تراجم شهداء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث
الجزء الأول
جمع وإعداد عبد القادر عبار
الاستشهاد محرك التاريخ
حكمة يعرفها الثوار...
ويجهلها الطغاة..
الإهداء
إلى الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه
فمنهم من قضى نحبه...ومنهم
من ينتظر... وما بدّلوا تبديلا.
...إلى شهداء الدعوة الإسلامية حيثما
كانوا... والى الذين يقتفون أثرهم على بصيرة
من الرجال والنساء والولدان...حتى
لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
...إلى صاحبة الإمضاء على
دفتر الشهادة ? السيدة? سمية بنت خياط.
اهدي هذه التراجم...
عبد القادر عبار
نشيد الشهداء
نحن للحق والإيمان جند مسلمون
نحن لا نخشى أذى الظلم ولا ريب المنون
عزة الإسلام في الأنفس تأبى أن تهون
وترى أن المعالي للميامين تكون
فابتسم يا موت للأموات وابكي يا سجون
هلّل الفتح المبين ..يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين.. رددوا الله اكبر
نحن إن نسجن و إن نعدم فجنات النعيم
هي مأوانا وأهل البغي في نار السموم
فاملاوا الأرض لهيبا يا طواغيت الجحيم
واستعينوا بالمنايا...... مرتع الظلم وخيم
حسبنا أنّا على شرع النّبي المستقيم
هلّل الفتح المبين ..يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين.... رددوا الله اكبر
ستة نحن مهرنا المجد لا نبكي الحياة
وارتضينا الموت في ظل الأماني الناضرات
فارتقي يا دولة الظلم وعيشي سنوات
إن أمر الله آتيك مع الهون بيات
وارقبي إن دمانا لعنة فوق الطغاة
هلّل الفتح المبين...يا جنود المسلمين
رغم انف الظالمين ... رددوا الله اكبر
* للشاعر الأستاذ ?عدنان قيطاز ..نشرت بمجلة الشهاب السورية عدد11 عام 1955
أخرجها الأستاذان حسني الجرار واحمد الجدع في المجموعة الأولى من أناشيد الدعوة ص 93
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة(1/1)
الحمد لله رب العالمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون. واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له الأول والآخر .. الظاهر والباطن .. وهو على كل شيء شهيد. واشهد أن سيدنا محمد عبده ورسوله بلغ الرسالة وأدّى الأمانة وترك المسلمين المؤمنين على الحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبع نهجه على بصيرة وعاش على سنته.
( أ)
عندما جالت بخاطري فكرة تأسيس هذا المشروع اعني وضع هذا الكتاب حول تراجم شهداء وشهيدات الدعوة الإسلامية في العصر الحديث.. أحسست بقشعريرة تسري في بدني إذ عندها فقط أدركت بعمق وأسى بالغين فظاعة ونذالة وجريمة شنق وإعدام إنسان ما من اجل فكره ودينه... وألفيتني أتساءل
- بأي حق يطلق الرصاص على رجل تقي ومواطن صالح ... كحسن البنا ؟
- بأي حق يشنق مفكر عملاق كسيد قطب ? مفجر الفهم الحركي للقرآن ومؤسس نظرية التصوير الفني في القرآن ... على حبل المشنقة كما يعلق صعاليك المجتمع وقطّاع الطرق؟
- بأي حق يقتحم صعاليك المخابرات بيتا آمنا ويفرغون الرصاص على راس امرأة عزلاء تستعّد للصلاة .. كبنان العطّار.. بينما عاهرات القصور وفاجرات العلب الليلية .. يسرحن آمنات في ربوع الأوطان ؟
وعندئذ- أقولها بصدق وعمق- .. أيقنت أن يوم القيامة طويل وطويل جدّا وأدركت بفراسة المؤمن ويقين المسلم كم هو رهيب ذلك اليوم وكم هو مشحون بمفاجآت لا تسر الظالمين... حيث تقف سمية بنت خياط تدين أبا جهل. وحسن البنا يدين فاروق ورعاعه... وسيد قطب يدين جمال عبد الناصر.. وآخرون وآخرون غيرهم ... كلهم موقوفون للقصاص العادل أمام الحكم العدل .. والوزن يومئذ الحق وشعار الجلسة لا ظلم اليوم.. وملفات البحث مختومة بأمانة وليست هناك فرصة للاستئناف ولا التعقيب..
انه يوم التغابن الحق.
(ب)(1/2)
وانه لمن تضييع الأمانة أن يعدم الصالحون ويشنق الدعاة ويذبّح العلماء ...ثم نتناساهم بطريقة أو بأخرى .. وتشغلنا هموم صغيرة وتفاهات سخيفة عن تسجيل تراجمهم ولا نحتفظ بصورهم للعبرة والذكرى والتاريخ ... حتى تعلم الأجيال اللاحقة ويدرك الناس عامة أن النصر والتحرير والإصلاح والتغيير مرّ على جماجم الرجال ووقّعت على حتميّته دماء الشهداء... ولم يحصل من خلال "دعاء مكبوت في زاوية" أو " تفاعل كيمياوي في مخبر المفاجآت" أو عن طريق هبة شرقية أو غربية.
وإنّما رسمته أنّات المعذّبين في المعتقلات ولوّنته دماء المذبوحين وعطّرته دموع الأرامل والأيتام وصبر المشنوقين على ضغط الحبال وشماتة الجلاّدين وصدق شوقي في صيحته حين قال ?
وللحريّة الحمراء باب بكلّ يد مضرّجة يدقّ..
ويقول الدكتور المجاهد عبد الله عزّام ?
" إن تاريخ الأمم يجري بقدر من الله على أيدي أفذاذ يسطّرون بدمائهم ويشيدون بمواقفهم وصلابتهم أمجاد الأمم وحصون عزّتها. وقد بدأت صناعة التاريخ الإسلامي جليّة في أفغانستان .. فبدأت معاقل الإسلام حديثا ترتفع ولكن بالجماجم لا بالحجارة والطوب ( وسائل الإنتاج..)... وكان المجاهدون الأفغان جزءا من قدر الله لهذه الأمة التي بدأت تنهض من كبوتها وتستيقظ من سكرتها وترتفع من مستنقع وهدتها وارتكاسها.
والأمم تحرص على كتابة تاريخ أفذاذها لتربية مقبل أجيالها. وبناء الناشئة من أبنائها على القيم التي ضحّى من اجل غرسها أبطالها. وافضل طريقة لتربية الأجيال هي تدريسها تاريخ أمجادها من خلال سير مصلحيها وقادتها وأبطالها.. فنحن نتأسّى برسول الله صلى الله عليه وسلم ونقتبس من النور الذي جاء به ونسير على هدى أصحابه ونقتفي أثرهم ? "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ".(1/3)
وكلما كانت الأمثلة شاخصة حيّة وأحداثها ساخنة جديدة فإن وقعها في القلوب يكون اعمق وأثرها في النفوس وتوجيهها اشد وأقوم... وذلك لأن الشواهد الحاضرة دوافع ومحركات للقلوب أن تتشابه وتباري..
"والكلام عن الشهداء فرض من رب العالمين لأنه جزء من التحريض على القتال الذي افترضه الله على كل مسلم فكم من القلوب الميتة أحيتها قصص الشهداء وكم من الشباب قد وفدوا إلى الجهاد بقراءة قصة شهيد... وكم من تائه ردّ إلى الله وكم من فاسق آب إلى ربه..."(1)
(ج)
ويأتي هذا المشروع من باب بعض الوفاء للشهداء... وتسديدا لبعض الدّين الذي في أعناقنا تجاه رجال ونساء بذلوا أرواحهم.. وتحملوا التعذيب والشنق والذبح من اجل التحرير والإصلاح والتغيير.. في إطار عودة الحق .. وتحقيقا لقيّوميّة هذا الدين / الرحمة.. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ولست ادعي أني جمعت فيه كل تراجم الشهداء أو تحدثت فيه عن كل تفاصيل حياتهم وجهادهم ومعاناتهم.. إن مشروعا كهذا اعتقد انه لا يقوم بحقه على الوجه الأكمل والأنجع.. إلا مؤسسة... وما خطوتي هذه إلا مجرد لبنة في الجدار. بانتظار انبعاث هذه المؤسسة التي نطالب بها الحركة الإسلامية التي تمتلك من الكفاءات والطاقات والإمكانات ما ييسر إنجاز هذا العمل / الثغرة في جدار المكتبة الإسلامية والذي يمكن أن نسميه " موسوعة تراجم شهداء الدعوة".. تقدّمه كبعض الواجب الذي يطالبها به شباب الصحوة والرأي العام الثقافي الإسلامي ... والتاريخ.
(د)(1/4)
وبما أن هذه الخطوة جهد فردي / بشري بكر .. فانه لا يخلو من عثرات ونواقص ...وبخس لهذا الجانب أو ذاك... وتكلّف لهذا الجانب أو ذاك..وأقولها بصراحة إني لست اكثر من "جمّاع" في هذا الكتاب .. ظللت أتتبع الشذرات والنّتف وأطارد القصاصات والمجلات.. والكتب التي اعرف فيها كلاما عن هذا الشهيد أو ذاك.. فربما نقلت الفقرة كاملة وربما تصرفت بعض الشيء في هذه الفواصل أو تلك.. إلا أني حرصت على أن تكون المادة المنقولة والمتصرف فيها .. تفرز في نهاية الإخراج صورة واضحة فيها ملامح الشهيد الرئيسية.
وعليه فرجائي ممن أخذت من مؤلفاتهم وتصرفت في أعمالهم في هذا الباب أن يعذروني سلفا.. على الأخذ دون استئذان مباشر..
قد بدا لي أن اصدّر الملف بنشيد الشهداء للأستاذ الشاعر "عدنان قيطاز" ثم خلاصة حول الشهادة والشهداء في ظلال القرآن والسنّة .. والفقه .. وجعلت الباب الثاني خاصا بالحديث عن بعض الرواد الأوائل الذين رسموا الطريق ... وسبقوا بالتوقيع على دفتر الشهادة .. ومن المفاجأة أن تكون على راس القائمة "امرأة" رشحتها مشيئة المولى سبحانه للصّدارة والإمارة في قوافل الشهداء.. وفي ذلك صفعة نووية إن صحّ التعبير على خدّ اليسار الغربي الذي ما فتئ يعيّر المشروع الإسلامي باضطهاد "الأنثى" ويجعل من مقولة "الحريم" و"المرأة الجسد" و" المرأة العورة " إلى آخر القائمة الممجوجة .. علكة إعلامية يمضغها أناء الليل وأطراف النهار.. وحيثما حلّت به قدم بقصد تدنيس صورة الحركة الإسلامية وتنفير الرأي العام من مشروعها / الرحمة.
وأما الباب الثالث فخصصته للحديث عن الرموز التي استشهدت في سبيل الله من اجل التحرير الوطني والإصلاح العام والاستقلال.
وجاء الباب الرابع خاصا بشهداء الدعوة المعاصرة ... ابتداءا من رمزها الأول الإمام الشهيد حسن البنا ... مع التمهيد حول الصراع المعاصر ومعاناة الدعوة الإسلامية....(1/5)
وبهذا ينتهي الجزء الأول في انتظار تجميع بقية التراجم لبقية رموز الشهداء لاستكمال الجزء الثاني بإذن الله تعالى .
وأسأل الله سبحانه أن يبارك في هذه الخطوة و أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.. و أن يتقبّل شهداء الإسلام بواسع رحمته وكريم عفوه و أن يرزقنا الشهادة في سبيله.. انه نعم الولي ونعم النصير..
وسبحانك اللهم وبحمدك .. اشهد أن لا اله إلا أنت.. استغفرك وأتوب إليك..
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
عبد القادر عبار
غنّوش في
18 ذو القعدة 1409 / 22 جوان1989
المحتوى العام
مقدمة
إهداء
نشيد الشهداء
*الباب الأول
آيات الشهادة والشهداء في المصحف الشريف
الشهداء في ظلال القرآن
الشهداء في ظلال السيرة
شهداء الأمة من خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
حكم الشهيد في الفقه الإسلامي
صورة الشهيد في شعر الدعوة
*الباب الثاني
الروّاد الأوائل ? سمية بنت خياط .. شهيدة النساء
خبيب بن عدي .. شهيد الشباب
عمر بن الخطاب .. شهيد المحراب
عثمان بن عفّان .. شهيد القرآن
علي بن أبي طالب .. شهيد الوحدة الإسلامية
سعيد بن جبير .. شهيد الفقهاء
*الباب الثالث
شهداء الإصلاح والتحرير الوطني ? احمد بن عرفان .. شهيد الهند
عبد الرحمان الكواكبي..
عز الدين القسّام .. شهيد القضية
عمر بن المختار .. شيخ الشهداء
*الباب الرابع
شهداء الدعوة الإسلامية
مقدمة عن الصراع المعاصر ومعاناة الدعوة
الإمام الشهيد .. حسن البنا
شهيد المفسرين .. سيد قطب
شهيد الميز العنصري .. مالكولم اكس
الباب الأول
1) آيات الشهادة والشهداء في المصحف الشريف
2) الشهداء في ظلال القرآن
3) الشهداء في ظلال السيرة
4) شهداء الأمة من خلال حديث الرسول صلى الله عليه وسلم
5) حكم الشهيد في الفقه الإسلامي
6) صورة الشهيد في شعر الدعوة
1) آيات الشهادة والشهداء
أ) الترغيب في الشهادة(1/6)
(( ولئن قتلتم في سبيل الله أو متّم لمغفرة من الله ورحمة خير ممّا تجمعون)) ( آل عمران الآية 157)
((ومن يقاتل في سبيل اله فيقتل أو يغلب فسوف نوتيه أجرا عظيما )) (الآية 74 النساء)
ب) الوعد والبشرى
(( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة والإنجيل والقرآن.. ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم..)) (التوبة)
(( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا واخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفّرنّ عنهم سيئاتهم أتدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب )) ( الآية 195 آل عمران)
(( والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرّفها لهم.)) (الآية 4 محمد)
ج) المقام والثواب
((لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون)) ( الآية 154 البقرة)
(( ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل و أن الله لا يضيع اجر المؤمنين)) (الآية 169 آل عمران)
2)الشهداء في ظلال القرآن
(1)
علم الله تعالى ما سيلاقيه المؤمنون في الدعوة إلى دينه وتقريره وإقامته(1/7)
من المقاومات وتثبيط الهمم وما يقوله لهم الناس في ذلك. وما يقوله الضعفاء في أنفسهم ? كيف نبذل هذه النفوس ونستهدف للقتل بمخالفة الأمم كلها وما الغاية من قتل الإنسان نفسه لأجل تعزيز رجل في دعوته ؟ وغير ذلك مما كان المؤمنون يسمعونه من المنافقين والكافرين. وربما اثر في نفوس بعض الضعفاء فاستبطؤوا النصر.. فعلمهم الله سبحانه ما يستعينون به على مجاهدة الخواطر والهواجس ومقاومة الشبهات والوساوس.. فأمر أولا بالاستعانة بالصبر والصلاة ثم ذكر اعظم شيء يستعان عليه بذلك وهو القتل في سبيل دعوة الحق وحمايته. ذكره مدرجا في سياق تقرير حقيقة ودفع شبهة فقال (( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات..)) أي لا تقولوا في شأنهم هم أموات بل أحياء في عالم غبر عالمكم ولكن لا تشعرون بحياتهم إذ ليست في عالم الحسّ الذي يدرك بالمشاعر(1)
(2)
..وكان في ذلك الوقت كانت الجماعة المسلمة مقبلة على جهاد شاق لتقرير منهج الله في الأرض ولأداء دورها المقسوم لها في قدر الله ولتسلم رايته والسير في الطريق الشاق والطويل.. فكان القرآن يأخذ في تعبئتها تعبئة روحية وفي تقويم تصوّرها لما يجري في أثناء هذا الجهاد من جذب ودفع ومن تضحيات وآلام . وفي إعطائها الموازين الصحيحة التي تقدر بها القيم في هذه المعركة الطويلة تقديرا صحيحا ((ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات ))
.. إن هناك قتلى سيخرّون شهداء في معركة الحق شهداء في سبيل الله قتلى أعزّاء أحبّاء قتلى كراما أزكياء فالذين يخرجون في سبيل الله والذين يضحّون بأرواحهم في معركة الحق هم عادة اكرم القلوب وأزكى الأرواح واطهر النفوس هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا .. انهم أحياء فلا يجوز أن يقال عنهم أموات لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان .. انهم أحياء بشهادة الله سبحانه فهم لا بد أحياء.(1/8)
انهم قتلوا في ظاهر الأمر وحسبما ترى العين ولكن حقيقة الموت وحقيقة الحياة لا تقررها هذه النظرة السطحية الظاهرة . إن سمة الحياة الأولى هي الفاعلية والنمو والامتداد وسمة الموت الأولى هي السلبية والخمود والانقطاع. وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذي قتلوا من اجله فاعلية مؤثرة والفكرة التي من اجلها قتلوا ترتوي بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم تقوى وتمتد. فهم ما يزالون عنصرا فعّالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها وهذه من صفة الحياة الأولى. فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس ثم هم أحياء عند ربهم إما بهذا الاعتبار وإما باعتبار آخر لا ندري كنهه وحسبنا إخبار الله تعالى به ( أحياء ولكن لا تشعرون) لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود.. ولكنهم أحياء (2)
(3)
... ثم لا بد أن تكون هذه الحياة حياة خاصة غير التي يعتقدها جميع الملّيين في جميع الموتى والمعتمد عند الإمام محمد عبده في هذه الحياة إنها حياة غيبيّة تمتاز بها أرواح الشهداء على سائر أرواح الناس بما يرزقون وينعمون ولكننا لا نعرف حقيقتها ولا حقيقة الرزق الذي يكون فيها ولا نبحث عن ذلك لأنه من عالم الغيب الذي نؤمن به ونفوّض الأمر فيه إلى الله تعالى.. (3)
(4)
...أحياء ومن ثم لا يغسّلون كما يغسّل الموتى ويكفّنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء فلا يشق قتلهم على الأهل والأحياء والأصدقاء.. أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحبّاء والأصدقاء.. أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم ولا يتعاظمها الأمر ولا يهولنّها عظم الفداء (4)
(5)(1/9)
.. يكشف القرآن عن مصير الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله . وليس هناك شهداء إلا الذين قتلوا في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى مجرّدة من كل ملابسة أخرى. فإذا هؤلاء الشهداء أحياء لهم كل خصائص الأحياء . فهم يرزقون عند ربهم وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله وهم يستبشرون بمصائر من ورائهم من المؤمنين وهم.... الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم .. فهذه خصائص الأحياء من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير فما الحسرة على فراقهم ؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث فوق ما نالهم من فضل الله وفوق ما لقوا عند ربهم من الرزق والمكانة. وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوّراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه والتي يعتبرونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة . ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله.
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في جلاء الأمور إنها تعمل بل تنشئ إنشاء تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها وهي موصولة لا تنقطع فليس الموت خاتمة المطاف بل ليس هناك حاجزا بين ما قبله وما بعده على الإطلاق إنها نظرة جديدة لهذا الأمر ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين واستيعابهم للموت والحياة وتصورهم لها هنا وهناك.
(( ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. ))
والآية نص في النهي عن حسبان الذين قتلوا في سبيل الله وفارقوا الحياة وبعدوا عن أعين الناس أمواتا. ونص كذلك في إثبات انهم أحياء عند ربهم ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات وصف ما لهم من خصائص الحياة فهم يرزقون ...(1/10)
ومع أننا نحن في هذه الفانية لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل بان يغيّر مفاهيمنا للموت والحياة وما بينهما من انفصال والتئام وكفيل وحده بأن يعلمنا بأن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها وإننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندرك لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها. وانه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى. فهؤلاء ناس منا يقتلون ويفارقون الحياة التي نعرف ظواهرها ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها ولكن لأنهم قتلوا في سبيل الله وتجرّدوا من كل الأعراض الجزئية الصغيرة واتصلت أرواحهم بالله فجادوا بأرواحهم في سبيل الله.. لأنهم قتلوا كذلك فإن الله سبحانه يخبرنا في الخبر الصادق انهم ليسوا أمواتا وينهانا أن نحسبهم كذلك ويؤكد لنا انهم أحياء عنده وانهم يرزقون فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى فرحين بما آتاهم من فضله.
.. فهم يستقبلون رزق الله بالفرح لأنهم يدركون انه من فضله عليهم وانه دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله فأي شيء يفرحهم إذن اكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه ثم هم مشغولون بما ورائهم من إخوانهم وهم مستبشرون لهم لما علموه من رضا الله عن المؤمنين المجاهدين ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم)(1/11)
انهم لم ينفصلوا عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ولم تنقطع بهم صلاتهم انهم أحياء كذلك معهم يستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة موضع استبشار لهم ( أن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم عند ربهم ومن تقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل .ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين وانه لا يضيع اجر المؤمنين فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء الذين قتلوا في سبيل الله ؟ وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين هم لم يلحقوا بهم من خلفهم وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضا وانس عن هذه الرحلة إلى جوار الله مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة.
3)الشهداء في ظلال السيرة(1/12)
لقد خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء الذين يبذلون النفس في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا في مجالات الصراع القائم بين الأمة وأعدائها من أحزاب الباطل على اختلاف لافتاتهم.. بجملة من الأحاديث الشريفة لها لون خاص وظلال خاصة في إطار متميز من جاذبية الترغيب والتشويق.. فقد روى الإمام احمد رضي الله عنه في مسنده قال ? حدثنا زيد بن نمر الدمشقي حدثنا ثوبان عن أبيه عن مكحول عن كثير بن مرّة عن قيس الجذامي قال ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ? يعطى الشهيد ستة خصال عند أول قطرة من دمه .. تكفّر عنه كل خطيئة ويرى مقعده من الجنة ويزّوج من الحور العين ويأمن من الفزع الأكبر ومن عذاب القبر ويحلّى حلية الإيمان... وجاء في صحيح الإمام مسلم رضي الله عنه ? إن أرواح الشهداء في حواصر طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فاطّلع عليهم ربك اطّلاعة فقال ? ماذا تبغون ؟ فقالوا ياربنا وأي سيئ نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحد من خلقك ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا انهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا نريد أن تردنا إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرّة أخرى لما يرون من ثواب الشهادة فيقول الرب جل جلاله إني كتبت انهم إليها لا يرجعون(1/13)
ويعلق العالم ولي الله الدهولي في كتابه القيم حجة الله البالغة على هذا الحديث بقوله ? الذي يقتل في سبيل الله يجتمع فيه خصلتان إحداهما انه تبقى نسمته وافرة كاملة لم تضمحل علومها التي كانت منغمسة فيها في الحياة الدنيا وإنما هو بمنزلة رجل مشغول بأمر معاشه ينام نومة. بخلاف الميت الذي ابتلي بأمراض شديدة تغير مزاجه وتنسيه كثيرا مما كان فيه .. والثانية انه شملته الرحمة الإلهية المتوجهة إلى نظام العالم الممتلئ منها حضيرة القدس والملائكة المقربون فلما زهقت نفسه وهي ممتلئة من السعي في إقامة دين الله فتح بينه وبين حظيرة القدس فيح واسع ونزل من هناك الأنس والنعمة والراحة وتنفّست إليه حظيرة القدس نفسا مثاليا فيتمثّل الجزاء حسبما عنده. فتركبت من اجتماع هاتين الخصلتين أمور عجيبة منها انه تمثّل نفسه معلقة بالعرش بنحو ما وذلك لدخوله في حملة العرش وطموح همته إلى ما هناك . ومنها انه تمثل له طيرا اخضر فكونه طيرا لأنه من الملائكة بمنزلة الطير من دواب الأرض في ظهور أحكام الجنس إجمالا و كونه اخضر لحسن منظره ومنها انه تمثل نعمته وراحته بصورة الرزق كما كان يتمثل الراحة في الدنيا بالفواكه والشواء...(1)
واخرج الإمام مالك رضي الله عنه والشيخان عن انس قال ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحد يدخل الجنة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا وماله على الأرض من شيء إلا الشهيد يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة.(1/14)
كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم ? تضمّن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو على ضامن أن ادخله الجنّة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من اجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده لولا أن اشق على المسلمين ما قعدت خلاف سريّة تغزو في سبيل اله عز وجل أبدا ولكن لا أجد سعة فاحملهم ولا يجدون سعة فيتبعونني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فاقتل ثم أغزو فاقتل ثم أغزو فاقتل.
واخرج الإمام احمد من حديث ابن عباس قال ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا وفي لفظ قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا يتكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا ابلغهم عنكم فانزل الله هؤلاء الآيات (( ولا تحسبّن الذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون..))
وروى الإمام الترمذي عن أبي هريرة قال ? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلا كما يجد أحدكم من مسّ القرصة.
وروى الإمام مسلم عن سهل بن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ? من سال الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء و إن مات على فراشه.(1/15)
وعن انس أن أم الربيع بن البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة وكان قتل يوم بدر فإن كان في الجنة صبرت و إن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء فقال يا أم حارثة إنها جنان في الجنة و إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى .
هوامش ?
(1) حجة الله البالغة .. ولىّ الله الدهليوي جزء 2 ص 172 و 173
4)شهداء الأمة *
عن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ? الشهادة لسبع سوى القتل في سبيل الله ? المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد وصاحب العرق شهيد والذي يموت تحت الردم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة. رواه احمد.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ? ما تعدّون الشهيد فيكم ؟ قالوا يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد. قال إن شهداء أمتي إذن لقليل. قالوا فمن هم يا رسول الله. فقال من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في الطاعون فهو شهيد ومن مات في البطن فهو شهيد والغريق شهيد. رواه مسلم.
وعن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد. أخرجه احمد.
* فقه السنة- سيد سابق- المجلد الأول- ص 513
5)أحكام الشهيد في الفقه*(1/16)
الشهيد الذي قتل بأيدي الكفرة في المعركة لا يغسل ولو كان جنبا ويكفن في ثيابه الصالحة للكفن ويكمل ما نقص منها وينقص منها ما زاد على كفن السنة ويدفن في دمائه ولا يغسل شيء منها . روى احمد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كل دم يفوح مسكا يوم القيامة. وأمر صلوات الله وسلامه عليه بدفن شهداء أحد في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصّل عليهم. قال الشافعي ? لعل ترك الغسل والصلاة لأن يلقوا الله بكلومهم لما جاء أن ريح دمهم ريح مسك واستغنوا بإكرام الله لهم عن الصلاة عليهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين لما يكون فيمن قاتل من جراحات وخوف عودة العدو ورجاء طلبهم وهمّهم بأهلهم وهمّ أهلهم بهم . وقيل الحكمة من ترك الصلاة عليهم أن الصلاة على الميت والشهيد حي أو أن الصلاة شفاعة والشهداء في غنى عنها لأنهم يشفعون لغيرهم.
هوامش ?
* فقه السنة- سيد سابق- جزء 1 -ص 512
الباب الثاني
الروّاد الأوائل
امرأة .. ورجل .. وآخرون
1) شهيدة النساء ... سمية بنت خياط
2) شهيد الشباب ... خبيب بن عدي
3) شهيد المحراب ... عمر بن الخطاب
4) شهيد القرآن ... عثمان بن عفّان
5) شهيد الوحدة الإسلامية ... علي بن أبي طالب
6) شهيد الفقهاء ... سعيد بن جبير
(1) أميرة القافلة .. سميّة بنت خياط ?(1/17)
عن مجاهد قال ? أول شهيد كان في الإسلام استشهد ? أم عمّار رضي الله عنها وهي مولاة أبي حذيفة بن المغيرة وهي أم عمار بن ياسر . أسلمت قديما وكانت ذات إيمان قوي في الله والإسلام . وكانت ممن يعذّب في الله ليرجع عن دينه فلم تفعل رغم كبر سنّها. فكان رسول الله صلى اله عليه وسلم يمر بعمار بن ياسر وأمه وأبيه وهم يعذّبون بالابطح -مكان بمكة- في الرمضاء .. فيقول ? صبرا آل ياسر موعدكم الجنة .. وفي رواية أخرى أن عمار قال يا رسول الله بلغ منّا أو بلغ منها العذاب ( يعني أمه) كل مبلغ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا أبا اليقظان. اللهم لا تعذّب أحدا من آل ياسر بالنار.
ثم مرّ أبو جهل بسمية يوما فطعنها بحربة في قبلها فماتت وذلك قبل الهجرة. فهي أول شهيد في الإسلام. ولما قتل أبو جهل يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمّار ? قتل الله قاتل أمك. *
ومن جهتنا نقول ?
إن الدعوة- الحركة- التي تدشّن قائمة شهدائها بامرأة يكون من التجنّي والسفه اتهام مشروعها بالعمل على اظطهاد الأنثى .. كما يدعي اليسار الغربي في أدبياته...
ولعل ترجمة حياة هذه السيدة رضي الله عنها الشهيدة البكر في مسيرة الجهاد الإسلامي والتي دخلت التاريخ الحق من غير بوابة المؤتمرات الرسمية والاتحادات النسائية ولا أضواء هوليود .. وإنما ولجته من خلال انخراط واع وحرّ في دعوة الله .. تأتي كصفعة نووية على خد اليسار الزّنيم لعلها توقظه من رجعيته الفكرية .. فيراجع قراءته للتاريخ.. ويعيد تأسيس موقفه من المشروع الإسلامي .
2) شهيد الشباب .. خبيب بن عدي ?(1/18)
عن أبي هريرة رضي الله قال ? بعث النبي صلى الله عليه وسلم رهطا عينا سريّة وان مّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري . فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهدأة بين عسفان ومكة ذكروا الحيّ من هذيل يقال لهم (بنو لحيان) فنفروا لهم. بقريب من مائة رجل رام فاقتصّوا آثارهم . فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجأوا إلى موضع فأحاط بهم القوم. فقالوا لهم انزلوا فأعطوا ما بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل أحدا منكم. فقال عاصم بن ثابت أما أنا فلا انزل على ثمة كافر . اللهم اخبر عنّا نبيّك . فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما ونزل إليهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق منهم خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة ورجل آخر. فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيّهم فربطوهم بها. قال الرجل الثالث هذا أول الغدر. والله لا أصحبكم . إن لي بهؤلاء أسوة- يريد القتلى- فجرّوه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه . وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر. فابتاع بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف خبيبا وكان خبيب هو قتل الحارث يوم بدر فلبث خبيب عندهم أسيرا. حتى اجمعوا على قتله فاستعار من بعض بنات الحارث موسى يستحدّ بها . فأعارته فدرج صبي لها وهي غافلة حتى أتاه فوجدته مجلسه على فخذه والموسى بيده ففزعت فزعة عرفها خبيب فقال أتخشين أن اقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك. قالت والله ما رأيت أسيرا خيرا من خبيب. فوالله لقد وجدته يوما يأكل قطفا- أي عنبا- في يده وانه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول انه لرزق رزقه الله خبيبا . فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيب دعوني اصلي ركعتين. فتركوه. فركع ركعتين فقال والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزع لزدت. اللهم احص عددهم واقتلهم بددا ولا تبق منهم أحدا وقال ?
فلست أبالي حين اقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله و إن يشأ يبارك علي أوصال شلو ممزّع(1/19)
وكان خبيبا هو سنّ لكل مسلم قتل صبرا الصلاة واخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم.(1)
وقد رثا حسان بن ثابت خبيبا بقصيد قال فيه ?
يا عين جودي بدمع منك منسكب وابك خبيبا مع العادين لم يؤب
صقرا توسّط في الأنصار منصبه حلو السجيّة محضا غير مؤتشب
قد هاج عيني على علاّت عبرتها إذ قيل نصّ على جذع من الخشب(2)
3) شهيد المحراب .. عمر بن الخطاب?
اسلم عمر وهو ابن ست وعشرين سنة بعد أربعين رجلا وقال سعيد بن المسيب بعد أربعين رجلا وعشر نساء.
وعن داود بن الحصين والزهري قالا ? لمّا اسلم عمر نزل جبريل عليه السلام فقال يا محمد استبشر أهل السماء بإسلام عمر.
وقال ابن مسعود مازلنا أعزة منذ اسلم عمر.
وقال صهيب لما اسلم عمر جلسنا حول البيت حلقا وطفنا واتصفنا ممن غلظ علينا .
وعن سعيد بن أبي وقّاص عن النبي انه قال لعمر والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجّا إلا سلك فجّا غير فجّك.
وعن جامع ن شداد عن أبيه قال كان أول كلام تكلم به عمر حين صعد المنبر انه قال ? اللهم إني شديد فليّنّي واني ضعيف فقوّني واني بخيل فسخّني..
مشهد الاغتيال ?
عن عمرو بن ميمون قال ? إني لقائم ما بيني وبين عمر إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب. وكان إذا مرّ بين الصفّين قال استووا حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدّم فكبّر . وربما قرا سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس. فماهو إلا أن كبّر فسمعته يقول ? قتلني
حتى طعمه وطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمرّ على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه حتى طعن ثلاثة عشر رجلا مات منهم سبعة. فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنسا فلما ظنّ العلج انه مأخوذ نحر نفسه .(1/20)
وتناول عمر بيد عبد الرحمان بن عوف فقدّمه. فمن يلي عمر فقد رأى الذي رأى وأما نواحي المسجد فانهم لا يدرون غير انهم فقدوا صوت عمر وهم يقولون سبحان الله سبحان الله. فصلّى بهم عبد الرحمان بن عوف صلاة خفيفة فلما انصرفوا قال يا ابن عباس انظر من قتلني. فجال ساعة ثم جاء فقال غلام المغيرة.
قال ? الصنع ؟ قال نعم قال قاتله الله لقد أمرت به معروفا. الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام... فاحتمل إلى بيته. فانطلقنا معه وكان الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ. فقائل يقول لا بأس وقائل يقول أخاف عليه. فأتي بنبيذ يشربه فخرج من جوفه . ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه فعرفوا انه ميت . فدخلنا عليه وجاء الناس يبكون عليه وجاء رجل شاب فقال ابشر يا أمير المؤمنين بشرى الله لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقدم في الإسلام ما قد علمت. فقد ولّيت فعدلت ثم شهادة . قال وددت أن ذلك كان كفافا لا لي ولا علي . فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض . قال ردوا علي الغلام. قال يا ابن أخي ارفع ثوبك فانه أنقى لثوبك واتقى لربك... يا عبد الله بن عمر انظر ماذا علي من دين.. فحسبوه فوجدوه سبعة وثمانين ألفا أو نحوه. قال إن وفاه مال آل الخطاب فأدّه من أموالهم وإلا فسل في بني عدي بن كعب ف إن لم تف أموالهم فسل في قريش ولا تعدّهم إلى غيرهم.. فأدّ عني هذا المال ثم انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل لها يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا. قل يستأذن عمر بن الخطاب بأن يدفن مع صاحبيه. فمضى فسلم واستأذن ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي. فقال يقرأ عليك عمر السلام ويقول لك يستأذن أن يدفن مع صاحبيه. فقالت كنت أريده لنفسي. ولأوثرنّه اليوم على نفسي. فلما جاء قيل هذا عبد الله بن عمر قد جاء . قال ارفعوني فاسنده رجل إليه. فقال ما لديك قال الذي تحبّ يا أمير المؤمنين أذنت. فقال الحمد لله ما كان شيء(1/21)
أهم إلي من ذلك فإذا أنا قضيت فاحملوني ثم سلم وقل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فأدخلوني و إن ردّتني فردّوني إلى مقابر المسلمين.
وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء يسرن معها فلما رأيناها قمنا فولجت عليه فبكت عنده ساعة. فاستأذن الرجال فولجت داخلا لهم فسمعنا بكاءها من الداخل . فلمّا قضى خرجنا به فانطلقنا . فسلم عبد الله بن عمر وقال يستأذن عمر . قالت ادخلوه فادخل فوضع هناك مع صاحبيه.
قال سعد بن أبي وقاص طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالي بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ودفن يوم الأحد صبيحة هلال محرم وكان عمر ابن ثلاث وستين... رضي الله عنه (3)
4) شهيد القرآن ... عثمان بن عفّان ?
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عندي ثالثة لزوّجتها عثمان..
عن أبي سعد الخذري قال رأيت رسول الله من أول الليل إلى أن طلع الفجر واضعا يده يدعو لعثمان اللهم رضيت عن عثمان فارض عنه . وعند الترمذي ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم.
وعن ابن سيرين قال قالت امرأة عثمان لما حين قتل? قتلوه وانه ليحيي الليل كله بالقرآن.
مشهد الحصار..
... كان حصارا مستمرا من أواخر ذي القعدة إلى يوم الجمعة الثامن عشر من ذي الحجة . فلما كان قبل ذلك اليوم قال عثمان للذين عنده في الدار من المهاجرين والأنصار وكانوا قريبا من تسعمائة فيهم عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير والحسن والحسين ومروان وأبو هريرة وخلق من مواليه ولو تركهم لمنعوه فقال اقسم على من لي حق عليه أن يكفّ يده و أن ينطلق إلى منزله. وعنده من أعيان الصحابة وأبنائهم جمّ غفير. وقال لرفيقه من اغمد سيفه فهو حرّ فبرد القتال من الداخل وحمي من الخارج واشتد الأمر وكان سبب ذلك أن عثمان رأى في المنام رؤيا دلت على اقتراب اجله فاسلم الأمر لله واستسلم لأمر الله.(1/22)
وقال سيف بن عمر التميمي عن العيص بن الحكم ( القاسم) عن رجل عن مولاة لأسامة بن زيد وكانت مع نائلة بنت القرافصة امرأة عثمان أنها كانت في الدار ودخل محمد بن أبي بكر واخذ بلحيته واهوى بمشاقص معه فيجأ بها في حلقه فقال له عثمان مهلا يا ابن أخي فوالله لقد أخذت مأخذا ما كان أبوك ليأخذ به. فتركه وانصرف مستحييا خادما فاستقبله القوم على باب الصفة فردّهم طويلا حتى غلبوه فدخلوا وخرج محمد راجفا... فاتاه رجل بيده جريدة حتى قام على رأسه عثمان فضرب بها رأسه فشجّه فقطر دمه على المصحف حتى لطّخه ثم تعانوا عليه فاتاه رجل فضربه على الثدي بالسيف. ووثبت نائلة بنت القرافصة فصاحت وألقت نفسها عليه وقالت يا بنت شيبة أيقتل أمير المؤمنين وأخذت السيف فقطع الرجل يدها... واستنهبوا متاع الدار... ومرّ رجل على عثمان ورأسه مع المصحف فضرب رأسه برجله ونحّاه عن المصحف وقال ما رأيت كاليوم وجه كافر احسن ولا مضجع كافر اكرم .. قال والله ما تركوا في داره شيئا حتى الأقداح إلا ذهبوا به.
وثبت من غير وجه أن أول قطرة من دمه سقطت على قوله تعالى (( فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم)) ويروى انه كان وصل إليها في التلاوة وأيضا حين دخلوا عليه .. وليس ببعيد فانه كان قد وضع المصحف يقرا فيه القرآن.
وقد اقسم بعض السلف انه ما مات أحد من قتلة عثمان إلا مقتولا .. وكانت مدة حصار عثمان في داره أربعين يوما على المشهور ثم كان قتله رضي الله عنه في يوم الجمعة بلا خلاف... رضي الله عنه (4)
5) شهيد الوحدة الإسلامية ... علي بن أبي طالب ?
... عن سعد بن أبي وقاص قال خلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير انه لا نبوّة بعدي(1/23)
كان أمير المؤمنين رضي الله عنه قد تنغّصت عليه الأمور واضطرب عليه جيشه وخالفه أهل العراق ونكلوا عن القيام معه واستفحل أمر أهل الشام وصالوا وجالوا يمينا وشمالا زاعمين أن الإمرة لمعاوية بمقتضى حكم الحكمين في خلعهما عليّا وتولية عمرو بن العاص معاوية عند خلو الإمرة عن أحد وكان أهل الشام بعد التحكيم يسمون معاوية الأمير وكلما ازداد أهل الشام قوة ضعف أهل العراق هذا وأميرهم علي بن أبي طالب خير أهل الأرض في ذلك الزمان .. اعبدهم وأزهدهم وأعلمهم وأخشاهم لله عز وجل ومع هذا كله خذلوه وتخلوا عنه حتى كره الحياة وتمنى الموت وذلك لكثرة الفتن وظهور المحن.
وذكر غير واحد من علماء السير والتاريخ وأيام الناس أن ثلاثة من الخوارج اجتمعوا فتذاكروا قتل عليّ إخوانهم من أهل النهروان فترحموا عليهم وقالوا ماذا نصنع بالبقاء بعدهم . كانوا لا يخافون في الله لومة لائم . فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلال فقتلناهم فأرحنا منهم أهل البلاد وأخذنا منهم ثأر إخواننا فقال ابن ملجم أنا أكفيكم عليّا بن أبي طالب وقال البرد وأنا أكفيكم معاوية وقال عمرو بن بكر أنا أكفيكم عمرو بن العاص.فتعاهدوا وتواثقوا أن لاّ ينكص رجل منهم عن صاحبه حتى يقتله أو يموت دونه . فاخذوا أسيافهم فسمّوها واتّعدوا لسبع عشرة من رمضان أن يبيت كل واحد منهم صاحبه في بلده الذي هو فيه . فأما ابن ملجم فسار إلى الكوفة فدخلها وكتم أمره حتى عن أصحابه من الخوارج الذين هم بها.(1/24)
فبينما هو جالس في قوم من بني الرباب يتذاكرون قتلاهم يوم النهروان إذ أقبلت امرأة يقال لها فطام بنت الشخمة قد قتل عليّ يوم النهروان أباها وأخاها وكانت فائقة الجمال مشهورة به وكانت قد انقطعت في المسجد تتعبد . فلما رآها ابن ملجم سلبت عقله ونسي حاجته التي جاء لها . وخطبها إلى نفسها فاشترطت عليه ثلاث آلاف درهم وخادما وقينة و أن يقتل لها عليّا . قال فهو لك . ووالله ما جاء بي إلى هذه القرية إلا قتل عليّ . فتزوجها ودخل بها ثم شرعت تحرّضه على ذلك وندبت له رجلا من قومها من تيم الرباب يقال له وردان ليمون معه ردّا واستمال عبد الرحمان بن ملجم رجلا آخر يقال له شبيب بن نجدة الحروري قال له ملجم هل لك في شرف الدنيا والآخرة فقال وما ذاك قال قتل عليّ فقال ثكلتك أمك لقد جئت شيئا إدّا كيف تقدر عليه ؟ قال اكمن له في المسجد فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه . فإن نجونا شفينا أنفسنا وأدركنا ثأرنا و إن قتلنا فما عند الله خير وأبقى. فقال ويحك لو غير عليّ كان أهون علي . لقد عرفت سابقته في الإسلام وقرابته من رسول الله .. فما أجدني انشرح صدرا لقتله فقال أما تعلم انه قتل أهل النهروان فقال بلى فقال نقتله بمن قتل من إخواننا فأجابه إلى ذلك بعد لأي .
التنفيذ ... إذ انبعث أشقاها
ودخل شهر رمضان فواعدهم ابن ملجم ليلة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت . وقال هذه الليلة إني واعدت أصحابي فيها أن يقتلوا معاوية وعمرو بن العاص . فجاء هؤلاء الثلاثة وهم ابن ملجم ووردان وشبيب وهم مشتملون على أسيافهم وجلسوا مقابل السدّة التي يخرج منها عليّ. فلما خرج جعل ينهض الناس من النوم إلى الصلاة ويقول الصلاة الصلاة..(1/25)
فثار إليه شبيب بالسيف فضربه فوقع... فضربه ابن ملجم على قرنه فسال دمه على لحيته رضي الله عنه . ولمّا ضربه ابن ملجم ? لا حكم إلا لله. ليس لك يا علي ولا لأصحابك... وجعل يتلو قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد. ونادى عليّ عليكم به. وهرب وردان فأدركه رجل من حضرموت فقتله . وذهب شبيب فنجا بنفسه وفات الناس ومسك ابن ملجم وقدّم عليّ جعدة ابن هبيرة بن أبي وهب فصلى بالناس صلاة الفجر وحمل عليّ إلى منزله وحمل إليه عبد الرحمان ابن ملجم . فأوقف بين يديه مكتوفا. فقال له أي عدوّ الله ألم احسن إليك. قال بلى قال فما حملك على هذا قال شحذته أربعين صباحا وسألت الله أن يقتل به شرّ خلقه فقال له عليّ لا أراك إلا مقتولا به ولا أراك إلا من شر خلق الله ثم قال إن مت فاقتلوه و إن عشت فأنا اعلم كيف اصنع به . فقال جندب بن عبد الله يا أمير المؤمنين إن مت نبايع الحسن فقال لا آمركم ولا أنهاكم انتم ابصر ولما احتضر جعل يكثر من قول لا اله إلا الله ... لا يتلفّظ بغيرها رضي الله عنه (5)
6) شهيد الفقهاء... سعيد بن جبير?
.. سعيد بن جبير الاسدي من أكابر أصحاب ابن عباس . كان من أئمة الإسلام في التفسير والفقه وأنواع العلوم وكثرة العمل الصالح... وقد رأى خلقا من الصحابة وروى عن جماعة منهم.. قال سفيان الثوري عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال لقد مات سعيد بن جبير وما على وجه الأرض أحد إلا وهو محتاج إلى علمه.
.... مشهد الإعدام(1/26)
قال أبو نعيم لما أوتي بسعيد بن جبير إلى الحجاج بن يوسف قال له أنت الشقيّ بن كسير قال لا إنما أنا سعيد بن جبير قال لأقتلنّك قال إذا أنا كما سمتني أمي سعيدا قال شقيت وشقيت أمك قال الأمر ليس إليك. ثم قال اضربوا عنقه فقال دعوني اصلي ركعتين . قال وجّهوه إلى قبلة النصارى قال فأينما تولوا ثم وجه الله . قال إني استعيذ منك بما استعاذت به مريم. قال وما عاذت به قال قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيّا. قال لأبدلنّك بالدنيا نارا تلظّى. قال لو علمت أن ذلك بيدك لاتّخذتك إلها .. وفي رواية انه لما أراد قتله قال وجّهوه إلى قبلة النصارى فقال فأينما تولّوا فثمّ وجه الله فقال اجلدوا به الأرض فقال منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى. فقال اذبح .. فما انزعه لآيات الله.. فقال اللهم لا تسلّطه على أحد بعدي.. فقيل انه لم يمكث بعده إلا قليلا حتى مات (6)
..وقد استلهم الدكتور يوسف القرضاوي مسرحيته عالم وطاغية من قصة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف.
الهوامش?
(1) رواه البخاري أخرجه عز الدين بليق في منهاج الصالحين ص 713 -دار الفتح للطباعة- بيروت
(2) ديوان حسّان بن ثابت- ص 31 -دار صادر- بيروت
(3) ابن الجوزي- صفة الصفوة- الجزء الأول- ص 287 وما بعدها- دار المعرفة -بيروت
(4) ابن كثير- البداية والنهاية -مجلد 7 -ص 181 وما بعدها مكتبة المعارف- بيروت
(5) ابن كثير -البداية والنهاية- مجلد 7 -ص 324 وما بعدها- مكتبة المعارف- بيروت
(6) ابن كثير- البداية والنهاية مجلد9 -ص 98 -مكتبة المعارف- بيروت
الباب الثالث
شهداء الإصلاح والتحرير
1) عبد الرحمان الكواكبي
2) عز الدين القسّام
3) عمر المختار
4) احمد بن عرفان
1)عبد الرحمان الكواكبي(1/27)
ولد عبد الرحمان بن احمد بن مسعود الكواكبي الملقّب بالسيد الفراتي في مدينة حلب لأسرة تعود في نسبها لآل البيت. وتمتاز بشرف آخر هو الاشتغال بالعلم والاشتراك في جهاز الدولة قضاء وإدارة وإفتاء. ولأسرته مدرسة خاصة في حلب هي المدرسة الكواكبية . حيث كان والده يعطي دروسه بالإضافة إلى كونه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب.
توفيت والدة الكواكبي وهو لم يكد يبلغ من العمر ست سنوات. فتعاون على تربيته بيته وما فيه من تقاليد وأصول وخالته صفيّة التي كانت من النسوة القديرات المعروفات برجاحة العقل وسعة المعرفة وحسن الخلق والذوق.
...المرحلة التعليمية
تلقى دروسه الأولى في حلب وفي إنطاكية فدرس العربية والتركية والفارسية وعلوم الدين واكمل ثقافته بالاطلاع على عدد من أمهات الكتب في العلوم الطبيعية والرياضية والتاريخية والفلسفية. وإذا كان الكواكبي م يدرس لغة أوروبية غربية فإن هذا الأمر لم يمنعه من الاطلاع على ما عندهم في بعض العلوم وخاصة السياسية من مترجمات . ويظهر ذلك اكثر ما يظهر في كتابه "طبائع الاستبداد"
... المرحلة العملية ..الاجتماعية
.. بعد ذلك اطل عبد الرحمان على الحياة العامة فاشتغل في الصحافة وكانت بداية عمله محررا في جريدة تصدر في حلب اسمها "الفرات" وبعدها اصدر صحيفتين هما "الشهباء" و"الاعتدال"... وكانتا منبرا مهما باللغة العربية عبّر فيه الكواكبي في ريعان الشباب عن تطلعاته الإصلاحية وآرائه في الحرية والاستبداد والسلطة وكانت مقالاته فيهما موقظا مهما لمواطنيه. مما أزعج السلطات التركية التي أقفلت له صحيفة "الشهباء" بعد صدورها بما لا يزيد عن خمسة اشهر في عام 1878.
وكذلك بعد مضايقات أقفلت "الاعتدال" التي أصدرها في العام 1879.(1/28)
تنقل الكواكبي في مناصب متعددة من عضو في لجان الإدارة والولاية إلى عضو في المحكمة التجارية إلى رئيس الغرفة التجارية إلى رئيس لكتاب المحكمة الشرعية.. كما اشتغل في المشاريع العمرانية والتجارية فارتفع شأنه في بلده وبات مرجعا لكل صاحب حاجة .
الرحلة ..والمحنة
ولكن نرى الكواكبي رغم كل مالقيه من تقدير من الحاكمين ورغم بيته الذي امّن له وضعا اقتصاديا معقولا نراه مرهف الحسّ الوطني ويناصب المستبدين الظالمين العداء ويضرب بعرض الحائط ما أعطى له من مناصب ليكون صرخة المستضعفين وإمام المجاهدين من اجل الحق.
..تعرّض الكواكبي للسجن والأذى والمحاكمات نتيجة اتهامات الوالي "عارف باشا" ورجل تركيا "أبي الهدى الصيادي" الذي ناصب العاد لكل رجالات الإصلاح وخاصة السيد جمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي فكان ذلك إيذانا بأن يبدأ الكواكبي شدّ الرحال لأنه من غير المقبول أن يعيش الإنسان في بلد وهو مستضعف بل واجبه التنقل في بلاد الله الواسعة كما تحدد الآية الكريمة (( إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم؟ قالوا كنّا مستضعفين في الأرض. قالوا ألم تكن ارض الله واسعة فتهاجروا فيها. فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا.)) ( الآية 97 النساء)
هذا الحكم الشرعي هو الذي دفع الكواكبي للهجرة . يضاف إلى ذلك الجري على سنّة المصلحين ورجال الفكر الإسلامي على امتداد العصور الذين كانوا يعتمدون الرحلة والاطلاع الميداني على بلاد المسلمين وأحوالهم قبل صياغة كتبهم وتقرير نظرتهم إلى هذا الواقع وعرض الحلول له.(1/29)
تنقل الكواكبي في سواحل إفريقيا الشرقية والجنوبية وسواحل آسيا وبلاد العرب والهند حتى سواحل الصين وكان في كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية في مختلف المجالات ومن ثم كان استقراره في مصر حيث التقى العديد من معاصريه من رجال الإصلاح والثوار المناهضين من أمثال رشيد رضا ومحمد كرد علي وغيرهم ووجد فيها المناخ الملائم لعرض أفكاره.
في هذه المرحلة نسّق الكواكبي كتابيه المهمّين " طبائع الاستبداد " و"أم القرى" وعكف على دراسة تاريخ المسلمين وواقعهم المعاصر والماضي ولذلك تعدّ هذه المرحلة انصع صفحة في تاريخ حياته وقوة شعوره بفساد حال المسلمين وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض وتشخيص أمراضهم وتلمّس العلاج لهم.
النهاية
في عزّ العطاء والنضال ويوم نضجت أفكار الكواكبي وبدأ عطاؤه وتأثيره الذي وجد فيه الأتراك معولا يدكّ تسلّطهم وينبّه الناس إلى فساد أحوالهم ويدفعهم للثورة والتحرر ابتغاء للتقدم... رأى الأتراك الخطر فاستأجروا من يحضر إلى القاهرة ليضع للكواكبي السمّ في طعامه. وكانت وفاته في سنة 1902 فدفن فيها واعتبر شهيد الجهاد في سبيل الله.
توفي الكواكبي تاركا مشروعه الإصلاحي ومنبّه للعرب والمسلمين من اجل الخروج من واقعهم المزري في كتابين هامين هما "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" و "أم القرى".(1)
2) شهيد القضية ...عز الدين القسّام
في عام 1300 هجري وفي مدينة جبلة احدى عرائس البحر المتوسط وكبرى المدن التابعة لحاضرة اللاذقية ولد للشيخ عبد القادر القسّام مولود مشرق الوجه بهيّ الطلعة رائع المجتلى فحنكّه بتمرة إقتداء برسول الله صلى الله علية وسلم ودعا له بصالح الدعاء ثم سماه عز الدين القسّام وسال الله تباركت أسماؤه أن يجعله من خيرة عباده الصالحين و أن يعزّ به الإسلام والمسلمين.(1/30)
وما إن يفع الفتى حتى حفظ كتاب الله وتملّى من حديث الرسول واخذ علوم العقيدة والفقه والعربية عن أبيه وتتلمذ على يدي الشيخ سليم طباره أحد كبار علماء بيروت فغرف من غزير علمه وأفاد من سامي توجيهه فإذا هو شاب واسع الأفق عالي الهمّة بعيد المطامح . امسك الدن بيمينه وعض عليه بالنواجذ واخذ الدنيا بشماله وسخرها لخدمة الإسلام وعزة المسلمين ولقد بلغ من علوّ همته وبعيد مطامحه أن ولّى وجهه هو وصديقه عز الدين علم الدين التنوخي. شطر الديار المصرية طلبا للعلم ورغبة في التعرف على الوافدين إليها من أرجاء العالم الإسلامي . فما لبث طويلا حتى التحقا بالأزهر منارة الدنيا وموئل العلم وتتلمذ لجملة من علمائه وتخرج على أيديهم وقد حدثت لعز الدين وصاحبه حادثة تدل على جوهر شخصيته وكمال رجولته وحسن تصرفه ذلك أن القائم على شؤون الطلاب بالأزهر قد قطع عنهما ما كان لهما من حقوق وجراية . فصعب الأمر على التنوخي واصدق به الهمّ فما كان من القسّام وليد الثراء والغنى إلا أن اقنع صاحبه بممارسة عمل يدر عليهما من الرزق ما يفي بحاجتهما وييسر لهما متابعة دراستهما فاخذ التنوخي يعد في منزلهما صنفا من الحلوى كان يجيد إعداده وجعل القسّام يبيعه للمارة.
واستمرّا على ذلك حتى قدم عليهما والد التنوخي حاملا إليهما ما يحتاجانه من مال فلما وقف على أمرهما قال لابنه نعم الصديق صديقك يا بني فلقد علمك الاعتماد على النفس وأرشدك إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم?
لأن يحتطب أحدكم حزمة على ظهره خير له من أن يسأل أحد .
ولقد ظل التنوخي رحمه الله يروي هذه القصة لطلابه في الجامعات ولإخوانه في المجامع العلمية ما امتدت به الحياة.(1/31)
عاد عز الدين إلى مدينة جبلة بعد تلك الرحلة الطويلة التي أفعمت فؤاده ثقافة وعلما وأترعت قلبه يقظة وفهما وغيرت نظرته إلى كثير من الأمور ورتقته على ما فيها من انحراف وكان أول ما أعاد فيه النظر حركة التصوف التي كان يقودها أبوه وجده في جبلة وقد كان بعض اتباع هذه الطريقة يفدون إلى جبلة كل عام مرة أو مرتين لزيارة خريجي أبيه وجده وللتبرك بهما وذبح الذبائح عند قبرهما فحال دونهم ودون تلك البدعة المستنكرة وسلك في ذلك سبيل اللين والموعظة الحسنة أحيانا وسبيل الحزم والقمع أحيانا أخرى.
ثم اخذ عز الدين يعيد للمسجد مكانته التي كانت له في عهود المسلمين الزاهرة فاتخذ من جامع "إبراهيم بن الأدهم" موئلا للناس ومنهلا. ففي رحابه تقام العبادات وتعقد الاجتماعات وتنظم الحركات وبين جدرانه تلقى المواعظ والمحاضرات وفي أفنيته يتلقى الطلاب علوم الدين والدنيا.
ثم استأذن ولى الأمر في الأستانة فأذن له بإعداد فريق من المجاهدين يجمع إلى عزمات الشباب حكمة الشيوخ وذلك ليأمروا الناس بالمعروف وينهوهم عن المنكر وقد اخذوا على عاتقهم مكافحة المسكرات وتصدوا للقوافل التي تهرب المخدرات وتعقبوا الأشخاص الذين كانوا يتركون الصلاة عامدين وشهرّوا بهم بين الناس وحملوا بعضهم على توابيت الموتى وطافوا بهم في الشوارع.
وقد أحيا القسّام فريضة الجهاد في نفوس مواطنيه وحضهم على بذل النفس والنفيس ذودا عن الدين وجهادا في سبيل الله فما إن غزا الإيطاليون طرابلس الغرب حتى هب يجمع الأموال لدعم المجاهدين ويجند المتطوعين لمؤازرة الجيش العثماني في دفاعه عن قطر غال من أقطار المسلمين.
حربه ضد الفرنسيين ?(1/32)
ولما انهارت الدولة العثمانية واحتل الفرنسيون لبنان والخط الساحلي الملحق به وعلى رأسه مدينته جبلة نهض عز الدين القسّام لمقاومة الجيش الفرنسي الغازي فبادر إلى جمع المال وبدأ بنفسه قبل أن يسأل الناس فباع أملاكه كلها ووضع أثمانها في هذا السبيل حيث اشترى الأسلحة والذخائر وجند الشباب والشيوخ وقادهم بنفسه.
ولقد خاض مع الفرنسيين معارك ضارية وكبدهم كثيرا من الخسائر في الأموال والأنفس ثم أخذت المعارك تقلب له ظهر المجن حيث طفق الفرنسيون يستقدمون لقتاله الفيلق تلو الفيلق ويحكمون قبضتهم على جبلة وما جاورها موقعا اثر موقع وجعل عز الدين ومن معه يتقهقرون يوما بعد يوم ويتراجعون من منطقة إلى أخرى ويفقدون ما معهم من الذخيرة والسلاح.
ثم إن فريقا كبيرا من الأغنياء والوجهاء الذين كانوا يؤازرونهم اخذوا ينفضّون من حولهم ويخضعون لنذر الفرنسيين ويعلنون ولائهم لهم ولا سيما بعد أن استشهد المجاهد الكبير عمر البيطار وكثير ممن كانوا معه.
ولما أيقن عز الدين بأنه بات مهددا بالتطويق بين ساعة وأخرى وبأنه سيلقي بنفسه وبمن معه إلى التهلكة اتجه برجاله إلى منطقة حلب وانضم إلى "إبراهيم هنانو" ويظل يجاهد معه حتى انقص الفرنسيون على حركته وبسطوا نفوذهم على سورية من أقصاها إلى أقصاها وحكموا على المجاهدين الذين افلتوا من أيديهم بالإعدام وكان في مقدمتهم عز الدين القسّام .
إقامته في فلسطين ?(1/33)
ولّى القسّام وجهه شطر فلسطين التي أخضعت لحكم بريطانيا ونزل في مدينة "حيفا" وأفاد هو وأمثاله من التنافس الذي كان قائما بين الفرنسيين والإنجليز على التركة العثمانية وفي مقدمتها سورية وما كاد يستقر هناك حتى اخذ يلقي الخطب الجمعية على المنابر ويعقد الدروس والمواعظ في المساجد فتمالت إليه جماهير الناس وتعلقت به وقد اهتم اهتماما خاصا بالعمال المكدودين والفلاحين الذين طردهم اليهود من الأرض التي كانوا يعملون فيها. وذلك بعد أن اشتروها من أصحابها بباهظ الأثمان . فاخذ يوثق علاقته بهم حيث يزورهم في مساكنهم النائية ويبحث لمريضهم عن طبيب يداويه ولمضطرهم عن معونة تكفيه ولعاطلهم عن عمل يقوم بأوده . ولما تعمقت صلاته بنفر مختار منهم جعل يؤكد لهم بأن حياة المسلم تقوم على الاتصال بكتاب الله فهو ربيع قلبه ونور عينه و أن هذه الصلة لا تحقق إلا بتعلم القراءة والكتابة ثم جعل القرآن الكريم مصدرهم لتحقيق هذه الغاية وطفق يختار لهم من سوره ما يسهل عليهم حفظه وفهمه ثم يرتقي بهم درجة اثر درجة فإذا تمكن طلابه من القراءة والكتابة علمهم سورة الجهاد وحضهم عليه واخبرهم بأن المسلمين كانوا إذا لقوا عدوهم قرأوها فتقوى عزائمهم وتطمئن قلوبهم ويتذوقون السكينة ويحرزون النصر.
ولقد قسم طلابه إلى مجموعات صغيرة لا يعرف بعضها بعضا فكان كلما اطمئن إلى عدد منهم لا يزيد عن العشرة ووثق بصدق ثباتهم وتوافر خبرتهم ولى عليهم نقيبا منهم يجمع إلى قوة الإيمان عمق الخبرة في فنون القتال وكان كل نقيب يدرب أفراد فرقته تدريبا صارما فيفرض عليهم أن يسيروا ساعات طويلة في شعاب الجبال وهم حفاة و أن يناموا في البرد القارس بلا غطاء و أن يتحملوا الجوع والعطش و أن يعيدوا بناء أنفسهم من جديد ولو طال عليهم الأمد.(1/34)
ولقد اكرم الله القسّام بأن أفضت إليه رئاسة جمعية الشبان المسلحين كبرى الجمعيات الإسلامية في فلسطين فتوثقت صلاته بعلية القوم من أعضائها وقويت أواصره مع نخبة المثقفين من أبنائهم وقد دفع ذلك عنه كثيرا من الشر وعاد على حركته بوفير من الخير.
ثم عهدت إليه المحكمة الشرعية بوظيفة المأذون الشرعي المتجول فانفسح المجال أمامه للتنقل في القرى والدساكر وعقد الاجتماعات السرية مع سكانها ودعوتهم إلى الانضمام إلى حركته ومؤازرته بالأموال والأنفس ولقد وقف خلال تجواله على قطعة خصبة من الأرض في منطقة بيسان فابتاعها وعهد بها إلى رجل مهيب نشط من كبار أعوانه هو "محمد الحنفي" فاخذ يزرعها كل عام مرتين ويستغل مواردها في شراء الأسلحة للمجاهدين وإعانة من يحتاج منهم إلى المعونة.
وعلى الرغم مما أحيطت به حركة القسّام من التكتم الشديد واليقظة المبالغة فقد استدعته سلطات الأمن اكثر من مرة وحققت معه أدق التحقيق وأعمقه ثم كانت تطلق سراحه لعجزها عن إثبات ما ينسب إليه .
جهاده ... واستشهاده ?
وفي عام 1354 هجري خاضت فرق عز الدين القسّام ميادين الجهاد في كثير من أرجاء فلسطين ولقد اتجه هو وعشرة من رجاله نحو الجبال الواقعة بين نابلس وجنين واتخذ منها معقلا لجنده ومنطلقا للانقضاض على عدو الله وعدوه وفيما كان يتجول مع أعوانه خلال الجبال فاجأتهم ثلة صغيرة من جند العدو فانقضوا عليها انقضاض الصاعقة وأردوا أحد رجالها قتيلا وحملوا الآخرين على الفرار. وقد أيقن القسّام بأن هذه الفئة الصغيرة إنما هي جزء صغير من كل كبير يعسكر قريبا منهم وانهم سوف يعودون إليهم معززين بالجند مزودين بالسلاح والذخيرة وانهم سيحوطون بهم إحاطة الغل بالعنق فقسّم المجاهدين الذين كانوا معه ثلاث فرق حتى إذا قضى العدو على بعضها نجا بعضها الآخر وما هو إلا قليل حتى أحاطت بفرقته الصغيرة قوة كبيرة فنازلها ومن معه اشد المنازلة وجاهدها اصدق الجهاد.(1/35)
وفيما هو كذلك إذ اخترقت صدره العامر بالإيمان رصاصة محشوة بالبغي والعدوان فخر صريعا مضرجا بدمائه ذيادا عن أولى القبلتين ودفاعا عن ثالث الحرمين وحسب القسّام معاده في الدارين انه وفى إلى ربه راضيا مرضيا وانه خلف وراءه ألفا من المجاهدين ظلوا يقاتلون عدو الله وعدوهم بضع سنين وكانوا بداية الجهاد الحقيقي الصادق لأعداء الله على ارض فلسطين في عصرنا الحديث.(2)
3) شهيد المجاهدين .... عمر المختار
...عمر المختار 1863 / 1931 م هو من الجبل الأخضر من ولايات ليبيا الشرقية وبالتحديد من متصرفيّة "البطان" حيث ود هناك في سنة 1863 م وهو من قبيلة "امنفه" المتصل نسبها كما يدل اسمها ببني مناف بالحجاز وهي حلقة من سلسلة النسب النبوي الشريف.
الصبا الواعي
.. في صباه تتلمذ على رجال قمم في العلم والزهد والجهاد منهم المجاهد المعروف السيد احمد الشريف وعمه السيد المهدي والعلاّمة سيدي احمد الريفي نسبة إلى ريف المغرب الأقصى منشأ الأمير عبد الكريم الخطابي... فحفظ القرآن الكريم وعنهم اخذ العلوم الدينية والدعوة إليه .. حتى صار منذ شبابه داعية متجولا ما بين السودان والتشاد ووسط شرق إفريقيا.
...الشاب الشيخ..
وفي الخامسة والعشرين من عمره تولى مشيخة زاوية العبيد من أعمال مدينة المرج واقبل عليه الطلبة حتى من غير العبيد بل من قبائل العرفة والسلاطنة والدرسة والمسامير ولازال حفدة هؤلاء يذكرون ما رواه لهم أجدادهم عن "سيدي عمر" الذي كان يعلمهم علوم الدنيا والدين ... حتى كان يشجعهم على ممارسة الحرف كالبناء والنجارة والزراعة- زرع الأرض المحيطة بالزاوية وتوزيع إنتاجها على التلاميذ والمجاورين.(1/36)
ومن هذا المجرى الذي فتحه عمر انساقت إليه بقيّة الزوايا المبثوثة على الجبل الأخضر وبرقة البيضة بل وتونس والجزائر والسودان والتشاد وجبل أبي قبيس بمكة المكرمة . وما إن استوت هذه الإصلاحات بالزوايا على سوقها وعمرت بشباب يدرس ويغرس ويصنع في هذا الفجر البهيج والمبشر بالفتح حتى بزغ هنا بطرابلس فجر آخر موحش اظلمه دخان قنابل إيطاليا التي غزت مدينة طرابلس الغرب في شهر سبتمبر من عام 1911 ... وهنا تاقت نفس الشاب عمر المختار إلى الجهاد بعد أن امسك بخنجره الصغير لا غير واقسم ليجاهدّن في سبيل الله.
... النفوس الكبيرة
..قال ذلك عنوة أمام طلبته وما قصده منهم حصل . وقالوا بصوت واحد ( إحنا وراك يا عمر..) .. وسار عمر إلى درنة وفي طريقه الطويل من زاوية العبيد إلى درنة وهذا يكاد يكون طول الجبل كله أي 320 كيلومتر وعمر المختار يخطب بأعلى صوته وقوة نبراته في "النجوع " التي يمر بها . وتبع ذلك الصوت عدا طلبته المئات من راغبي الجهاد وساروا يواكبونه حتى وصل "ذور" وهذه اللفظة تعني المعسكر درنة وهناك التقوا في وادي أبي منصور وشلالاته بالسيد احمد الشريف وهو متمنطق بكامل عدته ومعه فرسان المدينة فانضم إليهم الوافدون وانضم الجميع إلى الجيش التركي والذي كان يقوده القائد التركي المؤمن "أنور باشا" وكان لسان حال مسيرتهم ينشد " أنا وأخي وابن عمّي على عدوّي..."
..بقي عمر المختار يقوم بالواجب في الجهاد وتفقد خطته الأساسية المكلف بها ألا وهي مشيخة الزاوية فتجده هنا كما تجده هناك يطارد ضيوف الشيطان .. وما أقسى هؤلاء الطليان الذين مهما كتب فيهم الكاتب وأبدع لا يأتي إلا بحبة من حمل نخلة.. ثم إن الاستعمار الإيطالي ذاق المرارة التي لم يكن يتصورها.(1/37)
ولما عجزت إيطاليا عن المدن التجأت لمفتاح آخر يسهل عليهم به فتح الباب الذي صممت إيطاليا على كسره ..هذا المفتاح هو فتح وتجهيز معركة وما يلزم لها في خليج سدرة وهو موقع حساس حصين وذو مواقع ثلاثة? العقيلة والبريقة والزويتينة.وجريا على قاعدة خير الأمور الوسط فقد اختارت إيطاليا البريقة وهنا برزت في تاريخ الجهاد الليبي معركة البريقة وهنا يبرز اسم عمر المختار ثانية.
وسمع عمر المختار أن إيطاليا أعدت في رمضان 1341 هجري 5000 جندي و 100 دبابة وسيارة وما يصحب ذلك من تجهيزات ومعدات ... وفجأة برز اسم عمر في معركة البريقة حيث دخلها عن طريق مدينة اجدانيا مقر القيادة الإيطالية التي جهزت بها هذه القوى وفي هذه المنطقة من البلاد وعلى خليج "سدرة" قبيلة كبيرة شهيرة تدعى قبيلة المغاربة وهم ليسوا مغاربة من المغرب وإنما سموا كذلك لوجودهم في غرب ولاية برقة.
واتصل عمر المختار بأعيان قبيلة المغاربة فوجد القوم يستعدون للنزال ضد المستعمر الغاشم تحت إمرة الفضيل المهشهش وصالح باشا الاطيوش.
واصطدم الفريقان عند موقع اسمه سيدي بلال وتعرقلت دبابات الجيش الإيطالي بمن فيها لعدم صلاحية الأرض الرملية لمسيرتها وكانت فرصة سانحة للمجاهدين وكان يسميهم الطليان "العصاة"..
فهجم عليهم ذلك الجيش القليل من قبيلة المغاربة ومنهم السيد عمر المختار ولم تنقشع شرور تلك المعركة التي مات فيها خلق كثير وقد أبلى فيها السيد عمر المختار والحاج قجّة السوداني بلاء حسنا وليست هذه أول معركة يشترك فيها السيد عمر المختار كما جنح إلى ذلك كثير من المؤرخين ونحن ذكرنا قبل معركة البريقة قتال عمر المختار في دور درنة وبلاءه الحسن رغم صغر سنه . فأنت ترى انه منازل منذ أول صباه..(1/38)
بعد هذه المعارك المرتفع أوارها في الشق الشرقي رأت إيطاليا أن تركز على نزال اشد في هذا الشق إذ أن الشق الغربي -طرابلس- قد انطفأت الجذوة فيه بعد استشهاد أبطال كانوا هم السواعد ... منهم الشيخ رمضان السوياكلي الباروني باشا الذي هاجر إلى عمان كما هاجر البشير السعداوي وأخوه نوري إلى بلاد الشام وغيرهم من أبطال الجهاد الليبي استشهدوا أو هاجروا ... هذا ما كان من أمر هؤلاء أما عمر المختار فقد ضم إليه عددا من المجاهدين وترك وطن المغاربة ليعسكر ويحمي حمى الجبل الأخضر بكامله من كل المعتدين.
بعد هذا أخذت المعارك بالجبل الأخضر يصعد ميزان حرارتها اكثر من أي حرارة وميزان آخر عرفه الكفاح الليبي. لأن الاستعمار الإيطالي هو في اشد الحاجة إلى الجبل الأخضر ومساحته لتهيئته لسكنى أبنائه ... وإيطاليا ضيقة الأنفاس من أزمة الضّغط السكاني وهناك أيضا مكانة الجبل الذي استغله الرومان من قبل كما هناك مواني كانت تصدر إلى روما الحبوب من قبل هذا الجبل عينه ولايزال ميناء راس الهلال قائما وهذا كان حلم بنيتو موسيليني الزعيم الإيطالي ( 1922 / 1943) ... ولكن صمود عمر المختار وجبهاته الثلاث هذه حالت دون مركبة موسيليني في سرعتها وكادت أن تتحطم إذ قرر في إحدى جلساته في مجلس الشيوخ التخلي عن ليبيا تماما لما رأى أن ميزانيات الحرب في الجبل كانت بالملايين ... وقد بلغت المعارك بالجبل في عشرين شهرا فقط اكثر من 266 معركة هذا حسب إحصاء وزارة المستعمرات الإيطالية.
... مفاوضات ... وجسّ النبض..
ولما رأت إيطاليا ورجال اقتصادها تأرجح ميزان الدولة العام بسبب ضخامة تكاليف الحرب في ليبيا الشرقية ارتأت السياسة العليا أن تعيّن شخصية معتدلة ذات منصب معتبر فاصدر الملك "فيكتور عمّا نويل" مرسوما بتعيين الماريشال بطرس بادوليو واليا عاما على ليبيا .(1/39)
واتفق على تأليف وفد من الطرفين لمعرفة مطالب المجاهدين وكان الوسيط في اللقاء هو مدير الحاسة السيد عبد الله بالعون . وهيأ الجو لذلك واختيرت منطقة سيدي رحومة من متصرفية المرج وكان التلاقي بين الوفدين في يوم 5 محرم سنة 1348 هجري. مع حذر متناه من السيد عمر المختار حتى المصوّرات أمر بحجزها لدى السيد حميد مهندس ميكانيكي يعمل مع المجاهدين في إصلاح الغنائم من الأسلحة حتى ينتهي التفاوض الذي دام أربع ساعات وربع الساعة ولم يسمح إلا بصورة عند الوداع شرط أن لا يكشف معالم المكان الأولى للسيد عمر المختار منفردا والثانية للوفدين معا تحميهما حراسة المجاهدين.
وجوه الوفدين
كان وفد المجاهدين يتألف من عمر المختار والفضيل بو عامر وحسن محمد الرضا السنوسي ومن كل قبيلة من قبائل الحرابي مستشار .. أما الوفد الإيطالي فكان برئاسة الوالي العام الجديد المشير باديليو وعضوية والي برقة دومينيكو سيشلياني والسنيور صاود باشي متصرف المرج والشارف الغرباني الذي كان يجاهد ثم قعد مع الخوالف فاعد له بستان وسكن بالبركة ومرتب 500 فرنك شهري وانعم عليه بأكبر وسام إيطالي وكانت إيطاليا تريد أن تعامل عمر المختار نفس المعاملة وكذا السيد حسن الرضا الذي سقط في يده وشنق وألفّ له دور خاص حتى أطلق عليه دور الدقيق لأن إيطاليا أمدته بأكياس الدقيق وكان عمر لمختار يتميز من الغيظ بانشقاق الحسن الرضا ويقول له يا حسن لو صبرت لكان عطاء الرب انفع لك.(1/40)
وقدّم عمر المختار مطالبه للحاكم الإيطالي الذي وعد أن يقدمها لحكومته ومضت ستة اشهر بدون أي ردّ فقد كانت المفاوضات من اجل كسب الوقت وعاد استئناف القتال وكانت فاتحته أول رمضان سنة 1349 وبمعركة الكفرة والتي باحتلالها ضاقت الحلقة على السيد عمر المختار وجنده لأنه كان يتسلم عن طريقها المدد المصري الذي كان يأتي بطريق الجغبوب وهذه أيضا احتلتها إيطاليا... وفي هذه الأثناء عينت إيطاليا واليا جديدا لبرقة وأعطته كل صلاحيات يجريها ضد من سمّتهم عصاة..
سياسة إبادة ..
ما إن تربع "رودولفو غرازياني " حتى بدأ فورا بسياسة جديدة لم تسلك من قبل فأمر بترحيل كل سكان الجبل مع أنعامهم إلى مناطق نائية سهلية . فاستقلّت نجوع قبائل الحرابي في هذه المنطقة تحيطهم الأسلاك ورسم لكل فرد منهم تموينا يوميا هو 100 غرام من الشعير ونصب عليهم حراسا غلاظا شدادا بأيديهم السياط.
وقصد "غرازياني" من هذا عزل المجاهدين عن بني شعبهم الذين يمدونهم بثروات طائلة من الأنعام والحبوب والعسل.
عمر المختار في الأسر..
من المألوف لدى عمر المختار صحبة نفر من جيشه لتفقد المعسكرات وفي إحدى هذه المرات كان يقوم بهذا الواجب فهوجم من طرف كمين نصبه له الإيطاليون وصار بين الطرفين قتال بالسلاح وكان أفراد الكمين من المرتزقة الليبيين فتقدم أحدهم ورمى جواد عمر المختار و آخر رماه بكتفه فوقعا معا على الأرض واخذ بالأيدي وطير الخبر إلى متصرف المرج. واخذ عمر إلى مدينة سوسة البحرية ومن مينائها في طراد حربي إلى بني غازي.
ثم ابرق إلى الوالي رودولفو غرازياني أن يحضر فلما حضر وتحقق من شخصية بالسجن فإذا بالسجن يحاط بجدره وبأعاليه ويمنع المرور في شارعه. ثم أعلن بأنه سيحاكم بقاعة المجلس النيابي في ميدان الملك في 9/9/1920
المحاكمة .. يرويها شاهد عيان(1/41)
.. ولما وصلت وقفت أما مدرج المبنى بين صفّين من الحضور وقف أمامها صف آخر من الجندرمة ونزل السائق وفتح بابها وهر من الخلف ونزل سيدي عمر بين اثنين من الجندرمة مكبّلا بسلسلتين طرفاهما بيد الجندرميين وهو ملتف بجرده ونقابه كالعادة الدائمة فيه على رأسه ... عرفت من نزوله أن حالته الأدبية والنفسية قوية .. أدركت ذلك من نزلته النشطة وخفّة حركته رغم كبر سنّه وادخل المجلس وبعد فترة أذن لنا بالدخول.
ولما جلست تحققت تماما من هيئة السيد عمر وجدته ربعة به احديداب يشع وجهه حمرة زائدة ويلبس حذاء عسكريا.
في قاعة مربّعة الأرجاء وتحت قبّة ضخمة ليس بها مقاعد ثابتة بل كراسي مصففة وفي صدرها منصّة المحكمة وعن يسارها وقف سيدي عمر بين حارسين والسلسلتان تكادان تصلان الأرض من طولهما وعن يسار المنصّة "المدّعي العام" وقبالة المنصة منصة أخرى للمحامي وهذه الأماكن بعيدة عن مقاعد الجمهور. ودخلت هيئة المحكمة من حجرة جانبية قوامها رئيس وأربعة أعضاء ومعهم المترجم . وأخذت أماكنها وسأل الرئيس عن طريق المترجم ?
( أعيد نفس الكلمات والجمل كما نطقها هو بنفسه وعلى لهجتنا الليبية ولا زلت اذكر في ذاكرتي الطبيعية منظره وألفاظه أقوى من أي فيديو.
- من أنت ؟
- أنا عمر المختار ( ولأول مرّة سمع ذلك الصوت المهيب الذي دوّت له كل أرجاء القاعة. إن صوت عمر المختار يصحبني حتى هذه الكتابة ... صوت جهوري فصيح اكبر منه بكثير.
- يا عمر المختار أنت في هذه السنّ المتقدّم وتحارب إيطاليا ليش ؟ ...وهنا تلعثم المترجم وانزهق فأمر الرئيس فورا بإبداله وأتي بمترجم آخر وأعاد عليه نفس السؤال.
- لا تقل تحارب أو تقاتل . ربنا فرض علينا وكتب الجهاد واحنا قاعدين نجاهد فيكم انتو اللي غصبتم الوطن والجهاد فرض واجب على كل مسلم.
- أنت تحارب دولة إيطاليا الفخيمة التي جاءت لتعلمكم وتدلكم على حياة أمن.(1/42)
- إيطاليا جت طامعة في الجبل الأخضر تملكه إذا قدرت وإلا حتى بالقوة لشنو ؟ ..بيش اتقسمه وتسكن فيه ضناها واطلع منه أهله وترميهم في الصحراء... لو كان موش نحن قاعدين لها راهو تم هضا من زمان اصار رانا تو قاعدين في الصحراء.
وبعد هذا السؤال فتح الرئيس درج المنصة واخرج منه نظارات ...سائلا لمن هذه
- هدين مراياتي طاحت منّي في الملطم (المعركة) عطيهن لي يلزمني
- لا ردّ ( وأعادها إلى درج المنصة)
ثم أشار الرئيس إلى حذائه ( عجيب المنظر وكأن كل فردة منه دبابة صغيرة وقد فارقته الرابطات فما خلته إلا أفواها تصرخ على فراق صاحبها.)... وهذا الحذاء.
- هو غنيمة منكم .
- عمر المختار... لماذا قتلت الضباط الإيطاليين ؟
- ما قتلناهم إلا نين قتلتو انتو عيالنا اللي أسرتوهم
- هم ضباط متعلمون خسرت عليهم دولتهم المال....
- عمرك ؟
- سبعين
- أين تسكن ؟
- الجبل الأخضر
- في أي مكان فيه ؟
- كلّه
- عمر المختار... من يمدّكم ويساعدكم على حربنا كل هذه السنين الطويلة والتي خسرنا فيها الكثير من الأنفس والأموال.
- الله.
أما دفاع المحامي وكلام المدعي العام الذين لم يقاطعا المحكمة قط فكانا أخصر من جلسة الخطيب بين الخطبتين .
... بعد إعلان رفع الجلسة واختفاء الهيئة للمداولة في نفس الحجرة التي خرجا منها كانت مداولة قصيرة لعشر دقائق تقريبا وبقيت القاعة كما هي في هدوء.
وعادت الهيئة وجلست ونطق رئيس المحكمة بالحكم وباللغة الإيطالية وباسم الملك فيكتور عما نويل الثالث ملك إيطاليا.
المترجم ? يا عمر المختار حكمت عليك محكمة إيطاليا الفخيمة باسم الملك بالإعدام شنقا.
- إنا لله وإنا إليه راجعون. نطق بها سيدي عمر كنطقه السابق لا تلعثم ولا اضطراب ولا وجل ... بل بدون أن يتمايل من مكانه.(1/43)
...ألا ما اثبت قلب هذا الرجل .. ما رأيت قطّ اثبت وأشجع وأجرأ منه.. أنا الذي جلست بعد ذلك كمستشار ورأيت من أهوال هذا المنصب ما يفتت العظم في أي بلاد جلست فيها وحتى ساعتي هذه لم أشاهد مثل عمر المختار أو اختلط به.
ركضت بين الناس لانتصب أمام باب القاعة بالسرعة الممكنة لأرى كيف يصعد سيدي عمر كما رايته كيف نزل من كرّوسة السجن القاتمة... وساعدني الحظ أن يكون مكاني بجانبها .. ودلف سيدي عمر المختار من باب المحكمة بكل وحماس ونشاط ونزل المدرج كذلك ومشى من أعلى درجة به إلى الكرّوسة حوالي خمسة عشر مترا من طريق معبد ومرشوش بالماء لأن البلدية كانت ترش الشوارع كل صباح ولما فتح له باب الكروسة وامتدت إليه أيدي الحارسين ليساعداه رفضهما وصعد بنفسه.
كانت إذاعتنا وإعلامنا يومئذ هي الشارع . ومن غد أذيع بين الناس أن السكّة الحديدية مجانية لمن يريد السفر إلى بلدة " سلوق" جنوب بني غازي ليشاهد تنفيذ حكم الإعدام في قائد -العصاة- عمر المختار.. ولا اكتم ما اعتراني يوم المحاكمة إذ كنت لا أحس باني امشي على الأرض .. وساعة نومي كنت الصق وجهي بالحائط حتى لا تشعر جدتي بدموعي.. واضطررت إلى الصيام لأني لم استسغ الطعام.
تنفيذ الحكم....(1/44)
وفي اليوم الموعود ذهبت باكرا إلى المحطة فوجدت بها طلبة المدارس الإيطالية وأفرادا معدودين من ركاب لم اعرف منهم أحدا وركبنا لوجهتنا وهي "سلوق" وما إن وصلنا حتى رأينا المكان غاصّا بالجندرمة وأفرادا من الجيش بمدرّعاته. واصطف الناس على هيئة مربع في وسطه مشنقة. وبعد وصولنا وصلت سيارة مغطاة نزل منها السيد عمر وقورا . فأخذه الضابط وسلّمه إلى الجلاّد . وبعد قراءة الحكم ووضع الحبل في عنقه انقطع الحبل... وهتع سيدي عمر على الأرض وقال قولته المشهورة ولا زلنا نتندر بها " يلعن بوك دولة حتى أحبالها بايده..." وأعيدت الكرّة بحبل آخر .. وكأنني بلسان سيدنا عمر يردد في تلك اللحظة الآخرة من عمره آية التوبة (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله ))
... الدفن.
لم يحمل أو يدفن نهارا بل احتفظ بجثمانه حتى جنّ عليه الليل وحمل إلى مقبرة السيد محمد عبيد بضاحية اسمها "الزريرعيّة" وسلّمه ثلاثة ضباط إلى القبّار هناك .
ثم دفن في رمس على يسار السائر إلى روضة السيد محمد عبيد وظل الرمس مجهولا من تلك السنة أي 11 سبتمبر 1931 حتى يوم جلاء الجيش الإيطالي من بني غازي 1945 . وتأسست في تلك السنة جمعية عمر المختار فأشهرت الرمس وجعلت منه قبرا رمرمته وأحاطته بسياج من حديد مع شاهد كتب عليه اسمه وتاريخ وفاته ودامت تحتفل بهذه المناسبة كل عام .. وفي سنة 1957 نقل الجثمان إلى مكان آخر في جنوب المدينة في ميدان قرب الملعب البلدي حيث شيّد له مدفن آخر على نمط مدفن سعد زغلول وهو محل تجلّة من جميع الزائرين. ثم أعيد نقله للمرة الثالثة إلى بلدة سلوق التي شنق بها .(3)
رثاؤه..
ايهذا الشهيد للشاعر أبي الخبر الطرابلسي.
ايهذا الشهيد....... ما أنت إلا طارف العز تالد المجد سامي(1/45)
ايهذا الشهيد....... ما أنت إلا قدوة الجيش في اللواء الأمامي
خصّك الله بالعزيمة والصب ر...... وخصّ الطغاة بالأحجام
خصّك الله بالعقيدة... والطه ر.... .......وخصّ الدناة بالآثام
أمم الأرض طاطات في احترام رأسها........ يا جلال هذا المقام
أمم الأرض .....قلدتهم هوانا وازدراء....... بهم أحاط وسام
ايهذا الشهيد..... قد متّ شنقا بيد الغدر..... ذقت كاس الحمام
فتوارت غزالة الصبح حزنا واختفى البدر في ليالي التمام
خالد أنت.. رغم انف المنايا "عمر" أنت والردى تتعامى
إن تناسوك فالثمانون عاما ليس تنسى على مدى الأعوام
****
ما تحدوك .. إنما قد تحدا ك القضا.. بالردى ونصل الختام
انهم ألبسوك حلة فخر ثم أعلوك .. .. فوق أسمى مقام
طوقوا جيدك الأغر وغطوا جسمك الحر... خيفة الإيلام
سنة الغدر.. رحمة الذئب بالشا ه وخبث الجبان في الإيهام
أرجحوا جسمك الضعيف فضجت في الأعالي ملائك العلام
وعوا كالذئاب هيا تعالوا فاشهدوا مصرع الزعيم الهمام
فأبوا .. ثم سيق قهرا وجلدا من تأبى الحضور ملقى الروام
ثم دقوا الطبول للموت تدوي صارخات على العدا كل عام
لعنة الله .. لعنة الحق صبى بشواظ على الكوافر حامى
لعنة الكهل.. لعنة الطفل والخد ر ولعنة الثاكلات الدوامى
لعنات على الجناة السفالى دائمات إلى نشور العظام(4
4) شهيد الهند?
الإمام المجاهد الشهيد ... احمد بن عرفان ?
ولد السيد احمد بن عرفان في صفر سنة 1201 هجري الموافق ل 1781 ميلادي في فرية من قرى " راي بريلي" وتعرف الآن باسم " تكية" وعندما بلغ السيد احمد الشهيد الرابعة من عمره دخل الكتاب وتعلم العلوم الابتدائية واقبل على الألعاب الرياضية ولما بلغ اشده نشأ فيه دافع خدمة الشعب وإعانتهم ... وقد سبق في شغفه بالعبادة والذكر والنوافل كثيرا من النساك والمتعبدين...(1/46)
أرادت الحكمة الإلهية أن ينشأ السيد احمد الشهيد جنديا محاربا في جبهة الإسلام مجاهدا في سبيل الله . فهيأ له وسائل المران على الجندية والفنون العسكرية لأن الجهاد لا يحتاج إلى عواطف القلب فقط بل وحاجته إلى قوة اليد والمعرفة بفنون الحرب لا تقل عن الأولى... وكان السيد احمد يشعر بميل شديد نحو الجهاد وحنين غريب إلى الإسهام فيه بأسرع ما يمكن . وذات مرة نشب صراع بين المسلمين والهنادك في قرية مجاورة . فقام يستأذن أمه للجهاد والقتال ... فأذنت له بذلك لكنه ما إن وصل إلى تلك القرية حتى انتهت الحرب.
الرحلة ?
ولما شبّ السيد احمد وجد نفسه وحيدا بين أسرته وقد توفي والده من قبل . فاضطر بحكم الظروف إلى السفر برفقة جماعة من أقربائه إلى " لكهنؤ " للبحث عن شغل أو عمل يسد به الحاجة ويدفع به الأذى عن نفسه وعن أسرته . وساقه القدر في الدهلة إلى "دهلي" حيث أسرة الشيخ ولي الله الدهلوي التي كانت مرجع العلم ومركز المعارف ومقصد العلماء والطلبة.. فوصل السيد احمد إلى الشيخ عبد العزيز بن ولي الله الدهلوي فاحتفى به هذا الأخير وبالغ في إكرامه وبدا السيد احمد يستفيد من الشيخ عبد العزيز وشقيقه عبد القادر . وأخيرا بايع السيد احمد الشيخ عبد العزيز...واكتسب العلوم الروحانية والنفحات القدسية ... وقام بمجاهدات ورياضات استطاع بها في مدة قليلة أن يحرز مكانة عالية في العلوم الباطنية والروحانية.... وانتهز السيد احمد فرصة إقامته عند هذه الأسرة العلمية فدرس القرآن بتدبّر عميق وفقه بالغ.
وفي مدة قليلة بلغ السيد احمد إلى درجة عليا في الإحسان والسلوك والمعرفة....
رهاصات الإمامة ... وبداية المتاعب(1/47)
عاد السيد احمد إلى وطنه " راي بريلي" وأقام فيه نحو عامين ولكنه لم ترق له الإقامة فرجع إلى دهلي مرة أخرى ... وزار- نواب أمير خان ( حاكم ولاية تونك) وقد بينه وبين الانقليز وبعض القبائل معارك ... فأبدى له استعداده للجهاد وتربية الجيش ... فأقام عنده ستّ سنين يدرب الجيش ويشير على الأمير بتدابير الحرب ومصالح القتال... ثم وقعت بين الإنجليز والأمير مصالحة بالرغم من تحذير السيد احمد . وفي النهاية تم احتلال الولاية وسيطرتهم على الحكم.
رجع السيد احمد إلى وطنه متجولا في مدن كثيرة ومتفقدا أحوال الناس وأوضاع المسلمين وقد ترك تأثيرا عميقا في كل مدينة أو قرية أقام فيها... إذ كان إقبال الناس عليه متزايدا ... وكان السيد احمد ينتهز هذه الفرص لتوجيه الناس إلى الدين وتنفيرهم من البدع والوثنية..
وكانت قصة اضطهاد مسلمي- البنجاب- من طرف- السّيخ- الذين كانوا ينالونهم بالأذى والظلم وهتك الحرمات... لها أثرها البالغ والمؤرق للسيد احمد الشهيد ... وحثه على الإعداد للجهاد .. وتثوير همم الناس لنصرة إخوانهم..وشحنهم بمواعظ البذل والتضحية والفداء ... منتهزا رحلة الحجّ الشهيرة التي قام بها عام 1238 والتي مكّنته من ملاقاة الكثير من المسلمين في طول الهند وعرضها وتجميع الكثير من الأنصار والمجاهدين.(1/48)
وقد تفطن السيد احمد الشهيد إلى أن الظروف القاسية والأوضاع السيئة التي يعيشها مسلمو الهند ولا سيما مسلمو " بنجاب" لا ينقشع سحابها بدون أن تكون لهم سيطرة مستقلة وكلمة نافذة- أي سلطة ودولة- انه رأى أن الإسلام في هذه البلاد يعاني ضعفا ويجتاز فترة اضمحلال شديد ولو لم يقم لإسعافه أولو العزة والإيمان من المسلمين لكان للهند آخر عهد بالإسلام... وعلم حقّا أن دواء هذا الداء ليس في الوعظ والإرشاد فحسب و أن مجالس الدرس والتزكية الباطنية لا تغيّر في الوضع شيئا ... وإنما كان يعتقد حقّ الاعتقاد ويؤمن أقوى الإيمان بأن الإسلام والمسلمين بحاجة إلى القوة.
ولما رأى السّيخ يستعبدون المسلمين ويصبّون عليهم من الظلم والقسوة والعذاب ما يفتت القلوب ويغلق الأكباد عزم على الخروج في سبيل الله دون أن ينتظر الفرصة الأخرى. وقد عيّن البنجاب مركزا للجهاد
ولما استهلت سنة 1241 هجري ودع السيد احمد الشهيد أهله ووطنه مهاجرا في سبيل الله بجمع حاشد من المجاهدين ... وخاض بجيشه معارك عديدة ضارية ضد السّيخ منها معركة " اكورة" التي بويع على إثرها بالإمامة والإمارة لمسك الجيش وسدّا لذرائع الاضطراب والشقاق والتجزئة.
..أتعاب النّصر ومحنة الإمارة
وما إن حل السيد احمد -بشاور- وجماعته منتصرين فاتحين واستقر بهم المقام في ظل" نظام إسلامي" حتى ثار أهل بشاور على السيد وجماعته وقتلوا من رجاله الكثير... - مدفوعين بنفاق علماء السود ودعاياتهم المغرضة وترويجهم للأخبار المزيّفة التي تخدش من مقام السيد احمد- مما دفع بالسيد إلى الانتقال إلى مركز آخر... يستأنف فيه سير الكفاح ويبدأ الجهاد من جديد.. حتى وصل إلى " بالاكوت" وهناك كانت معركة لا شهادة..
... نهاية مجاهد(1/49)
في " بالاكوت" كان "شير سنغ" يحشد جيشه ومدافعه من كل جانب وأقام ثكنة على بعد ميلين منها وكان هناك طريقان يذهبان إلى " بالاكوت" أحدهما طريق جبلي لا يعرفه إلا الخواص من خبراء البلد والثاني كان يمر بجسر صغير إلى " لاهور" وقد أقام السيد احمد على كل واحد من الطريقين حراسا من الجيش كي لا يتمكن العدو من الدخول إلى "بالاكوت"...
وكانت المعركة في أولها لصالح المجاهدين ... إلا أن مفاجأة حصلت فقلبت الموازين لصالح العدو المتربص ? فقد جاء رجل ممن كانوا يحرسون الطريق إلى قائد جيش العدو. وأفضى إليه سرّ الطريق بغاية من التفصيل ... وذلك ما دفع في "شير سنغ" ورجاله روحا جديدة وعزما جديدا على شنّ الحرب على المسلمين ... فاعدوا العدة والعتاد .. وهاجموا حراس الطريق واستولوا على الممر وانتشر جيشه في خبايا الجبل وطرقه كالجراد. ورأى المجاهدون المفاجأة المؤلمة واطلع السيد احمد على "السرّ " فاستعدوا للقتال والجهاد ... وهم يرون الموت عيانا والشهادة قريبة.
وحمي الوطيس واشتدت المعركة وكانت ساعة حاسمة ... والتحم المقاتلون وإذا السيد الإمام احمد يختفي عن الأنظار وهو يقاتل العدو ببطولة رائعة . حتى قتل شهيدا مع عدد من إخوانه...
واستطاع على اثر هذه المعركة " شير سنغ" أن يبسط نفوذه وحكمه ويقيم عرشه على ارض خضبت بدماء الشهداء الزكية...
وأفل نجم المسلمين بسبب خطأ ارتكبه أحد المنافقين... وتوقف تاريخ المسلمين إلى هذا الحد من البطولة والمعجزة التي كاد يصنعها أهل الإيمان....
وسعدت ارض "بالاكوت " باحتضان اكبر بطل واعظم مجاهد عرفه التاريخ الإسلامي الحديث في الهند... يوم 24 من ذي القعدة 1246 للهجرة- 1831 للميلاد....
وسجل التاريخ اندر قتال للبطولة والحماس واعظم أسوة للتفاني في سبيل الله والاستماتة لوجه الله ... رحمه الله وتقبله عنده في الصالحين . آمين. (5)
الهوامش ?(1/50)
(1) الدكتور اسعد الشحمراني -مقدمة كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي- ص 19 -دار النفائس
(2) مجلة المسلمون -العدد 28 -ص 32 و 33- الشيخ عز الدين القسّام- العالم المجاهد -الدكتور عبد الرحمان رأفت الباشا
(3) مجلة العربي- العدد 279 -فيفري 1982 -ص 28 إلى 34 -هذه الشهادة نقلها السيد محمد المنصف المستشار القضائي وهو من أبناء بني غازي عمل بها قاضيا ثم انتقل إلى الكويت سنة 1956 وهو الشاهد الوحيد الحيّ الذي حضر المحاكمة وشاهد تنفيذ حكم الإعدام وهو حينئذ لا يزال صبيّا.
(4) العدد 8 / 9- السنة 15 -الثقافة العربية- 94
(5) سعيد الاعظمي الندوي- احمد بن عرفان الإمام المجاهد الشهيد- دار لقمان للنشر- 1978 تونس.
الباب الرابع
مقدمة عن الصراع المعاصر
ومعاناة الدعوة
الرموز الكبرى
1) الإمام الشهيد .. حسن البنا
2) شهيد المفسرين.. سيد قطب
3) شهيد القضاة .. عبد القادر عودة
4) شهيد الميز العنصري... مالكولم اكس
بسم الله الرحمان الرحيم
عن الصراع المعاصر .. ومعاناة الدعوة
...الصراع بين الحق والباطل بين الإيمان والكفر بين الخير والشر... والتدافع بين جبهة الإصلاح وجبهة الإفساد والفئة المنقذة والفئة المدمّرة... قائم ومتواصل ما بقيت حياة على الأرض... بما أن ذلك يمثل سنّة كونية وقانونا عاما وثابتا صاحب هذا الكون منذ تأسيسه / خلقه وبث عناصر الحياة فيه .. وقد أوضح القرآن الكريم هذه الحقيقة حقيقة قانون التدافع في قوله تعالى (( ولولا دفاع الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )) ( سورة البقرة)(1/51)
فقد شاء الله أن تقوم هذه الحياة وهذا الكون على الازدواج ..الخير مشوب بالشر واللذة ممزوجة بالألم ... والنهار يعقبه الليل وهكذا... في الكون المادي نور وظلام وفي العوالم الغيبية ملائكة وشياطين .. وفي بني الإنسان أخيار وأشرار وفي النفس الإنسانية خواطر يلهمها ملك ونزعات يوسوس بها شيطان... وقد ابتلى الله المؤمنين بالكافرين كما ابتلى الكافرين بالمؤمنين وأعطى كلاّ منهم عدده وأسلحته وأعوانه.. وجعل بعضهم لبعض فتنة ليبلو أخبارهم ويمتحن من يتولاه ويتولى رسله ممن يتولى الشيطان وحزبه وفي ذلك يقول سبحانه (( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا )) .. وهو تعالى عليم بذات الصدور ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء... ولكنه يعامل عباده معاملة المختبر ليجزيهم بما عملوا لا بما علم انهم سيعملونه ويقيم عليهم الحجة ويبطل الأعذار والتعلات (1)
وفي عصرنا الحاضر تعددت اللافتات وتنوعت الشعارات وتزاحمت الألوان التي توقّع عن الباطل وتترجم عن الشر ... وتترصّد للإفساد والتدمير لتحقيق هدفها الاستراتيجي المعلن تارة والمخفي أحيانا وهو " الهاء" الجبهة الصالحة عن تحقيق مشروع الإعمار والاستخلاف بمختلف صيغ التلهية وبمختلف أساليب الإقصاء...
وربما اقتضى الحال وظرف الصراع توزيع الأدوار على فروع الجبهة المفسدة فيتكلف كل فرع بتحقيق بند من بنود الاستراتيجية .. وتتفرغ كل قبيلة من قبائل المعسكر المتآمر بجهة معينة ... ويترصد كل حزب من أحزاب الباطل فئة من أنصار الحق ... ولكن عبقرية الحشد والتخطيط والمناورة والمكر .. قاسم مشترك بينها جميعا وهي ميزتها الأساسية التي تعوز جبهة الإصلاح في بعض الأزمنة وفي بعض الأمكنة ومن هنا تخدع الجماهير بانتفاش الباطل وانتصاره المرحلي الظرفي المؤقت وجاذبيته المسمومة.. وبالمقابل يزهد في مناصرة الحق والانخراط في جبهة الإنقاذ والإعمار والإصلاح ...(1/52)
.. وبسبب من شراسة المفسدين التي تغذيها الجاذبية المزيفة والانبهار المغشوش لشعارات ووعود الباطل ... إضافة إلى امتلاك العدة والعتاد .. ووضع أيديهم على مفاتيح القرار وملامس الضغط الدولي والقطري .. بسبب هذا وذاك .. تنوعت معاناة الدعاة وكثرت جراحات الأنصار... وطالت مشاهد الحزن والاضطهاد لديهم... مما جعل الخط البياني للمشنوقين والمقتولين والمعذبين... والمقهورين والمسجونين.. في اطراد مذهل ودائم واصبح القهر والذبح والاضطهاد والتنكيل بشتّى صوره وأشكاله وألوانه .. قاسما مشتركا يجمع المسلمين حيثما كانوا...
"وبسياحة صغيرة في عالمنا المعاصر نرى صدق ما نقول ... ولتكن سياحتنا من قلب العالم الإسلامي ... من النقطة التي يطلقون عليها "الشرق الأوسط" والتي يحجبون بها الجوانب الأخرى من المأساة ... بعد أن نجحوا في تفريغها من مضمونها الإسلامي وطمسوا معالمها الحقيقية.. ففلسطين الذبيحة ليست سوى جزء من المأساة التي تجسّد ذروة الحقد والكيد والمكر ضد الإسلام والمسلمين في العالم المعاصر.
والحرب التي تشنها أثيوبيا بوجهيها القبيحين الصليبي والشيوعي على المسلمين في إريتريا والصومال هي حرب إبادة وضعها الاستعمار الصليبي الإيطالي والفرنسي.(1/53)
والصليبيون في " التشاد" يدفنون المسلمين أحياء .. لقد دفنوا مائة وخمسة وسبعين ( 175) من حفظة القرآن وراحوا يحرقون القرى... ويذبحون الأطفال .. وفي الفليبين مازالت حرب الإبادة التي تشنها الصليبية هناك قائمة على قدم وساق وموقف الشيوعية لا يختلف عن موقف الصليبية فالقضاء على الإسلام والقوى الإسلامية.. وتعطيل مسيرة الصحوة الإسلامية .. هدفهما لأن كلاّ من القوتين ترى في الإسلام القوة العظمى التي تهدد كيانها السياسي والاجتماعي والاقتصادي.. فالملايين من المسلمين في الاتحاد السوفيتي يتعرضون للاضطهاد والتعسف والضغوط.. وترغم بلغاريا المسلمين هناك على تغيير أسمائهم الإسلامية .. واتبعت في ذلك ابشع الطرق وهدمت 26 مسجدا... وفي ألبانيا مليون من المسلمين يمثلون ما يقرب من 90 بالمائة من عدد السكان يلاقون اشد المصاعب والاضطهاد... وفي الهند يعيش المائة مليون مسلم في صدامات مستمرة ... وما مذبحة " أسام " مناّ ببعيدة..." (2)
...انه تآمر عالمي شرس مرصود للدعوة والدعاة في شرق الأرض وغربها ... بهدف تقويضها وإفنائها... ولكن.. (( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون...)) وما تعرض له المصلحون والدعاة المؤمنون في عصرنا الحاضر اصبح نموذجا للبشرية كلها يؤكد أن دعوة الإسلام مستحيلة وعصيّة على الإفناء والفناء و أن قوى التآمر العالمي- شيوعية أو صهيونية أو صليبية.. - مهما صنعت من شر ومهما دبرت ومكرت وخططت وحشدت .. لن تنال من الدعاة إلا أذى... لقد امتلأت السجون والمعتقلات بالرجال والنساء فما صرفهم ذلك عن دين الله... ونالت السياط من الجلود.. وأكلت المشانق من الأرواح فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا وما كان قولهم إلا أن قالوا ?" ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في امرنا وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"
1) الإمام الشهيد... حسن البنا(1/54)
(... لو عطس حسن البنا في القاهرة لقال له الإخوان في أسوان يرحمك الله..)
...بداية القصة من فم الوالد ?
قال العالم الفاضل أبو الحسن الندوي عند زيارته لمصر في بداية الخمسينات .. قلت لفضيلة والد الإمام الشهيد حسن البنا? نريد أن نسمع منكم شيئا عن فقيد الإسلام ولدكم حسن البنا رحمة الله عليه. وكيف كان في صغره وشبابه وقد قال الله تعالى (( ولا ينبّئك مثل خبير)) فقال ? حباّ وكرامة. ثم أفاض في سيرته وأجال. قال?(1/55)
1) لم يولد لي ولد مدة حتى اشتقت إلى الولد فدعوت الله سبحانه وتعالى أن يرزقني ولدا ذكرا صالحا. ورأيت ولدا صغيرا يصلي فأعجبني فقلت ويصلّي مثل هذا ... و أن ينبته الله نباتا حسنا. فولد لي ولد ذكر وسميته الحسن لأني لماّ تزوجت خاطبت والدتي زوجتي بقولها يا أم الحسن .. ولماّ بلغ الرابعة من عمره أدخلته في كتاب ولم يزل يتنقل من كتاب إلى كتاب حتى حفظ القرآن إلا ثلاثة أجزاء بقيت له. وأردت أن ادخله في مدرسة المعلمين الأولية في دمنهور وهي لا تقبل إلا من حفظ القرآن فدعوته يوما وكان ولدا بارا طيّعا فقلت يا ولدي لقد عزمت على أن أدخلك في مدرسة المعلمين ولكنك لم تكمل حفظ القرآن بعد فماذا ترى.. فقال يا أبت افعل ما تريد فأنا طوع أمرك. فقلت هات اللوح. وبدأت اكتب له القرآن وهو يحفظ حتى حفظ الثلاثة أجزاء في مدة قريبة ودخل المدرسة وكان مقبلا على العبادة وهو لم يبلغ الحلم يصوم ثلاثة اشهر رجب شعبان ورمضان فقلت له يا ولدي انك لم تبلغ بعد لم يفرض الله عليك الصوم فلماذا تجهد نفسك فقال يا أبي إن لي رغبة في الصوم ولا يشق عليّ فتركته. وكان يحضر درسي في المسجد. وكان نشطا للعبادة وأقوى عليها من كثير من الكهول والشيوخ. وكانت له رغبة في بذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ومن غريب ما وقع له انه كان يتفرج مرة على نهر في المحمودية فرأى سفينة فيها تمثال لامرأة عارية فذهب إلى رئيس الشرطة وقال لا يليق هذا التمثال ويتفرج على النهر كثير من الشبان والفتيات فلا بد من كسره وإزالته. فضحك رئيس الشرطة وأراد أن يتخلص منه فأرسل معه شرطيا إذا اقتنع صاحبه ورضي بكسره فاكسره وهو يعلم انه لا يرضى. فذهب إلى صاحب التمثال وأقنعه بأنه حرام وغير لائق فكسره .وكان هنا رجل صالح من مشايخ الطرق ومن العلماء المتّبعين فأوصيته بمجالسته فكان يجالسه حتى تشبع بحبه وانتفع به.(1/56)
2) ولما كان في السنة الأخيرة من المدرسة انتظمت دار العلوم في القاهرة وأدخلت فيها العلوم العصرية مع العلوم العربية التي كانت دار العلوم ممتازة فيها فرأيت أن أحوله إليها لمكانتها العلمية وشهرتها وكلّمته في ذلك . فقال عليك يا أبي أن تعدّني في العلوم النقلية من الحديث والفقه وغيرها وعليّ أن استعد بنفسي في العلوم الرياضية ... وهكذا كان ... وسافر إلى القاهرة وفي ليلة الامتحان كان خائفا جدا من جهة علم النحو والصرف . فكان يشعر بضعف فيه ويخاف انه إذا اختبر فيه فانه يرسب. وغلبته عينه فرأى شيخا يقول له هوّن عليك يا حسن فإني أخبرك بما ستختبر فيه وأخذه وذهب به إلى نهر وعبر به إلى شاطئ آخر وعين له صفحة من الكتاب وقال عليك بحفظها وفهمها. ( فكان حسن البنا رحمه الله يحلف بالله انه لما استيقظ وجد نفسه قد حفظ الدرس وذهب إلى الاختبار فوجد نفس الدرس فنجح بسهولة)...
ولم يزل يطلع الأول ويبرز في كل امتحان حتى حسده وحقد عليه زميل كان من نفس بلدته وهو اكبر منه بعشر سنين. فجاء بالنفط والسمّ وأراد أن يلقى النفط في عينه ليعمى والسمّ في فمه... ولكن طاشت يده فوقع النفط على جبهته و أخطأ السمّ موضعه... فقام الحسن مذعورا جريحا متألما وتحقق بعد ذلك انه عمل زميله فلان ووصلت القضية إلى الشرطة ولكن شفع للمجرم بعض الشيوخ فعفا عنه حسن ... قال أريد أن أؤخر هذه الحسنة عند الله وأسامح المجرم شكرا لله تعالى على خلاصي من مكيدته .
3) وبرز حسن في الامتحان ونجح بتفوّق وامتياز وعيّن مدرسا في الإسماعيلية.(1/57)
ثم قام بالدعوة هناك وأسس جمعية " الإخوان المسلمين " وكان يزور المساجد والمقاهي فيلقي المحاضرات والخطب الدينية. ويدعو إلى الدين وينكر على المناكير. ونشطت الدعوة واتسعت دائرتها حتى خصصوا لها دارا واسعة وانتقل من الإسماعيلية إلى مديريات أخرى فكان في الإسكندرية وفي السويس بل وفي كل مكان موضع داعية نشيطا يؤسس جمعيات الإخوان وينظم الدعوة ويلقي محاضرات حتى انبثّت فروع الجمعية في القطر المصري ... وكان لها النفوذ والشوكة والتأثير في الحياة والأخلاق ما تعلمونه.
4) ثم عني ولدي حسن بالصناعات والتنظيم ورأى من احتلال الأجانب الاقتصادي لهذه البلاد وامتصاصهم لدم الشعب واحتكارهم للصناعات والتجارة والمناجم ما دفعه إلى تأسيس مصانع وشركات . ودرّب المهندسين الذين يشتغلون في المناجم ويغنون الشعب عن الأجانب... حتى افزع ذلك الجاليات الأجنبية والشركات الأوروبية فأصبحت تدبر له المكيدة وتبيت الخطط لإسقاط جمعية الإخوان المسلمين وحلّها ... ووقع خلاف بين الجمعية والنقراشي باشا رئيس الوزارة في ذلك الحين وعارضه الإخوان حتى طلب منه الملك أن يقدم استقالته فاستقال فكان ذلك من أقوى الأسباب في حقد النقراشي على حسن وجمعيته .. ثم جاءت هذه الوزارة مرة ثانية حين جاءت حرب فلسطين وحلّت الجمعية ووقع ما وقع من اغتيال النقراشي واستشهاد حسن مما تعلمونه ويعلمه الجميع.
... قال الندوي ? قصّ الشيخ قصة ولده العزيز وفلذة كبده بكل وقار وسكينة كأنه يحكي قصة من قصص التاريخ وعجبنا لهذه الرجولة والإيمان... فقد احتسب ولده في سبيل الدعوة والجهاد وتحمل هذه الفاجعة في صبر المؤمن وجلادة المجاهد. (3)
خلاصة سيرته بصيغة الغائب(1/58)
... ولد حسن البنا عام 1906 في بلدة المحمودية إقليم البحيرة بمصر.. وكان أبوه من العلماء العاملين له عدة مؤلفات ومصنفات أهمها ? الفتح الربّاني لترتيب مسند الإمام احمد... وكان إلى جانب ذلك يحترف تجليد الكتب وإصلاح الساعات.
نشأ حسن البنا في بيت علم وصلاح وتلقى دروسه الأولية في مدرسة الرشاد الدينية ثم بالمدرسة الإعدادية بالمحمودية واتصف بالزهد والصلاح من خلال معرفته بالطريقة الحصانية. انتقل إلى مدرسة المعلمين بدمنهور 1920 وكان خلال دراسته مجليا فانتسب إلى دار العلوم بالقاهرة 1923 وهو دون السابعة عشر من عمره
تفتحت في القاهرة أمام حسن البنا آفاق جديدة واسعة فبالإضافة إلى مجالس الطريقة المصافية كان يرتاد مجالس العلماء الأزهريين والمكتبة السلفية وكان يخضّ هؤلاء جميعا على ضرورة العمل للإسلام والدعوة إليه بكل الوسائل المتاحة من نشر ووعظ وتشكيل للجمعيات الدينية ... ثم بدا ينتقل مع عدد من إخوانه داعيا إلى الله في المقاهي والمنتديات.
تخرج حسن البنا من دار العلوم عام 1927 وعيّن مدرسا في مدينة الإسماعيلية حيث بدا خطواته العلمية الأولى نحو تشكيل جماعة الإخوان المسلمين وتشكلت أول مجموعة في مارس 1928.
تميزت دعوة الإخوان المسلمين من أول يوم بالعودة إلى الأصالة الإسلامية في مصدريها الكتاب والسنّة متجاوزة الخلافات الجزئية وباستيعابها مختلف فضاءات الشعب ولا سيما الشباب المثقف وبشمولها كل جوانب الحياة من حكم وسياسة واقتصاد واجتماع وجهاد في سبيل الله على اعتبار أن كل ذلك إذا طبق كما أراده الله عبادة يؤجر عليها الإنسان المسلم.
وتابع حسن البنا نشر دعوته فامتدت إلى المدن القريبة وبدأ ببناء مؤسسات الجماعة فأقام مسجدا ومركزا للخوان ثم معهد حراء الإسلامي ومدرسة أمهات المؤمنين . وفي عام 1932 عاد حسن البنا إلى القاهرة وبانتقاله إليها انتقل المركز العام للإخوان وانتقلت الدعوة في بلدان القطر كله.(1/59)
بعد ذلك اصدر الإمام البنا مجلة الإخوان المسلمون الأسبوعية ثم " النذير" وعددا من الرسائل . ولم يتفرغ رحمه الله للكتابة بل عني بالتربية وبتكوين حركة ما تزال إلى اليوم رائدة البعث الإسلامي في العالم كله.
وابّان نكبة المسلمين في فلسطين خاض الإخوان المسلمون الحرب وابلوا فيها البلاء الحسن فصدرت الأوامر بحلّ الجماعة عام 1948 ثم جرى اغتيال المرشد العام بالقاهرة يوم 12 فيفري 1949... رحمه الله.. (4)
حادثة 12 فيفري 1944
.. جاء إبراهيم عبد الهادي (بعد النقراشي) ضعيفا خانعا مضطربا حريصا على الحياة واصبح رئيسا للوزراء بعد أن كان رئيسا للديوان الملكي . واغرق مصر في موجة من الاعتقالات والمحاكمات العسكرية بلا تحقيق ولا تثبت وعرفت مصر لأول مرة في تاريخها الحديث تعذيب المعتقلين على نحو بشع . وهناك اكثر من جهة يهمها أن تتخلص من المرشد العام للإخوان المسلمين وعلى رأسهم فاروق... ولم ينس أن مصر دفعت بقوتين في حرب فلسطين ? الجيش المصري ويتلقى أوامره من فاروق الذي كان قائده الأعلى ... وكتائب الإخوان المسلمين وتتلقى أوامرها من حسن البنا وأنها أرقى تدريبا وأحسن تسليحا وأشد فعالية وقابلية للتضحية والفداء. وأنها لم تهزم في معركة فبات يخشاهم من قلبه ومعه الإنجليز والصهيونية نفسها بعد أن خبرت شبابهم في القتال فتجمعوا كلهم ودفعوا بحكومة إبراهيم عبد الهادي نفسها لاغتيال حسن البنا في يوم 12 فيفري 1949 في الساعة الثامنة مساء... ومع انه تمالك نفسه ونزل من سيارة الأجرة التي كان يستقلها واتجه إلى هاتف جمعية الشبان المسلمين حيث كان هناك وأدار رقمين من مكالمة حاول أن يطلبها قبل أن يغمى عليه ... إلا انه نقل إلى مبنى الإسعاف على بعد دقائق ثم إلى قصر العيني وهناك أجهزوا عليه تماما... رحمه الله.
شواهد على عظمة الرجل(1/60)
1) قال احمد أمين متحدثا عن حسن البنا ? لقد كان ذا شخصية قوية ورجلا موهوبا ومن الغريب انه كان وهو طالب شابا حييّا خجولا لم اكن اعرف انه سيكون خطيبا في يوم من الأيام وكان تلميذي في مدرسة القضاء... فإذا هو يفاجئ البلاد بخطابته وشخصيته وكان له بكل مقام مقال.. فإذا كان في العامة .. ملك عليهم فكرهم وإذا كان في المستشارين ألقى عليهم خطبة تعجبهم وتؤثّر فيهم... (5)
2) ... وأما الدكتور الطاهر احمد مكي فيقول ? أتاح لي القرب من حسن البنا أن أتبين فيه أشياء كثيرة .. الذاكرة القوية فما رايته مرة إلا وسألني عن أهلي بأسمائهم فردا فردا.. وقدرته الفائقة على أن يتكلم العربية الصحيحة والبسيطة والواضحة دوما .. وعفة لسانه فما رايته مرة يخوض في سيرة أحد أو يذكر شخصا بسوء معارضا أو عدوا ورايته يسع قلبه للناس جميعا من يكبرونه في الوظائف ومن يفوقونه سناّ فضلا عمن دونه عمرا ومقاما..
... وفي صبيحة اليوم التالي ليوم اغتيال حسن البنا.. كنت اقف في نافذة البيت الذي اسكنه في ميدان السيدة عائشة وبه يمر الطريق إلى مقابر الإمام الشافعي فرأيت سيارة الموتى تطوقها قوات ضخمة من الشرطة مدججة بالسلاح وتتبعها عربات مصفحة تنطلق بسرعة لا أحد أمامها غير العسكريين ولا معها ولا ورائها... ولم يخالجني أدنى شك في أنها تحمل جثمان الشهيد حسن البنا ... ولم ابك. فقد جف الدمع في عيني وتوزعتني هموم غامرة عما سوف ينتهي إليه وطني في مستقبله القريب والبعيد ... ثم قرأت على روحه الفاتحة.. (6)(1/61)
3) وكتبت "النيويورك بوست " في عددها ليوم 13 فيفري 1946 لمراسلها في القاهرة قوله " زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من ابرز الرجال في التاريخ الحاضر أو قد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث اكبر منه ... هذا الرجل هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين... لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب ? خلاّب المظهر أنيق العبارة .. لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة في مذهب موحد وهدف موحد... ولو طال عمر هذا الرجل لكان يمكن أن يتحقق لهذه البلاد الكثير... وكل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل افلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر على المجاهدين وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي...لقد تزوج مبكرا وعاش فقيرا وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التفّوا حوله ... لقد أعلنت الأحزاب حربا عنيفة عليه رغم انه كان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلى خصومة شخصية.. كان الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيدا... واني على يقين من أن أي حركة وطنية تظهر في الشرق بعد ذلك يمكن إرجاعها إلى المقاييس التي وضعها هذا الرائد العملاق...
شهادات على عبقرية الرجل
1) الشهادة الأولى يدلي بها الشيخ محمد الغزالي بقوله ? الأستاذ الإمام حسن البنا أصفه ويصفه غيري بأنه مجدد القرن الرابع عشر للهجرة فقد وضع جملة مبادئ تجمّع الشمل المتفرّق وتوضح الهدف القاتم وتعود بالمسلمين إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم.(1/62)
لقد استفاد حسن البنا من تجارب القادة الذين سبقوه وجمع الله في شخصه مواهب تفرّقت في أناس كثيرين... من ذلك انه كان اقدر الناس على رفع المستوى الفكري للجماهير مع محاورة لبقة من أسباب الخلاف ومظاهر التعصب . وقد أحاط الأستاذ البنا بالتاريخ الإسلامي وتتبع عوامل المد والجزر في مراحله المختلفة وتعمق تعمقا شديدا في حاضر العالم الإسلامي ومؤامرات الاحتلال الأجنبي ضدّه .. ثم في صمت غريب اخذ الرجل الصالح يتنقل في مدن مصر وقراها وأظنّه دخل ثلاثة آلاف قرية من القرى الأربعة آلاف التي تكوّن القطر كلّه... وخلال عشرين عاما تقريبا صنع الجماعة التي صدعت الاستعمار الثقافي والعسكري ونفخت روح الحياة ف الجسد الهامد. (7)
2) وأما الشهادة الثانية فجاءت على لسان الشهيد سيد قطب رحمه الله في قوله ? لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة. ولكن الدعاية غير البناء وما كل داعية يملك أن يكون بنّاء وما كل بنّاء يوهب هذه العبقرية الضخمة في البناء. هذا البناء هو الإخوان المسلمون.. انه مظهر هذه العبقرية الضخمة في بناء الجماعات انهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس استجاش الداعية مشاعرهم ووجداناتهم فالتفّّوا حوله عقيدة... إن عبقرية البناء تبدو في كل خطوة من خطوات التنظيم ... من الأسرة إلى الشعبة إلى المنطقة إلى المركز الإداري إلى الهيئة التاسيسية إلى مكتب الإرشاد... وفي البناء الروحي.. هذا البناء الذي يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة .. هذه الدراسات المشتركة وهذه الصلوات المشتركة والتوجيهات المشتركة والرحلات المشتركة... في النهاية هذه الاستجابات المشتركة والمشاعر المشتركة التي تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل في داخل انفس قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.
والعبقرية في استخدام طاقات الأفراد .. طاقة المجموعات في نشاط لا يدع في نفوسهم ولا يدعهم يتفلتون هنا أو هناك يبحثون عما يملؤون به الفراغ ...(1/63)
وعبقرية البناء في تجميع الأنماط من النفوس ومن العقليات ومن الأعمار ومن البيئات تجميعها كلها في بناء واحد.. كما تتجمع النغمات المختلفة في لحن عبقري (8)
3) وتقول الداعية زينب الغزالي عن الإمام الشهيد ?... لأول مرة وجدت نفسي مشتاقة إلى مراجعة كل آراء الأستاذ حسن البنا وإصراره على الاندماج الكلي.. ( اندماج جمعية السيدات المسلمات التي ترأسها زينب الغزالي في جمعية الإخوان....) .. وفي صبيحة اليوم التالي لحلّ جماعة الإخوان كنت بمكتبي في دار السيدات المسلمات وفي نفس الحجرة التي كان بها آخر اجتماع لي بالمرشد العام... ووجدت نفسي اجلس إلى مكتبي واضع رأسي بين يدي وابكي بكاء شديدا. فقد أحسست أن حسن البنا كان على حقّ فهو الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعا على الجهاد لعودة المسلمين إلى مقعد مسؤوليتهم والى وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه وهو مكان الذروة في العالم .. وأحسست أن حسن البنا كان أقوى مني واكثر صراحة في نشر الحقيقة وإعلانها.. و أن هذه الشجاعة وهذه الجرأة هي الرداء الذي يجب أن يرتديه كل مسلم وقد ارتداه البنا ودعا إليه..( 9)
2) شهيد المفسرين... سيد قطب
هو سيد بن الحاج قطب بن إبراهيم ولد في أحضان عائلة موسرة نسبيا في قرية " قها" الواقعة في محافظة أسيوط سنة 1906 . كان والده رجلا متدينا مرموقا بين سكان القرية وعضوا في لجنة الحزب الوطني الذي كان يرأسه مصطفى كامل ... يهتم بزراعة أراضيه ويعطف على الفقراء ويبر بهم مما اضطره على ما يبدو إلى أن يبيع قسما كبيرا من أطيانه .. أما أمه فكانت سيدة متدينة تنتسب إلى عائلة معروفة وقد عنيت بتربيته فحنت عليه وزرعت في نفسه الطموح وحب المعرفة..(1/64)
كانت له أختان وأخ اصغر منه سنا هم حميدة وأمينة ومحمد. فقد والده وهو لم يزل يتابع دراسته بالقاهرة فأحس بثقل المسؤولية التي ورثها إزاء أمه واخوته وكرهت نفسه الإقامة في مسقط رأسه فاقنع أمه بالانتقال إلى القاهرة وكان لموت أمه المفاجئ عام 1940 اثر كبير في نفسه إلى درجة انه أحس نفسه وحيدا في الحياة غريبا عنها ..
كان سيد رجلا اسمر اللون مجعّد الشعر لا هو بالبدين ولا هو بالنحيل . أميل إلى القصر منه إلى الطول بغير قماءة. رقيق الإحساس لطيف المعشر متواضعا شجاعا حاضر البديهة سليط اللسان في نقده شغوفا إلى حب المعرفة ميالا إلى مساعدة الآخرين.
ولم يكن سيد يتمتع بصحة جيدة منذ صغره وقد ساعد على تدهور حالته الصحية عوامل القلق التي داهمته بعد وفاة والديه وفي المدة الأخيرة من حياته كان يعاني من أمراض شتى في معدته . اضطرته إلى أن يحمل معه أينما ذهب الأدوية اللازمة لعلاجه.
... تطور مراحل حياة الشهيد..
ذكر الأستاذ سيد قطب مراحل حياته للشيخ أبو الحسن الندوي فقال ? لا شك أني تلميذ من تلاميذ العقاد في الأدب والأسلوب الأدبي وله علي فضل في العناية بالتفكير اكثر من اللفظ وهو الذي صرفني عن تقليد المنفلوطي والرافعي.. ولكن الذي وجهني هذا التوجيه الذي هو اكثر من الأدب والنقد والمعاني الشعرية هو أن نفسي لم تزل متطلعة إلى الروح وما يتصل بها وكنت في صغري مشغوفا بقراءة أخبار الصالحين وكراماتهم ولم تزل هذه العاطفة تنمو في نفسي مع الأيام .. والأستاذ العقاد رجل فكري محض لا ينظر إلى مسألة ولا يبحث فيها إلا عن طريق الفكر والعقل.. فذهبت اروي نفسي من مناهل أخرى هي اقرب إلى الروح. ومن ثم عنيت بدراسة أشعار الشرقيين كطاغور وغيره . وثانيا أني كنت اعتقد أن مثل الأستاذ العقاد في عقله الكبير وشخصيته العظيمة لا يخضع للضرورات كالحكومة والسلطة ولكنه سالمها..(1/65)
وذكر الشهيد أيضا كيف وصل إلى العقيدة الإسلامية أو الإيمان بالإسلام من جديد وذكر كيف نشأ على تقاليد الإسلام في الريف وفي بيئته ثم انتقل إلى القاهرة فانقطعت كل صلة بينه وبين نشأته الأولى وتبخرت ثقافته الدينية الضئيلة وعقيدته الإسلامية ومر بمرحلة الارتياب في الحقائق الدينية إلى أقصى الحدود ثم اقبل على مطالعة القرآن لدوافع أدبية ثم اثّر فيه القرآن وتدرج به إلى الإيمان. وكيف أثّرت فيه كتب السيرة.
وباختصار يمكن تبويب حياة الشهيد إلى ?
المرحلة الأولى ?
وهي تبدأ من الولادة إلى 1919 وتتميز بالتربية الدينية التي استقاها من والديه وفي مدرسة القرية حتى يمكن القول بأنه قد حفظ القرآن بكامله وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره.
المرحلة الثانية ?
وهي تمتد من 1990 إلى 1939 حيث سافر إلى القاهرة فأتم دراسته الثانوية ودخل كلية دار العلوم ليتخرج منها مجازا في اللغة العربية وآدابها...
وبعد تخرجه من كلية دار العلوم عين مفتشا في وزارة التربية والتعليم ولكن ما لبث أن ترك الوظيفة حتى يكرس كامل وقته لمهنته ككاتب... ولم ينتظر طويلا حتى يصبح كاتبا مرموقا إلى جانب طه حسين وعباس العقاد والرافعي... وإنما أخذت مقالاته تظهر في نفس المجلات التي تنشر مقالات هؤلاء الكتاب الكبار.
المرحلة الثالثة ?
وتمتد من 1939 إلى 1951 وهي تمثل بداية تحوله نحو الأيدلوجية الإسلامية.
المرحلة الرابعة ?
وتمتد من 1951 إلى 1965 ... وفيها اعتزل الأدب وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمون واصبح مفكر الجماعة... وانصرف إلى الأيدلوجية الإسلامية يدعو إليها في جريدة الإخوان التي تولى رئاسة تحريرها قبل اعتقاله عام 1954 ويؤلف عنها الكتب...وينتقد بشدة محبذي فكرة فصل الدين عن الدولة وإبعاد الدين عن السياسة.
النهاية(1/66)
انضم سيد إلى جماعة الإخوان المسلمين واعتقل مع غيره من أبنائها حين اتهمت الجماعة في 28 تشرين الأول 1954 بمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر. وحكم عليه بالسجن مدة خمسة عشرة عاما بالأشغال الشاقة قضى منها عشر سنوات في سجن " ليمان طره" وخرج من السجن عام 1964 .. وأعيد اعتقاله مرة أخرى مع غيره من الإخوان المسلمين بتهمة تدبير مؤامرة لقلب النظام بالقوة عام 1965 وصدر عليه حكم بالإعدام نهار الأحد 22/8/1966 من قبل محكمة أمن الدولة العليا بالقاهرة. وتم تنفيذ هذا الحكم نهار 29/8/1966 عند الفجر ... رغم مظاهرة الاحتجاج التي قامت في كراتشي ورغم النداءات التي وجهها رؤساء بعض الدول والأحزاب والجمعيات وعلماء الدين .. إلى عبد الناصر يناشدونه فيها إعادة النظر في الحكم.
المساومة قبل الإعدام
تقول الداعية زينب الغزالي ? "... طلب الطغاة حميدة قطب ليلة تنفيذ الحكم بالإعدام. فقالت? استدعاني حمزة بسيوني إلى مكتبه واراني حكم الإعدام والتصديق عليه ثم قال لي إن الحكومة مستعدة أن تخفف هذا الحكم إذا كان شقيقي يجيبهم إلى ما يطلبونه ثم أردف قائلا إن شقيقك خسارة لمصر كلها وليس لك وحدك... إننا نريد أن ننقذه من الإعدام بأي شكل وبأي وسيلة . إن بضع كلمات يقولها ستخلصه من حكم الإعدام ولا أحد يستطيع أن يؤثّر عليه إلا أنت . أنت وحدك مكلفة بأن تقولي له هذا ... نريد أن يقول إن هذه الحركة كانت على صلة بجهة ما.. وبعد ذلك تنتهي القضية بالنسبة لك. أما هو فسيفرج عنه بعفو صحي.
قلت له ولكنك تعلم كما يعلم عبد الناصر أن هذه الحركة ليست على صلة بأي جهة من الجهات . قال حمزة البسيوني ? أنا عارف وكلنا عارفون أنكم الجهة الوحيدة في مصر التي تعمل من اجل العقيدة... نحن عارفون أنكم احسن ناس في البلد .. ولكننا نريد أن نخلص سيد قطب من الإعدام.
فقلت له إذا كان سيادتك عاوز تبلغه هذا فلا مانع.(1/67)
وذهبت إلى سيد شقيقي وسلمت عليه وبلغته ما يريدون منه فنظر إلي ليرى اثر ذلك على وجهي وكأنه يقول? أأنت التي تطلبين أم هم ؟ واستطعت أن افهمه بالإشارة انهم مه الذين يقولون ذلك . وهنا نظر إلي وقال ? ولله لو كان هذا الكلام صحيحا لقلته ولما استطاعت قوة على وجه الأرض أن تمنعني من قوله. ولكنه لم يحدث وأنا لا أقول كذبا أبدا.
... وأفهمت أخي بالحكاية من أولها وقلت له إن حمزة استدعاني واراني تنفيذ حكم الإعدام وطلب مني أن اطلب منك هذا الطلب.
سأل ? وهل ترضين ذلك ؟ قلت لا . قال انهم لا يستطيعون لأنفسهم ضررا ولا نفعا ... إن الأعمار بيد الله وهم لا يستطيعون التحكم في حياتي ولا يستطيعون إطالة الأعمار ولا تقصيرها.. كل ذلك بيد الله والله من ورائهم محيط...
..وبعد أيام سمعنا عن تنفيذ الحكم وقد ضرب أفراد من الجيش اعتمروا الخوذات الفولاذية وتزودوا بالرشاشات الثقيلة حصارا حول سجن القاهرة حيث تم تنفيذ حكم الإعدام بعد أن منع الصحفيون من دخول السجن وطلب منهم مغادرة المنطقة... أما من ناحية الدفن فإنه قد تم من قبل السلطات الرسمية وبصورة سرية في إحدى مدافن القاهرة.
في ظلال القرآن .... تجربة رجل
(1)
لعل من ابرز بركات الصحوة الإسلامية المعاصرة إلى جانب فضلها ودورها الريادي في رفع الغبن عن الذاتية الإسلامية أنها أعادت الاعتبار لكتاب الله كدستور خالد لهذه الأمة وكمنهاج عامل وفاعل وشامل للحياة الإسلامية المنشودة.
وقد كان هذا القرآن الكريم كذلك في عصر التنزيل وما بعده في أيام الراشدين والتابعين إلا أن الأعاصير التي انطلق هديرها منذ "صفين" قويا مدمرا قد أحدثت شروخا وجروحا حادة في العقل المسلم والحياة الإسلامية بصفة عامة وكان لها الدور البارز والمؤثر في تمييع الرابطة المقدسة والمتينة بين المسلمين وكتابهم المنزل وكذلك في تبليد الفهم وتجميد الوعي المطلوب والضروري للإبقاء على الوصال المقدس بين المسلم ودستوره الخالد.(1/68)
(2)
ولولا قوة المسك لهذا الكتاب وألوهية الحفظ له لضاع في أتون الصراعات والغارات التي حلت بالأمة الشاهدة وهذا فضل من المولى ونعمة على الإسلاميين تدبرها والتشمير الجاد لأداء شكرها..
(3)
ولقد زامل القرآن العظيم أجيال المسلمين المختلفة منذ أربعة عشر قرنا ولا يزال فحفظه كثيرون عن ظهر قلب وبرع في ترتيله كثيرون وعكف على تفسير آياته كثيرون ونسخه بخط اليد كثيرون وكتبه بماء الذهب كثيرون...
ولكن قليلون هم الذين جربوا الحياة في ظلال هذا القرآن الحياة بكل ما في هذه الكلمة من معنى ذلك أننا عرفنا كثيرا ممن حفظوا هذا القرآن الكريم حفظ الخزن فهم يرددونه صباح مساء في خوف من تحريف حركاته أو سهو في ترتيب آياته وسوره ... فتعيه ذاكرتهم ولا تعيه قلوبهم...وهذه ليست حياة ولا تجربة حياة في ظلال هذا القرآن و إن كانت ولابد فهي في تقديري جافة كل الجفاف وباهتة كل البهت وساكنة كل السكون
(4)
إن الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه ... والحمد لله . لقد منّ عليّ بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر فتباركه وتزكيه لقد عشت اسمع الله سبحانه . يتحدّث إلي بهذا القرآن أنا العبد القليل الصغير ... أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ..أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل.. أي مقام جليل يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم ؟(1/69)
وعشت في ظلال القرآن انظر من علوّ إلى الجاهلية التي تموج في الأرض والى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة ... انظر إلى تعاجب أهل هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال وتصورات الأطفال واهتمامات الأطفال... كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ومحاولات الأطفال ولثقة الأطفال واعجب.. ما بال هذا الناس ؟؟ ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئية ولا يسمعون النداء العلوي الجليل .. النداء العلوي الذي يرفع العمر ويزكيه.
غاية الوجود الإنساني.... وحركة الإنسان..
في ظلال القرآن عشت أتملى ذلك التصور الكامل الشامل الرفيع النظيف للوجود... لغاية الوجود كله وغاية الوجود الإنساني وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية في شرق وغرب وفي شمال وجنوب ... وأسأل كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن وفي الدرك الهابط وفي الظلام البهيم وعندها ذلك المرتفع الزكي وذلك المرتقى العالي وذلك النور الوضيء ؟
وعشت في ظلال القرآن أحس التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون كما أبدعه الله ثم انظر فأرى التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية والتصادم بين التعاليم الفاسدة الشريرة التي تملى عينا وبين فطرتنا التي فطرنا الله عليها وأقول في نفسي أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم .. يا حسرة على العباد...(1/70)
وعشت في ظلال القرآن أرى الوجود اكبر بكثير من ظاهره المشهود. اكبر في حقيقته واكبر في تعدد جوانبه . انه عالم الغيب والشهادة لا عالم الشهادة وحده. وانه الدنيا والآخرة لا هذه الدنيا وحدها والنشأة الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول والموت ليس نهاية الرحلة وإنما هو مرحلة في الطريق وما يناله الإنسان من شيء في هذه الأرض ليس نصيبه كله. إنما هو قسط من ذلك النصيب وما يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك فلا ظلم ولا نجس ولا ضياع . على أن المرحلة التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة حيّ مأنوس وعالم صديق ودود . كون ذي روح تتلقى وتستجيب وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في خشوع (( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال )) ..(( تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن و إن من شيء إلا يسبح بحمده)) أي راحة وأي سعة وأي انس وأي ثقة يفيضها هذا التصور الشامل الكامل الفسيح الصحيح ؟؟
المؤمن... من ذلك الموكب الكريم
في ظلال القرآن عشت أرى الإنسان اكرم بكثير من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد. انه إنسان بنفخة من روح الله (( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) وهو بهذه النفخة مستخلف في الأرض (( وسخر لكم ما في الأرض جميعا)) و لأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والعلو جعل الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة.. جعلها آصرة العقيدة في الله. فعقيدة المؤمن هي وطنه وهي قومه وهي أهله ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها لا على أمثال ما يتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج..(1/71)
والمؤمن ذو نسب عريق ضارب في شعاب الزمان انه واحد من ذلك الموكب الكريم الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم ? نوح وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام (( و إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)) هذا الموكب الكريم الممتد في شعاب الزمان من قديم يواجه كما يتجلى في ظلال القرآن مواقف متشابهة وأزمات متشابهة وتجارب متشابهة على تطاول العصور وكرّ الدهور وتغيّر الزمان وتعدد الأقوام يواجه الضلال والعمى والطغيان والهوى والاضطهاد والبغي والتهديد والتشريد ولكنه يمضي في طريقه ثابت الخطو مطمئن الضمير واثقا من نصر الله متعلقا بالرجاء فيه متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد (( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنّكم من لرضنا أو لتعودنّ في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكنّ الظالمين ولنسكنّنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي)) موقف واحد وتجربة واحدة وتهديد واحد ويقين واحد ووعد واحد للموكب الكريم... وعافية واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد.
استشعار الهدوء النفسي ... الاطمئنان إلى رحمة الله
في ظلال القرآن تعلمت تنه لا مكان في هذا الوجود للمصادفة العمياء ولا للفلتة العارضة (( إنا كل شيء خلقناه بقدر)) .. (( وخلق كل شيء فقدره تقديرا)) وكل أمر بحكمة ولكن حكمة الغيب العميقة قد لا تنكشف للنظرة الإنسانية القصيرة (( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا)) ..(( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وانتم لا تعلمون)) .(1/72)
والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها . ذلك انه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج وإنما هي الإرادة الطليقة التي تنشئ لاثار والنتائج كما تنتج الأسباب والمقدمات سواء (( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا)) .. ((وما تشاؤون إلا أن يشاء الله )). والمؤمن يأخذ بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وحكمته وعلمه هو وحده الملاذ الامين والنجوة من الهواجس والوساوس ((الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم )).(1/73)
ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس مطمئن السريرة قرير الضمير. عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر . عشت في كنف الله وفي رعايته. عشت استشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها (( أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء)) . (( وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير)). (( والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون)) . (( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)) . (( فعّال لما يريد))... إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء عمياء فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة والمشيئة المطلقة والله يخلق ما يشاء ويختار.. كذلك تعلمت أن يد الله تعمل ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة وانه ليس لنا أن نستعجلها ولا أن نقترح على الله شيئا فالمنهج الإلهي موضوع ليعمل في كل بيئة وفي كل مرحلة من مراحل النشأة الإنسانية وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة وهو موضوع لهذا الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض أخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته واستعداداته وقوته وضعفه وحالاته المتغيرة التي تعتريه . إن ظنّه لا يسوء بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته سواء وهو فرد أو وهو عضو في جماعة. كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق قدرته وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه ولا يفترض في كلتا الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرّة قلم.
الإنسان... والارتفاع إلى الكمال(1/74)
الإنسان هو هذا الكائن بعينه بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به إلى أقصى درجات الكمال المقدر له حسب تكوينه ووظيفته ويحترم ذاته وفطرته ومقوماته وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله ومن ثم فإن المنهج الإلهي موضوع للمدى الطويل الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن ومن ثم لم يكن متعسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج. إن المدى أمامه ممتد فسيح لا يحده عمر فرد ولا تستحثه رغبة فان يخشى أن يعجله الموت عن تحقيق غايته البعيدة . كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصرون على الخطو المتزّن . وفي الطريق العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر وتسيل الدماء وتتحطم القيم وتضطرب الأمور ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا تصمد لها المذاهب المتعسفة.. فأما الإسلام فيسير هيّنا ليّنا مع الفطرة يدفعها من هنا ويردعها من هناك ويقوّمها حين تميل ولكنه لا يكسّرها ولا يحطّمها انه يصبر عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة والذي لا يتم في هذه الجولة يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف. فالزّمن ممتد والغاية واضحة والطريق إلى الهدف الكبير طويل وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب بجذورها في التربة وتتطاول فروعها وتتشابك . كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء وعلى هيّنة وفي طمأنينة ثم يكون دائما ما أراده الله أن يكون ... والزرعة قد تسقى عليها الرمال وقد يأكل بعضها الدود وقد يحرقها الظمأ وقد يغرقها الري.. ولكن الزارع البصير يعلم أنها رزعة للبقاء والنماء وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى الطويل فلا يعتسف ولا يقلق ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة السمحة الودود.. انه المنهج الإلهي في الوجود كله (( ولن تجد لسنّة الله(1/75)
تبديلا )).
أصالة الحق في هذا المنهج
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود ليس فلتة عابرة ولا مصادفة غير مقصودة . إن الله سبحانه هو الحق ومن وجوده تعالى يستمد كل موجود وجوده ((ذلك بأن الله هو الحق و أن ما تدعون من دونه هو الباطل و أن الله هو العلي الكبير )) وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس بخلقه الباطل (( ما خلق الله ذلك إلا بالحق)) . ((ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك)) والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك (( ولو اتبع الحق أهوائهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن)) ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر ولا بد للباطل أن يزهق ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح (( بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ))
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق باقية بقاءه في الأرض .
لا صلاح ...إلا في الرجوع إليه
انتهيت من فترة الحياة في ظلال القرآن إلى يقين جازم حاسم.. انه لا صلاح لهذه الأرض ولا راحة لهذه البشرية ولا طمأنينة لهذا الإنسان ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة إلا بالرجوع إلى الله.
والرجوع إلى الله .. له صورة واحدة وطريق واحد. واحد لا سواه . انه العودة بالحياة كلها إلى منهج الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم .. انه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها والتحاكم إليه وحده في شؤونها وإلا فهو الفساد في الأرض والشقاوة للناس والارتكاس في الحمأة والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله(( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون الهوى ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله . إن الله لا يهدي القوم الظالمين ))
إيمان أو لا إيمان
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس تطوعا ولا نافلة ولا موضع اختيار إنما هو الإيمان أو فلا إيمان (( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ))(1/76)
فالأمر إذن جدّ . انه أمر العقيدة من أساسها. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها.
إن هذه البشرية وهي من صنع الله لا تفتح مغاليق فطرتها إلا بمفاتح من صنع الله ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يديه سبحانه وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق وشفاء كل دواء. ((وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين )) . (( إن هذا القرآن ليهدي للتي هي أقوم.)) ولكن هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ولا تسلك في أمر نفسها وفي أمر إنسانيتها وفي أمر سعادتها أو شقائها ما تعودت أن تسلكه من أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها اليومية الصغيرة. وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع هذا الجهاز ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه فترده إلى المصنع الذي منه خرج ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب. الجهاز الإنساني العظيم الكريم الدقيق اللطيف الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه و أنشأه ((انه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير))
اصل الشقوة العامة
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة البشرية المسكينة البشرية التي لن تجد الرشد ولن تجد الهدى ولن تجد الراحة ولن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير كما ترد الزهيد إلى صانعه الصغير.
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها ونكبة قاصمة في حياتها . نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل ما ألمّ بها من نكبات. لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعدما فسدت الأرض فأسنت الحياة وتعفّنت القيادات وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة (( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس))(1/77)
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن وبالشريعة المستمدة من هذا التصور. فكان ذلك مولدا جديدا للإنسان اعظم ف حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته .
لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم كما حقق لها واقعا اجتماعيا فريدا . كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور قبل أن ينشأه لها القرآن إنشاء .. نعم.. لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال والعظمة والارتفاع والبساطة واليسر والواقعية والإيجابية والتوازن والتناسق .. بحيث لا يخطر للبشرية على بال . لولا أن الله أراده لها وحققه في حياتها في ظلال القرآن ومنهج القرآن وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة ونحيّ الإسلام عن القيادة . نحيّ عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى في صورة من صورها الكثيرة . صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان.
عصابة المضللّين(1/78)
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء البشرية يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى ثم يقولون لها اختاري.. اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة وإما الأخذ بثمار المعرفة الإنسانية والتخلي عن منهج الله وهذا اخداع لئيم خبيث فوضع المسألة ليس هكذا أبدا. إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني إنما هو مشرّع لهذا الإبداع وموجّه له الوجهة الصحيحة ذلك لكي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض هذا المقام الذي منحه الله له وأقدره عليه ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب المفروض عليه فيه وسخر له من القوانين الكنية ما يعينه على تحقيقه ونسق بين تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع على أن يكون الإبداع نفسه عبادة لله ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام والتقيد بشرطه في عقد الخلافة وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله فأما أولئك الذين يضعون المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى فهم سيّئو النية شرّيرون يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح و أن تؤوب من المتاهة المهلكة و أن تطمئن إلى كنف الله.(1/79)
وهناك آخرون لا ينقصهم حسن النية ولكن ينقصهم الوعي الشامل والإدراك العميق هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة فيفصل ذلك البهر وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية وعملها وأثرها الواقعي في الكون وفي واقع الحياة ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا وللقيم الإيمانية مجالا آخر ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم الإيمانية وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا ابتغوا منهج الله أم خالفوا عنه حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس.
هذا وهم .. انه فصل بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين فهذه القيم الإيمانية هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء ونتائجها مرتبطة ومتداخلة ولا مبررّ للفصل بينهما في حسّ المؤمن وفي تصوره.
التصور الصحيح
... وهذا هو التصور الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن ينشئه وهو يتحدث عن أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها واثر هذا الانحراف في نهاية المطاف. (( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفّرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنّات النعيم ولو انهم أقاموا التوراة والإنجيل وما انزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم )) وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه (( فقلت استغفروا ربكم انه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمدكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم انهارا )) وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله الله بهم (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم))
إن الإيمان بالله وعبادته على استقامة وإقرار شريعته في الأرض كلها إنفاذ لسنن الله وهي سنن إيجابية نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية بالحسّ والاختبار.
في غياب هذا التصور(1/80)
... لقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق السنن الكونية حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة القيم الإيمانية. هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ولكنها تظهر حتما في نهايته وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه . لقد بدأ خط صعوده من نقطة التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية وبدأ خط هبوطه من نقطة افتراقهما . وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا.
وفي الطريق الآخر تقف الحضارة المادية اليوم كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار بينما جناحه الآخر مهيض فيرتقي في الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني ويعاني من القلق والحيرة والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك. لولا انهم لا يهتدون إلى منهج الله وهو وحده العلاج والدواء.
الشريعة والإنسان وبناء المجتمع(1/81)
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في الكون فإنقاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثره الإيجابي في التنسيق بين سيرة الناس وسيرة الكون . والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير اصلها الكبير فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم كما أنها موضوعة لتساهم في بناء المجتمع المسلم وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود الإنساني ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ونظافة في الشعور وضخامة في الاهتمامات ورفعة في الخلق واستقامة في السلوك وهكذا يبدو التكامل والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم الإيمانية فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود. والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود وعمله وإرادته وإيمانه وصلاحه ونشاطه . هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية في هذا الوجود . وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة لهذا الوجود و كلها تعمل متناسقة وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها وتتشتت الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم . (( ذلك بأن الله لم يك مغيّرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) فالارتباط قائم وثيق بين عمل الإنسان وشعوره وبين مجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع ولا يوحي تمزيق هذا الارتباط ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ولا يحول بين الناس وسنة الله الجارية إلا عدو للبشرية يطاردها دون هدى وينبغي لها أن تطارده وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم.
3) القاضي الشهيد .... عبد القادر عودة(1/82)
.. لقد كان الشهيد عبد القادر عودة شاهدا فذّا على مرحلته . و إن شهادته على عمره تنبع أساسا من انه كان الرد الصحيح والموضوعي والمباشر على فرية روّج لها الاستعمار وتلاميذه طويلا . تلك الفرية تقول ? " إن التشريع الأجنبي قد دخل بلادنا بسبب جمود الشريعة الإسلامية وعدم قدرتها على الاستجابة لمعطيات العصر وعدم وجود علماء مسلمين قادرين على تقنينها "
ولقد أدرك الشهيد أن هذه الفرية تشكل أبعاد مؤامرة بحق شعوبنا فالاستعمار حينما أراد أن يشل قدرتنا على مواجهته أدرك انه لا بد من إفقادنا تميزنا في الهوية والانتماء ولا بد من إفساد وجباتنا وأذواقنا وهكذا خطط الاستعمار ونفّذ تلاميذه المخطط الواسع لتغريب ثقافتنا وتغريب أساليبنا في الحكمة والسياسة والاقتصاد والقانون.
وبوعي الشهداء قدم الشهيد عبد القادر عودة اطروحاته الفذّة في إطار تقنين نظم الحكم الإسلامية اقتصاديا وسياسيا وقانونيا ? الإسلام وأوضاعنا السياسية- و- المال والحكم في الإسلام- ثم التشريع الجنائي الإسلامي- ... وهذا الأخير يعد من اعظم الأبحاث التي صدرت في القرن الأخير ولا يزال يدرس في جامعات العالم.
... التحق الشهيد بكلية الحقوق بالقاهرة وتخرج منها عام 1930 وكان أول الناجحين.. التحق بوظائف النيابة ثم القضاء وكانت له مواقف غاية في المثالية.(1/83)
في عهد عبد الهادي الإرهابي قدمت إليه وهو قاضي اكثر من قضية من القضايا المترتبة على الأمر العسكري بحلّ جماعة الإخوان المسلمين فكان يقضي فيها بالبراءة استنادا إلى أن أمر الحلّ غير شرعي. وفي عام 1951 أصر عليه الإخوان بضرورة التفرغ لمشاطرة المرشد العام أعباء الدعوة فاستقال من منصبه الكبير في القضاء وانقطع للعمل في الدعوة مستعيضا عن راتبه الحكومي بفتح مكتب للمحاماة لم يلبث أن بلغ ارفع مكانة بين أقرانه المحامين. وفي عهد اللواء محمد نجيب عيّن عضوا في لجنة وضع الدستور المصري وكان له فيها مواقف لامعة في الدفاع عن الحريات ومحاولة إقامة الدستور على أسس واضحة من أصول الإسلام وتعاليم القرآن. وفي عام 1953 انتدبته الحكومة الليبية لوضع الدستور الليبي ثقة منها بما له من واسع المعرفة وصدق الفهم لرسالة الإسلام.
قدم عودة إلى المحاكمة في تهمة لا صلة له بها وهي محاولة اغتيال عبد الناصر. أما الأسباب الحقيقية لإعدامه فهي ما تتميز به شخصيته من مكانة رفيعة وقدرة حركية وصبر على مواقف الشدة والجهاد وجرأة في الحق نادرة ومن ابرز هذه الأسباب هي ?
1) كان الشهيد عبد القادر قد تزعّم الدعوة إلى التقريب بين الإخوان وعبد الناصر في مطلع الخلاف فظن عبد الناصر أن بإمكانه تقريب وكيل الجماعة الشهيد عودة إليه وشطر الجماعة بذلك شطرين وكان موقف عودة الصامد من هذه المبادرة الصدمة التي ملأت قلب عبد الناصر حقدا عليه ورغبة في البطش به.(1/84)
2) وعندما نصح عودة عبد الناصر عام 1954 بضرورة إلغاء قرار حلّ الجماعة مخافة أن يتهور الشباب منهم في حالة غيظ واندفاع فيقوم بعمل من أعمال الاعتداء بعيدا عن مشاورة قادة الحركة أجاب عبد الناصر ? كم عدد الإخوان .. مليونان .. ثلاثة ملايين.. إنني مستغن عن ثلث الأمة ومستعد للتضحية بسبعة ملايين إذا كان الإخوان سبعة ملايين... وهنا غلب الذهول عودة وقال في ثورة .. سبعة ملايين لحياة فرد.. ما أغناك عن هذا يا جمال.. وهذا الموقف كان من الأسباب التي دفعت إلى المصادقة على حكم الإعدام.
3) ومن الأسباب كذلك أن الشهيد كان قد وقف موقفا وطنيا خالدا حين عمد الضابط إلى اتخاذ قرار بعزل محمد نجيب من رئاسة الجمهورية فاقدم على استلام الراية ونظم عشرات الآلاف من الجماهير في مظاهرة لم يشهد لها تاريخ مصر كله مثيلا مما أرغم الضباط والوزراء على الرضوخ لإرادة الشعب وإعادة اللواء نجيب رئيسا للحكومة المصرية. ومن هذا اليوم تقرر انتهاز الفرص للحكم على عودة ويوم الخميس 9 كانون الأول 1954 كان موعد تنفيذ حكم الإعدام .. بعد افتعال مسرحية حادثة المنشية.
وتقدم الشهيد من منصة الإعدام وهو يقول ماذا يهمنّي أني أموت إن كان ذلك في فراشي أو في ساحة القتال.. أسيرا أو حرا إني ذاهب إلى لقاء الله. وتوجه إلى الحاضرين وقال لهم اشكر الله الذي منحني الشهادة إن دمي سينفجر على الثورة وسيكون لعنة عليها.
4) شهيد السود في أمريكا ... مالكولم اكس
في شهر جوان من سنة 1965 أسكتت اكثر من عشر رصاصات اكبر قلب نبض بالثورة والمناداة بالحقوق المدنية للسود في ديار الأمريكان.. وقد ارتبط هذا القلب بالإسلام كحلّ لازمة العرق والتفرقة العنصرية في أمريكا. بل كان يقول إن أمريكا بحاجة إلى أن تفهم الإسلام لأنه الدين الوحيد الذي يشطب على قضية اللون.. انه الشهيد "مالكولم اكس" أو "مالك شبّاز" كما تسمى بعد رحلته الأخيرة للحج.(1/85)
وسيرة ماكولم اكس تعتبر من اعجب سير الزعماء في هذا العصر ... ويكفي أن مذكراته طبعت حوالي أربعين طبعة في أمريكا وحدها ... وقررت كمادة دراسية في أقسام العلوم السياسية وأقسام دراسات الأقلية السوداء بالجامعات كما أن خطبه وضعت في معامل اللغة للتدريب على الخطابة باعتباره ثاني اخطب خطيب شهدته الستينات. والشيء المؤسف أننا لا نعرف في العالم العربي عن مالكولم اكس إلا الاسم و إن زعماء سود آخرين من أمثال "مارتن لوثركنق" المسيحي هم اكثر شهرة منه على الرغم من أن هذا الأخير كان من أنصار إسرائيل وبعكس مالكولم اكس الذي كان يعمل للتضامن مع العالم العربي والإسلامي.
حياة الجريمة
عاش مالكولم اكس حياة بائسة في مطلع عمره فقد تبددت أسرته وهو في الصغر وذلك بعد أن قتل أبوه على يد البيض وأصيبت أمه بالجنون ففقد الرعاية وتشرد ولم يحصل من التعليم على اكثر من سنوات عشر وامتهن أعمالا متواضعة فعمل ماسح أحذية وخادما في المطاعم والمراقص وبائعا للمارجوانا ووسيطا في شبكات اللذات الفاسدة ثم لصا محترفا في عمليات السطو.
وقد أنقذته يد القدرة مرات عديدة من ارتكاب حماقات القتل وأنقذه ذكاؤه الوافر مرات عديدة من مطاردات البوليس ولكن ضاقت حوله الحلقة أخيرا ووقع في الفخ.
في السجن
حكم على ماكولم اكس بالسجن عشر سنوات تعرف فيها على سجين اسود من رجال السطو يدعى " بمبي" ذي مقدرة فكرية عالية يخلب لبّ السجناء بأفكاره وكان يبهر مالكولم منه انه كان يوحي بالاحترام الأكمل بفضل سلطان الكلمات وحده.. وقد دعاه بمبي إلى أن يعمل على استخدام عقله وعلى أن يستفيد من مكتبة السجن ... ولأن مالكولم لم يدرس شيئا من الابتدائية فقد نسي حتى القراءة نفسها ولكنه أصر على استخدام معلوماته السابقة فطلب قاموسا للغة حفظه كاملا عن ظهر قلب.(1/86)
وبدأ يقرأ في كتب المكتبة في أول الأمر بلا قصد ثم تعلم اختيار الكتب في سبيل هدف محدد فيما بعد واكب على بطولات التاريخ والاجتماع من أمثال تاريخ الحضارة -لويل ديورانت- ومختصر التاريخ لصاحبه ه -ج- ويلز والتاريخ الأسود- لكارتر- ج- وودسن -... وكانت قراءاته بوجه عام منصبة حول المسألة العرقية والعنصرية أو حول كل ما بدا له انه من القراءة التي تساعد السود في قضاياهم وبدا واضحا أن حياة مالكولم أخذت تتجه وجهة أخرى نحو الرصانة والجد.
الإسلام
لم يكن اثر السجن على الرجل في تعلم القراءة والكتابة وحسب وإنما تعلم كذلك الإسلام فقد آمن أشقاؤه برسالة "اليجا محمد" ثم كتبوا إليه ليدرس الإسلام واعتنق بعد البحث إسلاما مشوها مختلطا بنزعات العنصرية والعرق ... ومن السجن بدأ في مراسلة " اليجا محمد" الذي كان يرد عليه بتواضع كامل ويزوده بتعليمات الدين الجديد.
وفي ربيع 1952 نطقت لجنة إخلاء السبيل الشرطي حكمها لصالح مالكولم اكس وأطلق سراحه وقد قصد بعد ذلك إلى " ديترويت" حيث رئاسة حركة المسلمين السود. وصل هناك واحتك بدعوة اليجا محمد وبتجمعات المسلمين السود واصبح من دعاتهم المرموقين .. وافلح في السنوات الأخيرة في أن يجتذب إلى الحركة ما ينوف عن الأربعين ألفا من الأعضاء... وقد اهتم خاصة بنشر الإسلام في مجتمعه القديم الذي عايشه كثيرا في "هارلم" وغيره.. مجتمع الدعارة والسرقة ومرتادي السجون والمغنين التراجيديين وانتشل قسما كبيرا منهم لحركة الإسلام.(1/87)
وكان لا بد لكل مسلم جديد من هؤلاء أن يكابد تربية أخلاقية مرهفة وتحولا روحيا جوهريا حتى يعتبر مسلما يسمح له بالانتساب إلى الحركة ومساجدها. ولذلك فقد كان التدخين محرما على المسلمين وكذلك سموم المخدرات. ولأن السود كانوا مبتلين بهذه السموم فقد قامت حركة المسلمين بوضع برامج معقدة لانتزاع هذه السموم حتى أن هيئات الصحة العامة كانت تطلب إلى المسلمين أن يكشفوا لها سر علاجهم للإدمان.
التطرف القومي
وبجانب هذه المعالجات الاجتماعية والحضارية فقد كانت راية مالكولم تخفق بمنتهى العنف في دنيا السياسة والقومية. وكانت أفكاره تزداد عنفا وتطرفا كل يوم هذا بينما كان أستاذه يميل إلى المسالمة والرفق وقد حذر مالكولم اكس من عواقب تطرفه قائلا " من الأفضل لي أن امتلك برذونا اعتمد عليه من أن املك حصان سبق لا اطمئن إليه "
وقد انبثق تطرف مالكولم من انعكاسات حياة الضنك التي عاشها في صباه وذكرياته للسعات الجوع والبؤس. وأما فكره القومي فقد تطور على مراحل ثلاث.. غذّى المرحلة الأخيرة منها حادث بارز سعد به في آخر العمر.
فقد آمن مالكولم أولا أن البيض- كل البيض- هم بالطبيعة شر محض وانهم مصدر كل ما تعرض له السود من الظلم والقهر واعتقد- بتعليم أستاذه- أن الرجل الأسود هو الذي خلق في البدء و أن بعضهم قد ارتكب سيئات فاحشة مسخوا بسببها إلى بيض و أن سيادة الرجل الأبيض قد انتهت و أن المستقبل قد اصبح لمصلحة السود.
ودعا مالكولم اكس إلى الانسحاب من المجتمع الأمريكي مجتمع الشيطان لأن غضب الله سيحل عليه. بعد أن أمهله ستة آلاف سنة ليحكم الأرض واقترح أن ينفصل السود ويرجعوا إلى وطنهم الأم في أمريكا و أن لا يقبلوا أبدا الاندماج في المجتمع الأمريكي ثم عدل عن هذه الفكرة مطالبا بولاية خاصة من الولايات المتحدة للسود يشكلون فيها مجتمعهم بعيدا عن البيض.
رحلة الحج(1/88)
لم يكن مالكولم يرى الإسلام إلا في أمريكا وحدها ولم يعرف إسلام ما وراء البحار وفي كل مرة كان الشباب العرب من مسلمي شبه الجزيرة العربية وغيرها يحيطون به في محاضراته ويقترحون عليه زيارة العالم الإسلامي لكي يتفهم الإسلام الحقيقي ويتبناه . واستجاب أخيرا لهذه الدعوة وقرر أن يقوم برحلة الحج.
وفي حج 1384 هجري التقى بجموع المسلمين من كل جنس ولون وكان محط رعاية بوصفه ممثلا للمسلمين السود ونال من الاهتمام ما لم يخطر له على بال ولم يجد نوعا من التفريق العرقي في مجتمع الحج كما عرف أن البيض يمكن أن يكونوا مسلمين مثلهم مثل السود والسمر والصفر وبدأ من هذه التجربة يراجع أفكاره القومية ويسجل تغييرا اصليا راديكاليا فيها... ومن هناك كتب نسخا من رسالة واحدة وجهها إلى أصحابه ونشرتها الصحف وضّحت سر التغيير. يقول في مقاطع من رسالته ? " لم أجد في عمري كله مثل هذا التكريم الصادق الذي وجدته هنا ولم أجد روحا غامرة من الاخوة الحقيقية مثلما وجدت هنا بين الناس من كل الأجناس والأعراق. ففي خلال الأحد عشر يوما الماضية التي قضيتها في العالم الإسلامي لقد أكلت من نفس الطبق وشربت من ذات الإناء ونمت على ذات الفراش . هذا بينما كنا نصلي لذات الإله مع جموع المسلمين من ذوي العيون الأكثر زرقة والأشعر الأشد شقرة والبشرة الأنصع بياضا والذين هم في كلامهم مثلما هم في أفعالهم أحسست بنفس الصدق الذي أحسسته في المسلمين من نيجيريا وغانا والسودان. ولربما تدهشون وانتم تسمعون ذلك مني ولكن رحلة الحج هذه وماشهدته فيها وماخبرت قد أجبرني على أن أعيد ترتيب كثير من نماذج أفكاري السابقة و أن اقذف ببعض نتائجها. إن ذلك لم يكن صعبا علي فرغم قناعاتي الدجماتية الصارمة إلا أنني كنت على الدوام رجلا أحاول جهدي أن أواجه الحقائق و أن أتقبل الوقائع والمعارف والتجارب ولقد احتفظت طيلة عمري بعقل غبر منغلق يساعدني على الاكتشاف"(1/89)
وبعد رجوعه من الحج تغير تفكيره كآلاتي
1) قال انه لم يعد يتهم كل الناس البيض وانه سيصبح اكثر حرصا في تصنيف الناس واتهامهم وذلك بعد أن وجد فعلا بعض البيض الأخيار.
2) نبذ فكرة الانفصال عن المجتمع الأمريكي وأهمل فكرة المطالبة بالولاية السوداء وآمن بأن ميثاقا لحفظ الحرية والعدالة والمساواة للسود يمكن أن يضمهم إلى مجتمع البيض.
3) بدأ يراجع تعريفه للقومية السوداء وذلك بعد أن أنكر عليه السفير الجزائري في غانا قائلا وأنا أين أكون في هذا التعرف.. وذهل مالكولم ولم يجب على هذا السؤال ولبث يفكر طويلا في إعادة صياغة التعريف ولكنه لم يوفق في ذلك إلى أن مات.
من وراء قتل مالكولم اكس ؟
تعرض الرجل لمحاولات اغتيال وإنذارات بالموت أقلقته في آخر أيامه فكان يكافح ليتفاداها في ذات الوقت الذي كان يسرع في خطى كفاحه من اجل حقوق السود.
وقد تعرض لحادث تسمم مقصود في القاهرة سنة 1264 وعندما فقل راجعا إلى نيويورك مرورا بباريس رفضت السلطات الفرنسية السماح له بالدخول خوفا من اغتياله هناك . وعندما وصل إلى نيويورك انفجرت قنبلة كوكتيل موتولوف في بيته نجا منها وأحرقت البيت.
وكان مالكولم يعرف أخطار الطريق جيدا وكان يتحسب للموت ..يقول في آخر مذكراته " إنني أصحو كل يوم فأحس بأنني قد ظفرت بيوم جديد وأني سأموت حقيقة متى ظهر هذا الكتاب "(1/90)
ولكنه كان مستبشرا بالشهادة ودنوّ الأجل وبأنه قد أدى واجبه على الوجه الأكمل فقد طوّر نفسه وطور قناعاته وجاهد في سبيل الحق وكان يقول " احسب أن ما من أمريكي اسود قد غاص عميقا في الوحل كما فعلت وما من اسود كان اشد جهلا مني ولا تألم اكثر مني وبلته الحشرجة التي ابتلتني ولكن النور الوضّاء الصافي لا يتلألأ إلا بعد ليل عميق شديد الحلوك. والفرح الأكبر لا يتفجر في جوانب النفس إلا بعد اعظم المصائب ويجب على الإنسان أن يكون قد عرف العبودية والسجن لينعم بالحرية." لقد انتزع مالكولم اكس حريته مرتين .. انتزعها من المجتمع الأمريكي الأبيض فعاد إلى قوميته السوداء معتزا بها ومناضلا في سبيلها ..ثم انتزعها من خلال اليجا محمد ليعرف نور الإسلام الوضّاء .
وكان أعداء مالكولم اكس كثرا لا يحصيهم العد. ولذلك تعذّر معرفة من قتل منهم مالكولم فقد كانت هناك مراكز اليهود التي خشيت من مركز قوي جديد إسلامي هذه المرة في السياسة الأمريكية يضغط من اجل الحق العربي والإسلامي وكانت هناك الرأسمالية الطاغية الاحتكارية في الشمال الأمريكي والتي تستغل السود وكانت هناك الحكومة الأمريكية نفسها التي تخشى من ثورة السود في مطالباتهم بحقوق الإنسان.
بالإضافة إلى ذلك فقد كان جناحا حركة السود المسيحي منها والمسلم التابع لاليجا محمد ضد مالكولم اكس بعد أن اصبح الزعيم الشعبي المحبب لتجمعات السود وكان اليجا محمد حانقا بصورة خاصة على مالكولم اكس لانشقاقه عنه.
ولسوف يبقى اللغز محيرا حتى بعد إطلاق سراح قاتل مالكولم بعد أن قضى سنواته في السجن وهو من المسلمين السود ولكنه رفض التصريح بهوية محرضيه على القتل.
رحم الله مالكولم اكس فبجهاده نال السود حقوقهم في التصويت وفي المساواة وفي الحقوق القانونية والأدبية.
رحم الله مالكولم اكس فقد ارتفع بصوته صوت الإسلام كمحرر عقائدي يبني مجتمعا متميزا في قلب خصلة الثوب.(1/91)
(عن مجلة الإصلاح- عدد 88 السنة الثامنة- ص 28/29/30 للأستاذ محمد وضع الله احمد بعنوان في الذكرى العشرين لاستشهاد مالكولم اكس.)
الهوامش ?
(1) الدكتور يوسف القرضاوي- مجلة الدعوة.
(2) مجلة الدعوة
(3) أبو الحسن الندوي- مذكرات سائح في الشرق العربي - ص 54 / 55 / 56 / 57 مؤسسة الرسالة.
(4) مقدمة كتاب مجموعة رسائل الإمام الشهيد
(5) الندوي- مذكرات سائح في الشرق العربي- ص 170
(6) مجلة الدوحة العدد 115
(7) محمد الغزالي - دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين ص6 -الزيتونة للإعلام والنشر.
(8) سيد قطب- دراسات إسلامية- ص 225 -دار الشروق
(9) زينب الغزالي- أيام من حياتي.
أهم المصادر والمراجع
1) القرآن الكريم
2) في ظلال القرآن- سيد قطب- الطبعة السابعة- 1978- دار الشروق- القاهرة
3) تفسير المنار- رشيد رضا- الطبعة الثانية 1973- دار المعرفة- بيروت
4) فقه السنة- سيد سابق- دار الكتاب العربي -بيروت
5) حجة الله البالغة- ولي الله الدهلوي -دار المعرفة- بيروت
6) صفة الصفوة- جمال الدين بن الجوزي- دار المعرفة- بيروت
7) ديوان حسّان بن ثابت- دار صادر- بيروت
8) أناشيد الدعوة الإسلامية- المجموعة الأولى- حسني ادهم جرار واحمد الجدع- الطبعة الأولى -1984- دار عمار- عمان
9) احمد بن عرفان الإمام المجاهد الشهيد- سلسلة سير إسلامية- سعيد الاعظمي الندوي- دار لقمان للنشر 1978 تونس.
10) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد- عبد الرحمان الكواكبي- تحقيق الدكتور الشحمراني
11) مجلة العربي- عدد 279 فيفري -1982- الكويت
12) مجلة المسلمون- عدد 28
13) مجلة الإصلاح -عدد 88- السنة الثامنة- الإمارات العربية
14) مذكرات سائح في الشرق العربي- أبو الحسن الندوي -الطبعة الثالثة 1978 -مؤسسة الرسالة
15) دراسات إسلامية- سيد قطب- الطبعة السابعة 1987 -دار الشروق
16) مجلة الدعوة- عدد 10 و 14 -السنة 26 مارس/ يوليو 1977 -مصر(1/92)
17) مجلة المختار الإسلامي- عدد 32 السنة السادسة- جانفي 1985
19) مجلة الدوحة- عدد 115 -السنة يوليو 1985- قطر
20) مع سيد قطب في فكره السياسي والديني -الدكتور مهدي فضل الله -الطبعة الثانية- 1979- مؤسسة الرسالة.
(1) …مجلة الجهاد العدد 54 و55 عدد مزدوج ص 30 مقال التفسير الإسلامي للتاريخ للدكتور عبد الله عزام.
??
??
??
??(1/93)