهما:
أ- ما رواه البخاري بإسناده إلى ابن عمر أنه قد سأله رجل من العراق عن المحرِم يقتل الذباب، فقال رضي الله عنه: أهل العراق يسألون عن الذباب وقد قتلوا ابن ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:«هما ريحانتاي من الدنيا»(3).
قال ابن حجر: والمعنى أنهما مما أكرمني الله وحباني به، لأن الأولاد يشمون ويقبلون فكأنهم من جملة الرياحين(4).
__________
(1) فضائل الصحابة (2/985) رقم 1397إسناده حسن، مجمع الزوائد (9/195).
(2) فضائل الصحابة رقم 1366إسناده صحيح.
(3) البخاري رقم 3753.
(4) فتح الباري (10/427).(1/128)
ب- عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».يعني حسنًا وحسينًا(1).
ج- وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبصر حسنًا وحسينًا فقال: «اللهم إني أحبهما فأحبهما»(2).
د- عن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»(3).
هـ- عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبى بريدة يقول: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من على المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال: صدق الله ورسوله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثى ورفعتهما(4).
__________
(1) صحيح سنن أبى داود (2/29)، فضائل الصحابة رقم 1359.
(2) صحيح سنن الترمذي (3/226)، سنن الترمذي رقم 3782.
(3) مجمع الزوائد (9/184)، وصححه الألباني في الأحاديث الصحيحة (2/448).
(4) فضائل الصحابة رقم 1358إسناده صحيح.(1/129)
و- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعوذ الحسن والحسين: «أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة، هكذا كان إبراهيم يعوذ ابنيه إسماعيل وإسحاق»(1).وهذا الحديث لا يتعارض مع ما رواه سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا هامة»(2) وما رواه أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «لا هام، لاهام»(3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا عدوى ولا صفر ولا هامة»(4)، فقد أجاب أبو جعفر الطحاوى بقوله: ففي هذه الأحاديث نفيه الهامة ونفي وجودها، فكيف يجوز أن يعوذهما من معدوم؟ فكان جوابنا له بتوفيق الله عز وجل وعونه: أن الهامة التي عوذهما - صلى الله عليه وسلم - منها هو هوام الأرض التي يخاف غوائلها، والهامة التي نفاها هي خلافها، وهي ما كانت العرب تقوله في موتها، فمن ذلك ما رثى به لبيد أخاه أربد(5) بقوله:
فليس الناس بعدك في نقير ... ولاهُمْ غيرُ أصداء وهام
ومن ذلك قول أبى داود الأياديَّ:
سُلِّط الموت والمنون عليهم ... فلهم في صدى المقابر هام
فنفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما في حديث أبى هريرة الذي رويناه، وأما الهامة التي عوذ منها حسنًا وحسينًا، فهي موجودة وهي هوام الأرض المخوفة وهي مشددة الميم، والهامة التي نفاه مخففة الميم، فليست منها في شيء(6).
خامسًا: حديث الكساء ومفهوم أهل البيت:
__________
(1) البخاري رقم 3371.
(2) صحيح ابن حبان رقم 6127 إسناده قوى، الطبراني 11764.
(3) شرح مشكل الآثار (7/328) إسناده صحيح.
(4) مسلم رقم (2220).
(5) شرح مشكل الآثار (7/329).
(6) شرح مشكل الآثار (7/330).(1/130)
حديث الكساء روته عائشة رضي الله عنها(1)، قالت: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة وعليه مرط مرحل «وهو الكساء» فأدخل عليا وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(2) [الأحزاب:33].
وهذا يبين لنا من كذب أن الصحابة يكتمون فضائل على، فهذه عائشة التي يدعون أنها تبغض عليًا هى التي تروى هذا الفضل لعلي وفاطمة(3).
__________
(1) مسلم رقم (2408) فضائل الصحابة.
(2) مسلم رقم (2167)ك الزكاة.
(3) حقبة من التاريخ ص (187).(1/131)
إن الخطاب في الآيات الكريمة كله لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث بدأ بهن وختم بهن، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا - يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرًا - وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا - يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا - وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا - وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} [الأحزاب: 28- 34]، فالخطاب كله لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعهن الأمر والنهي والوعد والوعيد، لكن لما تبين ما في هذا من المنفعة التي تعمهن وتعم غيرهن من أهل البيت جاء التطهير بضمير المذكر لأنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب الذكر، حيث تناول أهل البيت كلهم، وعلى فاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أخص من غيرهم بذلك، لذلك خصهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء لهم، كما أن أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعدى عليًا والحسن والحسين وفاطمة إلى غيرهم كما في حديث(1/132)
زيد بن أرقم، وأنه لما قيل له: نساؤه من أهل بيته؟ قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته الذين حرموا الصدقة وهم آل على وآل جعفر وآل عقيل وآل العباس(1)، وإذا اتسع مفهوم أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أكثر من ذلك فهم نساؤه بدليل الآية، ويشمل أيضًا عليًا وفاطمة والحسن والحسين، كحديث الكساء، وبحديث زيد بن أرقم، وآل عباس بن عبد المطلب، وآل عقيل بن أبى طالب، وآل جعفر بن أبى طالب بدليل حديث زيد بن أرقم، وآل الحارث بن عبد المطلب(2)، وسيأتي الحديث عن الآية الكريمة مفصلاً عند مناقشتنا للشيعة بإذن الله تعالى.
سادسًا: ما يخص آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام:
1- تحرم عليهم الزكاة:لحديث عبد المطلب بن ربيعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس»(3).
2- لا يرثون رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لحديث أبى بكر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث، ما تركنا صدقة»(4). وقد روى هذا الحديث أبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو هريرة كما نص على ذلك ابن تيمية وهى ثابتة عنهم في الصحاح والمسانيد(5).
__________
(1) مسلم رقم 107.
(2) مسلم ك الزكاة رقم 167.
(3) مسلم رقم 1072.
(4) البخاري رقم 3093مسلم 1757.
(5) منهاج السنة (4/195)، البداية والنهاية (5/252).(1/133)
3- لهم خمس الخمس في الغنيمة(1) والفيئ(2): قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال:41].
وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7].
4- الصلاة عليهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -:عن كعب بن عجرة قال: سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: يا رسول الله، كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ فإن الله قد علمنا كيف نسلم، قال: «قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم على آل إبراهيم إنك حميد مجيد»(3).
5- لهم مودة خاصة:ويتمثل هذا فيما رواه زيد بن أرقم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»(4).
__________
(1) ما أصيب من أموال أهل الحرب وأوجف عليه المسلمون بالخيل والركاب، النهاية (3/389).
(2) ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد، النهاية (3/482).
(3) البخاري رقم 3370، مسلم رقم 406.
(4) مسلم رقم 2408.(1/134)
قال القرطبي:وهذه الوصية، وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفروض المؤكدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها(1)، وقد فهم وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل بيته حق الفهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فأحبهم وأكرمهم، ودعا الناس إلى إكرامهم ومحبتهم، فقد روى البخاري بإسناده إلى أبى بكر رضي الله عنه، أنه قال: ارقبوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيته(2).
__________
(1) فتح القدير للمناوي (3/14).
(2) البخاري رقم 713.(1/135)
فهذا خطاب من الصديق رضي الله عنه ووصية منه للناس في حفظ حقوق آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمراقبة للشيء المحافظة عليه، ومعنى قول الصديق: احفظوه فيهم فلا تؤذوهم ولا تسيئوا إليهم(1)، وقال النووي: ومعنى «ارقبوا»: راعوه واحترموه وأكرموه(2)، وقد أكد رضي الله عنه تلك الحقوق بما قاله لعلي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحب إلىَّ أن أصل من قرابتي(3).ومحبة أهل البيت من أصول أهل السنة والجماعة، يقول ابن تيمية: وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، وقال القاضي عياض: إن من علامات محبته - صلى الله عليه وسلم - محبته لمن أحب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن هو بسببه من آل بيته، وصحابته من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم أجمعين، فمن أحب شيئًا أحب من يحبه(5)، وقال ابن كثير: ولا ننكر الوصاية بأهل البيت والأمر بالإحسان إليهم واحترامهم وإكرامهم، فإنهم من ذرية طاهرة من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخرًا، وحسبًا ونسبًا، ولا سيما إذا كانوا متبعين للسنة النبوية الصحيحة الواضحة الجلية، فكانوا من أهل الحق كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنيه، وعلى وأهل بيته وذريته رضي الله عنهم أجمعين(6).
سابعًا: علي رضي الله عنه في غزوة أحد:
__________
(1) انظر: فتح الباري (7/97).
(2) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط: ص(175).
(3) البخاري رقم 3712.
(4) محموع الفتاوى (3/407).
(5) الشفاء (2/573).
(6) تفسير القرآن العظيم (4/113).(1/136)
في غزوة أحد بدأ القتال بمبارزة بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وطلحة بن عثمان، وكان بيده لواء المشركين، وطلب المبارزة مرارًا، فخرج إليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له علي: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي، فقطع رجله فوقع على الأرض فانكشفت عورته فقال: يا ابن عمي أنشدك الله والرحم! فرجع عنه ولم يجهز عليه، فكبر رسول الله وقال لعلي بعض أصحابه: أفلا أجهزت عليه؟ قال: إن ابن عمي ناشدني الرحم حين انكشفت عورته فاستحييت منه(1). وكان رضي الله عنه بعد الالتحام في ميمنة الجيش، وأخذ الراية بعد مقتل مصعب بن عمير رضي الله عنه.
في هذه المعركة قتل من المشركين خلقًا كثيرًا، رغم ما أصاب المسلمين من الشدة في هذه الغزوة، إضافة إلى بلائه في الدفاع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)، وكان علي رضي الله عنه هو الذي أخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما وقع في الحفرة يوم أحد(3)، لقد استشهد في تلك الغزوة عدد كبير من خيرة المهاجرين والأنصار، وتركت حزنًا عميقًا في نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أصاب العدو من الرسول الكريم، فأدموا وجهه الشريف، فقامت ابنته فاطمة وزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنهما بمداواة جراحه، وإيقاف الدم الذي كان ينزف على وجهه ولحيته عليه الصلاة والسلام(4).
__________
(1) السيرة الحلبية (2/498،497).
(2) البداية والنهاية (7/224).
(3) السيرة النبوية لابن هشام (3/89).
(4) البخاري رقم 4075.(1/137)
وظهرت شجاعة علي رضي الله عنه في تلك المعركة، فعندما أشيع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قتل، وافتقده عليَّ، رأى أن الحياة لا خير فيها بعده، فكسر جفن سيفه، وحمل على القوم حتى أفرجوا له، فإذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، فثبت معه ودافع عنه دفاع الأبطال، وقد أصابته ست عشرة ضربة في ذلك اليوم(2).
وبعد انسحاب جيش المشركين من أرض المعركة أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد الغزوة مباشرة، وذلك لمعرفة اتجاه العدو، فقال له: «اخرج في آثار القوم وانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، والذي نفسي بيده إن أرادوها لأسيرن إليهم فيها ثم لأناجزنهم»، قال علي: فخرجت في أثرهم أنظر ماذا يصنعون، فجنبوا الخيل وامتطوا الإبل ووجهوا إلى مكة(3)، فخرج علي رضي الله عنه، وأخبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - بخبر القوم(4)،وفي هذا الخبر عدة دروس وعبر منها:
- شجاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث كان داخل صفوف المشركين ولم يصل إليه سيدنا على إلا بعد جهد جهيد، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلب العدو يقاتلهم حتى أصيب بعدة جروح.
- يقظة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومراقبته الدقيقة لتحركات العدو، وقدرته - صلى الله عليه وسلم - على تقدير الأمور، وتحليل تصرفات الخصم وفهم ما يترتب عليها من قرارات.
- ظهور قوته المعنوية العالية، ويظهر ذلك في استعداده لمقاتلة المشركين لو أرادوا المدينة.
- وفيه ثقة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي رضي الله عنه ومعرفته بمعادن الرجال.
__________
(1) مسلم شرح النووي (12/148).
(2) مسند أبى يعلي (1/415، 416) إسناده حسن، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد فقيهي ص(39).
(3) مسند أبى يعلي (1/415، 416) إسناده حسن، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد فقيهي ص(39).
(4) البداية والنهاية (4/41).(1/138)
- المروءة ومكارم الأخلاق عند على عندما رجع عن خصمه بعدما انكشفت عورته وإقرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له، وهذا العمل يعلمنا قيمة التعامل، وكيف تكون الأخلاق حتى مع الخصم وحتى في ساحة المعركة.
- وجوب التضحية في سبيل الله وأنه بهذه الروح ينتصر الإسلام في الحياة وينال الشهيد الجنة، وهذا ما أثبته لنا بعض المهاجرين والأنصار في هذه المعركة وغيرها.
- وجوب الأخذ بالأسباب، وظهر هذا عندما وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة على جبل أحد، فعصوه ونزلوا وكان هذا من أسباب الهزيمة.
- وفيه شجاعة على رضي الله عنه، لأن هذا الجيش لو أبصره ما تورع عن محاولة قتله(1).
ثامنًا: على رضي الله عنه في غزوة بني النضير:
يرى المحققون من المؤرخين أن غزوة بنى النضير كانت بعد أحد في ربيع الأول من السنة الرابعة من الهجرة، وقد رد ابن القيم على من زعم أن غزوة بنى النضير بعد بدر بستة أشهر بقوله: وزعم محمد بن شهاب الزهري: أن غزوة بنى النضير كانت بعد بدر بستة أشهر، وهذا وهم منه أو غلط عليه، بل الذي لا شك فيه أنها بعد أحد، والتي كانت بعد بدر بستة أشهر هي غزوة بنى قينقاع، وقريظة بعد الخندق، وخيبر بعد الحديبية(2)، وقال ابن العربي: والصحيح أنها بعد أُحد(3)، وإلى هذا الرأي ذهب ابن كثير(4)، ففي هذه الغزوة فقد الصحابة على بن أبى طالب رضي الله عنه ذات ليلة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنه في بعض شأنكم»، فعن قليل جاء برأس عَزْوَكَ، وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرة من المسلمين، وكان شجاعًا راميًا، فشد عليه على رضي الله عنه فقتله، وفر اليهود(5).
تاسعًا: على رضي الله عنه في غزوة حمراء الأسد:
__________
(1) السيرة النبوية للصَّلابي (2/145)، غزوة أحد لأبى فارس: ص(95، 96).
(2) زاد المعاد (3/249).
(3) أحكام القرآن لابن العربي (4/1765).
(4) حديث القرآن عن الغزوات (1/254).
(5) إمتاع الأسماع للمقريزي (1/180).(1/139)
تعتبر هذه الغزوة مكملة لغزوة أحد، فقد عاد المسلمون من أحد مساء السبت الخامس عشر من شوال من السنة الثالثة للهجرة، وما أن أصبح الصباح وخرج الناس من صلاة الفجر إلا وأذنَّ مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتهيؤ على جناح السرعة لمطاردة العدو، وألا يخرج من الناس إلا من شهد أُحُدًا، فاستجاب الناس لنداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ما بهم من جراحات وتعب، وكان في مقدمتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يسمح لعبد الله بن أبىَّ بالخروج معه، ولا لأحد لم يشهد أحُدًا إلا جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الذي استشهد أبوه في أُحُد، وكان قد منعه من الاشتراك في بدر وأحد ليبقى عند أخواته البنات، وخرج الجيش وفي مقدمتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحمل اللواء، لواء أحد نفسه علىُّ بن أبى طالب(1)، وصل المسلمون بقيادة رسولهم الكريم - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد التي تبعد عن المدينة ثلاثة عشر ميلاً، حيث حطُّوا الرحال فيها، وقد أدهشت هذه الحركة اليهود والمنافقين لما فيها من جرأة وشجاعة، وأيقنوا أن الروح المعنوية عالية، وأنهم لو هُزموا لما عملوا على مطاردة قريش(2)، كما أن في خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حمراء الأسد إشارة نبوية إلى أهمية استعمال الحرب النفسية للتأثير على معنويات الخصوم، فخرج - صلى الله عليه وسلم - بجنوده إلى حمراء الأسد ومكث فيها ثلاثة أيام، وأمر بإيقاد النيران، فكانت تشاهد من مكان بعيد وملأت الأرجاء بأنوارها حتى خيل لقريش أن جيش المسلمين ذو عدد كبير لا طاقة لهم به، فانصرفوا وقد ملأ الرعب أفئدتهم(3).
__________
(1) وقد حمل على رضي الله عنه لواء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة الكُدر لبنى سليم بعد عودته إلى المدينة بسبع ليال من غزوة بدر.
(2) على بن أبى طالب، أحمد السيد الرفاعي ص1-10، تاريخ الإسلام للذهبي، المغازى ص 226.
(3) غزوة أحد لأبى فارس: ص(51).(1/140)
قال ابن سعيد: ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه حتى عسكروا بحمراء الأسد، وكان المسلمون يوقدون تلك الليالي خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه فكبت الله تعالى بذلك عدوهم(1)، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحرب الباردة وسجلها المولى عز وجل في كتابه في معرض الثناء على الصحابة: {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 172- 175].
عاشرًا: على رضي الله عنه وموقفه من حادثة الإفك:
__________
(1) الطبقات لابن سعد (2/49).(1/141)
ورد حديث الإفك الذي اتهم فيه المنافقون عائشة رضي الله عنها به، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استدعى عليًا وأسامة واستشارهما في فراق أهله، لما كثر القول وأقلق النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستلبث الوحي، فأما أسامة، فأشار عليه بالذي يعلم من براءتها، فقال: يا رسول الله أهلك، ولا نعلم إلا خيرًا، وأما على بن أبى طالب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك(1) ، قالت: فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة فقال: أي بَريَرة هل رأيت من شيء يَريبك؟قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا أغمصه(2) عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن(3) فتأكله، فقام رسول الله، فاستعذر(4) يومئذ من عبد الله بن أُبى ابن سلَول قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً(5)، ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي(6). إن الكلام الذي قاله علىّ إنما حمله عليه ترجيح جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما رأى عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل. وكان شديد الغيرة، فرأى على رضي الله عنه في بادئ الأمر أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن تتحقق براءتها، فيمكن رجعتها، ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدهما(7)، وقال النووي: رأى على أن ذلك هو المصلحة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة، لإرادة راحة خاطره - صلى الله عليه وسلم -(8)، كما أن عليا رضي الله عنه لم ينل عائشة – رضي الله
__________
(1) البخاري رقم 4750.
(2) أغمصه: أي أعيبها به وأطعن بها عليه.
(3) الداجن: هى الشاة التي يعلفها الناس في منازلهم.
(4) فاستعذر: أي قال: من يقوم بعذري إن عاقبته على سوء صنيعه.
(5) هو صفوان بن المعطل السلمى.
(6) البخاري رقم 4750.
(7) دور المرأة السياسي أسماء محمد زيادة: ص(462).
(8) صحيح مسلم بشرح النووي (5/634).(1/142)
عنها- بأدنى كلمة يفهم منها أنه عرَّض بأخلاقها، أو تناولها بسوء(1)، بل كان رأيه خيرًا لها، فهو يقول إن أردت أن ترتاح من المشكلة فإن غيرها كثير، وإن أردت الوصول للحقيقة، فاسأل الجارية توصلك إليها، وهي براءة عائشة، ثم بعد ذلك خطب رسول الله الناس وبين براءة عائشة، وخطورة من يخوض في عرضه ظلمًا وزورًا، وقد بدت نصيحة على وأسامة بن زيد معًا إيجابيتين، وفي صالح عائشة رضي الله عنها، فقد ازداد
النبي - صلى الله عليه وسلم - قناعة بما علم من خير في أهله(2).
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(462).
(2) المصدر نفسه: ص(463).(1/143)
وعلى القارئ الكريم أن يحذر من الروايات الباطلة ساقطة الاعتبار التي تزعم بإساءة على إلى عائشة في أمر الإفك، والتي بنى عليها بعض الباحثين بأن ذلك جعل عائشة تغضب من على رضي الله عنه وتحقد عليه وتتهمه زورًا بقتل عثمان، وتخرج عليه مؤلبة عليه الأعداد الهائلة من المسلمين(1)، ومن أمثال هؤلاء الباحثين، على إبراهيم حسن في التاريخ الإسلامي العام، وطه حسين في كتابه: على وبنوه(2)، وغيرهم، سوف نتحدث عن العلاقة المتينة بين أم المؤمنين عائشة وعلى - بإذن الله - عند حديثنا عن موقعة الجمل، لقد كانت قصة الإفك حلقة من سلسلة فنون الإيذاء والمحن التي لقيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أعداء الدين، وكان من لطف الله تعالى بنبيه وبالمؤمنين أن كشف الله زيفها وبطلانها، وسجل التاريخ بروايات صحيحة مواقف المؤمنين من هذه الفرية، وهي مواقف يتأسى بها المؤمنون عندما تعرض لهم في حياتهم مثل هذه الفرية، فقد انقطع الوحي، وبقيت الدروس لتكون عبرة وعظة للأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها(3)، وقد تحدثت في كتابي «السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث» عن الدروس والعبر والآداب والأحكام التي تؤخذ من حادثة الإفك(4).
__________
(1) من أراد التوسع في حادثة الإفك فليراجع السيرة النبوية للصَّلاَّبي (2/926).
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد فقيهي: ص (54).
(3) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص (440).
(4) السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (2/ 243- 255).(1/144)
المبحث السادس : أهم أعمال علي رضي الله عنه ما بين الأحزاب إلى وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -
أولاًَ: علي رضي الله عنه في غزوة الأحزاب:
كان موقف أمير المؤمنين على رضي الله عنه في الأحزاب بطوليًّا رائعًا ينم عن مدى رسوخ العقيدة في قلوب أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والدعوة إليها، والموت في سبيلها، والبراءة ممن خالفها، قال ابن إسحاق: وخرج على بن أبى طالب في نفر من المسلمين بعد أن اقتحمت خيل المشركين ثغرة في الخندق حتى أخذوا عليهم الثغرة التي اقتحموا منها خيلهم، وأقبلتن الفرسان تعدو نحوهم، وكان عمرو بن عبد وقد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراح، فلم يشهد يوم أُحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلمًا لُيرَى مكانه فلما وقف هو وخيله قال: من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى أحد خلتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال له على: فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فإني أدعوك إلى النّزل، فقال له: لِمَ يا ابن أخي؟ فوالله ما أحب أن أقتلك، قال له على: لكني والله أحب أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقرها، وضرب وجهه، ثم أقبل على علىًّ، فتنازلا وتجاولا فقتله على رضي الله عنه، وخرجت خيلهم منهزمة، حتى اقتحمت من الخندق هاربة(1).
وقد ذكر ابن كثير ما رواه البيهقي في دلائل النبوة من أشعار قالها عمرو بن عبد ود وعلي رضي الله عنه، فقد قال عمرو لما خرج للمبارزة:
ولقد بححْتُ من النداء ... لَجمعِهِم هل من مبارز؟
ووقفت إِذ جَبُنَ المشجَّع ... موقف القرن المناجز
ولذاك إني لم أكُن ... متسرعًا قبل الهَزاهِزْ
إن الشجاعة في الفتى ... والجود من خير الغرائِزْ
فعندما خرج له على رضي الله عنه:
لا تَعْجَلنَّ فقد أتاك
... مُجيبُ صَوتكَ غير عاجز
في نية وبصيرة ... والصدق مَنْجَى كلِّ فائز
إني لأرجُو أن أقيم ... عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يبقى ... ذكرها عند الهزائز(2)
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (3/348).
(2) نجلاء: واسعة، الهزائز: الحروب الشدائد.(1/145)
ولما قتل على رضي الله عنه عمرو بن عبد ود ذكروا أنه قال من الشعر:
أعلىُّ تفتحم الفوارس هكذا
... عنىّ وعنهم أخروا أصحابي
اليوم يمنعني الفرارَ حفيظتي ... ومُصَمَّم في الرأس ليس بنابي(1)
وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو، فقال حسان بن ثابت:
فرّ وألقى لنا رمحه ... لعلَّكَ عَكْرمُ لم تفْعلِ
ووليت تعدو كعدو الظَّليم ... ما أن يحوّر عن المعدل
ولم تلوِ ظهرك مستأنسًا
... كان قفاك قفا فَرْعَل(2)
وبعد مقتل عمرو بن عبد ود بعث المشركون إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشترون جيفته بعشرة آلاف، فقال: ادفعوا إليهم جيفتهم، فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدية، فلم يقبل منهم شيئًا.
وقد حدث هذا والمسلمون في ضنك من العيش، ومع ذلك فالحلال حلال والحرام حرام، إنها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من بعض المسلمين الذين يحاولون إيجاد المبررات لأكل الربا وما شابهه؟ (3).
ثانيًا: علي رضي الله عنه في غزوة بنى قريظة:
__________
(1) البداية والنهاية (4/106).
(2) الفرعل: صغار الضباع.
(3) معين السيرة للشامي: ص(94).(1/146)
وكان فيها رضي الله عنه حامل راية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المقدمة(1)، إلى أن حكم فيها سعد ابن معاذ، وكان في بادئ الأمر لم ينزلوا على حكمه، قال ابن هشام: إن علىّ بن أبى طالب صاح وهم محاصرو بنى قريظة: يا كتيبة الإيمان، وتقدم هو والزبير بن العوام، وقال: والله لأذوقن ما ذاق حمزة، أو لأقتحمن حصونهم، فقالوا: يا محمد ننزل على حكم سعد بن معاذ(2)، وهكذا أنزل الله تعالى الرعب والخوف في قلوب أعداء العقيدة والدين، على لسان ذاك التقى النقي لما آتاه الله من حب الاستبسال والموت في سبيل عزة دين الله تعالى، وقد نادى كتيبته بأحب الأسماء التي ينادي بها الله تعالى عباده ألا وهو نداء الإيمان الذي يتجلى فيه صدق الاعتقاد، وصلاح العمل، وحب الجهاد في سبيله تعالى(3).
ولما حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى النساء والذرية، وأن تقسم الأموال(4)، فكان من الذين يباشرون القتل على بن أبى طالب والزبير رضي الله عنهما(5).
ثالثًا: علي رضي الله عنه في صلح الحديبية وبيعة الرضوان:
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (3/258).
(2) البخاري رقم 1421، السيرة النبوية لابن هشام (3/ 263).
(3) الخليفتان عثمان وعلى بين السنة والشيعة، أنور عيسى: ص(78).
(4) السيرة النبوية لابن هشام (3/263)، البخاري رقم 4121.
(5) إمتاع الأسماع للمقريزي (1/247).(1/147)
في غزوة الحديبية وقبل الصلح، خرج بعض العبيد (الأرقاء) من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكتب إليه مواليهم بإرجاعهم، فرفض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يرجعهم وقال: «يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف على الدين، قد امتحن الله قلبه على الإيمان»، فسأله الصحابة بتلهف: من هو يا رسول الله؟ وكلهم يرجو أن يفوز هو بهذه الشهادة العظيمة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: هو خاصف النعل، وكان قد أعطى عليًا بخصفها(1)، ولَّما تَم الصلح بين المسلمين ومشركي قريش، كتب على كتابًا بينهم قال: فكتب: محمد رسول الله، فقال المشركون: لا تكتب محمد رسول الله، لو كنت رسول الله لم نقاتلك. فقال لعلي: امحه قال: ما أنا بالذي أمحوه، فمحاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فصالحهم على أن يدخل هو وأصحابه ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجلبَّان(2) السلاح(3)، وقد امتنع على رضي الله عنه عن محو كلمة (رسول الله) بدافع محبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه(4). وقد طعن الروافض الغلاة في موقف الصحابة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم في الحديبية، وذكروا من مراجعة عمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر الصلح، وكذلك تأخر الصحابة في بداية الأمر عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وحلق، ولا مطعن في شيء من هذا في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا عمر ولا غيره من الصحابة الذين شهدوا الحديبية، وبيان ذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة، فلما ساروا معه عام الحديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام، فلما وقع أمر الصلح، وفيه أن يرجعوا عامهم
__________
(1) مرويات غزوة الحديبية، حافظ الحكمي: ص (183)، والحديث صحيح بمجموع طرقه، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على ناصر: ص(30).
(2) الجلبّان: شبه جراب من الأدم يوضع فيه السيف المغمور.
(3) مسلم (3/1409)، خصائص على للنسائي، تحقيق أحمد البلوشي: ص (203).
(4) الانتصار للصحب والآل: ص(262- 274).(1/148)
هذا، ثم يعودوا العام القادم شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، فجعل عمر- رضي الله عنه – على ما عرف به من القوة في الحق والشدة فيه يسأل رسول- صلى الله عليه وسلم - ويراجعه في الأمر، ولم تكن أسئلته التي سألها رسول الله لشك في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو اعتراض عليه، لكن كان مستفصلاً عما كان متقررًا لديه، من إنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت، وأراد بذلك أن يحفز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دخول مكة، وعدم الرجوع إلى المدينة، لما يرى في ذلك من عز لدين الله وإرغام للمشركين(2).
__________
(1) البداية والنهاية (4/170)، تاريخ الطبري (2/635).
(2) الانتصار للصحب والآل: ص(264).(1/149)
قال النووي:قال العلماء: لم يكن سؤال عمر – رضي الله عنه – وكلامه المذكور شكًا بل طلبًا لكشف ما خفي عليه، وحثًا على إذلال الكفار وظهور الإسلام، كما عرف من خلقه- رضي الله عنه – وقوته في نصر الدين وإذلال المبطلين(1)، فعمر – رضي الله عنه – كان في هذا مجتهدًا حمله على هذا شدته في الحق، وقوته في نصرة الدين، والغيرة عليه، مع ما كان قد عودهم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المشورة وإبداء الرأي امتثالاً لأمر الله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159]، وقد كان كثيرًا ما يستشيرهم ويأخذ برأيهم، كما استشارهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، وأخذ بمشورتهم، وشاورهم يوم أحد في أن يقعد في المدينة، أو يخرج للعدو، فأشار جمهورهم بالخروج إليه فخرج إليهم، وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى عليه السعدان (سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة) فترك ذلك، وشاورهم يوم الحديبية أن يميل على ذراري المشركين، فقال أبو بكر: إنا لم نجئ لقتال، وإنما جئنا معتمرين، فأجابه إلى ما قال(2). وفي حوادث كثيرة يطول ذكرها، فقد كان عمر- رضي الله عنه- يطمع أن يأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برأيه في مناجزة قريش وقتالهم، ولهذا راجعه في ذلك، وراجع أبا بكر، فلما رأى اتفاقهما أمسك عن ذلك وترك رأيه، فعذره رسول الله لما يعلم من حسن نيته وصدقه(3).
__________
(1) شرح صحيح مسلم (12/141).
(2) تفسير ابن كثير (1/420) عند تفسير قوله: «وشاورهم في الأمر».
(3) الانتصار للصحب والآل: ص(226).(1/150)
أما توقف الصحابة عن النحر والحلق حتى نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحلق، فليس معصية لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر العلماء له عدة توجيهات، قال ابن حجر: قيل: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الأمر بذلك للندب، أو لرجاء نزول وحي بإبطال الصلح المذكور، أو تخصيصه بالإذن بدخولهم مكة ذلك العام لإتمام نسكهم، وسوغ لهم ذلك لأنه كان زمان وقوع النسخ، ويحتمل أنهم ألهتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم، مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم، وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الأمتثال لاعتقادهم أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، ويحتمل مجموع هذه الأمور لمجموعهم(1)، وجاء في بعض الروايات أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما رأى عدم امتثالهم دخل على أم سلمة فذكر لها ذلك فقالت: يا رسول الله لا تكلمهم فإنهم دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح(2)، فأشارت عليه كما جاء في رواية البخاري: أن أخرج ثم لا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج لم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا(3)، قال ابن حجر: ويحتمل أنها فهمت عن الصحابة أنه احتمل عندهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بالتحلل أخذًا بالرخصة في حقهم، وأنه يستمر على الإحرام أخذًا بالعزيمة في حق نفسه، فأشارت عليه أن يتحلل لينتفى عنهم هذا الاحتمال، وعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - صواب ما أشارت به ففعله..ونظير هذا ما وقع لهم في غزوة الفتح من أمره لهم بالفطر في رمضان، فلما استمروا على الامتناع، تناول القدح فشرب، فلما رأوه شرب شربوا(4).
__________
(1) فتح الباري (5/347).
(2) فتح الباري (5/347).
(3) فتح الباري (5/347).
(4) البخاري، ك الشروط 2732.(1/151)
وهذا الوجه حسن، وهو اللائق بمقام أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتحلل ولم يفعل، ظنوا أن الذي حمله على هذا هو الشفقة عليهم، كما كانت سيرته معهم، فكأنهم – رضي الله عنهم – آثروا التأسى به على ما رخص لهم فيه من التحلل، ثم لما رأوه قد تحلل أيقنوا أن هذا هو الأفضل في حقهم، فبادروا إليه، وهذا مثل ما حصل منهم في الحج مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بلغوا مكة وطافوا وسعوا أمرهم أن يحلوا، وأن يصيبوا النساء ويجعلوها عمرة، فكبر ذلك عليهم لتعظيمهم لنسكهم، وقالوا: نذهب إلى عرفة ومذاكيرنا تقطر من المنى، فلما علم بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكان لم يتحلل، قال لهم: «أيها الناس أحلوا فلولا الهدى الذي معي فعلت كما فعلتم»قال جابر- رضي الله عنه- راوى الحديث: فحللنا وسمعنا وأطعنا(1)، وهذا كله من حرص أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخير والرغبة في التأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - التأسى الكامل(2).
__________
(1) البخاري، ك الاعتصام رقم 7367.
(2) الانتصار للصحب والآل: ص(268)، وهذا من أفضل الكتب في الرد على بعض شبهات الروافض.(1/152)
إن موقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في سكوته على عمر رضي الله عنه عندما عارضه على الصلح يعطي قيمة كبرى بأنه على القيادات الإسلامية من حكام وعلماء ودعاة أن يتحلوا بسعة الصدر وحسن الاستماع للرأي الآخر. وإعطاء المجال لكل ذي رأي أن يعبر عن رأيه بما يخدم المصلحة العامة، لا أن يفتح السجون ويكمم الأفواه. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية بين أن حرية إبداء الرأي مكفولة في المجتمع الإسلامي، وأن للفرد في المجتمع المسلم الحرية في التعبير عن رأيه، ولو كان هذا الرأي نقدًا لموقف حاكم من الحكام أو خليفة من الخلفاء، فمن حق الفرد المسلم أن يبين وجهة نظره في جو من الأمن دون إرهاب أو تسلط يخنق حرية الكلمة والفكر، وإذا كان هذا موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع عمر، فمعارضة رئيس الدولة – من باب أولى – في رأي من الآراء وموقف من المواقف ليست بحد ذاتها جريمة تستوجب العقاب، ويغيب صاحبها في غياهب السجون(1)، كما أن الهدى النبوي الكريم يعلمنا كيف يربي أصحابه من خلال الأحداث. ولقد نال على رضي الله عنه في الحديبية مع من حضر من أصحاب رسول الله، رضا الله عز وجل ونزل فيهم قوله تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لن يدخل أحد النار بايع تحت الشجرة»(2)، وقد نال على رضي الله عنه وإخوانه مثل أبى بكر وعمر وغيرهما من قبل في بدر وسامًا عظيمًا وشرفًا عاليًا، فقد قال رسول الله في أهل بدر: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(3).
رابعًا: عمرة القضاء 7هـ وعلى رضي الله عنه، وحضانة ابنة حمزة رضي الله عنهما:
__________
(1) غزوة الحديبية لأبى فارس: ص (134، 135).
(2) البخاري رقم 4840، مسلم 1856.
(3) البخاري رقم 3983، مسلم 2494.(1/153)
لقد تغيرت النفوس والعقول بتأثير الإسلام تغيرًا عظيمًا، فعادت البنت- التي كان يتعير بها أشراف العرب، وجرت عادة وأدها في بعض القبائل فرارًا من العار، وزهدًا في البنات – حبيبة يتنافس في تربيتها المسلمون، وكانوا سواسية، ولا يرجح بعضهم على بعض إلا بفضل أو حق(1)، فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - الخروج من مكة، تبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم، فتناولها على، فأخذ بيدها وقال لفاطمة رضي الله عنها: دونك ابنة عمك، فاختصم فيها على وزيد وجعفر. قال على: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: هى ابنة عمي وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضي بها النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالتها وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقى، وقال لزيد: أنت أخونا ومولانا،وقال على لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تتزوج بنت حمزة. قال: إنها ابنة أخي من الرضاعة(2).
وفي هذه القصة دروس وعبر وأحكام وفوائد منها:
1- الخالة بمنزلة الأم.
2- الخالة تقدم على غيرها في الحضانة إذا لم يوجد الأبوان.
3- تزكية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجعفر بن أبى طالب رضي الله عنه ووصفه له بقوله: أشبهت خلقي وخلقي.
4- منقبة زيد بن حارثة: يقول له الرسول: أنت أخونا ومولانا، لأنه كان أخًا لحمزة بن عبد المطلب، فقد آخي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهما، وهو باجتهاده يريد أن يكون عليه ما على الأخ الشقيق من واجبات، والواجب أن يكون وليًا على بنت حمزة رضي الله عنه.
5- زواج المرأة لا يسقط حقها في الحضانة: لقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجة جعفر بالحضانة وعمتها صفية بنت عبد المطلب حية موجودة.
6- لابد من موافقة الزوج على حضانة زوجته لابنة أختها، لأن الزوجة محتبسة لمصلحته ومنفعته، والحضانة قد تفوت هذه المصلحة جزئيًا، فلابد من استئذانه، ونلاحظ هنا أن جعفر بن أبى طالب قد طالب بحضانة بنت عمه حمزة لخالتها وهى زوجة له، فدل على رضاه بذلك.
__________
(1) السيرة النبوية للندوي: ص (321).
(2) البخاري رقم 4251.(1/154)
7- إن الطفل إذا رضع مع عمه يصبح أخًا له في الرضاعة، وتصبح بناته كلهن بنات أخيه من الرضاعة، فيحرم عليه نكاحهن(1).
خامسًا: علي رضي الله عنه في غزوة خيبر7هـ:
ذكر ابن إسحاق(2)، أنها كانت في المحرم من السنة السابعة للهجرة، وذكر الواقدى(3) أنها كانت في صفر أو ربيع الأول من السنة السابعة للهجرة، بعد العودة من غزوة الحديبية، وذهب ابن سعد(4) إلى أنها في جمادى الأولى سنة سبع، وقال الإمامان الزهري ومالك: إنها في محرم من السنة السادسة(5) وقد رجح ابن حجر(6) قول ابن إسحاق على قول الواقدى(7)، وفي هذه الغزوة تجلت بطولة أمير المؤمنين على بن أبى طالب، ومكانته عند الله وعند رسوله، وما قدر الله من فتح هذه المستعمرة اليهودية، ذات الأهمية العسكرية الاستراتيجية على يده في مظهر جلى رائع(8)، فقد كانت خيبر مستعمرة يهودية تتضمن قلاعًا حصينة، وقاعدة حربية لليهود، آخر معقل من معاقلهم في جزيرة العرب، وكانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر، ويتآمرون مع يهود المدينة وخارجها لغزو المدينة، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستريح منهم، ويأمن من جهتهم، وكانت في الشمال الشرقي للمدينة على بعد سبعين ميلاً منها(9)، توجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجيشه إلى خيبر، وكانوا ألفًا وأربعمائة، ونازل حصون خيبر، وبدأ يفتحها حصنًا حصنًا، واستعصى حصن القموص على المسلمين، وكان على بن أبى طالب رمدًا(10)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لأعطين هذه الراية غدًا رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله
__________
(1) زاد المعاد (2/374، 375)، صلح الحديبية لأبى فارس: ص (286، 287).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (3/455).
(3) المغازى (2/634).
(4) الطبقات (2/106).
(5) تاريخ دمشق (1/33).
(6) الفتح (16/41) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص (500).
(7) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص (500).
(8) المرتضى للندوي: ص(52).
(9) المرتضى للندوي: (52).
(10) المصدر نفسه: ص (53).(1/155)
ورسوله ويحبه الله ورسوله»، فبات الناس يدوكون(1) ليلتهم أيهم يُعطاها؟ فلما أصبح الناس، غدوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين علىّ بن أبى طالب؟ فقيل: هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه، فأتى به، فبصق رسول الله في عينيه، ودعا له فبرأ حتى كأنه لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال على: يا رسول الله، أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال: «انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حُمْر النَّعَم»(2) فانطلق حتى فتح الله عليه خيبر، وكان من صور بطولته فيها أن خرج له مرحب ملكهم
وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مُجرب
إذا الحروب أقبلت تَلَهَّبُ
فقال على:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة ... كليث غابات كريه المنظرة
أُوفيهم بالصاع كيل السندرة
فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه(3).
وفي موقف على في غزوة خيبر دروس وعبر وفوائد منها:
1- فضيلة عظيمة ومنقبة ظاهرة لأمير المؤمنين على رضي الله عنه:حيث شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة في قوله: «يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» وقال ابن حجر في معنى أن عليًا يحب الله ورسوله أراد بذلك وجوب المحبة، وإلا فكل مسلم يشترك مع على في مطلق هذه الصفة. وفي هذا الحديث تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران: 31]. فكأنه أشار إلى أن عليًا تام الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى اتصف بصفة محبة الله له(4).
__________
(1) أي: بات الناس في اختلاط واختلاف.
(2) مسلم رقم 2406.
(3) مسلم (3/1441) رقم 1807.
(4) فتح الباري (7/72).(1/156)
2- بركة دعائه - صلى الله عليه وسلم -: حيث استجاب الله لدعاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال على رضي الله عنه: ما رَمِدْتُ منذ تفل النبي- صلى الله عليه وسلم - في عيني(1)، كما أن عليًا رضي الله عنه مرض مرة، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرًا فارفعني، وإن كان البلاء فصبرني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قلت؟ فأعاد عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اشفه، اللهم عافه»، ثم قال: قم. فقمت، فما عاد لي ذلك الوجع بعده(2).
__________
(1) مسند أحمد الموسوعة الحديثية رقم 589إسناده حسن.
(2) مسند أحمد (2/151) صححه أحمد شاكر.(1/157)
3- لا علاقة بين هذا الحديث وإمامة علي رضي الله عنه:ذهب الروافض إلى أن عليًا رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستدلوا بمجموعة من الأحاديث تدل على فضله ولا تدل على إمامته، منها هذا الحديث وزادوا فيه زيادات باطلة لا تصح عند علماء الحديث، كما أنه لا ملازمة بين كونه محبًا لله ورسوله ومحبوبًا لهما وبين كونه إمامًا بلا فضل أصلاً. على أنه لا يلزم من إثباتهما له نفيهما عن غيره، كيف وقد قال الله تعالى في حق أبى بكر ورفقائه: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقال في حق أهل بدر: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4]، ولا شك أن من يحبه الله يحبه رسوله، ومن يحب الله من المؤمنين يحب رسوله، وقال في شأن أهل مسجد قباء: { فِيهِ رِجَالٌ يُّحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].ولما سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قيل: ومن الرجال؟ قال: أبوها(1).وإنما نص على المحبة والمحبوبية في حق على مع وجودهما في غيره لنكتة دقيقة تحصل من ضمن قوله: «يفتتح الله على يديه»(2). وهي أنه لو ذكر مجرد الفتح لربما توهم أن ذلك غير موجب لفضيلته لما ورد في قوله- صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر». فأزال ذلك التوهم بإثبات هاتين الصفتين له، فصار المقصود من تخصيص مضمون «يفتح الله على يديه» وما ذكر من الصفات لإزالة ذلك الوهم(3).
4- وهناك مجموعة من الفوائد من حديث فضل علىَّ في فتح خيبر منها:
__________
(1) البخاري، فتح الباري (7/22).
(2) مسلم رقم 2406).
(3) مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص (70)(1/158)
- فضل الصحابة في انشغالهم تلك الليلة وشغلهم عن بشارة الفتح، لأنهم انشغلوا عنها بالتماسهم معرفة من يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، والإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها ومنعها عمن سعى، لأنَّ الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين كلهم يرجون أن يُعطاها ولم يعطوها، وعلى بن أبى طالب مريض، ولم يسع لها، ومع ذلك أعطى الراية.
- الأدب في قوله: على رسلك، ووجهه أنه أمره بالتمهل وعدم التسرع، والدعوة إلى الإسلام قبل القتال، والدعوة بالحكمة، تؤخذ من قوله: أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، لأن من الحكمة أن تتم الدعوة، وذلك بأن تأمره بالإسلام أولاً، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله، ولا يكفي أن تأمره بالإسلام لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به، وقد لا يطبقه، بل لابد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر. والمعرفة بحق الله في الإسلام تؤخذ من قوله- صلى الله عليه وسلم -: «وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه».
- ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن يهدى الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم» أي: خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا، وليس المعنى كما قال بعضهم: خير لك من أن تتصدق بنعم حمر.(1/159)
- الحلف على الفتيا لقوله - صلى الله عليه وسلم - «فوالله لأن يهدى الله...إلخ فأقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يُستقسم، والفائدة: هى حثه على أن يهدى الله به والتوكيد عليه. وقد أمر الله رسوله بالحلف وفي ثلاثة مواضع من القرآن الكريم، في قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس:53]، وفي قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7].وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]، فإذا كان هناك في القَسَم مصلحة ابتداء، أو جوابًا لسؤال جاز وربما يكون مطلوبًا(1).
سادسًا: علي رضي الله عنه في فتح مكة وغزوة حنين 8هـ:
نقضت قريش صلحها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمساندتها بنى بكر على خزاعة حليف المسلمين، ودعمتهم بالخيل والسلاح والرجال، فقال رسول الله: «نصرت يا عمرو بن سالم، لا نصرني الله إن لم أنصر بنى كعب»ولما عرض السحاب من السماء قال: «إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب»(2) وقد جاء عمرو بن سالم إلى المدينة وأنشد قصيدة بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء فيها:
يا رب إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدًا، وكنا ولدًا ... ثُمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرًا أعتدا ... وادع عباد الله ياتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا ... إن سيم خسفا وجهه تربدا
إلى أن قال:
وزعموا أن لست أدعو أحدًا ... وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدًا ... وقتلونا رُكَّعا وسجدا
__________
(1) القول المفيد على كتاب التوحيد، لمحمد صالح (1/141، 142).
(2) البداية والنهاية (4/278).(1/160)
وبعثت قريش أبا سفيان إلى المدينة لتمكين الصلح وإطالة أمده، وعندما وصل إلى المدينة دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرض حاجته، أعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجبه، فاستعان بكبار الصحابة أمثال أبى بكر وعمر وعثمان وعلى حتى يتوسطوا بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبوا جميعًا، فعاد أبو سفيان إلى مكة من غير أن يحظى بأي اتفاق أو عهد(1)، وكانت لعلي رضي الله عنه في فتح مكة مواقف متعددة منها:
1- إحباط محاولة تجسس لصالح قريش: عن حسن بن محمد بن على بن عبيد الله ابن أبى رافع أنه سمع عليًا يقول: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والزبير والمقداد فقال: «انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإنَّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها».فانطلقنا تَعَادى بنا خيْلُنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، قلنا: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي من كتاب. قلنا لتُخرجنَّ الكتاب أو لنُلقينَّ(2) الثياب قال: فأخرجت الكتاب من عقاصها، فأخذنا الكتاب، فأتينا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا فيه: من حاطب بن أبى بلتعة إلى ناس من المشركين بمكة، يخبرهم ببعض أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله: يا حاطب ما هذا؟قال: لا تعجل علىَّ، إني كنت أمرأ مُلْصَقًا في قريش، ولم أكن من أنفُسها، وكان من كان معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة، فأحببت إذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أتَّخذ فيهم يدًا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرًا، ولا ارتدادًا عن ديني ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام فقال رسول الله: «إنه قد صدقكم» فقال عمر: دَعني أضرب عنُُُق هذا المنافق. فقال: «إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعلَّ الله قد اطَّلعَ إلى أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم»(3).
__________
(1) التاريخ السياسي والعسكري د. على معطي: ص(365).
(2) في رواية: أو لنقلبن.
(3) إسناده صحيح، الموسوعة الحديثية مسند أحمد رقم 600.(1/161)
2- أجَرْنا من أجرت يا أم هانئ: قالت أم هانئ بنت أبى طالب – أخت على رضي الله عنهما-: لما نزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعلي مكة فر إلىَّ رجلان من أحمائى، من بنى مخزوم، وكانت عند هُبيرة بن أبى وهب المخزومي، قالت: فدخل علىَّ على بن أبى طالب أخي، فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة إن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه، فلما اغتسل أخذ ثوبه، فتوشح به، ثم صلى ثماني ركعات من الضحى، ثم انصرف إلىَّ فقال: مرحبًا وأهلاً يا أم هانئ ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر على، فقال: قد أجرنا من أجرت وأمًَّنَّا من أمنت، فلا يقتلهما(1)، وبناء على ما تقدم، فإن تأمين المسلم للكافر من أهل الحرب يجعله في أمان، ومن ثمّ فلا يجوز للمسلمين أن يتعرضوا له بشيء.. وحتى يُصان حقُّ التأمين هذا من أي ضرر يمكن أن يلحق بالمسلمين من جرَّائه – فقد شرط الفقهاء لصحتَّه أن يتجرَّدَ مُعْطي الأمان من التُّهمَة، ويَخْلُو ذلك الأمان الممنوح من أيَّة مفسدة(2)، أو يرفع الأمر إلى ولي الأمر ليرى رأيه فيه.
3- مقتل الحويرث بن نقيد بن وهب: في هذا الفتح العظيم، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عهد إلى أمرائه ألا يقاتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه أهدر دمَ نفر سمّاهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم الحويرث بن نقيذ بن وهب، كان ممن يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، ولما تحمل العباس بفاطمة وأم كلثوم، نخس(3) بهما الحويرث الجمل الذي هما عليه فسقطتا على الأرض، فلما أهدر دمه وظفر به علىّ قتله(4).
__________
(1) صحيح السيرة: ص (527).
(2) الجهاد والقتال في السياسة الشرعية (3/1051).
(3) نخس الدابة: هيجها.
(4) فتح الباري (8/11)، السيرة النبوية لابن هشام (4/58، 59).(1/162)
4- علي رضي الله عنه في مهمة إصلاحية:أرسله الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى بنى جذيمة، ليتلافى خطأ خالد بن الوليد في قتل بعضهم، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعث خالدًا في السنة الثامنة للهجرة عقب فتح مكة، إلى بنى جذيمة يدعوهم إلى الإسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، وقالوا: صبأنا، فأخذ خالد يقتل منهم ويأسر.. فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما صنع خالد، رفع يديه فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع، مرتين(1)، فبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليًا إليهم، لينظر في أمرهم وبعث معه بمال، فقام علىّ بمهمته خير قيام، فودى قتيلهم وعوضهم عما أصيب في الدماء والأموال حتى أنه ليدي ميلغة(2) الكلب، ولما انتهى من ذلك كله، سألهم: هل بقى لكم بقية من دم أو مال لم يود إليكم؟ قالوا: لا، قال: فإني أعطيكم هذه البقية من هذا المال، إحتياطًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما لايعلم ولا تعلمون، ففعل، ولما رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بالخبر قال: «أصبت وأحسنت»(3). وبهذه المهمة الجليلة الموفقة، أزال على - رضي الله عنه- همًّا وحملاً أثقل الرسول - صلى الله عليه وسلم -(4)، وبهذا الهدى النبوي الحكيم واسى النبي- صلى الله عليه وسلم - بنى جذيمة، وأزال ما في نفوسهم من أسى وحزن(5)، وكان قتل خالد لبنى جذيمة تأولاً منه واجتهادًا خاطئًا، وذلك بدليل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعاقبه على فعله(6) ، ولم يعزله.
__________
(1) البخاري رقم (4339).
(2) ميلغة: اسم آلة، والفعل «يلغ» بمعنى يشرب.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (4/72، 73)، إسناده ضعيف وله شواهد.
(4) خلافة على بن أبى طالب: ص (46).
(5) السيرة النبوية لأبى شهبة (3/465).
(6) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية: ص(579).(1/163)
5- على رضي الله عنه في غزوة حنين: من أعماله الجهادية التي تتسم بالشجاعة وتدل على الخبرة في القتال ما كان في غزوة حنين في العام الثامن من الهجرة، فقد ثبت مع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع من ثبت معه من المهاجرين والأنصار، وكان في جيش هوازن رجل على جمل أحمر بيده راية سوداء، إذا أدرك طعن برمحه، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه، فأدرك على بعبقريته الحربية، وتجربته الطويلة، أن لهذا الرجل عاملاً مؤثرًا في حماس هوازن وشدتها، فاتجه على بن أبى طالب- رضي الله عنه – ورجل من الأنصار نحوه واستطاعا إسقاطه من على جمله وقتله، فما كانت إلا ساعة حتى انهزموا وولوا الأدبار وانتصر المسلمون(1).
6- سرية علي رضي الله عنه لهدم الصنم الفلس في بلاد طئ:بعد أن طهر النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت الحرام من الأوثان التي كانت فيه، كان لابد من هدم البيوت التي كانت معالم للجاهلية ردحًا طويلاً من الزمن(2)، فكانت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تترى لتطهير الجزيرة منها، فكانت من نصيب على رضي الله عنه صنم الفلس في بلاد طئ، ففي ربيع الآخر خرجت سرية على بن أبى طالب إلى الفلس – صنم لطئ – ليهدمه، وكان تعدادها خمسين ومائة رجل من الأنصار، على مائة بعير وخمسين فرسًا، ومع راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة آل حاتم – حاتم الطائى الذي ضرب المثل بجوده – مع الفجر فهدموا الفلس وخربوه، وملأوا أيديهم من السبى والنعم والشاء،وفي السبى أخت عدى بن حاتم، وهرب عدى إلى الشام(3).
__________
(1) مسند أبى يعلى(3/388) حسن الإسناد، الصحيح المسند: ص (141) للعدوي.
(2) معين السيرة: ص (694).
(3) تاريخ الإسلام للذهبي: ص (624).(1/164)
سابعًا: استخلاف النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي على المدينة في غزوة تبوك 9هـ:كان في رجب سنة تسع من الهجرة غزوة تبوك، وكانت لها أهمية كبيرة في السيرة النبوية، وتحققت منها غايات كانت بعيدة الأثر في نفوس المسلمين والعرب، ومجرى الحوادث في تاريخ الإسلام(1)، واستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المدينة عليًا، فوجد المنافقون فرصة للتنفيس عما بداخلهم من حقد ونفاق، فأخذوا يتكلمون في على رضي الله عنه بما يسئ إليه، فمن ذلك قولهم: ما تركه إلا لثقله عليه، وهذا العمل والقول السيئ منهم في حقه علامة بارزة واضحة على نفاقهم، ففي الحديث الصحيح أن عليًا رضي الله عنه قال: «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق»(2). عند ذلك أدرك على الجيش، وأراد الغزو معهم قائلاً: يا رسول الله أتخلفني في الصبيان والنساء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، غير أنه لا نبي بعدي»(3).
ثامنًا: علي رضي الله عنه ودوره الإعلامي في حجة أبى بكر بالناس 9هـ:
__________
(1) المرتضى للندوي: (55).
(2) مسلم رقم 78.
(3) البخاري رقم 2404.(1/165)
كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - مستمرة على كل الأصعدة والمجالات العقائدية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والعسكرية، والتعبدية، وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، فحجة عام 8هـ بعد الفتح كلف بها عتاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين(1)، فلما حل موسم الحج أراد - صلى الله عليه وسلم - الحج ولكنه قال: إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت (2) ، فلا أحب أن أحج. وكان ذلك في سنة9هـ فخرج أبو بكر ومعه عدد كبير من الصحابة، وساقوا معهم الهدي(3)، فلما خرج الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا رضي الله عنه وأمره أن يلحق بأبى بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء حتى أدرك الصديق أبا بكر بذى الحليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سارا، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانو عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول، فكان يعرف الناس مناسكهم: في وقوفهم وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات.. إلخ، وعلى يخلفه في كل موقف من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة، لا يدخل في الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا(4)، وقد أمر الصديق رهطًا آخر من الصحابة لمساعدة على بن أبى طالب في إنجاز مهمته(5)
__________
(1) السيرة النبوية لأبى شبهة (2/536)، دراسات في عهد البنوة: ص(22).
(2) نضرة النعيم (1/98)، البطقات الكبرى (2/168).
(3) فتح الباري (8/82).
(4) مسند الإمام أحمد الموسوعة الحديثية رقم 594حديث صحيح.
(5) السيرة النبوية لأبى شهبة (2/537).(1/166)
.
إن نزول صدر سورة براءة يمثل مفاصلة نهائية مع الوثنية وأتباعها، حيث منعت حجهم وأعلنت الحرب عليهم(1).
قال تعالى: { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ - فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ - وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:1-3].
وقد أمهل المعاهدون لأجل معلوم منهم إلى انتهاء مدتهم، قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4].
كما أُمهل من لا عهد له من المشركين إلى انسلاخ الأشهر الحرم، حيث يصبحون بعدها في حالة حرب مع المسلمين، قال تعالى: { فَإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:5].
__________
(1) نضرة النعيم (1/399).(1/167)
وقد كلف النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج، مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها، ألا يتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للإسلام، فلذلك تدارك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر وأرسل عليًا بذلك، فهذا هو السبب في تكليف على بتبليغ صدر سورة براءة لا ما زعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة إلى أن عليًا أحق بالخلافة من أبى بكر، وقد علق الدكتور محمد أبو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق: أمير أم مأمور؟ (1) وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير(2)، وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع، لقد أعلن في حجة أبى بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وما على الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، أيقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً، فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد(3).
تاسعًا: علي رضي الله عنه ووفد نصاري نجران، وآية المباهلة 9هـ:
__________
(1) السيرة النبوية لأبى شهبة (2/540)، صحيح السيرة: ص(624).
(2) السيرة النبويةن لأبى شهبة (2/540).
(3) قراءة سياسية للسيرة النبوية: ص (283).(1/168)
كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى نجران(1) كتابًا قال فيه: «أما بعد، فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فإن أبيتم فالجزية. فإن أبيتم آذنتكم بحرب. والسلام»(2) فلما أتى الأسقف الكتاب، جمع الناس وقرأه عليهم، وسألهم عن الرأي فيه؟ فقرروا أن يرسلوا إليه وفدًا يتكون من أربعة عشر من أشرافهم، وقيل: ستين راكبًا، منهم ثلاثة نفر يؤول إليهم أمرهم: العاقب، وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذين يصدرون عن رأيه، والسيد وهو صاحب رحلتهم، وأبو الحارث أسقفهم وحبرهم وصاحب مدارسهم(3)، ولما جاء وفد نصاري نجران إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، وضعوا ثياب السفر عنهم، ولبسوا حللاً لهم يجرونها من الحبرة، وخواتيم الذهب، ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وتصدوا لكلامه طويلاً، فلم يكلمهم، وعليهم تلك الحلل والخواتيم الذهب، فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهما- وكانا على معرفة لهم، كانا يخرجان العير في الجاهلية إلى نجران، فيشتري لهما من برها وثمرها وذرتها، فوجدوهما في ناس من الأنصار في مجلس، فقالوا: يا عثمان، ويا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب، فأقبلنا مجيبين له، فسلمنا عليه، فلم يرد علينا سلامنا، وتصدينا لكلامه نهارًا طويلاً، فأعيانا أن يكلمنا، فما الرأي منكما، أنعود؟
__________
(1) نجران بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن.
(2) البداية والنهاية (5/48).
(3) المصدر نفسه (5/48)، السيرة النبوية لأبى شهبة (2/547).(1/169)
فقالا لعلي بن أبى طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم، ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يأتوا إليه، ففعل الوفد ذلك، فوضعوا حللهم وخواتيمهم، ثم عادوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسلموا عليه، فرد سلامهم، ثم سألهم وسألوه فلم تزل بهم وبه المسألة(1). وقالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:كنا مسلمين قبلكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وزعمكم أن لله ولدًا»(2) وكثر الجدال والحجاج بينه وبينهم، والنبي يتلو عليهم القرآن ويقرع باطلهم بالحجة، وكان مما قالوه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك تشتم صاحبنا وتقول: إنه عبد الله، فقال: «أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول»، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانًا قط من غير أب، فإن كنت صادقًا فأرنا مثله؟ فأنزل الله في الرد عليهم قوله سبحانه: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران: 59، 60]. فكانت حجة دامغة شبه فيها الغريب بما هو أغرب منه(3)، فلما لم تُجد معهم المجادلة بالحكمة والموعظة الحسنة دعاهم إلى المباهلة(4)، امتثالاً لقوله تعالى: { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].
__________
(1) زاد المعاد (3/629- 638).
(2) المصدر نفسه (3/633).
(3) المصدر نفسه (3/633).
(4) السيرة النبوية لأبى شهبة (2/547).(1/170)
وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الحسن والحسين وفاطمة وقال: «وإذا أنا دعوت فأمَّنوا»(1). فائتمروا فيما بينهم، فخافوا الهلاك لعلمهم أنه نبى حقًا، وأنه ما باهل قوم نبيًا إلا هلكوا، فأبوا أن يلاعنوه وقالوا: احكم علينا بما أحببت، فصالحهم على ألفي حلة، ألف في رجب وألف في صفر(2).
عاشرًا: علي رضي الله عنه داعيًا وقاضيًا في اليمن 10هـ:
بعد فتح مكة استجابت القبائل العربية بالجزيرة إلى الإسلام، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرسل الدعاة إلى القبائل التي لم تستجب بعد، فأرسل عليًا رضي الله عنه إلى همدان باليمن، وهذا البراء بن عازب – رضي الله عنه- يحدثنا عما حدث في ذهابه مع على رضي الله عنه لليمن فيقول:..فلما انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر، فجمعوا له، فصلى على بنا الفجر، فلما فرغ، صفنا صفًا واحدًا ثم تقدم بين أيدينا، فحمد الله وأثنى عليه ثم قرأ عليهم كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، وكتب بذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قرأ كتابه خر ساجدًا، وقال: «السلام على همدان، السلام على همدان»(3)، لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصًا على الجبهة الجنوبية للدولة وأن تدخل قبائل اليمن في الإسلام، وظهر هذا الاهتمام في النتائج الباهرة التي حققتها الدعوة في كثرة عدد الوفود التي كانت تنساب من كل أطراف اليمن متجهة إلى المدينة، مما يدل على أن نشاط المبعوثين إلى اليمن كان متصلاً وبعيد المدى، وكانت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تساند هذا النشاط الدعوي السلمى، حيث بعث خالد بن الوليد ثم على بن أبى طالب رضي الله عنهما، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يركز على مفاصل القوى، ومراكز التأثير في المجتمعات وبناء الدول ومارس هذا الفقه العظيم في حياته(4).
__________
(1) السيرة النبوية لأبى شهبة (2/547).
(2) السيرة النبوية لأبى شهبة (2/547).
(3) زاد المعاد (3/622) إسناده صحيح.
(4) السيرة النبوية للصلابي (3/596)، الفقه السياسي للوثائق: ص(231).(1/171)
هذا وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا بأن يقضي بين الناس في اليمن، وهذا على رضي الله عنه يحدثنا بنفسه حيث قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقلت له: يا رسول الله تبعثني إلى قوم أسن مني وأنا حدث لا أبصر القضاء، قال: فوضع يده على صدري، وقال: «اللهم ثبت لسانه واهد قلبه، يا على إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع الآخر، ما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء»، قال: فما اختلف على قضاء بعد، أو ما أشكل على قضاء بعد(1).
لقد احتاج اليمنيون بعد انتشار الإسلام في بلادهم من يفقههم في أمور دينهم، ويعلمهم ويقضي بينهم بحكم الله عز وجل، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عددًا من الصحابة إلى أرجاء اليمن منهم معاذ وأبو موسى الأشعري، وكان من أفضلهم على بن أبى طالب رضي الله عنه، وقد حفظت لنا كتب التاريخ والحديث والفقه مجموعة من القضايا التي حكم فيها على رضي الله عنه وهو باليمن منها:
__________
(1) فضائل الصحابة (2/871) إسناده حسن رقم 1995.(1/172)
1- قضاؤه في الأربعة الذين تدافعوا عند زُبية(1) للأسد:عن حنش عن على رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن فانتهينا إلى قوم قد بنوا زُبْيَة(2) للأسد، فبينما هم كذلك يتدافعون؛ إذا سقط رجل فتعلق بآخر، ثم تعلق رجل بآخر، (3) حتى صاروا فيه أربعة فَجَرحَهم الأسد؟، فانتدب له رجل بِحَربْة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم، فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتتلوا، فأتاهم على على تفيئة(4) ذلك، فقال: تريدون أن تقاتلوا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي، إني أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء، وإلا حجز بعضكم عن بعض، حتى تأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فيكون هو الذي يقضي بينكم، فمن عَدا بعد ذلك فلا حق له، اجمعوا من قبائل الذين حفروا البئر ربع الدية وثلث الدية ونصف الدية والدية كاملة، فللأول الربع لأنه أهلك من فوقه، وللثاني ثلث الدية، وللثالث نصف الدية، وللرابع الدية كاملة فأبوا أن يرضوا، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عند مقام إبراهيم فقصُّوا عليه القصة، فقال: أنا أقضي بينكم واحتبي، فقال رجل من القوم: إن عليًا قضى فقصَّوا عليه فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(5).
__________
(1) الزبية: حفرة تحفر للأسد، ولا تحفر إلا في مكان عال من الأرض.
(2) الحفرة في الأرض: القاموس (4/340)، تاج العروس (1016).
(3) فضائل الصحابة (2/900) رقم 1239إسناده حسن.
(4) تفيئة ذلك: أي أثره، النهاية (3/483).
(5) فضائل الصحابة رقم 1239إسناده صحيح.(1/173)
2- ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر: عن زيد بن الأرقم أنه قال: أتى على بثلاثة وهو باليمن وقعوا على امرأة في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟ قالا: لا حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين، قالا: لا، فأقرع بينهم، فألحق الولد بالذي صارت عليه القرعة، وجعل عليه ثلثى الدية(1)، قال: فذكر ذلك لنبي الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك حتى بدت نواجذه(2)، وكان ضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحًا وسرورًا بتوفيق الله تعالى عليًا للصواب.
ولذلك أقره على ذلك(3)، ويحتمل أن ما حصل من أولئك النفر إنما كان قبل إسلامهم، لأن فعلهم محرم في دين الله تعالى(4).
الحادي عشر: علي رضي الله عنه في حجة الوداع:
__________
(1) منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله: ص(87).
(2) نواجذه: جمع ناجذ: آخر الأضراس، وللإنسان أربعة نواجذ، وهناك رواية أخرى في فضائل الصحابة رقم 1095إسناده حسن لغيره.
(3) سنن النسائي (66/182) حاشية السندي.
(4) منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله: ص(88).(1/174)
أدرك علىّ رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، ونحر رسول الله ثلاثًا وستين بدنة بيده، وكان عدد هذا الذي نحره عدد سنىَّ عمره، ثم أمسك، وأمر عليًا أن ينحر ما بقى من المائة، ففعل وأكمل العدد، وقد وصف لنا على رضي الله عنه بعض المناسك في حجته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن على بن أبى طالب رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقف بعرفة وهو مُردف أسامة بن زيد، فقال: «هذا الموقف وكل عرفة موقف»، ثم دفع يسير العَنَقَ، وجعل الناس يضربون يمينًا وشمالاً، وهو يلتفت ويقول: «السكينة أيها الناس، السكينة أيها الناس» حتى جاء المزدلفة، وجمع بين الصلاتين، ثم وقف بالمزدلفة، فوقف على قُزَحَ، وأردف الفضل بن العباس، وقال: «هذا الموقف، وكل المزدلفة موقف»ثم دفع وجعل يسير العَنَقَ، والناس يضربون يمينًا وشمالاً، وهو يلتفت ويقول: «السَّكينة، السَّكينة، أيها الناس» حتى جاء مُحسرًا فقرع راحلته فخبَّت، حتى خرج، ثم عاد لسَيْره الأول، حتى رمى الجمرة، ثم جاء المنَحْر فقال: هذا المنحر، وكلُّ منى منَحْر، ثم جاءت امرأة شابة من خَثعَمَ، فقالت، إن أبى شيخ كبير، وقد أفند، وأدركته فريضة الله في الحج، ولا يستطيع أداءها، فُيجزئ عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، وجعل يصرف وجه الفضل بن العباس عنها. ثم أتاه رجل آخر، فقال: إني رميت الجمرة وأفضت ولبستُ ولم أحلق. قال: فلا حرج، فاحلْق.ثم أتاه رجل آخر، فقال: إني رميت وحلقت ولبست ولم أنحر. فقال: لا حرج فانحر. ثم أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعا بسَجْل من ماء زمزم، فشرب منه وتوضأ، ثم قال: انزعوا(1) يا بنى عبد المطلب، فلولا أن تُغْلَبوا عليها لَنَزَعْتُ.قال العباس: يا رسول الله، إني رأيتك تصرف وجه ابن أخيك؟ قال:
__________
(1) المرتضى للندوي ص 57، وقد جاء في رواية البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبع بدن بيده قيامًا رقم 1712، وكلف عليًا بالإشراف على قسمتها وهي مائة رقم 1718. النزع: استخراج الماء من زمزم لسقي الحجيج.(1/175)
إني رأيت غلامًا شابًا، وجارية شابة فخشيت عليهما الشيطان(1).وقد كان على رضي الله عنه يعلن على الناس ما أمره به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عمرو بن سليم عن أمه قالت: بينما نحن بمنى إذا على بن أبى طالب رضي الله عنه يقول: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن هذه أيام أكل وشرب، فلا يصومها أحد»، واتّبع الناس على جمله يصرخ بذلك(2).
الثاني عشر: تشرفه بغسل النبي - صلى الله عليه وسلم - ودفنه:
لما توفى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على ممن باشر غسله مع الفضل بن العباس وأسامة بن زيد(3). وقال على رضي الله عنه: غسلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا وكان طيبًا حيًا وميتًا(4)، وقال: بأبى الطيب، طبت حيًا وطبت ميتًا(5)، وكان على رضي الله عنه من ضمن من نزل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وباشروا دفنه هو والفضل بن عباس، وقثم بن عباس، وشقران مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6)، لقد كان نبأ وقاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الصحابة الكرام كالصاعقه لشدة حبهم له وما تعودّوه من العيش في كنفه، عيش الأبناء في حجر الآباء بل أكثر من ذلك، وكان حظ أهل البيت والأسرة الهاشمية – وعلى رأسها فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى بن أبى طالب – أوفر وأكثر بطبيعة الحال، وبحكم الفطرة السليمة والقرابة القريبة، وما يمتازون به من رقة الشعور، وقوة العاطفة، وشدة الحب ولكن احتملوه بقوة إيمانهم والرضا بقضاء الله والاستسلام لأمره(7).
الثالث عشر: قصة الكتاب الذي همّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتابته في مرض موته:
__________
(1) مسند أحمد (2/9) الموسوعة الحديثية رقم 564إسناده حسن.
(2) الموسوعة الحديثية رقم 567إسناده صحيح.
(3) أبو داود (3/213) عن الشعبي مرسلاً رقم 3209صححه الألباني في أحكام الجنائز: ص(51).
(4) سنن ابن ماجة (1/362) رقم 1467 صححه الألباني في أحكام الجنائز: ص (50).
(5) السيرة النبوية لابن هشام (4/321).
(6) المصدر نفسه (4/321).
(7) المرتضى للندوي: ص (59).(1/176)
ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه قال: لما حُضر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي البيت رجال فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:«هلموا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده»، فقال بعضهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا. قال عبد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب الكتاب لاختلافهم ولغطهم(1)، وفي رواية أخرى عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا، فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي نزاع، فقالوا: ما شأنه؟ أهجر، استفهموه، فذهبوا يرددون عليه فقال: دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصاهم بثلاث، قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم،وسكت عن الثالث، أو قال: فنسيها(2)، وليس فيما ثبت في هذا الحديث ورواياته الصحيحة أي مطعن على أصحاب رسول الله، وأما ما ذكره الروافض من مطاعن فباطلة معلومة الفساد، وقد أجاب العلماء قديمًا عن بعضها ومن هذه الردود:
__________
(1) البخاري رقم 4432.
(2) البخاري رقم 4431.(1/177)
1- اختلاف الصحابة ثابت، وكان سببه اختلافهم في فهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومراده لا عصيانه، قال القرطبي صاحب المفهم: وسبب ذلك كله إنما حمل عليه الاجتهاد المسوغ، والقصد الصالح، وكل مجتهد مصيب، أو أحدهما مصيب، والآخر غير مأثوم بل مأجور كما قررناه في الأصول(1)، ثم ذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعنفهم ولا ذمهم بل قال للجميع: دعوني فالذي أنا فيه خير (2)، وهو نحو ما جرى لهم يوم الأحزاب حيث قال لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يصلين أحد العصر إلا في بنى قريظة»(3)، فتخوف ناس فوات الوقت،؟ فصلوا دون بنى قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله فما عنف أحد الفريقين(4).
__________
(1) المفهم لما أشكل، تلخيص كتاب مسلم (4/559).
(2) البخاري رقم 4431.
(3) البخاري رقم 4119.
(4) المفهم (4/559).(1/178)
2- وأما ما ادعاه الروافض من أن اختلاف الصحابة وما ترتب عليه من عدم كتابة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم ذلك الكتاب هو الذي حرم الأمة من العصمة، فهذا باطل لأنه يعني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ترك تبليغ ما فيه عصمتها من الضلال، ولم يبلغ شرع ربه لمجرد اختلاف أصحابه عنده حتى مات على ذلك، وأنه بهذا مخالف لأمر ربه في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]. وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبرأ من ذلك ومنزهًا بتزكية ربه له في قوله: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، فوصفه بالحرص على أمته، أي على هدايتهم، ووصول النفع الدنيوى والأخروى لهم، ذكره ابن كثير في تفسيره(1)، وإذا كان هذا الأمر معلومًا بالاضطرار من دين الإسلام عند الخاص والعام، لا يشك فيه من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، وأن هذا الرسول الكريم قد بلغ كل ما أمر به، وكان أحرص ما يكون على أمته، بما هو متواتر من جهاده وتضحيته، وأخباره الدالة على ذلك، علمنا علمًا يقينًا لا يشوبه أدنى شك، أنه لو كان الأمر كما يذكر الروافض من الوصف لهذا الكتاب من أن به عصمة الأمة من الضلال في دينها، ورفع الفرقة، والاختلاف فيما بينها إلى أن تقوم الساعة، لما ساغ في دين ولا عقل أن يؤخر رسول الله كتابه إلى ذلك الوقت الضيق، ولو أخره ما كان ليتركه لمجرد اختلاف أصحابه(2)، ولا يتصور أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك أمر ربه، ولو قدر أنه تركه في ذلك الوقت لتنازعهم عنده لمصلحة رآها، فما الذي يمنعه من أن يكتبه بعد ذلك، وقد ثبت أنه عاش بعد ذلك عدة أيام، فقد كانت وفاته – عليه
__________
(1) تفسير ابن كثير (2/404).
(2) مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص (251)، الانتصار للصحب والآل ص (228- 229).(1/179)
الصلاة والسلام – يوم الاثنين على ما جاء مصرحًا به في رواية أنس في الصحيحين(1)، وحادثة الكتاب يوم الخميس بالاتفاق(2)، وقد ثبت باتفاق السنة والرافضة، أن رسول الله لم يكتب ذلك الكتاب حتى مات، علمنا أنه ليس من الدين الذي أمر بتبليغه لما دل عليه القرآن من أن الله قد أكمل له ولأمته الدين، فأنزل عليه قبل ذلك في حجة الوداع: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3]، قال ابن تيمية: ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، إذ لو كان كذلك لما ترك - صلى الله عليه وسلم - ما أمره الله به، لكن ذلك مما رأه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبى بكر، ورأى أن الخلاف لابد أن يقع(3)، وقال في موضع آخر: وأما قصة الكتاب الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يكتبه، فقد جاء مبينًا كما في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنه- قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(4)، إلى أن قال بعد ذكر روايات الحديث: والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة، فلما رأى أن الشك قد وقع، علم أن الكتاب لا يرفع الشك، فلم يبق فيه فائدة، وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال: ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر(5).وأما قوله في الحديث: «لن تضلوا بعدي» فيقول الدهلوى في توجيهه: فإن قيل: لو لم يكن ما يكتب أمرًا دينيًا فلم قال: لن تضلوا بعدي؟قلنا: للضلال معان، والمراد به هنا عدم الخطأ في تدبير الملك، وهو إخراج المشركين من جزيرة العرب، وإجازة الوفد بنحو ما كان يجيزه، وتجهيز أسامة،
__________
(1) البخاري رقم (4448)، ومسلم رقم (419).
(2) الانتصار للصحب والآل: ص (229).
(3) منهاج السنة (6/316).
(4) مسلم رقم (2387).
(5) منهاج السنة (6/23، 25).(1/180)
لا الضلالة والغواية عن الدين وهو ما فعله أبو بكر والصحابة من بعده(1).
3- وأما معنى قول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب(2)، فكما قال ابن تيمية في معناه: يقتضي أن الحائل كان رزية، وهو رزية في حق من شك في خلافة الصديق، واشتبه عليه الأمر، فإنه لو كان هناك كتاب لزال الشك، فأما من علم أن خلافته حق فلا رزية في حقه ولله الحمد(3).
ويوضح ذلك أن ابن عباس – رضي الله عنه – ما قال ذلك إلا بعد ظهور أهل الأهواء والبدع، من الخوارج والروافض، نص على هذا ابن تيمية(4)، وابن حجر(5).
4- وأما ادعاؤهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد بذلك الكتاب أن ينص على خلافة على – رضي الله عنه – وزعم بعض الروافض أنه ليس هناك تفسير معقول غيره، فهذا الادعاء باطل.
قال ابن تيمية: ومن توهم أن هذا الكتاب كان بخلافة على فهو ضال باتفاق عامة الناس، من علماء السنة والشيعة، أما أهل السنة فمتفقون على تفضيل أبى بكر وتقديمه، وأما القائلون بأن عليًا كان مستحقًا للإمامة فيقولون: إنه قد نص على إمامته قبل ذلك نصًا جليًا ظاهرًا معروفًا، وحينئذ فلم يكن يحتاج إلى الكتاب(6).
__________
(1) مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص (251).
(2) البخاري رقم (4432).
(3) منهاج السنة (6/25).
(4) المصدر السابق (6/316).
(5) فتح الباري (1/209).
(6) منهاج السنة (6/25)، الانتصار للصحب والآل: ص (281، 282، 283).(1/181)
5- وأما طعن الروافض على عمر – رضي الله عنه – وزعمهم بأنه قد اتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنه لا يعى ما يقول: وقال: «إنه يهجر» ولم يمتثل قوله، قال: «عندكم كتاب الله»، «حسبنا كتاب الله» فجوابه: أن ما ادعاه أولاً بأن عمر اتهم رسول الله بالهجر وأنه لا يعى ما يقول فهذا باطل، وذلك أن هذه اللفظة (أهجر) لا تثبت عن عمر – رضي الله عنه – أصلاً، وإنما قالها بعض من حضر الحادثة من غير أن تعين الروايات الواردة في الصحيحين قائلها، وإنما الثابت فيها«فقالوا: ما شأنه أهجر»(1)، هكذا بصيغة الجمع دون الإفراد، ولهذا أنكر بعض العلماء أن تكون هذه اللفظة من كلام عمر، قال ابن حجر: ويظهر لي ترجيح ثالث الاحتمالات، التي ذكرها القرطبي، ويكون قائل ذلك بعض من قرب دخوله في الإسلام، وكان يعهد أن من اشتد عليه الوجع، قد يشتغل به عن تحرير ما يريد(2)، وقال الدهلوى: من أين يثبت قائل هذا القول هو عمر مع أنه وقع في أكثر الروايات (قالوا) بصيغة الجمع(3).
__________
(1) البخاري رقم (4431).
(2) فتح الباري (8/133).
(3) مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص (250).(1/182)
إن الثابت الصحيح من هذه اللفظة أنها وردت بصيغة الإستفهام هكذا(أهجر؟) وهذا بخلاف ما جاء في بعض الروايات بلفظ (هجر، ويهجر) فإنه مرجوح على ما حقق ذلك المحدثون وشراح الحديث، منهم القاضي عياض(1)، والقرطبي(2)، والنووي(3)، وابن حجر(4)، فقد نصوا أن الاستفهام جاء في سبيل الإنكار على من قال: لا تكتبوا(5)، قال القرطبي بعد أن ذكر الأدلة على عصمة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخطأ في التبليغ في كل أحواله، وتقرر ذلك عند الصحابة، وعلى هذا يستحيل أن يكون قولهم (أهجر)، لشك عرض لهم في صحة قوله، زمن مرضه، وإنما كان ذلك من بعضهم على وجه الإنكار على من توقف في إحضار الكتف والدواة، وتلكأ عنه، فكأنه يقول لمن توقف: كيف تتوقف؟ أتظن أنه قال هذيانًا؟ فدع التوقف وقرب الكتف، فإنه يقول الحق لا الهجر، وهذا أحسن ما يحمل عليه(6)، وهذا يدل على اتفاق الصحابة على استحالة الهجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن قائليها أوردوها على سبيل الإنكار الملزم، الذي لا يشك في المخالف، وبه تبطل دعوى الروافض من أصلها(7).
__________
(1) الشفا (2/886).
(2) المفهم (4/559).
(3) شرح صحيح مسلم (11/93).
(4) فتح الباري (8/133).
(5) الانتصار للصحب والآل: ص (228).
(6) المفهم (4/559).
(7) الانتصار للصحب ولآل: ص (28)،وهذا المرجع من أحسن ما أطلعت عليه في الرد على هذه الشبهة.(1/183)
6- أما ادعاؤهم من معارضة عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: عندكم كتاب الله، حسبنا كتاب الله، وأنه لم يمتثل أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أراد من كتابة الكتاب، فالرد على هذه الشبهة الواهية، أن عمر – رضي الله عنه – ومن كان على رأيه من الصحابة، ظهر لهم أن أمر الرسول بكتابة الكتاب ليس على الوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الأصلح، وقد نبه على هذا القاضي عياض(1)، والقرطبي(2)، والنووي(3) وابن حجر(4)، ثم إنه قد ثبت بعد هذا صحة اجتهاد عمر – رضي الله عنه – وذلك بترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتابة الكتب، ولو كان واجبًا لم يتركه لاختلافهم، لأنه لم يترك التبليغ لمخالفة من خالف، ولهذا عد هذا من موافقات عمر(5)، كما أن قول عمر – رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله، رد على من نازعه لا على أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ظاهر من قوله: عندكم كتاب الله، فإن المخاطب جمع، وهم المخالفون لعمر – رضي الله عنه – في رأيه، كما أن عمر – رضي الله عنه – كان بعيد النظر، ثاقب البصيرة، سديد الرأي، وقد رأى أن الأولى ترك كتابة الكتاب، بعد أن تقرر عنده أن الأمر به ليس على الوجوب، وذلك لمصلحة شرعية راجحة للعلماء في توجيهها، أقول: منها شفقته على رسول الله مما يلحقه من كتابة الكتاب مع شدة المرض، ويشهد لهذا قوله: إن رسول الله قد غلبه الوجع، فكره أن يتكلف رسول الله ما يشق ويثقل عليه(6)، مع استحضار قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام:38]. وقوله تعالى: { تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89].
__________
(1) الشفا (2/887).
(2) المفهم (2/559).
(3) شرح النووي (11/91).
(4) فتح الباري (1/209).
(5) فتح الباري (1/209).
(6) الشفا (2/888).(1/184)
قال النووي: وأما كلام عمر- رضي الله عنه - فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث، على أنه من دلائل فقه عمر، وفضائله ودقيق نظره(1).
كما أن عمر - رضي الله عنه - كان مجتهدًا في موقفه من كتابة الكتاب، والمجتهد في الدين معذور على كل، بل مأجور لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر»(2)، فكيف وقد كان اجتهاد عمر بحضور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يؤثمه ولم يذمه به، بل وافقه على ما أراد من ترك الكتاب، وبهذا يظهر بطلان طعن الروافض على الصحابة في هذه الحادثة، وينكشف زيف ما قالوه في حقهم(3).
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (11/90)، الانتصار للصحب والآل: ص (289، 290، 291، 292).
(2) البخاري رقم (7352).
(3) الانتصار للصحب والآل: ص (294، 295).(1/185)
الفصل الثاني : علي بن أبى طالب رضي الله عنه في عهد الخلفاء الراشدين
المبحث الأول : علي بن أبى طالب رضي الله عنه في عهد الصديق
أولاً: مبايعة علي لأبى بكر بالخلافة رضي الله عنهما:
وردت أخبار كثيرة في شأن تأخر علي عن مبايعة الصديق، وكذا تأخر الزبير بن العوام، وجُلّ هذه الأخبار ليست بصحيحة، وقد جاءت روايات صحيحة السند تفيد بأن عليًا والزبير - رضي الله عنهما- بايعا الصديق في أول الأمر، فعن أبى سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: لما توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام خطباء الأنصار..فذكر بيعة السقيفة(1)، ثم قال: ثم انطلقوا فلما قعد أبو بكر على المنبر نظر في وجوه القوم فلم ير عليًا، فسأل عنه، فقام أناس من الأنصار، فأتوا به، فقال أبو بكر: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وختنه أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبايعه، ثم لم ير الزبير بن العوام، فسأل عنه حتى جاءوا به، فقال: ابن عمّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين، فقال مثل قوله: لا تثريب يا خليفة رسول الله فبايعاه(2). ومما يدل على أهمية حديث أبى سعيد الخدري الصحيح أن الإمام مسلم بن الحجاج صاحب الجامع الصحيح- الذي هو أصح الكتب الحديثية بعد صحيح البخاري - ذهب إلى شيخة الحافظ محمد بن إسحاق بن خزيمة - صاحب صحيح ابن خزيمة- فسأله عن هذا الحديث، فكتب له ابن خزيمة الحديث، وقرأه عليه، فقال مسلم لشيخه ابن خزيمة: هذا الحديث يساوى بدنة، فقال ابن خزيمة: هذا الحديث لا يساوى بدنة(3) فقط، إنه يساوى بدرة مال(4)، وعلق على هذا الحديث ابن كثير - رحمه الله - فقال: هذا إسناد صحيح محفوظ، وفيه فائدة جليلة، وهي مبايعة على بن أبى طالب، إما في أول يوم، أو في الثاني من الوفاة، وهذان حق، فإن على بن أبى طالب لم يفارق الصديق في
__________
(1) مجمع الزوائد (5/183) رجاله رجال الصحبيح (البداية والنهاية 5/281)، قال بن كثير: هذا إسناد صحيح محفوظ.
(2) المستدرك (3/76)، السنن الكبرى (8/143) بإسنادين صحيحين.
(3) البدنة: ناقة أو بقرة تنحر بمكة ولعظمها وضخامتها سميت بدنة.
(4) البدرة: كيس فيه ألف أو عشرة آلاف دينار، والمعنى: أنه كنز ثمين.(1/186)
وقت من الأوقات، ولم ينقطع عن صلاة من الصلوات خلفه(1)، وفي رواية حبيب بن أبى ثابت، حيث قال: كان على بن أبى طالب في بيته، فأتاه رجل، فقال له: قد جلس أبو بكر للبيعة، فخرج علىّ إلى المسجد في قميص له، ما عليه إزار ولا رداء، وهو متعجَّل، كراهة أن يبطئ عن البيعة، فبايع أبا بكر، ثم جلس، وبعث إلى ردائه فجاءوه به، فلبسه فوق قميصه(2). وقد سأل عمرو بن حريث سيعد بن زيد، رضي الله عنه، فقال له: متى بويع أبو بكر؟ قال سعيد: يوم مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كره المسلمون أن يبقوا بعض يوم، وليسوا في جماعة.
قال: هل خالف أحد أبا بكر؟ قال سعيد: لا. لم يخالف إلا مرتد، أو كاد أن يرتد، وقد أنقذ الله الأنصار، فجمعهم عليه وبايعوه. قال: هل قعد أحد من المهاجرين عن بيتعه؟ قال سعيد: لا لقد تتابع المهاجرون على بيعته(3)، وكان مما قال على – رضي الله عنه – لابن الكواء وقيس بن عباد حينما قدم البصرة وسألاه عن مسيره قال: «لو كان عندي من
__________
(1) البداية والنهاية (5/239).
(2) الطبري (3/207) والأثر مرسل وفي الإسناد سيف بن عمر متروك، وعبد العزيز بن سياه صدوق يتشيع، التقريب (357).
(3) تاريخ الطبري (3/207) إسناد الخبر ضعيف، أنظر خلافة أبى بكر الصديق، عبد العزيز سليمان: ص(66).(1/187)
النبي - صلى الله عليه وسلم - عند في ذلك ما تركت أخا بنى تيم بن مرة وعمر بن الخطاب يقومان على منبره ولقاتلتهما ولو لم أجد إلا بردى هذا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل قتلاً ولم يمت فجأة، مكث في مرضه أيامًا وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلى بالناس، وهو يرى مكاني، ولقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبى بكر فأبى وغضب وقال: «أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل بالناس» فلما قبض الله نبيه ونظرنا في أمورنا، فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله، وكانت الصلاة أصل الإسلام، وهي أعظم الأمور وقوام الدين، فبايعنا أبو بكر، وكان لذلك أهلاً، ولم يختلف عليه منا اثنان، ولم يشهد بعضنا على بعض، ولم نقطع منه البراءة، فأديت إلى أبى بكر حقه وعرفت له طاعته وغزوت معه في جنوده، وكنت آخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأضرب بين يديه الحدود بسوطى(1).
__________
(1) تاريخ الإسلام، عهد الخلافة الراشدة: ص (389) إسناده ضعيف خلافة أبي بكر الصديق، عبد العزيز سليمان: ص (65).(1/188)
وكان مما قال في خطبته على منبر الكوفة في ثنائه على أبى بكر وعمر: «فأعطي المسلمون البيعة طائعين، فكان أول من سبق في ذلك من ولد عبد المطلب أنا»(1)، وجاءت روايات أشارت إلى مبايعة على لأبى بكر- رضي الله عنهما – في أول الأمر وإن لم تصرح بذلك، فعن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ثم قام أبو بكر فخطب الناس، واعتذر إليهم وقال: «والله ما كنت حريصًا على الإمارة يومًا ولا ليلة قط، ولا كنت فيها راغبًا، ولا سألتها الله عز وجل في سر ولا علانية، ولكنى أشفقت من الفتنة، وما لي في الإمارة من راحة، ولكن قلدت أمرًا عظيمًا ما لي به من طاقة ولابد إلا بتقوية الله عز وجل، ولوددت أن أقوى الناس عليها مكاني اليوم»، فقل المهاجرون منه ما قال، وما اعتذر به. قال على رضي الله عنه والزبير: «ما غضبنا إلا لأنا قد أخرنا عن المشاورة، وأنا نرى أبا بكر أحق الناس بها بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إنه لصاحب الغار، وثاني اثنين، وإنا لنعلم بشرفه، وكبره، ولقد أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة بالناس وهو حي»(2). وعن قيس العبدي قال: «شهدت خطبة على يوم البصرة قال: فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عالج من الناس، ثم قبضه الله عز وجل إليه، ثم رأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر- رضي الله عنه – فبايعوا وعاهدوا وسلموا، وبايعت وعاهدت وسلمت، ورضوا ورضيت، وفعل من الخير وجاهد حتى قبضه الله عز وجل، رحمة الله عليه»(3).
__________
(1) أسد الغابة (4/166، 167) خلافة أبي بكر: ص(66).
(2) البداية والنهاية (6/341) إسناده جيد، خلافة أبي بكر: ص (67).
(3) السنة، عبد الله بن أحمد (2/563) رجال الإسناد ثقات.(1/189)
إن عليًا رضي الله عنه لم يفارق الصديق في وقت من الأوقات ولم ينقطع عنه في جماعة من الجماعات، وكان يشاركه في المشورة، وفي تدبير أمور المسلمين. ويرى ابن كثير ومجموعة من أهل العلم أن عليًا جدد بيعته بعد ستة أشهر من البيعة الأولى أي بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، وجاءت في هذه البيعة روايات صحيحة(1). ولكن لما وقعت البيعة الثانية اعتقد بعض الرواة أن عليًا لم يبايع قبلها، فنفى ذلك والمثبت مقدم على النافي(2).
وهناك كتاب اسمه «الإمام على جدل الحقيقة والمسلمين الوصية والشورى» لمحمود محمد العلى زعم صاحبه بأنه يبحث وينشد الحقيقة، ولكن صاحبه لم يتخلص من المنهج الشيعي الرافضي في الطرح ووضع السمّ في العسل، ولذلك وجب التنبيه، وقد تعرض لبيعة على رضي الله عنه، وزعم بأن أحقية على رضي الله عنه بالخلافة قائمة على الوصية.
ثانيًا: علي رضي الله عنه ومساندته لأبى بكر في حروب الردة:
__________
(1) البداية والنهاية (5/49).
(2) البداية والنهاية (5/49).(1/190)
كان علي رضي الله عنه لأبى بكر رضي الله عنه عيبة(1) نصح له، مرجحًا لما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين على أي شيء آخر، ومن الدلائل الساطعة على إخلاصه لأبى بكر ونصحه للإسلام والمسلمين وحرصه على الاحتفاظ ببقاء الخلافة واجتماع شمل المسلمين ما جاء من موقفه من توجه أبى بكر رضي الله عنه بنفسه إلى ذي القصة، وعزمه على محاربة المرتدين، وقيادته للتحركات العسكرية ضدهم بنفسه، وما كان في ذلك من مخاطرة وخطر على الوجود الإسلامي(2)، فعن ابن عمر، رضي الله عنه يقول: «أقول لك ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد: لم سيفك ولا تفجعنا بنفسك، وارجع إلى المدينة، فوالله لئن فجعنا بك لا يكون للإسلام نظام أبدًا»، فرجع(3) فلو كان على رضي الله عنه – أعاذه الله من ذلك – لم ينشرح صدره لأبى بكر وقد بايعه على رغمًا من نفسه، فقد كانت هذه فرصة ذهبية ينتهزها على، فيترك أبا بكر وشأنه، لعله يحدث به حدث فيستريح منه ويصفو الجو له، وإذا كان فوق ذلك – حشاه الله – من كراهته له، وحرصه على التخلص منه، أغرى به أحدًا يغتاله، كما يفعل الرجال السياسيون بمنافسيهم وأعدائهم(4)، وقد كان رأي علي رضي الله عنه مقاتلة المرتدين، وقال لأبى بكر لما قال لعلي: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول: إنك إن تركت شيئًا مما كان أخذه منهم رسول الله فأنت على خلاف سنة الرسول، فقال: أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً(5).
ثالثًا: تقديم علي رضي الله عنه لأبى بكر:
تواترت الأخبار عن على رضي الله عنه في تفضيله وتقديمه لأبى بكر رضي الله عنه، فمن ذلك:
__________
(1) العيبة: وعاء من خوص ونحوه ينقل فيه الزرع المحصود إلى الجرين، ووعاء من أدم ونحوه يكون فيه المتاع.
(2) المرتضى للندوي: ص (97).
(3) البداية والنهاية (6/314، 315).
(4) المرتضى للندوى: ص(97).
(5) المختصر من كتب الموافقة بين أهل البيت والصحابة للزمخشرى: ص (48)، الرياض النضرة: ص (670).(1/191)
1- عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبى: أي الناس خير بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين(1).
2- عن على رضي الله عنه قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر. ثم قال: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبى بكر: عمر(2).
3- عن أبى وائل شقيق بن سلمة قال:قيل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا تستخلف علينا؟ قال: ما استخلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأستخلف، ولكن إن يرد الله بالناس خيرًا فسيجمعهم بعدي على خيرهم، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم(3).
4- وقال علي رضي الله عنه:لا يفضلنى أحد على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى(4).
5- قول علي لأبى سفيان رضي الله عنهما:إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.
وهناك آثار يستأنس بها في إيضاح العلاقة الطيبة بين على وأبى بكر منها:
(أ) عن عقبة بن الحارث قال:خرجت مع أبى بكر الصديق من صلاة العصر بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بليال وعلى يمشى إلى جنبه، فمر بحسن بن على يلعب مع غلمان، فاحتملهن على رقبته وهو يقول:
بأبى يشبه النبي ... ليس شبيهًا بعلي
قال: وعلى يضحك(5).
__________
(1) البخاري.
(2) مسند أحمد (1/106، 110، 127) صحح أحمد شاكر معظم طرق الأحاديث.
(3) المستدرك (3/79) صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4) فضائل الصحابة (1/83) في سنده ضعف.
(5) مسند أحمد (1/170) إسناده صحيح تحقيق أحمد شاكر.(1/192)
(ب) وعن على رضي الله عنه قال: «من فارق الجماعة شبرًا، فقد نزع ربقة الإسلام من عنقه(1)» فهل كان على يفعل ذلك؟ كان رضي الله عنه يكره الاختلاف ويحرص على الجماعة. قال القرطبي: من تأمل ما دار بين أبى بكر وعلى من المعاتبة ومن الاعتذار، وما تضمن ذلك من الاتفاق عرف أن بعضهم كان يعترف بفضل الآخر، وأن قلوبهم كانت متفقة على الاحترام والمحبة، وإن كان الطبع البشري قد يغلب أحيانًا، لكن الديانة ترد بذلك – والله الموفق-(2).
وأما ما قيل من تخلف الزبير بن العوام عن البيعة لأبى بكر، فإنه لم يرد من طريق صحيح، بل ورد ما ينفي هذا القول، ويثبت مبايعته في أول الأمر، وذلك في أثر أبى سعيد الصحيح وغيره من الآثار(3).
(ج) قال ابن تيمية:وقد تواترت عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال: «خير الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر»، وقد روى هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقًا، وعنه أنه يقول: «لا أوتى بأحد يفضلني على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى»(4). وقال أيضًا: ولم يقل قط أني أحق بهذا – أي الخلافة – من أبى بكر ولا قاله أحد من بعينه أن فلانًا أحق بهذا الأمر من أبى بكر، وإنما قال من فيه أثر لجاهلية عربية أو فارسية إن بيت الرسول أحق بالولاية لأن العرب في جاهليتها كانت تقدم أهل الرؤساء، وكذلك الفرس يقدمون أهل بيت الملك، فنقل عمن نقل عنه كلام يشير به إلى هذا(5).
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (15/24) من مرسل أبى طاق الأزدي وهو صدوق ورجال الإسناد ثقات، خلافة أبي بكر الصديق: ص(80).
(2) فتح البارى (7/495).
(3) خلافة أبى بكر الصديق، عبد العزيز سليمان: ص (81).
(4) منهاج السنة (3/162).
(5) منهاج السنة (3/26)، مرويات أبى مخنف: ص(309).(1/193)
(د) تسمية أبى بكر بالصديق وشهادة على له بالسبَّاق والشجاعة:عن يحيى بن حكيم ابن سعد قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يحلف: لله أنزل اسم أبى بكر من السماء، الصديق(1)، وعن صلة بن زفر العبسى قال: كان أبو بكر إذا ذكر عند على قال: السبَّاق تذكرون والذي نفسي بيده ما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر(2)، وعن محمد بن عقيل بن أبى طالب قال: خطبنا على فقال: أيها الناس من أشجع الناس؟ قلنا: أنت يا أمير المؤمنين. قال ذاك أبو بكر الصديق إنه لما كان في يوم بدر وضعنا لرسول الله العريش(3) فقلنا: من يقم عنده لا يدنو إليه أحد من المشركين؟ فما قام عليه إلا أبو بكر، وإنه كان شاهرًا السيف على رأسه كلما دنا إليه أحد هوى إليه أبو بكر بالسيف، ولقد رأيت رسول الله وأخذته قريش عند الكعبة فجعلوا يتعتعونه ويترترونه(4) ويقول: أنت الذي جعلت الآلهة إلهًا واحدًا، فوالله ما دنا إليه إلا أبو بكر ولأبي بكر يومئذ ضفيرتان(5)، فأقبل يجأ(6) هذا، ويدفع هذا، ويقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.. وقطعت إحدى ضفيرتي أبى بكر، فقال على لأصحابه: ناشدتكم الله أي الرجلين خير، مؤمن آل فرعون أم أبو بكر؟ فأمسك القوم، فقال على: والله ليوم من أبى بكر خير من مؤمن آل فرعون، ذلك رجل كتم إيمانه فأثنى الله عليه، وهذا أبو بكر بذل نفسه ودمه لله(7).
رابعًا: اقتداء على بالصديق في الصلوات وقبول الهدايا منه:
__________
(1) المعجم الكبير للطبراني (1/95) رجاله ثقات قاله الحافظ في الفتح.
(2) الطبراني في الأوسط (7/207، 208) إسناده ضعيف.
(3) العريش: ما يستظل به وجمعه عروش وعُرش.
(4) يترترونه: الترترة: تحريك الشيء.
(5) ضفيرتان: عقيصتان.
(6) يجأ: الوجأ: اللكز.
(7) المستدرك (3/67) صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاء ووافقه الذهبي.(1/194)
إن عليًا رضي الله عنه كان راضيًا بخلافة الصديق ومشاركًا له في معاملاته وقضاياه، قابلاً منه الهدايا رافعًا إليه الشكاوي، مصليًا خلفه، محبًا له، مبغضًا من بغضه(1)، وشهد بذلك أكبر خصوم الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعهم بهديهم، وسلك مسلكهم، ونهج منهجهم(2)، فهذا اليعقوبي الشيعي الغالي في تاريخه يذكر أيام خلافة الصديق فيقول: وأراد أبو بكر أن يغزو الروم فشاور جماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقدموا وأخروا فاستشار على بن أبى طالب فأشار أن يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت؟ فقال: بشرت بخير، فقام أبو بكر في الناس خطيبًا، وأمرهم أن يتجهزوا إلى الروم، وفي رواية: سأل الصديق عليًا كيف ومن أين تبشر؟ قال: من النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سمعته يبشر بتلك البشارة، فقال أبو بكر: سررتني بما أسمعتني من رسول الله يا أبا الحسن، سرك الله(3).
__________
(1) الشيعة وأهل البيت، إحسان إلهي ظهير: ص(69).
(2) الشيعة وأهل البيت إحسان إلهي ظهير: ص (69).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/ 132، 133) نقلاً عن الشيعة وأهل البيت: ص(70).(1/195)
ويقول اليعقوبي أيضًا: وكان ممن يؤخذ عنهم الفقه في أيام أبى بكر على بن أبى طالب وعمر ابن الخطاب ومعاذ بن جبل وأبى بن كعب وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود(1)، فقدم عليًا على جميع أصحابه، وهذا دليل واضح على تعاملهم مع بعضهم وتقديمهم عليًا في المشورة(2) والقضاء، فعندما كتب خالد بن الوليد إلى أبى بكر بقوله له: أنه وجد رجلاً في بعض نواحي العرب ينكح كما تنكح المرأة، فجمع أبو بكر لذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منهم على، فقال على: إن هذا ذنب لم يعمل به إلا أمة واحدة(3)، ففعل الله بهم ما قد علمتم، أرى أن تحرقه بالنار، فاجتمع رأي أصحاب رسول الله أن يحرق بالنار، فأمر به أبو بكر أن يحرق بالنار(4) وكان على رضي الله عنه يمتثل أوامر الصديق؛ فعندما جاء وفد من الكفار إلى المدينة، ورأوا بالمسلمين ضعفًا وقلة لذهابهم إلى الجهات المختلفة للجهاد واستئصال شأفة المرتدين والبغاة الطغاة، وأحس منهم الصديق خطرًا على عاصمة
الإسلام والمسلمين، أمر الصديق بحراسة المدينة وجعل الحرس على أنقابها يبيتون بالجيوش، وأمر عليًا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود أن يرأسوا هؤلاء الحراس، وبقوا كذلك
حتى أمنوا منهم(5).
__________
(1) المصدر السابق (2/138)نقلاً عن الشيعة وأهل البيت: ص (70).
(2) الشيعة وأهل البيت: ص (70).
(3) ألا وهى أمة لوط عليه السلام.
(4) المغنى والشرح الكبير (12/220) المختصر من كتاب الموافقة: ص (51).
(5) تاريخ الطبري (4/64)، الشيعة وأهل البيت: ص(71).(1/196)
وللتعامل الموجود بينهم وللتعاطف والتواد والوئام الكامل كان على وهو سيد أهل البيت ووالد سبطي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يتقبل الهدايا والتحف، دأب الإخوة المتساوين فيما بينهم والمتحابين كما قبل الصهباء الجارية التي سبيت في معركة عين التمر، وولدت له عمر ورقية(1)، وأيضًا منحه الصديق خولة بنت جعفر بن قيس التي أسرت مع من أسر في حرب اليمامة وولدت له أفضل أولاده بعد الحسن والحسين وهو محمد ابن الحنفية، وكانت خولة من سبى أهل الردة وبها يعرف ابنها ونسب إليها محمد ابن الحنفية(2)، يقول الإمام الجوينى عن بيعة الصحابة لأبى بكر: وقد اندرجوا تحت الطاعة عن بكرة أبيهم لأبى بكر – رضي الله عنه – وكان على رضي الله عنه سامعًا لأمره، وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد، ونهض إلى غزو بنى حنيفة(3).
__________
(1) الطبقات (3/20)، البداية والنهاية (7/331- 333).
(2) الطبقات (3/20).
(3) الإرشاد للجوينى: ص (428) نقلاً عن أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية للقفاري (1/85).(1/197)
ووردت روايات عديدة في قبوله هو وأولاده الهدايا المالية، والخمس، وأموال الفئ من الصديق رضي الله عنهم أجمعين، وكان على هو القاسم والمتولى في عهده على الخمس والفئ، وكانت هذه الأموال بيد على، ثم كانت بيد الحسن ثم بيد الحسين، ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن(1)، وكان على رضي الله عنه يؤدي الصلوات الخمس في المسجد خلف الصديق، راضيًا بإمامته، ومظهرًا للناس اتفاقه ووئامه معه(2)، وكان على رضي الله عنه يروى عن أبى بكر بعض أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن أسماء بنت الحكم الفزاري قالت: سمعت عليًا رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله علمًا نفعني الله به، وكان إذا حدثني عنه غيري استحلفته فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر – قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلى ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له»(3) ولما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اختلف أصحابه فقالوا: ادفنوه في البقيع(4)، وقال آخرون: ادفنوه في موضع الجنائز، وقال آخرون: ادفنوه في مقابل أصحابه، فقال أبو بكر: أخروا فإنه لا ينبغي رفع الصوت عند النبي حيًا ولا ميتًا، فقال على رضي الله عنه: «أبو بكر مؤتمن على ما جاء به». قال أبو بكر: «عهد إلىَّ رسول أنه ليس من نبي يموت إلا دفن حيث يُقبض»(5)، وشهد على رضي الله عنه للصديق عن عظيم أجره في المصاحف، فعن عبد خير قال: سمعت عليًا يقول: «أعظم الناس أجرًا في المصاحف: أبو بكر الصديق، هو أول من جمع بين اللوحين»(6).
خامسًا: الصديق والسيدة فاطمة وميراث النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) الشيعة وأهل البيت: ص(72).
(2) الشيعة وأهل البيت: ص (72).
(3) مسند أحمد رقم 47.
(4) البقيع: مقبرة أهل المدينة وهي داخل المدينة.
(5) مسند أحمد (1/8) إسناده ضعيف قاله أحمد شاكر، وقال ابن حجر في الفتح (1/631) إسناده صحيح لكنه موقوف.
(6) المختصر من كتاب الموافقة: ص (44).(1/198)
قالت عائشة رضي الله عنها: إن فاطمة والعباس – رضي الله عنهما- أتيا أبا بكر- رضي الله عنه- يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله يقول: «لا نورث، ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا المال»(1) وفي رواية قال أبو بكر رضي الله عنه....لست تاركًا شيئًا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أن أزيغ(2). وعن عائشة - رضي الله عنها – قالت: إن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، حين توفى الرسول الله، أردن أن يبعثن عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أبى بكر، ليسألنه ميراثهن من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت عائشة رضي الله عنها لهن: أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث، ما تركناه صدقة»(3) وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يقتسم ورثتى دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائى ومؤنة عاملي فهو صدقة»(4).
وهذا ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع فاطمة رضي الله عنها امتثالاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -، لذلك قال الصديق: «لست تاركًا شيئًا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به إلا عملت به»(5) وقال: «والله لا أدع أمرًا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته»(6).
__________
(1) البخاري رقم 6726.
(2) مسلم رقم 1759.
(3) البخاري رقم 6730، مسلم رقم 1758.
(4) البخاري رقم 6729.
(5) مسلم 1758.
(6) البخاري رقم 6726.(1/199)
وقد تركت فاطمة رضي الله عنه منازعته بعد احتجاجه بالحديث وبيانه لها، وفيه دليل على قبولها الحق وإذعانها لقوله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن قتيبة(1): وأما منازعة فاطمة أبا بكر رضي الله عنها في ميراث النبي- صلى الله عليه وسلم - فليس بمنكر، لأنها لم تعلم ما قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وظنت أنها ترثه كما يرث الأولاد آباءهم، فلمان أخبرها بقوله كفت(2)، وقد غلا الرافضة في قصة ميراث النبي غلوًا مفرطًا مجانبين الحق والصواب، معرضين متجاهلين ما ورد من نصوص صحيحة في أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يورث، وجعلوا ذلك من أصول الخلاف بين الصحابة وآل البيت- رضي الله عنهم أجمعين – وامتدادًا لأمر الخلافة، فاتهموا الصحابة- رضوان الله عليهم- بإيقاع الظلم والجور على آل البيت، ولا سيما أبو بكر الصديق وعمر الفاروق – رضي الله عنهما – الذين غصبا الخلافة من آل البيت كما في زعمهم، وأضافوا إلى ذلك غصب أموال آل البيت، وغصب ما فرض الله لهم من حقوق مالية، ويعتبر الرافضة قضية فدك، ومنع فاطمة من إرثها من أهم القضايا، التي تواطأ عليها الصحابة بعد غصب الصديق رضي الله عنه للخلافة منهم على حد تعبيرهم، وذلك حتى لا يميل الناس إلى آل البيت بسبب هذا المال فيجتمعوا عليه ويخلعوه من الخلافة(3).
والمتتبع لكتب الرافضة في هذه المسألة يجد أنها تنصب على إنكار حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة»(4) واستقطاب الأدلة لمحاولة إبطاله، فمن ذلك:
__________
(1) شذرات الذهب (2/169).
(2) تأويل مختلف الحديث: ص19/1.
(3) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط: ص (435).
(4) مسلم 1758.(1/200)
1- زعمهم أن هذا الحديث وضعه أبو بكر الصديق- رضي الله عنه-:وفي ذلك يقول الحلى: إن فاطمة لم تقبل بحديث اخترعه أبو بكر من قوله: ما تركناه صدقة. وقال أيضًا: والتجأ في ذلك إلى رواية انفرد بها(1). وقال المجلسى بعد أن نص على أن أبا بكر وعمر أخذا فدكًا: ولأجل ذلك وضعوا تلك الرواية الخبيثة المفتراة: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة(2) ويقول الخميني في ذلك: نقول إن الحديث المنسوب إلى النبي لا صحة له، وأنه قيل من أجل استئصال ذرية النبي(3).
ويجاب على ذلك: بأن هذا القول كذب محض وافتراء واضح، إذ هذه الرواية لم ينفرد بها أبو بكر رضي الله عنه بل إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا نورث ما تركناه فهو صدقة»، رواه عنه أبو بكر وعثمان وعلى وطلحة، والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو هريرة وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم أجمعين(4) وفي ذلك يقول ابن تيمية: والرواية عن هؤلاء ثابتة في الصحاح والمسانيد، ومشهورة يعلمها أهل العلم بالحديث، فقول القائل: إن أبا بكر انفرد بالرواية يدل على فرط جهله أو تعمده الكذب(5).
__________
(1) منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة (4/193) نقلاً عن العقيدة في أهل البيت.
(2) حق اليقين: ص (191) نقلاً عن العقيدة في أهل البيت: ص(443).
(3) كشف الأسرار للخميني: ص (132- 133) نقلاً عن العقيدة في أهل البيت.
(4) العقيدة في أهل البيت: ص(444).
(5) منهاج السنة (4/199).(1/201)
وقال ابن كثير بعد ذكره لمن روى الحديث: «وأن هذا الزعم من الرافضة باطل، ولو تفرد بروايته الصديق- رضي الله عنه – لوجب على جميع أهل الأرض قبول روايته والانقياد له في ذلك»(1)، وقد قال الدكتور سليمان بن رجاء السحيمي صاحب الكتاب القيم «العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط»: ويؤيد هذا ما جاء من كتب الرافضة عن الإمام جعفر الصادق الإمام الخامس المعصوم عندهم فيما رواه الكليني والصفار والمفيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من سلك طريقًا يطلب منه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، والعلماء أمناء، والأتقياء حصون، والأوصياء سادة، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وأن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر(2) وفي رواية: «إن العلماء ورثة الأنبياء، وذلك ان الأنبياء لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا، وإنما أورثوا أحاديث من أحاديثهم»(3). وما أرث منك يا رسول الله؟ قال: «ما أورث النبيون».
2- زعمهم أن هذا الحديث مخالف لقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ } [النساء:11] وقالوا: ولم يجعل الله ذلك خاصًا بالأمة دونه - صلى الله عليه وسلم -؟(4).
__________
(1) البداية والنهاية (5/250).
(2) الكافي للكليني (1/32- 34).
(3) المصدر السابق (1/32- 34)، وبصائر الدرجات للصفار: ص (10، 11) والاختصاص للمفيد: ص(4) وانظر: علم اليقين للكاشاني (2/747، 748) نقلاً عن العقيدة لأهل البيت: ص(444).
(4) منهاج الكرامة المطبوع مع منهاج السنة 4/194.(1/202)
والحقيقة أن الخطاب شامل للمقصودين بالخطاب، وليس فيه ما يوجب كون النبي - صلى الله عليه وسلم - من المخاطبين بها(1)، فهو - صلى الله عليه وسلم - لا يقاس بأحد من البشر، فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولأن الله حرم عليه صدقة الفرض والتطوع، وخُص بأشياء لم يُخص بها أحد غيره - صلى الله عليه وسلم -، ومما خصه الله به، هو وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام كونهم لا يورثون، وذلك صيانة من الله لهم لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وخلفوها لورثتهم، أما بقية البشر فلا نبوة لهم يقدح فيها بمثل ذلك، كما صان الله تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الخط والشعر صيانة لنبوته عن الشبة وإن كان غيره لم يحتج إلى هذه الصيانة(2).
وقال ابن كثير في رده على استدلال الرافضة بالآية: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خُص من بين الأنبياء بأحكام لا يشاركونه فيها..فلو قدر أن غيره من الأنبياء يورثون، وليس الأمر كذلك، لكان ما رواه الصحابة، وعلى رأسهم أبو بكر، مبينًا لتخصصه بهذا الحكم دون من سواه(3). وبهذا يتبين بطلان استدلالهم بمخالفة الحديث.
3- زعمهم أن منع الإرث والاستدلال بهذا الحديث مخالف لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل:16]، ومخالف لما حكاه الله عن نبيه زكريا عليه السلام: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} [مريم: 5، 6].
حيث قالوا: إن الميراث يقتضي الأموال وما في معناه، وليس لأحد أن يقول إن المراد بالآية العلم دون المال(4).
__________
(1) منهاج السنة (4/494، 195) العقيدة في أهل البيت: ص(445).
(2) منهاج السنة: ص (194، 195)، العقيدة في أهل البيت: ص (445).
(3) البداية والنهاية (5/254)، العقيدة في أهل البيت:ص (446).
(4) منهاج الكرامة: ص(109) نقلاً عن العقيدة في أهل البيت وغيرها من الكتب كالطرائف لابن «آووس» (347).(1/203)
ويجاب على ذلك بما يلي: إن الإرث اسم جنس يدخل تحته أنواع، فيستعمل في إرث العلم والنبوة والملك وغير ذلك من أنواع الانتقال. قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وقال تعالى: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ - الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:10، 11] وغير ذلك من الآيات الواردة في هذا الشان، وإذا كان كذلك فقوله تعالى: { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} وقوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} إنما يدل على جنس الإرث، ولا يدل على إرث المال، وذلك أن داود عليه السلام كان له أولاد كثيرون غير سليمان فلا يختص سليمان بماله فدل على أن المراد بهذا الإرث إرث العلم والنبوة ونحو ذلك، لا إرث المال، والآية سيقت في بيان مدح سليمان وما خصه الله به من النعمة، وحصر الإرث في المال لا مدح فيه، إذ إن إرث المال من الأمور العادية المشتركة بين الناس، وكذلك قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ليس المراد به إرث المال لأنه لا يرث آل يعقوب شيئًا من أموالهم، وإنما يرث ذلك منهم أولادهم وسائر ورثتهم لو ورثوا(1).
كما أن قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي} [مريم:5] لا يدل على أن الإرث إرث مال، لأن زكريا لم يخف أن يأخذوا ماله من بعده إذا مات، فإن هذا ليس بمخوف، وزكريا عليه السلام لم يعرف له مال، بل كان تجارًا يأكل من كسب يده كما في صحيح مسلم(2)، ولم يكن ليدخر منها فوق قوته حتى يسأل الله ولدًا يرث عنه ماله، قدل على أن المراد بالوراثة في هاتين الآيتين وراثة النبوة، والقيام مقامه(3).
__________
(1) منهاج السنة (4/222- 224).
(2) مسلم رقم 2379.
(3) منهاج السنة (4/225)، البداية والنهاية (5/253)، العقيدة في أهل البيت: ص (448).(1/204)
يقول القرطبي في تفسيره للآية: وعليه فلم يسل من يرث ماله، لأن الأنبياء لا تورث، وهذ هو الصحيح من القولين في تأويل الآية، وأنه عليه الصلاة والسلام أراد وراثة العلم والنبوة لا وراثة المال لما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة»(1)، وهذا الحديث يدخل في التفسير المسند لقوله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} وعبارة عن قول زكريا {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيًّا - يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا} وتخصيص للعموم في ذلك، وإن سليمان لم يرث من داود مالاً خلفه داود بعده. وإنما ورث منه الحكمة والعلم، وكذلك ورث يحيى من آل يعقوب، وهكذا قال أهل العلم بتأويل القرآن ما عدا الروافض(2).
__________
(1) مسلم رقم 1758.
(2) تفسير القرطبي (11/35- 45).(1/205)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الرافضة خالفوا ما استدلوا به على وجوب الميراث، وذلك أنهم حصروا ميراثه - صلى الله عليه وسلم - في فاطمة – رضي الله عنه – فزعموا أنه لم يرث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا هي، فأخرجوا أزواجه وعصبته مخالفين عموم الآيات التي استدلوا بها، فقد روى الصدوق بسنده عن أبى جعفر الباقر قوله: لا والله ما ورث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس ولا على، ولا ورثته إلا فاطمة عليها السلام، وما كان آخذ على عليه السلام السلاح وغيره إلا إنه قضى عنه دينه(1). وروى الكليني والصدوق والطوسى بأسانيدهم إلى الباقر أيضًا قوله: وورث على عليه السلام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه، وورثت فاطمة عليها السلام تركته(2)، بل وأخرجوا فاطمة من ذلك، حيث زعموا أن النساء لا يرثن العقار، فقد بوب الكليني في كتابه الكافي بابًا بعنوان: إن النساء لا يرثن من العقار شيئًا، وساق تحته روايات منها: عن أبي جعفر الصادق إنه قال: النساء لا يرثن من الأرض ولا من العقار شيئًا(3).
روى الصدوق بسنده إلى ميسر قال:سألته – يقصد الصادق – عن النساء ما لهن في الميراث، فقال: أما الأرض والعقارات فلا ميراث فيه(4)، وبهذا يتبين عدم استحقاق فاطمة – رضي الله عنها – شيئًا من الميراث، بدون الاستدلال بحديث: نحن معاشر الأنبياء لا نورث(5)، فما دامت المرأة لا ترث العقار والأرض، فكيف كان لفاطمة أن تسأل فدك – على حسب قولهم- وهي عقار لا ريب فيه(6)، وهذا دليل كذبهم وتناقضهم فضلاً عن جهلهم(7).
__________
(1) من لا يحضره الفقيه (4/190، 191)، العقيدة في أهل البيت: ص (451).
(2) الكافي للكليني (7/137)، العقيدة في أهل البيت: ص(451).
(3) الكافي للكليني (7/137)، العقيدةن في أهل البيت: ص(451).
(4) الشيعة وأهل البيت: ص(89).
(5) مسلم 1768.
(6) الشيعة وأهل البيت: ص (98).
(7) العقيدة في أهل البيت: ص(452).(1/206)
وأما ما زعموه من كون الصديق – رضي الله عنه – سأل فاطمة أن تحضر شهودًا، فأحضرت عليًا وأم أيمن فلم يقبل شهادتهما، فهو من الكذب البين الواضح، قال حماد بن إسحاق: فأما ما يحكيه قوم أن فاطمة عليها السلام طلبت فدك، وذكرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطعها إياها، وشهد لها على عليه السلام فلم يقبل أبو بكر شهادته لأنه زوجها، فهذا أمر لا أصل له ولا تثبت به رواية أنها ادعت ذلك، وإنما هو أمر مفتعل لا ثبت فيه(1).
4- أن السنة والإجماع قد دلا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث:قال ابن تيمية: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها، وبإجماع الصحابة، وكل منها دليل قطعي، فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عمومًا فهو مخصوص، لأن ذلك لو كان دليلاً لما كان إلا ظنيًا فلا يعارض القطعي، إذ الظنى لا يعارض القطعي، وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق، ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصرّ العمّ على طلب الميراث، بل لما طلب من ذلك شيئًا فأخبر بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى على، فلم يغير شيئًا ولا قسم له تركة(2). قال ابن تيمية: قد تولى الخلافة (علىّ) بعد ذي النورين عثمان، وصار فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة ولا من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ولد العباس، فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه، أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير(3).
__________
(1) منهاج السنة (4/236- 238).
(2) المصدر السابق (4/220).
(3) المصدر السابق (6/347).(1/207)
وبإجماع الخلفاء الراشدين على ذلك احتج الخليفة العباسي أبو العباس السفاح على بعض مناظريه في هذه المسألة على ما نقل ابن الجوزي في تلبيس إبليس قال: وقد روينا عن السفاح أنه خطب يومًا فقام رجل من آل على – رضي الله عنه – قال: إنا من أولاد على – رضي الله عنه – فقال: يا أمير المؤمنين أعنى على من ظلمني. قال: ومن ظلمك؟ قال: أنا من أولاد على – رضي الله عنه – والذي ظلمني أبو بكر – رضي الله عنه – حين أخذ فدك من فاطمة، وقال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام عبده؟ قال: عمر – رضي الله عنه – قال: ودام على ظلمكم. قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ قال عثمان – رضي الله عنه- قال: ودام على ظلمكم؟ قال: نعم، قال: ومن قام بعده؟ فجعل يلتفت كذا وكذا ينظر مكانًا يهرب منه(1).
__________
(1) تلبيس إبليس: ص (135).(1/208)
وبتصويب أبي بكر – رضي الله عنه – في اجتهاده صرَّح بعض أولاد على من فاطمة – رضي الله عنهما- على ما روى البيهقي بسنده عن فضيل بن مرزوق قال: قال زيد بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب: أما لو كنت مكان أبي بكر، لحكمت بما حكم به أبو بكر في فدك(1)، كما نقل أبو العباس القرطبي اتفاق أهل البيت بدءًا بعلي – رضي الله عنه – ومن جاء بعده من أولاده، ثم أولاد العباس الذين كانت بأيديهم صدقة رسول الله، إنهم ما كانوا يرون تملكها، إنما كانوا ينفقونها في سبيل الله، قال- رحمه الله-: إن عليًا لما ولى الخلافة ولم يغيرها عما عمل فيها في عهد أبي بكر وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها، ثم كانت بيد حسن بن على، ثم بيد حسين بن على، ثم بيد على بن الحسين، ثم بيد الحسين بن الحسن، ثم بيد زيد بن الحسين، ثم بيد عبد الله بن الحسين، ثم تولاها بنو العباس على ما ذكره أبو بكر البرقاني في صحيحه، وهؤلاء كبراء أهل البيت –ر ضي الله عنهم- وهم معتمدون عند الشيعة وأئمتهم، لم يرو عن واحد منهم أنه تملكها ولا ورثها ولا ورثت عنه، فلو كان ما يقوله الشيعة حقًا لأخذها على أو أحد من أهل بيته لما ظفروا بها(2).
وقال ابن تيمية: قد تولى (علىّ) الخلافة بعد ذى النورين عثمان، وصارت فدك وغيرها تحت حكمه، ولم يعط منها شيئًا لأحد من أولاد فاطمة، ولا من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا ولد العباس، فلو كان ظلمًا وقدر على إزالته لكان هذا أهون عليه من قتال معاوية وجيوشه، أفتراه يقاتل معاوية مع ما جرى في ذلك من الشر العظيم، ولا يعطي هؤلاء قليلاً من المال، وأمره أهون بكثير؟ (3).
__________
(1) تاريخ المدينة لابن شبة (1/200)، البداية والنهاية (5/253).
(2) المفهم للقرطبي (3/564).
(3) منهاج السنة (6/347).(1/209)
وقال ابن كثير: وقد تكلمت الرافضة في هذا المقام بجهل، وتكلفوا ما لاعلم لهم به، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ولما يأتهم تأويله، وأدخلوا أنفسهم فيما لا يعنيهم(1)، فلو تفهموا الأمور على ما هي عليه لعرفوا للصديق فضله وقبلوا منه عذره الذي يجب على كل أحد قبوله، ولكنهم طائفة مخذولة، وفرقة مرذولة، يتمسكون بالمتشابهة، ويتركون الأمور المقررة عند أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين من بعدهم من العلماء المعتبرين في سائر الأعصار والأمصار، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين(2).
5- تسامح السيدة فاطمة مع أبي بكر: وقد ثبت عن فاطمة – رضي الله عنها- أنها رضيت عن أبي بكر بعد ذلك، وماتت وهي راضية عنه، على ما روى البيهقي بسنده عن الشعبي أنه قال: لما مرضت فاطمة أتاها أبو بكر الصديق فاستأذن عليها، فقال على: يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك؟ فقالت: أتحب أن آذن له؟ قال: نعم، فأذنت له فدخل عليها يترضاها، فقال: والله ما تركت الدار والمال، والأهل والعشيرة، إلا ابتغاء مرضاة الله، ومرضاة رسوله، ومرضاتكم أهل البيت، ثم ترضَّاها حتى رضيت(3) قال ابن كثير: وهذا إسناد جيد قوى والظاهر أن عامر الشعبي سمعه من على، أو ممن سمعه من على(4).
__________
(1) البداية والنهاية (5/253).
(2) المصدر نفسه (5/251).
(3) السنن الكبرى للبيهقي (6/301).
(4) البداية والنهاية (5/253).(1/210)
وبهذا تندحض مطاعن الرافضة على أبي بكر التي يعلقونها على غضب فاطمة عليه، فلئن كانت غضبت على أبى بكر في بداية الأمر فقد رضيت عنه بعد ذلك وماتت وهى راضية عنه، ولا يسع أحدًا صادقًا في محبته لها، إلا أن يرضي عمن رضيت عنه(1)، ولا يعارض هذا ما ثبت في حديث عائشة: إنما يأكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذا المال، وإني والله لا أغير شيئًا من صدقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأبي أبو بكر أن يدفع لفاطمة منها شيئًا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت(2). فإن هذا بحسب علم عائشة – رضي الله عنها – رواية الحديث، وفي حديث الشعبي زيادة علم، وثبوت زيارة أبي بكر لها وكلامها له ورضاها عنه، فعائشة – رضي الله عنها – نفت والشعبي أثبت، ومعلوم لدى العلماء أن قول المثبت مقدم على قول النافي، لأن احتمال الثبوت حصل بغير علم النافي، خصوصًا في مثل هذه المسألة، فإن عيادة أبي بكر لفاطمة – رضي الله عنها- ليست من الأحداث الكبيرة التي تشيع في الناس، ويطلع عليها الجميع، وإنما هي من الأمور العادية التي تخفي على من لم يشهدها، والتي لا يعبأ بنقلها لعدم الحاجة لذكرها، على أن الذي ذكره العلماء أن فاطمة – رضي الله عنها – لم تتعمد هجر أبي بكر – رضي الله عنه – أصلاً، ومثلها ينزه عن ذلك لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الهجر فوق ثلاث، وإنما لم تكلمه لعدم الحاجة لذلك(3)، قال القرطبي صاحب المفهم في سياق شرحه لحديث عائشة المتقدم: ثم إنها (أي فاطمة) لم تلتق بأبي بكر لشغلها بمصيبتها برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولملازمتها بيتها، فعبر الراوى عن ذلك بالهجران، وإلا فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث»(4)، وهى أعلم الناس بما يحل من ذلك ويحرم،
__________
(1) الانتصار للصحب والآل: ص (434).
(2) البخاري رقم 4240رقم 175.
(3) الانتصار للصحب والآل: ص(434).
(4) البخاري رقم 6077.(1/211)
وأبعد الناس عن مخالفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكيف لا تكون كذلك وهي بضعة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيدة نساء أهل الجنة(1).
وقال النووي: وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر - رضي الله عنه- فمعناه انقباضها عن لقائه، وليس هذا من الهجران المحرم، الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء، وقوله في هذا الحديث: (فلم تكلمه) يعنى في هذا الأمر، أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقل قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته(2)، لقد انشغلت فاطمة – رضي الله عنها – عن كل شيء بحزنها لفقدها أكرم الخلق، وهي مصيبة تزرى بكل المصائب، كما أنها أنشغلت بمرضها الذي ألزمها الفراش عن أية مشاركة في أي شأن من الشئون فضلاً عن لقاء خليفة المسلمين المشغول – لكل لحظة من لحظاته – بشئون الأمة، وحروب الردة وغيرها، كما أنها كانت تعلم بقرب لحوقها بأبيها، فقد أخبرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأنها أول من يلحق به من أهله(3)، ومن كان في مثل علمها لا يخطر بباله أمور الدنيا، وما أحسن قول المهلب الذي نقله العينى: ولم يرو أحد أنهما التقيا وامتنعا عن التسليم، إنما لازمت بيتها، فعبر الراوى عن ذلك بالهجران(4).
__________
(1) المفهم (12/73).
(2) شرح صحيح مسلم (12/73).
(3) مسلم رقم 2450.
(4) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ: ص(108).(1/212)
ومما يدل على أن العلاقة كانت وطيدة بين الصديق والسيدة فاطمة إلى حد أن زوجة أبي بكر أسماء بنت عميس هي التي كانت تمرض فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورضي الله عنها، في مرض موتها، وكانت معها حتى الأنفاس الأخيرة، وشاركت في غسلها وترحيلها إلى مثواها، وكان على رضي الله عنه يمرضها بنفسه وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، وقد وصتها بوصايا في كفنها ودفنها وتشييع جنازتها، فعملت أسماء بها(1)، فقد قالت السيدة فاطمة لأسماء: إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء، إنه يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ألا أريك شيئًا رأيته بأرض الحبشة، فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبًا، فقال فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله! به تعرف المرأة من الرجال(2). وعن ابن عبد البر: أن فاطمة رضي الله عنها أول من غطى نعشها في الإسلام، ثم زينب بنت جحش، وكان الصديق دائم الاتصال بعلي من ناحية ليسأله عن أحوال بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - خلاف ما يزعمه القوم، فمرضت (أي فاطمة رضي الله عنها) وكان على يصلي في المسجد الصلوات الخمس، فلما صلى قال له أبو بكر وعمر: كيف بنت رسول الله؟ ومن ناحية أخرى من زوجه أسماء حيث كانت هي المشرفة والممرضة الحقيقية لها، ولما قبضت فاطمة من يومها فارتجت المدينة بالبكاء من الرجال والنساء، ودهش الناس كيوم قبض فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليًا ويقولان: يا أبا الحسن، لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله(3)، وقد توفيت ليلة الثلاثاء لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة، روى ابن مالك بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده على بن الحسين، قال: ماتت فاطمة بين المغرب والعشاء فحضرها أبو بكر وعمر وعثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، فلما وضعت ليصلي عليها، قال على: تقدم يا
__________
(1) الشيعة وأهل البيت: ص(77).
(2) الاستيعاب (4/378).
(3) الشيعة وأهل البيت: ص(77)، كتاب سليم بن قيس: ص (255).(1/213)
أبا بكر، قال أبو بكر رضي الله عنه: وأنت يا أبا الحسن؟ قال: نعم، فوالله لا يصلي عليها غيرك، فصلى عليها أبو بكر رضي الله عنه ودفنت ليلاً. وجاء في رواية: صلى أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكبر عليها أربعًا(1)، وفي رواية مسلم: صلى عليها على بن أبي طالب وهي الرواية الراجحة(2).
ولقد أجاد وأفاد محمد إقبال في قصيدته العصماء (فاطمة الزهراء) فقال:
نَسَبُ المسيح بنى لمريم سيرة ... بقيت على طول المدى ذكراها
والمجد يشرف من ثلاث مطالع ... في مهد فاطمة فما أعلاها
هي بنت من؟ هي زوج من؟ هي أم من؟ منمن من؟ ... من ذا يداني في الفخار أباها
هي ومضة من نور عين المصطفى ... هادي الشعوب إذا تروم هداها
من أيقظ الفطر النيام بروحه ... وكأنه بعد البلى أحياها
وأعاد تاريخ الحياة جديدة ... مثل العرائس في جديد حُلاها
هى أسوة للأمهات وقدوة ... يترسم القمر المنير خطاها
جعلت من الصبر الجميل غذاءها ... ورأت رضا الزوج الكريم رضاها
إلى أن قال:
لولا وقوفي عند شرع المصطفى ... وحدود شرعته ونحن فداها
لمضيت للتطواف حول ضريحها ... وغمرت بالقبلات طيب ثراها(3)
سادسًا: مصاهرات بين الصديق وأهل البيت وتسمية أهل البيت بعض أبنائهم
باسم أبي بكر:
__________
(1) المختصر من كتاب الموافقة: ص (68) في سنده ضعف.
(2) مسلم رقم 1759.
(3) الدوحة النبوية: ص(62، 63).(1/214)
كانت صلة سيدنا أبي بكر الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأعضاء أهل البيت، صلة ودية تقديرية تليق به وبهم، كانت هذه المودة والثقة متبادلة، وكانت من المتانة بحيث لا يتصور معها التباعد والاختلاف مهما نسج المسامرون الأساطير والأباطيل، فالصديقة عائشة بنت الصديق بنت أبي بكر كانت زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أحب الناس إليه مهما احترق الحساد ونقم المخالفون، فإنها حقيقة ثابتة وهي طاهرة مطهرة بشهادة القرآن مهما جحدها المبطلون وأنكرها المنكرون، ثم أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب شقيق على، فمات عنها وتزوجها الصديق، وولدت له ولدًا سماه محمدًا الذي ولاه على مصر، ولما مات أبو بكر تزوجها على بن أبي طالب فولدت له ولدًا سماه يحيى(1). وحفيدة الصديق كانت متزوجة من محمد الباقر- الإمام الخامس عند الروافض وحفيد على رضي الله عنه -، وقد نقل الأستاذ إحسان إلهي ظهير من كتب الروافض ما يثبت التلاحم والمصاهرة بين بيت النبوة وبيت الصديق، فقد أثبت أن قاسم بن محمد بن أبي بكر حفيد أبي بكر، وعلى بن الحسين بن على أبي طالب حفيد على كانا ابني خالة، فأم قاسم بن محمد وعلى بن الحسين هما بنتا يزدجرد بن شهريار – بن كسرى- اللتان كانتا من سبى الفرس في عهد عمر رضي الله عنه، وتوسع إحسان إلهي ظهير في إثبات المصاهرات وعلاقات المودة والتراحم المتبادل بين أهل البيت وبيت الصديق(2)، وكان من حب أهل البيت للصديق والتواد ما بينهم أنهم سموا أبناءهم بأسماء أبي بكر رضي الله عنه، فأولهم على بن أبي طالب حيث سمى أحد أبنائه أبا بكر، وهذا دليل على حب ومؤاخاه وإعظام وتقدير على للصديق رضي الله عنهما،والجدير بالذكر أنه ولد له هذا الولد بعد تولية الصديق الخلافة والإمامة، بل وبعد وفاته كما هو معروف بداهة، وهل يوجد في الشيعة اليوم
__________
(1) خلافة على بن أبي طالب، وترتيب وتهذيب كتاب البداية والنهاية للسّلمى: ص(22).
(2) الشيعة وأهل البيت: ص(78-83).(1/215)
المتزعمين حب على وأولاده رجل يسمى بهذا الاسم، وهل هم موالون له أم مخالفون؟ وعلى رضي الله عنه لم يسم بهذا ابنه إلا تيمنا بالصديق وإظهارًا له المحبة والوفاء وحتى بعد وفاته، وإلا فلا يوجد في بنى هاشم رجل قبل على سمى ابنه بهذا الاسم، ثم لم يقتصر علىّ بهذا التيمن والتبرك وإظهار المحبة والصداقة للصديق بل بعده بنوه أيضًا مشوا مشيه ونهجوا نهجه، فالحسن والحسين، سميا كل واحد منهما أحد أولادهما بأبي بكر، فقد ذكر ذلك اليعقوبي والمسعودي وهما من مؤرخي الروافض(1)، واستمر أهل البيت يسمون من أسماء أولادهم بأبي بكر، فقد سمى ابن أخي على بن أبي طالب رضي الله عنه وهو عبد الله بن جعفر الطيار بن أبي طالب فإنه سمى أحد أبنائه باسم أبي بكر، وهذه من إحدى علائم الحب والود بين القوم خلاف ما يزعمه الروافض اليوم من العداوة والبغضاء والقتال الشديد والجدال الدائم بينهم(2).
سابعًا: علي رضي الله عنه في وفاة الصديق:
كان علي رضي الله عنه من ضمن من استشارهم الصديق فيمن يتولى الخلافة من بعده، وكان رأي علىأن يتولى الخلافة بعد الصديق الفاروق(3).
ولما حان الرحيل ونزل الموت بأبي بكر، كان آخر ما تكلم به الصديق في هذه الدنيا قوله تعالى: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].وارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يومًا أكثر باكيًا وباكية من ذلك المساء الحزين، وأقبل على بن أبي طالب مسرعًا، باكيًا، مسترجعًا ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر فقال:
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/228)، النتيجة والإشراف: ص (82).
(2) الشيعة وأهل البيت: ص (83)، الدُّرُّ المنثور من تراث أهل البيت والصحابة، السيد علاء الدين المدُرَّسي ص (38- 44)، رحماء بينهم، صالح بن عبد الله الدرويش.
(3) الكامل لابن الأثير (2/79)، المختصر من كتاب الموافقة للزمخشرى: ص (70- 100).(1/216)
رحمك الله يا أبا بكر كنت إلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنيسه ومستراحه وثقته وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم يقينًا، وأشدهم لله تقوى، وأخوفهم لله، وأعظمهم غناء في دين الله عز وجل، وأحوطهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحدبهم على الإسلام، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتًا، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم عنده، وأكرمهم عليه، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سماك الله في تنزيله صديقًا فقال: { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر:33]، واستيه حين بخلوا، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم الصحبة، ثاني اثنين صاحبه في الغار، والمنزل عليه السكينة، ورفيقه في الهجرة، وخليفته في دين الله وأمته، أحسن الخلافة حين ارتدوا، فقمت بالأمر ما لم يقم به خليفة نبي، ونهضت حين وهن أصحابه، وبرزت حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ وهنوا، وكنت كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفًا في بدنك قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك عظيمًا عند الله تعالى، جليلاً في أعين الناس كبيرًا في أنفسهم، لم يكن لأحدهم فيك مغمز، ولا لقائل فيك مهمز، ولا لمخلوق عندك هوادة، الضعيف عندك قوى عزيز حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله عز وجل وأتقاهم...شأنك الحق والصدق، والرفق، قولك حكم وحتم، أمرك حلم وحزم، ورأيك علم وعزم، اعتدل بك الدين، وقوى بك الإيمان، وظهر أمر الله، فسبقت – والله – سبقًا بعيدًا، وأتعبت من بعدك إتعابًا شديدًا، وفزت بالخير فوزًا مبينًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، رضينا عن الله عز وجل قضاءه وسلمنا له أمره، والله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله بمثلك أبدًا، كنت للدين عزًا،(1/217)
وحرزًا وكهفًا، فألحقك الله عز وجل بنبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا حرمنا أجرك، ولا أضلنا بعدك، فسكت الناس حتى قضى كلامه، ثم بكوا حتى علت أصواتهم وقالوا: صدقت(1).
وجاء في رواية: أن عليًا قال عندما دخل على أبي بكر بعدما سُجى: ما أحد أحب أن ألقى الله بصحيفته أحب إلىّ من هذا المسجى(2).
__________
(1) التبصرة لابن الجوزي (1/477- 479) نقلاً عن أصحاب الرسول (1/108).
(2) تاريخ الذهبي، عهد الخلفاء الراشدين: ص (120).(1/218)
المبحث الثاني : علي رضي الله عنه في عهد الفاروق
كان علي رضي الله عنه عضوًا بارزًا في مجلس شورى الدولة العمرية، بل كان هو المستشار الأول، فقد كان عمر رضي الله عنه يعرف لعلي فضله، وفقهه، وحكمته، وكان رأيه فيه حسنًا، فقد ثبت قوله فيه: أقضانا على(1)، وقال ابن الجوزي: كان أبو بكر وعمر يشاورانه، وكان عمر يقول: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن(2)، وقال مسروق: كان الناس يأخذون عن ستة: عمر وعلى وعبد الله وأبي موسى وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب وقال: شاممت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فوجدت علمهم انتهى إلى ستة نفر: عمر وعلى وعبد الله وأبي الدرداء وأبي بن كعب وزيد بن ثابت، ثم شاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى رجلين منهم: إلى على، وعبد الله(3)، وقال أيضًا: انتهى العلم إلى ثلاثة، عالم بالمدينة، وعالم بالشام، وعالم بالعراق، فعالم المدينة على بن أبي طالب، وعالم الكوفة عبد الله بن مسعود، وعالم الشام أبو الدرداء، فإذا التقوا سأل عالم الشام وعالم العراق، عالم المدينة ولم يسألهما(4)، فكان على من هؤلاء المقربين، يشد من أزر أخيه، ولا يبخل عليه برأيه، ويجتهد معه في إيجاد حلول للقضايا، التي لم يرد فيها نص، وفي تنظيم أمور الدولة الفتية، والشواهد على ذلك كثيرة، نذكر منها:
__________
(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب:ص (1102)، المعرفة والتاريخ (1/481).
(2) فضائل الصحابة رقم 1100إسناده ضعيف.
(3) علل الحديث ومعرفة الرجال.. على بن المديني: ص (42، 43) نقلا عن خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على: ص (70)، البخاري رقم 4481.
(4) المعرفة والتاريخ للفسوى (1/444).(1/219)
أولاً: في الأمور القضائية:
1- امرأة تعتريها نوبات من الجنون: عن أبي ظبيان الجنبي: أن عمر بن الخطاب أتى بامرأة قد زنت، فأمر برجمها، فذهبوا بها ليرجموها، فلقيهم على رضي الله عنه، فقال: ما هذه؟ قالوا: زنت فأمر عمر برجمها، فانتزعها على من أيديهم وردهم، فرجعوا إلى عمر، فقال: ما ردكم؟ قالوا: ردنا على، قال: ما فعل هذا علىّ إلا لشيء قد علمه، فأرسل إلى على، فجاء وهو شبه المغضب، فقال: مالك رَدَدْتَ هؤلاء؟ قال: أما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - «يقول: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يكبر، وعن المبتلي حتى يعقل؟» قال: بلى، قال علىّ: فإن هذه مبتلاة بنى فلان، فلعله أتاها وهو بها، فقال عمر: لا أدرى، فلم يرجمها(1)، فقد كان عمر لا يعلم أنه مجنونة.
__________
(1) مسند أحمد الموسوعة الحديثية رقم 1328صحيح لغيره.(1/220)
2- مضاعفة الحد لمن شرب الخمر: أخذ عمر برأي على رضي الله عنهما في مضاعفة الحد لمن شرب الخمر، وذلك لانتشار شرب الخمر وخاصة في البلاد المفتوحة، وهي حديثة العهد بالإسلام، فأشار علىّ على عمر رضي الله عنهما بأن يجلد فيها ثمانين، كأخف الحدود، وعلل ذلك بقوله: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون(1)، وقد ثبت عن على رضي الله عنه أنه قال: ما كنت أقيم حدًا على أحد، فيموت، وأجد في نفسي، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسنه. (2) وأوَّل البيهقي قوله: (لم يسنه) زيادة على الأربعين، أو لم يسنه بالسياط وقد سنه بالنعال وأطراف الثياب مقدار أربعين والله أعلم(3)، وقد استنبط الفقهاء من أفعال الخلفاء الراشدين مقدار الحد في الخمر، على قول مالك والثوري وأبي حنيفة ومن تبعهم ثمانون، لإجماع الصحابة، ومن قال إن الحد أربعون: أبو بكر، والشافعي، وقول لأحمد، وتحمل الزيادة على ذلك من عمر، رضي الله عنه، على أنها تعزيز يجوز فعله إذا رآه الإمام، وهذا هو القول الصحيح للشافعي(4)، وهذا الرأي مال إليه ابن تيمية أيضا وقال:..فأما مع قلة الشاربين وقرب أمر الشارب، فتكفي الأربعون(5).
__________
(1) إرواء الغليل للألباني (8/46، 47) قال إسناده ضعيف، وحقق هذا الأثر عبد الحميد على في رسالته (خلافة على بن أبى طالب) ملحق30.
(2) فتح الباري (12/66).
(3) السنن الكبرى (8/322).
(4) المغنى (8/307).
(5) الفتاوى (28/ 336/ 337) منهاج السنة (6/83)، خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على ص (73).(1/221)
3- لا سلطان لك على ما في بطنها: أتى عمر رضي الله بامرأة حامل فسألها عمر فاعترفت بالفجور، فأمر بها عمر ترجم، فلقيها علىّ فقال: ما بال هذه؟ فقالوا: أمر بها، أمير المؤمنين أن ترجم، فردها على فقال: أأمرت بها أن ترجم؟ قال: نعم، اعترفت عندي بالفجور! قال: هذا سلطانك عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ قال على: فلعلك انتهرتها(1)، أو أخفتها؟ قال: قد كان ذاك، قال: أو ما سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لاحد على معترف بعد بلاء، أنه من قيدت أو حبست أو تهددت فلا إقرار له» فخلى عمر سبيلها، ثم قال: عجزت النساء أن تلد مثل على بن أبي طالب، لولا على لهلك عمر(2).
وقد علق ابن تيمية على هذه القصة: إن هذه القصة إن كانت صحيحة، فلا تخلو من أن يكون عمر لم يعلم أنها حامل، فأخبره على بحملها، ولا ريب أن الأصل عدم العلم، والإمام إذا لم يعلم أن المستحقة للقتل أو الرجم حامل، فعرفه بعض الناس بحالها، كان هذا من جملة إخباره بأحوال الناس... إلى أن قال عن عمر، يعطي الحقوق ويقيم الحدود ويحكم بين الناس كلهم، وفي زمنه انتشر الإسلام وظهر ظهورًا لم يكن قبله مثله، وهو دائمًا يقضي ويفتي ولولا كثرة علمه لم يطق ذلك،ن فإذا خفيت عليه قضية من مائة ألف قضية ثم عرفها أو كان نسيها فذكرها فأي عيب في ذلك؟(3) وكان رده هذا في سياق رده على الروافض.
__________
(1) انتهرتها: زجرتها.
(2) سنن سعيد بن منصور (2/69) رقم 2083، المختصر من كتاب الموافقة: ص (131).
(3) منهاج السنة (6/42).(1/222)
4- ردوا الجهالات إلى السنة:أتى عمر بامرأة أنكحت في عدتها ففرق بينهما وجعل صداقها في بيت المال وقال: لا أجيز مهرًا رد نكاحه، وقال: لا تجتمعان أبدًا، فبلغ ذلك عليًا فقال: وإن كانوا جهلوا السنة لها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب، فخطب عمر الناس فقال: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع عمر إلى قول على(1).
5- هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي: قال جعفر بن محمد: أتى عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار وكانت تهواه، فلما لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة، فألقت صفارها، وصبت البياض على ثوبها وبين فخذها ثم جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي، وهذا أثر فعاله، فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المنى، فهم بعقوبة الشاب، فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت في أمرى، فوالله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فقد راودتني عن نفسي فاعتصمت، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما، فنظر على إلى ما على الثوب، ثم دعا بماء حار شديد الغليان، فصب على الثوب فجمد ذلك البياض ثم أخذه واشتمه، وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر المرأة فاعترفت(2).
ونستخلص من هذه الواقعة بعض الدروس:
(أ) أن وسائل الإثبات في القضاء الإسلامي كانت تشمل الإقرار والشهادة واليمين والنكول.. وتتسع لتشمل الأمارات والفراسة.
(ب) اهتمام عمر بمشاورة كبار الصحابة في النوازل، وعلى الخصوص على، رضي الله عنهما الذي كانت منزلته عنده متميزة(3).
ثانيًا: علي رضي الله عنه والتنظيمات المالية والإدارية العمرية:
1- في الأمور المالية:
__________
(1) المغنى والشرح الكبير (11/66، 67).
(2) الطرق الحكمية لابن القيم: ص (48).
(3) الاجتهاد في الفقه الإسلامي، عبد السلام السليماني: ص (145).(1/223)
(أ) نفقات الخليفة: لما ولي عمر بن الخطاب أمر المسلمين بعد أبي بكر مكث زمانًا، لا يأكل من بيت المال شيئًا حتى دخلت عليه في ذلك خصاصة، ولم يعد يكفيه ما يربحه من تجارته، لأنه اشتغل عنها بأمور الرعية، فأرسل إلى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاستشارهم في ذلك فقال: قد شغلت نفسي في هذا الأمر فما يصلح لي فيه؟ فقال عثمان بن عفان: كل وأطعم، وقال ذلك سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وقال عمر لعلي: ما تقول أنت في ذلك؟ قال: غداء وعشاء، فأخذ عمر بذلك، وقد بين عمر حظه من بيت المال فقال: إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة قيم اليتيم، إن استغنيت عنه تركت، وإن افتقرت إليه أكلت بالمعروف(1).
(ب) رأي علي في أرض السواد بالعراق:لما فتحت أرض السواد بالعراق عنوة، أشار عدد من الصحابة – رضوان الله عليهم- على عمر بتقسيمهم بين الفاتحين، ولكن لسعة الأرض وجودتها، ونظرة عمر البعيدة لمن سيأتي بعد ذلك، لم يطمئن عمر لتقسيمها، فاستشار عليًا في ذلك فكان رأيه موافقًا لرأي الخليفة عمر ألا تقسم فأخذ برأيه وقال: لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي - صلى الله عليه وسلم - خيبر(2).
(ج) لا جرم لتقسمنه:أتى عمر بمال فقسمه بين المسلمين، وفضلت منه فضله، فاستشار فيها الصحابة، فقالوا له: لو تركته لنائبة إن كانت، وفي القوم على ساكت، فأراد عمر أن يسمع رأي على في ذلك، فذكره على بحديث مال البحرين حين جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه قسمه كله، فقال عمر لعلي: لا جرم لتقسمنه، فقسمه على(3)، ويبدو أن هذا كان قبل تقسيم الدواوين(4).
2- علي رضي الله عنه والأمور الإدارية:
__________
(1) الخلافة الراشدة، سنده صحيح، د. يحيى: ص (270).
(2) الأموال، القاسم بن سلام: ص (57)، خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على: ص (75).
(3) مسند أحمد (1/49) إسناده ضعيف لانقطاعه.
(4) خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على: ص (75).(1/224)
عندما احتاج عمر رضي الله عنه أن يضع تاريخًا رسميًا ثابتًا لتنظيم أمور الدولة وضبطها، جمع الناس وسألهم: من أي يوم نكتب التاريخ؟ فقال على رضي الله عنه: من يوم هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك أرض الشرك، ففعله عمر(1)، وقد كان عمر – رضي الله عنه – يراه من أفضل من يقود الناسن فقد ورد عنه أنه كان يناجي رجلاً من الأنصار، فقال: من تحدثون أنه يستخلف من بعدي؟ فعد الأنصاري المهاجرين ولم يذكر عليًا، فقال عمر: فأين أنتم من على؟ فوالله لو استخلفتموه، لأقامكم على الحق وإن كرهتموه(2). وقال لابنه عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما – بعد أن طعن: إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق(3).
3- استخلف عمر عليًا على المدينة مرارًا:
(أ) استخلافه حين خرج عمر إلى ماء صراء فعسكر فيه:وذلك قبيل القادسية وكان الفرس قد حشدوا للمسلمين، فجمع عمر الناس فاستشارهم فكلهم أشار عليه بالميسر(4).
(ب) استخلافه عند نزول عمر بالجابية:وذلك حين نزل عمرو بن العاص أجنادين، فكتب إليه أرطبون الروم، والله لا تفتح من فلسطين شيئًا بعد أجنادين، فارجع لا تغر، وإنما صاحب الفتح رجل اسمه على ثلاثة أحرف، فعلم عمرو أنه عمر، فكتب يعلمه أن الفتح مدخر له، فنادى له الناس، واستخلف على بن أبي طالب(5).
(ج) استخلاف على حين حج عمر بأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -:وهى آخر حجة حجها بالناس كانت سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، وكان مع أمهات المؤمنين أولياؤهن ممن لا يحتجبن منه، وخلف على المدينة على بن أبي طالب(6).
ثالثًا: استشارة عمر لعلي رضي الله عنهما في أمور الجهاد وشئون الدولة:
__________
(1) التاريخ الكبير للبخاري (1/9).
(2) خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على: ص(76)، قيل إن الرواية مرسلة.
(3) بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، تحقيق حسين أحمد (3/741) صحيح الإسناد، خلافة على بن أبي طالب: ص (76).
(4) المنتظم (4/192).
(5) المنتظم (4/192).
(6) المصدر نفسه (4/327)، الفتح (4/87).(1/225)
كان علي رضي الله عنه المستشار الأول لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكان عمر يستشيره في الأمور الكبيرة منها والصغيرة، وقد استشاره حين فتح المسلمون بيت المقدس، وحين فتحت المدائن، وعندما أراد عمر التوجه إلى نهاوند وقتال الفرس، وحين أراد أن يخرج لقتال الروم، وفي وضع التقويم الهجري وغير ذلك من الأمور(1)، وكان على رضي الله عنه طيلة حياة عمر مستشارًا ناصحًا لعمر، محبًا له خائفًا عليه، وكان عمر يحب عليًا وكانت بينهما مودة ومحبة وثقة متبادلة، ومع ذلك يأبي أعداء الإسلام إلا أن يزوروا التاريخ، ويقصوا بعض الروايات التي تناسب أمزجتهم ومشاربهم ليصورا لنا فترة الخلفاء الراشدين عبارة عن أن كل واحد منهم كان يتربص بالآخر الدوائر لينقض عليه، وكل أمورهم كانت تجري من وراء الكواليس(2).
__________
(1) على بن أبي طالب مستشار أمين للخلفاء الراشدين: ص(99).
(2) المصدر نفسه: ص(138).(1/226)
إن من أبرز ما يلاحظه المتأمل في خلافة عمر تلك الخصوصية في العلاقة، وذلك التعاون المتميز الصافي، بين عمر وعلى، رضي الله عنهما، فقد كان على هو المستشار الأول لعمر في سائر القضايا والمشكلات، وما اقترح علىّ عمر رأيًا إلا واتجه عمر إلى تنفيذه عن قناعة، وكان على رضي الله عنه يمحضه النصح في كل شئونه وأحواله(1)، فمثلاً عندما تجمع الفرس بنهاوند في جمع عظيم لحرب المسلمين جمع عمر- رضي الله عنه – الناس واستشارهم في المسير إليهم بنفسه، فأشار عليه عامة الناس بذلك، فقام إليه على – رضي الله عنه- فقال: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت أهل اليمن إلى ذراريهم من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن أشخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والعيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم، واكتب إلى أهل البصرة، فليتفرقوا ثلاث فرق، فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقة إلى إخوانهم بالكوفة مددًا لهم.إن الأعاجم إن ينظروا إليك غدًا قالوا: هذا أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك، وأما ما ذكرت من مسير القوم، فإن الله هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر، فقال عمر: هذا هو الرأي كنت أحب أن أتابع عليه(2).
__________
(1) فقه السيرة النبوية للبوطي: ص 529.
(2) تاريخ الطبري(3/480)، تحقيق مواقف الصحابة (2/94).(1/227)
كانت نصيحة على نصيحة المحب لعمر الغيور عليه، والضنين ألا يذهب، وأن يدير رحى الحرب بمن دونه من العرب وهو في مكانه، وحذره من أنه إذا ذهب، فلسوف ينشأ وراءه من الثغرات ما هو أخطر من العدو الذي سيواجهه، أرأيت لو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلن أن الخلافة من بعده لعلي، أفكان لعلي أن يرغب عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، وأن يؤيد المستلبين لحقه بل لواجبه في الخلافة بمثل هذا التعاون المخلص البناء؟ بل أفكان للصحابة، رضوان الله عليهم، كلهم أن يضيعوا أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ بل أفكان من المتصور أن يجمعوا وفي مقدمتهم على رضوان الله عليه على ذلك؟ بوسعنا أن نعلم إذن بكل بداهة، أن المسلمين إلى هذا العهد – نهاية عهد عمر – بل إلى نهاية عهد على كانوا جماعة واحدة، ولم يكن في ذهن أي من المسلمين أي إشكال بشأن الخلافة، أو شأن من هو أحق بها(1).
إن كثرة مشاورة عمر لعلي، رضي الله عنهما، وغيره من الصحابة، لا يعني هذا أنه دونهم في الفقه والعلم، فقد بينت الأحاديث الصحيحة التي تدل على علو علمه، واكتمال دينه، ولكن إيمانه وحبه للشورى، وتعويده للحكام فيما بعد على المشاورة، وعدم الاستبداد بالأمر والراي، وإلا فإن عليًا رضي الله عنه كان كثيرًا ما يرجع عن رأيه إلى رأي عمر(2)، فقد جاء عن عائشة، رضي الله عنها، في معرض حديثها عن عمر قولها: وقد كان على رضي الله عنه يتابع عمر بن الخطاب، فيما يذهب إليه ويراه، مع كثرة استشارته عليًا، حتى قال على رضي الله عنه: يشاورني عمر في كذا، فرأيت كذا، ورأي هو كذا، فلم أر إلا متابعة عمر(3).
رابعًا: علي رضي الله عنه وأولاده وعلاقتهم بعمر رضي الله عنهم:
كان عمر رضي الله عنه شديد الإكرام لآل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإيثارهم على أبنائه وأسرته، تذكر من ذلك بعض المواقف:
__________
(1) فقه السيرة للبوطي: ص(295).
(2) خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على: ص(77).
(3) الإمامة والرد على الرافضة للأصبهاني: ص(295).(1/228)
1- أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر: جاء فيما رواه الحسين بن على رضي الله عنه: أن عمر قال لي ذات يوم: أي بنى لو جعلت تأتينا وتغشانا؟ فجئت يومًا وهو خال بمعاوية، وابن عمر بالباب لم يؤذن له، فرجعت فلقيني بعد، فقال: يا بنى لم أرك أتيتنا؟ قلت: جئت وأنت خال بمعاوية فرأيت ابن عمر رجع، فرجعت، فقال: أنت أحق بالإذن من عبد الله بن عمر،م إنما أنت في رءوسنا ما ترى: الله، ثم أنتم، ووضع يده على رأسه(1).
2- والله ما هنأ لي ما كسوتكم: روى ابن سعد عن جعفر بن محمد الباقر عن أبيه على ابن الحسين، قال: قدم على عمر حلل من اليمن، فكسا الناس فراحوا في الحلل، وهو بين القبر والمنبر جالس، والناس يأتونه فيسلمون عليه ويدعون له، فخرج الحسن والحسين من بيت أمهما فاطمة رضي الله عنها يتخطيان الناس، ليس عليها من تلك الحلل شيء، وعمر قاطب صار بين عينيه، ثم قال: والله ما هنأ لي ما كسوتكم، قالوا: يا أمير المؤمنين، كسوت رعيتك فأحسنت، قال: من أجل الغلامين يتخطيان الناس وليس عليهما من شيء كبرت عنهما وصغرا عنها، ثم كتب إلى والي اليمن أن ابعث بحلتين لحسن وحسين، وعجَّل، فبعث إليه بحلتين فكساهما(2).
3- تقديم بنى هاشم في العطاء: عن أبي جعفر أنه لما أراد أن يفرض للناس بعدما فتح الله عليه، وجمع ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابدأ بنفسك، فقال: لا والله بالأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن بنى هاشم رهط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفرض للعباس، ثم لعلي، حتى والى بين خمس قبائل، حتى انتهى إلى بنى عدى بن كعب، فكتب: من شهد بدرًا من بنى هاشم، ثم من شهد بدرًا من بنى أمية بن عبد شمس، ثم الأقرب فالأقرب، ففرض الأعطيات لهم وفرض للحسن والحسين لمكانهما من رسول الله(3).
__________
(1) المرتضى: ص (1418)، كنز العمال (7/105)، الإصابة (1/133).
(2) المرتضى: ص (118)، الإصابة (1/106).
(3) الخراج لأبي يوسف: ص (24، 25)، المرتضى: ص (118).(1/229)
4- كساني هذا الثوب أخي وخليلي: خرج على وعليه برد عدني فقال: كساني هذا الثوب أخي وخليلي وصفيى وصديقي أمير المؤمنين عمر(1). وفي رواية عن أبي السفر قال: رئُي على على بن أبي طالب رضي الله عنه برد كان يكثر لبسه قال: فقيل: يا أمير المؤمنين إنك لتكثر لبس هذا البرد؟ فقال: نعم، إن هذا كسانيه خليلي وصفيى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ناصح الله فنصحه، ثم بكى(2).
5- أقطاع ينبع: أقطع عمر بن الخطاب عليًا ينبع، ثم اشترى على إلى قطيعة عمر أشياء فحفر فيها عينًا، فبينما هم يعملون فيها إذ تفجر عليهم مثل عنق الجزور من الماء فأتى على وبشر فتصدق بها على الفقراء والمساكين وفي سبيل الله ليوم تبيض وجوه وتسود وجوه، ليصرف الله تعالى بها وجهه عن النار ويصرف النار عن وجهه، وكتب في صدقته: هذا ما أمر به على بن أبي طالب وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذنية وراعة في سبيل الله ووجهه، أبتغى مرضاة الله، ينفق منها في كل منفعة في سبيل الله ووجهه، وفي الحرب والسلم والجنود وذوى الرحم القريب والبعيد، لا يباع ولا يوهب ولا يورث حيًا أنا أو ميتًا، أبتغى بذلك وجه الله والدار الاخرة، ولا أبتغى إلا الله عز وجل، فإنه يقبلها وهو يرثها وهو خير الوارثين، فذلك الذي قضيت فيها بينى وبين الله عز وجل(3).
6- لتقولن يا أبا حسن:اجتمع عند عمر جماعة من قريش فيهم على فتذكروا الشرف، وعلى ساكت فقال عمر: مالك يا أبا الحسن ساكتًا؟ فكأن عليًا كره الكلام، فقال عمر: لتقولن يا أبا الحسن، فقال على:
في كل معترك تزيل سيوفنا ... فيها الجماجم عن فراخ الهام(4)
__________
(1) المختصر من كتاب الموافقة: ص 140.
(2) المصنف لابن أبي شيبة (12/29) رقم 12047نقلا عن الشريعة للآجرى (5/2327) إسناده حسن.
(3) المحلى (6/180)، مصنف عبد الرزاق (10/375) فقه على، قلعجي: ص (626).
(4) فراخ الهام: فراخ الرأس على التشبيه.(1/230)
الله أكرمنا بنصر نبيه ... وبنا أعز شرائع الإسلام
ويزورنا جبريل في أبياتنا ... بفرائض الإسلام والأحكام(1)
7- حوار بين أمير المؤمنين عمر وعلى حول الرؤيا: قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: أعجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال، فتكون رؤياه كأخذ اليد، ويرى الرجل الشيء، فلا تكون رؤياه شيئًا، فقال على بين أبي طالب: أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول(2): {اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [الزمر: 42].
خامسًا: زواج عمر من أم كلثوم بنت على بن أبي طالب:
__________
(1) المختصر من كتاب الموافقة: ص(138).
(2) الفتاوى (5/270، 271).(1/231)
زوج على بن أبي طالب رضي الله عنه ابنته من فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفاروق حينما سأله زواجها منه رضي الله عنه بما يطلب، وثقة فيه وإقرارًا لفضله ومناقبة، واعترافًا بمحاسنه وجمال سيرته، وإظهارًا بأن بينهم من العلاقات الوطيدة الطيبة والصلات المحكمة المباركة ما يحرق قلوب الحساد من أعداء الأمة المجيدة، ويرغم أنوفهم(1)، فقد كان عمر يكن لأهل البيت محبة خاصة لا يكنها لغيرهم لقرابتهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولما أوصى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إكرام أهل البيت ورعاية حقوقهم، فمن هذا الباعث خطب عمر أم كلثوم ابنة على وفاطمة رضوان الله عليهم وتودد إليه في ذلك قائلاً: فوالله ما على الأراض رجل يرصد من حسن صحبتها ما أرصد، فقال على: قد فعلت، فأقبل عمر إلى المهاجرين، وهو مسرور قائلاً: رفئوني..ثم ذكر أن سبب زواجه منها ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا ما كان من سببي ونسبي»، فأحببت أن يكون بيني وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبب(2)، ولقد أقر بهذا الزواج كل أهل التاريخ والأنساب وجميع محدثي الشيعة وفقهائهم ومكابريهم ومجادليهم وأئمتهم المعصومين حسب زعمهم، ولقد أورد الشيخ إحسان إلهي ظهير روايات بخصوص ذلك في كتابه الشيعة والسنة(3)، ولقد ذكر هذا الزواج علماء أهل السنة في التاريخ وأجمعت مصادرهم عليه، ومن العلماء الذين ذكروا هذا الزواج: الطبري(4)، وابن كثير(5)، والذهبي(6)، وابن الجوزي(7)
__________
(1) الشيعة وأهل البيت: ص(105).
(2) إسناده حسن، أخرجه الحاكم في المستدرك (3/142) صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي متعقبًا: منقطع، وأورده الهيثمي في (مجمع الزائد 9/173) وقال: رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح غير الحسن بن سهل وهو ثقة، وهناك من ضعفه.
(3) الشيعة وأهل البيت: ص(105).
(4) تاريخ الطبري (5/28).
(5) البداية والنهاية (5/220).
(6) تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين: ص(166).
(7) المنتظم (4/131).(1/232)
والدياربكرى(1)، وقد ذكر هذا(2) الزواج في كتب التراجم، كابن حجر(3)، وابن سعد(4)، وأسد الغابة، وقد قام الأستاذ أبو معاذ الإسماعيلي في كتابه زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم بنت على بن أبي طالب رضي الله عنهما حقيقة وليس افتراء، بتتبع مراجع مصادر الشيعة وأهل السنة فيما يتعلق بهذا الزواج ورد على الشبهات التي ألصقت بهذا الزواج الميمون، وقد ذكرت شيئًا من سيرتها ومواقفها في حياتها في عهد الفاروق في كتابي (فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، شخصيته وعصره).
هذا وقد ولدت أم كلثوم بنت على من عمر رضي الله عنه ابنة سميت (رقية) وولدًا سمته زيدًا، وقد روى أصحاب زيد أن زيد بن عمر حضر مشاجرة في قوم من بنى عدى بن كعب ليلا فخرج إليهم زيد بن عمر ليصلحهم فأصابته ضربة شجت رأسه ومات من فوره، وحزنت أمه لقتله ووقعت مغشيًا عليها من الحزن فماتت من ساعتها، ودفنت أم كلثوم وابنها زيد بن عمر في وقت واحد، وصلى عليهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، قدمه الحسن ابن على بن أبي طالب وصلى خلفه(5).
سادسًا: يا بنت رسول الله ما أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك، وما أحد من الخلق بعد أبيك أحب إلينا منك:
__________
(1) تاريخ الخميس نقلا عن زواج عمر من أم كلثوم لأبي معاذ: ص (19).
(2) الإصابة لابن حجر: ص (276) كتاب الكنى وكتاب النساء.
(3) الإصابة لابن حجر: ص (276) كتاب الكنى وكتاب النساء.
(4) أسد الغابة (7/425).
(5) أسد الغابة (7/45)، ونساء أهل البيت، منصور عبد الحكيم: ص(185، 186).(1/233)
عن أسلم العدوي قال: لما بويع لأبي بكر بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على والزبير بن العوام يدخلان على فاطمة فيشاورانها، فبلغ عمر، فدخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله ما أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك، وما أحد من الخلق بعد أبيك أحب إلينا منك، وكلمها، فدخل على والزبير على فاطمة فقالت: انصرفا راشدين، فما رجعا إليها حتى بايعا(1)، وهذا هو الثابت الصحيح والذي مع صحة سنده ينسجم مع روح ذلك الجيل وتزكية الله له. وقد زاد الروافض في هذه الرواية واختلفوا إفكا وبهتانًا وزورًا، وقالوا إن عمر قال: إذا اجتمع عندك هؤلاء النفر ان لأُحرقنَّ عليهم هذا البيت، لأنهم أرادوا شق عصا المسلمين بتأخرهم عن البيعة، ثم خرج عنها، فلم يلبث أن عادوا إليها، فقالت لهم: تعلمون أن عمر جاءني وحلف بالله لئن أنتم عدتم إلى هذا البيت ليحرقنه عليكم، وايم الله إنه ليصدقن فيما حلف عليه، فانصرفوا عني فلا ترجعوا إلىَّ ففعلوا ذلك، ولم يرجعوا إليها إلا بعدما بايعوا(2). وهذه القصة لم تثبت عن عمر رضي الله عنه، ودعوى أن عمر رضي الله عنه هم بإحراق بيت فاطمة، من أكاذيب الرافضة، أعداء صحابة رسول الله، وقد أوردها مع أكاذيب أخرى الطبري الطبرسى في كتابه دلائل الإمامة(3)، عن جابر الجعفي، وهو رافضي كذاب باتفاق أئمة الحديث كما في الميزان(4) للذهبي، وتهذيب التهذيب(5)، وزعم بعض الروافض أن عمر ضرب فاطمة حتى أسقط ولدها محسنًا وهو في بطنها، وهذه من الأكاذيب الرافضة التي لا أساس لها من الصحة، وما علموا أنهم يطعنون في على رضي الله عنه، وذلك باتهامه بالجبن والسكوت عن عمر وهو من أشجع أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (6)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة: المصنف (14/567) إسناده صحيح.
(2) عقائد الثلاثة والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني (1/140).
(3) دلائل الإمامة: ص (26) نقلاً عن عقائد الثلاثة والسبعين (1/140).
(4) الميزان للذهبي (1/279).
(5) تهذيب التهذيب (2/47).
(6) حقبة من التاريخ: ص(224).(1/234)
، بل إن بعض كتب الروافض أنكر صحة هذا الهذيان والزور(1) علمًا بأن محسنًا ولد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت ذلك بالرواية الصحيحة.
سابعًا: الخلاف بين العباس وعلى وحكم عمر رضي الله عنهم بينهما:
قال مالك بن أوس: بينما أنا جالس في أهلي حين متع النهار(2)، إذا رسول عمر بن الخطاب يأتيني، فقال: أجب أمير المؤمنين، فانطلقت معه حتى دخلت على عمر، فإذا هو جالس على رمال(3) سرير ليس بينه وبينه فراش، متكئ على وسادة من أدم، فسلمت عليه ثم جلست، فقال: يا مالك إنه قدم علينا من قومك أهل أبيات، وقد أمرت فيهم برضخ، فاقبضه فاقسمه بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين لو أمرت به غيري، قال: اقبضه أيها المرء، فبينما أنا جالس عنده أتاه حاجبه يرفأ، فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد بن أبي وقاص، يستأذنونك؟ قال: نعم فأذن لهم فدخلوا فسلموا وجلسوا، ثم جلس يرفأ يسيرًا، ثم قال: هل لك في علىّ وعباس؟ قال: نعم فأذن لهما فدخلا فسلما فجلسا، فقال عباس: يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا، وهما يختصمان فيما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - من مال بنى النضير، فقال الرهط – عثمان وأصحابه-: يا أمير المؤمنين اقض بينهما وأرح أحدهما من الآخر قال عمر: تيدكم(4)، أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة»،يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه؟ قال الرهط: قد قال ذلك، فأقبل عمر على علىّ، وعباس، فقال: أنشدكما بالله أتعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قال ذلك؟ قالا: قد قال ذلك، قال عمر: فإني أحدثكم عن هذا الأمر، إن الله قد خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الفئ بشيء لم يعطه أحدًا غيره، ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ
__________
(1) مختصر التحفة الاثنى عشرية: ص(252).
(2) متع النهار: ارتفع قبل الزوال.
(3) المراد أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف.
(4) التيد: الرفق، يقال:تيدك هذا، أي اتئد.(1/235)
عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر:6]. فكانت هذه خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووالله ما احتازها دونكم، ولا أستأثر بها عليكم، قد أعطاكموها، وبثها فيكم، حتى بقى منها هذا المال، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقى فيجعله مال الله، فعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك حياته، أنشدكما بالله، هل تعلمان ذلك؟ قال عمر: ثم توفى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو بكر: أنا ولي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفى الله أبا بكر، فكنت أنا وليُّ أبي بكر فقبضتها سنتين من إمارتي، أعمل فيها بما عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عمل فيها أبو بكر، والله يعلم أني فيها لصادق بار راشد تابع للحق، ثم جئتماني تكلماني وكلمتكما واحدة وأمركم واحد، جئتنى يا عباس، تسألني نصيبك من ابن أخيك، وجاءني هذا «يريد عليًا» يريد نصيب امرأته من أبيها، فقلت لكما: إن رسول الله قال: «لا نورث، ما تركناه صدقة» فلما بدا لي أن أدفعه إليكما قلت: إن شئتما دفعتها إليكما، على أن عليكما عهد الله وميثاقه لتعملان فيها بما عمل فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما عمل أبو بكر، وبما عملت فيها منذ وليتها، فقلتما: ادفعها إلينا، فبذلك دفعتها إليكما فأنشدكم بالله هل دفعتها إليهما بذلك؟ قال الرهط:نعم، ثم أقبل على على وعباس فقال: أنشدكم بالله هل دفعتها إليكما بذلك؟ قالا: نعم، قال: فتلتمسان مني غير ذلك، فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، لا أقضي فيها قضاء غير ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلىَّ، فإني أكفيكماها(1).
ثامنًا: ترشيح عمر عليًا للخلافة مع أهل الشورى وما قاله على في عمر بعد استشهاده:
__________
(1) البخاري رقم 3094، مسلم 1757واللفظ للبخاري.(1/236)
1- ترشيح على مع أهل الشورى:لما طُعن عمر رضي الله عنه وظن أنه سيفارق الحياة، وأخذ المسلمون يدخلون عليه، ويقولون له: أوصِ يا أمير المؤمنين، استخلف، فقال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر – أو الرهط- الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض فسمى عليًا، وعثمان، والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن(1)، ثم دعا خاصتهم وهم عبد الرحمن، وعثمان، وعلى فوعظهم(2)، إن عمر رضي الله عنه إمام وعليه أن يستخلف الأصلح للمسلمين، فاجتهد في ذلك ورأى أن الستة الذين توفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض أحق من غيرهم، وهو كما رأى، فإنه لم يقل أحد أن غيرهم أحق منهم، وجعل التعيين إليهم خوفًا أن يعين واحدًا منهم، ويكون غيره أصلح لهم، فإنه ظهر له رجحان الستة دون رجحان التعيين، وقال: الأمر في التعيين إلى الستة يعينون أحدًا منهم، وهذا اجتهاد إمام عادل ناصح لا هوى له رضي الله عنه، وهو نموذج واقعي لتطبيق قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ} [آل عمران: 159]، فكان ما فعله من الشورى مصلحة(3).
__________
(1) البداية والنهاية (7/142).
(2) البخاري رقم 3700.
(3) منهاج السنة (3/162- 164)، المنتقى: ص (362- 364).(1/237)
إن الفاروق رضي الله عنه رأى الأمر في الستة متقاربًا فإنهم وإن كان لبعضهم من الفضيلة ما ليس لبعض، فلذلك المفضول مزية أخرى ليست للآخر، ورأى أنه إذا عين واحدًا فقد يحصل بولايته نوع من الخلل فيكون منسوبًا إليه، فترك التعيين خوفًا من الله تعالى، وعلم أنه ليس واحد أحق بهذا الأمر منهم فجمع بين المصلحتين، بين تعيينهم إذ لا أحق منهم، وترك تعيين واحد منهم لما تخوفه من التقصير، والله تعالى قد أوجب على العبد أن يفعل المصلحة بحسب الإمكان، فكان ما فعله غاية ما يمكن من المصلحة(1)، ولا يقال إنه بجعله الأمر شورى بين الستة قد خالف به من تقدمه كما هو زعم الشيعة الرافضة، لأن الخلاف نوعان، خلاف تضاد وخلاف تنوع، وما فعله عمر – رضي الله عنه – من النوع الثاني(2)، وقد أقره على اجتهاده كل الصحابة ولم نسمع أحدًا عارضه، وقد بسطت ما ابتكره عمر من طريقة جديدة في اختيار الخليفة من بعده في كتابي فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شخصيته وعصره، فمن أراد التوسع فليرجع إليه مشكورًا.
2- ما قاله على في عمر بعد استشهاده: قال ابن عباس كما هو في صحيح البخاري: وضع عمر على سريره فتكنفه الناس يدعون ويصلون، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعنى إلا رجل آخذ منكبي، إذا على بن أبي طالب، فترحم على عمر وقال: ما خلفت أحدًا أحب إلى أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كنت كثيرًا ما أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر(3).
__________
(1) منهاج السنة (3/162- 164)، المنتقى: ص(362- 364).
(2) عقيدة أهل السنة (2/1042).
(3) البخاري، رقم 3685.(1/238)
3- قول على في عمر: إن عمر كان رشيد الأمر: وها هو حرصه على عدم مخالفته بعد وفاته: عن عبد خير قال: كنت قريبًا من على حيث جاء أهل نجران قال: قلت: فإن كان رادًا على عمر شيئًا فاليوم، قال: فسلموا واصطفوا بين يديه، قال: ثم أدخل بعضهم يده في كمه فأخرج كتابًا فوضعه في يد على، قالوا: يا أمير المؤمنين، خطك بيمينك وإملاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك، قال: فرأيت عليًا وقد جرت الدموع على خده قال: ثم رفع رأسه إليهم فقال: يا أهل نجران، إن هذا لآخر كتاب كتبته بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فأعطنا ما فيه، قال: سأخبركم عن ذاك؛ إن الذي أخذه عمر لم يأخذه لنفسه، إنما أخذه بجماعة من المسلمين، وكان الذي أخذه منكم خيرًا مما أعطاكم والله لا أرد شيئًا مما صنعه عمر إن عمر كان رشيد الأمر(1)، وهذه الحادثة أصل الفقهاء عليها قولهم: لا يرد القاضي اجتهاد قضاء من قبله عند على(2)، وروى عنه أنه قال: اقضوا كما كنتم تقضون حتى تكونوا جماعة، فإني أخشى الاختلاف(3)، وهو قول جمهور الفقهاء(4)، وقد قال على: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر(5).
__________
(1) معجم البلدان (5/269)، والمختصر من كتاب الموافقة: ص (139)، فقه الإمام على (2/813) نقل عن السنن للبيهقي، إسناده مرسل، الآجرى (4/1777) إسناده مرسل.
(2) فقه الإمام على (2/813).
(3) مصنف عبد الرزاق (10/329) نقلاً عن فقه الإمام على (2/813).
(4) فقه الإمام على (2/813).
(5) المختصر من كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة: ص (140) إسناده منقطع، ابن أبي شيبة في المصنف (12/33) رقم 12054.(1/239)
4- إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكرهه لذلك: لما فرغ على من وقعة الجمل، ودخل البصرة، وشيع أم المؤمنين عائشة لما أردات الرجوع إلى مكة، سار من البصرة إلى الكوفة، فدخلها يوم الاثنين، لثنتى عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا، إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله فأنا أكرهه لذلك، فنزل في الرحبة وصلى في الجامع الأعظم ركعتين(1).
__________
(1) تاريخ الخلافة الراشدة، محمد كنعان: ص (383).(1/240)
5- حب أهل البيت لعمر رضي الله عنه: إن من دلالة محبة أهل البيت الفاروق – رضي الله عنه – تسمية أبنائهم باسمه، حبًا وإعجابًا بشخصيته، وتقديرًا لما أتى به من الأفعال الطيبة والمكارم العظيمة، ولما قدم إلى الإسلام من الخدمات الجليلة، وإقرارًا بالصلات والودية الوطيدة التي تربطه بأهل بيت النبوة والرحم، والصهر القائم بينه وبينهم، فأول من سمى ابنه باسمه أمير المؤمنين على بن أبي طالب سمى ابنه من أم حبيب بنت ربيعة البكرية عمر(1)، وقد جاء في كتاب صاحب الفضول، حتى ذكر أولاد على بن أبي طالب: وعمر من التغلبية، وهى الصهباء بنت ربيعة من السبى الذي أغار عليهم خالد بن الوليد بعين التمر، وعمَّر عمر هذا حتى بلغ خمسًا وثمانين سنة فحاز نصف ميراث على رضي الله عنه، وذلك أن جميع إخوانه وأشقائه وهم عبد الله وجعفر وعثمان قتلوا جميعهم قبله مع الحسين رضي الله عنه – يعني أنه لم يقتل معهم – بالطف فورثهم(2)، هذا وتبعه حسن في ذلك الحب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهم فسمى أحد أبنائه عمر أيضًا(3)، وكذلك الحسين بن على سمى عمر، ومن بعد الحسين ابنه على الملقب بزين العابدين سمى أحد أبنائه باسم عمر(4)، وكذلك موسى بن جعفر الملقب بالكاظم سمى أحد أبنائه باسم عمر(5)، فهؤلاء الأئمة من أهل البيت الذين ساروا على هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعالم منهج أهل السنة والجماعة بسيرتهم العطرة يظهرون لعمر الفاروق ما يكنونه في صدورهم من حبهم وولائهم له بعد وفاته بمدة، وقد جرى هذا الاسم وكذلك أبو بكر وعثمان في ذرية أهل البيت ممن ساروا على مذهب الحق وهو منهج أهل السنة والجماعة إلى يومنا هذا، ونجد أسماء الصحابة وأمهات المؤمنين في البيوت الهاشمية التي
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/213)، الشيعة وأهل البيت: ص (133).
(2) الفصول المهمة: ص (143)، الشيعة وأهل البيت: ص(133).
(3) الشيعة وأهل البيت: ص(133).
(4) االمصدر نفسه: ص (134).
(5) المصدر نفسه: ص (135).(1/241)
التزمت بالكتاب والسنة، فقد سموا طلحة، وعبد الرحمن وعائشة وأم سلمة ونحن ندعو الشيعة اليوم إلى الاقتداء بعلي والحسن والحسين وسائر الأئمة من آل البيت، فيسمون بعض أبنائهم وبناتهم بأسماء الخلفاء الراشدين، وأمهات المؤمنين (1)، نرجو ذلك.
6- عمر بن الخطاب جعله الله سببًا في ذرية الحسين بن على بن أبي طالب:أعطى – عمر بن الخطاب- رضي الله عنه – للحسين بن على رضي الله عنهم من غنائم الفرس ابنة يزدجرد ملك الفرس، فولدت له زين العابدين على بن الحسين الذي لم يبق من أبناء الحسين غيره، وكل ذرية الحسين تناسلوا منه وينسبون إليه(2)، فليحذر الذين يسبون عمر بن الخطاب ممن ينتسبون إلى الحسين، فلولاه بعد الله لما كان لهم وجود(3)، كما أن عمر – رضي الله عنه – أعطى أختها لمحمد بن أبي بكر فكان عديلاً للحسين، وأنجبت له القاسم بن محمد بن أبي بكر فكان القاسم بن محمد بن أبي بكر، وعلى بن الحسين زين العابدين ابنى خالة(4).
__________
(1) اذهبوا فأنتم الرافضة، عبد العزيز الزبير: ص (230).
(2) عمدة الطالب في أنساب أبي طالب، الفصل الثاني عنوان (عقب الحسين) نقلاً عن: اذهبوا فأنتم الرافضة: ص (232).
(3) اذهبوا فأنتم الرافضة ص (232).
(4) سير أعلام النبلاء (6/256).(1/242)
7- قول عبد الله بن الحسن بن على بن أبي طالب في عمر(1): عن حفص بن قيس، قال: سألت عبد الله بن الحسن عن المسح على الخفين، فقال: امسح، فقد مسح عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: فقلت: إنما أسألك أنت تمسح؟ قال: ذاك أعجز لك، أخبرك عن عمر وتسألني عن رأيي، فعمر كان خيرًا مني ومن ملء الأرض، فقلت: يا أبا محمد، فإن ناسًا يزعمون أن هذا منكم تقية، قال: فقال لي - ونحن بين القبر والمنبر-: اللهم إن هذا قولي في السر والعلانية، فلا تسمعن علىَّ قول أحد بعدي. ثم قال: من هذا الذي يزعم أن عليًا رضي الله عنه كان مقهورًا، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بأمر ولم ينفذه؟ وكفى بإزراء على علىًّ ومنقصة أن يزعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره بأمر ولم ينفذه(2).
__________
(1) هو عبد الله بن الحسن بن الحسين بن على بن أبي طالب، -أبو محمد الهاشمي كان ذا هيبة ولسان وشرف، وكانت له منزلة عند عمر بن عبد العزيز، توفى سنة 145هـ، الأعلام للزركلي (4/207)، تاريخ بغداد (9/431).
(2) النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب لمحمد عبد الواحد المقدسي: ص(57).(1/243)
المبحث الثالث : على رضي الله عنه في عهد عثمان بن عفان
أولاً: بيعة على لعثمان رضي الله عنه:
لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، وقيل أنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين - بعد وفاة عمر -، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين(1)، وقد أشرف على تنفيذ عملية الشورى واختيار الخليفة عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، وحقق رضي الله عنه أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يتحمل أعباء الخلافة ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدريب ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى(2)، وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير(3)، قال الذهبي: ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزل نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان، ولو كان محابيًا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص(4)، وقد تم الاتفاق على بيعة عثمان بعد صلاة صبح يوم البيعة اليوم الأخير من شهر ذى الحجة 23هـ/6نوفمبر644م، وكان صهيب الرومي الإمام إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد، منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه إلى المدينة(5)، وجاء في رواية البخاري: فلما صلى
__________
(1) عثمان بن عفان، لصادق عرجون: ص(62،63).
(2) المصدر نفسه ص: (70، 71).
(3) مجلة البحوث الإسلامية العدد10: ص(255).
(4) سير أعلام النبلاء (1/86).
(5) شهيد الدار: ص (37).(1/244)
الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضرًا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا على إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعل على نفسك سبيلاً فقال: (1) أبايعك على سنة الله
ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون(2)، وجاء في رواية صاحب التمهيد والبيان أن على بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف(3).
ثانيًا: أباطيل رافضية دست في قصة الشورى:
__________
(1) قوله: فقال: أي عبد الرحمن مخاطبًا عثمان.
(2) البخاري، ك الأحكام، رقم 7207.
(3) التمهيد والبيان ص(26).(1/245)
هناك أباطيل رافضية دست في التاريخ الإسلامي في قصة الشورى وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحصوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها، فانتشرت بين المسلمين، لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبًا خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة، وابن بابويه(1)، ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدى في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة(2)، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة ووصيته لكل من على وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر(3)، وقد نقل البلاذرى خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف(4)، وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها ما تفرد به(5)، وعن الواقدي(6)، وعن عبيد الله بن موسى(7)، واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف(8)، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري(9)، وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي(10)، وقد تضمنت الروايات الشيعية الرافضة عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهى:
__________
(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (14/246).
(2) الطبقات الكبرى (3/ 63)، (3/67).
(3) الطبقات الكبرى (3/63)، (3/67).
(4) أنساب الأشراف (5/18، 19).
(5) أنساب الأشراف (5/18، 19).
(6) أنساب الأشراف (5/18، 19).
(7) المصدر نفسه (5/6).
(8) أثر التشيع على الروايات التاريخية: ص(321).
(9) شرح نهج البلاغة (9/49، 50، 58).
(10) المصدر السابق (9/15).(1/246)
1- اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين: اتهمت الروايات الشيعية الرافضية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علىّ بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليًا أحس بأن الخلافة قد ذهبت منه، لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما(1)، وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن فقال: إن عبد الرحمن ليس أخًا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلاً، بل هذا من بنى زهرة وهذا من بنى أمية، وبنو زهرة إلى بنى هاشم أكثر ميلاً منهم إلى بنى أمية، فإن بنى زهرة أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: هذا خالي، فليرني امرؤ خاله (2)، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤاخ بين مهاجري ومهاجرى، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخي بين المهاجرين والأنصار، فآخي بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري(3)، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك(4)، وقد بنت الروايات الشيعية الرافضية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما، متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة، التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد(5).
__________
(1) أثر التشيع على الروايات التاريخية: ص (322).
(2) صحيح سنن الترمذي (3/220) رقم 4018.
(3) البخاري، ك مناقب الأنصار رقم 3780.
(4) منهاج السنة النبوية (6/271، 272).
(5) الطبقات الكبرى (3/127).(1/247)
2- حزب أموى وحزب هاشمي: أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بنى هاشم وبنى أمية أثناء المبايعة وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة(1)، وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية لحاجة في نفوسهم مع بطلانها سندًا ومتنًا من جهة وثبوت روايات صحيحة تناقض ما ذهبوا إليه من جهة أخرى، وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصورا تشاور أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائرى وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين؛ حزب أموى وحزب هاشمى، وهو تصور موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه، إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما كان يقف المهاجرى مع الأنصارى ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبنى عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أن هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في معالجة أمورهم، فليست القضية تمثيلاً عائليًا أو عشائريًا، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام(2).
__________
(1) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري: ص(177، 178).
(2) الخلفاء الراشدين، أمين القضاة ص 78، 79.(1/248)
3- أكاذيب نسبت زورًا وبهتانًا لعلي رضي الله عنه: قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليًا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال عبد الرحمن: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:10]، إلى غير ذلك من الأخبار المخالفة لما ثبت في الصحاح، فهي مردودة على قائليها وناقليها والله أعلم، والمظنون من الصحابة خلاف ما يتوهم كثير من الرافضة وأغبياء القُصاص الذين لا تمييز عندهم بين صحيح الأخبار وضعيفها ومستقيمها وسقيمها (1).
ثالثًا: المفاضلة بين عثمان وعلى رضي الله عنهما:
__________
(1) البداية والنهاية (7/152).(1/249)
الذي عليه أهل السنة أن من قدم عليًا على أبي بكر وعمر فإنه ضال مبتدع، ومن قدم عليًا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه، ولا يبدعونه(1)، وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم عليا على عثمان بأنه قال: من قدم عليًا على عثمان فقد زعم أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خانوا الأمانة حيث اختاروا عثمان على علىًّ رضي الله عنه(2)، وقد قال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وأن كانت هذه المسألة – مسألة عثمان وعلى – ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عن جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على، ومن طعن في خلافة هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله(3)، وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل علىًّ على عثمان: فقال: فيها روايتان: إحداهما، لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليًا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدم عليًا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني، الثانية: لا يبدع من قدم عليًا، لتقارب حال عثمان وعلى(4).
رابعًا: على رضي الله عنه يقيم الحدود ويستشار في شئون دولة عثمان رضي الله عنه:
__________
(1) مجموعة الفتاوى (3/101، 102).
(2) حقبة من التاريخ لعثمان الخميس: ص (66).
(3) مجموعة الفتاوى (3/101، 102).
(4) المصدر السابق (4/267).(1/250)
1- إقامة على للحدود في عهد عثمان رضي الله عنهما: عن حصين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان، وأتى بالوليد فشهد عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه لم يتقيأ، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا على قم فاجلده فقال على: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولَّ حارها من تولى قارها(1)، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده، فجلده وعلى يعد، حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، ثم قال: جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلىَّ(2). ويؤخذ من هذا الحديث أن عليًا رضي الله عنه كان قريبًا من عثمان ومعينًا له على طاعة الله، وكان على رضي الله عنه يقول في معرض دفاعه عن عثمان ردًا على من يعيب على عثمان بفعل المنسوب للوليد: إنكم ما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردءه(3)، ما ذنب عثمان في رجل قد ضربه بفعله وعزله عن عمله، وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا(4).
__________
(1) أي: ولِّ بشدتها وأوساخها من ولي هنيئها ولذاتها.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم ك الحدود (11/216).
(3) الردء هو العون: تاريخ الطبري (5/278).
(4) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/421).(1/251)
2- استشارة عثمان لعلي وكبار الصحابة في فتح إفريقية: جاء في رياض النفوس أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان جاءه من واليه على مصر «عبد الله بن سعد» أن المسلمين يغيرون على أطراف إفريقية فيصيبون من عدوهم، وأنهم قريبون من حوز المسلمين، فأعرب عثمان بن عفان رضي الله عنه- على إثر ذلك- للمسور بن مخرمة عن رغبته في بعث الجيوش لغزو إفريقية، جاء في هذا الصدد ما نصه: فما رأيك يا ابن مخرمة؟ قلت: اغزهم، قال: أجمع اليوم الأكابر من أصحاب رسول الله، وأستشيرهم، فما أجمعوا عليه فعلته، أو ما أجمع عليه أكثرهم فعلته..رأيت عليًا، وطلحة والزبير والعباس، وذكر رجالاً، فخلا بكل واحد منهم في المسجد، ثم دعا أبا الأعور «سعيد بن زيد» فقال له عثمان: لم كرهت- يا أبا الأعور – من بعثة الجيوش إلى إفريقية؟ فقال له: سمعت «عمر» يقول: لا أغزيها أحدًا من المسلمين ما حملت عيناي الماء فلا أرى لك خلاف عمر، فقال له عثمان: والله ما نخافهم وإنهم لراضون أن يقروا في مواضعهم، فلا يغزون، فلم يختلف عليه أحد ممن شاوره غيره، ثم خطب الناس، وندبهم إلى الغزو، إلى إفريقية، فخرج بعض الصحابة منهم عبد الله بن الزبير، وأبو ذر الغفاري(1).
__________
(1) رياض النفوس (1/8- 9) الجهاد والقتال، هيكل (1/556).(1/252)
3- رأي على في جمع عثمان الناس على قراءة واحدة: جمع عثمان رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وشاورهم في الأمر، وفيهم أعيان الصحابة وفي طليعتهم على بن أبي طالب رضي الله عنه، وعرض عثمان رضي الله عنه هذه المعضلة على صفوة الأمة وقادتها الهادين المهديين، ودارسهم أمرها ودارسوه، وناقشهم فيها وناقشوه، حتى عرف رأيهم وعرفوا رأيه، وظهر الناس في أرجاء الأرض ما انعقد عليه إجماعهم، فلم يعرف قط يومئذ لهم مخالف، ولا عرف عند أحد نكير، وليس شأن القرآن الذي يخفي على آحاد الأمة فضلاً عن علمائها وأئمتها البارزين(1) أن عثمان – رضي الله عنه- لم يبتدع في جمعه للمصحف، بل سبقه إلى ذلك أبو بكر الصديق – رضي الله عنه – كما أنه لم يضع ذلك من قبل نفسه إنما فعله عن مشورة للصحابة، رضي الله عنهم، وأعجبهم هذا الفعل وقالوا: نعم ما رأيت، وقالوا أيضًا: قد أحسن – أي في فعله في المصاحف(2)، وقد أدرك مصعب بن سعد صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين مشق(3) عثمان المصاحف فرآهم قد أعجبوا بهذا الفعل منه(4)، وكان على رضي الله عنه ينهي من يعيب على عثمان – رضي الله عنه – بذلك ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل- أي في المصاحف – إلا عن ملأ منا جميعًا؛ أي الصحابة..والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل(5)، وجاء في رواية أخرى عن على قوله: لما اختلف الناس في القرآن وبلغ ذلك عثمان جمعنا أصحاب رسول الله واستشارنا في جمع الناس على قراءة، فأجمع رأينا مع رأيه على ذلك، وقال بعد ذلك: لو وليت الذي ولى، لصنعت مثل الذي صنع(6)
__________
(1) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص(175).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/78).
(3) مشق: أحرق (لسان العرب 10/344).
(4) التاريخ الصغير للبخاري (1/94) إسناده حسن لغيره.
(5) فتح الباري (9/18) إسناده صحيح.
(6) سنن أبي داود، ك المصاحف، ص (29، 30) إسناده صحيح، خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على، ص (80).(1/253)
.
خامسًا: موقف على رضي الله عنه في فتنة عثمان رضي الله عنه:
كانت هناك أسباب متنوعة ومتداخلة ساهمت في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، كالرخاء وأثره في المجتمع، وطبيعة التحول الاجتماعي، ومجئ عثمان بعد عمر رضي الله عنهما، وخروج كبار الصحابة من المدينة، والعصبية الجاهلية، وتآمر الحاقدين، والتدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، واستخدام الوسائل والأساليب المهيجة للناس، وأثر السبئية في أحداث الفتنة، وقد فصلت وشرحت تلك الأسباب في كتابي «تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان..شخصيته وعصره».
لقد استخدم أعداء الإسلام في فتنة مقتل عثمان الأساليب والوسائل المهيجة للناس، من إشاعة الأراجيف حيث ترددت كلمة الإشاعة والإذاعة كثيرًا، والتحريض، والمناظرة والمجادلة للخليفة أمام الناس، والطعن على الولاة، واستخدام تزوير الكتب واختلاقها على لسان الصحابة، رضي الله عنهم، عائشة وعلى وطلحة والزبير، والإشاعة بأن على بن أبي طالب رضي الله عنه الأحق بالخلافة، وأنه الوصى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،م وتنظيم فرق في كل من البصرة والكوفة ومصر، أربع فرق من كل مصر مما يدل على التدبير المسبق، وأوهموا أهل المدينة أنهم ما جاءوا إلا بدعوة الصحابة، وصعدوا الأحداث حتى وصلت إلى القتل(1)، وإلى جوار هذه الوسائل، استخدموا مجموعة من الشعارات منها، التكبير، ومنها أن هذا ضد المظالم، ومنها أنهم لا يقومون إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها المطالبة باستبدال الولاة وعزلهم، ثم تطورت المطالبة إلى خلع عثمان، إلى أن تمادوا في جرأتهم وطالبوا بل سارعوا إلى قتل الخليفة، وخاصة حينما وصلهم الخبر بأن أهل الأمصار قادمون لنصرة الخليفة، فزادهم حماسهم المحموم لتضيق الخناق على الخليفة، والتشوق إلى قتله بأي وسيلة(2).
__________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص (410).
(2) المصدر نفسه، ص(402).(1/254)
كان التنظيم السبئي بقيادة عبد الله بن سبأ اليهودي خلف تلكم الأحداث والتي بعدها، وسيأتي الحديث عنه بإذن الله، وعن عثمان الذي هز مقتله العالم الإسلامي وأثر في كثير من الأحداث إلى يومنا هذا.
1- موقف على رضي الله عنه في بداية الفتنة:استمر على – رضي الله عنه – في طريقته المعهوده مع الخلفاء، وهى السمع والطاعة والإدلاء بالمشورة والنصح، وقد عبر بنفسه عن مدى طاعته للخليفة عثمان والتزام أمره ولو كان شاقًا بقوله: لو سيرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت(1)، وعندما نزل المتمردون في ذى المروة قبل مقتل عثمان بما يقارب شهرًا ونصفًا، أرسل إليهم عثمان عليًا ورجلا آخر لم تسمه الروايات والتقى بهم على رضي الله عنه فقال لهم: تعطون كتاب الله، وتعتبون من كل ما سخطتم، فوافقوا على ذلك(2)، وفي رواية أنهم شادوه مرتين أو ثلاثًا، ثم قالوا: ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورسول أمير المؤمنين يعرض عليكم كتاب الله فقبلوا(3)، فاصطلحوا على خمس: على أن المنفي يقلب، والمحروم يعطى، ويوفر الفئ، ويعدل في القسم، ويستعمل ذو الأمانة والقوة، وكتبوا ذلك في كتاب، أن يرد ابن عامر على البصرة، وأن يبقى أبو موسى على الكوفة(4)، وهكذا اصطلح عثمان – رضي الله عنه – مع كل وفد على حدة ثم انصرفت الوفود إلى ديارها(5)، وبعد هذا الصلح وعودة أهل الأمصار جميعًا راضين تبين لمشعلي الفتنة أن خطتهم قد فشلت، وأن أهدافهم الدنيئة لم تتحقق، لذا خططوا تخطيطًا آخر- يذكي الفتنة ويحييها- يقتضي تدمير ما جرى من صلح بين أهل الأمصار، وعثمان رضي الله عنه، وبرز ذلك فيما يأتي:
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (15/225) سنده صحيح.
(2) تاريخ دمشق ترجمة عثمان ص (338)، تاريخ خليفة، ص (169).
(3) فتنة مقتل عثمان (1/129).
(4) المصدر نفسه (1/129).
(5) المصدر نفسه (1/329).(1/255)
في أثناء طريق عودة أهل مصر، رأوا راكبًا على جمل يتعرض لهم، ويفارقهم فكأنه يقول: خذوني، فقبضوا عليه، وقالوا له: مالك؟ فقال: أنا رسول أمير المؤمنين إلى عامله بمصر، ففتشوه فإذا هم بكتاب على لسان عثمان، رضي الله عنه، ففتحوا الكتاب فإذا فيه أمر بصلبهم أو قتلهم أو تقطيع أيديهم وأرجلهم، فرجعوا إلى المدينة حتى وصلوها(1)، ونفي عثمان، رضي الله عنه، أن يكون كتب هذا الكتاب، وقال لهم: إنهما اثنتان: أن تقيموا رجلين من المسلمين أو يمين بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت ولا أمللت، ولا علمت، وقد يكتب الكتاب على لسان الرجل وينقش الخاتم، فلم يصدقوه(2)، وهو الصادق البار لغاية في نفوسهم، وهذا الكتاب الذي زعم هؤلاء المتمردون البغاة المنحرفون أنه من عثمان وعليه خاتمه يحمله غلامه على واحد من إبل الصدقة إلى عامله بمصر ابن أبي سرح، يأمر فيه بقتل هؤلاء الخارجين هو كتاب مزور مكذوب على لسان عثمان وذلك لعدة أمور منها(3): كيف علم العراقيون بالأمر وقد اتجهوا إلى بلادهم، وفصلتهم عن المصريين – الذين أمسكوا بالكتاب المزعوم- مسافة شاسعة، فالعراقيون في الشرق والمصريون في الغرب، ومع ذلك عادوا جميعًا في آن واحد، كأنما كانوا على ميعاد؟ لا يعقل هذا إلا إذا كان الذين زوروا الكتاب واستأجروا راكبًا ليحمله ويمثل الدور في البويب أمام المصريين، قد استأجروا راكبًا آخر انطلق إلى العراقيين ليخبرهم بأن المصريين قد اكتشفوا كتابًا بعث فيه عثمان لقتل المنحرفين المصريين، وهذا ما احتج به على بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقى أهل مصر، وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا(4)، بل إن عليًا يجزم: هذا والله أمر أبرم
__________
(1) تاريخ الطبري (5/379).
(2) فتنة مقتل عثمان (5/132)، البداية والنهاية (7/191).
(3) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان للصلابي، ص (410).
(4) تاريخ الطبري (5/359).(1/256)
بالمدينة(1).
إن هذا الكتاب المشئوم ليس أول كتاب يزوره هؤلاء المجرمون، بل زوروا كتبًا على لسان أمهات المؤمنين، وكذلك على لسان على وطلحة والزبير، فهذه عائشة، رضي الله عنها، تُتهم بأنها كتبت إلى الناس تأمرهم بالخروج على عثمان فتنفي وتقول: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون ما كتبت لهم سوداء في بيضاء حتى جلست مجلسى هذا(2)، ويعقب الأعمش فيقول: فكانوا يرون أنه كتب على لسانها(3)، ويتهم الوافدون عليًا بأنه كتب إليهم أن يقدموا عليه بالمدينة، فينكر ذلك عليهم ويقسم: والله ما كتبت إليكم كتابا(4)، كما ينسب إلى الصحابة بكتابة الكتب إلى أهل الأمصار يأمرونهم بالقدوم إليهم، فدين محمد قد فسد وترك، والجهاد في المدينة خير من الرباط في الثغور البعيدة(5)، ويعلق ابن كثير على هذا الخبر قائلاً: وهذا كذب على الصحابة، وإنما كتبت كتب مزورة عليهم، فقد كتب من جهة على وطلحة والزبير إلى الخوارج- قتلة عثمان- كتب مزورة عليهم أنكروها، وكذلك زور هذا الكتاب على عثمان أيضا، فإنه لم يأمر به، ولم يعلم به(6)، ويؤكد كلام ابن كثير ما رواه الطبري وخليفة من استنكار كبار الصحابة- على وعائشة والزبير- أنفسهم لهذه الكتب في أصح الروايات(7). إن الأيدى المجرمة التي زورت الرسائل الكاذبة على لسان أولئك الصحابة هى نفسها التي أوقدت نار الفتن من أولها إلى آخرها، ورتبت ذلك الفساد العريض، وهى التي زورت وروجت على عثمان تلك الأباطيل، وأنه فعل وفعل، ولقنتها للناس، حتى قبلها الرعاع، ثم زورت على لسان عثمان ذلك الكتاب، ليذهب عثمان ضحية إلى ربه
__________
(1) تاريخ الطبري (5/359).
(2) تحقيق موافق الصحابة (1/334).
(3) تاريخ خليفة بن خياط، ص (169).
(4) تحقيق مواقف الصحابة (1/335)، البداية والنهاية (7/191).
(5) تحقيق مواقف الصحابة (1/335) البداية والنهاية (7/175).
(6) البداية والنهاية (7/175).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (1/335).(1/257)
شهيدًا سعيدًا، ولم يكن عثمان الشهيد هو المجني عليه وحده في هذه المؤامرة السبئية اليهودية، بل الإسلام نفسه كان مجنيًا عليه قبل ذلك، ثم التاريخ المشوه المحرف، والأجيال الإسلامية التي تلقت تاريخها مشوهًا هى كذلك ممن جنى عليهم الخبيث اليهودي، وأعوانه من أصحاب المطامع والشهوات والحقد الدفين، أما آن للأجيال الإسلامية أن تعرف تاريخها الحق، وسير رجالاتها العظام؟ بل ألم يأن لمن يكتب في هذا العصر من المسلمين أن يخاف الله ولا يتجرأ على تجريح الأبرياء قبل أن يحقق ويدقق حتى لا يسقط كما سقط غيره(1).
2- موقف على رضي الله عنه أثناء الحصار: اشتد الحصار على عثمان رضي الله عنه، حتى منع من أن يحضر للصلاة في المسجد، وكان صابرًا على هذه البلوى التي أصابته كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وكان مع إيمانه القوى بالقضاء والقدر، يحاول أن يجد حلاً لهذه المصيبة، فنراه تارة يخطب الناس عن حرمة دم المسلم، وأنه لا يحل سفكه إلا بحقه،ن وتارة يتحدث في الناس ويظهر فضائله وخدماته الجليلة في الإسلام، ويستشهد على ذلك ببقية العشرة رضوان الله عليهم، (2) وكأنه يقول: من هذا عمله وفضله هل من الممكن أن يطمع بالدنيا ويقدمها على الآخرة؟ وهل يعقل أن يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمة ودمائها وهو يعرف عاقبة ذلك عند الله وهو الذي تربى على عين النبي - صلى الله عليه وسلم - والذي شهد له وزكاه وكذلك أفاضل الصحابة، أهكذا تكون معاملته؟!.
__________
(1) عثمان بن عفان الخليفة الشاكر الصابر، ص (228، 229).
(2) خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على، ص (85).(1/258)
واشتدت سيطرة الثوار على المدينة حتى أنهم ليصلون بالناس في أغلب الأوقات(1)، وحينما أدرك الصحابة أن الأمر ليس كما حسبوا، وخشوا من حدوث ما لا يحمد عقباه، وقد بلغهم أن القوم يريدون قتله، فعرضوا عليه أن يدافعوا عنه، ويخرجوا الغوغاء عن المدينة، إلا أنه رفض أن يراق دم بسببه(2)، وأرسل كبار الصحابة أبناءهم دون استشارة عثمان، رضي الله عنه، ومن هؤلاء الحسن بن على رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير حيث تذكر بعض الروايات ان الحسن حُمل جريحًا من الدار(3)، كما جرح غير الحسن، عبد الله بن الزبير، ومحمد بن حاطب، ومروان بن الحكم، كما كان معهم الحسين بن على وابن عمر رضي الله عنهما(4)، وقد كان على من أدفع الناس عن عثمان، رضي الله عنه، وشهد له بذلك مروان بن الحكم(5)، أقرب الناس إلى عثمان رضي الله عنه، وألصقهم به في تلك المحنة القاسية الأليمة، وقد أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، أن عليًا أرسل إلى عثمان فقال: إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي، فأمنعك من القوم، فإنك لم تحدث شيئًا يستحل به دمك، فقال: جزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم في سببي(6)، وقد وردت روايات عديدة تفيد وقوفه بجانب عثمان، رضي الله عنهما، أثناء الحصار، فمن ذلك: أن الثائرين منعوا عن عثمان الماء حتى كاد أهله أن يموتوا عطشًا، فأرسل على رضي الله عنه إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما كادت تصل إليه، وجرح بسببها عدة من موالي بني هاشم وبنى أمية حتى وصلت(7)، ولقد تسارعت الأحداث فوثب الغوغاء على عثمان وقتلوه، رضي الله عنه، وأرضاه، ووصل الخبر
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/515).
(2) فتنة مقتل عثمان (1/167)، المسند (1/396) أحمد شاكر.
(3) الطبقات لابن سعد (8/128) بسند صحيح.
(4) تاريخ خليفة، ص (174).
(5) تاريخ الإسلام للذهبي، الخلفاء الراشدون، ص (460، 461) إسناده قوى.
(6) تاريخ دمشق، ص(403).
(7) أنساب الأشراف للبلاذرى (5/67).(1/259)
إلى الصحابة وأكثرهم في المسجد، فذهبت عقولهم، وقال على لأبنائه وأبناء إخوانه: كيف قتل عثمان وأنتم على الباب؟ ولطم الحسن، وكان قد جرح(1) وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزبير وابن طلحة، وخرج غضبان إلى منزله ويقول: تبًا لكم سائر الدهر، اللهم إني أبرأ إليك من دمه أن أكون قتلت أو مالأت على قتله(2)، وهكذا كان موقف على رضي الله عنه، نصحًا وشورى، سمعًا وطاعة، وقفة قوية بجانبه أثناء الفتنة، ومن أدفع الناس عنه، ولم يذكره بسوء قط، يحاول الإصلاح وسد الخرق بين الخليفة والخارجين عليه، لكن الأمر فوق طاقته، وخارج إرادته، إنها إرادة الله عز وجل أن يفوز أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بالشهادة(3).
__________
(1) ابن أبي عاصم، الآحاد والثماني (1/125) نقلا عن خلافة على، ص(87).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/209) إسناده صحيح.
(3) خلافة على بن أبي طالب، عبد الحميد على ص(87).(1/260)
3- المصاهرات بين آل على وآل عثمان رضي الله عنه: لم يكن بين بنى هاشم وبنى أمية من المباغضة والعداوة والمنافرة التي اخترعها وابتكرها أعداء الإسلام والمسلمين ونسجوا الأساطير والقصص حولها، ولقد اتضح لكل منصف أن بنى أمية مع بنى هاشم علاقتهم فيما بينهم علاقة أبناء العمومة والإخوان والخلان، فهم من أقرب الناس فيما بينهم، يتبادلون الحب والتقدير والاحترام، ويتقاسمون الهموم والآلام والأحزان، فبنوا أمية وبنو هاشم كلهم أبناء أب واحد، وأحفاد جد واحد، وأغصان شجرة واحدة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وكلهم استقوا من عين واحدة ومنبع صاف واحد، وأخذوا الثمار من دين الله الحنيف الذي جاء به رسول الله الصادق الأمين، المعلم، المربي، خاتم الأنبياء والمرسلين، ولقد كان بين أبي سفيان وبين العباس صداقة يضرب بها الأمثال(1)، كما كانت بينهم المصاهرات قبل الإسلام وبعده، فلقد زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناته الثلاث من الأربعة من بنى أمية؛ من أبي العاص بن الربيع وهو من بنى أمية، ومن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية، وهو مع ذلك ابن بنت عمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي ولدت مع والد رسول الله عليه الصلاة والسلام عبد الله بن عبد المطلب توءمين أروى بنت كريز بن حبيب بن عبد شمس وهى أم عثمان وأمها أم حكيم وهى البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا ولقد تزوج بعد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، من بنى هاشم ابنه أبان بن عثمان، وكانت عنده أم كلثوم بنت عبد الله بن جعفر (الطيار) بن أبي طالب شقيق على رضي الله عنهما(2)، وحفيدة على، وبنت الحسين سكينة كانت متزوجة من حفيد عثمان زيد بن عمرو بن عثمان، رضي الله عنهم أجمعين، وحفيدة على الثانية وابنة الحسين فاطمة كانت متزوجة من حفيد عثمان الآخر، محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وكانت أم حبيبة بنت أبي سفيان
__________
(1) الشيعة وأهل البيت ص (141).
(2) المعارف للدينورى، ص (86)، الشيعة وأهل البيت ص (141).(1/261)
سيد بنى أمية متزوجة من سيد بنى هاشم وسيد ولد آدم رسول الله الصادق الأمين كما هو معروف، كما أن هند بنت أبي سفيان كانت متزوجة من الحارث بن نوفل ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم فولدت له ابنه محمدًا(1).
وتزوجت لبابة بنت عبيد الله بن عباس بن عبد المطلب، العباس بن على بن أبي طالب، ثم خلف عليها الوليد بن عتبة (ابن أخي معاوية) ابن أبي سفيان(2)، وتزوجت رملة بنت محمد بن جعفر- الطيار – بن أبي طالب سليمان بن هشام بن عبد الملك (الأموى) ثم أبا القاسم بن وليد بن عتبة بن أبي سفيان(3)، كذلك تزوجت ابنة على بن أبي طالب رملة من ابن مروان بن الحكم(4) بن أبي العاص بن أمية، فقد كانت رملة بنت على عند أبي الهياج.. ثم خلف عليها معاوية بن مروان بن الحكم بن أبي العاص(5)، وتزوجت حفيدة على بن أبي طالب من حفيد مروان بن الحكم، فنفيسة بنت زيد بن الحسن بن على بن أبي طالب تزوجها الوليد بن عبد الملك بن مروان فتوفيت عنده، وأمها لبابة بنت عبد الله بن عباس(6)، وقد اكتفيت ببيان بعض منها، وفيها كفاية لمن أراد الحق والتبصر(7).
سادسًا: من أقوال على في الخلفاء الراشدين:
إن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم قد أجمع على صحتها وانعقادها الصحابة الكرام، ومن طعن في أحد منهم فقد خالف قول الله تعالى:
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/15)، الإصابة (3/58، 59).
(2) نسب قريش، ص (123)، الشيعة وأهل البيت، ص (143).
(3) الشيعة وأهل البيت، ص (143).
(4) الشيعة وأهل البيت، ص (143).
(5) جمهرة أنساب العرب ص (87)، نسب قريش، ص (45).
(6) طبقات ابن سعد (5/234).
(7) الشيعة وأهل البيت، ص(144).(1/262)
{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]،وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ» فهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، رضي الله عنهم ومن اتبعهم بإحسان(1)، وما أحسن ما قاله أيوب السختيانى في هذا المقام حيث قال: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل ومن أحب عثمان فقد استنار بنور الله عز وجل، ومن أحب عليًا فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن أحسن القول في أصحاب محمد فقد برئ من النفاق(2).
قال الشاعر:
إني رضيت عليًا قدوة علمًا ... كما رضيت عتيقًا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل علىَّ بهذا القول من عار
إن كنت تعلم أني لا أحبهم ... إلا لوجهك أعتقني من النار(3)
هذا وقد جاءت الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة في العلاقة المتميزة بين على والخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، وقد تم توضيح ذلك في الصفحات الماضية، وهذه بعض الأدلة نضيفها إلى ما سبق من براهين ساطعة على مكانة الخلفاء الراشدين عند أمير المؤمنين على رضي الله عنه.
1- سيدا كهول أهل الجنة وشبابها: عن على رضي الله عنه قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل أبو بكر وعمر، فقال: يا على، هذان سيدا كهول أهل الجنة، وشبابها، بعد النبيين والمرسلين(4).
__________
(1) الشريعة للآجرى (4/1768).
(2) المصدر نفسه (4/1772، 1773).
(3) المصدر نفسه (5/2536).
(4) مسند أحمد الموسوعة الحديثية رقم 602حديث صحيح وهذا إسناد حسن.(1/263)
ما أضمر لهما إلا الذي أتمنى المضى عليه: عن سويد بن غفلة، قال: مررت بنفر من الشيعة يتناولون أبا بكر وعمر فدخلت على علىًّ فقلت: يا أمير المؤمنين، مررت بنفر من أصحابك آنفًا يتناولون أبا بكر وعمر بغير الذي هما له من الأمة أهل، فلولا أنك تُضْمُر على مثل ما أعلنوا عليه ما تجرءوا على ذلك فقال علىّ: ما أضمر لهما إلا الذي أتمنى المضى عليه، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، ثم نهض دامع العين يبكي، قابضًا على يدي حتى دخل المسجد، فصعد المنبر وجلس عليه متمكنًا قابضًا على لحيته ينظر فيها وهى بيضاء، حتى اجتمع له الناس، ثم قام فخطب خطبة موجزة بليغة، ثم قال: ما بال قوم يذكرون سيدي قريش وأبوى المسلمين؟ أنا مما قالوا برىٌّ، وعلى ما قالوا مُعاقب، ألا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا فاجر ردي، صحبا رسول الله على الصدق والوفاء، يأمران وينهيان وما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله، ولا كان رسول الله يرى بمثل رأيهما، ولا يحب كحبهما أحدًا، قضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهما راض، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون، أمر رسول الله أبا بكر لصلاة المؤمنين فصلى بهم تسعة أيام(1) في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قبض الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - واختار له ما عنده، ولاه المؤمنون أمرهم، وقضوا إليه الزكاة، لأنهما مقرونان، ثم أعطوه البيعة طائعين غير كارهين، أنا أول من سن ذلك من بنى عبد المطلب، وهو لذلك كاره يود أن أحدنا كفاه ذلك، وكان والله خير من بقى، أرحمه رحمة، وأرأفه رأفة، وأثبته ورعًا، وأقدمه سنًا وإسلامًا..فسار فينا سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مضى على ذلك، ثم ولى عمر الأمر من بعده، فمنهم من رضي، ومنهم من كره، فلم يفارق الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام الأمر على منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، يتبع آثارهما كتباع الفصيل(2)
__________
(1) في الأصل سبعة، وورد تصويبها في الهامش.
(2) الفصيل ولد الناقة إذا فُصل عن أمه.(1/264)
أمه، وكان والله رفيقًا رحيمًا، وللمظلومين عونًا راحمًا وناصرًا، لا يخاف في الله لومة لائم، ضرب الله بالحق على لسانه، وجعل الصدق من شأنه، حتى كنا نظن أن ملكًا ينطق على لسانه، أعز الله بإسلام الإسلام، وجعل هجرته للدين قوامًا، ألقى الله تعالى له في قلوب المنافقين الرهبة، وفي قلوب المؤمنين المحبة..إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما – رحمة الله عليهما- ورزقنا المضى على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع آثارهما والحبًّ لهما، ألا فمن أحبنى فلُيحبهما، ومن لم يحبهما فقد أبغضني، وأنا منه برئ، ولو كنت تقدمت إليكم في أمرهما لعاقبت على هذا أشد العقوبة، ولكن لا ينبغي أن أعاقب قبل التقدم، ألا فمن أتيت به يقول هذا بعد اليوم، فإن عليه ما على المفترى، ألا وخير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر وعمر، ولو شئت سميت الثالث، وأستغفر الله لي ولكم(1).
3- هذا عثمان بن على سميته بعثمان بن عفان:عن أبي سعيد الخدري: نظرت إلى غلام أيفع(2)، له ذؤابة(3) وجمة(4) ، والله يعلم أني منه حينئذ لفي شك، ما أدري غلام هو أم جارية، فمررنا بأحسن منه وهو جالس إلى جنب على فقلت: عافاك الله، من هذا الفتى إلى جانبك؟ قال: هذا عثمان بن على سميته بعثمان بن عفان، وقد سميت بعمر بن الخطاب، وسميت بعباس عم رسول الله، وقد سميت بخير البرية محمد، فأما حسن وحسين ومحسن(5) فإنما سماهم رسول الله وعقَّ عنهم وحلق رءوسهم(6)، وتصدق وزنها وأمر بهم
__________
(1) النهي عن سب الأصحاب وما فيه من الإثم والعقاب، ص (43)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائى رقم (4456).
(2) أيفع: شارف الاحتلام.
(3) الذؤابة: هى الشعر المضفور من شعر الرأس.
(4) الجمة من شعر الرأس: ما سقط على المنكبين.
(5) مسند أحمد (2/115)رقم (769) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(6) المختصر من كتاب الموافقة، ص (141).(1/265)
فسموا وختنوا(1)، فقد ولدوا في عهده عليه الصلاة والسلام ورسول الله هو الذي سماهم وعق عنهم.
4- أبو بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، كان لهم بالنبي اختصاص عظيم:قد عرف بالتواتر الذي لا يخفي على العامة والخاصة أن أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم كان لهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - اختصاص عظيم، وكانوا من أعظم الناس اختصاصًا به، وصحبة له وقربة إليه، وقد صاهرهم كلهم وكان يحبهم ويثني عليهم، وحينئذ فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهرًا وباطنًا في حياته وبعد موته، وإما أن يكونوا بخلاف ذلك في حياته، أو بعد موته، فإن كانوا علىغير الاستقامة مع هذا القرب فأحد الأمرين لازم، إما عدم علمه بأحوالهم، أو مداهنته لهم، وأيهما كان فهو من أعظم القدح في الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةوإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من الله للرسول في خواص أمته، وأكابر أصحابه، ومن وعد أن يظهر دينه على الدين كله، فكيف يكون أكابر خواصه مرتدين؟ فهذا ونحوه من أعظم ما يقدح به الرافضة في الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما قال الإمام مالك وغيره: إنما أراد هؤلاء الرافضة الطعن في الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقول القائل: رجل كان له أصحاب سوء، ولو كان رجلاً صالحًا لكان أصحابه صالحين، ولهذا قال أهل العلم: إن الرافضة دسيسة الزندقة(2).
__________
(1) وختنوا: الختن للرجال، والخفض للنساء، المختصر من كتاب الموافقة، ص (141).
(2) منهاج السنة (4/123)، أصول مذهب الشيعة (2/931).(1/266)
5- ما يترتب عليه من مذهب الرافضة من تكفير الصحابة:إن مذهب الرافضة في تكفير الصحابة يترتب عليه تكفير أمير المؤمنين لتخليه عن القيام بأمر الله، ويلزم عليه إسقاط تواتر الشريعة، بل بطلانها ما دام نقلتها مرتدين، ويؤدي إلى القدح في القرآن العظيم، لأنه وصلنا عن طريق أبي بكر وعمر وعثمان وإخوانهم، وهذا هو هدف واضع هذه المقالة، ولذلك قال أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة(1)، ولذلك اعترفت كتب الشيعة أن الذي وضع هذه المقالة هو ابن سبأ فقالت: إنه أول من أظهر الطعن في أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة، وتبرأ منهم، وادعى أن عليًا عليه السلام أمره بذلك(2).
__________
(1) الكفاية، ص (49).
(2) المقالات والفرق للقمى ص (20) نقلا عن أصول مذهب الشيعة (2/933).(1/267)
6- قرائن عملية وأدلة واقعية على حقيقة العلاقة بين على والخلفاء الراشدين: قامت القرائن العملية والأدلة الواقعية من سيرة أمير المؤمنين على في علاقته مع إخوانه أبي بكر وعمر وعثمان مما اشتهر وذاع نقله، وقد نقلنا منه الكثير فيما مضى ما يثبت المحبة الصادقة والإخاء الحميم بين هذه الطليعة المختارة، والصفوة من جيل الصحابة، رضوان الله عليهم، وتأتي في مقدمة هذه الأدلة والقرائن تزويج أمير المؤمنين على ابنته أم كلثوم لأمير المؤمنين عمر(1)، فإذا كان عمر فاروق هذه الأمة قد صار عند الشيعة الروافض أشد كفرًا من إبليس، أفلا يرجعون إلى عقولهم ويتدبرون فساد ما ينتهي إليه مذهبهم؟ إذ لو كان أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، كافرين كما يفترون لكان على بتزويجه ابنته أم كلثوم الكبرى من عمر، رضي الله عنه، كافرًا أو فاسقًا معرضًا بنته للزنا، لأن وطء الكافر للمسلمة زنا محض(2)، والعاقل المنصف البريء من الغرض، الصادق في محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته واتباعه لهم لا يملك إلا الإذعان لهذه الحقيقة، حقيقة الولاء والحب بين الخلفاء الأربعة، رضوان الله عليهم، ولذلك لما قيل لمعز الدولة أحمد بن بويه- وكان رافضيًا يشتم صحابة رسول الله – إن عليًا- رضي الله عنه – زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، استعظم ذلك وقال: ما علمت بهذا، وتاب وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه ورد كثيرًا من المظالم وبكى حتى غشى عليه(3)، لشعوره بعظم جرمه فيما سلف من عمره، الذي أمضاه ينهش في أعراض هؤلاء الأطهار مغترًا بشبهات الروافض(4)، وقد حاول شيوخ الشيعة الروافض إبطال مفعول هذا الدليل فوضعوا روايات مكذوبة على لسان الأئمة تقول: ذلك فرج غصبناه(5)، فزادوا الطين بلة، حتى صوروا أمير المؤمنين
__________
(1) أصول مذهب الشيعة (2/932).
(2) المصدر نفسه (2/932).
(3) المنتظم (7/38، 39).
(4) أصول مذهب الشيعة (2/937).
(5) فروع الكافي (2/10)، أصول مذهب الشيعة (2/937).(1/268)
في صورة «الديوث» الذي لا ينافح عن عرضه، ويقر الفاحشة في أهله، وهل يتصور مثل هذا في حق أمير المؤمنين على بطل الإسلام؟ إن أدنى العرب ليبذل نفسه دون عرضه، ويقتل دون حرمه، فضلا عن بنى هاشم الذين هم سادات العرب وأعلاها نسبًا وأعظمها مروءة وحمية، فكيف يثبتون لأمير المؤمنين وابنته حفيدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل هذه المنقصة الشنيعة، وهو الشجاع الصنديد، ليث بنى غالب، أسد الله في
المشارق والمغارب(1).
ويبدو أن بعضهم لم يعجبه هذا التوجيه، فرام التخلص من هذا الدليل بمنطق أغرب وأعجب، حيث زعم أن أم كلثوم لم تكن بنت على ولكنها جنية تصورت بصورتها(2)، فأتوا بما يستخف به أصحاب العقول ويستطيع كل من أراد أن يدعي على من يكرهه بأنه جني أو جنية، وهكذا يعيش الناس في الخرافات وتضيع الحقيقة.
ومن القرائن أيضا علاقات القربى القائمة بينهم، ووشائج الصلة، وكذلك مظاهر المحبة، حتى إن عليًا والحسن والحسين- كما مر معنا- يسمون بعض أولادهم باسم أبي بكر وعمر، وهل يطيق أحد أن يسمى أولاده بأسماء أشد أعدائه كفرًا وكرهًا له؟ وهل يطيق أن يسمع أسماء أعدائه تتردد في أرجاء بيته يرددها مع أهله في يومه مرات وكرات(3).
__________
(1) مؤتمر النجف للسويدي، ص (86) نقلاً عن أصول مذهب الشيعة (2/937).
(2) الأنوار النعمانية (1/83، 84) نقلاً عن أصول مذهب الشيعة (2/938).
(3) أصول مذهب الشيعة (2/938).(1/269)
إن أمير المؤمنين عليًا – رضي الله عنه – لا يحفظ عنه الصحابة ومن تبعهم من التابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين إلا محبة أبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – في حياتهم، وفي خلافتهم وبعد وفاتهم، فأما في خلافتهم فسامع لهم مطيع، يحبهم ويحبونه، ويعظم قدرهم ويعظمون قدره، صادق في محبتهم، مخلص في الطاعة لهم، يجاهد من يجاهدون، ويحب ما يحبون، ويكره ما يكرهون يستشيرونه في النوازل فيشير مشورة ناصح مشفق محب، فكثير من سيرتهم بمشورة جرت(1)، وهم يبادلونه نفس الشعور ويقال، إنه لا يجتمع حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلى إلا في قلوب أتقياء هذه الأمة(2)، وقال سفيان الثوري: لا يجتمع حب عثمان وعلى رضي الله عنهما إلا في قلوب نبلاء الرجال(3)، وقال أنس بن مالك: قالوا: إن حب عثمان وعلى رضي الله عنهما لا يجتمعان في قلب مؤمن، كذبوا فقد جمع الله عز وجل حبهما بحمد الله في قلوبنا(4).
سابعًا: وصف لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الكريم:
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
__________
(1) الشريعة للآجرى (5/2312).
(2) الشريعة للآجرى (5/2312).
(3) حلية الأولياء (7/32).
(4) الشريعة للآجرى (5/2315)إسناده صحيح.(1/270)
ومن المناسب أن أختم هذا الفصل بهذه الآية الكريمة لتكون دليلاً على ما ذكرته من المحبة والرحمة والتعاون بين الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، فهذه الآية تضمنت ذكر منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالثناء، ثم ثنى الله تعالى فيها بالثناء على سائر الصحابة، رضوان الله عليهم أجمعين، فذكر تعالى أن صفاتهم الشدة والغلظة على أهل الكفر، كما وصفهم بالتراحم والتعاطف فيما بينهم، ووصفهم بأنهم يكثرون من الأعمال الصالحة المقرونة بالإخلاص وسعة الرجاء، وفي مقدمة تلك الأعمال الصالحة إكثارهم من الصلاة ابتغاء الحصول على فضل من الله ورضوان، كما بين – سبحانه – أن آثار ذلك تظهر على وجوههم {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} والسيما أي العلامة، وقد قيل بها بياض يكون في الوجوه يوم القيامة، قاله الحسن وسعيد بن جبير وهى رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواية أخرى عنه وعن مجاهد: السيماء في الدنيا هو السمت الحسن «وعن مجاهد أيضًا: هو الخشوع والتواضع»(1).
__________
(1) تفسير الطبري (26/110، 111)، تفسير القرطبي (16/293، 294).(1/271)
وهذه الأقوال لا منافاة بينها؛ إذ يمكن أن يكون في الدنيا هو السمت الذي ينشأ عن التواضع والخشوع، وفي الآخرة يكون في جباههم نور(1)، قال ابن كثير: فالصحابة – رضي الله عنهم – خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم، وقال مالك، رضي الله عنه: بلغني أن النصاري كانوا إذا رأوا الصحابة، رضي الله عنهم -الذين فتحوا الشام- يقولون: والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا، وصدقوا في ذلك، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد نوه الله – تبارك وتعالى – بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال – سبحانه – ههنا: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أي: فراخه {فَآزَرَهُ} أي: شده وقواه {فَاسْتَغْلَظَ} أي: شب وطال {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي فكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم، قال: لأنهم يغيظونه، ومن غاظه الصحابة رضي الله عنهم، فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء على ذلك.. ثم قال تبارك وتعالى.. {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم} أي: ثوابًا جزيلاً ورزقًا كريمًا، ووعد الله حق وصدق لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ولهم الفضل والسبق والكمال الذي لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم وقد فعل(2) وفي قوله- سبحانه – في حق الصحابة الكرام رضي الله عنهم {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أخطر حكم وأغلظ تهديد
__________
(1) تفسير الطبري (26/112).
(2) تفسير ابن كثير (6/365).(1/272)
وأشد وعيد في حق من غيظ بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو كان في قلبه غل لهم(1)، وأما قوله تعالى في ختام الآية: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} فيها وعد من الله تعالى لجميع الصحابة بالجنة، وكذلك كل من آمن وعمل الصالحات من أمة الإجابة؛ إذ هذا الوعد لجميع المؤمنين إلى يوم القيامة(2)، وكلمة «منهم» في الآية السابقة: «من» لبيان الجنس وليست للتبعيض، قال ابن تيمية: لا ريب إن هذا مدح لهم بما ذكر من الصفات وهو الشدة على الكفار والرحمة بينهم والركوع والسجود بيتغون فضلاً من الله ورضوانًا، والسيماء في وجوههم من أثر السجود وأنهم يبتدئون من ضعف إلى كمال القوة والاعتدال كالزرع، والوعد لهم بالمغفرة والأجر العظيم ليس على مجرد هذه الصفات، بل على الإيمان والعمل الصالح، فذكر ما به يستحقون الوعد، وإن كانوا كلهم بهذه الصفة، ولولا ذكر ذلك لكان يظن أنهم بمجرد ما ذكر يستحقون المغفرة، ولم يكن فيه بيان سبب الجزاء بخلاف ما إذا ذكر الإيمان والعمل الصالح، فإن الحكم إذا علق باسم مشتق مناسب كان ما منه الاشتقاق سبب الحكم(3).
إن ما ذكرته في هذا الفصل ينسجم كليًا مع حديث القرآن الكريم عن الرحمة بين الصحابة والشدة على الكفار، وخصوصًا بين الخلفاء الراشدين، فهم السادة الكرام، وعلية القوم، وقادة الأمة بعد وفاة نبيها، فالحذر من الروايات الضعيفة والقصص الموضوعة التي اختلقها أعداء الأمة ليشوهوا به تاريخ صدر الإسلام، أنصدق الروايات الكاذبة والقصص الواهية التي تصور العداء بين الخلفاء الراشدين أم نصدق كتاب ربنا وما جاء في حقهم على لسان نبينا وما يوافقه مما دونه العلماء الثقات من أهل السنة والجماعة؟
__________
(1) قبس من هدى الإسلام، عبد المحسن العباد، ص (86).
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة (1/76).
(3) منهاج السنة (1/158).(1/273)
قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63]، فهذا وصف القرآن الكريم لحقيقة الألفة بين قلوب الصحابة، فهي منحة ربانية ونعمة أعطاها الله لذلك الجيل الطاهر لا دخل لبشر فيها، وبيَّن القرآن الكريم أن الألفة بين الصحابة نعمة من الله تعالى امتن بها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا التصوير القرآني لحقيقة الصحابة ينسجم مع الروايات الصحيحة التي تبين محبة الصحابة والمودة بينهم، وبذلك يفتضح أمر الذين وضعوا الروايات المكذوبة والموضوعة، والآية تشمل كل من سار على هدى القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، قال ابن عباس: قرابة الرحم تقطع، ومنة المنعم تكفر، ولم نر مثل تقارب القلوب(1).
قال الشاعر:
ولقد صحبت الناس ثم خبرتهم ... وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعًا ... وإذا المودة أقرب الأسباب(2)
__________
(1) الدر المنثور في تفسير المأثور (4/100).
(2) الدر المنثور في تفسير المأثور (4/100).(1/274)
الفصل الثالث : بيعة على رضي الله عنه وأهم صفاته وحياته في المجتمع
المبحث الأول : بيعة على رضي الله عنه
أولاً: كيف تمت بيعة على رضي الله عنه:
تمت بيعة على رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق، ومن أمصار مختلفة، وقبائل متباينة لا سابقة لهم، ولا أثر خير في الدنيا، فبعد أن قتلوه رضي الله عنه ظلمًا وزورًا وعدوانًا، يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذى الحجة سنة خمس وثلاثين(1). قام كل من بقى بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمبايعة على رضي الله عنه بالخلافة، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان، رضي الله عنه، ولم يكن أبو السبطين، رضي الله عنه، حريصًا عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقى من الصحابة بالمدينة، وخوفًا من ازدياد الفتن وانشارها، ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال إثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه، لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار على رضي الله عنه للخلافة بعض أهل العلم(2)، فقد روى أبو بكر الخلال بإسناده إلى محمد ابن الحنفية قال: كنت مع على رحمه الله وعثمان محصر قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام على رحمه الله، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفًا عليه فقال: خلَّ لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قتل الرجل رحمه الله، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل، ولابد للناس من خليفة ولا نعلم أحدًا أحق بها منك، فقال لهم على: لا تريدوني فإني لكم وزيرًا خير مني لكم أميرًا، فقالوا: لا والله لا نعلم أحدًا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علىَّ فإن بيعتي لا تكون سرًا، ولكن
__________
(1) الطبقات لابن سعد (3/31).
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام (2/677).(1/275)
أخرج إلى المسجد، فبايعه الناس(1)، وفي رواية أخرى عن سالم ابن أبي الجعد عن محمد ابن الحنفية: فأتاه أصحاب رسول الله فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولابد للناس من إمام ولا نجد أحدًا أحق بها منك أقدم مشاهد، ولا أقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال على: لا تفعلوا فإني لكم وزيرًا خير مني أميرًا، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين، قال: فقال سالم بن أبي الجعد: فقال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس(2).
ومن هذه الآثار الصحيحة بعض الدروس والعبر والفوائد منها:
1- نصرة على بن أبي طالب رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه ودفاعه عنه، وهذا متواتر عن على رضي الله عنه، بل كان أكثر الناس دفاعًا عن عثمان، رضي الله عنه، جاء ذلك بأسانيد كثيرة، وشهد بذلك مروان بن الحكم حيث قال: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم يعني عليًا عن عثمان(3).
2- زهد على رضي الله عنه في الخلافة وعدم طلبه لها أو طمعه فيها، واعتزاله في بيته حتى جاءه الصحابة يطلبون البيعة.
3- إجماع الصحابة من المهاجرين والأنصار والناس عامة في المدينة على بيعته، ويدخل في هؤلاء أهل الحل والعقد، وهم الذين قصدوا عليًا وطلبوا منه أن يوافق على البيعة، وألحوا عليه حتى قبلها، وليس للغوغاء وقتلة عثمان كما في بعض الروايات الضعيفة والموضوعة.
__________
(1) كتاب السنة لأبي بكر الخلال، ص(425).
(2) الخلال في السنة، ص(416) رجال الإسناد ثقات.
(3) بيعة على بن أبي طالب مالك الخالدى، ص (2) نقلا على تاريخ الذهبي عهد الخلفاء الراشدين، ص (460) إسناده قوى.(1/276)
4- إن عليًا كان أحق الناس بالخلافة يومئذ، ويدل على ذلك قصد الصحابة له، وإلحاحهم عليه، ليقبل البيعة، وتصريحهم بأنهم لا يعلمون أحق منه بالخلافة يومئذ.
5- أهمية الخلافة، ولذلك رأينا أن الصحابة أسرعوا في تولية على، وكان يقول: لولا الخشية على دين الله لم أجبهم(1).
6- إن الشبهة التي أدخلوها على بيعة على، كون الخوارج الذين حاصروا عثمان، وشارك بعضهم في قتله، كانوا في المدينة، وأنهم أول من بدءوا بالبيعة وأن طلحة والزبير بايعا مكرهين، وهذه أقاويل المؤرخين، لا تقوم على أساس وليس لها سند صحيح، والصحيح أنه لم يجد الناس بعد أبي بكر وعغمر وعثمان كالرابع قدرًا وعلما وتقى ودينًا، وسبقًا وجهادًا، فعزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأي ذلك فرضًا عليه، فانقاد إليه، ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي، لأدى ذلك إلى فتن واختلافات في جميع الأقطار الإسلامية، فكان من مصلحة المسلمين أن يقبل على البيعة مهما كانت الظروف المحيطة بها،ولم يتخلف عن على أحد من الصحابة الذين كانوا بالمدينة، وقد خلط الناس بين تخلف الصحابة عن المسير معه إلى البصرة وبين البيعة؛ أما البيعة فلم يتخلف أحد عنها، وأما المسير معه فتخلفوا عنه لأنها كانت مسألة اجتهادية(2)، كما أن عليًا لم يلزمهم بالخروج معه كما سيأتي التفصيل بإذن الله عند حديثنا عن موقعة الجمل.
__________
(1) فتح البارى (13/75) إسناده صحيح، بيعة على، ص(105).
(2) المدينة النبوية، محمد شراب (2/311).(1/277)
7- لابد من الحذر من مبالغات الإخباريين التي تزعم أن المدينة بقيت خمسة أيام بعد مقتل عثمان وأميرها الغافقى بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه(1) ن وتزعم أن الغوغاء من مصر عرضت الأمر على علىٍّ فرفضه، وأن خوارج الكوفة عرضوا الخلافة على الزبير، فلا يجدونه، ومن جاء من البصرة عرضوا على طلحة البيعة، فهذا لا يثبت أمام الروايات الصحيحة، ولا يصح إسناده(2)، كما أن المعروف تمكن الصحابة من المدينة وقدرتهم على القضاء على الغوغاء لولا طلب عثمان، رضي الله عنه، بالكف عن استخدام القوة ضدهم. وقد فصلت ذلك في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، والصحيح أن بيعة على كانت عن طواعية واختيار من المسلمين وليس لأهل الفتنة دور في مبايعة على، وإنما كل من كان من الصحابة في المدينة(3) هم الذين اختاروا أمير المؤمنين عليًا.
8- بلغت الروايات الصحيحة والشواهد في بيعة على إحدى عشرة رواية(4)، كما سيأتي تفصيل بعضها بإذن الله.
ثانيًا: أحقية على بالخلافة:
إن أحق الناس بالخلافة بعد أبي بكر وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، هو على بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، وهذا ما يجب على المسلم اعتقاده والديانة لله به في شأن ترتيب الخلافة الراشدة، وقد ورد الإيماء إلى أحقية خلافة على رضي الله عنه في كثير من النصوص الشرعية منها:
__________
(1) تاريخ الطبري (4/432).
(2) استشهاد عثمان ووقعة الجمل د.خالد الغيث، ص 136-140.
(3) استشهاد عثمان ص (240).
(4) بيعة على بن أبي طالب، ص (122).(1/278)
1- قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55]، ووجه الاستدلال بها على حقيقة خلافة على رضي الله عنه أنه أحد المستخلفين في الأرض الذين مكن الله لهم دينهم.
2- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ»(1) ووجه الدلالة في هذا الحديث على أحقية خلافة على رضي الله عنه أنه أحد الخلفاء الراشدين المهديين الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وحافظوا على حدود الله وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وساروا بسيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العدل وإقامة الحق.
3- قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك من يشاء»(2)، وفي هذا الحديث إشارة إلى أحقية على رضي الله عنه حيث إن خلافته كانت آخر الثلاثين من مدة خلافة النبوة التي حددها النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث وبموجب هذا قال أهل العلم(3)، قال أحمد بن حنبل: حديث سفينة في الخلافة صحيح، إليه أذهب في الخلفاء(4)، وقال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن قومًا يقولون إنه ليس بخليفة، قال: هذا قول سوء رديء فقال: أصحاب رسول الله كانوا يقولون له: يا أمير المؤمنين أفنكذبهم؟ وقد حج وقطع ورجم فيكون هذا إلا خليفة؟ (5).
__________
(1) سنن أبي داود (4/201)، الترمذي (5/44) حسن صحيح.
(2) صحيح ابن حبان رقم 6657، الطبراني في الكبير 6442، السلسلة الصحيحة للألباني (1/742- 749).
(3) عقيدة أهل السنة والجماعة (2/686).
(4) السنة لعبد الله بن حنبل، ص (235).
(5) السنة لعبد الله بن حنبل، ص (235)، عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/686).(1/279)
- وقال ابن تيمية في حديث سفينة:وهو حديث مشهور من رواية حماد بن سلمة وعبد الوارث بن سعيد والعوام بن حوشب عن سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، رواه أهل السنن كأبي داود وغيره، واعتمد عليه الإمام أحمد وغيره في تقرير خلافة الخلفاء الراشدين الأربعة، وثبته أحمد واستدل به على من توقف في خلافة على من أجل افتراق الناس عليه، حتى قال أحمد: من لم يربع بعلي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله ونهى
عن مناكحته(1).
وقال شارح الطحاوية:ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما لما قتل عثمان وبايع الناس عليًا صار إمامًا حقًا واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله ملكه من يشاء»(2).
__________
(1) هذه الرسالة بالمكتبة الظاهرية بخطه في مسودته نقلا عن عقيدة أهل السنة والجماعة (2/286).
(2) شارح الطحاوية، ص (545)، السلسلة الصحيحة (1/742- 749).(1/280)
4- عن عكرمة قال لي ابن عباس ولابنه على: انطلقا إلى أبي سعيد فاسمعا من حديثه، فانطلقنا فإذا هو في حائط يصلحه، فأخذ رداءه فاحتبى، ثم أنشأ يحدثنا حتى أتى على ذكر بناء المسجد فقال: كنا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين، فرأي النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفض التراب عنه ويقول: ويح(1) عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، قال: يقول عمار: أعوذ بالله من الفتن(2)، وفي رواية مسلم عن أبي سعيد قال لعمار حين جعل يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: بؤسى(3) ابن سمية تقتلك فئة باغية(4).قال ابن تيمية بعد ذكره لقوله - صلى الله عليه وسلم - تقتل عمار الفئة الباغية(5):وهذا يدل على صحة إمامة على ووجوب طاعته وأن الداعي إلى طاعته داع إلى الجنة والداعي إلى مقاتلته داع إلى النار وإن كان متأولاً، أو باغ بلا تأويل، وهو أصح القولين لأصحابنا وهو الحكم بتخطئة من قاتل عليًا، وهو مذهب الأئمة الفقهاء الذين فرعوا على ذلك قتال البغاة المتأولين قال، وعندما أنكر يحيى بن معين على الشافعي استدلاله بسيرة على في قتال البغاة المتأولين قال: أيجعل طلحة والزبير معًا بغاة؟ رد عليه الإمام أحمد فقال: ويحك وأي شيء يسعه أن يصنع في هذا المقام يعني: إن لم يقتد بسيرة على في ذلك لم يكن معه سنة من الخلفاء الراشدين في قتال البغاة – إلى أن قال – ولم يتردد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في ذلك(6). فلو قال قائل: إن قتل عمار كان بصفين، وهو مع على، والذين قتلوه مع معاوية، وكان معه جماعة من الصحابة فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، فالجواب أنهم كانوا ظانين أنهم
__________
(1) ويح كلمة رحمة تقال لمن وقع في هلكة لا يستحقها، والويح: ترحم، غريب الحديث لابن الجوزي (2/486)، لطائف في غريب الحديث (4/85)، النهاية في غريب الحديث (5/235).
(2) البخاري رقم (447).
(3) كأنه ترحم له من الشدة التي يقع فيها.
(4) مسلم رقم (2235).
(5) مسلم رقم (2235).
(6) مجموع الفتاوى (4/437، 438).(1/281)
يدعون إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم في اتباع ظنونهم، فالمراد بالدعاء إلى الجنة الدعاء إلى سببها وهو طاعة الإمام، وكذلك كان عمار يدعوهم إلى طاعة على، وهو الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك، وكانوا هم يدعون إلى خلاف ذلك لكونهم معذورين للتأويل الذي ظهر لهم(1).
قال النووى بعد قوله- صلى الله عليه وسلم -: بؤسى ابن سمية تقتلك فئة باغية(2)، قال العلماء: هذا الحديث حجة ظاهرة في أن عليًا رضي الله عنه كان محقًا مصيبًا، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون، فلا إثم عليهم لذلك..وفيه معجزة ظاهرة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أوجه: منها: أن عمارًا يموت قتيلا، وأنه يقتله مسلمون، وأنهم بغاة، وأن الصحابة يقاتلون وأنهم يكونون فرقتين باغية وغيرها، وكل هذا وقع مثل فلق الصبح، صلى الله وسلم على رسوله الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى(3).
__________
(1) فتح البارى (1/542).
(2) مسلم رقم (2235).
(3) شرح النووى على صحيح مسلم (18/40، 41).(1/282)
5- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين يقتلها أوْلى الطائفتين بالحق»وفيه أيضا: أنه قال: تكون في أمتى فرقتان فتخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق، وجاء بلفظ: قال: تمرق مارقة في فرقة من الناس فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق. وجاء بلفظ: يخرجون على فرقة مختلفة يقتلهم أقرب الطائفتين من الحق(1)، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: على حين فرقة – بضم الفاء – أي: في وقت افتراق الناس أي: افتراق يقع بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين على ومعاوية رضي الله عنهما(2)، والمراد بالفرقة المارقة هم أهل النهروان كانوا في معسكر على رضي الله عنه في حرب صفين، فلما اتفق على ومعاوية على تحكيم الحكمين خرجوا وقالوا: إن عليًا ومعاوية استبقا إلى الكفر كفرسى رهان، فكفر معاوية بقتال على ثم كفر على بتحكيم الحكمين، وكفروا طلحة والزبير، فقتلتهم الطائفة الذين كانوا مع على، وقد شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطائفة التي تقاتلهم أقرب إلى الحق، وهذه شهادة من النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي وأصحابه بالحق، وهذا من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه أخبر بما يكون، فكان على ما قال، وفيه دلالة واضحة على صحة خلافة على رضي الله عنه وخطأ من خالفه(3).
ثالثًا: بيعة طلحة والزبير رضي الله عنهما:
__________
(1) هذه الأحاديث في صحيح مسلم (2/745، 746).
(2) شرح النووى على صحيح مسلم (7/166).
(3) منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين لابن قدمة، ص (75، 76) نقلا عن عقيدة أهل السنة والجماعة (2/683).(1/283)
عن أبي بشير العابدى قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان، رضي الله عنه، واجتمع المهاجرون والأنصار فيهم طلحة والزبير فأتوا عليًا، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به..فاختاروا، فقالوا والله ما نختار غيرك(1)..إلخ الرواية وفيها تمام البيعة لعلي – رضي الله عنه – والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تاريخه(2)، وهى دالة على مبايعة الصحابة- رضي الله عنهم – لعلي رضي الله عنه، واتفاقهم على بيعته بمن فيهم طلحة والزبير، كما جاء مصرحًا به في الرواية السابقة، وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة والزبير بايعا مكرهين، فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه(3)، فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن عليًا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق،، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك، فبسط علىّ يده فبايعه(4)، وعن عبد خير الخيوانى أنه قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى هل كان هذان الرجلان – يعنى طلحة والزبير – ممن بايع عليًا؟ قال: نعم(5)،كما نص على بطلان ما يدعي من أنهما بايعا مكرهين، الإمام المحقق ابن العربي وذكر أن هذا مما لا يليق بهما، ولا بعلي، قال- رحمه الله-: فإن قيل بايعا مكرهين «أي طلحة والزبير»، قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحد واثنين تنعقد البيعة بهما
__________
(1) تاريخ الطبري (5/449) إسناد الرواية حسن لغيره، حملة رسالة الإسلام الأولون، محب الدين الخطيب، ص (57).
(2) انظر: تاريخ الطبري (5/448- 450) وقد قام بجمع هذه الروايات ودرسها الدكتور محمد أمحزون، تحقيق مواقف الصحابة (2/59- 75).
(3) الانتصار للصحب والآل، ص (236).
(4) تاريخ الطبري (5/456) الانتصار للصحب والآل، ص(236).
(5) تاريخ الطبري (5/517).(1/284)
وتتم، وهذا اجتهاد مرود، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعًا، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام، وأما من قال: يد شلاء وأمر لا يتم(1)، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع ولم يكن كذلك، فإن قيل فقد قال طلحة: بايعت واللج على قفي! قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفي)، كما يجعل في (الهوى) (هوي) وتلك لغة هذيل لا قريش(2)، فكانت كذبة لم تدبر، وأما قوله: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يدًا شلت في وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه، وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه(3). إن الروايات التي تقول بأن طلحة والزبير أكرهوا على البيعة باطلة(4)، وهناك روايات صحيحة أشارت – كما ذكرت – إلى بيعتهما لعلي رضي الله عنهم، وهناك رواية صحيحة أوردها ابن حجر(5)، عن طريق الأحنف بن قيس وفيها أن عائشة وطلحة والزبير، رضوان الله عليهم، قد أمروا الأحنف بمبايعة على رضي الله عنه بعدما استشارهم فيمن يبايع بعد عثمان رضي الله عنه(6)
__________
(1) إشارة إلى ما جاء في بعض الروايات: أن أول من بايع عليًا طلحة – رضي الله عنهما- وكان بيده اليمنى شلل، لما وقى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد، فقال رجل في القوم: أول يد بايعت أمير المؤمنين شلاء لا يتم هذا الأمر، تاريخ الطبري (5/457)، البداية والنهاية (7/237).
(2) وقبل لغة طيء: ذكره ابن الأثير في النهاية (4/94) وكذلك اللج ليس من لغة قريش بل من لغة طيء، قال ابن الأثير: هو بالضم: السيف بلغة طيء، النهاية (4/234) وقيل: هو السيف بلغة هذيل وطوائف من اليمن، لسان العرب (2/354).
(3) العواصم من القواصم ص (148، 149).
(4) استشهاد عثمان ص (141).
(5) فتح البارى (13/38).
(6) استشهاد عثمان، ص(141)، المصنف لابن أبي شيبة (11/118)، ورجاله رجال الصحيح عدا عمر بن جاوان مقبول وصححه ابن حجر في فتح البارى (34/13- 57).(1/285)
.
إن سابقة على – رضي الله عنه – وفضله، والتزامه بأحكام الكتاب والسنة، وتمسكه الشديد بالعمل بهما، وتعهده في خطبه بتطبيق الأوامر والنواهي الشرعية، ما كان ليفتح لأحد باب الطعن في ولايته على المسلمين، ويمكن القول إن عليًا كان أقوى المرشحين للإمامة بعد مقتل عمر – رضي الله عنه – فالفاروق عينه في الستة الذين أشار بهم، وهو واحد منهم، على أن الأربعة من رجال الشورى، وهم عبد الرحمن، وسعد، وطلحة والزبير بتنازلهم عن حقهم فيها له ولعثمان تركوا المجال مفتوحًا أمام الاثنين، فلم يبق إلا هو وعثمان، وهذا إجماع من أهل الشورى على أنه لولا عثمان لكانت لعلي، وبعد موت عثمان، وقد قدمه ورجحه أهل دار الهجرة صار مستحقًا للخلافة، على أنه لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموجودين في ذلك الحين أحق بالخلافة منه- رضي الله عنه – فهو من السابقين والمهاجرين الأولين، وابن عمّ رسول الله، وصهره، بالإضافة إلى ذلك له من القدرة والكفاءة ما لا ينكر، وله من الشجاعة والإقدام والذكاء والعقلية القضائية النادرة، والحزم في المواقف، والصلابة في الحق، وبعد نظره في تصريف الأمور، فكل هذه العوامل تجعله بلا منازع المرشح الوحيد لإمامة المسلمين في تلك الفترة الحساسة من حياتهم(1)، ومع هذا كله فإن خلافته صحت بعدما انعقد إجماع المهاجرين والأنصار عليه ومبايعتهم له.
رابعًا: انعقاد الإجماع على خلافة على رضي الله عنه:
__________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/91، 92).(1/286)
انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على أن عليًا رضي الله عنه كان متعينًا للخلافة بعد عثمان رضي الله عنه لبيعة المهاجرين والأنصار له، لما رأوا لفضله على من بقى من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلامًا، وأوفرهم علمًا، وأقربهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نسبًا، وأشجعهم نفسًا وأحبهم إلى الله ورسوله، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله ÷- صلى الله عليه وسلم - هديًا وسمتًا، فكان رضي الله عنه متعينًا للخلافة دون غيره، وقد قام من بقى من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعقد البيعة له بالخلافة بالإجماع، فكان حينئذ إمامًا حقًا وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالته، وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم منهم:
1- نقل محمد بن سعد: إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين ممن بقى من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على بيعة على رضي الله عنه حيث قال: وبويع لعلي بن أبي طالب رحمه الله بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان بالخلافة، بايعه طلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمار بن ياسر، وأسامة بن زيد، وسهل بن حنيف، وأبو أيوب الأنصارى، ومحمد بن مسلمة، وزيد بن ثابت، وخزيمة بن ثابت وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم(1).
2- وذكر ابن قدامة رحمه الله، أن الإمام أحمد، رحمه الله، روى بإسناده عن عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن عوف قال: كنت عند الحسن فكأن رجلاً انتقص أبا موسى باتباعه عليًا، فغضب الحسن ثم قال: سبحان الله قتل أمير المؤمنين عثمان فاجتمع الناس على خيرهم فبايعوه أفَيُلام أبو موسى باتباعه(2).
__________
(1) الطبقات الكبرى (3/31).
(2) منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين: ص (77، 78) نقلا عن عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/689).(1/287)
3- وقال أبو الحسن الأشعرى: ونثبت إمامة على بعد عثمان، رضي الله عنه، بعقد من عقد له من الصحابة من أهل الحل والعقد لأنه لم يدع أحد من أهل الشورى غيره في وقته، وقد اجتمع على فضله وعدله، وأن امتناعه عن دعوى الأمر لنفسه في وقت الخلفاء قبله كان حقًا لعلمه أن ذلك وقت قيامه، ثم لما صار الأمر إليه أظهر وأعلن، ولم يقصر حتى مضى على السداد والرشاد، كما مضى من قبله من الخلفاء وأئمة العدل على السداد والرشاد؛ متبعين لكتاب ربهم وسنة نبيهم هؤلاء الأربعة المجمع على عدلهم وفضلهم رضي الله عنهم(1).
__________
(1) الإبانة عن أصول الديانة، (78)، مقالات الإسلاميين (1/346).(1/288)
4- وقال أبو نعيم الأصبهاني:فلما اختلف الصحابة كان على الذين سبقوا إلى الهجرة والسابقة والنصرة والغيرة في الإسلام الذين اتفقت الأمة على تقديمهم لفضلهم في أمر دينهم ودنياهم، لا يتنازعون فيهم ولا يختلفون فيمن أولى بالأمر من الجماعة الذين شهد لهم رسول الله بالجنة في العشرة ممن توفى وهو عنهم راض، فسلم من بقى من العشرة الأمر لعلي رضي الله عنه ولم ينكر أنه من أكمل الأمة ذكرًا وأرفعهم قدرًا، لقديم سابقته وتقدمه في الفضل والعلم، وشهوده المشاهد الكريمة، يحبه الله ورسوله، ويحب الله ورسوله، ويحبه المؤمنون ويبغضه المنافقون، لم يضع منه تقديم من تقدمه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل ازداد به ارتفاعًا لمعرفته بفضل من قدمه على نفسه؛ إذ كان ذلك موجودًا في الأنبياء والرسل عليهم السلام، قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله {وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، فلم يكن تفضيل بعضهم على بعض بالذي يضع ممن هو دونه، فكل الرسل صفوة الله – عز وجل – وخيرته من خلقه، فتولى علىّ أمر المسلمين عادلاً زاهدًا آخذًا في سيره بمنهاج الرسول- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه رضي الله عنهم حتى قبضه الله عز وجل – شهيدًا هاديًا مهديًا، سلك بهم السبيل المستبين والصراط المستقيم(1).
5- وقال أبو منصور البغدادي:أجمع أهل الحق والعدل على صحة إمامة على رضي الله عنه وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان رضي الله عنه(2).
6- وقال الزهرى: وكان قد وفى بعهد عثمان حتى قتل، وكان أفضل من بقى من الصحابة، فلم يكن أحد أحق بالخلافة منه، ثم لم يستبد بها مع كونه أحق الناس بها حتى جرت له بيعة، وبايعه مع سائر الناس من بقى من أصحاب الشورى(3).
__________
(1) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، ص (360، 361).
(2) كتاب أصول الدين، ص (286، 287).
(3) الاعتقاد، ص (193).(1/289)
7- وقال عبد الله الجوينى: وأما عمر وعثمان وعلي- رضوان الله عليهم – فسبيل إثبات إمامتهم وإجماعهم لشرائط الإمامة كسبيل إثبات إمامة أبي بكر، ومرجع كل قاطع في الإمامة إلى الخبر المتواتر والإجماع..ولا اكثرات بقول من يقول: لم يحصل إجماع على إمامة علي رضي الله عنه، فإن الإمامة لم تجحد له وإنما هاجت الفتن لأمور أخر(1).
8- وقال أبو عبد الله بن بطة: كانت بيعة على – رحمه الله – بيعة اجتماع ورحمة، لم يدع إلى نفسه، ولم يجبرهم على بيعته بسيفه، ولم يغلبهم بعشيرته، ولقد شرف الخلافة بنفسه، وزانها بشرفه، وكساها حلة البهاء بعدله ورفعها بعلو قدره، ولقد أباها فأجبروه، وتقاعس عنها فأكرهوه(2).
9- وقال الغزالي: وقد أجمعوا على تقديم أبي بكر، ثم نص أبو بكر على عمر، ثم أجمعوا بعده على عثمان، ثم على علي رضي الله عنهم، وليس يظن منهم الخيانة في دين الله – تعالى – لغرض من الأغراض، وكان إجماعهم على ذلك من أحسن ما يستدل به على مراتبهم في الفضل، ومن هنا اعتقد أهل السنة هذا الترتيب في الفضل، ثم بحثوا عن الأخبار فوجدوا فيها ما عرف مستند الصحابة وأهل الإجماع في هذا الترتيب(3).
10- قال أبو بكر بن العربي: فلما قضى الله من أمره ما قضى، ومضى في قدره ما مضى علم أن الحق لا يترك الناس سدى، وأن الخلق بعده مفتقرون إلى خليفة مفروض عليهم النظر فيه، ولم يكن بعد الثلاثة كالرابع قدرًا وعلمًا وتقى ودينًا، فانعقدت له البيعة ولولا الإسراع بعقد البيعة لعلي لجرى على من بها من الأوباش مالا يرقع خرقة، ولكن عزم عليه المهاجرون والأنصار، ورأى ذلك فرضًا عليه فانقاد إليه(4).
__________
(1) كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد، ص (362، 363) يقصد القصاص من قتلة عثمان.
(2) لوامع الأنوار البهية للسفارينى (2/346)، عقيدة أهل السنة (2/692).
(3) الاقتصاد في الاعتقاد، ص (154).
(4) العواصم من القواصم، ص(142).(1/290)
11- وقال ابن تيمية:واتفق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بيعة عثمان بعد عمر، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».(1)
فكان أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه آخر الخلفاء الراشدين المهديين، وقد اتفق عامة أهل السنة من العلماء والعباد والأمراء والأجناد على أن يقولوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم على(2).
12- وقال ابن حجر: وكانت بيعة على بالخلافة عقب قتل عثمان في أوائل ذى الحجة سنة خمس وثلاثين، فبايعه المهاجرون والأنصار وكل من حضر، وكتب بيعته إلى الآفاق، فأذعنوا كلهم إلا معاوية في أهل الشام فكان بينهما بعد ما كان(3)، والذي نستفيده من هذه النقول المتقدمة للإجماع أن خلافة على رضي الله عنه محل إجماع على أحقيتها وصحتها في وقت زمانها، وذلك بعد قتل عثمان- رضي الله عنه – حيث لم يبق على الأرض أحق بها منه رضي الله عنه، فقد جاءته رضي الله عنه على قدر في وقتها ومحلها(4).
وقد اعترض بعض الناس على الإجماع على خلافة على رضي الله عنه من وجوه:
1- تخلف عنه من الصحابة جماعة منهم سعد بن أبي وقاص، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر وأسامة بن زيد وسواهم من نظرائهم(5).
2- إنما بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان(6).
3- أن أهل الشام؛ معاوية ومن معه لم يبايعوه بل قاتلوه(7)..
وهذه الاعتراضات لا تأثير لها على الإجماع المذكور، ولا توجب معارضته وذلك أنها مردودة من وجوه:
__________
(1) سنن أبي داود (4/201)، الترمذي (5/44) حسن صحيح.
(2) الوصية الكبرى، ص (23).
(3) فتح البارى (7/72).
(4) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/693).
(5) العواصم من القواصم ص 146- 147.
(6) المصدر السابق ص 145.
(7) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة (2/695).(1/291)
الوجه الأول: أن دعوى أن جماعة من الصحابة تخلفوا عن بيعته دعوة غير صحيحة إذ أن بيعته لم يتخلف أحد عنها، وأما نصرته فتخلف عنها قوم منهم من ذُكر لأنها كانت مسألة اجتهادية، فاجتهد كل واحد وأعمل نظره وأصاب قدره(1)، وأما ما قاله ابن خلدون: إن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار، فلم يشهدوا بيعة على، والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر..إلخ(2)، ما ذكر فهذا مبالغة من ابن خلدون رحمه الله، أما سعد بن أبي وقاص فقد نقل بيعته ابن سعد، وابن حبان، والذهبي(3) وغيرهم، وكذلك البقية قد بايعوا كما ذكرنا الإجماع في ذلك فيمن حضر من الصحابة في المدينة، على أن ابن خلدون نفسه نقل اتفاق أهل العصر الثاني من بعد الصحابة في المدينة على انعقاد بيعة على ولزومها للمسلمين أجمعين، وقد نقلت ما قاله ابن خلدون لأن كثيرًا من الكتاب والباحثين اعتمدوا عليه فيما بعد.
الوجه الثاني: أن عقد الخلافة ونصب إمام واجب لابد منه، ووقف ذلك على حضور جميع الأمة واتفاقهم مستحيل متعذر، فلا يجوز اشتراطه لإفضاء ذلك إلى انتفاء الواجب ووقوع الفساد اللازم من انتفائه(4).
__________
(1) التمهيد للباقلانى ص233- 234، العواصم من القواصم ص 147.
(2) المقدمة ص 214.
(3) الطبقات (3/31)، الثقات (2/268) دول الإسلام (1/14)، عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام ص 171، 172.
(4) منهاج القاصدين في فضل الخلفاء الراشدين، ص (76، 77) نقلا عن عقيدة أهل السنة.(1/292)
الوجه الثالث: أن الإجماع حصل على بيعة أبي بكر بمبايعة الفاروق وأبي عبيدة ومن حضرهم من الأنصار مع غيبة على وعثمان وغيرهما من الصحابة، وكذلك حصل الإجماع على خلافة على بمبايعة سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد وعمار ومن حضرهم من البدريين وغيرهم من الصحابة، ولا يضر هذا الإجماع من غاب عن البيعة أو لم يبايع من غيرهم رضي الله عنهم جميعًا، قال الحسن البصرى: والله ما كانت بيعة على إلا كبيعة أبي بكر وعمر رضي الله عنهم(1).
الوجه الرابع: دعوى أنه إنما بويع على أن يقتل قتلة عثمان: هذا لا يصح في شرط البيعة وإنما يبايعونه على الحكم بالحق، وهو أن يحضر الطالب للدم، ويحضر المطلوب وتقع الدعوى، ويكون الجواب، وتقوم البينة ويقع الحكم(2) بعد ذلك. وأما الروايات التي تزعم أن طلحة والزبير وبعض الصحابة، رضوان الله عليهم، قد اشترطوا في بيعتهم لعلي إقامة الحدود، فهذا الخبر على ضعف سنده فإن في متنه مقالا(3)، وفي ذلك يقول ابن العربى: فإن قيل بايعوه على أن يقتل قتلة عثمان، قلنا: هذا لا يصح في شرطه البيعة(4).
__________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/696).
(2) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/696).
(3) تاريخ الطبري (5/459، 460).
(4) العواصم من القواصم، ص(150).(1/293)
الوجه الخامس: أن معاوية – رضي الله عنه – لم يقاتل عليًا على الخلافة ولم ينكر إمامته وإنما كان يقاتل من أجل إقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان مع ظنه أنه مصيب في اجتهاده ولكنه كان مخطئا في اجتهاده ذلك، فله أجر الاجتهاد فقط(1). وقد ثبت بالروايات الصحيحة أن خلافه مع على – رضي الله عنه – كان في قتل قتلة عثمان ولم ينازعه في الخلافة، بل كان يقر له بذلك، فعن أبي مسلم الخولانى أنه جاء وأناس معه إلى معاوية وقالوا: أنت تنازع عليًا، هل أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني، وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمه والطالب بدمه فأتوه فقولوا له: فليدفع إلىَّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليًا فكلموه فلم يدفعهم إليه(2)، ويروي ابن كثير من طرق ابن ديزيل بسنده إلى أبي الدرداء وأبي أمامة – رضي الله عنهما-: أنهما دخلا على معاوية فقالا له: يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله إنه أقدم منك ومن أبيك إسلامًا، وأقرب منك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحق بهذا الأمر منك، فقال: أقاتله على دم عثمان، وأنه آوى قتلته، فاذهبا إليه فقولا له: فليقدنا من قتلة عثمان، ثم أنا أول من أبايعه من أهل الشام(3).
__________
(1) عقيدة أهل السنة في الصحابة (2/696).
(2) البداية والنهاية (7/265)، تحقيق مواقف الصحابة (2/147).
(3) البداية والنهاية (7/270)، الانتصار للصحب والآل، ص (239).(1/294)
والروايات في هذا كثيرة ومشهورة بين العلماء(1)، وهى دالة على عدم منازعة معاوية لعلي- رضي الله عنهما- في الخلافة. ولهذا نص المحققون من أهل العلم على هذه المسألة وقرروها(2)، ويقول إمام الحرمين الجوينى: إن معاوية وإن قاتل عليًا فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظنًا منه أنه مصيب وكان مخطئًا(3)، ويقول ابن حجر الهيثمى: ومن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن ما جرى بين على ومعاوية – رضي الله عنهما- من الحروب فلم يكن لمنازعة معاوية لعلي في الخلافة للإجماع على أحقيتها لعلي كما مر، فلم تهج الفتنة بسببها، وإنما هاجت بسبب أن معاوية ومن معه طلبوا من على تسليم قتلة عثمان إليهم، لكون معاوية ابن عمه فامتنع على(4)، وسوف نبين موقف على رضي الله عنه من عدم تسليم قتلة عثمان في حينه، وإنما الشاهد هنا هو إثبات عدم مبايعة معاوية ليس اعتراضًا على شخص على. ويقول ابن تيمية: ومعاوية لم يدع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه.. وكل فرقة من المتشيعين(5) مقرة مع ذلك بأنه ليس معاوية كفئًا لعلي بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف على- رضي الله عنه-، فإن فضل على وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة
__________
(1) البداية والنهاية لابن كثير (7/268- 270) وقد جمع هذه الروايات الدكتور محمد أمحزون في كتابه: تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/146- 150).
(2) الانتصار للصحب والآل، ص (239).
(3) لمعة الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة، ص(115).
(4) الصواعق المحرقة نقلا عن الانتصار للصحب ولآل، ص (239).
(5) أي المتشيعين لعثمان أو على – رضي الله عنهما – وقد كان المطالبون بدم عثمان – رضي الله عنه – قد انضموا إلى معاوية وما كانوا يفضلونه على علي- رضي الله عنه.(1/295)
معروفة(1)، فثبت بهذا أنه لم ينازع عليًا- رضي الله عنه- أحد في الخلافة، لا من الذين خالفوه، ولا من غيرهم(2)، فهذه الأقوال عن هؤلاء العلماء كلها في بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في ترتيب الخلافة الراشدة، فلابد من الذود عنها والتبشير وتربية الأجيال عليها، والاعتزاز والافتخار في الانتساب إليها.
خامسًا:شروط أمير المؤمنين على رضي الله عنه في بيعته وأول خطبة خطبها رضي الله عنه:
جاء في بعض الروايات أن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه اشترط في بيعته أمورًا منها، أن تكون البيعة في ملأ وليس في خفية، وفي المسجد، وعن رضا المسلمين، وأنه يدير أمرهم كما يراه ويعلمه، فوافقوه وتواعدوا صباح اليوم التالي في المسجد للبيعة(3)، وكان يومًا حافلاً وحاسمًا، فقد خرج أمير المؤمنين وقد لبس ملابسه كاملة..ثم بعد الحمد والثناء على الله بين للناس المحاولات التي بذلت معه وقال: إني كنت كارهًا لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي أمر دونكم، ألا إن مفاتيح مالكم معي، ألا وأنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم(4) ، ثم قال: يا أيها الناس: إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلا فلا أجد على أحد، ثم رفع صوته قائلاً: رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: الله اشهد عليهم، وأقبل الناس يبايعونه(5)، وبعد أداء البيعة قال أمير المؤمنين: أيها الناس: إنكم يايعتموني على ما بايعتم عليه أصحابي، فإذا بايعتموني فلا خيار لكم علىَّ، وعلى الإمام الاستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة.. إلخ(6)، ومما مضى دروس وعبر وفوائد منها:
__________
(1) مجموع الفتاوى (35/72، 73).
(2) الانتصار للحصب والآل، ص(241).
(3) تاريخ الطبري (5/448)، دراسات في عهد النبوة، ص(281).
(4) تاريخ الطبري (5/449).
(5) تاريخ الطبري (5/449).
(6) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص(282).(1/296)
1- مبدأ الشورى: إن البيعة للخليفة الرابع على رضي الله عنه لم تختلف من حيث مبدأ الشورى عن مثيلتها السابقة بالرغم من الأزمة التي ألمت بالأمة، والأحوال المدلهمة والمشكلات المتتابعة، فلم تتم البيعة على أساس عشائرى، أسرى، أو قبلي، أو على أساس عهد ووصية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو وجد شيء من هذا القبيل لما حصل هذا الحوار الطويل، ولما رفض أمير المؤمنين، ولكان أول من يطالب بحقه. بينما كان الناس هم الذين يدفعونه إلى البيعة دفعًا ويلحون عليه في الطلب إلحاحًا، وهو يروغ منهم متخلصًا لعله يحدث ما يمنعه من ذلك إلى أن قبل على كره منه، ولم يطالبوه بهذا على أساس وصية من رسول الله له- ولو وجدوا شيئًا من ذلك لما ترددوا في تنفيذه- ولا على أساس أنه من عبد مناف، أو لأنه من قريش فحسب، بل لأنه من السابقين ومن العشرة المبشرين بالجنة، ولأنه الثاني بعد عثمان في اختيار الناس لهما عند تطبيق عملية الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب، فكان عبد الرحمن بن عوف لا يشير عليه أحد بتنصيب عثمان خليفة بعد عمر إلا سأله لو لم يكن عثمان موجودًا فمن تختار؟ فيقول: على رضي الله عنه(1).
__________
(1) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص(282).(1/297)
2- أهل الحل والعقد في عهد أمير المؤمنين على: كان أهل الحل والعقد عند استخلاف أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بقية العشرة المبشرين ورؤساء بطون الأوس والخزرج، وكان هؤلاء من أهل المدينة، لأنهم هم السابقون الراسخون في العلم والإيمان(1)، وكان على رضي الله عنه يرى أن أمر اختيار الخلافة لمن كان باقيا في المدينة من المهاجرين والأنصار وأهل الحل والعقد من أهل بدر، وأصحاب الشورى، إلا أن الحسن بن على، رضي الله عنه، كان يرى ضرورة مراعاة الأمور المستجدة في تركيبة المجتمع الإسلامي، وقد بدا ذلك في هذا الحوار بين الحسن بن على وأبيه على بن أبي طالب رضي الله عنهما، قال الحسن: قد أمرتك فعصيتني فتقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال على: إنك ما زلت تحن حنين الجارية، وما الذي أمرتنى فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان، رضي الله عنه، أن تخرج من المدينة فيُقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر(2)..وكان جواب على رضي الله عنه: وأما قولك لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر(3)، على أن عليًا رضي الله عنه، كان يرى أن البيعة تجوز في غير أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، ولكنه كان يكره أن يتحول ذلك عنهم إلى غيرهم، أو أن يشركهم فيه غيرهم تقًى وورعًا ان يُحدث بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه شيئًا يبتعد به عن نهجم وسبيلهم، أو أنه كان يرى أن الوقت ما زال مبكرًا على إشراك غير المهاجرين والأنصار في أمور اختيار الحاكم المسلم، ولذلك فإنه كان يكره أن يضيع هذا الأمر من المهاجرين والأنصار(4)، والدليل على ذلك أنه رضي الله عنه عرض عليه أهل الكوفة بيعة الحسن
__________
(1) الخلافة بين التنظير والتطبيق، محمود المرادوى، ص (288).
(2) البداية والنهاية (7/245).
(3) البداية والنهاية (7/245).
(4) الخلافة بين التنظير والتطبيق، ص (293، 294).(1/298)
قال: لا أنهاكم ولا آمركم، وهذا فيه تجويز لغير أهل المدينة في اختيار الحاكم.
ونستفيد من الحوار الذي حدث بين الحسن بن على وأبيه رضي الله عنهما أمورًا منها:
أ- احترام الرأي في النقاش من الجانبين.
ب- لطف المعاملة من أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه لولده.
ج- صراحة الولد مع والده وإبداء كل ما يراه صوابًا في موضوع النقاش.
د- حسن الاستماع للطرف الثاني، حيث استمع أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، من ابنه الحسن جميع ما عنده من الحجج.
هـ تفنيد الحجج واحدة بعد الأخرى تفنيدًا علميًا(1).
3- الحرص على أن لا يظل منصب الخليفة شاغرًا:
لقد عزم المهاجرون والأنصار بالمدينة على علىًّ رضي الله عنه أن يقبل الخلافة رغمًا عنه، تداركًا لخطر فساد أمر الأمة واختلاف الناس، فقبل وحرص على زحزحة الغوغاء خطوة أخرى إلى الوراء، بأن اشترط أن تكون البيعة له علانية في المسجد، وبذلك يظل أهل الحل والعقد هم الذين يعقدون الإمامة، أما العامة فموضعهم هو: البيعة العلنية العامة(2)، وحرص على تأكيد هذا المبدأ من فوق المنبر، بقوله: أيها الناس إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم(3).
__________
(1) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (227، 228).
(2) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام، السيد عمر، ص(72).
(3) تاريخ الطبري (5/449).(1/299)
4- الرد على بعض الكتب المعاصرة التي تحدثت عن بيعة على رضي الله عنه: يقول العقاد- وهو يتكلم عن اختيار الخليفة بعد مقتل عثمان-:وهذا الخبر- على وجازته- قد حصر لنا أسماء جميع المرشحين للخلافة بالمدينة بعد مقتل عثمان، وربما كان أشدهم طلبًا لها طلحة والزبير اللذين أعلنا الحرب على علىّ بعد ذلك، فقد كانا يمهدان لها في حياة عثمان، ويحسبان أن قريشًا قد أجمعت أمرها ألا يتولاها هاشمى، وأن عليًا وشيك ان يذاد عنها بعد عثمان كما ذيد عنها قبله، وكانت السيدة عائشة تؤثر أن تؤول الخلافة إلى واحد من هذين، أو إلى عبد الله بن الزبير، لأن طلحة من قبيلة تيم، والزبير زوج أختها أسماء، وفي تأييد السيدة عائشة لواحد منهم مدعاة أمل كبير في النجاح(1).
وقال في موضع آخر: فمما لا شك فيه أن الإمام أنكر إجحافًا أصابه في تخطيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة ابن عمه صلوات الله عليه، وأنه كان يرى أن قرابته من النبي مزية ترشحه للخلافة بعده، لأنها فرع من النبوة على اعتقاده، وهم شجرة النبوة ومحط الرسالة، كما قال(2).
__________
(1) عبقرية على، ص(84).
(2) المصدر نفسه، ص (148).(1/300)
وقال: فمن المعلوم أن عليًا كان يرى أنه أحق بالخلافة من سابقيه، وأنه لم يزل مدفوعا عن حقه هذا منذ انتقل النبي عليه السلام إلى الرفيق الأعلى(1)، وغير ذلك من الطامات والأكاذيب والإفك المبين التي تورط فيها العقاد بسبب الروايات الموضوعة، وسار على منهجه خالد محمد خالد في كتابه خلفاء الرسول ونقل عن على كلامًا مفترى، ذكر فيه أن أبا بكر وعمر قد اغتصبا الخلافة من على(2)، وجانب الصواب خالد البيطار في كتابه على ابن أبي طالب، عندما علق على موقف السيدة فاطمة من ميراث أبيها(3)، وموقف على من خلافة أبي بكر، وهذا مثال لفيلق طويل لا ينتهي خاض هذه المعمعة وخبط فيها والتي تدعي أن عليًا – رضي الله عنه – ذيد عن الخلافة بعد عثمان كما ذيد عنها قبله، وأن الصحابة كانوا يتآمرون لنيل الخلافة بدافع العصبية ضد بنى هاشم، أو لمطامع دنيوية، وأن عليا أنكر إجحافًا أصابه في تخطيه بالبيعة إلى غيره بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كان يرى أنه أحق بالخلافة من سابقيه، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مهّد لخلافته وحببه للناس بما أمَّره حينًا واستخلفه حينًا آخر، وأن ليس ثمة علاقة حميمة بين الإمام وبين الصحابة، وأنه غفر للشيخين تعديهما عليه بأخذ الخلافة، وأنه بايع الصدّيق بعد وفاة فاطمة، وكل هذا بهتان وزور، وكذب وافتراء يأباه الحق والعدل والإنصاف، وينكره التاريخ الصحيح، ويكذبه الكلام الصريح الذي صدر عن علي نفسه الذي سبق ذكره، فقد اعترف على بأفضلية الخلفاء، حينما كان هو الخليفة، فكان يعلن ذلك على المنبر ويتوعد من يفضله عليهم بالعقاب، وهذا ثابت بالأسانيد الصحيحة، وكان لهم ناصرًا ومعينًا، وعلاقته بهم وطيدة وشيجة لا تؤثر في رسوخها العواصف الهوج(4) التي يثيرها من تورط في الروايات الضعيفة والأخبار الموضوعة من الكتاب
__________
(1) المصدر نفسه، ص(181).
(2) خلفاء الرسول، ص (526، 527).
(3) على بن أبي طالب: خالد البيطار، ص (84).
(4) المصدر نفسه، ص (130).(1/301)
الذين ذكرنا بعض نقولهم على سبيل المثال لا الحصر والسبب الذي أسقطهم في هذه الهوة هو جهلهم بمنهج أهل السنة والجماعة في كتابة التاريخ، وبعدهم عن التمييز بين المصادر الصحيحة والمصادر الساقطة، وعدم تفريقهم بين الروايات الصحيحة والروايات الضعيفة والموضوعة والاعتماد على الموضوعات في تحليلاتهم.
5- أول خطبة خطبها على رضي الله عنه: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه في أول خطبة خطبها حين تولى الخلافة: إن الله عز وجل أنزل كتابًا هاديًا، بيَّن فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض أدوها إلى الله (سبحانه) يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حُرَمًا غير مجهولة وفضَّل حرمة المسلم على الحُرم كلها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد المسلمين، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب، بادروا أمر العامة...، فإن الناس أمامكم وأن من خلفكم الساعة تحدوكم، تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم، اتقوا الله في عباده وبلاده، إنكم مسئولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله عز وجل ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به وإذا رأيتم الشر فدعوه {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ}(1) [الأنفال:26].
ولما كانت بيعة على جاءت بعد فتنة عمياء ذهب ضحيتها خليفة المسلمين السابق، فقد دعا المسلمين إلى الخير ونبذ الشرّ، وبين لهم أن حرمة المسلمن فوق كل الحرمات، فلا يجوز أذاه في حال من الأحوال، ثم ذكرهم بالموت والآخرة وحثهم على التقوى والطاعة والعمل الصالح(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/458، 459).
(2) الأدب الإسلامي، نايف معروف، ص (57).(1/302)
وقد جاءت محاور الخطبة حول جانب العقيدة، والعبادة، والأخلاق، واهتمت ببعض مقاصد الشريعة، ولو شئنا أن نلخص خطته التي يريد أن يرسمها للناس لقلنا: يريد أن يقول لهم: ارجعوا إلى العهد الذي كنتم عليه أيام رسول الله(1)، والخلفاء الراشدين الذين سبقوه، وقد أشار أمير المؤمنين في حكمه وبلاغه إلى النهج الذي سيقبلون به عهد الخلافة الجديد بقوله: إذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه.
وختم بالآية الكريمة التي كانوا في حاجة إلى استحضارها، ليقارنوا بها بين ما كانوا عليه قبل الإسلام وبعد الإسلام- إلى أمد بعيد- من القلة والضعف والضَّعة والخمول حتى كانوا كقطعة لحم على كف يتخطفها الطير، ثم ما صاروا إليه من القوة والسعة والأمن والسَّلام، والرخاء والثراء، وما أكرمهم به عليهم من النِعَم فطنّت حصاتهم وخفقت راياتهم ودان لهم
العباد والبلاد(2).
__________
(1) الخلفاء الراشدين للنجار، ص (378).
(2) المرتضى للندوى، ص(140، 141).(1/303)
6- الترادف بين ألفاظ: الإمام والخليفة وأمير المؤمنين: قال النووى: يجوز أن يقال للإمام: الخليفة والإمام وأمير المؤمنين(1)، وقال ابن خلدون: وإذ قد بينَّا حقيقة هذا المنصب وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، به تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإمام(2)، ويعرف ابن منظور الخلافة بأنها الإمارة(3)، ويفسر أبو زهرة الترادف بين لفظي الخلافة وهى الإمامة الكبرى وسميت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين يخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في إدارة شئونهم، وتسمى إمامة، لأن الخليفة كان يسمى إمامًا، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم(4)، كما فسر الأستاذ محمد المبارك سبب اختيار هذه الألفاظ، الإمام والخلية وأمير المؤمنين بأنه: ابتعادًا بالمفهوم الإسلامي للدولة ورياستها عن النظام الملكي بمفهومه القديم عند الأمم الأخرى من الفرس والرومان المختلف اختلافًا أساسيًا عن المفهوم الإسلامي(5)، الجديد هذا وقد كان الخلفاء الأُول يُلقبون بالخلفاء كما يلقبون بالأئمة، ومنذ خلافة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – استعمل المسلمون لقب «أمير المؤمنين».
__________
(1) روضة الطالبين (10/49).
(2) المقدمة، ص (190).
(3) لسان العرب (9/83).
(4) تاريخ المذاهب لأبي زهرة، ص (21).
(5) نظام الإسلام (الحكم والدولة)، ص (61).(1/304)
ولقد ورد لفظ «إمام» في القرآن الكريم في أكثر من موضع بمعنى الزعيم أو الدليل أو الرئيس، قال الله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، أي جاعلك قدوة يؤتم به(1)، وقال تعالى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، أي يقتدون بنا في أمر الدين، وقال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71]، أي بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، وقيل: بكتاب أعمالهم التي قدموها(2)، وورد لفظ الإمام في مواطن كثيرة من السنة النبية منها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بايع إمامًا، فأعطاه صفقة يده، وثمرة قلبه، فليعطه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»(3)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم»(4) وقوله: «سبعة يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله إمام عادل...» (5).
__________
(1) نظام الحكم في الإسلام، عارف خليل، ص (80).
(2) المصدر نفسه، ص(81).
(3) صحيح مسلم بشرح النووى (12/233).
(4) صحيح مسلم بشرح النووى (12/237).
(5) فتح البارى (3/293).(1/305)
ومن الملاحظ أن لفظ الإمامة يغلب استعماله عند أهل السنة في مباحثهم العقدية والفقهية بينما يغلب استعمالهم لفظ (الخلافة) في كتاباتهم التاريخية، ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن هذه المباحث- خاصة العقدية- قد كتبت للرد على المبتدعة في هذا الباب كالشيعة الروافض والخوارج(1)، فالشيعة الروافض يستخدمون لفظ الإمام دون الخلافة ويعتبرونها أحد أركان الإيمان عندهم، ويفرقون بين الإمامة والخلافة، فهم يعتبرون الإمامة رئاسة دين، والخلافة رئاسة دولة(2). ويريدون من ذلك إثبات أن عليًا رضي الله عنه كان إماما زمن خلافة الثلاثة الذين سبقوه(3)، وقال ابن خلدون: إن الشيعة خصوا عليًا باسم الإمام نعتًا له بالإمامة التي هى أخت الخلافة، وتعريضًا بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر(4).
__________
(1) الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة للدميجى، ص(36).
(2) المصدر نفسه، ص(36).
(3) المصدر نفسه، ص(36).
(4) نظام الحكم، عارف خليل، ص (81).(1/306)
إن هذه الألقاب: الخليفة، الإمام، أمير المؤمنين، ليست من الأمور التعبدية، وإنما هى مصطلحات وجدت بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واصطلح الناس عليها، وقد أطلق المسلمون غير هذه الألقاب في وقت لاحق كلقب الأمير، كما كان الحال في الأندلس، وكذلك لقب السلطان، كما تسمى بذلك الحكام في الدولة الإسلامية، بلقب من هذه الألقاب، إذ إن المهم في هذا المجال أن يكون المسلمون ورئيسهم خاضعين للتشريع الإسلامي عقيدة وشريعة، بغض النظر عن الألقاب التي يمكن أن تطلق على هذا الرئيس، سواء كان لقبه الخليفة أم أمير المؤمنين أم رئيس الدولة أم رئيس الجمهورية، فيمكن إطلاق أحد هذه الألقاب أو غيرها، وهذا يرجع إلى ما يتعارف عليه الناس، وإكان الأفضل الالتزام بالألقاب السابقة، لما لها من مفهوم سياسي متميز عن المفاهيم المختلفة عند الأمم الأخرى، ولما لها من معان دوت عبر التاريخ على أنها رمز للحضارة الإسلامية(1).
7- أيهما أصح عند ذكر أمير المؤمنين على: هل نقول رضي الله عنه أم كرم الله وجهه أم عليه السلام؟ إن الأصل عند ذكر الصحابة الترضي عنهم جميعًا كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:100].
__________
(1) المصدر نفسه، ص (82).(1/307)
وقال تعالى: { لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] لذلك اصطلح أهل السنة على الترضي على كل صحابي يجري ذكره أو يروى عنه الحديث، فيُقال مثلاً: عن أبي بكر - رضي الله عنه - ولم يستعمل السلام - فيما أعلم - عند ذكر أحد منهم، مع أن السلام تحية المسلمين فيما بينهم، كما تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً} [النور:61]، على هذا فالترضي أفضل من السلام، قال تعالى {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72]، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يقول لأهل الجنة: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا»(1)، ولكن اصطلح العلماء على أن السلام يختص بالأنبياء لقوله تعالى: {وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181]، ولقوله: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} [مريم:15]، ولما ورد في حق على «أنت منى بمنزلة هارون من موسى»(2)، أخذ الغلاة كالرافضة يستعملون في حق أمير المؤمنين على: عليه السلام، أو كرم الله وجهه، ولا شك أنه أهل لذلك، لكن يشركه في ذلك جميع الصحابة(3)، وقد وقع هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب ومن بعض علماء أهل السنة أن يفرد على - رضي الله عنه- بأن يقال: عليه السلام من دون سائر الصحابة، أو كرم الله وجهه، وهذا وإن كان معناه صحيحًا لكن ينبغي أن يساوى بين الصحابة في ذلك(4).
__________
(1) مشكاة المصابيح للبغوى (3/88).
(2) البخاري رقم (2404).
(3) فتاوى في التوحيد، عبد الله بن جبرين، ص (37).
(4) الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية، ص (26) في الحاشية من تعليق المحقق أحمد التويجرى.(1/308)
المبحث الثاني : شيء من فضائله وأهم صفاته وقواعد نظام حكمه
قال الإمام أحمد، وإسماعيل القاضي، والنسائى، وأبو على النيسابورى: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء في على(1)، وقال الحافظ ابن حجر: وكان السبب في ذلك أنه تأخر، أي آخر الخلفاء الراشدين، ووقع الاختلاف في زمانه وخرج من خرج عليه، فكان ذلك سببًا لانتشار مناقبه من كثرة من كان يبينها من الصحابة ردًا على من خالفه، فاحتاج أهل السنة إلى بث فضائله، فكثر الناقل لذلك، وإلا فالذين في نفس الأمر أن لكل من الأربعة من الفضائل، إذا حرر بميزان العدل لا يخرج عن قول أهل السنة والجماعة أصلاً(2)، وقال ابن كثير: من فضائله أنه أقرب العشرة المشهود لهم بالجنة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبًا(3)، وقد ذكرت كثيرًا من فضائله فيما مضى من البحث كل في موضعه، وإتمامًا للفائدة نشير إلى مزيد من الفضائل لعلي رضي الله عنه منها:
* عن زر رضي الله عنه قال: قال على: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وسلم - إلىَّ: «أن لا يحبنى إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق»(4).
* عن أبي إسحاق: سأل رجل البراء وأنا أسمع قال: أشهد على بدرًا؟ قال: بارز وظاهر(5).
* عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حراء هو وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»(6).
__________
(1) فتح البارى (7/71).
(2) المراد ترتيبهم في الفضل وهو حسب ترتيبهم في الخلافة، فتح البارى (7/71).
(3) البداية والنهاية (11/29).
(4) الصحيح المسند في فضائل الصحابة، ص(111).
(5) ظاهر: أي لبس درعًا على درع، الصحيح المسند، ص (112).
(6) الصحيح المسند في فضائل الصحابة، ص (117).(1/309)
* قال سعيد بن زيد: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:«النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلى في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد في الجنة، ولو شئت أن أسمي العاشر»(1).
* قالت أم سلمة رضي الله عنها: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من سب عليًا فقد سبنى»(2).
* جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان، فذكر محاسن عمله، قال: لعلَّ ذلك يسوؤك؟ قال: نعم.. قال: فأرغم الله بأنفك، ثم سأله عن على فذكر محاسن عمله قال: هو ذاك، بيته أوسط بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: لعلَّ ذاك يسوؤك؟ قال: أجل! قال فأرغم الله بأنفك، انطلق فاجهد على جهدك(3).
هذه بعض الفضائل الثابتة لعلي رضي الله عنه، وأما صفاته رضي الله عنه، فقد كان له صفات القائد الرباني المضحى في سبيل الله وكتابه وسنة نبيه، ونجملها في أمور ونزكز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات، سلامة المعتقد، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، وحسن اختياره لمعاونيه، والتواضع والحلم والصبر، وعلو الهمة والحزم والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات التي ظهرت للباحث في الفترة المكية في صحبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي العهد المدني في غزواته مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحياته في المجتمع، وظهر البعض الآخر لما تسلم قيادة الدولة الراشدية وأصبح أمير المؤمنين رضي الله عنه، ومن أهم هذه الصفات:
أولاً: العلم والفقه في الدين:
__________
(1) الصحيح المسند في فضائل الصحابة، ص (117).
(2) الصحيح المسند، ص (121).
(3) المصدر السابق،ص (140).(1/310)
كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه من علماء الصحابة الكبار، وقد تميز رضي الله عنه بجده في التحصيل، والتحرى في قبول العلم، والسؤال في طلبه، واستخدام وسائل ضبط العلوم في زمنه، من كتابة، وتعهد، ولزوم النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث يقول رضي الله عنه في جمعه للقرآن الكريم: آليت بيمين ألا أرتدى بردائى إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن(1)، وقال: ما دخل نوم عينى، ولا غمض رأسي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى علمت ذلك اليوم ما نزل به جبريل، عليه السلام، من حلال أو سنة، أو كتاب، أو أمر، أو نهي، وفيمن نزل(2)، وكان رضي الله عنه يتلقى النص من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، ولكن عندما يبلغه الحديث من غيره فإنه شديد التحري في قبوله، خشية أن يَنسب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً لم يقله، ومما يدل على هذا المنهج قوله رضي الله عنه: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله حديثًا نفعنى الله منه بما شاء أن ينفعني،وإذا حدثنى أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال: وحدثني أبو بكر- وصدق أبو بكر- رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبد يذنب ذنبًا فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلى ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ} [آل عمران:135] إلى آخر الآية»(3)، نعم، على بن أبي طالب رضي الله عنه يستحلف أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم الثقات العدول، وما هذا إلا دليل على شدة تحريه في تلقي الحديث الذي يلقاه من غير رسول الله(4)، وكان رضي الله عنه صاحب لسان سئول وقلب عقول، فقد قال:..إن ربي وهب لي قلبًا عقولاً ولسانًا سئولاً(5)، وعلل رضي
__________
(1) الطبقات (2/338).
(2) مسند الإمام زيد، ص (343) نقلا عن منهج على بن أبي طالب في الدعوة.
(3) صحيح سنن الترمذي (1/128)، مشكاة المصابيح (1/416).
(4) منهج على بن أبي طالب في الدعوة، ص (52).
(5) الطبقات (2/338)، الحلية (1/67).(1/311)
الله عنه كثرة علمه بطلبه إياه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسؤال، بقوله: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت ابتديت(1)، وعندما يكون عائق الحياء بينه وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتغلب عليه يطلب من أحد الصحابة بسؤال رسول الله، فعن محمد ابن الحنفية قال: قال على: كنت رجلاً مذاءً(2)، فاستحييت أن أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: فيه الوضوء(3)، وكان رضي الله عنه يحذر الناس من ترك العلم بسبب الحياء، فقد قال: ولا يستحى أحدكم إذا لم يعلم أن يتعلم(4)، ولا يستحي جاهل أن يسأل عما لا يعلم، وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه من بين القلة من المسلمين الذين كانوا يعرفون الكتابة في صدر الإسلام، وفوق هذا فقد كان من كتاب الوحى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ساعدته هذه المهارة في القراءة والكتابة على التبحر في العلوم الشرعية، وكان رضي الله عنه يرى أن تكون كتابة النصوص بخط بَيَّّن مع التفريج بين السطور، والتقريب بين الحروف، فعن أبي عثمان عمرو بن بحر بن الجاحظ، قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: الخط علامة، فكلما كان أبين كان أحسن(5)، وقد أمر كاتبه عبيد الله بن أبي رافع بقوله: ألف دواتك وأطل سن قلمك، وأفرج بين السطور، وقرمط(6) بين الحروف(7). وعن أبي حكيمة العبدي قال: كنا نكتب المصاحف بالكوفة، فيمر علينا على ونحن نكتب فيقول: أَجِلَّ قلمك(8)، قال: فقططت منه، ثم كتبت فقال: هكذا نوروا ما نور الله(9)، وكان رضي الله عنه يتعهد ما تعلمه بالعمل وتطبيقه، وكان من أحرص الناس على تطبيق ما سمعه من رسول
__________
(1) فضائل الصحابة (2/647) إسناده صحيح.
(2) أي كثير المذى وهو ما يخرج عند الملاعبة.
(3) مسلم ك (1/247).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (13/284).
(5) الجامع لأخلاق الراوى(1/262).
(6) قرمط بين الحروف: أي قرب بينها.
(7) الجامع لأخلاق الراوى (1/262).
(8) أي عظم قلمك، وهو كناية عن تكبير الخط.
(9) الجامع لأخلاق الراوى (1/260).(1/312)
الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو كان ذلك في أصعب الظروف، كما مر معنا في تعليم رسول الله له وللسيدة فاطمة الله عنهما الأذكار، فقد قال أمير المؤمنين: ما تركته منذ سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، قيل له: ولا ليلة صفين؟ قال: ولا ليلة صفين(1)، وقد أشار أمير المؤمنين على رضي الله عنه إلى ضبط النص بالعمل به بقوله: تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا به تكونوا من أهله(2)، وكان يرى أن العالم لا يسمى عالمًا إلا إذا كان عاملاً بعلمه، لذا يقول مخاطبًا حملة العلم: يا حملة العلم، اعملوا به فإن العالم من عمل بما علم ووافق علمه عَمَله(3)، وقال رضي الله عنه: هتف العلم بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل(4)، وكان على رضي الله عنه من المكثرين من الفتيا في أصحاب رسول الله، قال ابن القيم: الذين حفظت عنهم الفتوى، من أصحاب رسول الله مائة ونيف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر ابن الخطاب، وعلى بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر(5)، وقد عد ابن حزم عليًا رضي الله عنه في المرتبة الثالثة من بين الصحابة، رضي الله عنهم، في كثرة الفتيا، وسيأتي الحديث بإذن الله تعالى عن المسائل القضائية، وكثير من اجتهاداته الفقهية، عند حديثنا عن المؤسسة القضائية، وكان رضي الله عنه يحث على التزاور والمدارسة، حيث يقول: تزاوروا وتدارسوا الحديث، ولا تتركوه يدرس(6)، وفي رواية: تزاوروا وتحدثوا، فإن لم تفعلوا فإنه يدرس(7)، وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يحث على لزوم الشيخ، والحرص على الأخذ منه، ويقول: ولا تشبع من طول صحبته، فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط
__________
(1) مسلم (4/2091، 2092).
(2) البداية والنهاية (8/6).
(3) بيان العلم وفضله، ص (285).
(4) منهج على بن أبي طالب، ص 63.
(5) أعلام الموقعين.
(6) الجامع لأخلاق الراوى (1/236).
(7) شرف أصحاب الحديث للبغدادي، ص(93).(1/313)
عليك منها شيء(1)، وقد تهيأ لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، ملازمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صغيرًا حين تربي في حجره، وكبيرًا حينما كان صهره ووالد سبطيه، فكان بذلك قريبًا من رسول الله، يأخذ عنه ويتعلم منه، وقد شهدت السيدة عائشة لعلي بلزومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فعن المقدام بن شريح، عن أبيه قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني برجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله عن المسح على الخفين، فقالت: ائت عليًا فسله، فإنه كان يلزم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: فأتيت عليًا فسألته، فقال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمسح على خفافنا إذا سافرنا(2)، وكان رضي الله عنه يرى الانتقاء في العلوم فقد قال: العلم أكثر من أن يحفظ، فخذوا من كل علم محاسنه(3)، وقد وصل من العلم مرتبة جعلته يقول للناس وهو في العراق: سلوني، فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: ما كان أحد من الناس يقول: سلوني غير على بن أبي طالب(4) رضي الله عنه، وقد وثق الناس بعلمه سواء الصحابة أو التابعون، فعن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: إذا أتانا الثبت عن على لم نعدل به(5)، وعنه أيضا قال: إذا حدثنا ثقة عن على بفتيا لا نعدوها(6)، وعن سويد بن غفلة أنه جاءه رجل يسأله عن فريضة رجل ترك ابنته وامرأته، قال: أنا أنبئك قضاء على قال: حسبى قضاء على، قال: قضى على لامرأته الثمن، ولابنته النصف، ثم رد البقية على ابنته(7)، وقد أثنى الناس عليه في علمه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أما إنه أعلم الناس بالسنة(8)، وكان معاوية رضي الله عنه يكتب فيما ينزل به ليسأل له علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك، فلما بلغه قتله، قال: ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب(9)
__________
(1) تذكرة السامع، ص(100).
(2) مسند أحمد (2/195) إسناده صحيح، تحقيق أحمد شاكر.
(3) تاريخ اليعقوبي (2/5).
(4) الاستيعاب، ص (1103).
(5) المصدر السابق، ص (1104).
(6) الطبقات (2/338).
(7) سنن الدارمى (2/375).
(8) الاستيعاب، ص (1104).
(9) المصدر السابق، ص(1108).(1/314)
، وعن الحسن بن على، أنه خطب الناس بعد وفاة على رضي الله عنه فقال: لقد فارقكم رجل أمس، ما سبقه الأولون بعلم، ولا أدركه الآخرون(1)، وعن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة – وقد سئل عن على – فقال: كان لله والله ما شاء من ضرس قاطع السطة(2) في النسب، وقرابته من رسول الله ومصاهرته، والسابقة في الإسلام، والعلم بالقرآن والفقه بالسنة، والنجدة في الحرب، والجود في الماعون(3)، وعن مسروق قال: انتهى علم أصحاب رسول الله إلى عمر، وعلى، وابن مسعود، وعبد الله رضي الله عنهم(4).
وقد ترك أمير المؤمنين رضي الله عنه نصائح وإرشادات لطلاب العلم والعلماء والفقهاء تستحق أن تحفظ ويعمل بها، ومن هذه النصائح:
1- الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق: روى الحافظ أبو نعيم عن كميل بن زياد قال: أخذ على بن أبي طالب رضي الله بيدي فأخرجني إلى ناحية الجبَّان – يعنى الصحراء- فلما أصحرنا جلس ثم تنفس ثم قال: يا كميل ابن زياد، القلوب أوعية فخيرها أوعاها للعلم، احفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق(5). إن هذه الوصية البليغة قد اشتملت على درر المواعظ وغُرر الحكم، فقد قسم أمير المؤمنين على رضي الله عنه الناس إلى ثلاثة أقسام:
__________
(1) فضائل الصحابة (2/595) إسناده صحيح.
(2) السطة: التوسط، والوسط في النسب هو أكرمه وأشرفه.
(3) ذخائر العقبى للمحب الطبري، ص (79).
(4) تاريخ السيوطى.. ص (196).
(5) حلية الأولياء (1/75)، صفة الصفوة (1/329).(1/315)
(أ) العلماء الربانيون: والمقصود بالعلماء علماء الدين، والربانيون الذين يجمعون بين الفقه والحكمة كما جاء في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79]، قال: حكماء فقهاء، أخرجه الإمام البخاري، وبذلك فسره عبد الله ابن مسعود، رضي الله عنه(1)، فالذين يجمعون بين الحكمة والفقه هم المؤهلون لتربية الأمة وتوجيهها، لأن الحكمة وضع الشيء في موضعه المناسب ومن ذلك التوفيق إلى تطبيق الحكم الشرعي على واقع الناس، وذلك يقتضي فهما دقيقًا لواقع المجتمع الإسلامي، ومن الحكمة القيام بتربية الأمة بهذا الدين، وذلك يقتضي الجمع بين تعليم الدين والتربية علي التقوى ومكارم الأخلاق، وأما الفقه فهو فهم الأحكام الدينية من مصادرها الشرعية، ولذلك كان العلماء الربانيون هم أفضل الأمة، لأنهم جمعوا بين فضيلتين هما: تلقى العلم، والتعليم مع التربية، فهم المؤهلون لتربية الأمة وتوجيهها(2)، وقد عرف أمير المؤمنين على رضي الله عنه الربانيين بأنهم هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها(3).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي (11، 12/438).
(2) التاريخ الإسلامي للحميدى (11، 12/438).
(3) الفتاوى (1/49).(1/316)
(ب) طلاب العلم الذين أخلصوا نياتهم في طلب العلم:ليكون وسيلة إلى نجاتهم من المسئولية أمام الله تعالى، وقد عبر على رضي الله عنه عن هذا القسم بقوله: ومتعلم على سبيل نجاة، وهذا لا يختص بالدارسين الذين تفرغوا لطلب العلم، وإنما يشمل كل من حمل مسئولية تطبيق هذا الدين، وأهمه أمر نجاته في الآخرة، فاستفتى في أمور دينه العلماء الربانيين، ليعبد الله على بصيرة، وليستقيم في معاملته مع الناس على منهج الله، فهذا يعتبر من المتعلمين على سبيل نجاة وإن لم يجلس في حلقات العلم(1). إن أمير المؤمنين على- رضي الله عنه – يرينا أهمية إخلاص النية لله في طلب العلم، ويدعوهم لتقديم ما عند الله والدار الآخرة على حطام الدنيا وشهوات النفس والدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله ودين الحق والصبر على ذلك.
(ج) الذين هجروا العلم الديني ولم يكن لهم ارتباط بالعلماء الربانيين:في معرفة أمور دينهم، وقد عبر عنهم أمير المؤمنين على رضي الله عنه بقوله: وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم.
تحدث أمير المؤمنين عن صنف الهمج الرعاع أتباع كل ناعق، الذين يميلون مع كل ريح وليس لهم نور يستضيئون به، وحذر من هذا الصنف الإمعى، وكأنه رضي الله عنه يدعو الناس بأن يكون همهم الحق والثبات عليه، وبأن يعمروا الدنيا والآخرة بطاعة الله وأن يستضيئوا بنور الله ويجعلوا الدنيا مطية للآخرة.
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدى (11، 12/438).(1/317)
2- المقارنة بين العلم والمال: وجاء في وصية أمير المؤمنين على رضي الله عنه لكميل بن زياد..العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو مع العمل، والمال تنقصه النفقة، العلم حاكم، والمال محكوم عليه، وصنعة المال تزول بزواله ومحبة العالم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد مماته، مات خزان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقى الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة(1)، عقد أمير المؤمنين على رضي الله عنه مقارنة بين العلم والمال، باعتبار أن العلم الشرعي هو عماد أهل الآخرة ومعقد عزهم وشرفهم في الدنيا والآخرة، والمقصود بالمال هنا الذي يجمعه صاحبه لذاته ولا يتوجه فيه بالطاعات وفق شرع ربه، وقد سوغ هذا الحكم بعدة أمور:
__________
(1) حلية الأولياء (1/75)، صفة الصفوة (1/329).(1/318)
(أ) أن العلم يحرس صاحبه بينما صاحب المال هو الذي يحرسه:فأما حراسة العلم صاحبه فإن العلم الإلهي يقى صاحبه من المهالك في الدنيا والآخرة، فأما أمر الآخرة فظاهر معلوم، حيث إن هذا العلم يقود صاحبه إلى رضوان الله تعالى والجنة ويجنبه طريق النار، وما أعظمها من مطالب وما أبلغها من مكاسب، وأما الوقاية من مهالك الدنيا فإن السعادة الروحية الحقة لا تكون إلا باليقين الذي تتضاءل أمامة الحياة الدنيا، فتصبح جميع مآسيها ونكباتها بردًا وسلامًا على أصحاب اليقين، لأنهم لا يلقون لها بالاً، ولا يعيرونها اهتمامًا، بينما تتحول هذه المآسى والنكبات إلى حياة جحيمية على أهل الدنيا الذين يعتبرون الحياة الدنيا هي رأس المال والمكسب، وأما حراسة صاحب المال ماله فأمرها ظاهر، فكم تملك أصحابها من الهم والخوف عليها تململ المريض، وباتوا يحرسون أموالهم بالهم والقلق والحزن المنهك(1). والعلم ينور بصيرة صاحبه في الاختيار الأفضل وفي استخلاص العبر من الأمم الماضية والعيش بها في الحياة، والعلم يفتح آفاقًا واسعة في فقه الخلاف، ومعرفة المصالح والمفاسد، والمقاصد، وترتيب الأولويات فيسير صاحبه بنور بين الناس.
(ب) أن العلم ينمو ويترسخ بالعمل:لأن العمل تطبيق للعلم، فهو بذلك يزيده عمقًا في الذاكرة، بخلاف المال فإن الإنفاق منه ينقصه، ولا يغيبنَّ عن البال أن المقصود هنا أموال أهل الدنيا التي ينفقون منها من أجل الدنيا، أما أموال أهل الآخرة فإنها محكومة بالعمل الشرعي، فالإنفاق منها يزيدها نموًا كما جاء في قول الرسول- صلى الله عليه وسلم -: «ما نقص مال عبد من صدقة»(2).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدي (12/442).
(2) المصدر نفسه (12/442).(1/319)
(ج) أن العلم الشرعي حاكم لأنه تنتظم به شئون الحياة: وعلى منهاجه يجب أن تقرر جميع الأنظمة التي تحكم الناس، فهو الحاكم الحقيقي، أما المال فإنه محكوم عليه لأن إصداره وإيراده يخضع للأنظمة الحاكمة سواء كانت شرعية أو غير شرعية(1).
(د) أن العلاقات الاجتماعية التي تقوم على المصالح المالية المشتركة تزول بزوال المال: لأنه هو الذي عقد تلك العلاقات بناء على تبادل المصلحة بوجوده، فإذا زال زالت تلك المصالح، أما العلاقات الأخوية التي تقوم على تبادل العلم الشرعي بين العالم ومحبيه فإنها باقية خالدة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {الأخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
(هـ) أن العلم الشرعي يكسب ولاء المسلمين وطاعتهم لأهله اختيارًا منهم: من غير أن تفرض عليهم هذه الطاعة، وذلك على امتداد حياتهم، كما يكسبهم الذكر الحسن بعد مماتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث لا يفقد الناس إلا صورهم وأشكالهم.
وإننا لو استعرضنا التاريخ إلى عصرنا هذا لوجدنا العلماء من عهد الصحابة، رضي الله عنهم، تتردد أسماؤهم ويذكر التاريخ حياتهم في الكتب والخطب والدروس العلمية، بينما اندرست أسماء كبار أهل الدنيا بانقضاء حياتهم، وأحيانًا يشاهدون انطفاء سمعهم وهم أحياء(2).
3- أن الفقيه كل الفقه الذي لا يقنط الناس من رحمة الله:ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص لهم في معاصي الله، ولا يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره، ولا خير في عبادة لا علم فيها، ولا خير في علم لا فهم فيه، ولا خير في قراءة لا تدبر فيها(3).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/442).
(2) المصدر نفسه (12/443).
(3) حلية الأولياء (1/77)، صفة الصفوة (1/325).(1/320)
في هذا النص يبين أمير المؤمنين على رضي الله عنه أن من الفقه في الدين التزام صفة الاتزان والاعتدال في عرض أمور الدنيا ومحاولة إصلاح الناس، وذلك بأن يسير الداعية في خط وسط بين مقامي الخوف والرجاء، فلا ينطلق في تخويف الناس إلى الحد الذي يجعلهم يقنطون من رحمة الله، ولا ينطلق في ترغيب الناس إلى الحد الذي يجعلهم يأمنون من عذاب الله تعالى، ونجد عليًا رضي الله عنه في هذا النص يبين أن من مظاهر الفقه في الدين ألا يهون العالم من شأن المعاصي فيجرئ الناس على ارتكابها، وأن يحافظ على مستوى الإيمان والتقوى لدى الناس مع محاولة رفعهم نحو الكمال في ذلك، كما أن من الفقه أن يحاول العالم ربط المسلمين بكتاب الله تعالى، وهنا يبين على رضي الله عنه أهمية القرآن الكريم وتفضيله المطلق على كل ما سواه، وفيه تبيين أو تعليم للطريقة التي نتعامل بها مع القرآن الكريم، وألا نتجاوزه إلى غيره رغبة عنه لأنه مصدر الهداية الأول، ومن المعلوم أن السنة النبوية بيان تفصيلي للقرآن الكريم، فالتوجيه إلى القرآن يعتبر توجيهًا إلى السنة، ثم يبين أن من أهم شروط العبادة الشرعية المقبولة أن تكون صادرة عن علم بالكتاب والسنة وأن العلم لا يكون نافعًا إلا إذا رافقه الفهم الصحيح.(1/321)
ويختم وصيته النافعة ببيان أهمية تدبر معاني كتاب الله تعالى حال التلاوة لأن الخير كل الخير في فهم مقاصد القرآن الكريم للعمل بأحكامه، والتوجه الكامل لله بالقلب والعقل والروح والجوارح عند قراءتنا لكتابة، وبذل كل ما نستطيع لفهم مراد الله والعمل بأوامره واجتناب نواهيه، والتخلص من كل العوائق التي تحول بيننا وبين كتاب الله، فهذا يدعونا للتجرد لله بالكلية وإخلاص الدين له، وتحرى مراد الله ورسوله ودين الحق، ولو أدى إلى مفارقة الأهل والمال والولد والوجاهة الدنيوية، فإن ما عند الله خير وأبقى والاتعاظ بمواعظه وتنمية الإيمان بتذكر معاني هذا الكتاب العظيم(1).
4- ما أبردها على الكبد:عن الشعبي عن على رضي الله عنه أنه خرج عليهم وهو يقول: ما أبردها على الكبد فقيل له: وما ذلك؟ قال: أن تقول للشيء لا تعلمه: الله أعلم(2).
5- أهل العلم وتعليم الناس:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: ما أخذ الله العهد على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعَلِّموا(3).
6- الخير في كثرة العلم لا المال والولد: قال على رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك، وأن تباهى الناس بعبادة ربك، فإن أحسنت حمدت الله، وإن أسأت استغفرت الله، ولا خير في الدنيا إلا أحد رجلين، رجل أذنب ذنبًا فهو تدارك ذلك بتوبة، أو رجل يسارع في الخيرات، ولا يقل عمل في تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟ (4).
7- العلم والجهل: قال رضي الله عنه: كفى بالعلم شرفًا أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نُسب إليه، وكفى بالجهل ضعة أن يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نُسب إليه(5).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/431-433).
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/66).
(3) فرائد الكلام، ص (361)
(4) حلية الأولياء، ص (75).
(5) فرائد الكلام، ص(366).(1/322)
8- سبب زهد الناس في العلم: قال رضي الله عنه: إنما زهد الناس في طلب العلم، لما يرون من قلة انتفاع من عَلِمَ بما عَلِم(1)، وهذا فيه تحذير لعلماء السوء الذين يصدون عن سبيل الله، ودعوة للعلماء بالعمل بعلمهم ودعوة الناس إليه والصبر على أذاهم في سبيل الله تعالى.
9- من حقوق العلماء على أمتهم:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته بالجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سرًا، ولا تغتابن عنده أحدًا، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله ما دام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته(2).
10- مكانة العلماء العاملين عند الله:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: من علم وعمل دُعي في ملكوت السماوات عظيمًا(3)، وهذه دعوة للعلم والعمل، وحث للسعي للمقامات العالية التي يكرم الله بها من علم وعمل ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى.
11- الاشتغال بالعلم أولى من الاشتغال بالعبادات التطوعية: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: العالم أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف مثله(4). وهذا التوجيه فيه دلالة على فقه ترتيب الأولويات عند أمير المؤمنين على، فهو يرى العمل المتعدي لخير الناس، هو العلم الأولى بالتقديم من العمل التعبدي الذي ترجع فائدته على الشخص نفسه.
هذه بعض التوجيهات النافعة والإرشادات الصالحة من أمير المؤمنين على –رضي الله عنه – لطلاب العلم.
ثانيًا: زهد أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه وورعه:
__________
(1) أدب الدين والدنيا، ص (82، 85).
(2) جامع بيان العلم وفضله (1/519).
(3) المصدر نفسه (1/497).
(4) المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح للدمياطي، ص (13).(1/323)
فهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب من خلال معايشته للقرآن الكريم وملازمته للنبي الأمين - صلى الله عليه وسلم -، ومصاحبته للصحابة الكرام، ومن تفكره في هذه الحياة أن الدنيا دار اختبار وابتلاء، فقد تربى أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – على كتاب الله، واستوعب الآيات التي تحدثت عن الدنيا، وأخبرتنا بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها، والآيات التي رغبت في الآخرة، وأخبرت بشرفها ودوامها كقوله تعالى: { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا - الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف:45، 46]، وتربى على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أعرف الخلق بالدنيا ومقدارها، إذ هو القائل- صلى الله عليه وسلم -: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء»(1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -:«ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما ترجع»(2)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»(3)، وقد تأثر أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – بالتربية القرآنية والنبوية، فكان من أصدق النماذج التي زكتها تربية النبي – عليه السلام- والتي قال الله فيها: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة:151]، فقد ضرب لنا أروع الأمثلة في الزهد، وهذه بعض المواقف المدهشة في هذا الباب.
__________
(1) سنن الترمذي رقم (4110) صحيح غريب.
(2) مسلم رقم (2858).
(3) مسلم رقم (2856).(1/324)
1- يا صفراء ويا بيضاء غُرَّى غيري:عن على بن ربيعة الوالبى أن على بن أبي طالب جاءه ابن النباح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت مال المسلمين من صفراء وبيضاء، فقال: الله أكبر، فقام متوكئًا على ابن النباح حتى قام على بيت مال المسلمين فقال:
هذا جَنَاىَ خياره فيه ... وكل جَانٍ يده إلى فيه
يا ابن النباح علىَّ بأشياع الكوفة، قال: فنودي في الناس، فأعطى جميع ما في بيت مال المسلمين وهو يقول: يا صفراء، ويا بيضاء غرى غيرى، ها، ها، حتى ما بقى منه دينار ولا درهم، ثم أمره بنضحه وصلى فيه ركعتين، وفي رواية أخرى لأبي نعيم من خبر مجمع التيمى قال: كان على يكنس بيت المال ويصلى فيه ويتخذه مسجدًا رجاء أن يشهد له يوم القيامة.(1/325)
ففي هذا مثل بليغ في الترفع عن متاع الدنيا الزائل، فبيت المال قد امتلأ من الذهب والفضة، ولا ينظر إليه أمير المؤمنين على – رضي الله عنه- نظرة إعجاب وغرور، بل كان جوابه حينما أبلغه المسئول المالي عن ذلك أن قال: «الله أكبر»، فإذا كان بعض الناس يكبرون الدنيا ويعظمونها، فالله تعالى أكبر منها ومن كل شيء، وما دام المسلم يشعر حقا أن الله أكبر، فلماذا يجعل قلبه مستسلمًا لما هو أصغر؟! إنه فقه عظيم من أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – حينما تذكر هوان الدنيا وحقارتها، فكبر الله تعالى، ولسان حاله يؤنب من انخدع بمتاع الدنيا الزائل ونسى أن الله، جلا وعلا، أكبر من كل شيء، إنه لميزان دقيق يحسه المؤمن الذي نَوَّر الله، سبحانه بصيرته، فكلما كان الله تعالى أعظم وأكبر من كل شيء في قلبه كانت الدنيا وما فيها أهون شيء عليه، وأصبح يسخر المال الحلال في طاعة الله جل وعلا، وكلما عظمت الدنيا في قلبه كان ذلك على حساب نقص تعظيمه لله تعالى، ونجد أمير المؤمنين عليا- رضي الله عنه – يحلق في آفاق العظمة وهو يخاطب الدنيا بقوله: يا صفراء ويا بيضاء غرى غيرى.. مما يدل على الوجدان الحى والحس المرهف الذي يصور الدنيا كخصم يخاتل ويراوغ خصمه.. وهو بهذا يعلن انتصاره على جموح النفس وجنوح العواطف، ويحكم عقله الذي يعطي الدنيا حجمها المناسب لزمنها المحدود في شقائها ونعيمها، ويعطي الآخرة حجمها المناسب لخلودها وعظمة نعيمها وهول جحيمها، ونجده- رضي الله عنه – يصل إلى قمة المعالي حينما صلى في بيت المال ركعتين لتكونا شاهدتين له يوم القيامة بأنه عدل في حكمه واستقام في أمره، ولعل في اتخاذ بيت المال مسجدًا رمزًا لعلو الآخرة على الدنيا، وهو مُكمِّل للسلوك العالي الذي مارسه في تصريف ذلك المال في وجوهه المشروعة(1).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/427) للحميدي.(1/326)
2- والله ما أرزؤكم من مالكم شيئًا: ومن مواقف أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – في الزهد والورع ما رواه هارون بن عنترة عن أبيه قال: دخلت على علىًّ بن أبي طالب بالخورنق(1)، وهو يرعد(2) تحت سمل قطيفة(3)، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهل بيتك في هذا المال، وأنت تصنع بنفسك ما تصنع! فقال: والله ما أرزؤكم من مالكم شيئًا، وإنها لقطيفتي التي خرجت بها من منزلي – أو قال من المدينة-(4).
وهنا نتساءل فنقول:ما الذي حمل أمير المؤمنين عليًا على أن يعيش عيشة الفقراء وأن يتحمل البرد القارس وهو قادر على أن يشتري أفخر ما يوجد في الأرض من الملابس وأكثرها دفئًا؟ إنه مثال للزهد الحقيقي حيث يرغب عن متاع الدنيا مع القدرة على تحصيله، إنه تلميذ المدرسة النبوية التي ربى فيها على الزهد في متاع الدنيا الزائل، والتنافس على نعيم الآخرة الخالد، فلقد عاش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عيشة الفقراء وهو يستطيع أن يكون
كأفضل الأغنياء(5).
__________
(1) موضع بالكوفة.
(2) يرعد: من شدة البرد.
(3) سمل قطيفة: يعنى قطيفة قديمة.
(4) حلية الأولياء (1/82)، صفة الصفوة (1/316).
(5) التاريخ الإسلامي (12/428).(1/327)
3- باعني رضاي وأخذ رضاه: عن أبي مطر بن عبد الله الجهنى قال: رأيت عليًا عليه السلام متزرًا بإزار، مرتديًا برداء ومعه الدرة(1)، كأنه أعرابى بدوى، ثم ذكر دخوله إلى السوق ومساومته أحد التجار في ثوب بثلاثة دراهم، وأن التاجر عرفه، قال: فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، فأتى آخر فلما عرفه لم يشتر منه شيئًا، فأتى غلامًا حدثًا فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ثم جاء أبو الغلام فأخبره، فأخذ أبوه درهمًا ثم جاء به فقال: هذا الدرهم يا أمير المؤمنين، قال: ما شأن هذا الدرهم؟ قال: كان ثمن القميص درهمين، فقال باعني رضاي وأخذ رضاه(2). فهذا مثل في الزهد من أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، فلقد كان مظهره في لباسه يوحى بأنه رجل أعرابي لخشونة ملابسه، وحينما اشترى له ثوبًا اختار نوعًا متواضعًا رخيص الثمن مع أنه كان آنذاك أعلى مسئول في العالم، حيث كان خليفة المسلمين، وهذا يدل على تواضعه وزهده في الدنيا، علمًا أن له حقه من الفئ
ومن بيت المال وغيرهما من مصادر الدولة لشخص مفرغ، كخليفة وحاكم، لمراعاة
مصالح المسلمين.
ومثل آخر في الورع والاحتياط للدين حينما امتنع من الشراء ممن يعرفونه حتى لا يراعوه في الثمن لمنصبه، فهو لا يريد أن يستثمر منصبه الكبير لمصالحه الخاصة، وهذا فهم دقيق لمجالات الورع والتقوى، فالخلافة عنده وعند أمثاله عمل صالح، والخليفة إذا صاحبه العدل كان أول السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، فهو لا يريد أن يدنس هذا العمل الصالح بمصالح دنيوية، فيتحول العمل إلى مجلبة للوزر بدلاً من الأجر، فكان بهذا السلوك العالي قدوة حسنة لمن أتوا بعده(3).
__________
(1) الدرة بكسر الدال وتشديدها، العصا.
(2) الزهد، ص (130).
(3) التاريخ الإسلامي (12/429) للحميدي.(1/328)
4- يخشع القلب ويقتدي به المؤمن: قال عمر بن قيس: قيل لعلي رضي الله عنه: لم ترقع قميصك؟ قال: يخشع القلب ويقتدي به المؤمن(1)، فهذا من زهذه – رضي الله عنه – وحرصه على تربية المسلمين على حياة الزهد والتقشف، فقد لاحظ في لبس الثوب المرقوع ملحظين: الأول أنه وسيلة إلى خشوع القلب وتواضع النفس والبعد عن أسباب العجب والكبرياء، والثاني أنه يعتبر بذلك قدوة للمسلمين، فإذا رآه الناس- وهو في أعلى منصب – يلبس الثوب المرقع فإن نفوسهم تتواضع ويبتعدون عن التنافس في شراء الملابس الغالية الثمن، ويتقوى بذلك الزاهدون الذين يتعرضون لملامة الناس على سلوكهم حياة الزهد(2).
__________
(1) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين، ص (647) للذهبي.
(2) التاريخ الإسلامي (12/430) للحميدى.(1/329)
5- لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان:عن عبد الله زُرَير الغافقى قال: دخلت على علىَّ بن أبي طالب- رضي الله عنه – فقرب إلينا خزيرة(1)، فقلت: أصلحك الله لو قربت إلينا من هذا البط – يعنى الأوز- فإن الله – عز وجل – قد أكثر الخير، فقال: يا ابن زرير إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يحل للخليفة من مال الله إلا قصعتان، قصعة يأكلها هو وأهله، وقصعة يضعها بين يدى الناس»(2)، فهذا أمير المؤمنين على بن أبي طالب –ر ضي الله عنه – يضرب مثلاً عاليا في الورع والزهد في متاع الدنيا الزائل من طعام وشراب، فلقد كان بإمكانه أن يأخذ من بيت المال ما شاء من الأموال مما لا يلفت النظر إليه، حيث يؤمن له معيشة مساوية لأغنياء المسلمين، ولكنه رضي بخشونة العيش إيثارًا للآجلة عن العاجلة، واحتياطًا لأمر دينه، وإبرازًا للقدوة الصالحة، لأنه إذا كان أعلى رجل في الدولة يعيش في هذا المستوى من العيش فإن في ذلك عزاء للفقراء ليصبروا ويرضوا بقضاء الله تعالى وقدره، ووعظًا للأغنياء ليشكروا الله تعالى، فيخففوا من اندفاعهم نحو الترف والإسراف(3).
6- لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم: كان أمير المؤمنين – رضي الله عنه – يختم على الجراب الذي فيه دقيق الشعير الذي يأكل من ويقول: لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم(4)، وقال سفيان: إن عليًا لم يبن آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة، ولا قصبة على قصبة، وإن كان ليؤتى بحبوبه من المدينة في جراب(5).
__________
(1) الخزيرة: لحم يقطع ويطبخ بالماء ويذر عليه الدقيق.
(2) مسند أحمد (1/78) إسناده صحيح، قاله أحمد شاكر وهناك من ضعفه.
(3) التاريخ الإسلامي (12/431).
(4) الكامل في التاريخ (2/443).
(5) الكامل في التاريخ (2/443).(1/330)
7- إنك لطيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم:يروى عدى بن ثابت، وحبة بن جوين أنه أتى بطستخوان فالوذج(1) إلى على فلم يأكل، وقال على: إنك لطيب الريح، حسن اللون، طيب الطعم، لكن أكره أن أعوَّد نفسي ما لم تعتده(2).
8- أزهد الناس في الدنيا على بن أبي طالب:قال الحسن بن صالح بن حى: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز، فقال: أزهد الناس في الدنيا على بن أبي طالب(3)، وقد ذكر الذهبي أن عليًا ركب حمارًا ودلى برجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا (وفعله هنا من باب التربية العملية على الزهد والتقوى والترفع على الدنيا وليس على سبيل الخبلاء) (4)، وأخرج أبو عبيد في الأموال عن على – رضي الله عنه – أنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرات، ثم أتاه مال من أصبهان، فقال: اغدوا إلى عطاء رابع، إني لست بخازنكم، فأخذها قوم وردها قوم(5)، وخطب على الناس فقال: أيها الناس، والله الذي لا إله إلا هو، ما رزأت من مالكم قليلاً ولا كثيرًا إلا هذه، وأخرج قارورة من كم قميصه فيها طيب، فقال أهدى إلي دهقان، وقال: ثم أتى بيت المال وقال: خذوا، وأنشا يقول:
أفلح من كانت له قوصرة(6) ... يأكل منها كل يوم تمرة(7)
__________
(1) الطستخوان: عبارة عن طست كبير يوضع وسط المائدة، والفالوذج: حلواء تعمل من الدقيق والماء والعسل.
(2) الحلية (1/81)، صحيح التوثيق، ص (74).
(3) تاريخ الإسلام عهد الخلفاء الراشدين، ص (645).
(4) تاريخ الإسلام، للذهبي ص، (645).
(5) كنز العمال (2/320).
(6) القوصرة: وعاء من قصب يجعل فيه التمر ونحوه.
(7) المرتضى للندوى، ص (212).(1/331)
لقد كان الزهد من الصفات البارزة في شخصية أمير المؤمنين على بن أبي طالب، رضي الله عنه، وكان زهده مع توافر أسباب الرخاء والثراء، وثقة الناس وتوقيرهم وإجلالهم له الذي يمنع من النقد والحسبة والمؤاخذة(1)، ولم يكن – رضي الله عنه – مع زهده وورعه وتصلبه في دينه، على شيء من الفظاظة والخشونة والعبوس والكلح، ولم يكن ثقيل الظل، بل كان ودودًا بشوشًا فيه دعابة ملحوظة، وقد جاء في وصفه: كان حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض(2) وقد عرَّف – رضي الله عنه – الزهادة فقال: أيها الناس الزهادة، قصر الأمل، والشكر عند النعم والتورع عن المحارم(3). وقصر الأمل ضد طول الأمل الذي ينسى الإنسان الآخرة، وإما قصره فيجعله يجمع بين الدنيا والآخرة ابتغاء مرضاة الله، وأما الشكر عند النعم فهي صفات المسلم الرباني الذي يستشعر نعم الله عليه المادية والمعنوية، ما ظهر منها وما بطن، ويقابلها بالشكر للعزيز الوهاب، فتعريف أمير المؤمنين يبين حقيقة الزهد، ولا شك أن زهد أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – قد أثر في من حوله، وأصبح مدرسة مؤثرة في تاريخ الأمة، وقد ربط أبو الحسن الندوى بين الزهد والتجديد في المجتمع الإسلامي فقال: ولقد رأينا الزهد والتجديد مترافقين في تاريخ الإسلام، فلا نعرف احدًا ممن قلب التيار، وغير مجرى التاريخ، ونفخ روحًا جديدة في المجتمع الإسلامي، أو فتح عهدًا جديدًا في تاريخ الإسلام، وخلف تراثًا خالدًا في العلم والفكر والدين، وظل قرونًا يؤثر في الأفكار والآراء ويسيطر على العلم والأدب، إلا وله نزعة في الزهد، وتغلب على الشهوات، وسيطرة على المادة ورجالها، ولعل السر في ذلك أن الزهد يكسب الإنسان قوة المقاومة، والاعتداد بالشخصية والعقيدة، والاستهانة برجال المادة، وصرعى الشهوات، وأسرى المعدة(4)
__________
(1) المصدر نفسه، ص (210).
(2) المرتضى للندوى، ص (213).
(3) على بن أبي طالب، محمد رشيد رضا، ص (304).
(4) رجال الفكر والدعوة في حديثه عن الإمام أحمد (1/105).(1/332)
.
ثالثًا: تواضع أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه:
من الأخلاق القرآنية التي تجسدت في شخصية أمير المؤمنين على بن أبي طالب- رضي الله عنه- خلق التواضع، قال الله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]، وقول تعالى: {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍوَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18، 19].
وفي آية الإسراء دعوة واضحة إلى التحلي بمكارم الأخلاق من التواضع واللين، ومعرفة قدر النفس، والنهي الصريح عن رعونات النفس من الكبر والبطر والأشر والاحتقار للناس، والأمر بضده وهو التواضع والقصد من الأمور صراحة بعد أن علم بالمفهوم من النهي السابق، وذيَّل الله تعالى النهي والأمر بما ذيل به النهي السابق من عدم رضاه وشدة سخطه على من اتصف بتلك الصفات، فقال سبحانه: {إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، فعدم محبته لمن كان كذلك، يعنى بغضه له، كما دلت عليه الآية السابقة، وفي هذا من الحث علىالتواضع ما فيه الكفاية للمؤمن(1)، غير أن القرآن الكريم لم يقتصر على ذلك، بل نوه بالمتواضع أيما تنويه حيث قال الله جل ذكره: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان:63].
وهذا تنويه عظيم بالمتواضعين حيث وصفهم بالعبودية له، وذلك أعظم تشريف لهم، لأن العبودية له، سبحانه، هى أشرف الأوصاف، ومن أعلى مراتب المحبين، وبذلك يتفاخرون ولذلك يقول الشاعر:
ومما زادني شرفًا وتيهًا ... وكدت بأخمصى أطأ الثريا
__________
(1) أخلاق النبي في القرآن والسنة، أحمد الحداد (1/454).(1/333)
دخولي تحت قولك يا عبادي ... وأن صيرت أحمد لي نبيًا(1)
وكان نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذروة الذرا من هذا الخلق العظيم في كل صوره وأشكاله، ولا غرابة في ذلك فهو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، وكان مما أدبه الله تعالى به في هذا الخلق قوله سبحانه وتعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر:88] وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:215]. وخفض الجناح كناية عن التواضع لهم والرفق بهم(2)، وقد قام النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك حق القيام، وظهر أثر التواضع في كل أحواله الذاتية والاجتماعية والأسرية، وفي كل زمان ومكان بحيث لا يخلو حال من أحواله - صلى الله عليه وسلم - عن التواضع لله تعالى والمؤمنين(3)، وقد تأثر أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – بالتربية القرآنية الكريمة، والتربية النبوية الرشيدة، فكانت هذه الصفة متجسدة في شخصيته الفذة، وإليك بعض المواقف:
__________
(1) المصدر نفسه (1/455).
(2) روح المعاني للألوسى (5/80).
(3) أخلاق النبي في القرآن والسنة (1/459).(1/334)
(أ) أنا الذي أهنت الدنيا: عن صالح بن أبي الأسود عمن حدثه أنه رأى عليًا قد ركب حمارًا ودلى رجليه إلى موضع واحد ثم قال: أنا الذي أهنت الدنيا(1)، وهكذا يشعر أمير المؤمنين على بن أبي طالب – رضي الله عنه – بالفرح لانتصاره على نفسه، وظهوره بمظهرالتواضع أمام الناس وهو خليفة المسلمين، إن مناصب الدنيا خداعة غرارة، وإن فتنة الجاه بها أعظم من فتنة المال، فلطالما رئى أناس مسئولون كانوا متواضعين قبل أن يلوا، فلما تولوا مناصب كبيرة بدأ التعاظم في نفوسهم شيئًا فشيئًا، حتى يكون من الصعب في آخر الأمر مخاطبتهم، واللقاء معهم، لكن أولياء الله المتقين كلما ازدادوا رفعة في المناصب الدنيوية زادوا تواضعًا للناس، وشعروا بالسرور وهم يقومون بمظاهر التواضع التي تنفي عنهم صفة التجبر والكبرياء(2).
(ب) أبو العيال أحق أن يحمل: روى عن على – رضي الله عنه- أنه أشترى تمرًا بدرهم فحمله في ملحفة، فقالوا: نحمل عنك يا أمير المؤمنين، قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل(3)، فهذا مثل من تواضعه حيث حمل متاعه بنفسه مع كونه أمير المؤمنين ومع كبر سنة، فلم ير في ذلك مسوغًا لقبول خدمة الناس له، وهو بهذا يجعل من نفسه قدوة حسنة للمسلمين في التواضع، فلو نازعت أحد الكبراء نفسه في تصور العيب من حمل المتاع فإنه بتذكره لموقف أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – يزول ما في نفسه من ذلك، ولو اعترض على أحد المتواضعين معترض فإن له من الاقتداء بأكبر أمير على وجه الأرض ما يرد
هذا الاعتراض(4).
__________
(1) البداية والنهاية (8/5).
(2) التاريخ الإسلامي (17/63) للحميدى.
(3) الزهد للإمام أحمد، ص (13).
(4) التاريخ الإسلامي (17/64).(1/335)
(ج) معاملته لعمه العباس رضي الله عنهما:عن صهيب مولى العباس، قال: رأيت عليا يقبل يد العباس ورجله ويقول: يا عم، ارض عني(1). ولنتأمل ما ورد في وصف ضرار الطائى لعلي- رضي الله عنه – حيث يقول: يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له(2).
ومن أقوال أمير المؤمنين في التواضع: «تواضع المرء يكرمه»(3)، إن العبد كلما رسخ في العلم بالكتاب والسنة وعمل بهما، وعرف حقيقة نفسه ازداد تواضعًا لله ولخلقه، كما إن علة من أعجب بنفسه من بعض دعاة اليوم إنما هى من قلة العلم والفهم، إضافة إلى انصراف نظر الداعي إلى كثرة من حوله من الأتباع، وغفلته عن النظر إلى ما عند الله، ثم إلى من فوقه من العلماء الربانيين، وهذا من مداخل الشيطان الخفية على طلاب العلم والمحسوبين على حقل الدعوة، وقد قيل في منشور الحكم: «إذا علمت فلا تفكر في كثرة من دونك من الجهال، ولكن انظر إلى من فوقك من العلماء»(4).
ونختم هذه الصفة بقول أمير المؤمنين على: «ما أحسن تواضع الغنى للفقير رغبة في ثواب الله، وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل»(5)، والتيه المقصود به: الاستغناء بالله عما في أيدى الأغنياء ولا يعني أبدًا التكبر والغرور.
رابعًا: كرمه وجوده:
__________
(1) أصحاب الرسول (1/224)، السير للذهبي (2/94) إسناده صحيح.
(2) الاستيعاب (3/1108).
(3) منهج أمير المؤمنين على في الدعوة، ص (523).
(4) هداية المرشدين، ص (105) على محفوظ.
(5) موعظة المؤمنين (2/344)، فرائد الكلام، ص (339).(1/336)
من الأخلاق القرآنية الكريمة التي تجسدت في شخصية أمير المؤمنين على بن أبي طالب – رضي الله عنه – خلق الكرم والجود، وقد كان تنويه القرآن الكريم بأهل الكرم عظيمًا، وقد كان هذا التنويه من أول القرآن الكريم حيث يقول سبحانه في مستهل ثاني سورة بعد البسملة: {الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ - أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:1-5].(1/337)
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ - جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ - سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 22-24]، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ مبلغ الكمال والعظمة في كافة الأخلاق، ولا سيما خلق الكرم، وقد وصفته خديجة، رضي الله عنها، بقولها: «إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق»(1)، فهي تصفه بهذه الصفات البالغة العظمة والقدر، والتي كان عليها قبل بعثته ورسالته، ولم يكن قد تحمل أعباء أمته، ولقد أضفت عليه النبوة زيادة كمال وعظمة، فكيف به بعد ذلك كله؟ لا جرم أن كرمه - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك سيكون بالغًا ذروة الذرَا في كرم الأنبياء وسائر البشر، وهو ما دلت عليه الدلائل النقلية الكثيرة(2)، وقد تأثر أمير المؤمنين على بن أبي طالب بالتربية القرآنية والنبوية، وترك لنا آثارًا بارزة دالة على تأصل خلق الجود والكرم في شخصيته العظيمة، فقد ذكر الحافظ ابن كثير من خبر الأصبغ بن نباته:أن رجلاً جاء على بن أبي طالب – رضي الله عنه – فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعتها إلى الله تعالى قبل أن أرفعها إليك، فإن قضيتها حمدت الله وشكرتك، وإن لم تقضها حمدت الله وعذرتك، فقال على: اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك، فكتب: إني محتاج، فقال لي: علىَّ بحُلة، فأتى بها، فأخذها الرجل فلبسها، ثم أنشأ يقول:
__________
(1) السيرة النبوية (1/116).
(2) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة (2/648).(1/338)
كسوتني حُلة تبلي محاسنها ... فسوف أكسوك من حسن الثنا حللا
إن نلت حسن ثنائى نلت مكرمة ... ولست أبغى بما قد قلته بدلا
إن الثنا ليحيي ذكر صاحبه
... كالغيث يحيي نداه السهل والجبلا
لا تزهد الدهر في خير تواقعه ... فكل عبد سيجزي بالذي عملا
فقال على: علىَّ بالدنانير، فأُتى بمائة دينار فدفعها إليه، فقال الأصبغ: يا أمير المؤمنين، حلة ومائة دينار قال: نعم، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «أنزلوا الناس منازلهم»وهذه منزلة هذا الرجل عندي(1)، فهذا موقف جليل لأمير المؤمنين على بن أبي طالب – رضي الله عنه – في الوقوف عند حاجات المحتاجين والاهتمام بأمورهم ورعاية مشاعرهم، وإن أروع ما في هذا الخبر قوله: «اكتب حاجتك على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في وجهك» فكم يعاني المحتاجون من الذل بين يدي من يعرضون عليهم حوائجهم، وقدم يتلعثمون فلا يستطيعون النطق، ولقد كانت مشاعر ذلك المحتاج عظيمة حينما واجهه أمير المؤمنين علىّ بهذه المعاملة السامية، ولقد صاغ هذه المشاعر بالأبيات المذكورة(2)، وقد كان- رضي الله عنه – يفرح بقدوم الضيف، ويكرم إخوانه في الله ويتفقدهم، فعن أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – قال: لم يأتنى ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهاننى(3).
__________
(1) البداية والنهاية (8/9).
(2) التاريخ الإسلامي للحميدى (17/127).
(3) فرائد الكلام، ص (402)، موعظة المؤمنين (2/252).(1/339)
وقال: لعشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إلىَّ من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين(1)، وعندما سُئل عن السخاء، قال: «ما كان منه ابتداء، فأما ما كان من مسألة فحياء وتكرم»(2) وقد جعل في حياته أوقافًا لله تعالى، حيث جعل أرضه بينبع وقفًا، وكتب فيها كتابًا: «هذا ما أمر به على بن أبي طالب، وقضى في ماله: إني تصدقت بينبع ووادي القرى والأذينة وراعة في سبيل الله وذى الرحم القريب والبعيد، ولا يوهب ولا يورث، حيًا أنا أو ميتًا»(3)، وقد قال عن صدقته: «لقد رأيتنى وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وإن صدقتي لتبلغ اليوم أربعة آلاف دينار»(4)، ولم يرد بقوله أربعة آلاف دينار زكاة ماله، وإنما أراد الأوقاف التي جعلها صدقة، وكان الحاصل من دخلها صدقة هذا العدد، فإن أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – لم يدخر مالاً، ودليل ذلك(5) ما قاله ابنه الحسن بعد مقتله: لقد فارقكم رجل ما ترك صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم، بقيت من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادمًا، يعنى عليًا(6)، رضي الله عنه.
وكان يحث الناس على إكرام العشيرة فيقول: «أكرم عشيرتك، فإنهم جناحك الذي به تطير، وإنك بهم تصول، وبهم تطول، وهم العدة عند الشدة، أكرم كريمهم، وعُدْ سقيمهم، وأشركهم في أمورك، ويسَّر عن معسرهم»(7).
خامسًا: الحياء من الله تعالى:
__________
(1) موعظة المؤمنين (1/139).
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطى، ص (204).
(3) تراث الخلفاء الراشدين، ص (517).
(4) أسد الغابة (4/7).
(5) صحيح التوثيق، (77).
(6) الطبقات (3/38).
(7) فرائد الكلام، ص (348).(1/340)
الحياء من أجل مكارم الأخلاق، لأنه يدل على طهارة النفس، وحياة الضمير، ويقظة الوازع الديني ومراقبة الله تعالى، إذ من لم يكن ذا حياء لم يقر الضيف، ولم يف بالوعد، ولم يؤد الأمانة، ولم يقض لأحد حاجة، ولا تحرى الجميل فآثره، والقبيح فتجنبه، ولا ستر عورة، ولا امتنع من فاحشة، وكثير من الناس لولا الحياء الذي فيه لم يؤد شيئًا من الأمور المفترضة عليه، ولم يرع لمخلوق حقًا، ولم يصل له رحمًا، ولا بر له والدًا فإن الباعث على هذه الأفعال إما ديني- وهو رجاء عاقبتها الحميدة – وإما دنيوى علوي وهو حياء فاعلها من الخلق، وقد تبين أنه لولا الحياء- إما من الخالق، وإما من الخلائق – لم يفعلها صاحبها(1)، وعلى حسب حياة القلب تكون قوة خلق الحياء، فكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، وقلة الحياء من موت القلب والروح(2)، وهو من شعب الإيمان، لأنه يكون باعثًا على أفعال البر، ومانعًا من المعاصي(3)، ولهذا كان من الأخلاق العليا التي كان للقرآن الكريم بها عناية عظيمة(4)، فقد تحدث القرآن الكريم عن الحياء في الجانب النبوي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53]، فترى كيف حمله الحياء على عدم مواجهة أصحابه بما كان يرغب فيه من خروجهم، ولم يستطع مشافهتهم بما يراه منهم(5)، لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أشد حياء من العذراء في خدرها(6)
__________
(1) مفتاح الدار السعادة (1/377).
(2) مدارج السالكين (2/259).
(3) شرح مسلم للنووي (3/5).
(4) أخلاق النبي في القرآن الكريم (1/478).
(5) أخلاق النبي في القرآن والسنة (1/478).
(6) مسلم رقم (2320).(1/341)
، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:«الحياء لا يأتي إلا بخير»(1)، وقد تجسد هذا الخلق في شخص أمير المؤمنين على بن أبي طالب، رضي الله عنه، وقد حدثنا عن هذا الخلق فقال: إني لأستحى من الله أن يكون ذنب أعظم من عفوى، أو جهل أعظم من حلمي، أو عورة لا يورايها ستري، أو خلة لا يسدها جودي(2) . فهذه أربع صفات من النقص قابلها أمير المؤمنين على بن أبي طالب – رضي الله عنه – بأربع صفات من الكمال، فالحياء من الله عز وجل يقتضي من الإنسان أن يتصف بالعفو عند المقدرة، وذلك فيما إذا لم يكن الذنب فيه حد من حدود الله تعالى، وأن يتصف بالعلم الذي يحتوي جهل الجاهلين، وأن يكون ستارًا لعيوب الناس، وأن يتسع كرمه لسد حاجة من احتاج إليه، ومما أعطى هذه الحكم وزنها الراجح أن أمير المؤمنين عليًا – رضي الله عنه – ربطها بالحياء من الله تعالى، فهذه الصفات الأربع تعتبر من صفات الكمال عند العقلاء، وكان كثير من العقلاء يتصف بها لكسب السمعة الدنيوية وسياسة الأمور بكسب الناس ورضاهم، أما أمير لمؤمنين على – رضي الله عنه – فإنه ربطها بالحياء من الله تعالى لأن هدفه الأعلى ابتغاء مرضاة الله جلا وعلا، ولا شك أن من هذا هدفه سيكون تمثيله لهذه الصفات أقوى بكثير ممن كان هدفه دنيويًا(3).
سادسًا: شدة عبوديته وصبره وإخلاصه لله تعالى:
__________
(1) مسلم رقم (37).
(2) تاريخ دمشق (42/517)، نقلا عن التاريخ الإسلامي للحميدى (20/274).
(3) التاريخ الإسلامي للحميدى (20/275).(1/342)
مارس على – رضي الله عنه – مفهوم العبادة الشامل في حياته، وتميز بقيامه الليل، وأصبح من أهل التهجد الذين قال الله فيهم {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، وقال تعالى فيهم: {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ - كَانُوا قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ - وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذرايات: 16-18]، وقال تعالى فيهم: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا - وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 63، 64].
وهذا ضرار بن ضميرة الكناني يصف على بن أبي طالب لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم: كان يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، وأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه يتململ في محرابه، قابضًا لحيته، يتململ تململ السليم(1)، ويبكي بكاء الحزين، فكأني أسمعه الآن وهو يقول: يا ربنا، يا ربنا، يتضرع إليه، ثم يقول للدنيا: أبي تغررت أم إلىَّ تشوفت، هيهات هيهات، غُرَّي غيرى، قد بنتك(2) ثلاثا، فعمرك قصير، ومجلسك حقير، وخطرك يسير(3)، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ووحشة الطريق، فوكفت(4) دموع معاوية على لحيته، ما يملكها وجعل ينشفها بكمه، وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن رحمه الله، كيف وجدك عليه يا ضرار؟ قال: وجد من ذُبح واحُدها في حجرها، لا يرقأ(5) دمعها، ولا يسكن حزنها، ثم قام فخرج(6).
__________
(1) السليم: الملدوغ.
(2) بنتك: أي طلقتك.
(3) خطر بمعنى: القدر والمنزلة.
(4) فوكفت: أي سالت.
(5) لا يرقأ: لا يسكن ولا يجف.
(6) حلية الأولياء (1/84، 85)، الرقة والبكاء، ص (198).(1/343)
ودخل الأشتر النخعي على أمير المؤمنين على بن أبي طالب وهو قائم يصلى بالليل، فقال له: يا أمير المؤمنين، صوم بالنهار وسهر بالليل، وتعب فيما بين، فلما فرغ «على» من صلاته قال له: سفر الآخرة طويل، فيحتاج إلى قطعه بسير الليل(1)، وكان أمير المؤمنين على – رضي الله عنه- يحث الناس على تقوى الله ومراقبته، وخشيته، فقد قال: أيها الناس، اتقوا الذي إن قلتم سمع، وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم، وإن أقمتم أخذكم(2)، وكان يقول: يا أيها الناس خذوا عني هذه الكلمات، فلو ركبتم المطى حتى تنضوها- يعنى تهزلوها- ما أصبتم مثلها: لا يرجونَّ عبد إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحى- إذا لم يعلم- أن يتعلم، ولا يستحى – إذا سئل عما لا يعلم- أن يقول: لا أعلم، واعلموا أن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له(3).
__________
(1) لطائف المعارف لابن رجب، التحمس لقيام الليل، محمد صالح، ص (93).
(2) أدب الدنيا والدين، ص (123)، فرائد الكلام، ص (369).
(3) حلية الأولياء (1/75)، صفة الصفوة (1/326).(1/344)
ففي هذه الوصية الجمع بين تصحيح التوحيد، والإرشادات إلى آداب العلم، حيث يوصي – رضي الله عنه – بتصحيح الاتجاه في مقامي الخوف والرجاء، فالمؤمن الحق لا يرجو إلا الله لأنه وحده المنعم بسائر النعم، والذين تجري على أيديهم النعم من المخلوقين إنما هم وسائط وأسباب في وصول تلك النعم، أما منشئ النعم وموجدها فهو الله سبحانه وتعالى، والمؤمن الحق لا يخاف من الله تعالى لأنه هوالذي يملك ضره ونفعه، والمخلوقات الذين يتوهم الناس أنهم مصدر خوف إنما هم وجميع الخلق في قبضة الله تعالى، وإذا كان الله تعالى وحده هو الرزاق، وهو الخالق وحده، وهو المالك وحده، القادر على كل شيء، فلَمِ يرجو المؤمن سواه أو يخاف من غيره؟ ولقد عبر أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – عن الخوف من الله تعالى بالخوف من الذنوب لأن المراد هو الخوف من عاقبتها وهو عذاب الله تعالى، فهو إرشاد لأهم السبل الموصلة إلى تحقيق مقام الخوف من الله تعالى، ثم بَيَّن شيئًا من آداب التعلم لأن أمور الدين إنما تؤخذ بالعلم، فيذكر من آداب المتعلم أن لا يمنعه الحياء من التعلم حتى لو كان كبير السن، أو القدر، ويذكر من آداب المعلم أن لا يمنعه الحياء من أن يقول لا أعلم فهي- «لا أعلم» - أحفظ لدينه ودين من سأله.(1/345)
ثم يختم وصيته النافعة ببيان أصل من أصول الإيمان، ألا وهو الصبر حيث يعتبره من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وذلك أن نجاح الأمور كلها يقوم على الصبر سواء في أمور الدنيا أو الآخرة(1)، وقد مارس أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – مقام الصبر في حياته منذ نعومة أظافره، وإسلامه سرًا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرورًا بما لاقاه في المغازي والسرايا، وعهد الخلفاء الراشدين وما صحبها من أحداث جسام، ومن ثم ما واجهه من صنوف الفتن في خلافته، إلى أن أنتهى الأمر بقتلهن كل هذه المراحل في حياته فيها الدروس البليغة لدعاة اليوم، والتنبيه لهم لما تحتاجه الدعوة إلى الله، سبحانه وتعالى، من الصبر والتحمل ودفع الثمن(2) ابتغاء مرضاة الله تعالى، وكان – رضي الله عنه – يحث أصحابه على مقام الصبر، فقد قال – رضي الله عنه – للأشعت بن قيس:«إنك إن صبرت جرى عليك القلم وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك القلم وأنت مأزور»(3)، وقال رضي الله عنه: «ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم»، ثم رفع صوته فقال: «ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له»(4)، وقال: «الصبر مطية لا تكبو»، والصبر له مكانته المعروفة في دين الله، فقد ذكر الله تعالى الصبر في آيات كثيرة منها قوله تعالى: { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وقد جاء ذكر فضائله في أحاديث كثيرة، والصبر له ثلاثة أقسام وهى الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله، والصبر على البلاء.
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/443).
(2) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (525).
(3) أدب الدنيا والدين، ص (278)، فرائد الكلام، ص (371).
(4) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم، ص (153).(1/346)
وقد كان أمير المؤمنين على بن أبي طالب حريصًا على أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى، عاملاً بقوله تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29]، وقوله تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110]، وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر:14]، فقد كان أمير المؤمنين على بن أبي طالب قد تعلم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأعمال لا تقبل إلا إذا خلصت النية، فمعنى ذلك أن الإخلاص ركن أساسي في العبادة، وأن العبادة التي فقد منها الإخلاص ترد على صاحبها كما جاء في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه»(1)، فقد كان على رضي الله عنه محاربًا للشرك، بجميع أشكاله وأنواعه سواء شرك الربوبية أو شرك الألوهية، وكان حريصًا في سكناته وحركاته أن تكون أعماله خالصة لوجه الله تعالى، وكان يحث الناس خصوصًا طلاب العلم على البعد عن الرياء، فقد قال رضي الله عنه: يا حملة العلم، اعملوا به، فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق عمله علمه، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يجلسون حلقًا، فيباهي بعضهم بعضًا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه حين يجلس على غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله عز وجل(2) . وقد أشار أمير المؤمنين على رضي الله عنه إلى أحد الأمراض الخطيرة عند بعض من يجلس للتعليم للمباهاة والسمعة، ويغضب على طلابه لو تركوه وذهبوا لغيره، لو كان هذا الذهاب فيه
__________
(1) مسلم. ك الزهد رقم (5985).
(2) سنن الدارمى في المقدمة (1/106)، الجامع لأخلاق الراوى (1/90).(1/347)
مصلحة لهم، فليست مصلحة طلابه عنده هي المهمة، بل المهم عنده مكانته وسمعته، وإن لم يقل ذلك بلسان المقال، فإنه يتبين من حكاية الحال(1)، لأن من إخلاص الداعي إلى الله أن يكون همه أن يتبع الناس الحق ولو خالفوا رأيه، وهذه حال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف حتى يكون الناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي(2)، وكان ذلك في رأي رآه في عدم جواز بيع أم الولد، وكان عمر يرى رأيه هذا، ثم رجع على عن رأيه الأول فرأى أنهن يبعن(3)، وهذا تعليم للدعاة وطلاب العلم أن الخلاف في الرأي المشروع أمر طبيعي يجب ألا تضيق به الصدور ولا يؤثر على وحدة الصف، إن دعاة اليوم في أشد الحاجة أن يراجعوا أنفسهم في هذا الخلق، وأين هم منه، وأن يتضرعوا إلى الله ليمدهم بهذه الصفة الجميلة حتى ينالوا ثواب الله بعد مماتهم. وتثمر دعوتهم إلى الله في دنياهم.
لقد كانت عبادة على رضي الله عنه قائمة على كمال الإخلاص لله تعالى، واتباع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالله هو المستحق للعبادة وحده، فقد كانت حياته كلها عبادة، يتنقل فيها من نوع إلى نوع، ومن حال إلى حال، يمتثل قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162، 163]، لقد كانت العبادة عاملاً مهمًا في تزكية الأخلاق والاستقامة على شرع الله تعالى، ولذلك عرف أمير المؤمنين الاستقامة في تفسيره لمعنى «استقاموا» فقالوا: أدوا الفرائض(4).
سابعًا: شكره لله:
__________
(1) منهج على بن أبي طالب، ص (513).
(2) البخاري. ك فضائل الصحابة (3/23).
(3) فتح الباري (7/73).
(4) زاد المسير (7/254).(1/348)
والشكر هو صرف العبد كل ما أنعم به عليه إلى ما خلق لأجله(1)، يعنى من نعمه الظاهرة والباطنة في النفس والمال فيصرف ذلك كله إلى عبادة ربه بما يليق بكل جارحة على الوجه الأكمل، وإذا ما فعل ذلك كان قد أظهر نعم الله عليه، وأدى واجب شكرها(2)، ويعتبر الشكر من أجل الأخلاق السلوكية الإيمانية التي على المؤمن أن يتحلى بها في كل أحواله لما فيه من الاعتراف بالنعم لمسديها، وقد دل على عظم مكانته انضواء جل الأخلاق الإيمانية تحته من محبة ورضا وتوكل، لأن الشكر لا يتم إلا بعد التحلي بها، ولا يكون إلا عند استشعارها(3)، ولقد كانت عناية القرآن الكريم بهذا الخلق عظيمة كعظم مكانته في الأخلاق، فقد ورد ذكره في نحو من سبعين آية، أمرًا به، وحثًا عليه، وثناء على أهله، ووعدًا لهم بحسن بجزائه، ونهيًا عن ضده مما يدل على أمر هذا الخلق عظيم الشأن(4)، فقد قرن الله سبحانه في كتابه الذكر بالشكر، فقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة:152]، وقرن سبحانه العبادة بالشكر، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]، مما يدل على تلازم العبودية بالشكر تلازمًا وثيقًا(5). وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاحب القدح المعلى في كل الأخلاق الحميدة، ومنها هذا الخلق، وربى أصحابه ومنهم على بن أبي طالب على هذا الخلق، فكان لا يشعر بنعمة إلا شكر الله عليها، وكان إذا خرج من الخلاء مسح بطنه بيده، وقال: يا لها من نعمة لو يعلم العباد شكرها(6)، وعن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أنه قال لرجل من أهل همدان:
__________
(1) التوفيق على مهمات التعاريف، ص (435).
(2) أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن والسنة، ص (185).
(3) مدارج السالكين (2/249).
(4) أخلاق النبي في القرآن والسنة (1/186).
(5) المصدر نفسه (1/187).
(6) عدة الصابرين، ص (122)، علو الهمة (5/481).(1/349)
إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع الشكر من العبد(1)، وكان رضي الله عنه يرى أن من شكر النعمة العفو عن الخصم، فقد قال رضي الله عنه: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرًا للمقدرة عليه(2).
ثامنًا: الدعاء لله:
فالدعاء باب عظيم، فإذا فتح للعبد تتابعت عليه الخيرات وانهالت عليه البركات ولذلك حرص أمير المؤمنين على حسن الصلة بالله وكثرة الدعاء، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]، وقد لازم أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأى كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستغيث بالله ويستنصره ويطلب المدد منه، وقد حرص أمير المؤمنين على أن يتعلم هذه العبادة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأن يكون دعاؤه وتسبيحه على الصيغة التي يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويرتضيها، إذ ليس للمسلم أن يفضل على الصيغة المأثورة في الدعاء والتسبيح والصلاة على النبي صيغًا أخرى مهما كانت في ظاهرها حسنة اللفظ، جيدة المعنى، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو معلم الخير والهادي إلى الصراط المستقيم، وهو أعرف بالأفضل والأكمل. وقد نسب أقوام من الدعاء والذكر المبتدع لأمير المؤمنين على بن أبي طالب كذبًا وزورًا وبهتانًا، فمن كان محبًا لأمير المؤمنين على رضي الله عنه، فعليه أن يتبع هديه ومنهجه، فقد أرشدنا لمتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأقوال والأفعال، وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه صاحب دعوة مستجابة،
__________
(1) الشكر لابن أبي الدنيا، نقلاً عن علو الهمة (5/481).
(2) الإعجاز والإيجاز للثعالبي، ص (30).(1/350)
فعن زاذان أبي عمر أن رجلا حدث عليًا بحديث فقال: ما أراك إلا قد كذبتني، قال: لم أفعل، قال: أدعو عليك إن كنت كذبت، قال: ادع، فدعا فما برح حتى عمي(1)، وكان رضي الله عنه يقول عندما يُثنى عليه: اللهم اغفر لي مالا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيرًا مما يظنون(2).
ويروى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله، وليرد عليه من حوله: يرحمك الله، وليرد عليه يهديكم الله ويصلح بالكم»(3)، وفي هذا الفعل من حسن الخلق والتأدب مع الله سبحانه وتعالى بحمده والثناء عليه في مناسبة أمر فيها العبد بذلك. قال الحليمى: العطاس يدفع الأذى من الدماغ، الذي فيه قوة الفكر، ومنه منشأ الأعصاب، التي هي معدن الحس وبسلامته تسلم الأعضاء، فيظهر بذلك أنها نعمة جليلة، فناسب أن تقابل بالحمد لله، لما فيه من الإقرار لله بالخلق والقدرة، وإضافة الخلق إليه لا إلى الطبائع(4).
__________
(1) البداية والنهاية (8/6).
(2) فرائد الكلام، موعظة المؤمنين (2/228).
(3) سنن ابن ماجة (2/1224)، صحيح سنن ابن ماجة للألباني (2/303).
(4) فتح البارى (10/602).(1/351)
وبيّن أمير المؤمنين على رضي الله عنه أدبًا من آداب المسافر فيما يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا قال: «بك اللهم أصول، وبك أجول، وبك أسير»(1). وبيَّن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أدبًا آخر من آداب المسافر، وذلك لما أراد سفرًا ووضع رجله في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى قال: الحمد لله، ثم قال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ثم حمد الله ثلاثًا، وكبر ثلاثًا، ثم قال: اللهم لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك، قال: فقيل: ما يضحكك يا أمير المؤمنين؟ قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل مثل
ما فعلت، وقال مثل ما قلت، ثم ضحك، فقلنا: ما يضحكك يا نبي الله قال: عجبت للعبد، إذا قال لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، يعلم أنه لا يغفر
الذنوب إلا هو(2).
__________
(1) مسند أحمد (2/83) إسناده صحيح، قاله أحمد شاكر.
(2) المصدرنفسه (2/183) إسناده صحيح قاله أحمد شاكر.(1/352)
وعن ابن أعبد قال: قال لي على بن أبي طالب رضي الله عنه: يا ابن أعبد، هل تدري ما حق الطعام؟ قال: قلت: وما حقه يا ابن أبي طالب؟ قال: تقول: بسم الله، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، قال: وتدري ما شكره إذا فرغت، قال: قلت: وما شكره؟ قال يقول: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا(1) ، وكان رضي الله عنه إذا رأى الهلال قال: اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وفتحه ونصره وبركته ورزقه ونوره وطهوره وهداه، وأعوذ بك من شره وشر ما فيه وشر ما بعده(2)، وكان يقول في السجود: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي(3)، وكان يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني واجبرني وارزقني(4)، وكان يُعلِّم من دخل السوق هذا الدعاء فيقول: إذا دخلت السوق فقل: بسم الله الرحمن الرحيم، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك من يمين فاجرة، وصفقة خاسرة، ومن شر ما أحاطت به هذه السوق(5)، وكان يقول: ما من كلمات أحب إلى الله من أن يقول العبد: اللهم لا إله إلا أنت، اللهم لا أعبد إلا إياك، اللهم لا أشرك بك شيئًا، اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت(6)، وكان يقول: اللهم ثبتنا على كلمة العدل بالرضا والصواب، وقوام الكتاب، هادين مهديين، راضين مرضيين، غير ضالين، ولا مضلين(7).
__________
(1) المصدر نفسه (2/329) قال المحقق: إسناده حسن.
(2) كنز العمال رقم (24310)، فقه على بن أبي طالب، قلعجى، ص (251).
(3) فقه على بن أبي طالب، قلعجى، ص (251).
(4) فقه على بن أبي طالب، قلعجى، ص (251).
(5) فقه على بن أبي طالب، قلعجى، ص (251).
(6) مصنف ابن أبي شيبة (2/149).
(7) فقه على بن أبي طالب، ص (252).(1/353)
ومن أدعيته رضي الله عنه: اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، وبجبروتك الذي غلبت به على كل شيء، وبعظمتك التي غلبت بها كل شيء وبسلطانك الذي ملأت به كل شيء وبقوتك التي لا يقوم لها شيء، وبنورك الذي أضاء له كل شيء، وبعلمك الذي أحاط بكل شيء، وباسمك الذي يبيد كل شيء، وبوجهك الباقي بعد فناء كل شيء، يا الله يا رحمن يا رحيم، اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم، والذنوب التي تورث الندم، واغفر لي الذنوب التي تحبس القسم، واغفر لي الذنوب التي تغير النعم، واغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء، وتديل الأعداء، واغفر لي الذنوب التي تحبس غيث السماء وترد الدعاء، واغفر لي الذنوب التي تردني إلى النار(1)، وهذا الدعاء يبين افتقار أمير المؤمنين على رضي الله عنه إلى ربه وخوفه من ذنوبه، ويعلمنا كيفية التعامل مع أسماء الله الحسنى ودعاء الله بها سبحانه وتعالى، وهذا الدعاء يسلط الأضواء على عبودية أمير المؤمنين لله عز وجل.
وعن على رضي الله عنه قال: لقَّاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الكلمات وأمرني إن نزل بي كربة أو شدة أن أقولها: «لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحانه، تبارك الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين»(2)، وكان عبد الله بن جعفر يلقنها الميت وينفث بها على الموعوك(3)، ويعلمها المغتربة من بناته(4).
هذه بعض صفاته التي كانت ثمارًا لتوحيده وإيمانه بالله واستعداده للقدوم على الله تعالى، وسوف يلاحظ القارئ الكريم كثيرًا من صفاته بإذن الله تعالى، كالشجاعة والحلم والفصاحة والبلاغة وغيرها من الصفات من خلال الأحداث التي يمر بها في هذا الكتاب.
تاسعًا: المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين على رضي الله عنه:
__________
(1) فقه على بن أبي طالب، ص (252).
(2) سنن البيهقى (7 /129)، معرفة الصحابة لأبي نعيم رقم (352).
(3) الموعوك من الوعك: وهو الحمى وقيل: ألمها.
(4) فضائل الصحابة (2/820) إسناده حسن.(1/354)
كانت المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين على رضي الله عنه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء بالشيخين في هديهما.
1- فالمصدر الأول: هو كتاب الله:قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105]،فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم، وقد قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: الزموا دينكم، واهتدوا بهدى نبيكم، واتبعوا سنته، واعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن، فما عرفه القرآن فالزموه، وما أنكره فردوه(1).
2- المصدر الثاني: السنة المطهرة: التي يستمد منها الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلاله يممكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن الكريم(2)، فقد قال أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه: واهتدوا بهدى نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أفضل الهدى واستنوا بسنته، فإنها أفضل السنن(3).
__________
(1) البداية والنهاية (7 /246).
(2) فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص (432).
(3) البداية والنهاية (7 /319).(1/355)
3- الاقتداء بالخلفاء الراشدين الذين سبقوه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر»(1)، وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقى، ولا يبغضهما إلا فاجر رديَّ، صحبا رسول الله على الصدق والوفاء، يأمران وينهيان وما يجاوزان فيما يصنعان رأي رسول الله، ولا كان رسول الله يرى بمثل رأيهما، ولا يحب كحبهما أحدًا، قضي رسول الله وهو عنهما راض، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون – واستمر في حديثه إلى أن قال في أبي بكر – وكان والله خير من بقى، أرحمه رحمة، وأرأفه رأفة، وأثبته ورعًا، وأقدمه سنًا وإسلامًا، فسار فينا سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مضى على ذلك، ثم ولى عمر الأمر من بعده..فأقام الأمر على منهاج النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، يتبع آثارهما كاتباع الفصيل(2) أمه..إلى أن قال: فمن لكم بمثلهما – رحمة الله عليهما- ورزقنا المضي على سبيلهما، فإنه لا يبلغ مبلغهما إلا باتباع آثارهما والحب لهما، ألا من أحبنى فليحبهما ومن لم يحبهما فقد أبغضني وأنا منه برئ(3)، وكان رضي الله عنه يدافع عن اجتهادات عثمان بن عفان ويقول: يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرًا- أو قولوا خيرًا- فوالله ما فعل الذي فعل – أي في المصاحف- إلا عن ملأ منا جميعًا، أي الصحابة..ووالله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل(4)، وكان يقول: ما كنت لأحل عقدة شدها عمر(5).
عاشرًا: حق الأمة في الرقابة على الحكام:
__________
(1) صحيح سنن الترمذي (3/200).
(2) الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
(3) شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائى رقم (4456).
(4) فتح البارى (9/8) إسناده صحيح.
(5) المختصر من كتاب الموافقة، ص (140)، إسناده منقطع، ابن أبي شيبة، المصنف رقم (120).(1/356)
إن الأمة الحق في مراقبة الحكام وتقويمهم، قال تعالى: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104]، وكان أول ما قاله أمير المؤمنين على رضي الله عنه إثر توليه..إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، إلا أنه ليس لي أمر دونكم(1)، وهذا نفس ما قاله أبو بكر عندما تولى حيث قال: فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني(2)، وما قاله عمر: أحب الناس إلىَّ من رفع إلىَّ عيوبي(3)، وقال: إني أخاف أن أخطئ فلا يردنى أحد منكم تهيبًا مني(4)، وما قاله عثمان: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد(5)، وبذلك يكون قد جرى العمل في عهد الخلفاء الراشدين على التسليم للأمة بحق الرقابة على الحكام، ولم ينكره أحد، فدل ذلك على الإجماع(6)، كما إن إجماع الصحابة – حكامًا ومحكومين – في عهد الخلافة الراشدة ليس له إلا معنى واحد وهو الفهم الصحيح للكتاب، والطريق السليم للعمل بالسنة، فهم الذين عاصروا عهد تنزيل الكتاب وعاشوا طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - في إقامة حياة الناس عليه، فهم أفهم الناس لروح الدين، وأعرف الناس بمقاصد الشرع، وأقدر الناس على التمييز بين الحق والباطل، ومن المستبعد بل من المحال أن يجمعوا على باطل، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أمتى لا تجتمع على ضلالة»(7)، ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغ أن تراعى وتوضع ضمن مصادر الدستور الإسلامي، وإجماع الأمة قد
__________
(1) تاريخ الطبري (5/449، 457).
(2) البداية والنهاية (6/305).
(3) الشيخان أبو بكر وعمر من رواية البلاذرى، ص (231).
(4) المصدر نفسه، ص (231)، نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص (189).
(5) مسند أحمد، الموسوعة الحديثية رقم (524).
(6) الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي، فتحي عبد الكريم، ص (378).
(7) سنن ابن ماجه (2/264) رقم (4014).(1/357)
يكون على فهم نص، ويجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتماع وقياس، ويكون حجة(1)، إن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه كان يحث الناس في خلافته على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد خطب ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنما هلك من هلك قبلكم يركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار، فأخذتهم العقوبات، فمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلاً(2).
الحادي عشر: الشورى:
__________
(1) روضة الناظر وجنة المناظر (1/385).
(2) تفسير ابن أبي حاتم (3/15)، تفسير ابن كثير (2/603).(1/358)
إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم وإمضاء الحكم بالشورى، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى:38] لقد قرنت الآية الكريمة حكم الشورى بين المسلمين بإقامة الصلاة، فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلاة، وحكم الصلاة واجبة شرعًا، فكذلك الشورى واجبة شرعًا(1). وقد كان أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حريصًا على التزام منهج الشورى في تصرفاته وأعماله وقراراته، فمن ذلك أنه حينما وصل إليه كتاب من قائده معقل بن قيس الرياحي المكلف بمحاربة الخريت بن راشد الخارجي جمع أصحابه وقرأ عليهم كتابه واستشارهم وطلب منهم الرأي حيث اجتمع رأي عامتهم على قول واحد وهو: نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس فيتبع أثر الفاسق فلا يزال في طلبه حتى يقتله، أو ينفيه، فإنا لا نأمن أن يفسد عليك الناس(2)، ومما روى عن أمير المؤمنين على رضي الله عنه في الشورى قوله: الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه(3)، وقوله: نعم المؤازرة المشاورة وبئس الاستعداد الاستبداد(4)، وقوله: رأى الشيخ خير من مشهد الغلام(5)، ومما أوصى
__________
(1) النظام السياسي في الإسلام لأبي فارس، ص (9).
(2) تاريخ الطبري (6/39).
(3) أدب الدنيا والدين للماوردي ص 89، 294، الإدارة العسكرية (1/279).
(4) نهاية الأرب (6/69) نقلا عن الإدارة العسكرية (1/279).
(5) المصدر نفسه (6/75)، المصدر نفسه (1/279).(1/359)
به أمير المؤمنين علىّ مالك بن الحارث الأشتر حين بعثه إلى مصر في الشورى قوله: لا تدخلن في مشورتك بخيلاً فيعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جبانًا فيضعفك عن الأمور، ولا حريصًا فيزين لك الشره بالجور، فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله(1)، وكان على رضي الله عنه يعلم أن الحاكم إن لم يكن له مستشارون فلا يعلم محاسن دولته ولا عيوبها، وسوف يغيب عنه الكثير من شئون الدولة وقضايا الحكم، وكان يعلم أن الشورى تعرفه ما يجهله، وتضع أصابعه على ما لا يعرفه، وتزيل شكوكه في كل الأمور التي يقدم عليها، فها هو يقول للأشتر النخعي عندما ولاه مصر: انظر في أمور عمالك الذين تستعملهم، فليكن استعمالك إياهم اختيارًا ولا يكن محاباة ولا إيثارًا، فإن الأثرة بالأعمال- أي الاستبداد بلا مشورة – والمحاباة بها جماع من شعب الجور والخيانة لله، وإدخال الضرر على الناس، وليست تصلح أمور الناس، ولا أمور الولاة إلا بإصلاح من يستعينون به على أمورهم، ويختارونه لكفاية ما غاب عنهم، فاصطف لولاية أعمالك أهل الورع والعفة والعلم والسياسة والصق بذوى التجربة والعقول والحياء من أهل البيوتات الصالحة وأهل الدين والورع، فإنهم أكرم أخلاقًا وأشد لأنفسهم صونًا وإصلاحًا وأقل في المطامع إسرافًا، وأحسن في عواقب الأمور نظرًا من غيرهم، فليكونوا عمالك وأعوانك(2).
الثاني عشر: العدل والمساواة:
__________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/279).
(2) نهاية الأرب (6/21)، فن الحكم الإسلامي، ص (151)، الشورى بين الأصالة والمعاصرة، عز الدين التيمى، ص (102).(1/360)
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة، وقد قام أمير المؤمنين على رضي الله عنه بإقامة العدل بين الناس، وقد تضافرت كل الخصال الحميدة والمعطيات العلمية والفقهية التي جعلته مؤهلا للقيام بدوره هذا على أكمل وجه حتى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لثقته به وبقدراته بعثه قاضيًا إلى اليمن(1)، وقد دعا له رسول الله بهذا الدعاء العظيم: «اللهم ثبت لسانه، واهد قلبه»(2)، ولذلك كان من الطبيعي أن يقيم حكمه على العدل الشامل، وأن يجعله على رأس غايات وأهداف الحكم، لأن به تستقيم الأمور وتظهر المودة بين الرعية(3)، ولا شك أن العدل في فكر أمير المؤمنين علىّ هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.
لقد كان أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه قدوة في عدله، أسر القلوب وبهر العقول، فالعدل في نظره الذي يسعى لتطبيقه في الحكم هو إحدى أهم ركائز الخلافة الراشدة، دعوة عملية للإسلام تفتح قلوب الناس للإيمان، وقد سار على ذات نهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس، فعن شريح قال: لما توجه على رضي الله عنه إلى حرب معاوية، رضي الله عنه، افتقد درعًا له، فلما انقضت الحرب ورجع إلى الكوفة، أصاب الدرع في يد يهودي يبيعها في السوق، فقال له: يا يهودي، هذا الدرع درعي، لم أبع ولم أهب، فقال اليهودي: درعي وفي يدي، فقال على: نصير إلى القاضي، فتقدما إلى شريح، فجلس على إلى جنب شريح، وجلس اليهودي بين يديه.
__________
(1) نظام الحكم في العهد الراشدي: ص (141).
(2) فضائل الصحابة (2/871) إسناده حسن رقم (1195).
(3) نظام الحكم في العهد الراشدي، ص (141).(1/361)
فقال شريح: قل يا أمير المؤمنين، فقال: نعم، أقول: إن هذه الدرع التي في يد اليهودي درعي، لم أبع ولم أهب، فقال شريح: يا أمير المؤمنين بينة، قال: نعم قنبر(1) والحسن والحسين يشهدون أن الدرع درعي، قال: شهادة الابن لا تجوز للأب، فقال: رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته؟ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»(2) فقال اليهودي: أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه، وقاضيه قضى عليه؟ أشهد أن هذا الحق، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن الدرع درعك، كنت راكبًا على جملك الأورق وأنت متوجه إلى صفين فوقعت منك ليلاً، فأخذتها قال: أما إذا قلتها فهي لك، وحمله على فرس، فرأيته وقد خرج فقاتل مع على الشراة بالنهروان(3).
ومن أمثلة عدله في الحكم:عن ناحية القرشي عن أبيه قال: كنا قياما على باب القصر إذ خرج علي علينا فلما رأيناه تنحينا عن وجهه هيبة له، فلما جاز صرنا خلفه، فبينما هو كذلك إذ نادى رجل: يا غوثًا بالله، فإذا رجلان يقتتلان، فلكز صدر هذا وصدر هذا، ثم قال لهما: تنحيا، فقال أحدهما: يا أمير المؤمنين إن هذا اشترى مني شاة وقد شرطت عليه أن لا يعطيني مغموزًا ولا محذقًا- يعنى الدراهم المعيبة- فأعطاني درهمًا مغموزًا فرددته عليه فلطمني، فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق يا أمير المؤمنين قال: فأعطه شرطه، ثم قال للاطم: اجلس، وقال للمطلوم: اقتص، قال: أو عفو يا أمير المؤمنين، قال: ذلك إليك، قال: فلما جاز الرجل، قال على: يا معشر المسلمين خذوه، قال: فأخذوه فحمل على ظهر رجل كما يحمل صبيان الكتاب، ثم ضرب خمس عشرة درة، ثم قال: هذا نكال لما انتهكت من حرمته، وفي رواية أنه قال: هذا حق السلطان(4).
__________
(1) مولى لعلي رضي الله عنه.
(2) مصنف ابن أبي شيبة رقم (12225) المستدرك (3/166) حديث صح من أوجه كثيرة.
(3) الشراة: الخوارج. النهروان: بين واسط وبغداد.
(4) تاريخ الطبري (6/72، 73).(1/362)
هذا الخبر ليعتبر مثلاً عاليًا للتواضع حيث يخرج أمير المؤمنين من بيته إلى السوق يتفقد أحوال الناس، ويقوم بنفسه في حل مشكلاتهم، وهو نوع من السلوك العالي الذي يبرز وجود الولاة في واقع حياة الرعية، سواء قام بذلك الوالي الأكبر أو من دونه، ولا يلزم تكرار هذا الوجود كل يوم، إذ يكفي شعور الناس بأن الولاة معهم في مشكلاتهم ليطمئن صاحب الحق على بقاء حقه في حوزته، وعودته إليه فيما لو اعتدى عليه، وليرتدع من تسول له نفسه الاعتداء على حقوق الناس، وقبل ذلك وأهم منه أن يردعه كل من يحدث نفسه بالاعتداء على حق الله تعالى، وهذا الوجود المتلاحم بين الوالي والرعية يظهر بصور متعددة تتناسب مع أنماط الحياة في كل عصر، فلا يقولن قائل: إن ما قام به أمير المؤمنين على رضي الله عنه يعتبر سائغًا في عصره، ولكنه بعيد التصور في هذا العصر، فإنه لا عبرة بالأشكال والصور، وإنما العبرة بالأهداف والمقاصد التي بها تحقق الحياة السعيدة للمسلمين، وذلك برعاية حق الله أولاً، ثم حقوق الناس العامة والخاصة، وفيما أمر به أمير المؤمنين على رضي الله عنه من إجراء العقوبة على المعتدي مع تنازل صاحب الحق دلالة على إدراكه رضي الله عنه لمقاصد الإسلام من حفظ الأمن، وإشاعة السلام بين المؤمنين، وبذلك سيرتدع من تميل نفسه إلى الاعتداء على غيره إذا عرف بأن العقوبة ستجري عليه ولو عفا عنه خصمه(1).
ومن مواقف عدله رضي الله عنه:ما رواه عاصم بن كليب عن أبيه قال: قدم على علىَّ ابن أبي طالب مال من أصبهان(2)، فقسمه سبعة أسباع، فوجد فيه رغيفًا، فقسمه سبع كسر، وجعل على كل جزء كسرة، ثم أقرع بينهم، أيهم يعطي أول(3).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدى (12/433، 433).
(2) مدينة عظيمة في بلاد فارس.
(3) الكامل في التاريخ (2/442).(1/363)
وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده أمير المؤمنين على بن أبي طالب في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13]، وجاءت ممارسة أمير المؤمنين على رضي الله عنه لهذا المبدأ خير شاهد، ومن هذه المواقف، حرصه على تقسيم المال فور وروده إليه على الناس بالتساوى بعد أن يحتجز منه ما ينبغي أن يأخذ للمرافق العامة، ولم يكن يستبيح لنفسه أن يأخذ من هذا المال إلا مثلما يعطي غيره من الناس، كما أنه كان يعطي معارضيه من الخوارج من العطاء مثلما يعطي غيرهم، وهذا قبل سفكهم للدماء، واعتدائهم على الناس(1)، وكان رضي الله عنه يساوى في العطايا بين الناس وبذلك يكون اقتداؤه بالصديق في هذا الباب، رضي الله عنه لا يفضل شريفًا على مشروف، ولا عربيًا على أعجمى، فقد دفع مرة طعامًا ودراهم بالتساوى إلى امرأتين إحداهما عربية، والثانية أعجمية، فاحتجت الأولى قائلة: إني والله امرأة من العرب، وهذه من العجم، فأجابها على: إني والله لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفيء فضلاً على بنى إسحاق. وكذلك لما طلب إليه تفضيل أشراف العرب وقريش على الموالي والعجم، قال: لا والله، لو كان المال لي لواسيت بينهم، فكيف وإنما هى أموالهم؟ (2) وعن يحيى بن سلمة قال: استعمل على عمرو بن سلمة على أصبهان فقدم ومعه ماله وزقاق فيها عسل وسمن، فأرسلت أم كلثوم بنت على إلى عمرو تطلب منه سمنا وعسلاً، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن، فلما كان الغد خرج على وأحضر المال والعسل والسمن ليقسم، فعد الزقاق فنقصت زقين، فسأله عنهما، فكتمه وقال: نحن نحضرهما، فعزم عليه إلا
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص(216).
(2) تراث الخلفاء الراشدين، ص (101).(1/364)
ذكرها له، فأخبره، فأرسل إلى أم كلثوم فأخذ الزقين منها فرآهما قد نقصا، فأمر التجار بتقويم ما نقص منهما، فكان ثلاثة دراهم، فأرسل إليها فأخذها منها ثم قسم الجميع(1). وعن أبي رافع وقد كان خازنًا لعلي رضي الله عنه على بيت المال، وقال: دخل يومًا وقد زينت ابنته، فرأى عليها لؤلؤة من بيت المال قد كان عرفها، فقال: من أين لها هذه؟ لله علىَّ أن أقطع يدها، قال: فلما رأيت جده في ذلك قلت: أنا والله يا أمير المؤمنين زينت بها ابنة أخي، ومن أين كانت تقدر عليها لو لم أعطها، فسكت(2).
الثالث عشر: الحريات:
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/442).
(2) تاريخ الطبري (6/72).(1/365)
مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس، جميع الناس، دعوة واسعة عريضة قلما تشمتل على مثلها دعوة في التاريخ، وكانت أول دعوة أطلقها في هذا المجال هي دعوته الناس في العديد من الآيات القرآنية لتوحيد الله والتوجه له بالعبادة وحده دون سائر الكائنات والمخلوقات، وفي دعوة التوحيد هذه كل معاني الحرية والاستقلال لبني الإنسان، أضف إلى ذلك أن الإسلام عرف الحرية بكل معانيها ومدلولاتها ومفاهيمها، فتارة تكون فعلاً إيجابيًا كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتارة فعلاً سلبيًا كالامتناع عن إكراه أحد في الدخول في الدين، وفي أحيان كثيرة يختلط معناها بمعنى الرحمة، والعدل الشورى والمساواة، لأن كل مبدأ من هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام لا يستقيم أمره ولا يمكن تحقيقه إلا بوجود الحرية، وقد أسهم مبدأ الحرية مساهمة فعالة إبان حكم الخلفاء الراشدين خاصة بانتشار الدين الإسلامي، وتسهيل فتوحات المسلمين واتساع رقعة دولتهم، لأن الإسلام كرم الإنسان وكفل حرياته على أوسع نطاق، ولأن النظم السياسية الأخرى السائدة آنذاك في دولة الروم والفرس كانت أنظمة استبدادية وتسلطية، وفئوية قاسى بسببها الرعايا، وبصورة خاصة المناوئون السياسيون والأقليات الدينية، أشد درجات الكبت والاضطهاد والظلم، وأما في الإسلام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدين، فقد كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصونة تمامًا(1)، وقد كان لأمير المؤمنين على رضي الله عنه أقوال تدافع عن الحريات ومواقف تدعم هذا المبدأ في المجتمع الإسلامي، فمن أقواله: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد(2)
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدينن ص (157، 158).
(2) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص (165).(1/366)
، وقوله الموجز هذا يدل على أن الاعتداء علي الناس كافة بأي شكل كان غير جائز في الإسلام، وذكر المعتدين بعذاب الله يوم القيامة، وعرف عنه قوله: ليس من العدل القضاء على الثقة بالظن(1)، وقوله هذا يدل دلالة واضحة على أنه ليس من الجائز أخذ الناس بالشبهات والحكم عليه لمجرد الظنون والشكوك، بل ينبغي أن يكون ذلك بـ(الثقة) أي باليقين المستند إلى أدلة دامغة وأكيدة لا تقبل الجدل حولها، وخير هذه الأدلة ما نصت عليه الشريعة(2)، وبذلك يكون المبدأ الذي أقرته التشريعات الجزائية الحديثة القائل بأن المتهم يبقى بريئًا حتى إثبات العكس قد عرفه الإسلام منذ أمد بعيد(3).
__________
(1) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص (165).
(2) هذه الأدلة هى: البينة الخطية المنظمة وفقًا لأحكام الشريعة، أو الثانية بشهادة رجلين أو بشهادة رجل وامرأتين وأحيانًا بشهادة أربعة رجال كما في حالة الزنا.
(3) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ص (166).(1/367)
وقد تجلى مبدأ الحرية في أروع صوره ومعانيه أيام على رضي الله عنه، فبالرغم من وجود ظروف استثنائية (فتن، مؤامرات، وحروب) تبرر الحاجة إلى تقييد حرية الأفراد في ذهابهم وإيابهم وإقامتهم، أو ما يسمى في العصر الحديث بقانون الطوارئ إلا أن عليًا لم يقيد حرية أحد، سواء كان من أتباعه أم من خصومه، ولم يكره أحدًا على الإقامة والبقاء في ظل سلطانه، أو على الخروج منه، ولا حتى على المسير معه لمقاتلة أعدائه، ولم يصد أحدًا من الناس عن اللحاق بمعاوية(1)، كما أنه لم يقيد حرية أصحاب عبد الله بن مسعود وعبيدة السلماني والربيع بن خيثم، ولم يكرههم على المسير معه لمقاتلة أهل الشام عندما رفضوا ذلك، بل سمح لهم بالذهاب لبعض الثغور نزولاً على رغبتهم(2)، وعندما ثار عليه الخوراج بعد معركة صفين بسبب قول التحكيم، فإنه لم يكره أحدًا منهم على البقاء في ظل سلطانه أو الخروج منه، بل بالعكس فقد كان يأمر عماله بعدم التعرض لهم في طريقهم ما داموا لا يفسدون في الأرض ولا يعتدون على الناس(3)، وقال لهم:...إن لكم عندنا ثلاثًا، لا نمنعكم صلاة في هذا المسجد، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا(4).
المبحث الثالث : حياته في المجتمع واهتمامه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أولاً: دعوته للتوحيد ومحاربته للشرك:
إن حياة أمير المؤمنين على بن أبي طالب عامرة بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، وتعريف الناس معاني الإيمان، والاعتماد والتوكل على الله والخوف منه سبحانه وتعالى، والتعريف به من خلال أسمائه الحسنى وصافته العلى، ومحاربته للشرك بجميع أشكاله وأنواعه، ومن خلال توجيهه وتعليمه وتربيته للناس على دعوة التوحيد ومحاربة الشرك أمور منها:
__________
(1) المصدر نفسه، ص (159).
(2) المصدر نفسه، ص (159).
(3) المصدر السابق، ص(160).
(4) تاريخ الطبري (5/688).(1/368)
1- قوله رضي الله عنه:«لا يرجونَّ عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه»(1) فهذا من أحسن الكلام، وأبلغه وأتمه. فإن الرجاء يكون للخير، والخوف يكون من الشر، والعبد إنما يصيبه الشر بذنوبه، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى:30]، فالراجي يطلب حصول الخير ودفع الشر، ولا يأتي بالنعم إلا الله، ولا يذهب المصائب إلا الله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُّرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107]، {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ} [فاطر:2]، والرجاء مقرون بالتوكل، فإن المتوكل يطلب ما رجاه من حصول المنفعة ودفع المضرة، والتوكل لا يجوز إلا على الله، كما قال تعالى: {إِن يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:160]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ سَيُؤْتِينَا اللهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللهِ رَاغِبُونَ} [التوبة:59]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فهؤلاء قالوا: حسبنا الله، أي: كافينا الله في دفع البلاء، أولئك أمروا أن يقولوا: حسبنا في جلب النعماء – فهو – سبحانه – كاف عبده في إزالة الشر وفي إنالة الخير، أليس الله بكاف عبده، ومن توكل على غير الله ورجاه خُذل من جهته وحُرم،{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ
__________
(1) الفتاوى (8/101).(1/369)
الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ} [العنكبوت: 41]، {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا - كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم:81، 82]، {وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]، {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22]. وقال الخليل: {لاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [العنكبوت:17]، فمن عمل لغير الله رجاء أن ينتفع بما عمل له، كانت صفقته خاسرة، قال تعالى: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} [إبراهيم:18]، وقال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان:23]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88]، كما قيل في تفسيرها: كل عمل باطل إلا ما أريد به وجهه، فمن عمل لغير الله ورجاه بطل سعيه، والراجي يكون راجيًا تارة بعمل يعمله لمن يرجوه، وتارة باعتماد قلبه عليه والتجائه إليه وسؤاله، فذاك نوع من العبادة له، وهذا نوع من الاستعانة به، وقد قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقال: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123]، وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لاَ إِلَهَ إِلاَّ(1/370)
هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [الرعد:30]، ومما يوضح ذلك: أن كل خير ونعمة تنال العبد فإنما هي من الله، وكل شر ومصيبة تندفع عنه أو تكشف عنه، فإنما يمنعها الله، وإنما يكشفها الله، وإذا جرى ما جرى من أسبابها على يد خلقه، فالله سبحانه – هو خالق الأسباب كلها سواء كانت الأسباب حركة حي باختياره وقصده، كما يحدثه تعالى بحركة الملائكة والجن والإنس والبهائم أو حركة جماد بما جعل الله فيه من الطبع، أو بقاسر يقسره كحركة الرياح والمياه ونحو ذلك، فالله خالق ذلك كله، فإنه لا حول ولا قوة إلا به(1)، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فالرجاء يجب أن يكون كله للرب، والتوكل عليه والدعاء له، فإنه إن شاء ذلك ويسره كان وتيسر، ولو لم يشأ الناس، وإن لم يشأه ولم ييسره لم يكن وإن شاء الناس(2)، هذه بعض المعاني من قول أمير المؤمنين: لا يرجونَّ أحد إلا ربه(3).
__________
(1) الفتاوى (8/102).
(2) الفتاوى (8/102).
(3) المصدر نفسه (8/99).(1/371)
وأما قوله: «ولا يخافن إلا ذنبه»(1)، قال تعالى: { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131]. بيَّن سبحانه أن الحسنة من الله ينعم بها على الناس، وأن السيئة إنما تصيبهم بذنوبهم، ولهذا قال تعالى: { وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، فأخبر أنه لا يعذب مستغفرًا، لأن الاستغفار يمحو الذنب الذي هو سبب العذاب، فيندفع العذاب، كما في سنن أبي داود وابن ماجة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أكثر الاستغفار، جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب»(2)، وقال تعالى: { أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ - وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:2، 3]. فبين: أن من وحدَّه واستغفر متعه متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى، ومن عمل بعد ذلك خيرًا زاده من فضله، وفي الحديث: يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله، والاستغفار(3)، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون، لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا(4). وقال عمر بن عبد العزيز: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، ولهذا قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ - فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ
__________
(1) الفتاوى (8/99).
(2) سنن ابن ماجة رقم (3819)، سنن أبي داود (1518).
(3) مسند أبي يعلي (1/123) رقم (136)، مجمع الزوائد (1/210)وهو ضعيف.
(4) الفتاوى (8/100).(1/372)
وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ - إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 173- 175]، فنهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان، وأمرهم بخوفه، وخوفه يوجب فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، والاستغفار من الذنوب، وحينئذ يندفع البلاء وينتصر على الأعداء، فلهذا قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: لا يخافن عبد إلا ذنبه(1)، وإن سلط عليه مخلوق فما سلط عليه إلا بذنوبه، فليخف الله، وليتب من ذنوبه التي نال بها ما ناله(2)، كما في الأثر: يقول الله: أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك ونواصيهم بيدي، من أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسب الملوك، وأطيعوني أعطف قلوبهم عليكم(3).
__________
(1) الفتاوى (8/99).
(2) المصدر نفسه (8/101).
(3) المصدر نفسه (8/101).(1/373)
2- تعريف أمير المؤمنين الناس بأسماء الله وصفاته:قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد:19]، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف، كما في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقد بيَّن القرآن الكريم أن معرفة الأسماء الحسنى والصفات العلى من أعظم الوسائل في زيادة الإيمان وقوته وثباته، ومعرفته تتضمن أنواع التوحيد الثلاثة، توحيد الربوبية، توحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وهذه الأنواع هي روح الإيمان، وأصله وغايته، فكلما ازداد العبد معرفة بأسماء الله وصفاته، ازداد إيمانه وقوى يقينه(1)، قال تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180]، وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءَ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، وقد ثبت في الصحيحين عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن لله تسعة وتسعين اسمًا – مائة إلا واحدة- من أحصاها دخل الجنة»(2)، أي من حفظها وفهم معانيها، واعتقدها، وتعبد الله بها دخل الجنة، والجنة لا يدخلها إلا المؤمنون(3).
__________
(1) الوسيطة في القرآن الكريم للصلابي: ص (228).
(2) البخاري، ك الدعوات رقم: (6410).
(3) التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي، ص (41).(1/374)
ولأهمية هذا العلم قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: يا طالب العلم: إن للعالم ثلاث علامات، العلم بالله، وبما يحب الله، وبما يكره الله(1)، وقال في معرض وصفه للمولى سبحانه وتعالى: هو العالم بكل مكان، وكل حين وأوان، لم يخلق الأشياء من أصول أولية، ولا بأوائل كانت قبله بدية، بل خلق ما خلق فأقام خلقه وصور ما صور فأحسن صورته، توحد في علوه فليس لشيء منه امتناع، ولا له بطاعة شيء من خلقه انتفاع، إجابته للداعين سريعة، والملائكة في السماوات والأرضين له مطيعة، علمه بالأموات البائدين، كعلمه بالأحياء المتقلبين، وعلمه بما في السماوات العلى، كعلمه بما في الأرض السفلى، وعلمه بكل شيء، لا تحيره الأصوات، ولا تشغله اللغات... مدير بصير، عالم بالأمور، حي قيوم... سبحانه وتعالى عن تكييف الصفات(2).
وجاء يهودي إلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه فسأله: متى كان ربنا؟ فتمعر(3) وجه على بن أبي طالب وقال: لم يكن فكان؟! هو كان ولا كينونة، كان بلا كيف، كان ليس قبل ولا غاية، انقطعت الغايات دونه، فهو غاية كل غاية، فأسلم اليهودي(4)، وبما يرويه أمير المؤمنين على رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفات الله سبحانه وتعالى قوله: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف»(5).
إن معرفة أسماء الله وصفاته، وتأمل معانيها، والإيمان بها تثمر للعبد محبة الله وتعظيمه الموجبين للقيام بأمره ونهيه، كما توجب اللجوء إليه في الكربات، وسؤاله عند الحاجات، واستغاثته في الملمات وغيرها من أنواع العبادات القلبية(6).
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/207)، منهج على بن أبي طالب، ص (91).
(2) حلية الأولياء (1/73).
(3) تمعر: تغير، لسان العرب (5/181).
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص (206).
(5) مسند أحمد (2/173)، قال أحمد شاكر: إسناده حسن.
(6) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (92).(1/375)
3- تعريف أمير المؤمنين على بن أبي طالب الناس بنعم الله المستوجبة لشكره:قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه مذكرًا بالله سبحانه وتعالى وبنعمه على عباده: أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال، ووقت لكم الآجال، وجعل لكم أسماعًا تعي ما عناها، وأبصارًا لتجلو عن غشاها، وأفئدة تفهم ما دهاها، في تركيب صورها وما أعمرها، فإنه الله لم يخلقكم عبثًا ولم يضرب عنكم الذكر صفحًا، بل أكرمكم بالنعم السوابغ، وأرفدكم بأوفر الروافد، وأحاط بكم الإحصاء، وأرصد لكم الجزاء في السراء والضراء، فاتقوا الله عباد الله وجدوا في الطلب، وبادروا بالعمل مقطع النهمات وهادم اللذات(1) ، وكان أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه يحث الناس على القرب من الله بشكر النعم الحاصلة ويحذرهم من الركون إليها والأمن معها، ويرغبهم فيما عند الله من المزيد في حال شكر النعم، حيث يقول: فإن نزلت بكم رغبة فاشكروا الله، واجمعوا معها رهبة، وإن نزلت بكم رهبة فاذكروا الله واجمعوا معها رغبة، فإن الله قد تأذن المسلمين بالحسنى، ولمن شكره بالزيادة(2)، دعا أمير المؤمنين على رضي الله عنه الناس إلى التفكير في أنفسهم فقال: من عرف نفسه فقد عرف ربه(3)، وقد قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
__________
(1) الحلية (1/78)، صفة الصفوة (1/328).
(2) البداية والنهاية (7/309).
(3) مطلوب كل طالب من شرح كلمات على بن أبي طالب، لمحمد عبد الجليل العمرى، مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص(96)(1/376)
4- حرص أمير المؤمنين على بن أبي طالب على محو آثار الجاهلية: قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة، فقال: «أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع وثنًا إلا كسره ولا قبرًا إلا سواه، ولا صورة إلا لطخها؟» فقال على رضي الله عنه: أنا أنطلق يا رسول الله، فقال: «فانطلق»، فانطلق، ثم رجع فقال: يا رسول الله، لم أدع بها وثنًا إلا كسرته، ولا قيرًا إلا سويته، ولا صورة إلا لطختها، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من عاد لصنعة شيء من هذا فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -»(1).
__________
(1) مسند أحمد (2/87 حديث رقم 657)ط. الرسالة.(1/377)
وعندما أصبح أمير المؤمنين أرسل أبا الهياج الأسدي وقال له: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته(1)، فأمره بمحو التماثيل، وأن تكون القبور مدروسة معالمها، وقد كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه كثيرًا ما يقصد المقبرة زائرًا ومتعظًا، وقد أشرف على المقبرة فقال: يا أهل القبور أخبرونا بخبركم، أما خبركم قِبلنا فالنساء قد تزوجن، والمال قد قسم، والمساكن قد سكنها قوم غيركم، ثم قال: أما والله لو نطقوا لقالوا: لم نر خيرًا من التقوى(2)، وقد كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يسعى جاهدًا في تجريد التوحيد، وقطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، ولذلك حذر من اتخاذ القبور مساجد لما تسببه من الفتنة في أهلها، وكونها ذريعة إلى عبادة الأموات، وقد وصف رضي الله عنه من فعل ذلك بأنه من شرار الناس كما في قوله: شرار الناس من يتخذ القبور مساجد(3)، وهذا اتباع لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»(4)، وغيره من الأحاديث التي صحت في هذا المعنى، كما لابد من التنبيه على أن الغرض من زيادة القبور أمران، كما هو بيِّن من الهدى النبوي الشريف الاتعاظ بالموت، والدعاء للميت والترحم عليه، وليس في واحد منها ما يدل على أن الزائر يقصد القبر، ليقضي حاجته، فقصد القبر للانتفاع به مخالف لهدى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومخالف لأدب زيارة القبور التي نصّ عليها العلماء(5)، قال ابن العربي وهو يعدد أغراض السفر، ومنه: القصد إلى الإخوان لتفقد أحوالهم- وبعد أن ذكر فضل من زار أخًا في الله- قال: هذا إن كان حيًا، فإن كان ميتًا، فتجوز زيارة قبره أيضًا، والترحم عليه لينتفع
__________
(1) مسلم، ك الجنائز (2/666).
(2) الاستذكار (1/234).
(3) مصنف عبد الرزاق (1/405)، كنز العمال رقم (22522).
(4) فتح الباري (4/376) إسناده حسن.
(5) الغلو في الدين، د. الصادق الغريانى، ص (119).(1/378)
الميت بالحي، ولا يقصد الانتفاع بالميت فإنها بدعة(1)، بل إن قصد القبر رجاء قضاء الحاجة هو عين ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه عندما سألوه أن يجعل لهم ذات أنواط، ففي حديث أبي واقد الليثى: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم (ذات أنواط)، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سبحان الله، هذا كما قيل لموسى، أجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم»(2) ، وفي عدة المريد يقول الشيخ الزروق بعد أن ذكر الحديث المتقدم: ولا يجوز عند العلماء تعظيم مكان، أو شجر أو بناء، أو أي شيء آخر له أصل في معتقدات الجاهلية، رجاء الشفاء أو قضاء حاجة(3)، ثم قال: في الحديث دليل على منع كل ما يستدام أو يكون له أصل في عبادة الجاهلية من خشبة أو حديدة أو حجر أو بناء ونحوه، لا يمتهن أو يكون مستهلكًا(4)، ولا شك أن القبر له أصل في عبادة الجاهلية، بل هو أصل أصولها، ولا أدل على ذلك من أن أشهر أصنامهم التي عبدوها من دون الله، «اللات» و«مناة»، هي أسماء لرجال صالحين ماتوا فغالوا في تعظيمهم حتى عبدوهم من دون الله(5)، وهنا كان حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل سيدنا على له عمل عظيم في حماية جناب التوحيد، ويتضح لنا ما يفعله بعض جهلة المسلمين من تعظيم القبور والطواف حولها والتعلق بأهلها أمر
__________
(1) فتح الباري (3/65).
(2) سنن الترمذي رقم (2180)حسن صحيح.
(3) عدة المريد، ص (206)، الغلو في الدين للغريانى، ص (119)
(4) عدة المريد، ص (206)، الغلو في الدين للغريانى، ص (119)
(5) الغلو في الدين، ص (119).(1/379)
محرم يخالف أمر الله وسيرة أمير المؤمنين، فعلى العلماء الربانيين الذين يرجون الله واليوم الآخر أن يقتدوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كما فعل أمير المؤمنين على، وأن يسعوا لتعبيد الناس لربهم وجعل قلوبهم تتعلق بالله الواحد القهار، وأن يحاربوا العوائق في الطريق إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
أ- الزيارة الشرعية للقبور:إن الزيارة الشرعية للقبور سنة مجهولة عند الكثيرين، قد غفلها جمع من الناس لفشو البدع والخرافات في العالم الإسلامي، وعدم إرشاد أهل العلم الناس إلى هذه الزيارة المشروعة، وتقصير الدعاة في توضيح هذا النوع المباح وما يقال عند الزيارة، فالزيارة الشرعية الغرض منها، تذكر الموت ومكان الإنسان ونهايته، وأنه سيأتي اليوم الذي يكون هذا موضعه ومضجعه الذي يزوره الآن، مما يعين على الثبات على الطاعة، وحث النفس، والأخذ بزمامها نحو العبادة خاصة إذا أصابها فتور وتقاعس عن العبادة، كما يشرع فيها السلام على الأموات والدعاء لهم بالرحمة والمغفرة، ومن الأدلة على ذلك حديث عائشة، رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد»، وفي رواية عنها، رضي الله عنها، في قصة جبريل، حين جاء النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أن الله تعالى يأمره أن يستغفر لأهل بقيع الغرقد، قالت عائشة رضي الله عنها: كيف أقول لهم يا رسول الله؟ فقال: «قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون»(1).
__________
(1) مسلم رقم (1/671) رقم (974).(1/380)
ب- تاريخ الاحتفال بالمزارات في الأضرحة: يذكر أن أول من أحدث الاحتفال بالمزارات السنوية في الأضرحة هم العبيديون (الفاطميون) في القرن الرابع، ذكر ذلك المقريزى أحمد بن على قال: كانت لهم ستة موالد، مولد النبي - صلى الله عليه وسلم -، مولد على بن أبي طالب، والحسن والحسين، وفاطمة رضي الله عنهم، ومولد الخليفة، وكانوا ينحرون عند قبر الحسين الإبل والبقر والغنم(1).ولم يكن المسلمون قبل هذا التاريخ في القرون الثلاثة الأولى يقيمون الأضرحة، ولا يحتفلون بها، ولا أدل على ذلك من أن أكثر الصحابة رضوان الله عليهم دفنوا خارج البقيع في مصر والشام والعراق، لا تعرف قبورهم، ومن عرف قبره منهم، فمختلف فيه بين المؤرخين، وكُتاب السير، فكيف خفيت قبورهم عن أهل السير، وهم الصلحاء والعلماء وأعلام الهدى، الذين حملوا راية الدين والعلم، والجهاد والعبادة؟ لو كان للأضرحة في زمانهم وزمان تابعيهم ذكر لما خفي مكانها، ولما اختلف المؤرخون فيها، وفعل الناس لهذا الأمر بعد القرون الأولى خير القرون لا يكسبه مشروعية بحال، كيف وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره عيدًا؟ فمن يفعل ذلك من الناس فإنما يفعل عين ما حذر منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويحتج بعمله وعمل شيخه، ويقدمه على هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والله تعالى يقول: {لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1]، ويقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
__________
(1) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (1/427، 490)، الغلو في الدين للغريانى، ص (103).(1/381)
جـ- ارتباط المزارات بالتخلف والجهل: ارتفع شأن القباب والتوابيت – المضروبة على القبور – خلافًا لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتسويتها، كما بين لنا أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، وتفنن الناس في زخرفتها بالألوان الزاهية، ونصبت عليها ستائر الحرير كستائر الكعبة، وحرست بالأبواب الفاخرة وزودت بخزائن الحديد الثقيلة، لجمع ما يجود به الزائرون، وما ينفقونه على أصحاب الأضرحة من نذور، لتقضي حوائجهم وتتحقق آمالهم، وازدهرت الحياة للمتعيشين على خدمة الضريح وحراسته، رواة الكرامات، ورواة التحذير الصارم بسوء عاقبة كل من يحاول أن يشكك في سلامة ما يجرى، ومن المعروف أن التبجيل على هذا النحو للأضرحة لم يزدهر إلا يوم أن تخلف المسلمون، وضعفت هممهم، في عصور الانحطاط العلمي، والجمود الفكري، يوم أن حولوا نور الرسالة المحمدية، التي استطاعت في الأربعين سنة الأولى من عمرها أن تجعل أهل الأرض من فارس إلى المغرب يدينون بها، حولوا هذه الرسالة الحضارية المشرقة إلى دروشة وخمول، وبطالة وتعلق بالأوهام، وقصروا هممهم على أمور ما كان سلفنا الصالح، الذي ملأ الدنيا علمًا وعملاً صالحًا يقف عندها، ولا يلتفت إليها، ألا يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: هل وجد شيء من هذا على عهد الصحابة فعلوه لقبر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفضل قبر على وجه الأرض؟! أو لقبورهم، وهم أفضل أمته، أو وجد شيء منه حتى في عهد الأئمة الذين يقتدي بهم، كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله؟!(1/382)
أليس عدم وجود شيء من ذلك عندهم دليلاً على أن ما يجرى لا صلة له بالدين، ولا بالعبادة، ولا بالولاية؟! وإنما هي مظاهر التخلف والجهل، استغلها من لهم مصلحة باسم الدين، أيا كانت المصلحة، لتخدير العامة والاستيلاء على عقولهم، وجيوبهم، وأكل أموالهم وشدهم إلى الوراء، لقد ظل الإسلام قرونًا عديدة بتزعم العالم قوة ومعرفة، وحضارة، وتشريعًا، وأخلاقًا، ورحمة بالإنسانية، وتطلعًا إلى الابتكار، ومعالي الأمور، ذلك كان حال المسلمين يوم أن كان تعلقهم بحقيقة الإسلام فلما أعرضوا عن ذلك، واستبدلوا مفاهيم مغلوطة- تعتمد على التواكل والبطالة والدروشة والتعلق بالغيبيات التي لم يقم عليها دليل، ولم يأمرنا الله بها – بما عندهم من العلم والهداية، وسموا كل ذلك (بركة)، تسمية للشيء بضده، وأحرى بمن يعرض عن الهداية وأسبهابها أن يكون من الضالين، وعن البركة
من المبعدين(1).
__________
(1) الغلو في الدين، للغريانى (105).(1/383)
د- الحملات الاستعمارية وإقامة الأضرحة: كان للحملات الغربية الاستعمارية مواقف في تشجيع المسلمين أن ينحوا هذا المنحي ليبتعدوا عن جوهر الدين، ذكرت صحيفة التايمز الإنجليزية قول أحد رجال الاستعمار البريطاني يحض على تشجيع البدع والأوهام بين المسلمين يقول: فإن ذلك كفيل بإبعادهم عن الإسلام، يقول الشيخ أحمد الباقورى: أن أحد كبار المستشرقين حدثه عن بعض أساليب الاستعمار في آسيا، أن الضرورة كانت تقضي بتحويل القوافل الآتية من الهند إلى بغداد، عبر تلك المنطقة الواسعة إلى اتجاه جديد، للمستعمر فيه غاية، ولم تجد الوسائل في جعل القوافل تختاره، وأخيرًا اهتدوا إلى إقامة عدة أضرحة وقباب على مسافات متقاربة في هذا الطريق، وما هو إلا أن تناقل الناس الإشاعات بما فيها من الأولياء، وبما شوهد من كرامتهم، حتى صارت تلك الطريق مأهولة، ومقصودة عامرة(1)، وقد اهتمت الحكومة الإنجليزية بالحالة الدينية في مصر، وهي ترصد التحرك الشيوعي في المنطقة، فكان مما طمأنها على تدين المصريين: أن ثلاثة ملايين مسلم زاروا ضريح أحمد البدوى بطنطا في ذلك العام، يقول أحد العلماء الذين أوفدوا من وزارة الأوقاف لوعظهم: لقد كنت أشهد من أعمالهم ما يستدعي الجلد بالسياط لا ما يستدعي الزجر بالكلام، ولو دعوا إلى واجب ديني صحيح لفروا نافرين، وحسبك معرفة حالهم أنهم جاءوا الضريح المذكور للوفاء بالنذور والابتهال بالدعاء(2).
__________
(1) انظر: ليس من الإسلام، لمحمد الغزالي، ص (224).
(2) الغلو في الدين، ص (105).(1/384)
هـ- هل المزارات من الإحداث في الدين: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أكرم الخلق على الله تعالى وأتقاهم لله، وأخشاهم لله، وتوقير أصحابه له غير خاف، ومحبتهم إياه لا تقدر، وقُبر - صلى الله عليه وسلم - في بيته، ومكان قبره الشريف معروف لدى أصحابه غير مجهول، وهو أفضل قبر في الدنيا، فلم يقيموا عليه مشهدًا ولا بناء، ولا قبابًا، ولم يجتمع عند قبره الخلفاء الراشدين إحياء لذكراه في يوم من السنة معلوم في (مزار) ولا غيره من أصحابه الأخيار، اغتنامًا للذكر والعبادة، بل كانوا إذا مروا بقبره الشريف يصلون ويسلمون عليه كما أمرهم ربهم، وكانوا يطيعون أمره ويتبعون سنته، ويهتدون بهديه، ويقفون عند أمره ونهيه، حيًا وميتًا، امتثالاً لأمر ربهم: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21]، وخلفاؤهم هم القدوة الحسنة الذين أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنتهم والعض عليها بالنواجذ، ولم ينقل أحد من أهل الإسلام أن أصحابه اجتمعوا ليلة في السنة عند قبره للذكر والعبادة، رجاء البركة، وهم أولياء الله، وحزب الهدى، وأنصار الحق، وكتائب الدين، وأعلم منا بما يحبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحرص على الطاعة، وتعظيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قلوبهم وتوقيره بالمكان الذي لا يخفي، ولا يختلف عليه، لأنه الذي نطق به القرآن، وأجمع على تعظيمهم له، ومحبته وتوقيرهم إياه أهل الإسلام، ولو كان هذا العيد السنوي عند قبره مما يقرب إلى الله، ولا يخاف منه فساد في الدين لكانوا أسبق إليه، ولم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته بشيء من هذا، ولا وجُد في سنته بفعل ولا تقرير ما يدل على مشروعيته عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته، أو عند أحد من قبور أصحابه الذين ماتوا، ومرت عليهم السنون في حياته، فلم يتعبد هو ولا أصحابه بشيء من هذا، وهو أكمل الخلق عبودية لله، وأكملهم علمًا بما يرضى الله تعالى،(1/385)
ونصحه لأمته، وحرصه على ما ينفعهم نزل به القرآن { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة:128]، وقد نهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اتخاذ قبره عيدًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا علىَّ، فإن صلاتكم تبلغنى حيث كنت»(1)، ومعنى عيد من العود، وهو الرجوع والمعاودة، لأنه يتكرر مرة بعد مرة، أي لا تجعلوا لزيارة قبري أيامًا معلومة، وأوقاتًا مخصوصة، كل شهر، أو كل سنة، أو غير ذلك، في اجتماع عام يتكرر بصفة ثابتة كالعيد، ولا تتخذوه منسكًا ترحلون إليه كالحج، ولا تشبهوا باليهود والنصارى، فإنهم يفعلون ذلك، وقد أدى بهم الأمر إلى الغلو والمبالغة في الإطراء، حتى جعلوا المسيح عليه السلام إلهًا، وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه من ذلك فقال: «لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله»(2)، فإذا كان الحال من النهي في التعلق بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أكرم الخلق على الله، وهو سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، وأرجى الشفعاء عند الله يوم الدين، فما بالك بقبور الأموات من دونه من الأولياء والصالحين، فتكون مخالفة نهيه في ذلك باتخاذ قبورهم أعيادًا، داخلة في الشق الثاني من الحديث، وهو ما يقرب إلى من يخالف نبيه في قوله عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
__________
(1) فتح الباري: (4/376) إسناده حسن.
(2) البخاري رقم (3345).(1/386)
فهذا هو هدى خير القرون، فمن خالفهم زاعمًا أنه أتى بطاعة وقربة، فلا يخلو حاله من أمرين، إما أنه جاء ببدعة ظلمًا، وأما أن يكون مدعيًا أنه فاقهم فضلاً وعلمًا، بل كان الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول: من أحدث في هذه الأمة شيئًا لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الدين، لأن الله تعالى يقول:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا، لا يكون اليوم دينًا(1)، وكان يقول: السنة سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق(2).
إن إقامة (المزارات) عبادة لم يفعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه، بل نهى عنها، ومخالفته من الإحداث في الدين الذي ينتهي بصاحبه إلى الضلال كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم -،فقد كان مما خطب به في كل جمعة محذرًا: أما بعد.. فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة(3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد»(4).
__________
(1) الاعتصام للشاطبى (2/53).
(2) الغلو في الدين للغريانى، ص (109).
(3) مسلم: رقم (867).
(4) البخاري: 2697.(1/387)
إن جمع الناس في يوم معين على الدوام، في مكان ما، تشد إليه الرحال من كل حدب وصوب للعبادة، لا يجوز إلا فيما شرعه الله تعالى من إقامة النُّسك في مكة، وعرفة، ومنى، والمزدلفة، وفي صلوات الأعياد والجمعة والجماعة، وهي الشعائر التي أمر الله تعالى بتعظيمها، وإقامتها، وأثنى على أهلها بقوله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وإحداث مشهد آخر غير ما ذكر، في يوم من السنة، من الإحداث في الدين، لأنه إحداث عبادة ونسك لم يشرعها الله تعالى، فإن هذه المزارات صارت عند العامة كالنسك، يجتمع إليها الناس في يوم من السنة معلوم للذبح والعبادة، وتشد إليها الرحال، وهذا في ذاته أمر مذموم، فإن الطاعات المطلقة المندوب إليها في كل وقت، إذا خصص شيء منها بليلة معينة، أو يوم معين، أو مكان معين، لم يخصصه الشرع به، واعتقد أن لفعلها في ذلك الوقت المعين، أو المكان المعين، أثرًا خاصًا في البركة، أو رفع الدرجات، أو قبول العمل، أو تعظيم الأجر، تحولت تلك الأعمال التي هي من جنس الطاعات إلى بدعة بالاتفاق، لأن ترتيب الثواب على الأعمال، أمر توقيفي لا يكون إلا من الشارع، وقد جر هذا إلى مفاسد عظام، منها اعتقاد العامة في أصحابها الذين بنيت عليهم القباب خلافًا لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتقدوا فيها الضر والنفع، وقضاء الحوائج، وتقربوا إليها بالذبائح والقرابين في يوم معلوم من السنة، عند إقامة المزار، وتوددوا إليها بعد ما أشاعوا حولها أن من ساق إليها الحيوان ليذبح في ذلك اليوم، وكانت له حاجة يرجوها من ربه، مثل ولد إن كان لا يلد، أو شفاء مرض إن كان مريضًا – لا يرجع إلا بها، فصارت ملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما سأله العباد من ربهم واستغاثوا بها، وظنوا أن حوائجهم تقضي لهم من ربهم بواسطتها وعن طريقها، حتى صاروا يذبحون عندها، لاستنزال المطر إذا تأخر المطر، معرضين عن كتاب(1/388)
الله وهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر بالتوبة والاستغفار والدعاء والصلاة طلبًا للسقيا، وقد ينزل المطر بعد ذبحهم، استدارجًا وابتلاء، ولكن عملهم لا يزال من أعمال الشياطين، ومعتقدات الجاهلية(1)، فإلى الله المشتكي.
إن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه دعا للتوحيد وحارب الشرك وأسبابه، فعلى محبيه ومتبعيه أن يأخذوا بأقواله وأفعاله التي ترشدنا للتمسك بالقرآن الكريم وهدى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما أحسن كلامه عندما قال: «لا يرجون أحد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه»(2)، وقوله لأبي الهياج الأسدى: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته»(3).
و- حرص أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه على بطلان الاعتقاد بالكواكب: لما أراد أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أن يسافر لقتال الخوارج، عرض له منجم، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تسافر، فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرت والقمر في العقرب هزم أصحابك- أو كما قال- فقال على: بل أسافر ثقة بالله وتوكلاً على الله وتكذيبًا لك، فسافر فبورك له في ذلك السفر، فقتل عامة الخوارج(4)، وجاء في رواية:...فلما فرغ من النهروان حمد الله وأثنى عليه ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا المنجم لقال الجهال الذين لا يعلمون: سار في الساعة التي أمره بها المنجم فظفر(5).
__________
(1) الغلو في الدين، ص (111، 112).
(2) الفتاوى (8/101).
(3) مسلم. ك الجنائز (2/666).
(4) مجموع الفتاوى (135/179)، البداية والنهاية (7/288).
(5) البداية والنهاية (7/288).(1/389)
انظر إلى حرص أمير المؤمنين على رضي الله عنه على سلامة عقيدة أصحابه مما ادعاه المنجم من ذلك الاعتقاد الفاسد، فعلى رضي الله عنه مع ما كان فيه من الأمر المهم من قتال الخوارج، وانشغاله بنتيجة المعركة، فإنه لم ينس تلك الكلمة التي قالها ذلك المنجم له في بداية مسيره، فكان منه بيان فساد ذلك المعتقد في الوقت المناسب بعد انتهاء قتاله للخوارج وانتصاره عليهم(1).
ز- إحراق أمير المؤمنين على رضي الله عنه لمن غلوا فيه وادعوا فيه الألوهية: عن عبد الله بن شريك العامرى عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قومًا على باب المسجد يدعون أنك ربهم، فدعاهم فقال لهم: ويلكم، ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، فقال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم، آكل الطعام كما تأكلون، وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابنى إن شاء الله، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه، فجاء قنبر، فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم فقالوا كذلك. فلما كان اليوم الثالث، قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فخد لهم أخدودًا بين المسجد والقصر، وقال: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا، فقذف بهم فيها، حتى إذا احترقوا(2) قال:
إني إذا رأيت الأمر أمرًا منكرًاأوقدت ناري ودعوت قنبرًا(3)
__________
(1) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص(329).
(2) فتح الباري (12/270) سنده حسن.
(3) فتح الباري (12/270) سنده حسن.(1/390)
كما أخرج البخاري في صحيحة خبر الإحراق من حديث عكرمة، قال: أتى على رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «لا تعذبوا بعذاب الله»، ولقتلتهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه»(1) ، وقال ابن تيمية: وثبت عنه أنه حرق غالبية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية(2).
لم ير ابن عباس رضي الله عنهما، رأى على بن أبي طالب رضي الله عنه في إحراق السبئية، حيث يقول: لو كنت أنا لم أحرقهم محتجًا عليه بنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تعذبوا بعذاب الله»،ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من بدل دينه فاقتلوه»(3). قال ابن حجر: وهذا يحتمل أن ابن عباس سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة.
__________
(1) البخاري، ك المرتدين (4/279).
(2) الفتاوى (28/474)، منهاج السنة (5/12).
(3) البخاري، ك المرتدين (4/279).(1/391)
وفي رواية أبي داود: فبلغ ذلك عليًا، فقال: ويح أم ابن عباس(1)، وهذا يحتمل أنه لم يرض بما اعترض به، ورأى النهى للتنزيه(2). وقال ابن حجر أيضًا: (ويح) كلمة رحمة، فتوجع له لكونه حمل النهى على ظاهره، فاعتقد التحريم مطلقًا، فأنكره، ويحتمل أن يكون قالها رضًا بما قال، وأنه حفظ ما نسيه بناء على أحد ما قيل في تفسير «ويح»، أنها تقال بمعنى المدح والتعجب(3)، وقال: واختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر، وابن عباس، وغيرهما مطلقًا سواء كان ذلك بسبب كفر، أو في حال مقاتلة، أو كان قصاصًا، وأجازه على، وخالد بن الوليد وغيرهما، وقال المهلب: ليس هذا النهى على التحريم، بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، فقد سمل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعين العرنيين بالحديد المحمى، وقد حرق أبو بكر البغاة بالنار بحضرة الصحابة، وحرق خالد بن الوليد بالنار ناسًا من أهل الردة، وأكثر علماء المدينة يجيزون تحريق الحصون والمراكب على أهليها، قاله الثوري، والأوزاعى، وقال ابن المنير وغيره، لا حجة فيما ذكر للجواز، لأن قصة العرنيين كانت إما قصاصًا أو منسوخة كما تقدم، وتجويز الصحابي معارض بمنع صحابي آخر، وقصة الحصون والمراكب مقيدة بالضرورة إلى ذلك إذا تعين طريقًا للعدو(4)، وقال ابن القيم: وحرق أبو بكر رضي الله عنه اللوطية وأذاقهم حر النار في الدنيا قبل الآخرة، وكذلك قال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي فله ذلك، فإن خالد بن الوليد، رضي الله عنه، كتب إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة، فاستشار الصديق أصحاب رسول الله وفيهم على بن أبي طالب وكان أشدهم قولاً، فقال: إن هذا الذنب لم تعص به أمة من الأمم، إلا واحدة فصنع الله بهم ما قد علمتم، أرى أن
__________
(1) سنن أبي داود، ك الحدود (4/520) صححه الألباني.
(2) فتح الباري (12/271).
(3) المصدر نفسه (12/272).
(4) فتح الباري (6/150).(1/392)
يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد أن يحرقوا فحرقهم، ثم حرقهم عبد الله ابن الزبير في خلافته، ثم حرقهم هشام بن عبد الملك(1).
ح- كيفية بداية الإيمان في القلب عند أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وتعريفه للتقوى:قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: إن الإيمان يبدو لمظة بيضاء في القلب، فكلما ازداد العبد إيمانًا ازداد القلب بياضًا، وكلما ازداد العبد نفاقًا ازداد القلب سوادًا، حتى إذا استكمل العبد النفاق اسود القلب، وايم الله لو شققتم عن قلب المؤمن لوجدتموه أبيض، ولو شققتم عن قلب المنافق والكافر لوجدتموه أسود(2) .
__________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص (22، 23).
(2) الفتاوى (7/191).(1/393)
وقد بين علماء أهل السنة حقيقة الإيمان فقالوا بأن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح والأركان، أي هو: اعتقاد وقول وعمل، فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته، وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان(1)، قال تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ - أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } [الأنفال: 2-4]. فقد جمعت هذه الآيات- وهي تعرض صفات المؤمنين – بين عمل القلب وعمل الجوارح، واعتبرت هذا كله إيمانًا، وقصرت الإيمان عليه بأداة القصر والحصر (إنما) وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة، عندما ضمنتها بعبارة {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله(2).
__________
(1) في ظلال الإيمان للخالدى، ص (23).
(2) تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين، ص (188).(1/394)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان»(1) . والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالشهادة قول، وإماطة الأذى عن الطريق عمل، والحياء خلق وسلوك، وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته، ومعظم شعب الإيمان هي أعمال(2)، وقال الإمام البخاري في صحيحة: هو قول وفعل يزيد وينقص، والحب في الله والبغض في الله من الإيمان. وقال عمر ابن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا، فمن استكملها استكمل الإيمان ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص(3)، وما قاله أمير المؤمنين في الإيمان لما سئل عنه: «الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد، والصبر منها على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهد والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات، واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة العبرة، وسنة الأولين، فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين. والعدل منها على أربع شعب: على غائض الفهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم، فمن فهم علم غور العلم، ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم، ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش بين الناس حميدًا، والجهاد منها على أربع شعب: الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والصدق في المواطن وشنئان الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنئ
__________
(1) مسلم، ك الإيمان (1/63) رقم (75).
(2) في ظلال الإيمان، ص (30).
(3) البخاري، ك الإيمان (1/9).(1/395)
الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه يوم القيامة»(1). وقال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في تعريفه للتقوى: «ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة»(2). وقال فيها: « التقوى هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل» (3). ففي اهتمام أمير المؤمنين في حث الناس على التقوى ثمرات وآثار في جانب الفرد والمجتمع، منها: محبة الله له{اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:4]، معية الله {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل:128]، الانتفاع بالقرآن {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]، الحفظ من الشيطان ووساوسه {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201]، انتفاء الخوف والحزن { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف:35]، قبول العمل {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، اليسر بعد العسر، والمخرج بعد الضيق {وَمَن يَّتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2]، {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق:4]، الفراسة والحكمة والنور { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، دخول الجنة { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدِّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، النجاة من النار { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72]، المنزلة العالية يوم القيامة(4)
__________
(1) نهج البلاغة، ص (667، 668).
(2) تفسير الرازي (2/21).
(3) فرائد الكلام، ص (334).
(4) سورة الحجرات دراسة تحليلية موضوعية للعمرى، ص (236، 237).(1/396)
{وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة:212].
ط- القضاء والقدر عند أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: قال أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه: إنه لا يكون في الأرض شيء حتى يقضي في السماء، وليس من أحد إلا وقد وكل به ملكان يدفعان عنه ويكلانه، حتى يجيء قدره، فإذا جاء قدره خليا بينه وبين قدره، وإن علىَّ من الله جنة حصينة، فإذا جاء أجلى كشف عنى، وإنه لا يجد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه(1)، وقال رضي الله عنه: إن الأمر ينزل من السماء كقطر المطر لكل نفس ما كتب الله لها من زيادة أو نقصان في نفس أو أهل أو مال، فمن رأى نقصًا في نفسه أو أهله أو ماله، ورأى لغيره كثرة فلا يكونن ذلك له فتنة، فإن المسلم ما لم يغش دنياه يظهر تخشعا لها إذا ذكرت ويغرى به لئام الناس كالبائس العالم ينتظر أول فورة من قداحة توجب له المغنم، وتدفع عنه المغرم، فكذلك المسلم البريء من الخيانة بين إحدى الحسنيين، إذا ما دعا الله، فما عند الله خير له، وإما أن يرزقه الله مالاً فإذا هو ذو أهل ومال ومعه حسبه ودينه، وإما أن يعطيه الله في الآخرة، فالآخرة خير وأبقى، الحرث حرثان، فحرث الدنيا: المال والتقوى، وحرث الآخرة: الباقيات الصالحات، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام(2).
ى- كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟قيل لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد على كثرة عددهم؟ فقال: كما يرزقهم على كثرة عددهم(3).
ثانيًا: خطبة لأمير المؤمنين على بن أبي طالب وتحليلها:
__________
(1) حياة الصحابة للكاندهلوى (ج3)، ص (305)، فرائد الكلام، ص(348).
(2) البداية والنهاية (8/8)، فرائد الكلام، ص (343).
(3) أدب الدنيا والدين، ص (26)، فرائد الكلام، ص (339).(1/397)
كان أمير المؤمنين على بن أبي طالب يتعهد الرعية بالتوجيه والتعليم والتربية من خلال الاحتكاك اليومي، وخصوصًا يوم الجمعة حيث كانت خطبة الجمعة من المنابر المهمة في توجيه الأمة وترشيدها، وقد حفظ التاريخ لأمير المؤمنين على كثيرًا من خطبه، وهذه إشارات عابرة عن خطبه، وإليك هذا النموذج الفريد العجيب من خطبه حيث قال:
أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت(1) بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلا ع، وإن المضمار(2) اليوم وغدًا السباق، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله، ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة، وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولم أر كالنار نام هاربها، وإنه من لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدى حاد به الضلال، ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، ألا أيها الناس إنما الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر، ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم، أيها الناس، أحسنوا في أعماركم تحفظوا في أعقابكم، فإن الله وعد جنته من أطاعه، وأوعد ناره من عصاه، إنها نار لا يهدأ زفيرها، ولا يفك أسيرها، ولا يجبر كسيرها، حرها شديد، وقعرها بعيد، وماؤها صديد(3).
ولو تأملنا في المقطع السابق لوجدنا أن عوامل التأثير في المدعوين تتمثل فيما يلي:
1- صدق اللهجة النابع من إيمانه بما يدعو إليه، مما يجعل كلماته كأنها قبس من نفسه المشتعلة، وصورة من عواطفه المنفعلة، فهو لا يكاد ينطق بالجملة حتى تكون أسماعهم قد تلقفتها، وقلوبهم قد وعتها.
__________
(1) أذنت: أعلمت.
(2) المضمار: الموضع الذي تضمر فيه الخيل للسباق.
(3) البداية والنهاية (8/7).(1/398)
2- تمتاز الألفاظ بالقوة، مع سهولتها وعذوبتها وسلاستها، كما أن عبارتها واضحة، وجملتها قصيرة، ولعل ذلك يسعف السامعين بإدراك المعنى المراد.
3- المقابلة بين المعاني المتضادة مما يزيد المعنى وضوحًا، والسامع تأثرًا، ومن ذلك مثلاً: قوله: فإن الدنيا قد أدبرت وأذنت بوداع..وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع، وقوله: وإني لم أر كالجنة نام طالبها.. ولا كالنار نام هاربها.
4- الاقتباس من القرآن الكريم، كما في قوله: ألا إن الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً، والله واسع عليم، ذلك مقتبس(1) من قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268].
__________
(1) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله.(1/399)
5- لقد كانت عناصر الخطبة المذكورة تتمثل في التأثر الشديد بالقرآن الكريم وبكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وواقعيتها واتصالها الحميم بالحياة البشرية، وعمق المعاني وسموها وشمولها، والإجادة في تخير الألفاظ وبناء العبارة، والإيجاز، والتعبير عن المعاني والألفاظ بالصور، واعتماد الوسائل البديعة، وغاية القول، فإن هذه الخطبة تكتسب أهمية خاصة لما تتكشف عنه من مزايا دينية وأدبية وشخصية، فهي عميقة الدلالة على شخصية صاحبها أمير المؤمنين على بن أبي طالب، تنبئ عن إدراكه السليم للمفاهيم والآراء الإسلامية السديدة التي تتناول طبيعة الدنيا وغاية الوجود البشرى والمصير الذي ينتهي إليه، ونوضح النتائج التي توصل إليها أمير المؤمنين على بن أبي طالب في هذا الخصوص، وتدلنا على ما كان يتحلى به من حكمة نافذة ورؤيا معمقة يرفدها صفاء ذهنه وطهارة روحه، إلى غير ذلك من المزايا العقلية والروحية العالية التي أفاضها عليه إيمانه وتقواه وتمسكه بعرى الإسلام واعتصامه بربه ورضاه بقضائه، إن هذا كله قد ساعده في الوصول بالنثر الفني إلى هذا المستوى الرفيع، فكان بحق في عالم الأدب فارس الكلمة وقائدها وإمامها تمامًا، كما كان في الناس إمامًا عادلاً زاهدًا، وقائدًا حكيمًا مجربًا، وفارسًا لا يبارى (1)، هذا وقد اهتم أمير المؤمنين على رضي الله عنه بانتهاز المناسبات في وعظ الناس وتذكيرهم، ولم يكتف بخطب الجمعة فقط، فعندما شيع جنازة ووضعت في لحدها وعج(2) أهلها وبكوا قال: ما تبكون؟ أما والله لو عاينوا ما عاين ميتهم، لأذهلتهم معاينتهم عن ميتهم. وإن له فيهم لعودة ثم دعوة، ثم لا يُبقى منهم أحدًا..فاتقوا الله عباد الله، وجدوا في الطلب، وبادروا بالعمل مقطع النهمات، وهادم اللذات، فإن الدنيا لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها، غرور حائل، وسند مائل، اتعظوا عباد
__________
(1) الأدب العربي، حبيب يوسف مغنية، ص (354- 363).
(2) العج: رفع الصوت، الصحاح للجوهري (1/327).(1/400)
الله بالعبر، واعتبروا بالآيات والأثر، وازدجروا بالنذر، وانتفعوا بالمواعظ، فكأنما قد علقتكم مخالب المنية، وضمكم بيت التراب، ودهمتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور، وبعثرة القبور وسياقة المحشر، وموقف الحساب، بإحاطة قدرة الجبار، كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الزمر:69]. فارتجت لذلك اليوم البلاد، ونادى المناد، وكان يوم التلاق، وكشف عن ساق، وكسفت الشمس، وحشرت الوحوش، مكان مواطن الحشر،، وبدت الأسرار، وهلكت الأشرار وارتجت الأفئدة(1).
ونستنتج من هذه الموعظة بعض عوامل التأثير منها:
1- وقوع الموعظة في مناسبتها، فإن الموعظة كانت بمناسبة تشييع جنازة، والنفوس في هذه الحالة تكون مستعدة لتلقي ما تذكر به في الموت والدار الآخرة.
2- الصياغة البلاغية للموعظة، فمواعظ أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه تتميز بأسلوبها المؤثر في نفوس المدعوين، فمن الجوانب البلاغية في النموذج المذكور ما يلي:
أ- الاستعارة مثل قوله: فكأنما قد علقتم مخالب المنية، تشبيه الموت (المنية) بحيوان مفترس له مخالب، فحذف المشبه به وأبقى شيئًا من لوازمه وصفاته وهو المخالب.
ب- السجع العفوي غير المتكلف: مثل قوله: فإن الدنيا لا يدوم نعيمها، ولا تؤمن فجائعها، غرور حائل، وسند مائل.
جـ- الصيغ الإنشائية(2)، وهي مبثوثة في الخطبة كلها منها: ما تبكون؟ استفهام.. (اتعظوا عباد الله بالعبر) نداء.. (اتعظوا، اعتبروا، وازدجروا، وانتفعوا) كل هذا على سبيل الأمر.
د- جزالة الألفاظ: لعل أي جزء من الخطبة يكون شاهدًا عليها، لأن الخطبة كلها لا خلل فيها ولا ضعف.
__________
(1) حلية الأولياء لأبي نعيم (1/78)، صفة الصفوة (1/328).
(2) الكلام الذي لا يحتمل التصديق والتكذيب.(1/401)
3- اعتماد المضمون على القرآن الكريم وانتهاجها منهجه في الإرشاد والإقناع، كقوله: «كل نفس معها سائق يسوقها لمحشرها، وشاهد يشهد عليها بعملها» اعتمادًا على قوله تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].
4- الترهيب بذكر أهوال يوم القيامة، كقوله: «ودهمتكم مقطعات الأمور بنفخة الصور، وبعثرة القبور، وسياقة المحشر، وموقف الحساب بإحاطة قدرة الجبار».
5- الإقناع ومن ذلك قوله: كم مرضت بيديك وعللت بكفيك، ممن تطلب له الشفاء وتستوصف له الأطباء..للإقناع بحصول الموت، والارتحال عن الدنيا والقدوم على الآخرة، وأنه لا مهرب ولا فكاك.
6- استحضار الصورة، وذلك لتعبيره بالفعل الماضي عما سيحدث في المستقبل، حتى يتصور السامع هذا الأمر الذي ينتظره، ومن ذلك قوله: فكأنما قد علقتكم مخالب المنية، وضمكم بيت التراب، ودهمتكم مقطعات الأمور.
7- لطف العبارة بحيث تستهوى السامعين ولا تنفرهم(1).
فهذه بعض النماذج من خطب ومواعظ أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه والتي انتشرت بين الناس وساهمت في تربيتهم وتهذيب نفوسهم، وتطهير قلوبهم، وكان مفعولها ساريًا في جيله والأجيال التي بعده إلى يومنا هذا.
ثالثًا: أمير المؤمنين على بن أبي طالب والشعر:
__________
(1) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (145).(1/402)
يظهر من الأخبار التي وصلتنا أن الحركة الشعرية في عهد الخلفاء الراشدين، كانت نشطة، ومعروف أن كتب الأدب لم تعتمد في الأسانيد على الموثوقين من الرواة، ولكنها تكون المصدر الوحيد للأخبار الأدبية والنقدية التي تتصل بالخلفاء الراشدين، والصحابة بعامة، والتابعين بإحسان ماعدا بعض الأراجيز التي كانت تردد في العهد النبوي وروتها كتب الحديث الشريف(1)، فالمراجع فيما يتعلق بالشعر، والشعراء في عهد أمير المؤمنين على هي كتب الأدب والأدباء، فهي غنية في هذا الجانب، ولا يختلف موقف أمير المؤمنين على رضي الله عنه من الشعر عن مواقف الراشدين الذين سبقوه إلى سدة الخلافة، فكلهم يستقون من كتاب الله وسنة رسوله، فهو يستمع إلى الشعراء ينشدون بين يديه ما يطلب له أن يسمعه من صادق القول ورفيع المعاني، وكان يعطي على الشعر إذا استساغه وأعجبه، كما مر معنا عندما قال الأعرابي:
كسوتني حُلة تبلى محاسنها فسوف ... أكسوك من حسن الثنا حُللا(2)
__________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/98).
(2) العمدة لابن رشيق (1/16).(1/403)
ولعليًّ آراء نقدية راقية في الشعر، ما زالت معايير يعتمدها النقاد في عصرنا الحاضر، فهو يقول: الشعر ميزان القول(1)، أي أن للشعر خصائص فنية يعرف بها صحيح القول من سقيمة في مقاييس أهل هذا الفن الكلامي، وإن خالف في أغراضه قيم قوم آخرين(2)، وأما أمير المؤمنين الشاعر، فقد اختلف في كثير مما ينسب إليه من شعر، وهذا الاختلاف لا يقلل من شاعريته المتمثلة فيما رجحت نسبته إليه ولا يقدم ولا يؤخر في إمامته اللغوية والأدبية، ولكن يبدو للباحث أن الشعر لم يكن غاية عنده، كما أن سيرته السياسية وما رافقها من أحداث جسام لم تكن لتسمح له بالالتفات إلى صناعة الشعر وروايته، واصطياد المعاني الجميلة واختيار القوافي الرنانة المؤثرة، ومع ذلك فقد اشتهر له شعر كثير، ونسب إليه ديوان شعر يشتمل على العديد من القصائد والمقطوعات، فيه الكثير من الأقوال المرتجلة والآراء السديدة السامية، وكان أول من شكك في نسبة بعض القصائد إليه ابن هشام، فقد روى أن عليًا كان يرتجز في أثناء بناء مسجد الرسول في المدينة:
لا يستوي من يعمر المسجدا ... يدأب فيه قائمًا وقاعدًا
ومن يُرى عن الغبار حائدًا(3)
__________
(1) المصدر السابق (1/14).
(2) الأدب في الإسلام، نايف معروف، ص (192).
(3) سيرة ابن هشام (1/497).(1/404)
ويعقب ابن هشام قائلاً: سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر عن هذا الرجز، فقالوا: بلغنا أن عليًا بن أبي طالب ارتجز به، ثم يقول: فلا يدرى أهو قائله أم غيره(1)، وفي موضع آخر يقول ابن هشام: وقد روى ابن إسحاق ثلاث قصائد منسوبة لعلى، ولم تصح له، ويرجح أنها قيلت في المعارك الإسلامية من قبل أحد المسلمين، وقد نظروا إلى معانيها الدينية فرأى الرواة أنها تناسب عليًا فنسبوها له، وأما الديوان الذي نسب إليه فيرى الدكتور نايف معروف أن أمير المؤمنين عليًا بفصاحته المعهودة وبلاغته المشهورة هو أرفع مستوى من مجموع هذا الديوان، ويغلب على الظن أنه خليط لشعراء من مستويات متفاوتة قام بجمعها بعض محبيه الذين عز عليهم ألا يكون شاعرًا، ظنًا منهم أن ذلك يرفع من قدره عند الناس، علمًا أن عليًا لم يكن بين شعراء الرسول الذين تولوا الرد على الحملة الدعائية التي شنها شعراء المشركين على الإسلام والمسلمين(2)، ولكن الأمر لم يصح أن عليًا تكلم من الشعر بشيء غير بيتين(3)، فهناك روايات عديدة جاءت تخالف هذا القول، إذ أثبت له الرواة عددًا من المقطوعات التي صحت نسبتها إليه عندهم(4).
ومن الأشعار التي نسبت إلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه:
1- في الفَرَج والشدة:
إذا اشتملت على اليأس القلوب ... وضاق بما به الصدر الرحيب
وأوطنت المكاره واطمأنت ... وأرست في أماكنها الخطوب(5)
ولم تر لانكشاف الضر وجهًا ... ولا أغنى بحيلته الأريب(6)
أتاك على قنوط منك غوث ... يمن به القريب المستجيب(7)
وكل الحادثات إذا تناهت ... فموصول بها الفرج القريب(8)
2- في الصبر:
__________
(1) المصدر السابق (1/497).
(2) الأدب في الإسلام، د. نايف معروف، ص(195).
(3) معجم الأدباء، ياقوت (5/263).
(4) الأدب في الإسلام، ص (195).
(5) الخطوب: الأمور العظيمة.
(6) الأريب: العاقل.
(7) البداية والنهاية (8/10).
(8) البداية والنهاية (8/10).(1/405)
ألا فاصبر على الحدث الجليل ... وداو جواك بالصبر الجميل(1)
ولا تجزع فإن أعسرت يومًا ... فقد أيسرت في الدهر الطويل
ولا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل
فإن العسر يتبعه يسار ... وقول الله أصدق كل قيل
فلو أن العقول تجر رزقًا ... لكان الرزق عند ذوى العقول
فكم من مؤمن قد جاع يومًا ... سيروى من رحيق السلسبيل(2)
3- في حرص الناس على الدنيا:
للناس حرص على الدنيا وتدبير ... وفي مراد الهوى عقل وتشمير
وإن أتوا طاعة الله ربهم ... فالعقل منهم على الطاعات مأسور
لأجل هذا وذاك الحرص قد مزجت ... صفاء عيشاتها همّ وتكدير
لم يرزقوها بعقل عندما قسمت ... لكنهم رزقوها بالمقادير
كم من أديب لبيب لا تساعده ... ومائق نال دنياه بتقصير
لو كان عن قوة أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير(3)
4- في الصداقة:
فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ما هو ماشاه
وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه
قياس النعل بالنعل ... إذا ما هو حاذاه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه(4)
5- في التواضع والقناعة:
حقيق بالتواضع من يموت ... ويكفى المرء من دنياه قوت
فما للمرء يصبح ذا هموم ... وحرص ليس تدركه النعوت
صنيع مليكنا حسن جميل ... وما أرزاقه عنا تفوت
فيا هذا سترحل عن قليل ... إلى قوم كلامهم السكوت(5)
6- في السر وكتمانه:
ولا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحًا
فإني رأيت غواة الرجال ... لا يتركون أديمًا صحيحًا(6)
رابعًا: من حكم أمير المؤمنين على التي سارت بين الناس:
__________
(1) الجوى: الشوق.
(2) البداية والنهاية (8/11).
(3) البداية والنهاية (8/11).
(4) البداية والنهاية (8/12).
(5) البداية والنهاية (8/12).
(6) عيون الأخبار لابن قتيبة (1/97).(1/406)
تهيأ لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه مجموعة من الأسباب من سرعة البديهة، وذلاقة اللسان، ورجحان العقل، وطهارة القلب، وصفاء النفس وعمق الإيمان، والتضلع في الدين، والقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتلقى الوحي عنه، ما مكنه من فصاحة اللسان، وجودة البيان، فأصبحت كلماته دررًا، وجمله حكمًا أعجبت ذوى العقول، فهي لأهل البلاغة مطلب، ولأهل الهداية مغنم، ففيها حيث لهم على فضائل الأعمال، وجميل الخصال وأصبحت حكمه الجميلة مادة قيمة في مجال دعوة الناس وتعليمهم، وتهذيب نفوسهم وتنوير عقولهم، وإحياء قلوبهم، لما فيها من جودة التعبير، ووضوح المعاني، وعمق التفكير، وفوق ذلك فهي تنبع من قلب تقي، وصدر نقي(1) ومن هذه الحكم على سبيل المثال ما يلي:
1- صلاة الليل بهاء في النهار(2). قال تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64].
وقال أيضًا في قيام الليل: نور المؤمن من قيام الليل(3).
2- صلاح الدين من الورع وفساده من الطمع(4).
3- طوبى لمن عمل بعلمه(5).
4- الفرصة تمر مر السحاب(6).
5- قسوة القلب من الشبع(7).
6- الشرف بالفضل والأدب، لا بالأصل والنسب(8).
7- جمال الخُلق أبهي من جمال الخَلق(9).
8- في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق(10).
__________
(1) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (275).
(2) نثر الآلي، مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (276).
(3) نثر الآلي، مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (276).
(4) نثر الآلي، مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (276).
(5) المرجع السابق، ص (277).
(6) المرجع السابق، ص (277).
(7) المرجع السابق، ص (278).
(8) الإعجاز والإيجاز للثعالبي، ص (30)، نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (226).
(9) نثر الآلي مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (228).
(10) نثر الآلي، مخطوط نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (228).(1/407)
9- المعروف كنز من أفضل الكنوز(1).
اجتمع عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه جماعة فتذاكروا المعروف، فانتهز أمير المؤمنين هذا الحديث لترغيبهم فيه وحثهم عليه فقال: المعروف كنز من أفضل الكنوز، وزرع من أزكى الزروع، فلا يزهدنكم في المعروف كفر من كفره، وجحد من جحده، فإن من يشكرك عليه ممن لم يصل إليه منه شيء أعظم مما ناله أهله منه، فلا تلتمس من غيرك ما أسديت إلي نفسك، إن المعروف لا يتم إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره وتعجيله، فإذا أصغرته فقد عظمته، وإذا سترته فقد أتممته، وإذا عجلته فقد هنأته(2).
10- لا شرف مع سوء الأدب(3).
11- لا راحة لحسود(4).
12- الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له(5).
13- ويل للباغين من أحكم الحاكمين(6).
14- من سل سيف البغي قُتل به(7).
15- للظالم البادي – غدًا – بكفه عظة(8). وهذا الترهيب مستفاد من قوله { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27].
16- إخفاء الشدائد من المروءة(9).
17- أحسن إلى المسئ تسده(10).
18- الإحسان يقطع اللسان(11).
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/210)، منهج على بن أبي طالب، ص (230).
(2) تاريخ اليعقوبي (2/210)، منهج على بن أبي طالب، ص (230).
(3) الإعجاز والإيجاز للثعالبي، ص (28).
(4) مطلوب كل مطالب من كلمات على بن أبي طالب مخطوطة نقلاً عن منهج على، ص (234).
(5) الإعجاز والإيجاز للثعالبي، ص (29)، منهج على بن أبي طالب، ص (235).
(6) المصدر نفسه، ص (35)، المصدر نفسه، ص (235).
(7) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (235).
(8) المصدر نفسه، ص (236).
(9) المروءة: هي كمال الرجولة، منهج على بن أبي طالب، ص (245).
(10) نثر اللآلئ من كلام على بن أبي طالب، نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (245).
(11) مطلوب كل طالب في شرح كلمات على بن أبي طالب، عن منهج على، ص (246).(1/408)
19- من عَذُب لسانه كثر إخوانه(1) .
20- من قل صدقة، قل صديقه(2).
21- لسانك يقتضيك ما عودته(3).
22- من طلب ما لا يعنيه فاته ما يعنيه(4)
23- صاحب الأخيار تأمن الأشرار(5).
24- جليس الخير غنيمة(6).
25- صحبة الأحمق نقصان في الدنيا وحسرة في الآخرة(7).
26- كفى أدبًا لنفسك ما كرهته لغيرك(8).
27- لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال(9).
28- خير الناس من ينفع الناس(10).
29- المرء مخبوء تحت لسانه(11).
30- اللسان معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل(12).
31- أخوك من واساك في الشدة(13).
32- قيمة كل امرئ ما يحسنه.
33- احذر صولة الكريم إذا جاع، وصولة اللئيم إذا شبع.
34- النفس مؤثرة للهوى، آخذة بالهوينى، جامعة إلى اللهو، أمارة بالسوء، مستوطنة للفجور، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتها أنضيتها، وإن أهملتها أرديتها(14).
35- العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة، والورع جنة.
36- لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرًا.
37- إياك والاتكال على الُمَنى، فإنها بضائع النوكى(15).
38- الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا.
39- الناس أعداء ما جهلوا.
40- ما هلك امرؤ عرف قدره.
41- رب كلمة سلبت نعمة.
__________
(1) منهج على بن أبي طالب ص (247).
(2) المصدر نفسه، ص (247).
(3) المصدر نفسه، ص (248).
(4) المصدر السابق ص (249)، الإعجاز والإيجاز للثعالبي، ص (29).
(5) نثر اللآلئ من كلام على بن أبي طالب ومنهج على بن أبي طالب، ص (249).
(6) نثر اللآلئ من كلام على بن أبي طالب ومنهج على بن أبي طالب، ص (249).
(7) منهج على بن أبي طالب، ص (249).
(8) المرجع السابق، ص (250).
(9) المرجع السابق، ص (250).
(10) المصدر السابق، ص (251).
(11) المصدر السابق، ص (252).
(12) أدب الدنيا والدين، ص (265).
(13) منهج على بن أبي طالب في الدعوة إلى الله، ص (253).
(14) المرتضى للندوى، ص (201).
(15) النوكي: الحمقى.(1/409)
42- الآداب حلل مجددة والفكر مرآة صافية.
43- الفقر يخرس الفطن عن حجته، والمقل غريب في بلدته.
44- إذا أقبلت الدنيا على أحد أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه(1).
45- اجمعوا هذه القلوب، والتمسوا لها طرف الحكمة، فإنها تمل كما تمل الأبدان(2).
46- بشاشة الوجه عطية ثانية(3) .
47- العفو عند المقدرة شكر للمقدرة(4).
48- إعادة الاعتذار تذكير للذنب(5).
49- أبلغ العظات النظر إلى الأموات(6).
50- ذكر الموت جلاء القلوب(7).
فهذه بعض الحكم لأمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه التي سارت بين الناس، والتي لخصت كثيرًا من تجاربه في الحياة في عبارات موجزة، غزيرة المعاني، والغايات والأهداف والمقاصد، كان لها تأثير في حياة المجتمع الذي عاش فيه والمجتمعات المتلاحقة من بعده إلى يومنا هذا، لقد كانت الحكم، والخطب والأشعار والمواعظ من وسائل أمير المؤمنين على رضي الله عنه في توجيه وترشيد وتعليم المجتمع الإسلامي.
خامسًا: حديث أمير المؤمنين على بن أبي طالب عن صفات خيار العباد، وعن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصف الصحابة الكرام:
__________
(1) المرتضى للندوي، (202).
(2) المصدر نفسه، ص (201).
(3) نثر اللآلئ في كلام على بن أبي طالب نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (238).
(4) مطلوب كل طالب نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (239).
(5) الإعجاز والإيجاز، ص (29)، نقلاً عن على بن أبي طالب، ص (239).
(6) نثر اللآلئ نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (148).
(7) منهج على بن أبي طالب، ص (149).(1/410)
1- صفات خيار العباد: سئل أمير المؤمنين على بن أبي طالب عن خيار العباد فقال: الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا غضبوا غفروا(1)، وقال: ألا وإن لله عبادًا كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين، وأهل النار في النار معذبين...شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، أنفسهم عفيفة وحوائجهم خفيفة، صبروا أيامًا قليلة لعقبى راحة طويلة، إذا رأيتهم في الليل، رأيتهم صافين أقدامهم تجرى دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما نهارهم فضلاء حلماء بررة أتقياء، كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر فيقول: مرضى وما بهم من مرض، وخولطوا، ولقد خالط القوم أمر عظيم(2).
وقال: ينبغي للمؤمن أن يكون نظره عبرة، وسكوته فكرة، وكلامه حكمة(3).
وقال: طوبى لكل عبد نومة(4)، عرف الناس، ولم يعرفه الناس، عرف الله برضوان، أولئك مصابيح الهدى، يكشف الله عنهم كل فتنة مظلمة، سيدخلهم الله في رحمة منه ليسوا بالمذاييع(5) البذر(6)، ولا الجفاة(7) المرائين(8). وكلام أمير المؤمنين على فيه تأثر واضح بقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي»(9).
__________
(1) مروح الذهب (2/431).
(2) البداية والنهاية (8/6).
(3) مروح الذهب (2/434).
(4) الخامل الذكر الذي لا يؤبه له، وقيل: الغامض في الناس الذي لا يعرف الشر وأهله.
(5) المذاييع: جمع مذياع، من أذاع الشيء إذا أمشاه والمذياع، الذي لا يكتم السر.
(6) البذر: جمع بذور وهو الذي يفشى الكلام بين الناس.
(7) الجفاء: غلظ الطبع.
(8) صفة الصفوة (1/325).
(9) المسند (1/168)، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح، مسلم (4/2277).(1/411)
2- إجابته لمن سأل عن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم -: عن عاصم بن ضمرة قال: سألنا عليًا عن تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار فقال: إنكم لا تطيقونه. قال: قلنا ما أطقنا. قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الفجر أمهل، حتى إذا كانت الشمس من ههنا، يعنى من قبل المشرق، مقدارها من صلاة العصر من ههنا، يعني من قبل المغرب قام فصلى ركعتين، ثم يمهل حتى إذا كانت الشمس من ههنا، يعنى من قبل المشرق مقدارها من صلاة الظهر من ههنا، يعنى من قبل الغرب قام فصلى أربعًا، وأربعًا قبل الظهر إذا زالت الشمس، وركعتين بعدها، وأربعًا قبل العصر، يفصل بين كل ركعتين بالتسليم على الملائكة المقربين، والنبيين، ومن تبعهم من المؤمنين والمسلمين، قال: قال على: تلك ست عشرة ركعة تطوع النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنهار، وقل من
يداوم عليها(1).
وقد بيّن أمير المؤمنين في موضع آخر هدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوتر فقال: أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول الليل وأخره وأوسطه، فانتهى وتره إلى السحر(2)، وفي بيان هدى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاته، قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم من الصلاة قال: «اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت وما أنت أعلم به منى، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت»(3).
__________
(1) مسند أحمد (2/62)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2) المصدر نفسه (2/62)، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(3) صحيح سنن أبي داود (1/283) للألباني.(1/412)
3- وصف أمير المؤمنين على رضي الله عنه للصحابة الكرام:لما أحس أمير المؤمنين على ابن أبي طالب رضي الله عنه من أصحابه شيئًا من الغفلة وقلة النشاط في الطاعة ذكرهم بشيء من سيرة أسلافهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيما رواه أبو أراكة بقوله: صليت مع على صلاة الفجر، فلما انفلت عن يمينه مكث كأن عليه كآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح صلى ركعتين ثم قلب يده فقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فما أرى اليوم شيئًا يشبههم، لقد كانوا يصبحون صفرًا شعثًا غبرًا بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله، يتراوحون بين جباهم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، وهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم، والله لكأن القوم باتوا غافلين، ثم نهض فما رُئي بعد ذلك مفترًا يضحك حتى قتله ابن ملجم عدو الله الفاسق(1).
4- تنبيه أمير المؤمنين على رضي الله عنه أصحابه على فضائل الأعمال: مما ورد له في خطبة قوله: أوصيكم بتقوى الله، فإن أفضل ما توسل به العبد الإيمان والجهاد في سبيله، وكلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقام الصلاة فإنها الملة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضة، وصوم شهر رمضان فإنه جنة من عذابه، وحج البيت فإنه منقاة مدحضة للذنب، وصلة الرحم فإنها منسأة في الأجل، محبة في الأهل، وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة، وتطفئ غضب الرب، وصنع المعروف فإنه يدفع ميتة السوء ويقي مصارع الهول، أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر(2).
__________
(1) حلية الأولياء (1/76).
(2) البداية والنهاية (7/319).(1/413)
5- معايدة المريض: عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه قال: أخذ علىّ بيدي، قال: انطلق بنا إلى الحسن نعوده، فوجدنا عنده أبا موسى فقال على (رضي الله عنه): أعائدًا جئت يا أبا موسى أم زائرًا؟ قال: لا بل عائدًا، فقال على: سمعت رسول الله، يقول: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك، حتى يمسى، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح»(1).
6- تشجيعه لابنه الحسن على الخطابة: قال أمير المؤمنين على لابنه الحسن يومًا: يا بنى ألا تخطب حتى أسمعك؟ فقال: إني أستحيي أن أخطب وأنا أراك، فذهب على حيث لا يراه الحسن، ثم قام الحسن في الناس خطيبًا، وعلى يسمع فأدى خطبة بليغة فصيحة، فلما انصرف جعل على يقول: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم(2).
7- إني لست كما تقول:قال عمرو بن مُرَّه، عن أبي البخترى قال: جاء رجل إلى علىّ فأثنى عليه، وكان قد بلغه عنه أمر، فقال: إنّي لست كما تقول، وأنا فوق ما في نفسك(3).
8- التحذير من الانقياد للشهوات: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه:إياكم وتحكيم الشهوات على أنفسكم، فإن عاجلها ذميم، وآجلها وخيم، فإن لم ترها تنقاد بالتحذير والإرهاب، فسوّفها بالتأمل والإرغاب، فإن الرغبة والرهبة إذا اجتمعتا على النفس ذلت لهما وانقادت(4).
9- إدخال السرور على المسلم: قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: إن من موجبات المغفرة إدخال السرور على أخيك المسلم(5).
10- أشد الأعمال ثلاثة: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: أشد الأعمال ثلاثة: إعطاء الحق من نفسك، وذكر الله على كل حال، ومواساة الأخ في المال(6).
سادسًا: التحذير من الأمراض الخطيرة التي حذر منها أمير المؤمنين:
__________
(1) صحيح سنن الترمذي للألباني (1/286).
(2) البداية والنهاية (8/37).
(3) تاريخ الذهبي عهد الخلفاء الراشدين، ص (646).
(4) أدب الدنيا والدين، ص (26).
(5) تنبيه الغافلين، ص (245).
(6) حلية الأولياء (1/85).(1/414)
1- جزاء المعصية:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضيق في المعيشة، والنقص في اللذة، قيل: وما النقص في اللذة؟ قال: لا ينال شهوة حلالاً إلا جاءها ما ينغصه إياها(1)، ومع هذا الترهيب والتخويف من المعصية فإن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه لا يغفل عن الترغيب في تركها، حيث قال: من كان يريد العز بلا عشيرة، والنسل بلا كثرة، والغنى بلا مال، فليتحول من ذل المعصية إلى عز الطاعة(2)، وقال: إذا رغبت في المكارم، فاجتنب المحارم(3).
2- طول الأمل واتباع الهوى: خطب أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه على منبر الكوفة، فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم طول الأمل واتباع الهوى، فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، ألا إن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل(4).
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص (402).
(2) تاريخ اليعقوبي (2/602).
(3) منهج على في الدعوة إلى الله، ص (307)، نقلاً عن سجع الحمام في حكم الإمام، ص (57).
(4) حلية الأولياء (1/76)، صفة الصفوة (1/321).(1/415)
فقد أشار أمير المؤمنين على رضي الله عنه في هذه الخطبة إلى أمرين خطيرين لهما تأثير كبير في حياة الناس وهما طول الأمل بالبقاء على قيد الحياة، فإنه يخدع الإنسان فيشغله بمشاريعه وطموحاته الدنيوية، ويمنية بتأجيل الأعمال الصالحة وينسيه الحياة الآخرة، فيتضخم عمله للدنيا ويتضاءل عمله للآخرة، ولو أن كل إنسان وضع في مخيلته أنه معرض للموت في كل ساعة لأصبح العمل للدنيا قليلاً بقدر الضرورة، ولأصبح العمل للآخرة كثيرًا لأنه هو الذي سيبقى بعد الموت، وأما اتباع الهوى فإنه يغير اتجاه صاحبه، ويجعل الهدف الأعلى في فكره هو تحقيق هوى نفسه وهوى من يعمل تحت إرادتهم، وينسى الهدف الإسلامي الأعلى الذي هو ابتغاء رضوان الله تعالى وفضله في الجنة، وبناء على تغير الأهداف فإن مناهج العمل تتغير فتصبح مناهج دنيوية يُراد بها تحقيق أهداف لا تتجاوز الحياة الدنيا، كما تتغير العلاقات والروابط، فتصبح الأخوة قائمة على المصالح الدنيوية بدلاً من الإيمان والتقوى، إلى غير ذلك مما يترتب على تغير الأهداف(1).
__________
(1) التاريخ الإسلامي للحميدى (20/276).(1/416)
3- الرياء: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: لا تعمل شيئًا من الخير رياءً، ولا تتركه حياء(1)، وقال رضي الله عنه: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أثنى عليه، وينقص إذا ذم به(2)، وقد جاءت نصوص الشرع بتسمية الرياء شركًا أصغر، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»،قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: «الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم، اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء»(3)،وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الشرك الأصغر(4).
إن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه حذّر من مرض القلب الخطير المتعلق بإرادة الإنسان وقصده، وحث الناس على إفراد الله سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة والالتزام بالسير على هدى السنة النبوية، فقد ثبت عنه أنه قال: لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة(5)، وروى عن الفضيل بن عياض أنه تلا قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، فقال: أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا على ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا، لم يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة(6) .
__________
(1) أدب الدنيا والدين، ص (110).
(2) الكبائر للذهبي، ص 145، فرائد الكلام، ص (338).
(3) مسند أحمد (5/428، 429)، إسناده حسن.
(4) الحاكم (4/329)، صححه الألباني في صحيح الترغيب (1/18).
(5) الشريعة للآجرى (2/638)، إسناده فيه ضعف.
(6) مدارج السالكين (2/89).(1/417)
إن صور الرياء متعددة منها:ما يكون بالأعمال، كمن يصلى فيطيل القيام ويطيل الركوع والسجود ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له، ومنها ما يكون من جهة القول، كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ويتغافل عنه في منزله، أو يكون الرياء من جهة الزى، كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثبات وخشنها مع تشميرها كثيرًا ليقال: عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزى ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال: عالم، أو يكون الرياء بالأصحاب والزائرين، كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا أو عابدًا ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخًا كثيرين واستفاد منهم ليباهي بذلك، أو يكون الرياء لأهل الدنيا، كمن يتبختر ويختال في مشيته، أو يصعر خده أو يلف عباءته، أو يحرك سيارته حركة خاصة، أو يكون الرياء من جهة البدن، كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة، كثير الخوف والحزن، وغير ذلك من الصور التي يرائي بها المراءون، يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد(1).
__________
(1) انظر: مختصر منهاج القاصدين، ص (215- 217)، الشرك في القديم والحديث، أبو بكر محمد زكريا (1/171، 172).(1/418)
وبالجملة فإن المحافظة على أعمال الخير والإكثار من ذكر الله وعبادته وخشيته وحده، وعدم خشية الناس في ذات الله ومحبة الصالحين وغيرها، كل هذا من الأعمال الصالحة الحسنة المطلوبة، ولكن لابد أن تكون كلها لله، لأن الرياء هو عمل العمل الصالح لغير الله، فيجب على المؤمن تصحيح نيته لله، لا أن يترك العمل الصالح خوفًا من الرياء، فلتحذر تلك الأصناف من خطورة مرض الرياء، ولتتذكر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من طلب العلم ليمارى به الفقهاء، أو يجارى به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار»(1).
إن أمير المؤمنين عليًا حذّر من الرياء، وبين أن الأعمال لا تقبل إلا إذا كانت خالصة لله وعلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد حث رضي الله عنه على التمسك بالسنة في
مناسبات عديدة، فقد قال: واقتدوا بهدى نبيكم - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أفضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أفضل السنن(2).
__________
(1) مسلم، ك الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة (2/1513).
(2) البداية والنهاية (7/319).(1/419)
4- العجب: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: الإعجاب آفة الألباب(1).إن العجب من الآفات التي تفسد الأعمال، وتهلك العباد، والعجب أحد العوارض التي تعرض للعاملين أثناء سيرهم إلى الله تعالى، والعجب داء ينافى الإخلاص ويضاده، ويجافى الذلَّ والافتقار لله تعالى، فهو سوء أدب مع الله جلا جلاله، كما أن العجب يجانب محاسبة النفس، ويعمى عن معرفة أدواء النفس وعيوبها، ومع كل ذلك فالحديث عن تلك الآفة قليل مع شدة خطرها، وعظيم ضررها، وكثرة انتشارها، قال عبد الله بن المبارك: العجب أن ترى عندك شيئًا ليس عند غيرك(2)، وفرق ابن تيمية بين الرياء والعجب فقال: والعجب قرين الرياء لكن الرياء من باب الاشتراك بالخلق، والعجب من باب الاشتراك بالنفس، فالمرائي لا يحقق قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} والمعجب لا يحقق قوله تعالى: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن حقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} خرج من الرياء، ومن حقق قوله: {وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} خرج عن الإعجاب(3).
وقال الغزالي:اعلم أن آفات العجب كثيرة، فإن العجب يدعو إلى الكبر، فيتولد عن العجب الكبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة التي لا تخفى، والعجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، وأما العبادات فإنه يستعظمها ويتبجح بها، ويمنّ على الله بفعلها وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها، والمعجب يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان..ويخرجه العجب إلى أن يثنى على نفسه ويحمدها ويزكيها(4).
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (1/571).
(2) سير أعلام النبلاء (8/407).
(3) مجموع الفتاوى (10/277).
(4) الإحياء (3/370)، باختصار.(1/420)
وقال القرافي: وسر تحريم العجب أنه سوء أدب مع الله تعالى، فإن العبد لا ينبغي له أن يستعظم ما يتقرب به إلى سيده، بل يستصغره بالنسبة إلى عظمة سيده، لا سيما عظمة الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67]، أي ما عظموه حق تعظيمه، فمن أعجب بنفسه وعبادته فقد هلك مع ربه، وهو مطلع عليه، وعرض نفسه لمقت الله تعالى وسخطه(1). ويمكن القول ابتداء أن سبب العجب أمران:
أ- الجهل بحق الله تعالى، وعدم تقدير الله تعالى حقّ قدره، وقلة العلم بأسماء الله وصفاته، وضعف التعبد بهذه الأسماء والصفات.
ب- الغفلة عن حقيقة النفس، وقلة العلم بطبيعتها، والجهل بعيوبها وأدوائها، وإهمال محاسبة النفس ومراقبتها(2).
ومن ثم فإن العلاج هو التعرف على الله تعالى، وتحقيق تعظيمه وتقديره حق قدره والقيام بالعبودية له من خلال العلم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وتعبد المولى عز وجل بها، فالخير كله بيديه، ورحمته تعالى وسعت كل شيء: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النحل:53].
قال الإمام الشافعي:إذا خفت على عملك العُجْب، فاذكر رضا من تطلب، وفي أي نعيم ترغب، ومن أي عقاب ترهب، فمن فكر في ذلك صغر عنده عمله(3).
وقال النووي:وطريقة في نفى الإعجاب أن يعلم أن العلم فضل من الله تعالى، ومنّة عارية، فإن لله تعالى ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فينبغي ألا يعجب بشيء لم يخترعه، وليس مالكًا له، ولا على يقين من دوامه(4).
__________
(1) الفروق (4/227).
(2) معالم السلوك وتزكية النفوس، عبد العزيز العبد اللطيف، ص 98.
(3) سير أعلام النبلاء (10/42).
(4) المجموع (1/55).(1/421)
قال ابن القيم: اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي مرضاة الله، مطالعًا فيه منة الله عليه به، وتوفيقه له فيه، وأنه بالله لا بنفسه، ولا بمعرفته وفكره وحوله وقوته، بل هو الذي أنشأ له اللسان والقلب والعين والأذن، فالذي منّ عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته ونظر قلبه لم يحضره العجب الذي أصله رؤية نفسه وغيبته عن شهود منة ربه وتوفيقه(1). وأما العلاج الآخر للعجب فهو معرفة النفس ومحاسبتها، قال ابن الجوزى: من تلمح خصال نفسه وذنوبها، علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو من حال غيره في شك، فالذي يُحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أعمال الآخرة، والمؤمن لا يزال يحتقر نفسه، وقد قيل لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إلىّ من أن أرى نفسي أهلاً لذلك(2)، وقال ابن حزم: من امتحن بالعجب فليفكر في عيوبه، فإن أعجب بفضائله، فليفتش عما فيه من الأخلاق الدنيئة، فإن خفيت عليه جملة حتى لا يظن أنه لا عيب فيه، فليعلم أن مصيبته إلى الأبد، وأنه أتّم الناس نقصًا، وأعظمهم عيوبًا، وأضعفهم تمييزًا، وأول ذلك أنه ضعيف العقل، جاهل، ولا عيب أشد من هذين، لأن العاقل هو من ميّز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، وإن أعجبت بآرائك، فتفكر في سقطاتك واحفظها ولا تنسها، وفي كلّ رأى قدّرته صوابًا فخرج بخلاف تقديرك، وأصاب غيرك وأخطأت أنت، وإن أعجبت بعملك، فاعلم أنه لا حصة لك فيه، وأنه موهبة من الله مجردة، وهبك إياها ربك تعالى، فلا تقابلها بما يسخطه، فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها، تولّد عليك نسيان ما علمت وحفظت، وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذمّ أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب، فإن لم يكن لك عدو، فلا خير فيك، ولا منزلة أسقط من
__________
(1) الفرائد، ص (144).
(2) صيد الخاطر، ص (250، 251).(1/422)
منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس لله تعالى عنده نعمة يحسد عليها- عافانا الله – فإن استحقرت عيوبك، ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس، وتمثل إطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف نقصك(1).
ويقول ابن القيم أثناء حديثه عن الحكم والأسرار في قضاء السيئات وتقدير المعاصي: ومنها: أن الله سبحانه إذا أراد بعبده خيرًا أنساه رؤية طاعاته ورفعها من قلبه ولسانه، فإذا ابتلى بذنب جعله نصب عينيه، ونسى طاعته وجعل همه كله بذنبه، فلا يزال ذنبه أمامه، إن قام أو قعد، أو غدا أو راح، فيكون هذا عين الرحمة في حقه، كما قال بعض السلف: إن العبد ليعمل الذنب فيدخل به الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: وكيف ذلك؟ قال: يعمل الخطيئة لا تزال نصب عينيه، كلما ذكرها بكى وندم وتاب واستغفر وتضرّع وأناب إلى الله، وذلّ له وانكسر وعمل لها أعمالاً فتكون سبب الرحمة في حقه، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يمنّ بها، ويراها، ويعتدّ بها على ربه وعلى الخلق، ويتكبر بها ويتعجب من الناس كيف لا يعظمونه ويكرمونه ويجلونه عليها، فلا تزال هذه الأمور به حتى تقوى عليه آثارها فتدخله النار(2). هذا شرح موجز وسريع لقول أمير المؤمنين على رضي الله عنه: الإعجاب آفة الألباب(3).
سابعًا: اهتمام أمير المؤمنين على بن أبي طالب بترشيد الأسواق ومواقف متنوعة مع الناس:
__________
(1) الأخلاق والسير، ص (77- 71) باختصار.
(2) مفتاح دار السعادة (1/297، 298)، مدارج السالكين (1/177).
(3) جامع بيان العلم وفضله (1/57).(1/423)
حرص أمير المؤمنين على رضي الله عنه على تفقد أحوال المتعاملين في السوق وحملهم على التعامل بالشرع الحنيف، وقد ثبت أن عليًا رضي الله عنه كان شديد العناية بالاحتساب في مجال السوق، فعن الحر بن جرموز المرادي عن أبيه قال: رأيت على بن أبي طالب رضي الله عنه يخرج من القصر وعليه قطريتان، إزاره إلى نصف الساق، ورادؤه مشمر قريبًا منه، ومعه الدرة يمشى في الأسواق ويأمرهم بتقوى الله وحسن البيع ويقول: أوفوا الكيل والميزان ولا تنقحوا(1) اللحم(2)، وعن أبي مطر قال: خرجت من المسجد، فإذا رجل ينادى من خلفي: ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك، وخذ من رأسك إن كنت مسلمًا، فمشيت خلفه، وهو مؤترز بإزار، مرتد برداء، ومعه الدرة، كأنه أعرابي بدوى، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: أراك غريبًا في هذا البلد، فقلت: أجل من أهل البصرة. فقال: هذا على ابن أبي طالب أمير المؤمنين، حتى انتهى إلى دار ابن أبي معيط وهو يسوق الإبل، فقال: بيعوا ولا تحلفوا، فإن اليمين تنفق السلعة وتمحق البركة، ثم أتى أصحاب التمر، فإذا خادمة تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: باعني هذا الرجل تمرًا بدرهم، فرده مولاي فأبي أن يقبله. فقال له على: خذ تمرك وأعطها درهمًا، فإنها ليس لها أمر، فدفعه، فقلت: أتدرى من هذا؟ فقال: لا. فقلت: هذا على بن أبي طالب أمير المؤمنين فهبت تمرها فأعطاها درهمًا. ثم قال الرجل: أحب أن ترضي عني يا أمير المؤمنين. قال: ما أرضاني عنك، إذا وفيت الناس حقوقهم. ثم مر مجتازًا بأصحاب التمر، فقال: يا أصحاب التمر، أطعموا المساكين يَرْبُ كسبكم، ثم مر مجتازًا –
__________
(1) في بعض الروايات (ولا تنفحوا) كما في الطبقات (3/28)، ومصنف ابن أبي شيبة (7/308).
(2) تنقيح العظم استخراج مخه، وتنقح شحم الناقة أي قل، ونقح الشيء أي قشرة، والمراد- والله أعلم – لا تخرجوا مخ العظام المكسو باللحم، لسان العرب (2/624)، فضائل الصحابة (2/688) إسناده صحيح رقم (938).(1/424)
ومعه المسلمون – حتى أتى إلى أصحاب السمك، فقال: لا يباع في سوقنا طاف. ثم أتى دار فرات وهي سوق الكرابيس(1).
عن زاذان قال: كان على يمشى في الأسواق وحده يرشد الضال، ويعين الضعيف، ويمر بالبياع والبقال فيفتح عليه القرآن ويقرأ: {تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا} [القصص: 83]، ثم يقول: نزلت هذه الآية بأهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من سائر الناس(2). وأخرج الخلال بسنده عن أبي سعيد قال: كان على أتى السوق فقال: يا أهل السوق، اتقوا الله وإياكم والحلف، فإن الحلف ينفق السعلة، ويمحق البركة، وإن التاجر فاجر إلا من أخذ الحق وأعطى الحق، والسلام عليكم ثم ينصرف، ثم يعود إليهم فيقول لهم مثل مقالته(3).
وعن أبي الصهباء قال: رأيت على بن أبي طالب رضي الله عنه بشط الكلأ يسأل عن الأسعار(4)، فهذا الإشراف المباشر من أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، تضمن أمورًا منها:
أ- لم تقتصر الجولات على الإشراف والتوجيه، بل تعدت ذلك إلى خدمة الناس في شئونهم، كإرشاد الضال، وإعانة الضعيف، فمن كانت هذه حاله كانت كلماته وتوجيهاته أقرب للناس، وأبلغ في نفوس السامعين.
ب- تضمن التوجيه النصح بتقوى الله سبحانه وتعالى وحسن البيع، وربما وعظهم بالقرآن الكريم، فإن من اتقى الله سبحانه وتعالى أحسن معاملته للناس في النفع لهم، والبعد عن مخادعتهم وغشهم.
جـ- منع الظلم في المعاملات، وإعادة الحق إلى أهله، لأن موالى الجارية التي اشترت التمر لم يجيزوا هذا الشراء، وهي في نفسها ليس لها أمر.
__________
(1) البداية والنهاية (8/4).
(2) الدر المنثور للسيوطى (6/444) البداية والنهاية (8/5).
(3) السنة ص (352)، تحقيق د. عطية الزهرانى ص (352).
(4) الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص (690)، شط الكلأ مكان وبالبصرة سوق الكلأ.(1/425)
د- النهى عن أصناف الغش التي تحصل في الأسواق، كنهيه عن تنقيح اللحم، وفي رواية (نفح اللحم).
هـ- بيان بعض الأحكام والآداب المتعلقة في معاملات الناس ومنها:
- النهى عن الحلف في البيع، وتعليل ذلك بأن اليمين تنفق السلعة، وتمحق البركة، كما ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الحلف منَفْقَة للسلعة، مَمْحقُة للبركة»(1).
- الحث على إطعام المساكين وترغيبهم فيه، لأنه زيادة في الكسب.
- النهى عن بيع السمك الطافي(2)، ولعل ذلك حتى لا يختلط مع المصيد الطري.
كان أمير المؤمنين يتفقد أمور التجار في حضرته، ويأمر ولاته بذلك في الولايات، ويثنى على المحسن منهم، أما من يقترف خطيئة بعد النهى، فينكل به، ويعاقبه من غير إسراف(3)، وكانت له بعض الإرشادات النافعة والنواهي الزاجرة التي تحث الناس على مكارم الأخلاق والالتزام بأحكام الشريعة وإليك بعض منها:
1- إنكاره على مزاحمة النساء الرجال في الأسواق:أنكر أمير المؤمنين علىّ على أناس لا يمنعون نساءهم من الخروج إلى الأسواق مزاحمات الكفار، فقال لهم: ألا تستحيون أو تغارون؟ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج(4).
__________
(1) البخاري. ك البيوع (2/85).
(2) هو الذي يعلو الماء ولا يرسب.
(3) الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام، ص (202).
(4) العلوج: جمع علج وهو الواحد من كفار العجم، مسند أحمد (2/254،255) قال أحمد شاكر: صحيح الإسناد.(1/426)
2- لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره: كان على رضي الله عنه يدخل السوق وبيده الدرة، وعليه عباء ويقول: يا أيها التجار، خذوا الحق، وأعطوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره، ونظر إلى رجل يقص، فقال له: أتقص ونحن قريب عهد برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأسألنك فإن أجبتني وألا جعفتك(1) بهذه الدرة، ما ثبات الدين وما زواله؟ قال: أما ثباته فالورع، وأما زواله فالطمع، قال: أحسنت، قص فمثلك من يقص(2).
3- خطورة التجارة قبل التفقه في أحكامها: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: من اتجر قبل أن يتفقه في الدين فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم، ثم ارتطم(3)، وقد كان الفاروق، رضي الله عنه، يضرب بالدرة من يقعد في السوق وهو لا يعرف الأحكام، ويقول: لا يقعد في سوقنا من لا يعرف الربا(4)، وكان يقول: لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه، وإلا أكل الربا شاء أو أبي(5)، فكل شئون الحكم كانت محل اهتمام الخلفاء الراشدين، رضي الله عنهم، لا يطغى جانب على جانب، فلا يختل الحال بين يدي الحاكم، فقد كانوا يقعّدون للتجارة القواعد التي تصلح للأسواق، وتنظم التداول، وتضمن الثبات والاستقرار، فلا غبن ولا غش، ولا احتكار ولا أسواق سوداء ولا زرقاء ولا جهل بما يجوز وما لا يجوز في عالم التجارة.
ويمكن اليوم تفقيه التجار من خلال دورات في المساجد خصوصًا التي في قلب الأسواق، ولابد من توجيه الخطاب للتجار من خلال كتيبات خاصة بهم والأشرطة الصوتية المختصرة التي تبين أحكام التجارة وتبسط المسائل المتعلقة بها والتي تبرز ما يلي:
* نماذج مختارة من التجار المسلمين المخلصين لدينهم الذين نصروا الله ورسوله بأموالهم.
__________
(1) جعفه: صرعة وضرب به الأرض.
(2) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزى (5/70).
(3) ارتطم: وقع: بستان العارفين، ص (350).
(4) نظام الحكومة الإسلامية للكتاني (2/12).
(5) المصدر نفسه (2/17).(1/427)
* بيان أهمية الآخرة بالنسبة لهم لكي يجمعوا بين خيري الدنيا والآخرة.
وعلى العلماء وطلاب العلم واجب كبير في تفقيه هذه الشريحة الكبيرة في المجتمعات، وعلى الحركات الإسلامية ألا تنسى واجبها في تعليم أبنائها من التجار وغيرهم هذا الفقه العزيز.
4- من سبق إلى موضع فهو أحق به: أثيرت قضية المحل التجاري في السوق وقضى على ابن أبي طالب رضي الله عنه في سوق الكوفة، أن من سبق إلى موضع فهو أحق به ما دام فيه ذلك اليوم، فإذا انتقل عنه، فهو لمن حلَّ فيه، قال الأصبغ بن نباته: خرجت مع على بن أبي طالب إلى السوق، فرأى أهل السوق قد حازوا أمكنتهم، فقال علي: ما هذا؟ فقالوا: أهل السوق قد حازوا أمكنتهم، فقال: ليس ذلك لهم، سوق المسلمين كُمصلَّى المسلمين، من سبق إلى شيء فهو له يومه حتى يدعه، وظلّت هذه القاعدة متَّبعة حتى ولاية المغيرة بن شعبة، فلمّا كانت ولاية زياد بن أبيه عليها عام 49هـ جعل من قعد في مكان فهو أحق به مادام فيه(1).
5- المحتكر عاص ملعون: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه في احتكار الطعام: جالب الطعام مرزوق، والمحتكر عاص ملعون(2)، وقد أمر أمير المؤمنين بتحريق الطعام المحتكر، فقد أخرج الحافظ ابن أبي شيبه عن الحكم قال: أُخبر على برجل احتكر طعامًا بمائة ألف فأمر به أن يحرق(3)، وقد ذهب ابن قدامه إلى أن الاحتكار المحرم ما اجتمعت فيه شروط ثلاثة هي:
أ- أن يشترى، فلو جلب شيئًا، أو أدخل من غلته شيئًا فادخره لم يكن محتكرًا، وهذا واضح من قول على رضي الله عنه.
ب- أن يكون المشترى قوتًا(4).
__________
(1) الأموال لأبي عبيد، ص (123)، الحياة الاقتصادية، د. بطاينة، ص (115).
(2) فقه على، قلعجى، ص (27)، مصنف عبد الرزاق (8/204)، مسند زيد، ص (245).
(3) المصنف رقم 433(6/103)، الحسبة في العصر النبوي، ص (34).
(4) وقيل: لا فرق بين القوت وغيره.(1/428)
جـ - أن يضيق على الناس بشرائه. وترهيب أمير المؤمنين علىٍّ من الاحتكار مبنى على قول رسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحتكر إلا خاطئ»(1).
6- الخسارة على المال والربح على ما اصطلحوا عليه: بين أمير المؤمنين على بن أبي طالب شيئًا من أحكام المضاربة وهي: نوع من أنواع المعاملات بين الناس، وهي دفع مال معلوم لمن يتجر به ببعض ربحه، فقال رضي الله عنه: الوضيعة على المال، والربح على ما اصطلحوا عليه(2)، والوضيعة تعنى الخسران في الشركة وهي على المال، أي على كل واحد بقدر ماله، فإن كان مالهما متساويًا في القدر(3) فالخسران بينهما نصفان، وإن كان أثلاثًا فالوضيعة تكون أثلاثًا.
7- تحريقه قرية كانت تباع فيها الخمر:كان رضي الله عنه شديد الإنكار على من باع خمرًا، فقد أمر بتحريق قرية كانت تباع فيها الخمر، فقد روى الإمام أبو عبيدة القاسم بن سلام أن عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه نظر إلى زرارة(4) فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعي زرارة، يلحم فيها، تباع فيها الخمر، فقام يمشى حتى أتاها، فقال: علىَّ بالنيران، اضرموها فيها، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضًا، قال (الراوى): فاحترقت من غربيها حتى بلغت بستان خواستا بن جبرونا(5).
8- احتسابه فيما يتعلق باللباس والهيئة: عن أبي مطر قال: خرجت من المسجد فإذا رجل ينادى خلفي: ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، وخذ من شعرك إن كنت مسلمًا(6).
__________
(1) مسلم، ك المساقاة (3/1228) والخاطئ: العاصي الآثم.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (6/4)، مصنف عبد الرزاق (8/248).
(3) المغنى (5/31).
(4) محلة في الكوفة سميت باسم بانيها زرارة بن زيد.
(5) الأموال، ص (97، 98)، الحسبة لابن تيمية، ص (60).
(6) البداية والنهاية (8/4).(1/429)
9- حبسه أهل الشر والفساد: كان رضي الله عنه يلاحق أهل الشر والفساد، فإذا وجد أحدًا منهم حبسه، فقد روى القاضي أبو يوسف عن عبد الملك بن عمير قال: كان على بن أبي طالب رضي الله عنه إذا كان في القبيلة أو القوم الرجل الداعر حبسه، فإن كان له مال أنفق عليه من ماله، وإن لم يكن له مال أنفق عليه من بيت مال المسلمين، وقال: يحبس عنهم شره وينُفق عليه من بيت مالهم(1).
10- الترهيب من عدم الإنفاق: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: بشر مال البخيل بحادث أو وارث(2)، وقال: البخيل مستعجل الفقر، يعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في العقبى حساب الأغنياء(3).
11- مناداته للصلاة: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه شديد الاهتمام بأمر الصلاة، فقد كان يمر في الطريق مناديًا: الصلاة، الصلاة، كان يوقظ بذلك الناس لصلاة الفجر، يحدثنا الحسن رضي الله عنه، عن خروجه اليوم الذي طعن فيه من بيته حيث يقول: فلما خرج من الباب نادى: أيها الناس! الصلاة الصلاة. وكذلك كان يصنع كل يوم، ومعه درته، فاعترضه الرجلان، فضربه ابن ملجم على دماغه(4).
12- الاهتمام بالطرق العامة: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يأمر بالمثاغب(5)، والكنف(6)، تقطع من طريق المسلمين(7).
__________
(1) الخراج لأبي يوسف ص (150).
(2) نثر اللآلئ نقلاً عن منهج على بن أبي طالب، ص (183).
(3) منهج على في الدعوة إلى الله، ص (183).
(4) البداية والنهاية (7/339).
(5) المثاغب: مفردها الثغب: سيل الماء في الوادي.
(6) والكنف: جمع كنيف وهو المرحاض، المصباح المنير ص (542).
(7) مصنف عبد الرزاق (1/72).(1/430)
13- ظهور بدعة القصص ومحاربة أمير المؤمنين على لها: حدثت بدعة القُصَّاص في عهد على- رضي الله عنه – فأنكرها الصحابة والتابعون، فقد أخرج محمد بن وضّاح عن موسى بن معاوية قال: حدثنا ابن مهدى عن سفيان عن عبيد الله بن نافع قال: لم يقص على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، وأول ما كان القصص حين كانت الفتنة(1) ، والقصاص هم الوعاظ الذين يعقدون مجالس للوعظ تضاهى مجالس العلم، يعظون الناس فيها بالحكايات والإسرائيليات ونحوها، مما لا أصل له أو موضوع، أو مما لا تدركه عقول العامة، وقد منعهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، لأنهم أخذوا يحدثون الناس بالغرائب والمتشابهات، وما لا تدركه عقولهم وما لا يعرفون(2)، وأذن أمير المؤمنين لمن كان متمكنًا من العلم الشرعي بأن يقص على الناس.
كانت حياة أمير المؤمنين في المجتمع دعوة للتوحيد ومحاربة للشرك، وكان حريصًا على تعليم الناس أسماء الله وصفاته وربط قلوبهم به وحده، وتذكيرهم بنعم الله وحضهم على شكرها، وقد كان رضي الله عنه مثابرًا على محو آثار الجاهلية، متخذًا جميع الوسائل الدعوية من خطابة ووعظ، وشعر وحكم، ولم يعش رضي الله عنه بعيدًا عن الناس بل عاش بينهم بأخلاقه وسمته وعلمه رضي الله عنه.
ثامنًا: ولاية الشرطة في عهد أمير المؤمنين على بن أبي طالب:
__________
(1) البدع والنهى عنها، (20).
(2) دراسات في الأهواء والفرق والبدع، ص (239).(1/431)
عندما تولى على رضي الله عنه أمر الخلافة كانت وظيفة الشرطة إحدى الوظائف المهمة المعروفة في الدولة، والقصص والآثار التي تحدثت عن دور الشرطة في عهد على رضي الله عنه كثيرة منها، ما رواه أصبغ بن نباته، أن شابًا شكا إلى على بن أبي طالب رضي الله عنه نفرًا، فقال: إنّ هؤلاء خرجوا مع أبي في سفر فعادوا ولم يعد أبي فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله: فقالوا: ما ترك شيئًا، وكان معه مال كثير، وترافعنا إلى شريح، فاستحلفهم وخلّى سبيلهم، فدعا علىّ بالشرطة، فوكّل بكلّ رجل رجلين، وأوصاهم ألا يمكنوا بعضهم يدنو من بعض، ولا يمكنوا أحدًا يكلمهم، ودعا كاتبه، ودعا أحدهم، فقال: أخبرني عن أبي هذا الفتى، أي يوم خرج معكم؟ وفي أي منزل نزلتم؟ وكيف كان سيركم؟ وبأي علة مات؟ وكيف أصيب بماله؟ وسأله عمَّن غسله ودفنه، ومن تولى الصلاة عليه، وأين دفن، ونحو ذلك، والكاتب يكتب، فكبر علىّ، وكبَّر الحاضرون والمتهمون لا علم لهم إلا أنهم ظنّوا أن صاحبهم قد أقرّ عليهم، ثم دعا آخر بعد أن غيب الأول عن مجلسه، فسأله كما سأل صاحبه، ثم الآخر كذلك، حتى عرف ما عند الجميع، فوجد كل واحد منهم يخبر بضدّ ما أخبر به صاحبه، ثم أمر بردّ الأول فقال: يا عدو الله، قد عرفت عنادك وكذبك بما سمعت من أصحابك، وما ينجيك من العقوبة إلا الصدق، ثم أمر به إلى السجن، وكبّر وكبّر معه الحاضرون، فلما أبصر القوم الحال لم يشكوا أن صاحبهم أقرّ عليهم فدعا آخر منهم، فهدده، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لقد كنت كارهًا لما صنعوا، ثم دعا الجميع فأقروا بالقصة واستدعى الذي في السجن وقيل له: قد أقر أصحابك ولا ينجيك سوى الصدق، فأقر بكل ما أقر به القوم، فأغرمهم المال، وأقاد منهم القتيل(1).
__________
(1) الطرق الحكمية، ص (49).(1/432)
فهذه القصة تحوى معان ودلالات كثيرة تفيد المحققين، وتدلّ في الوقت نفسه على وجود السجن، ورجال الشرطة(1)، هذا وقد بنى أمير المؤمنين سجنًا في الكوفة سمّاه «نافعًا» لم يكن مستوثق البناء، فكان المسجونون يخرجون منه، فهدمه وبنى بدلاً منه سجنًا سمّاه مخيسًا(2)، وقد أجرى على أهل السجون ما يقوتهم من طعامهم وأدمهم وكسوتهم في الشتاء، والصيف(3)، وكان لأمير المؤمنين على بن أبي طالب شرطة منهم، أبو الهياج الأسدى، وقيس بن سعد بن عبادة ومعقل بن قيس الرّياحى، ومالك بن خبيب اليربوعى، والأصبغ بن نباته المشاجعى، وسعيد بن سارية بن مرة الخزاعى، وكان من ضمن الوظيفة الاجتماعية للشرطة، مساعدة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وإرشاد التائه، وإطعام المساكين، وتقديم العون، وإظهار الرفق، وغير ذلك من المساعدات الإنسانية التي يراد بها وجه الله تعالى.
ومن هنا يظهر لنا أن الأمن في العصر الراشدى كان يقوم بدور حضاري في تقديم خدمات عامة للمجتمع، ولم يقتصر دوره فقط على الجانب الأمني وإن كان للجانب الأمني
الأهمية الكبرى.
__________
(1) ولاية الشرطة في الإسلام، د. نمر الحميداني، ص (107).
(2) وهذه التسمية ليست اعتباطًا بل لها غرض، فإن النافع من النفع وهو ضد الضرر..المخيس وهو التذليل والتهذيب.. التسميتان تحققان أغراض السجن.
(3) ولاية الشرطة، ص (108).(1/433)
الفصل الرابع : المؤسسة المالية والقضائية في عهد أمير المؤمنين على بن أبي طالب وبعض اجتهادا ته الفقهية
المبحث الأول : المؤسسة المالية
في عهد على بن أبي طالب رضي الله عنه لم يحدث تغيير يذكر في السياسة المالية للدولة الإسلامية، إلا أن أمير المؤمنين على رضي الله عنه رجع إلى ما كان عليه أبو بكر الصديق في التسوية في العطاء(1)، فلم يفضل أحدًا، فأعطى الموالي كما أعطى السادة(2)، وكان الخراج في بعض الأمصار موكولاً إلى الولاة أنفسهم، ففي مصر كان قيس بن سعد بن عبادة - الوالي العام- مسئولاً عن الخراج فيها، وكذلك حينما بعث على رضي الله عنه الأشتر النخعى على مصر كان في خطابه له ما يوحى أنه مع ولايته العامة كان مسئولاً عن الخراج بما يصلح أهله، فإن صلاحه وصلاحهم صلاح لمن سواهم ولا صلاح إلا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج وأهله وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ عن نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك يدرك بالعمارة ومن طلب الخراج بغير عمارة، أضر بالبلاد وأهلك العباد ولم يستقم أمره إلا قليلاً، فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب، أو إحالة أرض اغتمرها غرق، أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم.. فإن العمران محتمل ما حملته، وإنما خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنما إعوازها أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر(3).
__________
(1) الاستيعاب (3/11).
(2) على بن أبي طالب، د. على شرفي، ص (66).
(3) الولاية على البلدان (2/153إلى 163).(1/434)
فقد كانت نظرة أمير المؤمنين على رضي الله عنه إلى الخراج بما يتعدى الجباية إلى المسألة الاقتصادية برمتها، حيث يشكل الخراج المصدر الأساسي لها في ذلك الوقت، وقد اشتهر عن على رضي الله عنه تشديده في مراقبة عماله في جميع النواحي، وكان الخراج والشئون المالية من الأمور المهمة التي كان يدقق فيها أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان يبعث العيون والأرصاد ليعلم أحوالهم(1)، وقد كان لولاة البلدان صلاحيات عامة في المصروفات من ولاياتهم وبيوت أموالها، فالولاة الذين كانوا يباشرون بيت المال وعمال الخراج بأنفسهم في عهد الخلفاء عمومًا كانوا ينفقون من الأموال التي لديهم في الأوجه الشرعية في مصالح الولاية، فكانوا يستخدمون هذه الأموال في شئون الجهاد والفتوح من إعداد للسلاح والدواب ومرتبات الجند وغير ذلك من أوجه الجهاد، كما كان الولاة يقومون بصرف نفقات العمال، والموظفين في الولاية(2)، بالإضافة إلى أنهم كانوا يقومون ببعض الإصلاحات من بناء الجسور وحفر للقنوات والعيون والأنهار، وكان ذلك يستدعى الصرف مما يجبونه من ولاياتهم(3).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/98)، النظريات المالية في الإسلام، ص (155).
(2) التراتيب الإدارية للكتاني (1/393).
(3) الولاية على البلدان (2/98).(1/435)
وفي الأوقات التي تعزل فيها ولاية الخراج أو بيت المال عن الولاية العامة فإن الولاة بحكم إشرافهم العام على الولاية يطلبون من عمال الخراج الإنفاق على هذه الإصلاحات، أو يقوم الولاة بتعيين عمال خاصين بهذه المشاريع، وتصرف نفقات العمل أو التجهيز من دخل الولاية عن طريق عمال الخراج إذا كانوا مستقلين، وهكذا فإنه حتى لو عزلت مهمة (الجباية) عن الوالي كما عبرّ عنها بعض الباحثين(1) فإن النفقات مع ذلك كانت تأخذ طريقها بواسطة الولاة في كثير من الأحيان سواء للجهاد أو التعمير.
__________
(1) النظم المالية في الإسلام، ص (157)، الولاية على البلدان (2/99).(1/436)
ولقد نبه بعض الفقهاء إلى أن على الولاة إنفاق الأموال في مصالح المسلمين وعدم تجميدها، إذا إن تجميد الأموال التي أخذت بحقها وعدم صرفها في مصالح المسلمين يوازي الظلم في جمعها، فعدوا التجميد للأموال العامة من باب الظلم والتقصير من جانب الولاة(1)، قد كانت الأمصار والولايات أحق بأموالها وجباياتها من غيرها، فكان الولاة لا يعملون على ترحيل الأموال عن مناطقهم إلى العاصمة في المدينة أو الكوفة فيما بعد، إلا بعد أن يسدوا حاجة ولاياتهم من النفقات(2)، ولا شك أن ما قام به الخلفاء الراشدين خصوصًا في عهد عمر من تنظيم دقيق للشئون المالية في الولايات بما فيها من جباية- مصادر الدخل أو الواردات العامة إضافة إلى النفقات العامة- يعتبر تنظيمًا جديدًا، ولم يمنعهم ذلك من الاستفادة من خبرات من سبقوهم حيث استحدثوا الدواوين وضبطوا أمورهم المالية من مختلف جوانبها، وقد تحدثت عن المؤسسة المالية في عهد الفاروق، رضي الله عنه، بنوع من التفصيل، فمن أراد المزيد فليرجع إليها في كتابي فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد حاول بعض المستشرقين وفيهم فيليب حتى في موسوعته عن تاريخ العرب أن يقلل من شأن ما قام به الخلفاء الراشدين من تنظيم للأموال في الدولة عمومًا فقال:
__________
(1) أصول الفكر السياسي الإسلامي، فتحي عثمان، ص (43).
(2) السياسية المالية لعثمان بن عفان، قطب، ص (99).(1/437)
«والحقيقة أن الأخبار تعزو إلى عمر كثيرًا مما أحدثته السنون التي لحقت عهده من إنشاءات دعت إليها التجارب والأحوال الجديدة، وأن ما جاء به الخلفاء وعمال الأمصار الأول في صدد الخراج والجزية، وأصول جبايتها وسياسة أموال الدولة لم يكن بالشيء الخطير، فلقد أبقى الإسلام أساس الحكم وأنظمة الإدارية البيزنطية على ما كانت عليه في سوريا ومصر، ولم يفكر أرباب الأمر في الأمصار الفارسية أن يبدوا أصول الحكومة المحلية، ولم يأخذ القاتحون الضرائب إلا طبقًا لطبيعة البلاد وبمقتضى الأصول المرعية في العهد المنقرض سواء أكان بيزنطيًا أو فارسيًا، ولم يعتبروا في ذلك إذا كانت قد دانت لهم صلحًا أو أنهم فتحوها عنوة، ولا اهتدوا بتشريع أوجده عمر»(1). والكاتب هنا قد تجاهل النصوص التي وردت في استنباط عمر للخراج على الأراضي المفتوحة عنوة، وكيف أن النظام قد لقي مجادلة ومعارضة من بعض الصحابة إلى أن استقر الأمر عليه، واتفق الجميع على تنفيذه(2). وقد تولى محمد ضياء الدين الريس الرد على هؤلاء المستشرقين فيما قالوه من خلال نصوص تاريخية موثقة يخلص منها إلى أن هذه الدعوى لا أساس لها من الصحة، وأن المسلمين وفقهاءهم كانوا يفرقون بين ما أحدثه عمر، وما أحدثه غيره، بل ويفصلون تفصيلاً دقيقًا في قضايا الخراج في عهد عمر(3).
وهذه عادة المستشرقين وأذنابهم من الطعن والتنقص في عظماء الإسلام، ولكن المشكلة أنهم يجدون من الأمة من ينظر لهم بإجلال وتقدير.
وبسبب الحروب والنزاعات الداخلية تأثرت دولة الخلافة في عهد على في مؤسساتها المتعددة، كالمالية والعسكرية، ومنصب الخلافة، مما ساهم في زوال الخلافة الراشدة، وسيأتي تفصيل ذلك في محله بإذن الله.
__________
(1) تاريخ العرب، فيليب حتى (1/228).
(2) الولاية على البلدان (2/100).
(3) الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية، ص (131- 136)، نقلاً عن الولاية على البلدان (2/100).(1/438)
المبحث الثاني : المؤسسة القضائية
ولى الخلافة أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، واقترنت توليته التي نجمت عن قتل عثمان وما تبعها من أحداث شقت صف المسلمين وفرقت كلمتهم، وأصبحت مواجهة تلك الأحداث لرأب الصدع شغله الشاغل، ولم يكن هذا الصراع الدامي في عهد على رضي الله عنه مانعًا له من أن يعطى للقضاء نصيبًا من الاهتمام به وتنظيمه، ويدل على هذا رسالته(1) التي أرسلها إلى الأشتر النخعي واليه على مصر حين كانت تابعة لحكمه، وفيها يقول: ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر في الفئ إلى الحق إذا عرفه، ولا تستشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على كشف الأمور، وأصرمهم على اتضاح الحكم، ممن لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، وأولئك قليل، ثم أكثر من تعاهد قضائه، وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال عندك(2).
وفي هذه الرسالة أيضًا: أنصف الله، وأنصف الناس من نفسك، ومن خاصة أهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتّك، فإنك إلا تفعل تَظْلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله أدحض حجته، وكان لله حربًا، حتى ينزع أو يتوب. وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله، وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد(3)
__________
(1) وقائع ندوة النظم الإسلامية (1/379).
(2) شرح نهج البلاغة نقلاً عن نظام الحكم للقاسمى (2/103).
(3) المصدر نفسه (2/559).(1/439)
ونلاحظ أن هذا العهد تضمن صفات القاضي، كما تضمن حقوقه وواجباته، والذي يتأمل في الذي كتبه أمير المؤمنين على رضي الله عنه لواليه على مصر، يعجب لهذا العهد الذي كتب عام 40هـ، أو حولها، في وقت لم يكن للعرب فيه أي اتصال بالحضارات الأخرى بعد، وكيف كان العقل السليم الذي ينظر بنور الله قادرًا على تفتيق المعاني، ووضع أمور الدولة في نصابها، على خير ما نرى اليوم في الدساتير والقوانين(1).وهذه النظرات من أمير المؤمنين على في إنصاف الرعية، وتجنب ظلمها كانت فيما بعد عمادًا في تنظيم ولاية المظالم(2).
أولاً: الخطة القضائية والتشريعية في عهد الراشدين والمصادر التي اعتمدها الصحابة في ذلك العهد:
__________
(1) نظام الحكم للقاسمى (2/104).
(2) المصدر نفسه (2/560).(1/440)
قصد بهذه الخطة الطريقة التي سلكها الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام وهم يبحثون عن الأحكام الشرعية لما يحدث لهم من وقائع وقضايا في حياتهم العملية، وهي طريقة هدتهم إليها صحبتهم للرسول الكريم وتدريبهم على يديه، لذلك كان اتباع هذه الطريقة حقًا على ما جاء بعدهم. وقد لاحظنا من خلال دراستنا لعهد الخلفاء الراشدين في كتبنا عن أبي بكر وعمر وعثمان ودراستنا الحالية لعهد على رضي الله عنهم، أنهم كانوا كلما عرض لهم حادث، أو قضاء لجأوا إلى كتاب الله أولاً، فإن وجدوا فيه الحكم الشرعي للنازلة حسم الأمر، وإلا رجعوا إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا لم يجدوا فيها حلاً انتقلوا إلى الرأي بمعناه الواسع، وقد لاحظنا أن هذا الرأي كان في أول الأمر جماعيًا في غالب الأحيان، خصوصًا إذا انصب موضوعه على أمر من أمور الدولة ذات الصبغة العامة، وقد ساعد على ذلك أن كبار الصحابة كانوا مازلوا مستقرين بالمدينة يسهل جمعهم وأخذ رأيهم، وقد انبثق عن رأيهم الجماعي ما اصطلح على تسميته فيما بعد «الإجماع»، وقد كانوا يستعملون القياس، والمصلحة هي مناط التشريع، وخير دليل على هذه الخطة ما قال ميمون بن مهران حيث قال: كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضى بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب، وعَلِم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في ذلك الأمر سنة قضى بها، فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به.وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان فيه لأبي بكر قضاء به، وألا دعا رءوس المسلمين، فإن أجمعوا على شيء قضى به(1). وعن ابن مسعود قال: فمن عرض عليه قضاء بعد اليوم فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في
__________
(1) سنن الدارمي (1/58) رجال إسناده ثقات غير جعفر بن برقان صدوق، السنن الكبرى للبيهقى (10/114) وصحح إسناده ابن حجر، فتح الباري (13/3).(1/441)
كتاب الله ولا قضى به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله ولا قضى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إني أرى وإني أخاف، فإن الحلال بين، والحرام بين، وبين ذلك مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك(1)، وقد بينا في حديثنا عن المرجعية العليا لدولة أمير المؤمنين على بن أبي طالب حرصه على السير على نفس المنهج، ويتبين من هذه الآثار أن الصحابة كانوا يعتمدون في خطتهم التشريعية والقضائية على الكتاب والسنة قبل الانتقال إلى الرأي بمعناه الواسع(2).
ونحب أن نقف عند هذه الآثار لنستخلص منها بعض النتائج:
1- اتفاق الصحابة حول هذه الخطة إذ كانوا يرتبون مراحل اجتهادهم وفقههم مبتدئين بكتاب الله أولاً، ثم الانتقال إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل استخدام الرأي الجماعي ثم القياس.
2- كان للسابقة القضائية دور مهم في الخطة وهو دور جعلها تلي النصوص مباشرة.
__________
(1) أعلام الموقعين (1/62).
(2) الاجتهاد في الفقه الإسلامي...ضوابطه ومستقبله، ص (153).(1/442)
3- ومما يلفت النظر في هذه الخطة أن أبا بكر وعمر على الخصوص، لم يكونا يستشيران إلا من كان موجودًا من الصحابة بالمدينة، ولم نطلع على نص يدل على أنهما كانا يستدعيان من كان غائبًا من الصحابة قصد استشارته في أمر من الأمور الاجتهادية، مما يدل على أن الإجماع كان ينعقد باتفاق من حضر من الصحابة بصرف النظر عن رأي من كان غائبًا(1)، ويتضح لنا من خلال ما سبق من خطة الخلفاء الراشدين والصحابة في التشريع والقضاء أنهم كانوا كلما حزبهم أمر، أو عرضت عليهم قضية بادروا إلى القرآن أولاً حتى إذا لم يجدوا فيه حلاً رجعوا إلى السنة، فإذا لم يجدوا الحل، استعملوا الرأي بمعناه الواسع، سواء كان جماعيًا أو فرديًا، وقد انبثق عن آرائهم الجماعية ما سمى بالإجماع، وهو مصدر طارئ لم يكن له وجود في عصر الرسالة، وقد صنف هذا المصدر ثالث المصادر بعد الكتاب والسنة، وبما أنه لم يكن من الميسور دائمًا جمع الصحابة قصد التشاور والاتفاق على حكم معين لأسباب كثيرة، فقد لجأ الصحابة لاستعمال الرأي بصورة فردية في الفتوى والقضاء، وقد اعتمدوا الكتاب والسنة في آرائهم الفردية والجماعية، وعلى الفهم العميق لمقاصد الشريعة الهادفة إلى دفع المفاسد وجلب المصالح، واستوحوا الأحكام للحوادث التي لا نص فيها من روح النصوص ولم يقضوا مع ظواهرها، وقد استعملوا القياس منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو المصدر الرابع من مصادر التشريع ويأتي بعد الإجماع في المرتبة وإن كان سابقًا في الوجود(2).
وهذه هي المصادر التي اعتمدها الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام:
1- القرآن الكريم وهو العمدة والأساس، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه.
2- السنة وتطلق على ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطرق صحيحة.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص (153).
(2) الاجتهاد في الفقه الإسلامي. ضوابطه ومستقبله، ص (154).(1/443)
3- الإجماع ولابد أن يكون مستندًا إلى نص من كتاب أو سنة أو قياس.
4- القياس.
وكان الخلفاء الراشدون والصحابة الكرام يشرعون أحكامًا لحوادث بناء على المصلحة الواجب مراعاتها أو دفع المفسدة، فكان اجتهادهم فيما لا نص فيه فسيحًا مجاله يستع لحاجات الناس ومصالحهم(1).
ثانيًا: ميزات القضاء في العهد الراشدى:
إن القضاء في العهد الراشدى يمثل الدرجة الثانية بعد القضاء في العهد النبوي الذي يمثل الجذور والأساس، وجاء القضاء في العهد الراشدى يمثل البناء الكامل، والتنظيم الشامل من جهة، ويعطى الصورة البراقة للقضاء الإسلامي من جهة ثانية، ويعتبر أنموذجًا ومثلاً وقدوة وتحت محط الأنظار طوال العهود التالية، ويمكننا أن نشير باختصار وإيجاز إلى أهم ميزات القضاء في العهد الراشدى، وهي:
1- كان القضاء في العهد الراشدى امتدادًا لصورة القضاء في العهد النبوي، بالالتزام به، والتأسي بمنهجه، وانتشار التربية الدينية، والارتباط بالإيمان والعقيدة، والاعتماد على الوازع الديني، والبساطة في سير الدعوى، واختصار الإجراءات القضائية، وقلة الدعاوى والخصومات إذا قورنت باتساع الدولة، وتعدد الشعوب والأمصار، وحسن اختيار القضاة، وتوافر الشروط الكاملة فيهم.
2- يعتبر القضاء في العهد الراشدى صورة صحيحة، وصادقة وسليمة للقضاء الإسلامي، ولذلك صار موئل الباحثين، ومحط الأنظار للفقهاء، وصارت الأحكام القضائية والتنظيم القضائي في العهد الراشدى مصدرًا للأحكام الشرعية، والاجتهادات القضائية والآراء الفقهية في مختلف العصور، وهذا بالاتفاق – ولو أدبيًا- عند جميع العلماء والمذاهب، مع وجود الاختلاف في التدقيق والجزئيات والتفاصيل، ومن ذلك اختلاف الأئمة في حجية قول الصحابي وعدم حجيته، كما هو مقرر في علم أصول الفقه، وعلم مصطلح الحديث، وتاريخ التشريع وسيأتي الحديث عن ذلك بإذن الله.
__________
(1) المصدر نفسه، ص (159).(1/444)
3- مارس الخلفاء الراشدون، وبعض ولاة الأمصار، النظر في المنازعات وتولى القضاء بجانب الولاية، كما أولوا الاهتمام الكامل لتولى قضاء المظالم وقضاء الحسبة(1).
4- عين الخلفاء الراشدون في أكثر المدن والأقطار الإسلامية قضاة لممارسة القضاء خاصة، دون بقية السلطات، وظهر بشكل مبدئي- ولأول مرة- فصل السلطة القضائية عن بقية السلطات، وأن الولاة لا سلطان لهم على القضاة في المدن الكبرى التي تم فيها تعيين القضاة بجانب الولاة، بينما يتولى الولاة في بقية المدن والأمصار القضاء والولاية معًا وهم تحت بصر ومحاسبة الخليفة الراشد.
5- كان القضاة في العهد الراشدى مجتهدين، فينظرون في نصوص القرآن والسنة مباشرة، ويعملون فيها بما يؤدى إليه اجتهادهم، فإن لم يجدوا فيها حكم الواقعة اجتهدوا رأيهم بعد الاستئناس بما قضى به أسلافهم، واستشارة العلماء المعاصرين لهم، ثم أصدروا الحكم الذي وصل إليه اجتهادهم.
6- ظهرت مصادر جديدة للقضاء في العهد الراشدى نتيجة للمنهج السابق الذي التزموه، وصارت الأحكام القضائية هي: القرآن، والسنة الشريفة، والإجماع، والقياس، والسوابق القضائية، والرأي الاجتهادي، مع المشورة.
7- تم التنظيم الإداري الدقيق للقضاء في العهد الراشدى، وأرسل عمر وعلى- رضي الله عنهما- الرسائل الخالدة والمشهورة إلى القضاة والولاة، لتنظيم شئون القضاة، وبيان الدستور والمنهج، وتبع ذلك متابعة الخلفاء للقضاة، ومراقبتهم، وتبادل الرأي معهم، والسؤال عن أخبارهم وأقضيتهم، وطلب مراجعتهم في القضايا المهمة والمعضلة والخطيرة، وكانت هذه الميزة في أوجها في عهد عمر، رضي الله عنه، وخفت قليلاً في عهد عثمان، وضعفت في عهد على لاضطراب الأمور، وكثرة الفتن، ونشوب الحروب الداخلية، وظهور بذرة الاستقلال الذاتي في الشام وما يتبعه، مع تعدد السلطة.
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام ص (158).(1/445)
8- كانت اختصاصات القاضي في الغالب عامة وشاملة لجميع الوقائع، وكانت صلاحية القاضي واسعة، وله الحرية الكاملة في الإجراءات، ولكن ظهر في هذا العهد نواة الاختصاص الموضوعي والنوعي للقضاة، وتم تعيين قضاة للنظر في القضايا الصغيرة والبسيطة، كما تم تعيين قضاة للأحداث الجسيمة والوقائع الكبيرة، وبقى معظم الخلفاء – غالبًا- يتولون النظر في الجنايات والحدود، وقام بهذا الشأن بعض الولاة أيضًا، كما ظهر في هذا العهد تعدد القضاة في وقت واحد في المدن الكبرى والأقطار الواسعة كالمدينة المنورة، والكوفة، والبصرة، واليمن، كما ظهر قاض للعسكر لأول مرة.
9- تأكد في هذا العهد ما كان في العهد النبوي من مراقبة الأحكام القضائية، وإقرار ما وافق القرآن والسنة، وما صدر عن الرأي والاجتهاد، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وينقض ما خالف القرآن والسنة(1).
10- استحدثت في العهد الراشدى رواتب القضاة بشكل منظم، مع التوسعة على القضاة، وأقيمت دار للقضاء، وأنشئ السجن للحبس، كما ظهر- ولأول مرة- امتناع كبار الصحابة عن القضاء، كابن عمر الذي طلبه عثمان فامتنع، وكعب بن يسار بن ضَنَّة الذي طلبه عمر لتولى القضاء بمصر فأبى أن يقبل، وقيل قبله أيامًا، ثم اعتزل(2).
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام، ص (159).
(2) المصدر نفسه، ص (160).(1/446)
11- كانت إجراءات التقاضي في العهد الراشدى بسيطة وسهلة وقليلة، بدءًا من سماع الدعوى، إلى إقامة البينة والإثبات والحجج، إلى إصدار الحكم فيها، إلى التنفيذ، وكانت آداب القضاء مرعية في حماية الضعيف، ونصرة المظلوم، والمساواة بين الخصوم، وإقامة الحق والشرع على جميع الناس، ولو كان الحكم على الخليفة أو الأمير أو الوالي، وكان القاضي في الغالب يتولى تنفيذ الأحكام، إن لم ينفذها الأطراف طوعًا واختيارًا، وكان التنفيذ عقب صدور الحكم فورًا، ولكن ظهرت في العهد الراشدى أمور تنظيمية جديدة، فوجد كاتب للقاضي في عهد عمر، وظهرت الشرطة والأعوان لمساعدة القاضي والوالي في عهد عثمان، وتطور التحقيق الجنائي في عهد سيدنا على رضي الله عنه، وفرَّق بين الشهود للوصول إلى الحق وكشف الواقع حتى صار مضرب المثل(1).
ثالثًا: أشهر قضاة أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه:
أقر أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي بعض القضاة الذين ثبتت جدارتهم، وكانوا على القضاء قبله، وعين قضاة وولاة آخرين(2)، منهم:
1- شريح بن الحارث الذي كان على قضاء الكوفة، وأقره علىٌّ عليها، وكان يرزقه كل شهر خمسمائة درهم(3).
2- أبو موسى الأشعرى الذي ولاه عثمان القضاء بالكوفة، فأقره على، ثم عزله(4).
3- عبيد الله بن مسعود، الوالي والقاضي باليمن.
4- عثمان بن حنيف على البصرة.
5- قيس بن سعد على مصر، وكان شهد فتح مصر، واختط بها دارًا، ووليها لعلي ثم عزله بمحمد بن أبي بكر(5) .
6- عمارة بن شهاب على الكوفة.
7- قثم بن العباس على المدينة المنورة، سنة 37هـ، على مكة والطائف(6) .
__________
(1) المصدر نفسه، ص (160).
(2) تاريخ القضاء في صدر الإسلام، جبر محمود، ص (239).
(3) أخبار القضاة (2/227).
(4) تاريخ القضاة في الإسلام، ص (149).
(5) تاريخ الطبري (5/589).
(6) المصدر نفسه (6/71).(1/447)
8- جعدة بن هبيرة المخزومي، ثم خليد بن قرة اليربوعي على خراسان(1) .
9- عبد الله بن عباس كان واليًا لعلى على البصرة، وكان أبو الأسود الدؤلي على قضائها، وفي قول ولى عبد الله بن عباس على القضاء في البصرة عبد الرحمن بن يزيد الحُدّانى، وكان أخا المهلب بن أبي صفرة لأمه، وبقى قاضيًا عليهم أيام على بن أبي طالب، وطائفة من عمل معاوية حتى قدم زياد فعزله(2)، وقال أبو عبيدة: كان ابن عباس يفتى الناس ويحكم بينهم(3)، وإذا خرج ابن عباس عن البصرة استخلف أبا الأسود، فكان هو المفتى، والقاضي يومئذ يدعى المفتى، فلم يزل كذلك حتى قتل على سنة أربعين، ونقل عن أبى الأسود أقضية طريفة، ولما خرج أمير المؤمنين على من المدينة إلى البصرة ولى عليها عبد الله بن عباس(4).
10- سعيد بن نمران الهمدانى الذي عينه على لما قدم الكوفة، ثم عزله، ثم استقضاه مصعب ابن الزبير على الكوفة فقضى ثلاث سنوات، ثم عين ابن الزبير عبد الله بن عتبة بن مسعود(5).
11- عبيدة السلمانى، محمد بن حمزة الذي عينه علىٌّ على قضاء الكوفة بعد عزل سعيد الهمذاني، وقال له: اقضوا كما كنتم تقضون، ثم عزله وعين شريحًا، وقال الشعبي: كان شريح أعلم الناس بالقضاء، وكان عبيدة يوازي شريحًا في القضاء، وله أقضية طريقة، وكان من علماء الكوفة المشهورين، وكان شريح يستشيره ويرجع إليه(6).
12- محمد بن يزيد بن خليدة الشيباني، عينه على قاضيًا على الكوفة، وله
أقضية فيها(7).
__________
(1) تاريخ القضاء في الإسلام، ص (151).
(2) أخبار القضاة (1/288، 289).
(3) المصدر نفسه (1/288).
(4) تاريخ القضاء في الإسلام، ص(151).
(5) أخبار القضاة (2/396، 397).
(6) طبقات ابن سعد (6/10)، أخبار القضاة (2/399، 401).
(7) أخبار القضاة (1/395).(1/448)
وقد كان قضاة على في الأمصار هم ولاته على البلدان المختلفة لأن ولايتهم كانت عامة تشمل الحكم والإدارة وإقامة الحدود والإمامة والقضاء وجباية الصدقات وغيرها(1)، وكان على رضي الله عنه يطلب من ولاته التحري في تعيين القضاة، مما يدل على أنه خول لهم تعيين القضاة في البلدان التابعة لولاياتهم، مع أن الولاة- في الغالب – هم قضاة الأمصار التي يقيمون فيها، إلا أنه ورد ذكر أسماء عدد من قضاة الأمصار في عهد على، كما مر معنا، ويبدو أن ولاة الأمصار كان لهم الحق في النظر في المظالم التي يرفعها الناس ضد أحكام القضاء، وبالدرجة الأولى التي حكم فيها قضاة ولوا من قبلهم وليس من قبل الخليفة، كما كان لهم النظر في المظالم الأخرى من قبل قضاة البلدان المعينين من قبل الخليفة بحكم عموم ولايتهم(2)، إلا أنهم كانوا يرجعون إلى الخليفة في مثل هذه القضايا، ومن المعروف أن الخلفاء كانوا يفتحون أبوابهم لمن يجأر بالشكوى سواء كانت الشكوى ضد الولاة أو ضد القضاة أو عمال الخراج أو غيرهم(3).
رابعًا: الأسلوب القضائي عند أمير المؤمنين على، ونظرته للأحكام الصادرة قبله، والمؤهلين للقضاء ومكانه ومجانية الحصول على الحكم:
1- إبقاؤه على أسلوب القضاء: يظهر أن عليا بن أبي طالب رضي الله عنه كان ينوى إدخال بعض التعديلات في أسلوب القضاء وأصول المحاكمات بما يتناسب مع التطورات الجديدة التي طرأت على المجتمع، إلا أنه أرجأ ذلك إلى أن تستقر الأمور، فقد أثر عنه رضي الله عنه إنه قال: اقضوا كما تقضون حتى تكونوا جماعة، فإني أخشى الاختلاف(4).
__________
(1) قضاء أمير المؤمنين، عبد الله بن عثمان، ص (290).
(2) الأحكام السلطانية، ص (77) للماوردي.
(3) الولاية على البلدان (2/93).
(4) مصنف عبد الرزاق (11/329).(1/449)
2- عدم نقضه الأحكام الصادرة قبله: وحرصًا على استقرار الأمور فإن أمير المؤمنين كان يرى بأنه لا يحق للقاضي أن ينقض حكمًا أصدره قاض آخر، وقد كان هو – رضي الله عنه- كتب الكتاب بين أهل نجران وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فكثروا في عهد عمر حتى خافهم على الناس، فوقع بينهم الاختلاف، فأتوا عمر، فسألوه البدل، فأبدلهم، ثم ندموا، ووضع عليهم شيئًا فأبوه، فاستقالوه، فأبى أن يقيلهم، فلما ولى على أتوه فقالوا: يا أمير المؤمنين شفاعتك بلسانك وخطك بيمينك، فقال على: ويحكم إن عمر كان رشيد الأمر(1)، ولن أرد قضاء قضى به عمر(2).
3- الأهلية للقضاء:القضاء من الولايات العامة، ولذلك يشترط في القاضي ما يشترط فيمن تكون له ولاية عامة على المسلمين من العقل والبلوغ والإسلام، ويشترط في القاضي أن يكون عفيفًا عما في أيدي الناس، حليمًا لا تثيره الكلمة، ولا يغضبه التصرف النابي، عالمًا بأحكام الشريعة، وبناسخها ومنسوخها، فقد قال على بن أبي طالب لقاض: هل تعلم الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال: هلكت وأهلكت(3)، وإنما سأله على عن الناسخ والمنسوخ لأن معرفته ليس بالأمر السهل في ذلك العصر، ويشترط فيه أن يكون عالمًا بما قضى به القضاة السابقون، حتى لا يخرج عن خطهم في القضاء، حسمًا لفوضى الأحكام، وأن يكون متواضعًا لا يرى غضاضة في استشارة ذوى العلم والعقل الراجح، لأن هذه الشورى تبعده عن الخطأ في الأحكام، وأن يكون جريئًا في الحق لا يتأخر عن النطق بالحكم به، ولو أغضب ذوى السلطان، وقد جمع ذلك كله قول على رضي الله عنه: لا ينبغي أن يكون القاضي قاضيًا حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوى الألباب، لا يخاف في الله لومة لائم(4).
__________
(1) سنن البيهقى (10/120).
(2) المغنى (9/57).
(3) سنن البيهقى (10117).
(4) المغنى (9/43).(1/450)
4- مكان القضاء: على القاضي أن يختار مكان جلوسه بين المتخاصمين في وسط المدينة بحيث لا يشق على أحد الوصول إليه، ولذلك كان علىّ رضي الله عنه يأمر شريحًا- القاضي- بالجلوس في المسجد الأعظم(1) ، لييسر الوصول إليه(2).
5- مجانية الحصول على الحكم: لما كانت إقامة العدل بين الناس من أهداف الدولة الإسلامية، فإن الفقه الإسلامي يقضي بألا يقام أي حائل بين صاحب الحق وبين الحصول على حقه، ولذلك فإن المتقاضيين لايدفعان للقاضي ولا للدولة شيئًا من المال للحصول على الحكم الذي يفصل الخلاف بينهما، بل الدولة الإسلامية هي التي تتكفل بنفقات الحاكم والمحكمة، وقد كان علىّ رضي الله عنه يعطى شريحًا على القضاء رزقًا، وقد رزقه حين ولاه القضاء في الكوفة كل شهر خمسمائة درهم(3).
6- بذور المحاماة: في العهد الراشدى ظهرت بذور المحاماة، فكان على رضي الله عنه يوكل أخاه عقيلاً في المخاصمة، ولما أسن عقيل، وكل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عنه أمام القضاء، وكان يقول: ما قضى لوكيلي فلى، وما قضى على وكيلي فعلىَّ(4).
خامسًا: ما يجب على القاضي:
لكي يحقق القاضي العدل في الأحكام لابد له من مراعاة ما يلي:
1- دراسة القضية المعروضة عليه دراسة واعية: ولا يجوز له أن يتسرع في إصدار الحكم قبل الانتهاء من الدراسة، والاطمئنان إلى الحكم، ولذلك قال على لشريح: لسانك عبدك ما لم تتكلم، فإذا تكلمت فأنت عبده، فانظر ما تقضى، وفيم تقضى؟ وكيف تقضى؟ (5).
__________
(1) مسند زيد (4/137)، موسوعة فقه على بن أبي طالب، ص (506).
(2) موسوعة فقه على بن أبي طالب، ص (506).
(3) موسوعة فقه عمر، ص (506).
(4) أصول المحاكمات الشرعية، ص (70)، تاريخ القضاء في الإسلام، ص (132).
(5) كنز العمال (14433).(1/451)
2- المساواة بين الخصوم: فقد نزل على علىٍّ ضيف، فكان عنده أيامًا، فأتى في خصومة، فقال له على: أخصم أنت؟ قال: نعم، قال: فارتحل عنا، فإنا نهينا أن ننزل خصمًا إلا مع خصمه(1).
3- عدم الصياح بالمتخاصمين: ولى على بن أبي طالب رضي الله عنه أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثم عزله فقال: لم عزلتني وما خنت ولا جنيت؟ فقال: إنما رأيتك يعلو كلامك على الخصمين(2).
4- الابتعاد عن المؤثرات ومجاهدة النفس: سواء كانت هذه المؤثرات قرابة، أو مالاً، أو بغضًا أو.. فقد جاء جعدة بن هبيرة إلى على بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، يأتيك الرجلان أنت أحب إلى أحدهما من نفسه، والآخر لو يستطيع أن يذبحك لذبحك، فتقضي لهذا على هذا؟ قال: فلمزه على وقال: هذا شيء لو كان لي لفعلت، ولكن إنما ذلك شيء لله(3).
5- الشورى: وعلى القاضي أن يستشير ذوى العلم، والرأي لئلا يفلت منه حق، وقد كان على رضي الله عنه أحد أعضاء الشورى الذين يحرص الخلفاء على استشارتهم عندما تعرض عليهم مشكلة، فقد روى الخصاف في أدب القاضي أن عثمان بن عفان كان إذا جاءه الخصمان قال لهذا: ادع عليًا، وقال لهذا: ادع طلحة والزبير ونفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا جاءوا إليه قال لهما: تكلما، فإذا تكلما يقبل عليهم فيقول: ماذا تقولون؟ فإن قالوا ما يوافق قضى عليهما ولا ينظرهما بعد(4).
__________
(1) كنز العمال برقم 14429، مصنف عبد الرزاق (8/300).
(2) المغنى (9/104).
(3) فقه على بن أبي طالب، قلعجى، ص (508).
(4) شرح أدب القاضي للخصاف (1/305)، موسوعة على بن أبي طالب، ص (508).(1/452)
المبحث الثالث : من فقه أمير المؤمنين على بن أبي طالب
أولاً: في العبادات:
لم يألُ أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه جهدًا في بيان أحكام العبادات للناس، لما يتمتع به من غزارة في العلم وفقه في الدين، وما بينه للناس من أحكام العبادات يحتاج إلى سفر ضخم(1)، ولكن نشير إلى مجموعة من الأحكام في هذا الكتاب على النحو التالي:
أحكام في الطهارة:
1- يغسل من بول الجارية وينضح من بول الغلام ما لم يطعم:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: يغسل من بول الجارية، وينضح من بول الغلام ما لم يطعم(2)، والدليل على ذلك، لما بال الحسين بن على في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت لبابة بنت الحارث: يا رسول الله، أعطني ثوبك، والبس ثوبًا، غيره، قال - صلى الله عليه وسلم -: إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى(3).
2- نوم الجالس وحكمه في نقض الوضوء: أخرج عبد الرزاق في مصنفه بسنده أن عليًا، وابن مسعود، والشعبي قالوا في الرجل ينام وهو جالس: ليس عليه الوضوء(4)، ودل على ذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «وكاء السَّه العينان، فمن نام فليتوضأ»(5).
3- غسل المذى والوضوء منه: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: كنت رجلاً مذاء فأمرت رجلاً(6) أن يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - - لمكان ابنته- فسأله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: توضأ، واغسل ذكرك(7).
__________
(1) انظر على سبيل المثال: موسوعة فقه على بن أبي طالب، محمد قلعجى، فقه الإمام على، أحمد طه.
(2) صحيح سنن أبي داود للألباني (1/75) صحيح موقوف.
(3) صحيح سنن ابن ماجه (1/85) حسن صحيح.
(4) المصنف (1/131).
(5) صحيح سنن أبي داود للألباني (1/203).
(6) الرجل هو المقداد كما في رواية البخاري.
(7) مسلم، ك الحيض (1/247).(1/453)
4- قراءة القرآن من دون المصحف – على كل حال ما لم يكن جنبًا: قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرئنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنبًا(1)، وعن عامر الشعبي قال:سمعت أبا الغريف الهمدانى يقول: شهدت على بن أبي طالب بال ثم قال: اقرءوا القرآن ما لم يكن أحدكم جنبًا، فإذا كان جنبًا فلا، ولا حرفًا واحدًا(2).
5- وطء الحائض: سأل عمر رضي الله عنه عليًا: ما ترى في رجل وقع على امرأته وهي حائض؟ قال: ليس عليه كفارة إلا أنه يتوب(3)، وقد أجمعت الأمة على حرمة وطء الحائض دون خلاف(4)، لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ} [البقرة:222].
6- مباشرة الحائض: فقد سئل على – رضي الله عنه-: مالك من امرأتك إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار(5)، ودليله في ذلك عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرها رسول الله فتأتزر بإزار ثم يباشرها(6).
أحكام في الصلاة:
1- لا يقرأ القرآن راكعًا ولا ساجدًا: قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: نهاني رسول الله عن قراءة القرآن وأنا راكع، أو ساجد(7).
__________
(1) مسند أحمد (2/51) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2) مصنف عبد الرزاق (1/336).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (1/59).
(4) بداية المجتهد (1/57)، المجموع (2/359).
(5) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/155).
(6) مسلم (1/166).
(7) مسلم (1/349).(1/454)
2- من لم يصلَّ فهو كافر: سئُل أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين ما ترى في امرأة لا تصلى؟ قال: من لم يصل فهو كافر(1)، قال عبد الله بن شقيق: لم يكن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، ولأنها عبادة يدخل بها في الإسلام، فيخرج بتركها منها كالشهادة(2)، ويؤيد هذا الحكم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة»(3) .قال الإمام النووي: تارك الصلاة إن كان منكرًا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، خارج من ملة الإسلام، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلاً مع اعتقاد وجوبها- كما هو حال كثير من الناس- فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي (رحمهما الله) والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق، ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حدًا، كالزاني المحصن، ولكنه يقتل بالسيف، وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروى عن على بن أبي طالب (رضي الله عنه)، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل (رحمه الله)، وبه قال عبد الله بن المبارك، وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي، وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، والمزني صاحب الشافعي أنه لا يكفر ولا يقتل، بل يعزر ويحبس حتى يصلى(4).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (11/47)، كنز العمال (8/13).
(2) المغنى (2/44).
(3) مسلم ك. الإيمان (1/88).
(4) شرح صحيح مسلم (2/70)، المغنى (2/442- 447).(1/455)
3- إعادة الصلاة في الوقت: إذا أعاد المصلى صلاته في الوقت لفضيلة الجماعة فإن(1) الأولى فرضه والمعادة نافلة عند على، نقل ذلك عن ابن قدامه، وعن الحارث عن علىّ في الذي يصلى وحده، ثم يصلى في جماعة، قال: صلاته الأولى(2)، أي الثانية نافلة له، ودليله ما رواه أبو ذر حيث قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها، فإن أدركتها معهم فصلَّ فإنها لك نافلة»(3)، وجه الدلالة أنه سمى التي يصليها جماعة نافلة(4)، وإذا أعاد المغرب شفعها بركعة عند علىّ، فعن الحارث عن على إذا أعاد المغرب شفع بركعة(5) .
4- قضاء الفوائت: من فاتته صلاة فيجب عليه قضاؤها، ويستحب أن يقضيها على الفور عند على، وقد قال على: إذا نام الرجل عن صلاة أو نسى فليصلَّ إذا استيقظ أو ذكر(6)، وعلى هذا إجماع المسلمين دون خلاف(7)، والدليل على ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: {َأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي}»(8).
__________
(1) المغنى (2/113).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (2/276)، كنز العمال (22833).
(3) مسلم، ك المساجد رقم (240).
(4) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/177).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (2/276).
(6) المصدر نفسه (2/64).
(7) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/181).
(8) مسلم ك المساجد ومواضع الصلاة (1/477) رقم (684).(1/456)
5- صلاة التراويح: عن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليًا قام بهم في رمضان(1)، وعن إسماعيل بن زياد قال: مر على المساجد وفيها القناديل في شهر رمضان فقال: نوَّر الله على عمر قبره، كما نور علينا مساجدنا(2)، وعلى هذا إجماع مذاهب أهل السنة(3)، والحجة في ذلك ما رواه أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه»(4)، وجه الدلالة أن التراويح من القيام فهو سنة(5)، والجماعة في التراويح أفضل عند على وكان هو يصليها جماعة(6)، ويجعل للرجال إمامًا وللنساء إمامًا، فعن عرفجة الثقفي قال: كان على بن أبي طالب يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إمامًا وللنساء إمامًا، قال عرفجة: فكنت أنا إمام النساء(7)، وصلاة التراويح لها دليل في أصلها من هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -: فعن عروة بن الزبير أن عائشة- رضي الله عنهما- أخبرته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذات ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون، فاجتمع أكثر منهم، فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله فصلى الناس بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: «أما بعد فإنه لم يخف علىَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها»، فتوفى رسول الله والأمر على ذلك(8).
__________
(1) المغنى (2/169)، مصنف ابن أبي شيبة (2/395).
(2) المغنى (2/169).
(3) بداية المجتهد (1/214)، المغنى (2/165).
(4) مسلم رقم (759).
(5) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/285).
(6) المغنى (2/168).
(7) المجموع (4/34)، مصنف ابن أبي شيبة (2/222).
(8) البخاري رقم (2012).(1/457)
6- صلاة العيد في المسجد بالشيوخ والضعفاء:لما تولى أمير المؤمنين على بن أبي طالب الخلافة وصار بالكوفة، وكان الخلق بها كثيرين، قالوا: يا أمير المؤمنين، إن بالمدينة شيوخًا وضعفاء يشق عليهم الخروج إلى الصحراء فاستخلف على بن أبي طالب رجلاً يصلى بالناس العيد في المسجد، وهو يصلى بالناس خارج الصحراء، ولم يكن هذا يفُعل قبل ذلك، وعلى من الخلفاء الراشدين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى»(1)، فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين فقد أطاع الله ورسوله(2).
7- تغسيل الرجل زوجته: يجوز للرجل أن يغسل زوجته عند على إذ إنه غسل زوجته فاطمة رضي الله عنهما(3)، وعن أسماء بنت عميس قالت: أوصت فاطمة إذا ماتت ألا يغسلها إلا أنا وعلى، قالت: فغسلتها أنا وعلى(4)، وحكى إجماع الصحابة على ذلك لأن ذلك اشتهر فيهم ولم ينكروه(5)، وبه قال جمهور العلماء والحجة لهم لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك»(6).
__________
(1) سنن الترمذي في العلم (2276) حسن صحيح.
(2) الفتاوى (24/113).
(3) السيل الجرار (1/344)، المبسوط (2/71).
(4) مصنف عبد الرزاق (3/410)، المحلى (5/175).
(5) المغنى (2/252)، نيل الأوطار (4/58).
(6) سنن ابن ماجه رقم (1464)إسناده صحيح.(1/458)
8- الكفن من مال الميت:يحسب تكاليف تكفين الميت من رأس ماله إن كان له مال عند على(1). فعن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده عن على رضي الله عنه أنه قال: الكفن من رأس المال(2)، والحجة في ذلك أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه الأذخر»(3)، وجه الدلالة، أنه لو كان واجبًا على المسلمين لأخذ له من المسلمين الحاضرين ما يتم به كفنه(4).
9- كفن الرجل والمرأة وعدم المغالاة فيه: يسن أن يكفن الرجل في ثلاثة أثواب، والمرأة في خمسة أثواب عند على، نقل ذلك عنه الكاسانى وغيره(5)، ويكره المغالاة في الكفن وهو الزيادة على الثلاثة للرجل والخمسة للمرأة عند على(6)، فقد قال أمير المؤمنين على: كفن المرأة خمسة أثواب وكفن الرجل ثلاثة، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين(7).
10- غسل الشهيد وكفنه:لا يغسل الشهيد ولا يكفن عند على، فقد نقل ذلك عنه الكاسانى وغيره(8)، وروى عنه أنه لم يغسل من قتل معه في قتال مع مخالفيه ولم يأمر يتكفينهم، بل دفن عمارًا ولم يغسله(9)، وهذا قول جمهور أهل العلم إلا الحسن البصري وسعيد بن المسيب لقولهما أن الميت يجنب(10).
أحكام متعلقة بالزكاة:
__________
(1) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/305).
(2) الطبراني الأوسط (4/67) إسناده ضعيف.
(3) مسلم (2/649) رقم 940.
(4) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/306).
(5) البدائع (2/776)، المبسوط (2/72).
(6) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/307).
(7) البدائع (2/766)، المبسوط (2/72).
(8) البدائع (2/287)، فقه الإمام على بن أبي طالب (1/306).
(9) المغنى (2/534)، فقه الإمام على (1/306).
(10) البدائع (2/806)، المغنى (2/529).(1/459)
1- لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول: بيَّن أمير المؤمنين على أن حولان الحول شرط في وجوب الزكاة، لما ورد عنه رضي الله عنه قال: ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول(1)، والحول شرط لوجوب الزكاة في النقود والمواشي، وأموال التجارة، وليس بشرط في الزرع، وذلك إجماع لا خلاف فيه(2).
2- نصاب الذهب والفضة ومقدار الزكاة فيهما:بيَّن أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه أن نصاب الذهب عشرون مثقالاً، وليس فيما دونه زكاة، وما زاد فيحسبه، حيث يقول: ليس فيما دون عشرين دينارًا شيء، وفي عشرين نصف دينار، وفي أربعين دينار، فما زاد بالحساب(3)
وقال عن نصاب الفضة: ليس في أقل من مائتي درهم زكاة(4)، وقال: فإذا بلغ مائتي درهم ففيه خمسة دراهم، وإن نقص عن المائتين فليس فيه شيء، وإن زاد على المائتين فبحساب(5).
3- نصاب الإبل ومقدار الزكاة فيها: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه: في خمس من الإبل شاة إلى تسع، فإن زادت واحدة ففيها شاتان إلى أربع عشرة، فإن زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى تسع عشرة، فإن زادت واحدة ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين، فإن زادت واحدة ففيها خمس شياه(6)، فإن زادت واحدة ففيها بنت مخاض أو لبون (ذكر أكبر منها بعام) إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإن زادت واحدة ففيها حقة «طرقة الفحل» إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين من الإبل حقة، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع(7).
__________
(1) مسند أحمد (2/211) قال أحمد شاكر: إسناده صحيح.
(2) موسوعة فقه الإمام على، قلعجى، ص (295).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (3/119).
(4) المصدر نفسه (3/117).
(5) المحلى (6/61، 59)، المجموع (6/16).
(6) عند ابن قدامه في المغنى (2/579) من 20إلى 35فيها بنت مخاض.
(7) مصنف ابن شيبة (3/122).(1/460)
4- الأصناف التي تجب فيها الزكاة من الزروع:الأصناف التي تجب فيها الزكاة عند على هي الحنطة والشعير والتمر والزبيب، نقل ذلك عنه ابن حزم وغيره(1)، وقد قال على: الصدقة عن أربع: من البر فإن لم يكن بر فتمر، فإن لم يكن تمر فزبيب، فإن لم يكن زبيب فشعير(2).
5-عدم الزكاة في الخضروات والفواكه والعسل:قال أمير المؤمنين على: ليس في الخضر صدقة(3)، وفي رواية: ليس في الخضر والبقول صدقة(4)، وهو قول جمهور العلماء(5)، ولا زكاة في الفواكه عند على، فعن أبي إسحاق عن على قال: ليس في التفاح وما أشبه صدقة(6)، وعن عاصم بن ضمرة عن على قال: ليس في الخضر صدقة؛ البقل والتفاح والقثاء(7)، وهو قول كل من قال باقتصار وجوب الزكاة على الأصناف الأربعة، والحجة لهم لدخولها تحت حكم الخضروات لاشتراكه معها في عدم البقاء والادخار(8)، وأما زكاة العسل فهي غير واجبة عند على حيث قال: ليس في العسل زكاة(9).
6- صرف الزكاة لصنف واحد: يجوز إعطاء الزكاة لصنف واحد من الأصناف الثمانية، أو لشخص واحد بها عند على، فقد قال: لا بأس أن يبعث الرجل الصدقة في صنف واحد(10)، وروى عنه أنه أتى بصدقة فبعثها إلى أهل بيت واحد(11).
__________
(1) المحلى (5/212)، فقه الإمام على (1/346).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (3/438).
(3) مصنف عبد الرزاق (7188)، جمع الجوامع (2/157).
(4) سنن البيهقى نقلاً عن فقه الإمام على (1/347).
(5) فقه الإمام على (1/347).
(6) جمع الجوامع (2/95)، فقه الإمام على (1/348).
(7) مصنف عبد الرزاق (7199)، فقه الإمام على (1/348).
(8) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/345).
(9) جمع الجوامع (2/157)، فقه الإمام على (1/345).
(10) فقه الإمام على (1/352) نقلاً عن سنن البيهقى.
(11) البدائع (20/104) فقه الإمام على (1/352).(1/461)
7- إعطاء الزكاة للأصول والفروع: قال أمير المؤمنين على: ليس لولد ولا لوالد حق في صدقة مفروضة، ومن كان له ولد أو والد فلم يصله فهو عاق(1)، وحكى إجماع العلماء على هذا، وحمل من خالفه على صدقة التطوع، والحجة لهم لأن منفعتها تعود على دافع الزكاة لأنها تغنيهم عن النفقة فلا يدفعها إليهم، وقد يتخذ ذلك حيلة للتخلص من دفع الزكاة، ثم إن الزكاة والنفقة واجبان مستقلان لا يحل أحدهما مكان الآخر كالصلاة والصوم، وإن الزكاة حق لله تعالى فهي عبادة، وأما النفقة فهي حق العباد، وهي صلة القرابة(2).
أحكام متعلقة بالصيام:
1- ثبوت صيام رمضان برؤية الواحد العدل: يثبت دخول شهر رمضان عند أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه بخبر الواحد العدل، ويلزم الناس بصيامه، فعن فاطمة بنت الحسين أن رجلاً شهد عند على بن أبي طالب رضي الله عنه على رؤية هلال رمضان فصام، وأحسبه قال: وأمر الناس بالصيام(3)، وهذا الحكم مبنى على ما ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُبِّى عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا»(4)،
قال النووي: المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفى جميع الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصح، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا ثور فجوزه بعدل(5).
__________
(1) سنن البيهقى نقلاً عن فقه الإمام على (1/355).
(2) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/335).
(3) المجموع (6/315)، المغنى (3/90)، موسوعة فقه الإمام على، ص(42).
(4) مسلم (2/759).
(5) شرح صحيح مسلم (7/190).(1/462)
2- صيام الجنب: يجوز أن يصوم الجنب أي يؤخر الغسل حتى يصبح، ثم يغتسل ويتم صومه عند على، نقل ذلك عنه ابن قدامه وعن الحارث عن على قال: إذا أصبح الرجل وهو جنب فأراد أن يصوم فليصم إن شاء(1)، والدليل على ذلك ما ورد عن عائشة وأم سلمه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم(2).
3- الإفطار للشيخ الكبير: قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه في تفسيره قول الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم يفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا(3).
4- مكان الاعتكاف:عن أبي عبد الرحمن السلمي عن على قال: لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة(4)، وفي لفظ: لا اعتكاف إلا في مصر جامع(5)، ولعله قصد بذلك أن الاعتكاف لا يقام إلا في مسجد المصر الجامع الذي تقام فيه الجمعة(6).
5- ما يجوز للمعتكف: قال على: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليعد المريض وليشهد الجنازة وليأتي أهله وليأمرهم بالحاجة وهو قائم(7).
من أحكام الحج:
1- تقبيل المحرم امرأته: قال أمير المؤمنين على بن أبي طالب: من قبل امرأته وهو محرم فليهرق دمًا(8).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (2/81)، المغنى (1/137).
(2) البخاري (2/232).
(3) تفسير الطبري (2/81).
(4) مصنف عبد الرزاق (8009).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (3/91).
(6) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/386).
(7) مصنف ابن أبي شيبة (3/87)، جمع الجوامع (2/140).
(8) فتح العزيز، شرح الوجيز للرافعى الهامش المجموع (7/480).(1/463)
2- قتل المحرم للحيوان الصائل: عن مجاهد عن على في الضبع إذا عدا على المحرم فليقتله، فإن قتله قبل أن يعدو عليه فعليه شاة(1)، ودليل ذلك قوله تعالى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]، لأنه إن لم يقتله قتله فيتحقق منه الاضطرار، ثم إنه انقلب بذلك حيوانًا شريرًا فليلحق بالمؤذيات التي يجوز قتلها(2).
3- قتل الغراب:يجوز للمحرم قتل الغراب عند على، فقد قال: يقتل المحرم الغراب(3)، ودليل ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة، والعقرب، والغراب، والحديا، والكلب العقور(4).
4- الشك في الطواف: قال أمير المؤمنين: إذا طفت في البيت فلم تدر أتممت أو لم تتم، فأت ما شككت فإن الله لا يعذب على الزيادة(5).
5- النسيان في الطواف: إذا نسى الرجل فطاف أشواطًا زائدة على المسنون يضيف إليها ما يبلغه مجموع أشواط طوافين عند علىّ، قال علىّ في الرجل ينسى فيطوف ثمانية فليزد عليها ستة حتى تكون أربعة عشر ويصلى أربع ركعات(6).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (4/6).
(2) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/403).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (4/94).
(4) سنن الترمذي (1/166) حسن صحيح.
(5) مصنف ابن أبي شيبة (4/96).
(6) مصنف عبد الرزاق رقم 9814.(1/464)
6- النيابة للحج:من استطاع بماله الحج ولم يستطع ببدنه لشيخوخة أو مرض يجب عليه أن ينيب عنه غيره عند على، نقل ذلك عنه ابن حزم وغيره(1)، فقد قال في الشيخ الكبير، أنه يجهز رجلاً ينفقه فيحج عنه(2)، ودليل ذلك ما روى ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فحجى عنه»(3)، وهذا يدل على أن الاستطاعة بالمال كافية لوجوب الحج على المكلف عند على ومن معه، أما الاستطاعة بالبدن فيكفى أن يستطيع بغيره إذا وجد سواء أكان بمؤنة أو إجارة أو غيرهما(4).
7- الشك في عدد الرميات: إذا شك الحاج في عدد رمى الجمرات يعيد ما شك فيه عند على، فعن أبي مجلز أن رجلاً سأل ابن عمر فقال: إني رميت الجمرة ولم أدر رميت ستًا أو سبعًا، قال: أنت وذاك الرجل يريد عليًا، فذهب فسأله فقال: أما أنا لو فعلت في صلاتي لأعدت الصلاة، فجاء فأخبره بذلك، فقال: صدق، أو أحسن، قال الشيخ: وكأنه أراد والله أعلم لأعدت المشكوك في فعله، كذلك في الرمي يعيد المشكوك في رميه(5).
بعض الأحكام ألحقت بالعبادات:
__________
(1) المحلى (7/61)، المغنى (30/228).
(2) المحلى (7/61).
(3) مسلم (2/974) رقم (1335).
(4) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/420).
(5) سنن البيهقى (5/149) نقلاً عن فقه الإمام على (1/418).(1/465)
1- إدراك الميتة قبل موتها:إذا أُدرك الحيوان الآيل إلى الموت قبل موته بوقت قصر فذبح جاز أكله، وعلامة حياته قبل ذبحه أن يتحرك منه عضو بعد ذبحه عند علىّ(1)، فقد قال: إذا وجدت الموقوذة، والمتردية والنطيحة وما أصاب السبع فوجدت تحريك يد أو رجل فذكها وكُلْ(2)، ودليل ذلك قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ووجه الدلالة: أن قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} استثناء مما سبقه، أي إلا ما أدركتم ذكاته
فيحل أكله(3).
2- ذبائح نصارى العرب: لا يحل أكل ذبائح نصارى العرب استثناء من عموم النصارى عند على، نقل ذلك عنه الطبري وغيره(4)، وعن عبيدة السلمانى قال: لا تؤكل ذبائح نصارى العرب فإنهم لا يتمسكون من النصرانية إلا بشرب الخمر(5)، وفي رواية: لا تأكلوا ذبائح نصارى بنى تغلب فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر(6)، وقد استدل على ذلك بعدم التزامهم بتعاليم النصرانية في تحليل ما حللوا وتحريم ما حرموا فلا يعدون منهم، ولكن الله تعالى حين أحل ذبحائهم أحلها في وقت كان النصارى منحرفين عن أصل تعاليم النصرانية سواء عن عقيدتها، أو في أحكامها، فلم يمنع ذلك من تحليل ذبائحهم، فهذا ما عليه جمهور الصحابة والفقهاء(7).
__________
(1) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/456).
(2) المحلى (7/458).
(3) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/456).
(4) تفسير الطبري (6/56)، تفسير القرطبى (6/78).
(5) مصنف عبد الرزاق (10035)، تفسير الطبري (6/65).
(6) مصنف عبد الرزاق (10034)، كنز العمال (15651).
(7) تفسير الطبري (5/65)، بداية المجتهد (1/456).(1/466)
3- ذبيحة الفخر:يحرم أكل ما ذبح فخرًا عند علىّ رضي الله عنه، فعن الجارود بن أبي سبرة قال: كان رجل من بنى رياح يقال له ابن وشيل- وهو سحيم – قال: وكان شاعرًا نافرًا غالبه أبو فرزدق الشاعر بماء بظهر الكوفة على أن يعقر هذا مائة من إبله وهذا مائة من إبله إذا وردت فلما وردت الإبل الماء قاما إليها بالسيوف فجعلا يكسعان عراقيهما، فخرج الناس على الحمرات(1) يريدون اللحم، وعلىّ بالكوفة، فخرج على بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو ينادى أيها الناس: لا تأكلوا من لحومها فإنه أهل بها لغير الله. قال ابن حزم: إن رسول الله قال: «لعن الله من ذبح لغير الله»(2)، ووجه الدلالة أن الذبح لأجل الفخر مما أهل به لغير الله، فيشمله الحديث(3).
4- نجاسة البيضة داخل الدجاجة الميتة:البيضة في بطن الدجاجة الميتة نجسة عند علىّ لا يجوز أكلها سواء أصلبت قشرتها أم لا، نقل ذلك عنه ابن قدامه(4).
5- طعام المشركين والمجوس غير الذبائح: لا بأس بأكل طعام المجوس والمشركين إذا لم يكن فيها من ذبائحهم، لأن التحريم خاص بالذبائح، فقد قال أمير المؤمنين على: لا بأس بطعام المجوس إنما نهى عن ذبائحهم(5)، وفي رواية: لا بأس بأكل خبز المجوس إنما نهى عن ذبائحهم(6)، وهو قول جمهور الفقهاء(7).
__________
(1) فقه الإمام على (1/467).
(2) مسلم، ك الأضاحي، باب تحريم الذبح لغير الله (3/1567).
(3) فقه الإمام على بن أبي طالب (1/468).
(4) المغنى (1/75)، المجموع (1/245).
(5) كنز العمال (2576)، فقه الإمام على بن أبي طالب (1/476).
(6) المغنى (4/296).
(7) فقه الإمام على (1/477).(1/467)
6- ترك الشيب أبيض:يجوز ترك الشيب أبيض دون تغييره بحناء أو غيره عند على، نقل ذلك عنه ابن حجر وغيره(1)، وعن الشعبي قال: رأيت عليًا أبيض الرأس واللحية قد ملأت ما بين منكبيه(2) وعن أبي إسحاق: رأيت عليًا أصلع أبيض الرأس واللحية(3)، وعن ابن الحنيفة أن عليًا اختضب الحناء مرة ثم ترك(4).
7- اللعب بالنرد والشطرنج:لعب النرد حرام عند أمير المؤمنين علىٍّ حيث قال: لأن أقلب جمرتين أحب إلىَّ من أن أقلب كعبين(5). وكان لا يسلم على أصحاب النردشير(6)، ودليل تحريمه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لعب النردشير فكأنه صبغ يده في لحم الخنزير ودمه»(7).والشطرنج محرم عند على أيضًا نقله عنه ابن قدامه(8)، وكان يقول في الشطرنج: هو ميسر الأعاجم(9)، وفي رواية هو من الميسر(10)، وعن ميسرة بن حبيب قال: مر على بن أبي طالب على قوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، لأن يمس جمرًا حتى يطفأ خير له من أن يمسها(11)، وعن عمار بن أبي عمار قال: مر على بمجلس من مجالس تيم الله وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: أما والله لغير هذا خلقتم، أما والله لولا أن تكون سنة لضربت بها وجوهكم(12)، والحجة في هذا التحريم بين المتلاعبين هو علة الميسر المحرم بنص الكتاب فيقاس عليه(13).
__________
(1) المتقى (7/270)، فقه الإمام على (1/495).
(2) فقه الإمام على (1/495).
(3) مصنف ابن أبي شيبة (9/427).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (9/427).
(5) المصدر نفسه (8/738).
(6) إعلان السنن للتهانوى (17/464).
(7) مسلم (4/1770) رقم (2260).
(8) المغنى (10/212).
(9) إعلان السنن للتهانوى (17/464)، فقه الإمام على (1/501).
(10) إعلان السنن للتهانوى (17/464)، فقه الإمام على (1/501).
(11) المغنى (9/17).
(12) سنن البيهقى نقلاً عن فقه الإمام على (1/502).
(13) فقه الإمام على (1/502).(1/468)
8- نكاح المتعة: قال أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه: نسخ رمضان كل صوم ونسخ المتعةَ الطلاقُ والعدةُ والميراثُ(1)، وحجة على ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر(2).
9- النكاح بدون ولى: عن أبى قيس الأودى أن عليًا كان يقول: إذا تزوج بغير إذن ولى ثم دخل بها لم يفرق بينهما وإن لم يصبها فُرق بينهما(3).
10- العيوب الجسدية في المرأة: إذا وجد الرجل فيمن تزوجها عيبًا يصعب المقام معه، قال أمير المؤمنين على: إنه إذا دخل بها وجب المهر وخُير بين الطلاق والإمساك، وإن لم يدخل بها فُرق بينهما بدون مهر(4).
11- نكاح الخصى: قال أمير المؤمنين على: لا يحل للخصى أن يتزوج، فإن تزوج ولم تعلم المرأة، فُرق بينهما عند على، فقد قال: لا يحل للخصى أن يتزوج امرأة مسلمة عفيفة(5)، ودليل ذلك أن الخصاء من العيوب المنفرة التي يصعب معه الجماع أو ينعدم، فقيس على غيره من العيوب التي جاز بها التفريق(6).
12- من تزوج أختين جهلاً بأنهما أختان: من تزوج امرأة ثم تزوج أخرى فظهر أنهما أختان يفارق التي تأخر زواجها عند على، فعن ابن جريج قال: أُخبرت عن على أنه قال في رجل تزوج امرأة فأصابها ثم انطلق إلى أرض أخرى فتزوج امرأة فأصابها، فإذا هي أختها فقضى أنه يفارق الآخرة ويراجع الأولى، غير أنه لا يراجع الأولى حتى تقضى هذه عدتها(7)، وهو قول جمهور فقهاء المذاهب(8)، والحجة لهم: أن نكاح الأول وقع صحيحًا دون الثانية، فإنه باطل لا ينعقد(9).
__________
(1) فقه الإمام على (2/509).
(2) مسلم، ك النكاح (2/1027) رقم (1407).
(3) مصنف عبد الرزاق (6/196).
(4) كنز العمال (45664)، مصنف عبد الرزاق (10677)، فقه الإمام على (2/535).
(5) مصنف عبد الرزاق (10719).
(6) فقه الإمام على بن أبى طالب (2/536).
(7) مصنف عبد الرزاق (10517).
(8) المدونة (2/280)، المغنى (6/2581).
(9) فقه الإمام على بن أبى طالب (2/562).(1/469)
13- تحريم وطء الزوجة في دبرها:وطء الزوجة في دبرها حرام عند علىّ، نقل ذلك عنه ابن قدامه(1)، فعن أبى المعتمر قال: نادى علىّ على المنبر فقال: سلوني، فقال رجل: أتؤتى النساء في أدبارهن؟ فقال: سفلت سفل الله بك، ألم تر أن الله تعالى يقول: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:28]، وروى ذلك عن عبد الله ابن عباس وعبد الله بن عمرو وأبى هريرة، وبه قال سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة وهو قول أبى حنيفة والشافعي وأحمد والمالكية والظاهرية(2)، ودليل التحريم، قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ملعون من أتى امرأته في دبرها»(3)، وجه الدلالة: أن النهى عن الشيء وترتيب اللعن عليه يدل على التحريم(4).
__________
(1) المغنى (7/22).
(2) المغنى (7/22)، المحلى (7/69)، تفسير القرطبى (3/93).
(3) سنن أبى داود (2/256)، الجامع الصغير (2/539).
(4) فقه الإمام على بن أبي طالب (2/568).(1/470)
14- عدة الحامل المتوفى عنها زوجها:إذا كانت المرأة حاملاً وتوفى زوجها فوضعت قبل أن تنقضى عدتها فعند علىًّ أنها تعتد أبعد الأجلين، أي عدة الحمل، إذا لم تضع قبل عدة المتوفى عنها زوجها، فإن وضعت قبل ذلك تعتد أربعة أشهر وعشرًا، نقل ذلك عن ابن رشد وغيره(1)، وعن عبد الرحمن بن معقل قال: شهدت عليًا سأله رجل عن امرأة توفى عنها زوجها وهي حامل قال: تتربص أبعد الأجلين(2)، وعن الشعبي كان يقول: أجل كل حامل آخر الأجلين(3)، وقد جمع أمير المؤمنين على رضي الله عنه بين قول الله تعالى: {أُولاَتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة:234]، إذ بينهما عموم وخصوص فلا يترجح العمل بأحدهما دون الآخر، فيعمل بالاثنين للخروج من الظن إلى اليقين والتخلص من التعارض(4).
والراجح أن عدتها وضع الحمل في كلتا الحالتين، فقد صح عن عبد الله بن عتبة أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك، فقال لها: مالي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح؟ إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علىّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزوج إن بدا لي(5).
__________
(1) بداية المجتهد (2/95)، نيل الأوطار (8/77).
(2) مصنف ابن أبى شيبة (4/300).
(3) المصدر نفسه (4/298).
(4) سبل السلام (3/198).
(5) البخاري رقم (5318)، مسلم (1484).(1/471)
وهذا قول جمهور علماء المسلمين. وقيل: حصل الإجماع على ذلك بعد سماع هذا الحديث(1)، وقال الشعبي: ما أصدق أن على بن أبي طالب كان يقول عدة المتوفى عنها زوجها آخر الأجلين(2)، ولعل عليًا قال بذلك لعدم بلوغه حديث سبيعة وإلا فلا يخالف على الصحيح الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -(3).
بعض الأحكام المتعلقة بالمعاملات المالية:
1- جوائز السلطان:قال أمير المؤمنين على رضي الله عنه: لا بأس بجوائز السلطان، ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام(4)، وقال أيضًا: لا تسأل السلطان شيئًا، فإن أعطاك فخذ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من الحرام(5).
2- الهدية لرفع الظلم وأخذ الحق: من نصر شخصًا في حق أو دفع عنه ظلمًا لا يجوز له أن يقبل هدية من نصره أو رفع عنه الظلم عند على، نقل ذلك عنه ابن حزم(6).
3- عدم ضمان العارية:لا يضمن المستعير العارية إذا تلفت بدون تعد عند على(7)، فقد قال علىّ: ليست العارية مضمونة إنما هو معروف إلا أن يخالف فيضمن(8).
4- عدم ضمان الوديعة: الوديعة أمانة بيد المودع عنده، فإذا تلفت عنده من غير جناية فلا ضمان عليه عند علىّ، فقد قال رضي الله عنه: لا يضمن صاحب العارية ولا الوديعة(9).
__________
(1) المغنى (7/473)، فقه الإمام على (2/716).
(2) سبل السلام (3/198).
(3) فقه الإمام على بن أبي طالب (2/617).
(4) المغنى (6/444)، فقه الإمام على (2/716).
(5) المغنى (6/444).
(6) المحلى (9/129).
(7) فقه الإمام على بن أبي طالب (2/721).
(8) مصنف عبد الرزاق (4788).
(9) المصدر نفسه (14786).(1/472)
5- بيع الغنيمة للكفار: لا يجوز بيع ما غنمه المسلمون من أموال الكفار في الحرب إلى الكفار أنفسهم عند على رضي الله، فعن أم موسى قالت: أتى على بن أبي طالب بآنية مرصعة بالذهب من آنية العجم فأراد أن يكسرها ويقسمها بين المسلمين، فقال ناس من الدهاقين: إن كسرت هذه كسرت ثمنها، ونحن نغلي لك بها، فقال على: لم أكن لأرد لكم ملكًا نزعه الله منكم فكسرها وقسمها بين الناس(1)، وقد فعل أمير المؤمنين ذلك حتى لا تذكرهم بأمجادهم أو تعود بالنفع عليهم.
6- تضمين الصناع:وذلك حفاظًا لأموال الناس من الضياع، قال الشاطبى: إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع، قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: لا يصلح الناس إلا ذاك(2)، وفي هذا مقصد من مقاصد الشريعة وهو حفظ الأموال من الضياع(3)، وفي مصنف عبد الرزاق أن عليًا رضي الله عنه ضمن الخياط والصباغ، وأشباه ذلك
احتياطًا للناس(4).
__________
(1) فقه الإمام على بن أبي طالب (2/752).
(2) الاعتصام (2/19).
(3) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص (602).
(4) مصنف عبد الرزاق (8/217)، موسوعة على بن أبي طالب، ص (22).(1/473)
7- عقد الذمة وعدم التشديد في الجباية عليهم:قال أمير المؤمنين على: لا يقبل من مشركى العرب إلا الإسلام أو السيف، أما مشركو العجم فتؤخذ منهم الجزية، وأما أهل الكتاب من العرب والعجم فإن أبوا أن يسلموا وسألونا أن يكونوا أهل ذمة قبلنا منهم الجزية(1)، وعن على أنه قال: إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا(2)، وكان رضي الله عنه يستعمل الرفق في طريقة أخذها واليسر في مقدارها، فعن عبد الملك بن عمير قال: أخبرني رجل من ثقيف قال: استعملني على بن أبي طالب، فقال: لا تضرين رجلاً سوطًا في جباية درهم ولا تبيعن لهم رزقًا ولا كسوة شتاء ولا صيف، ولادية يعملون عليها، ولا تقم رجلاً قائمًا في طلب درهم، قال: قلت: يا أمير المؤمنين إذًا أرجع كما ذهبت من عندك، قال: وإن رجعت كما ذهبت، إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو. يعنى الفضل(3).
ثانيًا: في الحدود:
1- عقوبة المرتد:قال أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا، فإن عاد وألا قتل(4). وحجة قتله: ما روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بدل دينه فاقتلوه»(5)، وأما دليل استتابته فما روى عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استتاب رجلاً ارتد عن الإسلام أربع مرات(6).
وروى عن على في استتابة الزنديق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر قولان هما:
أ- لا فرق في الاستتابة بين من أظهر الردة، وبين الزنديق الذي أظهر الإسلام وأبطن الكفر، وقامت عليه البينة بذلك(7).
__________
(1) فقه الإمام على(2/756).
(2) المغنى (8/375) فقه الإمام على (2/756).
(3) كنز العمال (14346)، المغنى (8/537).
(4) مصنف ابن أبي شيبة (10/138).
(5) البخاري رقم (3017).
(6) مجمع الزوائد (6/262) فيه ضعف.
(7) المغنى (8/126)، موسوعة فقه على بن أبي طالب، ص (273).(1/474)
فقد روى عبد الرزاق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى على عن مسلمين تزندقا فكتب إليه: إن تابا وإلا فاضرب أعناقهما(1).
ب- يستتاب من أظهر الردة ولا يستتاب الزنديق، فقد روى الأثرم بإسناده إلى على (رضي الله عنه)، أنه أُتى برجل عربي قد تنصر، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله، وأُتى برهط يصلون وهم زنادقة وقد قامت عليهم بذلك الشهود العدول، فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا الإسلام، فقتلهم ولم يستتبهم، قال: أتدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا، وقد قامت عليهم البينة(2).
وأما المرأة المرتدة فقد ورد فيها عند على قولان:
أ- لا فرق بينها وبين الرجل في حكم القتل، وقد روى هذا القول أيضًا عن أبي بكر رضي الله عنه، وقال به الحسن والزهري والنخعى ومكحول وحماد ومالك والليث والأوزاعى والشافعي وإسحاق(3).
ب- المرأة تسترق ولا تقتل، وهذا القول قال به الحسن وقتادة، لأن أبا أبا بكر استرق نساء بنى حنيفة وذراريهم وأعطى عليًا منهم امرأة فولدت محمد ابن الحنيفة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة فلم ينكر، فكان إجماعًا(4)، كما أن قصة بعث على إلى بنى ناجية دليل على هذا الرأي، وسيأتي الحديث لاحقًا وفيها: وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم(5).
وقد قتل أمير المؤمنين على المرتدين بطرق مختلفة حسب حال كل منهم على النحو التالي:
أ- ضرب العنق بالسيف: كما في جواب على بن أبي طالب رضي الله عنه لمحمد بن أبي بكر عندما سأله عن مسلمين تزندقا؟ فقال: فأما اللذان تزندقا، فإن تابا، وإلا فاضرب أعناقهما(6).
__________
(1) المصنف (7/342) (10/170).
(2) المغنى (8/4141)، موسوعة فقه على بن أبي طالب، ص (273).
(3) المغنى (8/123).
(4) المغنى (8/123)، فتح الباري (12/268).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (10/144).
(6) مصنف عبد الرزاق (8/359).(1/475)
ب- الضرب حتى الموت: ففي مصنف ابن أبي شيبة أن عليًا أُتى برجل نصراني أسلم ثم تنصر، فسأله عن كلمة فقال له، فقام إليه علىّ فرفسه برجله، فقام الناس إليه فضربوه حتى قتلوه(1).
جـ- الإحراق بعد القتل: كما في قصة المستورد العجلي حيث أسلم ثم ارتد، فإن عليًا رضي الله عنه أحرقه بعد أن قتله، ولعل عليًا رضي الله عنه أحرقه لما خاف أن ينبش قومه جثته، بعد أن رفض على تسليمها مقابل مبلغ من المال بذلوه له(2).
د- القتل بالإحراق:كما في قصة على رضي الله عنه، مع السبيئة كما سبق بيانه(3).
وقتل المرتد فيه حفظ لأهل الدين، ومن مقاصد الشريعة الغراء حفظ الدين، فقد لاحظنا حرص الخلفاء الراشدين على تنفيذ أحكام الله في أهل الأهواء والخارجين عن الدين، وإنزال العقوبة المناسبة بهم، ومن أعظمها قتل المرتدين وقتالهم، كما فعل الخلفاء الراشدين وهذا تنفيذ لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(4).
وقال ابن تيمية: فإنه لو لم يقتل ذلك – يعنى المرتد- لكان الداخل في الدين يخرج منه فقتله حفظ لأهل الدين، والدين، فإن ذلك يمنع من النقص ويمنعهم من الخروج عنه(5).
2- حد الزنا:
__________
(1) المحلى لابن حزم (11/190).
(2) موسوعة فقه على بن أبي طالب ص (275).
(3) منهج على بن أبي طالب، ص(275).
(4) البخاري رقم (6878).
(5) مجموع الفتاوى (20/102).(1/476)
أ- قصة رجم:قال الشعبي: كان لشراحة زوج غائب بالشام، وإنها حملت، فجاء بها مولاها إلى أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: إن هذه زنت واعترفت، فجلدها يوم الخميس مائة جلدة، ورجمها يوم الجمعة، وحفر لها إلى السرة، وأنا شاهد، ثم قال: إن الرجم سنة سنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، ولو كان شهد على هذا أحد لكان أول من يرمى الشاهد بشهادته، ثم يتبع شهادته حجره، ولكنها أقرت، فأنا أول من يرميها، فرماها بحجر، ثم رمى الناس وأنا منهم، فكنت والله فيمن قتلها، وفي لفظ لأحمد والبخاري أن عليًا قال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -(1)، وهذا الحكم القضائي اجتهاد لعلى وهو مختلف فيه بين الفقهاء، وقال الجمهور بعدم الجمع بين الجلد والرجم(2).
وجاء في رواية: فحفر لها حفرة بالسوق فدار الناس عليها أو قال بها، فضربهم بالدرة، ثم قال: ليس هكذا الرجم إنكم إن تفعلوا هذا يفتك بعضكم بعضًا ولكن صفوا كصفوفكم للصلاة ثم قال: أيها الناس، إن أول الناس يرجم الزاني الإمام إذا كان الاعتراف، وإذا شهد أربعة شهداء على الزنا، أول الناس يرجم الشهود بشهادتهم عليه، ثم الإمام ثم الناس، ثم رماها بحجر وكبر، ثم أمر الصف الأول فقال: ارموا، ثم قال: انصرفوا، وكذلك صفًا صفًا حتى قتلوها(3).
ب- تأجيل رجم الحامل: المرأة الحامل إذا ثبت عليها الزنا لا يقام عليها الحد حتى تضع حملها عند على(4)، فعنه رضي الله عنه قال: إن خادمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فجرت، فأمرني أن أقيم عليها الحد، فوجدتها لم تجف من دمها، فأتيته فذكرت له، فقال: «إذا جفت من دمها فأقم عليها الحد، أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم»(5)، وقد قام بهذا الحكم في خلافته.
__________
(1) البخاري، ك الحدود (4/253).
(2) تاريخ القضاء في الإسلام، ص (152).
(3) مصنف عبد الرزاق 13335، فقه الإمام على (2/782).
(4) فقه الإمام على (2/783).
(5) مسند الإمام أحمد رقم (1137) صحيح لغيره.(1/477)
جـ - المستكرهة على الزنا: لا حد على المستكرهة على الزنا عند على ولها مهر المثل بذلك(1)، فقد قال في البكر تستكره على نفسها أن للبكر مثل صداق إحدى نسائها وللثيب مثل صداق(2) مثلها».
د- زنا المضطرة:إذا اضطرت امرأة على الزنا لإنقاذ حياتها من الموت فلم يدفع إلا به سقط عنها الحد عند على(3)، فقد جاء في رواية: أن امرأة أتت عمر فقالت: إني زنيت فارجمني فردها حتى شهدت أربع شهادات فأمر برجمها، فقال على: يا أمير المؤمنين، ردها فاسألها ما زناها لعل لها عذرًا؟ فردها فقال: ما زناك؟ قالت: كان لأهلي إبل فخرجت في إبل أهلي فكان لنا خليط(4)، فخرج في إبله فحملت معي ماء ولم يكن في إبلي لبن، وحمل خليطنا ماء وكان في إبله لبن، فنفد مائي فاستسقيت فأبى أن يسقيني، حتى أمكنه من نفسي، فأبيت حتى كادت نفسي تخرج أعطيته، فقال على: الله أكبر، فمن اضطر غير باغ ولا عاد، أرى لها عذرًا(5)، وزيد في رواية: فأعطاها عمر شيئًا وتركها(6)، وقد ذكر الفقهاء هذه الحادثة ضمن الإكراه على الزنا فلم يختلفوا في سقوط الحد بالإكراه(7)، ولكن الإكراه غير الاضطرار لأن الاضطرار فيه الإقدام على الفعل اختيارًا، أما الإكراه فلا إقدام فيه وإنما يساق إلى الفعل جبرًا، بدليل أن الله تعالى ذكر الإكراه مستقلا عن الاضطرار كما في قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] وقوله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} [النور:33]، وقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173].
__________
(1) فقه الإمام على (2/786).
(2) مصنف عبد الرزاق (13607).
(3) فقه الإمام على (2/788).
(4) خليط: الشريك الذي يخلط ماله بمال غيره.
(5) كنز العمال 13596، مغنى المحتاج (4/145).
(6) المغنى (8/187).
(7) إعلان السنن (11/671)، المغنى (8/187).(1/478)
وقد استدل على رضي الله عنه بالآية الأخيرة، ووجه الدلالة أن الاضطرار لإنقاذ الحياة يرفع العقوبة الأخروية عن المضطر، فهو يسقط العقوبة الدنيوية من باب أولى في حقوق الله تعالى، ويؤخذ من هذه المسألة: عمل على بقاعدة الضرورات تبيح المحظورات(1).
هـ- درء الحدود بالشبهات:تدرأ الحدود بالشبهات عند علىّ، فعن الضحاك بن مزاحم عن على قال: إذا بلغ في الحدود لعل وعسى فالحد معطل(2)، وعن على أن امرأة أتته فقالت: إني زنيت، فقال: لعلك أتيت وأنت نائمة في فراشك أو أكرهت؟ قالت: أتيت طائعة غير مكرهة، قال: لعلك غصبت على نفسك، قالت: ما غصبت، فحبسها فلما ولت وشب ابنها جلدها(3)، لأنها لم تكن متزوجة ولذلك جلدت.
و- زنا النصرانية:إذا زنت النصرانية فلا تحد بل تدفع إلى أهل دينها يقيمون عليها حسب دينهم عند على(4)، فعن قابوس بن مخارق أن محمد بن أبي بكر كتب إلى على يسأله عن مسلم زنى بنصرانية، فكتب إليه على: أما المسلم فأقم عليه الحد وادفع النصرانية إلى أهل دينها(5)، إن حد الزنا أمر تعبدي فيه التطهير من الإثم، وذلك لا يناسب الخارج عن ملة الإسلام.
__________
(1) فقه الإمام على (2/789).
(2) مصنف عبد الرزاق 13727، المغنى (8/211).
(3) فقه الإمام على (2/761).
(4) المصدر السابق (1/799).
(5) مصنف عبد الرزاق (13419).(1/479)
ز- الحد كفارة لذنب من أقيم عليه عند علىّ:فعن أبى ليلى عن رجل من هذيل قال وعداده من قريش سمعت عليًا يقول: من عمل سوءًا فأقيم عليه الحد فهو كفارة(1)، وفي رواية عنه أيضًا: كنت مع علىّ حين رجم شراحة فقلت: لقد ماتت هذه على شر حالها، فضربني بقضيب، أو بسوط كان في يده حتى أوجعني فقلت: لقد أوجعتني، قال: وإن أوجعتك، قال: فقال: إنها لن تسأل عن ذنبها هذا أبدًا كالدين(2)، ودليل ما ذهب إليه أمير المؤمنين على رضي الله عنه حديث عبادة بن الصامت حيث قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجلس فقال: «ومن أصاب شيئًا من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئًا من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه»(3).
إن من قاصد الشريعة حفظ العرض والنسب، فعدم حفظه يترتب عليه مفاسد حاصلة بسبب إهماله: وانتهاكه، ومعلوم ما يحصل من جراء ذلك من الحروب والتقاتل والفساد، واختلاط الأنساب، وقطع النسل، لأن الزاني ليس له قصد في الولد، وإنما قصده اللذة الحاضرة، فلو لم تحفظ الفروج لعزف الناس عن النكاح، وانتشار الفساد الخلقي وظهور جريمة الزنا، وما ينشأ عنها من مفاسد خلقية وصحية، ونزول المصائب وحلول الكوارث والمحن، ولو لم يرد في ذلك إلا قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32]، لكان كافيًا(4)، لذلك جاءت الشريعة الغراء بالتشريعات اللازمة لحفظ الأعراض والأنساب وقام الخلفاء الراشدون بتنفيذها.
3- حد الخمر:
__________
(1) المصدر نفسه (13355).
(2) المصدر نفسه (13353).
(3) مسلم. ك الحدود، رقم (709) (3/1333).
(4) مقاصد الشريعة لليوبى، ص (255).(1/480)
أ- شرب الخمر في رمضان:عن عطاء عن أبيه أن عليًا ضرب النجاشي الحارثي الشاعر، شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ثم حبسه، فأخرجه الغد فضربه العشرين ثم قال له: إنما جلدتك هذه العشرين بجرأتك على الله تعالى، وإفطارك في رمضان(1).
ب- حكم الموت بإقامة حد الخمر: عن علىّ، قال: ما من رجل أقمت عليه حدًا، فمات فأجد في نفسي إلا الخمر، فإنه لو مات لوديته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يَسُنَّه(2).
وقد جاءت الأحكام الشرعية بالمحافظة على العقل الذي ميز الله به الإنسان وكرمه، فحرمت الخمر التي تذهب بالعقل وتغيبه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة:90، 91]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام»(3)، ولذلك شرع إقامة الحد على السكران، وحرم المخدرات والمفترات التي تؤثر على سلامة العقل(4).
إن حفظ العقل مقصود في الشرع لما يترتب عليه من حفظ باقي الضرورات، ولما يترتب على إهماله من مفاسد لا تعد ولا تحصى(5).
4- حد السرقة:
أ- اشتراط الحرز: يشترط لقطع يد السارق أن يسرق المال من حرز مثله عند علىّ، فعن ضميرة قال: قال على: لا يقطع السارق حتى يخرج المتاع من البيت(6).
__________
(1) كنز العمال 13687، فقه الإمام على (2/807).
(2) مسند أحمد رقم (1024) إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(3) البخاري رقم (5585).
(4) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (1/467).
(5) مقاصد الشريعة لليوبى، ص(243).
(6) كنز العمال 13911، فقه الإمام علىّ (2/810).(1/481)
ب- سرقة ما فيه شبهة ملك: لا تقطع يد سارق سرق من مال له فيه شبهة ملك، كأن يكون له نصيب فيه عند على(1)، فعن زيد بن دثار قال: أُتى على برجل سرق من الخمس فقال: له فيه نصيب، فلم يقطعه، وعن الشعبي عن على أنه كان يقول: ليس على من سرق من بيت المال قطع(2).
جـ- سرقة الحر: من سرق حرًا صغيرًا فإنه تقطع يده عند علىّ، فعن ابن جريج أن عليًا قطع البائع- بائع الحر – وقال: لا يكون الحر عبدًا(3)، لأن الإنسان أقوم وأثمن من المال، فهو الأولى أن يقطع فيه(4).
د- سرقة العبد مولاه: لا تقطع يد عبد سرق من سيده عند علىّ، فعن الحكم أن عليًا قال: إذا سرق عبد من مالي لم أقطعه(5).
هـ- إثبات السرقة: تثبت السرقة عند أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه بشهادة شاهدين أو الاعتراف مرتين، نقل ذلك عنه ابن قدامه(6)، وعن عكرمة بن خالد قال: كان علىّ لا يقطع سارقًا حتى يأتي بالشهداء فيوقفهم عليه ويسجنه، فإن شهدوا عليه قطعه وإن نكلوا تركهن فأتى مرة بسارق فسجنه حتى إذا كان الغد دعا به وبالشاهدين فقيل: تغيب أحد الشاهدين فخلى سبيل السارق ولم يقطعه(7). وعن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أن رجلاً أتى إلى على فقال: إني سرقت فانتهره وسبه فقال: إني سرقت، فقال على: اقطعوا قد شهد على نفسه مرتين، فلقد رأيتها في عنقه(8).
__________
(1) فقه الإمام على (2/811).
(2) مصنف عبد الرزاق (18871).
(3) المصدر نفسه رقم (18806).
(4) فقه الإمام على (2/814).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (10/202).
(6) المغني (8/279).
(7) مصنف عبد الرزاق، (18779)، كنز العمال، (13908).
(8) مصنف عبد الرزاق رقم (18784)، المغنى (8/280).(1/482)
و- كشف السارق قبل أن يسرق: لا تقطع يد السارق عند كشفه قبل أن يخرج المتاع من الحرز عند علىّ، فعن الحارث عن على قال: أتى برجل قد نقب فأخذ على تلك الحال فلم يقطعه(1)، وفي لفظ بزيادة وعزره أسواطًا(2).
ز- تكرار السرقة: من سرق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق مرة ثانية قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثة ورابعة يعزر ولا تقطع يده الأخرى أو رجله الثانية عند على، نقل ذلك عنه ابن المنذر وغيره(3)، وعن عبد الله بن سلمه أن عليًا أُتى بسارق فقطع يده، ثم أتى به فقطع رجله، ثم أتى به فقال: أقطع يده؟ فبأي شيء يتمسح وبأي شيء يأكل؟ ثم قال: أقطع رجله؟ على أي شيء يمشى؟ إني لأستحي من الله، قال: ثم ضربه وخلده السجن(4). وعن المغيرة والشعبي قالا: كان على يقول: إذا سرق السارق مرارًا قطعت يده ورجله، ثم إن عاد استودعته السجن(5)، وعن الشعبي قال: كان على لا يقطع إلا اليد والرجل، وإن سرق بعد ذلك سجن ونكل، وأنه كان يقول: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدًا يأكل بها ويستنجى(6).
ح- قطع اليد وتعليقها: يستحب أن يحسم اليد ويعلق المقطوع في عنق المحدود عند على(7)، فعن حجية بن عدى: كان علىٌّ يقطع ويحسم ويحبس، فإذا برئوا أرسل إليهم فأخرجهم ثم قال: ارفعوا أيديكم إلى الله فيرفعونها، فيقول: من قطعكم؟ فيقولون على، فيقول: ولم؟ فيقولون: سرقنا، فيقول: اللهم اشهد اللهم اشهد(8)، وحسم اليد، فلكي لا ينزف الدم ويسرع البرء ومخافة سريان الجرح إلى الجسم وتلفه(9).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (9/477).
(2) كنز العمال (13911)، فقه الإمام على (2/817).
(3) المحلى (3/354)، المغنى (8/264).
(4) البدائع (9/4273)، فقه الإمام على (2/818).
(5) مصنف ابن أبي شيبة (9/509).
(6) مصنف عبد الرزاق رقم (18764).
(7) فقه الإمام على (2/821).
(8) كنز العمال (1326).
(9) فقه الإمام على (2/821).(1/483)
إن من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ أموال الناس التي هي قوام حياتهم، وقد حرم الإسلام كل وسيلة لأخذ المال بغير حق شرعي، وحرم السرقة، وأوجب الحد على من ثبتت عليه تلك الجريمة، قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللهِ} وقام الخلفاء الراشدين بالإشراف على تنفيذ تلك الأحكام.
ثالثًا: في القصاص والجنايات:
جاءت شريعة الإسلام بأحكام القصاص للمحافظة على النفس ودرء المفاسد الناشئة عن شيوع القتل وسفك الدماء المحرمة، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178]، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ} [البقرة: 179]، وقال تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33]، وهذه بعض المسائل المتعلقة بأحكام القتل والقصاص والجنايات.
أ- الاشتراك في القتل العمد: إذا اجتمع جماعة على قتل شخص عمدًا فإنهم يقتلون به جميعًا عند على(1)، وقد روى عنه أنه قتل ثلاثة قتلوا رجلاً(2).
ب- من أمر عبده بالقتل: إذا أمر السيد عبده أن يقتل رجلا فقتله يقتل السيد عند علىًّ ويحبس العبد، نُقل ذلك عن ابن المنذر وغيره(3)، وعن خلاس عن على في رجل أمر عبده أن يقتل رجلاً قال: إنما هو بمنزلة سوطه أو سيفه(4)، وفي رواية: إذا أمر الرجل عبده أن يقتل رجلاً فإنما هو كسيفه أو كسوطه، يقتل المولى ويحبس العبد(5).
__________
(1) فقه الإمام على (2/826).
(2) المغنى (7/672).
(3) المغنى (7/757).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (9/371).
(5) فقه الإمام على بن أبى طالب (2/836).(1/484)
جـ - المقتول في الزحام: من قتل في الزحام ولم يعلم قاتله، فإن ديته على بيت مال المسلمين عند على(1)، وعن يزيد بن مذكور الهمداني أن رجلا قتل يوم الجمعة في المسجد في الزحام، فجعل على ديته من بيت المال(2).
د- جناية السائق والقائد والراكب: في المسألة روايتان عن على: الرواية الأولى: سائق الدابة وقائدها وراكبها ضامنون إذا وطئت الدابة، أو ضربت برجلها أحدًا، أو شيئًا عند على لنسبة التقصير وعدم التحرز والتثبيت إليهم(3)، فعن خلاس على علىّ: أنه كان يضمن القائد والسائق والراكب(4)، والحجة في ذلك، أن الراكب مباشر للقتل لأن الدابة كالآلة في يده، أما السائق، والقائد فهما متسببان، ويضمنان لعدم تحرزهما من الوقوع في الجناية وعدم تثبتها من السوق والقود والركوب بصورة تمنع وقوع الجناية(5)، والرواية الثانية: لا ضمان عليهم إذا ثبت عدم التقصير منهم عند على، إذ روى عنه أنه قال: إذا قال: الطريق، فأسمع فلا ضمان عليه(6)، وعن على أنه قال: إذا كان الطريق واسعًا فلا ضمان عليه(7)، والحجة أو وسع الطريق وتنبيه المارة هو التحرز والتثبت، فإذا لم يبال المارة فهو تقصيرهم، فإن أصيبوا فقد جنوا على أنفسهم فلا ضمان لهم، ولا منافاة بين الروايتين، لأن الأولى مع ثبوت التقصير، والثانية مع عدمه(8)، وثبوت التقصير على المارة.
__________
(1) المصدر نفسه (2/838).
(2) الخلافة الراشدة، يحيى اليحيى، ص (502).
(3) فقه الإمام على (2/841).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (9/259).
(5) فقه الإمام على (2/841).
(6) المصدر نفسه (2/842).
(7) مصنف ابن أبى شيبة (9/559).
(8) فقه الإمام على (2/842).(1/485)
هـ- ما أنشئت بتعد فأحدثت تلفًا: من حفر بئرًا أو وضع شيئًا أو بناه في مكان لا حق له فيه فسبب تلف إنسان كأن يقع في البئر أو يعثر بما وضعه فيموت فهو ضامن عن على(1). فقد قال رضي الله عنه: من حفر بئرًا أو عرض عودًا فأصاب إنسانًا فهو ضامن(2).
و- الخطأ في الشهادة: الخطأ في الشهادة يوجب الضمان عند على، فمن شهد على غيره خطأ في حد أو قصاص فأدى إلى تلف عضو أو نفس ضمن الدية عنده(3)، فقد روى عن على من طرق متعددة أنه: شهد رجلان بسرقة على رجل، فقطع علىٌّ يده، ثم جاء الغد برجل فقال: أخطأنا بالأول، هو هذا الآخر فأبطل شهادتهما على الآخر، وأغرمهما دية الأول(4)، وفي رواية فقال: لو كنتما تعمدتماه لقطعتكما فأبطل شهادتهما عن الآخر وأغرمهما دية الأول(5)، والحجة في ذلك أنهما تسببا في الإتلاف والتسبب موجب للضمان كحافر البئر في الطريق(6).
ز- اشتراك جماعة في قتل بعضهم بعضًا خطأ: إذا اشترك جماعة في قتل بعضهم بعضًا خطأ توزعت المسئولية الجنائية على جميعهم، كل واحد بقدر فعله مطروحًا منه ما جناه الميت على نفسه(7)، فعن خلاس قال: استأجر رجل أربعة رجال ليحفروا له بئرًا فحفروها فانخسفت بهم البئر، فمات أحدهم فرفع ذلك إلى على بن أبي طالب، فضمن الثلاثة ثلاث أرباع الدية وطرح عنه ربع الدية(8).
__________
(1) المصدر نفسه (2/842).
(2) مصنف عبد الرزاق (8400).
(3) فقه الإمام على بن أبي طالب (2/843).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (9/409).
(5) مصنف عبد الرزاق (18461).
(6) فقه الإمام على (2/844).
(7) المصدر نفسه (2/844).
(8) المحلى (10/505)، فقه الإمام على (2/844).(1/486)
ح- من استخدم صغيرًا أو عبدًا بغير إذن: من استخدم صغيرًا بغير إذن وليه أو عبدًا بغير إذن مولاه في عمل، أو حمله على دابة فمات إثر ذلك فهو ضامن عند على، فعن الحكم قال: قال على: من استعمل مملوك قوم صغيرًا أو كبيرًا فهو ضامن(1)، وقال على: من استعان صغيرًا حرًا.. فهو ضامن ومن استعان كبيرًا لم يضمن(2).
ط- الفعل المعنوي: الفعل المعنوي كالإخافة والترويع وما شابههما إذا سبب قتل إنسان أو عطبه توجب المسئولية الجنائية عند على(3)، فعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: رجل نادى صبيًا على جدار أن استأخر فخر فمات؟ قال: يروون عن على أنه قال: يغرمه ويقول: أفزعه(4)، وإيجاب المسئولية على الفعل المعنوي إجمالاً هو قول جمهور العلماء(5).
ى- جناية الطبيب: إذا خالف الطبيب أو البيطري شروط المعالجة، فعطب الإنسان أو الحيوان فهو ضامن(6)، فعن الضحاك بن مزاحم قال: خطب علىٌّ الناس فقال: يا معشر الأطباء البياطرة والمطببين من عالج منكم إنسانًا أو دابة فليأخذ لنفسه البراءة، فإنه إن عالج شيئًا ولم يأخذ لنفسه البراءة فعطب فهو ضامن(7)، وعن مجاهد أن عليًا قال في الطبيب: إن لم يُشهد على ما يعالج فلا يلومن إلا نفسه، يقول: يضمن(8).
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (9/377).
(2) مصنف ابن أبى شيبة (9/377).
(3) فقه الإمام على بن أبى طالب (2/846).
(4) كنز العمال (86/40).
(5) فقه الإمام على (2/846).
(6) المصدر نفسه (2/847).
(7) مصنف عبد الرزاق (18047).
(8) المصدر نفسه (18046).(1/487)
ك- الميت من القصاص والحد: إذا أقيم حد أو قصاص على مستحق فمات فلا ضمان على المقتص عند على(1)، فقد قال رضي الله عنه: من مات بقصاص بكتاب الله فلا دية له(2)، وقال: من مات في حد فإنما قتله الحد(3)، وقال أيضًا: إذا أقيم على الرجل حد في الزنا أو السرقة أو قذف فمات فلا دية له(4)، والحجة في ذلك، أن القصاص واجب، والواجب غير مشروط بالسلامة فيه فلا ضمان في أدائه إذا لم يحصل فيه تقصير أو إهمال(5).
ل- قاطع طريق ألقى القبض عليه: إذا لم يأخذ مالاً ولم يقتل نفسًا حبس حتى يتوب، وإذا أخذ مالاً ولم يقتل نفسًا قطعت يداه، ورجلاه من خلاف، وإذا قتل وأخذ المال قطعت يداه ورجلاه من خلاف ثم صلب حتى يموت، وإن تاب قبل أن يؤخذ ضمن الأموال واقتص منه ولم يحد(6).
وقد تاب الحارث بن بدر قبل القدرة عليه، وكان قاطعًا للطريق، فقبل على توبته وأسقط حد الحرابة عنه لأنه تاب قبل القدرة عليه(7).
__________
(1) فقه الإمام على (2/847).
(2) المصدر نفسه (2/848).
(3) المصدر نفسه (2/848).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (9/342).
(5) فقه الإمام على (2/848).
(6) المحلى رقم (252)، عصر الخلافة الراشدة للعمرى، ص (151).
(7) عصر الخلافة الراشدة، ص (151).(1/488)
م- قاتل اعترف بالقتل لدفع التهمة عن متهم برئ: أُتى برجل إلى أمير المؤمنين على من خربة بيده سكين ملطخة بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله، فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذُهب به أقبل رجل مسرعًا فقال: يا قوم لا تعجلوا ردوه إلى على، فردوه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين ما هذا صاحبه، أنا قتلته، فقال على للأول: ما حملك على أن قلت أنا قاتله، ولم تقتله؟ قال: يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع، وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه، وأنا واقف بين يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في الخربة، فخفت ألا يقبل منى، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، فقال علىّ: بئس ما صنعت، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت البقرة وسلختها، فبينما أنا أسلخها، والسكين في يدي أخذني البول، فأتيت خربة كانت بقربي، فدخلتها لقضاء حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره، ووقفت أنظر إليه، والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علىّ، فأخذوني، فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له من قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم بقولي، فاعترفت بما لم أجنه، فقال على للمقر للثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ فقال: أغواني إبليس فقتلت الرجل طمعًا في ماله، ثم سمعت حس العسس فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصفها، فاستترت منه ببعض الخربة، حتى أتى العسس فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضًا، فاعترفت بالحق، فقال على للحسن: ما الحكم في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كان قد قتل نفسًا فقد أحيا نفسًا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32]، فخلى على عنهما، وأخرج دية القتيل من بيت المال(1)،
__________
(1) الطرق الحكمية، ص (56)، القضاء في الإسلام، ص (154).(1/489)
ولعله فعل ذلك بعد أن أسقط أولياء القتيل حقهم بالقصاص(1).
ن- امرأة قتلت زوجها يوم زفافها بحضور صديقها: حدث في عهد علىّ رضي الله عنه أن امرأة قتلت زوجها يوم زفافها بحضور صديقها، فكانت العقوبة القتل قصاصًا(2) من الجناة.
س- بدل الإبل في دفع الدية، وكيف تدفع الدية؟:الإبل أصل في الدية ويجوز دفع بدلها إذ لم يتوافر الإبل عند على، فعن عامر عن على وعبد الله وزيد قالوا: الدية مائة من بعير(3)، وعن الحسن أن عليًا قضى بالدية اثنى عشر ألفًا(4)، أي درهم من الفضة، وأما كيفية دفع الدية، فدية الخطأ وشبه العمد على العاقلة تدفعها مقسطًا على ثلاث سنين عند على(5)، والحجة في ذلك ما روى عن المغيرة بن شعبة قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالدية على العاقلة(6)، وأما تقسيطها، فلأنها كثيرة يصعب أداؤها حالاً فقسمت على ثلاث سنين بناء على التيسير الذي أمر به الإسلام(7).
ع- دية الكتابي: دية الكتابي من اليهود والنصارى مثل دية المسلم(8)، فعن الحكم بن عتيبة أن عليًا قال: دية اليهودي والنصراني وكل ذمي مثل دية المسلم(9).
ف- دية الصلب: دية العمود الفقري دية كاملة عند على إذا كسر وفقد صاحبه القوة على الجماع، فقد قال علىّ رضي الله عنه: إذا كسر الصلب ومنع الجماع ففيه الدية(10).
__________
(1) القضاء في الإسلام، ص (154).
(2) المغنى (9/362، 376)، الطرق الحكمية، ص (50)، عصر الخلافة الراشدة، ص (153).
(3) مصنف ابن أبى شيبة (9/128).
(4) الأم (7/177).
(5) فقه الإمام على (3/853).
(6) سنن ابن ماجة رقم (3633).
(7) فقه الإمام على (2/854).
(8) المصدر نفسه (2/855).
(9) مصنف عبد الرزاق (18494).
(10) مصنف ابن أبى شيبة (9/231).(1/490)
ص- عين الأعور: إذا فقأ إنسان عين الأعور فإن فيها الدية كاملة أو يقتص الأعور لنفسه فيفقأ عينًا للجاني ويأخذ نصف الدية عند علىّ، نقل ذلك ابن قدامه(1)، لأن عين الأعور تعادل عيني البصير في منفعة البصر، لذلك فيها الدية كاملة(2).
ق- دية الأصابع: دية كل أصبع من الأصابع عشر دية النفس عند على، أي عشر من الإبل، فعن عاصم بن ضمرة عن على قال: في الأصابع عشر الدية(3)، وفي رواية: في الأصابع عشر العشر(4).
رابعًا التعزير:
كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه يؤدب العاصي ويردعه عن معصيته بالتعزيز إذا لم يترتب على معصيته حد، ولما كنت عقوبة التعزيز على المعصية غير محددة، فإن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه يذهب إلى الملاءمة بين العقوبة والمعصية، فكلما تعاظمت المعصية كانت العقوبة أعظم، ولقد تعددت وسائل التعزير عند أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه حسب نوع المعصية وحال العاصي، (5)، ومنها على
سبيل المثال:
1- الضرب باليد: ومثال ذلك لما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطوف بالبيت، وعلى رضي الله عنه يطوف معه، إذ عرض رجل لعمر فقال: يا أمير المؤمنين خذ حقي من على بن أبي طالب، فقال: وما باله؟ قال: لطم عيني، فوقف عمر، حتى لحق به على فقال: ألطمت عين هذا يا أبا الحسن؟ قال: نعم، يا أمير المؤمنين، قال: ولِمَ؟ قال: لأني رأيته يتأمل حرم المؤمنين في الطواف، فقال عمر: أحسنت يا أبا الحسن(6).
__________
(1) المغنى (8/5).
(2) فقه الإمام على (20/860).
(3) مصنف ابن أبى شيبة (9/193).
(4) مصنف عبد الرزاق رقم (17693).
(5) منهج على بن أبى طالب في الدعوة، ص (321).
(6) الرياض النضرة في مناقب العشرة (2/165).(1/491)
2- الجلد دون الحد: وكان أكثر ما يعزر به، ومن ذلك جلده للنجاشي الشاعر الذي شرب الخمر، وأفطر في رمضان، فقال له: إنما جلدتك هذه العشرين لجرأتك على الله، وإفطارك في رمضان(1).
3- التشهير: لجأ على بن أبى طالب رضي الله عنه إلى التشهير بالعاصي وتعريف الناس به، كما فعل بشاهد الزور، وفي ذلك مصلحة للمجتمع، لئلا يستشهد فتضيع الحقوق، عن على بن الحسين قال: كان على إذا أخذ شاهد زور بعثه إلى عشيرته فقال: إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه ثم خلى سبيله(2)، وعن زيد بن على عن أبيه عن جده عن علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه أنه أخذ شاهد الزور فعزروه، وطاف به في حيه وشهره، ونهى أن يستشهد به(3).
4- الحبس: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يعاقب بالحبس أحيانًا، ومن ذلك حبسه للنجاشي الشاعر، الذي شرب الخمر، وأفطر في رمضان(4).
5- التقييد في الحبس: كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه يقيد الدعار(5)، بالحبس بقيود لها أقفال، ويوكل بهم من يحلها لهم وقت الصلاة من أحد الجانبين(6).
6- الغمس في الأقذار: وجد رجل تحت فراش امرأة، فأتى به علىّ، فقال رضي الله عنه: اذهبوا به فقلبوه ظهرًا لبطن في مكان منتن، فإنه كان في مكن شر منه(7).
__________
(1) موسوعة فقه على بن أبى طالب، قلعجى، ص (153).
(2) المصدر نفسه، ص (149).
(3) موسوعة فقه على، ص (148).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (3610).
(5) جمع داعر، والدعارة هي الفسق والخبث.
(6) موسوعة فقه علىّ، قلعجى، ص (156).
(7) المصدر نفسه، ص (154).(1/492)
7- القتل: قد يصل التعزير عند أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه إلى القتل، إذا كانت الجريمة قد تعاظمت، وكان لها أثرها البالغ الأهمية، كوضع الأحاديث على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأن هذا العمل يؤدى إلى إدخال شيء في الدين مما ليس منه، وانحراف الناس عن دينهم الذي ارتضى الله لهم(1)، لذا فقد كان يقول: من كذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب عنقه(2).
8- إتلاف أداة الجريمة وما يتبعها: فقد ورد عن ربيعة بن زكار قال: نظر علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه إلى قرية فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة(3)، يلحم فيها ويباع فيها الخمر، فأتاها بالنيران فقال: أضرموها فيها، فإن الخبيث يأكل بعضه بعضًا، فاحترقت(4)، فقد أحرق أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه في هذه القرية الخمر وما يتبعه من مواد وأدوات تستخدم لصناعته(5).
لقد أثر أمير المؤمنين على رضي الله عنه في المؤسسة القضائية باجتهاداته في مجال القصاص والحدود والجنائيات والتعزير، كما أنه - رضي الله عنه - ساهم في تطوير المدارس الفقهية الإسلامية باجتهاداته الدالة على سعة إطلاعه وغزارة علمه وعمق فقهه وفهمه واستيعابه لمقاصد الشريعة الغراء.
المبحث الرابع : حجية قول الصحابي والخلفاء الراشدين
تحدث الأصوليون عن مذهب الصحابي وقالوا بأنه من الأدلة المختلف فيها عند الكثير منهم، وحكى ابن القيم إجماع الأئمة الأربعة على الاحتجاج به(6).
__________
(1) منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله، ص (324).
(2) موسوعة فقه على، ص (154).
(3) محلة بالكوفة سميت بزرارة بن يزيد بن عمر من بنى بكار.
(4) كنز العمال رقم (13744) أبو عبيد، الأموال ص (103).
(5) منهج على في الدعوة إلى الله ص (325).
(6) إعلام الموقعين (4/120).(1/493)
إن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصًا ساداتهم تبوأوا مكانة عالية في الفهم والإدراك كما قال عنهم ابن مسعود رضي الله عنه: فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأقومها هديًا، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم(1)، والشاهد من كلامه قوله: «أعمقها علمًا» فهم أعمق الأمة علمًا، وأكثرهم فهمًا وإدراكًا، ونسبة علم من بعدهم إلى علمهم كنسبة فضلهم إلى فضلهم(2)، وإذا كان هذا من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى حجة وبرهان، فإنا نشير إلى بيان الأسباب التي بَوّأهم الله بها هذه المكانة وهي:
1- تلقيهم المباشر من النبي - صلى الله عليه وسلم -:
وهذا له أثره في الفهم من عدة نواح:
أ- صفاء المورد: إذ بتلقيهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلقون الوحي غضًّا كما أنزل، ويسمعون كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - منه مباشرة، فليس علمهم مشويًا بما يكدره، بل هو محض الكتاب والسنة لم يختلط به آراء الرجال، وغيره من العلوم التي فتح بابها من بعد على المسلمين كعلوم الفلسفة وغيرها.
__________
(1) شرح السنة للبغوي (1/214/ 215).
(2) إعلام الموقعين (4/147).(1/494)
ب- دقة الفهم: حيث إن معلمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفصح الناس لسانًا، وأبلغهم بيانًا، وأقدرهم تفهيمًا، فكيف إذا صادف ذلك آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، وسليقة مواتية، تنشد الحق، وتتلهف لسماعة، ولا شك أن ذلك يجعلهم يفهمون ما يلقى إليهم فهمًا دقيقًا مطابقًا لمراد الله ورسوله، وهذا الأمر في غاية الوضوح إذ الناس في حياتهم وطلبة العلم في طلبهم يبحثون إبان تلقيهم عن أفضل العلماء علمًا وأحسنهم تصويرًا للمسائل، وأقدرهم تفهيمًا، وكم من تلميذ سطع نجمه، وعلا كعبه في العلم بفضل الله، ثم بفضل حسن تعليم معلمه، ونحن نعلم أن أحدًا لن يبلغ معشار ما بلغ إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في حسن التعليم، ولا أقل من ذلك، وبهذا شهد معاوية بن الحكم رضي الله عنه في حسن التعليم، حيث قال: فبأبي هو وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه(1).
ج- ما يحصل لهم من يقين بما سمعوا وفهموا: فعلومهم يقينية، وعلوم من بعدهم يداخلها الظن في كثير من أحوالها.
د- ما يحصل لهم من اطلاع على أسباب النزول وأسباب ورود الأحاديث: ومعرفة الناسخ والمنسوخ مما يعينهم على فهم المراد وإدراك المقاصد.
هـ- وما يحصل لهم من مشاهدة أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -:التي تفسر أقواله، وتشرحها، وتبين آيات القرآن وتوضحها، ويوقف بها على المراد.
و- إمكانية السؤال عما أشكل عليهم، والحصول على الجواب.
2- سليقهم العربية:
يفهمون آي القرآن، وأحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - بسليقتهم ويعرفون وجوه دلالتها على معانيها، فلا يحتاجون إلى ما يحتاج إليه من بعدهم من دراسة قواعد اللغة وقواعد الأصول.
3- إخلاصهم لله وتقواهم:
فببركة إخلاصهم نالوا العلوم الكثيرة النافعة، في أوقات قليلة، كما قال تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة:282].
__________
(1) مسلم، ك المساجد، رقم (33).(1/495)
فإذا تقرر هذا فكل هذه الأسباب شكلت فقها قويًا متماسكًا لدى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن القيم بعد أن ذكر مدارك اختصوا بها، كسماعهم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسماعهم من بعضهم، وعلمهم بالعربية على أكمل الوجوه(1)، قال: أما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أبر قلوبًا وأعمق علمًا، وأقل تكلفًا وأقرب إلى أن يوفقوا فيما لم نوفق له نحن، ولما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن المقصد وتقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل غنوا في ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران:
أحدهما: قال الله تعالى كذا، وقال رسوله كذا.
والثاني: معناه كذا وكذا.
__________
(1) مقاصد الشريعة لليوبى، ص (60).(1/496)
وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما، وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول وقواعدها قد أخذت منها شعبة، وعلم الإسناد وأحوال الرواة قد أخذ منها شعبة، وفكرهم في كلام مصنفهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إليها بقلوب وأذهان قد كلت من السير في غيرها، وأوهن قواهم مواصلة السير في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب القوة(1)، وبما تقدم يتقرر أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أدق فهمًا وعلمًا بما هيأ الله لهم من الأسباب المعينة على الفهم والعلم، فبناء على ذلك فهم أعلم بمقاصد الشرعية ومراميها من غيرهم، ولكون من أهم الطرق المحصلة لمقاصد الشريعة: العلم بالكتاب والسنة وطرق الاستنباط منهما، وهذا متوافر لدى الصحابة بلا شك على أكمل الوجوه وأحسنها(2).
قال الشاطبى: السلف أعلم الناس بمقاصد القرآن(3)، وقال عن الصحابة: هم القدوة في فهم الشريعة والجري على مقاصدها(4). هذا وقد تنوعت مذاهب العلماء في حجية قول الصحابي وانقسمت إلى خمسة أقوال مشهورة، وقبل أن نذكر أقوال المذاهب نحرر محل النزاع فتقول:
1- اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة إمامًا كان أو حاكمًا أو مفتيًا.
2- إذا قال الصحابي قولاً ووافقه الباقون فليس داخلاً في محل النزاع لكونه إجماعًا حينئذ.
3- إذا قال قولاً وانتشر ولم يخالفه أحد فهذا له حكم الإجماع السكوتى.
4- اتفقوا على أن قول الصحابي ليس بحجة إذا خالفه صحابي آخر.
5- اتفقوا على أن قول الصحابي إذا رجع إلى الكتاب أو السنة أو الإجماع فإنه الحجة حينئذ فيما رجع إليه.
__________
(1) إعلام الموقعين (4/149).
(2) مقاصد الشريعة الإسلامية لليوبى، ص (601).
(3) الموافقات (3/409).
(4) المصدر نفسه (4/130).(1/497)
6- اتفقوا على أن قول الصحابي إذا رجع عنه فليس بحجة، ومحل الخلاف إذا قال الصحابي قولاً في مسألة اجتهادية تكليفية ولا ظهر له مخالف ولا موافق، ولا ندرى انتشر أم لا؟ خالف أحدًا أم لا؟ (1).
واختلف العلماء في ذلك على أقوال:
القول الأول: أنه حجة وهو قول مالك والشافعي في القديم، وأحمد في رواية عنه، وعليه أكثر الأصوليين والفقهاء من الحنفية وابن عقيل من الحنابلة والعلائي(2)، والخطيب البغدادي من الشافعية، واختاره ابن القيم في إعلام الموقعين والشاطبى في الموافقات وابن تيمية(3).
القول الثاني: إنه ليس بحجة وهو قول الشافعي في أحد قوليه اختارها الآمدى والرازي والغزالي وأحمد في رواية(4).
القول الثالث: إنه حجة إن كان مما لا مجال للرأي فيه فقط، وهو قول جماعة من الأحناف(5).
القول الرابع: قول أبى بكر وعمر- رضي الله عنهما- حجة دون غيرهما(6).
القول الخامس: قول الخلفاء الأربعة أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضي الله عنهم حجة دون غيرهم(7).
والراجح – والله أعلم- هو القول الأول، وأدلة الترجيح في ذلك:
أولاً: من كتاب الله تعالى: قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
__________
(1) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص (596، 597).
(2) حقيقة البدعة وأحكامها (1/320).
(3) مجموعة الفتاوى (5/413)، إعلام الموقعين (4/120).
(4) مقاصد الشريعة الإسلامية، ص (597).
(5) حقيقة البدعة وأحكامها (1/321).
(6) الإحكام للآمدى (4/130)، حجية قول الصحابي، ص (40).
(7) حجية قول الصحابي، ص (40).(1/498)
روى الحافظ ابن حرير في تفسيره لهذه الآية بسنده عن محمد بن كعب القرظى قال: مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ} حتى بلغ {وَرَضُوا عَنْهُ} قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبى بن كعب، قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا...قال: نعم، قال: أنت سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أُبى: تصديق هذه الآية من أول سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3]، وفي سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10]، وفي الأنفال:{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75]، وسبب سؤال عمر أنه كان يقرأ هذه الآية برفع الأنصار وبعدم إلحاق الواو في الذين كما أورد ذلك ابن جرير(1)، ثم لما تبين له من أبى بن كعب الخفض وإلحاق الواو قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، يقصد المهاجرين، وهذا القول منه- رضي الله عنه- يؤيد ما ذهب إليه أصحاب القول الأول القائلون بحجية أقوال الصحابة من غير تخصيص لبعضهم، إذ اشترك الجميع في وصف الثناء عليهم بكونهم سبقوا في كل علم وفضل وجهاد وعمل، وهذه الآية احتج بها ابن القيم وجعلها من الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة(2)، وحكى احتجاج الإمام مالك بها في هذا المعنى(3)، وذكر أن الآية تتضمن مدح الصحابة والثناء
__________
(1) تفسير الطبري (14/438).
(2) إعلام الموقعين (4/123).
(3) المصدر نفسه (4/123).(1/499)
عليهم واستحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين يقتدي بهم، وتؤخذ أقوالهم، وأنها اقتضت المدح لمن اتبعهم كلهم، أو اتبع كل واحد منهم ما لم يخالف نصًا(1). ومن الأدلة: قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110]، روى ابن جرير بسنده عند تفسيره لهذه الآية عن الضحاك، قال: هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة(2)، قال ابن جرير بعد إيراده لهذا الأثر مبينًا معناه: يعني وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم(3)، واستشهد بالآية الشاطبى حين قرر أن: سنة الصحابة- رضي الله عنهم- وسنة يعُمل عليها ويُرجع إليها(4)، فقال في الآية: إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقتضى استقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة(5)، وقد أفاض الإمام ابن القيم الجوزية في الاستدلال على حجية قول الصحابة بالآيات الكريمة ووجه استدلاله فجاد وأفاد(6).
__________
(1) المصدر نفسه (4/123- 129).
(2) تفسير الطبري (7/102).
(3) المصدر نفسه (7/120).
(4) الموافقات (4/74).
(5) المصدر نفسه (4/74).
(6) إعلام الموقعين (4/123- 135).(1/500)
ثانيًا: أما الأدلة من السنة فهي كثيرة منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني ثم الثالث»(1)، فإخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك يقتضى تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، ولا سيما في ظفرهم بالصواب(2)، فهم أفضل من غيرهم في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم من الدين بالضرورة من دين الإسلام(3)، وعند عبد الله بن مسعود: قال الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من نبي بعثه الله عز وجل إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره»(4)، وقد استشهد البيهقى بهذا الحديث على أفضليتهم ومنزلتهم(5) العالية في كل علم وعمل ومقصد(6).
ثالثًا: الأدلة من الآثار منها: ما روى عن حذيفة بن اليمان- رضي الله عنهما- أنه قال: يا معشر القراء خذوا الطريق ممن كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولئن تركتموه يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا(7)، روى الخطيب بسنده عن عامر الشعبي أنه قال: ما حدثوك عن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فخذه(8).
رابعًا: من أقوال الأئمة والعلماء في حجية قول الصحابي:
1- قول الشافعي: ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر عمن سمعهما مقطوع إلا باتباعهما، فإذا لم يكن ذلك صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو واحد منهم(9)، وقال أيضًا: لا يكون لك أن تقول إلا عن أصل، أو قياس على أصل، والأصل كتاب أو سنة، أو قول بعض أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو إجماع الناس(10).
__________
(1) مسلم (2/1965).
(2) إعلام الموقعين (4/136).
(3) مجموع الفتاوى (4/158).
(4) مسلم، ك الإيمان (1/69).
(5) الاعتقاد للبيهقى، ص (319).
(6) حقيقة البدعة وأحكامها (1/328).
(7) حلية الأولياء (10/280)، البدع لابن وضاح، ص (10).
(8) حقيقة البدعة وأحكامها (1/329).
(9) الأم للشافعي (7/265).
(10) مناقب الشافعي، ص (367).(2/1)
2- وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فخذ به، ثم التابعين بعد، الرجل فيه مخير(1).
3- وقول الإمام مالك: ومذهبه في ترجيح عمل أهل المدينة مشهور ومعلوم، بيد أنه قد ذهب إلى أبعد من ذلك، حين اعتبر قول الصحابة، ولا سيما ولاة الأمر بعده محل احتجاج(2).
4- قال ابن تيمية: ومن قال من العلماء إن قول الصحابي حجة، فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة، ولا عرف نصًا يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه، كان إقرارًا على القول، فقد يقال هذا إجماع إقراري إذا عرف أنهم أقروه، ولم ينكره أحد منهم وهم لا يقرون على باطل(3)، أما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق(4).
5- قال الشاطبى: عند شرحه لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنا عليه وأصحابي»(5)،فإنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه، وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق، وبشهادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم بذلك خصوصًا - إلى أن قال- فإذًا كل ما سنوه فهو سنة، من غير نظير فيه بخلاف غيرهم(6)، وقال في الموافقات: سنة الصحابة- رضي الله عنهم- سنة يعمل عليها ويرجع إليها(7).
__________
(1) مسائل الإمام أحمد لأبى داود، ص (276).
(2) إعلام الموقعين (4/123)، ترتيب المدارك (1/64).
(3) مجموع الفتاوى (1/283).
(4) مجموع الفتاوى (1/283).
(5) السلسلة الصحيحة (1/12، 25) (3/480).
(6) الاعتصام (2/263).
(7) الموافقات (4/74).(2/2)
الفصل الخامس : مؤسسة الولاية في عهد أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه
المبحث الأول : أقاليم الدولة
أولاً: مكة المكرمة:
توفى عثمان - رضي الله عنه - وعلى مكة خالد بن سعيد بن العاص، فأصدر على رضي الله عنه قرارًا بعزله وعين أبا قتادة الأنصاري واليًا على مكة(1)، ويبدو أن فترة ولايته قصيرة إذ إن عليًا رضي الله عنه عندما أراد الخروج من المدينة إلى العراق بعث قثم بن العباس(2) واليًا على مكة، وعزل أبا قتادة الأنصاري(3)، وبهذا فإن ولاية أبى قتادة استمرت قرابة الشهرين، ولم ترد عنها أخبار تذكر، ومعظم المصادر التي تحدثت عن ولاية قثم بن العباس على مكة ذكرت أن عليًا ولاه على مكة والطائف وأعمالها في وقت واحد(4)، وما نقلت الأخبار عن مكة في عهد خلافة علي رضي الله عنه سوى ما يتعلق بموسم الحج ومن كان واليًا عليه، فعلى بن أبى طالب لم يرد أنه شهد الحج أثناء خلافته بسبب انشغاله بالفتن التي قامت في أنحاء الدولة الإسلامية، حيث لم تستقر الأوضاع فيها، وكان خلال موسم الحج يبعث من يقود الحجيج، ويبدو أن قثم بن العباس أقام الحج بالناس سنة 37هـ فقط، بينما بعث على رضي الله عنه على الحج عبد الله بن العباس سنة 36هـ، وعبيد الله بن العباس سنة 38هـ(5)، مع وجود اختلاف بين المصادر في سنة حج كل منهما، وأما سنة 39هـ فقد بعث معاوية أحد قواد الشام مع حجاج الشام وأمره أن يقيم الحج بالناس، فلما وصل إلى مكة تنازع مع (قثم بن عباس) وكاد أن يقع بينهما قتال لولا أن عمل بعض الصحابة بينهما بالصلح على أن يقيم الحج بالناس أحد بنى شيبه وانتهى الحج بسلام ولم يقع قتال(6)، وقد استمر قثم بن العباس في ولايته على مكة إلى أن قدم جيش معاوية بقيادة بسر
__________
(1) الولاية على البلدان (2/3)، تاريخ خليفة ابن خياط، ص (201).
(2) سير أعلام النبلاء (3/440).
(3) تاريخ اليعقوبي (2/179).
(4) الكامل في التاريخ (3/398)، الولاية على البلدان (2/4).
(5) تاريخ خليفة، ص (191، 192، 198)، الولاية على البلدان (2/4).
(6) الولاية على البلدان (2/4)، تاريخ الطبري (6/79).(2/3)
بن أرطأة فخرج منها قثم هاربًا خائفًا على نفسه، وبذلك انتهت ولاية قثم، وخرجت مكة من ولاية على بن أبى طالب، وقد بعث علىّ بعض أجناده لاستعادة مكة إلا أن استشهاد على رضي الله عنه حال دون إتمام المهمة(1).
ثانيًا: المدينة النبوية:
كانت المدينة المنورة طيلة عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الثلاثة من بعده عاصمة الدولة الإسلامية، ويقيم فيها الخليفة، ويتولى شئونها بنفسه أثناء وجوده أما في حالة السفر فإنه ينيب عليها من يتولى شئونها، وقد اختلف الوضع بعد مبايعة على رضي الله عنه بالخلافة، إذ دعته الحالة العامة والارتباك الذي حدث بعد مقتل عثمان إلى مغادرة المدينة المنورة، خصوصًا بعد خروج طلحة والزبير وعائشة باتجاه العراق قبل موقعة الجمل(2)، وقد استخلف على المدينة سهل بن حنيف الأنصاري كما تقول بعض الروايات(3)، ولا نعلم المدة التي بقى فيها ابن حنيف واليًا على المدينة، والذي يبدو أن ولايته قد استمرت أكثر من سنة، فقد ورد أنه كان على المدينة سنة 37هـ(4)، ثم ولى على تمام بن العباس على المدينة بعد أن عزل سهل بن حنيف، وقد ولى على بن أبى طالب على المدينة بعد ذلك أبا أبوب الأنصاري الذي استمر واليًا عليها إلى سنة 40هـ، حيث قدم المدينة جيش من الشام من قبل معاوية بقيادة بسر بن أرطأة(5)، ففر أبو أيوب من المدينة، وتوجه إلى على في الكوفة(6) ، وبذلك خرجت المدينة من حكم على بن أبى طالب رضي الله عنه ودخلت في حكم معاوية، وهكذا تحولت المدينة في عهد على من قاعدة للخلافة إلى ولاية من
__________
(1) تاريخ الطبري (6/80) الولاية على البلدان (2/5).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص (181)، الولاية على البلدان (2/2).
(3) تاريخ ابن خياط، ص (181، 201)، الولاية على البلدان (2/2).
(4) تاريخ الطبري (6/53)، الولاية على البلدان (2/2).
(5) سير أعلام النبلاء (3/409)، الولاية على البلدان (2/2).
(6) تاريخ الطبري (6/80)، الكامل (3/373).(2/4)
الولايات، وأخذت الأحداث السياسية تدور بعيدًا عنها، لذلك نجد المصادر التاريخية تكاد تهملها خلال تلك الفترة إلى أن استطاع جيش معاوية الاستيلاء عليها(1).
ثالثًا: ولاية البحرين وعمان:
كانت البحرين حين توفى عثمان- رضي الله عنه- تابعة لإمارة البصرة، وكان ابن عامر يولى عليها من عماله، وفي عهد على رضي الله عنه عين علىٌّ على ولاية البحرين مجموعة من الأمراء كان من أهمهم عمر بن أبى سلمه(2) الذي خرج مع على من المدينة أثناء سفره إلى العراق، ثم بعثه على واليًا على البحرين(3)، لفترة من الوقت، ثم استدعاه على لمصاحبته في العراق بعد ذلك، كما كان من عمال على في البحرين قدامة بن العجلان الأنصاري(4)، والنعمان بن العجلان الأنصاري(5)، وكذلك ذكر من ولاته على البحرين عبيد الله بن العباس(6)، ويلاحظ أن عبيد الله بن عباس كان والى اليمن، فلعل البحرين ونجد كانتا تابعتين له في تلك الفترة، وهذا يوحى به تعبير الطبراني، كما أن تعبير خليفة بن خياط يوحى بعدم معرفته لترتيب معين لهؤلاء الولاة(7)، وقد أوردت المصادر أسماء بعض العمال الذين وجههم على إلى عمان أحدهم وال والآخر قائد جند لإخماد إحدى الثورات التي قامت ضد على في عمان(8)، وكذلك كان هنالك عامل على اليمامة(9)، ولعله خاضع لإشراف والى البحرين(10).
رابعًا: ولاية اليمن:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/3).
(2) تهذيب التهذيب (7/456).
(3) الكامل (3/222)، الولاية على البلدان (2/5).
(4) الولاية على البلدان (2/5).
(5) الإصابة (3/562)، الولاية على البلدان (2/5).
(6) تاريخ الطبري (6/90).
(7) الولاية على البلدان (2/6).
(8) تاريخ اليعقوبي (2/95)، الولاية على البلدان (2/6).
(9) الولاية على البلدان (2/6).
(10) الولاية على البلدان (2/6).(2/5)
لما استشهد عثمان وبويع علىٌّ بالخلافة ولى على اليمن عبيد الله بن العباس، رضي الله عنهما(1) ، وقد خرج ولاة عثمان من اليمن قبل وصول عبيد الله بن عباس إليها، واشترك بعضهم في جيش الجمل مع طلحة والزبير وكان لهم دور في تجهيز الجيش(2)، وقد كان عبيد الله بن عباس على صنعاء وأعمالهم، كما كان معه في الولاية سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري(3) على الجند ومخالفيها(4). وكان مقتل عثمان له أثر بالغ على المسلمين في اليمن، وأحس القوم بالامتعاض والتبرم من هذا الجرم، وبقى بعض اليمنيين لم يبايع ويرغب في قتل قتلة عثمان، رضي الله عنه، ولما تأخر هذا راسلوا معاوية بعد التحكيم، فأرسل بسر بن أرطأة، فاستطاع أن يستولى على اليمن بفضل مساعدتهم، ولكن لفترة وجيزة(5)، حيث استطاع على استرجاعها من جيش معاوية، فأعاد عبيد الله بن عباس إلى ولايتها
مرة أخرى، واستمر واليًا عليها إلى أن استشهد أمير المؤمنين على بن أبى طالب
رضي الله عنه(6).
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط ص (6).
(2) مروج الذهب للمسعودي (2/357)، الولاية على البلدان (2/6).
(3) الاستبصار لابن قدامة المقدسي، ص (99)، الولاية على البلدان (2/6).
(4) الولاية على البلدان (2/6).
(5) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص(109).
(6) تاريخ الطبري (6/80، 81)، الولاية على البلدان (2/7).(2/6)
وقد روى أن بسرًا قتل ابنين لعبيد الله بن عباس وبعض أنصار على هناك، ثم رجع إلى الشام، وكان أمير المؤمنين قد وجه جارية بن قدامه السعدي، قيل: ففعل مثلما فعل بسر وقتل بعض محبي عثمان في اليمن(1)، قال ابن كثير: وهذا الخبر مشهور عند أهل السير وفي صحته عندي نظر(2)، ولاشك أن قتل الأبرياء لم يحصل في تلك المرحلة حتى في أيام البصرة وصفين عندما قامت الحرب بين الطرفين، فكيف يقتل الأطفال والأبرياء في مرحلة الهدنة، لذلك لا يمكن قبول هذه الأعراف المناقضة لأعراف المسلمين وقيمهم ودينهم(3).
خامسًا: ولاية الشام:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/55).
(2) البداية والنهاية (7/334).
(3) الإنصاف د. حامد، ص (575).(2/7)
كان معاوية، رضي الله عنه، واليًا على الشام في عهدي عمر وعثمان، رضي الله عنهما، ولما تولى على الخلافة أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر فأبى عليه عبد الله بن عمر قبول ولاية الشام، واعتذر في ذلك، وذكر له القرابة والمصاهرة التي بينهم(1)، ولم يلزمه أمير المؤمنين على وقبل منه طلبه بعدم الذهاب إلى الشام، وأما الروايات التي تزعم أن عليًا قام بالتهجم على عبد الله بن عمر، رضي الله عنه، لاعتزاله وعدم وقوفه إلى جانبه، ففي ذلك الخبر تحريف وكذب(2)، وأقصى ما وصل إليه الأمر في قضية عبد الله بن عمر وولاية الشام ما رواه الذهبي من طريق سفيان بن عيينة، عن عمر بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: بعث إلىَّ على قال: يا أبا عبد الرحمن إنك رجل مطاع في أهل الشام، فسر فقد أمرتك عليهم، فقلت: أذكرك الله وقرابتي من رسول الله وصحبتي إياه، إلا ما أعفيتني فأبى على، فاستعنت بحفصة فأبى، فخرجت ليلاً إلى مكة(3)، وهذا دليل قاطع على مبايعة ابن عمر، ودخوله في الطاعة، إذ كيف يوليه على وهو لم يبايع؟. وفي الاستيعاب لابن عبد البر من طريق أبي بكر ابن أبى الجهم عن ابن عمر أنه قال حين احتضر: ما آسى على شيء إلا تركي قتال الفئة الباغية مع على رضي الله عنه(4)، وهذا مما يدل أيضًا على مبايعته لعلى، وأنه إنما ندم على عدم خروجه مع على للقتال، فإنه كان ممن اعتزل الفتنة، فلم يقاتل مع أحد، ولو كان قد ترك البيعة لكان ندمه على ذلك أكبر وأعظم ولصرح به، فإن لزوم البيعة والدخول فيها واجب، والتخلف عن ذلك متوعد عليه برواية ابن عمر نفسه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»(5).وهذا بخلاف الخروج
__________
(1) المصنف لابن أبى شيبة (7/472) إسناده صحيح.
(2) استشهاد عثمان ووقعة الجمل، خالد الغيث، ص (160).
(3) سير أعلام النبلاء (3/224) رجالة ثقات.
(4) الاستيعاب (6/326) بحاشية كتاب الإصابة.
(5) مسلم. ك الإمارة رقم (1851).(2/8)
للقتال مع على، فإنه مختلف فيه بين الصحابة، وقد اعتزله بعض الصحابة، فكيف يتصور أن يندم ابن عمر على ترك هذا القتال، ولا يندم على ترك البيعة لو كان تاركًا لها، مع ما فيه من الوعيد الشديد، وبهذا يظهر بطلان قول بعض المؤرخين في زعمهم من ترك ابن عمر البيعة لعلى – رضي الله عنهما- حيث ثبت أنه كان من المبايعين له بل المقربين منه، الذين كان يحرص على توليتهم، والاستعانة بهم، لما رأى فيه من صدق ولاء والنصح له(1).
__________
(1) الانتصار للصحب والآل، ص (507).(2/9)
وبعد اعتذار ابن عمر عن قبول ولاية الشام، أرسل أمير المؤمنين علىٌّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام حتى أخذته خيل معاوية وقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع(1)، وكانت بلاد الشام تغلي غضبًا على مقتل عثمان ظلمًا وعدوانًا، فقد وصلهم قميصه مخضبًا بدمائه، وبأصابع نائلة زوجه، التي قطعت أصابعها وهي تدافع عنه، وكانت قصة استشهاده أليمة فظيعة اهتزت لها المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها الدموع، كما وصلتهم أخبار المدينة وسيطرة الغوغاء عليها، وهروب بنى أمية إلى مكة، كل هذه الأمور وغيرها من الأحداث والعوامل كان لها تأثير على أهل الشام وعلى رأسهم معاوية، رضي الله عنه، فقال: كان يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه فهو ولى دمه، والله عز وجل يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33]، لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان وأنه قُتل ظلمًا وعدوانا على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام؛ إذ سفكوه في الشهر الحرام، في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات، وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام أحدهم واسمه مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلمت، وذكر الفتن فقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: «هذا يومئذ على الهدى»، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم(2). وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان وكان منشطًا ودافعًا قويًا للتصميم على تحقيق الهدف، وهو عن النعمان بن بشير عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عثمان بن عفان فجاء
__________
(1) تهذيب تاريخ دمشق (4/39)، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (110).
(2) صحيح سنن ابن ماجه (1/24).(2/10)
فأقبل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه فقال:«يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصًا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» قالها ثلاثًا، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبى سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلى به، فكتب إليه به كتابًا(1). كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبى سفيان بيعة على بن أبى طالب بالخلافة، وليست لأطماع معاوية وفي ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق، إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن عليًا أفضل منه وأولى بالأمر(2)، ودليل ذلك ما أخرجه يحيى بن سليمان الجعفى بسند جيد، عن أبى مسلم الخولانى أنه قال لمعاوية: أنت تنازع عليًا، أم أنت مثله؟ فقال: لا والله إن لأعلم أنه أفضل منى، وأحق بالأمر منى، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلومًا، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فأتوه، فقولوا له: فليدفع إلىَّ قتلة عثمان، وأسلم له، فأتوا عليًا، فكلموه، فلم يدفعهم إليه(3)، وفي رواية: فأتوه فكلموه فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلىَّ، فامتنع معاوية(4)، وأما الروايات التي تصور معاوية في خروجه عن طاعة على بسبب أطماع ذاتية وأطماع دنيوية، وبسبب العداء والتنافس الجاهلي القديم بين بنى هاشم وبنى أمية، وغير ذلك من القذف والافتراءات والطعن على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مما اعتمد عليها الكتاب المعاصرون- كالعقاد في عبقرية على، وعبد العزيز الدوري في مقدمة في تاريخ صدر الإسلام- وبنوا
__________
(1) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار رقم (24045)، حديث صحيح.
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (112).
(3) فتح الباري (13/92)، البداية والنهاية (8/129).
(4) فتح الباري (13/92)، استشهاد عثمان، ص (160).(2/11)
عليها تخيلاتهم الباطلة، فهي روايات متروكة مطعون في رواتها عدلاً وضبطًا(1).
وقد استمرت ولاية الشام تابعة لنفوذ معاوية بن أبى سفيان طيلة خلافة على رضي الله عنه، ولم يتمكن على من السيطرة أو تعيين العمال والأمراء فيها، وقد وقعت في الشرق من بلاد الشام بعض المناوشات بين جند على وجند معاوية كان أهمها موقعة (صفين) والتي شهدها على ومعاوية رضي الله عنهما في سنة 37هـ، ولم تمنع هذه المعارك من استمرار سيطرة معاوية على الشام(2).
سادسًا: ولاية الجزيرة:
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (112).
(2) الولاية على البلدان (2/8).(2/12)
كانت الجزيرة إحدى الولايات التابعة للشام أيام عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وبعد استشهاده كانت الشام بيد معاوية، والعراق بيد على، مما جعل الجزيرة محل تنازع بين الفريقين، نظرًا لموقعها الجغرافي واتصالها بالشام من جهة وبالعراق من جهة أخرى(1)، وبالتالي سهولة السيطرة عليها من كلا الجانبين، وقد وقعت في الجزيرة العديد من المعارك بين أجناد على وأجناد معاوية في محاولة من كلا الطرفين للسيطرة عليها، ويبدو أن عليًا استطاع السيطرة عليها(2)، لفترة من الوقت، وعين عليها «الأشتر» وهو أشهر ولاة على في الجزيرة(3)، حيث ولاه عليها لأكثر من مرة، فاستطاع أن يرتب أمورها، ثم اضطر على رضي الله عنه لنقله لولاية مصر وذلك في سنة 38هـ(4)، فعاد الاضطراب مرة أخرى إلى الجزيرة، ونشط معاوية في الاستيلاء عليها بعد ذلك، فوقعت فيها العديد من المعارك(5)، ويبدو أن معاوية استطاع في أواخر سنة 39هـ أن يسيطر إلى حد ما على الجزيرة(6)، وقد كانت ملجأ لبعض المعتزلين للحرب بين على ومعاوية وهم الذين لم يبايعوا أيامها أثناء النزاع الناشب بينهما(7)، ولعل موقعها في المنتصف بين الطرفين هو الذي دفعهم لاختيارها، وقد وردت أسماء بعض من ولى الجزيرة لعلى ومنهم شبيب بن عامر(8)، وكميل بن زياد، وكان لهما دور في مقاومة جيوش الشام التي هاجمت الجزيرة بل أنهما استطاعا الهجوم على الشام من قبل الجزيرة(9).
سابعًا: ولاية مصر:
__________
(1) معجم البلدان (2/135).
(2) الأخبار الطوال للدينورى، ص (154)، الولاية على البلدان (2/8).
(3) تاريخ خليفة بن خياط، ص (200).
(4) تاريخ الطبري (6/380).
(5) الفتوح لابن أعثم الكوفي (4/45)، الكامل (3/379).
(6) الكامل (3/380).
(7) سير أعلام النبلاء (3/414).
(8) الولاية على البلدان (2/9).
(9) الفتوح، لابن أعثم الكوفي (4/50- 52)، تاريخ الطبري (6/19).(2/13)
استشهد عثمان، رضي الله عنه، وعلى مصر محمد بن أبى حذيفة مغتصبًا للولاية فيها، ولم يقره عثمان عليها، وبعد وفاة عثمان أقره علىٌّ على مصر فترة من الوقت لم تطل، حيث وجه معاوية جيشًا إلى نواحي مصر فظفر بمحمد بن أبى حذيفة فقبض عليه ثم سجن وقتل(1)، وقد ذكر أن عليًا لم يعين محمد بن أبى حذيفة على مصر وإنما تركه على حاله حتى إذا قتل عين علىٌّ قيس بن سعد الأنصاري على ولاية مصر(2)، فقال له: سر إلى مصر وليتكها، واخرج إلى رحلك واجمع إليه ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة، فإن الرفق يمن(3)، وقد ظهر ذكاء قيس وحسن تصرفه في العديد من المواقف، فإنه حين توجه إلى مصر كان فيها مجموعة ممن غضبوا لمقتل عثمان، ومجموعة ممن اشتركوا في قتله، ولقد لقيته خيل من مصر قبل دخوله إليها فقالوا: من أنت؟ قال: من فألة(4) عثمان، فأنا أطلب من أوى إليه فأنتصر به لله، قالوا: من أنت؟ قال: فيس بن سعد، قالوا: امض فمضى حتى دخل(5) مصر. وهذا الموقف لقيس هو الذي مكنه من دخول مصر، ثم أعلن بعد ذلك أنه أمير، وربما لو أنه أعلن لهؤلاء الأجناد أنه أمير لمنعوه من دخول مصر أصلاً، كما حدث لمن وجهه على إلى الشام فمنعته أجناد الشام من دخولها حينما علموا أنه قد بعث أميرًا على الشام(6)، وحينما وصل قيس بن سعد إلى الفسطاط صعد المنبر وخطب في أهل مصر وقرأ عليهم كتابًا من على بن طالب رضي الله عنه وطلب البيعة لعلى(7)
__________
(1) ولاة مصر للكندي، ص (42، 43)، الولاية على البلدان (2/9).
(2) ولاة مصر، ص (44)، النجوم الزاهرة (1/94).
(3) الكامل في التاريخ (2/354).
(4) الفألة: الجماعة المنهزمون، لسان العرب (11/531).
(5) الولاية على البلدان (2/10) نقلاً عن نهاية الأرب في تاريخ العرب للنويرى.
(6) تهذيب تاريخ دمشق (4/39).
(7) الكامل في التاريخ (2/354).(2/14)
، وهنا انقسم أهل مصر إلى فريقين: فريق دخل في بيعة على وبايعوا قيسًا، وفريق توقف واعتزل، وكان قيس بن سعد حكيمًا مع الذين بايعوا والذين امتنعوا، حيث لم يجبرهم على البيعة وكف عنهم وتركهم في حالهم(1)، ولم يكتف بذلك بل إنه بعث لهؤلاء أعطياتهم في مكان اعتزالهم، ووفد عليه قوم منهم فأكرمهم وأحسن إليهم(2)، فساعدت تلك المعاملة الطيبة على تجنب الصدام بهم، وبالتالي ساعدته على تهدئة الأوضاع بمصر، حتى استطاع قيس أن ينظم الأمور فيها، فوزع الأمراء ونظم أمور الخراج، وعين رجالات على الشرطة(3)، وبذلك استطاع أن يرتب ولاية مصر، وأن يسترضى جميع الأطراف فيها(4)، وأصبح قيس بن سعد في هذا الموقع يشكل ثقلاً سياسيًا وخطرًا عسكريًا على معاوية بن أبى سفيان في الشام، نظرًا لقرب مصر من الشام، ولترتيب قيس لها وتنظيمها وما اشتهر عن قيس من حزم، وخوف معاوية من حركات عسكرية مناوئة له تخرج من مصر، ولذلك فإنه أخذ يراسل قيس بن سعد في مصر مهددًا له، وفي الوقت نفسه يحاول إغراءه بالانضمام إليه، وكانت إجابات قيس على تلك الرسائل إجابات ذكية بحيث لم يستطع معاوية أن يفهم موقف قيس وما ينوى عمله، وقد تعددت بينهما الرسائل(5)، وقد انتشرت الروايات الرافضية من الرسائل بين معاوية وقيس بن سعد التي ذكرها أبو مخنف في كتب التاريخ وهي باطلة لا تصح، فقد انفرد بها هذا الرافضي التالف الذي ضعفه رجال الجرح والتعديل بها، وفي متن تلك الرواية غرائب من أبرزها ما يلي:
__________
(1) ولاة مصر، ص (44)، الكامل في التاريخ (2/354).
(2) ولاة مصر، ص (44).
(3) الولاية على البلدان (2/11)، النجوم الزاهرة (1/98).
(4) الولاية على البلدان (2/11).
(5) الكامل (2/355)، الولاية على البلدان (2/11).(2/15)
1- خطاب علي إلى أهل مصر مع قيس بن سعد وفيه: ثم ولى بعدهما وال فأحدث أحداثًا فوجدت عليه الأمة مقالاً فقالوا: ثم نقموا عليه فغيروا، وهذا يعنى أن الذين قاموا على عثمان (رضي الله عنه) رجال الأمة، وأن الأمة قد غيرت هذا المنكر بقتل عثمان، وعلى رضي الله عنه بريء من هذا القول، وهو يعلم أن الذين قتلوا عثمان هم أوباش الناس وأن قتله ظلم وفجور، وأقواله تدل على ذلك، ومنها ما رواه ابن عساكر أن محمد ابن الحنيفة قال: ما سمعت عليا ذاكرًا عثمان بسوء قط(1)، وأخرج الحاكم وابن عساكر أن عليًا رضي الله عنه قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي، وجاءوني للبيعة فقلت: والله لأستحي من الله أن أبايع قومًا قتلوا رجلاً قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة»، إني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا فلما دُفن رجع الناس يسألونني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، جاءت عزيمة فبايعت، فلما قالوا: أمير المؤمنين فكأن صدع قلبي وانسكب(2) بعبرة.
وأقواله في هذا المعنى كثيرة(3)، وقد جمعتها في كتابي: تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان(4).
__________
(1) تاريخ ابن عساكر، ترجمة عثمان، ص (395).
(2) المستدرك (3/95، 103) صحيح على شرط الشيخين.
(3) مرويات أبى مخنف، د. يحيى اليحيى، ص (211).
(4) عثمان بن عفان للصلابي، ص (407- 409).(2/16)
2- قول قيس بن سعد: أيها الناس إنا قد بايعنا خير ما نعلم بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مردود، إذ إن الثابت تفضيل أبى بكر وعمر (رضي الله عنه) على علىٍّ رضي الله عنه كما صح بذلك، وهذا لا يشك فيه أحد في ذلك الزمان من الصحابة وغيرهم، وعليه فلا يصح نسبة هذا الكلام لقيس بن سعد، رضي الله عنه، ولا لغيره من الصحابة والتابعين، ولم يشتهر هذا إلا عند الشيعة الروافض المتأخرين(1)، قال ابن تيمية: الشيعة المتقدمون كلهم متفقون على تفضيل أبى بكر وعمر(2)، والأدلة في تفضيل أبى بكر وعمر كثيرة منها ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نخير بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان(3).
والأحاديث في ذلك كثيرة(4) ومشهورة، وحقيقة الأمر كما مر معنا في الروايات الصحيحة السابقة أن معاوية طلب من أمير المؤمنين تسليمه قتلة عثمان ولم يتهم أمير المؤمنين عليًا به.
__________
(1) مرويات أبى مخنف، (211).
(2) منهاج السنة (1/4، 2111).
(3) البخاري رقم (3697).
(4) مرويات أبى مخنف، (212).(2/17)
3- رسالة معاوية إلى قيس بن سعد: وإشارته إلى كون على طرفًا في قتل عثمان، وهذا لا يصح صدوره من معاوية، ذلك أن الأمر واضح في براءة على (رضي الله عنه) كما مر في الفقرة السابقة، وهذا لا يجهله معاوية (رضي الله عنه)، فضلاً أن يقره لقيس بن سعد (رضي الله عنه)، وهذا محمد بن سيرين من كبار التابعين ومن الذين عاصروا ذلك المجتمع يقول: لقد قتل عثمان وما أعلم أحدًا يتهم عليًا في قتله(1)، ويقول أيضًا: لقد قتل عثمان يوم قتل وإن الدار يومئذ لغاصة، فيهم عبد الله بن عمر، وفيهم الحسن بن على في عنقه السيف، ولكن عثمان عزم عليهم أن لا يقاتلوا(2)، وأخرج ابن أبى شيبة بسند رجاله ثقات عن محمد ابن الحنيفة أن عليًا قال: لعن الله قتلة عثمان في السهل والجبل والبر والبحر(3)، والنصوص في هذا المعنى كثيرة جدًا(4)، مما يؤكد اشتهار كراهية على رضي الله عنه لقتل عثمان(5).
4- وأما ما أورده من اتهام معاوية للأنصار في دم عثمان، فهذا لا يصح من معاوية وهو يعلم أن الذي قام بالدفاع جميعًا هم الأنصار، فقد أخرج ابن سعد بسند صحيح أن زيد بن ثابت، رضي الله عنه، جاء إلى عثمان، رضي الله عنه، وهو محصور فقال: هذه الأنصار بالباب يقولون: إن شئت كنا أنصار الله مرتين، قال: فقال عثمان: أما القتال فلا(6).
__________
(1) تاريخ ابن عساكر، ترجمة عثمان، ص 35، مرويات أبى مخنف، ص (212).
(2) تاريخ ابن عساكر، ترجمة عثمان، ص (350).
(3) المصنف (15/268).
(4) نقل ابن عساكر نصوصًا كثيرة تبين نصرة على لعثمان، ترجمة عثمان، ص (395).
(5) مرويات أبى حنيف في تاريخ الطبري، ص (213).
(6) الطبقات (3/70) سنده صحيح.(2/18)
5- ما ذكره من اختلاق معاوية كتابًا على لسان قيس بن سعد، فهذا من الكذب الذي لا يعقل صدوره من معاوية، ذلك أن العرب كانوا يعدون الكذب من أقبح الصفات التي يتنزه عنها الرجال الكرام، وهذه قصة أبى سفيان وهو يومئذ على الشرك فيما أخرجه البخاري في قصة سؤال هرقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علىَّ كذبًا لكذبت عليه(1)، فهذه منزلة الكذب عند العرب، وعند المسلمين أشد وأخزى، ولا يقول قائل: هذه خدعة، والحرب خدعة، فإن الخدعة ليس معناها الكذب كما هو معلوم من كلام العرب، ومعاوية، رضي الله عنه، أحذق من أن يفعل هذا(2).
6- رواية هذه الكتب الكثيرة بين قيس ومعاوية وعلى رضي الله عنهم بهذا التسلسل وبهذه الدقة تدخل الشك والريبة على القارئ لجهالة المطلع والناقل لها(3).
__________
(1) البخاري رقم (7).
(2) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (214).
(3) المصدر نفسه، ص (214).(2/19)
يقول الدكتور يحيى اليحيى: إن ولاية قيس بن سعد بن عبادة، رضي الله عنهما، على مصر من قبل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه أمر مجمع عليه(1)، وكل من ترجم لقيس لم يذكر هذه التفاصيل(2)، أي التي ذكرها أبو مخنف في روايته، وحتى مؤرخو مصر المعتبرون لم يذكروا ذلك(3)، هذا وقد نقل رواية أبى مخنف من الطبري بعد حذف واختصار كل من: ابن الأثير، وابن كثير، وابن خلدون، وابن تغرى بردى(4)، وقد أخرج الكندي أيضًا عن عبد الكريم بن الحارث قال: لما ثقل مكان قيس على معاوية كتب إلى بعض بنى أمية بالمدينة: أن جزى الله قيس بن سعد خيرًا واكتموا ذلك، فإني أخاف أن يعزله على إن بلغه ما بينه وبين شيعتنا، حتى بلغ عليًا فقال من معه من رؤساء أهل العراق وأهل المدينة: بدل قيس وتحول، فقال على: ويحكم، إنه لم يفعل، فدعوني، قالوا: لتعزلنه فإنه قد بدل، فلم يزالوا به حتى كتب إليه: إني قد احتجت إلى قربك، فاستخلف على عملك وأقدم(5)، وقد رجح هذه الرواية الدكتور اليحيى في كتابه القيم مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري قال:
1- إنها من رواية مصري ثقة وهو أعلم بقطره من غيره.
2- أخرجها مؤرخ مصري.
3- خلوها من الغرائب.
4- متنها مما يتفق مع سيرة أولئك الرجال.
5- بينت تردد على في عزل قيس حتى ألح عليه الناس فاستبقاه عنده، وهكذا القائد لا يفرط بالقيادات الحاذقة وقت المحن(6).
__________
(1) تاريخ خليفة، ص (201)، فتوح مصر (274)، ولاة مصر (440)، سير أعلام النبلاء (3/13).
(2) طبقات ابن سعد (6/52)، تاريخ بغداد (1/177)، سير أعلام النبلاء (3/102).
(3) فتوح مصر، وولاة مصر، مرويات أبى مخنف، ص (207).
(4) تاريخ ابن خلدون (4/1092)، النجوم الزاهرة (1/97)، البداية والنهاية (7/251).
(5) ولاة مصر، ص (45، 46) وفيها المدائني وهو صدوق وبقية رجالها ثقات إلا أنها مرسلة.
(6) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (210).(2/20)
- تعيين محمد بن أبى بكر على ولاية مصر: تدخل بعض الناس للإفساد بين على وقيس بن سعد لكي يعزله، وفي نهاية المطاف طلب بعض مستشاري على منه أن يعزل قيسًا وصدقوا تلك الإشاعات التي قيلت فيه، وألحوا في عزله، فكتب إليه على: إني قد احتجت إلى قربك فاستخلف على عملك وأقدم(1). وكان هذا الكتاب بمثابة عزل لقيس عن ولاية مصر، وقد عين على مكانه الأشتر النخعى(2)، على أكثر الأقوال، وقد التقى على بالأشتر قبل سفره إلى مصر، فحدثه حديث أهل مصر وخبره خبر أهلها، وقال: ليس لها غيرك، اخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت برأيك، واستعن بالله على ما أهمك؛ فاخلط الشدة باللين، وارفق ما كان الرفق أبلغ، واعزم بالشدة حين لا تغنى عنك إلا الشدة(3)، وقد توجه الأشتر إلى مصر ومعه رهط من أصحابه، إلا أنه حينما وصل إلى أطراف (بحر القلزم)- البحر الأحمر- مات قبل أن يدخل مصر، وقد قيل إنه سقى شربة مسمومة من عسل فمات منها، وقد اتهم أناس من أهل الخراج أنهم سموه بتحريض من معاوية(4)، والتهمة الموجهة إلى معاوية في قتل الأشتر بالسم لا تثبت من طريق صحيح.
واستبعد ذلك ابن كثير(5)، وابن خلدون(6)، وسار على نهجهما الدكتور يحيى اليحيى(7)، وملت إلى هذا القول.
__________
(1) ولاة مصر (45، 46).
(2) فتوح البلدان، ص (229)، الولاية على البلدان (2/12).
(3) النجوم الزاهرة (1/103).
(4) النجوم الزاهرة (1/104)، سير أعلام النبلاء (4/34).
(5) البداية والنهاية (8/303).
(6) تاريخ ابن خلدون (4/1125).
(7) مرويات أبى مخنف، ص (224).(2/21)
هذا وقد مات الأشتر قبل أن يباشر عمله في مصر، ومع ذلك فإن المصادر تتحدث عنه كأحد ولاة مصر لعلى بن أبى طالب، وقد ولى بعده على مصر محمد بن أبى بكر(1). وقد سبق لمحمد بن أبى بكر أن عاش في مصر في عهد عثمان، وتدل الروايات على أن محمد بن أبى بكر قد وصل إلى مصر قبل أن يغادرها الوالي الأول قيس بن سعد، وقد دارت محاورة بين قيس بن سعد ومحمد بن أبى بكر قدم فيها قيس عدة نصائح لمحمد، خصوصًا فيما يتعلق بالناس الغاضبين لمقتل عثمان، والذين لم يبايعوا عليًا بعده، وقد قال قيس: يا أبا القاسم إنك قد جئت من عند أمير المؤمنين وليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، ودع هؤلاء القوم ومن انضم إليهم- يقصد الذين لم يبايعوا عليًا ولا غيره – على ما هم عليه، فإن أتوك فاقبلهم وإن تخلفوا عنك فلا تطلبهم، وأنزل الناس على قدر منازلهم وإن استطعت أن تعود المرضى وتشهد الجنائز فافعل، فإن هذا لا ينقصك(2).
__________
(1) النجوم الزاهرة (1/106).
(2) ولاة مصر، ص (50)، الولاية على البلدان (2/13).(2/22)
وقد حمل محمد معه عهدًا من على رضي الله عنه فقرأه على أهل مصر وخطبهم(1)، وقد كتب أمير المؤمنين على لمحمد بن أبى بكر كتابًا جاءه عندما ولاه على مصر، ولم يكن هذا الكتاب مقتصرًا على سياسة الولاية، بل يحوى دعوة محمد بن أبى بكر الصديق إلى الله، ومما جاء في هذا الكتاب: واعلم يا محمد أنك وإن كنت محتاجًا إلى نصيبك من الدنيا، إلا أنك إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن عرض لك أمران: أحدهما للآخرة والآخر للدنيا، فابدأ بأمر الآخرة، ولتعظم رغبتك في الخير، ولتحسن فيه نيتك، فإن الله عز وجل يعطي العبد على قدر نيته، وإذا أحب الخير وأهله ولم يعمله كان- إن شاء الله- كمن عمله، فإن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال حين رجع من تبوك: «إن بالمدينة لأقوامًا ما سرتم من مسير، ولاهبطتم من واد إلا كانوا معكم، ما حبسهم إلا المرض. يقول: كانت لهم نية»(2) ، ثم اعلم يا محمد أني قد وليتك أعظم أجنادي: أهل مصر ووليتك ما وليتك من أمر الناس، فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك وتحذر فيه على دينك، ولو كان ساعة من نهار، فإن استطعت أن لا تسخط ربك لرضا أحد من خلقه منه، فاشتد على الظالم، ولِنْ لأهل الخير وقربهم إليك واجعلهم بطانتك، وإخوانك، والسلام(3).
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/356).
(2) له أصل في صحيح مسلم، ك الإمارة (3/1518).
(3) تاريخ الطبري، منهج على بن أبى طالب في الدعوة إلى الله ص (282).(2/23)
وبدأ محمد بن أبى بكر يمارس ولايته، وقد مضى الشهر الأول من ولايته بسلام، إلا أن الأمور بدأت تتغير بعد ذلك، فلم يعمل محمد بنصيحة قيس بن سعد، وبدأ يتحرش بأولئك الأقوام الذين لم يبايعوا عليًا، فكتب إليهم يدعوهم إلى المبايعة فلم يجيبوه، فبعث رجالاً إلى بعض دورهم فهدموها ونهب أموالهم وسجن بعض ذراريهم، فعملوا على محاربته(1)، ثم إن معاوية أعد جيشًا بقيادة عمرو بن العاص فغزا به مصر، وتحالف مع من قاتلهم محمد بن أبى بكر، وكانت قوتهم كبيرة تصل إلى عشرة آلاف مقاتل وفيهم مسلمة بن مخلد ومعاوية بن حديج(2) ووقعت بينهم وبين محمد بن أبى بكر معارك قوية انتهت بمقتل محمد بن أبى بكر واستيلاء أجناد معاوية على مصر، وبذلك خرجت مصر من حكم على بن أبى طالب رضي الله عنه سنة ثمان وثلاثين للهجرة(3)، وقد انفرد أبو مخنف الشيعي الرافض برواية مفصلة ذكرها الطبري(4)، شوهت كثيرًا من حقائق التاريخ والتي لم يخرجها غيره ثم ذكرها بعض المؤرخين على النحو التالي:
اليعقوبي: ذكر قتال عمرو بن العاص لمحمد بن أبى بكر، وأن معاوية بن حديج أخذه وقتله ثم وضعه في جيفة حمار فأحرقه(5)، وأما المسعودي(6)، وابن حبان(7)، فقد أشارا إلى قتل محمد بن أبى بكر ولم يذكرا التفاصيل(8)، ونقل ابن الأثير(9) رواية أبى مخنف في الطبري بعدما حذف منها كتاب معاوية إلى محمد بن أبى بكر، ونص المكاتبات بين على وابن أبى بكر، وحذف رد ابن أبى بكر على معاوية وعمرو بن العاص، من رواية أبى مخنف في الطبري.
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/357)، الولاية على البلدان (2/13).
(2) تاريخ الطبري (6/11).
(3) تاريخ خليفة بن خياط، ص (19)، تاريخ الطبري (6/5).
(4) تاريخ الطبري (6/7إلى 18).
(5) تاريخ اليعقوبي (2/194).
(6) مروج الذهب (2/420).
(7) الثقات (2/297).
(8) مرويات أبى مخنف ص (241).
(9) الكامل (2/409إلى 414).(2/24)
وقد ذكر النويرى نحوًا مما ذكره ابن الأثير(1)، وذكر ابن كثير قريبًا مما ذكره ابن الأثير والنويرى، وأما ابن خلدون فأشار إلى معنى روايات أبى مخنف(2)، واختصر ابن تغرى بردى روايات أبى مخنف(3)، وكل هذه الروايات جاءت من طريق أبى مخنف وساهمت في تشويه التاريخ الإسلامي لتلك الحقبة، وتناقلها الكتاب المعاصرون دون تمحيص وساهموا في نشرها، واستقرت كثير من تلك الأكاذيب في أذهان بعض المثقفين، فأصبحت جزءًا لا يتجزأ من ضمن سلسلة المفاهيم المغلوطة التي نشروها بين الناس.
هذا وإن قتل معاوية بن حديج لمحمد بن أبى بكر قد ثبت من طريق صحيح فيما أخرجه أبو عوانة عن عبد الرحمن بن شماسة قال: دخلت على عائشة أم المؤمنين فقالت لي: ممن أنت؟ قلت: من أهل مصر، قالت: كيف وجدتم ابن حديج في غزاتكم هذه؟ فقلت: وجدناه خير أمير، ما مات لرجل منا عبد إلا أعطاه عبدًا، ولا بعير إلا أعطاه بعيرًا، ولا فرس إلا أعطاه فرسًًا، قالت: أما إنه لا يمنعني قتله أخي أن أحدث ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم من ولى من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فشق عليه»(4).
وقد اشتملت روايات أبى مخنف في تاريخ الطبري حول ولاية محمد بن أبى بكر لمصر ومقتله على جملة من الغرائب أبرزها ما يأتي:
__________
(1) نهاية الأرب (20/107- 112).
(2) تاريخ ابن خلدون (4/1126- 1128).
(3) النجوم الزاهرة (1/107- 112).
(4) مسند أبى عوانة (40/113)، مسلم (3/1458)، مع اختلاف في بعض الألفاظ.(2/25)
1- ما ذكره من مبايعة أهل الشام لمعاوية بالخلافة بعد التحكيم فهذا غير صحيح، فقد نقل ابن عساكر بسند رجاله ثقات عن سعيد بن عبد العزيز التنوخى أعلم الناس بأمر الشام(1)، أنه قال: كان علىٌّ بالعراق يدعى أمير المؤمنين وكان معاوية بالشام يدعي الأمير، فلما مات على دُعي معاوية بالشام أمير المؤمنين(2) ، فهذا النص يبين أن معاوية لم يبايع بالخلافة إلا بعد وفاة على وإلى هذا ذهب الطبري، فقد قال في آخر حوادث سنة أربعين: وفي هذه السنة بويع لمعاوية بالخلافة بإيليا(3)، وعلق على هذا ابن كثير بقوله: يعنى لما مات على قام أهل الشام فبايعوا معاوية على أمرة المؤمنين لأنه لم يبق له عندهم منازع(4)، وكان أهل الشام يعلمون بأن معاوية ليس كفئًا لعلى بالخلافة، ولا يجوز أن يكون خليفة مع إمكان استخلاف على رضي الله عنه، فإن فضل على وسابقته وعلمه، ودينه، وشجاعته، وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معروفة، كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان، وغيرهم رضي الله عنهم(5)، وإضافة إلى ذلك فإن النصوص تمنع من مبايعة خليفة مع وجود الأول، فقد أخرج مسلم في صحيحة عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»(6)، والنصوص في هذا المعنى كثيرة، ومن المحال أن يقدم الصحابة على مخالفة ذلك(7).
2- قوله: إن عمرو بن العاص صالح معاوية على أن له مصر طعمه ما بقى، فهذه القصة أخرجها ابن عساكر بسند فيه مجهول(8)، وذكرها الذهبي بصيغة التمريض، وبالتالي تصبح ساقطة لا اعتبار لها.
__________
(1) قال الحاكم: هو لأهل الشام كمالك لأهل المدينة، تهذيب التهذيب (4/60).
(2) تاريخ الطبري (6/76).
(3) تاريخ دمشق (16/360).
(4) البداية والنهاية (8/16).
(5) فتاوى ابن تيمية (35/73).
(6) صحيح مسلم (3/1480).
(7) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (412).
(8) تاريخ دمشق (13/261).(2/26)
3- اتهام محمد بن أبى بكر بقتل عثمان رضي الله عنه بمشاقصه، فهذا باطل، وقد جاءت روايات ضعيفة في ذلك، كما أن متونها شاذة لمخالفتها للرواية الصحيحة التي تبين أن القاتل هو رجل مصري(1)، وقد ذكر الدكتور يحيى اليحيى عدة أسباب ترجح براءة محمد بن أبى بكر من دم عثمان منها:
(أ) أن عائشة، رضي الله عنها، خرجت إلى البصرة للمطالبة بقتلة عثمان ولو كان أخوها منهم ما حزنت عليه لما قتل.
(ب) لعن على رضي الله عنه لقتلة عثمان، رضي الله عنه، وتبرؤه منهم، يقتضى عدم تقريبهم وتوليهم، وقد ولى محمد بن أبى بكر مصر فلو كان منهم ما فعل ذلك.
(جـ) ما أخرجه ابن عساكر بسنده عن محمد بن طلحة بن مصرف قال: سمعت كنانة مولى صفية بنت حيى قال: شهدت مقتل عثمان وأنا ابن أربع عشرة سنة، قال: هل أندى محمد بن أبى بكر شيء من دمه، فقال: معاذ الله، دخل عليه، فقال عثمان: يا ابن أخي لست بصاحبي، فخرج، ولم يند من دمه بشيء(2)، ويشهد بهذا ما أخرجه خليفة بن خياط والطبري بإسناد رجاله ثقات عن الحسن البصري، وكان ممن حضر يوم الدار(3)، أن ابن أبى بكر أخذ بلحيته، فقال عثمان: لقد أخذت مني مأخذًا أو قعدت منى مقعدًا ما كان أبوك ليقعده، فخرج وتركه(4)، وبهذا يتبين لنا براءة محمد بن أبى بكر الصديق من دم عثمان، براءة الذئب من دم يوسف،كما تبين أن سبب تهمته هو دخوله قبل القتل(5)، وقد ذكر ابن كثير – رحمه الله – أنه لما كلمه عثمان- رضي الله عنه – استحى، ورجع وتندم، وغطى وجهه وحاجز دونه فلم تفد محاجزته(6).
__________
(1) فتنة مقتل عثمان (1/209).
(2) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري ص (243).
(3) المصدر نفسه ص (244)، تهذيب الكمال (6/97).
(4) مرويات أبى مخنف، ص (244).
(5) فتنة مقتل عثمان (1/209).
(6) البداية والنهاية (7/193).(2/27)
(د) ما ورد من تخويف معاوية بن أبى سفيان (رضي الله عنه) لمحمد بن أبى بكر بالمثلة، وما ذكر من جعل محمد بن أبى بكر في جيفة حمار وإحراقه، كل هذا لا يستقيم مع أحكام الشرع في القتلى، فقد ورد الزجر عن التمثيل بالكفار فكيف بالمسلمين، أخرج مسلم في صحيحة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أمر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اعزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا(1)، وقال الشافعي: وإذا أسر المسلمون المشركين فأرادوا قتلهم، قتلوهم بضرب الأعناق ولم يجاوزوا ذلك، أي أن لا يمثلوا بقطع يد ولا رجل ولا عضو ولا مفصل ولا بقر بطن، ولا تحريق، ولا تغريق ولا شيء يعدو ما وصفت، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المثلة(2)، وهل يظن بالصحابة الكرام مخالفة هذا، وهم كما وصفهم ابن مسعود: خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا على الهدى المستقيم ورب الكعبة(3)، وقال عنهم ابن أبى حاتم: ندب الله عز وجل إلى التمسك بهديهم والجري على مناهجهم، والسلوك لسبيلهم والاقتداء بهم قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(4) [النساء:115].
__________
(1) صحيح مسلم (3/1357).
(2) الأم (4/162)، انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، ص (479).
(3) حلية الأولياء (1/305).
(4) مقدمة الجرح والتعديل (1/7).(2/28)
وأصح رواية جاءت في إحراقه ما أخرجه الطبراني عن الحسن البصري قال: أخذ هذا الفاسق محمد بن أبى بكر في شعب من شعاب مصر فأدخل في جوف حمار فأحرق(1)، وهذا الرواية مرسلة إذ إن الحسن لم يشهد الحادثة، ولم يسم لنا من نقل عنه، إضافة إلى أن النص لم يذكر من قام بإحراقه، وأيضا ما كان الحسن أن يرميه بالفسق وهو يعلم ثناء على رضي الله عنه عليه وتفضيله له(2).
(هـ) ما ذكره من قوله (على رضي الله عنه)، الفاجر ابن الفاجر يقصد معاوية، فهذا يستبعد صدوره من على(رضي الله عنه)، إذ إن الخلاف مع معاوية دون أبيه، وأبو سفيان، رضي الله عنه، قد أسلم وحسن إسلامه ومات قبل مقتل عثمان رضي الله عنه، فلم يدرك الفتنة(3)، والله تعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]، والصحابة أعلم الناس بكتاب الله وأشدهم وقوفًا عند حدوده، فكيف ينسب لهم مثل هذا الفعل(4).
(و) ما ذكره من قول معاوية بن حديج- رضي الله عنه – لعمرو بن العاص- رضي الله عنه- لما طلب ابن أبى بكر وتلاوته لهذه الآية { أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، فهذا يعنى تكفير محمد بن أبى بكر وغيره، وهذا لم يعرف من الصحابة وما كان بينهم لم يصل إلى درجة التكفير، وقد وضح سعد بن أبى وقاص، رضي الله عنه، هذا بقوله: «إن ما بيننا لم يبلغ ديننا»(5)، وأيضًا فإن معاوية بن حديج من جند عمرو بن العاص، رضي الله عنه، وما كان له أن يرفض طلب قائده(6).
__________
(1) المعجم الكبير (1/84) ورجاله ثقات غير أمية بن خالد فهو صادق.
(2) الاستيعاب (3/348).
(3) سير أعلام النبلاء (2/105)، ومرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (248).
(4) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (247).
(5) فضائل الصحابة (2/751) وسنده صحيح، مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري، ص (248).
(6) مرويات أبى مخنف، ص (248).(2/29)
(ز) ما أورده من قول محمد بن أبى بكر أن عثمان عمل بالجور ونبذ حكم الكتاب لم أقف له على أصل يثبت صحة نسبته إلى ابن أبى بكر، أما إظهار براءة عثمان، رضي الله عنه، من ذلك فأشهر من أن تذكر(1)، وقد توسعت فيها في كتابي «تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان».
ثامنًا: ولاية البصرة:
أرسل أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه عثمان بن حنيف الأنصاري أميرًا على البصرة بدلاً من عبد الله بن عامر واليها السابق الذي تركها واتجه إلى مكة المكرمة، وقد كان عثمان بن حنيف الأنصاري صاحب خبرة في المنطقة؛ إذ سبق أن عينه عمر على مسح (السواد) وتقدير الخراج فيه(2)، وقد سار عثمان بن حنيف إلى البصرة ودخلها بسلام، إلا أن أهل البصرة انقسموا ثلاث فرق، فرقة بايعت ودخلت في الجماعة، وفرقة اعتزلت وقالت: ننظر ما يصنع أهل المدينة فنصنعه، وفرقة رفضت الدخول في البيعة(3).ولم يلبث عثمان بن حنيف طويلاً في الولاية، فقد قدم إلى البصرة جيش طلحة والزبير وعائشة قبل معركة الجمل ومعهم ممن خرج للمطالبة بدم عثمان، وتطورت الأمور وحدث قتال، وخرج عثمان بن حنيف إلى بن أبى طالب رضي الله عنه فلقيه في طريقه إلى البصرة قبيل وقعة الجمل، وبذلك انتهت ولاية عثمان بن حنيف، وقد وصل على بن أبى طالب إلى البصرة ومكث فيها بعضًا من الوقت حدثت في أثنائه وقعة الجمل- التي سيأتي تفصيلها بإذن الله تعالى – وعندما أراد على بن أبى طالب الخروج من البصرة ولى عبد الله ابن عباس، رضي الله عنه، وقد ولى علىٌّ مع عبد الله بن عباس زياد بن أبيه على الخراج، وأمر ابن عباس أن يستشيره ويأخذ برأيه نظرًا لما وجد على عنده من خبرة في العمل وفطانة في السياسة(4). وقدم على بعض النصائح لابن عباس
__________
(1) مرويات أبى مخنف، ص (248).
(2) سير أعلام النبلاء (2/320).
(3) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (107)، تاريخ الطبري (5/492).
(4) تاريخ الطبري (5/580).(2/30)
منها قوله: «أوصيك بتقوى الله عز وجل والعدل على من ولاك الله أمره، اتسع للناس بوجهك وعلمك وحكمك، وإياك والإحن(1)، فإنها تميت القلب والحق، واعلم أن ما قربك من الله بعدك من النار، وما قربك من النار بعدك من الله، واذكر الله كثيرًا ولا تكن من الغافلين(2). وقد بدأ ابن عباس يمارس عمله في ولايته وهو صحابي عرف بعلمه الواسع في الفقه والتفسير، وقد أثبت مهارة إدارية بتوطيد الأمن في سجستان وهي تابعة لولاية البصرة، وفي إقليم فارس حيث عين زياد بن أبى سفيان واليًا عليه، كما أنابه حين خرج من البصرة فتمكن من ضبط الأمن فيها، ويعتبر عبد الله بن عباس من أهم رجالات أمير المؤمنين على، وكان يرافقه في الأحداث الخطيرة، وينصح له ويجادل عنه، وكان أمير المؤمنين على يعتمد عليه ويستشيره، وقد استمرت ولاية ابن عباس على البصرة حتى 39هـ، وكان يعاونه صاحب الشرطة وصاحب الخراج، وقد استمر ابن عباس في بعض الروايات على البصرة حتى مقتل على، قال الطبري في حوادث سنة 40هـ: فيها خرج
عبد الله بن عباس من البصرة، ولحق بمكة في قول عامة أهل السير، وقد أنكر ذلك بعضهم وزعم أنه لم يزل بالبصرة عاملاً عليها من قبل أمير المؤمنين على رضي الله عنه حتى قتل، وبعد مقتل على صالح الحسن معاوية، ثم خرج إلى مكة(3).
__________
(1) الإحن: الأحقاد.
(2) وقعة صفين للمنقرى ص (105)، الولاية على البلدان (2/15).
(3) تاريخ الطبري (6/56).(2/31)
إن شخصية ابن عباس كانت شخصية قيادية جمعت صفات القائد الرباني، من العلم والفطنة والذكاء والصبر، والحزم، وغيرها من الصفات إلا أنه أشتهر بالفقه والعلم بسبب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له بالفقه في الدين والعلم بالتأويل، وأخذه عن كبار الصحابة، وقوة اجتهاده وقدرته على الاستنباط، واهتمامه بالتفسير، ومنهجه المتميز في تعليم أصحابه، وحرصه على نشر العلم، ورحلاته وأسفاره، وتأخر وفاته وقرب منزلته من عمر، رضي الله عنه(1)، فقد حظي بعناية خاصة من الفاروق عندما لمس فيه مخايل النجابة والذكاء والفطنة، فكان يدنيه من مجلسه، ويقربه إليه، ويشاوره، ويأخذ برأيه فيما أشكل من الآيات، وابن عباس مازال شابًا غلامًا، فكان لذلك الأثر البالغ في دفعه وحثه على التحصيل والتقدم، بل والإكثار في باب التفسير وغيره من أبواب العلم، فعن عامر الشعبي عن ابن عباس، رضي الله عنه، قال: قال لي أبى: يا بنى إني أرى أمير المؤمنين يقربك، ويخلو بك، ويستشيرك مع أناس من أصحاب رسول الله، فاحفظ عنى ثلاثًا: اتق الله ولا تفشين له سرًا، ولا يجربن عليك كذبة، ولا تغتابن عنده أحدًا(2)، وكان عمر يدخله مع أكابر الصحابة، وما ذلك إلا لأنه وجد فيه قوة الفهم وجودة الفكر، ودقة الاستنباط، وقد قال ابن عباس، رضي الله عنهما: كان عمر يسألني مع أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقول لي: لا تتكلم حتى يتكلموا، فإذا تكلمت قال: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شئون رأسه(3)، وكان ابن عباس لشدة أدبه، إذا جلس في مجلس فيه من هو أسن منه لا يتحدث إلا إذا أُذن له، فكان عمر يلمس ذلك منه فيحثه، ويحرضه على الحديث تنشيطًا لنفسه، وتشجيعًا له في العلم(4). وكان لعمر، رضي الله عنه، مجلس يسمع فيه الشباب
__________
(1) تفسير التابعين (1/374- 395).
(2) الحلية (10/318)، تفسير التابعين (1/376).
(3) المستدرك (3/53) صحح إسناده الحاكم ووافقه الذهبي.
(4) تفسير التابعين (1/377).(2/32)
ويعلمهم، وكان ابن عباس من المقدمين عند عمر، فعن عبد الرحمن بن زيد قال: كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا صلى السبحة وفرغ دخل مربدًا له(1)، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن منهم ابن عباس، قال: فيأتون فيقرؤون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرفنا، قال: فمروا بهذه الآية:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ - وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:206، 207]، فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جانبه: اقتتل الرجلان: فسمع عمر ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين، قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال: فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل، وأخذته العزة بالإثم قال هذا: وأنا أشرى نفسي، فاقتتل الرجلان، فقال عمر: لله تلادك يا ابن عباس(2)، وكان عمر، رضي الله عنه، يسأل ابن عباس عن الشيء من القرآن ثم يقول: غص غواص(3)، بل كان إذا جاءته الأقضية المعضلة يقول لابن عباس: يا ابن عباس قد طرأت علينا أقضية عضل، وأنت لها ولأمثالها، ثم يأخذ برأيه، وما كان يدعو لذلك أحدًا سواه إذا كانت العضل(4)، وعن سعد بن أبى وقاص قال: ما رأيت أحدًا أحضر فهمًا، ولا ألب لبًا، ولا أكثر علمًا، ولا أوسع حلمًا من ابن عباس، ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وإن حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار(5)
__________
(1) السبحة: الدعاء وصلاة التطوع، المربد: المكان يجعل فيه التمر.
(2) تفسير الطبري (4/245)، الدر المنشور (1/578).
(3) فضائل الصحابة لأحمد (1/981) رقم (140).
(4) تفسير التابعين (1/37).
(5) طبقات ابن سعد (2/369).(2/33)
، وكان عمر يصفه بقوله: ذاكم فتى الكهول، إن له لسانًا سؤولاً، وقلبًا عقولاً(1)، يقول طلحة بن عبيد الله: ما كنت أرى عمر بن الخطاب يقدم على ابن عباس أحدًا(2)، وكان ابن عباس، رضي الله عنه، كثير الملازمة لعمر، حريصًا على سؤاله والأخذ عنه، ولذا كان رضي الله عنه من أكثر الصحابة نقلاً ورواية لتفسير عمر وعلمه- رضي الله عنه -، وقد أشار بعض أهل العلم إلى أن عامة علم ابن عباس أخذه عن عمر، رضي الله عن الجميع(3)، لقد كان اهتمام عمر به مساعدًا له على المضي قدما في طريق العلم عامة والتفسير خاصة(4)، ولذلك تشرفت المدرسة المكية في عهد التابعين بحبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما(5)، وكان ابن عباس في عهد عثمان من المقربين إلى الخليفة، وقد كلفه بالحج بالناس في العام الذي قتل فيه(6)، هذا وقد عمل بعض المتأثرين بمدرسة الاستشراق بتشويه صورة حبر الأمة ونسبوا إليه أباطيل وأكاذيب ألصقوها بسيرته، علمًا بأن مدرسة الاستشراق فيما يتعلق بالعهد الراشدى وتاريخ صدر الإسلام امتداد لمؤرخي الرفض والشيعة الغلاة الذين اختلقوا الروايات والأخبار، ولطخوا بها سيرة الصحابة الكرام، فجاء مؤرخو الاستشراق وأحيوا تلك الأخبار الكاذبة، والروايات الموضوعة، وصاغوها بأسلوب حديث ويرفعون شعار الموضوعية والبحث العلمي، وكل هذا كذب وزور، وقد تأثر به الكثير من الباحثين والأدباء والمؤرخين، ولذلك تجد في كتب التاريخ والأدب المعاصر البعيدة عن منهج أهل السنة والموغلة في مناهج المستشرقين، تشويهًا عجيبًا للصحابة، فمثلا: زعمت تلك الكتب أن عبد الله بن عباس رضي الله عنه نهب أموال المسلمين بالبصرة، وغدر بابن عمه على
__________
(1) تفسير التابعين (1/379)، فضائل الصحابة لأحمد رقم (1555).
(2) طبقات ابن سعد (2/370).
(3) تفسير التابعين (2/370).
(4) المصدر نفسه (1/506).
(5) عمر بن الخطاب للصلابي، ص (220).
(6) تاريخ الطبري (5/325- 431).(2/34)
رضي الله عنه، وهرب بالأموال المسروقة إلى مكة، وتطلع للانضمام إلى معاوية(1) بعد أن كان مع على، ذكر ذلك دون حياء صاحب كتاب الفتنة الكبرى (على وبنوه) الدكتور طه حسين والعبارات التي وردت على لسان طه حسين في كتابه (على وبنوه):
1- قال: وكان لابن عباس من العلم بأمور الدين والدنيا، ومن المكانة في بنى هاشم خاصة وفي قريش عامة، وفي نفوس المسلمين جميعًا، ما كان خليقًا أن يعصمه من الانحراف عن ابن عمه(2).
2- قال: رأى ابن عباس نجم ابن عمه في أفوال، ونجم معاوية في صعود، فأقام في البصرة يفكر في نفسه أكثر مما يفكر في ابن عمه(3).
3- قال: ولو نسي ابن عباس نفسه قليلاً! ولكنه لم يضعها بحيث كان يجب عليه أن يضعها منذ قليل، أن يكون واليًا لعلى على مصر من أمصار المسلمين(4).
وغير ذلك من الأكاذيب والترهات التي اعتمد قائلوها على الروايات الضعيفة والموضوعة، ويكفى شرفًا لابن عباس دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له: «اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين»(5).
__________
(1) أباطيل يجب أن تمحى من التاريخ، ص (191).
(2) الفتنة الكبرى (على وبنوه)، ص (121).
(3) المصدر نفسه، ص (122).
(4) المصدر نفسه، ص (126).
(5) الطبراني رقم (10587) إسناده صحيح.(2/35)
هذا، وقد بدأ ابن عباس يمارس عمله في ولايته على البصرة بعد خروج على من البصرة إلى الكوفة، ولحق ابن عباس بعلي قبيل صفين واستخلف على البصرة زياد بن أبيه(1)، وفي أثناء ولاية ابن عباس على البصرة قام بالعديد من الأعمال أهمها ترتيب (سجستان) بعد أن قتل واليها على يد مجموعة من الخوارج، حيث بعث إليها ابن عباس بأمر من على مجموعة من أجناد البصرة تمكنوا من قتل الخوارج فيها وترتيب أمورها وتأمين أهلها سنة 36هـ(2)، كما كان لابن عباس ولأجناد البصرة دور مع على بن أبى طالب في معركة صفين(3)، كما قام ابن عباس بتنظيم شئون بعض الأقاليم التابعة لولايته وعين عليها الأمراء من قبله، حيث وجه إلى فارس زياد بن أبيه فرتبها، واستطاع أن ينظم أمورها ويؤدب أهلها بعد عصيانهم(4)، وفي أيامه غدر أهل اصطخر فقام بغزوهم وتأديبهم(5)، وفي سنة 38هـ أرسل معاوية بن أبى سفيان رجلاً إلى البصرة ليدعو له بين أهلها، إلا أن زياد بن أبيه نائب ابن عباس على البصرة تمكن من مقاومته ومدافعته حتى قتل الرجل في إحدى دور البصرة(6)، وكان ابن عباس يرافق عليًا في كثير من تحركاته في نواحي العراق، وإذا وقعت بعض الأشياء وابن عباس في البصرة كان على يطلعه عليها بالكتب التي كان يرسلها إليها باستمرار ويأخذ رأيه في كثير من القضايا عن طريق المراسلة، كما كان ابن عباس أيضًا يكتب لعلى عن شئون ولايته، كما بعثه على سنة38هـ على الحج نيابة عنه، وقد استمر ابن عباس في ولاية البصرة إلى استشهاد على أخذًا برأي الطبري في ذلك، وقد وجد مجموعة من المساعدين
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط، ص (201)، الولاية على البلدان (2/16).
(2) الكامل في التاريخ (2/351، 352).
(3) الولاية على البلدان (1/16)، تاريخ الطبري (5/595إلى 615).
(4) تاريخ الطبري (6/52، 53).
(5) الأخبار الطوال، ص (205)، الولاية على البلدان (2/16).
(6) الولاية على البلدان (2/16) نقلا عن خليفة بن خياط.(2/36)
لوالى البصرة أيام على فيهم القاضي وصاحب الشرطة، وصاحب الخراج وغيرهم، كما كانت تتبع ولاية البصرة مجموعة من الأقاليم في بلاد فارس.
ومما سبق يتبين لنا أن على بن أبى طالب بعد مبايعته بادر إلى عزل ابن عامر، والى عثمان على البصرة، وعين مكانه عثمان بن حنيف، ولكن حملة الجمل أحدثت ارتباكًا في البصرة، وبالتالي خرجت من سيطرة عثمان بن حنيف، فاضطر إلى مغادرتها حتى قدم على، وبعد موقعة الجمل عمل علىٌّ على تنظيم أمورها(1). كما وقعت بعض الاضطرابات في البصرة من جراء حركة الخوارج، وكذلك أثناء محاولة معاوية السيطرة عليها، إلا أن البصرة مع ذلك استمرت إحدى الولايات الإسلامية التابعة لخلافة على طيلة عصره، ولم يتمكن خصومه من السيطرة عليها(2)، وبرزت في البصرة قدرات ابن عباس القيادية، وقد انتفع بصحبته لعلى رضي الله عنهما وتأثر به غاية التأثر، وكان أمير المؤمنين على يتعهده بالنصح والإرشاد والموعظة بين الحين والآخر، حتى أن ابن عباس قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانتفاعي بكتاب كتب به إلىّ على بن أبى طالب رضي الله عنه، فإنه كتب إلىَّ: أما بعد فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما نلت من دنياك فلا تكثرن به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأس عليه حزنًا، وليكن همك فيما بعد الموت(3).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/17).
(2) الولاية على البلدان (2/17).
(3) صفة الصفوة (1/327).(2/37)
وقد كان ابن عباس من أهل القيام، فعن ابن مليكة قال: صحبت ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يصلى ركعتين، فإذا ترك، قام شطر الليل، ويرتل القرآن حرفًا حرفًا، ويكثر في ذلك من النشيج والنحيب(1)، وقد كان رضي الله عنه غزير الدمعة حتى أثر ذلك على خديه، فعن أبى رجاء، قال: رأيت ابن عباس وأسفل من عينيه مثل الشراك البالي من البكاء(2)، وكان رضي الله عنه يصوم الاثنين والخميس، فعن سعيد بن أبى سعيد، قال: كنت عند ابن عباس، فجاء رجل، فقال: يا ابن عباس، كيف صومك؟ قال: أصوم الاثنين والخميس، قال: ولم؟ قال: لأن الأعمال ترفع فيهما، فأحب أن يرفع عملي، وأنا صائم(3)، وكان كريما جوادًا يحفظ لأهل السبق مكانتهم ومنزلتهم، فقد تعرض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لأزمة مالية وأثقلته الديون، فنزل على ابن عباس، ففرغ له بيته، وقال: لأصنعن بك كما صنعت برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: كم دينك؟ قال: عشرون ألفًا فأعطاه أربعين ألفًا، وعشرين مملوكًا، وكل ما في البيت(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/352).
(2) المصدر نفسه (3/352).
(3) سير أعلام النبلاء (3/352) إسناده فيه ضعف إلا أن فعل ابن عباس ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم» رواه الترمذي رقم 847حديث حسن.
(4) المصدر نفسه (3/351)، الحلية (1/324).(2/38)
وكان من أبلغ الناس وله قدرة عجيبة على تفهيم المستمعين، فعن الأعمش قال: حدثنا أبو وائل قال: خطبنا ابن عباس، وهو أمير على الموسم، فافتتح سورة النور، فجعل يقرأ ويفسر، فجعلت أقول: ما رأيت ولا سمعت كلام رجل مثل هذا، لو سمعته فارس والروم والترك لأسلمت(1)، وكان رضي الله عنه من أجمل الناس وأفصح الناس، وأعلم الناس، فعن مسروق قال: كنت إذا رأيت ابن عباس، قلت: أجمل الناس، فإذا نطق، قلت: أفصح الناس، فإذا تحدث، قلت: أعظم الناس(2)، وقال القاسم بن محمد: ما رأيت في مجلس ابن عباس باطلاً قط(3)، وقد أصيب رضي الله عنه ببصره قبل وفاته وقد قال في ذلك شعرًا:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ... ففي لساني وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور(4)
وهو أحد المؤثرين في الأحداث في عهده، وهو باختصار من أفضل النماذج لورثة الأنبياء.
تاسعًا: ولاية الكوفة:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/351).
(2) سير أعلام النبلاء (3/351).
(3) سير أعلام النبلاء (3/351).
(4) المصدر نفسه (3/357).(2/39)
استشهد عثمان رضي الله عنه وواليه على الكوفة أبو موسى الأشعري، وبعد مبايعة على بالخلافة أقر أمير المؤمنين علىٌّ أبا موسى الأشعري على ولايته، وقد أخذ له البيعة من أهلها، وكتب له بموقف أهل الكوفة من بيعته، من حيث تقبل الكثير للبيعة(1)، وعندما خرج أمير المؤمنين من المدينة للعراق كان يسأل عن أبى موسى خصوصًا، ففي أثناء الطريق إليها لقيه رجل من أهل الكوفة، فسأله على عن أبى موسى فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحب ذلك، وإن أردت القتال، فأبو موسى ليس بصاحب ذلك، قال: والله ما أريد إلا الإصلاح حتى يرد علينا، قال: قد أخبرتك الخبر(2)، وقد تبين فيما بعد ميل أبى موسى إلى الصلح والمسالمة وعدم القتال بين المسلمين، فقد بعث على محمد بن أبى بكر وعمار بن ياسر والحسن بن على وغيرهم في وفود مختلفة لاستنفار أهل الكوفة قبل موقعة الجمل – سيأتي الحديث عنها بالتفصيل لاحقًا إن شاء الله تعالى – فسأل أهل الكوفة أبا موسى عن الموقف واستشاروه في الخروج: فقال: أما سبيل الآخرة فأن تقيموا، وأما سبيل الدنيا فأن تخرجوا وأنتم أعلم(3)، وقد اقتنع العديد من أهل الكوفة بعد ذلك بالخروج مع الحسن، رضي الله عنه، بعد محاورات متعددة وطويلة بينهم وبين الحسن، وقيل إنه خرج معه قرابة تسعة آلاف رجل(4)، وتميل العديد من الروايات إلى أن ولاية أبى موسى على الكوفة قد انتهت في هذه الفترة قبيل موقعة الجمل، حيث تذكر بعض الروايات أن الأشتر «وكان أحد قواد على» قد طرد أبا موسى وغلمانه من قصر الكوفة وتغلب عليه(5)، كما ذكرت بعض الروايات أن عليًا كتب إلى أبى موسى بعزله، وعين مكانه «قرضة بن كعب الأنصاري» واليًا على الكوفة(6)، ثم إن على بن أبى طالب
__________
(1) تاريخ الطبري (5/467).
(2) المصدر نفسه (5/511).
(3) المصدر نفسه (5/508).
(4) المصدر نفسه (5/517).
(5) تاريخ الطبري (5/519).
(6) الاستبصار لابن قدامه ص 124، الولاية على البلدان (2/19).(2/40)
رضي الله عنه قدم الكوفة بعد موقعة الجمل حيث أصبحت الكوفة قاعدة الخلافة، وبالتالي كان على رضي الله عنه هو المسئول مباشرة عن أحوال الكوفة وما يتبعها من ولايات، وأصبح لها مكانة خاصة بقية عصره، حيث كانت عاصمة الخلافة ومنها يدير أمير المؤمنين علي مختلف أنحاء الدولة، وإليها تقدم الوفود، ومنها تخرج الأجناد، كما كان ذلك سببًا في جذب السكان إليها، ولا شك أن هذا كان له دور كبير في تنشيط الحركة التجارية والعمرانية في الكوفة طيلة خلافة على. وقد كان رضي الله عنه كثير الاهتمام بالكوفة ويتفقد أهلها بنفسه، كما يحرص على تعيين من ينوب عنه في ولايتها في حال غيابه، فحينما أراد على الخروج إلى صفين ولى على الكوفة «أبا مسعود البدرى»(1) وحينما أراد التوجه لقتال الخوارج في «النهروان»(2)، ولى على الكوفة «هاني بن هوذة النخعي»(3)، فلم يزل بالكوفة حتى استشهد على(4) رضي الله عنه.
ومما سبق نلاحظ أن الكوفة كانت تدار من قبل الولاة، حتى إذا تخذها على رضي الله عنه مقرًا للخلافة أصبح هو المسئول عن ولايتها، وأخذ ينيب عنه من يتولى شئونها في غيابه، وأصبحت الكوفة ذات أهمية خاصة نظرًا لإقامة أمير المؤمنين فيها(5).
عاشرًا: ولايات الشرق:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (2/493).
(2) هي كورة واسعة بين بغداد وواسط بها العديد من القرى، وبها وقعة أمير المؤمنين على مع الخوارج، معجم البلدان (5/324).
(3) الولاية على البلدان (2/20)، تاريخ خليفة ص (187، 202).
(4) المصدر نفسه (2/20).
(5) المصدر نفسه(2/20).(2/41)
1- فارس: تذكر المصادر أن على بن أبى طالب ولى على فارس سهل بن حنيف الأنصاري، رضي الله عنه، وقد استمر واليًا على فارس فترة من الوقت، ثم إن أهل فارس عصوا وأخرجوا سهل بن حنيف سنة 37هـ تقريبًا، فاتصل على رضي الله عنه بابن عباس، وتباحث معه في شأن فارس، وكان ابن عباس على البصرة، فاتفق معه بعد استشارة مجموعة من الناس على أن يبعث ابن عباس مساعده زياد بن أبى سفيان على فارس(1)، وهنا يبدو الارتباط واضحًا بين ولاية البصرة وإقليم فارس، وإحساس ابن عباس بمسئوليته عن ذلك الإقليم من خلال مباشرته لولاية البصرة، إذا اتفق ابن عباس مع عليٍّ على بعث أحد معاونيه إلى ذلك الإقليم لضبطه وترتيب أموره، وقد توجه زياد إلى فارس يصاحبه أربعة آلاف جندي، فدوخ تلك البلاد وقضى على الفتنة فيها وتمكن من ضبطها(2)، وقد اشتهر زياد بمقدرة سياسية فذة مكنته من إعادة الاستقرار إلى تلك البلاد بأقل الخسائر(3)، يقول الطبري: لما قدم زياد فارس بعث إلى رؤسائها فوعد من نصره ومناه، وخوف قومًا وتوعدهم وضرب بعضهم ببعض، ودل بعضهم على عورة بعض، وهربت طائفة، وأقامت طائفة، فقتل بعضهم بعضًا، وصفت له فارس فلم يلق فيها حميًا ولا حربًا، وفعل مثل ذلك بكرمان(4)، ثم رجع إلى فارس فسار في كورها ومناهم فسكن الناس إلى ذلك فاستقامت له البلاد(5)، وقد قام زياد بتنظيم أمور فارس، وبنى فيها بعض الحصون، وقام بترتيب شئون الخراج فيها، كما ضبط العديد من البلدان التابعة لولايته حتى أمنت البلاد واستقامت(6)، وقد استمر زياد واليًا على فارس بقية خلافة على رضي الله عنه، وكان زياد أشهر ولاة علىًّ على فارس نظرًا لسياسته وتمكنه من ضبطها(7).
__________
(1) تاريخ الطبري (6/71).
(2) تاريخ الطبري (6/53).
(3) ولاية البلدان (2/21).
(4) تاريخ الطبري (6/53).
(5) المصدر نفسه (6/52).
(6) المصدر نفسه (6/53).
(7) الولاية على البلدان (2/21).(2/42)
وقد وجدت بعض التقسيمات الإدارية داخل إقليم فارس، فقد ورد ذكر بعض الولاة المختصين ببلدان معينة داخل الإقليم، فقد ذكرت اصطخر، وذكر أنه كان من ولاتها المنذر بن الجارود(1)، وجرت بينه وبين على بعض المكاتبات(2)، كما أن زياد بن أبى سفيان سكنها وتحصن بها بعد مقتل على رضي الله عنه(3)، كما ذكرت من بلدان فارس أصبهان التي تعد من أكبر كورها(4)، وقد ذكر من ولاتها لعلى محمد بن سليم(5)، كما كان من أشهر ولاة أصبهان لعلى «عمر بن سلمة» وقد قدم بأموال وطعام من أصبهان إلى أمير المؤمنين على بن أبى طالب(6)، وقد ضربت الدراهم زمن على في هذه المناطق الفارسية سنة 39هـ، ولا يزال بعض منها محفوظًا في المتحف العراقي وتحمل عبارات عربية، إضافة إلى تاريخ ضربها(7).
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/561) (7/87).
(2) تاريخ اليعقوبي (2/203)، الولاية على البلدان (2/22).
(3) الأخبار الطوال، ص (219)، الولاية على البلدان (2/22).
(4) معجم البلدان (1/207).
(5) الأخبار الطوال، ص (153)، الولاية على البلدان (2/22).
(6) الكامل في التاريخ (2/442).
(7) الدراهم الإسلامية للخلفاء الراشدين، ص (5)، وداد القزاز.(2/43)
2- خراسان: تعتبر خراسان ولاية واسعة، وقد ارتبطت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بولاية البصرة في عهد الخلفاء الراشدين، وفي خلافة على رضي الله عنه ورد ذكر العديد من الحوادث التي وقعت في هذه الولاية خلال تلك الفترة، كما ورد ذكر بعض ولاتها، وبعض الأمراء على كورها وبلدانها، فقد ورد أن أول ولاة علىّ على خراسان عبد الرحمن بن أبزى(1)، كما كان من ولاة على إلى خراسان جعدة بن هبيرة بن أبى وهب(2)، وقد بعثه على رضي الله عنه إلى خراسان، بعد عودته من صفين سنة 37هـ، وكان أهل خراسان قد ارتدوا فحاول تأديبهم وتنظيم البلاد مرة أخرى(3)، إلا أنه – على ما يبدو- لم ينجح، فبعث على أحد قواده إلى خراسان، حتى تمكن من مصالحة أهلها، وضبط أمورها مرة أخرى(4).
كما تعد سجستان أحد الأقاليم المجاورة لخراسان، وكلا الإقليمين مرتبطان إلى حد ما بوالي البصرة، وفي الغالب فإن هناك ارتباطًا إداريًا بين الإقليمين، وقد ورد ذكر بعض ولاة سجستان في عهد على بن أبى طالب رضي الله عنه، ومن هؤلاء عبد الرحمن بن جزء الطائي(5)، وقد بعثه على رضي الله عنه إلى سجستان بعد موقعة الجمل، فقام ثوار من صعاليك العرب بقتله، وعاثوا فسادًا في البلد، فكتب على إلى ابن عباس في البصرة أن يوجه أميرًا آخر إلى سجستان، فوجه ربعي بن كأس العنبري، فاستطاع القضاء على ثورة الصعاليك، وقتل زعيمهم وضبط أمور البلاد، واستقر بها إلى أن استشهد على بن أبى طالب رضي الله عنه(6).
__________
(1) فتوح البلدان ص (399).
(2) تهذيب الكمال (1/191)، الولاية على البلدان (2/23).
(3) فتوح البلدان، ص (399)، الولاية على البلدان (2/23).
(4) تاريخ خليفة بن خياط، ص (199)، الولاية على البلدان (2/23).
(5) الولاية على البلدان (2/23).
(6) فتوح البلدان، ص (387)، الأخبار الطوال، ص (153)، الولاية على البلدان (2/153).(2/44)
وكانت همذان: أحد الثغور الشرقية، وقد امتازت أثناء ولاية عثمان بوجود وال مستقل فيها، وتوفى عثمان وعليها جرير بن عبد الله البجلى، وبعد مبايعة على بالخلافة ووصوله إلى العراق بعث إلى جرير بن عبد الله في همذان يأمره بأخذ البيعة له بالخلافة على من قبله من الناس والقدوم إليه(1)، وبعث بالرسالة مع رجل يعتمد عليه وقال: إني بعثت إليك بفلان، فاسأله عما بدا لك واقرأ كتابي هذا على المسلمين(2)، وقد قدم جرير إلى على في الكوفة فبعثه إلى معاوية في الشام، ثم عاد مرة أخرى وتعرض للإهانة من قبل بعض أجناد على، ومنهم الأشتر وغيره، فلحق جرير بمعاوية في الشام، وترك ولايته، وكان ذلك قبيل موقعة صفين(3).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/599).
(2) الفتوح، ابن أعثم الكوفي (2/363)، الولاية على البلدان (2/167).
(3) تاريخ الطبري (5/600، 601).(2/45)
3- أذربيجان: كان الأشعت بن قيس عاملاً على أذربيجان حينما توفى عثمان بن عفان، فلما بويع على بن أبى طالب بالخلافة كتب إلى الأشعت بن قيس أن يبايع له، وأن يأخذ له البيعة على من قبله(1)، ويبدو أن عليًا رضي الله عنه استقدم الأشعت بن قيس فلحق بعلي في الكوفة، ثم شهد معه المشاهد حيث اشترك معه في صفين(2)، وفي قتال الخوارج، ويبدو أن عليا رضي الله عنه ولى على أذربيجان خلال هذه الفترة سعيد بن سارية الخزاعى، ثم أعاد الأشعت بن قيس مرة أخرى على أذربيجان، ويظهر أن عليًا ضم إليه ولاية أرمينية، كما صرح بذلك البلاذرى(3)، وقد كانت للأشعت بن قيس بعض الأعمال المهمة أثناء ولايته أذربيجان لعلى، ومن ذلك إنزاله مجموعة من العرب من أهل العطاء أرديبل(4)، وتمصيرها وبناء مسجدها بعد أن انتشر الإسلام بين أهلها(5)، وقد وردت بعض الأسماء لولاة على في بعض بلدان المشرق الأخرى، من ذلك أسماء بعض الولاة في الأهواز، ومنهم الخريت بن راشد، وقد كان واليًا على بعض بلاد الأهواز قبل صفين، فلما رجع على من صفين أخذ الخريت يجمع الجنود، ويدعو إلى خلع على، واستولى على بعض الأماكن فبلغ ذلك عليًا فوجه إليه جيشًا تمكن من القضاء على حركته وقتله(6)، وسيأتي الحديث عنها بالتفصيل بإذن الله تعالى.
__________
(1) تاريخ الطبري (5/599).
(2) تاريخ خليفة بن خياط، ص (193)، الولاية على البلدان (2/24).
(3) فتوح البلدان، ص(207)، الولاية على البلدان (2/24).
(4) أدريبل من أشهر مدن أذربيجان وهي قاعدتها قبل الإسلام، واشتهرت بذلك في صدر الإسلام وتقع حاليًا على بعد 64كيلو مترًا شرق تبريز، معجم البلدان (1/145).
(5) فتوح البلدان، ص (324)، الولاية على البلدان (2/25).
(6) تاريخ اليعقوبي (2/95)، تاريخ الطبري (6/27- 47).(2/46)
ومن الأمراء لعلى في الأهواز مصقلة بن هبيرة الشيباني(1)، وقد اشترى أسرى من بعض أجناد على فأعتقهم، ولم يتمكن من تسديد كامل ثمنهم، ثم فر إلى معاوية في الشام(2)، وقد أورد خليفة بن خياط واليًا لعلى على بلاد السند، وذكر أنه جمع جمعًا أيام على وتوجه إلى السند، بعد أن اجتمع إليه الناس، ولكنه فشل في إحدى المعارك ومن معه، ولم يبق من جيشه إلا عصابة(3) بسيرة، كما ذكر في ولاة على (يزيد بن حجية التميمي) وقد استعمله علىٌّ على «الري» بعد صفين، ثم اتهمه على رضي الله عنه بأنه أخذ من الخراج فحبسه في الكوفة، ثم فر إلى معاوية في الشام(4)، وأما المدائن فقد كان عليها سعد بن مسعود الثقفي، وقد كان له دور رئيسي في مجابهة الخوارج، ودارت بينه وبين على وقواده العديد من المراسلات في شأنهم، حيث حاولوا الوصول إلى المدائن(5)، وقد اشتهر عن سعد توليته ابن أخيه- المختار بن أبى عبيد الثقفي(6) – على المدائن في حالة غيابه، وقد غضب علي على المختار الثقفي نتيجة تصرفه تصرفًا غير شرعي في أموال الخراج(7)، ويعتبر سعد من قواد على المشهورين، ولعل قرب ولايته من الكوفة كان السبب الرئيسي في اشتراكه مع على في الكثير من المواقع، وقد أورد المؤرخ أبو حنيفة الدينورى بعض الأسماء لولاة على في مناطق مختلفة(8).
__________
(1) الأنساب للسمعانى (7/438)، الولاية على البلدان (2/25).
(2) البداية والنهاية (7/310)، الولاية على البلدان (2/25).
(3) تاريخ خليفة، ص (200)، الولاية على البلدان (2/25).
(4) نهاية الأرب (20/197)، الولاية على البلدان (2/26).
(5) تاريخ الطبري (5/690).
(6) المصدر نفسه (5/690).
(7) التمهيد والبيان، ص (186)، الولاية على البلدان (2/26).
(8) الأخبار الطوال، ص (26) نقلا عن الولاية على البلدان (2/26).(2/47)
وهكذا رأينا فيما سبق أن على بن أبى طالب رضي الله عنه بذل جهدًا كبيرًا في تنظيم الولايات، وأنه عانى من الصعوبات والمشكلات الكثيرة في هذه الولاية، فقد خرجت العديد من الولايات من يده كاليمن والحجاز ومصر، كما أنه لم يفرض سيطرته ابتداء على بعض الولايات كالشام وفلسطين وما جاورها، وأما البلاد والولايات التي استمرت تحت حكمه كالعراق وفارس فقد عانى فيها من المشكلات الكثيرة وعلى رأسها مشكلة الخوارج الذين ظهروا في تلك المناطق، خصوصًا في السنوات الأخيرة من حكم على، وبالتالي فإن الاستقرار في تلك المناطق لم يكن تامًا، كما أن أهل البلاد الأصلين في بلاد المشرق كفارس وخراسان وسجستان قاموا بالعديد من الثورات التي قتل فيها بعض ولاة على، ومن أبرز المشكلات التي واجهها على ما وقع له من خلاف مع بعض الولاة، وبالتالي تخلوا عن ولاياتهم، كجرير بن عبد الله في همذان، ومفضلة بن هبيرة في الأهواز وغيرهما، وهكذا يتضح أن عليًا رضي الله عنه قضى مدة خلافته في جهاد داخلي مع جبهات داخلية منعته في كثير من الأحيان من تنظيم شئون تلك البلاد كما أراد، وواجهته العديد من العقبات التي بددت طاقته، واستنفدت جهوده رضي الله عنه، وقد شغلت هذه المشكلات اهتمام المؤرخين فركزوا عليها الأضواء، وكان هذا على حساب رصدهم للشئون التنظيمية والإدارية لهذه الولايات(1).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/27) جل هذا المبحث من كتاب الولاية على البلدان للدكتور عبد العزيز العمرى، وهو من أفضل ما اطلعت في هذا الباب فجزاه الله خيرًا.(2/48)
المبحث الثاني : تعيين الولاة في عهد على رضي الله عنه
بويع على بالخلافة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان، رضي الله عنه، وقد وقع الاضطراب في مختلف أنحاء الدولة نتيجة مقتل عثمان، وبالتالي فإن عليًا رضي الله عنه بويع في ظروف صعبة بدأت الدولة الإسلامية خلالها تفقد الشيء الكثير من استقرارها ونشاطها، وقد ظهر هذا الاضطراب واضحًا في المدينة نفسها، وقد بدأت الأمور تضطرب في مختلف أنحاء الدولة، وأحس المستشارون والنصحاء بخطورة ما يقع، فتقدم بعضهم بنصائح إلى على فيما يمكن أن يفعله من البداية وخصوصًا فيما يتعلق بالولاة على البلدان(1).
أولاً: موقف على من ولاة عثمان وتعيينه لأقاربه:
1- موقف على من ولاة عثمان: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه يدرك إدراكًا كاملاً، أن من الأسباب الرئيسية للفتنة، عدم رضا مجموعة من الناس عن ولاة عثمان، رضي الله عنه، وذلك بسبب ما أشاعه رؤوس الفتنة ضد عثمان وولاته، وليس لعجزهم أو ظلمهم، ولكن الكثير من الكتاب المعاصرين في حديثهم عن سياسة على في تولية الولاة، يستفتحون بقولهم: إن عليًا لم يكن ليرضى أن يبقى عمال عثمان على ولايتهم ساعة واحدة بعد توليه الخلافة، يمنعه من ذلك دينه وأمانته(2)، وما أفظع هذا الاتهام الموجه ضد عثمان، رضي الله عنه، وضد عماله، وقد نسفته في كتابي تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان، وتحدثت عن حقيقة ولاة عثمان في مبحث كامل(3)، فمن أراد المزيد فليرجع إليه.
لقد اعتمد من طعن في ولاة عثمان على روايات واهية ومشهورة وهي:
__________
(1) الولاية على البلدان (2/27، 28).
(2) الخلفاء الراشدون للنجار، ص (374).
(3) عثمان بن عفان للصلابي، ص (264- 289).(2/49)
أ- الرواية الأولى: من طريق الواقدى: أن ابن عباس قال: دعاني عثمان فاستعملني على الحج ثم قدمت المدينة وقد بويع لعلىّ، فأتيته في داره، فوجدت المغيرة بن شعبة مستخليًا به فحبسني حتى خرج من عنده، فقلت: ماذا قال هذا؟ قال: قال لي قبل مرته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر، وإلى معاوية، وإلى عمال عثمان بعهودهم تقرهم على أعمالهم، يبايعون لك الناس، فإنهم يهدئون البلاد ويسكنون الناس، فأبيت ذلك عليه يومئذ وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا وليت هؤلاء ولا مثلهم يولى، قال: ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يرى أنه مخطئ ثم عاد إلىّ الآن فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت عليك وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك رأيًا، وأنا أرى أن تصنع الذي رأيت فتنزعهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان، قال ابن عباس: فقلت لعلى: أما المرة الأولى فقد نصحك وأما المرة الأخيرة فقد غشك، قال لي على: ولو نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبتهم لا يبالون بمن ولى الأمر، ومتى تعزلهم يقولون: أخذ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا ويؤلبون عليك، فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، فقال على: أما ما ذكرت من إقرارهم فوالله ما أشك أن ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحهما، وأما الذي يلزمني من الحق والمعرفة بعمال عثمان فوالله لا أولى منهم أحدًا أبدًا، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف، قال ابن عباس: أطعني وادخل دارك والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدًا، فأبى على، فقال لابن عباس: سر إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية من بنى أمية، وهو ابن عم عثمان رضي الله عنه وعامله على الشام، ولست(2/50)
آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكم علىّ، فقال له على: ولم؟ قال: لقرابة ما بيني وبينك، وإن كان ما حمل عليك حمل على ولكن اكتب إلى معاوية فمنَّه وعده، فأبى علىّ وقال: والله لا كان هذا أبدًا(1).
ب- الرواية الثانية: وهي مثل الرواية الأولى في المعنى، وفيها زيادة واختلاف يثير الشك في صحتها، وهو أن ابن عباس قدم مكة بعد مقتل عثمان- رضي الله عنه- فلقي في طريقه الزبير وطلحة ومعهما فئة من قريش بالنواصف(2)، يريد مكة، وهذا يخالف الحقيقة، إذ إن عليًا بويع بعد أن وصل ابن عباس من الحج، وأن الزبير وطلحة قد بايعا عليًا، فإذا خرجا في هذا الوقت يكون قد خرجا قبل البيعة وهذا خطأ واضح جلي(3).
جـ- الرواية الثالثة: رواية أبى مخنف، رواها بدون إسناد، بأن المغيرة بن شعبة أشار على علىّ أن يثبت معاوية على الشام، وأن يولى طلحة والزبير البصرة والكوفة، فاعترض ابن عباس على رأيه لأن البصرة والكوفة عين المال ومصدره، فإذا ولاهما ضيَّقا على علىًّ، وأن ولاية معاوية الشام لا تنفعه وقد تضره، فاستمع على إلى رأي ابن عباس، ولم يقبل مشورة المغيرة بن شعبة(4).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/461إلى 463).
(2) المصدر نفسه (5/463).
(3) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص (103).
(4) أنساب الأشراف (2/36).(2/51)
د- الرواية الرابعة: وردت رواية الواقدى الأولى بشيء من الاختصار عن ابن عبد البر(1)، ولكن بدل ابن عباس، الحسن(2). إن هذه الروايات يأتي خطرها من حيث إنها الأساس الذي بنيت عليه أهم الدارسات المعاصرة وخرجت منها بنتائج خطيرة تطعن في أكابر الصحابة أهل الشورى، في دينهم وفي عدلهم وأمانتهم، وتصورهم أفرادًا ماديين همهم الثروة والسلطان ولو على حساب دماء المسلمين، وما الفتنة التي أدت إلى مقتل عثمان، وما حرب الجمل إلا بسبب هذه الأطماع الشخصية(3)، ويظهر الاضطراب والنكارة في متن هذه الروايات في جل فقراتها، فقوله: إن ابن عباس قدم المدينة بعد بيعة علىّ يخالف الروايات الموثوقة في أنه جاء قبل أن يبايع بالخلافة وقد تقدم. وقوله: أشار المغيرة على علىّ بأن يرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية، وإلى عمال عثمان بعهودهم يقرهم على أعمالهم..يخالف روايات أوثق منها تفيد أن معظم هؤلاء الولاة قد تركوا ولاياتهم واتخذوا سبيلهم إلى مكة، فكيف يرسل إليهم بإثباتهم وهم قد تركوا البلاد؟.
__________
(1) الاستيعاب (2/371) بحاشية الإصابة.
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد، ص (103)، تاريخ الإسلام للذهبي عهد الخلافة الراشدة، ص (537).
(3) على وبنوه، طه حسين إسلاميات، ص (850، 851، 854)، عبقرية على ص (53، 55، 75) للعقاد.(2/52)
وقوله: إن عليًا قال في هؤلاء الولاة، والله لو كانت ساعة نهار لاجتهدت فيها رأيي ولا وليت هؤلاء، ولا مثلهم يولى، يخالفه أن هؤلاء الولاة مؤهلون للإمارة والقيادة، فقد توسعت على أيديهم الدولة الإسلامية، فعبد الله بن عامر وصلت فتوح البصرة في ولايته إلى كابل – عاصمة أفغانستان- أما معاوية فلو أنه لم يكن مؤهلاً ما ولى عشرين عامًا.. وقد بينت أن عدم رضا مجموعة من الناس عن عمال عثمان هو بسبب ما أشاعه أهل الفتنة عنهم، وليس لعجزهم، والواقع التاريخي يثبت ذلك، وتصور الرواية الواهية المغيرة بن شعبة بالمداهنة والغش، وعدم المبالاة بمصلحة المسلمين، وفي هذا الوقت العصيب بالذات، وهذا لا يوافق أخلاقه وسيرته قبل الفتنة وبعدها، كما تصور – عن حسن نية- عليًا رضي الله عنه بالجاهل في هذه الأمور السياسية، وأن المغيرة وابن عباس هما العارفان بهذه الأمور(1)، وأما رواية أبى مخنف، فإن ابن عباس يشير على علىّ بعزل معاوية وأن ولايته لا تنفعه «سياسيًا» بخلاف روايات الواقدى- وفيها أن الصحابيين الجليلين طلحة والزبير إذا ولاهما على مِصْرَيْ العراق، فسيستأثران بموارده المالية(2).
إن الروايات السابقة واهية من حيث السند، وهذا كاف في إسقاطها، ومضطربة ومنكرة من حيث المتن، وهي روايات افتراضية إذا حدث كذا فسيحدث كذا، فهي لا تنقل الخبر التاريخي على حقيقته، وللأهواء وتدخل الراوي بشخصه وميوله الرافضة أثر في ذلك(3).
وما قام به أمير المؤمنين على رضي الله عنه من تعيين ولاة جدد أدعى إلى بيعة الناس في تلك البلاد البعيدة، وليجدد بهم عهد الفتوحات، ويفسح المجال أمام العبقريات الجديدة أن تنطلق وتخدم دين الله تعالى(4).
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على، ص(105).
(2) المصدر نفسه، ص(106).
(3) المصدر نفسه، ص(106).
(4) على بن أبى طالب، عبد الستار الشيخ، ص (176).(2/53)
إن أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه كان يمتلك موهبة قيادية ومعرفة بالنفوس والأوضاع القائمة، وأنه أقال الولاة ليختار سواهم حسب ما يراه ملائمًا لتحقيق الانسجام الإداري والسياسي بين الخليفة وأعوانه، وقد عزل عمر بعض ولاة أبى بكر، كما عزل عثمان بعض ولاة عمر، وبالتالي من حق على أن يعزل من يرى أن المصلحة متحققة بعزله وتعيين غيره(1)، وقد جانب الصواب بعض المؤلفين المعاصرين في قضية عزل على لولاة عثمان، فاشتطت أقلامهم في تفسير هذا الموقف، فمنهم من حمله على صلابة على في الحق وضرورة التغيير، ومنهم من حمله على ضعف خبرة على السياسية، وأن الأولى سياسيًا إبقاء الولاة، وخاصة معاوية حتى تستقر الأوضاع وتؤخذ البيعة لعلي في الأمصار، وهذه التفسيرات مدارها على روايات واهية وأخبار ضعيفة تدور حول إبداء المغيرة بن شعبة رأيين متعارضين حول الموقف من الولاية(2)، كما أن عليًا – رضي الله عنه- إمام مجتهد له أن يعزل جميع عمال عثمان إذا رأى المصلحة في ذلك، وقد ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو المعصوم- خالد بن سعيد بن العاص على صنعاء وعمرو بن العاص على عمان(3)، فعزلهما الخليفة الصديق من بعده – رضي الله عنه – عزل خالد وولى مكانه المهاجر بن أبى أمية- له صحبة – وعزل عمرو وولى مكانه حذيفة بن محصن – له صحبة- (4)، وقد ولى أبو بكر – رضي الله عنه – القائدين العظيمين خالد بن الوليد والمثنى بن حارثة – رضي الله عنهما- فعزلهما عمر- رضي الله عنه – مع كفاءتهما(5)، وولى الفاروق – رضي الله عنه – على مصر عمرو بن العاص(6) – رضي الله عنه – وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه- (7)، فعزلهما ذو النورين، وولى على مصر
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة، ص (129).
(2) المصدر نفسه، ص (159).
(3) تاريخ خليفة بن خياط، ص (97).
(4) المصدر نفسه، ص (123).
(5) المصدر نفسه، ص (122).
(6) المصدر نفسه، ص (155).
(7) تاريخ الطبري (5/467).(2/54)
ابن أبى سرح(1)، وعلى الكوفة سعد بن أبى وقاص(2)، فهل ينتقد عاقل الصديق والفاروق وذا النورين في عزلهم هؤلاء العمال الأكفاء؟ إن لكل وقت أحوالاً وظروفًا تطرأ، فيحمل اللاحق على ما لا يراه السابق من الاجتهاد، ويرى الشاهد ما لا يراه الغائب(3) وأما قول بعض الكتاب المعاصرين بأن أمير المؤمنين على عزل جميع عمال عثمان، فإن العزل لم يتحقق إلا في معاوية بن أبى سفيان في الشام(4)، وخالد بن أبى العاص بن هشام في مكة(5)، وأما البصرة فخرج منها عبد الله ابن عامر، ولم يول عثمان عليها أحدًا(6)، وفي اليمن أخذ أميرها يعلى بن منية- رضي الله عنه – مال جباية اليمن وقدم مكة بعد مقتل عثمان، وانضم إلى طلحة والزبير وحضر معهما موقعة الجمل، ووفد ابن أبى سرح عامل مصر واستناب ابن عمه عليها، فلما رجع إليها وجد ابن أبى حذيفة تغلب عليها فطرده عنها، فذهب إلى الرملة بفلسطين، ومكث بها حتى مات(7)، وهكذا فإن أميرى اليمن والبصرة عزلا نفسيهما، وأمير مصر عزله المتغلب عليها ابن أبى حذيفة، وأمير الكوفة أقره علىّ- رضي الله عنه – في منصبه، فلم يرد العزل حقيقة إلا في حق معاوية والى الشام وخالد بن أبى العاص والى مكة، كما أن أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه ولى أخيار الناس على المسلمين، فمن الولاة الذين ولاهم على الأقاليم سهل بن حنيف على الشام وهو صحابي جليل شهد بدرًا وأحدًا، وثبت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد حين انكشف الناس وبايعه على الموت، وجعل ينضح بالنبل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وشهد
__________
(1) سير أعلام النبلاء (1/33)، الولاية على البلدان (1/17).
(2) تاريخ الطبري (5/251).
(3) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (2/99).
(4) المعجم الكبير للطبراني (12/261)، مصنف ابن أبى شيبة (15/81) رجاله رجال الصحيح.
(5) تاريخ ابن خياط، (201)، الولاية على البلدان (2/3).
(6) سير أعلام النبلاء (3/35)، الإصابة ترجمة (4711).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (2/100).(2/55)
أيضًا الخندق والمشاهد كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1)، وولى عثمان بن حنيف على البصرة، وهو صحابي من الأنصار كان عاملاً لعمر على العراق(2)، كما ولى قيس بن سعيد بن عبادة على مصر(3)، وكان صاحب شرطة النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان جوادًا من ذوى الرأي والذكاء(4)، وولى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب على اليمن، له صحبة(5)، وهو أصغر من أخيه بسنة، وكان كريمًا ممدوحًا نبيلاً(6)، وأما قول بعض الكتاب، إنه عزل العمال قبل أن تصل إليه بيعة أهل الأمصار، فإنه تولية الإمام العمال على الأمصار غير مشروطة بوصول بيعة أهلها له عند جميع المسلمين، فمتى بايع أهل الحل والعقد أي خليفة لزمت بيعته جميع البلدان النائية عن مركز خلافته شرعًا وعقلاً، ولو كانت تولية الخليفة العمال على الأمصار متوقفة على وصول بيعة أهلها له ما تمت بيعة الصديق- رضي الله عنه – لأنه تصرف بإرسال بعث أسامة ومحاربة المرتدين ومانعي الزكاة قبل وصول بيعة أهل مكة والطائف وجواثى في البحرين، وكذلك الفاروق، رضي الله عنه، فإنه استهل خلافته بعزل خالد بن الوليد وتولية أبى عبيدة بن الجراح قائدًا عامًا على جيوش المسلمين بالشام قبل وصول بيعة أهل اليمن وجيوش المسلمين بالشام والعراق إليه، وتصرف ذو النورين- رضي الله عنه – في أمور المسلمين أيضًا قبل بيعة الأمصار إليه(7).
__________
(1) الطبقات (3/471).
(2) التاريخ الكبير للبخاري (3/209).
(3) النجوم الزاهرة (2/94)، ولاة مصر ص (44).
(4) الإصابة (3/94)، تحقيق مواقف الصحابة (2/101).
(5) تاريخ خليفة، ص (200)، تحقيق مواقف الصحابة (2/101).
(6) سير أعلام النبلاء (3/512).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (2/101).(2/56)
2- تعيين أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه بعض أقاربه على الولايات: تحدث الكتاب المعاصرون عن قضية تولية الأقارب على الولايات في خلافتي عثمان وعلىّ، حيث إن عثمان عين عددًا من الولاة، وقد تم تبيين ذلك، وكانوا خمسة من بنى أمية من ثمانية عشر واليًا، وعندما توفي عثمان لم يكن من بنى أمية من الولاة إلا ثلاثة وهم معاوية وعبد الله بن سعد بن أبى السرح، وعبد الله بن عامر بن كريز فقط، وعزل عثمان الوليد بن عقبة وسعيد ابن العاص، ولكنه عزلهما من أين؟ من الكوفة التي عزل منها عمر سعد بن أبى وقاص، الكوفة التي لم ترض بوال أبدًا، إذ عزل عثمان، رضي الله عنه لأولئك الولاة لا يعتبر مطعنًا فيهم بل مطعن في المدينة التي وُلُّوا عليها(1)، ثم إن الولاة الذين ولاهم عثمان – رضي الله عنه – من أقاربه قد أثبتوا الكفاية والمقدرة في إدارة شئون ولاياتهم، وفتح الله على أيديهم الكثير من البلدان وساروا في الرعية سيرة العدل والإحسان، ومنهم من تقلد مهام الولاية قبل ذلك في عهد الصديق والفاروق، رضي الله عنهما(2)، وقد قام أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه بالسير على منهج عثمان في تولية أصحاب الكفاية والمقدرة والصلاح من الأقارب على الولايات، وهم من أبناء عمه العباس بن عبد المطلب، وهم على التوالي، عبد الله بن عباس، وعبيد الله بن عباس، وقثم وتمام ابنا العباس، ومحمد ابن أبى بكر ربيبه، والتحقيق يثبت أن كلاً من على وعثمان عينا من يغلب على ظنهما كفاءته، ولا يتصور أنهما قدما الأقارب بسبب القرابة، وكانت الظروف التي تسود الولايات تقتضى اختيارًا دقيقًا للولاة من حيث القوة والأمانة، فلا تزال الفتوحات في الأقاليم الشرقية غير مستقرة، فضلاً عن مشكلات الخوارج في خلافة على(3)،
__________
(1) حقبة من التاريخ، ص (57)، عثمان بن عفان للصلابي، ص (265)، هناك تحقيق موسع في المسألة.
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/417).
(3) عصر الخلافة الراشدة، ص (129).(2/57)
ولو تأملنا في أنساب ولاة علىّ لوجدنا أحد عشر واليًا منهم من الأنصار من بين ستة وثلاثين واليًا، وسبعة منهم من قريش- بينهم أربعة من أبناء العباس بن عبد المطلب – وهذه قائمة بأسماء الولاة في خلافة على(1).
1- سهل بن حنيف الأنصاري (المدينة).
2- تمام بن العباس بن عبد المطلب (المدينة).
3- أبو أيوب الأنصاري (المدينة).
4- أبو قتادة الأنصاري (المدينة).
5- قثم بن العباس بن عبد المطلب (مكة والطائف).
6- عمر بن أبى سلمه (البحرين).
7- قدامه بن العجلان الأنصاري (البحرين).
8- النعمان بن العجلان الأنصاري (البحرين).
9- عبيد الله بن عباس (اليمن والبحرين).
10- سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري (الجند).
11- مالك بن الأشتر (الجزيرة ثم مصر).
12- شبيب بن عامر (الجزيرة).
13- كميل بن زياد النخعي (الجزيرة).
14- محمد بن أبى حذيفة بن عتبة (مصر).
15- قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري (مصر).
16- محمد بن أبى بكر الصديق (مصر).
17- عثمان بن حنيف الأنصاري (البصرة).
18- عبد الله بن عباس (البصرة).
19- أبو الأسود الدؤلى (الكوفة).
20- هاني بن هوذة النخعي (الكوفة).
21- أبو موسى الأشعري (الكوفة).
22- أبو مسعود البدري (الكوفة).
23- قرظة بن كعب الأنصاري (الكوفة).
24- سهل بن حنيف الأنصاري (فارس).
25- زياد بن أبي سفيان (فارس).
26- المنذر بن الجارود (اصطخر).
27- عمر بن سلمة (أصبهان).
28- محمد بن سليم (أصبهان).
29- خليد بن قرة التميمي (خراسان).
30- عبد الرحمن بن أبزى (خراسان).
31- جعدة بن هبيرة بن أبى وهب (خراسان).
32- عبد الرحمن بن جزء الطائي (سجستان).
33- ربعي بن كأس العنبري (سجستان).
34- جرير بن عبد الله البجلى (همذان).
35- الأشعت بن قيس الكندي (أذربيجان).
36- سعيد بن سرية الخزاعي (أذربيجان).
37- الخريت بن راشد الناجي (الأهواز).
38- مصقلة بن هبيرة الشيبانى (الأهواز).
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة ص (129).(2/58)
39- يزيد بن حجية التميمي (الري).
40- سعد بن مسعود الثقفي (المدائن).
41- الحارث بن مرة العبدي (السند) (1).
إن عثمان وعليًا- رضي الله عنهما- خليفتان راشدان يقتدى بهما، وأفعالهما تشكل سوابق دستورية في هذه الأمة، فكما أن عمر سن لمن بعده التحرج من تقريب الأقربين، فإن عثمان وعليًا سنا لمن بعدهم تقريب الأقربين إذا كانوا أهل كفاءة(2).
ثانيًا: مراقبة أمير المؤمنين علىًّ لعماله وبعض توجيهاته:
__________
(1) عصر الخلافة الراشدة، ص (130، 131، 132).
(2) الأساس في السنة وفقهها سعيد حوى (4/1675)، عثمان بن عفان للصلابي، ص (365).(2/59)
دأب أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه مراقبة ولاته وتتبع أحوالهم في ولاياتهم، والسؤال عنهم، وقد اتبع لذلك عدة أساليب منها أنه كان يبعث مفتشيه إلى هؤلاء الولاة فيسألون عنهم الناس، وقد يسأل بعض العمال عن بعض ويأمرهم بتفقد أمورهم، فقد كتب إلى كعب بن مالك: أما بعد فاستخلف على عملك، واخرج في طائفة أصحابك حتى تمر بأرض كورة السواد فتسأل عن عمالي وتنظر في سيرتهم(1)، كما كان على رضي الله عنه يعتمد على تقارير سرية يبعثها إليه مفتشوه على هذه الولايات ولا يعرف الولاة مهمتهم(2)، وقد يكون هؤلاء المراقبون من موظفي الوالي أو آخرين مجهولين، وقد يكونون مقيمين في الولاية أو متنقلين من ولاية إلى أخرى، ويدل على وجود هذه التقارير السرية ما كان يكتبه عليّ رضي الله عنه إلى هؤلاء الولاة، ولعل تدخل بعض الأشخاص بين أمير المؤمنين وولاته هو السبب في ترك بعضهم للولاية ورفضهم للعمل، كتدخل الأشتر بين علىّ وجرير ابن عبد الله البجلى، وتدخل بعض الناس بين على ومصقلة بن هبيرة(3)، وقد فتح علىّ رضي الله عنه الباب على مصراعيه لأي شكوى تقدم إليه ضد أحد من ولاته، وكان إذا بلغه عن أحد منهم شكاية قال: اللهم إني لم آمرهم أن يظلموا خلقك أو يتركوا حقك(4)، وقد قام رضي الله عنه بحبس أحد الولاة وتأديبه وضربه بالدرة حينما بلغته شكاية عنه(5) وثبتت التهمة.
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (28204).
(2) الولاية على البلدان (2/33).
(3) تاريخ الطبري (5/600، 601).
(4) الفتاوى (28، 151).
(5) الولاية على البلدان (2/34) نقلاً عن الكامل لابن الأثير.(2/60)
وقد كان أمير المؤمنين على دائم النصح لولاته، وقد نصح علىّ رضي الله عنه مجموعة من الولاة منهم قيس بن سعد، حين ولاه على مصر حيث أوصاه: تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك، وأعز لوليك، فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن واشتد على المريب، وأرفق بالعامة والخاصة، فإن الرفق يمن(1)، ومن نصائحه إلى قيس بن سعد في إحدى رسالاته: أما بعد فأقبل على خراجك بالحق، وأحسن إلى جندك بالإنصاف، وعلم من قبلك مما علمك الله(2)، وقد كانت بعض العهود المرسلة للبلدان في تعيين الولاة تشتمل على بعض النصائح والتوجيهات، ومن ذلك عهد على إلى محمد بن أبى بكر في ولاية مصر الذي قرأه على الناس، فقد كان يحتوى على جملة من النصائح للعامة وللوالي نفسه(3)، وكانت تجرى بين علىّ وبين ولاته العديد من الاتصالات سواء بالمراسلة الخطية، أو الشفهية، أو بالاتصال المباشر، وبالدرجة الأولى أثناء قدوم هؤلاء الولاة إلى الكوفة لمقابلة أمير المؤمنين علىّ أو للاشتراك معه في قتال الخوارج وغيرهم، ولم يؤثر عن أمير المؤمنين أنه حج واتصل بولاته في الحج بعد مبايعته، كما كان يفعل الخلفاء السابقون، وإنما كان ينيب عنه في ذلك بعض من يثق فيهم كأبناء العباس وغيرهم، وكان ولاة المشرق أكثر ولاة علىًّ اتصالاً به، نظرًا لقربهم من الكوفة وتكرار وفودهم إليها، وكان علىّ كثيرًا ما يكتب أوامر تصدر على شكل نصائح تبين لهم طريقة العمل، وقد كان بعضها مكتوبًا، وبعضها مشافهة، فقد جاء في أحد كتب أمير المؤمنين إلى عماله: «فإنكم خزان الراعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة، ولا تجشموا أحدًا عن حاجته، ولا تحبسوه عن طلبته، ولا تبيعن الناس في الخراج كسوة شتاء، ولا صيف، ولا دابة يعملون عليها، ولا عبدًا، ولا تضربن أحدًا سوطًا لمكان درهم ولا تمس مال أحد من
__________
(1) الولاية على البلدان (2/36).
(2) الولاية على البلدان (2/36).
(3) تراث الخلفاء الراشدين، ص (156)(2/61)
الناس مصلّ ولا معاهد(1) ».
وتقدم بعض الدهاقين بشكوى إلى علىّ من أحد عماله فكتب إلى ذلك العامل: أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارًا وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يُقضوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابًا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله(2).
ثالثًا: الصلاحيات الممنوحة للولاة في عهد علىّ رضي الله عنه:
امتنع أمير المؤمنين علىّ عن تسليم جميع السلطات بيد شخص واحد، فكان مبدؤه توزيع السلطات وتحديد الصلاحيات، فقد نصب ابن عباس واليًا على البصرة، ونصب زيادًا على الخراج وبيت المال، ولم يكتف بهذا بل أمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع(3)، وهذا قمة الضبط الإداري، فزياد يطيع ابن عباس في إطار ولايته على البصرة، وابن عباس يطيع زياد في إطار عمله في بيت المال والخراج، أما لشئون القضاء فقد نصب أبا الأسود الدؤلى(4).
ومن خلال عهد أمير المؤمنين على الذي كتبه لمالك بن الأشتر يمكن أن نلاحظ الصلاحيات الممنوحة للولاة، ونحاول أن نجعل الصورة أكثر وضوحًا مع التفصيل:
__________
(1) نهج البلاغة (2/155).
(2) نهج البلاغة (2/155).
(3) تاريخ الطبري (5/580).
(4) تاريخ خليفة بن خياط، ص (200).(2/62)
1- تعيين الوزراء: يقول أمير المؤمنين في عهده لمالك بن الأشتر: إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرًا، ومن شركهم في الآثام فلا يكونن لك بطانة(1)، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف(2)، ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، ويبين عليه مثل آصارهم وأوزارهم(3)، ممن لم يعاون ظالمًا على ظلمه، ولا آثمًا على إثمه، أولئك أخف عليك مئونة، وأحسن لك معونة، وأحنى لك عطفًا، وأقل لغيرك إلفًا(4)، ففي هذا النص الذي أورده أمير المؤمنين على بصورة نصائح أورد فيه النقاط والحقائق الآتية:
أ- تعيين الوزراء من صلاحيات الوالي.
ب- الشروط التي يجب أن يختار الوالي وزراءه بموجبها.
جـ- طريقة التعامل والعلاقة المتبادلة بين الوالي والوزير.
د- وظيفة الوزير.
__________
(1) بطانة الرجل: خاصته، والأثمة: جمع آثم، والظلمة: جمع ظالم.
(2) الخلف: بمعنى البدل.
(3) الآصار: جمع إصر وهو الذنب والإثم وكذلك الأوزار.
(4) الإلف: الألفة والمحبة.(2/63)
أما عدد الوزراء فلم يذكره أمير المؤمنين على بل اكتفى بلفظ الجمع، ويظهر أن عددهم يرتبط بمقدار حاجة الوالي إلى المعاونين، لأن عمل الوزير هو مساعدة الوالي في وظائفه، وهناك شروط حددها أمير المؤمنين على: أن لا يكون وزيرًا سابقًا للولاة الأشرار، وينتخب الوالي من مجموع وزرائه وزيرًا واحدًا يكون نائبه ومساعده في تمشية الأمور، ويجب أن يختاره من بين وزرائه على أساس(1) قول أمير المؤمنين: ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمر الحق لك(2). وأقلهم مساعدة فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه واقعًا ذلك من هواك حيث وقع(3)، وأما وظائفهم فهي تدخل في دائرة «المساعدة» وأما تحديد تفاصيل هذه الدائرة فيوكل إلى الوالي الذي يقرر وظائف وزرائه حسب الحاجة إليهم، ويكون ارتباط الوزراء بالوالي بصورة مباشرة(4).
2- تشكيل مجالس الشورى: وذلك بالاستعانة بالعلماء والحكماء وهم أهل الحل والعقد، وأهل الخبرة، فقد ورد في حقهم هذا النص: وأكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك وإقامة ما استقام به الناس قبلك(5).
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، د. محسن الموسوى، ص (261).
(2) مر الحق: صعوبته على نفس الوالي.
(3) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص (609).
(4) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (261).
(5) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص (610).(2/64)
وفي هذا النص التأكيد على جمع العلماء والحكماء في مجالس استشارية منتظمة، ويمكن أن يجرى تعيينهم من قبل الوالي أو يتم انتخابهم من قبل الناس، فليس هناك تحديد من أمير المؤمنين على طبيعة تشكيل هذه المجالس، بل اكتفى أمير المؤمنين بالمطالبة من واليه، وأكثر مدارسة العلماء ومناقشة الحكماء أما كيف تم جمعهم؟ فهل اجتمعوا بأمر من الوالي أو يتم انتخابهم من قبل الناس؟ فهذا أمر لم يبت فيه أمير المؤمنين على، بل تركه معلقًا حسب الظروف التي تتحكم في طريقة تعيينهم، إما باختيار الوالي أو انتخاب الناس، وأما وظيفة هذا المجلس فهو الدارسة والبحث لتحديد السياسات العامة بخصوص الأمرين:
أ- تثبيت ما صلح عليه البلاد.
ب- إقامة ما استقام عليه الناس من قبل الوالي.(2/65)
وهذا يعنى وضع الخطوط العريضة لكل ما يتعلق بإصلاح أوضاع البلاد والعباد، سواء كان ذلك في مصرف بيت المال أو تعيين الإداريين، أو تقديم الخدمات للأصناف من تجار وصناع ومزارعين، وهذا المجلس أشبه ما يكون بالمجالس المحلية التي تقام في الدولة التي يقوم نظامها على اللامركزية(1)، وفي نصف آخر يذكر أمير المؤمنين صفات هؤلاء المستشارين والمعاونين: ثم الصق بذوي المروءات والأحساب وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النجدة والشجاعة والسخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم وشعب من العرف(2)، وذكر أمير المؤمنين على رضي الله عنه أهمية الاهتمام بهم وتفقد أحوالهم وأمورهم فقال: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما، ولا يتفاقمن في نفسك شيء قويتهم به(3)، ولا تحقرن لطفًا تعاهدتهم(4) له وإن قل، فإنه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك وحسن الظن بك، ولا تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمه، فإن لليسير من لطفك موضعًا ينتفعون به، وللجسم موقعًا لا يستغنون عنه(5).
3- إنشاء الجيش وتجهيزه: قال أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه لمالك النخعي: وليكن آثار رؤوس جندك عندك(6) من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته بما يسعهم، ويسع من وراءهم من خلوف أهليهم، حتى يكون همهم همًا واحدًا في جهاد العدو، فإن عطفك عليهم(7)، يعطف قلوبهم عليك(8). والذي يظهر من هذا النص:
أ- لابد من وجود قوة عسكرية تدافع عن الولاية.
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (161).
(2) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، ص (612).
(3) تفاقم الأمر: عظم، فهم مستحقون لكل خير.
(4) أي لا تعد شيئًا من تلطفك معهم حقيرًا فتتركه لحقارته، فكل تلطف له موقع في قلوبهم.
(5) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص (613).
(6) أي أفضل وأعلى منزلة من واسى الجند وساعدهم.
(7) أي على الرؤساء.
(8) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص (613).(2/66)
ب- تشكيل هذه القوة وإعدادها من مسئولية الوالي، ويجرى الإنفاق عليها من بيت مال الولاية.
جـ - تعيين رؤساء الجند من مسئولية الوالي، وهناك شروط على الوالي يجب العمل بموجبها عند اختيار رؤساء الجند، فلابد من رعايتهم والاهتمام بهم حتى يكون همهم همًا واحدًا في جهاد العدو(1)، فإن عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك(2).
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على ص (265).
(2) نهج البلاغة، شرح محمد عبده، ص (613).(2/67)
4- ترسيم السياسة الخارجية في مجال الحرب والسلم: يقول أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه لواليه مالك الأشتر: ولا تدفعن صلحًا دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا، فإن في الصلح دعة لجنودك(1)، وراحة من همومك وأمنًا لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه فإن العدو ربما قارب ليتغفل(2)، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن، وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة(3)، فحط عهدك بالوفاء وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما أعطيت(4)، فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد عليه اجتماعيًا مع تفرق أهوائهم وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود(5)، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب الغدر(6)، فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك(7)، ولا تختلن عدوك، فإنه لا يجترئ على الله إلا جاهل شقي، وقد جعل الله عهده وذمته أمنًا أفضاه بين العباد برحمته(8)، وحريمًا يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره(9)، فلا إدخال ولا مدالسة(10)، ولا خداع فيه، ولا تعقد عقدًا تجوز فيه العلل(11)، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق أمر ترجو انفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته وأن تحيط بك من الله فيه طلبة(12)، فلا
__________
(1) الدعة: الراحة.
(2) قارب أي تقرب منك بالصلح ليلقي عليك غفلة عنه فيغدرك فيها.
(3) الذمة: العهد.
(4) أي الوقاية، أي حافظ على ما أعطيت من العهد بروحك.
(5) أي أن الناس لم يجتمعوا على فريضة من فرائض الله أشد من الوفاء بالعهود.
(6) لأنهم وجدوا عواقب الغدر وبيلة أي مهلكة.
(7) خاس بعهد: خانه ونقضه، والختل: الخداع.
(8) أفضاه هنا: بمعنى أفشاه.
(9) يستفيضون: أي يفزعون إليه بسرعة.
(10) الإدخال: الإفساد، والمدالسة: الخيانة.
(11) نهج البلاغة، ص(627).
(12) نهج البلاغة، ص (627).(2/68)
تستقبل فيها دنياك ولا أخرتك(1).
واستنادًا لهذا النص يقوم الوالي بـ:
- عقد معاهدة الصلح مع الدول والأمم المجاورة.
- أخذ الاستعداد للحرب، وأخذ الحيطة عند الضرورة، وبين هذين الأمرين تجرى مفردات كثيرة من تبادل الرسائل، وتبادل الوفود، وتبادل الزيارات وعقد الحوارات(2).
- الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها(3)، كما أن الوفاء بالعهود والمواثيق لم يكن عند أمير المؤمنين على مجرد نظرية مكتوبة على الورق، ولكنه كان سلوكًا عمليًا في حياته وقد حذر الله من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية، قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91]، وقال جل وعلا: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
__________
(1) المصدر نفسه، ص (627).
(2) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (256).
(3) منهج الإعلام الإسلامي في صلح الحديبية، ص (329).(2/69)
5- الحفاظ على الأمن الداخلي: وذلك بانتهاج السياسات السلمية، كتب أمير المؤمنين إلى بعض عماله: «أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارًا وجفوة، فالبس لهم جلبابًا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء»(1)، وتأتى هذه السياسة للحفاظ على الأمن الداخلي، فإذا حدث ما يعكر هذه المهمة فإن مهمة الوالي هي محاولة حل المشكلات بطرق سلمية بعيدة عن استخدام القوة رافضًا سياسة الاستقواء على الشعب(2)، وفي رسالته إلى مالك بن الأشتر: فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويهونه، بل يزيله وينقله(3).
__________
(1) الولاية على البلدان (2/37) نقلاً عن شرح نهج البلاغة (2/230) طبعة أخرى غير محمد عبده.
(2) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (257).
(3) شرح نهج البلاغة، ص (627).(2/70)
6- تشكيل الجهاز القضائي في الولاية: يقول أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تفيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم(1)، ولا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه(2)، ولا تشرف نفسه على طمع(3)، ولا يكتفى بأدنى فهم دون أقصاه(4)، وأوقفهم في الشبهات(5)، بالحجج، وأقلهم تبرمًا بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرمهم عند انفتاح الحكم ممن لا يزدهيه إطراء(6)، ولا يستميله إغراء...وأفسح له في البذل ما يزيل علته وتقل معه حاجته إلى الناس، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك». فانظر في ذلك نظرًا بليغًا(7).
من هذا النص يظهر لنا:
أ- من مسئولية الوالي تعيين القضاة.
ب- على الوالي الالتزام بشروط صارمة في اختيار القاضي.
جـ- على الوالي رعاية القضاة كاملة حتى لا يشعروا بالحاجة إلى الآخرين(8).
__________
(1) لا تحمله مخاصمة الخصوم على اللجاج والإصرار على رأيه.
(2) أي: لا يضيق صدره من الرجوع إلى الحق.
(3) الإشراف على الشيء: الإطلاع عليه من فوق.
(4) لا يكتفي في الحكم بما يبدو له بأول فهم وأقربه دون أن يأتي على أقصى فهم.
(5) الشبهات: ما لا يتضح الحكم فيها بالنص.
(6) لا تستخفه زيادة الثناء عليه.
(7) شرح نهج البلاغة، ص (615).
(8) الإدارة والنظام الإداري، ص(258).(2/71)
7- النفقات المالية: المصدر لتمويل النفقات في الولاية أموال الزكاة والصدقات والغنائم والفيء والخراج والعشور، وتوضع في بيت المال وهو المحل الذي يجتمع فيه بيت مال المسلمين، وهناك عامل في بيت المال يسجل كل مايصله من أموال، وكل ما يخرج من بيت المال، ولبيت المال وظيفة مهمة في الإدارة اللامركزية، فما يجتمع من الأموال يتم أولاً إنفاقه على شئون الولاية من موظفين وعمال وقضاة، ومحتاجين، وإعمار إلخ..وما تبقى يتم إرساله إلى عاصمة الخلافة، ويعتبر بيت المال قلب الولاية الذي يوزع الدم في شرايين الأجهزة العاملة(1)، قال أمير المؤمنين على: وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوى العيال والمجاعة(2)، وجزء من هذه الأموال مصدره الخراج- كما ذكرنا- وهو ما وضع لأخذه على الأرض المزروعة، وهو المصدر الأول لتغطية رواتب موظفي الولاية، وما زاد على ذلك يوزع على الفقراء والمساكين، يقول أمير المؤمنين على: «الناس كلهم عيال على الخراج وأهله» والمقصود بالناس عامة الموظفين والمجاهدين الذين قال عنهم أمير المؤمنين رضي الله عنه: «لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله من الخراج». وقد أرشد أمير المؤمنين إلى استثمار الأرض؛ أي عمارة الأرض فقد قال: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج لغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد»(3)، فعمارة الأرض ستضيف موارد مالية جديدة يمكن الاستفادة منها في مجال الرواتب والنفقات المتنوعة، وتتم هذه النفقات باستقلالية عن الأجهزة المركزية التي لها حصة من هذه الموارد بعد أن يتم استخراج المقادير الضرورية للولاية، وبعث البقية إلى العاصمة، يقول أمير المؤمنين: «وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا»(4)
__________
(1) الإدارة والنظام عند الإمام على، ص (262).
(2) شرح نهج البلاغة، ص (647).
(3) المصدر نفسه، ص (617).
(4) شرح نهج البلاغة (618)، الإدارة والنظام، ص (258).(2/72)
، كما أن من النفقات المهمة في الولاية أعمار الأنهار، فقد كتب أمير المؤمنين على لقرظة بن كعب الأنصاري: «أما بعد، فإن رجالاً من أهل الذمة من عمالك ذكروا نهرًا في أرضهم قد عفا واندفن، وفيه لهم عمارة على المسلمين، فانظر أنت وهم، ثم أعمر وأصلح النهر، فلعمرى لأن يعمروا أحب إلينا من أن يخرجوا وأن يعجزوا ويقصروا في واجب من صلاح البلاد والسلام»(1).
8- العمال التابعون للولاة ومتابعتهم: قال أمير المؤمنين على: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا(2)، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنها جماع شعب الجور واليانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء، أهل البيوتات الصالحة والقدم في الإسلام(3) المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقًا وأصح أعراضًا، وأقل في المطامع إشرافًا، وأبلغ في عواقب الأمور نظرًا، ثم أسبغ عليهم الأرزاق(4)، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك(5)، ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون(6) من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم(7) على استعمال الأمانة والرفق بالرعية، وتحفظ من الأعوان، فإنْ أحد منهم بسط يده إلى الخيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك(8)، اكتفيت بذلك شاهدًا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه، وأخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة»(9).
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/203)، الولاية على البلدان (2/37).
(2) أي الاختبار والامتحان قبل تولية الأعمال.
(3) أي أهلها هم الأولون.
(4) أكمله ووسع لهم فيه.
(5) نقصوا في أدائها أو خانوا.
(6) العيون: الرقباء.
(7) حدوة لهم: أي سوق لهم وحث.
(8) اجتمعت عليه أخبار الرقباء.
(9) شرح نهج البلاغة، ص (616).(2/73)
وهنا يتحدث عن الموظفين التابعين للولاة والمحافظين على المدن والقرى وجباة الصدقات، وعلى عاتقهم مسئولية كبيرة لأن عملهم متصل بالناس بصورة مباشرة، ويتجلى في هذا النص أهمية هؤلاء في الجهاز الإداري؛ لأنهم يمثلون السلطة التنفيذية الحقيقية، فكان لابد من إشباع حاجاتهم حتى لا يطمعوا في مال غيرهم، ولا حقوقهم(1)، ويشير أمير المؤمنين على إلى أهمية العيون التي تقوم بأعمال الرقابة على الإدارات والوحدات وبيت المال، ويتم تعيينهم من قبل الوالي ويكون ارتباطهم معه، وهناك شروط يجب أن
تتوافر فيهم:
أ- أن يكونوا من أهل الصدق حتى تكون تقاريرهم واقعية صادقة.
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري عند على، ص (266).(2/74)
ب- أن يكونوا من أهل الوفاء حتى يكون هدفهم هو الإخلاص للدولة، وبعد تقديم التقارير على الوالي أن يثبت بدقة ما في هذه التقارير ولا يسرع في الحكم على الأفراد، ومن أعمال هذا الجهاز فرض الرقابة على التجار وذوى الصناعات لمنعهم من الاحتكار وإيقاع الضرر بالناس، وما قاله أمير المؤمنين في رسالته للأشتر في هذه الفقرة يشير إلى أن دولة الخلافة الراشدة تهتم بدوام المباشرة لأحوال الرعية، وتفقد أمورها، والتماس الإحاطة بجانب الخلل في أفرادها وجماعاتها، وهذا مبدأ قرآني بينه المولى عز وجل على لسان سليمان عليه السلام: { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ - لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل:20، 21]، وتفقد الطير، وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الخلافة والاهتمام بكل جزء فيها والرعاية لكل واحد فيها وخاصة الضعفاء، ولا شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة، إن سليمان عليه السلام مهتمًا بمتابعة الجند وأصحاب الأعمال وخاصة إذا رأبه شيء من أحوالهم، فسليمان عليه السلام، لما لم ير الهدهد بادر بالسؤال:{مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ} يعنى أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له(1)، ثم قال: {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد الترفق، فسليمان عليه السلام أراد أن يُفهم منه أنه يسأل عن الغائب لا عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة، إذا لم يكن الغياب بعذر(2)، فعهد الخلافة الراشدة تطبيق عملي لمفاهيم القرآن الكريم، إن أمير المؤمنين عليًا رضي الله عنه أشار إلى أهمية الأجهزة الأمنية للدولة المسلمة التي تحرص أشد الحرص على الاهتمام بالأخبار والمعلومات حتى
__________
(1) تفسير الرازي (24/189).
(2) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/593).(2/75)
توظف لخدمة الدين، ونشر المبادئ السامية، والأهداف النبيلة، والمثل العليا، وتقضى على بذور الفساد في الأجهزة المتعددة التي يقوم عليها نظام الولايات.
9- أصناف وطبقات المجتمع: قال أمير المؤمنين: «واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض، ولا غنى لبعضها عن بعض، فمنها جنود الله، ومنها كتاب العامة والخاصة، ومنها قضاة العدل، ومنها عمال الإنصاف والرفق، ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس، ومنها التجار وأهل الصناعات، ومنها الطبقة السفلى من ذوى الحاجة والمسكنة، وكل قد سمى الله سهمه(1)، ووضع على حده فريضته في كتابه أو سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، عهدًا منه عندنا محفوظًا...» إلى أن قال: «ولا قوام لهم جميعًا إلا بالتجار ذوى الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم(2)، ويقيمونه من أسواقهم، ويكفونه من الترفق بأيديهم مالا يبلغه وفق غيرهم، ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة والمسكنة الذين يحق رفدهم ومعونتهم»(3). ثم أوصى بالتجار وأصحاب الصناعة بهم خيرًا فقال: «ثم استوص بالتجار وذوى القناعات وأوص بهم خيرًا: المقيم منها، والمضطرب بما له(4)، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق وجُلاَّبها من المباعد والمطارح في برك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتم الناس لمواضعها(5)، ولا يجترئون عليها، فإنهم سلم لا تخاف بائقته(6)، وصلح لا تخشى عائلته، وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك، واعلم مع ذلك أن في كثير منهم ضيقًا فاحشًا وشحًا قبيحًا(7)، واحتكارًا للمنافع وتحكمًا في البياعات، وذلك باب مضرة للعامة وعيب على الولاية، فامنع من الاحتكار، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع منه، وليكن
__________
(1) أي نصيبه من الحق.
(2) شرح نهج البلاغة، ص (611).
(3) رفدهم: مساعدتهم وصلتهم.
(4) المتردد بأمواله بين البلدان.
(5) يجلبونها من أمكنة بحيث لا يمكن التئام الناس واجتماعهم في مواضع تلك المرافق.
(6) البائقة: الداهية.
(7) الشح: البخل.(2/76)
البيع بيعًا سمحًا، بموازين عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع، فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه(1)، فنكل به، وعاقب في غير إسراف»(2).
ونلاحظ من كلام أمير المؤمنين على رضي الله عنه أن طبقة التجار من أهم شرائح المجتمع، ولذلك أرشد الولاة إلى الاهتمام بهم من خلال وجود دائرة تتولى رعاية هذه الطبقة والإشراف على أعمالها، حتى لا يظهر عليها المظاهر السلبية كالشح والاحتكار وما شابه ذلك. وذوو الصناعات، يلم بهم ما يلم التجار من أضرار ومشاكل، فكان لابد من قيام جهاز لرعايتهم ومساعدتهم في إتمام أعمالهم(3)، ومن هذه الطبقات أهل الخراج، وهم العاملون على الأرض من زراع وحراث وحافرين لآبار، وهم يحتاجون إلى الاهتمام وتشكيل لجان تكون موكلة بأهل الخراج لحل المشكلات التي تعترضهم، لأن هذا الطريق هو السبيل إلى التنمية واستثمار الأرض. ومن هذه الأصناف أهل الذمة الذين يعيشون في الدولة الإسلامية، ويعملون فيها، فلابد من رعاية الدولة لهم وتفقد شئونهم، من خلال جهاز يتولى شئونهم الاقتصادية منها والاجتماعية(4)، ومنها الطبقة السفلى من المساكين والمحتاجين وأهل البؤس والزمنى، فإن في هذه الطبقة القانع(5)، والمعتر(6)، وتشمل هذه الطبقة أهل اليتم وذوى الرقة في السنَّ ممن لا حيلة له، ولا ينصب للمسألة نفسه، فالدولة مسئولة عنه رعاية كاملة، اجتماعية واقتصادية وتعليمية، وكان على الوالي أن يحدد وقتًا للقاء بهم ليزيل عنهم مشاعر الحرمان ويتفقد أمورهم بنفسه وبصورة مباشرة، وعليه أن يوفر الأجواء التي يستطيع بواسطتها هؤلاء المحرومون من التكلم أمام الوالي(7).
__________
(1) قارف: خالط، حكرة: الاحتكار.
(2) شرح نهج البلاغة، ص (620).
(3) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (263).
(4) المصدر السابق نفسه، ص (263).
(5) القانع: السائل.
(6) المعتر: المتعرض للعطاء بلا سؤال.
(7) الإدارة والنظام الإداري، ص (264).(2/77)
10- التربية بالعقاب والثواب: قال أمير المؤمنين على: «ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيدًا لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريبًا لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه(1)، واعلم أنه ليس بشيء أدعى إلى حسن ظن راعٍ برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم، وترك استكراهه إياهم على ما ليس قِبَلهم(2)، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك، فإن حسن الظن يقطع عنك نصبًا طويلاً(3)، وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلاؤك عنده»(4)، وهذه التربية بالعقاب والثواب تحدث عنها القرآن الكريم وتتضح معالمها جلية في قصة ذي القرنين في قوله تعالى: { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا - وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف: 87، 88].
إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه، وتفجر طاقة الخير العاملة على زيادة الإحسان وتشعره بالاحترام والتقدير، وتأخذ على يد المسيء لتضرب على يده، حتى يترك الإساءة، وتعمل على توسيع دوائر الخير والإحسان في أوساط المجتمع وتضييق حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب، وهذا ما أرشد إليه أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه.
__________
(1) فإن المسيء ألزم نفسه استحقاق العقاب، والمحسن الثواب.
(2) قبلهم: بكسر ففتح – أي عندهم.
(3) النصب: التعب.
(4) البلاء هنا: الصنع مطلقًا حسنًا أو سيئًا، انظر: نهج البلاغة، ص (61).(2/78)
11- دور العرفاء والنقباء في تثبيت نظام الولايات: عرف المسلمون النقباء في بيعة العقبة الثانية حينما عين الرسول - صلى الله عليه وسلم - اثنى عشر نقيبًا من الأنصار على قومهم؛ ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج(1)، واستمر تنظيم النقباء والعرفاء في الأجناد الإسلامية المختلفة في عهد عمر، ومما ورد في ذلك تنظيم الناس في القادسية على يد سعد بن أبى وقاص حيث اجتمعت القبائل، فأمَّر أمراء الأجناد وعرَّف العرفاء، فعرَّف على كل عشرة رجلاً، كما كانت العرافات أزمان النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك كانت إلى أن فرض العطاء، وأمر على الرايات رجالات من أهل السابقة، وعشر الناس وأمر على الأعشار رجالاً من الناس لهم وسائل في الإسلام(2)، ويُعد عمر أول من نظم تقسيم الناس في الأمصار عمومًا، ففي زمانه برز العرفاء على الناس في أمصارهم وأصبحوا مسئولين أمام الوالي عن قبائلهم والمجموعات المنضمة إليهم حسب التقسيم المتبع ذلك الوقت(3)، وقد استمر نظام العرفاء طيلة عصر عثمان رضي الله عنه، وخلال عهد علىّ رضي الله عنه، فكان يجمع النقباء ويعطيهم الأموال بحصصهم فيقسمونها على من يتبعهم من الناس(4)، وقد استفاد الولاة من العرفاء في إدراة الولايات في الشئون المختلفة المدنية منها والعسكرية، فكانوا يساعدون في توزيع العطاء على الناس، وفي السيطرة على النظام داخل الولايات، وفي البحث عن المطلوبين للقضاء وغيره، وفي سرعة تجنيد الناس حين الحاجة، وفي أخذ المشورة من الناس، كما كان للنقباء دور في معرفة من يضاف اسمه إلى العطاء ومن يحذف اسمه، وغير ذلك من الأمور المختلفة، وهكذا كان العرفاء من أهم الموظفين للولاة في إدارة أمصارهم مع أن هؤلاء في الغالب
__________
(1) السيرة النبوية لابن هشام (2/87).
(2) الولاية على البلدان (2/106)، التاريخ الطبري (5/87).
(3) النظم الإسلامية، صبحي الصالح، الولاية على البلدان (2/106).
(4) الأموال، القاسم بن سلام، ص (345)، الولاية على البلدان (2/106).(2/79)
لم يكونوا متفرغين لهذا العمل وحده، بل كانوا مجرد مساعدين وقت الحاجة، وكان في تقسيم العرفاء والنقباء في كثير من الأحيان شيء من التنظيم القبلي، حيث كان التقسيم أحيانًا باعتبار القبيلة، إلى أن كثر الداخلون في الإسلام من الأعاجم وبدءوا يستوطنون الأمصار فبدأ هذا التقسيم يقل تدريجيًا(1) مع احتفاظه بقوته في معظم الأوقات خلال عهد الخلفاء الراشدين(2)، وقد كان يتبع الولاة على البلدان بعض كبار القواد الذين يتولون قيادة أقسام معينة في الجيش، ويقومون بالفتوح المختلفة بتوجيه من أمراء الولايات، كما كانوا يصحبون الوالي وهو أمير الحرب في غزواته المختلفة ويساعدونه في تنظيم الجيش وقيادته(3)، وقد كان أمراء التعبئة يلون الأمير، والذين يلون أمراء التعبئة أمراء الأعشار، والذين يلون أمراء الأعشار، أصحاب الرايات، والذين يلون أصحاب الرايات والقواد رؤوس القبائل(4)، كما أن العرفاء يرفعون ما يراه قومهم من اقتراحات أو تظلمات جماعية، ويوصلونها نيابة عنهم، ويتحدثون باسمهم ويدافعون عن حقوقهم أمام الوالي وغيره(5).
رابعًا: من المفاهيم الإدارية عند أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه:
__________
(1) الولاية على البلدان (1/107).
(2) المصدر نفسه (2/107).
(3) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة للزبيدى، ص (41).
(4) تاريخ الطبري، نقلا عن الولاية على البلدان (2/108).
(5) العرافة والنقابة للفاروقى ص (80، 81، 86)، الولاية على البلدان (2/108).(2/80)
1- التأكيد على العنصر الإنساني: كتب أمير المؤمنين إلى أحد عماله: «أما بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقارًا وجفوة..فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول بين القسوة والرأفة وامزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء إن شاء الله»(1). فكان على الرئيس ملاحظة الأوضاع النفسية لمرءوسيه، وأن يضع استراتيجيته الإدارية على ضوء هذا الواقع، وأن يوازن بين ضرورات الضبط والتنظيم مع الضرورات الواقعية التي تفرزها الحالات الإنسانية والنفسية، فمن الخطأ أن تقوم النظرية الإدارية التنظيمية على قواعد صارمة وثابتة لا تراعي العامل الإنساني، ولا تراعي تأثيرات الظروف، وكأن التنظيم الإداري لأي مؤسسة أو منظمة أو حركة، أو حزب أو جمعية أو ناد...إلخ يتحرك في فراغ بمعزل عن التأثيرات الخارجية والداخلية(2).
2- عامل الخبرة والعلم: في هذا النطاق يؤكد أمير المؤمنين على رضي الله عنه على أهمية أن يكون المسئول صاحب خبرة وعلم، فإذا كان كذلك فله حق الطاعة، وألا فإنه لا طاعة له، يقول أمير المؤمنين: عليكم بطاعة من لا تعذرون بجهالته(3)، فإذا كان جاهلاً فإنهم معذورون فلا طاعة للجاهل لأنه يأخذهم إلى الهلاك. ويقول أيضًا: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق(4)، والجاهل غير العارف بالأمور ينتهي أمره إلى معصية الخالق(5) بأمر مخالف.
__________
(1) نهج البلاغة، ص (539).
(2) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (217).
(3) نهج البلاغة، ص (700).
(4) المصدر نفسه، ص (701).
(5) الإدارة والنظام الإداري، ص (217).(2/81)
3- العلاقة بين الرئيس والمرءوس: هذه العلاقة لا يرسمها التسلسل التنظيمي والتدرج بل ترسمه المصلحة المشتركة بين الرئيس والمرءوسين، يقول أمير المؤمنين على لواليه عندما بعثه إلى مصر: «ثم أمور من أمورك لابد لك من مباشرتها، منها إجابة عمالك بما يعيا عنه كتابك، ومنها إصدار حاجات الناس يوم وردها عليك بما تحرج به صدور أعوانك»(1)، ونحن هنا أمام حالة أُلغى فيها التسلسل الوظيفي إلغاء تامًا، وإذا لم يقدر الوالي على القيام بهذه المهمة فإنه ينتدب بعض خلصائه لذلك، فيقول: «وتفقد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال، ففرغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم»(2)، وهذا تجاوز واضح على الإدارة البيروقراطية التي ترى أن كل شيء يجب أن يتم ضمن التسلسل الإداري ولاحق لأحد في إلغاء هذا التسلسل، ومن يُلغِ ذلك يُعد متجاوزًا للتنظيم، ثم بين أمير المؤمنين مضار التقيد غير المسئول بالتسلسل الوظيفي: «فإن احتجاب الولاة عن الرعية شعبة من الضيق وقلة علم بالأمور، والاحتجاب عنهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه؛ فيصغر عندهم الكبير، ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب الحق بالباطل»(3). هذه هي مضار التسلسل الإداري والتقيد الحرفي به، فتباطؤ الأمور بين هذه السلسلة الطويلة وانتقالها من مسئول إلى مسئول، ومنه إلى مسئول ثالث، فرابع وخامس حتى وصولها إلى الناس العاديين، هذه السلسلة التي تجرى بعيدًا عن مباشرة الرئيس الأعلى قد تغير الأمور وتقلبها رأسًا على عقب، فيصبح الصغير كبيرًا والحق باطلاً، والحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، كما يقول أمير المؤمنين رضي الله عنه، وهو ما تعانى منه التنظيمات البيروقراطية لأنها تعتمد على سلسلة تنتقل عبرها المسائل والقضايا، فتنحرف عن أهدافها ومراميها، والعلاج كما
__________
(1) نهج البلاغة، ص (623).
(2) المصدر نفسه، ص (621).
(3) نهج البلاغة رقم (53)ص (624).(2/82)
يقدمه أمير المؤمنين علي هو ألا يحتجب المسئول عن أفراده، فاحتجابه يتسبب في تغيير قراراته أو تطبيقها في أحسن الظروف تطبيقًا متحجرًا بعيدًا عن الأهداف التي طمح من أجلها، ومهمة الرئيس ليست محصورة في لقاء المرءوسين، بل عليه أن يوفر الأجواء المطمئنة التي تجعل المرءوس قادرًا على طرح مشاكله بطمأنينة وبدون خوف، لأن الغاية ليست هي المقابلات الفجة، بل الهدف هو أن يكون هذا اللقاء مفيدًا فلابد من خلق الأجواء المناسبة لهذه اللقاءات، يقول في ذلك: واجعل لذوى الحاجات منك قسمًا تُفرغُ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلسًا عامًا فتتواضع فيه لله الذي خلقك وتقعد عنهم جندك وأعوانك من حراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع(1)، ويبعث إلى قثم بن العباس «ابن عمه» برسالة يقول فيها: «ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك»(2)، وهناك نصوص أخرى تؤكد على طبيعة العلاقة بين الرئيس والمرءوسين وأنها لا تقوم عبر الوسائل ولا القيود الإدارية، بل تقوم وجهًا لوجه عندما تستدعى الحاجة لذلك(3).
4- مكافحة الجمود: هناك بعض النظريات الإدارية واللوائح التنظيمية تسبب الجمود، وإضاعة الوقت والجهد، وإضاعة الحقوق، كما أن كثيرًا من الأعمال لا يفكر بإنجازها أساسًا لأنها تستغرق وقتًا طويلا حتى يتم إقرارها عبر السلسلة الإدارية، من هنا جاءت دعوة أمير المؤمنين رضي الله عنه: من أطاع التواني ضيع الحقوق(4).
__________
(1) المصدر نفسه، ص (622).
(2) المصدر نفسه (647).
(3) الإدارة والنظام الإداري عند الإمام على، ص (217).
(4) نهج البلاغة، ص (714).(2/83)
5- الرقابة الواعية: الرقابة مهمة في كل تنظيم إداري، فقد نوه أمير المؤمنين رضي الله عنه إلى هذه الوظيفة فقال: «وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية»(1)، فالرقابة عند أمير المؤمنين هي عطف ونصرة للمراقب لمواصلة أداء الأمانة، كما أن الرقابة لابد أن تتم عبر وسائط من أهل الصدق والوفاء حتى يكون تقييمهم عادلاً لا تتلاعب فيه أهواؤهم، فالرقابة هنا عامل مساعد على التقدم، وتدفع بالأفراد إلى الحركة، والإخلاص في العمل. إن القوانين الصارمة لا وجود لها في الفكر الإداري لأمير المؤمنين رضي الله عنه عندما تعيق هذه القوانين حركة الأفراد داخل التنظيم، وتصبح سببًا لإضاعة الحقوق(2).
6- التوظيف يتم عبر الضوابط وليس عبر الروابط الشخصية: في هذا المجال أكد أمير المؤمنين على في عهده لواليه على مصر: «ثم انظر في أمور عمالك فاستعلمهم اختبارًا ولا تولهم محاباة وأثرة» فلابد من إجراء الاختبارات الأولية على الشخص الذي يراد استخدامه في عمل ما، ويجب أن يبتعد الرئيس عن المعايير الشخصية في توظيف أو ترقية الأشخاص إلى المناصب العالية، ثم يقول: «ثم انظر في حال كُتابك، فولّ على أمورك خيرهم»(3) وليس أقربهم إلى قلبك وعائلتك، فلا مجال للروابط والعواطف، فالمعيار هو الحق، وتتعلق هذه الميزة بخاصية أخرى هي الأمانة(4).
__________
(1) نهج البلاغة، ص (616).
(2) الإدارة والنظام الإداري، ص (221، 222).
(3) نهج البلاغة، ص (618).
(4) الإدارة والنظام الإداري، ص(222).(2/84)
7- الضبط: ففي كتاب أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه إلى الأشعت بن قيس يتبين هذا المفهوم: «وإن عملك ليس لك بطعمة، ولكنه في عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك»(1). فقد اعتبر أمير المؤمنين العمل الإداري – في هذا النص – أمانة، ويجب على المسئول أن يرد هذه الأمانة كما هي، وأن يحافظ عليها، وأنه مسئول أمام الله على أدائها، ومسئول أمام رئيسه «من فوقه» اعترافًا بأهمية التسلسل الوظيفي، وهذا عامل مهم من عوامل إيجاد الضبط الإداري الذاتي الذي يمنع مظاهر التسيب والانحراف(2).
__________
(1) نهج البلاغة، ص (525).
(2) الإدارة والنظام الإداري، ص (223).(2/85)
8- المشاركة في صنع القرار: إذا ما أعدنا قراءة النصوص عند أمير المؤمنين التي تحث على المشاورة لوجدنا أن الغاية من هذا الحث هو إيجاد مقدار من المشاركة في صنع القرار، وأن لا ينفرد رجل واحد في صنع القرار، سواء كان هذا الرجل قائدًا عسكريًا، أو ماليًا، أو مديرًا أو مسئولاً في أي ميدان من الميادين، فـ«الشركة» في الرأي تؤدي إلى الصواب(1)، لأنها مشاركة جمع من العقول، وإضافة آراء ذوى الخبرة والتجربة، فالقرار الذي يأتي عبر مناقشة مستفيضة ستجتمتع عليه الآراء فيكون أقرب إلى الصواب(2)، فالمشاورة تكفل هذا النجاح، يقول أمير المؤمنين على: شاوروا فالنجاح في المشاورة(3)، لم يحدد أمير المؤمنين كيفية وأسلوب المشاورة بل وضع أمامنا قاعدة عامة، وذكر لنا فوائد تطبيق هذه القاعدة، ولم يستثن ميدانًا من الميادين عن المشورة، وهذا يعنى أنها ضرورية لكل عمل يقوم به الإنسان، وتشتد الضرورة عندما يكون هذا العمل منوطًا بمجموعة من الأشخاص وليس فردًا واحدًا، وإذا أمعنا النظر في هذا النص: صواب الرأي بإحالة الأفكار(4)، لاتضح لنا أهمية المناقشات المستفيضة من ذوى الشأن للوصول إلى القرار الصائب(5).
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري، ص (229).
(2) الإدارة والنظام الإداري، ص (229).
(3) الإدارة والنظام الإداري، ص (229).
(4) الإدارة والنظام الإداري، ص (229).
(5) الإدارة والنظام الإداري، ص (229).(2/86)
9- حسن الاختيار لدى الوالي والضمانات المادية والنفسية لموظفي الدولة: إن حسن الاختيار يسد الطريق أمام المشاكل التي قد تطرأ نتيجة ضعف الموظف أو عدم انسجامه مع الجو العام، وإذا أمعنا النظر في رسالة أمير المؤمنين علىّ لمالك الأشتر النخعي لوجدنا الشروط المهمة التي يضعها أمامه عند اختياره لعماله: « ثم انظر في أمور عمالك فاستعملهم اختبارًا، ولا تولهم محاباة وأثرة، فإنها جماع من شعب الجور والخيانة، وتوخَّ منهم أهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة فإنهم أكرم أخلاقًا، وأصح أعراضًا، وأقل في المطامع إسرافًا، وأبلغ قي عواقب الأمور نظرًَا»(1). فهذه شروط متعددة غير محصورة بالكفاءة اللازمة في العمل فقط، بل لابد من ملاحظة « العامل» من النواحي النفسية والاجتماعية أيضًا، حتى لا يأخذه الطموح ولا تتغير نواياه وأغراضه، كما لابد من ملاحظة سلوكه الاجتماعي وقدرته على التكيف في المحيط الاجتماعي الجديد، عند ذلك تبدأ مسئولية الوالي: ثم أسبغ عليهم الأرزاق، فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم، وحجة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك(2)، فعندما تجتمع تلك الخصال في فرد من الأفراد ثم يقابل بالمكافأة الجيدة فإن ذلك مدعاة له لأن يستقيم في عمله ويواصل جهده لترقية الولاية أو المؤسسة. وفي مكان آخر يقول: وأفسح له في البذل ما يزيل علته، وتقل معه حاجته إلى الناس، وأعطه من المنزلة لديك مالا يطمع فيه غيره من خاصتك(3)، وهذه عوامل تحصن الموظفين الكبار من السقوط في طريق الرشوة أو شرائه بالمال:
أ- البذل الواسع الذي يكفل جميع حاجاته حتى يشعر بالغنى.
ب- المنزلة المرموقة حتى يشعر بالأمن والطمأنينة على وظيفته، وهذا ما يسمى بالأمن الوظيفي.
__________
(1) نهج البلاغة، ص (616).
(2) نهج البلاغة ص (616).
(3) شرح نهج البلاغة، ص (615).(2/87)
فماذا يريد الموظف بعد كل ذلك إذا كانت حياته مؤمنة، ووضعه الوظيفي مستقرًا، وهذه الضمانات لكبار موظفي الدولة يمكن إنزالها على الشركات الكبرى والمؤسسات العملاقة وقادة الحركات الإسلامية، إنها كفالة كاملة تضمنها للموظف أفضل الأفكار الإدارية، فحتى الإدارة اليابانية لا تحيط الموظف بهذا الشكل من الرخاء الأمني والمعيشي، فالموظف يأخذ راتبًا معينًا، وقد يكون هذا الراتب غير كاف لتغطية جميع نفقاته، فماذا سيعمل حينذاك يا ترى؟ قد تدفعه الحاجة إلى أعمال مشينة مخلة بالأخلاق، لكن المنهاج الإداري لأمير المؤمنين علىّ رضي الله عنه يجب أن يؤمن الموظف حتى يصل حد الغنى، أي لا يتم الاكتفاء بالراتب الشهري فقط، بل المعيار هو تأمين حاجاته، ومن ثم توفير الأمن الوظيفي له(1)، «وأعطه من المنزلة ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك»(2).
10- مرافقة ذوى الخبرات: فذوو التجارب هم مصدر المعرفة الواقعية، ومن الطبيعي أن يستفيد المتعلم من أصحاب التجار أكثر ممن يتلقى العلوم النظرية، وقد استفاد اليابانيون من هذه القاعدة عندما حولوا معاملهم إلى جامعات يستفيد منها العامل الجديد، فهو يتلقى الخبرة ممن سبقه، والذي سبقه ممن سبقه، وقد جاءت هذه القاعدة على لسان أمير المؤمنين: خير من شاورت ذوو النهي والعلم وأولو التجارب والحزم(3)، وأفضل من شاورت ذوو التجارب(4)، ويقول في مصاحبة أصحاب العلم والتجربة: خير من صاحبت ذوو العلم والحلم(5)، فهذه النصوص ما هي إلا قواعد غايتها إعداد الإنسان المسلم الناجح في الحياة، ومن ثم بناء المجتمع المتصف بالتقدم والرقى المستمر(6).
__________
(1) الإدارة والنظام الإداري، ص (231).
(2) شرح نهج البلاغة، ص (615).
(3) الإدارة والنظام الإداري، ص (234).
(4) الإدارة والنظام الإداري، ص (234).
(5) المصدر نفسه، ص (235).
(6) المصدر نفسه، ص (235).(2/88)
11- الإدارة الأبوية: الوالي هو أب قبل أن يكون صاحب سلطة، وهو يتعامل مع موظفيه على أنهم أبناؤه، فمثلما يحتمل الأب تربية أبنائه، كذلك يتحمل مسئولية إعداد كبار موظفي الدولة، وهذا ما أخذت به التجربة اليابانية، والذي نجد له مصداقًا في قول أمير المؤمنين على إلى مالك بن الأشتر فيوصيه بموظفيه: ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد الوالدان من ولدهما(1)، فيجب أن يتعامل المسئول مع أفراده معاملة الوالد لولده يرعاه، ويعفو عنه عندما يسئ، وعندما يعاقبه فعقوبته هي تربية له.
هذه بعض المفاهيم الإدارية عند أمير المؤمنين على بن أبى طالب رضي الله عنه.
__________
(1) نهج البلاغة، ص (612)، الإدارة والنظام الإداري، ص (235).(2/89)
الفصل السادس : معركته الجمل وصفين وقضية التحكيم
قال تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
[الحجرات: 9، 10].
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أتيت عبد الله بن أبى؟ قال: فانطلق إليه، وركب حمارًا، وانطلق المسلمون، وهي أرض سبخة(1)، فلما أتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إليك عنى، فوالله لقد آذاني نتن حمارك، قال: فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله أطيب ريحًا منك، قال: فغضب لعبد الله رجل من قومه. قال: فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال: فكان بينهم ضرب بالجريد وبالأيدي وبالنعال. قال: فبلغنا أنها نزلت فيهم: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}(2).
وعن الحسن عن على بن أبى طلحة عن ابن عباس، قوله: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} فإن الله سبحانه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين أن يدعوهم إلى حكم الله، وينصف بعضهم من بعض، فإن أجابوا حكم فيهم بكتاب الله، حتى ينصف المظلوم من الظالم، فمن أبى منهم أن يجتنب فهو باغ، فحق على إمام المؤمنين أن يجاهدهم ويقاتلهم، حتى يفيئوا إلى أمر الله، ويقروا بحكم الله(3).
__________
(1) أرض سبخة هي الأرض التي تعلوها الملوحة ولا تكاد تنبت إلا بعض الشجر.
(2) البخاري، رقم 2691، مسلم رقم 1799.
(3) التفسير الصحيح، حكمت البشير (4/369).(2/90)
وفي قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، أي إذا تقاتل فريقان من المسلمين، فيجب على ولاة الأمور الإصلاح بالنصح والدعوة إلى حكم الله، والإرشاد وإزالة الشبهة وأسباب الخلاف، والتعبير بـ«إن» للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يقع القتال بين المسلمين، وأنه إن وقع فإنه نادر قليل، والخطاب في الآية لولاة الأمور، والأمر فيها للجوب(1)، وقد استدل البخاري وغيره بهذا على أن المعصية وإن عظمت لا تُخرج من الإيمان، خلاقًا للخوارج القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر وهو في النار، وثبت في صحيح البخاري عن أبى بكرة- رضي الله عنه- قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يومًا، ومعه على المنبر الحسن بن على – رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى، ويقول: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(2) ، فكان كما قال - صلى الله عليه وسلم - أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق بعد الحروب التي وقعت بينهما(3).
وفي قوله تعالى: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ}، أي فإن اعتدت وتجاوزت الحد إحدى الفئتين على الأخرى، ولم تذعن لحكم الله وللنصيحة، فعلى المسلمين أن يقاتلوا هذه الطائفة الباغية، حتى ترجع إلى حكم الله، وما أمر به من عدم البغي، والقتال يكون بالسلاح وبغيره، ويفعل الوسيط ما يحقق المصلحة، وهي الفيئة، فإن تحقق المطلوب بما دون السلاح كان ذلك، وإن تعين السلاح وسيلة فعل حتى الفيئة.
__________
(1) التفسير المنير للزحيلى (26/237).
(2) البخاري، رقم (710).
(3) التفسير المنير (26/238).(2/91)
وفي قوله تعالى: {فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي رجعت الفئة الباغية في بغيها، بعد القتال، ورضيت بأمر الله وحكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحكم، ويتحروا الصواب المطابق لحكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتؤدى ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدد القتال بينهما مرة أخرى، واعدلوا أيها الوسطاء في الحكم بينهما. إن الله يحب العادلين، ويجازيهم أحسن الجزاء، وهذا أمر بالعدل في كل الأمور(1). قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن المقسطين عند الله، على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما وُلُّوا»(2) ثم أمر الله تعالى بالإصلاح في غير حال القتال، ولو في أدنى اختلاف فقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}، فهذه الآية أصل من الأصول التي تنظم علاقة المسلم بأخيه المسلم(3). إن الله تعالى لم ينف صفة الإيمان عن إحدى الطائفتين أو كلتيهما مع وقوع القتال بينهما، وإن أولى الناس بالدخول تحت معنى هذه الآية هم سادات المؤمنين الصحابة الكرام، سواء ما وقع في معركة الجمل أو صفين، وقد قام أمير المؤمنين علىّ- رضي الله عنه – بتطبيق هذه الآية من حرصه على الإصلاح. وقد استجاب طلحة والزبير لذلك، إلا أن أتباع عبد الله بن سبأ أنشبوا الحرب بين الطرفين، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله، وحرص أمير المؤمنين على الإصلاح مع أهل الشام، وبذل ما في وسعه، من طرق سلمية، وجرّد سيفه بعد فشل كل المحاولات الإصلاحية لكي يفئ معاوية – رضي الله عنه- إلى السمع والطاعة، ووحدة الخلافة الإسلامية، إلا أن معاوية اشترط تسليم قتلة عثمان- رضي الله عنه -، فاجتهد
__________
(1) التفسير المنير (26/238).
(2) مسلم: الإمارة – حديث رقم (1827).
(3) سورة الحجرات، د. ناصر العمري (305).(2/92)
وأخطأ، وكان الحق مع أمير المؤمنين على ووقع القتال.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فأثبتت الأخوة الإيمانية لجميع المقاتلين من المسلمين، ومن باب أولى ما وقع بين على وطلحة والزبير – رضي الله عنهم- في الجمل، وما وقع مع معاوية في صفين، ومن هنا يظهر لنا أن المقاتلين في الجمل وفي صفين مؤمنون، ولا مجال للطعن في الصحابة بسبب هذه الحوادث التاريخية، أو محاولة نزع الإيمان عنهم، أو نشر العبارات المنحرفة في حقهم، ويكفى في الرد على تلك المقولات الباطلة أن هذه الآيات أثبتت لهم أخوة الإيمان، وسيأتي بيان ما وقع بينهم – بإذن الله تعالى – بالتفصيل.
فقد ذكر تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، ويجمعهم أصل واحد، وهو الإيمان، فيجب الإصلاح بين كل أخوين متنازعين، وزيادة في أمر العناية بالإصلاح بين الأخوين أمر الله تعالى بالتقوى، والمعنى: فأصلحوا بينها، وليكن رائدكم في هذا الإصلاح وفي كل أموركم تقوى الله، وخشيته والخوف منه، بأن تلتزموا الحق والعدل، ولا تحيفوا ولا تميلوا لأحد الأخوين، فإنهم إخوانكم، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي(1).
__________
(1) التفسير المنير (26/239).(2/93)
وقد جعلت الآية الكريمة الإصلاح بين الإخوة وتقوى الله سبب نزول رحمة الله، تعظيمًا لأمر الإصلاح بين المسلمين(1). ويلاحظ أنه قال: اتقوا الله عند تخاصم رجلين، ولم يقل ذلك عند إصلاح الطائفتين، لأنه في حالة تخاصم الرجلين يخشى اتساع الخصومة، وأما في حال تخاصم الطائفتين فإن أثر الفتنة أو المفسدة عام شامل الكل(2)، وكلمة (إنما) للحصر تفيد أنه لا أخوة إلا بين المؤمنين، ولا أخوة بين المؤمن والكافر، لأن الإسلام هو الرباط الجامع بين أتباعه، وتفيد أيضًا أن أمر الإصلاح ووجوبه إنما هو عند وجود الأخوة في الإسلام، لا بين الكفار، فإن كان الكافر ذميًا أو مستأمنًا وجبت إعانته وحمايته ورفع الظلم عنه، كما تجب إعانة المسلم ونصرته مطلقًا إن كان خصمه حربيًا(3).
وقد قال ابن العربي: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عوّل الصحابة، وإياها عنى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «تقتل عمارًا الفئة الباغية» [أي عمار بن ياسر] أي أن بقتال البغاة فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولذلك تخلف قوم من الصحابة – رضي الله عنهم – عن هذا الأمر، كسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، اعتذر إليه كل واحد منهم بعذر قبله منهم(4) أمير المؤمنين علىٌّ. وهناك كثير من الأحكام سوف نراها من خلال سرد الوقائع التي حدثت بين الصحابة – بإذن الله تعالى-.
__________
(1) منهج القرآن الكريم في إصلاح النفوس للحريري: ص(16).
(2) التفسير المنير (26/239).
(3) التفسير المنير (26/240).
(4) المصدر نفسه (26/242)، أحكام القرآن (4/150).(2/94)
ويُعد نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفئ إلى أمر الله نظامًا له السبق من حيث الزمن على محاولات البشرية في هذا الطريق، وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة، وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل والمطلق، لأن الاحتكام فيه إلى أمر الذي لا يشوبه غرض ولا هوى، ولا يتعلق به نقص أو قصور(1). ولم تنته محاولات الإصلاح منذ اندلاع القتال حتى توج بالصلح العظيم الذي خطط له أمير المؤمنين الحسن بن على رضي الله عنه.
__________
(1) في ظلال القرآن (6/3344).(2/95)
المبحث الأول : الأحداث التي سبقت معركة الجمل
كانت فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه - سببًا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، وقد ساهمت أسباب عديدة في فتنة مقتل عثمان - رضي الله عنه -، منها: الرخاء وأثره في المجتمع، طبيعة التحول الاجتماعي في عهده، مجيء عثمان بعد عمر، خروج كبار الصحابة من المدينة، العصبية الجاهلية، توقف الفتوحات، الورع الجاهل، طموح الطامحين، تآمر الحاقدين، التدبير المحكم لإثارة المآخذ ضد عثمان، استخدام الأساليب والوسائل المهيجة للناس، دور عبد الله بن سبأ في الفتنة، وقد تم تفصيل تلك الأسباب في كتابي «تيسير الكريم المنّان في سيرة عثمان بن عفان».(1) إن عثمان- رضي الله عنه - كان الناس يحبونه حبًا عظيمًا، لحسن سياسته ولمكانته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه في الثناء عليه وزواجه من ابنتيه حتى سمي بذي النورين، فهو من الصحابة الكبار الذين بشروا بالجنة، ولقد تعرض للظلم في حياته من بعض الغوغاء، وكان في استطاعته أن يقضى عليهم ولكنه امتنع خوفًا من أن يكون أول من يسفك الدماء في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانت سياسته في التعامل مع الفتنة قائمة على الحلم والتأني والعدل، وقد منع الصحابة من قتال الغوغاء، وأحب أن يقي المسلمين بنفسه، ولذلك كان مقتله سببًا لحدوث كثير من الفتن الأخرى وألقت بظلالها على الأحداث المتتالية من الفتن، ولقد كان مقتله عظيمًا على المسلمين ولذلك تصدع المجتمع الإسلامي لهذا الحادث الجلل، وانقسم الناس، ومما يزيد من مكانته وبراءته مما نسب إليه مواقف الصحابة من قتله، فقد أجمع الجميع على براءته واتفقوا على الأخذ بدمه إلا أن المواقف اختلفت في الكيفية، وهذا ما سيأتي بيانه، بإذن الله. ونحب أن نسلط الأضواء على دور عبد الله بن سبأ في الفتنة عمومًا:
أولاً: أثر السبئية في إحداث الفتنة:
__________
(1) عثمان بن عفان للصَّلاَّبي ص (311-340).(2/96)
(1) السبئية حقيقة أم خيال: حقيقة عبد الله بن سبأ: أجمع القدماء على وجوده بلا استثناء وخالف في ذلك قلة من المعاصرين أكثرهم من الشيعة، وحجة من أنكره أنه من إبداع مخيلة سيف بن عمر التميمي وذلك لانتقاد بعض علماء الرجال له في مجال رواية الحديث أن العلماء يعدونه حجة في الأخبار، علمًا بأنه وردت روايات كثيرة عند ابن عساكر تذكر عبد الله بن سبأ ليس من بين رواتها سيف بن عمر، وقد حكم الألباني على بعضها بأنها صحيحة من حيث السند(1)، وهذا غير الروايات الكثيرة عن ابن سبأ في كتب الشيعة سواء في كتب الفرق أو الرجال أو الحديث عندهم، وليس فيها عمر هذا، لا من قريب ولا من بعيد، وقد ابتدأ التشكيك في شخصية عبد الله بن سبأ(2) ووجوده في محاولة منهم لنفي دور العنصر اليهودي الحاقد في زرع الفتنة بين المسلمين من جهة، ومن جهة أخرى يوجه الاتهام للصحابة بأنهم سبب الفتنة بغرض هدم النموذج السامي والصور المشرقة لهم عند المسلمين، وتابعهم على نفي وجود عبد الله بن سبأ بعض المعاصرين كلهم من الشيعة الرافضة لغاية في نفوسهم، وهي محاولتهم الفاشلة لتبرئة أصل مذهبهم من مؤسسة الحقيقي كما أجمع القدماء جميعهم بمن فيهم الشيعة. وتجدر الإشارة أن من أنكر عبد الله بن سبأ من المحسوبين على أهل السنة هم ممن تأثروا وتتلمذوا على أيدي المستشرقين فأين بلغ هؤلاء من قلة الحياء والجهل؟ وقد ملأت ترجمته كتب التاريخ والفرق، وتناقلت أفعاله الرواة وطبقت أخباره الآفاق، لقد اتفق المؤرخون والمحدثون وأصحاب كتب الفرق والملل والنحل والطبقات والأدب والأنساب الذين تعرضوا للسبئية على وجود شخصية عبد الله بن سبأ الذي ظهر في أخبار الفتنة، ودور ابن سبأ فيها
__________
(1) دعاوى الإنقاذ للتاريخ الإسلامي، للعودة ذكر فيها الطرق التي ذكرها الألباني.
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/284) ذكر تفصيلات مهمة، وكذلك عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، للعودة.(2/97)
لم يكن قصرًا على تاريخ الإمام الطبري، واستنادًا على روايات سيف بن عمر التميمي فيه، إنما هي أخبار منتشرة في روايات المتقدمين، وفي ثنايا الكتب التي رصدت أحداث التاريخ الإسلامي وآراء الفرق والنحل في تلك الفترة، إلا أن ميزة تاريخ الإمام الطبري على غيره أنه أغزرها مادة وأكثر تفصيلاً لا أكثر، ولهذا فإن التشكيك في هذه الأحداث بلا سند وبلا دليل بحجة عدم ذكر عبد الله بن سبأ إلا من طريق سيف بن عمر حتى بعد ثبوت ذكره من روايات صحيحة ليس فيها سيف ابن عمر كما أسلفنا، إنما يعنى الهدم لكل تلك الأخبار، والتسفيه بأولئك المخبرين والعلماء وتزيف الحقائق التاريخية، فمتى كانت المنهجية ضربًا من ضروب الاستنتاج العقلي المحض في مقابل النصوص والروايات المتضافرة؟ وهل تكون المنهجية في الضرب صفحًا والإعراض عن المصادر الكثيرة المتقدمة والمتأخرة التي أثبتت لابن سبأ شخصية واقعية؟ (1)، وقد جاء ذكر ابن سبأ في كتب أهل السنة كثيرًا منها:
جاء ذكر السبئية على لسان أعشى همدان(2) المتوفى عام 83هـ، وقد هجا المختار بن أبى عبيد الثقفي وأنصاره من أهل الكوفة بعدما فرّ مع أشراف قبائل الكوفة إلى البصرة بقوله:
شهدت عليكم أنكم سبئية ... وأني بكم يا شرطة الكفر عارف(3)
__________
(1) دعاوى الإنقاذ للتاريخ الإسلامي للعودة، تحقيق مواقف الصحابة (1/70).
(2) هو عبد الرحمن بن الحارث الهمداني، المعروف بأعشى همدان.
(3) ديوان أعشى همدان: ص (148).(2/98)
وهناك رواية عن الشعبي المتوفى عام103هـ (721م) تفيد كذب عبد الله بن سبأ(1)، وتحدث ابن حبيب(2) المتوفى عام 245هـ (860م) عن ابن سبأ حينما اعتبره أحد أبناء الجبشيات(3)، كما روى أبو عاصم خُشيش بن أصرم المتوفى سنة 253هـ، خبر إحراق على – رضي الله عنه – لجماعة من أصحاب ابن سبأ في كتابه الاستقامة(4)، ويعتبر الجاحظ(5) المتوفى سنة (255هـ) من أوئل من أشار إلى عبد الله بن سبأ(6)، ولكن روايته ليست أقدم رواية عن ابن سبأ كما يروى الدكتور جواد على(7)، وخبر إحراق على بن أبى طالب – رضي الله عنه – لطائفة من الزنادقة تكشف عنه الروايات الصحيحة في كتب الصحاح والسنن والمسانيد(8)، ولفظ الزندقة ليس غريبًا عن عبد الله بن سبأ وطائفته.
ويقول ابن تيمية: إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ(9).
ويقول الذهبي: عبد الله من غلاة الزنادقة، ضال مضل(10).
ويقول ابن حجر: عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة.. وله أتباع يقال لهم السبئية، معتقدون الإلهية في على بن أبى طالب، وقد أحرقهم على بالنار في خلافته(11).
__________
(1) تاريخ دمشق، ابن عساكر (9/331).
(2) تاريخ بغداد (2/277).
(3) عبد الله بن سبأ للعودة ص (53)، المحَبر، ابن حبيب: ص (308).
(4) تذكرة الحفاظ (2/551)، شذرات الذهب (2/129).
(5) وفيات الأعيان (30/470).
(6) البيان والتبيين (3/81).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (8/290).
(8) عبد الله بن سبأ للعودة: ص (53).
(9) مجموع الفتاوى (28/483).
(10) ميزان الاعتدال للذهبي (2/426).
(11) لسان الميزان لابن حجر (3/360).(2/99)
ويوجد لابن سبأ ذكر في كتب الجرح والتعديل، يقول ابن حبان المتوفى354هـ: وكان الكلبي – محمد بن السائب الإخباري – سبئيًا، من أصحاب عبد الله بن سبأ، من أولئك الذين يقولون: إن عليًا لم يمت، وأنه راجع إلى الدنيا قبل الساعة.. وإن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها(1)، كما أن كتب الأنساب هي الأخرى تؤكد نسبة السبئية إلى عبد الله بن سبأ، وهم الغلاة من الرافضة، وابن سبأ أصله من اليمن، كان يهوديًا وأظهر الإسلام(2)، ولم يكن سيف بن عمر هو المصدر الوحيد لأخبار عبد الله بن سبأ، إذ أورد ابن عساكر في تاريخه روايات لم يكن سيف فيها، وهي تثبت ابن سبأ وتؤكد أخباره(3)، ويذكر شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة 728هـ أن أصل الرفض من المنافقين الزنادقة، فإنه ابتداع ابن سبأ الزنديق، وأظهر الغلو في على وادعى الإمامة والنص عليه، وادعى العصمة له(4)، ويشير الشاطبى(5) والمتوفى عام790هـ إلى أن بدعة السبئية من البدع الاعتقادية المتعلقة بوجود إله مع الله – تعالى- وهي بدعة تختلف عن غيرها من المقالات(6)، وفي خطط المقريزى المتوفى عام 845هـ، أن عبد الله بن سبأ قام من زمن على مُحدثًا القوم بالوصية والرجعة والتناسخ(7)، وأما المصادر الشيعية التي ذكرت ابن سبأ، فقد روى الكشى عن محمد بن قولوية، قال: حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثني يعقوب بن يزيد، ومحمد بن عيسى، عن على بن مهزيار، عن فضالة بن أيوب الأزدى، عن أبان بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله يقول: لعن الله عبد الله بن سبأ، أنه ادّعى الربوبية في أمير
__________
(1) المجروحين من المحدثين، أبو حاتم (2/253).
(2) الأنساب (7/24).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/298)، عبد الله بن سبأ للعودة: ص (54).
(4) مجموعة الفتاوى لابن تيمية (4/435).
(5) إبراهيم بن موسى، محمد الغرناضى توفى عام 790.
(6) الاعتصام (2/197).
(7) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار للمقريزى (2/256، 257).(2/100)
المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين عبدًا طائعًا، الويل لمن كذب علينا، وإن قومًا يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم(1)، والرواية عند الشيعة من حيث السند صحيحة(2).
وفي كتاب الخصال أورد القمى الخبر نفسه، ولكن موصولاً بسند آخر، وأما صاحب روضات الجنات فقد ذكر ابن سبأ على لسان الصادق المصدوق الذي لعن ابن سبأ لاتهامه بالكذب والتزوير وإذاعة الأسرار والتأويل(3)، وقد ذكر الدكتور سليمان العودة في كتابه مجموعة من النصوص التي تزخر بها كتب الشيعة ومروياتهم عن عبد الله بن سبأ، فهي أشبه ما تكون وثائق مسجلة تدين من حاول من متأخري الشيعة إنكار عبد الله بن سبأ، أو التشكيك في أخباره، بحجة قلة، أو ضعف المصادر التي حكت أخباره(4).
إن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وهي كذلك أيضًا عند غالبية المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن(5)، وفان فولتن(6)، وليفي ديلافيد(7)، وجولد تسيهر(8)، ورينولد نكلسن(9)، وداويت رونلدس(10)..على حين يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال: كيتاني وبرنارد لويس(11)، وفريد لندر المتأرجح(12)، علمًا بأننا لا نعتد بهم في أحداث تاريخنا.
__________
(1) رجال الكشى (1/324).
(2) عبد الله بن سبأ الحقيقة المجهولة للشيعة، لمحمد على العلم: ص (30).
(3) عبد الله بن سبأ، سليمان العودة: ص (62).
(4) عبد الله بن سبأ، سليمان العودة: ص(62).
(5) الخوارج والشيعة، يوليوس فلهاوزن: ص (170).
(6) السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات: ص (80).
(7) تحقيق مواقف الصحابة (1/321).
(8) العقيدة والشريعة الإسلامية، جولد تسيهر: ص (229).
(9) تاريخ العرب الأدنى في الجاهلية: ص (235).
(10) عقائد الشيعة: ص (58).
(11) أصول الإسماعيلية (86).
(12) تحقيق مواقف الصحابة (1/312).(2/101)
ومن يستقرئ المصادر، سواء القديمة والمتأخرة، عند السنة والشيعة، يتأكد له بأن وجود ابن سبأ كان وجودًا تؤكده الروايات التاريخية، وتفيض فيه كتب العقائد، وذكرته كتب الحديث، والرجال والأنساب، والأدب، واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين والمحدثين، يبدو أن أول من شك في وجود ابن سبأ المستشرقون، ثم دعّم هذا الطرح الغالبية من الشيعة المعاصرين بل وأنكر بعضهم وجوده ألبتة، وبرز من الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين، ومن تأثر بكتابات الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعًا ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا الشك ذاته، والاستناد إلى مجرد الهوى والظنون والفرضيات(1)، ومن أراد التوسع في معرفة المراجع والمصادر السنية والشيعية والاستشراقية التي ذكرت ابن سبأ فليراجع تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة للدكتور محمد أمحزون، وعبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام، للدكتور سليمان بن حمد العودة.
__________
(1) تحقيق مواقف الصحابة (1/312).(2/102)
(2) دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة: في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان – رضي الله عنه – بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي نتيجة عوامل التغيير التي ذكرناها، وأخذ بعض اليهود يتحينون فرصة الظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء، وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة(1)، فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة، كعامل من عواملها، على أنه أبرزها وأخطرها، إذ إن هناك أجواءً للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادّعاها واخترعها من قبل نفسه وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها وغرض يستهدفه، وهو الدَّس في المجتمع الإسلامي بغية النيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان – رضي الله عنه – وتفرق الأمة شيعًا وأحزابًا(2)، وخلاصة ما جاء به أن أتى بمقدمات صادقة وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذج الغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبّس فيها على من حوله حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن بتأولّه على زعمه الفاسد حيث قال: لَعجَب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] فمحمد أحق بالرجوع من عيسى(3)، كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلى- رضي الله عنه – بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصى، وكان على وصى محمد ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلى
__________
(1) مثال سعيد الأفغاني في كتابه (عائشة والسياسة).
(2) تحقيق مواقف الصحابة (1/327).
(3) تاريخ الطبري (5/347).(2/103)
خاتم الأوصياء(1)، وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان – رضي الله عنه -، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووثب على وصىّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصىّ رسول الله فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تستميلوا الناس وادعوا إلى هذا الأمر(2)، وبث دعاته، وكاتب من كان في الأمصار، وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسترون غير ما يبدون، فيقول أهل مصر: إنّا لفي عافية مما فيه الناس(3).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/347).
(2) المصدر نفسه (5/348).
(3) المصدر نفسه (5/348).(2/104)
ويظهر في النص الأسلوب الذي اتبعه ابن سبأ، فهو أراد أن يوقع في أعين الناس بين اثنين من كبار الصحابة، حيث جعل أحدهما مهضوم الحق وهو على، وجعل الثاني مغتصبًا وهو عثمان، ثم حاول بعد ذلك أن يحرك الناس – خاصة في الكوفة- على أمرائهم باسم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فجعل هؤلاء يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم، علمًا بأنه ركز في حملته هذه على الأعراب الذين وجد فيهم مادة ملائمة لتنفيذ خطته، فالقرَّاء منهم استهواهم عن طريق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأصحاب المطامع منهم هيّج أنفسهم بالإشاعات المغرضة المفتراة على عثمان؛ مثل تحيزه لأقاربه وإغداق الأموال من بيت مال المسلمين عليهم، وأنه حمى الحمى لنفسه إلى غير ذلك من التهم والمطاعن التي حرك بها نفوس الغوغاء ضد عثمان- رضي الله عنه- مع براءته، ثم إنه أخذ يحض أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيئة مفجعة عن مصرهم إلى بقية الأمصار، وهكذا يتخيل الناس في جميع الأمصار أن الحال بلغ من السوء ما لا مزيد عليه، والمستفيد من هذه الحال هم السبئية، لأن تصديق ذلك من الناس يفيدهم في إشعال شرارة الفتنة داخل المجتمع الإسلامي(1)، هذا وقد شعر عثمان – رضي الله عنه – بأن شيئًا ما يحاك في الأمصار وأن الأمة تمخض بشر فقال: والله إن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها(2).
__________
(1) الدولة الأموية، يوسف العشى: ص(168)، مواقف الصحابة (1/330).
(2) تاريخ الطبري (5/250).(2/105)
على أن المكان الذي رتع فيه ابن سبأ هو مصر، وهناك أخذ ينظم حملته ضد عثمان – رضي الله عنه -، ويحث الناس على التوجه إلى المدينة لإثارة الفتنة بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة بغير حق، ووثب على وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقصد(1) عليًا، وقد غشهم بكتب ادّعى أنها وردت من كبار الصحابة حتى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنورة واجتمعوا بالصحابة لم يجدوا منهم تشجيعًا، حيث تبرءوا مما نسب إليهم من رسائل تؤلب الناس على عثمان(2)، ووجدوا عثمان مقدرًا للحقوق، بل وناظرهم فيما نسبوا إليه، ورد عليهم افتراءهم وفسّر لهم صدق أعماله، حتى قال أحد زعمائهم وهو مالك ابن الأشتر النخعى: لعله مُكر به وبكم(3). ويعتبر الذهبي أن عبد الله بن سبأ المهيج للفتنة بمصر وباذر بذور الشقاق والنقمة على الولاة ثم على أمير المؤمنين عثمان فيها(4)، ولم يكن ابن سبأ وحده، وإنما كان عمله ضمن شبكة من المتآمرين وأخطبوط من أساليب الخداع والاحتيال والمكر وتجنيد الأعراب والقراء وغيرهم، ويروى ابن كثير أن أسباب تألب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ وذهابه إلى مصر وإذاعته بين الناس كلامًا اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر(5).
__________
(1) المصدر نفسه (5/348)، تحقيق مواقف الصحابة (1/330).
(2) المصدر نفسه (5/348)، تحقيق مواقف الصحابة (1/330).
(3) تحقيق مواقف الصحابة (1/331).
(4) تحقيق مواقف الصحابة (1/338).
(5) البداية والنهاية (7/167، 168).(2/106)
إن المشاهير من المؤرخين والعلماء من سلف الأمة وخلفها يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية، ليلفت المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم ويوقع بينهم الفرقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكوّنت به الطائفة السبئية المعروفة التي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وما ترتب على قتله من فتن كمعركتي الجمل وصفين وغيرهما. والذي يظهر من خطط السبئية أنها كانت أكثر تنظيمًا، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها ونشر أفكارها لامتلاكها ناصية الدعاية والتأثير بين الغوغاء والرعاع من الناس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة أم في الكوفة أم في مصر، مستغلة العصبية القبلية، ومتمكنة من إثارة مكامن التذمر عند الأعراب والعبيد والموالي، عارفه بالمواضع الحساسة في حياتهم وبما يريدون(1).
ثانيًا: اختلاف الصحابة في الطريقة التي يؤخذ بها القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه:
إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين على من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين على ومعاوية لم يكن سببه ومنشؤه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين على وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم.
قال ابن حزم:ولم ينكر معاوية قط فضل علىّ واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان – رضي الله عنه – على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان(2).
__________
(1) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/339).
(2) الفصل في المل والأهواء والنحل (4/160).(2/107)
وقال ابن تيمية: ومعاوية لم يدّع الخلافة، ولم يبايع له بها حين قاتل عليًا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليًا وأصحابه بالقتال، ولا فعلوا(1)...وقال أيضًا:...وكل فرقة من المتشيعين مقرّة مع ذلك بأن معاوية ليس كفئًا لعلى بالخلافة، ولا يكون خليفة مع إمكان استخلاف على، فإن فضل على وسابقته وعلمه ودينه وشجاعته وسائر فضائله كانت عندهم ظاهرة معلومة كفضل إخوانه أبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم(2).
__________
(1) مجموع الفتاوى (35/72).
(2) مجموع الفتاوى (35/72).(2/108)
إن منشأ الخلاف لم يكن قدحًا في خلافة أمير المؤمنين علىّ – رضي الله عنه- وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما كان في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية، إذ كان أمير المؤمنين على موافقًا من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان، وإنما كان رأيه أن يرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة(1)، قال النووي: واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام: قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته، وقتال الباغي فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده، وقسم عكس هؤلاء: ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليه، وقسم ثالث: اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه(2).
ثالثًا: خروج الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم إلى البصرة للإصلاح:
__________
(1) أحداث وأحاديث فتنة الهرج ص158.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/149).(2/109)
قدم طلحة والزبير إلى مكة ولقيا عائشة – رضي الله عنهم جميعًا – وكان وصولهما إلى مكة بعد أربعة أشهر من مقتل عثمان تقريبًا، أي في ربيع الآخر من عام36هـ(1)، ثم بدأ التفاوض في مكة مع عائشة، رضي الله عنها، للخروج، وقد كانت هناك ضغوط نفسية كبيرة على أعصاب الذين وجدوا أنفسهم لم يفعلوا شيئًا لإيقاف عملية قتل الخليفة المظلوم، فقد اتهموا أنفسهم بأنهم خذلوا الخليفة وأنه لا تكفير لذنبهم هذا – حسب قولهم- إلا الخروج للمطالبة بدمه، علمًا بأن عثمان هو الذي نهى كل من أراد أن يدافع عنه في حياته تضحية في سبيل الله، فعائشة تقول: إن عثمان قُتل مظلومًا والله لأطالبن بدمه(2)، وطلحة يقول: إنه كان منى في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه(3)، والزبير يقول: نُنهض الناس فيدرك بهذا الدم لئلا يَبْطل، فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدًا، إذا لم يُفطم الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب(4).
فهذا الإحساس الضاغط على الأعصاب والنفوس كان كفيلاً بأن يحرك الناس ويخرجهم من راحتهم واستقرارهم، بل كانوا يخرجون وهم يدركون أنهم يخرجون إلى أهوال قادمة مجهولة، فكل واحد منهم خرج من بيته وهو غير متوقع العودة مرة أخرى؛ فشيعة أولاده بالبكاء وسمي يوم خروجهم من مكة نحو البصرة بيوم النحيب، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له من ذلك اليوم(5).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/469).
(2) تاريخ الطبري (5/485).
(3) سير أعلام النبلاء (1/34).
(4) تاريخ الطبري (5/487).
(5) تاريخ الطبري (5/487)، دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة للشجاع: ص(417).(2/110)
لقد توافرت مجموعة من العوامل في مكة جعلتهم يفكرون في طريقة جادة لتحقيق مطلبهم، ومن هذه العوامل: أن بنى أمية قد هربوا من المدينة واستقروا في مكة، ومنها: أن عبد الله بن عامر – أمير البصرة في عهد عثمان- كان في مكة وهو يحث على الخروج ويعرض المعونة المادية، ومنها: أن يعلى بن أمية الذي خرج من اليمن لإعانة الخليفة عثمان وصل إلى مكة، وقد قتل الخليفة ومع من المال والسلاح والدواب شيء لا بأس به، فعرض كل ذلك للمساعدة في قتل عثمان، فكان هذا كفيلاً لتشجيع الباحثين عن طريقة لمطاردة قتلة عثمان، وما دامت العوامل قد توافرت لجمع قوة تطالب بدم عثمان فمن أين يبدءون؟ دار حوار بينهم حول الجهة التي يتوجهون إليها فقال بعضهم – على رأسهم السيدة عائشة-:إن المدينة هي وجهتهم، وظهر رأى آخر يطلب التوجه إلى الشام ليتجمعوا معًا ضد قتلة عثمان، وبعد نظر طويل قرَّ رأيهم على البصرة، لأن المدينة فيها كثرة ولا يقدرون على مواجهتهم لقلتهم، ولأن الشام صار مضمونًا لوجود معاوية، ومن ثم يكون دخولهم البصرة أولى في هذه الخطة لأنها أقل البلدان قوة وسلطة، ويستطيعون من خلالها تحقيق خطتهم(1)، وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبل خروجهم، أو أثناء طريقهم، أو عند وصولهم إلى البصرة وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر(2)، وأن هذا المطلب هو لإقامة حد من حدود الله(3)، وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان – رضي الله عنه- فسيكون كل إمام معرضًا للقتل من أمثال هؤلاء(4)، وأما الطريقة التي تصورها فهي الدخول إلى البصرة ثم الكوفة، والاستعانة بأهلها على قتلة عثمان منهم أو من غيرهم ثم يدعون أهل الأمصار الأخرى لذلك حتى يُضيقوا الخناق
__________
(1) تاريخ الطبري (5/476)، دراسات في عهد النبوة: ص(418).
(2) تاريخ الطبري (5/489).
(3) دراسات في عهد النبوة: ص(419).
(4) تاريخ الطبري (5/487).(2/111)
على قاتلي عثمان الموجودين في جيش علىّ فيأخذونهم بأقل قدر ممكن من الضحايا(1).
لم يكن الخروج إلى البصرة والغضب الذي حرك الصحابة من البساطة التي ظهرت للناس كثأر لعثمان، رضي الله عنه، وكأنه رجل من عوام الناس قُتل، فخرجت الجيوش في الطلب له بثأره، رغم كونه حدًا من حدود الله يستوجب الغضب ويستدعى حدوث ذلك، ولكن مكانة عثمان وشخصيته ومكانته المعنوية كخليفة، وقتله بالصورة التي تمت، كان فوق ذلك، ومعه اغتيال لصفة شرعية هي «الخلافة» التي يفهمها المسلمون: نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به(2)، فالاعتداء عليها دون وجه حق اعتداء على صاحب الشرع وتوهين لسلطانه، وضياع لنظام المسلمين(3).
__________
(1) دراسات في عهد النبوة: ص(419).
(2) مقدمة ابن خلدون: ص(191).
(3) دور المرأة السياسي: ص(391).(2/112)
كانت السيدة عائشة والزبير وطلحة ومن معهم يسعون لإيجاد رأى إسلامي عام في مواجهة الطغمة السبئية التي قتلت عثمان، وأصبحت ذات شوكة لا يستهان بها، وذلك من خلال تعريف المسلمين بما أتى هؤلاء السبئيون والغوغاء من أهل الأمصار ونزّاع القبائل، ومن ظاهرهم من الأعراب والعبيد، فلقد بات واضحًا عند الصحابة من الفريق الذي كان يرى رأي عائشة – رضي الله عنها- أن الغوغاء والسبئيين لهم وجود في جيش علىّ، وأنه لأجل ذلك فإن عليًا- رضي الله عنه – يصعب عليه مواجهتهم، خشية منه على أهل المدينة، ومن ثم فإنه ينبغي عليهم أن يحاولوا السعي لإفهام المسلمين، وتقوية الجانب المطالب بإقامة الحدود، لتتم إقامتها بأقل الخسائر في دماء الأبرياء، وهو هدف لا نشك أن عليًا كان يسعى إليه، ويحاوله، بل إن الروايات التي مرت معنا في المحاورة بين الزبير وطلحة وعلىّ تدل على ذلك، ثم إن هذا السلوك منهم، وهذه النية في تعريف الناس، وتوضيح الأمور لهم، دليل على وعى تام منهم بأساليب السبئية في اللعب بأفكار العامة، وتوجيهها على النحو الذي ينخر في الأمة حتى لا تستقر على حال، فكان لابد من موجهتها في ميدان الأفكار، لإبطال عملها، ولقد تبين هذا العمل واضحًا، وصريحًا في الروايات الصحيحة(1)، التي تحدثت فيها السيدة عائشة – رضي الله عنها- عن أهداف هذا الخروج، فروى الطبري أن عثمان بن حنيف – وهو والى البصرة من قبل أمير المؤمنين على بن أبى طالب – أرسل إلى عائشة – رضي الله عنها – عند قدومها البصرة يسألها عن سبب قدومها، فقال: والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم، ولا يغطى لبنية الخبر، إن الغوغاء من أهل الأمصار، ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحدثوا فيه الأحداث، وآووا فيه المحدثين، واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر؛ فاستحلوا الدم الحرام فسفكوه، وانتهبوا المال
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(394).(2/113)
الحرام، وأحلوا البلد الحرام، والشهر الحرام، ومزقوا الأعراض والجنود، وأقاموا في دار قوم كانوا كارهين لمقامهم، ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين، ولا يقدرون على امتناع ولا يأمنون، فخرجت في المسلمين أُعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس وراءنا، وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا، وقرأت {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]، فنهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصغير والكبير والذكر والأنثى، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به وتحضكم عليه ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره(1). وروى ابن حبان أن عائشة – رضي الله عنها – كتبت إلى أبى موسى الأشعري – والى علىّ على الكوفة-: فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت، وقد خرجت مصلحة بين الناس، فمر من قبلك بالقرار في منازلهم، والرضا بالعافية حتى يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين(2). ولما أرسل علىُّ القعقاع بن عمرو لعائشة ومن كان معها يسألها عن سبب قدومها، دخل عليها القعقاع فسلم عليها، وقال: أي أُمه، ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بنى، إصلاح بين الناس(3).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/489).
(2) الثقات لابن حبان (2/282).
(3) تاريخ الطبري (5/520).(2/114)
وبعد انتهاء الحرب يوم الجمل جاء علىٌّ إلى عائشة – رضي الله عنها – فقال لها: غفر الله لك. قالت: ولك، ما أردت إلا الإصلاح(1). فتقرر أنها ما خرجت إلا للإصلاح بين الناس، وفيه رد على من طعن في عائشة – رضي الله عنها – من الشيعة الرافض في قولهم: إنها خرجت من بيتها وقد أمرها الله بالاستقرار فيه في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} [الأحزاب:33]، فإن سفر الطاعة لا ينافي القرار في البيت وعدم الخروج منه إجماعًا، وهذا ما كانت تراه أم المؤمنين – عائشة – في خروجها للإصلاح للمسلمين وكان معها محرمها ابن أختها عبد الله بن الزبير(2).
__________
(1) شذرات الذهب (1/42).
(2) الانتصار للصحب والآل: ص(444).(2/115)
قال ابن تيمية في الرد على الرافضة في هذه المسألة: فهي – رضي الله عنها – لم تتبرج تبرج الجاهلية الأولى، والأمر بالاستقرار في البيوت لا ينافى الخروج لمصلحة مأمور بها، كما لو خرجت للحج والعمرة، أو خرجت مع زوجها في سفره، فإن هذه الآية قد نزلت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سافر بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك، كما سافر في حجة الوداع بعائشة – رضي الله عنها – وغيرها، وأرسلها مع عبد الرحمن أخيها فأردفها خلفه، وأعمرها من التنعيم، وحجة الوداع كانت قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقل من ثلاثة أشهر، بعد نزول هذه الآية، ولهذا كان أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يحججن بعده كما كن يحججن معه، في خلافة عمر – رضي الله عنه – وغيره، وكان عمر يوكل بقطارهن عثمان، أو عبد الرحمن بن عوف، وإذا كان سفرهن لمصلحة جائزًا، فعائشة اعتقدت أن ذلك السفر مصلحة للمسلمين فتأولت في ذلك(1). ويقول ابن العربي: وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب ولكن تعلق الناس بها وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها في الإصلاح، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت للخلق، وظنت هي ذلك، فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114]. والأمر بالإصلاح، مخاطب به جميع الناس من ذكر أو أنثى حر أو عبد(2).
وهذه بعض الأمور المهمة في خروجها:
__________
(1) منهاج السنة (4/317- 570).
(2) أحكام القرآن (3/569، 570).(2/116)
1- هل أُكرهت السيدة عائشة على الخروج؟ زعم اليعقوبي أن الزبير بن العوام أكره السيدة عائشة على الخروج(1)، وقال بهذا القول صاحب الإمامة والسياسة(2)، وابن أبى الحديد(3)، وكذلك فعل الدينورى(4)، وألمحت الرواية التي ذكرها الذهبي بأن المتسلط عليها هو عبد الله بن الزبير(5) – ابن أختها أسماء – وسار على هذه الروايات كثير من الباحثين، كمحمد سيد الوكيل(6)؛ فقد زعم أن الزبير وطلحة شجعا عائشة على الخروج، وزاهية قدورة(7) وغيرهما، وهذا غير صحيح، فقد قامت السيدة عائشة بالمطالبة بثأر عثمان منذ اللحظة التي علمت فيها بمقتله- رضي الله عنه – وقبل أن يصل الزبير وطلحة وغيرهما من كبار الصحابة إلى مكة؛ ذلك أنه قد روى أنها لما انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي فقال: ما ردك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردّني أن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا دم عثمان تعزُّوا الإسلام. فكان عبد الله أول من أجابها(8)، ولم يكن طلحة والزبير قد خرجا من المدينة، وإنما خرجا منها بعدما مر على مقتل عثمان أربعة أشهر(9).
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/180، 209).
(2) الإمامة والسياسة (1/58، 69).
(3) شرح نهج البلاغة (9/18).
(4) الأخبار الطوال: ص(145).
(5) سير أعلام النبلاء (2/193).
(6) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين: ص (526).
(7) عائشة أم المؤمنين: ص (184).
(8) تاريخ الطبري (5/475).
(9) دور المرأة السياسي: ص (383)، تاريخ الطبري (5/469).(2/117)
2- هل كانت متسلطة على من معها؟: كان فيمن خرج معها – رضي الله عنها- جمع من الصحابة(1)، ولم تكن السيدة عائشة المرأة المتسلطة التي تحرك الناس حيث شاءت – كما زعم بروكلمان(2)، ولقد أكدت روايات الطبري تأييد أمهات المؤمنين لها، ولمن معها في السعي للإصلاح، بل وتأييد عدد غير قليل من أهل البصرة لها(3)، وكان هذا العدد غير القليل ممن لا يستهان بهم، فلقد وصفهم طلحة والزبير بأنهم خيار أهل البصرة ونجباؤهم(4)، ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم الصالحون(5)، وما كان خروج هذا العدد من الصالحين إلا عن اعتقاد راسخ بجدوى هذا الخروج وصواب مقصده، وكان أمير المؤمنين يعلم هذا، ويرد الزعم الذي زعمه البعض من أن الخارجين مع السيدة عائشة كانوا جموعًا من السفهاء والغوغاء والأوباش(6)، فلقد وقف أمير المؤمنين بعد معركة الجمل بين القتلى من فريق عائشة، يترحم عليهم ويذكر فضلهم(7). وسيأتي بيان ذلك أنه لم يكن خروجًا غوغائيًا، تحكمت فيه السيدة عائشة في أناس غير راشدين، بل كان خروجًا واعيًا شارك فيه بعض الصحابة الكبار(8).
__________
(1) المصدر نفسه: ص(384).
(2) تاريخ الشعوب الإسلامية: ص (111، 114، 117).
(3) تاريخ الطبري (5/475).
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن دور المرأة السياسي: ص(385).
(5) تاريخ الطبري نقلا عن دور المرأة السياسي: ص(385).
(6) انظر ما قاله صاحب الإمامة والسياسة (1/57).
(7) تاريخ الطبري (5/574).
(8) دور المرأة السياسي: ص(385).(2/118)
3- موقف أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخروج للطلب بدم عثمان:كانت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قد خرجن إلى الحج في هذا العام فرارًا من الفتنة، فلما بلغ الناس بمكة أن عثمان قد قُتل أقمن بمكة، وكن قد خرجن منها فرجعن إليها، وجعلن ينتظرون ما يصنع الناس ويتحسسن الأخبار، فلما بويع علىّ خرج عدد من الصحابة من المدينة كارهين المقام بها بسبب الغوغاء من أهل الأمصار، فاجتمع بمكة منهم خلق كثير من الصحابة وأمهات المؤمنين(1)، وكانت بقية أمهات المؤمنين قد وافقن عائشة على السير إلى المدينة، فلما اتفق رأى عائشة ومن معها من الصحابة على السير إلى البصرة، رجعن عن ذلك وقلن: لا نسير إلى غير المدينة(2). كان الخروج في أمر عثمان إذن غير مختلف عليه بين أمهات المؤمنين، لكنهن اختلفن حين تغيرت الوجهة من المدينة إلى البصرة، غير أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر – رضي الله عنها – وافقت عائشة على السير إلى البصرة، وإنما عزم(3) عليها أخوها عبد الله كي لا تخرج، فلم يكن عدم خروجها ناتجًا عن اقتناع منها(4)، وقالت لعائشة: إن عبد الله حال بيني وبين الخروج، وأرسلت إلى عائشة بعذرها(5). وتكاد الروايات الشائعة تبدى أن أم سلمه – رضي الله عنها – لم تكن ترى رأى عائشة ومن معها في الخروج إلى البصرة، وأنها كانت ترى ما يراه على(6)، غير أن أقرب الروايات إلى الصحة هي أنها أرسلت إلى علىًّ ابنها عمر بن أبى سلمه قائلة: والله لهو أعز على من نفسي، يخرج معك فيشهد مشاهدك. فخرج فلم يزل معه(7). وهي رواية عند التحقيق لا يتبين لنا منها أن هذا الإرسال لابنها يعنى أنها كانت تخالف
__________
(1) البداية والنهاية (7/241).
(2) البداية والنهاية (7/241).
(3) عزم عليها: أقسم عليها.
(4) دور المرأة السياسي: ص (386).
(5) تاريخ الطبري (5/487).
(6) أنساب الأشراف (4/224).
(7) أسد الغابة (4/169)، الإصابة (4/487)، دور المرأة السياسي ص (387)، المستدرك مرويات أبى مخنف: ص (257).(2/119)
أمهات المؤمنين في القول بالإصلاح بين المسلمين، فعائشة نفسها ومن معها لم يكونوا يرون أنهم بهذا الخروج يخالفون عليًا – رضي الله عنه – أو يخرجون على خلافته كما رأينا، وكما سوف تؤكد لنا الأحداث، كما أننا لم نجد في الروايات الصحيحة ما يدل على خروجها على إجماع أمهات المؤمنين في أهمية السعي للإصلاح(1)، وكانت أمهات المؤمنين يعلمن أن هذا الخروج في الإصلاح بين المسلمين مما يدخل في معنى الفرض الكفائى، والضابط فيه أن الطلب فيه ليس متوجهًا إلى جميع المكلفين، بل هو إلى ما فيه أهلية القيام به، لا على الجميع عمومًا، ولقد كانت أهلية القيام بهذا الإصلاح بين المسلمين متوافرة تمامًا في السيدة عائشة: مكانة وسنًا وعلمًا وقدرة، وكانت عائشة أكثرهن فقهًا بإجماع جمهور المسلمين(2)، كما أنها كانت تهتم بالأمور العامة، فكانت صاحبة شخصية ثقافية واسعة، تكونت منذ نشأتها في بيت أبى بكر العالم بأيام العرب وأنسابهم، ومن عيشها في بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي خرجت منه أسس سياسة الدولة الإسلامية، ثم هي بنت الخليفة الأول للمسلمين، وقد أكد العلماء هذه المكانة للسيدة عائشة، فقد قال عروة بن الزبير: لقد صحبت عائشة، فما رأيت أحدًا قط كان أعلم بآية أنزلت، ولا بفريضة ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى له، ولا بيوم من أيام العرب، ولا بنسب، ولا بكذا، ولا بكذا..ولا بقضاء، ولا بطب منها(3). وكان الشعبي يذكرها فيتعجب من فقهها وعلمها، ثم يقول: ما ظنكم بأدب النبوة؟! وكان عطاء يقول: كانت عائشة أفقه الناس، وأحسن الناس رأيًا في العامة(4). وكان الأحنف بن قيس سيد بنى تميم، وأحد بلغاء العرب يقول: سمعت خطبة أبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، والخلفاء بعدهم..فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم، ولا أحسن منه في عائشة. وكان معاوية
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(387).
(2) سير أعلام النبلاء (2/183).
(3) سير أعلام النبلاء (2/183).
(4) المصدر نفسه (2/185).(2/120)
يقول مثل هذا(1).هذا وقد خرج أمهات المؤمنين مودعات للسيدة عائشة حين خرجت للبصرة، وفي ذلك معنى من معاني المعاونة والتشجيع لها على أمرها(2).
4- مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب: ثبت مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب من طرق صحيحة؛ فعن يحيى بن سعيد بن القطان، عن إسماعيل بن أبى خالد، عن قيس ابن حازم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأزواجه: «كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب»(3).ومن طريق شعبة عن إسماعيل ولفظ شعبة: أن عائشة لما أتت على الحوأب سمعت نباح الكلاب، فقالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لنا: أيتكن تنبح عليها كلاب الحوأب. فقال لها الزبير: أترجعين؟ عسى الله عز وجل أن يُصلح بك بين الناس(4).وبهذا اللفظ أخرجه يعلى بن عبيد عن إسماعيل، وهو عند الحاكم(5)، وقال الألباني: إسناده صحيح جدًا وقال: صححه من كبار أئمة الحديث: ابن حبان، والذهبي، وابن كثير، وابن حجر(6). فهذه الروايات الصحيحة، ليس فيها شيء من شهادة الزور أو التدليس الذي يتنزه عنه مقام الصحابة والذي زعمته الروايات الضعيفة(7) التي سيأتي بيانها. إن المتأمل لهذه الروايات التي صححها العلماء لا يجد في أي منها ما يدل على نهى عن شيء، أو أمر بشيء لتفعله السيدة عائشة، بل إن ما يفهم منها هو تساؤله عن أيتهن التي يحدث أن تمر على ماء الحوأب؟ والروايات الدالة على النهى، والتي بها لفظة إياك في الأثر الوارد: «إياك أن تكوني يا حميراء»(8) لم يصححها العلماء، وإنما ضعفت، ومن هنا فإن الصحيح الذي نذهب إليه هو أن مرور السيدة عائشة على ماء الحوأب لم يكن له الأثر
__________
(1) المصدر نفسه (2/183).
(2) دور المرأة السياسي: ص(389).
(3) مسند أحمد (6/97).
(4) مسند أحمد (6/97).
(5) المستدرك (3/120).
(6) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/767) رقم 474.
(7) دور المرأة السياسي: ص(405).
(8) قال الذهبي: كل حديث فيه يا حميراء لا يصح، سير أعلام النبلاء (2/167، 168).(2/121)
السلبي الذي افتعلته الروايات الموضوعة، ولم يكن له الأثر البعيد على السيدة عائشة نفسها بحيث تفكر جديًّا في الرجوع عما خرجت له من إصلاح بين المسلمين، وسعى لتسديد خطاهم، ولم يعد الأمر أن يكون «ظنًا» منها في احتمال الرجوع، وهذا هو ما عبرت عنه حين قالت: ما أظنني إلا راجعة وهو ظن لم يتلبث إلا يسيرًا ثم عاد هدفها واضحًا بعدما ذكرها الزبير بما عسى الله أن يجريه على يديها من إصلاح بين المسلمين(1)، لقد كانت وما زالت مسألة ماء الحوأب(2) والأحاديث المذكورة فيها مجالاً خصبًا للشيعة وغيرهم يطعنون بها على أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – ويدينون بها خروجها في شأن الطلب بدم عثمان، حتى انتهى بهم الأمر إلى نفى صفة الاجتهاد عنها، بدعوى مخالفتها – في زعمهم – لنهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - لها عن أن ترد ماء الحوأب، وقد ذكرت المصادر التاريخية هذه القصة، فقد جاءت عند الطبري في رواية طويلة، يرويها إسماعيل بن موسى الفزاري قال عنه ابن عدى: أنكروا منه الغلو والتشيع(3). ويروى الفزارى هذا الخبر عن على بن عابس الأزرق، وهو ضعيف قاله ابن حجر والنسائي(4)، وهو يروى هذا الخبر عن الخطاب الهجري وهو مجهول(5)، وهذا الهجري المجهول، يرويه عن مجهول آخر هو صفوان بن قبيعة الأحمسى(6)، ثم أخيرًا عن شخصية أشد جهالة هي شخصية العزنى صاحب الجمل، وما هو بصاحب الجمل، وإنما صاحبه هو يعلى بن أمية(7).
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(406).
(2) الحوأب: من مياه العرب على طريق البصرة قريب منها على طريق مكة إليها.
(3) الكامل في ضعفاء الرجال (1/528)، ميزان الاعتدال (1/413).
(4) تقريب التهذيب (1/697).
(5) تقريب التهذيب (2/392)، دور المرأة السياسي: ص(400).
(6) ميزان الاعتدال (3/434)، لسان الميزان (3/225).
(7) أسد الغابة (5/486)، دور المرأة السياسي: ص(400).(2/122)
وفي متن هذه الرواية ما يجد القارئ من رائحة التشيع والرفض الواضحة في آخر الرواية، حيث تزعم على لسان علىًّ أنه كان – رضي الله عنه – يرى أحقيته بالخلافة على أبى بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – والصحيح الثابت من الروايات المحققة يدل على خلا ذلك تمامًا(1). وعلى أساس كل ما سبق يتضح لنا أن هذه الرواية غير صحيحة(2)، وهناك روايات أخرى وردت في هذا الموضوع، كلها باطلة سندًا ومتنًا، ومغزى هذه الروايات وهدفها هو الطعن على كبار الصحابة وفضلائهم، وبيان أن مقصدهم من خروجهم هذا، هو تحقيق مطامع دنيوية شخصية من مال ورئاسة وغيرها، وأن الغاية تبرر الوسيلة، وأنهم لا يتورعون في سبيل ذلك عن إشعال الحرب والفتنة بين المسلمين، وتركز الروايات على الصحابيين الجليلين طلحة والزبير – رضي الله عنهما -(3)، كما يريد مفتري هذه الروايات أن يبين ويؤكد أن هذين الصحابيين ومن معهما من أفراد المعسكر يتجرءون على انتهاك حرمات الله؛ فهم يقسمون ويحلفون لأم المؤمنين بأيمان مغلظة أن هذا ليس ماء الحوأب، وزيادة على ذلك أتوا بسبعين نفسًا – وفي رواية بخمسين نفسًا – يشهدون على صدق قولهم، فكان هذا العمل – كما افترى المسعودي الشيعي الرافضي – أول شهادة زور في الإسلام(4). وتحاول هذه الروايات أن تظهر أن طلحة والزبير وأم المؤمنين – رضي الله عنهم- ليسوا على شيء من صفاء القلوب والاجتماع على هدف واحد، وتحاول أن تظهر أن عائشة – رضي الله عنها – بجانب طلحة – رضي الله عنه – وفي قرارة نفسها أن يتولى هو الخلافة، وذلك لأنه تيمي مثلها، كما تظهر هذه الروايات أن هناك تنافسًا داخليًا بين طلحة والزبير، وحرصًا من كل واحد منهما أن يتولى
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(402).
(2) تاريخ الطبري (5/483).
(3) مصنف ابن أبى شيبة (15/283) ضعيفة السند منقطعة، وأنساب الأشراف من (2/47) نفس الطريق وهذه الروايات تخالف الصحيح الثابت.
(4) مروج الذهب (2/367).(2/123)
الإمارة، وهذه الروايات لا تخلو من ضعف قوى، فبعضها منقطع السند أو فيها مجاهيل لا يعرفون، أو فيها كلا العيبين الفادحين(1). ولقد تأثر كثير من الكتاب والمؤرخين بهذه الروايات واعتمدوا عليها وأسهموا في نشرها، وهي لا أساس لها، كالعقاد في عبقرية على، وطه حسين في على وبنوه(2)، وغيرهما من الكتاب المعاصرين.
__________
(1) تاريخ الطبري وفي إسنادها مجهولان، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(133).
(2) خلافة على بن أبى طالب: ص(132).(2/124)
5- أعمالهم في البصرة: عندما وصل طلحة والزبير وعائشة – رضي الله عنهم – ومن معهم إلى البصرة نزلوا جانب الخريبة(1)، ومن هناك أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، كان كثير من المسلمين في البصرة وغيرها، يودون ويرغبون في القود من قتلة عثمان – رضي الله عنه – إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا من اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفقه النساء مطلقًا، ومطلبهم الشرعي لا غبار عليه ولا ينكره صحابي واحد، جعل الكثير من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم، وأرسل الزبير إلى الأحنف بن قيس السعدي التميمي يستنصره على الطلب بدم عثمان، والأحنف من رؤساء تميم وكلمته مسموعة، يقول الأحنف واصفًا هول الموقف:..فأتاني أفظع أمر أتاني قط فقلت: إن خذلاني هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشديد(2) إلا أنه اختار الاعتزال، فاعتزل معه ستة آلاف ممن أطاعه من قومه، وعصاه في هذا الأمر كثير منهم، ودخلوا في طاعة طلحة والزبير وأم المؤمنين(3). ويذكر الزهري أن عامة أهل البصرة تبعوهم(4)، وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا من أجلها.وقد حاول ابن حنيف تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع إلا أن الأمور خرجت من يده حتى قال أحدهم عن البصرة: قطعة من أهل الشام نزلت بين أظهرنا(5). وحتى إن معاوية فيما بعد حاول الاستيلاء عليها بمساعدة أهلها(6)
__________
(1) موقع جانب البصرة، انظر: خطط البصرة ومنطقها 114- 122العلمي.
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (133).
(3) طبقات ابن سعد (5/456) له شواهد تقويه.
(4) مصنف عبد الرزاق (5/456) بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً.
(5) الطبقات (6/333).
(6) فتح الباري (13/26)، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(137).(2/125)
.
وتذكر بعض المصادر غير الموثقة أن عثمان بن حنيف رخص لحكيم بن جبلة في القتال، وهذا لا يثبت، والمصادر الصحيحة لم تثبت ذلك(1).
6- مقتل حُكَيم بن جبلة ومن معه من الغوغاء: أقبل حُكَيم بن جبلة بعدما خطبت عائشة – رضي الله عنها – في أهل البصرة، فأنشب القتال وأشرع أصحاب عائشة وطلحة والزبير – رضي الله عنهم – رماحهم وأمسكوا ليمسكوا، فلم ينته حكيم ومن معه، ولم يثن، وظل يقاتلهم، وطلحة والزبير كافُّون إلا ما دافعوا عن أنفسهم، وحكيم يذمر(2) خيله ويركبهم بها(3)، وعلى الرغم من ذلك، فإنه عائشة – رضي الله عنها – ظلت حريصة على عدم إنشاب القتال، فأمرت أصحابها أن يتيامنوا بعيدًا عن المقاتلين، وظلوا على ذلك حتى حجز الليل بينهم(4)، حتى إذا كان الصباح جاء حكيم بن جبلة وهو يبربر، وفي يده الرمح، وفي طريقه إلى حيث عائشة – رضي الله عنها – ومن معها، جعل حكيم لا يمر برجل أو امرأة ينكر عليه أن يسب عائشة إلا قتله(5)، وعندئذ غضبت عبد القيس إلا من كان اغتُمر(6) منهم، فقالوا لحكيم: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم، والله لا نَدَعُك حتى يقيدك الله(7)، فرجعوا وتركوه، ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان – رضي الله عنه- وحصره من نزاع القبائل كلها، فلقد كانوا قد عرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه، ووافقوا أصحاب عائشة، فاقتتلوا قتالاً شديدًا(8)، وظل منادى عائشة – رضي الله عنها – يناديهم ويدعوهم إلى الكفّ فيأبون(9)، وجعلت – رضي الله عنها – تقول: لا تقتلوا إلا من قاتلكم. لكن حكيمًا لم يُرَع(10)
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (137، 138).
(2) يذمر الخيل: يحضها ويشجعها.
(3) تاريخ الطبري (5/494).
(4) تاريخ الطبري (5/494).
(5) المصدر نفسه (5/495).
(6) اغتمر: اغتمس.
(7) يقيدك الله: القَوَد: القصاص، وقتل القاتل بالقتيل.
(8) تاريخ الطبري (5/499).
(9) تاريخ الطبري (5/499).
(10) لم يرع: لم يبال.(2/126)
للمنادى، وظل يُسَعَّر القتال، عندئذ وبعد ما تبينت للزبير وطلحة – رضي الله عنهما – طبيعة هؤلاء الذين يقاتلون، وأنهم لا يتورعون ولا ينتهون عن حرمة، وأن لهم هدفًا في إنشاب القتال، قالا: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحدًا، وأقد منهم اليوم، فاقتلهم، فجادُّوهم القتال، ونادوا: من لم يكن من قتلة عثمان – رضي الله عنه – فليكفف عنا، فإننا لا نريد إلا قتلة عثمان، ولا نبدأ أحدًا، فاقتتلوا أشد القتال(1)، فلم يفلت من قتلة عثمان من أهل البصرة إلا واحد، وكان منادى الزبير وطلحة قد نادى: ألا من كان فيكم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم(2). وكان فريق من هؤلاء الجهال والغوغاء – كما قالت عائشة – قد غادوها في بيتها في الغَلَس ليقتلوها، وكانوا قد ذهبوا حتى سُدَّة بيتها، ومعهم الدليل، إلا أن الله دفع عنها بنفر من المسلمين كانوا قد أحاطوا بيتها – رضي الله عنها – فدارت عليهم الرحى وأطاف بهم المسلمون فقتلوهم(3)، واستطاع الزبير وطلحة ومن معهم أن يسيطروا على البصرة وكانوا بحاجة إلى طعام ومؤنة غذائية، وقد مرت عليهم أسابيع،وهم ليسوا في ضيافة أحد، فتوجه جيش الزبير إلى دار الإمارة ومن ثم إلى بيت المال ليرزقوا أصحابهم، وأخلى سبيل عثمان بن حنيف واتجه إلى على(4)، وبذلك تمت سيطرة طلحة والزبير وأم المؤمنين – رضي الله عنهم – على البصرة وقتلوا عددًا كبيرًا ممن شارك في الهجوم على المدينة، قدر بسبعين رجلاً من أبرزهم زعيم ثوار البصرة حكيم بن جبلة، والذي كان حريصًا على القتال وإشعال الحرب، وكان الزبير أمير المؤمنين؛ فقد بويع على ذلك(5).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/499).
(2) المصدر نفسه (5/501).
(3) المصدر نفسه (5/503).
(4) تاريخ الطبري (5/43)، خلافة على، عبد الحميد: ص (138).
(5) أنساب الأشراف (2/93) بسند حسن، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (139).(2/127)
7- رسائل السيدة عائشة إلى الأمصار الأخرى:كانت السيدة عائشة – رضي الله عنها – حريصة على إيضاح وجه الحق فيما حدث من قتال مع أهل البصرة، فكتبت إلى أهل الشام والكوفة واليمامة، وكتبت إلى أهل المدينة أيضًَا تخبرهم بما صنعوا وصاروا إليه، وكان فيما كتبت به لأهل الشام: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب الله عز وجل هو الذي يردُّنا عن ذلك. فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم، وخالفنا شرارهم ونُزَّاعهم، فردُّونا بالسلاح، وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة أن أمرتْهم بالحق وحثتهم عليه، فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة عثمان أمير المؤمنين، فلم يفلت منهم إلا حُرْقُوص بن زهير والله مقيده. وإنّا نناشدكم الله – سبحانه – في أنفسكم إلا ما نهضتم بمثل ما نهضنا به، فنلقى الله عز وجل وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا(1).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/501).(2/128)
8- الخلاف بين عثمان بن حنيف وجيش عائشة والزبير وطلحة: روى الطبري عن أبى مخنف عن يوسف بن يزيد، عن سهل بن سعد قال: لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان ابن عثمان بن عفان إلى عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه، فقالت لها امراة: نشدتك الله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: ردوا أبانًا، فردُّوه، فقالت: احبسوه ولا تقتلوه. قال: لو علمت أنك تدعينني لهذا لم أرجع. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا شعر لحيته، فضربوه أربعين سوطًا، ونتفوا شعر لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه(1)، وفي سند هذه الرواية أبو مخنف وهو شيعي رافضي محترق، وهذه الرواية لم تثبت من طريق صحيح يمكن أن يعول عليه، والصحابة الكرام ينزهون عن مثل هذه المثلة القبيحة. والذي يفهم من رواية سيف أن الغوغاء هم الذين فعلوا ذلك، وأن طلحة والزبير – رضي الله عنهما – استشنعاه، واستعظماه وبعثا بالخبر إلى عائشة فقالت: خلوا سبيله وليذهب حيث شاء(2)، وهذه الرواية عارضت تفصيلات أبى مخنف فهي لم تذكر الأمر بقتله أو حبسه أو الأمر بنتف شعر وجهه، وقد اختار هذه الرواية النويرى وابن كثير(3)، وذكر الذهبي أن مجاشع بن مسعود قد قتل قبل دخول دار عثمان بن حنيف(4)، وحتى لو فرض عدم قتل مجاشع بن مسعود فليست إليه القيادة حتى يصدر هذه الأوامر(5).
رابعًا: خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى الكوفة:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/497).
(2) تاريخ الطبري (5/497).
(3) نهاية الأرب (20/38)، البداية والنهاية (7/233).
(4) تاريخ الإسلام للذهبي، مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري: ص (359).
(5) مرويات أبى مخنف في تاريخ الطبري: ص(259).(2/129)
لم يكن الصحابة – رضي الله عنهم – في المدينة يؤيدون خروج أمير المؤمنين على بن أبى طالب من المدينة، فقد تبين ذلك حينما همّ علىّ بالنهوض إلى الشام، ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية وما هو صانع(1)، فقد كان يرى أن المدينة لم تعدُ تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة فقال: إن الرجال والأموال بالعراق(2)، فلما علم أبو أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – بهذا الميل قال للخليفة: يا أمير المؤمنين، أقمت بهذه البلاد لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنت كمن كان، وإن تشغب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذ إلى السير سرت وقد أعذرت..، فأخذ الخليفة بما أشار به أبو أيوب وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار(3). ولكن حدث كثير من المستجدات السياسية التي أرغمت الخليفة على مغادرة المدينة، وقرر الخروج للتوجه إلى الكوفة ليكون قريبًا..من أهل الشام(4)، وأثناء استعداده للخروج، بلغه خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة(5)، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وحدث تثاقل من بعض أهل المدينة بسبب وجود الغوغاء في جيش على، وطريقة التعامل معهم، فكان كثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلابد من التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضئ لنا ويسفر..وروى الطبري أن عليًا – رضي الله عنه – خرج في تعبئته التي كان تعبي بها إلى الشام وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين
__________
(1) الثقات لابن حبان (2/283)، الأنصار في العصر الراشدى: ص(161).
(2) الثقات لابن حبان (2/283)، الأنصار في العصر الراشدى: ص(161).
(3) الثقات لابن حبان (2/283)، الأنصار في العصر الراشدى: ص(161).
(4) استشهاد عثمان ووقعة الجمل: ص(183).
(5) تاريخ الطبري (5/507).(2/130)
في سبعمائة رجل(1)، والأدلة على تثاقل كثير من أهل المدينة عن إجابة أمير المؤمنين للخروج كثيرة، منها: خطب الخليفة التي شكا فيها من هذا التثاقل(2)، وظاهرة اعتزال كثير من الصحابة بعد مقتل عثمان كما اتضح ذلك، كما أن رجالاً من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم(3). وقد عبر أبو حميد الساعدى الأنصاري – وهو بدري – عن ألمه لمقتل الخليفة عثمان فقال: اللهم إن لك علىّ أن لا أضحك حتى ألقاك(4). فقد كانوا يعدون الخروج من المدينة في تلك المرحلة يقود إلى الانزلاق في الفتنة التي يخشون عواقبها(5)، على سلامة ما مضى لهم من جهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(6)، وما سبق ذكره لا يعنى أنه لم يشارك أحد من الصحابة في مسيرة الخليفة، بل شارك البعض، لكنهم كانوا قليلاً، قال الشعبي: لم يشهد موقعة الجمل من أصحاب رسول الله غير على وعمار وطلحة والزبير، فإن جاءوا بخامس فأنا كذاب(7)، وفي رواية: من حدثك أنه شهد الجمل ممن شهد بدرًا أكثر من أربع نفر فكذبه؛ كان على وعمار في ناحية وطلحة والزبير في ناحية(8)، وفي رواية: لم ينهض مع على إلى البصرة غير ستة نفر من البدريين ليس لهم سابع(9).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/481).
(2) الطبقات (3/237)، الأنصار في العصر الراشدى: ص(163).
(3) البداية والنهاية نقلاً عن الأنصار في العصر الراشدى: ص(164).
(4) تاريخ الإسلام في عهد الخلفاء الراشدين.
(5) الأنصار في العصر الراشدى: ص(164).
(6) الأنصار في العصر الراشدى: ص (164).
(7) تاريخ خياط: ص(16)، مصنف ابن أبى شيبة (8/710).
(8) العثمانية للجاحظ: ص (175)، الأنصار في العصر الراشدى: ص(165).
(9) الخلافة الراشدة من تاريخ ابن كثير، كنعان: ص(356).(2/131)
وبهذا يكون المقصود في الرواية السابقة من الصحابة أهل بدر، وعلى كل حال فإن من شارك في الفتنة من الأنصار قليل. قال ابن سيرين والشعبي: وقعت الفتنة بالمدينة وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من عشرة آلاف، فما يعدون من خف فيها عشرين رجلاً؛ فسميت حرب على وطلحة والزبير وصفين فتنة(1)، فيتضح مما سبق أن عدد الصحابة الذين خرجوا مع الخليفة على إلى البصرة كان قليلاً ولا يمكن الجزم بمشاركتهم في حرب الجمل، فمع شدة تلك الموقعة وكثرة أحداثها لم تذكر المصادر مشاركات الصحابة فيها أو شهداء أو جرحى(2). إن إحدى الروايات تقول: خرج معه من نشط من الكوفين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل(3). والذي يظهر من هذه الرواية أنها أقرب إلى واقع تلك المرحلة، وأكثر انسجامًا مع سير الأحداث، ومع موقف أهل المدينة الذي كان يتراوح بين الميل للعزلة والتثاقل عن المشاركة في الأحداث(4).
__________
(1) الخلافة الراشدة من تاريخ ابن كثير كنعان: ص(356).
(2) الأنصار في العصر الراشدى: ص(165).
(3) تاريخ الطبري (5/481).
(4) الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدى من الخلاف: ص(388).(2/132)
1- نصيحة عبد الله بن سلام لأمير المؤمنين على: حاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يثنى عزم أمير المؤمنين علىّ عن الخروج، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلاً: أخشى أن يصيبك ذباب السيف، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلن يراه أبدًا، كان علىّ يعلم هذه الأشياء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: وايم الله لقد أخبرني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن من مع علىًّ من البصريين والكوفيين بلغت بهم الجرأة أن قالوا لعلى: دعنا فلنقتله، فقد أصبح قتل المسلمين ممن يقف في طريقهم، أو يحسون بخطره على حياتهم بالقول أو العمل أمرًا هينًا لا يرون به بأسًا، وفي قولهم وتهجمهم هذا ما يدل على قلة الورع وعدم إنزال الصحابة الكرام منازلهم التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس بعده بها، ولكن عليًا – رضي الله عنه – نهاهم قائلاً: إن عبد الله بن سلام رجل صالح(1).
__________
(1) مسند أبى يعلى (1/381) قال محققه: إسناده صحيح.(2/133)
2- نصيحة الحسن بن على لوالده: خرج أمير المؤمنين من المدينة وعندما بلغ الربذة(1) عسكر فيها بمن معه، ووفد عليه عدد من المسلمين بلغوا المائتين(2)، وفي الربذة قام إليه ابنه الحسن – رضي الله عنهما – وهو باك لا يخفى حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين من تفرق واختلاف، وقال الحسن لوالده: قد أمرتك فعصيتني، فتُقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال على: إنك لا تزال تخن(3) خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان – رضي الله عنه – أن تخرج من المدينة فيُقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بنى، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتى بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهورًا مذ وليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: أجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يحاط بها، ويقال: دباب دباب(4)، ليست ههنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟ فكف عنك أي بنى(5). كان موقف أمير المؤمنين على حازمًا في هذه المشكلة وواضحًا ولم يستطع أحد أن يثنيه عن عزمه. وأرسل على رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم
__________
(1) شرق المدينة المنورة تبعد 204 كيلو مترات.
(2) أنساب الأشراف (2/45)، خلافة على بن أبى طالب: ص(143).
(3) تاريخ الطبري (5/482)خن: أخرج الصوت من خياشميه.
(4) دباب كقطام: دعاء الضبع للضبع.
(5) تاريخ الطبري (5/482).(2/134)
إلى نصرته، وكان الرسولان محمد بن أبى بكر الصديق، ومحمد بن جعفر ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما، إذ إن أبا موسى الأشعري والى الكوفة من قبل على، ثبط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة وأسمعهم ما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من التحذير من الاشتراك في الفتنة(1)، فأرسل على بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبى وقاص، ففشل في مهمته، لتأثير أبى موسى عليهم(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (5/514)، مصنف ابن أبى شيبة (15/12) إسناده حسن.
(2) خلافة على بن أبى طالب: ص (144)، سير أعلام النبلاء (3/486).(2/135)
3- استنفار أمير المؤمنين على لأهل الكوفة من ذي قار(1): تحرك على بجيشه إلى ذي قار فعسر به بعد ثماني ليال من خروجه من المدينة، وهو في تسعمائة رجل تقريبًا(2)، فبعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن على، وعزل أبا موسى الأشعري واستعمل قرظة بن كعب بدلاً منه(3). وكان للقعقاع دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولاً هو الحق،... والقول الذي هو القول إنه لابد من إمارة تنظم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علىٌّ يلي ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع(4). وكان للحسن بن على أثر واضح، فقد قام خطيبًا في الناس وقال: أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى(5) أمثل في العاجلة وخير من العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم(6). ولبى كثير من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى على ما بين سبعة إلى سبة آلاف رجل، ثم انضم إليهم من أهل البصرة ألفان من عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثنى عشر ألف رجل تقريبًا(7). وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين على بذي قار قال لهم: يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم
__________
(1) ذو قار، ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة، معجم البلدان (4/393).
(2) تاريخ الطبري (5/519- 521).
(3) فتح الباري (13/53)، التاريخ الصغير (1/109).
(4) تاريخ الطبري (5/516).
(5) أولو النهى: أصحاب العقول.
(6) تاريخ الطبري (5/516).
(7) مصنف عبد الرزاق (5/456، 457) بسند صحيح إلى الزهري مرسلاً، خلافة على بن أبى طالب: ص (146)، والإسناد حسن لغيره، قاله عبد الحميد على.(2/136)
جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم، واغتنم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق، وبايناهم حتى يبدءونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله(1).
4- اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية: وهذا القول ينطبق على حال الصحابة في هذه الفتنة، فمع اختلافهم في الرأي، لم يدخل قلب أحد الضَّغن على أخيه، وإليك هذه القصة التي حدثت بالكوفة، فقد روى البخاري عن أبى وائل قال: دخل أبو موسى الأشعري، وأبو مسعود وعقبة بن عمرو الأنصاري على عمّار حين بعثه علىٌّ إلى أهل الكوفة يستنفرهم، فقالا: ما رأيناك أتيت أمرًا أكره عندنا من إسراعك في هذا الأمر منذ أسلمت. فقال عمار: ما رأيت منكما منذ أسلمتما أمرًا أكره عندي من إبطائكما في هذا الأمر.. وفي رواية: فقال أبو مسعود – وكان موسرًا -: يا غلام هات حلتين فأعط إحداهما أبا موسى، والأخرى عمارًا، وقال: روحا فيه إلى الجمعة(2). فأنت ترى أبا مسعود وعمارًا وكلاهما يرى الآخر مخطئًا ومع ذلك فأبو مسعود يكسو عمارًا حلة ليشهد بها الجمعة لأنه كان بثياب السفر وهيئة الحرب، فكره أبو مسعود أن يشهد الجمعة في تلك الثياب، وهذا تصرف يدل على غاية الود مع أن كليهما جعل تصرف صاحبه نحو الفتنة عيبًا، فغمار يرى إبطاء أبى موسى وأبى مسعود عن تأييد على عيبًا، وأبو موسى وأبو مسعود رأيا إسراع عمار في تأييد أمير المؤمنين على عيبًا، وكلاهما له حجته التي اقتنع بها؛ فمن أبطأ فذلك لما ظهر لهم من ترك مباشرة القتال في الفتنة، تمسكًا بالأحاديث الواردة في ذلك وما في حمل السلاح على المسلم من الوعيد، وكان عمّار على رأى علىًّ في قتال الباغين والناكثين، والتمسك بقوله:{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] وحمل الوعيد
__________
(1) تاريخ الطبري (5/519).
(2) البخاري، ك الفتن.(2/137)
الوارد في القتال على من كان متعديًا على صاحبه، وكلا الفريقين لم يكن حريصًا على قتل صاحبه، ويتعلق الطرفان بأدنى سبب لمنع الاشتجار قبل أن يقع، ومضى الالتحام إن وقع، لأن الطرفين كانا كارهين الاقتتال(1).
5- تساؤلات على الطريق:
أ- ما سأله أبو رفاعة بن رافع بن مالك العجلان الأنصاري لما أراد الخروج من الرّبذة، فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوى فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذًا. فسمع تلك السلسلة من الأسئلة والإجابات فاطمأن إليها وارتاح لها، وقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقول، وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ... وانفر بنا واسْمُ بنا نحو الصوت
لا وَألَتْ نفسي إن هبت الموت(2)
ب- أهل الكوفة يسألون عليًا بمن فيهم الأعور بن بنان المنقرى: لما قدم أهل الكوفة إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه فيِ ذي قار، قام إليه أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن سبب قدومهم، فقام إليه فيمن قام الأعور بن بُنان المنْقرىّ، فقال له على رضي الله عنه: علىَّ الإصلاح وإطفاء النائرة(3)، لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم، وقد أجابوني، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال: فهل لهم مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم(4).
__________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدى (2/304).
(2) تاريخ الطبري (5/510).
(3) النائرة: العداوة.
(4) البداية والنهاية (7/250)، تاريخ الطبري (5/529).(2/138)
جـ- أبو سلامة الدألانى، ممن سأل أمير المؤمنين رضي الله عنه فقال: أترى لهؤلاء القوم حجّة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله عز وجل بذلك؟ قال: نعم. قال: فترى لك حجة بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إنّ الشيء إذا كان لا يدرك فالحكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا، قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إني لأرجو ألاّ يقتل أحد نقىّ قلبه لله منّا ومنهم إلا أدخله الله الجنة(1).
د- وسأل مالك بن حبيب أمير المؤمنين على بن أبى طالب، فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال: قد بان لنا ولهم أن الإصلاح، الكفّ عن هذا الأمر، فإن بايعونا فذلك، فإن أبوا وأبينا إلا القتال فصدع لا يلتئم، قال: فإن ابتلينا فما بال قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه(2).
إن هدف أمير المؤمنين الإصلاح وإطفاء الفتنة، وإن القتال ليس واردًا في تدابيره، لأنه إن حصل، فهو داء لا يُرجى شفاؤه، أما من يقتل بين الطرفين فهو مرهون بنيّته، سواء قاتل مع أمير المؤمنين أو قاتل ضده، وبذلك يقرر أمير المؤمنين أن المسلمين الذين خرجوا في هذا الأمر، بعد استشهاد عثمان – رضي الله عنه – يبتغون الإصلاح والقضاء على الفتنة مجتهدون وأجرهم على قدر إخلاص نواياهم ونقاء قلوبهم(3).
خامسًا: محاولات الصلح:
قبل أن يتحرك على رضي الله عنه بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار أيامًا، وكان غرضه – رضي الله عنه – القضاء على هذه الفرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتى من قوة وجهد، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير، وقد اشترك في محاولات الصلح عدد من الصحابة وكبار التابعين ممن اعتزلوا الأمر، منهم:
__________
(1) البداية والنهاية (7/250).
(2) تاريخ الطبري (5/52)، الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدى: ص(406).
(3) الإنصاف، د.حامد: ص (406).(2/139)
1- عمران بن حصين رضي الله عنه: فقد أرسل في الناس يخذل الفريقين جميعًا، ثم أرسل إلى بنى عدى – وهم جمع كبير انضموا للزبير – فجاء رسوله وقال لهم في مسجدهم: أرسلني إليكم عمران بن حصين صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينصحكم ويحلف بالله الذي لا إله إلا هو لأن يكون عبدًا حبشيًّا مجدعًا يرعى أعنزًا في رأس جبل حتى يدركه الموت، أحب إليه من أن يرمى في أحد من الفريقين بسهم أخطأ أو أصاب، فأمسكوا فدى لكم أبى وأمي. فقال القوم: دعنا منك، فإنا والله لا ندع ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لشيء(1) أبدًا.
2- كعب بن سور: أحد كبار التابعين، فقد بذل كل جهد، وكلف نفسه فوق طاقتها، وقام بدور يعجز عنه كثير من الرجال، فقد استمر في محاولة الصلح إلى أن وقع المحذور، وذهب ضحية جهوده؛ إذ قُتل وهو بين الصفين يدعو هؤلاء ويدعو هؤلاء إلى تحكيم كتاب الله وكف السلاح(2).
3- القعقاع بن عمرو التميمي: أرسل أمير المؤمنين علىٌّ القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنهما في مهمة الصلح إلى طلحة والزبير، وقال: القَ هذين الرجلين، فادعهما إلى الألفة والجماعة، وعظّم عليهما الاختلاف والفرقة. وذهب القعقاع إلى البصرة، فبدأ بعائشة – رضي الله عنها- وقال لها: ما أقدمك يا أماه إلى البصرة؟ قالت له: يا بنى من أجل الإصلاح بين الناس. فطلب القعقاع منها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضرا، ويكلمهما في حضرتها وعلى مسمع منها.
__________
(1) الطبقات لابن سعد (4/87)، خلافة على، عبد الحميد: ص (148).
(2) الطبقات لابن سعد (7/92) من طريقين صحيحة الإسناد، وخلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص (149).(2/140)
* محاورة القعقاع لطلحة والزبير: ولما حضرا سألهما عن سبب حضورهما، فقالا كما قالت عائشة: من أجل الإصلاح بين الناس. فقال لهما: أخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عَرفناه لنصلحنَّ معكم، ولئن أنكرناه لا نصلح، قالا له: قتلة عثمان، رضي الله عنه، ولابد أن يُقتلوا، فإن تُركوا دون قصاص كان هذا تركًا للقرآن، وتعطيلاً لأحكامه، وإن اقُتصَّ منهم كان هذا إحياء للقرآن. قال القعقاع: لقد كان في البصرة ستُّمائة من قتلة عثمان وأنتم قتلتموهم إلا رجلاً واحدًا، وهو حرقوص بن زهير السعدي، فلما هرب منكم احتمى بقومه من بنى سعد، ولما أردتم أخذه منهم وقَتْله منعكم قومه من ذلك، وغضب له ستة آلاف رجل اعتزلوكم، ووقفوا أمامكم وقفة رجل واحد، فإنه تركتم حرقوصًا ولم تقتلوه، كنتم تاركين لما تقولون وتنادون به وتطالبون عليًا به، وإن قاتلتم بنى سعد من أجل حرقوص، وغلبوكم وهزموكم وأديلوا عليكم، فقد وقعتم في المحذور، وقوَّيتموهم، وأصابكم ما تكرهون، وأنتم بمطالبتكم بحرقوص أغضبتم ربيعة ومضر، من هذه البلاد، حيث اجتمعوا على حربكم وخذلانكم، نصرة لبنى سعد، وهذا ما حصل مع على، ووجود قتلة عثمان في جيشه.(2/141)
* الحل عند القعقاع: التأني والتسكين ثم القصاص: تأثرت أمُّ المؤمنين ومن معها بمنطق القعقاع وحجته المقبولة؛ فقالت له: فماذا تقول أنت يا قعقاع؟ قال: أقول: «هذا أمر دواؤه التسكين، ولابد من التأني في الاقتصاص من قتلة عثمان، فإذا انتهت الخلافات، واجتمعت كلمة الأمة على أمير المؤمنين تفرغ لقتلة عثمان، وإن أنتم بايعتم عليًا(1) واتفقتم معه، كان هذا علامة خير، وتباشير رحمة، وقدرة على الأخذ بثأر عثمان، وإن أنتم أبيتم ذلك، وأصررتم على المكابرة والقتال كان هذا علامة شر، وذهابًا لهذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تُعرَّضونا للبلاء، فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وايم الله إني لأقول هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم، حتى يأخذ الله حجته من هذه الأمة التي قلَّ متاعها، ونزل بها ما نزل، فإنّ ما نزل بها أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا قتل النفر الرجل، ولا قتل القبيلة القبيلة». اقتنعوا بكلام القعقاع المقنع الصادق المخلص، ووافقوا على دعوته إلى الصلح، وقالوا له: قد أحسنت وأصبت المقالة، فارجع، فإن قدم على، وهو على مثل رأيك، صلح هذا الأمر إن شاء الله. عاد القعقاع إلى على في «ذي قار» وقد نجح في مهمته، وأخبر عليًا بما جرى معه، فأُعجب على بذلك، وأوشك القوم على الصلح، كرهه من كرهه، ورضيه من رضيه(2).
__________
(1) الانقياد التام لسياسة أمير المؤمنين على في التعامل مع قتلة عثمان.
(2) البداية والنهاية (7/739)، تاريخ الطبري (5/521).(2/142)
* بشائر الاتفاق بين الفريقين: لما عاد القعقاع وأخبره بما فعل، أرسل علىّ رضي الله عنه رسولين(1) إلى عائشة والزبير ومن معهما يستوثق مما جاء به القعقاع بن عمرو، فجاءا عليًا، بأنه على ما فارقنا عليه القعقاع فأقدم، فارتحل علىّ حتى نزل بحيالهم، فنزلت القبائل إلى قبائلهم، مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليمن، وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح(2)، وكان أمير المؤمنين على رضي الله عنه لما نوى الرحيل قد أعلن قراره الخطير: ألا وإني راحل غدًا فارتحلوا – يقصد إلى البصرة – ألا ولا يرتحلن غدًا أحد أعان على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس(3).
سادسًا: نشوب القتال:
__________
(1) تاريخ الطبري (5/525).
(2) المصدر نفسه (5/539)
(3) المصدر نفسه (5/525).(2/143)
1- دور السبئية في نشوب الحرب: كان في عسكر على رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره(1)، وحرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا من القصاص(2). فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا، خرج على وخرج طلحة والزبير، فتوافقوا وتكلموا فيما اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرًا، هو أمثل من الصلح وترك الحرب حين رأوا أن الأمر أخذ في الانقشاع، فافترقوا على ذلك، ورجع علىّ إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وأرسل طلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما، وأرسل على إلى رؤساء أصحابه، ماعدا أولئك الذين حاصروا عثمان – رضي الله عنه – فبات الناس على نية الصلح والعافية وهم لا يشكون في الصلح، فكان بعضهم بحيال بعض، وبعضهم يخرج إلى بعض، لا يذكرون ولا ينوون إلاّ الصّّلح. وبات الذين أثاروا الفتنة بشر ليلة باتوها قط؛ إذ أشرفوا على الهلاك وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، وقال قائلهم: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما، وأما على فلم نعرف أمره حتى كان اليوم؛ وذلك حين طلب من الناس أن يرتحلوا في الغد ولا يرتحل معه أحد أعان على عثمان بشيء، ورأى الناس فينا – والله – واحد، وإن يصطلحوا مع على فعلى دمائنا(3). وتكلم ابن السوداء عبد الله بن سبأ – وهو المشير فيهم – فقال: يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فانشبوا القتال، ولا تفرغوهم للنظر، فإذا من أنتم معه لا يجد بدًا من أن يمتنع، ويشغل الله عليًا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهوه، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون(4). فاجتمعوا على هذا الرأي بإنشاب الحرب في السّر،
__________
(1) تاريخ الطبري (5/526).
(2) المصدر نفسه (5/527)، تحقيق مواقف الصحابة (2/120).
(3) تاريخ الطبري (5/526).
(4) المصدر نفسه (5/527).(2/144)
فغدوا في الغلس وعليهم ظلمة، وما يشعر بهم جيرانهم، فخرج مضريّهم إلى مضريهم، وربيعيهم إلى ربيعيّهم، ويمانيهم إلى يمانّيهم، فوضعوا فيهم السيوف، فثار أهل البصرة، وثار كل قوم في وجوه الذين باغتوهم، وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مصر، فبعثا إلى الميمنة، وهم ربيعة يرأسها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، والميسرة، يرأسها عبد الرحمن بن عتّاب بن أسيد وثبتا في القلب، فقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً، فقالا: ما علمنا أن عليًا غير منته حتى يسفك الدّماء ويستحل الحرمة، وإنه لن يطاوعنا، ثم رجعا بأهل البصرة، وقصف أهل البصرة أولئك حتى ردّوهم إلى عسكرهم(1)، فسمع على وأهل الكوفة الصوت، وقد وضع السبئية رجلاً قريبًا من على ليخبره بما يريدون، فلما قال: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما فجئنا إلا وقوم منهم بيتونا فرددناهم، وقال علىّ لصاحب ميمنته: ائت الميمنة، وقال لصاحب ميسرته: ائت الميسرة، والسبئية لا تفتر إنشابًا(2). وعلى الرغم من تلك البداية للمعركة فإن الطرفين ما لبثا يملكان الرويّة حتى تتضح الحقيقة، فعلى ومن معه يتفقون على ألا يبدءوا بالقتال حتى يبدءوا طلبًا للحجة واستحقاقًا على الآخرين بها، وهم مع ذلك لا يقتلون مدبرًا، ولا يجهزون على جريح، ولكن السبئية لا تفتر إنشابًا(3)، وفي الجانب الآخر ينادى طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف فراش نار وذبان طمع(4)، وهل يكون فراش النار وذبان الطمع غير أولئك السبئية؟ بل إن محاولات الصلح لتجرى حتى آخر لحظة من لحظات المعركة.
__________
(1) تاريخ الطبري (5/541).
(2) تاريخ الطبري (5/541).
(3) تاريخ الطبري (5/541).
(4) تاريخ خليفة بن خياط: ص(182).(2/145)
ومن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه «السبئية» في المعركة ويتضح – بما لا يدع مجالاً للشك – حرص الصحابة – رضي الله عنهم – على الإصلاح وجمع الكلمة؛ وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس(1). وقبل الحديث عن جولات المعركة نشير إلى أن أثر السبئية في معركة الجمل مما يكاد يجمع عليه العلماء سواء أسموهم بالمفسدين، أو بأوباش الطائفتين، أو أسماهم البعض بقتلة عثمان، أو نبزوهم بالسفهاء، أو بالغوغاء، أو أطلقوا عليهم صراحة السبئية(2).. وإليك بعض النصوص التي تؤكد ذلك:
أ- جاء في أخبار البصرة لعمر بن شبَّة أن الذين نسب إليهم قتل عثمان خشوا أن يصطلح الفريقان على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم حتى كان ما كان(3).
ب- قال الإمام الطحاوى: فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من على ولا من طلحة، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين(4).
جـ- وقال الباقلانى:..وتم الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان من التمكن منهم، والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فرقتين، ويبدءوا بالحرب سحرة في المعسكرين ويختلطوا، ويصيح الفريق الذي في عسكر على: غدر طلحة والزبير، ويصيح الفريق الذي في عسكر طلحة والزبير: غدر على، فتم لهم ذلك على ما دبروه ونشبت الحرب، فكان كل فريق منهم دافعًا لمكروه عن نفسه ومانعًا من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى إذ وقع، والامتناع منهم على هذا السبيل، فهذا هو الصحيح المشهور، وإليه نميل، وبه نقول(5).
__________
(1) عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام: ص (192، 193).
(2) المصدر نفسه: ص(194).
(3) فتح الباري (13/56).
(4) شرح العقيدة الطحاوية: ص(546).
(5) التمهيد: ص(233).(2/146)
د- ونقل القاضي عبد الجبار: أقوال العلماء، باتفاق رأي على وطلحة والزبير وعائشة – رضوان الله عليهم – على الصلح، وترك الحرب، واستقبال النظر في الأمر، وأنّ من كان في المعسكر من أعداء عثمان كرهوا ذلك، وخافوا أن تتفرغ الجماعة لهم، فدبّروا في إلقاء ما هو معروف، وتمّ ذلك(1).
هـ- ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: وقدم علىّ على البصرة، وتدانوا ليتراءوا، فلم يتركهم أصحاب الأهواء، وبادروا بإراقة الدماء، واشتجرت الحرب، وكثرت الغوغاء على البوغاء، كل ذلك حتى لا يقع برهان، ولا يقف الحال على بيان، ويخفى قتلة عثمان، وإنّ واحدًا في الجيش يفسد تدبيره، فكيف بألف(2).
__________
(1) تثبيت دلائل النبوة للهمداني: ص(299).
(2) العواصم من القواصم: ص(156، 157).(2/147)
و- ويقول ابن حزم:..وبرهان ذلك أنهم اجتمعوا ولم يقتتلوا ولا تحاربوا، فلما كان الليل عرف قتلة عثمان أن الإراغة والتدبير عليهم، فبيتوا عسكر طلحة والزبير وبذلوا السيف فيهم، فدفع القوم عن أنفسهم حتى خالطوا عسكر علىّ، فدفع أهله عن أنفسهم، كل طائفة تظن – ولا شك – أن الأخرى بدأتها القتال، واختلط الأمر اختلاطًا، ولم يقدر أحد على أكثر من الدفاع عن نفسه، والفسقة من قتلة عثمان لا يفترون من شن الحرب وإضرابها، فكلتا الطائفتين مصيبة في غرضها ومقصدها، مدافعة عن نفسها، ورجع الزبير وترك الحرب بحالها، وأتى طلحة سهم غارب، وهو قائم لا يدري حقيقة ذلك الاختلاط، فصادف جرحًا في ساقه كان أصابه يوم أحد بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانصرف ومات من وقته – رضي الله عنه -،وقتل الزبير بوادي السباع- بعد انسحابه من المعركة- على أقل من يوم من البصرة، فهكذا كان الأمر(1). ويقول الذهبي: كانت وقعة الجمل أثارها سفهاء الفريقين(2). ويقول: إن الفريقين اصطلحا وليس لعلى ولا لطلحة قصد القتال، بل ليتكلموا في اجتماع الكلمة، فترامي أوباش الطائفتين بالنبل، وشبت نار الحرب، وثارت النفوس(3). وفي كتاب «دول الإسلام»: والتحم القتال من «الغوغاء» وخرج الأمر عن على وطلحة والزبير(4). ويقول الدكتور سليمان بن حمد العودة: ولنا بعد ذلك أن نقول: وما المانع أن تكون رواية الطبري المصرَّحة بدور «السبئية » في الجمل، تفسّر هذا التعميم، وتحدد تلك المسميات التي وردت في نقولات هؤلاء العلماء؟ وحتى لو لم تكن هذه الطوائف الغوغائية ذات صلة مباشرة بالسبئية ولم تكن لها أهداف كأهدافهم، فأي مانع يمنع القول إن هذه شكلت أرضية استغلها ابن سبأ وأعوانه
__________
(1) الفصل في الملل والنحل (4/157، 158).
(2) العبر (1/37)، عبد الله بن سبأ للعودة: ص(195).
(3) تاريخ الإسلام (1/15)، عبد الله بن سبأ للعودة: ص(195).
(4) تاريخ الإسلام (1/15)، عبد الله بن سبأ للعودة: ص(195).(2/148)
«السبئية»، كما هي العادة في بعض الحركات الغوغائية التي تستغل من قبل المفسدين؟! (1).
ولا ننسى أن للفتنة وأجوائها دورًا في الإسهام بتلك الأحداث، فمما لا شك فيه أن الناس في الفتن قد تحجب عنهم أشياء يراها غيرهم رأى العين، وقد يتأولون فيها صانعين أشياء يرى من سواهم حقيقته ناصعة لا تحتاج إلى عناء، وكفى بسواد الفتنة حاجبًا عن التروي والإبصار(2)، ولا نبعد كثيرًا؛ فهذا الأحنف بن قيس- وهو أحد الذين عايشوا أحداث الجمل – يخرج وهو يريد نصرة على بن أبى طالب، حتى لقيه أبو بكرة(3)، فقال: يا أحنف ارجع فإني سمعته - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا تَواَجَه المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار، فقلت أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان قد أراد قتل صاحبه(4).إن القتال مع علىّ كان حقًا وصوابًا ومن قتل معه فهو شهيد وله أجران، ولكن أبا بكرة – رضي الله عنه – حمل حديثًا ورد في غبر الحالة التي قاتل فيها علىٌّ على حالة قتال الباغين، وهو فهم منه رضي الله عنه ولكنه فهم في غير محله. ومن هذه الرواية ندرك أن عقبات متعددة واجهت عليًا رضي الله عنه في معركته مع الآخرين، منها أمثال هذه الفتاوى التي هي أثر عن ورع أكثر منها أثرًا عن فتوى تصيب محلها(5). هذا وقد امتنع الأحنف من الدخول مع على – رضي الله عنهما -،
__________
(1) عبد الله بن سبأ للعودة: ص(195).
(2) المصدر نفسه: ص(196).
(3) هو نفيع بن الحارث بن كلدة الثقفي، كما قال الإمام أحمد وعزا هذا القول إلى الأكثرين، وقبل إنه نفيع ابن مسروح وبه جزم ابن سعد، وقيل اسمه مسروح وبه جزم ابن إسحاق. وعلى كل فهو مشهور بكنيته أبى بكرة، من فضلاء الصحابة، ومن أهل الطائف، وممن اعتزل الفتنة يوم الجمل وأيام صفين، قيل في سبب كنيته أنه تدلى من حصن الطائف ببكرة فاشتهر بها. توفى بالبصرة 52هـ.
(4) مسلم (4/2213)، ك الفتن.
(5) الأساس في السنة وفقهها، السيرة النبوية (4/1711).(2/149)
فلم يشهد الجمل مع أحد من الفريقين(1)، ونقترب أكثر فإذا الزبيرَ رضي الله عنه – وهو طرف أساسي في المعركة – يكشف لنا عن حقيقة الأمر: إن هذه لهى الفتنة التي كنا نحدّث عنها، فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويحك؛ إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدرى أمقبل أنا فيه أم مدبر(2). ويشير إلى ذلك طلحة فيقول: بينما نحن يد واحدة على من سوانا، إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضًا(3). وفي الطرف الآخر يؤكد أصحاب على رضي الله عنه على الفتنة فيقول عمار – رضي الله عنه – في الكوفة عن خروج عائشة: إنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنها مما ابتليتم(4).
__________
(1) صحيح مسلم على شرح النووي (18/10).
(2) تاريخ الطبري (5/506).
(3) تاريخ الطبري (5/506).
(4) المصدر نفسه (5/516).(2/150)
2- الجولة الأولى في معركة الجمل: زاد السبئيوّن في الجيشين من جهودهم في إنشاب القتال، ومهاجمة الفريق الآخر، وإغراء كل فريق بخصمه، وتهييجه على قتاله، ونشبت المعركة عنيفة قاسية حامية شرسة، وهي معركة الجمل، وسميت بذلك لأنَّ أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، كانت في المعركة في الجولة الثانية وسط جيش البصرة، تركب الجمل الذي قدمه لها يعلى بن أمية في مكة، حيث اشتراه من اليمن، وخرجت على هذا الجمل من مكة إلى البصرة، ثم ركبته أثناء المعركة، وكانت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر من جمادى الثانية، سنة ست وثلاثين، في منطقة «الزابوقة» قرب البصرة، حزن علىّ لما جرى، ونادى مناديه: كفوا عن القتال أيها الناس: ولم يسمع نداءه أحد، فالكل كان مشغولاً بقتال خصمه(1)، كانت معركة الجمل على جولتين: الجولة الأولى كان قائدا جيش البصرة فيها طلحة والزبير، واستمرت من الفجر حتى قبيل الظهيرة(2)، ونادى على في جيشه،كما نادى طلحة والزبير في جيشهما: لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجًا من المعركة تاركًا لها(3). وقد كان الزبير، رضي الله عنه، وصى ابنه عبد الله بقضاء دينه فقال: إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وإني لا أراني إلا سأقتل مظلومًا، وإن أكبر همي ديَنْي(4). وأثناء ذلك جاء رجل إلى الزبير، وعرض عليه أن يقتل عليًا، وذلك بأن يندس مع جيشه، ثم يفتك به، فأنكر عليه بشدة، وقال: لا؛ لا يفتك مؤمن بمؤمن، أو أن الإيمان قيَّد الفتك(5)، فالزبير، رضي الله عنه، ليس له غرض في قتل على أو أي شخص آخر بريء من دم عثمان، وقد دعا أمير المؤمنين علىٌّ الزبير، فكلمه
__________
(1) المصدر نفسه (5/541).
(2) المصدر نفسه (5/541، 543)، الخلفاء الراشدون للخالدى: ص(245).
(3) تاريخ الطبري (5/541).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (15/543)، الخلفاء الراشدون للخالدى: ص(245).
(5) مسند أحمد (3/19) قال محققه أحمد شاكر: إسناده صحيح.(2/151)
بألطف العبارة، وأجمل الحديث، وقيل ذكره بحديث سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول له – أي الزبير - «لتقاتلنه وأنت له ظالم(1) »- وهذا الحديث ليس له إسناد صحيح(2). وبعض الروايات ترجع السبب في انصراف الزبير – رضي الله عنه – قبيل المعركة لما علم بوجود عمار بن ياسر في الصف الآخر وهو وإن لم يرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «تقتل عمار الفئة الباغية»(3)، فلعله سمعه من بعض إخوانه من الصحابة لشهرته(4)، وبعضها يرجع السبب في انصرافه إلى شكه في صحة موقفه(5)، من هذه الفتنة – كما يسميها -، وفي رواية ترجع السبب في انصرافه إلى أن ابن عباس، رضي الله عنهما، ذكره بالقرابة القوية من على؛ إذ قال له: أين صفية بنت عبد المطلب حيث تقاتل بسيفك على بن أبى طالب بن عبد المطلب(6). فخرج الزبير من المعركة، فلقيه ابن جرموز فقتله(7) كما سيأتي تفصيله بإذن الله. فالزبير، رضي الله عنه، كان على وعى لهدفه – وهو الإصلاح – ولكنه لما رأى حلول السلاح مكان الإصلاح رجع، ولم يقاتل، وقول ابن عباس: تقاتل بسيفك على بن أبى طالب؟ فيه حذف مفهومه: أم جئت للإصلاح وجمع الشمل؟ (8) وعلى إثر هذا الحديث انصرف الزبير وترك الساحة، وربما كانت عوامل متعدة ومتداخلة أسهمت في خروج الزبير من ساحة المعركة، وأما طلحة بن عبيد الله القائد الثاني لجيش البصرة، فقد أصيب في بداية المعركة، إذ جاءه سهم غرب لا يعرف من رماه، فأصابه إصابة مباشرة،
__________
(1) استشهاد عثمان ووقعة الجمل: ص(201) خرج طرق الحديث وحكم عليها بالضعف.
(2) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/324)، المطالب العلية رقم (4468).
(3) مسند أحمد (1/47- 49)، (11/38) إسناده صحيح، تحقيق أحمد شاكر.
(4) خلافة على بن أبى طالب: ص(154).
(5) المصدر نفسه ص(154)، تاريخ الطبري (5/506).
(6) الطبقات (3/110) إسناده صحيح، خلافة على: ص(155).
(7) الطبقات (3/10)، تاريخ خليفة: ص(186).
(8) المدينة النبوية فجر الإسلام (2/248).(2/152)
ونزف دمه بغزاره فقالوا له: يا أبا محمد، إنك لجريح، فاذهب وادخل البيوت لتعالج فيها، فقال طلحة لغلامه: احملني، وابحث لي عن مكان مناسب، فأدخل البصرة، ووضع في دار فيها ليعالج، ولكن جرحه ما زال ينزف حتى توفى في البيت، ثم دفن في البصرة، رضي الله عنه(1)، وأما الرواية التي تشير إلى تحريض الزبير وطلحة على القتال وأن الزبير لما رأى الهزيمة على أهل البصرة ترك المعركة ومضى، فهذه الرواية لا تصح(2)، وهذا الخبر يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة، رضوان الله عليهم، كما أنه يخالف الروايات الصحيحة التي تنص على أن أصحاب الجمل ما خرجوا إلا للإصلاح، فكيف ينسجم هذا الفعل من الزبير، رضي الله عنه، مع الهدف الذي خرج من مكة إلى البصرة من أجله ألا وهو الإصلاح بين الناس؟! وبالفعل فإن موقف الزبير، رضي الله عنه، كان السعي في الإصلاح حتى آخر لحظة، وهذا ما أخرجه الحاكم من طريق أبى حرب بن أبى الأسود الدؤلى، وفيه أن الزبير، رضي الله عنه، سعى في الصلح بين الناس ولكن قامت المعركة واختلف أمر الناس ومضى الزبير وترك القتال(3)، وكذلك طلحة؛ فقد جاء من أجل الإصلاح وليس من أجل إراقة الدماء، وأما عن مقتل طلحة – رضي الله عنه – فقد كان عند بدء القتال كما صرح بذلك الأحنف بن قيس(4).
__________
(1) البداية والنهاية (7/253).
(2) تاريخ الطبري (5/540).
(3) المستدرك (3/366)، استشهاد عثمان: ص(200).
(4) تاريخ خليفة ص185، استشهاد عثمان: ص(202).(2/153)
ويخرج الزبير من ميدان المعركة، ويموت طلحة، رضي الله عنهما، وبسقوط القتلى والجرحى من الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى من معركة الجمل، وكانت الغلبة فيها لجيش على، وكان على رضي الله عنه يراقب سير المعركة ويرى القتلى والجرحى في الجانبين، فيتألم ويحزن، وأقبل علىٌّ على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكى ويقول له: يا بُنى، ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عامًا. فقال الحسن: يا أبت، لقد كنت نهيتك عن هذا، فقال على: ما كنت أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟ (1).
__________
(1) البداية والنهاية (7/521).(2/154)
3- الجولة الثانية: وصل الخبر إلى أم المؤمنين بما حدث من القتال، فخرجت على جملها تحيط بها القبائل الأزدية، ومعها كعب الذي دفعت إليه مصحفًا يدع الناس إلى وقف الحرب، تقدمت أم المؤمنين وكلها أمل أن يسمع الناس كلامها لمكانتها في قلوب الناس؛ فتحجز بينهم وتطفئ هذه الفتنة التي بدأت تشتعل(1)، وحمل كعب بن سور المصحف، وتقدم أمام جيش البصرة، ونادى جيش على قائلاً: يا قوم، أنا كعب بن سور، قاضي البصرة، أدعوكم إلى كتاب الله، والعمل بما فيه، والصلح على أساسه. وخشي السبئيون في مقدمة جيش على أن تنجح محاولة كعب فرشقوه بنبالهم رشقة رجل واحد، فلقي وجه الله، ومات والمصحف في يده(2)، وأصابت سهام السبئيين ونبالهم جمل عائشة وهودجها، فصارت تنادي، وتقول: يا بنى، الله، الله، اذكروا الله ويوم الحساب، وكفوا عن القتال. والسبئيون لا يستجيبون لها، وهم مستمرون في ضرب جيش البصرة، وكان على من الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ولما رأت عائشة عدم استجابتهم لدعوتها، ومقتل كعب بن سور أمامها، قالت: أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وصارت عائشة تدعو على قتلة عثمان وتلعنهم، وضج أهل البصرة بالدعاء على قتلة عثمان وأشياعهم، ولعنهم، وسمع علىٌّ الدعاء عاليًا في جيش البصرة فقال: ما هذا؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان، والناس يدعون معها. قال على: ادعوا معي على قتلة عثمان وأشياعهم والعنوهم. وضجّ جيش على بلعن قتل عثمان والدعاء عليهم(3)، وقال على: اللهم لعن قتلة عثمان في السهل والجبل(4). اشتدت الحرب واشتعلت وتشابك القوم وتشاجروا
__________
(1) مصنف عبد الرزاق (5/456)، بسند صحيح إلى الزهري.
(2) البداية والنهاية (7/253).
(3) البداية والنهاية (7/253).
(4) مصنف أبى شيبة (15/268) بسند صحيح، سنن سعيد بن منصور (2/236) بسند صحيح.(2/155)
بالرماح، وبعد تقصف الرماح، استلوا السيوف فتضاربوا بها حتى تقصفت(1)، ودنا الناس بعضهم من بعض(2)، ووجّه السبئيون جهودهم لعقر الجمل وقتل عائشة أم المؤمنين، فسارع جيش البصرة لحماية عائشة وجملها، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قُتل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة والعنف والسخونة، حتى أصبح الهودج كأنه قنفذ مما رمى فيه من النبل(3)، وقتل حول الجمل كثير من المسلمين من الأزد وبنى ضبة وأبناء وفتيان قريش بعد أن أظهروا شجاعة منقطعة النظير(4)، وقد أصيبت عائشة بحيرة شديدة وحرج فهي لا تريد القتال ولكنه وقع رغمًا عنها، وأصبحت في وسط المعمعة، وصارت تنادي بالكف، فلا مجيب، وكان كل من أخذ بخطام الجمل قتل، فجاء محمد بن طلحة (السجاد) وأخذ بخطامة وقال لأمه أم المؤمنين: يا أماه ما تأمرين؟ فقالت: كن كخيري ابني آدم – أي كف يدك – فأغمد سيفه بعد أن سلة فُقتل رحمه الله(5)، كما قتل عبد الرحمن ابن عتاب بن أسيد، الذي حاول أن يقتل الأشتر حتى لو قتل معه؛ وذلك أنه صارعه فسقطا على الأرض جميعًا، فقال ابن عتاب لمن حوله: اقتلوني(6) ومالكًا، لحنقه عليه لما كان له من دور بارز في تحريض الناس على عثمان، رضي الله عنه، ولكن الأشتر لم يكن معروفًا بمالك، ولم يك قد حان أجله ولو قال الأشتر لابتدرته سيوف كثيرة(7)، وأما عبد الله بن الزبير، فقد قاتل قتالاً منقطع النظير، ورمى بنفسه بين السيوف، فقد استخرج من بين القتلى وبه بضع وأربعون
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (15/258) رجاله رجال الصحيح.
(2) الطبقات (5/2) بسند صحيح.
(3) البداية والنهاية (7/253)، تاريخ خليفة: ص(190) بسند حسن.
(4) البداية والنهاية (7/254).
(5) نسب قريش: ص(281)، التاريخ الصغير للبخاري (1/110) بسند صحيح.
(6) مصنف ابن أبى شيبة (15/228)، مرويات أبى مخنف ص268إسناده صحيح.
(7) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(159).(2/156)
ضربة وطعنة، كان أشدها وآخرها ضربة الأشتر؛ إذ من حنقه على ابن الزبير لم يرض أن يضربه وهو جالس على فرسه بل وقف في الركابين فضربه على رأسه ظانًا أنه قتله(1)، واستحر القتل أيضًا في بنى عدى وبنى ضبة والأزد، وقد أبدى بنو ضبة حماسة وشجاعة وفداء لأم المؤمنين، وقد عبر أحد رؤسائهم وهو عمر بن يثربى الضبي برجزه.
نحن بنى ضبة أصحاب الجمل
> ... ننازل الموت إذا الموت نزل
الموت عندنا أحلى من العسل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأسل(2)
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (15/228) بسند صححه ابن حجر في الفتح (13/57، 58).
(2) تاريخ خليفة: ص(190) بسند حسن، خلافة على، عبد الحميد: ص(159).(2/157)
أدرك أمير المؤمنين على – رضي الله عنه – بما أوتى من حنكة وقوة ومهارة عسكرية فذة – أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ من السهام(1)، فأمر على نفرًا من جنده منهم محمد بن أبى بكر «أخو أم المؤمنين» وعبد الله بن بديل أن يعرقبا الجمل ويخرجا عائشة من هودجها إلى الساحة -، أي يضربا قوائم الجمل بالسيف – فعقروا الجمل(2)، واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام على، فأمر به على، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل(3)، وصدق حدس على – رضي الله عنه – العسكري، فما إن زال السبب أو الدافع الذي دفع البصريين إلى الإقبال على الموت بشغف، وأخرجت أم المؤمنين من الميدان، حتى ولوا الأدبار منهزمين. ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش على، وعندما بدأت الهزيمة نادى على أو مناديه في جيشه أن لا يتبعوا مدبرًا ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر من عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك من شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور، ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه من أهل البصرة: من وجد له شيئًا من متاع عند أحد من أصحابه، فله أن يسترده، فجاء رجل إلى جماعة من جيش على وهم يطبخون لحمًا في قدر له فأخذ منهم القدر وكفأ ما فيها حنقًا عليهم(4).
__________
(1) أنساب الأشراف للبلاذرى (2/43) بسند متصل.
(2) أعلام الحديث للخطابي (3/1611).
(3) مصنف ابن أبى شيبة (15/286، 287) بسند جيد، الفتح (13/57).
(4) مصنف ابن أبى شيبة (15/286، 287) بسند جيد، الفتح (13/57).(2/158)
4- عدد القتلى: أسفرت هذه الحرب الضروس عن عدد من القتلى اختلفت في تقديره الروايات، وذكر المسعودي أن هذا الاختلاف في تقدير عدد القتلى مرجعه إلى أهواء الرواة(1).
فيذكر قتادة أن قتلى يوم الجمل عشرون ألفًا(2)، ويظهر أن فيها مبالغة كبيرة، لأن عدد الجيشين حول هذا العدد أو أقل، أما أبو مخنف الرافضي الشيعي، فقد بالغ كثيرًا – بحكم ميوله – وقد أساء من حيث يظن أنه أحسن؛ إذ ذكر أن العشرين ألفًا هم من أهل البصرة(3)، وأما سيف فيذكر أنهم عشرة آلاف نصفهم من أصحاب على رضي الله عنه ونصفهم من أصحاب عائشة، رضي الله عنها، وفي رواية أخرى قال: وقيل خمسة عشر ألفًا، خمسة آلاف من أهل الكوفة، وعشرة آلاف من أهل البصرة، نصفهم قتل في المعركة الأولى ونصفهم في الجولة الثانية(4)، والروايتان ضعيفتان للانقطاع وغيره، وفيهما مبالغة أيضًا، ويذكر عمر بن شيبه بسنده أن القتلى يزيدون على ستة آلاف، إلا أن الرواية ضعيفة سندًا(5)، أما اليعقوبي، فقد جاوز هؤلاء جميعًا؛ إذ وضع عدد القتلى اثنين وثلاثين ألفًا(6)، وهذه الأرقام مبالغ فيها جدًا، وكان من أسباب المبالغة:
أ- رغبة أعداء الصحابة من السبئية وأتباعهم، في توسيع دائرة الخلاف بين أبناء الأمة التي يجمعها حب الصحاب والاقتداء بهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ب- إسهام بعض الشعراء والجهلة من أبناء القبائل، في تضخيم ما جرى وتكبيره، ليتناسب مع ما يصنعونه من أشعار ينسبونها إلى بعض زعمائهم وفرسانهم، فضلاً عن وجود قصاص السمر، ورواة الأخبار الذين يجلبون اهتمام الناس بهم، من خلال الأحداث المثيرة التي يتحدثون عنها.
__________
(1) ، (6) مروج الذهب (3/367).
(2) المصدر نفسه (2/367).
(3) تاريخ خليفة بن خياط (186) بسند مرسل.
(4) تاريخ الطبري (5/542- 555).
(5) تاريخ خليفة بن خياط (186) إسناده منقطع وهو حسن إلى قتادة.
(6) مصنف ابن أبى شيبة (7/546)، فتح الباري (13/62).(2/159)
جـ- إيجاد الثقة في نفوس أتباع الغوغاء والسبئية لإثبات نجاح خططهم وتدابيرهم(1) أما عن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل فقد كان ضئيلاً جدًا للأسباب التالية:
* قصر مدة القتال، حيث أخرج ابن أبى شيبه بإسناد صحيح(2)، أن القتال نشب بعد الظهر فما غربت الشمس وحول الجمل أحد ممن كان يذب عنه.
* الطبيعة الدفاعية للقتال حيث كان كل فريق يدافع عن نفسه ليس إلا.
* قياسًا بعدد شهداء المسلمين في معركة اليرموك «ثلاثة آلاف شهيد»، ومعركة القادسية «ثمانية آلاف وخمسمائة شهيد»، وهي التي استمرت عدة أيام، فإن العدد الحقيقي لقتلى معركة الجمل يعد ضئيلاً جدًا،هذا مع الأخذ بالاعتبار شراسة تلك المعارك وحدَّتها لكونها من المعارك الفاصلة في تاريخ الأمم.
* أورد خليفة بن خياط بيانًا بأسماء من حفظ من قتلى يوم الجمل فكانوا قريبًا من المائة(3)، فلو فرضنا أن عددهم كان مائتين وليس مائة، فإن هذا يعنى أن قتلى معركة الجمل لا يتجاوز المائتين. وهذا هو الرقم الذي ترجَّح لدى الدكتور خالد بن محمد الغيث في رسالته «استشهاد عثمان ووقعة الجمل في مرويات سيف بن عمر في تاريخ الطبري- دراسة نقدية»(4).
5- هل يصح قتل مروان بن الحكم لطلحة بن عبيد الله؟ أشار كثير من الروايات إلى أن قاتل طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، هو مروان بن الحكم(5)، ولكن بعد دراسة تلك الروايات أتضح براءة مروان بن الحكم من تلك التهمة وذلك للأسباب التالية:
أ- قال ابن كثير: ويقال إن الذي رماه بهذا السهم مروان بن الحكم، وقد قيل: إن الذي رماه بهذا السهم غيره، وهذا عندي أقرب وإن كان الأول مشهورًا، والله أعلم(6).
__________
(1) الإنصاف: ص(455).
(2) مصنف ابن أبى شيبة (7/546)، فتح الباري (13/62).
(3) تاريخ خليفة: ص(187، 190).
(4) استشهاد عثمان ووقعة الجمل: ص(215).
(5) الطبقات (3/223)، تاريخ المدينة (4/1170)، تاريخ خيفة: ص(185).
(6) البداية والنهاية (7/248).(2/160)
ب- قال ابن العربي: قالوا إن مروان قتل طلحة بن عبيد الله، ومن يعلم هذا إلا علام الغيوب، ولم ينقله ثبت(1).
جـ- قال محب الدين الخطيب: وهذا الخبر عن طلحة ومروان لقيط لا يُعرف أبوه ولا صاحبه(2).
د- بطلان السبب الذي قيل أن مروان قتل طلحة، رضي الله عنه، من أحله، وهو اتهام مروان لطلحة بأنه أعان على قتل عثمان، رضي الله عنه، وهذا السبب المزعوم غير صحيح حيث إنه لم يثبت من طريق صحيح أن أحدًا من الصحابة قد أعان على قتل عثمان رضي الله عنه.
هـ- كون مروان وطلحة، رضي الله عنهما، من صف واحد يوم الجمل وهو صف المنادين بالإصلاح بين الناس(3).
و- أن معاوية، رضي الله عنه، قد ولى مروان على المدينة ومكة، فلو صح ما بدر من مروان لما ولاه معاوية، رضي الله عنه، على رقاب المسلمين، وفي أقدس البقاع عند الله.
ز- وجود رواية لمروان بن الحكم في صحيح البخاري(4) – مع ما عرف عن البخاري رحمه الله من الدقة وشدة التحري في أمر من تقبل روايته – فلو صح قيام مروان بقتل طلحة، رضي الله عنه، لكان هذا سببًا كافيًا لرد روايته والقدح في عدالته(5).
__________
(1) العواصم من القواصم: ص(157- 160).
(2) العواصم من القواصم: ص(157- 160).
(3) استشهاد عثمان ووقعة الجمل: ص(202).
(4) فتح الباري (2/520)، استشهاد عثمان: ص(203).
(5) استشهاد عثمان ووقعة الجمل: ص(202).(2/161)
6- نداء أمير المؤمنين بعد الحرب: ما إن بدأت الحرب تضع أوزارها، حتى نادى منادي على: أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا مدبرًا، ولا يدخلوا دارًا، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، وليس لجيشه من غنيمة إلا ما حمل إلى ميدان المعركة من سلاح وكراع، وليس لهم ما وراء ذلك من شيء، ونادى منادي أمير المؤمنين فيمن حاربه من أهل البصرة من وجد شيئًا من متاعه عند أحد من جنده، فله أن يأخذه(1)، وقد ظن بعض الناس في جيش على أن عليًا سيقسم بينهم السبي، فتكلموا به ونشروه بين الناس، ولكن سرعان ما فاجأهم على رضي الله عنه، حين أعلن في ندائه: وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قُتل زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشرًا، فقالوا مستنكرين متأولين: يا أمير المؤمنين تحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا نساؤهم؟ فقال على: كذلك السيرة في أهل القبلة، ثم قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوها على عائشة فهي رأس الأمر وقائدهم، ففرقوا وقالوا: نستغفر الله، وتبين لهم أن قولهم وظنهم خطأ فاحش، ولكن ليرضيهم قسم عليهم رضي الله عنه من بيت المال خمسمائة خمسمائة(2).
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب: ص(168) عبد الحميد، مصنف ابن أبى شيبة (15/286) بسند صحيح.
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/286) بسند صححه ابن حجر (13/57).(2/162)
7- تفقده للقتلى وترحمه عليهم: بعد انتهاء المعركة خرج على يتفقد القتلى مع نفر من أصحابه، فأبصر محمد بن طلحة (السجاد) فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أما والله لقد كان شابًا صالحًا، ثم قعد كئيبًا حزينًا...ودعا للقتلى بالمغفرة، وترحم عليهم وأثنى على عدد منهم بالخير والصلاح(1)، وعاد إلى منزله فإذا امرأته وابنتاه يبكين على عثمان وقرابته والزبير وطلحة وغيرهم من أقاربهم القرشيين. فقال لهن: إني لأرجو أن نكون من الذين قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]. ثم قال: ومن هم إن لم نكن؟! ومن هم إن لم نكن؟! فما زال يردد ذلك حتى وددت أنه سكت(2).
__________
(1) مصنف ابن أبى شيبة (15/261)، المستدرك (3/103، 104، 375) والإسناد حسن لغيره، خلافة على بن أبى طالب، ص(169).
(2) مصنف ابن أبى شيبة (15/268 – 269) خلافة على ص:(169) عبد الحميد.(2/163)
8- مبايعة أهل البصرة: كان أمير المؤمنين على رضي الله عنه حريصًا على وحدة الصف، واحترام رعايا الدولة، ومعاملتهم المعاملة الكريمة، وكان لهذه المعاملة أثر بالغ في مبايعة أهل البصرة لأمير المؤمنين على، وكان أمير المؤمنين قد وضع الأسرى في مساء يوم الجمل في موضع خاص، فلما صلى الغداة طلب موسى بن طلحة بن عبيد الله، فقربه ورحب به وأجلسه بجواره وسأله عن أحواله وأحوال إخوته، ثم قال له: إنا لم نقبض أرضكم هذه ونحن نريد أن نأخذها، إنما أخذناها مخافة أن ينتهبها الناس، ودفع له غلتها وقال: يا ابن أخي وأتنا في الحاجة إذا كانت لك، وكذلك فعل مع أخيه عمران بن طلحة فبايعاه، فلما رأى الأسارى ذلك دخلوا على علىًّ رضي الله عنه يبايعونه، فبايعهم وبايع الآخرين على راياتهم قبيلة قبيلة(1)، كما سأل عن مروان بن الحكم وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش، وقد أرسل مروان إلى الحسن والحسين وابن عباس رضي الله عنهم ليكلموا عليًا فقال على: هو آمن فليتوجه حيث شاء، ولكن مروان إزاء هذا الكرم والنبل، لم تطاوعه نفسه أن يذهب حتى بايعه(2)، كما أن مروان – رضي الله عنه – أثنى على فعال أمير المؤمنين على فقال لابنه الحسن: ما رأيت أكرم غلبة من أبيك، ما كان إلا أن ولَّينا يوم الجمل حتى نادى مناديه: ألا لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح(3). وبذلك تمت بيعة أهل البصرة لأمير المؤمنين على، وولى عليهم ابن عمه عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، وولى على خراجها زياد بن أبيه، وأراد على رضي الله عنه أن يمكث فيها مدة أطول، لولا أن مالكًا (الأشتر) أعجلة من ذلك؛ وذلك أن الأشتر كان يطمع في أن يلي ولاية، فلما علم بأن ابن عباس ولى إمارة البصرة غضب وسار
__________
(1) الطبقات (3/224) بسند حسن، المستدرك (3/376، 377).
(2) سنن سعيد بن منصور (2/337) بسند حسن.
(3) كتاب أهل البغي من الحاوي الكبير للماوردي: ص(111)، فتح الباري (13/62).(2/164)
في قومه، فخشي على رضي الله عنه منه شرًا وفتنة، فاستعجل ببقية جيشه، وأدركه، وعاتبه على سيره وأظهر أنه لم يسمع عنه شيئًا(1).
9- حديث أبى بكرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»(2). قال القرطبى: قال علماؤنا: ليس هذا الحديث حديث أبى بكرة – في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، بدليل قوله تعالى: { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9، 10]. فأمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية، ولو أمسك المسلمون عن قتال أهل البغي لتعطلت فريضة من فرائض الله. وهذا يدل على أن قوله: «القاتل والمقتول في النار» ليس في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم إنما قاتلوا على التأويل. قال الطبري: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين من المسلمين الهرب منه ولزوم المنازل وكسر السيوف، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم بأن يقولوا: هذه فتنة قد نهينا عن القتال فيها، وأمرنا بكف الأيدي والهرب منها(3). وقال النووي: وأما كون القاتل والمقتول فمحمولة على من لا تأويل له ويكون قتالهما عصبية ونحوها، ثم كونه في النار معناه مستحق لها وقد يجازى بذلك، وقد يعفو الله تعالى عنه، هذا مذهب أهل الحق.. وعلى هذا
__________
(1) فتح الباري (13/57)، خلافة على، عبد الحميد: ص(174).
(2) مسلم. ك الفتن (4/233).
(3) التذكرة (2/232، 233).(2/165)
يتأول كل ما جاء من نظائره. واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة، رضي الله عنهم، ليست بداخلة في هذا الوعيد، ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، بل اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ، فوجب عليه قتاله ليرجع إلى أمر الله، وكان بعضهم مصيبًا وبعضهم مخطئًا معذورًا في الخطأ في الاجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه، وكان على رضي الله عنه هو المحق المصيب في تلك الحروب، هذا هو مذهب أهل السنة، وكانت القضايا مشتبهة حتى إن جماعة من الصحابة تحيروا فاعتزلوا الطائفتين ولم يقاتلوا ولم يتيقنوا الصواب ثم تأخروا عن مساعدتهم(1).
10- تاريخ معركة الجمل: اختلف المؤرخون في تاريخ وقعة الجمل إلى أقوال كثيرة منها:
أ- أخرج خليفة بن خياط من طريق قتادة أن الفريقين التقيا يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، وكانت الوقعة يوم الجمعة(2).
ب- أخرج عمر بن شبَّة أن الوقعة كانت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين(3).
جـ- أخرج الطبري من طريق الواقدى أن الواقعة كانت يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين(4).
د- ذكر المسعودي أن الوقعة كانت يوم الخميس في العاشر من جمادى الأولى(5)، غير أن أرجح الأقول هو ما أخرجه خليفة بن خياط من طريق قتادة حيث إن إسناد روايته يعد أصح ما في الباب.
__________
(1) شرح صحيح مسلم (8/227، 228).
(2) تاريخ خليفة بن خياط: ص(184، 185).
(3) فتح الباري (13/61).
(4) استشهاد عثمان: ص(206) نقلاً عن تاريخ الطبري.
(5) مروج الذهب (2/360).(2/166)
11- أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟: جاء أمير المؤمنين إلى الدار التي فيها أم المؤمنين عائشة، فاستأذن وسلم عليها ورحبت به، وإذا النساء في دار بنى خلف يبكين على من قُتل، منهم عبد الله وعثمان ابنا خلف، فعبد الله قتل مع عائشة، وعثمان قتل مع على، فلما دخل على قالت له صفية امرأة عبد الله، أم طلحة الطلحات: أيتم الله منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها على شيئًا، فلما خرج أعادت عليه المقالة أيضًا فسكت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فقال: ويحك إنا أمرنا أن نكف عن النساء وهن مشركات، أفلا نكف عنهن وهن مسلمات؟! (1).
12- اعتذار أبى بكرة الثقفي عن إمارة البصرة: جاء عبد الرحمن بن أبى بكرة الثقفي إلى أمير المؤمنين فبايعه فقال له على: أين المريض؟ - يعنى أباه – فقال: إنه والله مريض يا أمير المؤمنين، وإنه على مسرتك لحريص. فقال: امش أمامي، فمضى إليه فعاده، واعتذر إليه أبو بكرة فعذره، وعرض عليه البصرة فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس، وأشار عليه بابن عباس فولاه على البصرة، وجعل معه زياد بن أبيه على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع من زياد(2).
13- موقف أمير المؤمنين على ممن ينال من عائشة: قال رجل: يا أمير المؤمنين، إن على الباب رجلين ينالان من عائشة، فأمر علىٌّ القعقاع بن عمرو أن يجلد كل واحد منهما مائة، وأن يخرجهما من ثيابهما(3)، وقد قام القعقاع بذلك.
__________
(1) البداية والنهاية (7/357).
(2) البداية والنهاية (7/357).
(3) المصدر نفسه (7/258).(2/167)
14- دفاع عمار بن ياسر عن أم المؤمنين عائشة: عن محمد بن عريب قال: قام رجل فذكر عائشة عند على، فجاء عمار فقال: من هذا الذي يتناول زوجة نبينا؟ اسكت مقبوحًا منبوذًا مذمومًا مدحورًا(1).وجاء في رواية: اغرب مقبوحًا، أتؤذى حبيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!(2) وجاء في رواية: ذكرت عائشة عند على رضي الله عنهما فقال: حليلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(3).
سابعًا: بين عائشة أم المؤمنين وأمير المؤمنين على بن أبى طالب:
عائشة أم المؤمنين هي الصديقة بنت الصديق أبى بكر عبد الله بن عثمان، وأمها أم رومان بنت عويمر الكنانية، ولدت بعد المبعث بأربع سنوات أو خمس، تزوجها النبي- صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست ودخل بها وهي بنت تسع سنين، وكان دخوله بها في شوال في السنة الأولى، وقيل في السنة الثانية من الهجرة، وهي المبرأة من فوق سبع سماوات، وكانت أحب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، ولم يتزوج بكرًا غيرها، وكانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق، فكان الأكابر من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها، وقد توفى عنها النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وكانت وفاتها رضي الله عنها في سنة ثمان وخمسين ليلة السابع عشر من رمضان، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودفنت في البقيع رضي الله عنها وأرضاها(4)، ومناقبها، رضي الله عنها، كثيرة مشهورة فقد وردت أحاديث صحيحة بخصائص انفردت بها عن سواها من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن منها:
__________
(1) فضائل الصحابة (2/110) إسناده ضعيف، ضعيف سنن الترمذي رقم (815) للألباني.
(2) سير أعلام النبلاء (2/179) حديث حسن قاله الذهبي.
(3) المصدر نفسه (2/176) حديث حسن.
(4) سير أعلام النبلاء (2/135- 201) طبقات ابن سعد (8/58)، البداية والنهاية (8/95).(2/168)
1- مجيء الملك بصورتها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في سرقة(1) من حرير قبل زواجها به - صلى الله عليه وسلم -: فقد روى الشيخان من حديث عائشة، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أريتك في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير فيقول: هذه امرأتك فاكشف عن وجهك، فإذا أنت هي فأقول: إن يك هذا من الله يمضه(2).
2- أحب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقد صرح بمحبتها لما سئل - صلى الله عليه وسلم - عن أحب الناس إليه، فقد روى البخاري بإسناده إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل(3)، قال: فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها(4). قال الحافظ الذهبي: وهذا خبر ثابت على رغم أنوف الروافض، وما كان عليه الصلاة والسلام ليحب إلا طيبًا، وقد قال: «لو كنت متخذًا خليلاً من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام أفضل»، فأحب أفضل رجل في أمته، وأفضل امرأة في أمته، فمن أبغض حبيبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو حرى أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله، وحبه عليه الصلاة والسلام لعائشة كان أمرًا مستفيضًا(5).
__________
(1) أي في قطعة من جيد الحرير، انظر: النهاية لابن الأثير (2/362).
(2) مسلم رقم (2438).
(3) مأخوذ من السلسل وهو العذب الصافي من الماء، والنهاية لابن الأثير (2/389).
(4) البخاري رقم (4358).
(5) سير أعلام النبلاء (2/143).(2/169)
3- نزول الوحي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في لحافها دون غيرها من نسائه عليه الصلاة والسلام: فقد روى البخاري بإسناده إلى هشام بن عروة عن أبيه قال: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمه فقلن: يا أم سلمه والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمه للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: فأعرض عنى، فلما عاد إلىَّ ذكرت له ذلك فأعرض عنى، فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: «يا أم سلمه لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علىَّ الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها»(1). وقال الذهبي: وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها(2).
4- أن جبريل عليه السلام أرسل إليها سلامه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا: «يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام»، فقالت: وعليه السلام ورحمه الله وبركاته، ترى ما لا أرى – تريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم --(3).
__________
(1) البخاري رقم 3775، ك فضائل الصحابة.
(2) سير أعلام النبلاء (2/143).
(3) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم 3768.(2/170)
5- بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتخييرها عند نزول آية التخيير، وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة؛ فاستن بها بقية أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى الشيخان بإسنادهما إلى عائشة، رضي الله عنها، قالت: لما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمرى أبويك. قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله – جل ثناؤه- قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً - وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:28، 29] قالت: فقلت: ففي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعلت(1).
__________
(1) البخاري، ك التفسير رقم (4789).(2/171)
6- نزول آيات من كتاب الله بسببها، فمنها ما هو في شأنها خاصة ومنها ما هو للأمة عامة: فأما الآيات الخاصة بها والتي تدل على عظم شأنها ورفعة مكانتها شهادة الباري جل وعلا لها بالبراءة مما رميت به من الإفك والبهتان، وهو قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] إلى قوله تعالى:{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّؤونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور:26]. قال ابن القيم: ومن خصائصها أن الله سبحانه وتعالى برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحيًا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات، ووعدها المغفرة والرزق الكريم. وأخبر سبحانه وتعالى أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شرًا لها ولا خافضًا من شأنها، بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها، وصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيا لها من منقبة ما أجلها! وتأمل هذا التشريف والإكرام الناشئ عن فرط تواضعها واستصغارها لنفسها حيث قالت: لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بوحي يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رؤيا يبرئني الله بها(1). فهذه صديقة الأمة وأم المؤمنين وحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي تعلم أنها بريئة منه مظلومة، وأن قاذفيها ظالمون مفترون عليها، وقد بلغ أذاهم إلى أبويها وإلى رسول اله - صلى الله عليه وسلم -(2). قال ابن كثير: ولما تكلم فيها أهل الإفك بالزور
__________
(1) البخاري رقم (4141).
(2) جلاء الإفهام: ص(124، 125).(2/172)
والبهتان غار الله فأنزل براءتها في عشر آيات من القرآن تُتلى على الزمان.. وقد أجمع العلماء على تكفير من قذفها بعد براءتها(1).وأما ما نزل بسببها من الآيات وهي للأمة عامة فآية التيمم وكانت رحمة وتسهيلاً لسائر الأمة، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة، رضي الله عنها، أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناسًا من أصحابه في طلبها فأدركتهم الصلاة فصلوا بغير وضوء، فلما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - شكوا ذلك إليه، فنزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرًا(2).
__________
(1) البداية والنهاية (8/95)، تفسير القرآن العظيم (3/268).
(2) البخاري، رقم (336).(2/173)
7- كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحرص على أن يمرض في بيتها: فقد كانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - بين سحرها ونحرها وفي يومها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا، وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها(1)، فقد روى البخاري بإسناده إلى عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غدًا؟ حرصًا على بيت عائشة، قالت: فلما كان يومي سكن(2)، وعند مسلم عنها أيضًا قالت: إن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليتفقد يقول: «أين أنا اليوم، أين أنا غدًا؟» استبطاء ليوم عائشة، قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري(3)، وروى البخاري أيضًا بإسناده عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول: «أين أنا غدًا، أين أنا غدًا؟» يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه بأن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها. قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور علىَّ فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبى بكر ومعه مسواك يستن به، فنظر إليه رسول الله، فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه فقصمته، ثم مضغته، فأعطيته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستن به، وهو مستند إلى صدري. وفي رواية أخرى بزيادة: فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (2/189)، البداية والنهاية (8/95).
(2) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم (3774).
(3) مسلم، ك الصحابة رقم (2443).
(4) البخاري، رقم (4450، 4451).(2/174)
8- إخباره - صلى الله عليه وسلم - بأنها من أصحاب الجنة: فقد روى الحاكم بإسناده إلى عائشة، رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله، من أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن؟ قالت: فخيل إلىّ أن ذاك أنه لم يتزوج بكرًا غيري(1). وروى البخاري بإسناده إلى القاسم بن محمد أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعلى أبى بكر(2). وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة، رضي الله عنها، حيث قطع لها بدخول الجنة إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف(3).
9- فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام: ما رواه الشيخان بإسنادهما إلى عبد الله بن عبد الرحمن أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(4).قال النووي: قال العلماء: معناه: أن الثريد من كل طعام أفضل من المرق، فثريد اللحم أفضل من مرقه بلا ثريد، وثريد ما لا لحم فيه أفضل من مرقه، والمراد بالفضيلة نفعه والتشبع منه وسهولة مساغه، والالتذاذ به وتيسر تناوله، وتمكن الإنسان من أخذ كفايته منه بسرعة وغير ذلك، فهو أفضل من المرق كله ومن سائر الأطعمة، وفضل عائشة على النساء زائد كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة. وليس في هذا تصريح بتفضيلها على مريم وآسية لاحتمال أن المراد تفضيلها على نساء هذه الأمة(5).
__________
(1) المستدرك (4/13) صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(2) البخاري، رقم (3771).
(3) فتح الباري، (7/108)، العقيدة في أهل البيت: ص(95).
(4) البخاري، رقم 3770.
(5) شرح صحيح مسلم (15/208، 209).(2/175)
هذه بعض الأحاديث التي أشارت إلى فضل السيدة عائشة ومكانتها وسبقها؛ وعلو شأنها في الدين، وعظيم مكانتها، ومع هذا فقد تعرضت السيدة عائشة أم المؤمنين للطعن والتجريح والكذب والافتراء من قبل الشيعة الرافضة ومن تأثر برواياتهم المختلفة، وآثارهم الموضوعة، وجاءوا لآثار صحاح، وأحاديث مسندة صحيحة وأوّلوها على غير حقيقتها ومرادها، كما فعل ذلك صاحب كتاب «ثم اهتديت» وهو لم يأت بجديد وإنما سار على منهج أسلافه ممن سبقوه من الشيعة الروافض، وطعن في أم المؤمنين عائشة بقول عمار: والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله تبارك وتعالى ابتلاكم بها ليعلم إياه تطيعون أم هي(1). وليس في قول عمار هذا ما يطعن به على عائشة – رضي الله عنها – بل فيه أعظم فضيلة لها، وهي أنها زوجة نبينا - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة، فأي فضل أعظم من هذا؟! فإن غاية كل مؤمن رضا الله والجنة، وعائشة – رضي الله عنها – قد تحقق لها ذلك بشهادة عمار – رضي الله عنه – الذي كان مُخالفًا لها في الرأي في تلك الفتنة، وأنها ستكون في أعلى الدرجات في الجنة بصحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(2)، وبهذا قد جاء الحديث الصحيح المرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم -، على ما روى الحاكم في المستدرك من حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال لها: أما ترضين أن تكوني زوجتي في الدنيا والآخرة؟ قالت: بلى والله، قال: فأنت زوجتي في الدنيا والآخرة(3). فيكون هذا الحديث من أعظم فضائل عائشة – رضي الله عنها – ولذا أورد البخاري الأثر السابق عن عمار في مناقب عائشة رضي الله عنها(4)، وأما قوله في الجزء الأخير من الأثر: ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو إياها(5). فليس بمطعن على أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وبيان
__________
(1) البخاري، ك فضائل الصحابة رقم (3772).
(2) الانتصار للصحب والآل ص: (448).
(3) المستدرك (4/10)، الصحيح المسند لمصطفى العدوى: ص(356).
(4) البخاري رقم (3772).
(5) البخاري رقم (3772).(2/176)
ذلك من وجوه:
أ- أن قول عمار هذا يمثل رأيه، وعائشة – رضي الله عنها – ترى خلاف ذلك، وأن ما هي عليه هو الحق، وكل منهما صحابي جليل، عظيم القدر في الدين والعلم، فليس قول أحدهما حجة على الأخر(1).
ب- أن غاية ما في قول عمار هو مخالفتها أمر الله في تلك الحالة الخاصة، وليس كل مخالف مذمومًا حتى تقوم عليه الحجة بالمخالفة ويعلم أنه مخالف، وإلا فهو معذور إن لم يتعمد المخالفة، فقد يكون ناسيًا أو متأولاً فلا يؤخذ بذلك.
__________
(1) الانتصار للصحب والآل: ص(448).(2/177)
جـ- أن عمارًا – رضي الله عنه – ما قصد بذلك ذم عائشة ولا انتقاصها، وإنما أراد أن يبين خطأها في الاجتهاد نصحًا للأمة، وهو مع هذا يعرف لأم المؤمنين قدرها وفضلها(1)، وقد جاء في بعض روايات هذا الأثر عن عمار أن عمارًا سمع رجلاً يسب عائشة، فقال: اسكت مقبوحًا منبوذًا، والله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها ليعلم أتطيعوه أو إياها(2). وأما قول الشيعة الروافض؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام خطيبًا، فأشار نحو مسكن عائشة فقال: ههنا الفتنة من حيث يطلع قرن الشيطان، وطعنهم على عائشة – رضي الله عنها- بذلك وزعمهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أراد أن الفتنة تخرج من بيتها. فهذا الكلام فيه تضليل وقلب للحقائق، وتدليس على من لا علم عنده من العامة، وذلك بتفسيره قول الراوي: فأشار (نحون مسكن عائشة) على أن الإشارة كانت لبيت عائشة وأنها سبب الفتنة، والحديث لا يدل على هذا بأي وجه من الوجوه، وهذه العبارة لا تحتمل هذا الفهم عند من له أدنى معرفة بمقاصد الكلام، فإن الراوي قال: أشار نحو مسكن عائشة، ولم يقل: إلى جهة مساكن عائشة، والفرق بين التعبيرين واضح وجلي، وهذه الرواية التي ذكرها أخرجها البخاري في كتاب فرض الخمس(3)، وهذا الحديث قد جاء مخرجًا في كتب السنة من الصحيحين وغيرهما من عدة طرق وبأكثر من لفظ، وجاء النص فيها على البلاد المشار إليها بما يدحض دعوى الشيعة الروافض، ويغنى عن التكلف في الرد عليهم بأي شيء آخر، وها هي ذي بعض روايات الحديث من عدة طرق عن ابن عمر – رضي الله عنهما -، فعن ليث عن نافع عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مستقبل المشرق يقول: «ألا إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(4)، وعن عبيد بن عمر قال: حدثني نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) الانتصار للصحب والآل: ص(450، 451).
(2) البداية والنهاية (7/248).
(3) البخاري رقم (3104).
(4) البخاري رقم (7093)، مسلم رقم (2905).(2/178)
قام عند باب حفصة فقال بيده نحو المشرق: «الفتنة من حيث يطلع قرن(1) الشيطان» قالها مرتين أو ثلاثًا، وعن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو مستقبل المشرق: «ها إن الفتنة ههنا، ها إن الفتنة ههنا، ها إن الفتنة ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(2). وفي هذا الروايات تحديد صريح للجهة المشار إليها وهي جهة المشرق، وفيها تفسير للمقصود بالإشارة في الرواية التي ذكرها الشيعة الروافض(3)، كما جاء في بعض الروايات الأخرى للحديث تحديد البلاد المشار إليها، فعن نافع عن ابن عمر قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله وفي نجدنا(4)، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان(5).
__________
(1) مسلم، ك الفتن (4/2229).
(2) مسلم، ك الفتن (4/2229).
(3) الانتصار للصحب والآل: ص(453).
(4) نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق.
(5) البخاري رقم (7095).(2/179)
وعن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال: يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأَرْكَبكم للكبيرة، سمعت أبى عبد الله بن عمر يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الفتنة تجيء من ههنا وأوْمَأ بيده نحو المشرق، من حيث يطلع قرنا الشيطان(1).وفي بعض الروايات جاء ذكر بعض من يقطن تلك البلاد من القبائل ووصف حال أهلها، فعن أبى مسعود قال: أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده نحو اليمن فقال: «ألا إن الإيمان ههنا، وإن القسوة وغلظ القلب في الفدادين(2)، وعند أصول أذناب الإبل، حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر»(3).فدلت هذه الروايات دلالة قطعية على بيان مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: الفتنة (ههنا) وأن المقصود بذلك بلاد المشرق، حيث جاءت الروايات مصرحة بهذا، كما جاء في بعضها وصف أهل تلك البلاد وتعيين بعض قبائلها، مما يظهر به بطلان ما ادعى الشيعة الروافض من أن الإشارة كانت إلى بيت عائشة، فإن هذا قول باطل، ورأى ساقط، لم يفهمه أحد وما قال به سوى الشيعة الروافض(4).
__________
(1) مسلم، ك الفتنة من المشرق (4/2229).
(2) الفدادون: الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم.
(3) البخاري رقم (3302)، الانتصار للصحب والآل ص(455).
(4) الانتصار للصحب والآل: ص(455).(2/180)
10- المفاضلة بين عائشة وخديجة وفاطمة رضي الله عنهن: قال ابن تيمية: وأفضل نساء هذه الأمة خديجة وعائشة وفاطمة، وفي تفضيل بعضهن على بعض نزاع(1)..وسئل ابن تيمية عن خديجة وعائشة أمي المؤمنين أيهما أفضل؟ فأجاب: بأن سبق خديجة وتأثيرها في أول الإسلام ونصرها وقيامها في الدين لم تشاركها فيه عائشة ولا غيرها من أمهات المؤمنين، وتأثير عائشة في آخر الإسلام وحمل الدين وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشاركها فيه خديجة ولا غيرها مما تميزت به عن غيرها(2)، وقال ابن حجر: وقيل انعقد الإجماع على أفضلية فاطمة وبقى الخلاف بين عائشة وخديجة(3)، وقال في شرح حديث أبى هريرة أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمره أن يقرئ خديجة السلام من ربها وفيه قال السهيلى: استدل بهذه القصة أبو بكر بن داود على أن خديجة أفضل من عائشة لأن عائشة سلم عليها جبريل من قبل نفسه، وخديجة أبلغها السلام من ربها، وزعم ابن العربي أنه لا خلاف في أن خديجة أفضل من عائشة، ورد بأن الخلاف ثابت قديمًا، وإن كان الراجح أفضلية خديجة بهذا وبما تقدم(4). عند التحقيق والنظر في النصوص الواردة في تفضيل كل واحدة منهن – رضي الله عنهن- نجد أنها تدل على أفضلية خديجة وفاطمة ثم عائشة رضي الله عنهن، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لقد فضلت خديجة على نساء أمتي»(5)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية»(6)، قال ابن حجر: وهذا نص صريح لا يحتمل التأويل(7)، وقال- صلى الله عليه وسلم -: «حسبك من نساء العالمين: مريم ابنة عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون»(8)
__________
(1) مجموع الفتاوى (4/394).
(2) المصدر نفسه (4/393).
(3) فتح الباري (7/109).
(4) فتح الباري (7/139).
(5) فتح الباري (7/135)، مجمع الزوائد (9/223).
(6) الإحسان لابن حبان (9/73)، صحيح الجامع للألباني (1/371).
(7) فتح الباري (7/135).
(8) فضائل الصحابة (2/755) رقم (1325) وصححه الألباني في تخريج المشكاة (3/1745).(2/181)
.وهذا نص في أن خديجة رضي الله عنها أفضل نساء الأمة، ثم إن اللفظ الوارد في تفضيل فاطمة رضي الله عنها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟» (1). وفي لفظ:« سيدة نساء أهل الجنة»(2)، فهو صريح لا لبس فيه ولا يحتمل التأويل، وهو نص في أنها أفضل نساء الأمة وسيدة نساء أهل الجنة، وقد شاركت أمها في هذا التفضيل فهي وأمها أفضل نساء أهل الجنة، وهي وأمها أفضل نساء الأمة، بهذا وردت النصوص(3)، وأما ما ورد في تفضيل عائشة، رضي الله عنها، في قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» فهو لفظ لا يستلزم الأفضلية المطلقة كما قال ابن حجر(4):وليس فيه تصريح بأفضلية عائشة، رضي الله عنها، على غيرها، لأن فضل الثريد على غيره من الطعام إنما هو لما فيه من تيسير المئونة وسهولة الإساغة، وكان أجلَّ طعمتهم يومئذ، وكل هذه الخصال لا تستلزم ثبوت الأفضلية له من كل وجهة، فقد يكون مفضولاً بالنسبة لغيره من جهات أخرى(5). فالحديث إذًا دال على أفضلية عائشة، رضي الله عنها، على سائر نساء هذه الأمة ماعدا خديجة وفاطمة، رضي الله عنهما، لورود الدليل على ذلك مما قيد تلك الأفضلية لعائشة، رضي الله عنها(6)، وأما ما ورد من حديث عمرو بن العاص لما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أي النساء أحب إليك؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: عائشة(7). فقد أشار ابن حبان إلى أنه مقيد في نسائه - صلى الله عليه وسلم - إذ عقد عنوانًا في صحيحة فقال: ذكر خبر وهم في تأويله من لم يحكم صناعة الحديث، وساق تحته حديث عمرو بلفظ: قلت: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، فقلت: إني لست أعنى النساء وإنما أعنى الرجال، فقال: أبو بكر أو قال: أبوها. ثم قال ابن
__________
(1) البخاري رقم (6285).
(2) فتح الباري (7/105).
(3) العقيدة في أهل البيت: ص(97).
(4) فتح الباري (7/107).
(5) المصدر نفسه (6/447).
(6) العقيدة في أهل البيت: ص(97).
(7) البخاري رقم (4358).(2/182)
حبان: أذكر الخبر الدال على أن مخرج السؤال كان عن أهله دون سائر النساء من فاطمة وغيرها، وأخرج بسنده عن أنس قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة قيل له: ليس عن أهلك نسألك، قال: فأبوها(1). وبهذا يتبين أن عائشة، تلي خديجة وفاطمة في الفضل، رضي الله عنها. إذًا فكل ما ورد من دليل على عموم تفضيلها رضي الله عنها مقيد بالنص الوارد في خديجة وفاطمة، رضي الله عنهما، ولا ينكر أن لعائشة، رضي الله عنها، من الفضائل كالعلم مثلاً ما تختص به عن خديجة وفاطمة رضي الله عنهن، إلا أنه لا يلزم من ثبوت خصوصية شيء من الفضائل ثبوت الفضل المطلق(2)، وعلى كل حال فليس فضل إحداهن على الأخرى بمطعن على المفضولة، بل في هذا أكبر دليل على علو مكانة هؤلاء النساء الثلاث فاطمة وخديجة وعائشة رضي الله عنهن؛ حيث إن الخلاف لم يخرج عنهن في أنهن أفضل نساء الأمة، فما الذي يضر أم المؤمنين عائشة لو كانت ثالثة نساء الأمة في الفضل؟! وهل هذا مدعاة لاحترامها وتقديرها أم للنيل منها والطعن فيها، كما يفعل الشيعة الروافض؟! (3).
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان (9/11).
(2) فتح الباري (7/108)، العقيدة في أهل البيت: ص(98).
(3) الانتصار للصحب والآل: ص(461).(2/183)
* هل استباحت السيدة عائشة أم المؤمنين قتال المسلمين في معركة الجمل؟: قد تقدم أنها ما خرجت لذلك وما أرادت القتال، وقد نقل الزهري عنها أنها قالت بعد موقعة الجمل: إنما أريد أن يحجز بين الناس مكاني، ولم أحسب أن يكون بين الناس قتال، ولو علمت ذلك لم أقف ذلك الموقف أبدًا(1). وهذا القول بأن السيدة عائشة استباحت قتال المسلمين باطل لا يثبت أمام الروايات الصحيحة التي بينت أن عائشة ما خرجت إلا للإصلاح كما مر معنا، وإنما هذه الأقوال من الروايات التي وضعتها الشيعة الروافض، والتي شوهت تاريخ صدر الإسلام، وجعلت مما حدث بين على وطلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم حربًا أهلية، وتأثر بعض الباحثين بتلك الروايات حتى قال بعضهم: وأسرت عائشة، ويصورون المسألة كحرب أهلية مخطط لها، وهو قول طبيعي من باحثين لا يستقون معلوماتهم في هذا الشأن إلا من الروايات المقدوحة، ومن المصادر غير الموثوق بها مثل الإمامة والسياسة، والأغاني، ومروج الذهب، وتاريخ اليعقوبي، بل وتاريخ التمدن الإسلامي لجورجى زيدان(2).
* هل يصح هذا الحديث: تقاتلين عليًا وأنت له ظالمة؟ إنه لا يعرف في شيء من كتب العلم المعتمدة، ولا له إسناد معروف، وهو بالموضوعات المكذوبة أشبه منه بالأحاديث الصحيحة، بل هو كذب قطعًا، فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين الناس.. لا قاتلت ولا أمرت بقتال، هكذا ذكر غير واحد من أهل المعرفة بالأخبار(3).
__________
(1) المغازى للزهري: ص(154).
(2) انظر: دراسة وتحليل للعهد النبوي الأصيل، محمد جميل، الحزبية السياسية، رياض عيسى، الحريم السياسي، النبي والنساء، الدولة العربية فلهاوزن، نقلا عن دور المرآة السياسي، ص(442).
(3) منهاج السنة (2/185).(2/184)
* أمير المؤمنين على رضي الله عنه يرد عائشة إلى مأمنها معززة مكرمة: جهز أمير المؤمنين على عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع، وأخرج معها من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد «ابن الحنفية»، فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس، فخرجت على الناس، وودعوها وودعتهم وقالت: يا بنى، تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة، فلا يعتدين أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين على في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنا عندي على معتبتى من الأخيار..وقال على: يا أيها الناس، صدقت والله برت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيك - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا والآخرة. وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة ست وثلاثين، وشيعها علىٌّ أميالاً وسرح بنيه معها(1) يومًا. وبتلك المعاملة الكريمة من أمير المؤمنين على رضي الله عنه نراه قد اتبع ما أوصاه به نبي الأمة - صلى الله عليه وسلم - عندما قال له: «إنه سيكون بينك وبين عائشة أمر. قال: أنا يا رسول الله؟ قال: نعم.قال: أنا؟ قال: نعم. قلت: فأنا أشقاهم يا رسول الله. قال: لا، ولكن إذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها»(2). وقد خالف الصواب من ظن أن خروج أم المؤمنين إلى البصرة كان لشيء في نفسها من على رضي الله عنه لموقفه منها في حديث الإفك حين رماها المنافقون بالفاحشة فاستشاره النبي - صلى الله عليه وسلم - في فراقها. فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك(3). وهذا الكلام الذي قاله على إنما حمله عليه ترجيح جانب النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما رأي عنده من القلق والغم بسبب القول الذي قيل، وكان شديد الغيرة، فرأى على أنه إذا فارقها سكن ما عنده من القلق بسببها إلى أن يتحقق براءتها،
__________
(1) تاريخ الطبري (5/581).
(2) مسند أحمد (6/393) إسناده حسن.
(3) البخاري رقم (4786).(2/185)
فيمكن رجعتها، ويستفاد منه ارتكاب أخف الضررين لذهاب أشدها(1). قال النووي: رأى على أن ذلك هو المصلحة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم -، واعتقد ذلك لما رأى من انزعاجه، فبذل جهده في النصيحة، لإرادة راحة خاطره - صلى الله عليه وسلم -(2). وعلي رضي الله عنه لم ينل عائشة رضي الله عنها بأدنى كلمة يفهم منها أنه قد عرض بأخلاقها أو تناولها بسوء، فإنه على الرغم من قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم -: لم يضيق الله عليك(3)، إلا أنه عاد فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناصحًا: وسل الجارية تصدقك(4). فهو قد دعاه إلى التحري أولاً قبل أن يفارقها، أي أنه قد رجع عن نصيحته الأولى بالمفارقة إلى نصيحة أخرى بسؤال الجارية، وتحري الحقيقة(5)، وقد سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجارية التي كانت أكثر التصاقًا بعائشة، فأكدت أنها ما علمت من أمر عائشة إلا خيرًا، وقد خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يومه الذي سأل فيه الجارية، واستعذر من عبد الله بن أبىًّ قائلاً: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا(6). لقد كانت نصيحة على في صالح عائشة، فقد ازداد - صلى الله عليه وسلم - قناعة بما علم من خير في أهله(7). ولم يكن موقف على في حادثة الإفك هو الذي جعل عائشة تغضب منه رضي الله عنه لأجله، أو تحقد الحقد الذي يجعلها تتهمه زورًا بقتل عثمان، وتخرج عليه مؤلبة الأعداد الهائلة من المسلمين، كما زعم كثير من الباحثين ممن تورط في روايات الشيعة الرافضة التي لفقوها ووضعوها.
__________
(1) دور المرأة السياسي: ص(462).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (5/634).
(3) البخاري رقم (4786).
(4) البخاري رقم (4786).
(5) دور المرأة السياسي: ص(462).
(6) البخاري رقم (4786).
(7) دور المرأة السياسي: ص(462).(2/186)
* ندمهم على ما حصل منهم: قال ابن تيمية:..وهكذا عامة السابقين، ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزّبير وعلىٌّ وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم(1).
أ- فأمير المؤمنين على ورد عنه عندما نظر وقد أخذت السيوف مأخذها من الرجال، أنه قال: لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة(2).
ب- وروى نعيم بن حماد، بسنده إلى الحسن بن على، أنه قال لسليمان بن صرد: لقد رأيت عليًا حين اشتد القتال وهو يلوذ بي، ويقول: يا حسن، لوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة(3).
جـ- وعن الحسن بن على قال: أراد أمير المؤمنين على أمرًا، فتتابعت الأمور، فلم يجد منزعًا(4).
د- وعن سليمان بن صرد، عن الحسن بن على أنه سمع عليًا يقول – حين نظر إلى السيوف قد أخذت القوم-: يا حسن أكل هذا فينا؟ ليتني مت قبل هذا بعشرين أو أربعين سنة(5).
هـ- وأما عائشة: فقد ورد عنها أنها كانت تقول حين تذكر وقعة الجمل: وددت أني كنت جلست كما جلس أصحابي، وكان أحب إلىّ أن أكون ولدت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعة عشر، كلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، ومثل عبد الله بن الزبير(6).
و- وكانت إذا قرأت قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] تبكي حتى تبل خمارها(7).
__________
(1) المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض والاعتزال، ص(222).
(2) الفتن لنعيم بن حماد (1/80).
(3) الفتن لنعيم بن حماد (1/80).
(4) المصدر نفسه (1/81).
(5) أحداث وأحاديث فتنة الهرج. ص(217).
(6) الفتن، نعيم بن حمّاد (1/81).
(7) سير أعلام النبلاء (2/177)، الطبقات (8/81).(2/187)
ز- قالت عائشة: وددت أن لو كان لي عشرون ولدًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكلهم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأنى ثكلتهم، ولم يكن ما كان منى يوم الجمل(1).
حـ- قال ابن تيمية: فإن عائشة لم تقاتل، ولم تخرج لقتال، وإنما خرجت بقصد الإصلاح بين المسلمين، وظّنت أنّ خروجها مصلحة للمسلمين، ثم تبين لها فيما بعد أنّ ترك الخروج كان أولى، فكانت إذا ذكرت خروجها تبكي حتى تبلّ خمارها، وهكذا عامّة السابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال، فندم طلحة والزبير وعلىّ وغيرهم، ولم يكن يوم الجمل لهؤلاء قصد في القتال، ولكن وقع الاقتتال بغير اختيارهم(2).
ط- قال الذهبي: ولا ريب أن عائشة ندمت ندمة كلية على مسيرها إلى البصرة، وحضورها يوم الجمل، وما ظّنت أن الأمر يبلغ ما بلغ(3).
ثامنًا: سيرة الزبير بن العوام واستشهاده:
هو أبو عبد الله الزبير بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدى(4)، ويجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصي، وهو حواريّ رسول الله وابن عمته، أمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى(5)، أسلم وهو حدث وله ست عشرة سنة(6)، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله(7)، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روى أن عم الزبير كان يعلقه في حصير ويدخن عليه النار وهو يقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدًا(8).
__________
(1) التمهيد للباقلاني: ص(232)، عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي كان من نبلاء الرجال وهو من أشرف بنى مخزوم، توفى قبل معاوية.
(2) المنتقى من منهاج الاعتدال في نقض كلام أهل الرفض: ص(222، 223).
(3) سير أعلام النبلاء (2/177).
(4) الإصابة (1/526- 528).
(5) الطبقات الكبرى (3/100)، الإصابة (1/526- 528).
(6) سير أعلام النبلاء (1/41).
(7) سير السلف (1/226) الرواية مرسلة.
(8) الطبراني في الكبير (1/122).(2/188)
1- أول من سلَّ سيفه في سبيل الله: عن سعيد بن المسيب، قال: أول من سلّ سيفه في ذات الله الزبير بن العوام، وبينما الزبير بن العوام قائل إذ سمع نغمة: أن رسول الله قُتِل، فخرج من البيت متجردًا السيف صَلْتا، فلقيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَفَّةَ كَفَّةَ(1)، فقال: «ما شأنك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قُتِلْت، قال: «فما كنت صانعًا؟» قال: أردت والله أن أستعرض أهل مكة، قال: فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بخير». قال سعيد: أرجو أن لا تضيع له عند الله عز وجل دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -(2).
__________
(1) كفة كفة: أي مواجهة كأن كل واحد منهما قد كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره.
(2) فضائل الصحابة (2/914) رقم 1260إسناده ضعيف حسن لغيره.(2/189)
2- هجرته للحبشة: ولما اشتد إيذاء قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه وأشار عليهم بالهجرة إلى الحبشة ليكونوا في جوار «النجاشي» ذلك الملك العادل، فكانوا عنده بخير دار مع خير جار، وظلوا على تلك الحال من الأمن والاستقرار إلى أن نزل رجل من الحبشة لينازع النجاشي في الملك، فحزن المسلمون لذلك حزنًا شديدًا وخافوا أن يظهر ذلك الرجل، وهو لا يعرف حق الصحابة الأطهار ولا يعرف قدرهم، وهنا أراد الصحابة – رضي الله عنهم – أن يعرفوا أخبار الصراع الدائر بين النجاشي وبين هذا الرجل على الجانب الآخر من النيل(1)، قالت أم سلمه – رضي الله عنها-: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وسلم: من رجل يخرج حتى يحضر وقيعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت؟ وكان من أحدث القوم سنًا. قالت: فنفخوا له قربة فجعلها في صدره، ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها مُلتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: فَدَعَوْنَا الله تعالى للنجاشي بالظهور على عدوه، والتمكين له في بلاده، قالت: فوالله إنا لَعلى ذلك متوقعون لما هو كائن، إذ طلع الزبير وهو يسعى، فلمع ثوبه وهو يقول: ألا أبِشُروا، فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه ومكن له في بلاده. (2) وبعد رجوع الزبير من الحبشة إلى مكة قام في كنف الحبيب المصطفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يتلقى منه مبادئ الإسلام وأوامره ونواهيه، وعندما هاجر رسول الله للمدينة كان الزبير ضمن المهاجرين إليها.
__________
(1) السيرة لابن هشام (1/279)، أصحاب الرسول (1/274).
(2) السيرة النبوية لابن هشام (1/279).(2/190)
3- في غزوة بدر: كان الزبير رضي الله عنه فارسًا مقدامًا، وبطلاً مغوارًا، لم يتخلف عن مشهد واحد من المشاهد، تراه في كل غزوة وفي كل معركة، فقد اتصف بالشجاعة الخارقة، والبطولة النادرة، والإخلاص الكامل، والتفاني لإعلاء كلمة الحق(1)، ولقد بذل الزبير، رضي الله عنه، الكثير في سبيل الله، وجعل نفسه وماله وقفًا لله – عز وجل – فأكرمه الله ورفعه في الدنيا والآخرة، فقد كانت عليه عمامة صفراء معتجرًا بها يوم بدر، فعن عروة أنه قال: كانت على الزبير يوم بدر عمامة صفراء فنزل جبريل على سيماء الزبير(2). فيالها من منقبة لا توازيها الدنيا بما فيها، وفيه يقول عامر بن صالح بن عبد الله بن الزبير:
جدّي ابن عمَّةِ أحمد ووزيره ... عند البلاء وفارسُ الشقراءِ
وغداة بدر كان أول فارس ... شهد الوغى في اللأمة الصفراء
نزلت بسيماه الملائك نُصرة ... بالحوض يوم تألب الأعداء(3)
وعن الزبير قال: لقيت يوم بدر عبيدة بن سعيد بن العاص وهو ومدجج لا يُرى منه إلا عيناه، وهو يكنى أبا ذات الكرش، فقال: أنا أبو ذات الكرش، فحملت عليه فطعنته في عينيه فمات، قال الزبير: لقد وضعت رجلي عليه ثم تمطأت فكان الجهد أن نزعتها وقد انثنى طرفاها. فسأله إياها رسول الله فأعطاه، فلما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذها ثم طلبها أبو بكر فأعطاه إياها، فلما قبض أبو بكر سأله إياها عمر فأعطاه إياها، فلما قُتل عثمان وقعت عند آل على، فطلبها عبد الله بن الزبير، فكانت عنده حتى قتل(4).
__________
(1) أهل الشورى الستة، رياض العبد الله: ص(67).
(2) الطبراني في الكبير رقم 230مرسل صحيح الإسناد، سير أعلام النبلاء (1/46).
(3) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين: ص(501).
(4) صحيح البخاري، ك المغازى رقم (3998).(2/191)
هذا الخبر يصور لنا دقة الزبير بن العوام في إصابة الهدف، حيث استطاع أن يضع الحربة في عين ذلك الرجل مع ضيق ذلك المكان، وكونه قد وزع طاقته بين الهجوم والدفاع، فلقد كانت إصابة ذلك الرجل بعيدة جدًا لكونه حمى جسمه بالحديد الواقي، لكن الزبير استطاع إصابة إحدى عينيه، فكانت بها نهايته، ولقد كانت الإصابة شديدة العمق مما يدل على قوة الزبير الجسدية، إضافة إلى دقته ومهارته في إصابة الهدف(1). وقد كان يوم بدر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فارسان: الزبير على فرس على الميمنة والمقداد بن الأسود على فرس على الميسرة(2).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (4/163).
(2) سير أعلام النبلاء (1/46) والرواية مرسلة.(2/192)
4- في غزوة أحد: قال الزبير رضي الله عنه: جمع لي النبي - صلى الله عليه وسلم - أبويه يوم أحد(1)، وهذا دليل على قتاله وبأسه في تلك المعركة، فقد اتصف رضي الله عنه بالثبات والعزيمة وحب الشهادة في سبيل الله تعالى، وقد وصف لنا رضي الله عنه ما فعله أبو دجانة الأنصاري في تلك الغزوة، فعندما التحم الجيشان واشتد القتال، وشرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشحذ همم أصحابه، ويعمل على رفع معنوياته وأخذ سيفًا وقال: من يأخذ منى هذا؟ فبسطوا أيديهم، كل إنسان منهم يقول: أنا أنا – وكان من ضمنهم الزبير- قال: فمن يأخذه بحقه؟ فأحجم القوم، فقال سماك بن خرشة أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به العدو حتى ينحني. قال: أنا آخذه بحقه. فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعًا يختال عند الحرب – أي يمشى مشية المتكبر – وحين رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبختر بين الصفين قال: إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن(2). ووصف الزبير بن العوام ما فعله أبو دجانة يوم أحد فقال: وجدت في نفسي حين سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السيف فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة وتركني، والله لأنظرن ما يصنع، فاتبعته فأخرج عصابة له حمراء فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت – وهكذا كانت تقول له إذا تعصب – فخرج وهو يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ... ونحن بالسفح لدى النخيل
أن لا أقوم الدهر في الكيول(3) ... أضرب بسيف الله والرسول(4)
__________
(1) فضائل الصحابة (2/918) رقم (1267) إسناده صحيح.
(2) مسلم، ك فضائل الصحابة رقم 2470.
(3) الكيول: مؤخرة الصفوف.
(4) البداية والنهاية (4/17).(2/193)
فجعل لا يلقى أحدًا إلا قتله، وكان من المشركين رجل لا يدع جريحًا فالتقيا إلا ذفف(1) عليه، فجعل كل منهما يدنو من صاحبه، فدعوت الله أن يجمع بينهما فالتقيا فاختلفا ضربتين، فضرب المشرك أبا دجانة فاتقاه بدرقته فعضت بسيفه وضربه أبو دجانة فقتله، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق رأس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقلت: الله ورسوله أعلم(2).
قال ابن إسحاق: قال أبو دجانة: رأيت إنسانًا يحمس الناس حماسًا شديدًا فصمدت له فلما حملت عليه السيف ولول، فإذا امرأة، فأكرمت سيف رسول الله أن أضرب به امرأة(3)، وعن هشام عن أبيه، قالت عائشة: يا ابن أختي كان أبواك – يعنى الزبير وأبا بكر – من {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا للهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} [آل عمران:172].
__________
(1) ذفف: أجهز عليه.
(2) البداية والنهاية (4/18).
(3) البداية والنهاية (4/18).(2/194)
لما انصرف المشركون من أحد، وأصاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ما أصابهم، خاف أن يرجعوا، فقال: من ينتدب لهؤلاء في آثارهم، حتى يعلموا أنّ بنا قوة، فانتدب أبو بكر والزبير في سبعين، فخرجوا في آثار المشركين، فسمعوا بهم فانصرفوا، قال تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} [آل عمران:174] لم يلقوا عدوًا(1)، ولما استشهد حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه، في أحُد جاءت أم الزبير صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى أخيها، وقد مثل به المشركون فجدعوا أنفه وبقروا بطنه، وقطعوا أذنيه ومذاكيره، فقال رسول الله لابنها الزبير بن العوام: «القها فأرجعها، لا ترى ما بأخيها»، فقال لها: يا أمه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن ترجعي، قالت: ولم؟ وقد بلغني أنه قد مثل بأخي، وذلك في الله، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن، إن شاء الله، فلما جاء الزبير بن العوام، رضي الله عنه، إلى رسول الله فأخبره بذلك، قال: «خلَّ سبيلها»، فأتته فنظرت إليه فصلت عليه واسترجعت(2)، واستغفرت له(3)، وجاء في رواية عن عروة قال: أخبرني أبى الزبير أنه لما كان أحد أقبلت امرأة تسعى، حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى، قال: فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تراهم، فقال: «المرأة المرأة».قال الزبير: فتوسمت أنها أمي صفية، قال: فخرجت أسعى إليها، فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قالت: فَلَدمَتْ في صدري، وكانت امرأة جلدة، قالت: إليك، لا أرض لك. قال: فقلت: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عزم عليك. قال: فوقفت، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فإذا إلى جانبه رجل من الأنصار قتيل، وقد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفن حمزة في ثوبين، والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب، والأنصاري ثوب، فقدرناهما فكان
__________
(1) البخاري رقم (4077).
(2) استرجعت: قالت: إنا لله وإنا إليه راجعوان.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (3/108).(2/195)
أحدهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفنا كل واحد منهما في الثوب الذي طار له(1).
5- في غزوة الخندق: (لكل نبي حواريّ وحواريّي الزبير) (2): قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق: من يأتينا بخبر بنى قريظة؟ فقال الزبير: أنا، فذهب على فرس، فجاء بخبرهم. ثم قال الثانية، فقال الزبير: أنا، فذهب، ثم الثالثة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لكُلَّ نبي حواريّ، وحواريَّي الزبير»(3)، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: وحواريي الزبير: أي: خاصتى من أصحابي وناصري، ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه الصلاة والسلام، أي خلصاؤه وأنصاره، فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة العظيمة التي تميز بها الزبير، رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، رجلاً يقول: أنا ابن الحواري، فقال: إن كنت من ولد الزبير وإلا فلا(4). وجاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: فإن قلت: الصحابة كلهم أنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام خلصاء فما وجه التخصيص به؟ قلنا: هذا قاله حين قال يوم الأحزاب: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، قال: من يأتيني بخبر القوم؟ فقال: أنا، وهكذا مرة ثالثة ولا شك أنه في ذلك الوقت نصر نصرة زائدة على غيره(5). وقد فداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب بأبيه وأمه؛ فعن عبد الله بن الزبير قال: كنت يوم الأحزاب جعلت أنا وعمر بن أبى سلمه في النساء فنظرت فإذا أنا بالزبير على فرسه يختلف إلى بنى قريظة مرتين أو ثلاثًا فلما رجعت قلت: يا أبت رأيتك تختلف، قال: وهل رأيتني يا بنى؟ قلت: نعم، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من يأتي بنى قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت فلما رجعت جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبويه فقال: فداك أبي وأمي(6).وهذا الحديث فيه
__________
(1) مسند أحمد (3/34) الموسوعة الحديثية إسناده حسن.
(2) مسلم رقم (2414).
(3) مسلم رقم (2414).
(4) مصنف ابن أبى شيبة رقم (12219)، صحيح..
(5) عمدة القاري (19/2239).
(6) البخاري رقم (3720).(2/196)
منقبة ظاهرة للزبير، رضي الله عنه، حيث فداه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبويه، وفي هذه التفدية تعظيم لقدره واعتداد بعمله، واعتبار بأمره، وذلك لأن الإنسان لا يفدى إلا من يعظمه، فيبذل نفسه أو أعز أهله له(1).
لقد نال الزبير في غزوة الخندق وسامًا خالدًا باقيًا على مر السنين (لكل نبي حواري وحواريي الزبير) (2). لقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - الزبير بالحواري، وهو وصف عميق الدلالة واسع المفاهيم، والدارس لهذه المعاني يدرك أبعاد كلمة الحواري، ويتبين معالمها ويعرف أسرارها وأغوارها، وأكثر من يحتاج إلى العناية بهذه المفاهيم هم العلماء والدعاة والمربون، لأن الدعوة الإسلامية تحتاج إلى إعداد الحواريين ليقدموا نماذج حية في الأسوة والقدوة، لأن القدوة العملية أقوى وأشد تأثيرًا في نشر المبادئ والأفكار، لأنها تجسيد وتطبيق عملي لها، يسهل مشاهدتها والتأثر والاقتداء بها، ولأن الحواريين يأخذون بسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقتدون بأمره(3)، كما جاء في الحديث: «ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره»(4). ومن سنن الدعوات أن مسيراتها تمر بالفتن والمحن وتبتلى من أصدقائها وأعدائها، وحرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إرشاد المسلمين إلى هذه المتغيرات والحوادث فقال: «ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمنون»(5) فما مهمة الحواري؟ القدوة الحسنة والإيمان التطبيقي والإخلاص والفداء التي هي أبرز صفات الحواريين، فيكون مثالاً حقيقيًا لورثة الأنبياء، فيسعى لنشر الحق والخير وهداية الأمة والنهوض بها من كبوتها، ويضحى في سبيل الله بكل غال ونفيس ليجدد للإسلام شبابه ونضارته، في الوقت الذي يكون ساقطو المهمة لا هم لهم إلا مصلحتهم
__________
(1) تحفة الأحوذى (10/246).
(2) مسلم رقم (2414).
(3) صحيح مسلم بشرح النووي (2/26، 27).
(4) دراسات تربوية للأعظمى: ص(206).
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (2/26، 27).(2/197)
الشخصية(1). والزبير بن العوام، رضي الله عنه، نموذج فذ في تجسيد هذه المعاني، فقد تربى في أحضان الدعوة على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتلقى الجرعات المطلوبة لتحمل أعبائها منذ شبابه الباكر، وموقف الزبير في غزوة الأحزاب يصور لنا شخصيته ونشأته على الجرأة والنصرة ومحبته للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأثبتت الأيام أنه كان رضي الله عنه رجل المهمات الصعبة، فقد اتصف بالجرأة والإقدام فكُلف بمهمة كشف أسرار العدو، وما حدث مع الزبير يشير إلى مشروعية تقسيم الأعمال وتصنيف الدعاة كل حسب إخلاصه وفدائيته وتضحيته ومواهبه وطاقته(2).هذا وقد شارك الزبير في كل غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكانت له مواقف مشرفة، وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة في فتوحاتها الكبيرة رضي الله عنه.
__________
(1) دراسات تربوية في الأحاديث النبوية: ص(207).
(2) دراسات تربوية: ص(208).(2/198)
6- في غزوة اليرموك: عن عروة أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا للزبير يوم اليرموك: ألا تشدُّ فنشد معك؟ فقال: إني إن شددت كذبتم. فقالوا: لا نفعل، فحمل عليهم حتى شق صفوفهم، فجاوزهم وما معه أحد، ثم رجع مُقبلاً فأخذوا بلجامه فضربوه ضربتين على عاتقه بينهما ضربة ضربها يوم بدر.قال عروة: أدخل أصابعي في تلك الضربات ألعب وأنا صغير. قال عروة: وكان معه عبد الله بن الزبير يومئذ، وهو ابن عشر سنين فحمله على فرس ووكَّل به رجلاً(1)، قال الذهبي في السَّير معلقًا: هذه الوقعة هي يوم اليمامة إن شاء الله، فإن عبد الله كان إذ ذاك ابن عشر سنين(2)، وذكر ابن كثير أن الموقعة هي «اليرموك» ولا مانع من وقوع ذلك في الموقعتين. فقد قال ابن كثير: وقد كان فيمن شهد «اليرموك» الزبير بن العوام، وهو أفضل من هناك من الصحابة، وكان من فرسان الناس وشجعانهم، فاجتمع إليه جماعة من الأبطال يومئذ، فقالوا: ألا تحمل فنحمل معك؟ فقال: إنكم لا تثبتون. فقالوا: بلى. فحمل وحملوا، فلما واجهوا صفوف الروم أحجموا وأقدم هو، فاخترق صفوف الروم حتى خرج من الجانب الآخر، وعاد إلى أصحابه. ثم جاءوا إليه مرة ثانية ففعل كما فعل في الأولى، وجُرح يومئذ جُرحين بين كتفيه، وفي رواية: جُرح(3).ويقول ابن كثير مرة أخرى: خرج مع الناس إلى الشام مجاهدًا، فشهد اليرموك، فشَّرفوا بحضوره، وكانت له بها اليد البيضاء والهمة العلياء، اخترق جيوش الروم وصفوفهم مرتين، من أولهم إلى أخرهم(4).
__________
(1) البخاري رقم (3975).
(2) سير أعلام النبلاء (1/63).
(3) البداية والنهاية (1/63).
(4) المصدر نفسه (7/260).(2/199)
7- في فتح مصر: ولما قصد عمرو بن العاص مصر لفتحها كان معه قوات لم تكن كافية لفتحها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده ويطلب المدد من الرجال، فأشفق عمر من قلة عدد قوات عمرو، فأرسل الزبير بن العوام في اثنى عشر ألفًا، وقيل: أرسل عمر أربعة آلاف رجل، عليهم من الصحابة الكبار: الزبير، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، ومسلمة ابن مخلد، وقال آخرون: خارجة بن حذافة هو الرابع، وكتب إليه: إني أمددتك بأربعة آلاف، على كل ألف منهم رجل مقام ألف. وكان الزبير على رأس هؤلاء الرجال(1)، وحين قدم الزبير على عمرو، وجده محاصرًا حصن بابليون فلم يلبث الزبير أن ركب حصانه وطاف بالخندق المحيط بالحصن، ثم فرّق الرجال حول الخندق، وطال الحصار حتى بلغت مدته سبعة أشهر، فقيل للزبير: إن بها الطاعون. فقال: إنا جئنا للطعن والطاعون(2). وأبطأ الفتح على عمرو بن العاص، فقال الزبير: إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين، فوضع سلما وأسنده إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعًا، فما شعروا إلا والزبير على رأس الحصن يكبر ومعه السيف، فتحامل الناس على السُّلم حتى نهاهم عمرو؛ خوفًا من أن ينكسر، فلما رأى الروم أن العرب قد ظفروا بالحصن انسحبوا، وبذلك فتح حصن بابليون أبوابه للمسلمين، فانتهت بفتحة المعركة الحاسمة لفتح مصر، وكانت شجاعة الزبير النادرة السبب المباشر لانتصار المسلمين على المقوقس(3).
__________
(1) فتوح مصر والمغرب: ص(61)، قادة فتح الشام ومصر: ص(208- 226).
(2) سير أعلام النبلاء (1/55).
(3) قادة فتح الشام ومصر، ص(209- 227).(2/200)
8- غيرة الزبير بن العوام رضي الله عنه: عن أسماء بنت أبى بكر الصديق – رضي الله عنها – قالت: تزوجني الزبير – رضي الله عنه – وما له في الأرض مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه. قالت: فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسُوسُه، وأدق النوى للناضحة، وأعلفه وأسقيه الماء وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن أخبز فكان يخبز لي جارات من الأنصار وكن نسوة صدق. قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رأسي، وهي على ثُلثي فرسخ، قالت: فجئت يومًا والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه نفر من أصحابه فدعا لي، ثم قال: «أخ أخ»، ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته، قالت: وكان من أغير الناس. قالت: فعرف
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه، فاستحييت وعرفت غيرتك، فقال: والله لحملك النوى كان أشد علىَّ من ركوبك معه، قالت: حتى أرسل إلىَّ أبو بكر بعد ذلك بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني(1).
9- تسمية الزبير أولاده بأسماء الصحابة الشهداء: من شدة حب الزبير، رضي الله عنه، للشهادة، كان أن سمي أولاده بأسماء الصحابة الشهداء، فقد روى هشام بن عروة عن أبيه قال: قال الزبير: إنَّ طلحة يسمى بنيه بأسماء الأنبياء، وقد علم أنه لا نبيّ بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإنّي أسمى بأسماء الشُّهداء لعلهم يستشهدون: عبد الله بعبد الله بن جحش، والمنذر بالمنذر ابن عمرو، وعروة بعروة بن مسعود، وحمزة بحمزة، وجعفر بجعفر بن أبى طالب، ومصعب بمصعب بن عمير، وعبيدة بعبيدة بن الحارث، وخالد بخالد بن سعيد، وعمرو بعمرو بن سعيد بن العاص قتل باليرموك(2).
__________
(1) حياة الصحابة (2/691)، أصحاب الرسول (1/281).
(2) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين ص(505)، الطبقات (3/101).(2/201)
10- إخفاء الطاعات عند الزبير: قال الزبير بن العوام – رضي الله عنه -: أيكم استطاع أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليعمل(1).
11- ما قاله حسان بن ثابت من شعر في مدح الزبير: مرّ الزبير بمجلس من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحسان ينشدهم من شعره، وهم غير نشاط لما يسمعون منه، فجلس معهم الزبير، ثم قال: مالي أراكم غير أذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة؟ فلقد كان يعرض به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيحسن استماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشتغل عنه، فقال حسان يمدح الزبير:
أقام على عهد النبي وهديه ... حواريه والقول بالفعل يُعدل
أقام على منهاجه وطريقه ... يوالي ولىَّ الحقّ والحقُّ أعدلُ
هو الفارس المشهور والبطل الذي ... يصول إذا ما كان يوم محجّلُ
إذا كشفت عن ساقها الحرب حَشّها ... بأبيض سباق إلى الموت يُرْقِلُ(2)
وإن امرؤ كانت صفية أمَّهُ ... ومن أسد في بيتها لَمُؤتَّلُ(3)
له من رسول الله قُربى قريبة ... ومن نصرة الإسلام مجد مؤثَّلُ(4)
فكم كربة ذب الزبير بسيفه ... عن المصطفى والله يعطى فيُجزل
ثناؤك خير من فعال معاشر ... وفعلك يا ابن الهاشمية أفضل(5)
12- كرم الزبير بن العوام رضي الله عنه: روى عن عروة بن الزبير أنه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله ويحفظ أموالهم(6).
__________
(1) الزهد لابن المبارك: ص(392).
(2) يرقل: يسرع: وهي سرعة الإبل.
(3) في الديوان، وعند الحاكم لمرقل: وهو العظيم المبجل.
(4) سير أعلام النبلاء (1/56).
(5) المصدر نفسه (1/57).
(6) سير أعلام النبلاء (1/131).(2/202)
وهذا مثل رفيع من أمثلة الكرم والوفاء، وهو يجسَّم المعاني السامية في النفس حتى تبقى هي الماثلة في الضمير الحي، وتبعًا لذلك يُسخّر هذا الضمير الحي كل ما يملك من أجل سيادة هذه المعاني، وقد تجود النفس مرة ومرة ثم يعترضها شيء من الفتور، فأما أن يتكفَّل مثل هذا الشهم السخي بالنفقة على ورثة عدد من الصحابة، ويحفظ لهم أموالهم فهو نموذج فريد في عالم الواقع، ومؤشر مهم من مؤشرات الرقى الأخلاقي لدى الصحابة رضي الله عنهم(1).
13- وحان وقت الرحيل..وشهادة رسول الله له بدخول الجنة: خرج الزبير بن العوام، رضي الله عنه، من معركة الجمل في الجولة الأولى وقد بينّا الأسباب في تركه لساحة المعركة، وعند خروجه من ساحة القتال كان يتمثل قول الشاعر:
تَركُ الأمور التي أخشى عواقبها ... في الله أحسن في الدنيا وفي الدين
وقيل إنه أنشد:
ولقد علمتُ لو أن علمي نافعى
وبعد ... أن الحياة من الممات قريب(2)
وبعد خروجه تبعه عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع في طائفة من غواة بنى تميم فيقال: إنهم لما أدركوه تعاونوا عليه حتى قتلوه، ويقال بل أدركه عمرو بن جرموز فقال له عمرو: إن لي إليك حاجة، فقال: ادن، فقال مولى الزبير – واسمه عيطة-: إن معه سلاحًا. فقال: وإن، فتقدم إليه فجعل يحدثه وكان وقت الصلاة. فقال له الزبير: الصلاة. فقال: الصلاة، فتقدم الزبير ليصلى بهما فطعنه عمرو بن جرموز فقتله، ويقال بل أدركه عمرو بواد يقال له وادي السباع وهو نائم في القائلة(3)، فهجم عليه فقتله، وهذا هو القول الأشهر، ويشهد له شعر امرأته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت آخر من تزوجها، وكانت قبله تحت عمر بن الخطاب فقتل عنها، وكانت قبله تحت عبد الله بن أبى بكر الصديق فقتل عنها، فلما قُتل الزبير رثته بقصيدة محكمة المعنى فقالت:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (17/131).
(2) سير أعلام النبلاء (1/60).
(3) القائلة: وقت اشتداد حرّ الظهيرة.(2/203)
غدرَ ابنُ جرموز بفارس بهمة ... يومَ اللقاء وكان غرّ معرد(1)
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشًا رعشَ الجنان(2) ولا اليد
ولا اليد
ثكلتك أمُّكَ أن ظفرتَ بمثله ... ممن بقى ممن يروح ويغتدي
كمْ عمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا ابن فقع العردد(3)
والله ربي إن قتلت لمسلمًا ... حلت عليك عقوبة المتعمد(4)
ولما قتله عمرو بن جرموز فاحتز رأسه وذهب به إلى علىّ، ورأى أن ذلك يحصل له به حظوة عنده فاستأذن فقال علي: بشّر قاتل ابن صفية بالنار، ثم قال على: سمعت رسول الله يقول: «لكل نبي حواري وحوارييّ الزبير»(5)، ولما رأى علىّ سيف الزبير قال: إن هذا السيف طالما فرج الكرب عن وجه رسول الله(6)، وفي رواية: منع أمير المؤمنين على ابن جرموز من الدخول عليه، وقال: بشر قاتل ابن صفية بالنار(7)، ويقال: إن عمرو بن جرموز قتل نفسه في عهد على، وقيل: بل عاش إلى أن تأمر مصعب بن الزبير على العراق فاختفى منه، فقيل لمصعب: إن عمرو بن جرموز ههنا وهو مختف، فهل لك فيه؟ فقال: مروه فليظهر فهو آمن، والله ما كنت لأقيد(8) للزبير منه، فهو أحقر من أن أجعله عدلاً للزبير(9).
__________
(1) معرد: المعرد: الصلب والشجاع.
(2) الجنان: القلب.
(3) البداية والنهاية (7/261)، العردد: الصلب الشديد.
(4) البداية والنهاية (7/261).
(5) فضائل الصحابة (2/920).
(6) البداية والنهاية (7/261).
(7) الطبقات (3/105) إسناده حسن، خلافة على: ص(164) عبد الحميد.
(8) أقيد: قود: القتل بالقاتل.
(9) البداية والنهاية (7/261).(2/204)
هذا وقد أخبر الحبيب المصطفى أن الزبير سيموت شهيدًا، فعن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على جبل حراء، فتحرك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اسكن حراء؛ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلى وطلحة والزبير رضي الله عنهم(1)، قال النووي: وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، منها إخباره أن هؤلاء شهداء، وماتوا كلهم – غير النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبى بكر – شهداء، فإن عمر وعثمان وعليًا وطلحة والزبير – رضي الله عنهم- قُتلوا ظلمًا شهداء، فقتل الثلاثة مشهور، وقُتل الزبير بوادي السباع بقرب البصرة منصرفًا تاركًا للقتال، وكذلك طلحة اعتزل الناس تاركًا للقتال، فأصابه سهم فقتله، وقد ثبت أن من قُتل مظلومًا فهو شهيد(2). قال الشعبي: أدركت خمسمائة أو أكثر من الصحابة يقولون: علىٌّ وعثمان وطلحة والزبير في الجنة، قال الذهبي: قلت: لأنهم من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن البدريين ومن أهل بيعة الرضوان، ومن السابقين الأولين الذين أخبر الله تعالى أنه رضي الله عنهم ورضوا عنه، ولأن الأربعة قُتلوا، ورُزقوا الشهادة، فنحن محبون لهم باغضون للأربعة الذين قَتلوا الأربعة(3).
__________
(1) مسلم رقم (2417).
(2) شرح النووي على صحيح مسلم (15/271).
(3) سير أعلام النبلاء (1/62).(2/205)
14- حرصه على أداء دَينْه عند الموت: عن عبد الله بن الزبير قال: جعل الزبير يوم الجمل يوصيني بديَنْه، ويقول: إن عجزت عن شيء منه فاستعن عليه بمولاي. قال: فوالله ما دريت ما أراد، حتى قلت: يا أبت من مولاك؟ قال: ما وقعت في كربة من دين إلا قلت: يا مولى الزبير اقض عنه، فيقضيه، وإنما دينه الذي كان عليه: أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه فيقول الزبير: لا ولكنه سلف فإني أخشى عليه الضيعة. قال: فقتل ولم يدع دينارًا ولا درهمًا إلا أرضين، فبعتها – يعنى وقضيت دينه – فقال بنو الزبير: اقسم بيننا ميراثنا. فقلت: والله لا أقسم بينكم حتى أنادي بالموسم أربع سنين: ألا من كان له على الزبير دين فليأتنا فلنقضه، فجعل كل سنة ينادي بالموسم، فلما مضى أربع سنين قسم بينهم، وكان للزبير أربع نسوة، فأصاب كل امرأة ألف ألف ومائتا ألف. فجميع ماله خمسون ألف ألف ومائتا ألف(1)، وقول البخاري، رحمه الله، محمول على أن جملة المال حين الموت كانت ذلك دون الزائد في أربع سنين دون القسمة(2)، وقد وقع في تركته من البركة الشيء الكثير(3)، وبارك الله له في أراضيه بعد موته، فوفى دينه وزاد عليه الشيء الكثير، وفي هذه القصة درس وعبر وفوائد:
__________
(1) البخاري رقم (3129).
(2) شذرات الذهب (1/209).
(3) الإصابة لابن حجر (2/461).(2/206)
أ- قول الزبير لابنه: يا بنى إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي؛ وهذا مثل من أمثلة اليقين الراسخ والإيمان القوى الذي ترتب عليه صدق التوكل على الله عز وجل، واللجوء إليه في قضاء الحوائج وكشف الكربات، فالمؤمن الحق يعتقد جازمًا بأن كل شيء بيد الله جل وعلا، فإذا وقع في ضائقة وكرب فإن أول ما يتبادر إلى ذهنه تصور وجود الله تعالى وهيمنته على كل شيء، وأن المخلوقين الذين يُشكلون طرفًا آخر في قضيته إنما هم في قبضة البارئ جل وعلا، وأن قلوبهم بيده سبحانه يصرفها كيف يشاء، فليلجأ إليه قبل كل شيء ويسأله قضاء حاجته وتفريج كربته، ثم يقوم بعمل الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها موصلة إلى النتائج المطلوبة، مع الاعتقاد بأنها مجرد أسباب وأن الفاعل والمقدّر هو الله تعالى، وأنه قادر على أن ينزع من الأسباب قوة التأثير فلا تؤدي إلى نتائجها(1) المعروفة.
__________
(1) التاريخ الإسلامي (20/309).(2/207)
ب- هل كان الزبير رضي الله عنه من الأثرياء؟ نرى النصَّ السابق ينطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من الأثرياء أصحاب الأموال المعروفين المشهورين بذلك، بل كان يشعر بالضائقة ويهمه أمر ما في ذمته من أموال وديون، وكان يخشى ألا تفي أرضه وعقاره بما عليه من أموال، كما ينطق هذا النص أيضًا بأن عبد الله بن الزبير ما كان يخالف أباه في توقعه، بل كان يتوقع مثله أن الديوان تزيد على الأموال والأرض، يقول له أبوه: أفترى يُبقى دينُنَا من مالنا شيئًا؟ فلا يجد عبد الله جوابًا لأبيه، ولو كان يتوقع غير ما توقع أبوه، لأجابه مطمئنًا إياه في هذا الوقت العصيب، بأن الأمر غير ما يقدَّر ويتوقَّع، بل تجده يجارى أباه صراحة في توقعه، فيسأله – عندما أشار عليه أن يستعين بمولاه-: من مولاك؟ فهو يتوقع أنه سيستعين به، ولا يزعمن زاعم بأن عبد الله لم يكن محيطًا بثروة أبيه، عارفًا بأملاكه، فإن عبد الله كان في ذلك الوقت في سن الخامسة والثلاثين، ومن يكن في مثل هذه السن من شأنه أن يكون ظهيرًا لأبيه عالمًا بكل أحواله وأمواله، وبخاصة إذا كان هو الابن الأكبر، وإن سؤال الزبير له: أفترى يُبقى ديننا من مالنا شيئًا؟ يشهد بأن عبد الله كان على علم بأحوال أبيه وأمواله، بل إن عبد الله صرح بأن أمر قضاء الدين ما كان سهلاً ولا هينًا، فيقول: فوالله ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت: يا مولى الزبير، اقض عنه دينه فيقضَيه(1).ومما يشهد أيضًا بأن الزبير لم يكن معدودًا من الأغنياء وأصحاب الثروات وأن توقعه عن ديونه ونسبتها إلى أملاكه كان في موضعه ومحله، أن حكيم بن حزام رضي الله عنه – وهو ابن عم الزبير – تلقى عبد الله بن الزبير فيقول له: ما أراكم تطيقون هذا الذي عليكم من الديون فإن عجزتم عن شيء منه، فاستعينوا بي(2). ودليل رابع: يأتي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه لعبد الله ابن الزبير – وكان
__________
(1) البخاري رقم (3129).
(2) البخاري رقم (3129).(2/208)
له عند الزبير أربعمائة ألف – فيقول لابن الزبير: إن شئتم تركتها لكم، قال عبد الله بن الزبير: لا. قال عبد الله بن جعفر: فإن شئتم جعلتموها فيما تؤخرون إن أخرتم(1)، فهذه شهادة اثنين من كبار الصحابة يتوقعان عدم وفاء أملاك الزبير بما عليه من ديون ويعدانه ممن يحتاج إلى عون ومساعدة، ثم هما ممن يعرف الزبير ويخالطه، ويطلع على أحواله، فأحدهما حكيم بن حزام ابن عم الزبير، والآخر ابن خاله، فأم الزبير صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يتعامل معه أخذًا وعطاء واقتراضًا وائتمانًا، فهذه أدلة أربعة لا يرقى إليها الشك تنطق بأن الزبير، رضي الله عنه، ما كان من أصحاب الثروات(2). وقد فشا فيما فشا عن ثروة الزبير وغناه الحديث عن عبيده وخيوله؛ ففي بعض المصادر أنه كان له ألف مملوك، وأن الألف مملوك كانوا يؤدون إليه الخراج كل يوم، فما يدخل إلى بيته منها درهم واحد، يتصدق بذلك جميعه(3). لكن المستشرق الذائع الصيت «ول ديورانت» جعل الألف عشرة آلاف، فقال: كان الزبير يمتلك عشرة آلاف عبد. ثم أضاف إليها ألف جواد(4)، وبالطبع حذف المستشرق (الذكي) خير تصدق الزبير بخراج مماليكه(5)، وهذا الخبر لا يقف أمام رواية البخاري، إذ جاء فيها «فقتل الزبير ولم يترك دينارًا ولا درهمًا، إلا أرضين منها الغابة، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة، ودارين بالبصرة، ودارًا بالكوفة، ودارًا بمصر(6)، فالرواية واضحة، وهي بأسلوب الحصر، وفي مقام الحديث عن هم الدين، والكُرب التي كانت في سبيل سداده، فلو كان هناك ألف مملوك، لكان لها ذكر، ولثمنها قيمة وقدر، ألا يساوى المملوك الواحد في أقل تقدير ألفى درهم(7)
__________
(1) البخاري رقم (3129).
(2) الزبير بن العوام، الثورة، عبد العظيم الديب ص(9).
(3) سير السلف الصالحين (1/227) في إسناده ضعف.
(4) الزبير بن العوام، الثروة الثورة ص(11).
(5) المصدر نفسه ص(13).
(6) البخاري (3129).
(7) الزبير بن العوام، الثروة والثورة: ص(14).(2/209)
، فيكون ثمن المماليك هو قيمة الدين كله إلا قليلاً؟! هذا كله على فرض أنها كانت ألفًا فقط، أما إذا أخذنا بشطحة ول ديورانت، وأنها عشرة آلاف مملوك، فمعنى ذلك نسف رواية البخاري من أساسها، فإن عشرة آلاف مملوك وألف جواد يكفى ثمنها – مهما كان بخسًا – أن يسدد ديونه، ويغرق ورثته في لجج الثراء، وما كان الزبير بحاجة إلى أن يقول لابنه: إن من أكبر همي لَدَيِنْي. ولا أن يسأله: أفترى يبُقى ديننا من مالنا شيئًا؟ ولا أن يوصيه: إذا أعجزك شيء من ديني، فاستعن عليه بمولاي(1).
إن الحديث عن سيرة الزبير وطلحة وعمرو بن العاص وأبى موسى الأشعري وأم المؤمنين عائشة ينسجم مع أهداف الكتاب، من حيث الحديث عن سيرة أمير المؤمنين على وعصره، فهذه الشخصيات تعتبر محورية في الحديث عن عصر أمير المؤمنين على، كما أن التشويه الذين لحق بها في كتب التاريخ والأدب يكون عند الحديث في الفتن الداخلية، فبيان سيرتهم، وأخلاقهم وصفاتهم واجب علينا، وحتى يخرج القارئ بمعرفة حقيقية لهذه الشخصيات، فلا يتأثر بالروايات الضعيفة، ولا القصص الموضوعة التي وضعها مورخو الشيعة الرافضة والتي شوهت ثقافة الناس عن هذه الشخصيات العظيمة، فالحديث عن سيرة الزبير أو غيره من كبار الصحابة التي أسهمت في الأحداث في عهد أمير المؤمنين على رضي الله عنه ينسجم مع أهداف المؤلف التي أراد إيصالها للقارئ من خلال دراسته لعهد الخلفاء الراشدين.
تاسعًا: سيرة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه واستشهاده:
__________
(1) البخاري رقم (3129).(2/210)
هو أبو محمد طلحة بن عبد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ابن كعب بن لؤى بن غالب القرشي التيمي(1)، يجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرة بن كعب، ومع أبى بكر الصديق في تيم بن مرة، وعدد ما بينهم من الآباء سواء(2)، وأمه – رضي الله عنه – الصعبة بنت الحضرمي امرأة من أهل اليمن وهي أخت العلاء بن الحضرمي(3)، أسلمت ولها صحبة وظفرت بشرف الهجرة(4)، وطلحة – رضي الله عنه – أحد العشرة الذين بشروا بالجنة، وأحد الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام وأحد الخمسة الذين أسلموا على يد أبى بكر الصديق، رضي الله عنه، وأحد الستة أصحاب الشورى(5).
__________
(1) الإصابة (2/220)، الاستيعاب لابن عبد البر على حاشية الإصابة (2/210).
(2) فتح الباري (7/82).
(3) الإصابة (2/220).
(4) المصدر السابق (4/337)، فتح الباري (7/82).
(5) المستدرك للحاكم (3/369)، عقيدة أهل السنة في الصحابة (1/228).(2/211)
1- إسلامه وابتلاؤه وهجرته: قال طلحة بن عبيد الله: حضرت سوق بصرى، فإذا راهب في صومعته يقول: سلُوا أهل هذا الموسم، أفيهم أحد منْ أهل الحرم؟ قال طلحة: نعم، أنا. فقال: هل ظهر أحمد بعد؟ قلت: ومن أحمد؟ قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب، هذا شهره الذي يخرج فيه، وهو آخر الأنبياء، ومخرجه من الحرم ومهاجره إلى نَخْل، وحرّة(1) وسباخ(2)، فإياك أن تُسبق إليه. قال طلحة: فوقع ما قال في قلبي، فخرجت سريعًا حتى قدمتُ مكة، فقلت: هل كان من حدث؟ قالوا: نعم، محمد بن عبد الله الأمين تنبأ، وقد تبعه ابن أبى قحافة. قال طلحة: فخرجت حتى دخلت على أبى بكر، وقلت: أتبعت هذا الرجل؟ قال: نعم، فانطلق إليه، فادخل عليه، فاتّبعه، فإنه يدعو إلى الحق وإلى الخير. وأخبر طلحة أبا بكر بما قال الراهب، فخرج أبو بكر بطلحة، فدخل به على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم طلحة، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما قال الراهب، فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما أسلم أبو بكر وطلحة بن عبيد الله، أخذهما نوفل بن خويلد بن العدوية، فشدّها في حبل واحد، ولم يمنعهما بنو تيم، وكان نوفل يُدعى أسد قريش ولذلك سُمّي أبو بكر وطلحة القرينين(3)، هذا وقد أوذي طلحة في الله ولقي أذى كبيرًا من المشركين، ومن عشيرته الأقربين، وبقي طلحة – رضي الله عنه – صابرًا على الأذى والعذاب حتى أذن الله عز وجل بالهجرة، ولما ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهاجرًا إلى المدينة لقيه طلحة قادمًا من الشام في عير، فكسا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر ثياب الشام، ثم مضى طلحة إلى مكة حتى فرغ من تجارته، ثم خرج بعد ذلك بآل أبى بكر؛ فهو الذي قدم بهم المدينة، فطلحة من المهاجرين الأوّلين – رضي الله عنهم-(4)، ولما قدم المدينة آخي رسول الله بينه وبين أبى أيوب
__________
(1) حرة: هي الأرض الغليظة ذات الحجارة السود النخرات.
(2) سباخ: جمع سبخة، وهي أرض ذات نزّ وملح.
(3) البداية والنهاية (7/258).
(4) المصدر نفسه (7/258)، فرسان من عصر النبوة: ص(225).(2/212)
الأنصاري(1)، وقيل كعب بن مالك الأنصاري، حين آخي بين المهاجرين والأنصار(2).
2- في غزوة بدر: كان طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، قد كُلف بتحسس عير قريش، وذلك لما تحيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصول عير من الشام لقريش، فقد بعث - صلى الله عليه وسلم - طلحة وسعيد بن زيد، رضي الله عنهما، يأتيانه بالأخبار، فخرجا وبلغا الحوراء، فلم يزالا مقيمين هناك حتى مرت العير، فتساحلت، فعادا إلى المدينة بالأخبار، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد خرج بالمسلمين في غزوة بدر فأسرعا لينضما إلى الجيش، إلا أنهما لم يدركا المعركة، وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسهمهما وأجورهما، سهمًا كالمقاتلين، وأجرًا كالمجاهدين(3).
__________
(1) البداية والنهاية (7/258).
(2) فرسان من عصر النبوة: ص(225)، الاستيعاب لابن عبد البر.
(3) الحاكم في المستدرك (3/369)، الاستيعاب (4188).(2/213)
3- في غزوة أحد، أوجب طلحة رضي الله عنه: عن جابر قال: لما كان يوم أحد وولى الناس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية في اثنى عشر رجلاً منهم طلحة، فأدركه المشركون، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من للقوم؟ قال طلحة: أنا. قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا، فقاتل حتى قُتل. ثم التفت - صلى الله عليه وسلم -، فإذا المشركون، فقال: مَن لهم؟ قال طلحة: أنا. قال: كما أنت، فقال رجل من الأنصار: أنا. قال: أنت، فقاتل حتى قتل، فلم يزل كذلك حتى بقى مع نبي الله (طلحة) فقال: من للقوم؟ قال طلحة: أنا. فقاتل طلحة قتال الأحد عشر، حتى قطعت أصابعه فقال: حسبي. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلت بسم الله لرفعتك الملائكة والناس ينظرون». ثم رد الله المشركين(1)، وعند أحمد: فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لو قلت بسم الله لرأيت يُبني لك بها بيت في الجنة وأنت حيّ في الدنيا»(2)، وعن قيس بن حازم قال: رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد(3)، وجُرح في تلك الغزوة تسعًا وثلاثين، أو خمسًا وثلاثين وشُلّت أصبعه – أي السبابة والتي تليها -(4)، وروى أبو داود الطيالسى عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان أبو بكر إذا ذكر يوم أُحْد قال: ذلك اليوم كله لطلحة(5)، وعن عائشة وأم إسحاق بنتي طلحة قالتا: جُرح أبونا يوم أُحد أربعًا وعشرين جراحة، وقع منها في رأسه شجةٌ مربعة، وقُطع نساه – يعنى العرق – وشُلَّت إصبعه، وكان سائر الجراح في جسده وغلبه الغَشيُ – الإغماء – ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجع به القهقرى؛ كلما أدركه أحد من المشركين، قاتل دونه حتى أسنده إلى الشعب(6)، حتى قال عنه - صلى الله عليه وسلم -: «أوجب طلحة حين صنع برسول الله ما صنع»(7).
__________
(1) السلسلة الصحيحة رقم (2171)، الحديث حسن بمجموع طرقه.
(2) فضائل الصحابة رقم (1294) إسناده صحيح.
(3) البخاري رقم (4063).
(4) البخاري (7/361، أصحاب الرسول (1/264).
(5) فتح الباري (7/361).
(6) سير أعلام النبلاء (1/32).
(7) صحيح الجامع للألباني رقم (2540).(2/214)
4- شهيد يمشى على الأرض: عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على جبل حراء، فتحرك. فقال رسول الله: «اسكن حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد»، وعليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر وعثمان وعلىّ وطلحة والزبير وسعد بن أبى وقاص – رضي الله عنهم(1) – فلما علم طلحة بأنه سيموت شهيدًا وذلك بعد أن سمع تلك البشرى من الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ظل يبحث عن شهادته في مظانها، فشهد المشاهد كلها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عدا غزوة بدر(2)، فقد كان في مهمة كلفه بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما مرّ معنا، وقال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - «من أحب أن ينظر إلى شهيد يمشى على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله»(3).
5- من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه: عن موسى وعيسى ابني طلحة عن أبيهما أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لأعرابي جاء يسأل رسول الله عمن قضى نحبه من هو؟ فكانوا لا يجترئون على مسألته، يوقرونه ويهابونه، قال: فسأله الأعرابي فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم إني اطلعت من باب المسجد – يعنى طلحة – وعلىَّ ثياب خضر فلما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أين السائل عمن قضى نحبه؟» قال الأعرابي: أنا يا رسول الله. قال: «هذا ممن قضى نحبه»(4).
__________
(1) مسلم رقم (2417).
(2) أصحاب الرسول (1/260).
(3) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع (5962).
(4) رواه الترمذي بإسناد حسن رقم (3742).(2/215)
6- دفاعه عن إخوانه وإحسان الظن بهم: عن مالك بن أبى عامر، قال: جاء رجل إلى طلحة فقال: أرأيتك هذا اليماني، هو أعلم لحديث رسول الله منكم- يعنى أبا هريرة – نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم، قال: أما أن قد سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم نسمع، فلا أشك، وسأخبرك؛ إنّا كنا أهل بيوت، وكنا إنما نأتى رسول الله غُدوة وعشية، وكان مسكينًَا لا مال له – أبو هريرة – إنما هو باب رسول الله، فلا أشك أنه قد سمع ما لم نسمع، وهل تجد أحدًا فيه خير يقول على رسول الله ما لم يَقُلْ(1).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (1/37) إسناده حسن.(2/216)
7- إنفاقه في سبيل الله: عن قبيصة بن جابر قال: صحبت طلحة، فما رأيت أعطى لجزيل مال من غير مسألة منه(1)، وعن موسى عن أبيه طلحة أنه أتاه ماله من حضرموت سبعمائة ألف، فبات ليلته يتململ. فقال: ما ظنّ رجل بربه يبيت وهذا المال في بيته؟ قالت: فأين أنت عن بعض أخلائك، فإذا أصبحت فادع بجفان وقصاع فقسمه. فقال لها: رحمك الله إنك موفقة بنت موفق، وهي أم كلثوم بنت الصديق، فلما أصبح دعا بجفان، فقسمها بين المهاجرين والأنصار، فبعث إلى علىّ منها بجفنة، فقالت له زوجته: أبا محمد، أما كان لنا في هذا المال من نصيب؟ قال: فأين كنت منذ اليوم؟ فشأنك بما بقى: قالت: فكانت صرة فيها نحو ألف درهم(2). وعن سُعدي بنت عوف المرية، قالت: دخلت على طلحة يومًا وهو خاثر(3)، فقلت: ما لك؟ لعل رابك من أهلك شيء؟ قال: لا والله، نعم خليلة المسلم أنتِ، ولكن مالٌ عندي قد غمنَّي. فقلت: ما يغُمُّك؟ عليك بقومك، قال: يا غلام ادع لي قومي، فقسمه فيهم، فسألت الخازن، كم أعطى؟ قال: أربعمائة ألف(4) ، وعن الحسن البصري أن طلحة بن عبُيد الله باع أرضًا له بسبعمائة ألفٍ فبات أرقًا من مخافة ذلك المال، حتى أصبح ففرقه(5)، وعن علىّ بن زيد قال: جاء أعرابي إلى طلحة يسأله، فتقرب إليه برحم فقال: إن هذه لرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضًا قد أعطاني بها عثمان ثلاثمائة ألف فاقبضها، وإن شئت بعتها من عثمان، ودفعت إليك الثمن فقال: الثمن، فأعطاه وكان رضي الله عنه لا يدع أحدًا من بنى تيم عائلاً إلا كفاه وقضى دينه، وكان يرسل لعائشة أم المؤمنين كل سنة بعشرة آلاف(6)، إنه طلحة الخير، وطلحة الفياض، وطلحة الجود(7)
__________
(1) الحلية (1/88)، سير أعلام النبلاء (1/30).
(2) سير أعلام النبلاء للذهبي (1/30، 31).
(3) خاثر النفس: غير نشيط.
(4) مجمع الزوائد (9/148) قال الهيشمى: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(5) سير أعلام النبلاء (1/32).
(6) المصدر نفسه (1/31).
(7) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين: ص(527).(2/217)
، وقد سماه رسول الله بالفياض لسعة عطائه وكثرة إنفاقه في وجوه الخير، فقد روى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى موسى بن طلحة أن طلحة نحر جزورًا وحفر بئرًا يوم ذي قرد(1)، فأطعمهم وسقاهم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا طلحة الفياض». فسمي طلحة الفياض(2).
8- من فرائد أقواله ودُرَر جواهر كلامه: فمن أقواله: إن أقلّ عيب الرجل جلوسه في بيته(3)، ومما حفظ عنه قوله: الكسوة تظهر النّعمة، والإحسان إلى الخادم يكبت الأعداء(4). ولطلحة – رضي الله عنه – آراء ثاقبة وصحيحة في الناس، فكان لا يشاور بخيلاً في صلة ولا جبانًا في حرب(5).
__________
(1) البداية والنهاية (7/258).
(2) ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر، النهاية (4/37).
(3) المستدرك (3/374)، حديث صحيح الإسناد ولم يخرجه، مختصر تاريخ دمشق (11/203)، يقصد أن العزلة بعد عن الاهتمام.
(4) فرسان من عصر النبوة، ص(237).
(5) فرسان من عصر النبوة، ص(237).(2/218)
9- شهادة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: لما حضر يوم الجمل واجتمع به علىٌّ فوعظه تأخر فوقف في بعض الصفوف، فجاءه سهم غرب فوقع على ركبته، وقيل في رقبته، والأول أشهر، وانتظم السهم مع ساقه خاصرة الفرس فجمح به حتى كان يلقيه، وجعل يقول: إلىَّ عباد الله، فأدركه مولى له فركب وراءه وأدخله البصرة فمات بدار فيها، ويقال: إنه مات بالمعركة، وإن عليًا لما دار بين القتلى رآه فجعل يمسح عن وجهه التراب(1)، ثم قال: عزيز علىّ أبا محمد أن أراك مُجندلاً في الأودية، ثم قال: إلى الله أشكو عُجرى وبُجرى(2)، وترحم عليه وقال: ليتني مَتُّ قبل هذا بعشرين سنة(3)، ولا شك أن طلحة ابن عبيد الله، رضي الله عنه، من أهل الجنة، فقد روى الترمذي بإسناده إلى عبد الرحمن ابن عوف قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلى في الجنة، وطلحة وسعد في الجنة، وسعيد في الجنة، وأبو عبيدة في الجنة، والزبير وعبد الرحمن بن عوف في الجنة».ثم قال: وقد روى هذا الحديث عن عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو هذا(4)، ففي هذا الحديث منقبة واضحة لطلحة، رضي الله عنه، حيث شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل الجنة وأكرِمْ بها من شهادة فإنها تضمنت الإخبار بسعادته في الدنيا والآخرة(5).
__________
(1) البداية والنهاية (7/258).
(2) سرائري وأحزاني التي تموج في جوفي.
(3) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين (528).
(4) أخرجه أبو داود (4649)، الترمذي (3757) حديث حسن.
(5) عقيدة أهل السنة (1/293).(2/219)
10- حفظ الله له بعد موته: إن الله حفظ جسد طلحة بن عبيد الله، رضي الله عنه، بعد موته، فقد فتح قبره بعد أكثر من ثلاثين عامًا، ونقلوه إلى مكان آخر، فلم يتغير منه إلا شعيرات في أحد شِقّي لحيته، فعن المثنى بن سعيد قال: أتى رجلٌ عائشة بنت طلحة فقال: رأيت طلحة في المنام فقال: قل لعائشة تحولني من هذا المكان، فإن النَّزَّ - الرطوبة أو الماء - قد آذاني. فركبت في حشمها، فضربوا عليه بناء واستثاروه. قال: فلم يتغير منه إلا شعيرات في أحد شَقي لحيته، أو قال: رأسه، وكان بينهما بضع وثلاثون سنة(1)، فرضي الله عن طلحة وسائر الصحابة أجمعين.
11- سعد بن أبى وقاص يدعو على من يقع في عثمان وعلىّ وطلحة والزبير رضي الله عنهم: عن سعيد بن المسيب أن رجلاً كان يقع في طلحة والزبير وعثمان وعلىّ رضي الله عنهم فجعل سعد ينهاه ويقول: لا تقع في إخواني، فأبى، فقام فصلى ركعتين ثم قال: اللهم إن كان سخطًا لك فيما يقول، فأرني فيه اليوم آية واجعله عبرة، فخرج الرجل فإذا ببختي يشق الناس، فأخذه بالبلاط فوضعه بين كركرته(2)والبلاط، فسحقه حتى قتله. قال سعيد ابن المسيب: فأنا رأيت الناس يتبعون سعدًا ويقولون: هنيئًا لك أبا إسحاق أجيبت دعوتك(3).
__________
(1) أصحاب الرسول (1/270).
(2) الكركرة: الصدر.
(3) البداية والنهاية (7/259).(2/220)
المبحث الثاني : معركة صفين (37هـ)
أولاً: تسلسل الأحداث التي قبل المعركة:
1- أم حبيبة بنت أبى سفيان ترسل النعمان بن بشير بقميص عثمان إلى معاوية وأهل الشام: لما قُتل عثمان، رضي الله عنه، أرسلت أم المؤمنين، أم حبيبة بنت أبى سفيان إلى أهل عثمان؛ أرسلوا إلىّ بثياب عثمان التي قُتل فيها، فبعثوا إليها بقميصه مضرّجًا بالدم، وبخصلة الشعر التي نتفت من لحيته، ثم دعت النعمان بن بشير، فبعثته إلى معاوية، فمضى بذلك وبكتابها(1)، وجاء في رواية: خرج النعمان بن بشير ومعه قميص عثمان مضمخ بالدماء، ومعه أصابع نائلة التي أصيبت حين دافعت عنه بيدها(2)، وكانت نائلة بنت الفرافصة الكلبية زوج عثمان كلبية شامية(3)، فورد النعمان على معاوية بالشام، فوضعه معاوية على المنبر ليراه الناس، وعلق الأصابع في كم القميص يرفع تارة ويوضع تارة، والناس يتباكون حوله، وحث بعضهم بعضًا على الأخذ بثأره(4)، وجاء شرحبيل بن السمط الكندي وقال لمعاوية، كان عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وألا فاعتزلنا(5). وآلي رجال الشام أن لا يمسوا النساء ولا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان ومن عرض دونهم بشيء أو تفنى أرواحهم(6)، وكان ذلك ما يريده معاوية، فقد كانت الصورة التي نقلها النعمان بن بشير إلى أهل بشعة بشعة؛ مقتل الخليفة، سيوفًا مصلته من الغوغاء على رقاب الناس، بيت المال منتهكًا مسلوبًا، وأصابع نائلة مقطوعة، فهاجت النفوس والعواطف، واهتزت المشاعر، وتأثرت بها القلوب، وذرفت منها العيون، ولا غرابة بعد هذا إطلاقًا أن نرى إصرار معاوية ومن معه من أهل الشام بالإصرار على المطالبة بدم عثمان، وتسليم القتلة للقصاص قبل البيعة، وهل نتصور أن يتم مقتل أمير
__________
(1) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين: ص(359).
(2) البداية والنهاية (7/539).
(3) تاريخ الدعوة الإسلامية، محمد جميل: ص(398).
(4) البداية والنهاية (7/539) سندها ضعيف.
(5) الأنساب (4/418)، تاريخ الدعوة الإسلامية: ص(398).
(6) تاريخ الطبري (5/600).(2/221)
المؤمنين وسيد المسلمين من حاقدين محتلين متآمرين، ولا يتماوج العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه للقصاص من أصحاب هذه
الجريمة البشعة؟! (1).
2- دوافع معاوية في عدم البيعة: كان معاوية، رضي الله عنه، واليًا على الشام في عهد عمر وعثمان، رضي الله عنهما، ولما تولى الخلافة علىٌّ أراد عزله وتولية عبد الله بن عمر، فاعتذر بن عمر، فأرسل علىٌّ سهل بن حنيف بدلاً منه، إلا أنه ما كاد يصل مشارف الشام (وادي القرى) حتى عاد من حيث جاء، إذ لقيته خيل لمعاوية عليها حبيب بن مسلمة الفهرى، فقالوا له: إن كان بعثك عثمان فحيهلا بك وإن كان بعثك غيره فارجع(2). لقد امتنع معاوية وأهل الشام عن البيعة ورأوا أن يقتص على – رضي الله عنه – من قتلة عثمان ثم يدخلون البيعة(3)، وقالوا: لا نبايع من يؤوى القتلة(4)، وتخوفوا على أنفسهم من قتلة عثمان الذين كانوا في جيش على، فرأوا أن البيعة لعلى لا تجب عليهم، وأنهم إذا قاتلوا على ذلك كانوا مظلومين، قالوا: لأن عثمان قتل مظلومًا باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر على، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا بايعنا ظلمونا واعتدوا علينا وضاع دم عثمان، وكان معاوية – رضي الله عنه – يرى أن عليه مسئولية الانتصار لعثمان والقود من قاتليه، فهو ولى دمه، والله يقول: { وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء:33]، لذلك جمع معاوية الناس، وخطبهم بشأن عثمان وأنه قتل مظلومًا على يد سفهاء منافقين لم يقدروا الدم الحرام، إذ سفكوه في الشهر الحرام في البلد الحرام، فثار الناس، واستنكروا وعلت الأصوات – وكان منهم عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام أحدهم – واسمه مرة بن كعب – فقال: لولا حديث سمعته
__________
(1) معاوية بن أبى سفيان للغضبان: ص(178- 183).
(2) تاريخ الطبري (5/466).
(3) البداية والنهاية (7/129).
(4) العواصم من القواصم: ص(162).(2/222)
من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلمت، وذكر الفتن فقربها، فمر رجل متقنع في ثوب، فقال: هذا يومئذ على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، فأقبلت عليه بوجهه فقلت: هذا؟ قال: نعم(1).
وهناك حديث آخر له تأثيره في طلب معاوية القود من قتلة عثمان وكان منشطًا ودافعًا قويًا للتصميم على تحقيق الهدف، وهو: عن النعمان بن بشير عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان من آخر كلمة أن ضرب منكبه، فقال: «يا عثمان إن الله عسى أن يلبسك قميصًا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثًا، فقلت لها: يا أم المؤمنين فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله ما ذكرته، قال: فأخبرته معاوية بن أبى سفيان فلم يرض بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إلى به، فكتبت إليه به كتابًا(2).
لقد كان الحرص الشديد على تنفيذ حكم الله في القتلة السبب الرئيسي في رفض أهل الشام بزعامة معاوية بن أبى سفيان بيعة على بن أبى طالب، ورأوا أن تقديم حكم القصاص مقدم على البيعة، وليس لأطماع معاوية في ولاية الشام، أو طلبه ما ليس له بحق، إذ كان يدرك إدراكًا تامًا أن هذا الأمر في بقية الستة من أهل الشورى، وأن عليًا أفضل منه وأولى بالأمر منه(3)، وقد انعقدت البيعة له بإجماع الصحابة بالمدينة، وكان اجتهاد معاوية يخالف الصواب.
__________
(1) صحيح سنن ابن ماجه (1/240).
(2) مسند أحمد رقم (24045)، حديث صحيح.
(3) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد على: ص(112).(2/223)
3- معاوية يرد على أمير المؤمنين علىّ رضي الله عنهما: بعث على رضي الله عنه كتبًا كثيرة إلى معاوية فلم يرد عليه جوابها، وتكرر ذلك مرارًا إلى الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، ثم بعث معاوية طُومارًا(1) مع رجل، فدخل به على علىّ فقال له على: ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القَوَد(2)،كلهم موتور(3) تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال على: اللهم إنيّ أبرأ إليك من دم عثمان. ثم خرج رسول معاوية من بين يدي على فهمَّ به أولئك الخوارج الذين قتلوا عثمان يريدون قتله، فما أفلت إلا بعد جهد(4).
__________
(1) الطومار: الصحيفة.
(2) القود: القاتل بالقتيل.
(3) الموتور: صاحب الثأر.
(4) البداية والنهاية (7/240).(2/224)
4- تجهيز أمير المؤمنين على لغزو الشام واعتراض الحسن على ذلك: بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين على، عزم الخليفة على قتال أهل الشام، كتب إلى قيس بن سعد بمصر يستنفر الناس لقتالهم، وإلى أبى موسى بالكوفة، وبعث إلى عثمان بن حُنيف بذلك، وخطب الناس فحثّهم على ذلك، وعزم على التجهز، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه وخرج من أمره ولم يبايعه مع الناس، وجاء إليه ابنه الحسن بن على فقال: يا أبه دَعْ هذا فإنّ فيه سفك دماء المسلمين، ووقوع الاختلاف بينهم، فلم يقبل منه ذلك، بل صمم على القتال، ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد ابن الحنفية، وجعل ابن العباس على الميمنة، وعمر بن أبى سلمه على الميسرة، وقيل: جعل على الميسرة عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، وجعل على مقدمته أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبى عبيدة، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يبق شيء إلا أن يخرج من المدينة قاصدًا الشام، حتى جاءه ما شغله عن ذلك(1)، وقد تم تفصيل ذلك من خروج عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة إلى معركة الجمل.
__________
(1) البداية والنهاية (7/240، 241).(2/225)
5- بعد معركة الجمل أرسل أمير المؤمنين علىٌّ جرير بن عبد الله إلى معاوية: ذُكر أن المدة بين خلافة أمير المؤمنين على إلى فتنة السبئية الثانية أو ما يُسمى البصرة أو معركة الجمل، خمسة أشهر وواحد وعشرون يومًا، وبين دخوله الكوفة شهر، وبين ذلك وخروجه إلى صفين ستة أشهر(1)، وروى شهران أو ثلاثة(2) وقد كان دخول أمير المؤمنين الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وثلاثين، فقيل له: انزل بالقصر الأبيض، فقال: لا، إن عمر بن الخطاب كان يكره نزوله، فأنا أكره لذلك، فنزل في الرحبة وصلى بالجامع الأعظم ركعتين ثم خطب الناس فحثهم على الخير، ونهاهم عن الشر، ومدح أهل الكوفة في خطبته هذه، ثم بعث إلى جرير بن عبد الله وكان على همذان من زمان عثمان، وإلى الأشعت بن قيس وهو على نيابة أذربيجان من أيام عثمان يأمرهما أن يأخذا البيعة له على من هُنالك ثم يُقبلان إليه، ففعلا ذلك، فلما أراد على أن يبعث إلى معاوية – رضي الله عنه – يدعوه إلى بيعته، قال جرير بن عبد الله البجلى: أنا أذهب إليه يا أمير المؤمنين، فإنّ بيني وبينه وُدًا، فآخذ لك البيعة منه، فقال الأشتر: لا تبعثه يا أمير المؤمنين، فإني أخشى أن يكون هواه معه. فقال على: دعه. فبعثه وكتب معه كتابًا إلى معاوية يعلمه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ويخبره بما كان في وقعة الجمل، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه الناس، فلمّا انتهى إليه جرير بن عبد الله، أعطاه الكتاب وطلب معاوية عمرو بن العاص ورءوس أهل الشام فاستشارهم، فأبوا أن يبايعوا حتى يقتل قتلة عثمان، أو أن يسلم إليهم قتلة عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلهم عن آخرهم، فرجع جرير إلى على فأخبره بما قالوا، فقال الأشتر: ألم أنْهك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرًا؟ فلو كنت بعثتني لما فتح معاوية بابًا إلا أغلقته. فقال له
__________
(1) مروج الذهب (2/360).
(2) التاريخ الصغير للبخاري (1/102).(2/226)
جرير: لو كنت ثمّ لقتلوك بدم عثمان، فقال الأشتر: والله لو بعثتني لم يُعْيِني جواب معاوية، ولأعجلنّه عن الفكرة، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأمثالك حتى يستقيم أمر هذه الأمَّة. فقام جرير مُغْضبًا فأقام بقرقيساء، وكتب إلى معاوية يخبره بما قال وقيل له، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم عليه(1)، وهكذا كان الأشتر سببًا في إبعاد الصحابي جرير بن عبد الله الذي كان واليًا على قرقيسياء وعلى غيرها ورأسًا في قبيلته بجيلة، ويضطره إلى مفارقة أمير المؤمنين على. وهذا الصحابي جرير بن عبد الله البجلى قال: ما رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا تبسم في وجهي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «يطلع عليكم من هذا الباب رجل من خير ذي يمن، على وجهه مسحةُ مَلَك»(2).
6- مسير أمير المؤمنين إلى الشام: استعد أمير المؤمنين على لغزو الشام، فبعث يستنفر الناس(3)، وجهز جيشًا ضخمًا اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات ضعيفة(4) إلا رواية واحدة حسنة الإسناد ذكرت أنه سار في خمسين ألفًا(5).
__________
(1) البداية والنهاية (7/265).
(2) مسلم رقم (2475).
(3) الإصابة (1/123، 124) نقلاً عن الحاكم بسند حسن.
(4) من قال: مائة وخمسون ألفًا أو يزيدون، البداية والنهاية (7/260)، مائة وعشرون ألفًا: المعرفة والتاريخ (3/13) بسند منقطع، وقدر بتسعين ألفًا: تاريخ خليفة بن خياط: ص(193).
(5) تاريخ خليفة: ص(193) بسند حسن.(2/227)
وكان مكان تجمع جند أمير المؤمنين بالنخيلة(1)، وهو على ميلين من الكوفة آنذاك، فتوافدت عليه القبائل من شتى إقليم العراق(2)، واستعمل أمير المؤمنين علىٌّ أبا مسعود الأنصاري، وبعث من النخيلة زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثمانية آلاف مقاتل، وبعث شريح بن هانئ في أربعة آلاف، ثم خرج على رضي الله عنه بجيشه إلى المدائن (بغداد) فانضم إليه فيها من المقاتلة وولى عليها سعد بن مسعود الثقفي، ووجه منها طليعة في ثلاثة آلاف إلى الموصل(3)، وسلك رضي الله عنه طريق الجزيرة الرئيسي على شط الفرات الشرقي حتى بلغ قرب قرقيسياء(4)، فأتته الأخبار بأن معاوية قد خرج لملاقاته وعسكر بصفين، فتقدم على إلى الرقة(5)، وعبر منها الفرات غربًا ونزل على صفين(6).
__________
(1) موقع قرب الكوفة من جهة الشام، معجم البلدان (5/278).
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(188).
(3) تاريخ الطبري (5/603) بسند حسن إلى عوانة منقطعًا.
(4) فرقيسياء:بلد يقع على نهر الخابور عند مصبه في الفرات – معجم البلدان (4/328).
(5) الرقة: مدينة مشهورة – في سوريا اليوم – على نهر الفرات الشرقي، معجم البلدان (3/153).
(6) تاريخ الطبري (5/604).(2/228)
7- خروج معاوية إلى صفين: كان معاوية جادًا في مطاردة قتلة عثمان، رضي الله عنه، فقد استطاع أن يترصد بجماعة ممن غزوا المدينة من المصريين أثناء عودتهم وقتلهم، ومنهم أبو عمرو بن بديل الخزاعى(1)، ثم كانت له أيد في مصر وشيعة في أهل «خربتا» تطالب بدم عثمان، رضي الله عنه، وقد استطاعت هذه الفرقة إيقاع الهزيمة بمحمد بن أبى حذيفة في عدة مواجهات عام 36هـ، كما استطاع أيضًا أن يوقع برءوس مدبري ومخططي غزو المدينة من المصريين، مثل عبد الرحمن بن عديسى، وكنانة بن بشر، ومحمد بن حذيفة فحبسهم في فلسطين، وذلك في الفترة التي سبقت خروجه إلى صفين، ثم قتلهم في شهر ذي الحجة عام 36هـ(2)، وعندما علم معاوية بتحرك جيش العراق جمع مستشاريه من أعيان أهل الشام، وخطب فيهم وقال: إن عليًا نهد إليكم في أهل العراق..فقال ذو الكلاع ألحميري: عليك أمرأى وعلينا امفعال(3)(4).
__________
(1) المحن لأبى العرب التميمي: ص(124)، خلافة على، عبد الحميد: ص(191).
(2) خلافة على، عبد الحميد: ص(191).
(3) لغة حمير في إبدال لام (أل) التعريف ميمًا؛ أي: عليك الرأي وعلينا الفعال.
(4) الإصابة (1/480)، خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(192).(2/229)
وكان أهل الشام قد بايعوا معاوية على الطلب بدم عثمان، رضي الله عنه، والقتال(1)، وقد قام عمرو بن العاص، رضي الله عنه، بتجهيز الجيش وعقد الألوية، وقام في الجيش خطيبًا يحرضهم، فقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم وأوهنوا شوكتهم، وفلوا حدهم، ثم إن أهل البصرة مخالفون لعلى قد وترهم وقتلهم، وقد تفانت صناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار في شرذمة قليلة، ومنهم من قد قتل خليفتكم، فالله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تبطلوه(2)، وسار معاوية في جيش ضخم، اختلفت الروايات في تقديره، وكلها روايات منقطعة أسانيدها، وهي عين الروايات التي قدرت جيش على رضي الله عنه، فقدر بمائة ألف وعشرين ألفًا(3)،وقدر بسبعين ألف مقاتل، وقدر بأكثر من ذلك بكثير(4)، إلا أن الأقرب للصواب أنهم ستون ألف مقاتل، فهي وإن كانت منقطعة الإسناد إلا أن راويها صفوان بن عمرو السكسى، حمصي من أهل الشام ولد عام (72هـ) وهو ثبت ثقة، وقد أدرك خلقًا ممن شهد صفين، كما يتبين من دراسة ترجمته(5)، والإسناد إليه صحيح(6)، وكان قادة جيش معاوية على النحو التالي: عمرو بن العاص على خيول أهل الشام كلها، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلهم، وذو الكلاع الحميري على ميمنة الجيش، وحبيب بن مسلمة على ميسرة الجيش، وأبو الأعور السلمي على المقدمة. هؤلاء هم القادة الكبار وتحت كل قائد من هؤلاء قادة وزعوا حسب القبائل، وكان هذا الترتيب عند مسيرهم إلى صفين، ولكن أثناء الحرب تغير بعض القادة وظهر قادة آخرون مما اقتضته الظروف، ولعل هذا يكون السبب في اختلاف أسماء القادة في بعض المصادر(7)
__________
(1) أنساب الأشراف (2/52) بسنده منقطع، خلافة على: ص(192).
(2) تاريخ الطبري (5/601) بسند منقطع.
(3) خلافة على بن أبى طالب: ص(194)، المعرفة والتاريخ (3/313).
(4) خلافة على: ص(194)، تاريخ خليفة: ص(193).
(5) سير أعلام النبلاء (6/380).
(6) خلافة على بن أبى طالب: ص(194).
(7) امتداد العرب في صدر الإسلام صالح العلى: ص(73)، خلافة على: ص(194).(2/230)
.
وبعث معاوية أبا الأعور السلمي مقدمة للجيش، وكان خط سيرهم إلى الشمال الشرقي من دمشق، ولما بلغ صفين أسفل الفرات، عسكر في سهل فسيح، إلى جانب شريعة في الفرات، ليس في ذلك المكان شريعة غيرها، وجعلها في حيزه(1).
8- القتال على الماء: وصل جيش على رضي الله عنه إلى صفين، حيث عسكر معاوية، ولم يجد موضعًا فسيحًا سهلاً يكفي الجيش، فعسكر في موضع وعر نوعًا ما؛ إذ أغلب الأرض صخور ذات كدي وأكمات(2)، فوجئ جيش العراق بمنع معاوية عنهم الماء، فهرع البعض إلى على رضي الله عنه يشكون إليه هذا الأمر، فأرسل على إلى الأشعت بن قيس فخرج في ألفين ودارت أول معركة بين الفريقين انتصر فيها الأشعت واستولى على الماء(3)، إلا أنه قد وردت رواية تنفى وقوع القتال في أصله مفادها أن الأشعت بن قيس جاء إلى معاوية فقال: الله الله يا معاوية في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -! هبوا أنكم قتلتم أهل العراق، فمن للبعوث والذرارى؟ إن الله يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] قال معاوية: فما تريد؟ قالوا: خلوا بيننا وبين الماء. فقال لأبى الأعور: خلَّ بين إخواننا وبين الماء(4). وقد كان القتال على الماء في أول يوم تواجها فيه في بداية شهر ذي الحجة فاتحة شر على الطرفين المسلمين، إذ استمر القتال بينهما متواصلاً طوال هذا الشهر، وكان القتال على شكل كتائب صغيرة، فكان على رضي الله عنه يخرج من جيشه كتيبة صغيرة يؤمر عليها أميرًا، فتقتتلان مرة واحدة في اليوم، في الغداة أو العشي، وفي بعض الأحيان تقتتلان مرتين في اليوم، وكان أغلب من يخرج من أمراء الكتائب في جيش على، الأشتر، وحجر بن عدى، وشبث بن ربعي، وخالد
__________
(1) صفين، نصر بن مزاحم: ص(160، 161).
(2) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد: ص(196)، النصر المبين.
(3) مصنف ابن أبى شيبة (15/24) بسند حسن.
(4) سير أعلام النبلاء (2/41)، مرويات أبى مخنف: ص(296).(2/231)
بن المعتمر، ومعقل بن يسار الرياحي، ومن جيش معاوية أغلب من يخرج، حبيب بن مسلمة، وعبد الرحمن بن خالد ابن الوليد، وعبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأبو الأعور السلمي، وشرحبيل بن السمط، وقد تجنبوا القتال بكامل الجيش خشية الهلاك والاستئصال، وأملاً في وقوع صلح بين الطرفَين، تصان به الأرواح الدماء(1).
9- الموادعة بينهما ومحاولات الصلح: ما إن دخل شهر المحرم، حتى بادر الفريقان إلى الموادعة والهدنة طمعًا في صلح يحفظ دماء المسلمين، فاستغلوا هذا الشهر في المراسلات بينهم، ولكن المعلومات عن مراسلات هذه الفترة – شهر المحرم – وردت من طرق ضعيفة(2)، مشهورة، إلا أن ضعفها لا ينفى وجودها، كان البادئ بالمراسلة أمير المؤمنين على ابن أبى طالب رضي الله عنه، فأرسل بشير بن عمرو الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وشبث بن ربعي التميمي إلى معاوية، رضي الله عنه، يدعوه كما دعاه من قبل إلى الدخول في الجماعة والمبايعة، فرد معاوية عليه برده السابق المعروف، بتسليم قتلة عثمان أو القود منهم أولاً، ثم يدخل في البيعة، وقد تبين لنا موقف على من هذه القضية(3)، كما أن قراء الفريقين، قد عسكروا في ناحية من صفين، وهم عدد كبير، قد قاموا بمحاولات للصلح بينهما، فلم تنجح تلك المحاولات لالتزام كل فريق منهما برأيه وموقفه(4)، وقد حاول اثنان من الصحابة، وهما أبو الدرداء، وأبو أمامة، رضي الله عنهما، الصلح بين الفريقين، فلم تنجح مهمتهما أيضًا لنفس الأسباب السابقة، فتركا الفريقين ولم يشهدا معهما أمرهما(5)، وكذلك حضر مسروق بن الأجدع – أحد كبار التابعين- فوعظ،
__________
(1) خلافة على بن أبى طالب، عبد الحميد ص197، 198، البداية والنهاية (7/266)، تاريخ الطبري (5/614).
(2) تاريخ الطبري (5/612، 613)، خلافة على بن أبى طالب: ص(199).
(3) تاريخ الطبري (5/613)، خلافة على بن أبى طالب: ص(19).
(4) المصدر نفسه (5/614).
(5) البداية والنهاية (7/270).(2/232)