رجال اختلف فيهم الرأي
\\ من أرسطو إلى لويس عوض \\
أنور الجندي
(1)
لطفي السيد
وأكذوبة أستاذ الجيل
خلفت لنا الفترة مسلمات خطيرة وكلمات دخيلة وحاولت سحب كثيرة من سحب الغزو الفكري والتغريب أن ترسم صورة خادعة لبعض الشخصيات وكان أخطر ما أطلق في هذه الفترة كلمة عميد الأدب على الدكتور طه حسين وأستاذ الجيل لطفي السيد فإلى أى مدى كان هذا اللقب صحيحاً بالنبة لمنشيء حزب الأمة مترجم أرسطو والخصم الخصيم للعروبة وللوحدة الإسلامية جميعاً.
وفي الحق إن اسم لطفي السيد لمع لمعاناً شديداً وخدع به كثيرون وكان لامتداد العمر وتغير الأوضاع واقتناص بعض الفرص التي جاءت بها الظروف عاملا من عوامل القداسة إلى سنيت بها مثل هذه الشخصيات بالرغم من فساد جوهرها.
وليس علينا أن نصدر حكما جازماً على شخصية ما يسلم به الجميع ولكن علينا أن نلقى الأضواء الكاشفة على مثل هذه الشخصية من واقع التاريخ وبالوثائق الثابتة ثم ندع القارئ ليحكم هو: هل كان لطفي السيد حقيقة أستاذ الجيل وأي جيل.
أولا: الدعوة إلى قصر التعليم على أبناء الأعيان باعتبار أنهم وحدهم الذين سيتولون الحكم ومقاومة تعليم سواء الأمة ومعارضة الاتجاه إلى المجانية وذلك حتى يمكن المحافظة على وجود طبقة معينة تتولى حكم البلاد دون أن يتاح ذلك لباقي أفراد الشعب.
وقد رد عليه مصطفى كامل صاحب اللواء ورئيس الحزب الوطني ولخص آراءه وكشف عن فسادها.(1/1)
ثانيا: الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمبشرون (مولار وويلكوكس) وكان أبرز ما دعا إليه إبطال الشكل وتغيره بالحروف اللينة وتسكين أواخر الكلمات وإحياء الكلمات العامية المتداولة وإدخالها في صلب اللغة الفصحى والنزول باللغة المكتوبة إلى ميدان التخاطب العامي وكانت وجهة دعوته: تمصير العربية بإحياء العامية "مقالاته في الجريدة خلال شهري إبرايل ومايو 1913 ) وقد رد عليه عبد الرحمن البرقوقي مصطفى صادق الرافعي بما يكشف زيف هذه الاتجاه.
ثالثا: مقاومة التضامن العربي الإسلامي وقد عارض مساعدة المصريين لجيرانهم فى طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911 وكتب في هذه المعنى تحت عنوان "سياسة المنافع : لا سياسة العواطف" مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى إلتزام الحياد المطلق فى هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر فى سبيل أمر لا يفيد بلادهم وقد أثارت هذه المقالات على لطفي السيد عاطفة بل وطعنا جارحا على حد تعبير تلميذه الدكتور محمد حسين هيكل فى مذكراته .
رابعا: أيد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية في التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ودعا إلى أن تملك هذه الجاليات في الاراضى المصرية فيكون لها الحق فى التملك والسيطرة على البنوك والتجارة وغيرها.
خامسا: مجد اللورد كرومر: الحاكم البريطانى الذى أذل المصريين لمدة ربع قرن مسيطراً على سياسة البلاد وساحقاً لكرامتها ومغتصباً لثروتها وحياتها يوم خروجه من البلاد تحية الأبطال وقال عنه.(1/2)
"أمامنا الآن رجل من أعظم عظماء الرجال ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال: هو اللورد كرومر وقال: لو بقي اللورد كرومر عاماً واحداً فى منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته" نشر هذه الجريدة فى نفس اليوم الذى ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا، وقال لهم أن الاحتلال البريطاني باقى إلى الأبد.
سادسا: رسم لطفي السيد خلال عمله فىالجريدية (1908 – 19149 منهجا للحياة الاجتماعية والسياسية والتوبوية والاقتصادية يقوم على التبعية العامة للنفوذ الأجنبى والاحتلال البريطاني والفكر الغربي تحت اسم عبارة ماكرة خادعة هى "مصر للمصريين" وقاوم بهذا الفكر ذلك الاتجاه الأصيل الذى كان يحمل لواءه دعاة الوطنية الصادقة والفكر الإسلامى النير وكون مدرسة تحقق لها بعد الحرب العالمية الأولى السيطرة على مقدرات الأمور بعد أن أقصى رجال الوطنية الحقة.
سابعا: تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو ( التى ترجمت من الفرنسية ) (السياسة الكون والفساد. الأخلاق) ، وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مرتجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة فى دار الكتب المصرية وذلك بشهادة عديد من معصري هذه الفترة.
(الاستاذ أحمد عابدين مدير دار الكتب السابق لا يزال حيا يرزق).
ثامنا: بالرغم من دعوة لطفى السيد العريضة إلى الدستور والحرية فإن الوزارات التي قبل الاشتراك فيها كانت كلها تتسم بطابع واحد فهي جميعا وزارات انقلاب ضد الدستور والبرلمان الحريات العامة يقول الاستاذ فاروق عبد القادر: أن الباحث في حياة لطفي السيد ليس بوسعه أن يتجاهل هذا التناقض كيف للرجل الذى كتب مطالبا بالدستور مدافعا عن الحرية أن يشترك في وزارات عبثت بالدستور وصادرت الحرية. كيف يشترك فى وزارات طابعها الإرهاب والسطو على الحريات.(1/3)
تاسعاً: إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان "الذين وصفهم بأنهم" أصحاب المصالح الحقيقية وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته لشئ.
هذه مجموعة من الخطوط العامة نضعها بين يدي القاريء العربى المثقف دون أن نقدم حكما على لطفى السيد وندعه هو أن يصدر هذا الحكم. ولقد تعددت المصادر والأبحاث التي تكشف حقيقة هذه الرجل فليرجع إليها من يشاء وكلها تجمع على أن هذه الدعوة التى حملها لطفي السيد إنما هي خطة دقيقة محكمة من خطط الاستعمار الغربي والنفوذ الأجنبي، فإن اللورد كرومر أراد في إطار عمل مرسوم أن ينشئ فى مصر جيلا جديداً يسير فى ركب الاستعمار معجبا به مقدراً له ومحبا ولذلك عمل خلال عشرين سنة أو يزيد على صياغة هذا الجيل عن طريق المدرسة وعن طريق الثقافة وكانت دعوته الملحة الحارة أن بريطانيا ستسلم مصر لأبنائها متى ظهر هذا الجيل الذى يعمل بالتعاون مع الاستعمار ولفت نظر الشباب المتعلم وهم جميعا من أبناء الطبقة التي أنشأها النفوذ الاستعماري وسودها وجعلها مركز القيادة السياسية إلى أنهم هم حكام مصر فى المستقبل القريب .. وكان حريصا على أن تتشكل هذه القوة أو هذا الحزب فى نفس الوقت الذي كان الاحتلال يضرب القوى الوطنية وأصحاب الأصالة ليقضي عليهم ويفرغ البلاد منهم وسلمها لهذا الجيل الذى كان من قيادته: لطفي السيد وسعد زغلول وعبدالعزيز فهمى وقد تشكل حرب الأمة من مجموعة من أصحاب النفوذ وكبار الباشوات والملاك مثال محمود سليمان وحسن عبد الرازق وحمد الباسل وفخري عبد النور وسليمان أباظة وعبدالرحيم الدمرداش والطرزى وغيرهم وكان رأي هؤلاء أن السلطة الفعلية قد آلت كلها(1/4)
إلى كرومر الذى يمثل سلطة الاحتلال وأن مصالحهم الشخصية تقضي عليهم أن يكونوا على وفاق معهم فألفوا حزبهم بصفة رسمية في 21 سبتمبر 1907 برئاسة محمود سليمان باشا وتولى لطفي السيد قيادة فكرهم وصحيفتهم التى جمعوا لاه فى ذلك الوقت مبلغ 30 ألف جنيه: وقد ظهرت الجريدة فى 9 مارس 1907 تصور الاحتلال على أنه حقيقة واقعة وترى أن عدم الاعتراف بشريعته لا تعني عدم وجوده ولا يقلل من سلطته أو نفوذه وكانت ترى أن هؤلاء المحتلين ماضون في طريقهم مستقلون بتصريف الأمور رضي المصريون بذلك أم كرهوا وأن التخلص من الاحتلال يحتاج إلى قوة لم تتوفر للمصريين وأن دعاة الحركة الوطنية خياليون ينفقون الوقت فيما لا طائل تحته وأنهم أصحاب خيال وتهايج.
وبذلك استطاع لطفي السيد أن يرسي مفاهيم الإقليمية المصرية الضيقة التي تكره العرب وتكره المسلمين وتعارض كل تقارب وكل صلة بل وتكره الاتصال بالفكر الإسلامي الذي هو أساس الثقافة والتعليم وقد صور هذا المعنى مستشرق غربي هو ألبرت حوراني حين قال عن لطفي السيد ما يلى: كان يرى أن بريطانيا قوية وأن لها مصالح جوهرية في مصر وأنها هي نفسها قد أعلنت عن بقائها فى مصر إلى أن تصبح هذه قادرة على حماية المصالح وإذن لا يمكن إخراجها بالقوة.(1/5)
وقد أعلنت بريطانيا تحديد احتلالها وخلقت الشعور بأنها باقية إلى الأبد وأن مصلحة مصر تقضي التعاون معها في أي تدبير تتخذه في سبيل إنماء قوة البلاد وهكذا كان ينفث لطفي السيد سموم التثبيط والدعة في وجه دعاة الوطنية ولا يقف عند هذا الحد بل يهمهم بأنهم خياليون مغالون فى الخيال ويتهم خطتهم بأنها ولاء لتركيا بينما لم يكن مصطفى كامل ومحمد فريد إلا دعاة إلى الحرية والاستقلال والجلاء دون أن يلينوا أي لين لتقبل وعود بريطانيا وكانوا في دعوتهم لا يستهدفون العودة إلى النفوذ التركي العثماني وإنما كانوا يؤمنون بأن حركة الحرية يجب أن تتم داخل إطار أوسع من الإقليمية ويجب أن تكون فىيإطار الجامعة الإسلامية والمفاهيم الإسلامية الأصلية التي كانت بريطانيا عن طريق حزب الأمة تهدف إلى تجريد المصريين منها ودفعهم إلى التعبية فى التشريع والتعليم والاقتصاد لتكون مصر خاضعة تمام الخضوع للقانون الوضعي ولمفاهيم العرب فى التعليم والثقافة ولتنقطع الصلة تماما بين مصر وبين جيرانها عرباً ومسلمين وبين الفكر والثقافة فى مصر وبين الفكرالإسلامي الأصيل المستمد من القرآن والسنة.
ولقد كان لطفي السيد فى دعوته هذه ينتقض أهمية الأرضية الإسلامية للفكر والثقافة والتعليم ويغالي فى التبعية للفكر الليبرالي الغربي الذى كان فى هذه الفترة خصيصا الدين والأخلاق.(1/6)
يقول ألبرت حوراني: " إن الانطباع القوي الذى نتركه قراءة مقالات لطفي السيد التى نشرها في الجريدة "وهي كل ثروته للفكرية" هو الاندهاش من الدور الصغير الذى لعبه الإسلام فى تفكير رجل تتلمذ على "محمد عبده" لا شك أنه كان يشعر بأنه هو ومعظم مواطنيه مسلمون بالوراثة، وأنهم جزء من الأمة، لكن الإسلام لم يكن المبدأ المسيطر على تفكيره فلم يهتم بالدفاع عن الإسلام كالأفغاني، ولا يهتم كمحمد عبده بإعادة الشريعة الإسلامية إلى مركزها كأساس خلقى للمجتمع. وفى هذا يقول لست مما يتشبثون بوجوب تعلم دين بعينه أو قاعدة أخلاقية بعينها، ولكنى أقول بأن التعليم العام يجب أن يكون له مبدأ من المبادئ تتمشى عليه المتعلم من صغره إلى كبره هذا المبدأ هو مبدأ الخير والشر.
وهكذا نرى أن مفهومه للأخلاق والدين مستمد من الفكر الغربي ويعلق حوراني فيقول : وهكذا نرى أنه تخلى عن أول مبدأ من مبادئ محمد عبده واستعاض عنه بمبادئ جديدة. ويقول: لقد أخذ يطرح أسئلة جديدة لا تدور حول الشروط التى تؤدى إلى ازدهار المجتمع الإسلامي أو انحلاله، بقدر ما تدور حول الشروط التى تؤدي إلى ازدهار أي مجتمع أو انحلاله، كذلك لم تكن للمفاهيم التى أجاب بها على هذه الأسئلة هي مفاهيم الفكر الإسلامي، بل مفاهيم الفكر الأوربي حول التقدم والمجتمع الأفضل.
ويقرر حوراني أن لطفي السيد ورفاقه تأثروا بنمطين من التفكير الأوربي:
أولا: تفكير كونت ، ورينان ، وبلى ، وسبنسر ، ودور كايم الذين ذهبوا إلى أن المجتمع البشري متجه بحكم سنة التقدم نحو طور مثالي يتميز بسيطرة العقل واتساع أفق الحرية الفردية وحلول التعاقد الحر والمصلحة الفردية محل العادات والأوضاع الراهنة.
ثانيا: تفكير جوستاف لوبرن الذي يقول بفكره الطبع القومي، وأن كل شعب له بنية ذهنية ثابتة بثبوت بنيته الجسدية.(1/7)
ويقول الحورانى: إن لطفي السيد يحدد فكرة الأئمة على أساس الأرض، لا على أساس اللغة والدين، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر، وكان شعوره بوجود مصر شديد بحيث أهمل الأحرار على عناصر الوحدة الأخرى. فمعظم القاطنين في مصر يشتركون فى الأصل واللغة والدين.
سعد زغلول
دعوة صريحة إلى الكتاب المؤرخين:
انشروا مذكرات سعد زغلول المخطوطة لتشكفوا حقيقة هذه الشخصية الخادعة ولتضعوه فى مكانه الصحيح من تاريخ مصر.
إن الحقائق تكشف عن دور سعد زغلول فى:
أولا: تجميد اللغة العربية وإتاحة الفرصة للغة الانجليزية بوزارة المعارف.
ثانيا:- بعث قانون كرومر للمطبوعات لمحاكمة الصحفيين والكتاب الوطنيين.
ثالثا:- التعاون مع الأجانب لإدخال الحضارة الغربية إلى مصر العربية.
سعد زغلول
كان من أهم الأسئلة فى ندوة الاعتصام ما قدمه عدد من الشباب استفساراً عن صحة ما نشر عن تاريخ سعد زغلول من فصول في إحدى الصحف اليومية ومدى تطابق هذا مع واقع التاريخ ومن خلال نظرة إسلامية صحيحة.
ولا ريب أن شخصية سعد زغلول هي واحدة من أكثر الشخصيات العمل الوطنى فى مصر بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنه لا يمكن دراستها، ألا يفهم الاطار السياسى الذي يدأ منذ أن احتلت بريطانيا مصر وواجهت الحركة الوطنية التى قاومت النفوذ الاجنبي بقيادة مصطفى كامل ومحمد فريد وعدد من المجاهدين الذين عملت القوة البريطانية على تصفيتهم وإقصائهم وتقديم جيل جديد من أصحاب الولاء للنفوذ البريطاني وفي مقدمة هؤلاء أحمد لطفي السيد وسعد زغلول وعبد العزيز فهمي.(1/8)
هذه المرحلة السابقة لظهور هيئة الوفد المصري التي قادها سعد زغلول لها أهميتها في الكشف عن الدور الذي قام به سعد زغلول في معارضة الحركة الوطنية وكبح جماحها، وتقديم رجالها للمحاكمة كما فعل فى محاكمة فريد وهو وكبير الحقانية، وكذلك دوره في تجميد اللغة العربية وهو وزير المعارف واتاحة الفرصة للغة الانجليزية، وكذلك دوره فى إعادة بعث قانون المطبوعات القديم الذي كان كرومر قد أجاره ثم أوقفه وذلك لمحاكمة الكتاب والصحفيين الوطنيين بأقصي العقوبات، هذه الصفحة لسعد زغلول يجب أن تدرس قبل أن يقدم على المسرح كزعيم وطني بعد الحرب العالمية الأولى.
ولقد اختلفت حول سعد زغلول كتابات المؤرخين والباحثين، فوضعه كتاب الوفد وأصحاب الولاء لحزبه موضع لقداسة "وفى مقدمة هؤلاء الأستاذ العقاد". وشف عن حقيقته مؤرخو الحزب الوطني " وفي مقدمة هؤلاء الأستاذ عبد الرحمن الرافعي"، وجاءت كتابات كثيرة بعد ذلك فتضح سعد فى حجمه الصحيح، وكان فى مقدمة ذلك تلك الدعوة الصريحة الموجهة إلى المؤرخين والكتاب والباحثين أن ينشروا مذكرات سعد زغلول التى كتبها بخط يده فإنها هي وحدها القادرة على أن تقدم للناس بغير ولاء ولا خصومة حقائق هذه الشخصية ودورها وعملها وحقيقتها من خلال كتابات صاحب المذكرات نفسه، تلك التي كتبها بكل حريته وإرادته خلال فترة تزيد على ثلاثين عاما من أكتوبر 1897 إلى 1926، وتضم مراحل عضوية الجمعية التشريعية وتولية الوزارة وفترة المنفي وفترة رئاسة الوزارة وتضم ثلاثاً وخمسين كراسة فقد كان يسجل الأحداث يوما بعد يوم عقب وقوعها مباشرة.
تكشف هذه المذكرات عن أشياء كثيرة:
أولا: علاقة سعد بالإنجليز:(1/9)
يقول عن اللورد كرومر: كان يجلس معى الساعة والساعتين ويحدثني في مسائل شتى كي أنور منها فى حياتي السياسية (مذكرات سعد زغلول كراس 28، ص1516)ن والمعروف أن كرومر في تقاريره السنوية كان حريصاً على أن يذكر أنه يعد جيلا جديداً من الشباب المصرى المتفرنج الذى يعجب بالغرب ويحرص على التفاهم مع الاستعمار البريطاني وقبول العمل معهم.
ومن هنا كانت صلة كروم بسعد زغلول عن طريق صهره "مصطفى فهمى" الذى كان أول رئيس وزراء بعد الاحتلال، والذى قضى في الحكم ثلاثة عشر عاماً، وكان أثير الإنجليز محبوباً عندهم، وقد أصهر إليه سعد زغلول فأعد نفسه ليكون أول وزير مصري. ولعل من الحقائق العجيبة أن اللورد كرومر عام 1907م أعلن أنه يترك مصر مستريحاً لأنه أقام فعلا القاعدة الأساسية لاستدامة الاحتلال، وكان فى هذا العام قد ألف حزب الأمة، وأصبح لطفي السيد هو حامل لواء "الجريدة" وسعد ناظر المعارف ، وقد سخر كرومر فى خطبة الوداع الذى أقامها له رجال حزب الأمة من أولياء النفوذ الأجنبي من المصريين جميعاً، ولم يمدح فى خطابه إلا رجلا واحداً، هو سعد زغلول.
ومن هنا نجد سعد زغلول يكتب فى مذكراته أثر استعفاء كرومر من منصبه في 11/4/1907 وكان يجلس في منزله مع كل من حسن باشا عاصم ومحمود باشا شكرى عندما تلقوا خبر الاستعفاء فقال: أما أنا فكنت كمن تقع ضربة شديدة على رأسه أو كمن وخز بآلة حادة فلم يشعر بألمها لشدة هو لها ( كراس 6 ص 240) وكتب في موضع آخر يقول: "قد امتلأت رأسي أوهاماً وقلب خفقاناً وصدري ضيقاً" (كراس 6/246).(1/10)
ويقول لورد كرومر في تقريره السنوي عن تعيين سعد زغلول ناظراً للمعارف " لم يكن السبب الرئيسي في تعيينه كما يظن أحياناً أنه استياء من الحالة التى كانت تسير عليها مصلحة المعارف العمومية فلا زالت قاصرة في أن توفر أية بادرة لتغير جذري في السياسية التعليمية، إنه يرجع أساساً إلى الرغبة في ضم رجل قادر ومصري مستنير من تلك الطائفة الخاصة من المجتمع المعنية بالاصلاح في مصر".
وقال كرومر:" كما أن سعد من تلاميذ محمد عبده وأتباعه الذين أطلق عليهم "جيروند" الحركة الوطنية المصرية، والذي كان برنامجهم تشجيع التعاون مع الأجانب لادخال الحضارة الغربية إلى مصر، الأمل الذى جعل كرومر يحصر فيهم أمله الوحيد في قيام الوطنية المصرية.
وكان سعد في مقدمة الداعين لإقامة حفل لتوديع اللورد كرومر وكتب في مذكراته يعلن ضيقه بالذين انتقدوا كرومر عقب استعفائه، وقال: إن صفاته قد اتفق الكل على كمالها "كراس6/245"، وأشار إلى علاقة غورست خليفة كرومر به وأنه لما زاره قام فأوصله إلى باب حديقة دار الوكالة البريطانية.
ثانيا: أخلاقيات سعد
وتكشف المذكرات أخلاقيات سعد ومواقفه المتعددة من الحياة الاجتماعية: وأبرز هذه الجوانب علاقته بالقمار وقد كتب فيها طويلا فقال في "كراس 26 – ض1390"، " كنت أتردد بعد عودتي من أوربا على الكلوب "أي نادى محمد على" فملت إلى لعب الورق، ويظهر أن هذا الميل كان بداية المرض فإني لم أقدر بعد ذلك أن أمنع نفسي من التردد على النادي ومن اللعب وبعد أن كان بقليل أصبح بكثير من النقود وخسرت فيه مبلغا طائلا.(1/11)
وقد بدأ ذلك حوالى 1901، فقد كتب في إبريل 1913، يقول: كنت قبل 12 سنة أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللهو من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين ثم رأيت نفسى لعبت وتهورت في اللعب وأتى عليّ زمان لم أشتغل إلا به ولم أفتكر إلا فيه ولم أعلم إلا له ولم أعاشر إلا أهله حتى خسرت فيه صحة وقوة ومالا وثروة "مذكرات سعد كراس 3/129".
وكتب خلال زيارته لأوربا صيف 1908 " أفطر مع الست والباشا "أي مصطفى فهمي" وحسين "ابن محمود صدقي" في الساعة تسعة وبعد أن نتمشى مع الباشا قليلا نعود إلى البيت لتلعب البوكر مع الست وحسين إلى الساعة ثمانية ونتمشى قليلا ثم نعود لنلعب البوكر إلى الساعة 11 مساء وقد انفعل أثناء اللعب عند الخسارة وصادف أن الزهر كان يعاكس وكان زهر حسين سعيد ولكن مع ذلك كسبت ولم أخسر غير أن حارق كانت من طريقين: طريقي وطريق الست "كراس 24 ص1300 – 1301".
ويتساءل سعد عن الأسباب التى دفعته إلى المقامرة فيكتب ما يلى:
أريد أن أعرف ما أريد حتى أتمكن من معالجة نفسي من هذا الداء، هل أريد بسطة في الرزق، أنه يقبضه في الكثير الغالب، هل أريد سعة في الجاه، أنه يضيقه بما يحط من القدر في نفوس الناس، هل أريد تناسي آلام تتردد على النفس عند خلوها من الشغل وهو كثير، لا أشعر بهذه الآلام، ويقول: ما كنت أصغى لنصائح زوجتي ولا أرق لتألمها من حالتى ولا أرعوى عن نفسى، وأشار إلى توباته المتعددة، وعودته عنها فيقول: وقد بخيل لي أن كتابة هذه الخواطر وتسجيل هذه الواردات مما يساعد على الاستمرار في ارتكاب هذا الإثم، كأن النفس تجد في هذه الاعترافات المكتوبة والاشمئزازات المرسومة، فضيلة تكفها عن الإنصاف بها وعن الإقلاع عن نفس الرذيلة أو أن الاعتراف كفارة عن الذنب المقترف والجريمة المرتكبة ترجيحا.(1/12)
ويقول: إلى أوصى كل من يعيش بعدي من لهم شأن في شاني أني إذا مت من غير أن أترك اللعب أن لا يحتفلوا بجنازتي ولا يحدوا على ولا يجلسوا لقبول تعزية ولا يدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري، بل بعيداً عنهم وأن ينشروا على الناس ما كتبته في اللعب حتى يروا حالة من تمكنت في نفسه هذه الرذيلة وبئست العاقبة. الكراسة 28 ص 1571":
وتفيض مذكرات سعد زغلول بالتفاصيل المسهبة التى تبين هدى سيطرة هذه الغواية عليه ومحاولة الإقلاع عنها وللتخلص منها وعودته إليها المرة بعد المرة فقد وردت تفاصيل ضافية في الكراسات 3 و 28 و 29 و 30 في اثنى عشر موضعا من هذه الكراسات.
وقد أشارت المذكرات بوضوح إلى أثر القمار في حياة سعد وخاصة حياته الاقتصادية كما يشير إلى ذلك الدكتور " عبد لخالق لا شين"، فقد وقع سعد الذي يقتني الضياع الواسعة تحت طائلة ديون كثيرة مما دفعه عام 1910م إلى أن يبيع الضيعة التي اشتراها بناحية قرطسا "بحيرة" لقاء اثنى عشرة ألف جنيه: يقول : " بعت هذه الأطيان وذهب كل ثمنها أدراج الرياح فلم استفد منه فائدة" كما باع الضيعة الأخرى بدسونس ومطوبس عام 1918 بمبلغ 16 ألف جنيه وصاع كل إيرادات سعد في مدى عامين وكانت 3000 جنيه مرتب النار " الوزير" و 1500 جنيه إيجارات باقي أطيانه وأصبح مدينا بمبلغ 6550 جنيها وبذلك بدد سعد الكثير من ممتلكاته يقول في مذكراته "25 مارس 1912":
أصبحت منقبض الصدر، ضائق الذرع، ولم أنم ليلى بل بت وله تساورني الهموم والأحزان وأتنفس الصعداء على فرط منى من اللعب وضياع الأموال التى جمعتها بكد العمل وعرق الجبين وصيرورتي إلى حال سيئة".(1/13)
وهكذا أجهر القمار على ثروته التى كونها من المحاماة وكانت لا تقل عن 400 فدان و 18 ألف جنيه فضلا عما ورثه من صهره مصطفى فهمي: الذى كان يملك 648 فدانا، و 8600 جنيه وألف أردب قمح وألقي جنيه مواشى وكانت صفية زغلول الى أطلق عليها "أم المصريين" واحدة من ثلاث بنات خلفها مصطفى فهمي جلاد شعب مصر ثلاثة عشر عاما.
وبعد فهل هذا وحده ما تكشفه مذكرات سعد زغلول التى تطالب بطبعها وإذاعتها لترسم صورة حقيقية لهذه الزعامة التى اختلف فيها الرأى فرفعها بالهوى والصداقة والولاء السياسي لبعض الناس إلى قداسة وبطوله وخفضها آخرون بالخلاف السياسي إلى مكان آخر، وما نريد أن نظلم أحداً ولكنا تطالب بالكشف عن الحقائق عن طريق الوثائق وما يمكن أن توجد وثيقة أشد صدقا من مذكرات كتبها الرجل عن نفسه.
ومن خلال المذكرات تتكشف أشياء كثيرة خطيرة ومثيرة.
3
قاسم أمين
كانت حركة تحرير المرأة قادها قاسم أمين مؤامرة استعمارية تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم اليت المسلم حتى قال محمد فريد: إن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعا في الآداب العامة وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة وأصبحت ساحات المحاكم غاصة بقضايا هتك الأعراض وعرب الشابات من دور أهلهن.
لقد تراجع قاسم أمين بعد قليل من دعوته إلى تحرير المرأة وجاءت هدى شعراوي فاحتضنها دوائر الماسونية والتغريب واليهودية العالمية.(1/14)
في محاولة لتقويم حركة قاسم أمين لتحرير المرأة بعد أن قربت وثائق عدة تكشف عن خطة أشبه بالمؤامرة وراء هذه الدعوة، وتطرقت الأسئلة إلى أم المصريين "صفية زغلول" وإلى زعيمة النهضة النسائية في مصر " هدى شعراوي" التى دعت بعض الأقلام التى تجهل الحقيقة أو تخدع كتابها إلى إقامة تمثال لها والحقيقة أنه لكي نعرف خلفيات هذه القضية يجب أن نذكر شيئا مهما هو أن كتابا ظهر في مصر عام 1894 " أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد لمحام مصري موال لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صور فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق أربعة أغراض:
أولا: القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيا: إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثا: تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعا: منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسا: إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين.
وكان هذا المخطط هو النواة الأساسية للنفوذ الأجنبي الذى تدرس على ضوئه حركة قاسم أمين وهدى شعراوي. ذلك أنه لما تمض سنوات خمس حتى ظهر كتاب " تحرير المرأة" فكان ذلك خطوة على الطريق ظن البعض وما يزال يظن سلامتها ونقاءها وبعدها عن الهوى وتحررها من أي خلفية موحية.
فما هي هذه الخلفيات لذلك الحدث الخطير؟!
أولا: كتب داود بركات رئيس تحرير الأهرام بجريدته الصادرة في 4 مايو 1927 مقالا:(1/15)
فقال فيه: إن قاسم أمين قرأ كتاب الدوق داركير "المصريين" ورد عليه بكتاب باللغة الفرنسية وفند اتهاماته .. قلما ظهر هذا الكتاب وصف بأنه لم يكن في صف النهضة النسائية .. فقد رفع الكتاب من شأن الحجاب وعده دليلا على كمال المرأة، كما ندد بالداعيات إلى السفور وقد رأت فيه الأميرة نازلي فاضل تعريضا بها .. ثم استطرد يقول " وكانت الأميرة نازلي فاضل ولها صالون يحضره سعد زغلول ومحمد عبده وجماعة من الطامعين إلى تولي السلطة في مصر تحت قيادة النفوذ البريطاني وبرعاية اللورد كرومر".
ويقول داود بركات متابعا:
وقد أشير على جريدة المقطم – وهي لسان الانجليز في مصر في ذلك الوقت – أن تكتب ست مقالات عن الكتاب تفند أخطاء فاسم في هذا الاتجاه، ودفاعه عن الحجاب. واستنكاره اختلاط الجنسين .. ثم أوقفت الحملة بعد اتفاق الشيخ محمد عبده وسعد زغلول مع قاسم أمين على تصحيح رأيه .. وقد حمل الشيخ محمد عبده الدعوة إلى تحرير المرأة في دروسه في " الرواق العباسي " بالأزهر حين أعلن أن الرجل والمرأة متساويان عند الله . وقد ترددت آراء كثيرة بأن الشيخ محمد عبده كتب بعض فصول الكتاب أو كان له دور في مراجعتها ومما أورده لطفي السيد أنه اجتمع في جنيف عام 1897 بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وسعد زغلول وأن قاسم أمين أخذ يتلو عليه فقرات من كتاب تحرير المرأة وصفت بأنها تنم عن أسلوب الشيخ محمد عبده نفسه.
* * *
ثانيا: كتب فارس نمر صاحب المقطم مقالا في مجلة الحديث "الحلبية" عام 1939 وأشار إلى هذا الحادث فقال:
"أنه ظهر كتاب للدوق دار كير يطعن فيه على المصريين طعنا مراً، ويخص النساء بأكبر قسط منه .. إذ رماهن بالجهل وضعف مكانتهن في المجتمع .. فاهتاج الشباب وتطوع قاسم أمين للرد على كتابه.
ويستطرد فارس نمر يقول:(1/16)
وهنا أشير لحقيقة لا يكاد يعلمها إلا ندرة في مصر. هذه الحقيقة أن كتاب قاسم أمين الذى رد فيه على "دوق دار كير" لم يكن في صف النهضة النسائية التى كانت تمثلها الأميرة نازلى .. بل كان الكتاب يتناول الرد على مطاعن المؤلف الفرنسي، ويرفع من شأن الحجاب، ويعده دليلا على كمال المرأة، ويندد بالداعيات إلى السفور، واشتراك المرأة في الأعمال العامة.. ولما ظهر كتابه هذا ساء ما به إخوانه من أمثال محمد المويلحي، ومحمد بيرم، وسعد زغلول. ورأوا فيه تعريضا جارحاً بالأميرة نازلي، وتشاوروا فيما بينهم في الرد، واتفقوا أخيراً أن أتولي الكتابة عن هذا الموقف وعرض فصوله وانتقاد ما جاء به خاصا بالمرأة وبدأت في كتابة سلسلة مقالات عنه. ولكن ذلك النقد لم يرق في نظرة قضاة محكمة الاستئناف؛ ورأوا فيه مساسا بهم. لأن قاسم أفندي كان أحدهم ورأوا أن أفضل وسيلة يبذلونها لكي أكف عن الكتابة أن مؤلفه يرجوا الأميرة نازلي فاضل لكي تطلب إلى ذلك.. وتطوع الشيخ محمد عبده للقيام بهذه المهمة.. وذات مساء حضرت إلى صالون الأميرة كما حضر الشيخ محمد عبده ومحمد بيرم والمويلحي .. وبعد قليل تحدث الشيخ محمد عبده مع الأميرة في هذا الشأن.. فالتفتت إلى سموها وقالت لي: أنها لا تجد بأسا في أن أكف عن الكتابة في الموضوع .. وكانت هي لم تقرأ الكتاب ولم تعرف أنه يشمل الطعن فيما تدعو إليه .. فلما رأي ذلك محمد المويلحي قال لسموها: أنه يدهش من طلب الأميرة وخاصة لأن الكتاب تعرض لها .. فبنت الدهشة عليها، وكانت إحدى نسخ الكتاب موجودة عندها. وعبثا حاولت أن أقفل باب الحديث في هذه الشأن وخاصة بعد أن لمحت عليها معالم الاضطراب والجد والعنف .. فلما اطلعت على ما جاء به ثارت ثورة شديدة ووجهت القول بعنف إلى الشيخ محمد عبده .. لأنه توسط في هذا الموضوع .. ومرت الأيام بعد ذلك واتفق محمد عبده وسعد زغلول والمويلحي وغيرهم على أن يتقدم قاسم أمين بالاعتذار إلى سمو(1/17)
الأميرة .. فقبلت اعتباره ثم أخذت يتردد على صالونها .. وكلما مرت الأيام ازدادت في عينه، وارتفع مقامها لديه .. وإذا به يضع كتابه الأول عن المرأة الذى كان الفضل فيه للأمير نازلي والذي أقام الدنيا وأقعدها بعد أن كان أكثر الناس دعوة إلى الحجاب".
انتهى كلام فارس نمر.
ثالثا: أشارت هدى شعراوي في محاضرة لها إلى هذا المعنى، وكشفت هذا السر الذي ظل خافيا زمنا طويلا ولم يكشف إلا بعد وفاة قاسم أمين بعشرين سنة:
غير أن الذي يلفت النظر أن قاسم أمين عدل عن رأيه هذا من بعده، وتبين له أنه أخطأ الطريق .. وقد تبين هذا حين صرح قاسم أمين في حديث له إلى صحيفة "الظاهر" التى كان يصدرها المحامي محمد أبو شادي حيث أعلن رجوعه عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في "توقيت" الدعوة إلى تحرير المرأة.. هذا التصريح نشرته جريدة "الظاهر" في أكتوبر 1906.
قال قاسم أمين:
"لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الافرنج في تحرير نسائهم وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزق ذلك الحجاب .. وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولاتهم . ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختيرته من أخلاق الناس.. فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معنهن إذا خرجن حاصرات فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتى .. رأيتهم ما مرت بهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا إليها بألسنة البذاء، ثم ما وجدت زحاما في طريق فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعا .. أنني أرى أن الوقت ليس مناسبا للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذى قصدته من قبل".(1/18)
ومعنى كلام قاسم أمين أمير هذا الذي نشره قبل وفاته بعام ونصف عام أن قاسم قد اكتشف بعد سبع سنوات من دعوته "التى جاءت استدراجا ومرضاة لنفوذ وليست خالصة لوجه الله تعالى:" أنها لم تكن قائمة على أسسها الصحيحة وهي الدعوة إلى تربية الخلق والإيمان بالله، وأنها لم تكن على طريق الحق.. أو ربما أن قاسم رأى بعد أن تغيرت الظروف بزوال كرومر ووفاة محمد عبده وانطفاء نفوذ نازلي فاضل "رتيبة كروم" أن يتخفف من هذه التبعة.. وربما كان لبعض التجارب أثرها في نفسه .. ومما يروى أن صديقا عزيزاً زاره ذات مرة فلما فتح له الباب قال: جئت هذه المرة من أجل التحدث مع زوجك !! فدهش قاسم .. كيف يطلب مقابلة زوجته .. فقال له صديقه : ألست تدعو إلى ذلك؟! إذن لماذا لا تقبل التجربة مع نفسك .. فأطرق قاسم أمين صامتا .. ومما يذكر أن السيدة زوجة قاسم أمين كتبت منذ سنوات تعلن أن دعوة قاسم أمين كانت خطيرة وأنها لم تكن قائمة على أساس صحيح.
وقال محمد فريد وجدى:
أن دعوة قاسم أمين قد أحدثت تدهوراً مريعاً في الآداب العامة، وأحدثت انتشاراً مفزعاً لمبدأ العزوبة، وأصبحت ساحات المحاكم خاصة بقضايا هتك الأعراض وهرب الشابات من دور أهلهن.
ونعت الدكتورة بنت الشاطش ما تكشف من حركة تحرير المرأة مما أسمته مهزلة أليمة موجعة. تقول بنت الشاطئ:
"إن الرجال ساقونا لنعمل لحسابهم.. وهم يوهموننا أننا نعمل ويعملون معنا لحسابنا.. ذلك أن الرجال وثبوا لنا الخروج زاعمين أنهم يؤثروننا على أنفسهم.. ولكنهم كذبوا في هذا المزاعم فما أخرجونا إلا ليحاربوا بنا السآمة والضجر في دنياهم".
ثم قالت بنت الشاطئ:(1/19)
"إن المرأة دفعت ضريبة فادحة ثمنا للتطور ويكفي أن أشير في إيجاز إلى الخطأ الأكبر الذي شوه نهضتنا.. وأعني به إنحراف المرأة الجديدة عن طريقها الطبيعي وترفعها عن التفرغ لما تسميه: خدمة البيوت وتربية الأولاد .. ونحن نرى البيوت أصبحت مقفرة منهن .. أما الأبناء فتركوا لخدم .. وقد نشأ هذا الإنحراف الضال نتيجة لخطأ كبير في فهم روح النهضة .. وبلغ من سواء ما وصلت إليه أن نادت مناديا بحذف نون النسوة في اللغة كأنما لأنوثة نقص ومذلة وعار .. وأهدر الاعتراف بالأمومة كعمل من الأعمال الأصيلة لنا حتى سمعنا عن يسأل كيف تعيش أمة برئة معطلة .. يقصد بالرئة المعطلة هؤلاء الباقيات في بيوتهن يرعين الأولاد .. وزعموا أن المرأة تستطيع أن تجمع بين عملها في البيت ووظيفتها في الخارج".
انتهى كلام الدكتورة بنت الشاطئ.
***
أما ما هي ملابسات زعامة هدي شعرواي للحركة النسوية فالواقع أن هناك عدة ملابسات لا يفسرها إلا فهم تاريخ الحركة الوطنية في مصر لرجلين.. أحدهما والدها محمد باشا سلطان والآخر زوجها على باشا شعراوي.
أما والدها محمد سلطان فيقول الدكتور عبد العزيز رفاعي في كتابه "محمد سلطان أمام التاريخ":(1/20)
إنه كان من أعلام الثورة العرابية. ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والانجليز، حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير، وقد أثبت ما أورده السيد محمد رشيد رضا في كتابه: "الأستاذ الإمام محمد عبده"، جـ1 ص 258، 259، عن الدور الذي لعبته محمد سلطان في خدمة مخابرات الانجليز في سبيل الوصل إلى معسكر العرابيين في التل الكبير وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية لمعاونة الجيش الإنجليزي الزاحف والإيقاع بجيش عرابي معلناً الثقة في الجيش الغازي ومطمئنا الأهالي على حياتهم، وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين، وأبان لهم أنهم لا يستهدفون غزو البلاد، بل يستهدفون تأديب العصاة.
وتابع سلطان نشاطه فأخذ يفرق الناس عن عرابي، ويجمعهم لمعاونة الإنجليز فأرسل إلى شيخ بدو الهنادي المقيم في الصالحية ويدعى سعود الطماوي والآخر إلى محمد صالح الحوت ليتفق معهما على استمالة العربان ولم يكتف محمد سلطان بنشاطه في الجاسوسية وبث الدسائس في منطقة القناة وفي ميدان المعركة، بل مد نشاطه إلى داخل البلاد ليقضى على كل معاونة شعبية لحركة عرابي، ورافق "ولسلي" قائد القوات البريطانية للتفاوض مع مشايخ العربان.
كما كانت الأموال التى أعدها الخديو لرشوة شيوخ البدو في عهدة سلطان "راجع بلنت: التاريخ السري ومذكرة سلطان إلى الخديو في الإسماعيلية بدار المحفوظات التاريخية دوسية رقم 2".
وكان سلطان هو الذي أبلغ الخديو هزيمة عرابي، ودخل سلطان القاهرة مزهوا يتطلع لفجر جديد في حياته بعد أن سجل خيانته، وكتب تاريخها بنفسه، وقلده الخديو النيشان المجيدي الأول رفيع الشأن ووضعه على صدره بيده، وأعطاه عشرة آلاف جنيه تعويضا للأضرار التي لحقت به ثم عينه رئيسا لمجلس شورى القوانين.(1/21)
ولكن ضربة القدر لم تمهله ليتمتع بما اشترى من أطيان فداهمه مرض السرطان واشتد به المرض وتوفي في أوربا سنة 1884 ، وقد أنعم الإنجليز عليه بنيشان سان ميشيل وسان جورج الذي يخول صاحبه لقب "سير".
هذه هي خلفية الحياة الإجتماعية لقائدة النهضة النسوية والتى تزوجت وهي في الرابعة عشر من رجل غني موسر صديق لوالدها يبلغ الخمسين من العمر هو على شعراوي باشا أحد الثلاثة الكبار الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي "سعد زغلول و عبد العزيز فهمى" بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالى للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ولم يلبث شعرواي باشا أن توفي وقد كان الثلاثة هم دعاة الولاء البريطاني والتعامل مع الإنجليز والشاجبين لمفاهيم الحزب الوطني في المفاوضة قبل الجلاء.
وقد وجدت السيدة هدى شعرواي الفرصة سانحة للتبريز خاصة وأن السيدة صفية زغلول ابنة مصطفى فهمى الذى حكم مصر بالحديد والنار خلال أول الاستعمار البريطاني ثلاثة عشر عاماً وزوج سعد زغلول والمساماة بأسماء الاضداد " أم المصرين" تستأثر بالزعامة السياسية فأرادت تفتح مجالا جديداً تنفرد فيه بالزعامة فكان ذلك هو مجال المرأة خاصة وأنها نزعت نقابها في ثورة 1919.
ولقد تلقفتها جماعات تحرير المرأة العالمية والمنبثة في أوربا وخاصة في باريس وبرلين وبروكسل والتابعة للمحافل الماسونية ومنظمات الصهيونية العالمية ووجدت فيها طيراً سميناً فدعتها إلى حضور المؤتمرات النسوية العالمية التى كانت الصهيونية العالمية تديرها من وراء، والتى كانت تستهدف بأحداث الضجيج حول حقوق المرأة السياسية في البرلمان والحكم خلخلة المجتمعات الإسلامية ودفعها إلى طريق الانهيار.(1/22)
والمعروف أن هدى شعرواي لم تنطلق في دعوتها من أي منطلق إسلامي، بل على العكس من ذلك كانت سيدة سافرة رزة لها صالون ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات وكانت تنفق على ذلك أموال سلطان باشا التى دفعت ثمنها الثورة العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر .. وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا/ ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوى، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية، والانطلاق حتى كان أحدهم يقول لواحدة سألته:
" لو كنت بغير أولاد لقلت لك اتركيه ورزقك على الله، والمعروف أن السيدة هدى شعراوى لم تكن تعبأ في دعوتها بالمفهوم الإسلامي المرأة، أو تصدر عن فهم حقيقي لرسالة البيت والأسرة ولم تكن تتحرك في هذا الإطار .. وإنما كانت تضع أمامها المرأة الغربية كمثل أعلى .. وذلك فقد شجعت أسباب الزنة والأزياء والمودات المستحدثة. وكانت أجنحتها من المثقفات ثقافة فرنسية وذات الولاء الماركسى والصهيوني، ولم يكن للمفهوم الإسلامي لديهم أي أهمية.
ويقول الأستاذ حسين يوسف:
إنه لم يكن عجبا أن يعمل الاتحاد النسائي بزعامة هدى شعرواي الأهداف التي يحرص الاحتلال على الوصول إليها، وإن يردد في عام 1923 نفس المبادئ التى نادى بها مرقص فهمى من قبل، وتورط فيها قاسم أمين .. ولما كان داة تدمير مفاهيم المرأة المسلمة لا ينامون فإنهم يدعون اليوم إلى تجديد ذكرى هدى شعراوى بإقامة تمثال لها.. والهدف هو دعو هذه الأفكار المسمومة التي تستهدف تدمير الأسرة المسلمة وتحطيم البيت المسلم.
(4)
طَه حسَين
عميد الأدب العربى الذى مازالت مؤلفاته تحمل سموم الاستشراق
وتهاجم الإسلام والقرآن(1/23)
عن مجلة الاعتصام – نشرت جريدة المجتمع الكويتى، بعددها رقم 177 بتاريخ 13 من ذي القعدة سنة 1393 ( 1973/ ، مقالا مطولا كشفت فيه عن كثير من الحقائق التي لابد لأبناء الجيل الإسلامي الحالي، أن يعرفوها، حتى لا ينخدعوا بالدعاوات الكاذبة التى ملأت الآفاق في رثاء طه حسين، وتمجيده في حين أنه كان صنيعة لأعداء الإسلام، وداعية للمدنية الغربية بكل مفاسدها وشرورها.
وفيما يلي بعض ما تضمنه المقال المذكور من وقائع، وفيها الكفاية لإدراك الحقيقة.
استطارت في صحف البلاد العربية كلمات عجلى ومرات سريعة خاطفة حاولت أن تسد فراغاً صحفياً على وجه العجلة فلم تتمكن من أن تراجع التاريخ أو تنثبت من الوقائع، وربما صاحب ذلك هوى من شأنه أن يتعارض مع الحق، وربما كانت كتابات بعض المتصدرين في مجال الصحافة ممن لم يحسنوا مراجعة الآثار المكتوبة حول القضايا المثارة ومنهم من شهد السنوات الأخيرة فنشأ طفلا يرى "طه حسين" رجلا كهلا تحيطه هالة، أو تدرس كتبه في الجامعات أو يشرف على بعض المؤسسات الثقافية واللغوية فظن هؤلاء – وبعض الظن إثم – أن الرجل له تاريخ مشرف جديد بأن يشاد به ويرثى ولقد حوت كتابات الكتاب الكثير من الخطأ ومن الهوى، ومن عجب أي بعض المؤمنين لحق بمن كتبوا عن الإسلام أو هاجموا بعض خصومة أمثال لويس عوض وسلامة موسى وغيرهم يسقطون في هوة الخداع إزاء طه حسين وهو أشد خطراً من هؤلاء جميعا وأبعد أثراً.
ولسنا الآن في مجال الحديث عن موقع طه حسين من الأدب العربي أو الفكر الإسلامي فذلك أمر له من بعد دراسات ومراجعات ولكننا تقف عند حد تصحيح بعض الأخطاء التى تضمنتها هذه المراثي التى أعادت الرجل حيا بعد أن مات موتا معنويا منذ عشر سنوات عندما توقف عن الكتابة وداهمه المرض الذى كان حفيا بأن يفسح له سبيل العودة إلى الله ولقد كان يتردد في هذه السنوات بل كان الدكتور نفسه يقول:(1/24)
إنه لا يسمع من الإذاعة غير القرآن المرتل وكان بعض السنج من الناس يقول: لقد تاب الرجل وأناب.
وكذلك قالوها يوم اصدر كتابه "على هامش السيرة" ولكن الفهم السليم للإسلام يدعونا إلى أن تتحرز من مثل هذه المظاهر الكاذبة وأن نتعمق مفهوم التوبة في الإسلام وهو مفهوم يفترض على صاحبه أن يرجع عن كل ما خالف به أصول الإسلام أو حقائق القرآن وأن يعلن على ذلك على الملأ وأن يحجب مؤلفاته التى نشر ذلك من قبل بل وعليه أن يصحح ذلك ويوضحه وأمامنا مثلان:(1/25)
مثل في القديم هو أبو الحسن الأشعرى" حين خرج عن فتنة الاعتزال إلى ضوء السنة الصحيحة فإنه لم يلبث أن وقف في المسجد الجامع بعد الصلاة على كرسى وأعلن توبته بل وخرج من ملابسه وقال: لقد خرجت من الأثم الذي كنت فيه كما أخرج من ثوب هذا وألقى إلى الناس بمؤلفاته الجديدة التى يعارض بها قديمه الذى خرج عنه وأمامنا الدكتور محمد حسين هيكل الذى أعن في مقدمة كتابه "منزل الوحى" أنه قد خاض في شبابه لجج النظريات وكان مخطئا حين حاول أن يختار لبني وطنه فكر الغرب أو منهج الفرعونية وأنه عاد إلى الحق حين تيقن أن الإسلام هو المنطلق الوحيد للمسلمين إلى النهضة. فهل فعل طه حسين شيئا من ذلك إذا كان حقيقة قد تحول، نحن نعتقد أن طه حسين لم يتحول حتى مات عن مفاهيمه الأولي وأنه أصر على فكره إصراراً كاملا حتى حين كتب إسلامياته المتعددة وأن المراجعة الدقيقة لهذه المؤلفات تكشف عن أنها تحول في المظهر أو كما يقول الغربيون أن طه حسين غير جلده، أو أنه حسين سقط في نظر الناس بعد كتاب "الشعر الجاهلي" إنما أراد أن يعود إليهم كاسبا ثقتهم بالكتابة عن "هامش" السيرة وكانت خدعة أخرى كشفها صديقه ورفيقه على الطريق في المرحلة الأولي الدكتور هيكل حين قال إن إحياء الأساطير في هامش السيرة خطر على السيرة نفسها لأنه يعيد إليها ما حررها منه علماء المسلمين أربعة عشر قرنا وحرصوا على حمايتها منه وقال عنها مصطفى صادق الرافعي إنه تهكم صريح.
لقد خدع طه حسين الكثيرين بكتاباته الإسلامية ولكن هذا الخداع لم يطل فقد كشفه كثيرون في مقدمتهم محمود محمد شاكر الذي كشف فصولا متعددة عن "الفتنة الكبرى".
* * *
من أبرز ما يحاول الذين رثوا طه حسين أن يثبتوه أن طه حسين في مؤلفاته وكتاباته كان خصماً سياسياً الذين هاجموه, وألبوا عليه وأن ما أورده في كتبه لم يكن على هذا النحو من الخطر في مهاجمة الإسلام.(1/26)
وذلك هو أسلوب الاستشراق في مواجهة الأمور وهو نفسى أسلوب طه حسين الذي كان إذا أراد أن يهاجم الإسلام هاجم الأزهر وإذا أراد أن يرد عادية خصومه قال إنما يهاجمون حزبه السياسي ولقد حرص طه حسين حين اشتدت الحملات عليه عاما بعد عاما بعد كتابه الشعر الجاهلي أن ينفصل من معسكر الأحرار الدستوريين وأن يلجأ إلى معسكر الوفد حتى يحتمي به.
وقد أكسبه ذلك سناداً ضخماً أعانه ليس فقط على الاستمرار في الحركة – ولكن مكنه من توصيل إلى ضربة أخرى وجهها إلى الفكر الإسلامي تلك هي كتابه: "مستقبل الثقافة " وكذلك فقد استفاد طه حسين من السياسة فهي التي حمته من العزل ومن المحاكمة ومن أشياء كثيرة، بل هى التى كانت تسهل له أن ينتقل بالرغم من مواصلة كشف أساليبه – من منصب أستاذ الجامعة إلى عميد كلية الآداب إلى مدير الجامعة إلى وزير المعارف.
وإذا كان رثاة طه حسين يريدون حقاص أن يصدقوا الناس ويقولوا لهم أن طه حسين عندما كان في حزب الأحرار الدستوريين – قد هاجم سعد زغلول بأكثر من "مائة مقال" في خلال سنوات "1922 – 1927" حتى وفاته فلما تحول طه حسين إلى الوفد بعد ذلك كتب عن سعد زغلول وخطب يرفعه فوق هامة الدهر دون أن يحس بالخزي أو الخجل ودون أن يرى ابتسامات السخرية من سامعيه وقارئيه لكذبه فى الأولى وفي الآخرة وتضليله وغشه.
وتردد مراثي طه حسين عبارات تقول أنه أضهد ككل أصحاب الرسالات فأى نوع من الاضطهاد شهده طه حسين. هل اعتقل ليلة واحدة في أي عهد هل قدم للمحاكمة مرة واحدة هل عذب؟ هل حيل بينه صيف واحد وبين السفر إلى فرنسا حتى في أشد أيام أزمة الشعر الجاهلي . لم يحدث ذلك قط وإنما كان ذلك من لغو القول وباطله.(1/27)
إن طه حسين كان يعرف أنه في حماية قوى كبرى ربما ليست ظاهرة ولكنها تختفي وراء الأحزاب، وراء عدلي وثروت، وتلتمس أسلوبها إلى ذلك بالعطف على الكفيف والرحمة بالمجنون. كما قال سعد زغلول للأزهريين : هبوا أن رجلا مجنوناً قال ما قال، وماذا علينا إذا لم يفهم البقر!!
ويردد أصحاب المرائي أن لطه حسين حياة حافلة بالنضال ولكنه أي نضال، لقد بدأ طه حسين حياته في محيط حزب الأمة الذي أنشأه كرومر وفي أحضان لطفي السيد داعية الولاء للاستعمار البريطاني تحت اسم مصر للمصريين وعدو الجامعة الإسلامية والعروبة والشريعة الإسلامية واللغة العربية وتعليم أبناء الفقراء.
ولقد لقى طه حسين في حياته "عبد العزيز جاويش" وبيئة الحزب الوطني ولكنه سرعان ما أعرض عنها، لأنها ليست ممهدة الطريق ولأنها كانت تحمل مفاهيم النضال والجهاد، وكسب صلته بأصحاب البيوتات وفي مقدمتهم آل عبد الرزاق الذى كان أثيراً لدى عطفهم ومعونتهم ولما عاد من أوربا اندمج في حزب الأمة المجدد تحت اسم "الأحرار الدستوريين" ولم يدخل الوفد إلا بعد أن فقد الحزب أمانته للأمة وانصهرت فيه العناصر اليسارية والشيوعية.
أما أخلاقه التى يشيدون بها فهى تنجلى صراحة في موقفه من اساتذته الذين عاونوه في أول الحياة والذي شقوا له الطريق فلم يلبث أن هاجمهم في عنف وصلف واحتقار، بل وعارض مفاهيمهم الأصلية: وفي مقدمة هؤلاء الشيخ المهدى ومحمد الخضرى وأحمد زكي باشا وأعلن أنه يرفض المنهج الذى رسمه الشيخ محمد عبده.
وقد سجل جميع الباحثين في سيرته وفي مقدمتهم أولياء الثقافة الغربية من أمثال إسماعيل أدهم أحمد أنه لم يكن عالما ولا صاحب منهج، وأنه صاحب هو وغرض وأن ذلك الطابع يسود كل انتاجه.(1/28)
أما مفاهيمه العامة فقد أثار الدنيا حين أعلن أن العرب استعمروا مصر كالرومان وحرقت مؤلفاته في ميدان عام في دمشق، وقال أن مصر جزء من حضار البحر المتوسط، وهاجم المجاهدين من أهل المغرب في رسالته وصور استعمار فرنسا خدمة عظمى تقدمها لهم فرنسا. وكان له موافقة في معارضة العروبة والرابطة الإسلامية في دعوته إلى تمصير اللغة وإلى تمصير الأدب، وكلها دعاوى زائفة مشبوهة.
وكانت دعوته إلى الحضارة الغربية فاسدة لأنه لم يأخذ فيها بأسلوب الحيطة أو أسلوب العلم بل كان حريصا على أن تنصهر مصر والبلاد العربية في هذه الحضارة على النحو الذى صوره حين قال " أن نقبل من الحضارة ما يحمد منها وما يعاب وما يجب منها ما يكره".
كان داعية الفناء في الغرب تحت خدعة زائفة ظل يروجها وكانت موضع سخرية الناس لسذاجتها وهي قوله: أننا لن نستطيع أن نساوى الغرب إلا إذا سرنا سيرته، وكيف يمكن ذلك وقد سارت تركيا ومع ذلك سخر منها الغرب لأنها عجزت عن أن تقدم شيئا في مجال العلم وما زالت عالة عليه بعد أن فقدت شخصيتها الإسلامية.(1/29)
ويكذب أو يخدع أولئك الذين يقولون أن طه استوعب ثقافة التراث أو أنه نقل ثقافة التراث أو أن وجهته في الكتابات الإسلامية كانت خالصة لوجه الله أو العلم أو الحق ذلك أن طه حسين قد أراد أن يتخذ من التراث منطلقا إلى تحقيق جانب من رسالته، تلك هي إثارة الشبهات والروايات الباطلة، والتقليل من جلال أبطال الإسلام، وتصويرهم بصورة رجال السياسة في الغرب المسيطرين على مطامع الحكم ومطالب الحياة، ولا يستطيع أن يفهم التراث أو يقدمه المسلمين في هذا العصر إلا رجال آمنوا بالإسلام دينا ونظلم حياة وعمرت قلوبهم تلك الأمانة للإسلام والغيرة على معطياته ومنجزاته. أما طه حسين فقد عاش حياته كلها يسخر بعظمة أمة الإسلام وبما في صفحاتها من بطولات ويفسرها طبقا للمذهب الاجتماعي الفرنسي، المتصل بالتفسير المادي للتاريخ القائم على الجبرية وهو مذهب ينكر عظمة النفس الإنسانية وجلال الروح ومكانة المعنويات - كان طه حسين كذلك في أول ما كتب "ذكرى أبي العلاء" وظل كذلك إلى آخر ما كتب "مرآة الإسلام والشيخان".
وكل ما يحاول الإغرار أن يجمعوه من آرائه عن القرآن أو الإسلام أو التاريخ فإنما يقدم إليه مفهومه الباطل فيجعله هباء منثوراً، فهو لا يرى في القرآن أكثر من أنه كتاب بلاغة" ولا يرى في البطولات إلا أنها من نتاج البيئة، ولا يرى في النبوة إلا أنها قدرة رجل عظيم استوعب فكرة عصره، فهو لا يؤمن بالنبوة، وذلك واضح من كتاباته ومن مراجعات الباحثين لآثاره وهي كثيرة ومقدمتها كتاب غازى التوبة ومحمد محمد حسين والرافعي ومحمد أحمد الغمراوي وكاتب هذه السطور.
إن طه حسين مع الأسف لم يكن يؤمن بشئ، كان ساخراً وكان مشككاً وكان متقلباً ولقد كدت أكتب عبارة "أولها حرف ر".(1/30)
وآية ذلك أنه ألقى العمامة في البحر عندما ركب السفينة أول مرة إلى أوربا في مشهد درامي، تمثيلى، وأنه كان يقول القول وينقضه فقد أعلن إمارة العقاد للشعر ثم سحب ذلك في سنواته الأخيرة، أما قدره العلمى فقد كشف عنه سكرتيره البير بيزان وسكرتيره زكي مبارك وظهر ذلك واضحاً في سقطات فاضحة.
من مثال قوله:" وقد وقعت بين القيسية واليمانية معركة "مرجرات" ثم اتضح من بعد أنها "مرج راهط" ولكن هكذا يكتبها المستشرقين وقد أشار زكي مبارك إلى ذلك في دعاية ساخرة حين قال : أن طه حسين دخل حديقة المستشرقين بالليل ليسرق ثمرة أو ثمرتين فصادفته هذه الثمرة المعطوبة" ولا شئ يستطيع أن يحمى طه حسين من شبهة الاتصال بالصهيونية أو اليهودية العالمية في مجال الفكر وربما عن طريق آخر بالإضافة إليهما، ولذلك قصة طويلة لها وقائعها الثابتة والأكيدة والمتصلة طوال حياته منذ أعلن عن عدم وجود إبراهيم إسماعيل عام 1926 إلى أن صير مديراً لدار الكتاب المصري 1946 وبين ذلك تاريخ طويل يمكن أن يروى في مقال متصل ويؤيده ما قاله شارل مالك في رثاء طه حسين.
هناك سؤال لماذا انقلب إسلاميا داعيا إلى التراث؟
والإجابة السريعة قبل إيراد التفاصيل هي محاولة تمكينه من أن يكون مرجعا إسلامياً يستغله للتبشير والاستشراق في السنوات الخمسين القادمة ولذلك فقد حولوه من مغايظة الجماهير إلى إرضاء الجماهير، إرضائها بالخداع والزيف.
وكلام عن الإسلام كله بمفهوم الإسلام الغربي المسيحي: أنه علاقة بين الله والإنسان، عبادة، لاهوت وليس أكثر من ذلك ، وطه حسين يعتنق ما كان يعتنقه فولتير ورينان غيرهما من التفرقة بين الإيمان بالقلب والكفر عن طريق العقل. هذه الإزدواجية التى يعرفها الغربيون ويفخرون بها، وتعتنقها بعض الفضائل المضللة من توابع المستشرقين في البلاد العربية ممن لا قيمة لم ولا وزن وممن لن يتبقى لهم آثار ولا أعمال.(1/31)
إن طه حسين بالعمل فى مجال الإسلاميات منذ أصدر هامش السيرة 1933 ونشره في الرسالة كان يفتح صفحة جديدة وأخيرة في تاريخه وتاريخ الفكر الإسلامي هي صفحة تقديم البديل من أجل القضاء على الأصيل ومع الأسف فقد شارك هيكل والعقاد وانكشف أمرهم عام 1939 حين قاله لهم إمام كبير:
" بيننا وبين الإسلام أن تؤمنوا بأن الإسلام نظام حكم وفهم مجتمع، فصمتوا صمت القبور. استطاع طه حسين من خلال كتاباته الإسلامية أن يصور الروابط بين الصحابة على نحو مؤسف ردئ، وكان قد أعلن من قبل في رده على العلامة: رفيق العظم احتقاره التاريخ كما اتخذ في بعض الشعراء الماجنين دلالة على فساد القرن الثاني الهجرى الحافل بأعلام المسلمين في الفقه والعلم والتصوف والأدب والفكر كله.
لقد تحول طه حسين في أساليبه يخوض معركة أشد خطراً، هي معركة تزييف مفهوم الإسلام والتاريخ الإسلامي، وقد جرى في ذلك مع منهج الاستشراق الذى تغير في أواخر الثلاثينات حين تحول من مهاجمة الإسلام علانية إلى خداعه بتقديم طعم ناعم في أوائل الابحاث ثم دس السم على مهل ومن خلال فقرات وكان هذا هو أسلوب الاستشراق اليهودي الماكر.
وقد استخدم طه حسين هذا المنهج ببراعة ونجح فيه. فلم يكن طه حسين يؤمن بالدين ولا بالتراث ولا بعظمه هذه الأمة ولا بأمجادها الإسلامية ولا بحركة اليقظة فيها، ولقد تهدمت كل أعماله قبل وفاته وخذلته كل الكتابات الجديدة والإيجابية عن الشعر الجاهلي وعن ابن خلدون، وعن مفهوم العروبة المرتبط بالإسلام وعن هزيمة الفرعونية وعن اندحار دعوته إلى الغض من شأن الأزهر.
سلامة موسى
محاولة إعادة سلامة إلى الحياة محاولة خاسرة وقد باءت بالفشل الذريع. سلامة موسى الرجل الذي لم يعرف في تاريخه الطويل موقف يدعو فيه لتحرير مصر من الاستعمار البريطاني وقد سقطت جميع آرائه وكشف حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.(1/32)
لقد كانت كل كتابات سلامة موسى وأفكاره في حقيقتها جماع خيوط المخطط الماسوني التلمودي بباطله وهدمه وأخطاره ولقد عرف أن سلامة موسى كان يلفظ الإسلام والمسيحية معاً وهو الذي أضاف إلى قائمة الرسل والأنبياء فرويد وماركس ودارون ولينين.
كان السؤال الهام في الندرة عن تلك الظاهرة الخطيرة التى حاولت بها بعض الجهات طرح كتب سلامة موسى في السوق مرة أخرى بأعداد كبيرة، ونشرت عديداً من كتبه ما عدا كتابه " اليوم والغد" الذي قال بعض أصحاب الولاء أنهم أن يعيدوا طبعه والسر أن هذا الكتاب يكشف حقيقة سلامة موسى، ودعوته المسمومة، والشعوبية والماركسية جميعاً.
والحق إن كتابات سلامة قد تجاوزها الزمن، ولم تعد تمثل أى عطاء ثقافي بعد أن سقطت كل هذه الدعاوى التى روجها الاستشراق والتغريب في الثلاثينات والأربعينات.. شأنه في هذه شأنه في هذا شأن طه حسين ومحمود عزمي وعلىعبد الرازق ومن تبعهم أمثال حسين فوزى وتوفيق الحكيم ولويس عوض وغيرهم.
والواقع أن النفوذ التغريبي لا يمهد ولا يتوقف عن غاياته وإن بدأ أنه يغير جلده بين حين وآخر ليخدع أجيالا جديدة بتلك السموم التى قدمها على أيدى عملائه ثم تكشف زيفها.
دعا سلامة موسى إلى استعمال العامية وهدم العربية، وجدد الدعوة لويس عوض في مصر ويوسف الخال وأنيس فريحة في الشام وكانت النتيجة هي الفشل المحقق.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية وجدد الدعوة بعده كثيرون ولم يصلوا إلى الشئ.
دعا سلامة موسى إلى الفرعونية، وجدد الدعوة إلى إبطال حكم من أحكام الدين وذلك بشأن ميراث المرأة، وقد لنه الباحثون دراس قاسياً مريراً.
دعا سلامة موسى إلى الماركسية وقد كشفت الأيام زيف دعوته وفساد جهته.(1/33)
والحقيقة أن سلامة موسى لم يكن إلا رجلا يحمل الغرب فيذروه في وجهه الناس حقداً وكراهية لهذه الأمة أن يتحقق لها امتلاك إراداتها وخدمة لكل التيارات الحاقدة عليها والكارهة لها، ولقد كان الكاتب في هذه الفترة يعرف بأنه ماركسي أو غربي أو داعيا لفرنسا أو انجلترا ولكن سلامة موسى كان يعمل لكل هذه الجهات عن طريق الماسونية والمخطط الصهيوني الذى كان يحتضن كل فكر هدام.. فكان ينثر من كنانته كتابات عن "دارون" ومذهبه، وعن "فرويد" ومذهبه، وعن إقليمية مشوبة بالفرعونية، وعن العامية مشوبة باللاتينية ويحتضن كل كتاب هذه السموم من "ولكوكس" إلى " ماركس" ويدعى ويناقض دعوته بمدح الخديو إسماعيل، وموالاة الاستعمار البريطاني ولا ريب فقد تخرج سلامة موسى من مدرستين:
من مدرسة تربية أبناء العرب الذين يقعون في فخاخ القوى العظمى فقد ذهب سلامة موسى إلى بريطانيا وفرنسا في ذلك الوقت الباكر وجند لهذه الغاية، أما الأخرى فقد كان تابعا لمدرسة شلبى شميل، وجورجي زيدان، وفرح أنطون، ويعقوب صروف هذه المدرسة التى كونها التبشير في بيروت، ثم قذف بها إلى مصر والبلاد العربية فتولت مقاليد الصحافة والثقافة وحملت حقدها الوافر على الإسلام والخلافة الإسلامية، واللغة العربية، وتاريخ الإسلام وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إن هناك وقائع خطيرة كاشفة لحقيقة سلامة موسى بعد أن فضحه أصحاب دار الهلال الذى كان يعمل عندهم، ويتصل من ورائهم ببعض الجهات ليشي بهم " إبريل 1931 – مجلة الدنيا الجديدة" وقد نشرت الزنكفراف خطاباته التى يقول فيها لمسئول:(1/34)
"فإنا أكتب لسعادتكم وإرادة الهلال تهيئ عدداً خاصا من المصور لسعد زغلول تستكتب فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة .. لأن الإكبار من ذكر سعد. وتخصيص عدد له هو في الحقيقة أكبار من شأن الوفد ودعوة إليه إني مستعدة الدعوة للمعاهدة فهل لي أن انتظر معاونتكم".
كتب هذا أبان وزارة اليد الحديدية التى شكلها محمد محمود، وتاريخ الخطاب 22 أغسطس 1939 وهو لا يزال في دار الهلال ما يزال يتقاضى مرتبة منها، ويدخلها كل يوم يبتسم في وجه أصحابها، ويظهر لهم الود والإخلاص وفي الوقت نفسه يدس لهم، ويتجسس عليهم، ويرسل التقارير إلى وزارة الداخلية.
ثم عاد يتمسح بالوفد "إبريل 1931" فكشفت دار الهلال هذه الوثيقة وقالت:" أنت تتمسح اليوم بأعتاب الوفد، وتتعلق زعماء الوفد .. إن لدى دار الهلال البرهان القاطع على تلونك وغدرك".
ولم يقف الأمر عند هذا الحد .. فقد أرسل خطابا "نشرت صحف دار الهلال" صورته الزنكفرافية موجها إلى الأستاذ حسين شفيق المصري في 3 نوفمبر 1930 هذا نصه".
عزيزي حسين:
بعد التحية: تعرف الخصومة بينى وبين السوريين "أي أصحاب دار الهلال" فأرجو أن ترسل لي خطابات على لسان سوري وقح يشتمني فيه بإمضاء اسكندر مكاريوس أو غيره من الهكسوس .. وأنا في إنتظار الخطاب.
أخوك سلامة موسى
وقد علق الأستاذ شفيق المصرى على هذا يقول:
كان يريدنى أن أزور خطابا، وأن افترى على أمة، وأن انزل إلى الدرك الأسفل من النذالة بالكيد لقوم ليس بيني وبينهم يغر الصداقة والمودة.(1/35)
هذا اللعب من لعب الصبيان فعجيب أن يكون منه وهو ينادي بأنه فيلسوف من علماء النفس، أغفر له كل شئ لا أن يظن بى ما ظن من الجهل والحمق .. وهو يدعوني إلى كتابة ذلك الكتاب الذي اشتمه فيه بتوقيع رجل برئ لا ذنب له إلا أن في الدنيا رجالا لا يحاسبون ضمائرهم، ولا يرون أبعد مما بين أنوفهم وجباههم.
* * *
بل ويذهب سلامة موسى إلى أبعد من ذلك فيقول:
"ومما يدل على أن حركتنا الوطنية بأيدي ناس غير قادرين على الاضطلاع بها أن الحركة التي قامت في العام الماضي وكانت غايتها اصطناع القبعة قاومها زعماؤنا وقتلوها في مهدها.. فأثبتوا بذلك أنهم لا يزالون أسيويين في أفكارهم، لا يرغبون في حضارة أوربا إلا مكرهين.. وقد أدرك مصطفى كمال الذى لم تنجب بعد نهضتنا رجلا مثله ولا ربعه ولا يعرف مقدار ما للقبعة من القيمة والإعلان بالإنسلاخ عن آسيا، والانضمام إلى أوربا، ولم يمنع من استعمال السيف في هذا".
ويقول:
"هذا هو مذهبي الذي اعمل له طول حياتي سراً وجهراً فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب وفي كل ما أكتب أحاول أن أغرس في ذهن القارئ تلك النزعات التى اتسمت بها أوربا في العصر الحديث، وأن أجعل قرائي يولون وجوههم نحو الغرب، ويتنصلون من الشرق.. ليس هناك حد يجب أن نقف عنده في اقتباسنا من الحضارة الأوربية ويقول:
"وليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة الشباب، وبعثرة لقواهم .. وكيف يمكننا أن نعتمد على جامعة دينية بينما فى العالم نظرية تقول: أن الإنسان لم يكن راقيا فانحط كما تقول الأديان. بل هو كان منحطا فارتقى، تعنى بها نظرية التطور بل كيف يمكن لإنسان مستنير قرأ تاريخ السحر والعقائد أن يطلب منه أن يخدم جامعة دينية، إن الجامعة الدينية في القرن العشرين وقاحة شنيعة".
ويقول :(1/36)
"لا عبرة بما يقال من أن الإسلام أمر بالشورى فإن خطب جميع الخلفاء نثبت أنهم كانوا ينظرون إلى أنفسهم نظراً بابويا بل البابا نفسه إذا قيس إليهم في بعض الاشياء يعد دستوريا".
ويقول:
"إن أكبر تجربة اجتماعية رآها العالم هي الشيوعية الروسية الحديثة وظهور الشيوعية هو بمثابة حاجز بين الماضي والمستقبل فهي تفصل الاثنين فصلا واضحا وهي على ما فيها من نقائض لليوم وعلى ما ينال الناس البعيدين عنها من الرعب فإنها ستكون بذرة لجملة أنظمة اجتماعية في المستقبل".
وهكذا تحوى كتابات سلامة موسى كل السموم التى علموه أن يثيرها في أفق العرب والمسلمين يوما بعد يوم، علموه أن الاشتراكية هي الهدام الأكبر للمسلمين وازدراء كل ما هو عربي، والدعاية للشيوعية، وكذلك الدعاية للإباحية.
يقول سلامة موسى:
"ليس من مصلحة الإنسان أن يعيش في قفص من الواجبات الأخلاقية، يقال له هذا حسن فاتبعه، وهذا سئ فاجتنبه".
وعلموه الدعوة إلى التبعية للغرب وللاستعمار.
يقول سلامة موسى أيضا:
"أجل يجب أن نرتبط بأوربا، وأن يكون رباطنا بها قويا نتزوج من أبنائها وبناتها، ونأخذ عنها كل ما يجد فيها من اكتشافات واختراعات وننظر الحياة نظرها، ونتطور معها تطورها الصناعي، ثم تطورها الاشتراكي والاجتماعي، ونجعل أدبنا يجرى وفق أدبها بعيدا عن منهج العرب، ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها.
هذا هو سلامة موسى الذي يريدون أن يحيوه مرة أخرى ويجددوا فكره. هذا الفكر الذي تجاوزه المسلمون والعرب اليوم وإن كانوا قد خدعوا به هناك يوم كان دعاة التغريب تعوى كتاباتهم بالسموم!!(1/37)
إن كل ما قدمه سلامة موسى عن الماركسية والفرويدية والدارونية هي كلمات مجمعة قد جاوزها البحث العلمي الآن، وكشف زيفها فقد ظهر الآن فساد ما دعا إليه دارون وتبين أن وراء إذاعة دعوتها ونرها كانت التلمودية التى تريد أن تقول أن الإنسان حيوان لتمهد لفرويد اليهودي نظريته في الجنس وكانت الماركسية والفرودية والداروينية من أدوات الفكر الصهيوني. الذي حاول أن يؤسس مدرسة في البلاد العربية والإسلامية. كما دعا إلى البهائية التى عرفها في لندن سنة 1910 عندما اتصل بجماعة الدهريين ولم يدع كتابا لم يقرأه وكانت معظم مؤلفاتهم في نقض الأديان السماوية – على حد تعبيره – ولا بد أنه اتصل بمحافل الماسونية، وتعلم فيها فإن كل اتجاهه كان ماسونياً تلمودياً ولم تعرف حقيقته إلا بعد أن ترجمت بروتوكولات صهيون إلى اللغة العربية عام 1948، وأن كل محاولاته وخططه كان ثمرة هذه التبعية الماسونية التلمودية وقد أشار كثيرون إلى أنه لم يكن مسيحياً صادقاً وإنما كان ولاؤه لفرويد وماركس.
وقالوا الشجرة الفاسدة تثمر ثمراً رديئا وكل شجرة لا تثمر ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.
ولا ريب أن دعوة سلامة موسى إلى وحدة الأديان هي من مفهوم البهائية وأن اهتمامه بالسلطان "أكبر" الهندي الذي أجرى هذه التجربة داخل في دعوته كذلك دعوته إلى وحدة الوجود، ومذهب "سبينورا" في وحدة المادة، والقوة والروح والجسد هي من طريق خطة الواضح، وكذلك فهو يرى أن حرق جثمان الميت أطهر وأنظف !!(1/38)
وقد تمنى سلامة موسى أن يحرق جسده بعد موته، وقد عمل على نشر آراء تولستوي وغاندي لأنه تحاول مواجهة مفهوم الإسلام الجامع ومفهوم الجهاد وحتى ديانته المسيحية فإنها لم تسلم من هجومه وهو يعتقد أنها حجبت عن عقول الناس نور الثقافة اليونانية وحريتها، وأن هذا الحجب والحجر ظل ألفا وخمسمائة سنة حتى بدت بشائرالنهضة الأوربية التى كان أساسها الخروج عن سلطان الكنيسة وأطباقها على النفس والعقل البشريين، والعودة إلى أسس الثقافة اليونانية وحريتها.
وقد بشر بدين جديد دعا إليه ودخل هذا الدين في عقيدته أنه دين البشرية كما يسمه وهو ما دعا إليه أوجست كونت ويرى أن دين البشرية بذرة من ديانة بوذا وهو دين لا يدعو إلى الإيمان بالله، أو الخلود في العالم الثاني، ولا ريب أن هذا الاتجاه الذي استكمله بأنبياء آخرين آمن بهم هم ماركس وفرويد يوحي بماسونيته وولائه التلمودى الصريح، كذلك فإن دعوته إلى العالمية هي دعوة الصهيونية العالمية التي تريد هدم الأمم المسلمة في مرحلة ضعفها واحتوائها للسيطرة عليها وتذيبها في أتون الأممية.
ولا ريب أن حملة سلامة موسى على اللغة العربية العظمى، والشعر والأدب العربي هي دعوة مبطنة للحملة على الإسلام والقرآن وهي الدعوة التى حمل لواءها لويس عوض من بعد وتؤكد دعوته في مجموعة موالاة الدعوة الشعوبية التى ترمى من وراء القضاء على العرب وكيانهم إلى القضاء على الإسلام باعتبار أن تلك هي قاعدته الأساسية.
قد كانت أصدق كلمة لباحث معاصر أنه لم يعرف لسلامة موسى مقال وطني واحد دعا فيه إلى تحرير مصر من الاستعمار البريطاني.
إن محاولة إعادة سلامة موسى إلى الوجود محاولة باطلة فقد سقطت آراؤه جميعا وكشفت حركة اليقظة عن زيفها وفسادها.
ما هو رأي مصطفى صادق الرافعي في سلامة موسى؟
يقول الاستاذ مصطفى صادق الرفعي:(1/39)
رأيي في سلامة موسى معروف لم أغيره يوماً، فإن هذا الرجل كالشجرة التي تنبت مراً. لا تحلو ولو زرعت في تراب من السكر. ما زال يتعرض لي منذ خمس عشر سنة. كأنه يلقي على وحدي أنا تبعة حماية اللغة العربية وإظهار محاسنها وبيانها، فهو عدوها وعدو دينها وقرآنها ونبيها. كما هو عدو الفضيلة أين وجدت في إسلام أو نصرانية.
دعا هذا المخذول إلى استعمال العامية وهدم العربية. فأخزاه الله على يدي، ورأيته أنه لا في عيرها ولا نفيرها. وأنه في الأدب حائط لا قيمة له. وفي اللغة دعي لا موضع له. وفي الرأي حقير لا شأن له فلما ضرب وجهه عني هذه الناحية وافتضح كيده دار على عقبيه واندس إلى غرضه الدنئ من ناحية أخرى. فقام يدعو إلى "الأدب المكشوف" فأخزاه الله مرة أخرى ولم يزد بعمله على أن انكشف هو. فلما خاب فى الناحيتين. اتجه الشارع الثالث فانتحل الغيرة على النساء والإشفاق عليهن. وقام يدعو المسلمين إلى إبطال حكم من أحكام دينهم وإسقاط نص من نصوص قرآنهم ظنا منه أنهم إذا تجرأوا على واحدة هانت الثانية. وانفتح الباب المغلق الذى حاول هذا الأحمق فتحه طول عمره من نبذ القرآن وترك الإسلام وهجر العربية كأن إبليس لعنه الله قد كتب على نفسه "كمبيالة" تحت إذن وأمر "سلامة موسى" إذا محيت العربية أو غير المسلمين دينهم أو أبطلوا قرآنهم. فكانت البدعة الثالثة أن يدعو المسلمين جهرة إلى مساواة الرجل بالمرأة في الميراث. فأخزاه الله.
ثم قام هذا المفتون يدعو إلى الفرعونية. ليقطع المسلمين عن تاريخهم. وظن أنه في هذه الناحية ينسيهم لغتهم وقرآنهم وآدابهم، ويشغلهم عنها بالمصرولوجيا، والوطنولوجيا. ثم أتم الله فضحه بما نشره أصحاب دار الهلال.
ويقول الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني تحت عنوان:
سلامة موسى ليس بشئ إن لم يكن دجالا !!(1/40)
بضاعته بضاعة الحواة والمشعوذين وله حركاتهم وإرشادتهم وأساليبهم يزعم نفسه أديباً، وتعالى الأدب عن هذا الدجل. ويدعى العلم، وجل العلم أن يكن هذا دعاؤه، ويحاكي الملاحدة ليقول عنه المغفلون أنه واسع الذهن، وليتسنى له أن يغمز الإسلام ويبسط لسانه في العرب، والحقيقة أنه لا أديب ولا عالم، وإنما هو مشعوذ يقف في السوق، ويصفر ويصفق ويصخب، ويجمع الفارغين حوله بما يحدث من الصياح الفارغ، والضجة الكاذبة.
لقد آن لمن تعنيهم كرامة الأدب أن يقتلعوا هذه الطفيليات، وأن يطهروا من حشراتها ونباتها رياضه، وأن يقصو عن مجاله هؤلاء الواغلين الذين يتخذون اسمى ما في الدنيا وأجل ما في النفس طبولا لهم، ويتذرعون بالتهجم على الدين –على دين واحد في الحقيقة– وعلى العلم والفلسفة والأدب لنيل ما يستحقون، ويفسدون عقول الناس، ويبلبلون خواطرهم بما يغالطونهم فيه ويخادعونهم".
على عبدالرازق
كتاب الإسلام وأصول الحكم
ليس من تأليفه وإنما هو من تأليف المستشرق اليهودي مرجلبوت كان هدف الكتاب ضرب الإسلام في عقيدة من أكبر عقائده، وفريضة من أعظم فرائضه وهو أنه دين ودولة ونظام مجتمع. ومن ثم فقد عبر الكتاب عن وجه نظر الاستشراق اليهودي التلمودي الهدام.
وكان الكتاب لعنة على علي عبد الرازق فقد أصاب حياته بالظلام والغربة، فمات الكتاب قبل أن يموت وانطوت صفحته وهو حي، ومازالت قوى التغريب تعيد طبع الكتاب ونشره مع مقدمات ضافية يكتبها كتاب شعوبيون أو شيوعيون يضللون الناس ويخدعونهم بأسمائهم وألقابهم لإحياء فكرة مسمومة.
صادر القضاء الكتاب وأصدرت هيئة كبار العلماء قرارات بإدانة المؤلف بعد زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام وموجب للحيرة.(1/41)
كان السؤال في الندوة عن دعوى على عبدالرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم" التى ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي والماركسيون والشعوبيون تجدد نشرها والحديث عنها بوصفها أسلوباً من أساليب العمل لخداع جماهير المسلمين عن حقيقة دينهم، وإذاعة مفهوم الدين العبادي القائم على الروحيات والمساجد وإنكار حقيقة الإٍسلام بوصفه دينا ومنهج حياة، ونظام ومجتمع.
ويتقول الادعاء الخبيث الذي يثيره الاستشراق والشعوبيون على أن في الإسلام مذهبين أحدهما يقول بأن الإسلام دين ودولة والآخر يقول: بأن الإسلام دين روحى ويضعون على عبدالرازق على رأس الفريق الذي يقول هذا القول.
والواقع أن الإسلام ليس فيه غير رأي واحد. وهو الرأي الأول وأن ما ذهب إليه على عبد الرزق عام 1925 لم يكن من الإسلام في شئ ولم يكن على عبد الرازق نفسه إماما مجتهداً وإنما كان قاضيا شرعياً تلقفته قوى التغريب فاصطنعته تحت اسم "التجديد" ودعى على عبد الرازق إلى لندن لحضور حلقات الاستشراق التي تروج للأفكار المعارضة لحقيقة الإسلام وعدم مقوماته وأهدى هذا الكتاب الذي وضع عليه اسمه مترجما إلى اللغة العربية وطلب إليه أن يضيف إلى مادته بعض النصوص العربية التى يستطيع اقتباسها من كتب الأدب.
أما الكتاب نفسه فان من تأليف قزم من أقزام الاستشراق وداهية من رجال الصهيونية واليهودية العالمية هو المستشرق "مرجليوث" الذي تقضى الصدف أن يكون صاحب الأصل الذى نقل عنه طه حسين بحثه عن "الشعر الجاهلي" والذى أطلق عليه محمود محمد شاكر "حاشية طه حسين على بحث مرجليوث" ويمكن أن نطلق الآن اسم "حاشية على عبد الرازق على بحث مرجليوث" وقد كشف هذه الحقيقة الدكتور ضياء الدين الريس في بحثه القيم "الإسلام والخلافة في العصر الحديث".(1/42)
وهكذا نجد أن السموم المثارة في أفق الفكر الإسلامي توضع أساساً من رجال التغريب ثم تختار لها أسماء عربية لتحمل لواءها وتذيعها إيماناً بأن الاسم العربي أكثر تأثيراً وأبعد أثراً في خداع الجماهير.
ولقد طالما تحدث التغريبيون عن كتاب "الشعر الجاهلي" و"الإسلام وأصول الحكم"، على أنهما دعامة النهضة في الفكر الحديث ونحن نرى أنهما دعامة التغريب التى حاولت خداع جماهير المسلمين عن حقائق الإسلام العظيم.
ومع أن حركة اليقظ الإسلامية واجهت كتاب على عبد الرازق المنحول، وفندت فساد وجهته وأخطائه فإن قوى التغريب ما تزال تعيد نشره وطبعه. مع مقدمات ضافية يكتيبها كتاب مضللون شعوبيون يخدعون الناس بألقابهم وأسمائهم. وهم يجدون في هذه المرحلة التي يرتفع فيها صوت تطبيق الشريعة الإسلامية. والدعوة إلى الوحدة الإسلامية مناسبة لنفث هذه السموم مرة أخرى ولن يجديهم ذلك نفعا فإن كلمة الحق سوف تعلو وتنتشر وتدحض باطل المضللين مهما تجمعوا له وقموه في صفحات براقة مزخرفة وأساليب خادعة كاذبة.
أول من كشف حقيقة الكتاب
إن أول من كشف حقيقة الكتاب هو الشيخ "محمد بخيت" الذى رد على الشيخ على عبدالرازق في كتابه "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" وهو واحد من الكتب التى صدرت في الرد عليه حيث قال:(1/43)
"لأنه علمنا من كثيرين ممن يترددون على المؤلف أن الكتاب ليس منه إلا وضع اسمه عليه فقط فهو منسوب إليه فقط ليجعله واضعوه من غير المسلمين ضحية هذا العار، وألبسوه ثوب الخزى إلى يوم القيامة" وقد علق الشيخ علي عبد الرازق على هذا المعنى حين قال الماركسيين الذين اتصلوا به سنة 1964 لإعادة طبع كتابه إن هذا الكتاب كان شؤما عليه، وقد ألصق به كثيراً من المتاعب والشبهات والحقيقة أنه بعد أن طرده الأزهريون من "هيئة كبار العلماء" ظل منفياً ومهجوراً وعاش بقية حياته منقطعاً عن الحياة العامة. بالرغم من أن محاولات جرت لإعادته إلى زمرة العلماء، وإلى مجمع اللغة ، فقد كان الكتاب أشبه باللعنة على حياته كلها.(1/44)
ومن هذا الخيط الرفيع بدأت محاولة الدكتور ضياء الدين الريس فاستطاع أن يصل إلى الحقيقة بأن كاتب الكتاب في الحقيقة هو مستشرق إنجليزي يهودي الأصل شن الهجوم على الخلافة لأن بلاده "بريطانيا" كانت في حرب مع تركيا وقد أعلن الخليفة العثماني الجهاد الديني ضدها والنصوص في الكتاب قاطعه بأنه كان موجها ضد الخلافة العثمانية. فإنه يذكر الاسم "السلطان محمد الخامس" الخليفة في ذلك الوقت الذى كان يسكن قصر يلدز" وهناك نص على جماعة الاتحاد والترقي" وهي التي كانت تحكم تركيا. أي دولة الخلافة طوال أعوام الحرب العالمية الأولى. ويقول أن الاتحاديين تلاميذ الماسونيين، وقد تربوا في محافلهم واعتنقوا شعارهم ومفاهيمهم، وقاموا بدور مسموم وهو فتح باب فلسطين أمام اليهود المهاجرين. وكان السلطان عبدالحميد قد رفض ذلك، وكانوا هم: أي الاتحاديون أداة الصهيونية العالمية في إسقاط هذا السلطان الشهيد ورجح الدكتور الريس أن مرجليوث اليهودي الذى كان أستاذاً للغة العربية في اكسفورد ببريطانيا هو كاتب الكتاب. لأن آراء الكتاب هي آراؤه التى كتبها من قبل عن الدولة الإسلامية، وفندها الدكتور الريس في كتابه "النظريات السياسية في الإسلام"، وأثبت خطأها وبطلانها بالأدلة العلمية. وهو يكتب عن الإسلام بنزعة حقد شديد، ويتسم أسلوبه بالمغالطات والمعلومات المضللة والقدرة على التمويه. كما يتصف بالالتواء. وهذا الصفات كلها تظهر في هذا الكتاب المنسوب إلى الشيخ عبدالرازق. ومعروف أن الشيخ على عبدالرازق ذهب إلى بريطانيا وأقام فيها عامين فلابد أنه كان متصل بالمستر مرجليوث، أو تتلمذ عليه. وكذلك "توماس أرنولد" الذي يشير إليه الشيخ ويصفه بالعلامة قد ألف كتابا عن الخلافة بوجه عام، والعثمانية بوجه خاص. وقد نقدناه "يقول الدكتور الريس" في كتابنا "النظريات السياسية الإسلامية".(1/45)
والقصة تتلخص في أنه أبان الحرب العالمية الأولى والحرب دائرة بين الخليفة العثماني وبريطانيا أعلن الخليفة الجهاد الدينى ضد بريطاني ودعا المسلمين أن يهبوا ليحاربوها، أو يقاوموها. وكان بريطانيا تخشى غضب المسلمين الهنود بالذات أو ثورتهم عليها. في هذه الفترة كلفت المخابرات البريطانية أحد المستشرقين الإنجليز أن يضع كتابا يهاجهم فيه الخلافة وعلاقتها بالإسلام، ويشوه تاريخها ليهدم وجودها ومقامها ونفوذها بين المسلمين. وقد استخدمت السلطات البريطانية هذا الكتاب في الهند وفي غيرها. وبعد أن انتهت الحرب كان الشيخ عبد الرازق قد اطلع على هذا الكتاب أو عثر عليه. هذا إن لم يفترض أن هذا كان باتفاق بينه وبين هذا المستشرق الذى اتصل به حينما كان في انجلترا أو في بعض الجهات البريطانية التى كانت تعمل في الخفاء للقضاء على فكرة الخلافة، أو التى تحارب الإسلام فأخذ الكتاب فترجم إلى اللغة العربية. أو أصلح لغته إن كان بالعربية، وأضاف بعض الأشعار أو الآيات القرآنية التى تبدو أنها لم تكن في أصل الكتاب وبعض الهوامش والفقرات، وأخرجه للناس على أنه كتاب من تأليفه ظنا منه أنه يكسبه شهرة. ويظهره باحثاً علمياً، ومتفلسفاً ذي نظريات جديدة. غير مدرك ما في آرائه أو في ثناياه من خطورة. ولا يستغرب هذا لأنه لم يدرك أن إنكار القضاء الشرعي هو إنكار لوظيفته نفسها وعمله، وإلغاء لوجوده وكانت هذه هي البدعة السائدة في ذلك الوقت بين كتاب " السياسة" جريدة من أسموا أنفسهم، حزب الأحرار الدستوريين" وهذا هو الذي فهمه "أمين الرافعي" فكتب في جريدة الأخبار أنه لم يستغرب أن يقدم الشيخ على عبد الرازق على إصدار هذا الكتاب لما عرفه عنه من الضعف في تحصيل العلوم، والإلحاد في العقيدة. ثم قال: هذا إلى أنه انغمر منذ سنين في بيئة ليس لها من أسباب الظهور سوى الافتئات على الدين، وتقمص أثواب الفلاسفة والملحدين، وصار خليقا باسم " الاستاذ المحقق"(1/46)
والعلامة الكبير.
ولم يعرف الأستاذ الرافعي أن المؤلف الحقيقي ربما كان غير الشيخ عبد الرازق. ولكن كلامه يكاد يكون إثباتا لذلك. وهناك قرائن أخرى.
أولا: ذكر اسم كتاب مترجم عن التركية طبعة 1924. بينما هناك فقرة تنص على أن تاريخ التأليف قبل عام 1918. وأنها ذكرت اسم السلطان محمد الخامس وقيل في الهامش أنه كتاب في عهده. وأقرب تفسير لذلك أن الكتاب ليس من تأليف شخص واحد.
ثانيا: يتحدث المؤلف عن المسلمين كأنه أجنبي عنهم وهم منفصلون عنه. فيذكرهم بضير الغائب ولا يقول عندنا أو العرب. أو نحو ذلك كما يقول المسلم عادة.
ثالثا: يكرر الشيخ عبد الرازق "عيسى وقيصر مرتين" ويكرر هذه الجملة التى يسميها الكلمة البالغة "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله " مع أن أي مسلم صحيح الإسلام لا يمكن أن يؤمن بهذا التعبير. وأن قيصر وما لقيصر لله رب العالمين.
رابعا: يتعاطف مع المرتدين الذين خرجوا على الإسلام، وشنوا الحرب على المسلمين. فيدافع عنهم. في نفس الوقت الذي يحمل على رأي أبي بكر الصديق المسلم الأول بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فينكر خلافته. ويقول إن محاربته لهؤلاء المرتدين لم تكن حربا من أجل الدين. ولكن نزاعا في ملوكية ملك ولأنهم "رفضوا أن ينضموا لوحدة أبي بكر " وما هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر والإسلام.. أليست هي وحدة أبي بكر يا عدو أبي بكر أو ليست هي وحدة المسلمين حكومة الإسلام والمسلمين. ويتكلم عن أبي بكر هكذا بغير احترام أو تبجيل كأنه رجل عادي. أو كما يتكلم عدو.
هل هذا هو أسلوب المسلم. فضلا عن الشيخ. في الكلام عن الصحابة وعن أفضل الناس وأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير من دافعوا عن الإسلام، وجاهدوا في سبيل الله عز وجل.(1/47)
خامسا: أن الأسلوب الذي كتب به الكتاب أسلوب غريب، ليس مألوفا في الكتب العربية. فهو أسلوب مناورات ومراوغة، ويتصف بالالتواء واللف والداو والدوران. فهو يوجه الطعنة أو يلقي بالشهبة ثم يعود فيتظاهر بأنه ينكرها ولا يوافق عليها ويفلت منها ثم ينتقل ليقذف بشبهة أو طعنة أخرى على طريقة "اضرب واهرب" رجل سياسى متمرن في المحاورة والمخادعة. وهو أشبه بالأسلوب الإفرنجي، وأسلوب الدعايات السياسية، أو الدينية التبشيرية، وليس هو أبدا الأسلوب العربي الصريح. فضلا عن أسلوب أحد الشيوخ المتعلمين فى الأزهر. وهذا مما يغلب الرأي بأنه كتاب مترجم.
سادسا: ولم يعرف عن الشيخ على عبد الرازق – من قبل – أنه كان كاتباً تمرس في الكتابة، ومرن على التأليف .. فيكتب بهذا الأسلوب، ويتعمد الطعن في الإسلام وتاريخه وعظمائه رجاله. ولم يعرف للشيخ كتاب أو مقالات قبل هذا الكتاب "أي في السياسة والتاريخ" بل كل ما كتب من قبل كان "كئيبا" في اللغة أو في علم البيان وهذا كل انتاجه في أربعة عشر عاما بعد تخرجه من الأزهر، ثم بعد أن كتب هذا الكتاب ظل أربعين عاما لم يكتب كتابا آخر في نفس موضوعه أو مثله، ولم يحاول أو لم يستطع حتى أن يدافع عن نفسه ويرد على خصومه بكتاب آخر.(1/48)
سابعا: هناك من القرائن والأدلة العديدة ما يدعو العقل إلى أن يرجح صحة الخبر الذى رواه فضيلة المفتى الشيخ محمد بخيت نقلا عن كثيرين من أصحاب الشيخ على عبد الرازق المترددين عليه من أن مؤلف الكتاب شخص آخر من غير المسلمين. وقد غلبنا نحن أنه أحد المستشرقين .. ولكننا نقيد هذا الخبر بأن الشيخ قد أضاف بعض فقرات وتعليقات، وأنه هو الذي أورد الآيات من القرآن.. والظاهر أنها محشورة حشراً مجموعات في مكان واحد وأبيات الشعر التى استشهد بها. كما كتب المقدمة التى زعم فيها أنه بدأ البحث في تاريخ القضاء منذ سنة 1915، وذلك ليغطى المفارقة الظاهرة بين وضع الكتاب ووقت صدوره. فإنه من غير المعقول أن يستغرق تأليف كتيب لا يزيد عن مائة صفحة عشر سنوات.
ثامنا: كانت هناك أسباب ودوافع مختلف دفعت الشيخ إلى إصدار هذا الكتاب. ولكن كان أقواها في نهاية الأمر حب الظهور والرغبة في الشهرة، وأن يوصف بأنه باحث أو محقق أو مجدد. كما فعل غير من قبل .. ونحن نعرف أن مسألة مألوفة في الشرق .. ولا سيما في النقل من الكتب الأجنبية.
وفي مثل هذه المسائل بالذات. فإن هذه الحالة أسهل. لأن النقل أو الترجمة من كتيب مجهول. أو كانت المسألة بتصريح أو اتفاق لخدمة غرضين فالطرف الأول يريد نشر آرائه لغايات سياسية ودينية والطرف الثاني له مأرب سياسي. ولكن الدافع الذاتي إنه يريد الشهرة أو الظهور أو الغرور.
من تقرير هيئة كبار العلماء في كتاب "الإسلام وأصول الحكم"
والخلاصة أنه إذا رجعنا إلى هدف الكتاب الحقيقى وجدناه يتمثل في الحقائق التالية كما فصلها تقرير هيئة كبار العلماء.
أولا: جعل المؤلف الشريعة الإسلامية روحية محضة لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ في أمور الدنيا مع أن الدين الإسلامي على ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عقائد وعبادات ومعاملات الإصلاح أمور مشتمل على أحكام كثيرة في أمور الدنيا، وأحكام كثيرة في أمور الآخرة.(1/49)
ثانيا: زعم أن الدين لا يمنع من جهاد النبي صلى الله عليه وسلم كان في سبيل الملك. لا في سبيل الدين، ولا لإبلاغ الدعوة إلى العالمين.
ثالثا: زعم أن نظام الحكم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض وإبهام، أو اضطراب أو نقص، وموجباً للحيرة.
رابعا: زعم أن مهمة النبي صلى الله عليه وسلم كان بلاغا للشريعة. مجرداً من الحكم والتنفيذ.
خامسا: انكر إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام، وعلى أنه لابد لسلامة من يقوم بأمرها في الدين والدنيا.
سادسا: أنكر أن القضاء وظيفة شرعية. وقال: إن الذين ذهبوا إلى أن القضاء وظيفة شرعية جعلوه متفرعا من الخلافة.
سابعاً: زعم أن حكومة أبي بكر والخلفاء الراشدين من بعده –رضى الله عنهم- كانت لا دينية. وهذه جرأة لا دينية.
وهكذا تتكشف تلك المؤامرات الخطيرة التى استغلها الاستشراق وبعض التغريبيين خصوم الشريعة الإسلامية للقول بأن هناك رأيين: بينما لا يوجد غير مفهوم واحد . هو أن الإسلام دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. وأن ما قال به على عبد الرازق هو وجهة نظر الاستشراق الصهيوني التلمودي الهدام .. وأنه ليس رأي أي مجتهد أو عالم أو إمام في الإسلام. وأن على عبد الرازق لم يكن إلا مضللا أو مخدوعا.
(7)
سَاطع الحصري(1/50)
سقطت نظرية ساطع الحصرى فيلسوف القومية العربية، لأنها قامت على أساس التفسير الغربي للتاريخ، ففصلت العروبة عن الإسلام وهو أول من جعل العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني، وهو أول مسئول عن التعليم العالي التركي في الوزارة التى شكلها الاتحاديون بعد سقوط الخلافة مباشرة وأول من صرح بأن قومية إسرائيل تقوم على الدين وأن الإسلام دين تعبد وينكر أنه نظام حياة ومجتمع، والحقيقة أنه ما ذنب العروبة والإسلام إذا كان ساطع الحصرى غربي الفكر والذوق أعجمي النطق يتجاهل أن لغتنا لغة فكر وعقيدة وأن ديننا يجمع بين المادة والروح بين العقل والقلب وبين الدنيا والآخرة.
حدثني الدكتور مختار الوكيل مدير مكتب الجامعة العربية في جنيف، وهو رجل صادق مؤمن، أنه في خلال عمله زار الأستاذ ساطع الحصرى في سويسرا ورأي السيد عبد الفتاح حسن السفير المصري دعوته إلى طعام للغداء فلما قدم مع الدكتور الوكيل حياة السفير المصري فقال:
"مرحبا بالمناضل الكبير في خدمة العروبة والإسلام" وقد عجب الرجلان من ساطع الذى رد في عنف وحدة:
"عرب نعم .. إسلام لا .. أنا لاييك .. أنا لاييك".
وكلمة "لاييك" تعنى أن صاحبها علماني أو لا دينى.
* * *(1/51)
ما نزال ندوة الاعتصام تركز على تاريخ الإسلام والعرب المعاصر وعلى الأعلام البارزين: سعد زغلول، لطفي السيد، ساطع الحصرى إلخ وقد أحرز ساطع الحصرى شهرة وافرة في سنوات مابعد الحرب العالمية الثانية باعتباره "فيلسوف القومية العربية، حيث روج لنظرية خطيرة كانت بعيدة الأثر في حجب مفهوم العروبة الأصيلة المرتبطة بالإسلام فكراً وعقيدة، وبالعالم الإسلامي تكاملا وإخاء .. لقد كان دعاة حركة اليقظة في البلاد العربية يرون أن الجامعة الإسلامية قائمة بين العرب والمسلمين "فرساً ودركاً" بعد زوال الدولة العثمانية. ولكن ساطع الحصري كان من أوائل الدعاة إلى فصل العرب عن المسلمين بمفهوم القومية الغربي الوافد الذي طرحه في أفق الفكر السياسي العربي. وهذا يرجع إلى أن ساطع الحصري كان ثمرة من انضج ثمار المدرسة الاتحادية التركية، وأكبر الدعاة الذين نقلوا مفهوم القومية الطورانية التركية إلى أفق العروبة التي كانت ترتبط بمفهوم الإٍسلام في العلاقة بين الشعوب التي جمعها التوحيد والقرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والفكر الإسلامي الأصيل.
لقد كان ساطع الحصري مديراً للتعليم في الدولة الاتحادية التي حكمت تركيا بعد إسقاط السلطان عبد الحميد بمفهوم العلمانية بالطورانية.
وقد تعلم في مدرسة الاتحاديين، وآمن بفلسفتهم، ونقل فكرهم ومضامينهم إلى العرب، وذلك في سبيل تمزيق الوحدة الإسلامية الجامعة عرباً وتركاً وفرساً، وخلق أسلوب القوميات والاقيلميات التى تقوم على الصراع والاستعلاء بالجنس والعنصر.(1/52)
وهو أول من حمل لواء العنصرية والعرق والدم بديلا لمفهوم الإسلام الذى يقوم على الإخاء الإنساني. وقد كان فلاسفة الفكر القومي التركي من الاتحاديين تلاميذ الفلسفة الوضعية متشبعين بالنزعة الطورانية العدوانية. وقد استمد ساطع الحصري مفهومه للعروبة من مفهوم القومية الغربية، والنظرية التى طبقها الاتحاديون في تركيا. فقد ركز على اللغة والتاريخ وعزلهما عن الفكر الإسلامي الجامع ككل كما ركز طه حسين على الأدب وعزله من وحدة الفكر الإسلامي.
ونظرية ساطع الحصري التى روجت لها بعض الأحزاب السياسية العربية قد اثبتت خلال أكثر من ثلاثين عاما فشلها الذريع، وعجزها عن العطاء، لأنها فرغت مفهوم العروبة من قيمه وتاريخه وعناصره الأخلاقية والروحية وجعلته مفهوماً مادياً خالصاً.
وقد اعترف ساطع الحصرى بأن إسرائيل قومية تقوم على الدين ورفض اعتبار الإسلام مقوماً بوصفه دينا. ذلك أن مفهوم ساطع الحصري للإسلام ناقص، فهو يراه دينا لاهوتياً وليس ديناً ومنهج حياة ونظام مجمتع على النحو الذي يؤمن به دعاة العروبة الإسلامية.
لقد فهم الإسلام على أنه "عين عبادي" كما فهم الأوربيون المسيحية، ولم يفرق بين الدين بعامة والإسلام، ولم يفرق بين العصر والبيئة والجذور الثقافية التي يختلف فيها عن مفهوم القومية في أوربا. ولقد كان مفهومه العروبة ناقصاً. فلم يصل إلى مفهوم العروبة المترابط مع الإسلام. هذا الترابط الجذري الذي لا سبيل للانفكاك عنه.
ويرى كثير من الباحثين أن ساطع الحصري لم يعايش المناخ العربي قبل أن يضع مجموعة آرائه، وأنه استهدي بمناخ البلقان والنظرية الألمانية في حركته القومية التي رفع فيها شعار اللغة في مواجهة الدولة العثمانية المتحرر منها. وأنه كان حاقداً على الترك حقد المحافل الماسونية التى احتضنت الاتحاديين ووجهتهم وجهتها، ودفعتهم إلى الدعوة إلى الذئب الأغبر كرمز لها بدلا القرآن.(1/53)
وقد كان أكبر أساتذته في مفهوم القوميات "ماكس مولر" "وتوردو" وهما فيلسوفان يهوديان قصداً من وراء نظرية اللغة إلى إحياء القومية اليهودية.
وقد اعتبر ساطع الحصري اللغة أساس القومية، وعارض نظرية الأرض التى دعا إليها أنطون سعادة دون أن يتنبه إلى أن الفكر لا اللغة هو مصدر الوحدة.
وقد أجرى ساطع الحصري الجدل حول عديد من النظريات الأوربية في القومية دون أن يواجه جوهر المفهوم العربي الإسلامي المصدر والجذور. هذه الجذور التى تجعل من العسير فصل اللغة عن الفكر واعتبارها مقوماًَ منفصلا، أو الاعتماد على نظرية بقاء اللغة أو ضياع اللغة مع أن الأساس هو بقاء للعقيدة والفكر الذى يحمى وجود الأمة الحقيقى.
والواقع أن ساطع الحصري كان غربي الفكر أساساً بل وغربي الذوق أعجمي النطق، وأن تركيبه الثقافي والاجتماعي يحول بيته وبين تبنى نظرية عربية أصلية مستمد من واقع الأمة العربية وكيانها، وذاتيتها وقيمها التى لا تنفصل فيها اللغة والتاريخ عن الفكر نفسه. وفي ذلك مغالطة أو جهل. ذلك أن اللغة العربية ليست لغة أمة فحسب ولكنها في نفس الوقت لغة فكر وعقيدة فإذا كان العرب وهم مائة مليون يتحدثون بها فإنها لغة العقيدة والفكر لألف مليون من المسلمين مرتبطين بالقرآن الكريم والسنة الشريفة، وذلك التراث الضخم من الفقه والعلم والتاريخ. وأن اللغة لا تنفصل عن الفكر وأن تاريخ العرب لا ينفصل عن تاريخ الإسلام.
ومرجع ذلك إلى أن ساطع الحصري نشأ – كما ذكرنا – في بيئة الاتحاديين الأتراك الذين كانوا صنائع للفكر الغربي، والذين نشأوا في أحضان المنظمات الماسونية، وحملوا لواء الإيمان بالفصل من الدين والمجتمع، وفهموا الإسلام فهما غربيا على أنه دين لاهوتي.(1/54)
وعلى هذا الفهم الخاطئ القاصر قامت نظرية ساطع الحصري التى لمعت تحت تأثير الخداع والأهواء حتى أن بعض دعاة الماسونية في العالم العربي راح يفسر عن طريقها تاريخ الإسلام كله فيرى أنه تاريخ قومي عنصري عربي. ومن ثم وجهت عبارات الحقد والخصومة إلى الأمة الإسلامية، وهذا هو الثمرة الحقيقية التى تهدف إليها حركة الغزو الثقافي والتغريبي من طرح هذه النظرية القومية، الإقليمية الضيقة العدوانية الوافدة. بديلا عن المفهوم الأصيل للعروبة في إطار الإسلام كما كان يفهمه شكيب إرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب وحسن البنا ومصطفى السباعي ومحمد المبارك.
هذه النظرية المضطربة التى خدع بها ساطع الحصرى الكثيرين، والتى سايرها كثير من المثقفين قبل أن يعرفوا سمومها العميقة. فلما عرفوها هاجموها وكشفوا زيفها.
والنظرية مضطربة من أساسها. ولو كان ساطع الحصرى حسن النية لصحح موقفه من فهم الدين فهما غربيا لا تركيا وفهم الإسلام بمعناه الجامع بين العقيدة ونظام المجتمع. لقد اعتمد أساس نظرية مفهوم الدين اللاهوتي بمفهوم أوربا والغرب للدين، ولذلك عجزت النظرية عن أن تنجح في إطار الفكر الإسلامي، بل إن كل العناصر التى عالجها كانت عناصر البيئة الغربية في مواجهة الصدع بين الجامعة المسيحية الأوربية وبين القومية الإقليمية والتي كانت وراءها اليهودية الصهيونية لتمزيق هذه الوحدة والسيطرة على كل قطر على حدة. وهو نفس ما أرادته بالنسبة للجامعة الإسلامية التركية التى وقفت أمام دخول الصهيونيين إلى فلسطين وموقفهم من السلطان عبد الحميد واضح معروف.
إن كل التحديات التى تعالجها نظرية القومية الوافدة لا توجد أساساً في المناخ الإسلامي. هذا فضلا عن اختلاف مفهوم "العروبة" عن مفهوم القومية في الغرب فضلا عن اختلاف مفهوم الإسلام عن مفهوم الدين بصفة عامة.(1/55)
ومصدر خطأ ساطع الحصرى أنه عجز عن فهم أبعاد الفكر الإسلامي وأعماقه، وعلاقة العرب بالإسلام، وعاش في مؤلفاته خادماً لنظرية القومية الأوربية الوافدة التى قدمها النفوذ الأجنبي من بين ما قدم ليحطم الوحدة العربية الإسلامية الجامعة بعد أن عجز عن فرض الإقليميات القائمة على التاريخ القديم كالفرعونية والفينيقية والأشورية والبابلية.
وذلك أنه لما رأي هذه المحاولات تتهادى ورأي أن العرب يتجهون إلى الوحدة أراد أن يفرغ هذه الوحدة من مضمونها العقائدي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب والدنيا والآخرة إلى مفهوم اقتصادي مادي صرف، وبذلك فشلت نظرية القومية الوافدة كما فشلت مناهج التعليم الغربي، والقانون الوضعي وأسلوب التنظيمات السياسية الليبرالية وغيرها.
ولقد وقف ساطع الحصرى في وضوح موقف الخصومة والحقد والتعصب على الإسلام كلما عرض له، وقد تجاهله طويلا في أبحاثه كأن العرب لم يعرفوه خلال تاريخهم الطويل. وكانت محاولاته للفصل بين اللغة العربية والفكر الإسلامي من ناحية. وبين تاريخ العرب وتاريخ الإسلام محاولة ساذجة. ثم كشف نفسه وأسقط مكانته كاملة حين اعترف بالقومية اليهودية القائمة على الدين، بينما عارض عنصر الدين في فهم القومية العربية وإن كانت كلمة "دين" لا تؤدي معنى الإسلام حين يكون البحث حول العروبة.
وقد ثبت أن ساطع الحصرى قد خدم بدعوته وفكره مفاهيم الماسونية والنظرية القومية الوافدة التى كان النفوذ الغربي حريصا على تلقينها العالم العربي. وهي ليست إلا صورة مفهوم الإقليمية اللبنانية والمعروف أن ساطع الحصري كان من أعمدة وزارة المعارف في تركيا منذ أوائل حكم الاتحاديين في تركيا العثمانية إلى أن انتهت الحرب الأولى. وإنه كان من أخطر الموجهين للبرامج التربوية والتعليمية في العراق. حيث عمد إلى فصلها عن الإسلام فصلا تاماً. وكان دوره أشبه بدور الدكتور طه حسين في التعليم المصري.(1/56)
لقد حاول ساطع الحصرى أن يقيم "فكراً عروبياً إقليميا". منفصلا عن الإسلام في روحه ومضامينه وشريعته. ولقد تجاهل أعماق الأثر الذي تركه الإسلام في الفكر والثقافة، واللغة والتاريخ وتجاهل أثر القرآن الكريم في اللغة العربية وفي العرب، ومدى ترابط ذلك إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة بالأمة الوسطى الحنيفية السمحاء التى جاء بها إبراهيم عليه السلام فربطت هذا العالم الوسط "عالم العرب والإسلام" بروابط تاريخية وثقافية عميقة دعمتها الأديان السماوية التى نزلت في أرض الرافدين، وختمتها رسالة الإسلام العالمية التى نزلت في الجزيرة العربية.
(8)
محمد التابعي
الرجل الذي أنشا صحافة البحث وراء أسرار البيوت والذي نقب عن خفايا الأسر والأعراض، وهو الرجل الذى دعا رجاله الثورة إلى ديكتاتورية الحزب الواحد وحرض على الدعاة إلى الله بالقتل والإبادة.
انتهت حياة الرجل الذي كان له أكبر الأثر في إنشاء الصحافة الهزلية: الكاريكاتير الساخر، والبحث خلف أسرار الناس والتطلع إلى ما وراء الأبواب المغلقة. ذلك هو الأستاذ محمد التابعي الذي تصدر هذا الفن في الصحافة المصرية الحديثة منذ عام 1926م حينما تولى إصدار مجلة "روز اليوسف" مع السيدة فاطمة اليوسف صاحبة هذا المجلة، ثم انفرد بهذا الفن حين أصدر مجلة "آخر ساعة" عام 1934 وكانت فنون الكاريكاتير السياسي والسخرية قد بدأها "سليمان فوزي" صاحب "الكشكول" التي كانت تحمل على حزب الوفد حملات قاسية مما دعا مكرم عبيد إلى اقتناص محمد التابعي ليحمل لواء هذا الفن للدفاع عن الوفد بنفس أسلوب الصحافة الهزلية والكاريكاتير والسخرية من كل القيم والإيغال في مهاجمة كل الأخلاقيات واقتحام أسوار الأسر والبيوت لابتداع فن الخبر الاجتماعي المثير الذي كان سلاحاً قاسيا في ضرب السياسيين القدامى ورجال الأحزاب بعضهم ببعض.(1/57)
وقد بلغ الأستاذ محمد التابعي بإشرافه على مجلة روز اليوسف قمة التعريض والهجاء والنقد اللاذع عن طريق الخبر والكلمة والصورة.
وقد بدأ التابعي عمله في الصحابة ناقداً مسرحياً ثم تحول إلى التعليق السياسي وعندما حُوكِمَ وصدر الحكم عليه بالحبس سنة أشهر مع إيقاف التنفيذ لم يكن ذلك في سبيل الدفاع عن حقوق وطنيه وإنما كان من أجل مقالات عن مقالات عن مغامراته في أوربا تحت عنوان "ملوك وملكات أوربا تحت أجنحة الظلام". يقول الصحفي محمد على غريب: إنه لما كانت توجد مجلة الكشكول وقد تخصصت في مهاجمة سعد زغلول ولقيت الرواج العجيب، لذلك صح الرأي في أن تصبح روز اليوسف مجلة سياسية واستطاع التابعي أن يجهز على مجلة الكشكول وقد عرف أسلوب التابعي بالسخرية القاسية والدعاية العنيفة.
ويعد محمد التابعى صاحب هذه المدرسة التى سارت عليها من بعد كل صحف الكاريكاتير في مقدمتها روز أليوسف، وأخبار اليوم.. ويعد مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل وإحسان عبد القدوس من تلاميذ هذه المدرسة العتيدة. وقد تعود التابعي كما كتب على أمين في آخر ساعة ألا يعود من الخارج إلا ليحزم حقائبه لرحلة جديدة حتى إنه لم يكن يستقر في مصر أكثر من شهرين في السنة فيقضى الشتاء في سان مورتز والربيع في باريس ومونت كارلو، والصيف بين رأس البر والاسكندرية وإيطاليا، والخريف في القاهرة ليستريح من عناء رحلات الشتاء والربيع والصيف، وإنه يوما في جزيرة كابري ويرها في مونت كارلو وإنه يسافر ومعه أكثر من عشرين حقيبة ملابس الصيف والشتاء والربيع والخريف وملابس الصبح والضحى وبعد الظهر والمساء والليل وإنه ينزل في الجناح الملكي لفندق سوفرنيا.(1/58)
وقد دمغ القضاء المصري صحافة الكاريكاتير الهزلية هذه في كثير من المحاكمات التى قدم لها التابعي بأنها "تنشر فاحش القول وسقطه وإنها غالت في الاقذاع في الناس، والبحث وراء أسرارها في تعريض وتلميح، وإن أصحابها يغمسون أقلامهم في السموم القاتلة والتصادير الخلاعية التى كان لها أسوأ الأثر في قرائها من الشباب المراهقين. وكان التابعي حريصاً على فضح أسرار الأسر والبيوت وكشف خفاياها وأعراضها لحساب الخصومة الحزبية.
هذا هو الأثر الأول والضخم في حياة محمد التابعي الذى نماه من بعده وطوره اتباعه وتلاميذه وحواريوه بكل الدول الصحفية تقريباً والذى كان ولا يزال بعيد الأثر في الصحافة المصرية الحديثة. وما كتابات إحسان عبد القدوس التى ينشرها بالأهرام هذه الأيام عنا ببعيد.
أما الأثر الثاني في حياة محمد التابعي فهي موقفه الخطير فى التحريض على الدعاة في سبيل الله ورجال الدعوة الإسلامية كراهية في تطبيق الشريعة الإسلامية، وعملا على تدمير القوى المؤمنه التى تحمل لواء الدعوة إلى تحرير الحياة الفكرية والاجتماية من التحريض على الفساد والشهوات والصور العارية والقصص الماجنة وغيرها من الأساليب التى كان يعمل لها أصحاب التابعي وتلاميذه وهم يبثون في ثنايا كتاباتهم ذلك اللون الخطير الذي أريد به إفساد شباب الأجيال وتدميرهم وانحلالهم.
وقد وقف التابعي مرتين موقف التحريض على "جماعة الإخوان المسلمين" في محاولات الحل الذى تعرضت له مرتين عام 1949م وعام 1954 . وفي كل مرة كان قاسيا على أهل القرآن، متهما إياهم بكل نقيصة، محرضا عليهم بالقتل والسحق والإبادة حتى لا يجد قلما أو لساناً ينقد تصرفه الفاسد ودعوته الضالة.(1/59)
أما الأثر الثالث الذى يوضع في ميزان أعماله عند الحساب فهو دعوته الحادة المسمومة إلى ديكتاتورية "الحزب الواحد" وتنكره لكل أساليب الديمقراطية والنظم التي تسمح بالرأي الآخر أو وجهة النظر الأخرى.. وقد غالى التابعي في الدعوة إلى الحزب الواحد وأغرى به حكام مصر في فترة من أدق فترات التاريخ السياسي كان المصريون يتطلعون فيها إلى نظام دستوري يحقق الشورى والعدل، فإذا به يظاهر دعوة الدكتاتورية القابضة على الرقاب والعقول والنفوس فكانت تلك هي آخر كلماته التى عارضه فيها أقرب الناس إليه وتلميذه الأثير "مصطفى أمين". ثم أصابت التابعي على أثر ذلك ضربة القدر التى لا تتخلف إزاه كل ظالم ومدمر لقيم هذه الأمة وأخلاقها.
(9، 10)
مدحت وأتاتورك
المؤامرة على تركيا الخلافة مؤامرة على الإسلام بدؤها مدحت ووسطها الاتحاديون. وختامها أتاتورك.
"الرد على عبد الحميد الكاتب"
لماذا هذا الحقد الشديد البالغ من أقلام عربية لكتاب مسلمين جغرافيا على الخلافة الإسلامية والجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي الذي تشرق في هذه الأيام شمسه وتبدو علاماته وتعلو راياته بعد أن تعددت كتابات الكتاب عن الصحوة الإسلامية ولماذا يوصف عمل مصطفى كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية بأنه "ضربة موفقة" أو قول أحد المؤرخين الشعوبيين: "وهكذا سقطت الخلافة الإسلامية إلى الأبد"!(1/60)
وقد نسى هؤلاء وأولئك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول دينكم نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله. ثم يكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم يكون ملكا جبرية فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعه الله جل جلاله. ثم تكون خلافة راشدة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام يجرانه على الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض. لا تدع السماء من قطر إلا صبته مدراراً، ولا تدع الارض من نباتها وبركاتها شيئا إلا أخرجته، وما ينطق عن الهوى. وهذا الحديث الصحيح يؤكد عودة الخلافة الإسلامية مرة أخرى على نحو أوثق صلة بحكم الله ونظامه الذى جاء به القرآن الكريم. ولقد كان سقوط الخلافة الإسلامية "حدثا" خطيراً لم يكتب عنه بعد، وكان له أثره في نفوس العاملين في حقل اليقظة الإسلامية، وقد كان مصدراً لقيام المفهوم الصحيح للإسلام بوصفه منهج حياة أو نظام مجتمع. وما من دعوة إسلامية إلا وقد أخذت على أهلها العهد بالعمل لعودة الخلافة الإسلامية متى جاء أوانها، وما تزال الحركات الإسلامية كلها عاملة على هذا النهج سائرة في هذا الطريق.
ولا ريب أن قيام عدد من المنظمات الإسلامية العالمية هي بشائر الخير في هذا الطريق. فإن الدعوة إلى قيام الجامعة الإسلامية أصبح اليوم عملا ضروريا بعد أن فسد الدعوات الإقليمية والقومية، وفي مقدمتها الجامعة العربية. ولابد للمسلمين من أن يصلوا إلى الطريق الحقيقي لمواجهة تآمر الغرب والصهيونية والشيوعية عليهم وهو إحياء جامعتهم وإقامة خلافتهم.
معلومات مسمومة:
ولست أدرى لماذا هذا الاهتمام بإعادة طرح معلومات مسمومة كاذبة مضللة انتشرت زمناً وكانت أشبه بالمسلمات، روجها اليهود والمارون ثم تبين زيفها وتكشفت الحقائق التى تدحضها؟(1/61)
لماذا العودة إلى الزيف بعد أن ظهرت الحقائق؟!
ولماذا الادعاء بأن مدحت مصلح. وأن مصطفى كمال أتاتورك مجاهد؟!!
والحقيقة أن الرجلين ومن بينهما من رجال "الاتحاد والترقي" هم عملاء النفوذ الاجنبي والصهيونية. لقد تكشفت هذه الحقائق في العالم الإسلامي كله ولم يعد في إمكان كاتب ما أن يضلل الناس بإعادة هذه الأكاذيب ورصفها، وخداع الناس في أمر رجل كان والده حاخاما يهوديا مثل "مدحت" أو رجل هو من الدونمة أصلا مثل "أتارتورك" إن الدعاوى الصهيونية والغربية قد خدعت المسلمين طويلا بتزييف "صفحة الدولة العثمانية" والسلطان عبد الحميد من أجل هدف معروف وواضح هو إسقاط هذا السلطان، وإزالة الدولة العثمانية وهدم الخلافة الإسلامية لتمكين الصهيونية العالمية من الوصول إلى فلسطين، والاستقرار في القدس!!(1/62)
لقد كان أتاتورك والاتحاديون هم مادة تجربة جديدة فاسدة أريد بها القضاء على النظام الإسلامي وهدم الشريعة الإسلامية وإقرار نظام العلمانية والمادية والوثنية في المجتمع والتربية والسياسة في البلاد الإسلامية، ومحاولة لجعله مثلا أعلى للتقدم والتجديد ثم جاءت أحداث التاريخ بعد خمسين عاماً لتكشف زيف هذه المحاولة وفسادها بعد أن تعددت حلقات هذا الغزو التغريبي الذى جاءت ثورة إيران اليوم بمثابة الدليل الأكيد على فساد هذه التجربة وعلى سقوط هذا المنهج ومؤكدة بأن المجتمع الإسلامي الأصيل القائم على فكرة التوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنا يرفض العضو الغريب، ويتأكد له بعد التجربة المتصلة مع الديمقراطية الغربية والاشتراكية الماركسية وفشلها أن السبيل الوحيد أمامه هو المنهج الرباني الأصيل، وإن الذين حرضوه طوال هذه السنين بالتماس المنهج الغربي "شرقية وغربية" سبيلا للنهضة في العالم الإسلامي لم يكونوا صادقين في دعواهم، فإن هذا الأسلوب في الاحتواء والعمل على صهر المسلمين في بوتقة الأممية الغربية كان من نتائجه سقوط الخلافة الإسلامية، والدولة العثمانية، وسقوط فلسطين والقدس في أيدي الصهيونية والحيلولة دون امتلاك المسلمين لإرادتهم وتطبيق شريعتهم الإسلامية والعمل على منعهم من أداء فريضة الجهاد، أو امتلاك القوة القادرة على تجديد بناء الحضارة الإسلامية القائمة على العدل والرحمة والإخاء الإنساني.
مدحت باشا:(1/63)
إن الصورة التى رسمتها تلك الكتابات المسمومة لمدحت باشا كاذبة ومضللة. فلم يكن مدحت بطلا قومياً ولكنه كان واحداً من قوى المؤامرة التى أعدت بإحكام للقضاء على الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية، وقد كان أمره مكشوفاً لدى السلطان عبدالحميد الذى كان قد وضع يده على مخطط الدونمة بالاشتراك مع أحرار الترك الذين كانوا قد جندوا لخطة إزالة الدولة العثمانية والخلافية الإسلامية من طريق الصهيونية بعد أن حققت قبل ذلك إزالة الجيتو بالثورة الفرنسية وما كان مدحت شهيداً في الحقيقية، لأن الشهادة لا تكون للخونة، وما قتلوه في الحقيقة ولكنه قتل نفسه بخيانته لوطنه وللإسلام، والعمل على تمكين اليهود من النفوذ، وهو من الدونمة الذين دخلوا في الإٍسلام تقية لإخفاء هويتهم، ولتدمير الدولة العثمانية من الداخل. وكان يعمل بتوجيه من المتآمرين المقيمين في باريس، والمتآمرين المقيمين في سالونيك. ولم يكن الدستور الذى دعا إليه مدحت إلا محاولة لإخراج الدولة العثمانية من النظام الإسلامي والشريعة الإسلامية وتغليب نفوذ العناصر المعادية للإسلام، وتمكينها من الانقضاض على الدولة.
وكان السلطان عبد الحميد يعلم مدى ما تهدف إليه المخططات الصهيونية. ولقد شهد المؤرخون المنصفون بأن الدولة العثمانية الإسلامية قد تسامحت إلى أبعد حد مع العناصر غير الإٍسلامية، ومكنتهم من أداء عباداتهم وإقامة شعائرهم، وفتح المدارس وإقامة الجماعات إلى الحد الذى كان عاملا من عوامل تمكنهم من التآمر على الدولة وإسقاطها. ولقد كان السلطان عبد الحميد هو نقطة المؤامرة في الحقيقة لأنه وقف أمام مطامعهم وأهوائهم، ورد "هرتزل" عن محاولاته ومؤامراته بالرد الحاسم وسمع من تمثل اليهود أن ذلك سيكلفه عرشه أو حياته .. وقد كشف السلطان عبد الحميد في مذكراته دور الدونمة ورجال الاتحاد والترقي.
الانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية:(1/64)
وإذا كانت هناك محاولة للانتقاص من قدر الخلافة الإسلامية، واتهامها بالتقصير. فإن هناك ما يؤكد كذب ذلك، وما أورده جمال الدين في حديثه إلى المخزومي باشا في كتابه "خاطرات جمال الدين"، يكشف عن مدى قدرة السلطان عبد الحميد على فهم تيارات الغربيين وقدرته على ضرب مخططاتهم وضرب بعضهم ببعض. ولقد قام السلطان عبد الحميد بإعلان تلك الصيحة المفزعة التى عجلت به. وهي قوله:" يا مسلمى العالم اتحدوا" وكان هدفه أن يجمع المسلمين ممن هم خارج الدولة العثمانية "العرب والترك" تحت لواء الخلافة والوحدة. وفزع الغربيون واليهود من ذلك فزعاً شديداً. فقد مضى بخطى حاسمة وحقق نتائج هامة.
ولقد كان عقلاء المجاهدين المسلمين يؤمنون بأن المحافظة على الدولة العثمانية إحدى العقائد الإسلامية بعد التوحيد والنبوة. ومن ذلك محمد عبده وشكيب أرسلان ورشيد رضا وغيرهم. وقد كانت الدعوة الحقيقية هي محاولة إصلاح الدولة العثمانية من تحت مظلة الخلافة وتعديل تنظيمات الحكم دون إسقاط الدولة. كان ذلك فهم أحرار العثمانين والعرب جميعا، وقد كان هذا ممكناً لولا ذلك الدور الذي قامت به الماسونية واليهودية العالمية في سبيل تحطيم نفوذ السلطان عبد الحميد، وإحلال نفوذ الاتحاديين أعوانهم الذين تربوا في محافلهم. والذين سلموا لهم فلسطين، وسلموا للإيطاليين في طرابلس الغرب، وأدخلوا الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى ولا ناقة لها فيها ولا جمل حتى يحطموها ويقضوا عليها.
وحدة إسلامية وليست عنصرية
كذلك فإن علاقة مصر والبلاد العربية بالدول العثمانية لم تكن علاقة استعمار. فإن كلمة استعمار لا تطلق إلا على النظام الغربي الحديث وإنما كانت علاقة ترابط تحت لواء الأخوة الإسلامية، واستعانة البلاد المستضعفة بالدولة القوية، والمصريون والجزائريون وغيرهم هم الذين طلبوا من الدولة العثمانية الارتباط بها خوفا من تجدد مؤامرات الحروب الصليبية.(1/65)
زيف ما في كتب الموارنة واتباعهم:
ولاشك إنه من أكبر أخطاء الباحثين هو إعادة نشر ما جاء في الكتب المدرسية والدراسات التاريخية السابقة لظهور "بروتوكولات حكماء صهيون" عن السلطان عبد الحميد وتركيا العثمانية. وهذا كله زائف ومن صنع الصهيونية وأعوانها من الموارنة. أما اليوم فإن الرؤية التاريخية المنصفة قد اتسعت ومن الظلم أن يقف الباحثون عند الحملات الكاذبة المضللة وتجاهل الرؤية الصحيحة لإبعاد الواقع التاريخي لقد حملت كتب جورجي زيدان وأحمد أمين وغيره صورة مضللة زائفة للسلطان عبد الحميد، وصورة براقة زاهية للاتحاديين الذين علقوا العرب على المشانق ومكنوا للصهيونية وحطموا الدول العثمانية وهم الذين تربوا في أحضان المحافل الماسونية. وعلى الباحث المنصف أن يرجع إلى الإضافات الجديدة التى ظهرت بعد الخمسينات والتى تكشف فساد ما كتبه جرجي زيدان وفارس نمر وسليم سركيس.
والجديد يجلو الحقيقة، فما كتبه جواد رفعت ومحمد جميل بيهم، وعبد الله التل، والعقاد وخليفة التونسي وعجاج نويهض وتوفيق بروه فإن هذه الكتابات قد غيرت تلك الصورة الزائفة التى ما زال يعتمد عليها خصوم الإسلام.
والقضية أن اليهود عندما أحسوا بأن السلطان عبد الحميد قد وقف في طريقهم نهائيا عملوا على تصفيته، ومهدوا لذلك باتهامه بالاستبداد والفساد، وأذاعوا ذلك في صحف الموارنة في مصر مثل المقطم والهلال والمقتطف وغيرها.
ثم جاء أحمد أمين وأمثاله فنقلوا منهم. لأن الحقائق لم تكن قد تكشفت بعد، ولم تكن البروتوكولات قد ترجمت إلى العربية، فلماذا هذا التزييف يحجب مرحلة من الحقائق، والعودة إلى إذاعة ما قبلها من الضلال بإعلاء شأن مدحت وأتاتورك، وهما من هما في الخيانة والتبعية.
حقيقة أتاتورك :(1/66)
إن أتاتورك في الحقيقة لم يكن مجاهداً ولا مصلحاً، وإنما كان تتمة الاتحاديين. لقد أخروا دوره في المرحلة الأولى قبل الحرب ليتولى الدور الثاني. فالاتحاديون أسقطوا الدولة العثمانية بأن أدخلوها الحرب لتصفى ماليتها ووجودها. وجاء أتاتورك ليفرض عليها اللون الغرب، وينقلها نقلة واسعة من دولة الخلافة الإسلامية إلى دولة علمانية تكتب بالحروف اللاتينية، ويقضى على الإسلام تماماً، ومعاهدته السرية المعروفة التى عرفت بمعاهدة لوزان تكشف ذلك في وضوح وقد استطاع أتاتورك إخفاء وجهه الحقيقي حتى يؤدى دوره كاملا فخدع المسلمين في المرحلة الأولى بالصلاة وإمساك المصحف، وطلب الدعاء منهم. أما دوره في الجهاد في أزمير فقد كشفت الوثائق أنه كان زائفا، وأن غيره هو الذى قام بدور البطولة، وأنه استلب منهم هذا المجد وحطمهم ونسبه إلى نفسه.
ولقد كان أتاتورك عميلا غربيا كاملا، وعميلا صهيونيا أصيلا، وقد أدى دوره تماما. وأقام تلك التجربة المظلمة المريرة التى تركت آثارها من بعد العالم الإسلامي كله، والتي كشفت الأحداث في الأخير فسادها، وتبرؤا الأتراك المسلمون من تبعتها، وكانت ظاهرة عودتهم إلى الأصالة مرة أخرى. وذلك دليل على أنها كانت تجربة زائفة مضادة لفطرة ولطبائع الأشياء، والدليل إن المسلمين لم يتقبلوها بل رفضوها، وقد كشف أكثر من مستشرق وفي مقدمتهم "هاملتون جب" إن العرب لم يقعوا في براثن هذه التجربة التى خرجت بهم عن الأصالة وعن الذاتية الإسلامية.
ولقد كان من أكبر معالم اضطراب كمال أتاتورك أنه عندما أحس بدنو أجله أن دعا السفير البريطاني ليتولى بدلا منه رئاسة الدولة التركية. وكان كعلامة من علامات الخسة والنذالة والخيانة!!(1/67)
وقد صفع المؤرخ العالمي أرنولد توينبي التجربة الكمالية التى يفخرون بها ويمجدونها الآن بعد أن رفضها أهلها وحكموا بفسادها. لقول توينبى إن الأتراك كانوا عالة على الحضارة الغربية وأنهم تغربوا ولم يقدموا أي شئ إلى هذه الحضارة، فكانوا عاجزين عن الإبداع في أي مجال من مجالات الإنتاج.
والواقع أن مصطفى كمال أتاتورك لم يكن كما يدعى المدعون شيئا جديداً ولكنه كان حلقة في المؤامرة التى بدأها مدحت وكان وسطها رجال الاتحاد والترقي للقضاء على السلطان والدولة العثمانية. ثم ختمها أتاتورك بالقضاء على الخلافة الإسلامية، ولا ريب أن انتقاص قدر الدولة العثمانية وحكامها مجاف لواقع التاريخ، وهو من عمل أتباع التغريب والشعوبية، وهو عمل ضمن مخطط يرمى إلى إثارة الخلافات والخصومة بين عناصر الأمة الإسلامية، ودعوة للوقيعة بين العرب والترك والفرس. وهم عناصر الأمة الواحدة التى جمعها القرآن وقادها محمد صلى الله عليه وسلم وآمنت بأنه لا إله إلا الله مهما كانت هناك خلافات فرعية فإنهم جميعا أمة واحدة، ولو كان هناك قليل من الإنصاف والأمانة التاريخية لدى كتابنا المزيفين لراجع الكاتب ما كتبه استيورت وهو غربى في كتابه "حاضرالعالم الإسلامي قبل أربعين عاما" وكيف تحدث عن عظمة الدولة العثمانية " ودورها الذى قامت به في وجه الصليبية الغربية.
أما صيحة العناصر والأجناس التى حاول كاتب أخبار اليوم يجعلها قضية فإنها لم تكن كذلك في ذلك الوقت، وإنما هي المؤامرة التي عمد النفوذ الأجنبي بها إلى استغلال صيحة القوميات لتفكيك عرى الدولة العثمانية. أما المسلمون فلم يكونوا يعرفون مصرية وسورية وجزائرية وغيرها ولا كلمة العروبة نفسها، ولكنهم كانوا مسلمين فحسب وإنما ظهرت هذه الدعوات إلى الإقليمية والقوميات بتحريض عناصر غير مخلصة لتفكيك عرى الوحدة، وهدم هذه الجامعة الإسلامية التى كان الغرب يخشاها، ولإقامة قومية زائفة هي القومية الصهيونية.(1/68)
ولا ريب أن الأسلوب الذى اتخذ في إسقاط السلطان عبد الحميد هو أسلوب لم يعرفه النظام الإسلامي في تاريخه كله وهو من صنع المؤامرة الصهيونية التلمودية التى استطاعت أن تحمى وتحرك هذا الخداع عن طريق قوة عسكرية تتحرك هاتفة بإسم السلطان خدعة ثم تكون في نفس الوقت متآمرة عليه لخدمة هدف غامض على كل الذين قاموا به، ولا يعرفه إلا القليل وهو إعادة اليهود إلى فلسطين.
كذلك فإن ما قام به أتاتورك لم يكن نصراً عسكرياً أو سياسياً وإنما كان هناك إشارة بقبول التوجيه الغربي: وتوقيع ملحق معاهدة لوزان وهو الذى فتح الطريق إلى كل شئ، وبه حلت جميع المشاكل، وانسحبت كل الجيوش، وتحقق ما يسمى النصر والاستقلال. وكتبت على أثر ذلك آلاف الكتب في تمجيد البطل الذى لم يكن إلا عميلا من عملاء الخيانة لحسابه الصهيونية العالمية، والنفوذ الغربي، والشيوعية أيضا فإن الشيوعيين هم أول من عاونه لقاء موقفه من عداء الإسلام.
ولا شك أن الضربة الذى وجهها أتاتورك إلى الخلافة الإسلامية قد فتحت صفحة خطيرة في تاريخ الإسلام الحديث، وأن الذين فرحوا لذلك من كتاب يكتبون باللغة العربية سوف يرون أنهم كانوا غير بعيدي النظر في فهم الأمور، وأنهم استعدوا ذلك الفرح من مشاعر حافلة بالحقد والكراهية للإسلام، وأن الخلافة الإسلامية عائدة لا محالة، وأنها هي العنوان الحقيقي للجامعة الإسلامية والتضامن الإسلامي، وأنه لا سبيل إلى نهضة المسلمين إلا بقيام الخلافة الإسلامية. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وعندها ستنكس روؤس الظالمين.
المعاهد السرية
التى عقدها أتاتورك والتى سميت بشروط كرزن الأربعة:
ينص بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 المعروفة بشروط كرزن الأربعة على ما يلى:
أولا – قطع كل صلة بالإسلام.
ثانيا – إلغاء الخلافة الإسلامية.
ثالثا - إخراج أنصار الإسلام من البلاد.(1/69)
رابعا – اتخاذ دستور مدني بدلا من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.
غاندي
غاندي سرق الحركة الوطنية من المسلمين. والهندوسي الهندي المتعصب الذي أخفى هندوسيته البغيضة وراء المغزل وللشاة.
وكان أول سياسي طالب بتأجيل الاستقلال منادياً بمهادنة السلطة وعدم مناوأة حكومة الاستعمار.
وكانت فلسفة غاندي التي استقاها من تولستوى ولقنوها لنا في الشرق هي التعامى عن تصرفات المستعمر والاستسلام له.
والحقيقة أن الزعماء المسلمين هم الذين أعلنوا استقلال الهند الحقيقي وعينوا قضاة المحاكم وحكام المقاطعات وتجاهلوا جميع كل السلطات وقد ظهرت آثار المسلمين واضحة في الحركة الوطنية وضعفت وطنية الهندوك فحاربوا المسلمين بكل سلاح حتى سلاح الفتنة الوطنية والدس الرخيص.
كان السؤال: حول غاندي وتكريمه، والأحاديث التى تنشر عنه في الصحف، وتصويره بصورة البطل: ومحاولة القول بأنه كان رمزاً للمصريين أبان الحركة الوطنية المصرية بعد ثورة 1919 وكانت الإجابة كالآتي:
بدأت الحركة الوطنية لتحرير الهند في أحضان الحركة الإسلامية وقد أزعجت الاستعمار البريطاني هذه الخطوة فعمد إلى القضاء عليها بأسلوب غاية في المكر والبراعة نحى بها المسلمين عن قيادة الحركة الوطنية وأسلمها إلى الهندوس، وأجراها على الأسلوب الذي سيطر على الهند بعد ثورة 1957 التى قادها المسلمون كان حريصاً ألا يتحقق للمسلمين السيطرة على الهند بعد أن ظلت تحكم الهند أكثر من خمسمائة عام مرة أخرى بعد أن أسقط دولتهم ..(1/70)
والمعروف أن المسلمين قاطعوا مدارس الاحتلال وعزفوا عنها حتى أتيح لهم إقامة نهضة تعليمية داخل إطار دينهم وثقافتهم وذلك بإنشاء عدد من المعاهد الإسلامية، انتشرت في "لاهور" و " لكنؤ" ولم تلبث أن حققت تقدما واضحا في هذا المجال. ثم اتجه العمل لتحرير الهند فألفت الجمعية الإسلامية العامة في لكنؤ (بمباوي) وكان يشرف عليها كبار المسلمين في الهند مطالبين بحقوق المسلمين في الهند كوطنيين وكان الهندوك قد أعلنوا إنشاء المؤتمر الوطنى العام وسموه المجلس الملى الوطنى الهندى العام. وكان غايته أن ينالوا حقوقا سياسية تخولهم السيادة على الأقليات "وهم لا يريدون من كلمة الأقليات غير المسلمين" وفي عام 1916 تنبهت حكومة الاحتلال إلى حركة الجمعية الإسلامية فأوعزت إلى محمود الحسيني أن يغادر الهند وقبض على أعوانه: أبو الكلام أزاد، حسرت مهاني، ظفر الله خان، محمد على، شوكت على .ولما عقدت الهدنة في 11 نوفمبر 1918، أعلنت الحكومة البريطانية استعدادها لإجراء إصلاحات في قانون الهند. فاتفق الفريقان "المسلمون والهندوس" على عقد مؤتمر في لكنؤ يجتمع فيه زعمالء الفريقين.(1/71)
وفي عام 1919 أطلقت الحكومة سراح المسجونين السياسية المسلمين، فاجتمع زعماءهم في لكنؤ بدعوة مولاى عبد البارى رئيس علماء أفرنجى محل فتداولوا في تأسيس جمعية إسلامية لتنظيم مطالب الاستقلال وكان قد ظهر في هذا الوقت تآمر الدول الكبرى على تمزيق شمل الدولة العثمانية. فأطلق هذه الجماعة "جمعية إنقاذ الخلافة من مخالب الأعداء الطامعين" وتأسست جميعة الخلافة في بومباي "18 فبراير 1920" برئاسة غلام محمد فتو، ميان حاجى خان. ودخل في عضويتها الزعماء المسلمون المعرفون في الهند. ودعت اللجنة المسلمين إلى جمع الإعانات للدفاع عن حوزة الخلافة، فأقبل المسلمون بسخاء وجمع ما لا يقل عن سبعة عشر مليون روبية إلى أضعاف ذلك كما يقول السيد عبد العزيز الثعالبي الزعيم التونسى الأشهر في تقريره الذى قدمه للأزهر الشريف في يونيو 1937 بعد زيارته للهند ودراسته لأحوال المسلمين هناك.(1/72)
كان "غاندى" إلى تلك الآونة غير معروف في الهيئات السياسية في الهند، وكان متطوعاً في فرقة تمريض الجنود، ولما انتهت الحرب وانفصل عنها كانت جمعية الخلافة في بدء تأليفها فأقبل عليها وكان اسمه غير معروف إلا بين الأفراد القلائل الذين عرفوه في الناتال وجنوب أفريقيا. فتيامن به زعماء المسلمين رغم تحذير المولدى "خوجندى" وكان على صلة به من قبل، ويعلم من أمره ما لا يعلمون وبالأخص من ناحية تعصبة للهنادكة مع المسلمين. وشاءت الغفلة أن تنطوى هذه الحركة العظيمة على يديه. فقعد في جمعية الخلافية مقعد الناصح الأمين وجعل يشير عليها باستئلاف الهنادكة فقبل الأعضاء نصحه عن حسن نية، وتدبوه السعى إلى ذلك فقام وطاف الهند على حساب الجمعية يدعو إلى الوفاق ويقول المطلعون على خفايا الأمور أنه كان يتصل بالهنادكة، ويتآمر معهم على شل الحركة الإسلامية ولما عاد من الرحلة سعى إلى إقناع جمعية الخلافة بالانضمام إلى الكونجرس "المؤتمر الوطني" الذى تأسس لملاحقة المسلمون، وانتزع حقوقهم في الهند. فانضمت إليه جمعية الخلافة وتبعتها بقية الأحزاب الإسلامية المعروفة ارتكازاً على الثقة في "غاندي" وعقد الكونجرس اجتماعا فوق العادة بعد انضمام المسلمين إليه في مارس ولما تلى عليهم القانون الأساسى اقترحوا تعديل المادة التى تقول باصلاح حالة الهند إلى عبارة "استقلال الهند" فوافق على ذلك المؤتمر، وشرعت الأحزاب الهندوكية منذ ذلك الوقت تطالب بالاستقلال التام طبق رغبة المسلمين وكانوا قبل ذلك لا يطالبون إلا باجراء إصلاحات. فارتاعت الحكومة "البريطانية" لهذا التغيير وعدته فاجعة في سياسة البلاد وعلى أثره ألقت القبض على الزعماء، وزجتهم في السجون. واجتمع قادة الحركة وعرض أبو الكلام آزاد اقتراحا باسم الأعضاء المسلمين يتضمن إعلان "الأمة الهندية" وبأن الحكومة الحاضرة غير شرعية مع دعوة البلاد إلى مقاطعتها فوافقت الجمعية، وانعقد على أثره "مؤتمر(1/73)
جمعية الخلافة" فأعلن موافقته أيضا بالاجماع. وبعد أن جرى تصديق المؤتمر على قرار المقاطعة قام غاندى خطيبا وقال، إن اتحاد الهندكة مع المسلمين يبقى متينا ما لم يشرع المسلمون في مناوأة الحكومة، ويشهروا السلاح في وجهها. ورد عليه أبو الكلام آذاد فقال:
"إن كان غاندي يتصور أن أعمال المسلمين في الهند لا تقوم إلا على مساعدة الهنادكة فقد آن له أن يخرج هذه الفكرة من دمائه وليعلم غاندى أن المسلمين لم يعتمدوا قط على أحد إلا على الله عز وجل وعلى أنفسهم".
وشرعت الأمة الهندية عقب ذلك في مقاطعة الحكومة وإظهار العصيان المدني فامتنعت عن دفع الضرائب والرسوم، وتخلى المحامون عن الدفاع أمام المحاكم. وأعاد الناس الرتب النياشين، والبراءات للحكومة، وأحرق التجار المسلمون جميع ما في مخازنهم من البضائع الانجليزية، وترك المسلمون الموظفون مناصبهم في الحكومة فحل الهنادك محلهم وهاجر كثير من المسلمين إلى الأفغان بعد أن تركوا أملاكهم وأرضهم في الهند واشتدت المقاطعة في البنغال اشتداداً عظيما ليس له مثيل. فقد امتلأت سجونها بالمقاطعين من المسلمين حتى إذا أعيى الحكومة أمرهم صارت تقبض كل يوم على ألف شخص في الصباح وتطلقهم في المساء لأن السجون لم تعد تسع المعتقلين. وخطب اللوردريدنج "الحاكم العام" في كلكتا فقال:
إننى شديد الحيرة من جراء هذه الحركة ولست أدرى ماذا أصنع فيها.(1/74)
ومن هذا السياق تستطيع أن تصور قوة المسلمين في الحركة الوطنية، وضعفها في الهندوكية ولا شك أن الهندوكي بالغاً ما بلغ من النشاط السياسى لا يستطيع أن يجابه الحكومة، كما لا يستطيع أن يحارب المسلمين إلا بسلاح الدس. وقد اجتمع زعماء المسلمون في عام 1921 وأعلنوا استقلال الهند استقلالا فعليا وعينوا ولاة الولايات، وحكام المقاطعات، وقضاة المحاكم في جميع المدن. فكان الوطنيون يرفعون قضياهم أمامهم، ويتجاهلون محاكم الحكومة وبسبب ذلك تعطلت أعمال الحكومة والبوليس، وحدث إرتباك شديد في الدوائر العالية بالهند غير أنها بدلا من أن تستعمل سلاح القوة القاهرة لكفاح الشعب الأعزل لجأت إلى المناورات السياسية وهي أشد خطرًا، وكان بطل هذه المناورات المهاتما غاندى، فقد اتفق اللورد ريدنج مع غاندى على حل الوفاق القومي بين المسلمين والهندوك وقد أذيع الحديث بواسطة المصادر البريطانية بعد ستة أشهر. فقد نقل إلى اللورد قال لغاندى:
"إن مصدر الحركة الاستقلالية في الهند هم المسلمون، وأهدافها بأيدي زعماءها فلو أسرعنا وأجبناكم إلى طلباتكم، وسلمنا لكم مقاليد الأحكام ألا ترى أن مصائر البلاد آيلة للمسلمين. فماذا يكون حال الهنادكة بعد ذلك؟ هل تريدون الرجوع إلى ما كانوا عليه قبل الاحتلال البريطاني وهل تفيدكم يومئذ كثرتكم وأنتم محاطون بالأمم الإسلامية من كل جانب، وهم يستعدون قوتهم منها عليكم. إذا كنتم تريدون أن تحتفظوا لأنفسكم باستقلال الهند فعليكم أن تسعوا أولا لكسر شوكة المسلمين وهذا لا يمكنكم بغير التعاون مع الحكومة وينبغي لكم أيضا تنشيط الحركات الهندوكية للتفوق على المسلمين في جميع الأعمال الحيوية وفي بلوغهم الدرجة المطلوبة فإنى أؤكد لكم أن حكومة بريطانيا لا تتصل في الاعتراف لكم بالاستقلال".(1/75)
وقبل انصراف غاندي أوعز اللورد إليه أن يشير على "مولانا محمد على" كتابة تعليق على خطاب كان ألقاه في مؤتمر الخلافة، وحمل فيه على الحكومة حملة عنيفة .. يقول في هذا التعليق:
"أن ما فهمته الحكومة كان مخالفاً لمرادى" فصدع غاندي بالأمر ودعا محمد على لكتابة هذا البيان بعد أن أفهمه أن الكتاب سيكون سرياً لايطلع عليه أحد غير اللورد فكتب البيان تحت التأثير السحرى الذى كان لغاندي عليه. وما كاد الخطاب يصل إلى اللورد حتى أذيع في جميع أقطار الهند بعد أن صورته الحكومة بمقدمة قالت فيها:
"إن محمد على تقدم إلى الحكومة يطلب منها العفو عن الهفوة التى ارتكبها".(1/76)
وأنهم محمد على من المسلمين بالتراجع، ورمى بالخور والضعف غير أنه لم يحاول أن يصحح موقفه إلا حين مؤتمر الخلافة في كراتشى "أغسطس 1920" حين أعلن سياسة المناوأة للحكومة لا موالاتها. فتلقى منه الهنادكة والمسلمون هذا التصريح بالارتياح التام ولكن عقب انقباض المؤتمر أمرت الحكومة باعتقاله مع ستة آخرين من الزعماء: شوكت على، حسين أحمد، كثار أحمد، بير غلام محمد، الدكتور سيف الدين كتشلو. وساقتهم جميعاً إلى المحكمة المخصوص للمحاكمة. فرفضوا الاعتراف بالحكومة وهيبة المحكمة عملا بقرار المؤتمر السابقة وامتنوعا عن الدفاع عن المتهم. ولكن المحكمة أدانتهم بمجرد الاتهام، وحكمت عليهم بالحبس عامين مع الأشغال الموجهة إليهم. وبعد الحكم أصدر محمد على، سيف الدين كنشلو منشوراً بتوقيعهما يخاطبان فيه الشعب وينصحانه بعدم الاهتمام بما حصل ويعدانه بأن الزعماء المعتقلين سيحضرون اجتماع الكونجرس القادم في ديسمبر بمدينة "أحمد أباد" سواء رضيت الحكومة أم كرهت لاعتقادهما أن الكونجرس سيعلن بصفة رسمية استقلال الهند، وتأليف حكومة وطنية التى ستقرر الإفراج عنهم، ولكن الحكومة لم تأبه لهذا المنشور لأنها كانت واثقة من أن الكونجرس لن يفعل. ولما عقد اجتماع الكونجرس "ديسمبر سنة 1920" حضر غاندي وقال:
"بما أن الزعماء يعتقلون، ولا سبيل للمداولة معهم في منهاج أعمال المؤتمر فاقترح عليكم تعيينى رئيسا للمؤتمر، وتخويلى السلطة المطلقة لتنفيذ ما أراه صالحاً من الاجراءات".
فوافقته اللجنة على ذلك دون أن تتنبه إلى ما كان يغمره هو من المقاصد التى قد لا تنفق مع خطة المؤتمر، وتقرر فيها أيضا إسناد رئاسة مؤتمر الخلافة إلى أجمل خان، ومؤتمر مسلم ليك إلى حسرت مهاتى. وقبل اجتماع مؤتمر الخلافة قال غاندى للحكيم أجمل خان:
"إن إعلان الاستقلال في الظروف الواهنة غير مناسب".(1/77)
وما زال به حتى أقنعه بالعدول عن إعلان ذلك مع أن الزعماء المسيحيون كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، وكانت الحكومة تتوقع صدوره من أحزاب المسلمين بقلق شديد وما عساها تصنع لو تخلف غاندي عن الوفاء لها بوعده. وفي أغسطس 1921 اجتمع الكونجرس تحت رئاسة غاندى في أحمد أباد فأعلن أن الوقت الذى يصر فيه المؤتمر باستقلال الهند لم يحن بعد، فهاج الأعضاء وماجوا. وعقب انتهاء جلسات المؤتمر انعقد مؤتمر الخلافة، وتهيب الحكيم أجمل خان أن يثير عاصفة من قبل المسلمين فأمسك عن إعلان الاستقلال. أما حسرت مهاتى فقد أعلن في مؤتمر مسلم ليك أن الهند تريد أن تعرب بواسطتهم عن إراداتهم في الاستقلال. فعلى الهنود أن يشعروا اليوم بأنهم مستقلون وألا يعترفوا بقوانين الحكومة الملغاة. فأمرت الحكومة بالقبض عليه وحكم عليه بالسجن عشر سنين مع الأشغال، وأجمعت الصحف الهندية على نقده ووصفه بالشدة وخفضت العقوبة إلى سنتين. وعقب ظهور هذا الفشل الكبير في سياسة البلاد اعترت المسلمين شكوك في تصرفات غاندى، واستيقنوا أن زعماء الهنادكة متفقون على ذلك فدب الانشقاق بين الطرفين:
هذا هو النص الذى أورده العلامة الزعيم عبد العزيز الثعالبى عن دور المسلمين في الحركة الوطنية الهندية وكيف قضى عليه غاندى بالتآمر مع النفوذ البريطاني فانهار مخطط الاستقلال. وفي خلال سجن زعماء الحركة المسلمين تسلم غاندى الحركة وحولها إلى وجهة أخرى مخالفة مما دعا المسلمين من بعد إلى المطالبة بكيان خاص لهم.(1/78)
هذا هو غاندي في حقيقته التى لم تعرف في بلادنا وفي المشرق. والتى أخفيت عنا تماماً خلال تلك الفترة التى كان المصريون بتوجيه من السياسة البريطانية يعجبون بغاندي ويدعون بدعوته إلى الاستسلام النفوذ الأجنبي وقبول ما يعرض وعدم العنف. وهذه هي الفلسفة التى استقاها غاندي من تولستوي وذاعت كثيراً في بلاد المسلمين معارضة لمفهوم الإسلام الصحيح من الجهاد المقدس في سبيل استخلاص الحقوق المغتصبة أبان الحركة الوطنية المصرية حيث كانوا يجدون في غاندي وأخباره ما يؤيد النفوذ الأجنبي ويدفع الوطنيين المصريين ناحية التفاهم مع الاستعمار البريطاني ولذلك فإن هذه الصفحات التى ينشرها بعض الكتاب لرسم صورة مزخرفة لغاندى يجب أن لا تخدعنا كثيراً فإنه رجل هندوسي متعصب لهندوسيته كاره للمسلمين. وقد كان هو وتلميذه نهرو أشد عنفاً وقسوة في معاملة مسلمى الهند، وقد كانت أنديرا غاندى ابنة نهرو أبان حكمها قد حكمت على المسلمين في بعض المناطق بتعقيمهم عن طريق العمليات الجراحية عملا على الحد من تعداد المسلمين في الهند. فيجب علينا أن نعرف الحقائق ولا تخدعنا الأوهام الكاذبة والصور البراقة التى يراد بها تغطية حقيقة وجريمة كبرى هي أن غاندي في الحقيقة سرق الحركة الوطنية من الزعماء المسلمين وتآمر عليهم مع الحركة البريطانية وأدخل أمثال محمد على وشوكت على وأبو الكلام آزاد وهم من أقطاب المسلمين، أدخلهم السجون، وسحب الحركة الوطنية بالتآمر من أيديهم، وحال دون قيام حكومة هندية حرة يكون المسلمون فيها سادة. وذلك للعمل لخدمة الاستعمار البريطاني وتسليم الهند إليه لتحويل المسلمين إلى أقلية فيها مما دعا المسلمين إلى العمل على قيام باكستان والتحرير من نفوذ غاندي والهندوكية والاستعمار البريطاني.
(12)
زكي نجيب محمود(1/79)
كان السؤال في الندوة عن مخططات التغريب والعزو الثقافي في هذه المرحلة لمواجهة حركة اليقظة الإسلامية، وانكشاف مخططات الاستشراق والتبشير، وافتضاح كل خيوط المؤامرة التى جند لها عدد كبير من التغريبيين بقيادة "المعلم" طه حسين. ثم تحطم كل هذه المخططات قبل رحليه.
والحقيقة أن النفوذ الأجنبي قد غير جلد طه حسين وحاول أن يقدم مخططاً جديداً لقيادات جديدة بعد أن هلك هذا التغريبى الكبير ووضع أمر ذلك في عدة خطوات اتخذت بسرعة لتغطية الفراغ .. منها عقدة مؤتمر ثقافي مغلق في الكويت ضم مجموعة من اتباع الاستشراق والتغريب، واليساريين، وأتباع الفلسفة المادية. وكان على رأسهم "زكي نجيب محمود" و " محمد النويهي" لمواجهة الموقف بعد وفاة ذلك الزعيم الصنم الذى كان يمر في السنوات الأخيرة من حياته بمرحلة الاحتضار.
وكذلك كلف المستشرق "جاك بيرك" بالطواف في البلاد العربية . ودول الإمارات لإلقاء محاضرات من طه حسين في محاولة لاستعادة الثقة به بعد أن تحطمت هذه تماماً نتيجة للأبحاث الى كشفت عن دخيلته وخاصة ما كاتب محمود محمد شاكر ومحمد نجيب البهيتى وكاتب هذه السطور.
كذلك فقد حاولت جريدة الأهرام في عهد هيكل أن تجمع في نطاقها مجموعة كبيرة من دعاة التغريب أمثال توفيق الحكيم الذى وصف إسرائيل بأنها دولة متحضرة. وحسين فوزى الذى تنكر لعروبته واعتز بفرعونيته ورضى لنفسه أن يجعل درجة الدكتوراة من جامعات العدو. ونجيب محفوظ الذى عرف بتلمذته لزعيم التغريب سلامة موسى وهي ما تزال تحتفظ بهم إلى اليوم بعد أن أضيف إليهم أنيس منصور ويوسف إدريس.(1/80)
وقد بدأ في السنوات الأخيرة أن الأضواء كلها قد ركزت تماماً على الدكتور زكي نجيب محمود كقائد لهذه الكتيبة التغريبية وقد مهد الدكتور لذلك بأن أعلن أنه أعاد النظر في التراث الإسلامي "وأسماء العربي" في محاولة لخداع البسطاء ولتغطية ماضى طويل في الفكر المادي كانت قمته كتاب المعروف "خرافة الميتافيزيقا" أي بمعنى صريح اتهام مفهوم الغيب الذى جاء به الإسلام بأنه خرافة. وإنكار كل ما سوى المحسوس والمعفول متابعة في ذلك للمذهب الفلسفي الذى اعتنقه طوال حياته مقلداً في ذلك فيلسوفاً أوربياً مادياً ملحداً ينكر الأديان المنزلة ويفاخر بأنه يمثل مدرسته "أوجست كونت" وفي طريق كسب الأنصار والتقرب إلى الشباب الواعي المثقف يتحدث الدكتور زكي نجيب محمود عن الإيمان بالله وعن الإيمان باليوم الآخر، وعن أعلام التراث: الغزالى وغيره. وذلك كله محاولة لإلقاء حاجز بين الماضى والحاضر وإحراز الثقة التى تمكنه من بث مفاهيمة وآرائه.
ونحن لا نتهم أحداً في عقيدته ولا تتعقب العورات ولا نلتقط ما نتكشف عنه السرائر من وراء الوعى ولكننا نقرر بدأءة بأن المنهج الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود معارض لمفهوم الإسلام الصحيح من جوانب عديدة وخاصة بالنسبة لتلك القضية الكبرى التى يثيرها في كل كتاباته وهي مسألة العقل والعقلانية فالإسلام لا يعطى العقل هذا السلطان المطلق كله، ولا يقر مثل هذا المعنى. وإنما يرسم للعقل طريقا كريماً في ضوء الوحى. والعقل في الإسلام مناط التكليف ولكنه ليس حكماً على كل شئ ذلك لأن العقل أداة تصلح إذا صلح تكوينها وتفسد إذا فسد تكوينها. وهي إن اهتدت بالوحى أضاءت وأشرقت عليها أنوار الفهم. أما إذا اهتدت بالفكر البشري فإنها تكون بمثابة أداة تبرير لكل شر ولكن أهواء النفس.(1/81)
فالعقلانية بالمعنى الذى يدعو إليه زكي نجيب محمود نظرية مادية صرفة ومرفوضة تماماً. وإذا كان هو وجماعة المستشرقين والتغريبيين يعتزون من التراث بالجانب الخاص بالمعتزلة فإن هذا الاعتزاز لا يمثل إلا إنحرافاً في مفاهيم الفكر الإسلامي. فالمعتزلة خرجوا عن مفهوم الإسلام الجامع المتكامل بين العقل والقلب، والروح والمادة، والدنيا والآخرة. وأعلوا مفهوم العقل. فانحرفوا وتحطموا وحكمت عليهم الأمة كلها بأنهم خرجوا عن مفهوم الإسلام الصحيح حين دعوا إلى خلق القرآن واستعدوا الخلفاء على المسلمين والعلماء. وقد هزمهم الله شر هزيمة على يد الإمام أحمد بن حنبل، وأعاد للإسلام مفهومه الأصيل الجامع.
والموقف نفسه يقفه الإسلام بالنسبة للدعوة إلى التصوف كمنطلق وحيد لهم الحياة والأمور من خلال الحدس والروحانيات وحدها ولقد كان هو زكي نجيب محمود في دراساته في التراث مع ذلك المفهوم العقلاني الذى انحرف عن مفهوم الإسلام الجامع، والذى استمد مادته من الفلسفات اليونانية الوثنية المادية، والالحادية الإباحية التى غامت سحابتها على الفكر الإسلامي ثم انقشعت تحت تأثير أضواء المفهوم القرآنى الأصيل.
كذلك فإن مفهوم الدكتور زكي نجيب محمود للألوهية مفهوم ناقص وقاصر لا مفهوم الإسلام "على النحو الذى أورده في مقاله في الهلال".
لقد مرت البشرية بمراحل كثيرة في فهم الألوهية ناقصة ومنحرفة وجاء الإسلام بالمفهوم الجامع الحق فلم يعد هناك مجال لإعادة ترديد هذه المفاهيم بعد مرور أربع عشر قرنا على نزول دعوة التوحيد الخالص.
إن الذى يقبله شباب الإسلام اليوم من الباحثين هو مفهوم الله الحق لا مفهوم الآلهة كما فهمه الوثنيون أو المعددون، أو المشركون الذين كانوا يؤمنون بالله خالقا ولا يؤمنون به مصرفاً للأمور كلها .. وقد جاء الإسلام ليكشف هذه الحقيقة وحدها، ويدعو إليها وهي: "إسلام الوجه لله".(1/82)
أما مفهوم الإيمان بالله على النحو الذى كتب عنه الدكتور زكي نجيب محمود فهو عرفه المشركون ولم يقبله منهم الإسلام. ولعل من أكبر الخطأ عرض مفهوم أرسطو وأفلاطون في الألوهية ومحاولة تفسيره بمفهوم الإسلام مع أنه كان أبعد ما يكون عن ذلك بل إن القرآن الكريم دحض كثيراً من مفاهيم أرسطو وأفلاطون والفلسفات اليونانية والوثنية والعنوصية لنقضها وقصورها. وخاصة ما ادعاه هؤلاء من أن الله تبارك وتعالى يدير ظهره الكون ولا يعلم الجزئيات، وأن المادة خالدة إلى غير ذلك من تلك التفاهات بل إن مفاهيم أرسطو وأفلاطون للألوهية تدخل تحت ما أسموه "علم الأصنام" فكيف يقدم هذا المفهوم الشباب المسلم اليوم على أنه مفهوم الألوهية الحقة؟! ولقد كشف علماء المسلمين منذ وقت بعيد فساد مفاهيم الفكر البشرى ونقصه. وكيف أنها منحرفة . وكيف أن الله تبارك وتعالى يعلم الأمور كلها " وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس".
وأن هذا الكون ليس مخلداً، ولا باقياً وأن له نهاية كما كانت له بداية، وأن الله تبارك وتعالى يمسك هذا الكون لحظة بعد لحظة ويديره ساعة، وأن كل ما يقوله الفلاسفة هراء.
والمسلمون يعلمون أن الكتب المنزلة حرقت وغيرت مفهوم الألوهية الحقة "الله رب العالمين" فنسبه البعض إلى أنفسهم وقالوا: إنه رب الجنود وربهم وحدهم. وقال الآخرون بأن لله ولداً وكذبوا "ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه".
وليس مفهوم الألوهية صحيحاً ولا كاملا إلا فى الإسلام وحده. مفهوم إسلام الوجه لله: "إياك نعبد وإياك نستعين".(1/83)
وقد حاول الفكر البشرى أي يزيف مفهوم الألوهية الحقة. وأخطأت الماسونية حين قالت:" المهندس الأعظم" وهناك انحرافات الباطنية والماديين والوجوديين ودعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد على النحو الذى عرف عن كثيرين. وهناك مفهوم الإسلام بوصفه ديناً لاهوتياً. والحقيقة أن المطلوب ليس إثبات وجود الله تبارك وتعالى ولكن المطلوب معرفة حقيقة هذا الوجود بعيداً عن هذه المفاهيم المنحرفة ويستتبع الإيمان بالله تبارك وتعالى، والإيمان بشريعته.
ولكن الدكتور زكي نجيب محمود لا يلبث أن ينتقص من شأن هذه الشريعة وبصفها بأنها قاصرة ومجافية للعصر ويطالب بتخطيها في سبيل تحقيق المعاصرة، وهو يقبل بالحضارة الغربية كما كان يقبل بها سلفه طه حسين "حلوها ومرها وما يحمد منها وما يعاب" فما عرف عنه أنه دعا المسلمين إلى أخذ العلوم مثلا دون أسلوب العيش ولكنه يدعو إلى شئ غريب هو أن المسلمين ليس لهم فلسفة حياة وهو ادعاء باطل وظالم.
فكيف يمكن أن يقال لأصحاب القرآن الذى وضع منهجاً للحياة والمجتمع غاية في الاحكام جربته الشعوب والأمم ألف عام فأقام فها حياة الرحمة والعدل والإخاء البشري. كيف يمكن أن يقال لهذه الأمة إنها لا تمتلك منهج حياة. وكيف يقبل وهو العقلاني الصحيف هذا المنهج الذي يعيش الغرب سواء الغرب الليبرالى أم الماركسى في ذلك الخضم العفن الفاسد المتآكل من الشهوات والإباحيات والانحراف والتحلل والغربة بشهادة كتاب الغرب والشرق على السواء.(1/84)
وكيف يغض وهو الأمين على الكلمة عن أزمة الحضارة وأزمة الإنسان الغربي. وقد قرأ عشرات من الكتابات آخرها ما كتبه "سلجوستين" ودمغ به حضارة لغرب التى يكبرها زكي نجيب محمود وحسين فوزي وتوفيق الحكيم. ويفخرون بها ويغوصون بأقلامهم في تلك الحمم من الدماء والعفن والفساد. وهم يقولون لا إله إلا الله على الأقل وراثة، ويرون كيف يقدم الإسلام ذلك المنهج النقى الطاهر الأخلاقي الكريم الذى يرفع من قدر الإنسان. وكيف يحق لأمة تحمل لواء القرآن "ألف مليون مسلم" أن تتخلى عن رسالتها في تبليغ كلمة الله الحق إلى العالمين وتنصهر في بوتقة الأممية والحضارة المنهارة التى تمر بآخر مراحلها.
وهل من الأمانة أن يدعو هؤلاء أمتهم إلى هذا وهم روادها، والرائد لا يكذب أهله ولا يغشها. إن مسئولية القلم وريادة الفكر هو أضخم المسئوليات عند الله تبارك وتعالى يوم الحساب. وقد كان أولى بهم جميعاً أن يصدقوا أمتهم النصح ويدعونها إلى أن تقميم حضارة الإسلام مجددة في إطار "لا إله إلا الله" والأخلاق والرحمة والإخاء الإنساني وأن يلتمسوا أسلوب العيش الإسلامي ليقدموا للبشرية نموذجاً جديداً نقيا تتطلع إليه النفوس والأرواح اليوم بعد أن عم الفساد البلاد الغربية كلها من جديد. ولن يكون غير الإسلام وسوف يدمغهم التاريخ بأنهم كانوا رواداً غير مؤتمنين على الأمانة. وسوف تكتب أسماؤهم في سجل الذين عجزوا عن أن يقولوا كلمة الحق، وأن ينصحوا لأمتهم وهم الذين عاشوا حياة الغرب، وعرفوا فساد مناهجه وأساليب حياته، وعرفوا أن هذه الأمة الإسلامية الكريمة على الله أعز من أن تسحق في أتوان الشهوات وأن تدمر بأيدى أبنائها ودعاتها الذين تلمع أسماؤهم وتخدع الناس شهرتهم.
إن الدكتور زكي نجيب محمود قد أخطأ الطريق حين فهم التراث الإسلامى ذلك الفهم الذى جعله يكرم أمثال "ابن الراوندى" "ومزدك"، و"مانى"، و"الحلاج"، و"الباطنية"، و"الشعوبية" و"إخوان الصفا" وتلاميذهم.(1/85)
كذلك فهو مؤمن بمجموعة من المسلمات الخاطئة من عصارة مفاهيم الفكر البشري الوثني المادي فضلا عن أن إيمانه بالعلم والعقل وحدهما وهو في مفهوم الإسلام قصور شديد عن المفهوم الجامع.
وإني لأسأل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يؤمن بالوحي؟ هذا هو مقطع المفصل بيننا وبينه. وإذا كان يؤمن به فلماذا لم يعلن فساد منهج كتابه "خرافة الميتافيزيقا" ولماذا لا يؤمن بهذا الوحى الذى جاء به القرآن شريعة ومنهج حياة؟
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود قد تراجع عن، خرافة الميتافيزيقا" وغيرها من آرائه. أليس من الشجاعة أن يعلن ذلك صراحة حتى يستطيع أن يكسب إلى صفه بعض الناس.
إن محاولة اقتعاد مكان طه حسين اليوم هو أمر مضيع. فقد انتهى ذلك العهد وصحا الناس وخطت حركة اليقظة الإسلامية خطوات واسعة فكشفت عن فساد تلك النظريات والأطروحات الزائفة التى قدمها الآباء العتاة الذين كانوا يستقبلون أبناءنا في الجامعات الأوربية وهم من اليهود أمثال مرجليوث ودور كايم غيره.
أما قول الدكتور زكي نجيب محمود أن الثقافة الإسلامية في العصر العباسى قد اغترفت ثقافات الدنيا بغير حساب فهو قول باطل. لقد وقفت الثقافة الإسلامية موقف التحليل والغربلة لكل ما ترجم، وأخذت منه ما وجدته صالحاً ومطاباق لمفهوم التوحيد الخالص. أما ما عدا ذلك فقد رفضته وشنت عليه حربا عنيفة، وأخرجت دعاته من طريق الفكر الإسلامى فأطلقت عليهم اسم "المشاؤون المسلمون" إعلانا لتبعيتعم المشائين اليونانيين، ولم تقبل منهم ما جاءوا به.(1/86)
وأعلن المسلمون أن منهج اليونان أو منهج العنوصية الشرقية كلاهما باطل وأن للإسلام منهج خاص مستقل كما نفعل نحن اليوم إزاء ما يقدمه التغريبيون من فكر الشرق والغرب مما هو ليس مقبولا في الإسلام بحال.كذلك فإن نظرية زكي نجيب محمود بالتوفيق بين المترجم الوافد الغربي وبين المجدد من التراث الإسلامي "وهو ما يسميه بالعربي استنكاراً" هذه نظرية ليست متسحدثة بل هي نظرية طه حسين وهيكل والزيات وغيرهم. وهي نظرية اتضح بطلانها. أما ما تعارفت عليه اليقظة الإسلامية فهى أن يقوم أساس إسلامي أصيل من مفهوم الإسلام الجامع "بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع" وفي ضوئه يحاكم التراث كله والوافد كله، ولا يقبل إلا ما يزيد هذا المنهج قوة وعماً مع الاحتفاظ بأسلوب العيش الإسلامي "عقيدة وشريعة وأخلاقا" ودعوى زكى نجيب محمود بالمواءمة مرفوضة. فالمسلمون على استعداد التضحية بالتقدم المادي في سبيل الاحتفاظ بالقيم الأساسية التي هي في حقيقتها ليست معوقة للتقدم المادي ولكنها حائلة دون فساد الحضارة الغربية وزيفها وانحلالها الذى يود هؤلاء القوم إغراق هذه الأمة فيه والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.
(13)
سارتر
وعبد الرحمن بدوى
جرى التساؤل في الندوة حول نظرية الوجودية بعد أن هلك سارتر وما هي الآثار التي تركتها على جبين الأدب العربي والفكر الإسلامي؟(1/87)
والواقع أن نظرية الوجودية قد نفقت قبل هلك سارتر بوقت طويل وإن حاول هذا الشقي أن يمد من عمرها بانتمائه في السنوات الأخيرة إلى الشيوعية واحتضانه لقضايا الصهيونية إذ هو نصف يهودي كما كان يطلق عليه عباس العقاد لأن أمه يهودية. وقد خدع بعض البلهاء من المصريين حتى أعدوا له زيارة ليحصلوا منه على تصريح يخدم القضية الفلسطينية بعد أن نقلوه إلى خيام اللاجئين في غزة . فما أن غادرها حتى كشف عن هويته الصهيونية اليهودية وأعطى الماركسيين الذين احتفلوا به درساً كشف عن عمالتهم هم، ومكره هو والذين رافقوه ومع هذه اللطمة القاسية فإن كتاباً مصريين وعرباً ما زالوا يذكرون سارتر ويتحدثون عنه ويشيدون بمذهبه وبما يسمونه الوجودية العربية التى قادها عبدالرحمن بدوى وكان لها على فترة طويلة أعواناً.
وكات كتب سارتر تظهر في باريس بالفرنسية وفي بيروت بالعربية في وقت واحد. وربما ندم بعض الكتاب عن تبعيتهم لسارتر، وأحسوا أنهم أخطأوا الطريق بعد أن قرأوا ما كتبه "جاك بيرك" مثلا حين قال:
"إن سارتر عقل كبير ولكنه مع الأسف يفتقر إلى الذكاء السياسى وليس من الضروري أن يكون العقل الكبير عقلا سياسيا ولكن المشكلة عند سارتر أنه يريد أن يكون سياسياً فيما يجابه من التيارات اليسارية ومنها الشيوعية بنوع من العقد النفسية .. ومن المؤسف أن سارتر الذى يبقى معظم فلسفته على فهم الآخر لا يفهم الآخر ولا يحس به . لم يستطيع سارتر أن يتغلب على ما أحيط به من الدعاية والتضليل الصهيوني. فاعتبر إسرائيل "صيحة" وقلب القصة فاعتبر إسرائيل "مدعى عليها" وقد بلغت الدعاية الصهيونية به أن يقلب الحقيقة التاريخية في أوربا كلها . إنهم ينفون أن يكون الوجود الصهيوني استعماراً.(1/88)
ويردد كثير من أنصار سارتر فشل سارتر وكيف تبخرت مفاهيمه التى ضللت الشباب العربي ردحا من الزمن، وكيف انقشع بريق اسمه فظهرت الوجودية فلسفة للفوضى والانحلال، وكيف هوجمت فلسفة سارتر من كلتا النزعتين الرأسمالية والشيوعية ورفضوا مفهومه عن الحرية ووصفوها بأنها حرية فوضوية ومن ثم حاول سارتر أن يتقرب إلى الشيوعيين وتراجع عن كثير من آرائه السابقة.
وفي مصر تقدم عبدالرحمن بدوى برسالة دكتوراه عن "الزمان الوجودي" ورأس الحفل الدكتور طه حسين واشترك مع المستشرق بول كراوس وأعلن طه حسين أن عبد الرحمن بدوى أول فيلسوف وجودي مصري، وقد قدم بدوي الفكر الوجودي وترجم كل المصطلحات الوجودية الشاقة وترجم كتاب سارتر الضخم: "الوجود والعدم".
ولم يلبث عبد الرحمن بدوى أن اختفى وطوته الموجة التى تطوى كل المذاهب الضالة والمنحرفة، وكشف الفكر الإسلامي عن آصالته في أنه يرفض كل ما ليس متصلا بقيمه الأساسية مهما بدأ يوماً وله بريق أخاذ.
لقد كان فلسفة سارتر شؤماً عليه. فقد أضفت عليه ظلال مظلما ما زال يلاحقه.
وقدكان عبد الرحمن بدوي قبل سارتر تابعاً للفلسفات الباطنية والمحسوية يحييها ويرد إليها الروح، ويقدم شخصيات قلقة في تاريخ الإسلام ويشيد بأمثال الرواندي والحلاج وغيرهما من الزنادقة. وإلى جانب ذلك فقد قدم في الفلسفة الإسلامية الجانب الصوفي المتصل بوحدة الوجود والحلول وأشاد بالسهروردي وابن عربي وابن سبعين: تلك الشخصيات الضالة التى عمل استاذه الأول ماسينون" على إحيائها. وكان طه حسين هو صاحب الدعوة إليها في الأدب العربي منذ أعادة انبعاث "إخوان الصفا" وكما سقط الفكر الباطني سقط الفكر الوجودي وانهارت تلك الصروح على رؤس أصحابها {أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير، أمن أسس بنيائه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم}.(1/89)
وإذا كان الأدب الغربي قد عرف وجودية كيركجارد، وكامي، وسارتر، فإن ذلك كله مستمد من أصول أصيلة فيه تقوم على فكرة الخطيئة المسيحية، أما في الفكر الإسلامي فإن محاولة زكي نجيب محمود عن المنطق الوضعي وفؤاد زكريا عن الفلسفة الماركسية وعبدالرحمن بدوي عن الفلسفة الوجودية هي محاولات ضالة باطلة سرعان ما لفظها الفكر الإسلامي صاحب الصرح الشامخ القائم على فكرة التوحيد الخالص والإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
وقد ذابت محاولات إحياء الفلسفة الصوفية التى قام بها "ماسنون" أربعين عاماً بإحياء الحلاج لأن المسلمين عرفوا طريقهم إلى التوحيد الخالص . فقد اسقطت حركة اليقظة محاولات إحياء الفلسفة، والتصوف الفلسفي، والكلام ، والاعتزال، وجعلته ركاماً حين أحيت "المنهج القرآني" الأصيل حيث بدت كل محاولات الفلاسفة الإسلاميين المعاصرين وكأنها مقدمات موقوفة انطوت صفحتها حين برز نور المفهوم القرآني: مفهوم أهل السنة والجماعة على نفس النسق الذى واجه المشائين القدامي أمثال ابن سينا والفارابي. وقد تكشفت نزعتهما إلى الباطنية الإسماعيلية في الأخير بعد أن خدع بهما الكثيرون، وحين يتنادى باسمه اليوم بعض غلمان المستشرقين فإن الأمر لا يخدع أحداً ذلك أن الحقائق التى تكشفت قد ردت كبار الكتاب عما خدعهم به البريق الخاطف.
يقول أنيس منصور:
"من الضروري أن نفلت من جاذبية شخص كبير لتجد نفس ومعك حريتك. لقد وقعنا في غلطة حين تأثرنا بأستاذنا عبد الرحمن بدوى ذلك أن كثيراً مما رآه رؤيته هو والذي وجده شاتا كان مشكلته هو والذي أحبه كان مزاجه هو ولكن في السنوات الأخيرة عاودت قراءة الفلسفة من ينابيعها التى أفزعنا منها عبد الرحمن بدوى فلم أجدها كذلك.
وهكذا تبين أن هذه الهالة كانت باطلة، بل إن أنيس منصور يبشرنا بأن سارتر عندما مات قال على فراش الموت: لا شئ ، كل شئ عدم.(1/90)
ويستطرد أنيس منصور قائلا: سارتر الفيلسوف الوجودي الملحد كانت آخر كلماته لا شئ. أي لا فائدة من أي شئ. فهى يرى أن الوجود والعدم لهما نفس القوة ولهما نفس المعنى. فهي كالليل والنهار لا ينفصلان، ولا تعرف على أي شئ أجاب سارتر لآخر مرة بكلمة لا شئ، ولا فائدة، لا معنى، لا هدف، كل شئ عدم، أو كل وجود عدم، أو كل موجود معدوم.
* * *
وهكذا يندم أنيس منصور على أنه تابع هذا الفكر الضال أكثر من عشرين عاماً من عمره قضاها في تحسين هذا الفكر وزخرفته وتقديمه إلى الشباب في عشرات من الكتب التى طبع منها مئات الألوف لتخدعهم عن الحقيقة ولتزيف لهم الواقع ولتردهم عن الفم الأصيل. عندما كتب مقالاته عن رحلته إلى الأراضى المقدسة، وكان عليه أن يعلن انسحابه من كل هذه المفاهيم والعقائد، وأن يصحح موقفه أمام قرائه خلال هذه السنوات الطويلة. واليوم يصف فلسفة الوجودية بأنها فلسفة المقابر، لأن سارتر تحدث عن الموت والدمار والخراب، والوحدة والقلق والفزع، والخوف والغثيان والعدم، والتقت كل هذه المعاني السوداء في قلمه وفي خياله. هناك وجودية ملحدة عند سارتر وكامي وهيدجر واسبرز وأونامونو. ووجودية مؤمنة عند جابريل مارسيل، وبرديالف، وجاك مارتيان.
وكان حقا على أنيس منصور أن يقرأ الفكر الإسلامي الأصيل ويعرف زيف الوجودية جملة بمفهوم الانطلاق من الضوابط والحدود والقيم التى رسمها الدين الحق، وأن يعلم أن نظرية الوجودية كما جاء بها سارتر إنما كنت تمثل تحدياً خاصاً مر بالشعب الفرنسي بعد سقوطه في قبضة ألمانيا إبان الحرب. هذا السقوط الذى كشف كما قال زعيمه "بيتان" عن انهياره الأخلاقي العاصف.(1/91)
ولما كانت الصهيونية العالمية هي التى صنعت هذا بالثورة الفرنسية فإنها قدمت سارتر على جميع أجهزة الإعلام والدعاية لتفتح صفحة أشد عنفاً من الانهيار الخلقى والاجتماعي. تلك التى صنعتها فلسفة سارتر بظهور جماعات الوجوديين الذين تشكلوا في الغرف المظلمة والحوارى الضيقة وتحت أسطح العمارات ليمارسوا أسوأ صور الجنس ويعلنوا احتقارهم للمجتمع. ومنهم نشأت بذرة "الهيبية" التى تعم الآن العالم كله.
ولقد كان أخطر ما في الدعوة الوجودية إنكار الله تبارك وتعالى والسخرية بالأديان واعتبار الإيمان بالله عائقا كبيراً عن حرية الإنسان وأن أثر التعاليم الربانية على الإنسان جد خطير لأنه يضيع عليه فرصة التمتع بالأهواء والتمرغ في الشهوات. فالوجودي لا يؤمن بوجود الله "تبارك وتعالى" ولا يؤمن بنظام خلقى يسود على الإنسانية. الإنسان عندهم حر ومسئول أمام نفسه فحسب . لا أمام الله. وهكذا تجد سارتر يدعو إلى الحرية المطلقة من كل قيد!!
ولقد جاء سارتر إلى مصر ترافقه سيمون دي بوفوار، التى قالت لنساء مصر في صراحة تامة: نحن نريد أن نحطم "قوامة" الرجل ودعت إلى حياة زوجية محررة من "العقد الشرعي" كحياتها هي مع سارتر، ولقد كشفت إحدى المرافقات لسارتر خلال رحلته إلى مصر في الفترة الأخيرة خفايا كثيرة في الزيارة اللعينة. فأشارت إلى أن
"رفيق" سارتر وسيمون كان رجلا يهودياً "كلود لانزمان"، وهو الذى وجه الزيارة على النحو الذى أرادته الصهيونية. وقد أشارت إلى أن كتاب اليسار استقبلوا سارتر بتقدير بالغ كان موضع دهشته هو أساساً. وذلك مثلا حين كتب أحد الشيوعيين مقالا عنوانه "سارتر ضمير العصر" وكان سارتر يتساءل بعدها "أنا ضمير العصر كله؟!
أنا لست حتى ضمير نفسى" ثم يطلب ضاحكا من لاتومان أن يتحمل عنه بعض هذه الألقاب.
وتقول الكاتبة :" لقد سمع ورأى. ولكنه لم يتأثر فيه أنمله بما سمع ورأى.(1/92)
"ولقد كان استقبالنا لسارتر أشبه بمظاهرة. وكان كلامنا معه أشبه بالصدى في وادى مهجور. إلا أن الصهيونية كانت أذكى منا وأكثر دقة في قيادته إلى أهدافها. فقد دست "كلود لانزمان" بفكره الصهيوني المغلف بطبقة مزيفة من الفكر التقدمي التضليل. دسته على سيمون في وقت كان فيه سارتر يتأرجح بين وجوديته والشيوعية فاستطاعت سيمون بتأثير من "لانزمان" أن تسوق سارتر إلى أن يخرج عن قاعدته ويسير وراءها منوما أو كالمنوم. فانبهر بما قدم إليه فترة. قبل أن يعود إلى قواعده سالماً. وقد رأينا كيف كان لانزمان يقف في الظل وراء سارتر في كل زياراته ليسمعه صوت "هرتزل" واضحا مجلجلا وهو يهمس به إليه.
كان هذا في مارس 1967 وفي نوفمبر من نفس العام اكتملت الصورة. فقد منحت إسرائيل شهادة الدكتوراة الفخرية لسارتر في سفارة إسرائيل بباريس بحضور عدد من المثقفين الفرنسيين على رأسهم سيمون وفرانسواز جيرو وزيرة الثقافة الفرنسية، وأذاع التلفزيزن الفرنسى كلمة سارتر التى قال فيها:
"إن قبولي لهذه الدرجة العلمية التي اتشرف بها له مدلول سياسي في القبول يعبر عن الصداقة التى أحملها لإسرائيل منذ نشأتها.
هذا سارتر الذي كتب "المسألة اليهودية" وهو الذي زار إسرائيل وأشاد بها، وهو الذي شارك في المظاهرات، ووقع البيانات المويدة لإسرائيل. وقد قبل سارتر الدكتوراة الفخرية منالجامعة العبرية بينما رفض من قبل كل الجوائز التى أهديت له بما فيها جائزة نوبل.(1/93)
وكان سارتر قد قام بزيارته لإسرائيل قبل حرب 1967 ببضعة شهور. وما لبثت نذر الحرب بعد عودته إلى فرنسا أن بدت في الأفق في مايو 1967 فسارع سارتر ومجموعة من المثقفين الفرنسيين الآخرين إلى إصدار بيان في تأييد إسرائيل التي سيدمرها العرب. ولكن إسرائيل بدأت بالهجوم، واحتلت من الأرض ، وقتلت من العرب ودمرت. فلم يراجع سارتر نفسه، ولم يعدل موقفه إلا بعد أن اشتعل النضال الفلسطيني بعد الهزيمة، وامتدت نيرانه إلى بعض العواصم الأوربية.
وبعد فلقد سقط فكر سارتر قبل أن يذهب لأن دعوته هي نوع من هوى النفس. وهي مواجهة لتحد عاشه في عصره. ولكن الزمن يتحول ، والفكرة التي تكون اليوم استجابة لوضع معين .. فإنها سرعان ما تسقط مع تحولات الزمن والبيئات. ولذلك فغن الوجودية لم تستطع أن تكون مذهباً قائماً أو مستمراً . وهكذا كل الأيدلوجيات البشرية التى صنعها الفلاسفة. وظنوا أنهم قد استطاعوا حل مشاكل عصرهم. ذلك أن هناك منهجاً واحداً: هو الذى يستطيع أن يحل مشاكل الإنسان في كل العصور والبيئات. ذالك هو منهج الله الحق "لا إله إلا الله".
(14)
لويس عوض
*توفيق الحكيم يرى عزل مصر عن البلاد العربية وتحويلها إلى فندق سياحي عالمي للوافدين العرب تقدم لهم كرم الضيافة من المتعة والراحة.
*لويس عوض يحاول تحطيم دور مصر الرائد في مواجهة الفكر العربي وموقفها التاريخي من الإعصار التتري والحروب الصليبية.
*كراهيتهم الإسلام ثابتة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكن بتدو في التصرفات وطريقة معالجة القضايا والمشاكل.
*طه حسين يقول في تمجيد الفرعونية وإعلاء شأنها على الإسلام: إذا كان الإسلام سيقف حجر عثرة في طريق مصريتنا الفرعونية لنبذناه.
*كان الإسلام وما يزال روح المجتمعات الدولية ومهد الحضارات الإنسانية ووقود الحركات الوطنية والتحررية.(1/94)
*لا غرو فالإسلام هو الذى صنع الشخصية المصرية منذ أربع عشر قرناً والإسلام اعتنقه المسلمون ديناً واعتنقه غير المسلمون حضارة وثقافة وعادات.
دارت التساؤلات حول يوميات كتاب الصحف اليومية وما أثاره لويس عوض وتوفيق الحكيم والسيد ياسين من وجوه النظر حول علاقة مصر بالتاريخ الغربي والإٍسلامي، وبالدولة العثمانية والغرب، ومحاولة تصوير مصر على أنها شخصية فرعونية غارقة في الوثنية أو منحازة إلى الغرب. وتتجاهل هذه الدراسات أن الإسلام هو الذي صنع الشخصية المصرية منذ أربعة عشر قرناً وأن التاريخ وعلماء التاريخ قد أعلنوا بما لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح .. سواء منهم الغربيون أو العرب، أنه قدحدث انقطاع حضاري جب كل ما كان قبل دخول مصر في الإٍسلام، وأن تاريخاً ضخماً طويلا استمر أكثر من ألف سنة من تاريخ اليونان والرومان في هذه المنطقة من الشام إلى مصر إلى أفريقيا كل هذا التاريخ بقرائه ولغاته ومفاهيمه وقيمه قد أصبح في خبر كان بعد دخول الإٍسلام بقرن واحد فقد اعتنقت المنطقة كلها الإٍسلام .. اعتنقه المسلمون دينا واعتنقه غير المسلمين حضارة وثقافة وعادات". وقد أشار كرومر إلى هذا المعنى حين قال: إن المسلمين والمسيحيين يضدرون عن أخلاقي واجتماعي واحد مع طول التأثر.(1/95)
ولكن إخواننا ينسون هذه الحقيقة الواضحة ويناقشون الشخصية المصرية على أنها منعزلة لم يصنعها القرآن أو الثقافة الإسلامية أو الفكر الإسلامي أو اللغة العربية، وينسون أن المنطقة كلها هجرت لغاتها القديمة بعد قرنين من دخول الإسلام إليها، كذلك فقد كان الإسلام ولا يزال روح المجتمعات وشارة الحضارة ووقود الحركات الوطنية والتحريرية، ولقد كان الدعوات إلى الإقليمية والقوميات واحدة الفكرة والمنهج .. ولذلك سرعان ما عجزت عن تحقيق أشواق النفس العربية الإٍسلامية. وستظل هذا الظاهرة الإسلامية الفكرية والاجتماعية أساساً مكيناً وحصناً حصيناً للشخصية المصرية ما عاشت .. لأنها عميقة الجذور من ناحية ولأنها منصهرة فيها انصهاراً عضوياً يعجز خصوم الإسلام عن القضاء عليه.
إن الدكتور لويس عوض لا يستطيع أن يخرج عن التفسير الفرعوني الوثني الذى سار عليه كل كتاباته وعرف به ومن ثم فقد أصبح في تقدير الباحثين غير منصف ولا راغب في معرفة الحقيقة الخالصة لوجه الحق وحده.
ولقد جاءت تساؤلات عن محاولات توفيق الحكيم في تحييد مصر عن البلاد العربية وعزلها، والدعوة إلى جعلها فندقاً عالمياً سياحياً يقدم للوافدين من كل مكان المتعة والترفيه، وكان في ذلك مشاركاً للدكتور لويس عوض في تحطيم دور مصر العالمي الذى عاشت تقوم به في مواجهة التيارات الغازية والغزوات الطامعة التى واجهت عالم الإسلام، وكان لها دورها الخطير في رد هذه الغزوات وحماية عالم الإسلام وحماية الغرب نفسه كما حدث في الإعصار التتري وفي الحرب الصليبية وفي الاستعمار الغربي الحديث، وسوف يكون لها دورها الخطير في دفع الغزوة الصهيونية ووقاية المسلمين والعرب منها..(1/96)
ولا ريب أن دعوة توفيق الحكيم تصدر عن مفهوم بعيد أشد البعد عن الانتماء العربي الإسلامي .. ولقد كان توفيق الحكيم طوال حياته يفخر بذلك معليا شأو العنصرية في حديثه عن مصر، كارهاً لطابع مصر العربي الإسلامي .. وبالرغم من أن الدكتور طه حسين أعلى من شأن الفرعونية على الإسلام حتى قال قولته المشهورة: "إذا كان الإٍسلام يقف حجر عثرة أمام مصريتنا وفرعونيتنا لنبذناه" بالرغم من هذا فإن الدكتور طه حسين يرى أن رأي توفيق الحكيم في العرب أشد تحاملا وتعصبا من رأي كثيرين من متعصبة المستشرقين أمثال رينان ودوزى. ولعل التقارب في الرأي بين توفيق الحكيم ولويس عوض يرجع إلى مصادر الثقافة الغربية الواحدة التى تأثر بها كلاهما في فترة كانت البعثات الأجنبية سواء إلى فرنسا أو إلى انجلترا تستهدف سحق مقومات هذه الأمة وإلقائها في أتون الإقليمية فهي كراهية مشتركة للعروبة والإسلام، وهو ممتدة إلى اللغة العربية وإلى القرآن وهي مبثوثة في الأعماق لا تظهر على السطح ولكنها تبدو في التصوف وفي تناول القضايا.(1/97)
وبالرغم من أن توفيق الحكيم قد لخص تفسير القرطبي وظن بعض الذين يأخذون بظواهر الأمور أنه في الطريق للتعرف إلى الإسلام إلا أنه لم يلبث أن كشف عن تلك المحاولة المسمومة التى ترددها طائفة معروفة الآن باسم طائفة الخادعين المسلمين بالحديث عن الشريعة الإسلامية وذلك حين ردد ما كان يقوله منذ سنوات عن تطوير الشريعة الإسلامية وهي دعوة يحمل لواءها من وقت بعيد: محمد النويهي وعبد الحميد متولى ومحمد أحمد خلف الله وآخرون بهدف تذليل الشريعة لتبرير أوضاع المجتمعات الحديثة وفي مقدمتها الربا وعلاقات المرأة والرجل خارج نطاق الزواج، واحتواء الشريعة الإسلامية ونصوصها في داخل القانون الوضعى على النحو المسموم الذى دعا إليه عبدالرازق السنهوري منذ سنوات وهي دعوى ممتدة يغذيها النفوذ الأجنبي ليحول بها دون تطبيق المجتمعات الإسلامية للشريعة الإسلامية أو عدوتها إلى طريق الأصالة، ومن أهم هذه المحاولات المسمومة: القول بتغير الأحكام مع تغير الزمان " وهو قول محدود جداً يتصل بالفرعيات ويعتمد في ذلك على نص للشيخ محمد عبده الذي يعتمد عليه الماركسيون وأعداء الشريعة لا يمثل الإمام المجتهد ولا المتخصص في هذا الأمر، وإنما هي اجتهادات كان لها وضع وظروفها في وقت كانت الشريعة الإسلامية تضرب بالسياط على أيدى كروم في مصر وليوق في المغرب وهي لا تمثل اجتهاداً يمكن الأخذ به ، كذلك الخطأ الذى وقع فيه على عبد الرازق حين أراد أن يصف الإسلام بأنه دين روحاني ويلغى نظامه الاجتماعي إلغاء تاماً وتلقف بعض المستشرقين هذه النصوص الزائفة التى لم يعتمد فيه على كتاب أو سنة لضرب الإسلام. كذلك هناك ما يثار من شبهة الشبهات والتغيير ومحاولة وضع العقيدة في مكان الثبات والشريعة في مكان المتغير وهذا أيضا غير صحيح على إطلاقه. وأن الشريعة الإسلامية إنما جاءت خالصة ثابتة صالحة لكل العصور والبيئات إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(1/98)
وقد دحض الدكتور عبد المنعم النمر شبه توفيق الحكيم هذه التى ما زال يرددها منذ سنوات حين قال له : كان الحكيم يريد أن يجعل كل ما شرعه الله لتنظيم حياة الإنسان خاضعا للتغيير بتغير المجتمع وراثة، ومن هنا تهب ريح الخطأ في التفكير، بل والخطر أيضا على شريعة الله إذ معنى ذلك ومؤداه لو قبلناه أن لنا أن نبيح الزنا والخمر والرقص متى قبل المجتمع ذلك ونتحلل من عقوبات السرقة والحرابة والزنا ومن كل شئ حرمه الله ورسوله لو قبل المجتمع ذلك !! وهذا اتجاه خطير يهدم الشريعة ويزلزل كيانها لأنه يجعلها تابعة وخاضعة لهو الناس وما يتجهون إليه في حياتهم في أي مكان وفي أي عصر والله تبارك وتعالى يقول لرسوله:{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تبع أهواء الذين لا يعلمون}.
ونقول أن الجماعة ينتدبون أحدهم فترة بعد فترة ليثير القضية ثم ينظرون ثمة ليعود آخر إلى إثارتها وكل همهم أن يخرج المجتمع الإٍسلامي العربي والمصري من شريعة الله إلى قبول الربا والرشوة والتساهل في أمر العرض واستعراض المرأة لمفاتن جسدها ومراقصة الأجانب. وهكذا.
الحقيقة أن قضية المرأة تأتي في المقام الأول من عملية تحطيم المجتمع، وهي تهدف إلى تدمير الأسرة وتعاون على ذلك قوى كثيرة منها القصة والمسرحية والأغنية والصورة العاربة وبعض كتاب اليوميات الذين يزينون التيارات التى تهدم المجتمع ممثلة في بعض الروايات الجنسية والكرة والرقص.
وتجرى الصحف لاهثة وراء تفاهات يسمونها نصراً للمرأة سواء في مجال الرقص أو الغناء أو قيادة السيارات وكلها أمور لا أهمية لها تستهدف إخراج المرأة من مكانها الحق ووضعها الصحيح. وتلك مجموعة أخرى من الكتاب لها صلاتها بالروتاري والليونز ومخططات الهدم والتدمير.
سجلت صفحات الدكتور لويس عوض أحقاداً وسموماً بالغة الخطر عمقة الأثر:(1/99)
(أولا) من أخطرها حملته على اللغة العربية الفصحى ودعاواه الكاذبة في مواجهتها كراهية الإسلام والقرآن، وقد كان من أخطرها كتابه "مدخل إلى فقه اللغة العربية" التى حاول فيه الادعاء بأن العرب جاءت من القوقاز، وأن اللغة العربية لغة آرية ليس لها أي تميز خاص وقد خاض في شبهات حول الإعجاز القرآني وغير على نحو مضلل.
(ثانيا) موقفه من الشعر العربي وهجومه على الأصالة واحتضانه لشعراء التفعيلة من أمثال: صلاح عبد الصبور وأدونيس والسياب وغيرهم ودعوته إلى تحطيم عامود الشعر وكسر بلاغة اللغة العربية وهي دعوى قديمة ما زال يرددها ويجددها.
(ثالثا) موقفه المتعددة من التراث الإسلامي والفكر الإسلامي وهي مواقف توحى بالشبهة في سلامة البحث وعلميته، والالتجاء إلى أفكار المستشرقين ومتابعتهم وكراهية أمة العرب والإسلام، والتى تكشف عن أحقاد دفينة.
وقد واجهه كثير من المفكرين وكشفوا زيفه، وفي مقدمتهم الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه "أسمار وأباطيل".
محتوى الكتاب
الموضوع ... ... ... الصفحة
1- لطفي السيد
2- سعد زغلول
3- قاسم أمين
4- طه حسين
5- سلامة موسى
6- على عبد الرازق
7- ساطع الحصرى
8- محمد التابعي
9-10- مدحت وأتاتورك.
11- غاندي
12- زكي نجيب محمود
13- سارتر وعبدالرحمن بدوى
14- لويس عوض(1/100)