... وقال الدارقطني: حديثه صالح ومذهبه ردي(1)، وقال محمد بن شعيب بن شابور عن الأوزاعي: أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، وكان نصرانياً، فأسلم ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني، وأخذ غيلا عن معبد(2). وكان مسلم بن يسار يقعد على هذه السارية فقال: إن معبداً يقول بقول النصارى
ـ ... غيلان الدمشقي المقتول (105)هـ:
... غيلان الدمشقي هو الرجل الثاني بعد معبد الجهني من رؤوس بدعة القدرية وقد ظهرت مقولته بالشام وافتتن بها خلق(3)، ولم يقتصر غيلان على مقولات معبد، بل تكلم في الصفات فنفى بعض الصفات، كالاستواء(4)، ونسب إليه كذلك: القول بأن الإيمان هو المعرفة، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان والقول بخلق القران(5)، وهي أصول الجعد بن درهم بعده، ثم أصول الجهمية والمعتزلة، حيث وضعوا بها القواعد والأصول وناطروا فيها وتوسعوا في هذه البدع(6)، ويقال إن أول من أنكر استواء الله على عرشه وأوله بالاستيلاء. غيلان الدمشقي (قتل 105هـ) أو الجعد بن درهم (قتل 124هـ)، وقيل الجهم بن صفوان ((قتل 128هـ). وإنكار الاستواء ينسجم مع قاعدة الجعد الخبيثة في التعطيل التي أنكر بها الكلام والخلة، والأرجح أن أول من حفظ عنه أنه قال بأن الله ـ تعالى. ليس على العرش حقيقة: الجعد، ثم أخذها عنه الجهم وأظهرها(7)، وإنكار الاستواء وتأويله هو الشرارة الأولى لأهل الأهواء والتي فيها خاضوا في صفات الله ـ تعالى ـ نفياً وتعطيلاً وتأويلاً، ذلك أن الاستواء مرتبط بالعلو والفوقية، فالرؤية، ثم صفات الله الفعلية، ومنها تجرؤوا على بقية الصفات الخبرية كاليد والعين والوجه وهلم
__________
(1) تهذيب التهذيب (10/225) سير أعلام النبلاء (4/186) .
(2) المصدر نفسه .
(3) القدرية والمرجئة ، ناصر العقل صـ32 .
(4) دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ251 .
(5) المصدر نفسه صـ250 .
(6) المصدر نفسه صـ251 .
(7) الفتاوى (5/20) دراسات في الأهواء والفرق صـ251 .(3/435)
جرا(1).
3 ـ موقف عمر بن عبد العزيز من غيلان الدمشقي:
... عن عمرو بن مهاجر قال: بلغ عمر بن عبد العزيز أن غيلان بن مسلم يقول في القدر، فبعث إليه فحجبه أياماً، ثم أدخله عليه فقال: غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال عمرو بن مهاجر. فأشرت إليه أن لا يقول شيئاً، قال: فقال: نعم يا أمير المؤمنين إن الله عز وجل قال: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)) (الإنسان ، الآية 1 ـ 3). قال إقرأ آخر السورة ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)) (الإنسان ، الآيتان : 30 ـ 31) ثم قال: ما تقول يا غيلان؟ قال: أقول: قد كنت أعمى فبصرتني وأصم فأسمعتني وضالاً فهديتني(2). وفي رواية: دعا عمر بن عبد العزيز غيلان فقال: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي؟ فقال يا غيلان إقرأ أول ((يس)) فقرأ ((يس والقرآن الحكيم)) حتى قول: ((إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ * وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) (يس ، آيات : 1 : 10). فقال غيلان: يا أمير المؤمنين، والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول فقال
__________
(1) دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ251 .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/750) .(3/436)
عمر: اللهم إن كان صادقاً فثبته وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين(1)، وجاءت روايات كثيرة في محاورة عمر بن عبد العزيز لغيلان الثقفي وكان له حديث طويل في معتقد أهل السنة في مسالة الإيمان بالقدر، وقد ناقش عمر بن عبد العزيز القدرية وسألهم عن العلم وذلك بسؤالهم عن علم الله، فإذا أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا فقال لغيلان الدمشقي: ما تقول في العلم. قال: قد نفد العلم. قال: فأنت مخصوم اذهب الآن فقل ما شئت ويحك يا غيلان إنك إن أقررت بالعلم خصمت وإن جحدته كفرت، إن تقر به فتخصم خير لك من أن تجحده فتكفر(2). ولعل عمر بن عبد العزيز أول من نهج هذا النهج في سؤال القدرية عن العلم، ثم صار هذا المنهج منهجاً لأهل السنة بعده، وقد استدل رحمه الله في ردوده على غيلان بآيات صريحة في الرد على المكذبين بالقدر كما جاء في بعض الروايات ـ وهي قوله تعالى: ((فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِي الْجَحِيمِ)) (الصافات ، الآيات : 161 ـ 163). قال ابن حجر رحمه الله في تفسير هذه الآيات: يقول تعالى: فإنكم أيها المشركون بالله وما تعبدون من الآلهة والأوثان ما أنتم عليه بفاتنين أي بمضلين أحداً إلا من سبق في علمي أنه صال الجحيم(3). وقد بين عمر في خطبه ورسائله أن الله تبارك وتعالى هو الهادي وهو المضل، وهذا ما جاء في الكتاب العزيز قال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام ، الآية 39). وغيرها من الآيات وقد كانت القدرية تنكر أن يكون الله تعالى هو الهادي وهو الفاتن. وإنما العبد هو الذي يهدي نفسه إذا شاء ويضلها إذا شاء فلعل رسائل عمر وخطبه في الجمع من الردود على هؤلاء المبتدعة وسواء قصدهم
__________
(1) الإبانة (2/235) الآثار الواردة (2/749) .
(2) السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل (2/429) .
(3) تفسير الطبري (23/109) .(3/437)
عمر بخطبه أو ألقاها بدون قصد الرد عليهم تبقى ردوداً قوية على كل من انحرف في باب القدر عن منهج الكتاب والسنة، وقد بين عمر بن عبد العزيز أن أعمال العباد مخلوقة لله تعالى مقدرة له مكتوبة على عباده، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات ، الآية : 96). وقال صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس(1)). وقد بين عمر بن عبد العزيز ـ كما جاء في خطبه ـ أن العبد إذا أذنب فعليه أن يتوب ويستغفر الله تعالى ولا يحتج على الله بالقدر ولا يقول أي ذنب لي وقد قدر علي هذا الذنب، بل يعلم أنه هو المذنب العاصي الفاعل للذنب وإن كان ذلك كله بقضاء الله وقدره ومشيئته، إذ لا يكون شيء إلا بمشيئته وقدرته وخلقه، كما رد عمر على القدرية القائلين بأن العبد له مشيئة مستقلة يستطيع بها رد علم الله فبين أن العبد له قدرة ومشيئة ولكنها تابعة لمشيئة الله تعالى(2).
4 ـ بيان مراتب القدر:
__________
(1) مسلم رقم 2655 .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/769 ، 770) .(3/438)
... إن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تدل بمجموعها على الإيمان بالقدر، كما تدل على الإيمان بمراتب القدر الأربعة التي اتفق السلف الصالح رحمهم الله تعالى ومن سار على نهجهم على أنه لا يتم الإيمان بالقدر، إلا بالإيمان بها كلها. وهي: العلم، والكتابة والمشيئة والخلقَ، وكانت القدرية الموجودون في زمن عمر بن عبد العزيز ينكرون العلم والكتابة وهؤلاء هم الذين تبرأ منهم عبد الله بن عمر بن الخطاب بقوله: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم براء مني(1). ومن كلام عمر بن عبد العزيز في بيان مراتب القدر رده على الرجل الذي كتب إليه فجاء في رسالته:.. كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير بإذن الله وقعت، وما أعلم ما أحدث الناس من محدثة ولا ابتدعوا من بدعة هي أبين أثرا ولا أثبت أمرا من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون فتكلموا به في حياته، وبعد وفاته يقيناً وتسليماً، لربهم وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه ولم يحصه كتابه ولم يمض فيه قدره وأنه مع ذلك لفي محكم كتابه: منه اقتبسوه ومنه تعلموه، ولئن قلتم لم أنزل الله آية كذا ولم قال كذا، لقد قرأوا منه ما قرأتم وعلموا من تأوليه ما جهلتم، وقالوا بعد ذلك كله بكتاب وقدر وكتب الشقاوة وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا نملك لأنفسنا ضراً ولا نفعاً ثم رغبوا بعد ذلك ورهبوا(2). ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز يتضح معتقد عمر بن عبد العزيز في القدر وفي بيانه لمراتبه، فأول مراتبه:
__________
(1) مسلم، ك الإيمان ، باب القدر (1/36، 37) .
(2) الإبانة لابن بطة (2/231، 232، 233) ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/510) .(3/439)
أ ـ العلم: والمقصود أن الله تبارك وتعالى قد علم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون قبل أن يخلقهم بعلمه القديم الذي هو صفة من صفات ذاته وأنه يعلم أهل الجنة وأهل النار قال تعالى:(( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا)) (الأنعام، آية: 59) .
... ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم لرجل سأله بقوله يا رسول الله أعلم أهل الجنة من أهل النار؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل مسير لما خلق له(1).
ب ـ مرتبة الكتابة: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: أيها الناس من عمل منكم خيراً فليحمد الله تعالى ومن أساء فليستغفر الله، ثم إن عاد فليستغفر الله فإنه لابد لأقوام أن يعملوا أعمالاً وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم(2). وخطب يوماً فقال: إن الدنيا ليست بدار قرار، دار كتب الله عليها الفناء وكتب على أهلها منها الظعن(3). فهذا هو المأثور عن عمر من كتابة الله مقادير الخلائق قبل خلقهم وإحصائه كل ذلك وعلمه جزائيات كل(4) شيء. قال تعالى:(( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا)) (الحديد، آية: 22) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء(5).
__________
(1) مسلم رقم 2649 .
(2) الآثار الواردة (1/519) نقلا عن الشريعة الآجري .
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ244 .
(4) الآثار الواردة (1/519) .
(5) مسلم رقم 2653 .(3/440)
ج ـ المشيئة: والمقصود لها: أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا حركة ولا سكون في السماوات والأرض إلا بمشيئته سبحانه وتعالى فلا يكون في ملكه إلا ما يريد، وقد حرص عمر بن عبد العزيز على توضيح هذه المرتبة والرد على من أنكرها ففي رسالته إلى عامله يقول: وما يقدر يكن وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وكان يقول: لو أراد الله أن لا يعصى ما خلق إبليس(1)، وناظر غيلان الدمشقي وأفحمه حين بين له خطأ، في الإحتجاج بأوائل الآيات من سورة الإنسان فطلب منه أن يقرأ آخر السورة وقال له: ويحك أما تسمع الله يقول: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)). وقال تعالى: ((مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (الأنعام، آية: ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفها كيف يشاء. ثم قال: يا مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك(2).
__________
(1) الآثار الواردة (1/524) .
(2) مسلم رقم 2654 .(3/441)
س ـ الخلق: المقصود بها: إن الله تعالى هو خالق الخلق وخالق كل شيء، فهو الذي خلق الكون وأوجده، فهو الخالق وما سواه مربوب مخلوق(1)، ولعمر بن عبد العزيز في تقرير هذه المرتبة أبلغ البيان، فقد كتب في قوله تعالى: ((وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)) (هود ، الآيتان : 118 ـ 119). قال: الذين لا يختلفون خلقهم لله للرحمة(2). فهذه الآية تضمن خلق العباد وأعمالهم(3)، ولذلك قال تعالى: ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..)) (هود ، الآيتان : 118 ـ 119). وكتب إلي عدي بن أرطأة أما بعد: فإن استعمالك سعد بن مسعود على عمان من الخطايا التي قدر الله عليك وقدر أن تبتلي بها(4)، وهذا الذي قررّه عمر بن عبد العزيز دلّ عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) (الزمر ، الآية : 6) وقال: ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ)) (الصافات ، الآية : 96) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس(5).
5 ـ الفرق بين القضاء والقدر في الاصطلاح:
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/525) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ74 .
(3) مصنف عبد الرازق (11/122) .
(4) مصنف عبد الرزاق (11/122) .
(5) مسلم رقم 2655 .(3/442)
... قيل المراد بالقدر: التقدير، وبالقضاء الخلق، كقوله تعالى: ((فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ)) (فصلت ، الآية : 12). أي خلقهن في القضاء والقدر أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر لأن أحدهما بمنزلة الأساس، وهو القدر والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء، فمن رام الفصل بينهما فقد رام هدم البناء ونقضه(1). وقيل: إن القضاء هو العلم السابق الذي حكم الله به في الأزل، والقدر هو وقوع الخلق على وزن الأمر المقضي السابق(2)، وقال ابن حجر: وقالوا ـ أي العلماء: القضاء هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، والقدر جزئيات ذلك الحكم وتفاصيله(3). وقيل: إذا اجتمعا افترقا بحيث يصبح لكل واحد منهما مدلول يحسب ما مر في القولين السابقين، وإذا افترقا اجتمعا، بحيث إذا أفرد أحدهما دخل فيه الآخر(4)، قياساً على ما جاء في التفريق بين الإيمان والإسلام والفقير والمسكين ونحو ذلك ولعل هذا التعريف توفيق بين من يرى التفرقة بين القضاء والقدر وبين من لا يرى ذلك. والذي يظهر أنه ليس هناك فرق واضح بين القضاء والقدر(5) ولا فائدة من هذا الخلاف، لأنه قد وقع الاتفاق على أن أحدهما يطلق على الآخر وعند ذكرهما معاً فلا مشاحة من تعريف أحدهما بما يدل على الآخر(6).
__________
(1) لنهاية لابن الأثير (4/78) .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/494) .
(3) فتح الباري (11/486) .
(4) القضاء والقدر لمحمد بن إبراهيم الحمد صـ29 ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/494) .
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/494) .
(6) القضاء والقدر عبد الرحمن المحمود صـ44 .(3/443)
6 ـ الرضا بالقضاء والقدر: قال عمر بن عبد العزيز: ما أصبح لي اليوم في الأمور هوى إلا في مواقع قضاء الله فيها(1)، وكان يدعو بهذا الدعاء: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت. وكان عمر يقول: ما برح بي هذا الدعاء حتى لقد أصبحت ومالي في شيء من الأمور هوى إلا في موضع القضاء(2). وقال حين دفن ابنه عبد الملك: رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره والحمد لله رب العالمين(3). ولما عزي في ابنه عبد الملك قال: وأنا أعوذ بالله أن يكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن ذلك لا يصلح لي في بلائه عندي وإحسانه إلي(4). تحث الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في هذا المبحث على الرضا بالقضاء والمقصود بالقضاء الذي قدره الله على عبده من المصائب التي ليست ذنوباً، فإن الصبر على المصائب واجب وأما الرضا بها فهو مشروع لكن هل هو واجب أو مستحب؟ على قولين لأصحاب أحمد وغيرهما أصحها أنه مستحب ليس بواجب(5). ولا شك أن الرضا بالقضاء من تمام الإيمان بالقضاء والقدر وهو دليل على الثقة بما عند الله تعالى، فلا يندم على ما فات، ولا يفرح بما هو آت مما قدره الله تعالى له، فهو يرضى به على وفق قضاء الله له(6).
رابعاً : المرجئة:
نسبة إلى الإرجاء، وهو تأخير العمل عن الإيمان(7).
والإرجاء على معنيين:
أحدهما: بمعنى التأخير في قوله تعالى: ((قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ)) أي: أمهله وأخره. والثاني: إعطاء الرجاء(8)
__________
(1) الطبقات (5/372) الآثار الواردة (1/535) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97 .
(3) الآثار الواردة (1/536) .
(4) الحلية (5/358 ، 357) الآثار الواردة (1/537) .
(5) مجموع الفتاوى (8/191) .
(6) الآثار الواردة (1/538) .
(7) الفرق بين الفرق للبغدادي صـ202 وسطية أهل السنة صـ294 .
(8) الملل والنحل للشهرستاني (1/139) .(3/444)
والمرجئة في الاصطلاح فقد عرفهم الإمام أحمد بقوله: هم الذين يزعمون أن الإيمان مجرد النطق باللسان وأن الناس لا يتفاضلون في الإيمان وأن إيمانهم وإيمان الملائكة والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم واحد، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وأن الإيمان ليس فيه استثناء وأن من آمن بلسانه ولم يعمل فهو مؤمن حقاً(1). والمرجئة الخالصة: وهم الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ومن هؤلاء جهم وأصحابه(2)، وأول من تكلم في الإرجاء الذي هو تأخير الأعمال عن الإيمان غيلان الدمشقي، كما يقول الشهرستاني(3)، وأما الإرجاء المنسوب إلى أبي محمد الحسن بن محمد المعروف بابن الحنفية فليس هو الإرجاء في الإيمان، وإنما هو إرجاء أمر المقاتلين من الصحابة إلى الله عز وجل(4)، وقال ابن سعد في ترجمته وهو أول من تكلم في الإرجاء ـ ويذكر كذلك ـ أن زاذان وميسرة دخلا عليه فلاماه على الكتاب الذي وضع في الإرجاء فقال لزاذان: يا أبا عمر لوددت أني كنت مت ولم أكتبه(5)، فهذا الكتاب إنما فيه إرجاء أمر المشتركين في الفتنة التي حدثت بعد خلافة أبي بكر وعمر إلى الله عز وجل(6)، وقد ذكر ابن حجر: أنه أطلع على هذا الكتاب الذي ألفه الحسن بن محمد وقال: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد في غير الإرجاء الذي عيبه أهل السنة: المتعلق بالإيمان(7)، وأهم أقوالهم التي فاقوا فيها أهل السنة:
ـ قولهم بتأخير الأعمال عن مسمى الإيمان .
__________
(1) موقف أهل السنة من أهل الأهواء والبدع (1/152) .
(2) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ294 .
(3) الملل والنحل (1/139) .
(4) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ295 .
(5) الطبقات (5/328) قضية الثواب والعقاب ، د. السميري صـ30 .
(6) قضية الثواب والعقاب للسميري صـ30 .
(7) تهذيب التذهيب (2/320) ، قضية الثواب والعقاب صـ30 .(3/445)
ـ وقول الخالصة منهم: أنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة(1).
وقد جاءت عن عمر بن عبد العزيز آثار خاصة تدل على زيادة الإيمان وإدخال الأعمال فيه. وهذه الآثار رد على المرجئة ولاسيما وأن أهل العلم قد ذكروا هذه الآثار في معرض ردودهم على المرجئة. كما ورد عنه ـ رحمه الله تعالى ـ التحذير عن البدع كلها ولا بدعة أظهر من بدعة الإرجاء(2)، وهاهي الآثار الواردة عنه في هذا المبحث، فقد مرّ معنا قوله: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان فإن أعشى أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن مت فما أنا على صحبتكم بحريص(3). وقال: لا عذر لأحد بعد السنة في ضلالة ركبها يحسب أنها هدى(4). وقال: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيرا(5). يتبين مما سبق أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى كان حريصاً على رد البدع كلها. حتى ولو أدى ذلك إلى أن يضحي بأعضائه كلها وقد بين في تلك الآثار القول الصحيح في الإيمان وأنه يشمل العبادات كلها وأولى عناية خاصة بشعبه، ووعد بأنه إن عاش فسيحمل رعيته عليها، ففي هذا المأثور عنه بيان للقول الصحيح في الإيمان، وقد وضحت مفهومه للإيمان عند الحديث عن اهتمامه بعقائد أهل السنة، كما أن فيه الرد على بدعة الإرجاء لأن إحقاق الحق إبطال للباطل، وهذا المأثور عنه هو الحق الثابت عنه في مسألة الإيمان(6). وأما ما رواه ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة جاءه راحلاً إليه عون بن عبد الله وموسى بن أبي كثير وعمر بن حمزة
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ295 .
(2) الآثار الواردة (2/813) .
(3) سيرة عمر لابن الحكم صـ40 ، الآثار الواردة (2/813) .
(4) الآثار الواردة (2/814) .
(5) الطبقات (5/343) .
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/814) .(3/446)
وفي بعض المراجع عمر بن ذر فكلموه في الإرجاء وناظروه فزعموا أنه وافقهم ولم يخالفهم في شيء منه(1). فهذا لا يثبت عنه لما يلي:
ـ لأن ابن سعد رواه بدون سند فهو إذا منقطع.
ـ ولأنه زعموا فيه صيغة التمريض (زعموا).
ـ وأيضاً إن مثل هذا الزعم والادعاء لا يعول عليه لأن رواته متهمون بالإرجاء(2).
هذا وعلى فرض تسليم تلك الرواية فإن عون بن عبد الله قد تاب عن الإرجاء. وقد روى ذلك اللالكائي بسنده عن نوفل الهذلي عن أبيه قال: كان عون بن عبد الله بن مسعود من آداب أهل المدينة وأفقههم وكان مرجئاً ثم رجع فأنشد يقول:
... ... ... لأول ما نفارق غير شك
... ... ... ... ... ... نفارق ما يقول المرجئونا
... ... ... وقالوا مؤمن من أهل جور
... ... ... ... ... ... وليس المؤمنون بجائرينا
... ... ... وقالوا مؤمن دمه حلال
... ... ... ... ... ... وقد حرمت دماء المؤمنين(3)
فثبت أن عون بن عبد الله رحمه الله قد رجع عن القول بالإرجاء ولعل قوله بالإرجاء كان قبل اتصاله بعمر رحمه الله تعالى اتصالاً وثيقاً وكونه من المقربين عنده(4).
__________
(1) الطبقات (6/339) سير أعلام النبلاء (5/104) .
(2) الآثار الواردة (2/815) .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (5/1077) .
(4) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/816) .(3/447)
خامساً: الجهمية: تنتسب الجهمية إلى الجهم بن صفوان من أهل خراسان ومولى لبني راسب، تتلمذ على الجعد بن درهم وكان كاتباً للحارث بن سريح(1)، الذي أثار الفتن ضد الدولة الأموية في خراسان، وكان جهم يقرأ سيرته ويدعو إلى توليته(2)، ويحرص الناس على الخروج معه وفي سنة 128هـ وقعت معركة بين جيش أمير خراسان ـ نصر بن سيار ـ وجيش الحارث بن سريح، وكان جهم بن صفوان في جيش الحارث، فطعنه رجل في فمه فقتله، وقيل بل اسر وأوقف بيت يدي سلم بن أحوز(3)فأمر بقتله(4)، وأهم أصول الجهمية:
1 ـ تبنى الجهم آراء الجعد بن درهم والتي هي نفي صفات الله عز وجل، والقول بخلق القرآن ثم زاد عليها بدعاً أخرى.
2 ـ القول بالجبر، حيث زعم أن الإنسان لا يقدر على شيء ولا يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله.
3 ـ القول بأن الإيمان هو المعرفة حيث زعم أن الإيمان هو المعرفة بالله تعالى فقط وأن الكفر هو الجهل به فقط.
4 ـ القول بفناء الجنة والنار حيث زعم أنهما تفنيان بعد دخول أهلها فيهما، إذا لا يتصور على حسب زعمه حركات لا تتناهى.
__________
(1) حقيقة البدعة وأحكامها (1/115) .
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن حقيقة البدعة (1/115) .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن حقيقة البدعة وأحكامها (1/115) .
(4) البداية والنهاية نقلاً عن حقيقة البدعة (1/116) .(3/448)
5 ـ القول بأن علم الله حادث، حيث زعم أنه لا يجوز أن يعلم الشيء قبل خلقه(1). فنفي الصفات أخذها الجهم من الجعد ومن الفلاسفة، والسمنية(2)، وذلك أن الجهم كان فصيح اللسان ولم يكن له علم ولا مجالسة لأهل العلم فكلم السمنية فقالوا له: صف لنا ربك عز وجل الذي تعبده، فدخل البيت ولم يخرج ثم خرج إليهم بعد أيام فقال: هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء، وروى الإمام أحمد يرحمه الله مناظرة وقعت بين الجهم والسمنية في إثبات الله عز وجل انتهى فيها الجحم إلى أن شبه الله فيها الروح التي لا ترى ولا تحس ولا تسمع(3). ويقول ابن تيمية: إن الجعد بن درهم قيل أنه من أهل حران وكان فيهم خلق كثير من الصائبة والفلاسفة...ومذهب النفاه من هؤلاء في الرب: إنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منها...فيكون الجعد قد أخذها من الصائبة والفلاسفة(4)، وكان الجهم قد أخذ بمعتقدات الجعد(5). وأما القول بالجبر فقد قاله المشركون من العرب قبله، قال تعالى: ((وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)) (النحل:آية:35).فيخبر الله تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك محتجين بالقدر، فمضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلناه لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه(6)
__________
(1) تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/131) .
(2) السمنية : قوم من الزنادقة الهنود لهم فلسفة خاصة ومدرسة فكرية ضالة. طاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (2/392) .
(3) الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد صـ44 ،45 .
(4) الفتاوى (5/21 ،22) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/131) .
(5) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/131) .
(6) تفسير القرآن العظيم (2/626) .(3/449)
، وأما القول بأن الإيمان هو المعرفة فقد قالت بهذا القول المرجئة قبله، وأما القول بفناء الجنة والنار فمصدره الإسماعيلية(1)والباطنية وأهل الكلام واليهود، يقول ابن أبي العز يرحمه الله عن الجهم بن صفوان: وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة وليس له سلفاً قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة...وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث وهو عمدة أهل الكلام المذموم(2). وأهل الكلام المذموم عامتهم لا يرون قطيعة شيء من دلالة الكتاب والسنة، دلالتها كلها عندهم ظنية، فالمتكلمون قد أخذوا علومهم ومصطلحاتهم من الفلاسفة والمناطقة(3)، الذين يرجعون في أصولهم إلى المجوس والنصارى واليهود. وأم القول بأن علم الله حادث فقد اقتبسه الجهم من معبد، ومعبد أخذه من سوسن النصراني، فدل ذلك على مدى تأثر كبار الفرق وأخذه من الأمم الهالكة ، فما بالك بمن جاء بعدهم(4). وما جاء من الآثار عن عمر بن عبد العزيز تعتبر ردوداً عامة على الجهمية وقد أوردها علماء السلف ضمن ردودهم عليهم كالإمام أحمد والدارمي، وغيرهما من علماء السلف. فعن جعفر بن برقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن بعض الأهواء فقال: انظر دين الإعرابي والغلام في الكتاب فاتبعه وإله عما سوى ذلك(5). وقال: سن رسول الله صلى اله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام
__________
(1) الإسماعيلية: منسوبون إلى محمد بن إسماعيل وهو ابن جعفر الصادق، يقولون بالتفسير الباطني وإن الله عز وجل اختص بالعلم علي بن أبي طالب، ويقولون بكفر من خالف علياً الفرق بين الفرق صـ42، تناقض أهل الأهواء والبدع في العقيدة (1/132) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية صـ420 .
(3) تناقض أهل الأهواء والبدع (1/133) .
(4) المصدر نفسه (1/133) .
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/819) .(3/450)
بكتاب الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر في أمر خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً(1). قال عبد الله بن عبد الحكم، فسمعت مالكاً يقول: وأعجبني عزم عمر في ذلك(2). وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل(3). وهذه الآثار عن عمر بن عبد العزيز أوردها علماء السلف في ردهم على الجهمية، ولا شك أنها تعتبر رداً على جميع المبتدعة، وذلك في أمره رحمه الله بالتمسك بما تدل عليه الفطرة من إثبات ما للخالق من صفات الكمال ونعوت الجلال، كإثبات الفوقية والعلو، وغير ذلك مما تدل عليه الفطرة السليمة. وكذلك أمره بالنهي عن الخصومات في الدين بغير علم، ولم يقع جهم فيما وقع فيه إلا بسبب الخصومات فيما لا علم له به، فضل وأضل وكان السلف الصالح يستدلون بما أثر عن عمر بن عبد العزيز في الأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنن الخلفاء الراشدين من بعده في ردهم على الجهمية مثلما فعله ابن تيمية في الفتوى الحموية حيث ذكر أن أبا القاسم الأزجي روى بإسناده عن طرف بن عبد الله، قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز ويذكر الأثر سن رسول الله ولاة الأمر من بعده.. وقال الشاطبي متحدثاً عن هذا الأثر: إنه كلام مختصر جمع أصولاً حسنة من السنة منها قطع مادة الابتداع جملة. ومنها المدح لمتبع السنة وذم لمن خالفها ومنها أن سنة ولاة الأمر وعملهم تفسير لكتاب الله وسنة رسوله فقد جمع كلام عمر أصولاً حسنة وفوائد مهمة(4)، وقد أورد الإمام أحمد في كتابه ((الرد على
__________
(1) المصدر نفسه (2/820) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ40 .
(3) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/425) .
(4) الاعتصام نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/822) .(3/451)
الجهمية)) أثر عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر(1) التنقل، وقد أخذت المعتزلة من الجهمية نفي صفات الله والقول بخلق القرآن وهذا الاتفاق بين الجهمية والمعتزلة على نفي صفات الله والقول بخلق القرآن جعل كثيراً من محققي علماء المسلمين يسمون المعتزلة جهمية ولهذا لا بد من الحذر عند اطلاق أسماء الفرق بعضها على بعض، لأنه لا يكاد توجد فرقة إلا وتشترك مع أخرى في جانب من الاعتقاد، فلو تجوزنا في إطلاق اسم هذه الفرقة على من شاركها لحصل الإلتباس وما استقام المنهج أبداً، إذن لا بد من إطلاق اسم الفرقة على المسمى الصحيح بحيث لا يستعار لغيرها البتة وهذا من ناحية علمية أدق وأسلم(2).
سادساً : المعتزلة: اسم يطلق على تلك الفرقة التي ظهرت في الإسلام في أوائل القرن الثاني على يد واصل بن عطاء(3)، وسلكت منهجاً عقلياً صرفاً في بحث العقائد، وقررت أن المعارف كلها عقلية حصولاً، ووجوباً، قبل الشرع وبعده، وهم أرباب الكلام، وأصحاب الجدل(4).
1 ـ نشأة المعتزلة وسبب التسمية:
__________
(1) الرد على الجهمية الإمام أحمد صـ69 .
(2) قضية الثواب والعقاب بين مدارس الإسلاميين صـ34 .
(3) أبو حذيفة واصل بن عطاء البصري ، الغزّال المتكلم ، كان من أجلاد المعتزلو سمع الحسن البصري ، له من التصانيف كتاب: أضاف المرجئة ، وكتاب : معاني القرآن وهو من الطبقة الرابعة من طبقات المعتزلة ت 131هـ .
(4) التنبيه والرد للملطي صـ50 ، تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة ، عبد اللطيف الحفطي صـ(3/452)
... دخل رجل على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين، لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر وهم وعيدية الخوارج وجماعة يرجئون مصير أصحاب الكبائر لأمر الله تعالى، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، وهم مرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟ ففكر الحسن في ذلك، وقبل أن يجيب قال واصل: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً، ولا كافر مطلقاً، بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام لفوره، واعتزل حلقة شيخة إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من اصحاب الحسن فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة(1)، وهذا القول يكاد يجمع عليه مؤرخي الفرق(2)، ولا علاقة بتسمية المعتزلة بالصحابة الكرام لا من قريب ولا بعيد، فالصحابة الذين اعتزلوا الفتنة بين علي ومعاوية وفي الجمل رضي الله عنهم لم يسموا معتزلة بالمعنى الاصطلاحي الذي يفهم من مدلول هذه الكلمة وإنما بالمعنى اللغوي، يؤيد ذلك أن المعتزلة الذين نحن بصدد الحديث عنهم إنما سموا بذلك لاعتزالهم مذهب أهل السنة والجماعة، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أئمة أهل السنة والجماعة، فكيف يُجعلون سلفاً للمعتزلة الذين اقتفوا أثر العقل دون الشرع؟ وبذلك يعلم خطأ من جعل أصحاب رسول الله سلفاً لهؤلاء المعتزلة فإن المعتزلة جعلوا الاعتزال ديناً لهم يتعبدون الله تعالى على أساس تعاليمه، وأما أولئك الصحابة اعتزلوا الفتنة طلباً للسلامة من الإثم وصوناً للدماء(3). وقد تميز المعتزلة عن أهل السنة والجماعة بمدرسة منهجية فكرية خاصة، الهيمنة فيها للعقل وحده بلا منازع وتركوا التمسك بالنصوص الشرعية، التي فيها محض الهدى والعصمة من الانحراف والضلال(4).
__________
(1) الفرق بين الفرق صـ118 .
(2) آراء المعتزلة الأصولية د.علي الضويحي صـ71 .
(3) المصدر نفسه صـ72 .
(4) آراء المعتزلة الأصولية صـ76 .(3/453)
2 ـ فرق المعتزلة: فلمّا كانت القاعدة الرئيسة التي اعتمد عليها المعتزلة هي العقل به يثبتون وبه ينفون، وبسبب انغماس المعتزلة في الفلسفة اليونانية القائمة على الجدل والخصومة دبَّ الخلاف بين رجال هذه الفرقة، وتشعبت أراؤهم، وتفرقوا إلى اثنتين وعشرين فرقة منها: الواصلية والعمروية والهذلية والنظامية... الخ. ولكل فرقة من هذه الفرقة بدع خاصة بها، وكلهم يجتمعون على الأصول الخمسة في الجملة، لكنهم يختلفون في جزئيات داخل هذه الأصول، ولا عجب في ذلك ما دام العقل هو المحكِّم عندهم ولكل اهتماماته المختلفة عن الآخر(1).
3 ـ دور المعتزلة في إحياء عقائد الفرق التي سبقتها:
... أخذت المعتزلة عن ثلاث فرق سابقة عليها، وأحييت بدورها تلك العقائد ولكن بشكل آخر، فأخذت عن الخوارج، وعن القدرية الغلاة، وعن الجهمية(2).
ما أخذته من الخوارج:
أ ـ حكم مرتكب الكبيرة في الآخر:
... يقول البغدادي: ثم إن واصلاً وعمراً، وافقا الخوارج في تأييد عقاب صاحب الكبيرة في النار مع قولهما بأنه موحِّد، وليس بمشرك ولا كافر(3). من هذا النص يظهر لنا أن المعتزلة أحيت عقيدة الخوارج في صاحب الكبيرة في الآخرة، ولكن لم تحكم عليه بالكفر في الدنيا(4).
ب ـ الخروج على أئمة الجور:
__________
(1) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ18 .
(2) المصدر نفسه صـ19 .
(3) الفرق بين الفرق صـ119 ، تأثير المعتزلة صـ20 .
(4) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ20 .(3/454)
... إن مما أجمعت الخوارج: وجوب الخروج على الإمام الجائر بالقوة والسلاح لإزالة الظلم والبغي، وإقامة العدل والحق كما يقولون(1)، وصرفوا نصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى منازعة الأئمة والخروج عليهم وقتال المخالفين(2). وقد أخذت المعتزلة هذا المبدأ عن الخوارج وأحيوه نظرياً تحت أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول أبو الحسن الأشعري: أجمعت المعتزلة إلاّ الأصم على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع الإمكان والقدرة باللسان، واليد، والسيف، كيف قدروا على ذلك(3). وقال في موطن آخر: وأوجبوا الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة(4).
ج ـ قضية التأويل(5): الخوارج هم أول من فتح باب التأويل الباطل في تاريخ الأمة، فأعملوا التأويل في نصوص الحكم بغير ما أنزل الله، ونصوص الوعيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم جاءت الفرق بعدها فورثت هذا المنهج وطبقته في الاستدلال على بدعها التي أحدثتها، ومن تلك الفرق: المعتزلة التي أعملت التأويل في نصوص الصفات لتقرر التعطيل، بينما لم يكن استعماله في نصوص الصفات عند الخوارج(6). وقال ابن تيمية: ولم يعرف فيهم ـ الخوارج ـ الكلام وتأويل الصفات إلا بعد ظهور المعتزلة(7). واستخدم المعتزلة التأويل في نصوص القدر، ولم يكن هذا عند الخوارج أيضاً وهكذا، فالخلاصة: أن المعتزلة ورثت منهج التأويل من الخوارج، وعضّت عليه بالنواجذ، وأصبح عندهما قاعدة للتعامل مع نصوص الكتاب والسنة.
__________
(1) مقالات الإسلاميين (1/204) الملل والنحل (1/115) .
(2) الخوارج أول الفرق في تاريخ الإسلام ناصر العقل صـ37 .
(3) مقالات الإسلاميين (1/337) تأثير المعتزلة صـ21 .
(4) مقالات الإسلاميين (2/157) تأثير المعتزلة صـ21 .
(5) التأويل البدعي: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهره من غير قرينة .
(6) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ22 .
(7) المصدر نفسه صـ22 .(3/455)
* ـ ... القدرية: وأما عن القدرية، فأخذ المعتزلة القول بنفي القدر وأحيته، ولكن ليس بشكله الغالي الذي يتضمن نفي علم الله تعالى وهو الذي كان عليه القدرية الأوائل، فإن هذا القول قد تلاشى وسقط لسببين:
ـ ... قلة عدد القائلين بالقدر على هذا النحو.
ـ ... وقوف الصحابة الذين أدركوا هذه المقالة وعلماء التابعين ضد هذه المقولة بحزم، تارة بالبراءة من أهلها كما فعل ابن عمر رضي الله عنه، فقد قال لمن جاء بخبرهم: فأخبرهم إني بريء منهم، وإنهم برآء مني(1)، أو بإهانتهم واحتقارهم، كما فعل طاووس بن كيسان مع معبد الجهني حين رآه في المطاف حيث التفت إلى الناس وقال: هذا معبد فأهينوه(2)، أو بقتلهم وقطع دابر فتنتهم بعد تكفيرهم كما فعل بغيلان الدمشقي حين أصر على هذه العقيدة الفاسدة(3). لكن المعتزلة أحيت هذه العقيدة بطريقة خفضت فيها من غلو السابقين فأثبتت لله تعالى العلم والكتابة، وأنكرت مرتبتي الإرادة والخلق حيث قرروا أن العباد هم الخالقون بأفعالهم، وأنهم يفعلونها بمحض مشيئتهم دون مشيئة الله تعالى(4). ولهذا لم يكفرهم العلماء كما كفروا القدرية الغلاة السابقين، قال ابن تيمية: وأما القدرية الذين ينفون الكتابة والعلم فكفروهم ولم يكفروا من أثبت العلم ولم يثبت خلق الأفعال(5).
* ـ ... الجهمية: مهد التعاصر والتزامن بين الفرقتين والاتصالات الشخصية التي كانت بين جهم وبعض أصحاب واصل لأخذ المعتزلة من الجهمية عقيدتهم في التوحيد والتي تضمنت:
__________
(1) مسلم ، شرح النووي ، ك الإيمان (1/156) .
(2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/637) .
(3) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ24 .
(4) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ117 .
(5) الفتاوى نقلاً عن تأثير المعتزلة صـ24 .(3/456)
أ ـ ... نفي الصفات: يقول ابن تيمية: ثم أن أصل هذه المقالة ـ مقالة التعطيل للصفات ـ إنما هو مأخوذ من تلامذة اليهود والمشركين.. فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام.. هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه(1). ثم إن المعتزلة ورثت هذه البدعة من الجهمية وأحيتها ولكن بشكل خفضت فيه من غلو الجهمية، فإن الجهمية كانت تنفي عن الله الأسماء والصفات(2)، كما ذكر ابن تيمية: أن الجهم زاد نفي الأسماء على نفي الصفات(3)، أما المعتزلة فإنهم يثبتون الأسماء وينفون الصفات(4).
ب ـ القول بخلق القرآن، ونفي رؤية الله تعالى مطلقاً: قال ابن تيمية في المعتزلة: وتوحيدهم هو توحيد الجهمية الذي مضمونه نفي الصفات وغير ذلك، قالوا: إن الله لا يرى وأن القرآن مخلوق(5). فهذه جملة ما أخذه المعتزلة عن الفرق السابقة عليها وهم الخوارج والقدرية والجهمية، وقد ظهر دورهم في إحيائها وقد غير المعتزلة في كثير منها حتى تخف الوطأة عليها، كما أنها جمعت لتلك العقائد الأدلة العقلية الفلسفية ثم جاءت الفرق فأخذت تلك العقائد بصورتها عن المعتزلة واستدلت بأدلة المعتزلة عليها(6).
__________
(1) الفتوى الحموية الكبرى تحقيق شريف هزاع صـ47 ، 48 .
(2) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ25 .
(3) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ25 نقلاً عن الفتاوى .
(4) المصدر نفسه صـ25 .
(5) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26 نقلاً عن الفتاوى .
(6) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26 .(3/457)
4 ـ أصول المعتزلة الخمسة: اتفق جميع المعتزلة فيما بينهم على أصول خمس عقدية، جعلوها أساساً مهماً لمذهبهم الإعتزالي، وهذه الأصول هي: التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1) ومصطلح الأصول الخمسة لم يظهر عند واصل بن عطاء، وإنما أخذ عن تلاميذه واكتمل عند أبي الهذيل العلاف، والذي وصلت به الفرقة إلى ذروة الاعتزال، واكتملت على يديه موضوعاته، وقد كتب في الأصول الخمسة بعض فصول كتبه، ثم تتالت الكتب التي تحمل هذا المصطلح على يد جعفر بن حرب، والقاضي عبد الجبار وغيرهما من رجال المعتزلة(2)، ومع بداية الدولة العباسية نشطت حركة المعتزلة، وبدأوا يرسلون الرسل في الآفاق للدعوة إلى مذهبهم ومعتقدهم، وقد حظي مذهبهم بتأييد بعض الخلفاء العباسيين وخاصة في عهد المأمون، ونترك مناقشة أصول الاعتزال وموقف أهل السنة منها عند حديثنا عن الدولة العباسية بإذن الله تعالى.
المبحث الخامس : حياته الاجتماعية والعلمية والدعوية:
أولاً : الحياة الاجتماعية:
إهتمامه بأولاده وأسرته:
أشرف عمر بن عبد العزيز على تربية وتعليم أولاده بنفسه ولم تشغله مسئولياته عن تنشئتهم التنشئة الصالحة، المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي ونستشف ذلك من خلال رسائله لهم، ولمن أوكل إليه تأديبهم.
__________
(1) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ26 ، آراء المعتزلة الأصولية صـ79 .
(2) نشأت الفكر الفلسفي في الإسلام د. النشار (1/417) تأثير المعتزلة في الخوارج والشيعة صـ27 .(3/458)
1 ـ ربطهم بالقرآن الكريم: ربط عمر بن عبد العزيز أولاده بالقرآن الكريم وكان يأذن لهم يوم الجمعة بالدخول عليه قبل أن يأذن للناس ليتدارس معهم القرآن الكريم: فإذا قال: إيها(1) قرأ الأكبر منه ثم إذ قال: إيها، قرأ الذي يليه حتى يقرأ طائفة منهم(2)
2 ـ تعهدهم بالنصيحة: فقد أرسل في العام الذي استخلف فيه إلى أبنه عبد الملك، وهو إذ ذاك في المدينة يقول فيما قال فيها: ...فمن كان راغباً في الجنة وهارباً من النار ـ يقصد عبد الملك وأخوته ـ فالآن التوبة مقبولة، والذنب مغفور، قبل نفاذ الأجل، وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين ليدنيهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يردُدُه الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل يومئذ لمن عصى الله(3). وفي موضع آخر من هذه الوصية يحث ولده على ذكر الله وشكره عز وجل ومراقبته في القول والعمل، فيقول: ..فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تحميداً، وتسبيحاً، وتهليلاً فافعل، فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً حمد الله وشكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً حمداً لله وذكره(4).
3 ـ الحث على التسامح وحسن الظن: كان رحمه الله يحثهم على التسامح وحسن الظن في الناس، فإن بعض الظن إثم، فيروى قال مرة لابنه عبد العزيز: إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم، فلا تحملها على شيء من الشر،
__________
(1) قوله : (إيها) إشارة البدء في القراءة وكذلك الذي يليه.
(2) سياسة عمر بن عبد العزيز في رد المظالم صـ52 .
(3) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ298 .
(4) المصدر نفسه صـ298 .(3/459)
4 ـ الأسلوب اللين والمحاورة العاقلة: كان رحمه الله يتعامل معهم بالأسلوب اللين، دون أن ينصرف إلى التدليل الذي يفسد الأبناء ويحاورهم محاورة العقلاء ويستخدم أسلوب الإقناع والمنطق في التفاهم معهم، وتلبية طلباتهم(1)، فيروى أن أبنه عبد الله استكساه ذات مرة وهو خليفة، فأرسله إلى الخيار بن رباح البصري وقال له:خذ مما عنده لي من ثياب. فلم تعجبه فعاد إلى أبيه وقال: يا أبتاه استكسيتك، فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثياباً ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي، فقال: ذاك ما لنا عند الرجل. فأنصرف عبد الله، فما كان عمر رضي الله عنه الأب المربي، إلا أن اتخذ موقفاً وسطاً مقنعاً، فجمع بين إجابة طلب ولده، وأنه لا يتوفر كل مطلوب أو مرغوب دائماً: فناداه قبل أن ينصرف وقال له مخيراً إياه: هل لك أن أسلفك من عطائك مئة درهم؟ قال: نعم يا أبتاه: فأسلفه مائة درهم فلما خرج عطاؤه حُوسب بها فأخذت منه(2)، ومما يروى أيضاً في حسن إجابته لأولاده وإقناعهم، أن ابنة له بعثت إليه بلؤلؤة وقالت له: إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها، حتى أجعلها في أذني فلم يرد عليها بالإجابة ولا بالرفض، وإنما الأمر مرتبط بصبرها على الجمر، إذ أرسل لها بجمرتين وقال لها: إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في إذنيك بعثت إليك بأخت لها(3)، فكان جواب مقنع لها(4).
5 ـ حرصه على العدل بينهم:
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ101 .
(2) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ312 .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ134 .
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ101 .(3/460)
... وما يذكر من حسن معاملته رحمه الله لأولاده، حرصه على العدل بينهم مع كثرتهم، حتى لا يحقد أحدهم على الآخر أو يبغضه، فقد تحرى رحمه الله العدل حتى إيثاره لابن الحارثية أن ينام معه، إذ تركه خشية أن يكون جوراً(1)، وفي هذا الصدد يروى عن عبد العزيز ابن عمر بن عبد العزيز قوله: كان عمر بن عبد العزيز له ابن من امرأة من بلحارث بن كعب، وكان يحبه وينام في بيته، قال: فتعرضت له ذات ليلة، فقال: أعبد العزيز؟ قلت: نعم. قال: شرٌ ما جاء بك؟ ادخل، فجلست عند شاذكونته(2)، وهو يصلي.. فأتاني فقال: مالك؟ فقلت: ليس أحد أعلم بولد الرجل منه، وإنك تصنع بابن الحارثية ما لا تصنع بنا، فلست آمن أن يقال ما هذا إلا من شيء تراه عنده ولا تراه عندنا. فقال: أعلمك هذا أحد؟ فقلت: لا. قال: فأعد عليّ. فأعدت عليه. فقال: أرجع إلي بيتك. فرجعت، فكنت أنا وإبراهيم وعاصم وعبد الله ـ وهم من أخوانه ـ نبيت جميعاًُ فإذا نحن بفراش يحمل وتبعه ابن الحارثية ـ وهو أخوهم ـ فقلنا: ما شأنك؟ قال: شأني ما صنعت بي، قال: كأنه خشي أن يكون جوراً(3).
6 ـ تنمية الأخلاق الفاضلة عندهم: كان يحرص على تنمية الأخلاق الفاضلة عند أولاده ويتحين الفرص لتحقيق ذلك ما استطاع، ففي سياق رسالته رحمه الله إلى ولده عبد الملك، وهو في المدينة ينهاه عن التفاخر والمباهاة في الكلام، والإعجاب بالنفس، والغرور والتعالي على الناس، فيقول له:.. وإياك أن تفحر بقولك، وأن تعجب بنفسك أو يخيل إليك إن ما رزقته لكرامة لك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك(4).
__________
(1) المصدر نفسه صـ102 .
(2) الشاذكونة : هي ثياب غلاظ مضربة تعمل باليمن .
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ52 ، 53 .
(4) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ314 .(3/461)
7 ـ تربية أولاده على الزهد والاقتصاد في المعيشة: تتجلى شخصية عمر رحمه الله التربوية بقدرته على جعل أولاده يتقبلون التحول من فترة النعيم إلى فترة الزهد والتقشف، وأن يقنعهم بالعيش كعامة الناس، بدلاً من حياة الترف والرفاهية، فمن أول إجراءاته إن جاء في سياق رسالته التربوية لابنه عبد الملك وهو في المدينة والتي جاء فيها:.. فإن ابتلاك الله بغنى اقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك ـ يقصد الزكاة والصدقة وعدم الإسراف ـ وقل كما قال العبد الصالح: ((هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ)) (النمل ، الآية : 40). وكانت هذه الرسالة عقب توليه الخلافة مباشرة، في حين لا تزال فترة النعيم والرفاهية قائمة، إذ إتبع أسلوباً تربوياً رائعاً في ذلك، حيث أخذ الأمر بالتدرج، فأشعره بأن الغنى وكثرة المال ابتلاء من الله عز وجل، ثم أمره بالاقتصاد فيما هو فيه من الغنى، ثم قرن الأمر بالتواضع لله وأخيراً أكد على ضرورة أداء حق الله، من زكاة الأموال والصدقات وامتثال أمر الله عز وجل(1). وفي موقف آخر، إذ بلغه رحمه الله إن ابناً له إتخذ خاتماً، واشترى لهذا الخاتم فصاً بألف درهم، فكتب إليه عمر: أما بعد : فقد بلغني أنك اشتريت فصَّاً بألف درهم، فبعه، وأشبع ألف جائع، واتخذ خاتماً من حديد صيني، واكتب عليه: رحم الله امرءاً عرف قدر نفسه(2). ونلاحظ أن عمر ربط أمره ببيع الفص بوجود جائعين وحاجتهم للإشباع ليكون ذلك أجدى لإدراك مغزى الأمر، والتحري في إنفاق الأموال مستقبلاً، وليكن أمر الفقراء والمساكين نصب أعين أبنائه دائماً(3)
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ106 .
(2) سيرة عمر ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ298 .
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ106 .(3/462)
، وذات يوم طلب أحد أبناء عمر بن عبد العزيز إلى أبيه أن يزوجه، وأن يُصدق عنه من بيت المال ـ وقد كان لابنه ذلك امرأة ـ فغضب رضي الله عنه لذلك، وكتب يقول: لقد أتاني كتابك تسألني أن أجمع لك بين الضرائر من بيت المال، وأبناء المسلمين لا يجد أحدهم امرأة يستعف بها، فلا أعرفن وما كتبت بمثل هذا.. ثم كتب إليه أن أنظر إلى ما قبلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه، واستعن بثمنه على ما بدا لك(1). ولم يقتصر الأمر على الذكور من أولاده، بل شمل الذكور والإناث على ذلك أن ابنة لعمر بن عبد العزيز يقال لها ((أمينة)) مرت به يوماً، فدعاها عمر: يا أمينة، فلم تجبه فأمر بها، فقال: ما منعك أن تجيبي؟ فقالت إني عارية ـ أي ملابسها ليست حسنة ـ فقال: يا مزاحم: انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصاً(2)، هذا عن كساء بنات عمر، أما عن طعامهن، فيروى ابن عبد الحكم أن عمر: كان يصلي العتمة(3)، ثم يدخل على بناته فيسلم عليهن، فدخل عليهن ذات ليلة فلما أحسنَّه وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب، فقال للحاضنة: ما شأنهن؟ فقالت: إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن فبكى عمر. ثم قال لهن: يا بناتي ما ينفعكن أن تعشين الألون، ويمر بأبيكن على النار، فبكين حتى علت اصواتهن ثم انصرفن(4)وكان عمر بدأ الانتقال بأهل بيته من فترة الرفاه والتنعيم إلى فترة القناعة والزهد في الدنيا، بأن وضع حلي ومجوهرات زوجه فاطمة بنت عبد الملك في بيت المال، إذ قال لها: اختاري، إما أن تردي حليَّك إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت واحد. قالت: لا بل أختارك يا أمير المؤمنين عليه وعلى
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ106 .
(2) حلية الأولياء (5/261) النموذج الإداري صـ108 .
(3) العتمة : هي الثلث الأول من الليل ، والعتمة : وقت صلاة العشاء .
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ48 ، 49 .(3/463)
أضعافه إن كان لي(1).
* ـ اهتمامه بتعليم أولاده: أولى عمر رحمه الله تعليم وتأديب أولاده جانباً من الاهتمام، إذ اتبع إجراءات تعليمية جعل منها منهجاً جديراً يلبي حاجات الناشئ المسلم،ليكون موحد الذات والأهداف، غير منقسم على نفسه بين القول والعمل، أو بين الواقع والمثال(2)، حيث تتضح معالم ذلك المنهج في رسالته رضي الله عنه إلى معلمهم ومؤدبهم مولاه سهل بن صدقة، إذ قرر اختياره وتكليفه بمهام تعليم وتأديب أولاده، ثم حدد الطريقة المثلى للتأديب(3)، فقد قال: من عبد الله عمر، أمير المؤمنين، إلى سهل مولاه. أما بعد: فإني اخترتك على علم منيّ بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك من غيرك من مواليّ وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء، فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن كثرته يميت القلب، وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم، أن حضور المعازف(4) واستماع الأغاني، واللهج(5) بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشْبَ الماء ولعمري لتوقي ذلك، بترك حضور تلك المواطن، أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به، وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن يثبت في قراءته، فإذا فرغ، تناول قوسه ونبله وخرج إلى الغرض(6)حافياً، فرمى سبعة أرشاق(7). ثم أنصرف إلى القائلة(8)
__________
(1) الطبقات (5/330) النموذج الإداري صـ109 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ110 .
(3) المصدر نفسه صـ110 .
(4) المعازف : هي الملاهي والآلات مما يضرب . العازف: اللاعب والمغني .
(5) اللهج بالشيء : الولوع به والاعتماد عليه .
(6) الغرض: هو الهدف الذي ينصب فيرمي فيه والجمع أغراض .
(7) الرشق: هو الرمي بالسهم والنبل، والرشق: هو الشوط من الرمي .
(8) القائلة: هي الظهيرة أو نصف النهار والقيلولة: الإستراحة عند نصف النهار .(3/464)
، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول: يا بَني قيلوا، فإن الشياطين لا تقيل(1). ونلاحظ على هذه التوجيهات الأمور الآتية:
1 ـ اختيار المعلم والمؤدب الصالح: فالمعلم أو المربي يعد حجر الزواية في عملية التعليم، فقد اختار معلم أولاده من خاصته ومواليه وعلى علم به وثقة فيه، ولم يكتف عمر بمولاه سهل لتأديبهم وتعليمهم بل عهد بتأديبهم أيضاً إلى أستاذه ومؤدبه الأول صالح بن كيسان(2). ولم يقف حرص عمر رحمه الله على تعليم أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل اختار من كبار علماء عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم عند هذا الحد، بل وجدناه يختار من كبار عصره من يختبر عقل أولاده وأدبهم، فقد كلف ميمون بن مهران أن يأتي ابنه عبد الملك فيستشيره وينظر إلى عقله. قال ميمون: فأتيناه ـ يعني عبد الملك بن عمر ـ فاستأذنت عليه فقعدت عنده ساعة، فأعجبت به(3).
__________
(1) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ296 ، 297 .
(2) تذكرة الحفاظ (1/148) .
(3) سيرة ومناقب عمر بن العزيز لابن الجوزي صـ302 .(3/465)
2 ـ تحديد المنهج التعليمي: حدد عمر بن عبد العزيز المنهج التعليمي والمقررات الدراسية التي يريد لأولاده أن يتعلموها، حيث يتكون من القرآن الكريم وعلومه وبقية العلم من العلوم الأخرى، والتدريب على الجهاد والقتال والصبر عليه، وكذلك التمرين على الرماية ودقة الإصابة وممارسة الرياضة البدنية بالسير إلى الأهداف حفاة ليعتادوا على ذلك مع ما يحتويه المنهج من أوقات للراحة، أما حجم المقرر اليومي فجزء واحد من القرآن الكريم بتثبت ووعي بالإضافة إلى ما يتناسب مع ذلك الجزء من علوم الدين الأخرى وكذلك الرمي بسبعة أرشاق مع ما يتطلبه ذلك من السير إلى أغراض والسير بينها فكان منهج ذا أهداف سامية، إذ يجمع بين الدين والدنيا، ويراوح بين البدن والروح، والقول والعمل(1) تلك أهداف ارتدت عنها خائبة، جلّ برامج التعليم والتربية الحديثة(2).
__________
(1) النموذج الإداري صـ113 .
(2) النموذج الإداري صـ114 .(3/466)
3 ـ تحديد طريقة التأديب والتعليم: لم يقف عمر بن عبد العزيز عند اختيار معلم أولاده، وتحديد مواد المنهج التعليمي، بل امتد الأمر إلى رسم الطريقة التي ينبغي لمؤدب أولاده إتباعها، وكيفية التنفيذ ودقة الأداء وإتقان العمل، ففي سياق رسالته رحمه الله. طلب إلي سهل أن يلتزم الجد في قوله لهم، فذلك أمعن لإقدامهم وأحرز لانتباههم، وطلب إليه كمؤدب لهم أن يترك صحبتهم، فإن عادتها تكسب الغفلة، ولتبقى مكانته عندهم، فليس للمعلم أن يتخذ من تلاميذه أصدقاء وأصحاب له يودعهم أسراره، ويشاركهم وقته وحياته، فقد لا تعجبهم مواقفه، فيكون ذلك، أدعى للاستهانة به، وعدم الاستجابة لما يطلب منهم(1) وربما يؤدي ذلك إلى عدم الإكتراث بالمعلم، والغفلة عما يقوله من العلم، كما طلب عمر إلى مؤدب أولاده أن يكون في أدبه لهم ما يصرفهم عن الملاهي وحضور المعازف وسماع الغناء، لما لها من الأثر السيء في حياة المسلم ويلاحظ أن عمر لا يصدر أمراً، أو يحدد طريقة أو أسلوباً حتى يوضح ما دفعه لذلك، وما فائدته وجدواه(2).
4 ـ تحديد أوقات وأولويات التعليم:
__________
(1) النموذج الإداري صـ114 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ117 .(3/467)
... ومما اشتمل عليه المنهج الذي حدده عمر بن عبد العزيز في رسالته لمؤدب أولاده ما يسمى بإدارة الوقت، إذ حدد برنامجاً يومياً يبدأ الأولاد ومؤدبهم في تنفيذه من الصباح الباكر بجزء من القرآن الكريم، فكان البدء بالقرآن في الفترة الصباحية، ولما فيها من صفاء ذهن التلميذ، بعد أخذ قسطاً من الراحة في ليلته، فجعل أولوية القرآن الكريم في وقت صفاء الذهن والاستعداد الجيد للمتعلم كما ربط الانتقال إلى المادة الأخرى من البرنامج اليومي بالتثبت والإتقان ثم جاء توقيت الخروج بين الأغراض وممارسة متطلبات الرماية، ويكون الخروج للرمي بعد العلم، وهم في شوق إليه، فيتحقق لهم بذلك أعلى درجات الكفاءة والإتقان، ويأتي في ختام البرنامج اليومي فترة القيلولة، تلك الفترة الضرورية لراحة البدن والنفس والعقل(1).
__________
(1) المصدر نفسه صـ118 .(3/468)
5 ـ مراعاة المؤثرات التعليمية: راعى عمر بن عبد العزيز كل ما له ارتباط بالعلم، ومال له تأثير على الفهم وحسن التلقي، وما يزيد من إدراك العقل من قريب أو بعيد، فكان أول أمر اهتم به وبتأثيره على علم أولاده وأخلاقهم وأدبهم هو: معلمهم وجدوى علمه، واقتداؤهم بأدبه وخلقه، والأمر الثاني: مراعاة ما قد يسببه اللين وعدم التزام الجد في القول، وإكثار الضحك، والهزل واللعب أحياناً، من التباطؤ في أداء متطلبات التعليم، من إقدام وعلوِّ همه، وفهم وإدراك بالكفاءة المطلوبة، والثالث: ما ينجم عن تيار المجون والملاهي والغناء، وحضور المعازف، من ضياع وقت أولى أن يكون للعلم، وتبلد الإحساس العلمي، ورابعها: مراعاة النواحي النفسية للناشئين، وما قد يصيبهم من الملل،وتأثير ذلك على المستوى المطلوب من الفهم، وضرورة الترويح عن النفس ساعة بعد ساعة، وجعل وقتاً للراحة بين الحين والآخر، وأخير الإهتمام بالمردود الإيجابي للرياضة وممارسة الرماية والسير بين الأغراض على الجسم وصحته والعقل وسلامته والذهن وصفائه(1)
* ـ من نتائج منهج عمر بن عبد العزيز في تربية أولاده: ابنه عبد الملك:
... من نتائج منهج عمر في تربية أولاده ذلك النموذج الرباني المتمثل في ابنه عبد الملك، ويعتبر عبد الملك نموذج للشباب الذي عاش في رغد العيش، وسعة الرزق، ورفاهية الحياة، فحياته مثال لكثير من أبناء المسلمين الذين كانوا على شاكلته وإليك شيء من مواقفه:
__________
(1) لمصدر نفسه صـ119 .(3/469)
1 ـ عبادته وبكاؤه: عن عاصم بن أبي بكر بن عبد العزيز بن مروان وهو ابن أخي عمر بن عبد العزيز قال: وفدت إلى سليمان بن عبد الملك، ومعنا عمر بن عبد العزيز، فنزلت على ابنه عبد الملك وهو عزب، فكنت معه في بيت فصلينا العشاء، وأوى كل رجل منا إلى فراشه، ثم قام عبد الملك إلى المصباح فأطفأه، ثم قام يصلِّي، حتى ذهب بي النوم، فاستيقظت فإذا هو في هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ..)) (الشعراء ، الآيتان : 205 ـ 206). فبكى، ثم يرجع إليها، فإذا فرغ منها فعل مثل ذلك، حتى قلت: سيقتله البُكاءُ، فلما رأيت ذلك قلت: لا إله إلا الله والحمد لله كالمستيقظ من النوم لأقطع ذلك عليه، فلما سمعني سكت فلم أسمع له حِسَّا(1) رحمه الله.
2 ـ علمه وفقهه وفهمه: جمع عمر بن عبد العزيز الناس واستشارهم في رد مظالم الحجّاج، فكان كلما استشار رجلاً قال له: يا أمير المؤمنين، ذاك أمر كان في غير سلطانك ولا ولايتك، فكان كلما قال له رجل ذلك أقامه، حتى خلص بابنه عبد الملك، فقال له ابنه عبد الملك: يا أَبَهْ ما من رجل استطاع أن يردَّ مظالم الحجَّاج إن لم يردها أن يشركه فيها. فقال عمر: لولا أنك ابني، لقلت أنك أفقه الناس، وهذا الذي قاله عبد الملك، ومدحه عليه أبوه، وهو الصواب، فإن الإمام إذا قدر على رد مظالم من قبله من الولاة وجب عليه وهو ذلك بحسب الاستطاعة(2).
... وقد كان عمر بن عبد العزيز وأبنه عبد الملك من العلماء الذين جمعوا بين العلم بالله الذي يقتضى خشيته ومحبته والتبتل إليه، وبين العلم بالله الذي يقتضي معرفة الحلال والحرام والفتاوى والأحكام(3).
__________
(1) مجموعة رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي (2/479) .
(2) المصدر نفسه (2/481) .
(3) المصدر نفسه (2/481) .(3/470)
3 ـ تذكيره والده بالموت: مات ابن لعمر بن عبد العزيز، فجاء عمر فقعد عند رأسه، وكشف الثوب عن وجهه فجعل ينظر إليه ويستدمع، فجاء عبد الملك ابنه فقال: أشغلك يا أمير ما أقبل من الموت إليك؟ بل هو في شغل عما حل لديك، فكأن قد لحقت به وساويته تحت التراب بوجهك. فبكى عمر ثم قال: رحمك الله يا بني، فوالله، إنك لعظيم البركة ما علمتك على أبيك نافع الموعظة لمن وعظت، وأيم الله، إن كان الذي رأيت من جزعي على أخيك، ولكن لما علمت أن ملك الموت دخل داري فراعني دخوله، فكان الذي رأيت، ثم أمر بجهازه(1).
4ـ صلابته في الدين وقوته في تنفيذ الحق: قال ميمون بن مهران قال: بعث إليّ عمر بن عبد العزيز وإلى مكحول وإلى أبي قلابة فقال: ما ترون في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً فقال مكحول يومئذٍ قولاً ضعيفاً، فكرهه فقال: أرى أن تستأنف فنظر إليَّ عمر كالمستغيث بي، فقلت: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى عبد الملك، فأحضره. فإنه ليس بدون من رأيت. فلما دخل عليه قال: يا عبد الملك، ما ترى في هذه الأموال التي أخذت من الناس ظلماً، وقد حضروا يطلبونها وقد عرفنا مواضعها؟ قال: أرى((أن تردّها)) فإن لم تفعل كنت شريكاً لمن أخذها(2).
__________
(1) مجموعة رسائل الحافظ بن رجب الحنبلي (2/487) .
(2) المصدر نفسه (2/488) .(3/471)
5 ـ مرضه وموته رحمه الله: دخل عمر بن عبد العزيز على أبنه في وجعه ـ من الطاعون ـ فقال: يا بني، كيف تجد؟ قال: أجدني في الحق. قال: يا بني، إن تكن في ميزاني أحبُّ علي من أن أكون في ميزانك. فقال ابنه: وأنا يا أبه لئن أكون ما تحب أحب إليّ من أن يكون ما أُحب(1). وحين دفن ابنه خطب على قبره فقال: رحمك الله يا بني، فلقد كنت برَّاً بأبيك، وما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً، ولا والله ما كنت أشدَّ سروراً ولا أرجى لحظي من الله فيك، منذ وضعتك في الموضع الذي صيرك الله إليه، فرحمك الله وغفر ذنبك وجزاك الله بأحسن عملك وتجاوز عن مسيئه، ورحم كلَّ شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، رضينا بقضاء الله وسلّمنا لأمره، والحمد الله رب العالمين. ثم انصرف(2). ثم كتب إلى نائبه على الكوفة كتاباً ينهى أن يناح على ابنه، كما كانت عادة الناس حينئذٍ في الناحية على الملوك وأولادهم وفي ذلك الكتاب كان فيه: أن عبد الملك ابن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله، أحسن الله إليه في نفسه، وأحسن إلى أبيه فيه، أعاشه الله ما أحبّ أن يعيشه، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه، وهو فيما علمت بالموت مرتبط، نرجو فيه من الله رجاء حسناً، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله فإن خلاف ذلك لا يصح في بلائه عندي وأحسانه إلي ونعمته علي ثم قال: أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمكه من قضاء الله فلا أعلم، من ينوح عليه في شيء من قبلك، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس، ولا رخصت فيه لقريب ولا بعيد، واكفني في ذلك بكفاية الله ولا ألو منَّك فيه ـ إن شاء الله ـ والسلام عليك(3). وجاء في رواية: لما هلك عبد الملك بن عمر قال أبوه: يا بني، لقد كنت كما قال الله عز وجل: ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)) (الكهف، آية: 146). وإني
__________
(1) المصدر نفسه (2/495) .
(2) المصدر نفسه (2/495) .
(3) مجموع رسائل الحافظ بن رجب (2/496) .(3/472)
لأرجو أن تكون اليوم من الباقيات الصالحات التي هي خير ثواباً وخير أملاً. والله ما يسرني أني دعوتك فأجبتني(1). وقد توفي عبد الملك بن عمر وكان عمره تسع عشرة سنة(2). وكان عمر بن عبد العزيز يثني على ولده وقال لابنه ذات يوم: يا عبد الملك إني أخبرك خبراً: لا والله ما رأيت فتى ماشياً قط أنسك منك نسكاً ولا أفقه فقهاً ولا أقرأ منك، ولا أبعد في صبوة في صغير ولا كبير(3). وقال عمر بن عبد العزيز والله لولا أن يكون بي زينة من أمر عبد الملك ما يُزين في عين الوالد من ولده لرأيت أنه أهل للخلافة(4)، وجاء في رواية: إن عبد الملك لما توفي جعل أبوه يثني عليه عند قبره، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين، لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا، قال: لم؟ وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زُيِّن في عيني منه ما يُزيِّن في عين الوالد من ولده(5)، وقال ميمون بن مهران: ما رأيت ثلاثة في بيت خيراً من عمر بن العزيز، وابنه عبد الملك، ومولاهم مزاحم(6). هذا من نتائج المنهج التربوي والعلمي الذي سار عليه عمر في تربية أولاده.
* ـ ... حياته مع الناس:
1 ـ اهتمامه بإصلاح المجتمع:
__________
(1) المصدر نفسه (2/496) .
(2) المصدر نفسه (2/498) .
(3) المصدر نفسه (2/499) .
(4) المصدر نفسه (2/499) .
(5) المصدر نفسه (2/499) .
(6) المصدر نفسه (2/499) .(3/473)
... كان اهتمامه بإصلاح المجتمع كبيراً وعمل على إزالة ما يتفشى فيه من المنكرات، وقد كتب في ذلك إلى أحد ولاته كتاباً طويلاً بليغاً، فورد بعض فقراته للأهمية وعظيم الفائدة، وفيه يقول: أما بعد فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح منهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ... أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنِّقمات ما قمع فيهم أهل الباطل، واستخفي فيهم بالمحارم، فلا يظهر من أحد منهم محرَّم إلا انتقموا ممن فعله، فإذا ظهرت فيهم المحارم فلم ينههم أهل الصلاح نزلت العقوبات من السماء إلى الأرض على أهل المعاصي والمداهنين لهم، ولعل أهل الإدهان أن يهلكوا معهم وإن كانوا مخالفين لهم، فإني لم أسمع الله تبارك وتعالى فيما نزَّل من كتابه عند مَثُلَة أهلك بها أحداً نجَّى أحداً من أولئك، إلا أن يكونوا الناهين عن المنكر، ويسلط الله على أهل تلك المحارم إن هو لم يُصبهم من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده من الخوف والذل والنِّقم، فإنه ربما انتقم بالفاجر من الفاجر وبالظالم من الظالم، ثم صار كلا الفريقين بأعمالهما إلى النار، فنعوذ بالله أن يجعلنا ظالمين، أو أن يجعلنا مداهنين للظالمين، وإنه قد بلغني أنه قد كثر الفجور فيكم وأمن الفسَّاق في مدائنكم وجاهروا من المحارم بأمر لا يحب الله تعالى من فعله، ولا يرضى المداهنة فيه، كان لا يُظهرِ مثلَه علانية قوم يرجون لله وقاراً ويخافون منه غيراً، وهم الأعزون الأكثرون من أهل الفجور، وليس بذلك مضى أمر سلفكم، ولا بذلك تمت نعمة الله تعالى عليهم، بل كانوا كما قال تعالى((أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) (الفتح، آية: 19).(( أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ)) (المائدة، آية: 24). ولعمري إن من الجهاد في سبيل الله الغلظة على أهل محارم الله تعالى بالأيدي(3/474)
والألسن والمجاهدة لهم فيه، وإن كانوا الآباء، وإنما سبيل الله طاعته ولقد بلغني أنه بطأ بكثير من الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اتقاء التلاوم أن يقال: فلان حسن الخلق قليل التكلفُّ، مقبل على نفسه، وما يجعل الله أولئك أحسانكم أخلاقاً، بل أولئك أسوأكم أخلاقاً، وما أقبل على نفسه من كان كذلك، بل أدبر عنها، ولا سلم من الكلفة لها بل وقع فيها، إذ رضي لنفسه من الحال غير ما أمر الله أن يكون عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1). ففي هذا الكتاب المهم يبين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى سنة الله جل وعلا التي لا تتخلف، وهي أن أيَّ مجتمع يجاهر فيه أهل الفساد بمعاصيهم، ثم لا ينهاهم أهل الصلاح ولا ينكرون عليهم فلا بد أن يصيبهم الله تعالى بإحدى ثلاث ـ أن يصيبهم الله بعذاب من عنده، أو أن يصيبهم بعذاب على أيدي من يشاء من عباده، وقد يكون هؤلاء من الظلمة الجبارين فينتقم الله بهم من العصاة الفجار، أو يصيبهم الله بالخوف والجوع والذل وأنواع النِّقم والمصائب. ويبين عمر في هذا الكتاب أن السكوت عن أهل المعاصي المجاهرين ليس من عمل الصحابة رضي الله عنهم، بل قد وصفهم الله تعالى بالشدة والغلظة على المخالفين المجاهرين بالمعاصي، ويذكر أن من الجهاد في سبيل الله تعالى الغلظة على منتهكي محارم الله والإنكار عليهم بالأيدي والألسن وإن كانوا من أقرب الأقارب، وهذا التوسع في معنى الجهاد له أدلته الشرعية مثل قول الله جل وعلا((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِير)) (التحريم، آية: 9). وإنما يكون جهاد المنافقين بالإنكار عليهم والشدة في معاملتهم(2)ويصحح عمر في هذا الكتاب مفهوماً خاطئاً عند بعض الناس، وهو وصفهم القاعد عن إنكار المنكر بأنه حسن الخلق
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ160 .
(2) التاريخ الإسلامي (15، 16/130) .(3/475)
قليل التكلف مقبل على نفسه، حيث يبين أن هذا سيء الخلق، حيث يتعامل مع المخالفين بالسلبية وعدم المبالاة مع أنهم بحاجة إلى الشفقة والرحمة، وإنما يظهر ذلك بمحاولة إصلاحهم، ويرد على قولهم بأنه قليل التكلف مقبل على نفسه بأنه لم يقبل على نفسه بمحاولة إنقاذها من النار ورفع درجتها في الجنة بل أقبل على هلكتها، حيث أن السكوت عن الإنكار معصية يحاسب عليها مرتكبها وقد تورده إلى النار، وإذا كان في مفهوم الناس أن الساكت قليل التكلف فإنه قد تكلف أمراً عظيماً حيث خالف أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بما وجب عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)، وكانت كتب عمر بن عبد العزيز كلها في إصلاح المجتمع كما جاء في خبر إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: ما كان يقدم على أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم كتاب من عمر إلا فيه رد مظلمة أو إحياء سنة أو إطفاء بدعة أو قَسْم أو تقدير عطاء أو خير، حتى خرج من الدنيا(2).
__________
(1) المصدر نفسه (15، 16/130) .
(2) طبقات ابن سعد (5/342) .(3/476)
2 ـ تذكيره الناس بالآخرة: خطب عمر بن عبد العزيز ذات يوم فقال: إني لم أجمعكم لأمر أحدثته، ولكني نظرت في أمر معادكم وما أنتم أليه صائرون فوجدت المصدِّق به أحمق، والمكذب به هالكاً ثم نزل(1). وهذه خطبة بليغة على قصرها، فإنها تذكرة حية بمصير الإنسان بعد الموت، فالذي يؤمن بالبعث بعد الموت وما قبله من عذاب القبر ونعيمه وما بعد ذلك من الحساب والمصير إلى النعيم الدائم أو إلى الشقاء الدائم، ثم لا يعد العدة الكافية لذلك اليوم يعتبر حقاً أحمق حيث لم يستعمل عقله في الإعداد لمستقبله بعد الموت مع إيمانه بما سيكون فيه(2) ، ومن خطبه في تذكير الناس بالموت والآخرة، فقد بين عمر في بعض خطبه أن الإنسان خلق للأبد ولكنه من دار إلى دار قال عمر: إنما خلقتم للأبد، ولكنكم من دار إلى دار تنقلون(3). وقال في إحدى خطبه: يا أيها الناس، لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تنقلون وإلى غيرها ترحلون، فالله الله عباد الله في أنفسكم فبادروا بها الفوت قبل حلول الموت، ولا يطل بكم الأمد، فتقسوا قلوبكم فتكونوا كقوم دعو إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة(4)، وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن الموت والآخرة والاستعداد للقاء الله كثيراً في خطبه ومواعظه رحمه الله.
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ42 .
(2) التاريخ الإسلامي (15، 16/118) .
(3) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/448) .
(4) المصدر نفسه (2/449) .(3/477)
3 ـ تصحيح المفاهيم الخاطئة: قال عمر في إحدى خطبه: أما بعد أيها الناس فلا يطولن عليكم الأمد، ولا يبعدن عليكم يوم القيامة، فإن من وافته منيته فقد قامت قيامته، لا يستعتب من شيء ولا يزيد في حسن، ألا لا سلامة لا مرئ في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تعدون الهارب من ظلم إمامه عاصياً، ألا وأن أولاهما بالمعصية الإمام الظالم، ألا وإني أعالج أمراً لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه ديناً لا يرون الحق غيره ثم قال: إنه لحبيب عليّ أن أوفر أموالكم وأعراضكم إلا بحقها ولا قوة إلا بالله(1). ففي هذه الخطبة يُذكر عمر بن عبد العزيز المسلمين بقرب يوم القيامة، فإن من وافته منيته قامت قيامته، فلينظر إلى الموت الذي قد يفاجئه في أية لحظة، وحينها لا يستطيع أن يعتذر من أعماله السيئة التي سوّد بها صحيفته، ولا يستطيع أن يستزيد من عمل صالح بيضّ به صحيفته،ويندم حينما لا ينفع الندم على ما فاته في حياته يوم أن كان قادراً على التوبة النصوح والتزود بالعمل الصالح، ثم يبين أن السلامة كل السلامة من إتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا بيان لأحد عنصري العمل الصالح وهم الإخلاص لله تعالى ومتابعة السنة، وهو بهذا يعالج واقعاً لا ينقص العمل فيه الإخلاص وإنما ينقصه إتباع السنة، حيث فشت البدع بعد انقراض عهد الصحابة رضي الله عنهم، وفساد بعض الولاة الذين يحاربون بعض السنن التي لا تتفق مع أهوائهم، ثم بين أحد العواصم التي تعصم من انتشار البدع وفساد أمور الأمة حيث قال: ولا طاعة لمخلوق في معصية الله.فإذا كان بعض الولاة قد تسوّل لهم نفوسهم الأمارة بالسوء أو مجاملة الآخرين بأن يأمروا الناس بمعصية الله، أو يمهدوا السبل لذلك، فأنه لا طاعة لهم، وبهذا ينقطع سبب مهم من أسباب سريان تلك
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ43 .(3/478)
المخالفات وهو ما لولاة الأمر من طاعة على الأمة، فإذا تحددت هذه الطاعة بطاعة الله تعالى لم يكن لهوى النفوس تأثير على انتشار الفساد في المجتمع وتصبح الكلمة لأهل الإصلاح. ثم يبين أن ما جرى عليه العرف من اعتبار الهارب من إمامه الظالم عاصياً ليس له اعتبار في النظر الشرعي لأن تصرفه هذا هو أحد الأسباب التي يتخذها للخلاص من الظلم، وأولى من يوصف بالمعصية من وقع منه الظلم، وكون عمر يبين هذا وهو في أعلى موقع من المسئولية ـ كخليفة ـ دليل على تجرده من حظ النفس ومن العصبية للقرابة، وإخلاصه لله تعالى ثم يصف الواقع الاجتماعي الذي اختلطت فيه العادات بالدين والبدع بالسنن، ونشأ عليه أفراد المجتمع، وتربّى على توجيهه من أسلم من العجم، ومن هاجر من الأعراب حتى حسبوه هو الدين، وحينما يختلط العرف الاجتماعي فيتسرب إلى العرف الإسلامي بعض الأعراف الجاهلية فإن ذلك يؤثر على تربية أفراد المجتمع وتتشربه قلوبهم لأن الأعراف الجاهلية تميل إلى تلبية أهواء النفوس وإن كانت منحرفة جائرة، فيصعب بعد ذلك على المصلحين أن يخلّصوا العرف الاجتماعي الإسلامي من تلك الأخلاط المتسرّبة المتراكمة على مر الزمن، لأن كل انحراف له أنصاره ومؤيدوه، وليس كل أفراد المجتمع يفهمون الأمور على حقيقتها، وحينما يقوم المصلحون بمحاولة التنقية يقوم دعاة السوء بتشويه إصلاحهم ودعوة الناس إلى البقاء على الموروثات، لأن كونها موروثات يعطيها في نظر بعض الناس شيئاً من القداسة، ولكن حينما ينبع الإصلاح من أعلى قمة في المسئولية كما هو الحال في عهد عمر بن عبد العزيز فإن نتائج الإصلاح تكون كبيرة وسريعة المفعول، لأن معه ما خولّه الله تعالى من طاعة الرعية ما دام في طاعة الله تعالى إلى جانب قوة السلطان المعهودة(1).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (15، 16/121) .(3/479)
4 ـ إنكاره العصبية القبلية: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عبد الرحمن وكان مما جاء في كتابه: إن ما هاجني على كتابي هذا أمر ذكر لي عن رجال من أهل البادية، ورجال أمروا حديثاً، ظاهر جفاؤهم قليل علمهم بأمر الله اغتروا فيه بالله غرة عظيمة، ونسوا فيه بلاءه نسياناً عظيماً، وغيروا فيه نعمه تغييراً لم يكن يصلح لهم أن يبلغوه وذكر لي أن رجالاً من أولئك يتحاربون إلى مُضر وإلى اليمن، يزعمون أنهم ولاية على من سواهم، وسبحان الله وبحمده ما أبعدهم من شكر نعمة، وأقربهم من كل مهلكة ومذلة وصُغُر، قاتلهم الله أية منزلة نزلوا، ومن أي أمان خرجوا، أو بأي أمر لصقوا ولكن قد عرفت أن الشقي بنيته يشقى، وأن النار لم تخلف باطلاً. أو لم يسمعوا إلى قول الله في كتابه: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)) (الحجرات، آية: 10). وقوله: ((الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (المائدة، آية:3).وقد ذكر لي مع ذلك أن رجالاً يتداعون إلى الحلف، لا حلف في الإسلام قال: وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فكان يرجو أحد من الفريقين حفظ حلفه الفاجر الآثم الذي فيه معصية الله ومعصية رسوله، وقد ترك الإسلام حين انخلع منه وأنا أحذر كل من سمع كتابي هذا ومن بلغه أن يتخذ غير الإسلام حصناً أو دون الله ودون رسوله ودون المؤمنين وليجة، تحذيراً بعد تحذير، وأذكرهم تذكيراً بعد تذكير وأشهد عليهم الذي آخذ بناصية كل دابَّة، والذي هو أقرب إلى كل عبد من حبل الوريد، وإني لم آلُكم بالذي كتبت به إليكم نصحاً(3/480)
مع إني لو أعلم أن أحداً من الناس يحرّك شيئاً ليُخذ له به أو ليدفع عنه ـ أحرص ـ والله المستعان ـ على مذلته من كان: رجلاً أو عشيرة أو قبيلة أو أكثر من ذلك، فادع إلى نصيحتي وما تقدمت إليكم به، فإنه هو الرشد ليس له خفاء ثم ليكن أهل البر وأهل الإيمان عوناً بألسنتهم، وإن كثيراً من الناس لا يعلمون: نسأل الله أن يخلف فيما بيننا بخير خلافة في ديننا وأُلفتنا وذات بيننا والسلام(1). في هذا الكتاب يعالج أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز انحرافاً خطيراً طرأ على المجتمع الإسلامي آنذاك، وهو أن طائفة من المسلمين الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، ولم تعمر أفكارهم بالعلم الشرعي، فقد اتخذوا لأنفسهم علاقات من روابط الجاهلية التي تقوم على القبائل والعشائر، فيعطي الواحد منهم ولاءه لقبيلته سواء بالحق أو بالباطل وسواء بالعدل أو بالظلم، ويجعل من قبيلته قضية يهتم لها ويدافع عنها ويدعو لها، حتى أصبحوا بها إخوة في الله متحابين بعد أن كانوا أعداء متحاربين، وسادوا بجماعتهم العالم وقد استفحلت هذه القضية حتى أصبح بعض المجاهدين يتحاربون بينهم بدعوى قبلِّية، مما سبب تأخراً في تقدم الجهاد، وجرأ أصحاب البلاد المفتوحة على الانتقاض على المسلمين مرة بعد مرة، ووصلت الحال في بعض البلاد إلى أنه كلما تولى رجل له قبيلة في تلك البلاد قرب أفراد قبيلته وقواهم وتقوى بهم، فتحدث الفتنة وتثور القبائل الأخرى، وما ذاك إلا بسبب طرح رابطة الإسلام التي هي نعمة كبرى على المسلمين، وإتخاذ الروابط الجاهلية بديلاً عنها(2).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ103 ـ 106 .
(2) التاريخ الإسلامي (15 ، 16/124) .(3/481)
5 ـ رفضه للقيام بين يديه: لما ولي عمر بن عبد العزيز قام الناس بين يديه، فقال: يا معشر المسلمين إن تقوموا نقم وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وإن الله فرض فرائض وسن سنناً، من أخذ بها لحق ومن تركها مُحِق(1). أراد عمر أن يقضي على العادات الموروثة التي أشبه بها الولاة آنذاك الأكاسرة والقياصرة، وعزم صارم على العودة بالأمة إلى منهج الخلفاء الراشدين، وعمر هنا يحجِّم دافعين قويين يدفعانه إلى مجاراة عشيرته في مظاهرهم.. أولهما طموح النفس نحو الظهور وفرض السلطة والهيبة في قلوب الناس، وثانيهما رغبة عشيرته الملحة في الإبقاء على هذه المظاهر، وتشنيعهم عليه في مخالفة ما كان عليه أسلافه ولكنه تغلب على هذين الدافعين بحزم وإيمان قوي، وكان الدافع الذي يدفعه إلى التواضع ورفض المظاهر الدنيوية هو خوفه من الله تعالى ورغبته فيما عنده، وطموح فكره نحو الآخرة وتجاوز المستقبل الدنيوي، وكان هذا الدافع أقوى بكثير من الجواذب الأرضية، فنجح في إلجام نفسه عن هواها وإسكات أصحاب المظاهر الخادعة، وتصحيح مفاهيم المجتمع فيما يجب أن تكون عليه الولاة والعلاقة بينهم وبين الرعية. وفي قوله: إن الله فرض فرائض. بيان لأسباب السعادة والشقاوة الحقيقية في الدنيا والآخرة، فمن طبقها لحق بركب المتقين في الدنيا، وأكرم به من رفقة صالحة ، وسيق يوم القيامة إلى رضوان الله تعالى والجنة وأكرم به من مآل وعاقبة(2).
6 ـ تقديره أهل الفضل: ذكر الحافظ ابن كثير أن ولد قتادة بن النعمان وفد على عمر بن عبد العزيز فقال له: من أنت؟ فقال مرتجلاً:
أنا ابن الذي سالت على الخدِّ عينه
... ... ... ... فرُدَّت بكفِّ المصطفى أحسن الرَّدِّ
فعادت كما كانت لأول أمرها
... ... ... ... فيا حُسْنَها عيناً ويا حُسْنَ ما رَدِّ
فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:
__________
(1) تاريخ دمشق نقلاً عن التاريخ الإسلامي (15/114) .
(2) التاريخ الإسلامي (15 ، 16/115) .(3/482)
... ... ... تلك المكارم لا قعبان من لبن
... ... ... ... ... ... ... شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
... ثم وصله وأحسن جائزته رضي الله عنه(1). ففي هذا الخبر موقف لأمير عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في إكرام ولد قتادة بن النعمان لما وفد عليه حينما عرف نفسه بما حدث لأبيه رضي الله عنه في هذا الخبر على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على تفوق عمر بن عبد العزيز في المجال الأخلاقي، وذلك بتقدير أهل الفضل، والتقدم في خدمة الإسلام والمسلمين، فإن ما حدث لقتادة رضي الله عنه من اقتلاع عينه بتلك الصورة شاهد على إيغاله في القتال وتعرضه للمهالك، كما أنه شرف له أن تمثلت فيه تلك المعجزة النبوية(2). ومن تقديره لأهل الفضل ما قام به لزياد مولى ابن عياش، فقد قدم عليه زياد مولى ابن عياش، وأصحاب له، فأتى الباب وبه جماعة من الناس فأذن له دونهم، فدخل عليه فنسي أن يسلم عليه بالخلافة، ثم ذكر فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال له عمر: والأُولى لم تضرني، ثم نزل عمر عن موضع كان عليه إلى الأرض وقال: إني أعظم أن أكون في موضع أعلو فيه على زياد، فلما قضي زياد ما يريد خرج، فأمر عمر خازن بيت المال أن يفتحه لزياد ومن معه يأخذون منه حاجتهم، فنظر إليه خازن بيت المال فاقتحمته عينه أن يكون يُفتح لمثله بيت المال ويسلَّطُ عليه ـ وهو به غير عارف ـ ففعل الخازن ما أمر به، فدخل زياد فأخذ لنفسه ولأصحابه بضعاً وثمانين درهماً أو بضعاً وتسعين درهماً، فلما رأى ذلك الخازن قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يسلط على بيت المال(3). ففي هذا الخبر صور من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله وتقديره للعلماء الربانيين فهو أولاً لم يبال بلقب الخلافة وهو أعلى لقب عند المسلمين،
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ96 التاريخ الإسلامي (15 ، 16/22) .
(2) التاريخ الإسلامي (15 ، 16/23) .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ53 التاريخ الإسلامي (15/24) .(3/483)
والمناصب لها فتنة يقع في حبائلها من اغتروا بالجاه والمنزلة الدنيوية، أما أقوياء الإيمان فإن شخصيتهم لا تتغير بعد المنصب بل يظلون على ما هم عليه من التواضع، وربما زادوا تواضعاً في مقابلة احترام الناس لهم. ثم هو ثانياً نزل من مكانه حتى لا يعلو ذلك العالم الرباني زياد بن أبي زياد مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، وكون ذلك العالم من الموالي لا ينزل من قدره ابن عمر، فإن العبرة بالعلم والتقوى لا بشرف النسب، وموقف كريم لهذا العالم الرباني حيث لم يأخذ من بيت المال إلا ذلك القدر الزهيد مع أنه قد مكن منه، وهذا مثال رفيع من أمثلة الزهد والورع، وحين ما تكون النفوس كبيرة والعقول راجحة فإنها تعف عن متاع الدنيا الذي يتنافس عليه الصغار، وتطمح ببصرها نحو نعيم الآخرة الخالد الذي يتنافس فيه الكبار(1).
__________
(1) التاريخ الإسلامي (15/24) .(3/484)
7 ـ المرء بأصغريه قلبه ولسانه: كان بين وفد المهنئين لعمر بالخلافة من أهل الحجاز غلام صغير وكان الوفد قد اختار الغلام ليتكلم عنهم، وهو أصغرهم، فلما بدأ بالكلام قال له عمر: مهلاً يا غلام ليتكلم من هو أسن منك، فقال الغلام: مهلاً يا أمير المؤمنين، المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لساناً لافظاًُ وقلباً حافظاً، فقد إستجاد له الحلية(1)، يا أمير المؤمنين لو كان التقدم بالسن لكان في الأمة من هو أسن منك ـ أي أحق بمجلسك هذا ممن هو أكبر منك سناً(2) ـ. فقال عمر: تحدث يا غلام، قال: نعم يا أمير المؤمنين، نحن وفود التهنئة لا وفود المرزئة(3)، قدمنا إليك من بلدنا، نحمد الله الذي منَّ بك علينا لم يخرجنا إليك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد أتانا منك إلي بلدنا، وأما الرهبة فقد أمّننا الله بعدلك من جورك(4) فأعجب عمر بفصاحة الغلام وعلمه، وسداد رأيه، فما كان من عمر إلا أن شجعه على ذلك، وزاده ثقة بنفسه وجراءة ليكون هذا الحادث موقفاً تربوياً يتعلم فيه الغلام في حضرة خليفة المسلمين، فطلب منه الموعظة فقال: عظنا يا غلام وأوجز، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن أناساً من الناس غرهم حلم الله عنهم، وطول أملهم وحسن ثناء الناس عليهم، فلا يغرنك حلم الله عنك، وطول أملك وحسن ثناء الناس عليك فتزل قدمك ثم نظر عمر في سن الغلام فإذا هو قد أتت عليه بضع عشرة سنة، فأنشأ يقول:
... ... ... ... تعلم فليس المرء يولد عالماً
... ... ... ... ... ... ... ... وليس أخو علم كمن بات جاهل
... ... ... ... وإن كبير القوم لا علم عنده
__________
(1) إستجاد له الحلية : استحق أن يتكلم .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ79 .
(3) الإرتزاء : انتقاص الشيء : والمرزئة : الرزيئة وهي المصيبة .
(4) مروج الذهب (3/197) .(3/485)
... ... ... ... ... ... ... ... صغير إذا التفت عليه المحافل(1)
8 ـ امرأة مصرية مسكينة تشتكي لعمر: كان عمر يتابع أمور المسلمين ويفتح الأبواب على مصرعيها لسماع أخبارهم: فقد كان بريد عمر بن عبد العزيز لا يعطيه أحداً من الناس إذا خرج كتاباً إلا حمله، فخرج بريد من مصر فدفعت إليه فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح كتاباً تذكر فيه أن لها حائطاً قصيراً، وأنه يقتحم عليها فيسرق دجاجها، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح، بلغني كتابك وما ذكرتي من قصر حائطك وأنه يدخل عليك فيسرق دجاجك، فقد كتبت كتاباً إلى أيوب بن شرحبيل ـ وكان أيوب عامله على صلاة مصر وحربها ـ آمره بأن يبني لك ذلك يحصنه لك مما تخافين إن شاء الله، وكتب إلى أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى ابن شرحبيل، أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت تذكر قصر حائطها، وأنه يسرق منه دجاجها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تحصنه لها، فلما جاء الكتاب إلى أيوب ركب ببدنه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة حتى وقع عليها، وإذا هي سوداء مسكينة، فأعلمها بما كتب به أمير المؤمنين وحصنه لها(2).
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ98 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ163 ـ 164 ، التاريخ الإسلامي (15/77) .(3/486)
9 ـ اهتمامه بفداء الأسرى: كتب إلى الأسارى بالقسطنطينية: أما بعد: فإنكم تعدون أنفسكم أسارى، معاذ الله بل أنتم الحبساء في سبيل الله، واعلموا أنني لست أقسم شيئاً بين رعيتي إلا خصصت أهليكم بأوفر نصيب وأطيبه وأني قد بعثت إليكم خمسة دنانير ولولا إني خشيت إن زدتكم أن يحبسه طاغية الروم عنكم لزدتكم، وقد بعثت إليكم فلان بن فلان يفادي صغيركم وكبيركم، ذكركم وأنثاكم، حركم ومملوككم بما سئل به، فأبشروا ثم أبشروا والسلام عليكم(1). وفي هذا الكتاب يتجلى سمو أخلاق عمر وعظم شعوره بالمسئولية كنموذج راقي لحاكم مسلم الذي يخاف الله فيراعيه، ويتقى الله في حقوق رعيته بمنتهى الإخلاص والأمانة حيث واسى أسرى المسلمين لدى الروم، حيث شبههم بالمرابطين الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، فهم بهذا ينالون أجر المرابطين وإلى جانب هذه المواساة المعنوية فإنه قد واساهم بالمال الذي أمدهم به، وأزاح الهمّ عنهم وبما أخبرهم به من كفالة أسرهم في حال غيبتهم، كما أنه وعدهم جميعاً بمفاداتهم لفك أسرهم، وهذه معاملة كريمة يستحقها هؤلاء الأسرى الذين خرجوا بأنفسهم لحماية الإسلام ونصره(2).
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ163 ، 164 .
(2) التاريخ الإسلامي (15/77) .(3/487)
10 ـ قضاء ديون الغارمين: كتب إلى عماله: أن اقضوا عن الغارمين فكتب إليه: إن نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس، وله الأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من مسكن يأوي رأسه، وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، ومع ذلك فهو غارم، فاقضوا عنه ما عليه من الدين(1)، ففي هذا الخبر يأمر أمير المؤمنين عمر بقضاء الديون عن الغارمين وإن كانوا يملكون المسكن والأثاث والخادم والفرس، وهو مظهر عظيم من مظاهر الرحمة والمواساة، والاهتمام بشئون الرعية، وهكذا يتصرف الأئمة العادلون بأموال الأمة، حيث يغنون بها فقيرها ويجبرون به كسيرها، ويفكون بها أسيرها، ويقضون به عن معسرها، ويسدون به خلة معوزها(2).
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ163 ، 164 .
(2) التاريخ الإسلامي (15/77) .(3/488)
11 ـ خبر الأسير الأعمى عند الروم: أرسل عمر بن عبد العزيز إلى صاحب الروم رسولاً، فأتاه وخرج من عنده يدور، فمر بموضع فسمع فيه رجلاً يقرأ القرآن ويطحن، فأتاه فسلم عليه فلم يرد عليه السلام ـ مرتين أو ثلاث ـ ثم سلم عليه فقال له: وأنىّ بالسلام في هذا البلد، فاعلمه أنه رسول عمر إلى صاحب الروم، قال له: ما شأنك؟ فقال: وإني أسرت في موضع كذا وكذا، فأتى بي إلى صاحب الروم، فعرض علي النصرانية فأبيت، وقال لي: إن لم تفعل سملت عينيك، فاخترت ديني على بصري، فسمل عيني وصيرني إلى هذا الموضع، يرسل إلي كل يوم بحنطة أطحنها وبخبزة آكلها ، فسار الرسول إلى عمر بن عبد العزيز فأخبره، خبر الرجل، قال: فما فرغت من الخبر حتى رأيت دموع عمر قد بلّت ما بين يديه ثم أمر، فكتب إلى صاحب الروم: أما بعد: فقد بلغني خبر فلان بن فلان فوصف له صفته، وأنا أقسم بالله لئن لم ترسله إلي لأبعثنَّ إليك من الجنود جنوداً يكون أولها عندك وأخرها عندي. ولما رجع إليه الرسول قال: ما أسرع ما رجعت! فدفع إليه كتاب عمر بن عبد العزيز، فلما قرأه قال: ما كنا لنحمل الرجل الصالح على هذا، بل نبعث إليه به قال: فأقمت انتظر متى يخرج به، فأتيته ذات يومٍ فإذا هو قاعد قد نزل عن سريره أعرف في وجهه الكآبة، فقال: تدري لم فعلت هذا؟ فقلت: لا ـ وقد أنكرت ما رأيت ـ فقال: إنه قد أتاني من بعض أطرافي أن الرجل الصالح قد مات، ولذلك فعلت ما فعلت، ثم قال: إن الرجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يترك بينهم إلا قليلاً حتى يخرج من بين أظهرهم. فقلت له: أتأذن لي أن أنصرف ـ وأيست من بعثه الرجل معي فقال: ما كنا لنجيبه إلى ما أمر في حياته ثم نرجع فيه بعد مماته، فأرسل معه الرجل(1).
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ168 .(3/489)
12 ـ المرأة العراقية التي فرض لبناتها من بيت المال: قدمت امرأة من العراق على عمر بن عبد العزيز فلما صارت إلى باباه قالت: هل على أمير المؤمنين حاجب؟ فقالوا: لا فلجي إن أحببت، فدخلت المرأة على فاطمة وهي جالسة في بيتها، وفي يدها قطن تعالجه، فسلمت فردت عليها السلام وقالت لها: أدخلي، فلما جلست المرأة رفعت بصرها ولم تر شيئاً له بال، فقالت: إنما جئت لأعمر بيتي من هذا البيت الخرب فقالت لها فاطمة: إنما خرب هذا البيت عمارة بيوت أمثالك، قال: فأقبل عمر حتى دخل الدار، فمال إلى بئر في ناحية الدار فانتزع منها دلاء فصبها على طين كان بحضرة البيت ـ وهو يكثر النظر إلى فاطمة ـ فقالت لها المرأة: استتري من هذا الطيّان فإني أراه يديم النظر إليك، فقالت: ليس هو بطيان، هو أمير المؤمنين. قال: ثم اقبل عمر فسلم ودخل بيته، فمال إلى مصلى كان له في البيت يصلي فيه، فسأل فاطمة عن المرأة، فقالت: هي هذه، فأخذ مكتلاً له فيه شيء من عنب فجعل يتخير لها خيره يناولها إياه ثم اقبل عليها وقال: ما حاجتك؟ فقالت: امرأة من أهل العراق لي خمس بنات كُسْلٌ كٌسْد، فجئتك أبتغي حسن نظرك لهنَّ، فجعل يقول: كسل كسد، ويبكي، فأخذ الدواة والقرطاس فكتب إلى والي العراق، فقال: سمي كبراهنّ، فسمتها ففرض لها، فقالت المرأة: الحمد لله، ثم سأل عن الثانية والثالثة والرابعة، والمرأة تحمد الله ففرض لها، فلما فرض للأربعة استفزها الفرح فدعت له فجزته خيراً، فرفع يده وقال: كنا نفرض لهنّ حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هؤلاء الأربع يفضنّ على هذه الخامسة. فخرجت بالكتاب حتى أتت به العراق، فدفعته إلى والي العراق، فلما ذهبت إليه بالكتاب بكى واشتد بكاؤه، وقال: رحم الله صاحب هذا الكتاب، فقالت: أمات؟ قال: نعم، فصاحت وولولت، فقال: لا بأس عليك، ما كنت لأرد كتابه في شيء، فقضى حاجتها وفرض لبناتها(1).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ169 .(3/490)
13 ـ إحياؤه لسنة العطاء: قال عمر بن عبد العزيز: إنه لا يحل لكم أن تأخذوا لموتاكم فارفعوهم إلينا واكتبوا لنا كل منفوس(1) نفرض له(2). وفي رواية أخرجها ابن سعد من خبر أبي بكر بن حزم قال: كنا نخرج ديوان أهل السجون فيخرجون إلى أعطياتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز، وكتب إليّ: من كان غائباً قريب الغيبة فأعط أهل ديوانه، ومن كان منقطع الغيبة، فأعزل عطاه إلى أن يقدم أو يأتي نعيه، أو يوكل عندك بوكالة ببينة على حياته فادفعه إلى وكيله(3). وبهذا أحيا عمر بن عبد العزيز سنة العطاء الإسلامي التي كانت في عهد الخلفاء الراشدين وعهد معاوية رضي الله عنهم ثم اندثرت بعد ذلك واقتصر العطاء على بعض وجهاء الأمة، وكان بنو أمية يأخذون من ذلك الشيء الكثير على مراتبهم، فلما قسم عمر بن عبد العزيز ذلك على الأمة شمل جميع أفرادهم، وهذا من ابرز مواقفه(4) وإصلاحاته التجديدية.
__________
(1) أي مولود في حال نفاس أمه .
(2) طبقات ابن سعد (5/346) .
(3) المصدر نفسه (5/348) .
(4) التاريخ الإسلامي (15 ، 16/138) .(3/491)
14 ـ أغناؤه المحتاجين عن المسألة: قدم على عمر بن عبد العزيز بعض أهل المدينة فجعل يسأله عن أهل المدينة: فقال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه يا أمير المؤمنين، قال: ما فعل المساكين الذين كانوا يجلسون في مكان كذا وكذا؟ قال: قد قاموا منه وأغناهم الله. قال: وكان من أولئك المساكين من يبيع الخبط للمسافرين(1)، فالتمس ذلك منهم بعد، فقالوا: قد أغنانا الله عن بيعه بما يعطينا عمر بن عبد العزيز(2). وهذا من نتائج المنهج العادل الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في توزيع أموال المسلمين، حيث حُرِمَت القلة المتمكنة من الإسراف وأصبح ما يصرف لفرد من هذه الفئة يصرف لعشرات المسلمين،، فوصل المال العام إلى فئات من لم يكن يصل إليها قبل فاستغنوا به عن بعض الأعمال الشاقة التي كانت تُدِرُّ عليهم مبالغ زهيدة(3).
15 ـ دفع المهور من بيت المال: اهتمّ عمر بن عبد العزيز بأداء مهور الزواج من بيت المال لمن لم يستطع توفير ذلك، فقال أبو العلاء: قُرِئَ كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسجد الكوفة وأنا أسمع: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله ومن تزوج امرأة لا يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله(4). وهذا قرار مهم في إصلاح المجتمع، لأن صلاحه يتوقف علىتحصين أبنائه بالزواج وظفرهم بالسعادة الزوجية، وقد يكون المهر عائقاً لبعض الفقراء دون الزواج، خصوصاً في حال غلاء المهور، فإذا كانت الدولة توفر ذلك لمن لا يستطيع ذلك فإنها تسهم في تكوين المجتمع الصالح وحفظه من أسباب الفساد والاضطراب(5).
__________
(1) الخبط نوع من ورق الشجر تأكله الإبل .
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/151) .
(3) التاريخ الإسلامي (15/138) .
(4) طبقات ابن سعد (5/374) .
(5) التاريخ الإسلامي (15/139) .(3/492)
16 جهوده في التقريب بين طبقات المجتمع: قال يونس بن أبي شبيب: شهدت عمر بن عبد العزيز في بعض الأعياد وقد جاء أشراف الناس حتى حُفُّوا بالمنبر وبينهم وبين الناس فرجة، فلما جاء عمر صعد المنبر وسلم عليهم، فلما رأى الفرجة أومأ إلى الناس: أن تقدموا فتقدموا حتى اختلطوا بهم(1). لقد دأب الولاة من بعد عهد أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه على رفع طبقات من الناس وتمييزهم على غيرهم بالعطاء والمجالس وغير ذلك، وسرى ذلك في الأمة حتى أصيب بعض أفرادها بالضعف وأصبحوا يرون أنهم ليسوا أهلاً للجلوس مع أفراد الطبقات المميزة الذين أصبح الناس يطلقون عليهم اسم ((الأشراف)) ولقد بلغ الضعف بعامة المجتمع إلى عدم التجاسر على الاقتراب من أفراد الطبقة الخاصة حتى في المساجد التي من المفترض فيها أن يتنافس المصلون على القرب من الإمام لما في ذلك من زيادة الثواب، فلما تولى الخلافة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز كان من أجلِّ اهتماماته أن يقارب بين فئات المجتمع فذلك بأن يضع من سمعة الطبقات العالية وأن يزيل كبرياءهم، وأن يرفع من شأن الطبقات المستضعفة وأن يقوي معنوياتهم ويزيل شعورهم بالضعف، فكان من جهوده في ذلك المساواة بينهم في العطاء ولا شك أن المال له أهمية كبرى في الرفع من شأن الناس وخفضهم، وفي هذا الخبر تبين لنا اهتمامه في هذا المجال بالإشارة إلى عموم الناس ليقتربوا من الخاص، ويختلطوا بهم حتى تزول تلك الفجوة بين المسلمين التي خلفها ظلم الولاة وسوء إدارتهم(2).
17 ـ شعوره الكبير بالمسئولية اتجاه أفراد المجتمع:
__________
(1) طبقات ابن سعد (5/387) .
(2) التاريخ الإسلامي (15/140) .(3/493)
... قالت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر:.. إن عمر رحمة الله عليه كان قد فَرَّغ للمسلمين نفسه، ولأمورهم ذهنه، وكان إذا أمسى مساء لم يفرغ فيه من حوائج يومه وصل يومه بليلته، إلى أن أمسى مساء وقد فرغ من حوائج يومه، فدعا بسراجه الذي كان من ماله، فصلى ركعتين ثم أقعى واضعاً رأسه على يديه، تسيل دموعه على خديه، يشهق الشهقة يكاد ينصدع قلبه لها، وتخرج لها نفسه حتى برق الصبح فأصبح صائماً، فدنوت منه فقلت: يا أمير المؤمنين أليس كان منك ما كان؟ قال: أجل فعليك بشأنك وخلِّيني وشأني، قالت: فقلت إني أرجو أن أتَّعظ، قال: إذاَ أخبرك، إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها، ثم ذكرت الفقير الجائع، والغريب الضائع، والأسير المقهور، وذا المال القليل والعيال الكثير، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض، فعلمت أن الله سائلي عنهم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم، فخفت أن لا يقبل الله تعالى مني معذرة فيهم، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة، فرحمت والله يا فاطمة نفسي رحمة دمعت لها عيني، ووجع لها قلبي، فأنا كلما ازددت لها ذكراً ازددت منها خوفاً، فاتَّعظي إن شئت أو ذَرِي(1). وهذا تقدير بالغ من عمر رحمه الله للمسئولية التي تحملها حيث تذكر ضعفاء المسلمين وأصحاب الحاجات، بالرغم مما يبذله من جهد متواصل في التعرف على أحوال الأمة، ولكن لما كان هذا الأمر غير محصور خشي أن يكون قد لقي من المسلمين من لم تُرفع إليه حاجته، فيكون مسئولاً عنه في تذكره للحساب والجنة والنار دليل على عمق إيمانه بالغيب حتى أصبح أمامه كالمشاهد، فأصبح ذلك دامعاً له إلى العدل والرحمة، والمبالغة في تفقد أحوال الأمة وفي بكائه الشديد دلالة على عظمة خوفه من الله عز وجل، وقد عصمه الله تعالى لهذا الخوف، فارتفع بفكره وسلوكه عن المغريات، وقوى
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ170 ، التاريخ الإسلامي (15/107) .(3/494)
أمام جميع التحديات، فكلما عظم عليه خطب مجابهة الناس تذكر النار والحساب فهان عليه كل خطب عظيم وصغر في نظره كل أمر جسيم(1).
18 ـ في الإنفاق على الذمي إذا كبر ولم يكن له مال:
... الإسلام دين العدالة والسماحة والاهتمام بالضعيف والإسلام يهتم بكل من يعيش على أرضه ولو كان على غير دين الإسلام، وعمر بن عبد العزيز يُجَسِّد هذه القيم الرفيعة بتطبيقه أحكام هذا الدين فيقرر أن الذمي إذا كبر ولم يكن له مال ولا حميم ينفق عليه فإن نفقته في بيت مال المسلمين(2)، فقد روى ابن سعد: قال عمر بن بهرام الصرّاف: قرئ كتاب عمر بن عبد العزيز علينا بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عدي بن أرطأة ومن قبله من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فانظر أهل الذمة فأرفق بهم، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه(3).
19 ـ أكله مع أهل الكتاب: كان عمر بن عبد العزيز يجعل كل يوم من ماله درهماً في طعام المسلمين ثم يأكل معهم، وكان ينزل بأهل الذمة فيقدمون له من الحلبة المنبوتة والبقول وأشباه ذلك مما كانوا يضعون من طعامهم فيعطيهم أكثر من ذلك ويأكل معهم، فإن أبوا أن يقبلوا ذلك منه لم يأكل منه(4).
20 ، عمر والشعراء: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة ـ وكان من خطباء أهل الشام ـ فلما رآه جرير داخلاً على عمر أنشأ يقول:
... ... ... يا أيها الرجل المرخي عمامته
... ... ... ... ... ... ... هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا
... ... ...
__________
(1) التاريخ الإسلامي (15/108) .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/353) .
(3) الطبقات الكبرى (5/380) .
(4) حلية الأولياء (5/315 ـ 316) فقه عمر بن عبد العزيز (2/356) .(3/495)
... قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً، ثم مرّ بهم عدي بن أرطأة، فقال له جرير:
... ... ... يا أيها الرجل المرخي مطيته
... ... ... ... ... ... ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
... ... ... أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه
... ... ... ... ... ... ... أنَّي لدى الباب كالمصفود في قرن
... ... ... لا تنس حاجتنا لقّيت مغفرة
... ... ... ... ... ... ... قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
... فدخل عدي على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين، الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، قال: ويحك يا عدي مالي وللشعراء، قال: أعز الله أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه، قال: أو تروي من قوله شيئاً؟ قال: نعم، فأنشده يقول:
... ... رأيتك يا خير البرية كلها
... ... ... ... ... ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلماً
... ... شرعت لنا دين الهدى بعد جورنا
... ... ... ... ... ... عن الحق لما أصبح الحق مظلماً
... ... ونورت بالتبيان أمراًَ مدلساً
... ... ... ... ... ... وأطفأت بالقرآن ناراً تضرماً
... ...
قال: ويحك يا عدي، من بالباب منهم، فذكر له أسماء الشعراء، عمر بن عبد الله بن ربيعة، والفرزدق، والأخطل وجرير، فرد الجميع إلا جرير فسمح له بالدخول، فدخل جرير وهو يقول:
... ... إن الذي بعث النبي محمداً
... ... ... ... ... ... جعل الخلافة للإمام العادل
... ... وسع الخلائق عدله ووفاؤه
... ... ... ... ... ... حتى أرعوى فأقام ميل المائل
... ... إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
... ... ... ... ... ... والنفس مولعة بحب العاجل
... ...
... فلما مثل بين يديه قال: ويحك يا جرير ، اتق الله ولا تقل إلا حقاً(1)، نشأ جرير يقول:
... ... أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت
... ... ... ... ... ... أم قد كفاني بما بُلِّغْتَ من خيري
__________
(1) المنتظم (7/37) .(3/496)
... ... كم باليمامة من شعثاءَ أرملة
... ... ... ... ... ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنَّظَرِ
... ... ممن يعدُّكَ تكِفي فقد والِدِه
... ... ... ... ... ... كالفَرخَ في العش لم ينهض ولم يطر
... ... يدعوك دعوة ملهوف كأنَّ به
... ... ... ... ... ... خبلاً من الجِنَّ أو مساّ من البشر
... ... خليفة الله ماذا تأمرون بنا
... ... ... ... ... ... لسنا إليكم ولا في حار منتظر
... ... ما زلت بعدك في هم يُؤرقني
... ... ... ... ... ... قد طال في الحيِّ إصعادي ومنحدري
... ... لا ينفع الحاضر المجهود بادينا
... ... ... ... ... ... ولا يعود لنا بادٍ على حضر
... ... إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا
... ... ... ... ... ... من الخليفة ما نرجو من المطر
... ... نال الخلافة إذ كانت له قدراً
... ... ... ... ... ... كما أتى ربَّهُ موسى على قدر
... ... هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها
... ... ... ... ... ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
... ... الخير ما دمت حياً لا يفارقنا
... ... ... ... ... ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
... فقال: يا جرير ما أرى لك فيما ها هنا حقاً، قال: بلى يا أمير المؤمنين أنا ابن سبيل ومنقطع. فأعطاه من صلب ماله مائة درهم... ثم خرج، فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشأ يقول:
... ... رأيت رُقَي الشيطان لا تستفزه
... ... ... ... ... ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا(1)
__________
(1) المنتظم (7/99) .(3/497)
... وهذا منهج جديد في عهد الدولة الأموية للتعامل مع الشعراء فقد كان الشعراء يمدحون الملوك والأمراء طلباً لرفدهم، ويدخلون في قصائدهم المبالغات والكذب إلى أن تولى الخلافة عمر بن عبد العزيز، فقصدوه، فكان موقفه من الشعراء كما تبين من الخبر المذكور، فقطع تلك العادة التي تفسد بنية المجتمع وتشجع على سيادة الأخلاق السيئة من الكذب والتغرير والنفاق، فقطع تلك العادة السيئة ولم تعد إلى الظهور إلا بعد وفاته(1) ولقد اعترف جرير بأن الشياطين كانوا من وراء الشعراء في استفزاز الأمراء الممدوحين، وأن عمر بن عبد العزيز قد تميز بحصانته من أولئك الشياطين(2):
21 ـ تأثره بشعر الزهد وعلاقته بسابق البربري:
... قرّب عمر بن عبد العزيز من الشعراء من التزم شعر الزهد وذكر الموت والخوف من الآخرة ويبدو أن أقرب الشعراء لقلب عمر هو سابق البربري(3)، فكان يعظ عمر وينشده الشعر فيتأثر عمر ويبكي وذات يوم دخل سابق البربري وهو ينشد شعراً فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
... ... ... فكم من صحيح بات للموت آمناً
... ... ... ... ... ... ... أتته المنايا بغتة بعدما هَجَع
... ... ... فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة
... ... ... ... ... ... ... فراراً ولا منه بقوَّتِهِ امتنع
... ... ... فأصبح تبكيه النساء مُقَنَّعاً
... ... ... ... ... ... ... ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
... ... ... وقُرّبَ من لحدٍ فصارَ مقيله
... ... ... ... ... ... ... وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
__________
(1) التاريخ الإسلامي (15/174) .
(2) التاريخ الإسلامي (15/174) .
(3) شاعر من الزهاد له كلام في الحكمة والرقائق وهو من موالي بني أمية، والبربري لقلب له ولم يكن من البربر سكن الرقة، وكان يفد على عمر بن عبد العزيز الأعلام (3/69) .(3/498)
... قال الرواي: ميمون بن مهران: فلم يزل عمر يبكي ويضطرب حتى غشي عليه فقمنا، فانصرفنا عنه(1).
... وقد قال سابق البربري قصيدة طويلة فيها مواعظ وحكم، تأثر بها عمر بن عبد العزيز تأثراً بالغاً. وهي:
... ... ... بسم الذي أنزلت من عنده السُّوَرُ
... ... ... ... ... ... ... والحمد لله أما بعد يا عمر
... ... ... إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
... ... ... ... ... ... ... فكن على حذر قد ينفع الحذر
... ... ... واصبر على القدر المجلوب وارض به
... ... ... ... ... ... ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
... ... ... فما صفا لامرئٍ عيش يُسَرُّ به
... ... ... ... ... ... ... إلا سيتبع يوماً صفوه كدر
... ... ... واستخبر الناس عما أنت جاهله
... ... ... ... ... ... ... إذا عميت فقد يجلو العمى الخبر
... ... ... قد يرعوي المرء يوماً بعد هفوته
... ... ... ... ... ... ... وتحكم الجاهلَ الأيام والعبر
... ... ... من يطلب الجور لا يظفر بحاجته
... ... ... ... ... ... ... وطالب الحق قد يُهدى له الظَّفرُ
... ... ... وفي الهدى عبرٌ تشفى القلوبُ بها
... ... ... ... ... ... ... كالغيث ينضُر عن وسميِّه(2) الشجر
... ... ... وليس ذو العلم بالتقوى كجاهلها
... ... ... ... ... ... ... ولا البصير كأعمى ماله بَصرُ
... ... ... والرُّشد نافلة تُهدى لصاحبها
... ... ... ... ... ... ... والغيُّ يكره منه الوِرْدُ والصَّدر(3)
... ... ... وقد يوبق(4) المرءَ أمرٌ وهو يحقره
... ... ... ... ... ... ... والشيءُ يا نفسُ ينمى وهو يُحَتَصرُ
... ... ... لا يشبع النفس شيء حين تحرزه
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر (2/612) سيرة عمر بن عبد العزيز ، عفت وصال حمزة صـ184 .
(2) الوسمي : المطر في أول الربيع .
(3) الورد : الماء الذي يورد والقوم يردون الماء : الصّدر : الرجوع عن الماء .
(4) يوبق : يُهلك من وبق .(3/499)
... ... ... ... ... ... ... ولا يزال لها في غيره وطر
... ... ... ولا تزال، وإن كانت لها سعة
... ... ... ... ... ... ... كما تُعيِّرُ لون اللمة الغِير(1)
... ... ... وكل شيء له حال تغيره
... ... ... ... ... ... ... لها إلى الشيء لم تظفر به نظر
... ... ... والذكرُ فيه حياة للقلوب كما
... ... ... ... ... ... ... يحيي البلاد إذا ما ماتت المطر
... ... ... والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه
... ... ... ... ... ... ... كما يُجلّي سوادَ الظلمةِ القَمَرُ
... ... ... لا ينفع الذكر قلباً قاسياً أبداً
... ... ... ... ... ... ... وهل يلين لقول الواعظ الحجر؟
... ... ... والموت جسرٌ لمن يمشي على قدم
... ... ... ... ... ... ... إلى الأمور التي تخشى وتُنتظَرُ
... ... ... فهم يمرّون أفواجاً وتجمُعُهم
... ... ... ... ... ... ... دار إليها يصير البدو والحَضَرُ
... ... ... من كان في معقل للحِرز(2) أسلمه
... ... ... ... ... ... ... أو كان في خمر لم ينجه خَمَرُ
... ... ... حتى متى أنا في الدنيا أخو كَلَفٍ
... ... ... ... ... ... ... في الخير مني لَذَّاتِها صَعَرُ(3)
... ... ... ولا أرى أثراً للذكرِ في جسدي
... ... ... ... ... ... ... والماء في الحجر القاسي له أثَرُ
... ... ... لو كان يسهر عيني ذكر آخرتي
... ... ... ... ... ... ... كما يُؤرِقني للعاجل الشَّهَرُ
... ... ... إذا لداويت قلباً قد أضرّ به
... ... ... ... ... ... ... طول السقام ووهن العظم ينجبرُ
... ... ... ما يلبثُ الشيءُ أن يبلى إذا اختلفت
... ... ... ... ... ... ... يوماً على نقضه الروحات والبَكَرُ(4)
... ... ... والمرءُ يصعد ريعان الشباب به
__________
(1) الغِير : كما تغير الأحداث .
(2) الحِرز : المكان المنيع يُلجأ إليه .
(3) صَعَر : صعر خده: أماله كبراً .
(4) الروحات والبكر : روحة من الرواح ويقابله الصباح البكر: أول النهار .(3/500)
... ... ... ... ... ... ... وكل مصعدة يوماً ستنحدر(1)
... ... ... وكل بيت خراب بعد جِدًَّتِهِ
... ... ... ... ... ... ... ومن وراء الشباب الموت والكَبَرُ
... ... ... بينا يُرى الغُصن لَدْنا(2) في أرومته
... ... ... ... ... ... ... ريان أضحى خُطاماً جوفه نَخِرُ
... ... ... وكم من جميع أَشَتَّ الدهر شملَهُمُ
... ... ... ... ... ... ... وكل شمل جميع سوف ينتثِرُ
... ... ... وربَّ أصيد سامي الطرف معتصب
... ... ... ... ... ... ... بالتاج نيرانه للحرب تستعر
... ... ... يظل مفترِشَ الديباج محتجباً
... ... ... ... ... ... ... عليه تبني ثباب الملكِ والحَجرُ
... ... ... قد غادرته المنايا وهو مستلب
... ... ... ... ... ... ... مُجَدَّل ترب الخدين منعفِر(3)
... ... ... أبعد آدم ترجون البقاء وهل
... ... ... ... ... ... ... تبقى فروع لأصل حين ينعقر
... ... ... لهم بيوت بمستن السيول وهل
... ... ... ... ... ... ... يبقى على الماء بيت أُسُّه مَدَرُ
... ... ... إلى الفناءِ ـ وإن طالت سلامتهم
... ... ... ... ... ... ... مصير كل بني أنثى وإن كثروا
... ... ... إنَّ الأمور إذا استقبلتَها اشتبهت(4)
... ... ... ... ... ... ... وفي تدبرها التبيان والعِبَرُ
... ... ... والمرء ما عاش في الدنيا له أملٌ
... ... ... ... ... ... ... إذا انقضى سفر منها أتى سفر
... ... ... لها حلاوةُ عيشٍ غيرُ دائمة
... ... ... ... ... ... ... وفي العواقب منها المرُّ والصَّبُرُ
... ... ... إذا انقضت زمر آجالها نزلت
__________
(1) أي بعد كل صعود نزول: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع .
(2) لدنا : طرياً ليناً .
(3) مُجَدَّلُ : جَدَّل : صرع وفي حديث علي رضي الله عنه : يعز علي أبا محمد أن أراك مجدّلاً تحت النجوم .
(4) اشتبهت : اشتبه اختلط الأمر عليه .(4/1)
... ... ... ... ... ... ... على منازلها من بعدها زُمر(1)
... ... ... وليس يزجرُكُم ما توعظون به
... ... ... ... ... ... ... والبُهْمُ يزجرها الراعي فتنزجر(2)
... ... ... أصبحتم جَزَراً للموت يقبضكم
... ... ... ... ... ... ... كما البهائم في الدُّنيا لها جزر
... ... ... لا تبطروا واهجروا الدُّنيا فإن لها
... ... ... ... ... ... ... غِباً وخيماً ، وكفر النعمة البطر
... ... ... ثم اقتدوا بالأُلى كانوا لكم غُرَرا
... ... ... ... ... ... ... وليس من أمة إلا لها غُرَرُ(3)
... ... ... حتى تكونوا على منهاج أو لكم
... ... ... ... ... ... ... وتصبروا عن هوى الدنيا كما صبروا
... ... ... مالي أرى الناس والدنيا مولية
... ... ... ... ... ... ... وكل حبل عليها سوف ينبتر(4)
... ... ... لا يشعرون بما في دينهم نَقَصوا
... ... ... ... ... ... ... جهلاً وإن نقصا دنياهم شعروا(5)
... وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يتمثل بالشعر كثيراً ومن تلك الأبيات التي ترنّم بها :
... ... ... ولا خير في عيش امرئ لم يكن له
... ... ... ... ... ... ... من الله في دار القرار نصيب(6)
... ... ...
... ومن ذلك أيضاً:
... ... ... تُسَرُّ بما يَبْلى(7) وتفرح بالمنى
... ... ... ... ... ... ... كما اغتر باللذات في النوم حالم
... ... ... نهارك يا مغرور سهو وغفلة
... ... ... ... ... ... ... وليلُكُ نوم والرّدَى لك لازم
... ... ... وسعيك فيما سوف تكره غبَّه
__________
(1) الزمر : مفردها زمرة وهي الفوج والجماعة .
(2) انزجر : انقاد ـ أي أن الحيوانات تنقاد لراعيها إذا دعاها .
(3) الغُرر : غُرّة : وغرة القوم : شريفهم وسيدهم .
(4) ينبتر : انبتر : انقطع .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز ، عفت وصال صـ187 الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/81) .
(6) البداية والنهاية (12/707) .
(7) يبلى : يفنى .(4/2)
... ... ... ... ... ... ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم(1)
... وذات يوم نظر عمر بن عبد العزيز، وهو في جنازة إلى قوم قد تلثَّموا من الغبار والشمس، وانحازوا إلى الظلِّ، فبكى وأنشد:
... ... ... من كان حين تصيب الشمسُ جبهته
... ... ... ... ... ... ... أو الغبارُ يخاف الشَّينَ والشعثا
... ... ... ويألف الظلَّ كي تبقى بشاشته
... ... ... ... ... ... ... فسوف يسكن يوماً راغماً جدَثا
... ... ... في قعر مُظلمةٍ غبراء موحشةٍ
... ... ... ... ... ... ... يطيل في قعرها تحت الثَّرى لُبْثا
... ... ... تجهَّزي بجهاز تبلُغين به
... ... ... ... ... ... ... يا نفس قبل الرّدى لم تُخلقى عبثا(2)
22 ـ بين الشاعر دكين بن رجاء وعمر بن عبد العزيز:
__________
(1) البداية والنهاية (12/707) .
(2) البداية والنهاية (12/706) .(4/3)
... قال دكين: امتدحت عمر بن عبد العزيز وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة ناقة كرائم صعاب(1)، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنتشر عليَّ، ولم تطب نفسي ببيعها، فقدمت علينا رفقة من مُضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: إن خرجت في ليلتك، فقلت: إنّي لم أودِّع الأمير، ولا بدَّ من وداعه، قالوا: إنّه لا يحتجب عن طارق ليل، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت وعنده شيخان أعرفهما، فودّعته. فقال لي: يا دكين، إنَّ لي نفساً توّاقة فإن أنا صرت إلى أكثر ممّا أنا فيه، فبعَيْنٍ ما أرَيَنَّك، فقلت: أشهد لي عليك بذلك، فقال: أُشهد الله به، قلت: ومن خلقه؟ قال: هذين الشخصين، فأقبلت على أحدهما فقلت: من أنت أَعرفُك؟ قال: سالم بن عبد الله، قلت: لقد استسمنت الشاهد وقلت للآخر: من أنت؟ قال: أبو يحي مولى الأمير(2)، فخرجت بهنَّ إلى بلدي، فرمى الله في أذنابهنَّ بالبركة حتى اعتقدت منهنَّ الإبل والغلمان فإني لبصحراء فلج(3)، إذ ناعٍ ينعى سليمان بن عبد الملك، قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز، فتوجهت نحوه، فلقيني جرير بالطريق جائياً من عنده، فقلت: يا أبا حزرة من اين؟ فقال: من عند من يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، ولكن عوِّل عليه في مال ابن السبيل، فانطلقت فإذا هو في عرصة داره(4) قد أحاط به الناس، فلم يمكنِّي الرِّجْل إليه، فناديت:
... ... ... يا عمر الخيرات والمكارم
... ... ... ... ... ... ... وعُمر الدَّسائع العظائم(5)
... ... ... إنِّي امرءُ من قطن بن دارم
... ... ... ... ... ... ... أطلب دَيْنٍ من أخ مكارم
... ... ... إذ ننتجي والله غير نائم
... ... ... ... ... ... ... في ظلمة الليل وليل عاتم(6)
__________
(1) الصعاب : جمع صعبة، وهي نقيض الذلول : والصعبة التي لم
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/611) .
(3) فلج : موضع في الصحراء .
(4) عرصة الدار : وسطها .
(5) الدسائع : العطايا والراغب الواسعة .
(6) ننتجي : نتناجى .(4/4)
عند أبي يحيي وعند سالم
فقام أبو يحيي فقال: يا أمير المؤمنين، لهذا البدوي عندي شهادة عليك، قال: أعرفها: ادنُ منِّي يا دُكين، أنا كما ذكرت لك، إنَّ نفسي لم تنل أمراً إلا تاقت إلى ما هو فوقه، وقد نلت غاية الدنيا، فنفسي تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أموال الناس شيئاً فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما، فأمر لي بألف، فوالله ما رأيت ألفاً كان أعظم بركة منه(1). ودكين هو القائل:
... ... ... إذا المرء لم يدنس من اللُّؤم عِرضُهُ
... ... ... ... ... ... ... فكل رداء يرتديه جميل
... ... ... وإن هو لم يُضْرِع عن الُّلؤم نَفْسَهُ
... ... ... ... ... ... ... فليس إلى حسن الثَّناء سبيل(2)
ـ من معالم عمر بن عبد العزيز في التغيير الإجتماعي:
ومن خلال حياة عمر بن عبد العزيز الإجتماعية يمكننا معرفة معالم منهجه في التغيير الإجتماعي والتي من أهمها:
1 ـ القدوة:
... حيث ضرب من نفسه مثالاً رائعاً في الزهد والورع ومحاسبة النفس والأهل والعشيرة وإقامة الشرع على نفسه ومن حوله.
2 ـ التدرج والمرحلية:
... حيث أخذ بسنة التدرج في الإصلاح الإجتماعي، وإماتة البدع وإحياء السنن، كما مرّ معنا.
3 ـ فهم النفوس البشرية: ولهذا كان يتبع مع الناس أسلوب الحكمة والموعظة الحسنة، ويرّغب ويرهب، ويعطي شيئاً من الدنيا لتهدئة النفوس ثم أخذها للحق وإقامة العدل وإزالة الظلم.
4 ـ ترتيب الأولويات: فقد قدم رد المظالم على غيرها من الأعمال، ولهذا انتهج سياسة واضحة في رد المظالم، بدأ بنفسه، ثم أهله وعشيرته، وعزل الولاة الظلمة وعين الأخيار من أهل الكفاءة والأمانة والعلم، لإقامة العدل وتطبيق الشرع.. الخ.
__________
(1) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/612) .
(2) المصدر نفسه (2/612) .(4/5)
5 ـ وضوح الرؤية في خطواته الإصلاحية: حيث جدّد مفهوم الشورى وبيعة الحاكم وحق الأمة في الإختيار، عمل على توكيل الأمناء على الولايات، نشره للعدل في كافة الدولة، إحياؤه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حرصه على سلامة معتقد الأمة الصحيح ومحاربته للمعتقدات الفاسدة، إهتمامه بالعلماء وتوظيفه لخدمة الإسلام من خلال الدعوة والعلم والتعليم والتزكية،...الخ من الأعمال في مجال الاقتصاد، والسياسة والإجتماع حيث كان يملك رؤية إصلاحية تجديدية شاملة ـ كما سوف يتضح من خلال هذا الكتاب .
6 ـ التقيد بالقرآن الكريم والسنة النبوية: وهدي الخلفاء الراشدين في رؤيته الإصلاحية، وبذلك يمكننا القول بأن وضوح الرؤية انبثق من خلال ثوابت راسخة متمثلة في المرجعية الشرعية للرؤية الإصلاحية الشاملة التي قام بها عمر بن عبد العزيز، والتي من جوانبها الحياة الإجتماعية.
ثانياً : عمر بن عبد العزيز، والعلماء:(4/6)
كانت أيام سليمان بن عبد الملك بداية لمشاركة العلماء في مسؤوليات الدولة وقربهم من مصدر القرار السياسي وتأثيرهم فيه، فلما جاء عهد عمر بن عبد العزيز ـ أصبحت مشاركة العلماء في إدارة شؤون الدولة قوية فعالة، وشاملة متنوعة، فعلى رأس الدولة عمر وهو يعد من أبرز العلماء وكبار الفقهاء وساس الدولة، كعالم وليس كملك، وتوسعت دائرة مشاركة العلماء في عهده فبدأت في مركز اتخاذ القرار في العاصمة حيث أحاط عمر نفسه بجملة من العلماء للإشارة عليه ومعاونته وأبعد من سواهم، فأصبحوا فرسان الحلبة وحدهم، فساهموا في صياغة سياسة الدولة صياغة شرعية خالصة، وامتدت مشاركتهم في المسئولية إلى بقية مرافق الدولة، فأسندت إليهم مختلف المناصب والأعمال، ولا يعدو القول الحقيقة إذا قلنا إن الدولة في عهد عمر بن عبد العزيز كانت دولة العلماء، فهي نموذج لما ينبغي أن تكون عليه الدولة الإسلامية اتحدت فيها السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية على أحسن حال(1)، وقد اتسعت مشاركة العلماء في عهد عمر بن عبد العزيز بشكل لم يسبق له مثيل في الدولة الأموية، ويرجع السبب في ذلك إلى أمور، أهمها حرص عمر على تقريب العلماء وجعلهم بطانته ووزراءه وأعوانه، ويتعلق السبب الآخر بالعلماء حيث لم ير أحد من العلماء لنفسه أي مبرر في البعد عن عمر والمشاركة في أعماله، فمن كان منهم اعتزال الخلفاء والأمراء من منطلق أن على العلماء أن يصونوا العلم ولا يذهبوا للسلاطين ابتداء بل على السلاطين أن يقدروا العلم والعلماء ويسعوا إليهم، من كان يرى ذلك فقد تحقق له شرطه حيث كان عمر يقصد العلماء ويبعث إليهم، ومن كان يرى اعتزال الخلفاء والأمراء خوفاً على دينه من مخالطتهم لم يعد لهذا المحذور وجود حيث إن مجالس عمر ومخالطته تعين المرء على دينه، لهذا أخبر العلماء على عمر ورأوا أن من الواجب عليهم تحمل عبْ المسئولية الملقاة على عاتقه،
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ114 .(4/7)
ولم يعد لمعتذر عذر، بل اقبلوا عليه(1)، وقالوا كما ذكر ابن عساكر: ما يسعنا أن نفارق هذا الرجل حتى يخالف فعله قوله(2). فهذا ميمون بن مهران الذي يقول: لا تدخل على سلطان وإن قلت آمره بطاعة والذي يقول: لا تعرف الأمير ولا تعرف من يعرفه ومع هذا لا يجد لنفسه بداً من العمل عند عمر بن عبد العزيز ومشاركته(3). وتتجلى مشاركة العلماء في عهد عمر في عدة مظاهر أهمها:
1 ـ قربهم من الخليفة وشد أزره للسير في منهجه الإصلاحي:
__________
(1) المصدر نفسه صـ196 .
(2) مختصر تاريخ ابن عساكر نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ197 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء صـ197 .(4/8)
... أسهم العلماء في مساعدة عمر بن عبد العزيز في السير في منهجه الإصلاحي حيث أيدوه فيما اتخذه من قرارات إصلاحية، كما كان لبعضهم أثر في اتخاذ عمر لبعض تلك القرارات. فمن ذلك ما أثر على العالم العامل عراك بن مالك(1)، فقد ذكر ابن عمه أنه كان من اشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم، وقد تعرض بسبب هذا الموقف لغضب بني أمية فيما بعد فنفاه يزيد بن عبد الملك بعد توليه الخلافة إلى دهلك(2). وكان عراك بن مالك الغفاري شيخاً كبيراً ومحدثاً تابعي ثقة من خيار التابعين وكان زاهداً عابداً وقد انتفع به أهل تلك الجزيرة التي نفي إليها(3)، وكان هذا التابعي الجليل يسرد الصوم قال فيه عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً أكثر صلاة من عراك بن مالك، وقد مات في منفاه رحمه الله في إمرة يزيد بن عبد الملك عام 104هـ(4)، وكان ميمون بن مهران من المقربين من عمر بن عبد العزيز فقد روى ابنه عمر بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: ما زلت ألطف في أمر الأمة وأنا وعمر بن عبد العزيز حتى قلت له: ما شأن هذه الطوامير التي تكتب فيها بالقلم الجليل وهي من بيت المال، فكتب إلى الآفاق لتركه فكانت كتبه نحو شبر(5). وميمون بن مهران قال عنه الذهبي الإمام الحجة عالم الجزيرة ومفتيها(6)، وقال عنه عمر بن عبد العزيز: إذا ذهب هذا وضرباؤه، صار الناس بعده رجراجة(7)، وكان يكبر عمر بن عبد العزيز بعشرين سنة(8)
__________
(1) عراك بن مالك الغفاري المدني ، أحد العلماء العاملين.
(2) جزيرة في بحر اليمن ضيقة حرجة كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها ، سير أعلام النبلاء (5/64) .
(3) انتشار الإسلام في القرن الإفريقي خلال القرون الثلاثة الأولى للهجرة صـ38 ، 39 .
(4) سير أعلام النبلاء (5/64) .
(5) سير أعلام النبلاء (5/133) .
(6) سير أعلام النبلاء (5/71) .
(7) رجراجة : رعاع الناس وجهالهم ، سير أعلام النبلاء (5/72) .
(8) سير أعلام النبلاء(4/9)
، وكان ميمون بن مهران من علماء السلف ومن له مواقف وأقوال في نصرة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن أقواله: لا تجالسوا أهل القدر، ولا تسبوا أصحاب محمد صلى اله عليه وسلم، ولا تَعَلَّموا النجوم(1). وكتب ذات يوم إلى عمر بن عبد العزيز: إني شيخ كبير رقيق، كلَّفتني أن أقضي بين الناس، وكان على الخراج والقضاء بالجزيرة، فكتب إليه: إني لم أُكَلِّفك ما يُعنِّيك اجْب الطَّيَِبَ من الخراج، واقضي بما استبان لك، فإذا لُبس عليك شئ، ارفعه إليّ، فإن الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمرٌ تركوه لم يقم دين ولا دنيا(2). ومن أقوال ميمون بن مهران: لا يكون الرجل تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه، وحتى يعلم من أين ملبسه ومطعمه ومشربه(3). وقال: ثلاثة تُؤدَّى إلى البرِّ والفاجر: الأمانة، والعهد وصلة الرحم(4). قال رجل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب، ما يزال الناس بخير ما أبقاك الله لهم، قال: أقبل على شأنك: ما يزال الناس بخير ما اتقوا ربهم(5)، وقال:من أساء سراً، فليتب سراً، ومن أساء علانية، فليتب علانية، فإن الناس يعيرون ولا يغفرون، والله يغفر ولا يعيّر(6). وعن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره(7)، وعن أبي المليح قال: قال ميمون: إذا أتى رجل باب سلطان، فاحتجب عنه، فليأت بيوت الرحمن، فليصلي ركعتين، وليسأل حاجته(8)، وعن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلون نفسك بهنَّ: لا تدخل على السلطان، وإن قلت: آمره بطاعة الله، ولا تصغين بسمعك إلى هوى، فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه، ولا تدخل على امرأة ولو قلت: أعلمها كتاب
__________
(1) المصدر نفسه (5/73) .
(2) المصدر نفسه (5/74) .
(3) المصدر نفسه (5/74) .
(4) المصدر نفسه (5/74) .
(5) المصدر نفسه (5/75) .
(6) المصدر نفسه (5/75) .
(7) المصدر نفسه (5/75) .
(8) المصدر نفسه (5/75) .(4/10)
الله(1). وقال: ما نال رجل من جسيم الخير ـ نبي ولا غيره ـ إلا بالصبر(2). وتوفي ميمون رحمه سنة سبع عشرة ومائة(3)، وقيل سنة ست عشرة(4).
2 ـ تعهدهم عمر بالنصح والتذكير بالمسئولية: يعتبر عمر بن عبد العزيز أكثر خليفة وجهت إليه النصائح والتوجيهات في عهد بني أمية فقد شهد أكبر عدد من الرسائل بين الخليفة والعلماء ولو إستعرضنا أولئك العلماء الذين وجهوا النصح والتذكير لعمر وما كتبوه من رسائل لطال بنا الحديث، ولكن نذكر منهم على سبيل المثال، سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ومحمد بن كعب القرظي، وأبا حازم سلمة بن دينار، والقاسم بن مخيمرة وحسن البصري وغيرهم، وكانت نصائح العلماء تتضمن عدداً من التوجيهات التي لها صلة بمنهج عمر السياسي، مما يؤكد أن عمر بن عبد العزيز استقى منهجه من المنهل الذي نبعث منه هذه التوجيهات(5)، فمما جاء في موعظة محمد بن كعب القرظي:.. يا أمير المؤمنين أفتح الأبواب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، ورد الظالم(6)، وبمثل هذا المعنى جاءت موعظة القاسم بن مخيمرة حيث قال لعمر:.. بلغنا أن من ولي على الناس فاحتجب عن فاقتهم وحاجتهم احتجب الله عن فاقته وحاجته يوم يلقاه. قال عمر: فما تقول: ثم أطرق طويلاً وبرز للناس(7)، وجاء في إحدى رسائل الحسن البصري لعمر:... أما بعد يا أمير المؤمنين فكن للمثل أخاً وللكبير ابناً وللصغير أباً، وعاقب كل واحد منهم بذنبه على قدر جسمه، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتدخل النار(8)، وقد كان عمر كما سلف يحرص على تطبيق مثل هذا التوجيه ويأمر عماله بذلك(9)
__________
(1) المصدر نفسه (5/77) .
(2) سير أعلام النبلاء (5/78) .
(3) المصدر نفسه (5/78) .
(4) المصدر نفسه (5/78) .
(5) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ199 .
(6) المصدر نفسه صـ199 .
(7) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ113 ، لابن الجوزي .
(8) المصدر نفسه صـ103 .
(9) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ199 .(4/11)
، ومما جاء في رسالة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ المليئة بالتوجيهات:.. فإنه قد كان قبلك رجال عملوا وأحيوا ما أحيوا وأتوا ما أتوا حتى ولد في ذلك رجال ونشؤوا فيه وظنوا أنها السنة فسدوا على الناس أبواب الرخاء، فلم يسدوا منها باباً إلا فتح الله عليهم باب بلاء، فإن استطعت ـ ولا قوة إلا بالله ـ أن تفتح على الناس أبواب الرخاء فافعل، فإنك لن تفتح باباً إلا سد الله الكريم عنك باب بلاء يمنعك من نزع عامل أن تقول لا أحد يكفيني عمله، فإنك إذا كنت تنزع لله وتستعمل لله أتاح الله لك أعواناً فأتاك بهم. وجاء فيها أيضاً:.. فمن بعثت من عمالك إلى العراق فأنهه نهياً شديداً بالعقوبة عن أخذ الأموال وسفك الدماء إلا بحقها المال. المال يا عمر والدم فإنه لا نجاة لك من هول جهنم من عامل بلغك ظلمه ثم لم تغيره(1). وهذه التوجيهات هي عين سياسة عمر في السعي لإغناء رعيته وإنتقائه لعماله ومحاسبته لهم(2).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ103 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ199 .(4/12)
3 ـ مشاركتهم في تولي مختلف مناصب الدولة وأعمالها: لم تقتصر مشاركة العلماء لعمر بن عبد العزيز على الإشارة عليه وتقديم النصح له، بل تعدت ذلك إلى تولي عدد من المناصب في مختلف الأقاليم وأهم هذه المناصب وأكثرها أثراً في سياسة الدولة: الإمارة على الأقاليم، وبيت المال(1)، وحين نتتبع ولاة عمر على الأقاليم نجد أن جلهم من العلماء فمن ذلك: الإمام الثقة والأمير العادل عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب على ولاية الكوفة(2)، والعالم القدير أبو بكر بن عمر بن حزم على المدينة(3)، والإمام الكبير إسماعيل بن أبي المهاجر على إفريقية(4)، والفقيه المحدث عدي بن عدي الكندي على الجزيرة الفراتية وأرمينية وأذربيجان(5)، والإمام القاضي عبادة بن نسي على الأردن(6)، والثقة الصالح عروة بن عطية السعدي على اليمن(7)، والقاضي الفاضل سالم بن وابصة العبدي على الرقة(8)، وأما بيت المال فقد تولى العمل فيه عدد من العلماء ومنهم: العالم الجليل ميمون بن مهران على خراج الجزيرة(9)، والثقة الصالح صالح بن جبير الصدائي على الخراج لعمر بن عبد العزيز(10)، والعالم وهب بن منبه على بيت مال اليمن وأبو زناد وتولى عمر بن ميمون البريد لعمر بن عبد العزيز(11). ولا شك أنه كان لهذه المشاركة الواسعة من العلماء بتوليهم الإمارة، وبيوت الأموال في مختلف الأقاليم الأثر الكبير في ضبط شئون الدولة الإدارية والمالية وما ترتب على ذلك من آثار حسنة في الحياة السياسية في
__________
(1) المصدر نفسه صـ200 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/149) .
(3) المعرفة والتاريخ (1/645) .
(4) سير أعلام النبلاء _5/213) .
(5) مختصر تاريخ دمشق (16/32) .
(6) سير أعلام النبلاء (5/323) .
(7) تهذيب التهذيب (6/186) .
(8) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ201 .
(9) سيرة عمر لابن الجوزي صـ78 .
(10) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ202 .
(11) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ202 .(4/13)
عهد عمر بن عبد العزيز(1).
ثالثاً : المدارس العلمية في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
تحدثت في كتابي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن المدارس العلمية واتخاذه من عاصمة الدولة مدرسة يتخرج منها العلماء والدعاة والولاة والقضاة فنشطت المدارس العلمية في مكة والمدينة والبصرة والكوفة والشام ومصر وغيرها وأشرف الصحابة الكرام على تعليم وتربية الناس فيها، واستطاعت تلك المدارس أن تخرج كوادر علمية وفقهية ودعوية متميزة ساندت المؤسسة العسكرية التي قامت بفتح العراق وإيران والشام ومصر وبلاد المغرب، واستطاع علماء الصحابة الذين تفرغوا لدعوة الناس وتربيتهم أن ينشئوا جيلاً من العارفين للدين الإسلامي من أبناء المناطق المفتوحة، وقد استطاعوا أن يتغلبوا على مشكلة إعاقة الحاجز اللغوي، بل تعلم الكثير من الأعاجم لغة الإسلام، وأصبح كثير من رواد حركة العلم بعد عصر الصحابة من العجم، لقد أثرت المدارس العلمية والفقهية في المناطق المفتوحة، وشكلت جيلاً من التابعين نقلوا إلى الأمة علم الصحابة وأصبحوا من ضمن سلسلة السند التي نقلت للأمة كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويرجع الفضل ـ بعد الله ـ في نقل ما تلقاه الصحابة من علم من الرسول بالدرجة الأولى بعد الله إلى مؤسسي المدارس العلمية بمكة والمدينة والبصرة والكوفة وغيرها من الأقطار(2). وقد استمرت مدارس التابعين في النشاط العلمي في عهد الدولة الأموية وكثير من العلماء الذين تخرجوا من تلك المدارس أعانوا عمر بن عبد العزيز على مشروعه الإصلاحي التجديدي الراشدي المنضبط بمنهاج النبوة، ومن أهم تلك المدارس:
1 ـ مدرسة الشام:
__________
(1) المصدر نفسه صـ202 .
(2) الدور السياسي للصفوة صـ462 إلى 463 .(4/14)
... تأسست في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وأشهر مؤسسيها من الصحابة، معاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعباد بن الصامت رضي الله عنهم وحمل التابعون الراية العلمية والتربوية والدعوية بعد الصحابة ومن أشهرهم:
أ ـ الإمام الفقيه أبو إدريس الخولاني ، عائذ بن عبد الله:
... قاضي دمشق وعالمها، روى عن أبي الدرداء، وأبي هريرة وابن عباس وخلق غيرهم، كان أبو إدريس عالم الشام بعد أبي الدرداء قال: أدركت أبي الدرداء ووعيت عنه، وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ووعيت عنهما(1). كان أبو إدريس ثقة من أهل الفقه في الدين وعلم الحلال والحرام، وكان من أحسن الناس تلاوة للقرآن، فعن يزيد بن عبيدة أنه رأى أبا إدريس في زمن عبد الملك ابن مروان، وأن حلق المسجد بدمشق يقرؤون القرآن، يدرسون جميعاً، وأبو إدريس جالس إلى بعض العمد، فكلما مرت حلقة بآية سجدة بعثوا إليه يقرأ بها، وانصتوا له وسجد بهم جميعاً... حتى إذا فرغوا من قراءتهم قام أبو إدريس يقصُ(2). وعن يزيد بن أبي مالك، قال: كنا نجلس إلى أبي إدريس الخولاني فيحدثنا، فحدث يوماً عن بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استوعب الغزاة، فقال له رجل من ناحية المجلس: أحضرت هذه الغزوة؟ فقال: لا وقال الرجل: قد حضرتها مع رسول الله، ولأنت أحفظ لها مني(3)، وقد عزل عبد الملك بن مروان بلال بن أبي الدرداء عن القضاء ـ وولى أبا إدريس(4). ثم أن عبد الملك عزل أبا إدريس عن القصص، وأقره على القضاء، فقال أبو إدريس: عزلتموني عن رغبتي وتركتموني في رهبتي(5). توفي عام 80هـ(6).
ب ـ الفقيه قبيصة بن ذؤويب الدمشقي:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/275) .
(2) سير أعلام النبلاء (4/274) .
(3) المصدر نفسه (4/275) .
(4) المصدر نفسه (4/275) .
(5) المصدر نفسه (4/275) .
(6) المصدر نفسه (4/276) .(4/15)
... روي عن عمر بن الخطاب، وأبي الدرداء وعبد الرحمن بن عوف وخلق غيرهم. كان قبيصة من علماء التابعين ثقة مأموناً كثير الحديث، قال الشعبي: كان أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت(1)، قال عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة(2)، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤويب من علماء هذه الأمة(3)، توفي سنة 86هـ وقيل 87هـ، وقيل88هـ(4). وقد توسعت في ترجمته عند حديثي عن عبد الملك.
ج ـ رجاء بن حيوة الفلسطيني:
... من أجلة التابعين وشيخ أهل الشام حدث عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء وعباد بن الصامت وطائفة(5)، كان شامياً ثقة فاضلاً كثير العلم(6)، ويروى عن رجاء بن حيوة أنه قال: من لم يؤاخ إلا من لا عيب فيه قلَّ صديقه، ومن لم يرضى من صديقه بالإخلاص له دام سخطه ومن عاتب إخوانه على كل ذنب كثر عدوُّه(7). كان رجاء كبير المنزلة عند سليمان بن عبد الملك وعند عمر بن عبد العزيز وأجرى الله على يديه الخيرات، ثم أنَّه بعد ذلك أُخِّر، فأقبل على شأنه(8)، توفي سنة 112(9).
س ـ مكحول الشامي الدمشقي:
__________
(1) المصدر نفسه (4/283) .
(2) المصدر نفسه (4/283) .
(3) المصدر نفسه (4/283) .
(4) المصدر نفسه (4/283) .
(5) المصدر نفسه (4/559) .
(6) الفتوى : نشأتها وتطورها د. حسين الملاح صـ85 .
(7) سير أعلام النبلاء (4/558) .
(8) المصدر نفسه (4/560) .
(9) المصدر نفسه (4/561) .(4/16)
... عالم أهل الشام عداده في أواسط التابعين من أقران الزهري سمع من واثلة بن الأسقع وواثله آخر من مات من الصحابة بدمشق(1)، وتوفي عام 85هـ وله ثمان وتسعون سنة(2)، قال عنه الزهري: العلماء أربعة: سعيد بن المسيب بالمدينة والشعبي بالكوفة، والحسن بالبصرة، ومكحول بالشام(3). وكان مكحول أفقه أهل الشام، ولم يكن في زمنه أبصر بالفتيا منه(4)توفي 112هـ وقيل 113هـ وقيل غير ذلك(5).
ع ـ عمر بن عبد العزيز: ومن علماء المدرسة الشامية والمدينة وذلك بعد انتقاله إلى الشام وقيامه بأعباء الخلافة، وكان معروفاً بالفقه بصير بالسنة، يرجع إليه القضاة في الأمور التي يختلفون فيها(6). وقد بدأت بالمدرسة الشامية لأنها ترعرعت في عاصمة الخلافة الأموية.
__________
(1) المصدر نفسه (3/386) .
(2) المصدر نفسه (3/386) .
(3) المصدر نفسه (5/158) .
(4) المصدر نفسه (5/159) .
(5) المصدر نفسه (5/159، 160) .
(6) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/54) .(4/17)
س ـ بلال بن سعد السكوني: الإمام الرباني الواعظ أبو عمرو الدمشقي شيخ أهل دمشق كان لأبيه صحبة، كان بليغ الموعظة، حسن القصص نافعاً للعامة وكان لأهل الشام كالحسن البصري بالعراق وكان قارئ أهل الشام جهير الصوت(1)يقول الأوزاعي: لم أسمع واعظاً قط أبلغ من بلال بن سعد(2)، ومن مواعظه العميقة: يا أهل التُقى إنكم لم تُخلقوا للفناء وإنما تُنقلون من دار إلى دار، كما نُقلتم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى القبور، ومن القبور إلى الموقف، ومن الموقف إلى الخلود في جنة أو نار(3). ومن أقواله: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن أنظر من عصيت(4). وقال الأوزاعي سمعته يقول: والله لكفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا ونحن نرغب فيها(5). وقد توفي سنة نيف وعشرة ومائة.
2 ـ المدرسة المدنية:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/90، 91) .
(2) المصدر نفسه (5/91) .
(3) المصدر نفسه (5/91) .
(4) المصدر نفسه (5/91) .
(5) المصدر نفسه (5/92) .(4/18)
لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى كانت المدينة عاصمة الدولة الإسلامية وموطن الخلافة، وفيها تفتق عقل الصحابة في استخراج أحكام إسلامية، تصلح لما جد من شئون في المجتمعات الإسلامية، بعد الفتوح التي كثرت وفي عهد عمر بن الخطاب بلغ فقهاء الصحابة المفتون 130 مائة وثلاثين صحابياً وكان المكثرون منهم سبعة: عمر وعلي وعبد الله بن مسعود، وعائشة، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر(1)، وورث علماء التابعين الفقه والعلم والتربية والدعوة، وأما أشهر علماء التابعين: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسليمان بن يسار، ونافع مولى ابن عمر(2)، وقد تحدثت عن دور فقهاء وعلماء التابعين بالمدينة في نشأة عمر بن عبد العزيز.
3 ـ المدرسة المكية:
__________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/45) .
(2) الفتوى، د. حسين الملاح صـ81، 82 .(4/19)
احتلت هذه المدرسة المكانة في قلوب المؤمنين، الساكنين والثائبين على بلد الله الحرام، الحجاج والعمار والزوار، بل أخذت مكة بألباب كل مؤمن رآها أو تمنى أن يراها، ولقد كان العلم بمكة يسير زمن الصحابة، ثم كثر في أواخر عصرهم وكذلك في أيام التابعين، وزمن أصحابهم، كابن أبي نجيح، وابن جريج(1)، إلا أن مكة اختصت زمن التابعين بحبر الأمة وترجمات القران ابن عباس رضي الله عنهما الذي صرف جل همه، وغاية وسعه إلى علم التفسير، وربى أصحابه على ذلك، فنبع منهم أئمة كان لهم قصب السبق بين تلاميذ المدارس في التفسير، وقد ذكر العلماء مجموعة من الأسباب أدت إلى تفوق المدرسة المكية في هذا العلم وأهم هذه الأسباب والأساس فيها إمامة ابن عباس رضي الله عنهما وأستاذيته لها(2)، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة المكية.
أ ـ مجاهد بن جبر المكي:
__________
(1) المدينة النبوية فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/48) .
(2) تفسير التابعين (1/371) د. محمد الخضري .(4/20)
أخذ الفقه والتفسير عن ابن عباس وغيره من الصحابة، كان فقيهاً عالماً ثقة من أوعية العلم(1)، وعن مجاهد قال: عرضت القرآن ثلاث عرضات على ابن عباس، أَقِفُه عند كل آية، اسأله فيم نزلت، وكيف كانت(2)، وقال قتادة: أعلم من بقي بالتفسير مجاهد(3)، وقال مجاهد: صحبت ابن عمر وأنا أريد أن أخدمه فكان يخدمني(4)، وقدم مجاهد على سليمان بن عبد الملك ثم على عمر بن عبد العزيز، وشهد وفاته وعن مجاهد قال. قال لي عمر بن عبد العزيز في مرض وفاته: يا مجاهد ما يقول الناس فيّ قلت: يقولون مسحور، قال: ما أنا بمسحور، ثم دعا غلاماً له فقال: ويحك، ما حملك على أن سقيتني السُّمُّ؟ قال: ألف دينار أُعطيتها وأن أُعتق، قال: هاتها، فجاء بها، فألقاها في بيت المال وقال: اذهب حيث لا يراك أحد(5)، وقال مجاهد: ما أدري أي النعمتين أعظم، أن هداني للإسلام، أو عافاني من هذه الأهواء(6). قال الذهبي معلقاً على قول مجاهد: مثل الرّفض والقدر والتجهّم(7). وعن عبد الوهاب بن مجاهد، قال: كنت عند أبي فجاء ولده يعقوب فقال: يا أبتاه، إن لنا أصحاب يزعمون أن إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد. فقال: يا بني ما هؤلاء بأصحابي، لا يجعل الله من هو منغمس في الخطايا كمن لا ذنب له(8)، ومات مجاهد سنة اثنتين ومائة وهو ساجد(9)، وكان عمره ثلاث وثمانين سنة(10).
ب ـ عكرمة مولى ابن عباس:
__________
(1) الفتوى، د. حسين الملاح صـ80 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/451) .
(3) المصدر نفسه (4/451) .
(4) المصدر نفسه (4/452) .
(5) سير أعلام النبلاء (4/453) .
(6) المصدر نفسه (4/455) .
(7) المصدر نفسه (4/455) .
(8) المصدر نفسه (4/455) .
(9) طبقات ابن سعد (5/467) سير أعلام النبلاء (4/455) .
(10) سير أعلام النبلاء (4/456) .(4/21)
كان مكياً تابعياً ثقة من أعلم التابعين، روى عن ابن عباس، وعائشة وأبي هريرة وابن عمر، وابن عمرو، وعقبة بن عامر، وعلي بن أبي طالب(1)، قال: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس بالدار وعن عكرمة أن ابن عباس رضي الله عنه قال له: انطلق فأفت الناس وأنا لك عون، قلت: لو أن هذا الناس ومثلهم مرتين لأفتيتهم. قال ابن عباس: انطلق فأفتهم فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته ومن سألك عما لا يعنيه فلا تُفته، فإنك تطرح عنك ثلثي مؤونة الناس(2)، وكان عكرمة كثير الأسفار ونزل على عبد الرحمن الحسّاس الغافقي، وصار إلى إفريقية(3)، وقد اتهم عكرمة بالصفرية فرقة من فرق الخوارج ولم تثبت هذه التهمة بسند صحيح وإنما بصيغة يقال(4)، وقد دافع علماء الجرح والتعديل عن عكرمة، كابي حاتم الرازي، وابن حبان، والعجلي، وابن منده وابن عبد البر ونقل ذلك ابن حجر في مقدمة الفتح وقال: لا تثبت عنه بدعة(5). وقال البخاري: ليس أحد من أصحابنا إلا هو يحتج بعكرمة(6)، توفي سنة 105هـ(7).
ج ـ عطاء بن أبي رباح:
__________
(1) المصدر نفسه (5/13) .
(2) المصدر نفسه (5/15) .
(3) المصدر نفسه (5/15) .
(4) براءة السلف مما نسب إليهم من انحراف في الاعتقاد صـ39 .
(5) مقدمة الفتح صـ428 .
(6) سير أعلام النبلاء (5/31) .
(7) المصدر نفسه (5/34) .(4/22)
مفتي الحرم وأحد الفقهاء الأئمة روى عن ابن عباس وأبي هريرة وأم سلمة وعائشة ورافع بن خديج وزيد بن أرقم وابن الزبير، وابن عمرو وابن عمر وجابر ومعاوية وأبي سعيد وعدة من الصحابة(1). وكان ثقة فقيهاً عالماً كثير الحديث انتهت إليه فتوى أهل مكة. قال عنه ابن عباس: يا أهل مكة تجتمعون علي وعنكم عطاء، ولسعة علمه وجلالة قدره كانوا في عهد بني أمية يأمرون في الحج منادياً يصيح لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح توفي سنة 115 هـ(2). هؤلاء بعض علماء التابعين من المدرسة المكية الذين نهضوا بعبء الدعوة والتعليم وإتمام البناء العلمي(3).
4 ـ المدرسة البصرية:
وهي منافسة للكوفة في كل الفنون، وقد نزلها من الصحابة جمع كثير، منهم أبو موسى الأشعري، وعمران بن حصين وأنس بن مالك وغيرهم، ويعتبر أنس بن مالك رضي الله عنه شيخ السادة من علماء التابعين أمثال الحسن البصري، وسليمان التيمي، وثابت البناني، وربيعة بن أبي عبد الرحمن، وإبراهيم بن أبي ميسرة، ومحمد بن سيرين، وقتادة وغيرهم(4). ومن أشهر علماء المدرسة البصرية:
أ ـ محمد بن سيرين البصري:
__________
(1) المصدر نفسه (5/79) .
(2) الفتوى د. حسين الملاح صـ81 ، سير أعلام النبلاء (5/78) .
(3) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/41) .
(4) تفسير التابعين (1/4239 عمر بن الخطاب للصَّلاَّبيِّ صـ260 .(4/23)
كان مولى أنس بن مالك، سمع من ابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة وخلق سواهم(1)، وعن حبيب بن الشهيد قال: كنت عند عمرو بن دينار فقال: والله ما رأيت مثل طاووس، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله(2)، وقال عثمان البتي: لم يكن بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين(3). وكان الحسن البصري يقدمه على غيره، فعن ثابت البُناني، قال: كان الحسن متوارياً من الحجّاج فماتت بنت له، فبادرت إليه رجاء أن يقول لي صلّ عليها، فبكى حتى ارتفع نحيبه، ثم قال لي: اذهب إلى محمد بن سيرين، فقل له ليُصل عليها، فعرف حين جاء الحقائق، أنه لا يعدل بابن سيرين أحداً(4). وكان محمد بن سيرين يصوم يوماً ويفطر يوماً(5)، وكان قد أشتهر بتفسير الأحلام وهو اشهر من أن يعرف في هذا الباب قال عنه الذهبي: قد جاء عن ابن سيرين في التعبير عجائب، وكان له في ذلك تأييد الهي(6). وكان يلبس الثياب الثمينة والطيالس والعمائم(7)، وكان صاحب ضحك ومزاح(8)وكان باراً بأمه قالت حفصة بنت سيرين: كانت والدة محمد حجازية وكان يعجبها الصبغ، وكان محمد إذا أشترى لها ثوباً أشترى ألين ما يجد، فإذا كان عيد، صبغ لها ثياباً وما رأيته رافعاً صوته عليها، كان إذا كلمها كالمصغي إليها(9)، وعن ابن عون، أن محمداً كان إذا كان عند أمه لو رآه رجل لا يعرفه ظن أن به مرضاً من خفض كلامه عندها(10). وقال ابن عون: كانوا إذا ذكروا عند محمد رجلاً بسيئة ذكره هو بأحسن ما يعلم. وجاءه ناس فقالوا: إنا نلنا منك فاجعلنا في حلّ، قال: لا أُحلّ لكم شيئاً حرّمه الله(11). توفي ابن
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/606) .
(2) المصدر نفسه (4/608) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/608) .
(4) المصدر نفسه (4/610) .
(5) المصدر نفسه (4/615) .
(6) المصدر نفسه (4/618) .
(7) المصدر نفسه (4/619) .
(8) المصدر نفسه (4/613) .
(9) المصدر نفسه (4/619) .
(10) المصدر نفسه (4/620) .
(11) المصدر نفسه (4/620) .(4/24)
سيرين بعد الحسن البصري بمئة يوم، سنة عشر ومئة(1).
ب ـ قتادة بن دعامة السدوسي:
كان من أوعية العلم، روى عن بعض الصحابة وكبار التابعين وكان ثقة حجة في الحديث(2)، قال عنه أحمد بن حنبل: كان قتادة عالماً بالتفسير وباختلاف العلماء ثم وصفه بالفقه والحفظ وقال: قلما تجد من يتقدمه(3). وقال: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئاً إلا حفظه قرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها(4). قال سلام بن مطيع: كان قتادة يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث(5). قال عنه الذهبي: حافظ العصر، قدوة المفسرين والمحدثين(6)، كان رأساً في العربية والغريب وأيام العرب وأنسابها(7)، وكان من تلاميذ الحسن البصري، وجالسه اثنتي عشرة سنة وصلى معه الصبح ثلاث سنين(8)، توفي سنة ثماني عشرة ومائة(9).
5 ـ المدرسة الكوفية:
... نزل الكوفة ثلاثمائة من أصحاب الشجرة، وسبعون من أهل بدر رضي الله عنهم أجمعين، وقد اهتم عمر بالكوفة ووجه عبد الله بن مسعود واجتهد ابن مسعود في إيجاد جيل يحمل دعوة الله فهماً وعلماً وكان له الأثر البالغ في نفوس الملازمين له، أو من جاء بعدهم، وقد اشتهر مجموعة من تلاميذ ابن مسعود بالفقه والعلم والزهد والتقوى منهم، علقمة بن قيس، مسروق بن الأجدع، عبيدة السلماني، الأسود بن يزيد، ومرة الجعفي(10) وغيرهم، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة الكوفية:
أ ـ عامر بن شرحبيل الشعبي:
__________
(1) المصدر نفسه (4/621) .
(2) الفتوى د. حسين الملاح صـ84 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/276) .
(4) المصدر نفسه (4/277) .
(5) المصدر نفسه (4/276) .
(6) المصدر نفسه (4/270) .
(7) المصدر نفسه (4/277) .
(8) المصدر نفسه (4/283) .
(9) المصدر نفسه (4/283) .
(10) فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب صـ264 .(4/25)
... كان علامة عصره ومن أفقههم، روى عن عائشة وابن عمر وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر وجمهرة غيره حتى قيل أنه أدرك خمسمائة من الصحابة(1)، لذلك كان صاحب آثار كثير العلم والفقه. قال محمد بن سيرين: لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون بالكوفة ورغم هذا العلم الواسع فقد كان ينقبض عند الفتوى، وكثيراً ما يقول لا أدري، لأنه كان يعتبرها نصف العلم(2).، وقد قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء، ولكنّا سمعنا الحديث فرويناه ولكن الفقهاء من إذا علم عمل(3)، ومن نكاته اللاذعة، ما رواه الأعمش قال: أتى رجل الشعبيَّ، فقال: ما اسم امرأة أبليس؟ قال: ذاك عرس ما شهدته(4)، توفى سنة أربع ومائة وقيل ست ومائة وقيل خمس ومائة(5).
ب ـ حمّاد بن أبي سلمة:
... فقيه أهل العراق، روى عن أنس بن مالك وتتلمذ على يدي إبراهيم النخعي وهو أنبل أصحابه وأفقههم وأقيسهم وأبصرهم بالمناظرة(6). وكان أحد العلماء الأذكياء والكرام الأسخياء، له ثروة وحشمة وتجمُّل(7)، وكان أفقه أهل الكوفة عليّ وابن مسعود وأفقه أصحابها علقمة، وكان أفقه أصحابه إبراهيم، وأفقه أصحاب إبراهيم حماد، وأفقه أصحاب حماد أبو حنيفة، وأفقه أصحابه أبو يوسف، وانتشر أصحاب أبي يوسف في الآفاق، وأفقههم محمد، وأفقه أصحاب محمد أبو عبد الله الشافعي(8) رحمهم الله تعالى. وقد توفي حماد سنة عشرين ومائة(9).
6 ـ المدرسة اليمنية:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/298) .
(2) الفتوى د. الملاح صـ83 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/303) .
(4) المصدر نفسه (4/312) .
(5) المصدر نفسه (4/318) .
(6) الفتوى د.الملاح صـ83 .
(7) سير أعلام النبلاء (4/231) .
(8) المصدر نفسه (4/236) .
(9) المصدر نفسه (4/236) .(4/26)
... من أشهر علمائها من الصحابة الذين ساهموا في دخول الإسلام فيها معاذ بن جبل، علي بن أبي طالب وأبو موسى الأشعري وغيرهم ، ومن أراد التوسع فليراجع الرسالة العلمية للدكتور عبد الله الحميري، الحديث والمحدثون في اليمن في عصر الصحابة، ومن أشهر علماء التابعين في المدرسة اليمنية:
أ ـ طاووس بن كيسان:
... فقيه أهل اليمن وقدوتهم، وأعلمهم بالحلال والحرام من سادات التابعين، روى عن ثلة من الصحابة الكرام، كزيد بن ثابت وأبي هريرة، وزيد بن أرقم، وابن عباس وهو معدود من كبراء أصحابه(1). وروى عن معاذ مرسلاً(2). كان من أبناء الفرس الذين جهزهم كسرى لأخذ اليمن له(3)، كان فقيهاً جليلاً بركة لأهل اليمن(4). أدرك خمسين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(5). قال له عمر بن عبد العزيز في عهد سليمان: أرفع حاجتك إلى أمير المؤمنين. قال: ما لي إليه حاجة فكأن عمر عجب من ذلك(6). ومن أقواله: لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج(7). وقال: البخل أن يبخل الرجل بما في يديه، والشح أن يحب أن يكون له ما في أيدي الناس(8). وقال عنه قيس بن سعد الطاووس فينا مثل ابن سيرين فيكم. وقال بن المديني: كان سفيان لا يعدل من أصحاب ابن عباس بطاووس أحد(9). وكان رحمه معتزلاً الأمراء والسلاطين إلا إذا أكره على عمل لهم، وإذا طلب أداء نصيحة فإنه لا يجامل أحداً ويصدع بالحق، توفي بمكة سنة ست ومائة للهجرة(10).
ب ـ وهب بن منبه:
__________
(1) المصدر نفسه (5/39) .
(2) المصدر نفسه (5/39) .
(3) المصدر نفسه (5/38) .
(4) الفتوى نشأتها وتطورها ـ أصولها وتطبيقاتها صـ85 .
(5) سير أعلام النبلاء (5/43) .
(6) المصدر نفسه (5/41) .
(7) المصدر نفسه (5/42) .
(8) المصدر نفسه (5/48) .
(9) الطبقات (5/541) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ666 .
(10) سير أعلام النبلاء (5/49) .(4/27)
... أبو عبد الله وهب بن منبه من أبناء فارس كان ينزل ذمار(1). وكان ممن قرأ الكتب ولزم العبادة وواظب على العلم وتجرد للزهادة(2). وقال عنه الذهبي: الإمام العلامة، الأخباري القصصي. وقال العجلي: تابعي ثقة كان على قضاء صنعاء وذكره شيرازي في فقهاء التابعين باليمن(3). وكان صاحب حكمة وفطنة، وكان له أثر في محاربة الخوارج في اليمن وتحذير الناس من آرائهم(4)، وإليك حواره مع أبي شمَّر الخولاني لما دخل على وهب بن منبه برفقة داود بن قيس، وتكلم داود لوهب وقال عن صاحبه أبي شمّر الخولاني إنه من أهل القرآن والصلاح، والله أعلم بسريرته، فأخبرني أنه عرض له نفر من أهل حروراء ـ يعني الخوارج ـ فقالوا له: زكاتك التي تؤديها إلى الأمراء لا تجزئ عنك، لأنهم لا يضعونها في موضعها، فأدها إلينا، ورأيت يا أبا عبد الله أن كلامك أشفى له من كلامي، فقال: يا ذا خولان أتريد أن تكون بعد الكبر حرورياً تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟ فماذا أنت قائل لله غداً حين يقفك الله؟ ومن شهدت عليه، فالله يشهد له بالإيمان، وأنت تشهد عليه بالكفر، والله يشهد له بالهدى وأنت عليه بالضلالة، فأين تقع إذا خالف رأيك أمر الله وشهادتك شهادة الله؟ أخبرني يا ذا خولان ماذا يقولون لك؟ فتكلم عن ذلك وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدق إلا على من يرى رأيهم ولا أستغفر إلا له، فقال: صدقت، هذه محنتهم الكاذبة، فأما قولهم في الصدقة، فإنه قد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرة ربطتها(5)، أفإنسان مما يعبد الله يوحده ولا يشرك به أحب إلى الله أن يطعمه من جوع أو هرة؟ واله يقول: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
__________
(1) ذمار : مدينة باليمن على مرحلتين من صنعاء.
(2) علماء الأمصار للبستي صـ123 .
(3) طبقات الفقهاء صـ66 .
(4) ثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ667 .
(5) مسلم رقم 2242 .(4/28)
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)) (الإنسان ، الآية : 8). وأما قولهم لا يستغفر إلا لمن يرى رأيهم أهم خير أم الملائكة، والله يقول: ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ)) (الشورى ، الآية : 5) فوالله ما فعلت الملائكة ذلك حتى أمروا به ((لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)) (الأنبياء ، الآية : 27). وجاء ميسراً ((وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)) (غافر ، الآية : 7)، واستمر معه في الحوار والنقاش إلى أن قال ذو خولان: فما تأمرني؟ قال: انظر زكاتك فأدها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة، وجمعهم عليهم، فإن الملك من الله وحده وبيده يؤتيه من يشاء فإذا أديتها إلى والي الأمر برئت منها، وإن كان فضل فصل به أرحامك ومواليك وجيرانك والضيف، فقال: أشهد إني نزلت عن رأي الحرورية(1). توفي وهب رحمه الله سنة عشر ومائة في خلافة هشام بن عبد الملك(2)، وقيل إن يوسف بن عمر والي اليمن ضربه حتى قتله(3)، ولعل ذلك بسبب موقف وهب من جور يوسف بن عمر المشهور بعنفه وظلمه(4).
7 ـ المدرسة المصرية:
... تكونت في مصر مدرسة كان شيوخها من الصحابة الذين رحلوا إليها أيام الفتح ونزلوا في موضع الفسطاط والأسكندرية، ومن هؤلاء عمرو بن العاص، عبد الله بن عمرو بن العاص، الزبير بن العوام، وكان من أكثر الصحابة تأثيراً في مصر عقبة بن عامر رضي الله عنه(5)، وغير ذلك من الصحابة يرجع إليهم الفضل في دعوة الناس وتوجيههم نحو دينهم(6)، وجاءت طبقة التابعين، وكان منهم أئمة ودعاة، ومن هؤلاء:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/555) الحرورية : الخوارج .
(2) سير أعلام النبلاء (4/556) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ667 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/556) .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ667 .
(5) عمر بن الخطاب للصلاّبّيّ صـ270 .
(6) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/57) .(4/29)
... يزيد بن أبي حبيب: الإمام الحجة، مفتي الديار المصرية أبو رجاء الأزدي كان من جلة العلماء العاملين، ارتفع بالتقوى مع كونه مولى أسود(1). قال عنه الليث بن سعد: يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا(2). توفي سنة ثمان وعشرين ومائة(3).
8 ـ مدرسة شمال إفريقيا:
... دخل القادة الفاتحون شمال إفريقيا وكان على رأسهم عمرو بن العاص ثم عبد الله بن سعد بن أبي السرح رضي الله عنهم ثم تابع معاوية بن حديج فتح إفريقية، وولى معاوية بن أبي سفيان على مصر وإفريقية، وجاء بعده عقبة بن نافع الفهري فاختط مدينة القيروان، وسار في الناس سيرة حسنة وكان من خيار الولاة والدعاة، الذين جاهدوا ودعوا بالسيف والكلمة ثم قام على إفريقية ولاة صالحون ساروا على النهج نفسه(4). وفي عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز بعث إسماعيل بن أبي المهاجر والياً على إفريقية سنة مائة، فكان داعية إلى الإسلام بلسانه وأعماله وأخلاقه، فأحبه الناس، وأحبوا دينه، وحرص على دعوة البربر إلى الإسلام، فاستجابوا لدعوته، وأسلموا على يديه، واهتم إسماعيل بتعليم الناس أحكام الشريعة، وتفقيههم في الحلال والحرام وكان عمر بن عبد العزيز بعث معه عشرة من التابعين من أهل العلم والفضل، وأهل إفريقية يومئذ من الجهل بحيث لا يعرفون أن الخمر حرام حتى وصل هؤلاء فعلموا الناس الحلال والحرام(5)، وسيأتي الحديث عن الفقهاء العشرة في محله بإذن الله ومن خلال ما سبق من الحديث عن المدارس العلمية يظهر أهمية توريث العلم والخبرات الدعوية عند السلف وامتداد ذلك يشمل أقاليم الدولة الإسلامية ونستفيد أيضاً أهمية تفريغ مجموعة من أذكياء الأمة للتعلم والتعليم والافتاء والإرشاد والوعظ ونشره
__________
(1) سير أعلام النبلاء (6/31) .
(2) المصدر نفسه (6/32) .
(3) المصدر نفسه (6/32) .
(4) البيان المغرب للمراكشي (1/19) الدعوة إلى الله (1/61) .
(5) المصدر نفسه (1/48) الدعوة إلى الله في العصر العباسي الأول (1/62) .(4/30)
بين الناس.
رابعاً : منهج التابعين في تفسير القرآن الكريم:
سلك التابعون منهاجاً واضحاً في تفسير القرآن الكريم، فكانوا يفسرون القرآن بالقرآن، والقرآن بالسنة، والقرآن بأقوال الصحابة، واللغة العربية، والاجتهاد وقوة الاستنباط
1 ـ تفسير القرآن بالقرآن:
تعددت طرق التابعين في تفسير القرآن بالقرآن ومن هذه الطرق:
أ ـ نظائر القرآن الكريم: كتفسير الآية بآية أخرى تحمل الموضوع نفسه وإن اختلف اللفظ وقد أكثر التابعون من ذلك ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير الكلمات في قوله تعالى: ((فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) (البقرة، الآية:37). قال: قوله((قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا)) (الأعراف، الآية23). حتى فرغ منها(1). وجاء عن عكرمة، والحسن في تفسير قوله تعالى: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)) (الإسراء، الآية:110). قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى يجهر بصلاته، فآذى ذلك المشركين بمكة حتى أخفى صلاته هو وأصحابه، فلذلك قال: ((وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)). وقال في الأعراف: ((وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ)) (الأعراف، الآية:205). وفي تفسير قوله تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))(البقرة، الآية:94) .قال قتادة: وذلك أنهم قالوا: ((لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى)) (البقرة، الآية:111). وقالوا: ((نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ
__________
(1) تفسير الطبري (1/545) زاد المسير (1/69) .(4/31)
وَأَحِبَّاؤُهُ)) (المائدة، الآية:18). فقيل لهم((فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))(1)(البقرة ، الآية : 94).
ب ـ الأشباه: والمراد بالأشباه تفسير الآية بما يشبهها من الآيات كتفسير الآية بالآيات التي تحمل بعض معناها مع تقارب اللفظ(2)، فمن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير النفس بالغير، فإنه قال في تفسير قوله تعالى: ((لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا)) (النور، الآية:12). قال لهم خيراً، ألا ترى أنه يقول((وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ)) (النساء، الآية:29). يقول: بعضكم بعضا و((فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) (النور، الآية:61). قال يسلم بعضكم على بعض(3). ففسر مجاهد هنا النفس بالغير واستدل بورود ذلك في آيات متشابهة في القرآن تدل على هذا الجزء من المعنى(4).
ج ـ الدلالة على التفسير بالسياق: وفي هذا النوع يلحظ المفسّر منهم سياق الآية فيربطها بما قبلها، أو بما بعدها سواء كان ذلك في الآية نفسها، أو في مجموعة من الآيات(5)، مثل تفسير قوله تعالى: ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)) (الأنعام ، الآية : 83). قال مجاهد في تفسيرها: هي ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ (6)) (الأنعام ، الآية : 82).
__________
(1) فتح القدير (1/116) تفسير التابعين (2/614) .
(2) تفسير التابعين (2/615) .
(3) تفسير الطبري (18/96) تفسير التابعين (2/615) .
(4) تفسير التابعين (2/616) .
(5) المصدر نفسه (2/617) .
(6) تفسير الطبري (11/505) .(4/32)
ح ـ بيان المجمل: وفي هذا الطريق يقوم المفسر بالنظر في آيات القرآن التي فيها إجمال، وينظر في الآيات الأخرى التي يمكن أن تكون بياناً لهذا الإجمال، كحمل المجمل على المبين ومن ذلك ما ورد عن مجاهد في تفسير قوله تعالى: ((خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا)) (نوح ، الآية : 14): قال : من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم ما ذكر حتى يتم خلقه(1). فأشار بقوله إلى الآيات التي فيها ذكر ذلك مثل قوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)) (المؤمنون ، الآيات 12 ، 14).
__________
(1) تفسير الطبري (29/26) الدر المنثور (8/291) .(4/33)
خ ـ تفسير العام بالخاص: وفي هذا يعمد المفسر منهم إلى آية ظاهرها العموم فيحملها على معنى آخر ذكرت فرداً من أفراد العموم(1)، كقوله تعالى : ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء ، الآية : 123). قال الحسن البصري: الكافر ثم قرأ: ((وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) قال: من الكفار(2). وفي رواية عنه قال: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ)) يعني الكفار، لا يعني بذلك أهل الصلاة(3). فالآية الأولى جاء فيها العموم في لفظة ((من)) ليعم المؤمن والكافر، فجاء الحسن فبين أنها خاصة بالكافر مستدلاً بأسلوب الحصر في الآية الثانية(4). وأصرح من ذلك ما جاء عنه في تفسير الآية نفسها أنه قال: ((مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ)) (النساء ، الآية : 123) إنما ذلك لمن أراد الله هوانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ)) (الأحقاف ، الآية : 16(5).
ر ـ التفسير باللازم: المراد بالتفسير باللازم أن المفسر لا يذكر صراحة تفسيراً للآية التي هو بصددها، بل يذكر شيئاً من لوازم ذلك، ويربطه بآية أخرى، فمن ذلك ما جاء عن سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)) (البقرة ، الآية 156)، فقد قال: لو أعطيها أحد لأعطيها يعقوب، ألم تسمع: ((يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ (6)) (يوسف ، الآية : 84). أنه لم يكن يعرف ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ))، وإلا لقالها، بدلاً من تأسفه على ذهاب يوسف(7).
__________
(1) تفسير التابعين (2/621) .
(2) تفسير الطبري (9/237) زاد المسير (2/210) .
(3) تفسير الطبري (9/238) .
(4) تفسير التابعين (2/623) .
(5) تفسير التابعين (2/623) .
(6) تفسير الطبري (3/224) .
(7) تفسير التابعين (2/623) .(4/34)
ز ـ توضيح المبهم: ومن طرق التفسير التي اتبعها التابعون ـ أيضاً ـ إيضاح مبهم آية بآية أخرى لإزالة الإبهام(1)، ومن ذلك ما قام به عكرمة من رفع الإبهام الواقع في لفظه ((الحين)) استدل بالآية التي تبين أن المراد منه سنة فعنه أنه قال: أرسل إليّ عمر بن عبد العزيز فقال: يا مولى ابن عباس: إني حلفت أن لا أفعل كذا وكذا حيناً، فما الحين الذي تعرف به؟ قلت: إن من الحين حيناً لا يدرك، ومن الحين حين يدرك، وأما الحين الذي لا يدرك فقول الله: ((هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا)) (الإنسان ، الآية : 1). والله ما يدري كم أتى له إلى أن خلق، وأما الذي يدرك فقوله: ((تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا)) (إبراهيم ، الآية : 25). فهو ما بين العام إلى العام المقبل، فقال: أصبت يا مولى ابن عباس، ما أحسن ما قلت(2).
س ـ بيان معنى (لفظ)، أو إيضاح مشكلة: وقد كثر هذا النوع في تفسير التابعين فصاروا يتناولون آيات القرآن بالتفسير بآيات أخرى تبين هذا المعنى، وتلكم الألفاظ(3)، ومثال ذلك كتفسير الحسن البصري ((يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ)) (النازعات ، الآية : 6). قال: النفختان، أما الأولى فتميت الأحياء، وأما الثانية فتحي الموتى ثم تلا الحسن: ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(4)) (الزمر ، الآية : 68). والأمثلة كثيرة على تفسير التابعين للقرآن بالقرآن، ومن أراد المزيد فليراجع تفسير التابعين(5).
__________
(1) المصدر نفسه (2/624) .
(2) تفسير الطبري (16/581) .
(3) تفسير الطبري (2/626) .
(4) تفسير الطبري (30/31) ، تفسير التابعين (2/627) .
(5) تفسير التابعين (2/608 إلى 627) .(4/35)
2 ـ تفسير القرآن بالسنة: لا شك أن السنة مبينة للقرآن موضحة له قال الشاطبي: وهي راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله وبيان مشكله، وبسط مختصره(1)، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم بكلام الله وأكثر قدرة على فهم نصوص الآيات من غيره مع ما أوحاه الله تعالى من المعاني، فهو صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) (النجم ، الآية : 3)، وقال صلى الله عليه وسلم: ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه(2). يقول ابن تيمية: فإن قال قائل، فما أحسن طرق التفسير؟ فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن... إلى أن يقول ـ فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، قال تعالى: ((إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)) (النساء ، الآية : 105) . وقال تعالى : ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (النحل ، الآية : 44). وقال تعالى: ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (النحل ، الآية : 64(3). وقد اتفق العلماء على أن الأخذ بالسنة واجب والعمل بها حتم وتحكيمها فرض بل جاء عن مكحول التابعي أنه قال: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن(4). وقد كثر عن التابعين النقول التي تدل على شدة متابعتهم للسنة، قال ربيعة للزهري:
__________
(1) المصدر نفسه (2/628) الموافقات (4/12) .
(2) سنن أبي داود رقم 4604 .
(3) الفتاوى (13/363) .
(4) تفسير التابعين (2/629) تفسير القرطبي (1/30) .(4/36)
إذا سُئلت عن مسألة فكيف تضع؟ قال: أحدث فيها بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم فعن أصحابه، فإن لم يكن عن أصحابه اجتهدت رأيي(1)، ومما يدل على عظيم احتفائهم وعنايتهم بالمروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قل أن نجدهم يخالفون ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من تفسيره وفيما يلي بعض الأمثلة الدالة على ذلك:
أ ـ فمن هذا ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)) (الفاتحة، آية:6). قال صلى الله عليه وسلم: اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضلال(2). وبذلك فسرها: مجاهدٍ(3)، وسعيد بن جبير(4)وغيرهما. قال ابن حاتم: لا أعلم خلافاً بين المفسرين في تفسير((الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)) باليهود، و((الضَّالِّينَ)) بالنصارى (5).
ب ـ ومنه أيضاً ما صح عنه صلى الله عليه وسلم في بيان قوله: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) (البقرة ، الآية 187). قال صلى الله عليه وسلم: هو سواد الليل وبياض النهار(6)، ولم يخالف في ذلك أحد من التابعين وبه قال الحسن(7)، وقتادة(8).
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله (2/75) تفسير التابعين (2/637) .
(2) موار الظمآن في زوائد ابن حبان رقم 224 .
(3) تفسير الطبري (1/188) .
(4) الدر المنشور (1/41) .
(5) تفسير ابن أبي حاتم رقم22، تفسير التابعين (2/638) .
(6) البخاري ، ك التفسير الفتح (8/182) .
(7) تفسير الطبري (3/510) .
(8) تفسير الطبري (3/510) .(4/37)
جـ ـ من ذلك ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام في تفسير معنى الظلم الذي ورد في قوله تعالى: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)) (الأنعام ، الآية : 82). قال صلى الله عليه وسلم حين شق ذلك على أصحابه فقالوا: أيُّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال: ليس بذلك ألم تسمعوا قول لقمان: ((إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم (1)). وهذا هو المنقول عن التابعين قال به: إبراهيم النخعي، وقتادة، ومجاهد، وسعيد بن جبير(2).
س ـ ومنه ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم في تفسير للسبع المثاني في قوله تعالى: ((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ)) (الحجر ، الآية : 87). قال صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد بن المعلى: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج، فذكرته، فقال: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته(3). وهذا التفسير هو المروي عن سعيد بن جبير والحسن، ومجاهد، وقتادة(4).
ش ـ ومن ذلك بيانه صلى الله عليه وسلم لمعنى: الأمة الوسط، التي وردت في قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) (البقرة، آية: 143). ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)) قال((عَدُولاً))(5)وبهذا التفسير قال: مجاهد، وعطاء وقتادة(6). هذه بعض الأمثلة التي اعتمدها التابعون في تفسير القرآن الكريم بالسنة النبوية.
3 ـ تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
__________
(1) البخاري ، ك التفسير الفتح (8/294) .
(2) تفسير التابعين (2/639) .
(3) البخاري ، ك التفسير الفتح (8/381) .
(4) تفسير التابعين (2/641) .
(5) مجمع الزوائد (6/316)رواه أحمد (3/9) صحيح .
(6) تفسير التابعين (2/641) .(4/38)
... إن التابعين ما علموا كيفية التلقي من الكتاب والسنة وكذلك الاجتهاد، ونحو ذلك إلا بسبب تربيتهم على أيد الصحابة وخبرتهم بمناهجهم الاستدلالية، وتعلمهم لطرق الاستنباط وتلقيهم الرواية النبوية، ورؤيتهم التطبيق العملي لذلك كله ولقد استوعب التابعون رسالة الصحابة وعرفوا فضلهم، فها هو مجاهد يقول: العلماء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم(1)، وكان التابعون يقدمون قول الصحابي على قولهم يقول الشعبي: إذا اختلف الناس في شيء فانظر كيف صنع عمر؟ فإن عمر لم يكن يصنع شيئاً حتى يشاور، فقال أشعث ـ راوي الأثر ـ فذكرت ذلك لابن سيرين فقال: إذا رأيت الرجل يخبرك أنه أعلم من عمر فأحذره(2)، وكان منهج التابعين في الأخذ عن الصحابة يدور حول:
أ ـ إذا كان تفسير الصحابي يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو المطلب الرئيس، والغاية القصوى، وليس بعده قول، وكذلك ما كان من تفسير الصحابي، وهو وارد في سبب النزول بالصيغة الصريحة(3)، وكذلك فيما لا مجال للرأي فيه، فهذا يقف عنده لا يجاوزونه، لأن الصحابي شاهد التنزيل، ومثال ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ)) (الأنعام، آية: 61). فقد قال فيها ابن عباس رضي الله عنهما: إن لملك الموت أعواناً من الملائكة رواه عنه إبراهيم(4). ولذ جاءت الرواية من تفسير إبراهيم نفسه بالاقتصار على قول ابن عباس ولم يزد عليه شيئاً فقال: أعوان ملك الموت(5)، وكذا جاء عن قتادة، ومجاهد والربيع(6).
__________
(1) إعلام الموقعين (1/15) ، تفسير التابعين (2/651) .
(2) الحلية (4/320) ، تفسير التابعين (2/653) .
(3) أي سبب نزول كذا هو كذا وكذا أو حدث كذا ونزل كذا.
(4) تفسير الطبري (11/410) ، زاد المسير (3/55) .
(5) تفسير الطبري (11/410) .
(6) تسير التابعين (2/658) .(4/39)
ب ـ وإذا كان التفسير الوارد عن الصحابي من باب الاجتهاد، وجار على مقتضى اللغة، فإنهم في الغالب لا يخالفونه، فإن الصحابة أهل اللسان والبيان والفهم، ولأجل ذلك اعتمد مجاهد تفسير ابن عباس دون غيره عندما تعرض لتفسير قوله تعالى: ((فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ)) (الأنعام، آية: 98). فقد قال ابن عباس: المستقر بالأرض والمستودع عند الرحمن(1). وجاءت رواية عن ابن عباس: أن المستقر في الرحم، والمستودع في الصلب(2)، موافقة للرواية الثانية لشخصية، وهكذا كان حال ابن جبير في تفسير الآية(3).
__________
(1) تفسير التابعين (2/658) .
(2) تفسير الطبري (11/570) ، زاد المسير (3/92) .
(3) تفسير الطبري (11/570) .(4/40)
ج ـ إذا تعارضت الأقوال المنقولة في الصحابة، فإن التابعين يسلكون مسلك الترجيح بينها، والترجيح قد يكون باللغة، أو بالحديث أو بقول صحابي آخر يجمع بين الأقوال، فمن الأول ما جاء في تفسير قوله تعالى: ((أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)) (الإسراء، آية: 78). جاء عن ابن عباس في تفسيرها أن دلوكها غروبهاً(1)، وجاء عنه أن دلوكها: زيغها بعد نصف النهار(2)، وجاء عن ابن مسعود أن دلوكها غروبها(3)، وجاء عنه أيضاً أن دلوكها ميلها يعني: الزوال(4). فاختار قتادة أن دلوكها زوالها، ففسرها به(5)، مع أنه نقل القول بغروبها عن ابن مسعود(6)، ولعل سبب هذا الاختيار هو أن اللغة تدل على أن الدلوك هو الميل، فيكون المراد صلاة الظهر، ورجحه ابن جرير، وناقش الأول(7)، وقد يكون الترجيح لأثر مرفوع، ومنه ما جاء عن قتادة وهو يحدث عن سعيد بن المسيب، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختلفين في الصلاة الوسطى، وشبك بين أصابعه(8)، فرجح الحسن أنها صلاة العصر(9)، متابعاً في ذلك عدداً من الصحابة رضي الله عنهم، والمرجح هنا هو الأثر المرفوع الذي رواه الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر(10). وقد يكون الترجيح بقول صحابي آخر يقدِّم به عموم الآية على ما. ما ورد في خصوصها، ويجمع به بين الأقوال، فمن ذلك تفسيرهم لقوله تعالى: ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) (الكوثر ، الآية : 1). فقد جاء تفسير الكوثر عن جمع من الصحابة أنه نهر في الجنة(11)، وعن ابن عباس أنه الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه(12)
__________
(1) تفسير الطبري (15/134) .
(2) فتح القدير (3/254) .
(3) زاد المسير (5/72) .
(4) فتح القدير (3/254) .
(5) زاد المسير (5/72) .
(6) زاد المسير (5/72) .
(7) تفسير الطبري (15/136، 137) .
(8) زاد المسير (1/282) .
(9) تفسير التابعين (2/661) .
(10) تفسير الطبري (5/194) رقم 5438 .
(11) زاد المسير (9/248) .
(12) الدر المنثور (8/649) .(4/41)
، وتابعه على ذلك سعيد بن جبير، فقال أبو بشر لسعيد: إنا كنا نسمع أنه نهر في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه(1) فهنا رجح ابن جبير العموم في الآية مستنداً لقول ابن عباس، ولم يذهب إلى الخصوص الأثر الوارد في ذلك، أما إذا لم يكن ثمة مروي عن الصحابة في ذلك، فعندئذ يدخل منهم من يدخل في باب الاجتهاد(2). وقد أدت الرواية عن الصحابة والاعتماد عليها في التفسير إلى ظهور نتائج وآثار ترتبت على ذلك منها، حفظ أخبار الصحابة ومعرفة دقيق أحوالهم والتمييز بينهم، والالتزام بمناهجهم والإفادة منها، وتبني أقوالهم(3).
4 ـ اللغة العربية: لقد تنوعت مشارب التابعين في اعتمادهم على اللغة وجعلها مصدراً من مصادر التفسير وذلك لعدة أسباب منها معرفة لغة العرب ومعرفة عادات العرب وأخبارهم، والإلمام بأشعار العرب، ومعرفة فقه اللغة من الاشتقاق، والإيجاز والحذف، والتقديم والتأخير، وغير ذلك من الأسباب(4).
5 ـ الاجتهاد: ظهرت اجتهادات التابعين في التفسير، حتى إبان عهد الصحابة، وشملت إجتهاداتهم مواطن كثيرة، غالبها مما سكت عنه الصحابة ومن أهمها:
أ ـ بيان المراد من النص، وذلك، إذا كان النص خفي الدلالة بسبب إجمال في اللفظ أو التركيب.
ب ـ استنباط بعض الأحكام من النصوص القرآنية.
ج ـ بيان الفروق بين ما تشابه من الكلمات، والمعاني، والتفسير بين النظائر.
س ـ العناية الفائقة بدقائق من علم الكتاب العزيز، كمباحث عد الآيات، والكلمات في القرآن الكريم(5) وغيرها، وقد كان لاجتهاد التابعين في تفسير الآيات مميزات منها:
ـ ... تنوع عبارات الاجتهاد وتعددها.
ـ ... الإيجاز غير المخل.
ـ ... عمق التأمل ودقة التفسير.
ـ ... قوة الاستنباط.
خامساً : جهود عمر بن عبد العزيز والتابعين في خدمة السنة:
__________
(1) زاد المسير (9/248) .
(2) تفسير التابعين (2/661) .
(3) المصدر نفسه (2/672 إلى 677) .
(4) المصدر نفسه (2/689 إلى 707) .
(5) تفسير التابعين (2/711) .(4/42)
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن في أول الأمر، مخافة اختلاط غير القرآن به، واشتغال الناس عن كتاب ربهم بغيره، ثم جاء بعد ذلك الإذن النبوي بالكتابة والإباحة المطلقة لتدوين الحديث الشريف فنسخ الأمر، وصار الأمر إلى الجواز(1). وقد ثبت أن كثيراً من الصحابة قد أباحوا تدوين الحديث وكتبوه لأنفسهم، وكتب طلابهم بين أيديهم، وأصبحوا يتواصلون بكتابة الحديث وحفظه(2). وقام الجهابذة من أهل العلم، والغيورين من المسلمين بجهود جبارة لتدوين السنة المطهرة وجمع الحديث النبوي، وتنقيته من شوائب الوضع، وبذلوا في ذلك مهجهم وأوقاتهم، فأسهروا ليلهم، وضربوا في الأرض نهارهم، وأصَّلوا لذلك أصولاً، وقعّدوا قواعد، حتى أثمرت تلك الجهود المباركة هذه الدواوين العظيمة، التي يعكف المسلمون على قراءتها وحفظها والعمل بها والفضل كل الفضل لله ـ ثم لأولئك البررة الذين كانوا السبب في جمعها، وليس لهم مكافأة أعظم من أجر الله الجزيل لهم يوم القيامة إن شاء الله تعالى(3)، ولعل طلائع التدوين الرسمي للحديث النبوي، الذين قامت به جهة مسؤولة في الدولة الإسلامية، كان على يدي عبد العزيز بن مروان ـ والد عمر ـ عندما كان أميراً على مصر كما مرّ معنا، بيد أن التدوين الذي آتى ثماره هو ما قام به أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وقد تجلى ذلك في إرشاداته لكتابة العلم وتدوين الحديث، وأوامره للخاصة والعامة بذلك، فمن إرشاداته قوله: أيها الناس قيدوا العلم بالشكر، وقيدوا العلم بالكتابة(4)، لكن أمير المؤمنين عمر لم يكتف بهذا الإرشاد العام والحض على حفظ العلم بكتابته، بل سعى ـ بحكمه خليفة المسلمين ـ إلى إصدار أوامره إلى بعض الأئمة العلماء بجمع سنن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حمله على ذلك ما رآه عند
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ74 .
(2) المصدر نفسه صـ75 .
(3) المصدر نفسه صـ75 .
(4) المصدر نفسه صـ76 .(4/43)
كثير من التابعين في إباحة كتابة الحديث، وهم قد حملوا علماً كثيراً، فخشي عمر على ضياعه، خاصة وأنه ليس دائماً تتوفر الحفظة الواعون لنقله، دونما احتياج إلى كتابة الكتب والرجوع إليها للاستذكار وثمة سبب آخر يضاهي سابقه في الأهمية، وهو فشوّ الوضع ودسّ الأحاديث المكذوبة، وخلطها بالصحيح من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلافات المذهبة والسياسية، وإلى هذا يشير كلام الإمام الزهري: لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق ننكرها لا نعرفها، ما كتبت حديثاً ولا أذنت في كتابه(1). ورأي الزهري هذا كان رأي كثير من أئمة ذلك العصّر، حيث خافوا على الحديث النبوي من الضياع، واختلاطه بالمكذوب، مما حفز العلماء ... على حفظ السنة بتدوينها، وجاء رأي السلطة العليا ممثلاً بالخليفة الورع العالم المجتهد أمير المؤمنين عمر، فاتخذ خطوة حاسمة بتدوين سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل من مسؤوليات الدولة حفظ السنة المطهرة(2). وإليك خطواته ومجهوداته في هذا الشأن:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار، الشيخ صـ77 .
(2) أصول الحديث ، محمد عجّاج الخطيب صـ176 ـ 177ـ 186 .(4/44)
1 ـ كتب إلى الإمام الثبت أمير المدينة وأعلم أهل زمانه بالقضاء، أبي بكر بن حزم، يأمره بذلك، ففي صحيح البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاكتبه، فإن خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولتفشوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم ما لم يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً(1)، وروى ابن سعد عن عبد الله بن دينار ـ قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أن أنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنّة ماضية أو حديث عمرة بن عبد الرحمن، فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب أهله(2).
2 ـ كذلك وجه كتاباً بهذا الشأن إلى الإمام الحجة ابن شهاب الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر عن ابن شهاب قال: أمرنا عمر بن عبد العزيز، بجمع السنن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرض له عليها سلطان دفتراً(3)، وروى أبو عبيد أن عمر أمر ابن شهاب أن يكتب له السنّة في مصارف الزكاة الثمانية، فلبى الزهري أمره، وكتب له كتاباً مطولاً يوضح ذلك بالتفصيل(4). ومن هنا قال ابن حجر: وأول من دون الحديث ابن شهاب الزهري على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، ثم كثر التدوين ثم التصنيف، وحصل بذلك خير كثير، فلله الحمد(5).
3 ـ بل إن عمر وجه أوامره إلى أهل المدينة جميعاً يأمرهم ويحثهم على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشارك في هذا كل من لديه علم، ولو كان بضعة أحاديث، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أهل المدينة: أن انظروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبوه، فإني قد خفت دروس العلم وذهاب أهله(6).
__________
(1) فتح الباري (1/194 ـ 195) .
(2) الطبقات ، أصول الدين صـ177 ـ 179 .
(3) جامع بيان العلم (1/91 ـ 92) .
(4) الأموال صـ231 ـ 232 .
(5) فتح الباري (1/208) ، أصول الحديث صـ178 ، 180 .
(6) سنن الدارمي (1/137) .(4/45)
4 ـ ولم يقف عمر عند ذلك، بل عمَّمَ أوامره إلى جميع الأمصار في الدولة الإسلامية، ليقوم كل عالم بجمع وتدوين ما عنده من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما سمعه من أصحابه الكرام(1)، وروى: انظروا حديث رسول الله صلى اله عليه وسلم فاجمعوه واحفظوه، فإني أخاف دروس العلم وذهاب العلماء(2).
... وقد اهتم عمر رضي الله عنه باللغة العربية: فشجع أهل البلاد المفتوحة على تعلمّها وإتقانها، وكان يغدق عليهم ـ لذلك ـ العطايا، كما أنه يعاقب من يلحن بالعربية وينقص من عطائه، لما يعلم من أهمية العربية في فهم كتاب الله والسنة النبوية الشريفة(3).
* ـ ... منهج عمر بن عبد العزيز وطريقته في التدوين:
... اتبع عمر في جمع الحديث النبوي وتدوينه منهجاً سديداً قويماً وسلك فيه شروطاً صارمة ووضع له أبعاداً هادفة مفيدة. ويتجلى ذلك في أربع أمور:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ79 .
(2) فتح الباري (1/195) ، أصول الحديث صـ178 .
(3) عمر بن عبد العزيز للشرقاوي صـ178 .(4/46)
1 ـ حسن اختياره للقائمين بهذا الأمر: فأبو بكر بن حزم هو أحد أوعية العلم ومن أعلام عصره قال فيه الإمام مالك: ما رأيت مثل ابن حزم أعظم مروءة ولا أتمَّ حالاً، ولا رأيت من أوتي مثل ما أوتي: ولاية المدينة، والقضاء، والموسم. وقال: كان رجل صدق، كثير الحديث. وقال ابن سعد: كان ثقة عالماً كبير الحديث توفي 120هـ(1). وأما الزهري، فهو العالم العَلَم، حافظ زمانه، وشهرته ملأت الآفاق، قال فيه الليث بن سعد: ما رأيت عالماً قط أجمع من ابن شهاب، محدث في الترغيب والترهيب، فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدَّث عن العرب والأنساب، قلت: لا يحسن إلا هذا. وإن حدّث عن القرآن والسنة، كان حديثه وقال عمر بن عبد العزيز: عليكم بابن شهاب، فإنه ما بقي أحد أعلم بسنة ماضية منه(2).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/313 ـ 314) .
(2) سير أعلام النبلاء (5/328) ، عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ80 .(4/47)
2 ـ أنه طلب ممّن يدوّن له السنة جمع الأحاديث مطلقاً وتدوينها، وتتبع أناس مخصوصين لما امتازوا بتدوين أحاديث معينة لأهميتها: فقد أمر ابن حزم بتدوين حديث عًمْرَة بنت عبد الرحمن لأنها من أثبت الناس بأم المؤمنين عائشة والسيدة عائشة هي أعلم الناس بأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وشؤونه الخاصة داخل بيته ومع أهله(1)، وعمرة هذه هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زُرارة الأنصارية النّجارية المدينة الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها، وجدّها سعد من قدماء الصحابة، وهو أخو النقيب الكبير أسعد بن زرارة، ذكرها ابن المديني فضخَّم أمرها وقال: عمرة إحدى الثقات العلماء بعائشة، الإثبات فيها(2). وقال الزهري: أتيتها فوجدتها بحراً لا يُنْزَف(3). توفيت عام 98هـ وقيل 106هـ(4). وذكرت إحدى الروايات أنه أمر ابن حزم بجمع التدوين حديث عمر بن الخطاب. وذلك لما يقصده ابن عبد العزيز من تتبع سيرة الفاروق وأقضيته وسياسته في الصدقات، وكتبه إلى عماله فيها وقد طلب ذلك أيضاً من سالم بن عبد الله بن عمر. وكل ذلك واضح من النهج الذي سلكه عمر بن عبد العزيز في الإقتداء بجده رضي الله عنهما(5). كذلك كتب إلى آل عمرو بن حزم أن ينسخوا له كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الصدقات، كي يسير عليه في خلافته وفي تسيير أمور رعيته(6).
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ81 .
(2) المصدر نفسه صـ81 تهذيب التهذيب (12/466) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/508) نساء لها تاريخ صـ155 .
(4) المصدر نفسه (4/508) .
(5) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ81 .
(6) المصدر نفسه صـ81 .(4/48)
3 ـ أنه ألزم من يدوّن السنة النبوية أن يميز الصحيح من السقيم، ويتحرى الثابت من الحديث، وذلك واضح في رواية الدارمي حيث يقول عمر لابن حزم: اكتب إليَّ بما ثبت عندك من الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث عمر. وعند الإمام أحمد في العلل: أكتب إلي من الحديث بما ثبت عندك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث عَمْرَة(1). وهذه نقطة عظيمة الأهمية في تأسيس منهج التدوين على أسس راسخة، ثابتة صحيحة، قويمة مستقيمة(2).
4 ـ تثبته من صحة الحديث والتحديث: فعمر من كبار العلماء، وليس بأقل شأناً في العلم ممن أمرهم بالتدوين، لذلك قام بمشاركة العلماء في مناقشة بعض ما جمعوه، زيادة في التثبيت(3)، من ذلك ما رواه أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء، فجمعوا له أشياء من السنن، فإذا جاء الشيء الذي ليس العمل عليه قال: هذه زيادة ليس العمل عليها(4).
* ـ ... ثمرة هذا التدوين:
__________
(1) نقلاً عن مقدمة المسند صـ20 ، 23 .
(2) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ82 .
(3) المصدر نفسه صـ82 .
(4) أصول الحديث صـ82 .(4/49)
... لقد آتت هذه الجهود الباكرة المباركة بعض أكلها، وتمثل ذلك بتلك الدفاتر التي جمعها الإمام الزهري، فأمر عمر بن عبد العزيز بنسخها عدة نسخ، ثم أرسل إلى كل بلد في دولته الكبيرة دفتراً منها، ويلاحظ أن كثيراً من العلماء جمع لنفسه مسموعاته، ليعود إليها كلما وجد في نفسه الحاجة إلى إتقان حفظها، أما التدوين الرسمي الذي تولّته الدولة، وعممت ثمرته على الأمصار ، فكان بأمر عمر بن عبد العزيز، ومن الثمرات الطيبة ـ أيضاً ـ ذلك المنهج السديد الذي اتبعه أمير المؤمنين عمر، بوضع الأسس والنقاط الهامة أثناء التدوين، فكانت نواة لمنهج واسع متكامل جاء بعده، وهذا كله ناتج من دقة فهمه، وغزارة علمه، ونفاذ بصيرته، وقبل ذلك وبعده توفيق الله تعالى له، ولئن كان عمر بن الخطاب قد أشار على الصديق بجمع القرآن، ففعل، فكان لهما الفضل الكبير على الأمة. ثم جاء عثمان فجمع الناس على مصحف واحد، وحرف واحد، ولهجة واحدة هي لهجة قريش، فإن الله سبحانه قد ادّخر لعمر بن عبد العزيز ـ نحسب ذلك ولا نزكي على الله أحد ـ تلك المنقبة العظيمة، والمكرمة الجليلة، في إصدار أوامر الخلافة بجمع السنة وتنقيحها وتدوينها، وجعل من الدولة حماية السنة التي هي المصدر الثاني للتشريع. وهذا من توفيق الله للعظماء، وكبار المصلحين، عندما تخلص سرائرهم، لله يوفقهم الله للحق ويدلهم على الخيرات، ويسدّد خطواتهم، ويهيء لهم من أمرهم رشداً(1).
... قال الشعر الليبي أحمد رفيق المهدوي:
... ... ... ... فإذا أحب الله باطن عبده
... ... ... ... ... ... ... ... ظهرت عليه مواهب الفتّاح
وإذا صفت لله نية مصلح
... ... ... ... مال العباد عليه بالأرواح(2)
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ83 .
(2) الثمار الزكية للحركة السنوسية صـ198 .(4/50)
... ويعتبر ((التدوين الرسمي)) بحق أحد الأعمال العظيمة والإنجازات الكبيرة التي تحققت في عهد عمر بن عبد العزيز(1) رحمه الله.
* ـ ... جهود التابعين في خدمة السنة النبوية الشريفة:
... تحمل التابعون الحديث النبوي عن الصحابة وضبطوا الإسناد مع الدقة والإتقان، وأصبح الحديث أمانة في أعناقهم عليهم أن يجتهدوا في تبليغها وإيصالها إلى من وراءهم لاسيما وقد ظهر في عصرهم بسبب الخلافات السياسية والكلامية وبسبب الزندقة المتمثلة في التظاهر بالإسلام مع كراهيته، ديناً، ودولة، وبسبب التعصب للجنس، واللغة والقبيلة، والبلد، وبسبب التكسب والارتزاق عن طريق القصاص والوعظ وبسبب الجهل من بعض الزهاد والعباد وغير ذلك من الأسباب، ظهر الكذب والوضع في الحديث، فانبرى هؤلاء يؤدون الأمانة ويقومون بواجبهم في مواجهة الكذابين والوضاعين، وكانت لهم في ذلك جهود ضخمة مشكورة(2) يمكن تلخيصها في الآتي:
1 ـ الالتزام بالإسناد ومطالبة الغيرية:
أ ـ قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة، فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم(3).
ب ـ جاء عن عتبة بن أبي الحكم: أنه كان عند إسحاق بن أبي فروة وعنده الزهري، قال: فجعل ابن أبي فروة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:... فقال له الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة ما أجرأك على الله لا تسند حديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة(4).
2 ـ عقد الحلقات العلمية:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ83 .
(2) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي للشايجي صـ54 هذه الرسالة مع صغر حجمها ولكنها قيمة .
(3) مسلم في مقدمته، باب بيان الإسناد من الدين (1/15) .
(4) معرفة علوم الحديث للحاكم صـ6 .(4/51)
... يقول ابن سيرين: قدمت الكوفة، وللشعبي حلقة علمية عظيمة، والصحابة يومئذ كثير(1). وعن ابن شهاب قال: كان يقص لنا سعيد بن جبير كل يوم مرتين: بعد الفجر، وبعد العصر(2).
3 ـ الحرص على أداء الحديث على وجهه: يعني روايته بلفظه، فإن لم يتيسر ذلك رووه بالمعنى مراعين شروطه وضوابطه المعروفة(3). فعن ابن عون قال: كان إبراهيم، والشعبي، والحسن، يأتون بالحديث على المعاني، وكان القاسم، وابن سيرين، ورجاء يعيدون الحديث على حروفه(4). وقال ليث بن أبي سليم: كان طاووس يعد الحديث حرفا حرفا(5)، وقال جرير بن حازم: سمعت الحسن يحدث بالحديث: الأصل واحد، والكلام مختلق(6).
4 ـ وضع معايير علمية لمعرفة حال الرواة تجريحاً وتعديلاً:
... ـ مثل مقابلة روايات الضابطين ببعضها، كقول ابن شهاب الزهري: إذا حدثني عَمْرَة ثم حدثني عروة صدق عندي حديث عمرة حديث عروة، فلما تبحرتهما إذا عروة بحر لا ينزف(7).
... ـ أو مقابلة حديث الراوي بحديث نفسه ولكن على فترات متباعدة: كما جاء أن هشام بن عبد الملك أراد التأكد من حفظ الزهري، فاختبره بنفسه حيث سأله أن يملي على بعض ولده فدعا بكتاب، فأملى عليه أربعمائة حديث، ثم إن هشاماً قال له بعد شهر أو نحوه، يا أبا بكر إن ذلك الكتاب ضاع، فدعا، بكتاب فأملاها عليه، ثم قابله هشام بالكتاب الأول فما غادر حرفاً(8).
__________
(1) تاريخ الإسلام صـ126 حوادث 104هـ .
(2) سير أعلام النبلاء (4/336) .
(3) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي صـ58 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/559) .
(5) سير أعلام النبلاء (5/465) .
(6) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/21) .
(7) سير أعلام النبلاء (4/436) .
(8) السنة ومكانتها في التشريع صـ209 .(4/52)
... ـ أو بقلب الأسانيد والمتون: كما جاء عن حماد بن سلمة قال: كنت أسمع أن القصاص لا يحفظون الحديث، فكنت أقلب الأحاديث على ثابت: أجعل أنسا لابن أبي ليلى وبالعكس أشوشها عليه فيجئ بها على الاستواء(1).
... ـ ومن معرفة المبتدع بإعراضه عن السنة إلى القرآن: عن أبي قلابة: قال: إذا حدثت الرجل بالسنة فقال: دعنا من هذا، وهات كتاب الله فأعلم أنه ضال(2).
... ـ ومن ضرورة حفظ القرآن قبل الاشتغال بالحديث: عن حفص بن غياث قال: أتيت الأعمش فقلت: حدثني، قال: أتحفظ القرآن؟ قلت: لا قال: أذهب، فاحفظ القرآن، ثمّ هلمّ أحدثك، قال: فذهبت فحفظت القرآن، ثم جئته فاستقرآني، فقرأته، فحدثني.
5 ـ إجابة المستفتين، والقضاء بين الناس:
كان من جهود التابعين في خدمة أداء: إجابة المستفتين، والقضاء به بين الناس، هذا علقمه بن قيس النخعي يتفقه به أئمة، كإبراهيم، والشعبي، ويتصدى للإمامة والفتيا بعد علي وابن مسعود، وكان يشبه بابن مسعود في هديه، ودله، وسمته وكان طلبته يسألونه ويفقهون به، والصحابة متوافرون(3). وعن أبي الزناد قال: كان الفقهاء السبعة الذين يسألون بالمدينة، وينتهي إلى قولهم: سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعروة، والقاسم، وعبيد الله بن عبد الله وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار(4). ولا شك أن إجابة المستفتين والقضاء بين الناس ما كان لهما أن يظهرا على أرض الواقع مع الدعة والراحة والنوم، وإنما تتطلبا جهداً ووقتاً ونفقة للإعداد والتحضير، ثم الأداء(5).
6 ـ بيان حال الرواة لمعرف من يحتج بحديثه ومن لا يحتج(6):
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/222) .
(2) المصدر نفسه (4/742) .
(3) المحدث الفاصل : باب أوصاف الطالب وآدابه صـ203 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/438) .
(5) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي صـ64 .
(6) التابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي .(4/53)
... كان من جهود التابعين في خدمة الحديث النبوي أداء بيان حال الرواة لمعرفة من يحتج بحديثه ومن لا يحتج.
أ ـ عن محمد بن سيرين قال: أدركت أهل الكوفة وهم يقدمون خمسة: من بدأ بالحارث الأعور ثنى بعبيدة السلماني، ومن بدأ بعبيدة ثنى بالحارث، ثم علقمة، ثم مسروق، ثم شريح(1).
ب ـ وعن قتادة قال: إذا اجتمع لي أربعة لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال من خالفهم: الحسن، وابن المسيب، وإبراهيم، وعطاء هؤلاء أئمة الأمصار(2).
... هذه هي أهم الجهود التي بذلوها في خدمة الحديث النبوي ومن أراد التوسع فليراجع السنة قبل التدوين(3) للدكتور محمد عجاج الخطيب، والتابعون وجهودهم في خدمة الحديث النبوي .
سادساً : منهج التزكية والسلوك عند التابعين مدرسة الحسن البصري مثالاً:
ـ الحسن البصري في عهد عمر بن عبد العزيز والدولة الأموية:
__________
(1) ير أعلام النبلاء (4/91) .
(2) المصدر نفسه (5/83) .
(3) السنة قبل التدوين صـ144 إلى 199 .(4/54)
يعتبر الحسن البصري من المعاصرين لعمر بن عبد العزيز، كما أنه كان له تأثير واضح في الحياة الدينية والإجتماعية في عهد الدولة الأموية والحسن البصري هو أبو سعيد الحسن بن يسار ـ مولى زيد بن ثابت رضي الله عنه، من كبار التابعين، وإمام أهل البصرة، وحبر الأمة وقتها، وأمه ((خيرة)) مولاة أم المؤمنين أم سلمة ـ رضي الله عنها. ولد عام 21هـ في المدينة في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ويقال الحسن أرضعته ـ أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حيث كانت أمه ـ خيرة ـ تخرج لشراء بعض الحاجيات، فيبكي الطفل فتأخذه أم سلمة بين يديها، وتضعه في حجرها، وتلقمه ثديها، فيدر الثدي لبناً، فيرضع الحسن، وبذلك تكون أمه من الرضاعة، وقد كانت فصاحته وعلمه من هذه البركة ومن البديهي أن يتعرف الطفل الصغير على بيوت أمهات المؤمنين وينهل من معينهن، ويتأدب بأدبهن ويتخلق بأخلاقهن، ومن جهة أخرى يتتلمذ على كبار الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأبي موسى الأشعري، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين، وانتقل مع أبويه فيما بعد إلى ((البصرة)) وإليها ينسب فيقال الحسن البصري، وكان عمره وقتها أربع عشرة سنة، فلزم مسجد البصرة ينهل من معين علمائها وخاصة حلقة حبر الأمة وعالمها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وما هو إلا قليل حتى التف الناس حوله، وقصدوه من كل حدب وصوب، وكما قيل فيه كان قوله كفعله، لا يقول ما لا يفعل. سريرته كعلانيته، إذا أمر بمعروف كان أعمل الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أنزل الناس له، مستغنياً عما في أيدي الناس، زاهداً به، والناس محتاجون إليه بما عنده(1)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/563 إلى 588) ، حياة الحسن البصري د. روضة الحضري ، الحسن البصري إمام عصره وعلامة زمانه، مرزوق على إبراهيم ، الحسن البصري ، مصطفى سعيد الخن ، الزهد للحسن البصري . د. محمد عبد الرحيم محمد .(4/55)
.
1 ـ أسباب تأثيره في قلوب الناس: جمع الله فيه من الفضائل والمواهب ما استطاع به أن يؤثِّر في قلوب الناس، ويرفع به قيمة الدين وأهل الدين في المجتمع، فقد كان واسع العلم غزير المادة في التفسير والحديث، ولم يكن لأحد في ذلك العصر أن ينشر دعوته ويقوم بالإصلاح، إلا إذا كان متوفراً على هذين العلمين وقد أدرك الصحابة وعاصر كثيراً منهم ويظهر من حياته ومواعظه أنه درس هذا العصر دراسة عميقةـ وأدرك روحه وعرف كيف تطور المجتمع الإسلامي، ومن أين انحرف، وكان واسع الإطلاع، دقيق الملاحظة للحياة ومختلف الطبقات وعوائدها وأخلاقها وعِللها وأدوائها، كطبيب مارس العلاج مدة(1)، وكان مع ذلك غاية في الفصاحة وحلاوة المنطق والتأثير في مستمعيه يقول أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحسن البصري، والحجاج بن يوسف والحسن أفصح منه(2)، وكان آية في اتساع المعلومات ووفور العلم، قال الربيع بن أنس: اختلفت إلى الحسن عشر سنين، وما من يوم إلا أسمع منه ما لم أسمع قبله. وقال محمد بن سعد: كان الحسن جامعاً عالماً رفيعاً فقيهاً، ثقة مأموناً، عابداً ناسكاً، كثير العلم، فصيحاً، جميلاً وسيماً، وقدم مكة فأجلس على سرير، واجتمع الناس إليه، وقالوا: لم نرَ مثل هذا قط، وقد وصفه ثابت بن قُرة ـ كما نقل عنه أبو حيان التوحيدي. فقال: كان من ذراري النجوم علماً وتقوى، وزهداً وورعاً، وعفة ورقَّة، وفقهاً ومعرفة، يجمع مجلسه ضروباً من الناس، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يًلقفُ منه التأويل(3)، وهذا يسمع منه الحلال والحرام، وهذا يحكي به الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الوعظ وهو في جميع ذلك كالبحر اللَّجاج تدفقاً، وكالسِّراج الوهاج تألقاً ولا تُنسَ مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عند الأمراء وأشباه الأمرء،
__________
(1) رجال الفكرة والدعوة (1/67) .
(2) نظرات في التصوف الإسلامي د. محمد القهوجي صـ221 .
(3) التأويل : التفسير .(4/56)
بالكلام الفصل واللفظ الجزل(1)، وكان فوق ذلك كله وهو سر تأثيره في القلوب، وسحره في النفوس، وخضوع الناس له ـ أنه كان صاحب عاطفة قوية، وروح ملتهبة وكان من كبار المخلصين، وكان الذي يقول يخرج من القلب فيدخل في القلب وكان إذا ذكر الصحابة أو وصف الآخرة، أدمع العيون وحرك القلوب(2)، قال عنه مطر الوراق: لما ظهر الحسن جاء كأنَّما كان في الآخرة فهو يخبر عمَّا عاين(3). وقال عوف: ما رأيت رجلاً أعلم بطريق الجنة من الحسن(4). فقد كان يتذوق الإيمان، ويتكلم عن عاطفة ووجدان، لذلك كانت حلقته في البصرة أوسع الحلقات، وانجذب الناس إليه انجذاب الحديد إلى المغناطيس ـ وذلك شأن أهل القلوب والإخلاص في كل زمان ـ وكان من أعظم ما امتاز به هو أنَّ كلامه كان أشبه ما سمع الناس بكلام النبوة وقال الغزالي في إحياء علوم الدين: ولقد كان الحسن البصريُّ رحمه الله أشبه الناس كلاماً بكلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأقربهم هدياً من الصحابة رضي الله عنهم، اتّفقت الكلمة في حقه على ذلك(5)، وكانت نتيجة المواهب العظيمة والفضائل الكثيرة، أنه كان صاحب شخصية قوية جذابة حبيبة إلى النفوس، وكان الناس مأخوذين بسحرها، خاضعين لعظمتها، حتى قال ثابت بن قرّة الحكيم الحرّاني: إن الحسن من أفراد الأمة المحمدية التي تتباهى بهم على الأمم الأخرى(6). وكان من أعظم أسباب تأثير الحسن البصري في المجتمع، ونفوذه في القلوب والعقول، أنه ضرب على الوتر الحساس، ونزل أعماق المجتمع، ووصف أمراضه، وانتقده انتقاد الحكيم الرفيق، والناصح الشفيق، لقد كان عصره يغُصُّ بالدعاة والوعاظ، ولكنََّ المجتمع لم يتأثر لأحد كتأثره بالحسن، لأنه كان يَمسُّ قلبه وينزل في صميم الحياة، ويعارض التيار، لإنه
__________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/68) .
(2) المصدر نفسه (1/68) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/573) .
(4) المصدر نفسه (4/575) .
(5) رجال الفكر والدعوة (1/68) .
(6) المصدر نفسه (1/68) .(4/57)
كان ينعى على الإخلاد إلى الحياة والإنهماك في الشهوات، وقد انتشر هذا المرض في الحياة، إنه كان يذكر بالموت ويستحضر الآخرة، والمترفون يتناسون ذلك ويُعلِّلون نفوسهم بالأماني الكذابة والأحلام اللذيذة، ويتضايقون بذكر ما يكدِّر عليهم الحياة ويُعكرِّ صفو عيشهم، فكان دائماً في صراع مع الجاهلية، والجاهلية لا تخضع إلا لمن صارعها، ولا تعترف إلا بوجود الرجل الذي يحاربها وكان الحسن البصري هو ذاك الرجل، فعظم تأثيره وكثر التائبون والمُقْلعون عن المعاصي والحياة الجاهلية التي كانوا يعيشونها وانطلقت موجة الإصلاح قوية مؤثرة، لأن الحسن لم يقتصر على مواعظ وخطب كان يُلقيها، بل كان يُعني بتربية من يتصل به ويجالسه. فكان جامعاً بين الدعوة والإرشاد، وبين التربية العملية والتزكية الخُلقية والروحية فاهتدى به خلائق لا يحصيهم إلا الله، وذاقوا حلاوة الإيمان وتحلوا بحقيقة الإسلام(1).
2 ـ ملامح التصوف السني عند الحسن البصري:
... يعتبر الحسن البصري من علماء السلوك النادرين وممن اهتموا بأمراض النفوس وعلاجها، وإحياء القلوب وإمدادها بالإيمان والمعاني الربانية السامية، وكان رحمه الله سليم العقيدة، متقيد بالكتاب والسنة في تعليمه وتربيته، ولا شك أن الأساس في التصوف السني هو الالتزام بالكتاب والسنة وفق منهج السلف الصالح في العقيدة والعبادة والسلوك والمعاملة وسنرى ذلك من خلال سيرة الحسن ومن الأمور التي اهتم بها الحسن رحمه الله.
أ ـ قسوة القلب ومواته وإحياؤه:
__________
(1) المصدر نفسه (1/75) .(4/58)
... قال رجل للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوة قلبي قال: أدنه من الذكر(1)، وقال: إن القلوب تموت وتحيا، فإذا ماتت فاحملوها على الفرائض، فإذا هي أحييت فأتبعوه بالتطوع(2)، إن قسوة القلب ذمها المولى عز وجل قال تعالى: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً)) (البقرة ، الآية : 74)، ثم بين وجه كونها أشد قسوة، بقوله ((وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)) (البقرة ، الآية : 74). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير الله قسوة للقلب وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي(3). وأما أسباب القسوة كثيرة منها: كثرة الكلام بغير ذكر الله، نقض العهد مع الله ((فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً)) (المائدة ، الآية : 13)، ومنها كثرة الضحك، ومنها كثرة الأكل لاسيما من الحرام، ومنها كثرة الذنوب(4)، وغيرها وقد ذكر الكثير منها الحسن البصري في كلامه. وأما مزيلات القسوة فمتعددة منها:
__________
(1) الزهد للحسن البصري صـ123 .
(2) المصدر نفسه صـ124 .
(3) سنن الترمذي رقم 2411 حسن غريب .
(4) مجموع رسائل الحفاظ بن رجب (1/261 ، 262) .(4/59)
ـ ... كثرة ذكر الله يتواطأ عليه القلب واللسان. قال تعالى: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) (الزمر ، الآية 23) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذه القلوب لتصد كما يصدأ الحديد، قيل: فما جلاؤها يا رسول الله قال: تلاوة كتاب الله وكثرة ذكره(1). وكان الحسن البصري رحمه الله يقول: أيها الناس أني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم وإني لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لها، ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون، وقل المذكرون، ولما وجد من يدعو إلى الله جل ثناؤه، ويرغب في طاعته وينهى عن معصيته ولكن في اجتماع أهل البصائر ومذاكرة المؤمنين بعضهم بعضاً حياة لقلوب المتقين وأذكار من الغفلة، وأمن من النسيان، فالزموا عافاكم الله مجلس الذكر ، فرب كلمة مسموعة، ومحتقر نافع، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(2). وكان يقول: سبحان من أذاق قلوب العارفين من حلاوة الانقطاع إليه، ولذة الخدمة، له ما علق همهم بذكره وشغل قلوبهم عن غيره فلا شيء ألذ عندهم من مناجاته، ولا أقر إلى أعينهم من خدمته ولا أخف على ألسنتهم من ذكره سبحانه وتعالى مما يقول الظالمون علواً كبيراً(3)، وكان يقول: تفقد الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والقراءة والذكر، فإن وجدت ذلك فامض وأبشر وإلا فاعلم أن بابك مغلق فعالج فتحه(4)، ومن أفضل الذكر العمل بالقرآن وتلاوته وكان الحسن البصري يقول: من أحب أن يعلم ما هو فيه، فليعرض عمله على القرآن، ليتبين الخسران من
__________
(1) البيهقي في الشعب رقم 2ز14 ، العلل المتناهية لابن الجوزي (2/832) الحديث فيه ضعف .
(2) الزهد للحسن البصري صـ79 .
(3) المصدر نفسه صـ79 .
(4) المصدر نفسه صـ79 .(4/60)
الرجحان(1)، وكان يقول رحم الله عبداً عرض نفسه على كتاب الله، فإن وافق أمره حمد الله وسأله المزيد وإن خالف إستعتب ورجع من قريب(2)، وكان يقول: أيها الناس إن هذا القرآن شفاء للمؤمنين، وإمام للمتقين فمن اهتدى به هُدي، ومن صرف عنه شقي وابتلي(3) وكان يقول: قراء القرآن ثلاثة نفر: قوم اتخذوه بضاعة يطلبون به ما عند الناس، وقوم أجادوا حروفه وضيعوا حدوده استدروا به أموال الولاة واستطالوا به على الناس ـ وقد كثر هذا الجنس من حملة القرآن ـ فلا كثر الله جمعهم ولا أبعد غيرهم، وقوم قرءوا القرآن فتدابروا آياته وتداووا به(4)، وأما قيام الليل فكان يقول فيه: إذا لم تقدر على قيام الليل ولا صيام النهار فاعلم أنك محروم، قد كبلتك الخطايا والذنوب(5). وقال له رجل: يا أبا سعيد: أعياني قيام الليل فما أطيقه؟ فقال: يا ابن أخي، استغفر الله وتب إليه، فإنها علامة سوء(6)، وقال: إن الرجل ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل(7).
__________
(1) المصدر نفسه صـ142 .
(2) المصدر نفسه صـ142 .
(3) المصدر نفسه صـ147 .
(4) المصدر نفسه صـ148 .
(5) المصدر نفسه صـ146 .
(6) الزهد للحسن البصري صـ146 .
(7) المصدر نفسه صـ146 .(4/61)
ـ ... كثرة ذكر الموت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات(1). وقال الحسن البصري: فضح الموت الدنيا، فلم يترك فيها لذي لب فرحا(2). وعن صالح بن رسم قال: سمعت الحسن يقول: رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من كثرة الناس: ابن آدم إنك تموت وحدك وتدخل القبر وحدك، وتبعث وحدك وتحاسب وحدك، ابن آدم وأنت المعنّى وإياك يراد(3). وقال الحسن: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا أساء العمل(4). وقيل: رأى الحسن شيخاً في جنازة فلما فرغ من الدفن، قال له الحسن يا شيخ، أسألك بربك: أتظن أن هذا الميت يود أن يرد إلى الدنيا فيتزيد من عمله الصالح، ويستغفر الله من ذنوبه السالفة، فقال الشيخ اللهم نعم، فقال الحسن: فما بالنا لا نكون كهذا الميت، ثم انصرف وهو يقول: أي موعظة؟ ما أنفعها لو كان بالقلوب حياة؟ ولكن لا حياة لمن تنادي(5). وقال: حقيق على من عرف أن الموت مورده والقيامة موعده، والوقوف بين يدي الجبار مشهده أن تطول في الدنيا حسرته وفي العمل الصالح رغبته(6). وكان يقول: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أصبح شكاً لا يقين فيه من يقيننا بالموت وعملنا لغيره(7). وكان يقول: عباد الله إن الله سبحانه لم يجعل لإعمالكم أجلاً دون الموت، فعليكم بالمداومة، فإنه جل ثناؤه يقول: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر ، الآية : 99). وكان يقول: ابن آدم إنك تموت وحدك، وتحاسب وحدك، ابن آدم، لو أن الناس كلهم أطاعوا الله وعصيت أنت لم تنفعك طاعتهم، ولو عصوا الله وأطعت أنت لم تضرك معصيتهم، ابن آدم: ذنبك ذنبك، فإنما هو لحمك ودمك، فإن سلمت من ذنبك سلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى
__________
(1) سنن الترمذي رقم 2307 ، سنن ابن ماجة رقم 4258 .
(2) الزهد للحسن البصري صـ20 .
(3) المصدر نفسه صـ21 .
(4) المصدر نفسه صـ21 .
(5) المصدر نفسه صـ21 .
(6) المصدر نفسه صـ22 .
(7) المصدر نفسه صـ22 .(4/62)
فإنما هي نار لا تطفأ وجسم لا يبلى، ونفس لا تموت(1). وكان يقول: لولا ثلاثة ما طأطأ ابن آدم رأسه: الموت والمرض والفقر وإنه بعد ذلك لوثاب(2). وكان الحسن إذا تلا هذه الآية: ((فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الغَرُور)) (لقمان ، الآية : 33) قال: من قال ذا؟ قال: من خلقها وهو أعلم بها(3). وقال: إياكم وما شغل من الدنيا، فإن الدنيا كثيرة الاشتغال لا يفتح رجل على نفسه باب شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب(4).
ـ ... زيارة القبور بالتفكر في حال أهلها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم زوروا القبور، فإنها تذكِّر الموت(5)، وفي رواية: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تذكر الآخرة(6)، وكان الحسن البصري كثير الزيارة للقبور، فلما ماتت النوار بنت أعين بن ضبعية المجاشعي امرأة الفرزدق، وكانت قد أوصت أن يصلي عليها الحسن البصري، فشهدها أعيان أهل البصرة مع الحسن والحسن على بغلته، والفرزدق على بعيره، فسار فقال الحسن للفرزدق، ماذا يقول الناس؟ قال يقولون: شهد هذه الجنازة اليوم خير الناس يعنونك، وشر الناس يعنوني، فقال له: يا أبا فراس، لست بخير الناس، ولست أنت بشر الناس، ثم قال الحسن: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة، فلما أن صلى عليها الحسن مالوا إلى قبرها فأنشأ الفرزدق يقول:
... ... ... أخاف وراء القبر إن لم يعافني
... ... ... ... ... ... ... أشد من القبر التهاباً وأضيقا
... ... ... إذا جاءني يوم القيامة قائد
... ... ... ... ... ... ... عنيف وسوّاق يسوق الفرزدقا
... ... ... لقد خاب من أولاد دار من مشى
... ... ... ... ... ... ... إلى النار مغلولا القلادة أزرقا
__________
(1) الزهد للحسن البصري صـ23 .
(2) المصدر نفسه صـ24 .
(3) المصدر نفسه صـ25 .
(4) المصدر رقم صـ26 .
(5) مسلم رقم 976 .
(6) مسلم (2/672) سنن الترمذي 1869 .(4/63)
... ... ... يساق إلى نار الجحيم مسربلا
... ... ... ... ... ... ... سرابيل قطران لباساً مخرقا
... ... ... إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم
... ... ... ... ... ... ... يذوبون من حرّ الصديد تمزقا
... قال: فبكى الحسن حتى بلّ الثرى، ثم التزم الفرزدق وقال: لقد كنت من أبغض الناس إليَّ، وإنك اليوم من أحب الناس إلي(1). وكان الحسن يتعظ بالمقابر ويتدبر في أحوالها، فعن عوانه قال: قال الحسن: قدم علينا بشر بن مروان ـ أخو عبد الملك بن مروان الخليفة ـ أمير المصرين، وأشب الناس، وأقام عندنا أربعين يوماً، ثم طعن في قدميه فمات،، وأخرجناه إلى قبره، فلما صرنا إلى الجبان فإذا نحن بأربعة سودان يحملون صاحباً لهم إلى قبره، فوضعنا السرير فصلينا عليه، ووضعوا صاحبهم فصلوا عليه، ثم حملنا بشراً إلى قبره وحملوا صاحبهم إلى قبره، ودفنا بشراً ودفنوا صاحبهم ثم انصرفوا وانصرفنا، ثم التفت التفاتة فلم أعرف قبر بشر من قبر الحبشي، فلم أر شيئاً قط كان أعجب منه(2). وقد ذكر العلماء أمور أخرى تزيل قسوة القلوب كالإحسان إلى اليتامى والمساكين، والنظر في ديار الهالكين والاعتبار بمنازل الغابرين(3).
ب ـ حثه على الإخلاص، وطاعة الله وإصلاح ذات البين والتفكر:
__________
(1) الحسن البصري د. مصطفى الخن صـ345 نقلاً عن البداية والنهاية .
(2) البيان والتبيين (3/147) الحسن البصري د. مصطفى الحن صـ349 .
(3) مجموع رسائل الحافظ بن رجب (1/264 إلى 270) .(4/64)
ـ ... الإخلاص: إن لإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في مكارم الأخلاق، فهو يمد قلب صاحبه بقوَّة، تجعله ينهض للمكارم ابتغاء وجه الله، غير منتظر من أحد جزاءً ولا شكوراً يشرح صدره للحلم والعفو ومعالي الأخلاق امتثالاً لأمر الله، وطلباً لرضاه والفوز بنعيم الآخرة، فهو إن أبغض فبغضه لله وهكذا في شأنه كله(1)، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) (الأنعام ، الآيتان : 162 ـ 163). فكان الحسن يقول: من تزين للناس بما لا يعلمه الله منه شانه ذلك(2). وكان يقول: روي عن بعض الصالحين أنه كان يقول: أفضل الزهد إخفاء الزهد(3) وقيل وعظ يوماً، فتنفس رجل الصعداء، فقال: يا ابن أخي ما عساك أردت بما صنعت؟ إن كنت صادقاً فقد شهرت نفسك، وإن كنت كاذباً فقد أهلكتها ولقد كان الناس يجتهدون في الخفاء وما يسمع لأحدهم صوت، ولقد كان الرجل ممن كان قبلكم يستكمل القرآن فلا يشعر به جاره، ولقد كان الآخر يتفقه في الدين ولا يطلع عليه صديقه، ولقد قيل لبعضهم، ما أقل التفاتك في صلاتك وأحسن خشوعك؟ فقال: يا ابن أخي وما يدريك أين كان قلبي(4)؟ وكان يقول: نظر رجاء بن حيوة إلى رجل يتناعس بعد الصبح، فقال: انتبه عافاك الله لا يظن ظان أن ذلك عن سهر وصلاة فيحبط عملك(5). وقال الحسن: ولقد حُدثت أن رجلاً مر برجل يقرأ: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)) (مريم ، الآية : 96). فقال: والله لأعبدن الله عبادة أذُكَر بها في الدنيا، فلزم الصلاة واعتكف على الصيام حتى كان لا يفطر ولا يرى مصلياً وذاكراً ، وكلما مر على
__________
(1) الأخلاق بين الطبع والتطبع صـ21 .
(2) حياة الحسن البصري ، روضة الحصري صـ170 .
(3) المصدر نفسه صـ170 .
(4) الزهد للحسن البصري صـ159 .
(5) المصدر نفسه صـ159 .(4/65)
قوم قالوا: ألا ترون هذا المرائي ما أكثر رياءه، فأقبل على نفسه وقال: ثكلتكِ أمك لا أراك تذكري إلا بِشرَ ولا أراك أُصِبتِ إلا بفساد نيتكِ وفساد معتقدكِ، وأنك لم تردى الله بعملك، ثم بقى على عمله لم يزد عليه شيئاً إلا إن نيته انقلبت(1)، فتغير الحال ووضع الله له القبول ـ ولا يمر بقوم إلا قالوا: يرحم الله هذا، ثم يقولون: الآن الآن وكان الحسن يقول: أخلصوا لله أعمالكم(2)، وكان يقول: ابن آدم تلبس لُبسة العابدين، وتفعل أفعال الفاسقين، وتخبت أخبات المريدين، وتنظر نظر المغترين، ويحك! ما هذا خصال المخلصين، إنك تقوم يوم القيامة بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور(3)، وكان يقول روي أن سعيد بن جبير رأى رجلاً متماوتاً في العبادة فقال يا ابن أخي إن الإسلام حيّ فأحيه ولا تمته أماتك الله ولا أحياك وكان يقول: من ذم نفسه في الملأ فقد مدحها وبئس ما صنع(4).
__________
(1) انقلبت : صارت على الضد مما كانت عليه أي حسنت .
(2) الزهد للحسن البصري صـ160 .
(3) المصدر نفسه صـ160 .
(4) المصدر نفسه صـ160 .(4/66)
ـ ... الحث على طاعة الله: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأْوِيلا)) (النساء ، الآية : 59)، وقال تعالى: ((وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى ، الآية : 10). وكان الحسن يقول: في قول الله عز وجل، ((وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا)) (المؤمنون ، الآية : 60) قال: يعطون ما أعطوا ((وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)) قال: يعملون ما عملوا من أعمال البر وهم يخشون أن لا ينجيهم من عذاب ربهم عز وجل(1). وعنه أنه قال: إذا نظر إليك الشيطان فراك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك ـ أي طلبك مرة بعد مرة ـ فرآك مداوماً ومّلك ورفضك، وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك(2)وعن الحسن قال: هرم بن حيان: ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها(3).
__________
(1) الزهد للحسن البصري صـ74 .
(2) المصدر نفسه صـ75 .
(3) المصدر نفسه صـ75 .(4/67)
... ومن القصص التي حدثت للحسن: لما ولى عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما بيت وكانا فيه شهراً ـ أو نحوه ـ ثم إن الخادم غداً ذات يوم فقال إن الأمير دخل عليكما، فجاء عمر يتوكأ على عصا له، فسلم ثم جلس معظماً لهما، فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتاباً أعرف أن في انفاذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله، وإن عصيته أطعت الله عز وجل، فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟ فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة، فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد فقال: أيها الأمير، قد قال الشعبي ما قد سمعت، قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصى الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك، ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل، يا عمر بن هبيرة لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظر تمقت فيغلق بها باب المغفرة دونك، يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة، يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاما خوفكه الله تعالى فقال((ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)) يا عمر بن هبيرة إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة يزيد بن عبد الملك، وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه، قال فبكى عمر وقام بعبرته، فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما، وكثر منه ما للحسن وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته ولكن أردت وجد ابن هبيرة، فأقصاني الله منه(1). وقال
__________
(1) الزهد ، الحسن البصري صـ76 .(4/68)
الحسن: لا تخالفوا الله عن أمره، فإن خلافاً، عن أمره عمران دار قد قضى الله عليها بالخراب(1). وقال الحسن في قوله عز وجل((فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا)) قال: المتوجه بقلبه وعمله إلى الله عز وجل(2). وكان يقول: رحم الله امرءاً كان قوياً فاعمل قوته في طاعة الله، أو كان ضعيفاً فكّف عن معاصي الله(3).
... ـ الاعتبار والتفكر: قال تعالى: ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)) ( آل عمران، آية: 190). وقال تعالى: ((وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)) (الذاريات، آية: 21). فالتأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داع قوي للإيمان، لما في هذه الموجدات من عظمة الله الخالق الدالة على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها: من الحسن والانتظام والإحكام الذي يحير الألباب، الدال على علم سعة الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، الدالة على سعة رحمة الله، وجوده وبره، وذلك يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره واللهج بذكره، وإخلاص الدين له وهذا هو روح الإيمان وسره(4)، فعبادة التفكر والاعتبار دعا إليهما الحسن البصري وحث الناس عليها، فقال رحمه الله: إن من أفضل العمل الورع والتفكر(5)، وقال: من عرف ربه أحبه، ومن أبصر الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، وإذا فكر حزن(6). وكان يقول: رحم الله امرءاً نظر ففكر، وفكر فاعتبر، واعتبر فأبصر وأبصر فصبر، لقد أبصر أقوام ثم لم يصبروا فذهب الجزع بقلوبهم، فلم يدركوا ما طلبوا ولا رجعوا إلى ما فارقوا فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين(7)
__________
(1) المصدر نفسه صـ76 .
(2) المصدر نفسه صـ77 .
(3) المصدر نفسه صـ77 .
(4) شجرة الإيمان للسعدي صـ49 ، الوسطية في القرآن صـ239 .
(5) الزهد ، الحسن البصري صـ82 .
(6) المصدر نفسه صـ83 .
(7) المصدر نفسه صـ83 .(4/69)
، وقال: تفكر ساعة خير من قيام ليلة(1)، وكان يقول: الفكرة مرأة تريك حسناتك من سيئتك، فمن اعتمد عليها أفلح ومن أغفلها افتتضح(2).
ـ ... العلم والعلماء: وكان يقول: الفهم وعاء العلم، والعلم دليل العمل، والعمل قائد الخير، والهوى مركب المعاصي والمال داء المتكبرين، والدنيا سوق الآخرة، والويل كل الويل لمن قوى بنعم الله على معاصيه(3)، وقال: قد كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وهديه، وفي لسانه وبصره وبره(4).
ج ـ النهي عن طول الأمل وذم الكبر:
ـ ... النهي عن طول الأمل: قال الحسن: إن المؤمن في الدنيا غريب لا يجزم ذلها ولا ينافس أهلها في غرها، الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل طوبى لعبدٍ كسب طيباً، وقدم الفضل ليوم فقره وفاقته ووجهوا هذا الفضل حيث وجهه الله، ولا تلقوها هاهنا فيما يضركم(5). وكان يقول: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل(6)، ومن درر كلامه قوله: يا ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك(7).
ـ ... النهي عن الكبر: قال الحسن: يا ابن آدم، كيف تتكبر وأنت من سبيل البول مرتين(8)، وقيل رأى الحسن نعيم بن رضوان يمشي مشية المتكبر فقال: انظروا إلى هذا ليس فيه عضو إلا ولله تعالى فيه نعمة وللشيطان لعنة(9).
3 ـ من تلاميذ الحسن البصري الذين اشتهروا بعلم السلوك:
... كان الحسن البصري من علماء أهل السنة واهتم رحمه الله بعلم السلوك، وكان له مجلس خاص في منزله لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك(10)، وقد تأثر بمدرسة الحسن البصري مجموعة خيرة، لكوكبة نيرة، ونجوماً ساطعة من علماء أهل السنة، منهم:
أ ـ أيوب السختياني:
__________
(1) المصدر نفسه صـ83 .
(2) الزهد للحسن البصري صـ83 .
(3) المصدر نفسه صـ92 .
(4) المصدر نفسه صـ92 .
(5) المصدر نفسه صـ81 .
(6) المصدر نفسه صـ82 .
(7) المصدر نفسه صـ81 .
(8) المصدر نفسه صـ90 .
(9) المصدر نفسه صـ90 .
(10) سير أعلام النبلاء (4/579) .(4/70)
... هو الإمام الحافظ سيد العلماء، أبو بكر بن أبي تميمة كيسان(1)، كان ثقة ثبتاً في الحديث، جامعاً عدلاً، ورعاً، كثير العلم(2)، وكان إذا سئل عن شيء ليس عنده فيه شيء قال: أسأل أهل العلم وكان كثيراً ما يقول: لا أدري. حتى قال حماد بن زيد: ما رأيت أحداً أكثر من قول: لا أدري من أيوب ويونس، وكان يحب ستر زهده ويقول: لأن يستر الرجل زهده خير له من أن يظهره(3)، وحج أيوب أربعين حجة، وكان عبيد الله بن عمر يرتاح قلبه في موسم الحج بلقاء أقوام نور الله قلوبهم بالإيمان، منهم أيوب(4)، وكان صديقاً ليزيد بن الوليد بن عبد الملك، فلما تولى يزيد الخلافة قال أيوب: اللهم أنسه ذكري(5)، وكان شديد التبسم في وجوه الناس(6).
* ـ ... من مواقف وكلمات أيوب:
ـ تعظيمه لأهل السنة: قال أيوب: انه ليبلغني موت الرجل من أهل السنة فكأنما يسقط عضو من أعضائي(7).
ـ موقفه من أهل الأهواء والبدع: قال: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعد(8). وعن أيوب قال: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم، فإني لا آمن من أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون(9). قال أيوب: وكان والله من الفقهاء ذوي الألباب(10).
ـ محبته للقاء إخوانه في الله: قال: إنه يزيدني في حب الموسم وحضوره أن ألقى أخوانا لي فيه لا ألقاهم في غير(11).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (6/15) .
(2) الطبقات (7/246) .
(3) تاريخ التصوف الإسلامي د. بدوي صـ189 .
(4) الحلية (3/4) .
(5) الحلية (3/6) .
(6) تاريخ التصوف الإسلامي صـ189 .
(7) الحلية (3/9) .
(8) الحلية (3/9) .
(9) الإمام أيوب السختياني صـ47 د. سليمان العربي .
(10) البدع والنهي عنها صـ48 لابن وضاح .
(11) الإمام أيوب السختياني صـ48 .(4/71)
ـ عبادته: كان من العباد المشهورين بحسن العبادة وكثرتها وكان شديد الحرص على إخفائها عن الناس وتصفيتها وإخلاصها لرب الناس(1)، وكان من سادات أهل البصرة، وعبّاد أتباع التابعين وفقهائهم ممن اشتهر بالفضل والعلم والنسك(2)، وكان كثير الحج والعمرة رحمه الله لوصية رسول الله بذلك: تابعوا بين الحج والعمرة(3)، وحج أيوب أربعين سنة(4)،، وكان يقوم الليل يخفي ذاك، فإذا كان قبل الصبح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة(5)
ـ ... الزهد: قال أيوب: الزهد في الدنيا ثلاث أشياء، أحبها إلى الله وأعلاها عند الله وأعظمها عند الله تعالى، الزهد في عبادة من عبد دون الله من كل ملك وصنم وحجر ووثن، ثم الزهد فيما حرم الله تعالى من الأخذ والإعطاء ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو أخسه عند الله، الزهد في حلال الله عز وجل،(6).
ـ ... شهادة الحسن البصري فيه: قال فيه الحسن: هذا سيد الفتيان(7)، قال: أيوب سيد شباب أهل البصرة(8)، وأما شهادة أيوب في شيخه الحسن فقد قال: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر، فتكلم قومٌ من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء(9). وقال: جالست الحسن أربع سنين فما سألته هيبة له(10).
__________
(1) المصدر نفسه صـ50 .
(2) مشاهير علماء الأمصار صـ150 رقم 1183 .
(3) مسند أحمد رقم 167 الحديث صحيح بشواهد .
(4) حلية الأولياء (3/5) .
(5) المعرفة والتاريخ(2/241) الإمام أيوب السختياني صـ52 .
(6) حلية الأولياء (3/7) .
(7) طبقات ابن سعد (7/247) الإمام أيوب صـ75 .
(8) حلية الأولياء (3/3) الإمام أيوب صـ75 .
(9) سير أعلام النبلاء (4/577) .
(10) حلية الأولياء (3/11) ، الإمام أيوب صـ75 .(4/72)
ـ ... وفاته: بعد عمر قضاه في عبادة الله تعلماً وتعليماً وتربية وخشية لله، وتمسكاً بالسنة وتعظيماً بأهلها وقمعاً لأهل البدع والأهواء وإخلاص العلم والعمل لله توفي في مرض الطاعون بالبصرة عام 131هـ(1)، وروى أبو نعيم بسنده إلى حماد بن زيد قال: غدا علي ميمون أبو حمزة يوم الجمعة قبل الصلاة، وقال: فقال إني رأيت البارحة أبا بكر وعمر في النوم فقلت لهما: ما جاء بكما؟ قالا: جئنا نصلى على أيوب السختياني: قال: ولم يكن علم بموته فقلت له: قد مات أيوب البارحة(2).
ب ـ مالك بن دينار: علم العلماء الأبرار، معدود من ثقات التابعين، ومن أعيان كتبة المصاحف، كان من ذلك بلغته(3).
ـ ... من مواقفه وأقواله:
ـ عدم تأثره بالمدح والذم: قال: مذ عرفت الناس لم أفرح بمدحهم ولم أكره ذمهم لأن حامدهم مفرط، وذامهم مفرط، إذا تعلم العالم العلم للعمل كسره، وإذا تعلمه لغير العمل زاده فخراً(4).
ـ ... حزن القلب: قال: إذا لم يكن في القلب حزن خرب. وقال: من تباعد من زهرة الدنيا، فذاك الغالب هواه(5).
ـ ... جاء يسرق فسرقناه: قيل دخل عليه لص، فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئاً من الدنيا فترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم. قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد، فسأل من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه(6).
ـ ... أطيب شيء من الدنيا معرفة الله: قال: خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب شيء فيها، قيل: وما هو؟ قال: معرفة الله.
__________
(1) الوافي بالوفيات (10/54 ، 55) ، الإمام أيوب صـ96 .
(2) سير أعلام النبلاء (6/23) .
(3) سير أعلام النبلاء (5/362) .
(4) المصدر نفسه (5/362) .
(5) المصدر نفسه (5/363) .
(6) المصدر نفسه (5/363) .(4/73)
ـ ... محبة أنس بن مالك له: قال مالك بن دينار: أتينا أنساً أنا وثابت ويزيد الرقاشي، فنظر إلينا فقال: ما أشبهكم بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لأنتم أحب إلي من عدة ولدي إلا أن يكون في الفضل مثلكم، إني لأدعو لكم في الأسحار(1).
ـ ... مصدر كسبه: كان ينسخ المصحف في أربعة أشهر، فيدع أجرته عند البقال فيأكله، وكان أدم مالك بن دينار في كل سنة بفلسين ملح(2).
ـ ... وفاته: توفي سنة 127هـ وقيل 130هـ(3). فمالك بن دينار من علماء أهل السنة ولا ينظر لمن ألصق به آثار واهية نسبها إليه وزعم أنه خلط الروحية الإسلامية بعناصر غير إسلامية وكتابية على وجه التخصيص(4). بل الثابت من سيرته بأنه من أعلام السلوك ومن تلاميذ الحسن البصري، وأنس بن مالك والأحنف بن قيس وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، والقاسم بن محمد(5) وغيرهم من علماء أهل السنة.
__________
(1) المصدر نفسه (5/364) .
(2) المصدر نفسه (5/364) .
(3) المصدر نفسه (5/364) .
(4) تاريخ التصوف الإسلامي صـ207 .
(5) سير أعلام النبلاء (5/362) .(4/74)
ج ـ محمد بن واسع: الإمام الرباني، القدوة(1)، ترجمت له في حديثي عن الفتوحات في عهد عبد الملك، وكان من ضمن جيش قتيبة بن مسلم وقد قام مدة في خراسان(2). قال عنه مالك بن دينار: القراء ثلاث: فقاريء للرحمن، وقاريء للدنيا، وقاريء للملوك، ويا هؤلاء محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن(3)، وكان الحسن البصري يسميه زين القراء(4)، ومن أقواله: إذا أقبل العبد بقلبه على الله أقبل الله بقلوب العباد عليه. وقال: يكفي من الدعاء مع الورع يسير(5) العمل هؤلاء هم أشهر تلاميذ الحسن البصري في علم السلوك والذين كان لهم تأثير كبير في حياة الناس، واليوم نحن في أشد الحاجة لإحياء هذا العلم الذي أصبح نادراً وتصدر له بعد المحسوبين على العلم من أصحاب العقائد الفاسدة والتصورات السقيمة والأفكار المنحرفة، فالأمة في حاجة ماسة لمنهج تربوي سني تستلهم أصوله وفروعه من كتاب الله وسنة رسوله وهدي الصحابة الكرام ومن سار على نهجهم من العلماء الراسخين لكي تقف أمام الهجمة المادية، والطغيان الشهواني، الذي يبث في وسائل الإعلام العالمية والإقليمية والقُطرية، كما أن من عوامل نهوض الأمة كبح شهواتها، وتطهير نفوسها من أمراضها وإحياء القلوب بالمعاني الرفيعة والأعمال القلبية، كالرجاء والخوف والإخلاص والإنابة لله رب العالمين.
4 ـ براءة الحسن البصري من الاعتزال:
__________
(1) المصدر نفسه (6/119) .
(2) تاريخ التصوف الإسلامي صـ217 ، الحلية (2/353) .
(3) الحلية (2/345) تاريخ التصوف الإسلامي صـ214 .
(4) تاريخ التصوف الإسلامي صـ214 .
(5) سير أعلام النبلاء (6/121) .(4/75)
... يزعم المعتزلة أن الحسن البصري قال بالقدر على مذهبهم وإنه منهم فيروون عند داود بن أبي هند أنه قال: سمعت الحسن يقول: كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي(1). ويوردون رسائل أرسلها إلى عبد الملك بن مروان وفيها قوله بالقدر على مذهب المعتزلة، ويقولون: إن رسائله مشهورة(2). وقد تحمس الشيخ محمد أبو زهرة ليثبت أن الحسن البصري كان يقول بالقدر على مذهب المعتزلة(3)، والرد على هذه الدعاوي الخالية من الحجج والبراهين والأدلة كتالي:
أ ـ أن المعتزلة أنفسهم لا يقطعون بنسبة الحسن إليهم، ولذا نرى ابن المرتضى لما ذكر الحسن وقوله في القدر قال: ((فإن قلت: فقد روى أيوب، أتيت الحسن، فكلمته في القدر فكف عن ذلك، قلت: فقد روى أنه خوفه بالسلطان فكف عن الخوض فيه(4). وهل يخاف الحسن السلطان وهو الرجل الذي يجهر بالحق دائماً.
__________
(1) المنية والأمل لابن المرتضى صـ12 ، القضاء والقدر د. المحمود صـ185 .
(2) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ186 .
(3) تاريخ الجدل صـ321 ـ 322 .
(4) المنية والأمل صـ15 .(4/76)
ب ـ أما بالنسبة للرسالة المنسوبة إليه فيقول عنها الشهرستاني: ورأيت رسالة نسبت إلى الحسن البصري كتبها إلى عبد الملك بن مروان، وقد سأله بالقول بالقدر والجبر فأجبه فيها بما يوافق مذهب القدرية، واستدل فيها بآيات من القرآن الكريم ودلائل من العقل، ولعلها لواصل بن عطاء، فما كان الحسن ممن يخالف السلف في أن القدر خيره وشره من الله ـ تعالى ـ فإن هذه الكلمات المجمع عليها عندهم(1). وهذه الرسالة لم تصح نسبتها إلى الحسن والمعتزلة ينسبون إلى الحسن أقوالاً بروايات منقطعة، فالمرتضى حين ذكر أهل العدل والتوحيد عد منهم الحسن البصري وترجم له ترجمة طويلة، ولما أراد أن يثبت أنه من أهل العدل قال: فمن تصريحه بالعدل، ما رواه علي بن الجعد قال: سمعت الحسن يقول: من زعم أن المعاصي من الله عز وجل جاء يوم القيامة مسوداً وجهه وقرأ: ((وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ)) (الزمر ، الآية : 60). وعلى بن الجعد الذي يقول: سمعت الحسن لم يسمع منه ولم يلقه(2)،فهذه رواية منقطعة(3).
__________
(1) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة صـ186 .
(2) المصدر نفسه صـ187 .
(3) المصدر نفسه صـ187 .(4/77)
ج ـ وابن قتيبة يذكر عن الحسن البصري أنه تكلم في شيء من القدر، ثم رجع عنه، ولكنه يذكر بعد ذلك مباشرة أن عطاء بن يسار ومعبداً الجهني كانا يأتيان الحسن، فيسألانه ويقولان: يا أبا سعيد إن الملوك يسفكون دماء المسلمين، ويأخذون الأموال، ويفعلون ويفعلون، ويقولون: إنما تجري أعمالنا على قدر الله، فقال: كذب أعداء الله(1)، قال ابن قتيبة: فتعلق عليه بمثل هذا وأشباهه(2). ويشبه هذا ما يورى عن الحسن أنه قال ـ وهو محق في قوله ـ إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى العرب وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله ويقولون: إن الله سبحانه قد شاء ما نحن فيه وحملنا عليه وأمرنا به ، فقال عز وجل: ((وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (الأعراف ، الآية 28)(3). فهل كلام الحسن ـ رحمه الله ـ في الروايتين دل على أنه قدري؟ إن الجواب على ذلك واضح بداهة لأنه يرد على الذين يحتجون بالقدر على كفرهم ومعاصيهم ولا شك أن هذا الاحتجاج باطل وكلام الحسن حق(4). وقد أشار ابن تيمية إلى أنه قال: قد اتهم بمذهب القدر غير واحد، ولم يكونوا قدرية، بل كانوا لا يقبلون الاحتجاج على المعاصي بالقدر، كما قيل للإمام أحمد: كان بن أبي ذؤيب قدرياً، فقال: الناس كل من شدد عليهم بالمعاصي قالوا: هذا قدري. وقد قيل: لهذا السبب نسب إلى الحسن القدر(5).
__________
(1) المصدر نفسه صـ187 .
(2) المصدر نفسه صـ187 .
(3) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة ومذاهب الناس صـ188 .
(4) المصدر نفسه صـ188 .
(5) منهاج السنة (1/362) القضاء والقدر صـ188 .(4/78)
د ـ وهناك روايات تنفي هذا الزعم، فعن عمر مولى غفرة قال: كان أهل القدر ينتحلون الحسن بن أبي الحسن، وكان قوله مخالفاً لهم كان يقول: يا ابن آدم، لا ترض أحداً بسخط الله ولا تطيعنّ أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله، إن الله خلق الخلق والخلائق، فمضوا على ما خلقهم عليه فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزداد بحرصه في عمره، أو يغير لونه، أو يزيد في أركانه أو بنانه(1).
هـ ومعلوم أن المعتزلة أجمعوا على اصولهم الخمسة، والحسن البصري يعتبر القول بالمنزلة بين المنزلتين بدعة تخرج صاحبها عن عقيدة الجماعة، ولذلك اعتزل واصل بن عطاء حلقة الحسن لما خالفه في هذا الأصل، فكيف مع هذا يعتبر الحسن من علمائهم المنتسبين إليهم(2)؟.
__________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد (7/175) .
(2) موقف المعتزلة من السنة النبوية صـ27 .(4/79)
و ـ وقد اشتهر عن بعض المعتزلة القدرية أنهم يكذبون على الحسن البصري، فقد ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة عدة روايات تدل على ذلك، فمن ذلك ما رواه عن حميد قال: قدم الحسن مكة فقال فقهاء مكة: الحسن بن مسلم وعبد الله بن عبيد: لو كلمت الحسن فأخلانا يوماً. فكلمت الحسن فقلت: يا أبا سعيد إخوانك يحبون أن تجلس لهم يوماً، قال: نعم ونعمة عين، فواعدهم يوماً فجاءوا فاجتمعوا، وتكلم الحسن وما رأيته قبل ذلك اليوم ولا بعده أبلغ منه ذلك اليوم، فسألوه عن صحيفة طويلة فلم يخطئ فيها شيئاً إلا في مسألة، فقال له رجل: يا أبا سعيد من خلق الشيطان؟ قال: سبحان الله، سبحان الله، وهل من خالق غير الله ثم قال: إن الله خلق الشيطان وخلق الشر والخير فقال رجل منهم: قاتلهم الله يكذبون على الشيخ(1). وقال حميد لمن نقل عن عمرو بن عبيد حديثاً رواه الحسن: لا تأخذ عن هذا فإنه يكذب على الحسن(2). وروى عبد الله بن أحمد عن حماد بن زيد قال: قيل لأيوب: إن عمراً ((أي عمرو بن عبيد)) روى عن الحسن أنه قال: لا يجلد السكران من النبيذ، قال: كذب، أنا سمعت الحسن يقول: يجلد السكران من النبيذ(3) . فهذه الروايات وغيرها، تدل على أن دعوى أن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ كان قدرياً أو كان يقول بقولهم ليست صحيحة(4). وإنما غرض المعتزلة هو التشرف بانتسابه إليهم، وإلا فكيف عدّوه منهم(5). والمعتزلة ذكروا مع الحسن غيره، بل وعدّوا من الطبقة الأولى من طبقاتهم الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة(6). وواضح إن إدراج هؤلاء ضمن المعتزلة إنما قصد به بيان أن المعتزلة هي أتقى الفرق وأبرها(7). ومعلوم لدى طلاب العلم وعموم
__________
(1) السنة لعبد الله بن الإمام أحمد (2/126) .
(2) المصدر نفسه (2/131) .
(3) المصدر السابق (2/132) .
(4) القضاء والقدر في ضوء الكتاب والسنة صـ191 .
(5) المصدر نفسه صـ189 .
(6) المصدر نفسه صـ189 .
(7) مذاهب الإسلاميين، عبد الرحمن بدوي (1/40) .(4/80)
المسلمين أن الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام براء من تهمة الإعتزال وإنما هم سادة علماء أهل السنة والجماعة الذين ساروا على منهاج النبوة..
5 ـ الإمام العادل في نظر الحسن البصري:
... عندما جاء عمر بن عبد العزيز للخلافة نجد الحسن البصري قريباً من الخليفة الجديد يتعهده بالوعظ والإرشاد ويرسم له منهاجاً للإمام العادل وهذا دور إيجابي من الحسن ـ رحمه الله ـ يبين العمل المطلوب من العالم الرباني الذي يسعى لمساعدة المصالحين من أصحاب القرار لنصرة الإسلام وهذا يدلنا على تكامل شخصية الحسن الإسلامية فقد شارك في الجهاد والتعليم والتربية، وكان رائد المدرسة
... الإصلاح الاجتماعي بين الناس في حياتهم، واهتم بأمراض القلوب، وعلاجها، وكانت له مواقفه السياسية من الثورات، ومن الحكام الظالمين، وهنا تتجلى شخصيته السياسية أكثر من قربه من عمر بن عبد العزيز وشد أزره والوقوف بجانبه والتنظير لمعالم الإصلاح والتجديد الراشدي الذي قاده عمر بن عبد العزيز، فقد جاء في رسالته التي كتبها إلى عمر بن عبد العزيز: أعلم يا أمير المؤمنين: أن الله جعل الإمام العادل قوَّام كل مائل وقصد كل جائر، وصلاح كل مفسد، وقوة كل ضعيف ونصفة(1) كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف. والإمام العادل يا أمير المؤمنين كالراعي الشفيق على إبله، الرفيق الذي يرتاد لها أطيب المرعى ويزودها عن مراتع الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنفها من أذى الحر والقر(2).
__________
(1) النصفة : اسم من الإنصاف .
(2) القر : البرد .(4/81)
... والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغيراً، ويعلمهم كباراً، يكتسب لهم في حياته، ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل، يا أمير المؤمنين، كالأم الشفيقة البرة الرفيقة بولدها: حملته كرهاً ووضعته كرهاً، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة، وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العادل، يا أمير المؤمنين وصي اليتامة، وخازن المساكين: يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالقلب بين الجوانح: تصلح الجوانح بصلاحه وتفسد بفساده، والإمام العادل، يا أمير المؤمنين، هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملكك الله كعبد إئتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدل المال وشرد العيال، فأفقر أهله، وفرق ماله. وأعلم يا أمير المؤمنين إن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من يليها؟ وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم؟ واذكر، يا أمير المؤمنين، الموت وما بعده وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه: فتزود له ولما بعده من الفزع الأكبر واعلم يا أمير المؤمنين، أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك، ويُسلمونك في قعره فريداً وحيداً، فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر، يا أمير المؤمنين، إذا بعثر ما في القبور، وحُصل ما في الصدور، فالأسرار ظاهرة والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فالآن، يا أمير المؤمنين، وأنت في مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل ـ لا تحكم، يا أمير المؤمنين، في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين ولا تسلط المستكبرين على المستضعفين، فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلاّ(1)، ولا ذمة فتبوء
__________
(1) الإل: العهد .(4/82)
بأوزارك وأوزار مع أوزارك، وتحمل أثقالك، وأثقالاً مع أثقالك، ولا يغُرنّك الذين يتنعمون بما فيه بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيّباتك في آخرتك. لا تنظر إلى قدرتك اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين وقد عنت الوجوه للحي القيوم، إني يا أمير، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهى من قبلي، فلم آلك(1)شفقة ونصحك فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له من ذلك من العافية والصحة والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته(2). والمعاني الرئيسية في هذه الرسالة:
أ ـ أن أهم صفة في الإمام هي العدل ولكنه عدل ممزوج بالرحمة الأبوية.
ب ـ وأن أولى الناس بإتباع حدود الله هو الإمام، لأنه إن لم يتبعها، فأجدر بالرعية ألا يتبعوها.
ج ـ وأن الإمام هو المنفذ للقصاص، فلا يحق له أن يقتل أحداً بغير حق، إن في القصاص حياة، فكيف يقضي على الحياة من وُكل إليه أمر توفير الحياة؟.
ح ـ أن صلاح الرعية بصلاح الإمام وفسادها بفساده، فمسئوليته عن أفعاله هي في الوقت نفسه مسئوليته عن أفعال كل رعيته، فما أعظم مسئوليته إذن.
س ـ وتظهر هذه المسئولية خصوصاً في تعيين الولاة، فما يرتكبه ولاة الإمام وعُمّاله الإمام هو أول مسئول عنها، ولهذا يجب على الإمام ألا يسلط المستكبرين على المستضعفين، لأن المتكبرين لا يرعون الحرمات ولا يراقبون الله في أعمالهم وأحكامهم، فإذا عيّن الإمام واحداً من هؤلاء، فقد تحمّل مع أوزاره الخاصة أوزارهم(3).
6 ـ الحسن البصري يصف الدنيا لعمر بن عبد العزيز:
__________
(1) أي لم اقصر .
(2) الحسن البصري لابن الجوزي صـ56، العقد الفريد لابن عبد ربه (1/12) تاريخ التصوف السني صـ179 .
(3) تاريخ التصوف الإسلامي صـ180 .(4/83)
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز واصفاً له الدنيا: أما بعد: يا أمير المؤمنين فإن الدنيا دار ظعن وانتقال وليست بدار إقامة على حال، وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فأحذرها، فإن الراغب فيها تارك، والغني فيها فقير، والسعيد من أهلها من لم يتعرض لها، إنها إذا اختبرها اللبيب الحاذق وجدها تذل من أعزها، وتفرق من جمعها، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه ويرغب فيه من يجهله، وفيه والله حتفه، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً، مخافة ما يكره طويلاً، الصبر على لوائها، أيسر من احتمال بلائها، واللبيب من حذرها، ولم يغتر بزينتها، فإنها غدارة ختالة خداعة، قد تعرضت بآمالها وتزينت لخطابها، فهي كالعروس العيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، وهي والذي بعث محمداً بالحق لأزواجها قاتلة، فاتق يا أمير المؤمنين صرعتها، واحذر عثرتها، فالرخاء فيها موصول بالشدة والبلاء، والبقاء مؤد إلى الهلكة والغناء واعلم يا أمير المؤمنين أن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفوها كدر، وعيشها نكد، وتاركها موفق، والمتمسك بها هالك غرق، والفطن اللبيب من خاف ما خوفه الله، وحذر ما حذره، وقدر من دار الفناء إلى دار البقاء فعند الموت يأتيه اليقين، الدنيا يا أمير المؤمنين دار عقوبة، لها يجمع من لا عقل له، وبها يغتر من لا علم عنده، والحازم اللبيب من كان فيها كالمداوي جراحه، يصبر على مرارة الدواء، لما يرجو من العافية، ويخاف من سوء عاقبة الدار والدنيا وأيم الله، يا أمير المؤمنين حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، والعباد في أضغاث أحلام، وإني قائل لك يا أمير المؤمنين ما قال الحكيم:
... ... ... ... فإن تنج من ذي عظيمة
... ... ... ... ... ... ... وإلا فإني لا أخالك ناجيا(4/84)
... ولما وصل كتابه إلى عمر بن عبد العزيز بكى وانتحب حتى رحمه من كان عنده وقال: يرحم الله الحسن فإنه لا يزال يوقظنا من الرقدة، وينبهنا من الغفلة، ولله دره من مشفق ما أنصحه وواعظ ما أصدقه وأفصحه. وكتب إليه عمر بن عبد العزيز: وصلت مواعظك النافعة فاستشفيت بها، ولقد وصفت الدنيا بصفتها، والعاقل من كان فيها على وجل، فكأن كل من كتب عليه الموت من أهلها قد مات والسلام عليك ورحمة الله، وبركاته، فلما وصل كتابه إلى الحسن قال: لله درّ أمير المؤمنين من قائل حق وقابل وعظاً لقد أعظم الله جل ثناؤه بولايته المنة، ورحم بسلطانه الأمة، وجعله بركة ورحمة(1). وكتب إليه: أما بعد: فإن الهول الأعظم، والأمر المطلوب أمامك، ولا بد من مشاهدتك ذلك، إما بنجاة أو بعطب(2).
7 ـ موقفه من الثورات التي حدثت في عهده:
__________
(1) الزهد للحسن البصري صـ169 .
(2) المصدر نفسه صـ169 .(4/85)
كان يرى أن تغيير الفساد لا يكون بالسيف وإنما يكون بالتوبة والرجوع إلى الله والنصح لأصحاب الأمور وقد قال: وما أعجب أمر من يحاول أن يغير بالسيف، فإن التغيير لا يكون إلا بالتوبة(1)وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب الصبر على ما تكرهه منهم: من رأى من أمير شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية(2). ويرى بعد فقهه لهذا الحديث وأمثاله أن تسلط الحكام عقوبة من الله تعالى تحتاج لصبر ويقول: لو أن الناس إذا ابتلوا من قِبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يُفرج عنهم، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه فوالله ما جاءوا بيوم خير قطّ(3). وكان موقفه من ثورة ابن الأشعث كما مر معنا وكان يرى أن ولاة الأمور طالما أنهم يقيمون الجمعة والجماعة والفيء، والثغور(4)والحدود، فلا يجوز الخروج عليهم(5)، وقد علق المودودي على منهج الحسن البصري في التعامل مع الثورات بأنه كان يشك بجدوتها(6)، وكان موقفه من ثورة يزيد بن المهلب ينظر إليها بقلق شديد خصوصاً وأن الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز كان قد حبس يزيد بن المهلب لفساده ولأنه إن تولى أموال المسلمين(7) فسينفقها في ملذاته، ويرى الحسن أن غضبة ابن المهلب غضبة لنفسه ومطامعه، فيذهب الحسن إلى حيث اجتمع الناس في الجامع يتوكأ على عاتق معاذ بن سعد وهو يقول له: انظر هل ترى رجلاً نعرفه؟ وسر الحسن عندما لم ير في المجموع رجلاً من أصحابه(8). وتزداد جرأة الحسن وصدعه بالحق، ويتقدم من المنبر ويزيد يخطب. وقال بصوت مرتفع يخاطب ابن المهلب: ((والله
__________
(1) الطبقات الكبرى (7/125، 131) .
(2) البخاري رقم 6724 ، مسلم رقم 1849 .
(3) شذرات الذهب (1/137) حياة الحسن البصري د. روضة صـ191 .
(4) حياة الحسن البصري صـ194 ، روضة الحصري .
(5) المصدر نفسه صـ194 .
(6) الخلافة والملك للمودودي صـ149 .
(7) حياة الحسن البصري صـ196 للحصري .
(8) تاريخ الطبري (7/491) .(4/86)
لقد رأيناك والياً ومولى عليك فما ينبغي لك ذلك. ويقف موقفاً أشد جرأة من سابقه فقد خرج على الناس وقد نصبوا الرايات، واصطفوا صفين، وهم ينتظرون خروج يزيد بن المهلب، ويقولون: يدعونا لسنة العمرين، فقال الحسن: إنما كان يزيد بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين ترون، ثم يسرح بهم إلى بني مروان يريد بهلاك هؤلاء رضاهم، فلما غضب غضبة نصب قصباً، ثم وضع عليها خرقاً ثم قال: إني قد خالفتهم فخالفوهم وقال: أدعوكم إلى سنة العمرين، وإن من سنة العمرين أن يوضع قيد في رجله ثم يرد إلى السجن ويوضع في جبة(1). وتزداد مواعظ الحسن وكراهيته للثورة فيخطب الناس ويقول: أيها الناس، الزموا رحالكم وكفوا أيديكم، واتقوا الله مولاكم، ولا يقتل بعضكم بعضاً على دنيا زائلة وطمع فيها يسير، ليس لأهلها بباق، وليس عنهم فيما اكتسبوا براض، إنه لم يكن إلا كان أكثر أهلها الخطباء، والسفراء والسفهاء، وأهل التيه والخيلاء، وليس يسلم منها إلا المجهول الخفي، والمعروف التقي(2). وعلى أثر هذه الخطبة، يهدد مروان ابن المهلب خليفة يزيد في الثورة فيقول: لقد بلغني أن هذا الشيخ الضال المرائي يثبط الناس، والله لو أن جاره نزع من خص داره قصبة لظل يرعف أنفه، والله ليكُفنّ عن ذكرنا وعن وجهه علينا سقاط الأبلة(3)، وعلوج فرات البصرة، أو لأنخين عليه مبرداً خشناً(4). ووقف الناس مع الحسن وقالوا له: لو أرادوك ثم شئت لمنعناك، فأجابهم بقوله: فقد خالفتكم إذا إلى ما نهيتكم عنه، آمركم ألا يقتل بعضكم بعضاً مع غيري وأدعوكم إلى أن يقتل بعضكم بعضاً دوني(5)؟ هذا هو موقف الحسن من كل فتنة يسعى لجمع شمل المؤمنين وينهى عن كل فرقة بينهم(6)وعن سلم ابن أبي الذّيّال
__________
(1) وفيات الأعيان (3/280) حياة الحسن البصري صـ197 .
(2) تاريخ الطبري (7/498) .
(3) أُبُلّته : بضمتين مشددة أصحابه وقبيلته .
(4) تاريخ الطبري (7/498) .
(5) المصدر نفسه (7/499) .
(6) حياة الحسن البصري صـ198 للحصري .(4/87)
قال: سال رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام، ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين(1)وقد سلك الحسن منهج السلم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يؤيد الثورة المسلحة لأسباب:
أ ـ أن الدعوة إلى الخروج عليهم يتبعها فوضى في أمور، واضطراب الأمن وفساد الأحوال، وفوضى ساعة يرتكب فيها المظالم ما لا يرتكب في استبداد السنين.
ب ـ رأى أن كثرة الخروج على الولاة يضعف الدولة الإسلامية ويجعل بأس المسلمين بينهم شديداً، فيكلب فيهم عدوهم، ويخرب عليهم حقوقهم.
ج ـ ولأنه رأى أن الدماء تراق في الخروج بدون حق يقام، ومظلمة تدفع والناس يخرجون من يد ظالم إلى أظلم.
س ـ وجد أن الطريق المعبّد لإصلاح هذا، إصلاح فساد المحكومين إذا تعذر عليه إصلاح فساد الحاكم، رأى أن الفساد عمّ الاثنين وتغلغل في الفريقين، فاعتقد أن الحكام ما لم يتغير الشعب والملازمة ثابتة بينهما(2).
8 ـ كيف يضل قوم هذا فيهم؟
__________
(1) الطبقات الكبرى (7/121) حياة الحسن صـ198 .
(2) تاريخ الجدل صـ323 .(4/88)
قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد، أخبرني عن حسن أهل البصرة؟ قلت: أصلحك الله، أُخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جانبه وجليسه في مجلسه وأعلم من قبلي به: أشبه الناس سريرة بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيء كان أشرك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال:حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم(1). ومن أقوال الحسن البصري ما رواه هشام بن حسّان: سمعت الحسن يحلف بالله، ما أعز أحد الدرهم إلا أذلهُ الله(2)، وقال: بئس الرفيقات، الدينار والدرهم، لا ينفعانك حتى يُفارقاك(3).
9 ـ وفاة الحسن البصري:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/576) .
(2) المصدر نفسه (4/576) .
(3) المصدر نفسه (4/576) .(4/89)
... مرض الحسن البصري مرض الموت وابنه إلى جانبه يمرضه ويعنى به وهو على سريره يسترجع ويكثر من الاسترجاع فيقول له ابنه: أمثلك يسترجع على الدنيا؟ فيجيبه بقوله: يا بني لا استرجع إلا على نفسي التي لم أصب بمثلها(1)، وعن أبان بن محبر عن الحسن أنه لما حضره الموت دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له: يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا بهن. قال: إني مزودكم ثلاث كلمات، ثم قوموا عني ودعوني ولما توجهت له، ما نهيتهم عنه من أمر، فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان، خطوة لكم وخطوة عليكم، فانظروا أين تغدون وأين تروحون(2). وقبل أن يسلم الحسن روحه أغمى عليه ثم أفاق إفاقة فقال: لقد نبهتموني من جنان وعيون ومقام كريم(3). وفي ليلة الجمعة وفي مستهل رجب سنة عشر ومائة(4)، أسلم الروح إلى بارئها وعاش نحواً من ثمان وثمانين سنة. كما قال ابنه عبد الله(5)، وقبيل وفاته قال رجل لابن سيرين: رأيت كأن طائراً أخذ أحسن حصاة في المسجد فقال: إن صدقت رؤياك مات الحسن، فلم يكن إلا قليلاً حتى مات الحسن(6). وقام بتغسيله تلميذاه: أيوب السختياني، وحميد الطويل، وصلى عليه عقيب الجمعة النضر بن عمر المقري(7)، قال حميد الطويل: توفي الحسن عشية الخميس وأصبحنا يوم الجمعة ففرغنا من أمره وحملناه بعد صلاة الجمعة ودفناه، فتبع الناس كلهم جنازته، واشتغلوا به، فلم تقم صلاة العصر بالجامع، ولا أعلم أنها تركت منذ كان الإسلام إلا يومئذ، لأنهم تبعوا كلهم الجنازة، حتى لم يبق بالمسجد من يصل العصر(8)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/587) .
(2) حلية الأولياء (2/154) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/587) .
(4) تذكرة الحفاظ صـ72 ، حياة الحسن البصري صـ202 .
(5) سير أعلام النبلاء (4/587) .
(6) وفيات الأعيان (2/72) ، الطبقات الكبرى (7/129) .
(7) تاريخ الذهبي ، نقلاً عن حياة الحسن البصري د. روضة صـ202 .
(8) سير أعلام النبلاء (4/587) .(4/90)
. رحم الله الحسن البصري النموذج الرفيع لورثة الأنبياء والعلماء الربانيين، فقد كان من الرجال العظماء، قلما تجد له مثيلاً زهداً، وورعاً، وعلماً، وحكماً، وشجاعة، وأدباً(1)، وكان من العلماء الذين نشطوا في دولة الفقهاء التي قادها عمر بن عبد العزيز ولم يبخل بوقت ولا نصيحة ولا موعظة ولا توجيه ولا إرشاد.
سابعاً: عمر والفتوح ورفع الحصار عن القسطنطينية:
عندما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كان من أول أعماله إيقاف التوسع في المناطق النائية في أطراف الدولة، ومحاولة سحب القوات الإسلامية من مناطق القتال، وأول أعماله في هذا المضمار كان في القوات التي عُني الخليفة سليمان بحشدها وإنفاذها بقيادة أخيه مسلمة لفتح القسطنطينية وظلت تحاصرها مدة سنتين لاقت فيها مصاعب كثيرة دون أن تفلح في تحقيق هدفها، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة: كتب بقفل مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية وقد كان سليمان أغزاه إياها برّاً وبحراً. فأشتد عليهم المقام وجاعوا حتى أكلوا الدواب من الجهد والجوع، حتى يتنح الرجل عن دابته فتقطع بالسوق .. ولجّ سليمان في أمرهم، فكان ذلك يغم عمر، فلما ولي، رأى أنه لا يسعه فيها بينه وبين الله عز وجل شيء من أمور المسلمين ثم يؤخر فعله ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب(2)، وقد وجه عمر بن عبد العزيز إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، فوجه إليهم خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، فكان الذي وجه إليه الخيل العتاق فيما قيل خمسمائة رأس(3). ويروي خليفة أنه في سنة 99هـ حمل عمر بن عبد العزيز الطعام والدواب إلى مسلمة بن عبد الملك إلى بلاد الروم وأمر من كان له هناك حميم أنه يبعث إليه وبعث معه بعثاً فأغاث الناس، وأذن لهم بالقفول(4)
__________
(1) حياة الحسن البصري صـ503 .
(2) ابن عبد الحكم صـ32 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ140 .
(4) تاريخ خليفة صـ326 ، تاريخ الإسلام للذهبي نقلاً عن العلي صـ140 .(4/91)
، وفي الأندلس ولىّ عمر بن عبد العزيز السمح بن مالك الخولاني، وعهد إليه: بإخلاء الأندلس من الإسلام إشفاقاً عليهم، إذ خشى تغلب العدو عليهم .. لانقطاعهم من وراء البحر من المسلمين(1). غير أن السمح لم ير الانسحاب الكامل في الأندلس، وكتب إلى الخليفة يقول: إن الناس قد كثروا بها وانتشروا في أقطارها، فاضرب عن ذلك، وأزال الأندلس عن عمالة أفريقية(2). وفي المشرق، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الرحمن والي خراسان يأمره بإقفال من وراء النهر من المسلمين بذراريهم، فأبوا وقالوا: لا يسعنا مرو (قاعدة خراسان). فكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه عمر، اللهم إني قد قضيت الذي عليّ فلا تغزُ بالمسلمين، فحسبهم الذي فتح الله عليهم(3)ويقتصر خليفة بن خياط على القول بأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الجراح بن عبد الله الحكمي: ((لا تغزُ، وتمسكوا بما في أيديكم(4)) وفي جبهة بلاد السند: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وقد كانت بلغتهم سيرته ومذهبه، فأسلم جيشه والملوك، وتسموا بأسماء العرب وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل عمر على ذلك الثغر(5). إن إيقاف عمر بن عبد العزيز التوسع القائم على استخدام المُقاتلة في الأطراف النائية للدولة وعمله على إحلال الحوار السلمي في إخماد الحركات المسلحة للمعارضة، لا يعني أنه أراد إلغاء المؤسسة العسكرية التي تمتد جذورها إلى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان لها الدور الأكبر في حماية الدولة وتوسيعها وتثبيت الأمن والاستقرار فيها، والواقع أن
__________
(1) تاريخ افتتاح الأندلس لابن القوطية صـ12 ـ 13
(2) فجر الأندلس لحسين مؤنس صـ136 ـ 137 ، عمر بن عبد العزيز، صالح العلي صـ140 .
(3) تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141 .
(4) تاريخ خليفة صـ326 ، عمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز للعلي صـ141 .
(5) فتوح البلدان صـ42 .(4/92)
التنظيمات المتصلة بالمُقاتِلة كانت تمسُّ صميم الحياة المدنية، ولا غنى لأي دولة عن مؤسسة الجيش في حفظ حدودها والمخاطر التي قد تتعرض لها لذلك كان لا بد من إبقاء الجند والمؤسسات المتصلة به، فظلت الأمصار، وهي مراكز إقامة المقاتلة العرب، قائمة دون أن يلغيها، أو يبدلها، أو يدخل تعديلات في تنظيماتها السكانية والإدارية وقضت الأحوال أن يتابع خلال مدة خلافته القصيرة، استمرار الحركات العسكرية المحدودة النطاق في عدد من الجبهات. ففي أذربيجان أغار الترك على المسلمين: فقتلوا من المسلمين جماعة ونالوا منهم، فَوَجَّه إليهم عمر بن عبد العزيز حاتم بن النعمان الباهلي، فقتل أولئك الترك، فلم يفلت منهم إلا اليسير، فقدم منهم على عمر بخناصرة خمسون أسيراً(1). وفي سنة 100 هـ أغارت الروم في البحر على ساحل اللاذقية، فهدموا مدينتها وسَبَوْا أهلها، فأمر ببنائها وتحصينها(2). وفي 101 هـ: أغزى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي، وعمرو بن قيس الكندي من أهل حمص، الصائفة(3). وأمر بترحيل أهل طرندة(4)وهم كارهون، وذلك لإشفاقه عليهم من العدو(5). وأراد أن يهدم المصيصة لتعُّرضها لغارات الروم، ثم أمسك عن ذلك وبنى لأهلها مسجداً جامعاً من ناحية كفرييا واتخذ فيه صهريجاً وكان اسمه عليه مكتوباً(6). وجعلها مركزاً متقدماً لدرء الخطر عن انطاكية من غزوات الروم المتكررة(7)، ورغم أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان قد حد من النشاط العسكري مع الروم وسحب الجيش الذي كان يحاصر القسطنطينية وبعض الحصون المتقدمة في بلد الروم، إلا أنه كان حازماً شديداً في أخذ الحق
__________
(1) تاريخ خليفة صـ326 ، عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142 .
(2) فتوح البلدان صـ20 .
(3) تاريخ الطبري نقلا عن عمر بن عبد العزيز للعلي صـ142 .
(4) طرندة : من الأماكن القريبة من الدولة الرومانية .
(5) فتوح البلدان صـ220 .
(6) المصدر نفسه صـ163 .
(7) العلاقات العربية البيزنطية صـ119 .(4/93)
والدفاع عنه، وهذا ما تشير إليه رواية ابن عبد الحكم، حيث يذكر أنه عندما أرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى ملك الروم، وقص عليه قصة رجل أسير في بلد الروم ـ وقد مرت معنا ـ أجبر على ترك الإسلام وإعتناق النصرانية، قائلين له: إن لم تفعل سملت عينك، فاختار دينه على بصره فسملت عيناه، فأرسل الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى ملك الروم وقال له: أقسم بالله، لأن لم ترسله إلي لأبعثن إليك من الجنود جنوداً يكون أولهم عندك وآخرهم عندي(1)، فاستجاب ملك الروم لطلبه، وبعث بالرجل إليه(2). وكان سياسة عمر بن عبد العزيز المرحلية تقوم على ضبط الثغور وحدود الدولة الإسلامية والإهتمام بفتح العقول، وأحياء القلوب وتطهير النفوس للشعوب الجديدة التي دخلت في الإسلام ولذلك بدأ يرسل سرايا الدعاة والعلماء للبدو القاطنين داخل الدولة الإسلامية وللشعوب التي كانت في أشد حاجة لتعاليم الإسلام.
ثامناً الإهتمام بالدعوة الشاملة:
ركز عمر جهوده بالبناء الداخلي للدولة لترسيخ وحدتها وأمنها ونشر العلم وتوصيله لكل أفراد الأمة ما أمكن لذلك سبيلا، كما اهتم على نشر العدل بين الرعية وإزاحة الضغائن والأحقاد من بين المسلمين وقد استهدف عمر بن العزيز قلوب الناس وعقولهم ونفوسهم بتعاليم الإسلام ووضع مشروعاً كبيراً لتحقيق ذلك الهدف العظيم ولم يكن عمر بالإنسان الذي تستهويه المشاريع الكبرى، فيقف عند حدود الخيال لا يتعداه، بل حوّل مشروعه إلى برنامج عملي قابلاً للتطبيق، بعدما مهد الظروف، وأحاط برامجه بالضمانات العملية وهيَ له الأسباب مما جعله يحيله إلى واقع مشهود وقد ساعده على نجاح مشروعه الدعوي التربوي العلمي أمور منها:
__________
(1) المصدر نفيه صـ131 .
(2) المصدر نفيه صـ131 .(4/94)
1ـ وضع قانون التفرغ للدعاة: حيث الزم الدولة بكفالة عدد من العلماء والدعاة والمفكرين، كي تتيح لهم التفرغ الكامل لا نجاز مشاريع فكرية دعوية التي يعكفون عليها باختيار أو بتوجيه من الدولة، فأجرى الأرزاق على العلماء ورتب لهم الرواتب يتفرغوا لنشر العلم ويكفوا مؤونة الاكتساب(1)، فقارئ القرآن الذي حفظه وقام يقرئه للناس ويعلمهم أحكامه والمحدث الذي يعقد مجالس الإملاء وينشر الحديث النبوي، والفقيه الذي ينظر في الكتب ويستنبط منها ويعلم الناس أمور دينهم ليعبدوا الله على بصيرة، والطالب الذي يتفرغ للعلم أو البحث والدرس، كل أولئك قد يشغلهم أمر ذويهم وأبنائهم وسدّ حاجتهم وتدبير أمور معاشهم، فقام عمر بقطع هذا الهاجس عنهم، وكفل لهم ولمن يعولون ما يعيشون به حياة كريمة، تتكفل به الدولة، ويؤخذ من بيت المال، ونعمّا ما فعل رضي الله عنه، فبذلك شجع كل من وجد في نفسه الإمكانية لنشر العلم وخدمة الدين والأمة(2). وكان يمنح من بيت المال مبلغاً قدره مائة دينار لكل من انقطع إلى مسجد جامع في أي بلد إسلامي، لغرض التفقه ونشر العلم، وتدريس القرآن وتلاوته(3)وعن أبي بكر بن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز على والي حمص: مُرْ لأهل الصلاح من بيت المال بما يُغنيهم لئلا يشغلهم شيء عن تلاوة القرآن وما حملوا من الأحاديث(4). وعن أبي مريم قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى والي حمص: ((انظروا إلى القوم الذين نصبوا أنفسهم للفقه، وحبسوها في المسجد عن طلب الدنيا، فأعط كل رجل منهم مائة دينار، يستعينون بها على ما هم عليه، من بيت مال المسلمين، حين يأتيك كتابي هذا، وإن خير الخير أعجله. والسلام عليك(5)
__________
(1) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ184 .
(2) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ72 .
(3) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ184 .
(4) أصول الحديث صـ178 ، عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ72 .
(5) البداية والنهاية ، نقلا عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ72 .(4/95)
. وفرض الرزق لمن يحدث الناس بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومناقب أصحابه، وللقصّاص والواعظين كذلك، وذكر ابن شبة" أن عمر بن عبد العزيز أمر رجلاً ـ وهو بالمدينة ـ أن يقص على الناس، وجعل له دينارين كل شهر، فلما قدم هشام بن عبد الملك جعل له ستة دنانير كل سنة(1). ومما جاء في كتبه بشأن إجراء الرزق على طلبة العلم لينقطعوا عن الشواغل، ما ذكره ابن عبد البر عن يحي بن أبي كثير قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن أجْرُوا على طلبة العلم الرزق، وفرّغوهم للطلب(2).
2 ـ حض العلماء على نشر العلم وعلنيته، وإتخاذ المساجد مراكز لتعليم الناس أمور دينهم، وإقراء طلبة العلم وإسماعهم، وإملاء الحديث النبوي، وإحياء السنة(3). قال عكرمة بن عمار وهو من أهل اليمن ـ سمعت كتاب عمر بن عبد العزيز يقول: أما بعد: فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم، فإن السنة كانت قد أميتت(4)، وأسند ابن عبد البر عن جعفر بن برقان الرَّقي ـ نسبة إلى الرقة شمال شرقي سورية ـ قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: أما بعد فَمُرْ أهل الفقه والعلم من عندك، فلينشروا ما علمهم الله في مجالسهم، ومساجدهم(5).
3 ـ توجيه الأمة إلى أهمية العلم: وفي ذلك يقول: إن استطعت فكن عالماً فإن لم تستطع، فكن متعلماً، فإن لم تستطع فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم. ثم قال: لقد جعل الله له مخرجاً إن قبل(6).
4 ـ إرسال العلماء الربانيين في شمال أفريقيا:
__________
(1) أخبار المدينة نقلاً عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ73 .
(2) جامع بيان العلم (1/228) عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ73 .
(3) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار صـ73 .
(4) أصول الحديث صـ178 ، عمر بن عبد العزيز صـ73 .
(5) جامع بيان العلم (1/149) .
(6) ابن عبد الحكم نقلاً عن عمر للزحيلي صـ74 .(4/96)
... كان عمر بن عبد العزيز يرسل العلماء إلى الأمصار بل البوادي ليعلّموا أهلها شرع الله، ويفقهوهم فيه، فقد بعث يزيد بن أبي مالك والحارث بن محمد إلى البادية ليعلما الناس السنة، وأجرى عليهم الرزق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لآخذ على علم علمنيه الله أجراً. فذكر ذلك لعمر فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث(1). وقد عبر عمر بهذا الجواب عما يجب أن يتحلى به الحاكم المسلم من مرونة فكرية، وعدم جمود على الأشكال، حيث أعلن أن أخذ الأموال لقاء لخدمات العلمية أمر لا بأس به، وسأل الله ـ من جهة أخرى ـ أن يكثر أولئك الذين يقومون بهذه الخدمات دون أجر إلا أجر الله(2). وقد بعث عمر إلى مصر الإمام المفتي الثبت، عالم المدينة (نافعاً) مولى ابن عمر، وراويته، فعن عبد الله بن عمر: بعث عمر بن عبد العزيز نافعاً مولى ابن عمر إلى أهل مصر يعلمهم السنن(3)، وأرسل عشرة من فقهاء المدرسة المصرية من رجال التابعين على أفريقية، ليفقهوا أهلها ويعلموهم، وينشروا بينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينالهم من الخير مثل الذي عمّ إخوانهم من أهل الحجاز والشام والعراق، وكانت معاقل العلم(4)، وتطلع إلى شمال أفريقيا، ليغزو القلوب والعقول والنفوس بدين الله، فأرسل العلماء الربانيين العشرة بعد أن وضع أهدافاً لخطته التعليمية في ذلك الإقليم منها:
أ ـ ... اختيار علماء ربانيين اشتهروا بالعلم والفقه والدعوة والتجرد للإشراف على التربية والتعليم.
ب ـ وضع خطة بعيدة المدى لنشر تعليم اللغة العربية، ومحو الأمية في أوساط القبائل البربرية، حتى يسهل عليها بعد ذلك فهم القرآن والسنة والتعامل معهما.
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ160 ، ملامح الانقلاب صـ184 .
(2) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ184 .
(3) سير أعلام النبلاء (5/979 تذكرة الحفاط (1/100) .
(4) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ69 .(4/97)
ج ـ الاهتمام بربط الناس بالقرآن المجيد الذي هو حبل الله المتين، ويكون ذلك بفتح الكتاتيب، وجمعيات تحفيظ القرآن وتجويده.
ح ـ البلاغ الواضح البين لعقائد أهل السنة.
س ـ تعليم الناس الحلال والحرام(1).
... ولقد بدأت بركات عهد عمر بن عبد العزيز على الشمال الإفريقي بتعيين أمير صالح عليه وبإرسال الفقهاء والعلماء الربانيين وإليك ترجمة الأمير والفقهاء:
ـ ... إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر:
... ولاه عمر بن عبد العزيز على إفريقية في المحرم سنة 99 ـ 100هـ فكان خير أمير، قال ابن خلدون: وأسلم جميع البربر في أيامه، وأرسل معه عشرة من فقهاء التابعين وعلمائهم يفقهون الناس في أمور الدين، ويبينون لهم الحلال والحرام(2). وكان هذا الأمير في غاية الزهد والتواضع حريصاً على نشر العلم وسار في أهل البلاد بسيرة العدل، وكان شديد الحفظ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى عنه ابن عساكر إنه قال: ينبغي لنا أن نحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسيلم كما نحفظ القرآن، أخرج له البخاري ومسلم وأبو داود، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد، وغيرهم. ومكث في القيروان معلماً للناس، ناشراً للسنة، لمدة ثلاث وثلاثين سنة حيث توفي بها سنة 131هـ(3)، وقد جمعت شخصية إسماعيل رحمه الله، الكفاءة، والعلم والورع، فأنتجت هذه الثمار التي ساهمت في ترسيخ الإسلام في شمال إفريقيا وينبغي لنا أن نهتم بتحقيق هذه الصفات وغيرها في نفوس القادة والولاة.
ـ بكر بن سوادة الجذامي، أبو ثمامة(ت128 هـ بإفريقية):
__________
(1) الشرف والتسامي بحركة الفتح الإسلامي للصَّلاَّبِّي صـ306 ، 307 .
(2) تاريخ الفتح العربي في ليبيا صـ148 .
(3) مدرسة الحديث بالقيروان ((2/14 إلى 22)) .(4/98)
أقام في الشمال الإفريقي أكثر من ثلاثين سنة محدثاً ومفتياً، وفقيهاً وقد انتفع به أهلها، ورووا عنه، أدخل على القيروان حديث عدد من الصحابة، منهم: عقبة بن عامر، وسهل بن سعد الساعدي، وسفيان بن وهب الخولاني، كما روى عن جماعة من التابعين منهم: سعيد بن المسيب وابن شهاب الزهري، وقد قارب شيوخه الأربعين، وروى عنه كثير من أهل القيروان منهم عبد الرحمن بن زياد، وأبو زرعة الإفريقي وكان ثقة في حديثه، أخرج له مسلم والأربعة، والبخاري تعليقاً، وأحمد، والطبراني، وغيرهم، وعداده في المصريين رغم طول مكثه بالقيروان ووفاته بها(1).
ـ جُعثلُ بن عاهان الرُّعيني القتباني، أبو سعيد(ت حوالي 115 هـ)
... عده أبو العرب وابن حجر وغيرها في التابعين، ولم يذكروا عمن روى من الصحابة، وكان محدثاً، فقيهاً مقرئاً، تولى قضاء الجند بالقيروان وبث فيها علماً كثيراً لمدة زادت عن خمسة عشر عاماً، وروى عنه من أهل القيروان عبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، وبكر بن سوادة وهو زميله في البعثة العلمية، وثقه أكثر النقاد، وأخرج له الأربعة وأحمد وغيرهم: توفي في خلافة هشام بن عبد الملك سنة 115 هـ(2).
ـ حبان بن جبلة القرشي: مولاهم، ودفع الوهم بأن عمر رضي الله عنه أرسله لتفقيه أهل مصر ت 125 هـ وقيل 122 هـ بالقيروان أدخل في الشمال الإفريقي حديث جملة من الصحابة منهم: ابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، ووالده عمرو، وبقي يبث العلم في عاصمة الشمال الإفريقي في مدينة القيروان أكثر من خمس وعشرين سنة، أنتفع به أهلها، وروى عنه كثيراً منهم، كعبد الرحمن بن زياد، وعبيد الله بن زحر، وموسى بن علي بن رباح وغيرهم، وهو عند النقاد ثقة في حديثه، أخرج له البخاري في الأدب المفرد وابن سنجر في مسنده والحاكم في المستدرك وغيرهم(3).
__________
(1) المصدر نفسه .
(2) المصدر نفسه .
(3) مدرسة الحديث بالقيروان (2/14 إلى 22) .(4/99)
ـ سعد بن مسعود التجيبي: أبو مسعود(ت بالقيروان): يروي عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو الدرداء، ويروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً حتى وهم بعضهم فعده في الصحابة، ولذلك نبهت معظم المصادر على أنه لا صحبة له، وقد سكن القيروان وبث في الشمال الإفريقي علماً كثيراً وكانت مجالسه مليئة بالحكم والمواعظ البليغة، وكان شديداً على الأمراء، روى عنه من أهل القيروان: مسلم بن يسار الإفريقي، وعبيد الله بن زحر، وعبد الرحمن بن زياد، في جامع ابن وهب وغيره، وذكر الدباغ أنه توفي بالقيروان بعد أن بث فيها علماً كثيراً، ولم يذكر تاريخ وفاته(1).
ـ طلق ابن جعبان الفارسي، وقيل: جابان، والصواب الأول كما في الإكمال، تابعي، لقي عمر وسأله، وأكثر روايته عن التابعين كان فقيهاً عالماً، وروى عنه من أهل القيروان: موسى بن علي، وابن أنعم، ولم يذكروا مدة إقامته بها ولا تاريخ وفاته(2).
ـ عبد الرحمن بن رافع التنوخي، أبو الجهم (ت بالقيروان سنة 113 هـ): دخل القيروان في وقت مبكر، سنة 80هـ، وهو أجل قضاتها، وذلك على عهد حسان بن النعمان واستمر يبث فيها العلم ما يقارب ثلاثاً وثلاثين سنة، حتى إنتفع به خلق كثير من أهلها وقد أدخل إلى القيروان حديث جماعة الصحابة عرفنا منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وحدث عنه من القرويين: عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، وعبد الله بن زحر الكناني، وبكر بن سواد الجذامي وغيرهم... وهو أول من ولي قضاء القيروان وتوفي بها سنة 113هـ(3).
ـ ... عبد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني:
__________
(1) المصدر نفسه (2/14 إلى 22) .
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج صـ45 .
(3) عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج صـ45 .(4/100)
... كان مقيماً في القيروان قبل زمن بعثة عمر بن عبد العزيز بمدة طويلة معروفاً لدى أهلها مشهوراً بينهم بالعدالة والتقى، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز قضاء القيروان سنة 99هـ، لما علمه من فضله ودينه وعلمه فاستمر في منصبه إلى أن استقال منه سنة 123هـ، وكان زاهداً ورعاً عالماً، سار في أهل القيروان بالكتاب والسنة ونشر العلم بينهم لمدة طويلة زادت عن خمس وعشرين سنة، ذكره ابن حبان في الثقات وأثنى عليه المصنفون بالفضل والعلم والدين(1).
ـ ... عبد الله بن يزيد المعافري الحبلي ، أبو عبد الرحمن ت بالقيروان 100هـ: دخل القيروان في زمن مبكر، ولعل ذلك كان مع موسى بن نصير سنة 86هـ لأنه شهد فتح الأندلس، ثم عاد إلى القيروان وسكنها وبنى بها داراً ومسجداً ثم عين ضمن أفراد البعثة العلمية إلا أن وفاته كانت سنة 100هـ، أي بعد سنة واحدة من التكليف الرسمي، ومع ذلك فقد قال عنه المالكي: فانتفع به أهل إفريقية وبث فيها علماً كثيراً وأدخل القيروان حديث جماعة من الصحابة ممن لم يدخلها، وزاد في إفشاء حديث من دخلها منهم، حدث عن ابن عمر وعقبة بن عامر، وابن عمرو، وأبو ذر، وروى عنه من أهلها عبد الرحمن بن زياد، وأبو كريب جميل بن كريب القاضي (ت 139)هـ وغيرهما، كان رجلاً صالحاً ورعاً شديد الإقبال على نشر السنة، وكان تأثيره في الحياة العلمية ـ خاصة الجانب الحديثي منها ـ بالقيروان كبيراً، وقد بنى فيها مسجداً لمجالسه العلمية أجمع النقاد على توثيقه، وحديثه عند مسلم، والأربعة، وابن وهب في جامعه وأحمد وغيرهم(2).
__________
(1) المصدر نفسه صـ46 .
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ46 .(4/101)
ـ ... وهب بن حي المعافري: وقد ذكر ابن أبي حاتم أن هناك من قلبه إلى: حي بن موهب، وأن أبا زرعة قد صحح ذلك، غزا إفريقية قديماً، لأنه سأل ابن عباس المتوفى سنة 68هـ عن آنية أهل المغرب كما في الرياض والمعالم، وهو من أفراد بعثة عمر، وقد سكن القيروان، وبث فيها علماً كثيراً وبها كانت وفاته، وقد أدخل إلى القيروان حديث ابن عباس وغيره، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وروى عنه من أهل القيروان عبد الرحمن بن زياد الإفريقي ولم تظهر المصادر حاله من حيث التعديل والجرح(1)، هؤلاء الفقهاء العشرة من خيرة فقهاء التابعين أرسلهم عمر بن عبد العزيز إلى الشمال الإفريقي ليفقهوا ويعلموا الناس دينهم فكانوا عند حسن ظنه بهم وكانوا للناس قدوة صالحة، وقد سبق هؤلاء العشرة كثير من التابعين الذين قاموا بتعليم أهل البلاد أحكام الدين علماً وعملاً(2). وكان لهؤلاء العشرة آثار هامة في القرآن الكريم وتفسيره والحديث وفي نشر السنة العملية والإعتقادية الصحيحة، وساعدوا ولاة أمور المسلمين على مقاومة النحل الخارجية وتركيز أحكام الإسلام بين البربر فقد روى المالكي أنه لما ثارت الخوارج على حنظلة ابن صفوان بطنجة سنة 122هـ جمع حنظلة علماء إفريقية وهم الذين بعثهم عمر بن عبد العزيز إلى إفريقية ليفقهوا أهلها فكتبوا هذه الرسالة ليقتدي بها المسلمون ويعتقدوا ما فيها:... فإن أهل العلم بالله وبكتابه وسنه نبيه صلى الله عليه وسلم يعلمون أنه يرجع جميع ما أنزل الله عز وجل إلى عشر آيات: آمرة وزاجرة ومبشرة، ومنذرة، ومخبرة، ومحكمة، ومتشابهة، وحلال وحرام وأمثال، فآمرة بالمعروف وزاجرة عن المنكر، ومبشرة بالجنة، ومنذرة بالنار ومخبرة بخبر الأولين، والآخرين، ومحكمة يعمل بها، ومتشابهة يؤمن بها، وحلال أمر أن يؤتى، وحرام أمر أن يجتنب، وأمثال واعظة فمن يطع
__________
(1) مدرسة الحديث بالقيروان (2/14 إلى 22) .
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ47 .(4/102)
الآمرة وتزجره الزاجرة فقد استبشر بالمبشرة وأنذرته المنذرة، ومن يحلل الحلال ويحرم الحرام، ويرد العلم فيما اختلف فيه الناس إلى اله، مع طاعة واضحة ونية صالحة فقد فاز وأفلح وأنجح وحيا حياة الدنيا والآخرة والسلام(1)، إن هذه الرسالة تعتبر وثيقة عظيمة الأهمية إذ تدل على أصالة علم هذه البعثة العلمية، ووضوح أهدافهم الشرعية أمامها، حتى أنهم أوجزوا فحوى الرسالة ونظراً لعظيم فائدتها عممت على أن تقرأ على منابر المساجد في جميع ضواحي إفريقية(2).
5 ـ رسائله الدعوية إلى الملوك في الهند وغيرها:
... كتب عمر بن عبد العزيز إلى ملوك السند يدعوهم إلى الإسلام على أن يملكهم بلادهم ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد كانت سيرته بلغتهم، فأسلم جيشبة بن داهر(3)، والملوك تسموا له بأسماء العرب... وبقي ملوك السند مسلمين على بلادهم أيام عمر ويزيد بن عبد الملك(4). وقد أرسل عليهم عمر من يعلمهم دينهم(5)، كما أرسل عمر برسائل إلى ملوك ما وراء النهر يدعوهم فيها إلى الإسلام فأسلم بعضهم(6)، وأما أليون قيصر الروم فقد بعث إليه عمر وفداً برئاسة عبد الأعلى بن أبي عمرة لدعوته إلى الإسلام(7).
6 ـ تشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام:
__________
(1) رياض النفوس للمالكي (1/102 ، 103) .
(2) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ48 .
(3) فتوح البلدان صـ428 ، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173 .
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173 .
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173 .
(6) فتوح البلدان صـ415 .
(7) البداية والنهاية نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ173 .(4/103)
... قام عمر بتشجيع غير المسلمين على الدخول في الإسلام عن طريق إعطائهم الأموال لتألفة قلوبهم، وذلك إتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيذكر ابن سعد عن عيس بن أبي عطاء رجل من أهل الشام كان على ديوان أهل المدينة عن عمر بن عبد العزيز أنه ربما أعطى المال من يستألف على الإسلام(1). كذلك ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى بطريقاً ألف دينار إستألفه على الإسلام(2).
7 ـ تصحيح الوضع الخاص لأهل الذمة:
__________
(1) الطبقات (5/350) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174 .
(2) المصدر (5/350) .(4/104)
... لقد كان لإنصافه لأهل الذمة الذين أسلموا بوضع الجزية عنهم أثر واضح في زيادة إقبال الذميين على الدخول في الإسلام برغم كل ما ترتب على ذلك بالنسبة لبيت المال مثل ما فعل مع واليه على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي حيث أرسل إليه يقول: انظر من صلى قبلك إلى القبلة، فضع عنه الجزية(1)، ثم أرسل بدعوة أهل الذمة إلى الدخول في الإسلام، فمثلاً أرسل إلى عامله الجراح بن عبد الله الحكمي يأمره بدعوة أهل الجزية إلى الدخول في الإسلام فإن أسلموا قبل إسلامهم، وأن يضع الجزية عنهم، ثم كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين(2). وقد ترتب على هذه الدعوة دخول عشرات الألوف من الناس في الإسلام طائعين ففي خراسان أسلم نحو من أربعة آلاف ذمي على يد واليه الجراح بن عبد الله(3)، أما في المغرب فقد أسلم عامة البربر على يد والي عمر على المغرب إسماعيل بن عبد الله بن أبي المهاجر(4). وكان ذلك دليلاً على بعد نظر عمر في الإهتمام بالدعوة إلى الإسلام عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة، إذ كانت نتائجها لا تقل عن نتائج غيرها إيجابية بل تتعدى ذلك إلى أنه اكتسب مسلمون جدد دون أن يتكلف شهيداً، أو نفقة لإعداد جيوش وهم رعاياه ويعيشون بين أظهر المسلمين، وبالتالي أولى من غيرهم بالدعوة إلى الإسلام. وبهذا يكون الإسلام قد انتشر على عهد عمر بن عبد العزيز بالحكمة والموعظة الحسنة، والاستمرار في أسلوب الجهاد الدعوي على أيدي علماء ربانيين ترخجوا من المدارس العلمية التي نضجت في عهد الدولة الأموية وهؤلاء العلماء الدعاة هم الذين نفذوا مشروع عمر بن عبد العزيز الدعوي العلمي.
__________
(1) تاريخ الطبري ، نقلاً عن عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174 .
(2) الطبقات (5/386) .
(3) المصدر السابق (5/386) .
(4) فتوح البلدان صـ232 ـ 233 للبلاذري ، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ174 .(4/105)
المبحث السادس: الإصلاحات المالية في عهد عمر بن عبد العزيز:
لم تكن سياسة عمر المالية ارتجالية فهو مسئول عن دولة وكان يحسب حساباً لكل خطوة يخطوها ويضع الضمانات لكل عمل يعتزم تنفيذه(1). ولقد سار في سياسته على أمور منها:
ـ العزم على الاعتصام بالكتاب والسنة، والتضحية قي سبيل ذلك، وهذا ما يبدوا واضحاً من كتبه للعمال وخطبه إلى رعيته ومثال ذلك قوله: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها(2).
ـ ترسيخ قيم الحق والعدل ودفع الظلم: وهذا هو أساس سياسة عمر، فجميع الأهداف والوسائل التي اتبعها كانت تنسجم مع هذا الأساس، وإحقاق الحق ودفع الظلم هو أصل من أصول الشريعة، ومقصد رئيسي من مقاصدها قال تعالى: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)) (الحديد، الآية:25). يقول ابن القيم: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة(3). ولقد كان عمر يرجع للحق إذا تبين له الخطأ، ويقول في ذلك: ما من طينة أهون عليّ فتّاً ولا كتاب أيسر عليّ رداً من كتاب قضيت به، ثم أبصرت أن الحق في غيره ففتتها(4).
أولاً: أهداف السياسة الاقتصادية عند عمر:
1 ـ إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل:
__________
(1) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ27 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ38 .
(3) أعلام الموقعين (3/3) .
(4) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ113 .(4/106)
لقد سعى عمر بن عبد العزيز لإعادة توزيع الدخل والثروة بالشكل العادل، الذي يرضى الله تعالى ويحقق قيم الحق والعدل والظلم، والتي وضعها عمر نصب عينيه فقد كان يراقب الانحرافات السابقة قبل خلافته ويلاحظ آثارها السلبية على نفوس الرعية ولقد انتقد سياسة سليمان بن عبد الملك التوزيعية فقال له: لقد رأيتك زدت أهل الغنى وتركت أهل الفقر بفقرهم(1). فقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن التفاوت الاجتماعي هو نتيجة لسوء توزيع الثروة، فرسم سياسته الجديدة لإنصاف الفقراء والمظلومين ولقد استخدم عمر للوصول إلى هذا الهدف بعض الوسائل العملية منها:
ـ منع الأمراء والكبراء من الاستئثار بثروة الأمة، ومصادرة الأملاك المغصوبة ظلماً، والتي استولى عليها الأمراء والكبراء، وإعادة هذه الأموال إلى أصحابها إذا عرفوا أو إلى بيت المال، إذا لم يعرف أصحابها، أو كانت من الأموال العامة.
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ135 .(4/107)
ـ زيادة الإنفاق على الفئات الفقيرة والمحرومة ورعايتها وتأمين مستوى الكفاية لها عن طريق الزكاة وموارد بيت المال الأخرى(1). وقد قام بتنفيذ هذه السياسة، كما مرّ معنا في سياسته في رد المظالم ولقد كانت سياسة عمر التوزيعية تهدف على إيصال الناس إلى حد الكفاية: يلاحظ ذلك من خطبه، فقد خطب الناس يومياً فقال: وددن أن أغنياء الناس اجتمعوا فردوا على فقرائهم حتى نستوي نحن وهم وأكون أنا أولهم(2). وفي خطبة أخرى:.. ما أحد منكم تبلغني حاجته إلا حرصت أن أسدّ من حاجته ما قدرت عليه وما أحد لا يسعه ما عندي إلا وددت أنه بُدِئ بي وبلحمتي الذي يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم(3) وقد طبق عمر هذا التطور علمياً عندما أمر بقضاء دين الغارمين فكتب إليه عامله: إنا نجد الرجل له المسكن والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فأجاب عمر: لا بدّ للرجل من المسلمين من مسكن يأوي إليه رأسه وخادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه(4)، فسياسة عمر التوزيعية تهدف إلى كفاية الناس من حيث المسكن والمركب والأثاث، وهي عبارة عن حاجات أساسية، وضرورية للإنسان تصعب الحياة بدونها(5).
2 ـ تحقيق التنمية الاقتصادية والرفاه الإجتماعي:
__________
(1) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ35 .
(2) الإدارة الإسلامية في عز العرب ، محمد كرد علي صـ103 .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ42 .
(4) المصدر نفسه صـ171 .
(5) السياسية المالية والاقتصادية لعمر صـ38 .(4/108)
... سعى عمر بن عبد العزيز عن طريق العديد من الوسائل لتحقيق هذا الهدف، فقد أوجد المناخ المناسب للتنمية عن طريق حفظ الأمن والقضاء على الفتن، ورد الحقوق لأصحابها، وبذلك باتت الرعية مطمئنة على حقوقها، آمنة في أوطانها كذلك أمر ببناء المرافق العامة، والتي تسمى اليوم بمشاريع البنية التحتية، ولا تقوم التنمية إلا بهذه المرافق الضرورية من أنهار وترع ومواصلات وطرق، وقد أكد عمر على مبدأ الحرية الاقتصادية المقيدة بضوابط الشريعة، فانتشر الناس في تجارتهم وتثمير أموالهم واهتم كذلك إهتماماً بالغاً بالزراعة، حيث كان القطاع الزراعي من أكبر القطاعات على المستوى الفردي، وله مردود كبير على ميزانية الدولة وقد جنى عمر والأمة كلها ثمرات هذه السياسة، فقد عمّ الرخاء البلاد والعباد(1)، قال رجل من ولد زيد بن الخطاب: إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنتين ونصفاً وذلك ثلاثون شهراً فما مات حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: أجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، يتذكر من يضعه فيهم فما يجده، فيرجع بماله قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس(2).
ثانياً : وسائل عمر بن عبد العزيز لتحقيق الأهداف الاقتصادية لدولته:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق أهدافه الاقتصادية بوسائل منها:
1 ـ توفير المناخ المناسب للتنمية: وقد عمل عمر على توفير المناخ المناسب للتنمية، وقام بالآتي:
أ ـ رد الحقوق لأصحابها: فتوفرت أجواء الأمن والطمأنينة، وترسخت قيم الحق والعدالة وردّ الحقوق المغتصبة إلى أبناء الأمة وسمّاها مظالم(3)، وقد تحدثت عن سياسته في رد المظالم والحقوق إلى أهلها وذكرت الكثير من المواقف في هذا الشأن.
__________
(1) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ41 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ128 .
(3) السياسة الاقتصادية والمالية صـ43 .(4/109)
ب ـ فتح الحرية الاقتصادية بقيود: فقد أكد عمر على مفهوم الحرية الاقتصادية المقيدة، وكتب إلى العمال:.. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدْعى الناس إلى الإسلام كافة وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ولا يمنعون، ولا يحبسون(1). وقدم في موضوع آخر:... أطلق الجسور المعابر للسابلة يسيرون عليها دون جُعْل(2)، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به(3). ولم يتدخل عمر بن عبد العزيز في الأسعار، فعن عبد الرحمن بن شوبان قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان ما قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكفلون أهل الذمة فوق طاقتهم فلم يكونوا يجدون بُداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله(4)، وتشدد عمر في أمر السلع المحرومة ومنع التعامل بها فالخمر من الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام. ويقول عمر: فإن من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره(5). وقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والانتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك وهذا أدى إلى نمو التجارة، وبالتالي إلى زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة ممّا يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة وارتفاع قوتها الشرائية والتي
__________
(1) سيرة عمر لابن الحكم صـ94 ، السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ47 .
(2) الجعل : هو ما يجعل للشخص على عمله .
(3) الإدارة الإسلامية ، محمد كرد صـ105 .
(4) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ48 .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ103 .(4/110)
ستتوجه إلى الاستهلاك، وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلعة، والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه(1).
2 ـ إتباع سياسة زراعية جديدة: فقد إتبع خطوات ترمي إلى زيادة الإنتاج الزراعي للأمة وإليك تفصيل هذه الخطوات:
أ ـ منع بيع الأرض الخراجية: سأل الناس عبد الملك بن مروان والوليد وسليمان أن يأذنوا في شراء الأرض من أهل الذمة، فأذنوا لهم شريطة أن يضعوا أثمانها في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، ترك هذه الأشرية على حالها، وذلك لما وقع فيها من المواريث ومهور النساء وقضاء الديون ولم يقدر على تخليصه، وكتب كتاباً قريء على الناس سنة المائة: أن من اشترى شيئاً بعد سنة مائة فإن بيعه مردود وسميت سنة مائة سنة المدة، فتناهي الناس بعدها عن الشراء(2). ولقد طلب أهل الأرض أن يضع عليهم الصدقة بدل الخراج، فأجاب عمر: إني لا أعلم شيئاً أثبت لمادة الإسلام من هذه الأرض التي جعلها الله لهم فيئاً.. قال أبو عبيدة فكأن مذهب عمر بن عبد العزيز في الأرض أنه كان يراها فيئاً، ولهذا كان يمنع أهلها من بيعها(3). وكتب إلى ميمون بن مهران: أما بعد، فحُل بين أهل الأرض وبين بيعها ما في أيديهم، فإنهم إنما يبيعون فيء المسلمين(4). كذلك رفض عمر تحويل الأرض التي دخل أهلها في الإسلام من أرض خراج إلى أرض عشر(5)، وأبقى الخراج عليهم والعشر وقال: الخراج على الأرض والعشر على الحب(6). وبذلك حافظ على المورد الرئيس للإنتاج وجعله ملكاً عاماً للأمة بدلاً من تحويله إلى ملكيات صغيرة(7)
__________
(1) سياسة الإنفاق العام في الإسلام ، عوف الكفراوي صـ372 .
(2) الخراج للريس صـ390 ، السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ49 .
(3) الأموال لأبي عبيد صـ121 رقم 256 .
(4) المصدر نفسه رقم 257 صـ122 .
(5) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ50 .
(6) الأموال رقم 235 صـ114 لأبي عبيد .
(7) الخراج صـ239 الريس ، السياسة المالية والاقتصادية صـ50 .(4/111)
ب ـ العناية بالمزارعين وتخفيف الضرائب عنهم:
اعتاد بعض الخلفاء الأمويين قبل عمر بن عبد العزيز على إرهاق المزارعين بالضرائب، فكثرت الضرائب وتنوعت، واشتد الأمر على أهل الأرض فهجروها، فخرجت، فأضرّ ذلك بمالية الدولة، ولقد لجأوا إلى أساليب العذاب في الجباية فاضطر المزارعون إلى بيع دوابهم أو كسوتهم لشديد ما عليهم(1)، وعندما تولى عمر سعى إلى إلغاء جميع الضرائب المخالفة للشريعة، وكتب بذلك إلى العمال كتاباً منها: فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة وجور في أحكام الله، وسنة خبيثة استنها عليهم عمال السوء.. ولا تأخذن في الخراج إلا وزن سبعة(2)، ليس لها آيين ولا أجور الضرابين(3)، ولا هدية النيروز والمهرجان(4)، ولا ثمن الصحف ولا أجور البيوت(5). وقد ألغى القبالة وكانت مألوفة في البصرة، وألغى أسلوب الخرص(6). حيث كان العمال يقدرون الثمار بسعر عالٍ ويقبضونه نقداً، وبذلك يرهقون الزراع، فقرر عمر وضع الضريبة حسب الأسعار الفعلية وكتب لعامله: بلغني أن عمالك بفارس يخرصون الثمار ثم يقومونها على أهلها بسعر فوق سعر الناس الذي يتبايعون ثم يأخذون ذلك ورقاً على قيمتهم التي قوموها.. وقد بعثت بشر بن صفوان وعبد الله بن عجلان
__________
(1) الضرائب في السواد صـ57 للدوري .
(2) الدرهم الذي ضربه عبد الملك وجعل كل عشرة منها وزن سبعة مثاقيل من الذهب.
(3) الآيين : أصول إدارية ساسانية وهي رسوم المسَّاحين أرض الخراج وأجور الضرابين : هي أجور المختصين بالنقد من الصرافين .
(4) النيروز والمهرجان : عيدان عند الفرس كانوا يحضرون فيهما الهدايا .
(5) الصحف : عبارة عن أوراق تعطي براءة بالدفع . والفيوج جمع فيج وهو رسول السلطان الذي يسعى بالكتب ، وأجور البيوت هي أجور المخازن المحلية التي توضع فيها المواد العينية قبل نقلها للمركز .
(6) القبالة من التقبل والتقبيل : أي شخصاً كفيلاً ذلك لتحصيل الخراج مقابل قدر معلوم يأخذه لنفسه : الخرص : الحرز .(4/112)
للنظر في ذلك ورد الثمن الذي أخذ من الناس إلى ما باع أهل الأرض به غلاتهم(1). ولقد أمر عمر بالغاء ضريبة ثابتة على أهل اليمن، كالخراج مع أن أرضها أرض عشرية، وكتب إلى عامله على اليمن: أما بعد، فإنك كتبت إليَّ أنك قدمت اليمن فوجدت على أهلها ضريبة من الخراج مضروبة ثابتة في أعناقهم كالجزية يؤدونها على كل حال، أخصبوا أو أجدبوا أو حيوا أو ماتوا، فسبحان الله رب العالمين ثم سبحان الله رب العالمين.. إذا أتاك كتابي هذا فدع ما تنكره من الباطل إلى ما تعرفه من الحق ثم ائتنف الحق فاعمل به بالغاً بي وبك وإن أحاط بمهج أنفسنا، وإن لم ترفع إليّ من جميع اليمن إلا حفنة من كتم(2)، فقد علم الله إني بها مسرور إذا كانت موافقة للحق(3) والسلام. ويلاحظ من كتب عمر إلى عماله الانحرافات السابقة الظالمة وإنكار عمر لها، وقد كان لها أثر اقتصادي سيء حيث جعلت أصحاب الأرض يضعفوا عن أرضهم ويتركوها فضعف الإنتاج وترتب على ذلك خسارة للبلاد ولبيت المال، وأما عمر بن عبد العزيز فكان مصراً على تطبيق الحق وعدم إهتمامه بالكم بل بالكيف، فهو لا يريد إيراداً كثيراً ظالماً(4)، وقد ساهمت إصلاحات عمر في إلغائه للضرائب الجائرة إلى انتعاش اقتصاد الدولة.
ج ـ الإصلاحات والإعمار وإحياء أرض الموات:
__________
(1) الضرائب في السواد صـ65 .
(2) الكتم : نبت يخلط بالحناء ويخضب به الشعر .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ126 ، الخراج للريس صـ229 .
(4) السياسة الاقتصادية المالية لعمر صـ52 .(4/113)
... شجع عمر على إحياء الأرض الموات وعلى إصلاح الأراضي للزراعة، وكتب بذلك إلى عامله على الكوفة: لا تحمل خراباً على عامر ولا عامراً على خراب(1)، انظر إلى الخراب فخذ منه ما أطاق، وأصلحه حتى يعمر، ولا تأخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسكين لأهل الأرض(2). وكتب عمر: من غلب الماء على شيء فهو له، وعن حكيم بن زريق قال: قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أبي من أحيا أرضاً ميتة ببنيان أو حرث، ما لم تكن من أموال قوم إبتاعوها من أموالهم، أو أحيوا بعضاً وتركوا بعضاً، فاجز للقوم أحياءهم الذي أحيوا ببنيان أو حرث(3)، وحرص عمر على استغلال أرض الصوافي(4)، ورأى أن ملكيتها لبيت المال، ومنع الإقطاع منها وأمر بإعطائها مزارعة على النصف فإن لم تزرع فعلى الثلث، فإن لم تزرع فأمر بإعطائها حتى تبلغ العشر فإن لم يزرعها أحد فأمر بمنحها، فإن لم يزرعها أحد فأمر بالإنفاق عليها من بيت المال(5). وقد اهتم عمر بالمزارعين ورفع الضرر عنهم ويروى في ذلك أن جيشاً من أهل الشام مر بزرع رجل فأفسده، فأخبر الرجل عمر بذلك، فعوضه عشرة آلاف درهم(6)، وكان يقدم القروض للمزارعين، فقد جاء في رسالته لواليه على العراق: أن انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين(7).
__________
(1) المصدر نفسه صـ53 ، العامر : الأرض المزروعة .
(2) الأموال لأبي عبيدة رقم 120 صـ57 .
(3) الأموال رقم 717 صـ369 ، البنيان هو البناء والحرث هو الزرع .
(4) الصوافي : ما يستخلصه السلطان لخاصته : وقيل : الأملاك والأرضي التي جلا عنها أهلها وماتوا ولا وارث لها واحدها صافية .
(5) الخراج صـ99 ، يحيي بن آدم ، السياسة المالية والاقتصادية صـ54 .
(6) سيرة ومناقب عمر صـ117 لابن الجوزي .
(7) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ202 .(4/114)
س ـ عمر والحمى : منع عمر الحمى الخاص وأباح هذه الأراضي للمسلمين جميعاً، لا تختص بها طائفة على أخرى وفي ذلك يقول: ونرى أن الحمى يباح للمسلمين عامة، وكانت تحمى وتجعل فيها نعم الصدقات، فيكون في ذلك قوة ونفع لأهل فرائض الصدقات، وأدخل فيها وطعن فيها طاعن من الناس، فنرى في ترك حماها والتنزه عنها خيراً، إذا كان ذلك من أمرها، وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، وإنما هو الغيث ينزله الله لعباده فهم فيه سواء(1)، وعندما أباح الإحماء كلها استثنى النقيع(2) الذي حماه الرسول عليه الصلاة والسلام لإبل الصدقة(3). فبالحمى تصبح الأرض لجماعة المسلمين، ونفعها مصروف لهم، فالحمى نقل الأرض من الإباحة إلى الملكية العامة، لتبقى موقوفة على جماعة المسلمين(4).
ش ـ توفير مشاريع البنية التحتية:
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ98 .
(2) النقيع : موضع لبلاد مزينة على ليلتين من المدينة وهو نقيع الخضمات الذي حماه عمر بن الخطاب لنعم الفيء وخيل المجاهدين. انظر : السياسة الاقتصادية والمالية صـ54 .
(3) فتح الباري (5/34) .
(4) الاتجاه الجماعي في التشريع الاقتصادي صـ242 .(4/115)
سعى عمر بن عبد العزيز لتوفير هذه المشاريع منذ كان أميراً على المدينة حتى أصبح خليفة للمسلمين، فاهتم بالمشاريع التي تخدم التجار والمزارعين والمسافرين وعندما كان والياً على المدينة كتب إليه الوليد بن عبد الملك كتاباً في تسهيل الثنايا وحفر الآبار في المدينة فحفر منها بئر الحفير وكانت طيبة الماء(1). كذلك عمل عمر بأمر الوليد فوّارة ماء، وأجرى ماءها ووسع المسجد النبوي ورفع منارته وجوّف محاربيه، وأنشأ الخانات والفنادق ودار الضيافة للحجاج والمسافرين(2). كما استمر حفر خليج أمير المؤمنين بين النيل والبحر الأحمر لتسهيل نقل الطعام من مصر إلى مكة حتى أيام عمر بن عبد العزيز(3). وكتب إليه عامله على البصرة يعرض طلب أهلها بحفر نهر لهم، فأذن له عمر وحفر النهر، وسمي نهر عدي(4).
ثالثاً: سياسة عمر بن عبد العزيز المالية في الإيرادات:
__________
(1) الحياة الاقتصادية والاجتماعية في نجد والحجاز في العصر الأموي صـ56 .
(2) خامس الخلفاء الراشدين للبدري صـ170 .
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ55 .
(4) المصدر نفسه صـ57 .(4/116)
إن السياسة المالية بإراداتها ونفقاتها تعتبر أداة هامة لتحقيق الأهداف الاقتصادية(1)، لذلك بدأ عمر سياسته المالية بزيادة الإنفاق على عامة الشعب، فأنفق في رد المظالم حتى أنفذ بيت مال العراق، وجلب إليه من الشام(2)، وأنفق على المشاريع الزراعية، ومشاريع البنى الأساسية، كما أنفق على الرعاية الاجتماعية لجميع طبقات الشعب وفي جانب الإيرادات، سعى إلى إلغاء الضرائب الظالمة، فرفع الجزية عمن أسلم، وألغى الضرائب الإضافية التي كانت تؤخذ من المزارعين، وألغى المكوس والقيود، كما حافظ على حقوق بيت المال المسلوبة، فأعاد إليه القطائع، والمظالم، وأوقف إمتيازات الأمراء والموظفين، وبالغ في الاقتصاد في الإنفاق الإداري والحربي(3)، كل ذلك أدى إلى إطلاق الطاقات، فنمت الزراعة والتجارة، وجنى ذلك بزيادة ونمو الإيرادات، فزادت إيرادات الزكاة والخراج والعشور وفاضت ميزانية الدولة، فوجّه عمر الفائض لزيادة الإنفاق العام لتحقيق الأهداف الإقتصادية ونلاحظ في التاريخ كلما استقام أمر الدولة وسارت على نهج الشريعة الإسلامية الغرّاء فاض ميزانها المالي، ولم يشعر أفرادها بعسف ولا إرهاق، ولم تهمل مصلحة من مصالحها، وكلما أعوج أمر الدولة، وحادت عن سبيل الشريعة، اختل التوازن المالي، فميزانية الدولة مرآة عدلها وجورها ونظامها وفوضاها(4).
هذا وقد تكونت إيرادات بيت المال زمن عمر بن عبد العزيز من الزكاة والجزية والخراج والعشور والخمس والفيء.
1 ـ الزكاة:
__________
(1) المصدر نفسه صـ57 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ129 .
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر صـ58 .
(4) المصدر نفسه صـ58 .(4/117)
... اهتم عمر بالزكاة وحرص عليها لأنها حق فرضه الله للفقراء والمساكين والمنقطعين، والمستعبدين، ولا يجوز التهاون فيه، واهتمّ بتوزيعها على مستحقيها(1)، فأمر ولاته بالبحث عنهم وإعطائهم حقهم وفي حالة عدم وجود فقراء أو مساكين أو محتاجين وأمر عمر بشراء رقاب المستعبدين وإعتقاهم من مال الزكاة(2). وعزم عمر على إتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الزكاة وكان الولاة قبله قد تهاونوا فيها، فأخذوها من غير حقها، وصرفوها في غير مصارفها(3)، ومن مظاهر إتباعه للسنة فيها طلبه لكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، ولكتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ وأمره بأن تنسخ هذه الكتب فنسخت له وكانت تشتمل على صدقة الإبل والبقر والغنم، والذهب، والورق، والتمر، والحب، والزبيب وبيّنت الأنصبة لكل هذه الأصناف(4)واتبع عمر السنة في مصارف الزكاة، فاستشهد بقوله تعالى: ((إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل)) (التوبة ، الآية : 60) ثم أمر أن توضع الصدقات كما أمر الله تعالى في كتابه(5)،كما اتّبع عمر السنة في جباية الزكاة فعين عمالاً ثقاة مؤتمنين وأمرهم بجبابتها دون ظلم أو تعدِّ وأمرهم بكتابة براءة إلى الحول لدافعها(6). وأمر عمر بأخذ الزكاة من جميع الأموال التي تجب فيها، فأخذت من عطاء العمال ومن المظالم إذا رُدّت لأصحابها، ومن الأعطية إذا أخرجت لأهلها(7). وأكد عمر على أحقية كل قوم بزكاتهم إذا لم يستغنوا(8)وعندما
__________
(1) المصدر نفسه صـ60 .
(2) المصدر نفسه صـ60 .
(3) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ129 .
(4) الأموال لأبي عبيد صـ447 رقم 934 ، السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ61 .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ94 .
(6) المصدر نفسه صـ99 .
(7) الأموال لأبي عبيد رقم 1226 صـ529 .
(8) فتح الباري (3/322) ، السياسة المالية والاقتصادية صـ61 .(4/118)
أحضر العمال الزكاة إلى عمر أمرهم بردّها وتوزيعها في البلاد التي جمعت منها(1). وكانت لهذه الإصلاحات الاقتصادية في جباية الزكاة أثر على زيادتها ولقد ساهمت سياسته الاقتصادية إلى زيادة تحصيل الزكاة، فتوفيره لأجواء الأمن والطمأنينة، واهتمامه بإقامة المشاريع، الأساسية للزراعة والتجارة وأتّباعه لسياسة الحرية الاقتصادية المقيدّة، وإلغاؤه للضرائب الظالمة، أدّت جميعاً إلى ازدهار التجارة والزراعة وإلى زيادة حصيلة الزكاة(2)، ولقد كان عمر من الموسعين لإيتاء الزكاة برز هذا من خلال فقهه في زكاة الثروة الزراعية، وزكاة الإبل العامة، وزكاة السمك، وزكاة العسل، وهذا الفقه من شأنه أن يزيد الأموال الخاضعة للزكاة، مما يؤثر على زيادة جبايتها وأما زيادة الدعوة زمن عمر، ودخول أهل الذمة في الإسلام أفواجاً فالراجح أنه رفع من حصيلة الزكاة، لأن هؤلاء المسلمين الجدد فيهم الأغنياء وفيهم الفقراء، وسيدفع الأغنياء حقاً مفروضاً عليهم وهو الزكاة وأما سيرة عمر وتقواه فقد أثرت على دفع الزكاة للدولة مباشرة لزيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم وهذا واضح من تدافع الناس لأداء الزكاة عندما سمعوا بخلافة عمر، وهذا يؤدي إلى زيادة حصيلة أموال الزكاة وزيادة آثارها الاقتصادية عند إنفاقها في مصارفها(3). وتؤكد الروايات التاريخية أن الزكاة كانت فائضة عن حاجات الناس في ذلك الزمن، فكان الرجل يأتي بزكاته، فلا يجد من يأخذها(4)، ومن أسباب هذا الفائض اندفاع أفراد المجتمع للعمل والإنتاج، فكثر عدد المؤدِّين للزكاة، وانخفاض عدد القابضين لها(5).
2 ـ الجزية:
__________
(1) الأموال رقم 1917 صـ712 .
(2) ملامح الانقلاب صـ135 .
(3) ملامح الانقلاب صـ135 .
(4) سير أعلام النبلاء (5/131) ، السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ69 .
(5) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ69 .(4/119)
... والجزية في الاصطلاح: هي الوظيفة(الضريبة) المأخوذ من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع(1)، وقد قام عمر بن عبد العزيز بإتباع السنة في إيراد الجزية، فقد أسقطها عمّن أسلم، لأن الجزية فرضت على الكافرين وتسقط بالإسلام(2)، ومع ذلك فقد استمر بعض خلفاء بني أمية في أخذ الجزية ممن أسلم، فأخذها الحجّاج لظنِّه أنهم دخلوا الإسلام هربا من الجزية، ولقد أدى ذلك إلى زيادة النقمة على الحجّاج وعلى الأمويين(3)، وعندما تولى عمر الخلافة سارع إلى إلغاء الجزية عن المسلمين(4)، وتشدّد في ذلك، وكتب إلى العمال كتاباً جاء فيه((من شهد شهادتنا واستقبل قبلتنا واختتن فلا تأخذوا منه الجزية(5). ولما سمع أهل الذمة عن عدالة عمر وسيرته سارعوا للدخول في الإسلام، فشكا عامله ذلك، لأنه أدى إلى نقصان الجزية، فأجابه عمر: أما بعد، فإن الله قد بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً(6). ولأن عمر اعتمد في سياسته على ترسيخ قيم الحق والعدل، ورفع الظلم عن أهل الذمة ورفق بمزارعيهم وفرض الجزية عليهم حسب المقدرة المالية للفرد، فجعلها على ثلاث طبقات للغني وللمتوسط وللفقير، وجعل صاحب الأرض يعطي جزيته من أرضه والصانع يخرجها من كسبه والتاجر من تجارته(7)، وفرض الجزية حسب طاقة البلاد المالية، فجعلها على أهل الشام أكثر منها على أهل اليمن بسبب غناهم ويسارهم(8)، ورفع الجزية عن الفقراء الذين لا يستطيعون دفعها، وأجرى عليهم رزقاً من بيت المال، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه(9)، وخفَّضَ عمر الجزية عن
__________
(1) المغنى لابن قدامة (10/557) .
(2) السياسة المالية والاقتصادية صـ70 .
(3) الضرائب في السواد صـ58 .
(4) الطبقات (5/345) الخراج للريس صـ230 .
(5) الأموال رقم 127 ، صـ61 .
(6) الطبقات (5/384) .
(7) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ99 .
(8) الأموال لأبي عبيد رقم 107 ، صـ51 .
(9) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ71 .(4/120)
أهل نجران حيث أمر بإحصائهم، فتبين له أن عددهم نقص إلى العشر، وجزيتهم بقيت كما هي، فأخذ منهم مئتي حلة بدلاً من ألفين، وأسقط جزية من مات أو أسلم(1)، وقد كانت للإصلاحات في جباية الجزية آثار مالية لصالح بيت المال، فإسقاط الجزية عمن أسلم أدّى إلى زيادة الثقة بين الحاكم والمحكوم والشعور بالعدل والإنصاف، وبالتالي أدّى إلى إيقاف القلاقل والفتن التي كلفت الدولة نفقات طائلة، كما إن إسلام كثير من أهل الذمة جعلهم يدفعون الزكاة بدل الجزية والزكاة مقدارها أكبر هذا مع استمرار دفع الخراج على الأرض، أما انتشار أجواء الأمن والعدل فقد زاد الإنتاج حيث اندفع الناس للإنتاج والتنمية(2).
3 ـ الخراج:
__________
(1) الخراج صـ232 للريس .
(2) الخراج صـ259 للريس ، السياسة المالية والاقتصادية صـ72 .(4/121)
هو ما تأخذه الدولة من ضرائب على الأرض المفتوحة عنوة أو الأرض التي صالح أهلها عليها(1). لقد ارتفع إيراد الخراج في زمن عمر بن عبد العزيز وبلغ مائة وأربعة وعشرين مليون درهم(2). وكانت هذه الزيادة في إيراد الخراج نتيجة لسياسته الإصلاحية فقد منع بيع الأرض الخراجية فحافظ على المصدر الرئيسي للإنتاج، كما اعتنى بالمزارعين، ورفع عنهم الضرائب والمظالم التي كانت تعوق إنتاجهم واتبع سياسة الإصلاح والإعمار وإحياء الأرض الموات، كما اهتم ببناء مشاريع البنية الأساسية للقطاع الزراعي فبنى الطرق والقنوات(3)، فمشاريع الطرق سهلت على المزارعين تسويق إنتاجهم، ومشاريع القنوات والآبار سهلت عليهم سقي محاصيلهم بكلفة أقل، كل هذه الإصلاحات الخراجية أثمرت في النهاية وأدت إلى ارتفاع الخراج زمن عمر، فقد بلغ خراج العراق في عهده مائة وأربعة وعشرين مليون درهم، وهذا المقدار أكبر مما جبى في العهود السابقة، فقد بلغ خراج العراق زمن الحجاج أربعين مليون درهم، وفي عهد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مائة مليون درهم(4). أما خراج خراسان زمن عمر بن عبد العزيز فقد كان فائضاً عن حاجات الدولة وبلغ الخراج زمن عمر أقصى قدر ممكن أن يبلغه في الأحوال العادية(5). وهذا الارتفاع في مقدار الخراج يشير إلى قوة الدولة المالية، لأن خراج العراق كان يشكل أكبر نصيب من إيراداتها(6)، مما ساعد على تحقيق الأهداف الاقتصادية من دعم مشاريع البنية التحتية والمشاريع الإنتاجية والإنفاق على الطبقات الفقيرة والعاجزة، ذلك لأن إيراد الخراج يتسم بالمرونة من حيث مصارفه بعكس الزكاة فهي محددة المصارف(7)
__________
(1) معجم لغة الفقهاء صـ194 .
(2) الخراج للريس صـ238 .
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ74 .
(4) الخراج للريس صـ237 ، 238 ، السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ75 .
(5) الخراج صـ237 ،238 للريس .
(6) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ76 .
(7) المصدر نفسه صـ76 .(4/122)
.
4 ـ العشور:
في الإصطلاح: ما يؤخذ على تجار أهل الحرب وأهل الذمة عندما يجتازون بها حدود الدولة الإسلامية(1)، فتؤخذ العشور من تجارة الحربي العُشر ومن تجارة الذمي نصف العشر، ولا تؤخذ في السنة لنفس المال إلا مرة واحدة ونصابها عشرون ديناراً للذمي، وعشره للحربي(2)، وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بإيراد العشور فوضح مبادئها للعمال، وأمر بكتابة كتاب لدافعها لإعفائه منها للحول القادم، كما منع قبض العشور، والتي كانت تفرض على الناس بغير حق(3)، وقد نشطت التجارة في عهده وتوافرت موارد جديدة للدولة واستطاع أن يوظفها للإنفاق العام وكانت الإجراءات التي اتخذها عمر لتنشيط الحركة التجارية كالآتي:
أ ـ إلغاء الضرائب الإضافية التي كانت مفروضة على القطاع الزراعي(4) وقد انعكس هذا إيجاباً على القطاع التجاري في صورة انخفاض ملحوظ في أسعار السلع الزراعية، فزاد في الطلب عليها، وأحدث رواجاً في تجارتها، وفي ظل اقتصاد قوامه الزراعة فإن زيادة عرض السلع الزراعية وانخفاض أثمانها على النحو الذي واكب السياسة الرشيدة لعمر بن عبد العزيز أحدث رواجاً لا في التجارة فحسب، ولكن في بقية قطاعات الاقتصاد الإسلامي(5).
ب ـ إلغاء الضرائب على القطاع التجاري، والاقتصار على العشور(6)، وكان لهذا تأثير ايجابي على قطاع التجارة، وقد أدى إلى تشجيع مزاولة التجارة، وزاد من أرباح التجارة فزاد معها حجم المبادلات التجارية(7).
__________
(1) معجم الفقهاء صـ312 .
(2) المغني (10/589) ، السياسة المالية والاقتصادية صـ76 .
(3) السياسة المالية والاقتصادية صـ77 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ141 .
(5) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ218 .
(6) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ218 .
(7) المصدر نفسه صـ218 .(4/123)
... ج ـ إلغاء أسلوب العنف في تحصيل مستحقات الدولة المالية(1)على التجار وغيرهم، وهذا أيضاً من عوامل تشجيع التجارة وتنميتها.
... ح ـ عمل استراحات(2)على طريق التجارات مع بلاد الشرق، ومطالبة الولاة على البلاد التي توجد بها هذه الاستراحات بأن يضيفوا من مر بهم من المسلمين المسافرين(3)يوماً وليلة، وأن يتعاهدوا دوابهم على حساب الدولة ومضاعفة هذه المدة لمن يشكو منهم علة، وبالنسبة لمن مر بهذه الاستراحات وكان منقطعاً أو سرقت تجارته أو تلفت لأي سبب، فكان يعطي من المال ما يكفيه للوصول إلى بلده، ولا يخفى ما كان بهذه التسهيلات والضمانات من عوامل تشجيع للتجار وللتبادل التجاري(4).
... د ـ منع العطاء عن التجار، حتى تكون التجارة مصدر رزقهم الوحيد فيهتموا بها أكثر وينشطوا فيها، لاسيما وأن التجارة كانت في ذلك الوقت متعبة من حيث السفر، والترحال، لعدم توفر وسائل المواصلات المريحة التي نشاهدها اليوم.
ذ ـ قضاء ديون كل من أدان في غير سفه ولا سرف(5)، ويدخل ضمنهم التجار إن لم يكونوا جلهم، وقد أدى هذا القرار إلى إقالة عثرات التجار الذين أفلسوا ومكنهم من العودة إلى مزاولة التجارة، وخاصة تلك الفئة من التجار الذين بدأوا تجارتهم عن طريق اقتراض رأس المال المطلوب.
ر ـ الحرص على ضبط ومعايرة وتوحيد المكاييل والموازين في كافة أنحاء الدولة، وجعل ذلك من مواد القانون الأساسي للدولة.
__________
(1) المصدر نفسه صـ218 .
(2) سير عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ439 .
(3) كان معظم السفر لناحية المشرق لقصد التجارة .
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ219 .
(5) الأموال لأبي عبيد صـ234 ، 235 .(4/124)
ز ـ منع الولاة والأمراء من الاشتغال بالتجارة، حتى لا يكون في دخولهم السوق أفساد للمنافسة الشريفة بين التجار، أو تأثير على الأسعار لصالحهم، وهي محاولة من عمر بن عبد العزيز بالبعد بالأسواق عن أي مؤثرات غير طبيعية تؤثر في تلقائية تحديد السعر(1).
ط ـ منع الاحتكار ومن ذلك أعادته دكاكين بحمص كانت في يد مجموعة من أهل السوق، وكان ابن الوليد بن عبد الملك قد استولى عليها، وحولها إلى ملكية خاصة له، فنزعها وأعادها إلى أصحابها(2)، وبهذا يعد بهذا الموقف الاحتكاري وجود(3)هذه الإجراءات الإصلاحية ساهمت في ازدهار الحركة التجارية في عهد عمر بن عبد العزيز وبذلك زادت حصيلة إيرادات العشور وتوافرت موارد جديدة للدولة استطاع عمر أن ينفقها على الصالح العام.
5 ـ خمس الغنائم والفيء:
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ219 .
(2) المصدر نفسه صـ220 .
(3) المصدر نفسه صـ220 .(4/125)
فالغنيمة في الإصطلاح: ما استولى عليه من أموال الكفار المحاربين عنوة وقهراً حين القتال(1)، والفيء في الإصطلاح: كل مال وصل من المشركين من غير قتال ولا بإيجاف خيل ولا ركاب(2)، فعندما تولى عمر الخلافة توجه لإصلاح الأوضاع الداخلية للدولة لذلك لم تكثر الفتوحات في ومنه حيث استعاض عنها بالدعوة والقدوة الحسنة، فقد بعث بكتب للملوك والشعوب فدخل البربر في الإسلام بدون قتال(3)، ولهذا لم تتحقق موارد كثيرة من خمس الغنائم زمن عمر، وما كان موجوداً في بيت المال منه كان مصدره الفتوحات السابقة(4). ومع ذلك فقد سعى لإصلاح موازنة خمس الغنائم، فقد جعل للخمس بيت مال مستقل عن الأموال الأخرى(5)،وأمر بوضعه في مواضعه المذكورة في سورة الأنفال، وآثر به أهل الحاجة منهم حيث كانوا(6). وقد أمر بعشرة آلاف دينار من سهم ذوي القربى فقسمها في بني هاشم وساوى بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، فكتبت إليه فاطمة بنت الحسين تشكر له ما صنع وتقول: يا أمير المؤمنين قد أخدمت من كان لا خادم له واكتسى منهم من كان عارياً، واستنفق من كان لا يجد ما يستنفق(7)، ولقد تمسك عمر في حق الخمس، فلما فتحت الأندلس قبل خلافة عمر لم يخمسوها، فأمر عامله عليها أن يبين العنوة من أرضها ويأخذ منها الخمس(8). وأما في تصرفه في الفيء، فقد كان متبعاً للقرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، فقد كتب كتاباً ذكر فيه عن الأموال والقرى التي أفاء الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا
__________
(1) الأموال لأبي عبيد صـ323 رقم 626 .
(2) الأحكام السلطانية للمارودي صـ199 .
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ81 .
(4) المصدر نفسه صـ81 .
(5) المصدر نفسه صـ81 .
(6) الطبقات (5/350)، سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ72 ،السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ82 .
(7) الطبقات (5/390) ،السياسة المالية والاقتصادية صـ82 .
(8) تاريخ الإسلام ،حسن إبراهيم (1/320) .(4/126)
ركاب واستدل بآيات سورة الحشر التي نزلت في ذلك، وبين أن ما من أحد من المسلمين إلا له حق في الفيء، فقد ذكرت الآيات المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم من المسلمين بعد الهجرة الأولى حتى تنقضي الدنيا(1). وهو بذلك كان موافقاً لاجتهاد عمر بن الخطاب في جعل الفيء موقوفاً على أجيال المسلمين(2). ونظر عمر في مصارف الخمس فوجدها موافقة لمصارف الفيء، فرأى أن يضمه إليه كما فعل عمر بن الخطاب(3)، ويصرف منها على جميع مصالح المسلمين، وكتب في ذلك كتاباً: ..وأما الخمس فإن من مضى من الأئمة اختلفوا في موضعه .. ووضع مواضع شتى فنظرنا فإذا هو على سهام الفيء في كتاب الله لم تخالف واحدة من الاثنتين الأخرى، فإذا عمر بن الخطاب رحمه الله قد قضى في الفيء قضاءً قد رضي به المسلمون، فرض للناس أعطية وأرزاقاً جارية لهم، ورأى أن لن يبلغ بتلك الأبواب ما جمع من ذلك، ورأى أن فيه لليتيم والمسكين، وابن السبيل، فرأى أن يُلحق الخمس بالفيء وأن يوضع مواضعه التي سم الله وفرض... فاقتدوا بإمام عادل فإن الآيتين متفقتان آية الفيء وآية الخمس... فنرى أن يُجمعا جميعاً فيُجعلا فيئاً للمسلمين ولا يستأثر عليهم(4). لقد ساعدت إصلاحات عمر في إيرادات الخمس والفيء على تحقيق أهداف سياسته الاقتصادية، فتوزيعه للخمس على الأسهم المذكورة في القرآن مع إيثاره لذوي الحاجة أينما وجدوا ساعد على تحقيق إعادة توزيع الدخل والثروة، وشعر الناس بالعدل وزوال الظلم، بسبب هذه السياسة الرشيدة السديدة.
رابعاً: سياسة الإنفاق العام لعمر بن عبد العزيز:
... 1 ـ إنفاق عمر على الرعاية الاجتماعية:
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97 .
(2) الخراج ، أبو يوسف صـ25 ،السياسة المالية والاقتصادية صـ82 .
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ83 .
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ97 ، الأموال رقم 838 .(4/127)
... لتحقيق هدف إعادة توزيع الدخل والثروة سعى عمر إلى زيادة الإنفاق على الفقراء والمحتاجين، وتأمين الرعاية الصحية والاجتماعية لهم وهذه مطالب شرعية جاءت في القرآن الكريم والسنة النبوية ولقد اهتم منذ الأيام الأولى لخلافته بإتباع الشرع والتزام الحق والعدل، فأرسل إلى العلماء يستفسر وقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر كتاباً عن مواضع السنة في الزكاة ليعمل خلافته فذكر فيها: إن فيها نصيباً للزمنى والمقعدين(أصحاب العجز الأصلى) ونصيباً لكل مسكين به عامة لا يستطيع عَيْلة وتقليباً في الأرض(أصحاب العجز الطارئ كالعامل الذي يصاب في عمله والمجاهد الذي يصاب في الحرب). ونصيباً للمساكين الذين يسألون ويستطعمون الغنى حتى يأخذوا كفايتهم ولا يحتاجون بعدها إلى سؤال).. ونصيباً لمن في السجون من أهل الإسلام ممن ليس له أحد... ونصيباً لمن يحضر المساجد الذين لا عطاء لهم ولا سهم ((أي ليست لهم رواتب ومعاشات منتظمة)) ولا يسألون الناس... ونصيباً لمن أصابه فقر وعليه دين ولم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه .. ونصيباً لكل مسافر ليس له مأوى، ولا أهل يأوي إليهم، فيؤوى ويُطعم وتُعلف دابته حتى يجد منزلاً أو تقضى حاجته(1).
__________
(1) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ83 .(4/128)
أ ـ الإنفاق على الفقراء والمساكين:فقد كان يفكر في الفقراء والمساكين، ويسعى إلى اغنائهم، فقد مرت معنا قصته مع زوجته فاطمة وسألته عن سر بكائه فقال لها: تقلّدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فتفكرت في الفقير الجائع والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد صلى الله عليه وسلم ـ فخشيت ألا تثبت حجتي عند خصومته، فرحمت نفسي فبكيت(1). هذه الحادثة تلخص سياسة عمر في الإنفاق على الفئات المحتاجة، والحادثة مليئة بالمعاني وتحتاج إلى وقفات فقد شعر عمر بعظم المسئولية الملقاة على عاتقة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته(2). وقد عمل عمر على سد احتياجات الناس، جاء رجل لعمر فقام بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين اشتدت بي الحاجة وانتهت بي الفاقة، والله سائلك عن مقامي غداً بين يديه، وكان عمر قد اتكأ على قضيب، فبكى حتى جرت دموعه على القضيب، ثم فرض له ولعياله، ودفع له خمسمائة دينار حتى يخرج عطاؤه(3)، وكان رحمه الله يهتم بشأن الأرامل وبناتهن كما حدث مع المرأة العراقية التي مرّ ذكرها وقد قال صلى الله عليه وسلم: الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقم الليل(4). وقد خصصّ عمر داراً لإطعام الفقراء والمساكين وأبناء السبيل(5)، ولم يكتف عمر بالاعتناء بالفقراء فحسب، بل امتدت رعايته إلى المرضى وذوي العاهات والأيتام، فقد كتب كتاباً إلى أمصار الشام: ادفعوا إليّ كل أعمى في الديوان أو مقعد، أو من به فالج، أو من به زمانة، تحول بينه وبين القيام إلى الصلاة، فرفعوا
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/132) ، سيرة ومناقب عمر لابن عبد الحكم صـ248 .
(2) البخاري رقم 893 .
(3) حيلة الأولياء (5/289) .
(4) البخاري رقم 6006 .
(5) الطبقات (5/378) .(4/129)
إليه، فأمر لكل أعمى بقائد، وأمر لكل اثنين من الزمنى بخادم.. ثم كتب ارفعوا إليّ كل يتيم، ومن لا أحد له... فأمر لكل خمسة بخادم يتوزعون بينهم بالسوية(1).
ب ـ الإنفاق على الغارمين:من الفئات التي اهتم بها عمر الغارمون، فقد كتب ابن شهاب الزهري لعمر عن سهم الغارمين: لمن يصاب في سبيل الله في ماله.. ولمن أصابه فقر، وعليه دين لم يكن شيء منه في معصية الله، ولا يُتهم في دينه(2). ولذلك أمر عمر بقضاء الدين عن الغارمين، فكتبوا إليه، إنا نجد الرجل له المسكن، والخادم، وله الفرس والأثاث في بيته، فكتب عمر: لابد للرجل من المسلمين من سكن يأوي إليه رأسه، وخادم يكفيه مهنته وفرس يجاهد عليه عدوّه، وأثاث في بيته، فهو غارم فاقضوا عنه(3). وكتب إلى والي الكوفة وقد اجتمعت عنده أموال فسأل عمر عنها فأجاب: كتبت تذكر أنه قد اجتمعت عندك أموال بعد أعطية الجند، فأعط منهم من كان عليه دين في غير فساد، أو تزوّج فلم يقدر على نقد والسلام(4)وكتب كتاباً قُرء في مسجد الكوفة: من كانت عليه أمانة لا يقدر على أدائها فأعطوه من مال الله، ومن تزوج إمرأة فلم يقدر أن يسوق إليها صداقها فأعطوه من مال الله(5).
__________
(1) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ202 .
(2) الأموال ، أبو عبيدة رقم 1850 ،السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ92 .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ171 ،السياسة المالية والاقتصادية صـ92 .
(4) المصدر نفسه لابن عبد الحكم صـ67 .
(5) الطبقات (5/374) .(4/130)
ج ـ الإنفاق على الأسرى: قال تعالى: ((ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً *إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا)) (الإنسان،الآية:8 ـ10). اهتم عمر بن عبد العزيز بالأسرى وبالإنفاق عليهم من بيت مال المسلمين، فقد كتب كتاباً إلى أسرى المسلمين في القسطنطينية(1) وقد تحدثت عن الكتاب في كلامي عن الحياة الاجتماعية واهتم بالسجناء في سجون المسلمين بسبب جرم أو قصاص، فقد أمر عمر برعايتهم والإنفاق عليهم وكتب عمر إلى العمال: لا تدعُنِّ في سجونكم أحداً من المسلمين في وثاق لا يستطيع أن يصلي قائماً، ولا يبيتنّ في قيد إلا رجل مطلوب بدم، وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وإدامهم(2). وأمر لأهل السجون برزق وكسوة في الصيف والشتاء(3).
ح ـ الإنفاق على المسافرين وأبناء السبيل:
... اهتم عمر بالمسافرين وأبناء السبيل، فأمر عماله ببناء بيوت الضيافة على الطرق لرعاية المسافرين والاهتمام بهم، وكتب إلى أحد عمّاله: اعمل خانات في بلادك، فمن مرّ بك من المسلمين فأقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم، فمن كانت به علَّة فأقروه يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده(4)، وأمر عمر بالاهتمام بالحجّاج، والإنفاق عليهم ورعاية ضعيفهم وإغناء فقيرهم(5).
د ـ الإنفاق لفك الرقاب:
__________
(1) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ93 .
(2) الخراج ، أبو يوسف صـ315 .
(3) الطبقات (5/356) .
(4) تاريخ الطبري نقلا عن السياسة المالية والاقتصادية صـ94 .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ65 .(4/131)
... بعد أن أنفق عمر على الفقراء والمساكين، والعاجزين، والغارمين وأبناء السبيل وجه الأموال لفك رقاب المستعبدين، وقال عامل صدقات افريقية: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات افريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً.. فاشتريت بها رقاباً وولاؤهم للمسلمين(1)،
... وقد مرّ معنا إنفاق عمر على العلماء لكي يتفرغوا لدعوة الناس وتعليمهم، واتسعت رعايته الاجتماعية لتشمل جميع فئات الأمة حتى الأطفال الصغار وحدّد لهم مبلغاً من المال ليستعين به ذووهم على تربيتهم، واهتم بمواطنيه من أهل الذمة، فكان ينفق على فقرائهم ومحتاجيهم من بيت المال(2)، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن سياسة عمر بن عبد العزيز الراشدة ساهمت في إغناء عدد كبير من المسلمين وزيادة ثرواتهم في المجال التجاري والزراعي وغيرها وساهمت في سريان روح التدين وحب الآخرة في نفوس الناس ورغبوا في الإكثار من فعل الخيرات ابتغاء مرضات الله تعالى والرغبة فيما عند الله، فكثر الإنفاق في سبيل الله لمساعدة الفقراء والمساكين والأرامل وبناء المرافق العامة وحفر الآبار، وتشييد المساجد وغير ذلك، وهذا يخفف الأعباء المالية على بيت مال المسلمين في العاصمة وأقاليمها الواسعة.
2 ـ ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:
... كانت سياسة عمر بن عبد العزيز في ميدان الإنفاق تقوم على أساس مبدأ الرشد الاقتصادي أو ما يعبر عنه بمبدأ القوامة في الإنفاق ومقتضاه البعد عن الإسراف والتبذير والبعد عن الشح والتقتير(3). ومن الخطوات التي اتخذها في مجال ترشيد الإنفاق في مصالح الدولة:
أ ـ قطع الإمتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين:
__________
(1) السياسة المالية والاقتصادية صـ94 .
(2) المصدر نفسه صـ95، 96 .
(3) المصدر نفسه صـ96 .(4/132)
أعاد عمر القطائع والحقوق الخاصة إلى أصحابها والحقوق العامة إلى بيت المال، وبدأ بنفسه وبآل بيته ـ كما مرّ معنا ـ وكان عمر لا يأخذ من بيت المال شيئاً فقالوا له: لو أخذت ما كان يأخذ عمر بن الخطاب، قال: كان عمر لا مال له، وأنا مالي يغنيني(1). وعندما أُحضرت مراكب الخلافة لعمر بعد موت سليمان، طلب بغلته وأمر بوضع المراكب والفرش والزينة في بيت المال وكانت عادة الخلفاء قبله أن يأخذ ورثة الخليفة الميت ما استعمل من ثيابه وعطوره ويُردّ الباقي إلى الخليفة الجديد، فلما استخلف عمر قال: ما هذا لي ولا لسليمان، ولا لكم ولكن يا مزاحم ضُمّ هذا كله إلى بيت مال المسلمين(2)، وكان عمر لا يستعمل الأموال العامة لحاجته الخاصة مطلقاً. فمرة بعث أمير الأردن بسلتي رطب إلى عمر، وقد جيء على دواب البريد، فلما وصلت عمر أمر ببيعها وجعل ثمنها في علف دواب البريد(3)، ومرة طلب من عامله أن يشتري له عسلاً فحمل له على دواب البريد، فأمر ببيع العسل وجعل ثمنه في بيت المال، وقال له: أفسدت علينا عسلك(4).
ب ـ ترشيد الإنفاق الإداري:
__________
(1) العقد الفريد (5/22) ،السياسة المالية والاقتصادية صـ97 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ35 ،السياسة المالية صـ97 .
(3) السياسة المالية والاقتصادية لعمر بن عبد العزيز صـ98 .
(4) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ210 .(4/133)
سعى عمر على تعويد أعوانه وولاته على الاقتصاد في أموال المسلمين، فعندما طلب والي المدينة أن يصرف له شمع فأجابه عمر: لعمري لقد عهدتك يا ابن أم حزم وأنت تخرج من بيتك في الليلة الشاتية المظلمة بغير مصباح، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم، ولقد كان في فتائل أهلك ما يغنيك والسلام(1). وكتب إليه أيضاً وقد طلب قراطيس للكتابة: ...إذا جاءك كتابي هذا فأدق القلم واجمع الخطّ، واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضرّ بيت مالهم(2). يلاحظ حرص عمر على المال العام ويرشد ولاته للاستغلال الأمثل لموارد الدولة، فعمر يريد من العامل أن يستغل الأوراق في الرسائل إلى أقصى درجة.
ج ـ ترشيد الإنفاق الحربي:
خاضت الدولة الأموية حروباً خارجية وداخلية فكلّفت ميزانية الدولة الشيء الكثير منها حملة القسطنطينية زمن سليمان بن عبد الملك، حيث كلفت الكثير من الأموال والشهداء دون جدوى، فما كان من عمر بعد استخلافه إلا أن أرسل كتاباً يأمر فيه مسلمة بن عبد الملك قائداً الحملة بالعودة بعد أن أصاب الجيش ضيق شديد وقد أدّت سيرة عمر وسياسته إلى استقرار الأوضاع الداخلية وتوقفت الحروب والفتن، ولما بلغت سيرته الخوارج، اجتمعوا وقالوا: ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل(3)، ولقد ساهم إيقاف الحروب والفتن في إيجاد مناخ عام من الراحة والطمأنينة والاستقرار ساهم في النمو الاقتصادي للدولة وتحسن أوضاع الطبقات الفقيرة والمحتاجة بفضل الله ثم سياسة عمر الرشيدة.
المبحث السابع: المؤسسة القضائية في عهد عمر بن عبد العزيز وبعض إجتهاداته الفقهية:
أولاً: في الأقضية والشهادات:
1 ـ في صفات القاضي:
__________
(1) الوالي : هو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ64 .
(2) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ121 .
(3) المصدر نفسه صـ86 السياسة المالية والاقتصادية لعمر صـ100 .(4/134)
كان عمر بن عبد العزيز يدقق في اختيار القضاة حتى لا يُبتلى الناس بقاض يتخبط فيهم بغير حق، ولهذا فقط اشترط عمر بن عبد العزيز في القاضي خمسة شروط ولا يجوز له أن يلي القضاء حتى تكتمل فيه هذه الشروط وهي: العلم، والحلم، والعفة، والاستشارة، والقوة في الحق(1). فعن مزاحم بن زفر قال: قدمت على عمر بن عبد العزيز في وفد أهل الكوفة فسألنا عن بلدنا وأميرنا وقاضينا، ثم قال: خمس إن أخطأ القاضي منهن خصلة كانت فيه وصمة، أن يكون فهيماً، وأن يكون حليماً وأن يكون عفيفاً وأن يكون صليباً وأن يكون عالماً يسأل عما لا يعلم(2)، وفي رواية عن يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز قال: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال: عفيف، حليم، عالم بما كان قبله، يستشير ذوي الرأي، لا يبالي ملامة الناس(3). وقد قال بهذا المعنى عمر بن الخطاب(4)، وعلي بن أبي طالب(5) رضي الله عنهما، وذهب الأئمة الأربعة إلى موافقة عمر بن عبد العزيز في كل أو جل هذه الصفات(6).
2 ـ في حكم القاضي في ما استبان له ويرفع ما التبس عليه:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/285) د.محمد شقير .
(2) الطبقات الكبرى (5/369) .
(3) المصدر نفسه (5/369 ـ 370) .
(4) المصنف لعبد الرزاق (8/299) شذرات الذهب (1/120) .
(5) المغني (9/3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/485) .
(6) حاشية ابن عابدين (4/305) روضة الطالبين (11/95 ـ97) جواهر الإكليل (2/221)المغني (9/39ـ 43، 50) .(4/135)
قد يكون هناك بعض القضايا المتشابكة والتي أمرها يحيّر القاضي فهل يحكم القاضي فيها وإن لم يظهر له الحق أم يتركها لمن هو أعلم منه؟ لقد قرر عمر بن عبد العزيز قراراً هو درس في القضاء يجب أن يعمل به إلى يوم القيامة، ذلك أنه يرى أن القاضي إن تبين له الحق حكم به وإن لم يظهر له فلا يترك القضية وإنما يرفعها إلى من هو فوقه لينظرها(1)، عن ميمون بن مهران أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يشكو شدة الحكم والجباية ـ وكان قاضي الجزيرة وعلى خراجها ـ قال: فكتب إليه عمر: إني لم أكلفك ما يُعنتك، أجب الطيب، واقضي بما استبان لك من الحق، فإذا التبس عليك أمر فارفعه إليّ، فلو أن الناس إذا ثقل عليهم أمر تركوه، ما قام دين ولا دنيا(2). وهذا الأثر يبين أن الله ـ سبحانه وتعالى لم يجعل الناس في العلم ولا في الفهم سواء بل هم درجات في ذلك والذي يولي القضاء عليه أن يحكم بين الناس الذين ولي أمرهم وذلك فيهم ظهر له من الحق، فإذا شق عليه أمر من هذه القضايا فعليه أن يستشير أهل العلم في بلاده، فإن لم يجد عندهم معرفة لهذا الأمر رفعه إلى من هو أعلم منه أو إلى الأمر ليحوِّل هذه القضية إلى غيره، أو ليحكم فيها إن كان من أهل العلم(3)، وكان عمر بن عبد العزيز له مجالس علمية يستشير فيها العلماء والفقهاء وأصحاب الرأي في أمور الدين والدنيا، وكان يقتطع من أوقات راحته في الليل، الذي أدرك عمر كم هو حيوي للتوصل إلى الحقائق وقد أعرب عن إدراكه العميق لما يأتي عن التقاء الأفكار من نتائج فكرية إيجابية ، عندما سأله رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين نهارك كله مشغول، وهذا جزء من الليل وأنت تسمر معنا؟ فقال عمر: يا رجاء، إن ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها، وإن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة، لا يضل معهما رأى ويقعد معهما حزم(4)
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/487) .
(2) الخراج لأبي يوسف صـ240 ، 241 .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/488) .
(4) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ186 عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ124 .(4/136)
. وجدت ملاقاة الرجال تلقيح لألبابها(1).
3 ـ في الرفق بالحمقى والنهي عن العقوبة في الغضب:
... كتب عمر بن عبد العزيز: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى أمراء الأجناد. أما بعد.. فإذا حضرك الخصم الجاهل الخرق ممن قدر الله أن يوليك أمره، وأن تبتلي به فرأيت منه سوء رِعة، وسوء سيرة في الحق عليه، والحظ له، فسدده ما استطعت وبصره وأرفق به وعلمه، فإن اهتدى وأبصر وعلم كانت نعمة من الله وفضلاً ، وإن هو لم يبصر ولم يعلم كانت حجة اتخذت بها عليه، فإن رأيت أنه أتى ذنباً استحل فيه عقوبة فلا تعاقبه بغضب من نفسك ولكن عاقبه وأنت تتحرى الحق على قدر ذنبه بالغاً ما بلغ وإن لم يبلغ ذلك إلا قدر جلدة واحدة تجلده إياها، وإن ذنبه فوق ذلك، ورأيت عليه من العقوبة قتلاً فما دونه فأرجعه إلى السجن، ولا يسرعن بك إلى عقوبته حضور من يحضرك(2)، وكان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يعاقب رجلاً حبسه ثلاثة أيام، ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه(3).
... إن العقوبة أثناء الغضب يحتمل أن يتجاوز القاضي فيها الحق تحت تأثير الغضب فيظلم المذنب، وخوفاً من التعدي في العقوبة فقد طلب عمر بن عبد العزيز من القاضي أن يحبس المذنب حتى يذهب غضب القاضي، ثم يحكم عليه وهو في هدوء على قدر ذنبه(4).
4 ـ خطأ الوالي في العفو خير من تعديه في العقوبة:
... عن أبي عقبة أن عمر بن عبد العزيز قال: ادرؤوا الحدود ما استطعتم في كل شبهة، فإن الوالي إذا أخطأ في العفو خير من أن يتعدى في العقوبة(5).
__________
(1) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ186 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ68 ، 69 .
(3) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ236 .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/490) .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ123 ، فقه عمر بن عبد العزيز (2/491) .(4/137)
5 ـ في ترك العمل بالظن: ولى عمر بن عبد العزيز الوليد بن هشام المعيطي على جند قنسرين، والفرات بن مسلم على خراجها، فتباغيا.. ولم قدم قابل، وقدم الوليد ومع رؤوس أنباط قنسرين كتب عمر إلى الفرات أن أقدم فقدم، وإنه لقاعد خلف سرير عمر إذ دخل الأنباط فقال لهم عمر: ماذا أعددتم لأميركم في نُزله لمسيره إليّ. قالوا: وهل قدم يا أمير المؤمنين، قال: ما علمتم به. قالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، فأقبل عمر بوجهه على الوليد، فقال: يا وليد: إن رجلاً ملك قنسرين وأرضها خرج يسير في سلطانه وأرضه حتى انتهى إليَّ لا يعلم به أحد، ولا ينفر أحداً ولا يروعه، لخليق أن يكون متواضعاً عفيفاً، قال الوليد: أجل والله يا أمير المؤمنين، إنه لعفيف وإني له لظالم، وأستغفر الله وأتوب إليه، فقال عمر: ما أحسن الاعتراف، وأبين فضله على الإصرار وردهما عمر على عملهما: فكتب إليه الوليد ـ وكان مرائياً ـ خديعة لعمر وتزينا بما هو ليس عليه: إني قدرت نفقتي لشهر فوجدتها كذا وكذا درهماً، ورزقي يزيد على ما أحتاج إليه، فإن رأى أمير المؤمنين أن يحط فضل ذلك، فقال عمر: أراد الوليد أن يتزين عندنا بما لأظنه عليه، ولو كنت عازلاً أحداً على ظن لعزلته، ثم أمر بحط رزقه الذي سأله، ثم أمر بالكتاب إلى يزيد بن عبد الملك وهو ولي عهده: إن الوليد بن هشام كتب إلي كتاباً ظني أنه تزين بما ليس هو عليه ولو أمضيت شيئاً على ظني ما عمل لي أبداً، ولكني آخذ بالظاهر وعند الله علم الغيوب، فأنا أقسم عليك إن حدث بي حادث وأفضى هذا الأمر إليك فسألك أن ترد إليه رزقه وذكر أني نقضته فلا يظفر منك بهذا أبداً فإنما خادع بالله والله خادعه، فلما مات عمر واستخلف يزيد كتب الوليد: إن عمر نقصني وظلمني، فغضب يزيد وبعث إليه فعزله، وأغرمه كل رزق جرى عليه في ولاية عمر ويزيد كلها فلم يلِ له عملاً حتى هلك(1).
6 ـ في الهدية لولاة الأمر:
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ129 ـ 131 .(4/138)
... ذهب عمر بن عبد العزيز إلى اعتبار الهدية لولاة الأمر من خلفاء وولاة الأقاليم وقضاة وغيرهم رشوة وقد رفض الهدية مع شدة حاجته إليها وأمر الناس بعدم تقديم الهدايا لولاة الأمر كما أمر الولاة بأن لا يقبلوا شيئاً من الهدايا(1)، عن فرات بن مسلم قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز التفاح فبعث فلم يجد شيئاً يشترون له به، فركب وركبنا معه فمر بدير فتلقاه غلمان للديرانيين معهم أطباق فيها تفاح، فوقف على طبق منها فتناول تفاحة فشمها ثم أعادها إلى الطبق، ثم قال: ادخلوا ديركم لا أعلمكم بعثتم إلى أحد من أصحابي بشيء قال: فحركت بغلتي فلحقته فقلت: يا أمير المؤمنين، اشتهيت التفاح فلم يجدوه لك فأُهدي لك فرددته قال: لا حاجة لي فيه، فقلت: ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يقبلون الهدية. قال: إنها لأولئك هدية وهي للعمال بعدهم رشوة(2).
7 ـ في نقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية:
... كتب عمر بن عبد العزيز برد أحكام من أحكام الحجاج مخالفة لأحكام الناس(3). وقد وافق عمر بن عبد العزيز في رد الأحكام إذا خالفت كتاب الله أو سنة نبيه أو الإجماع، الشورى وذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد أنه ينقضي الحكم إذا خالف الكتاب والسنة أو الإجماع(4).
8 ـ في من ضيع أمانته فعليه اليمين بعدم التفريط:
... كتب وهب بن منبه إلى عمر بن عبد العزيز: إني فقدت من بيت مال اليمن دنانير. فكتب إليه عمر: أما بعد فإني لست أتهم دينك ولأمانتك ولكن أتهم تضييعك وتفريطك، وإنما أنا حجيج المسلمين في مالهم، وإنما لأشحهم يمينك(5) فاحلف لهم والسلام(6).
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/495) .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/377) .
(3) حلية الأولياء (5/270) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/499) .
(5) أي ، لابد من حلف اليمين بأنه لم يفرط فإن حلف فلا ضمان عليه لأنه مؤتمن .
(6) سيرة عمر لابن الجوزي صـ104 ، 105 .(4/139)
9 ـ في أثر البينة الغائبة على تأخير القضاء:
... كان عند عمر بن عبد العزيز نفر من قريش يختصمون إليه فقضى بينهم فقال: المقضي عليه: أصلحك الله! إن لي بينة غائبة فقال عمر: إني لأؤخر القضاء بعد أن رأيت الحق لصاحبه، ولكن انطلق أنت فإن أتيتني بينة وحق هو أحق من حقهم فأنا أول من رد قضاءه على نفسه(1).
10 ـ نفقة البعير الضال:
... عن الشعبي قال: أضل رجل بعيراً فوجده عند رجل قد أنفق عليه، أعلفه وأسمنه، فاختصما إلى عمر بن عبد العزيز، وهو يومئذ أمير على المدينة فقضى لصاحب البعير ببعيره وقضى عليه بالنفقة(2).
11 ـ في حرية اللقيط:
... جاء كتاب عمر بن عبد العزيز إلى أهل مكة أن اللقيط حر(3).
12 ـ شهادة الرجل لأخيه أو لأبيه:
... إن عمر بن عبد العزيز كتب: أن أجز شهادة الرجل لأخيه إذا كان عدلاً(4).
ثانياً : في الدماء والقصاص:
1 ـ تخيير الأوفياء في قتل العهد بين العفو والدية والقتل:
... كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة قتلت رجلاً : إن أحب الأولياء أن يعفو عفواً، وإن أحبوا أن يقتلوا قتلوا، وإن أحبوا أن يأخذوا الدية أخذوها وأعطوا امرأته ميراثها من الدية(5).
2 ـ في التأني حتى يبلغ ولي المقتول:
... كتب عمر بن عبد العزيز في رجل قُتل وله ولد صغير، فكتب أن يتأنى بالصغير حتى يبلغ(6).
3 ـ في عفو بعض الأولياء يسقط القود:
... عن الزهري قال: وكتب به عمر بن عبد العزيز أيضاً: إذا عفا أحدهم فالدية(7).
4 ـ في القتل بعد أخذ الدية:
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/386) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (6/312) .
(3) مصنف ابن أبي شيبة (6/531) .
(4) المصدر نفسه (8/342 ـ 343) .
(5) المحلى (10/361) فقه عمر بن عبد العزيز (2/11) .
(6) مصنف عبد الرزاق (10/11) .
(7) المصدر نفسه (9/318) .(4/140)
... قال عمر بن عبد العزيز: والاعتداء الذي ذكر الله أن الرجل يأخذ العقل، أو يقتص، أو يقضي السلطان فيما بين الجارح والمجروح أو يعدو بعضهم بعد أن يستوعب حقه، فمن فعل ذلك فقد اعتدى والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة، ولو عفا عنه لم يكن لأحد من طلبة الحق أن يعفو عنه بعد اعتدائه إلا فإذن السلطان، وعلى تلك المنزلة كل شيء من هذا النحو فإنه بلغنا أن هذا الأمر الذي أنزل الله فيه: ((فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)) (النساء ، آية 59) الآية ، وما كان من جرح فوق الأدنى ودون الأقصى فهو يرى فيه بحساب الدية(1).
5 ـ في القتيل يوجد في السوق:
... كتب عدي بن أرطأة قاضي البصرة إلى عمر بن عبد العزيز إني وجدت قتيلاً في سوق الجزارين قال: أما القتيل فديته من بيت المال(2).
6 ـ في القتل في الزحام:
... إذا قتل الإنسان بسبب إزدحام الناس ولم يعلم من قتله فهل يذهب دمه هدراً؟ إن عمر بن عبد العزيز يرى أن مات بهذا السبب فديته في بيت المال(3). فعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب في رجلين ماتا في الزحام: أن يؤديا من بيت المال فإنما قتله يد أو رجل(4)
ثالثاً : في الديات:
1 : مقدار الدية:
... كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد أن الدية كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير(5).
2 ـ في دية اللسان:
... عن سليمان بن موسى قال: في كتاب عمر بن عبد العزيز في الأجناد: ما قطع في اللسان فبلغ أن يمنع الكلام كله ففيه الدية كاملة وما نقص دون ذلك فبحسابه(6).
3 ـ في دية الصوت والحنجرة:
__________
(1) المصدر نفسه (10/16 ، 17) .
(2) المصدر نفسه (9/459) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/36) .
(4) المحلى (10/418) .
(5) مصنف ابن شيبة (9/128) .
(6) المصنف لعبد الرزاق (9/357) فقه عمر (2/66) .(4/141)
... حيث إن الصوت مصدره الحنجرة وأن إتلافها قد يذهب بالصوت ومن ثم فلا كلام فقد رأى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن فيها الدية كاملة إذا انقطع الصوت من ضربة(1)، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: في الحنجرة إذا كسرت فانقطع الصوت الدية كاملة(2).
4 ـ في دية الذكر:
... وأما الذكر فلأهميته للرجل ولأنه إذا ذهب انقطعت شهوته وذهب نسله فقد رأى عمر بن عبد العزيز أنه إذا ذهب كله ففيه الدية كاملة، وما كان دون ذلك فيحاسبه، فعن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز في الذكر الدية، فما كان دون ذلك فبحسابه(3).
5 ـ في دية إفضاء المرأة:
... إذا أصاب الرجل المرأة فأفضاها فقد ينتج عن ذلك منع اللذة والجماع، وقد نتج عنه عدم حبس الحاجتين والولد، ونظراً لخطورة هذا الأمر فقد جعل فيه عمر بن عبد العزيز الدية كاملة وفي رواية عنه أنه جعل فيه ثلث الدية(4)، ويمكن الجمع بين الروايتين بأن عمر بن عبد العزيز يجعل في إفضاء المرأة الدية كاملة إذا لم يحبس الحاجتين والولد، وثلث الدية إذا حبس الحاجتين والولد(5).
6 ـ في دية الأنف:
... نظراً للمصالح المترتبة على وجود الأنف من التنفس عن طريقه ومعرفة الروائح والتمييز بينها، إضافة إلى جمال الوجه بوجود الأنف، والتشويه الحاصل بقطعه كما أن العرب ترى في جدع الأنف إهانة لا يعدلها إهانة، لذلك فقد جعل عمر بن عبد العزيز فيه الدية كاملة إذا جدع من أصله، وأن ما كان دون ذلك فبحسابه(6).
7 ـ في دية الأذن:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/69) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (9/170) فقه عمر (2/69) .
(3) مصنف عبد الرزاق (9/372) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/71) .
(5) مصنف عبد الرزاق (9/377) .
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/76) .(4/142)
... حيث إن الأذن تؤدي نصف منفعة السمع ولأنها مهما يكون في الإنسان منه اثنتان فإن عمر بن عبد العزيز يرى إذا استؤصلت أو ذهبت منفعتها ففيها نصف الدية حيث إن قوله في الأذن نصف الدية يتناول ذهاب سمعها ويتناول استئصالها(1).
8 ـ في دية الرجل:
... لما كان الإنسان لا يستطيع المشي إلا بالرجلين وأنه بالرجل الواحدة يكون قعيداً ولأن الرجل مما يكون في الإنسان منه اثنتان، فقد جعل عمر بن عبد العزيز في الرجل نصف الدية(2).
9 ـ في دية ما بين الحاجبين:
... هناك بعض الجزئيات في الديات لم يتعرض لها العلماء وقبل عمر بن عبد العزيز، وهاهو عمر بن عبد العزيز يرى فيها رأيه، من هذه الأمور دية الكسر إذا وقع بين الحاجبين وشان الوجه ولم ينقل منها العظام(3)، فقد قال:.. فإن كان بين الحاجبين كسر شان الوجه ولم ينقل منها العظام فربع الدية(4).
10 ـ في دية الجبهة إذا هشمت:
... قال عمر بن عبد العزيز: في الجبهة إذا هشمت وفيها غوص من داخل مائة وخمسون ديناراً(5).
11 ـ في دية الذقن:
... وأما الذقن إذا كسرت فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن فيها ثلث الدية، فقد قال: في الذقن ثلث الدية(6). هكذا يقرر عمر بن عبد العزيز باجتهاده وبرأيه السديد أموراً لم يسبق إليها منها دية الذقن إذا كسرت فإنه جعل فيها ثلث الدية نظراً لأهميتها حيث يمتنع مع كسرها مضغ الطعام وفتح الفم. ويبدو أن هذا القول تفرد به(7).
12 ـ في دية الأصابع:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/80) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (9/209) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/88) .
(4) مصنف عبد الرزاق (9/320) .
(5) المصدر نفسه (9/291) .
(6) مصنف عبد الرزاق (9/361) مصنف ابن أبي شيبة (9/179) .
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (2/96) .(4/143)
... نظراً لأهمية الأصابع وخاصة أصابع اليد، فقد رأى عمر بن عبد العزيز أن في كل أصبع من أصابع اليد أو الرجل عشر الدية وفي كل قصبة من قصب الأصابع ثلث دية الأصبع إلا الإبهام لأنه قصبتان ففي كل قصبة منه نصف دية الأصبع، فعن عمر بن عبد العزيز: في كل أصبع عشر من الإبل أو عدل ذلك من ذهب أو ورق(1).
13 ـ في دية الظفر:
... حتى الظفر لم يغفل عنه عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقد جعل فيه إذا اسود أو سقط عشر دية الأصبع عشرة دنانير، فعن عمر بن عبد العزيز أنه اجتمع له في الظفر إذا نزع فعرّ(2)، أو سقط أو اسود، العشر في دية الأصبع، عشرة دنانير(3).
رابعاً : في الحدود:
1 ـ أهمية إقامة الحدود:
... حيث إن إقامة الحدود سبب في حفظ دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم واستتباب الأمن في بلادهم، فقد أكد عمر بن عبد العزيز على إقامة الحدود حتى جعلها من حيث الأهمية كإقامة الصلاة والزكاة(4)، فقد كتب عمر بن عبد العزيز: إن إقامة الحدود عندي كإقامة الصلاة والزكاة(5).
2 ـ في منع الرجوع عن الحدود بعد بلوغها الإمام:
... ذهب عمر بن عبد العزيز إلى مسائل الحدود إذا رفعت إلى الإمام أو القاضي فإنها تكون قد بلغت حداً لا يمكن الرجوع فيه بل يجب تنفيذ ما ثبت من الحدود(6).
3 ـ في اجتماع أكثر من حد على رجل واحد:
... قد يأتي الرجل بعدة جرائم قبل أن يقام عليه الحد مثل أن يزني ويسرق ويقتل، فهل قتل كاف عن الحدود الأخرى فيأتي عليها؟ أم أنها تقام عليه الحدود ثم يقتل؟ إن الرواية عن عمر بن عبد العزيز تدل على أنه يقيم الحدود أولاً ثم يقتله(7).
4 ـ في عدم القطع أو الصلب إلا بعد مراجعة الخليفة:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/100) .
(2) المصدر نفسه (2/102) .
(3) المصدر نفسه (2/103) .
(4) المصدر نفسه (2/111) .
(5) الطبقات الكبرى (5/378) .
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/113) .
(7) المصدر نفسه (2/117) .(4/144)
... رأى عمر بن عبد العزيز أن على الولاة مراجعة الخليفة في قضايا القتل والصلب، وأن يُقتل أحد ولا يُصلب إلا بعد موافقة الخليفة على ذلك(1).
5 ـ يشترط في المقذوف لحده أن يكون مسلماً:
... ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أنه لا حد في قذف كافراً، وذلك لأن الكفر أكبر من الزنا المقذوف به، فلا حاجة إلى إثبات براءته من هذا الذنب ما دام فيه أكبر منه وهو الكفر(2)، فعن طارق بن عبد الرحمن ومطرف بن طريف قالا: كنا عند الشعبي فرفع إليه رجلان، مسلم ونصراني، قذف كل واحد منهما صاحبه فضرب النصراني للمسلم ثمانين، وقال للنصراني: لما فيك أعظم من قذف هذا فتركه، فرفع ذلك إلى عبد الحميد بن زيد، فكتب فيه إلى عمر بن عبد العزيز فذكر ما صنع الشعبي، فكتب عمر يحسِّن ما صنع الشعبي(3). هكذا يرى عمر بن عبد العزيز أنه لا حد على قذف الكافر إذ ليس بعد الكفر ذنب، ولأن الكافر فيه الكفر وهو أكبر مما قذف به، إذ لو وجد فيه الزنا فهو أقل من الكفر، إذن فلا حد على من قذف الكافر(4).
6 ـ عدم سقوط الحد بقذف الرجل ابنه:
... إذ قذف الرجل ابنه، فهل يقام عليه الحد أم لا يقام؟ وهل من حق الأب على ابنه أن يقذف بما ليس فيه؟ وإذا كان عليه حد فهل يسقط عنه إذا عفا الابن؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن من قذف ابنه يقام عليه الحد، إلا أنه إذا عفا الولد عن والده فلا يقام عليه حد(5)، فعن ابن جريح قال: أخبرني رزيق ـ صاحب أيلة ـ أنه كتب إلى عمر بن عبد العزيز في رجل افترى على ابنه، فكتب بحد الأب إلا أن يعفوا عنه أبنه(6).
7 ـ عقوبة قذف النصرانية تحت المسلم:
__________
(1) المصدر نفسه (2/120) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ114 ـ 115 .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/130) .
(3) المصنف لعبد الرزاق (6/64 ـ 65) (7/130 ـ 131) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/130) .
(5) المصدر (2/133) .
(6) مصنف ابن أبي شيبة (9/504) .(4/145)
... إذا كانت النصرانية تحت مسلم، ونظراً لأن قذفها يتعدى لزوجها المسلم أو ابنها المسلم فإن عمر بن عبد العزيز يجلد من قذفها دون الحد(1). فعن أبي إسحاق الشيباني عن عمر بن عبد العزيز في رجل قذف نصرانية لها ولد مسلم، فجلده عمر بضعة وثلاثين سوطا(2). وقد وافق عمر بن عبد العزيز في رأيه هذا الزهري، وقال قتادة: يجلد الحد(3). وقد اتفق أصحاب المذاهب الأربعة على أنه لا يحد، وأما المالكية فقالوا: ينكل من أجل أولادها المسلمين(4) .
8 ـ قذف المرأة للرجل بنفسها:
... عن عمر بن عبد العزيز أنه أتته امرأة فقالت: إن فلاناً استكرهني على نفسي، فقال: هل سمعك أحد أو رآك؟ قالت: لا، فجلدها بالرجل(5). هذه مسألة لا تتناول عقوبة الزنا، وإنما هي خاصة بالقذف، فالمرأة التي تدعى على الرجل أنه استكرهها على الزنا، هي بكلامها هذا تعتبر قاذفة له بنفسها وعليه حد القذف إلا أن تأتي ببينة تدرأ عنها هذا الحد، فسماع صياح المرأة هو عند عمر بن عبد العزيز يعفيها من حد القذف أو أن يكون أحد رآها وقد وافق عمر بن عبد العزيز في جلدها إن لم يكن لها بينة وافقه الزهري وقتادة وربيعة ويحي بن سعيد الأنصاري(6).
9 ـ قطع السارق قبل خروجه بسرقته:
... ذهب عمر بن عبد العزيز بأنه لا قطع على السارق حتى يخرج بسرقته، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لا يقطع حتى يخرج بالمتاع من البيت(7).
10 ـ النباش سارق يستحق القطع:
__________
(1) فقد عمر بن عبد العزيز (2/136) .
(2) مصنق عبد الرزاق (7/130) .
(3) المصدر نفسه (7/129ـ130) .
(4) المغني (8/216) ، فقه عمر (2/137) .
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (2/140) .
(6) المحلى (11/291 ـ 292) .
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (2/146) .(4/146)
... إن من الناس من يأتي أموراً تشمئز منها النفوس، حتى الميت في قبره لم يسلم من بعض المنحرفين، فهناك سارق يحفر القبر ويأخذ أكفان الميت، وهذا عمر بن عبد العزيز يرى أن النباش سارق يستحق القطع، لأن من سرق من الأموات كما سرق من الأحياء(1)، فعن معمر قال بلغني أن عمر بن عبد العزيز قطع نباشاً(2).
11 ـ عقوبة شرب الخمر للمرّة الثانية:
... عن عبادة بن نسي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يضرب رجلاً حداً في خمر فخلع ثيابه ثم ضربه ثمانين رأيت منها ما بضع ومنها ما لم يبضع ثم قال: إنك إن عدت الثانية ضربتك ثم ألزمتك الحبس حتى تُحدث خيراً. قال يا أمير المؤمنين أتوب إلى الله أن أعود في هذا أبداً فتركه عمر(3).
12 ـ عقوبة ساقي الخمر:
... إن من يوفر الخمر أو يقدمها لم يشربها ينبغي أن لا تقل عقوبته عن شاربها لأنه تسبب في إيصالها لمن يشربها، ولذلك فقد جلد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ساقي الشراب مع الذين يشربون(4)، فعن ابن التميمي أن عمر بن عبد العزيز وجد قوماً على شراب، ووجد معهم ساقياً، فضربه معهم(5).
13 ـ إتلاف أواني الخمر مع الخمر:
... عن هارون بن محمد عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز بخناصرة يأمر بزقاق الخمر أن تشقق وبالقوارير أن تكسر(6).
14 ـ إدخال الكفار الخمر إلى بلاد المسلمين:
__________
(1) المصدر نفسه (2/147) .
(2) مصنف بن أبي شيبة (10/34) .
(3) الطبقات الكبرى (5/365) ، فقه عمر (2/157) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/159) .
(5) المصنف لعبد الرزاق (9/230) .
(6) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/365) .(4/147)
... إذا كان الكفار يعتقدون حل الخمر ويشربونها في بلادهم، فإذا جاؤوا إلى بلاد المسلمين ومعهم الخمر فهل يسمح لهم بدخولها معهم؟ أو يسمح بتوفيرها لهم ليشربوها في بلاد المسلمين؟، إن الكفار في بلاد المسلمين أن يصبروا عن الخمر ما داموا يرغبون العيش في بلاد المسلمين، وإذا كان لكل دولة نظمها والداخل إليها يجب أن يراعيها، ولأن هذا نظام دولة الإسلام وهو أيضاً نظام رب العالمين فهو أحق بالرعاية والالتزام، ومن هذا المنطلق نجد عمر بن عبد العزيز يمنع أهل الذمة من إدخال الخمر معهم إلى بلاد المسلمين فقد كتب عمر في خلافته: أن لا يدخل أهل الذمة بالخمر أمصار المسلمين فكانوا لا يدخلونها(1).
15 ـ في عقوبة الساحر:
... عن همام عن يحي أن عامل عُمان كتب إلى عمر بن عبد العزيز في ساحرة أخذها، فكتب إليه عمر: إن اعترفت أو قامت عليها البينة فاقتلها(2). وهذا مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك وأحمد(3)، وقد كتب عمر بن الخطاب في خلافته إلى الولاة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة(4).
16 ـ استتابة المرتد:
... المسلمون لا يكرهون أحداً على الإسلام ولكنهم أيضاً لا يقبلون التلاعب بالدين، فمن دخل في دين الإسلام طائعاً مختاراً أو ولد في الإسلام ثم كفر بعد إيمانه فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن يستتاب ويدعى إلى الإسلام ثلاثة أيام فإن تاب ورجع إلى الإسلام قبل منه فإن أبى ضربت عنقه(5).
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/164) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (10/135) .
(3) حاشية ابن عابدين (1/31) المغني (8/153) ، فقه عمر بن عبد العزيز (2/176) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (10/136) .
(5) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/351) مصنف عبد الرزاق (10/171) .(4/148)
17 ـ طريقة استتابة المرتد: عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن أبيه قال: كنت عاملاً لعمر بن عبد العزيز فكتبت إليه أن رجلاً كان يهودياً فأسلم ثم تهود فرجع عن الإسلام، فكتب إلى عمر: أن ادعه إلى الإسلام، فإن أسلم فخل سبيله وإن أبى فادع بالخشبة فاضجعه عليها، ثم ادعه، فإن أبى فأوثقه ثم ضع الحربة على قلبه ثم ادعه، فإن رجع فخل سبيله وإن أبى فاقتله. قال: ففعل ذلك به حتى وضع الحربة على قلبه، فأسلم فخلى سبيله(1). قال الدكتور محمد شقير: لم أر قولاً لغير عمر بن عبد العزيز بهذا التفصيل وذهب الأئمة الأربعة إلى أن المرتد يقتل بعد استتابته إذا لم يرجع إلى الإسلام(2).
18 ـ عقوبة المرتدة:
... رأى عمر بن عبد العزيز أن تستتاب المرتدة، فإن تابت وإلا تسترق وتباع على غير أهل دينها(3). وهذا رأي قتادة قال: تُسبى وتباع، وكذلك فعل أبو بكر بنساء أهل الردة(4)،، وروي عن الحسن قال: لا تقتلوا النساء إذا هنّ ارتددن عن الإسلام ولكن يدعين إلى الإسلام، فإن هن أبين سبين فيجعلن إماء المسلمين ولا يقتلن(5).
خامساً : في التعزيرات:
1 ـ في الحد الأقصى للضرب تعزيراً:
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (12/274) .
(2) روضة الطالبين (10/75) حاشية ابن عابدين (3/289) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/181) .
(4) مصنف عبد الرزاق (10/176) .
(5) مصنف ابن أبي شيبة (10/140) .(4/149)
... العقوبة بالجلد تنقسم إلى قسمين: حد وتعزير، فالحد قد نص الشارع الحكيم عليه، فمقداره محدد، لا مجال لأحد أن يزيد عليه أو ينقص منه، وأما الجلد تعزيراً فهو عقوبة لإتيان أمر لا حد فيه، أو أي جناية لا حد فيها فهو متروك للحاكم ليحدد مقداره حسب ما يرى، إلا أن عمر بن عبد العزيز جعل لذلك حداً أقصى لا تجوز الزيادة عليه على قولين(1)، الأول، لا تجوز الزيادة على ثلاثين جلدة، فعن محمد بن قيس أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بمصر: لا تبلغ العقوبة أكثر من ثلاثين سوطاً إلا في حد من حدود الله(2). وفي القول الثاني: لا يبلغ بالجلد تعزيراً أقل الحدود فعلى هذه الرواية لا يزاد للحر عن تسع وثلاثين جلدة ولا يزاد للعبد على تسع عشرة جلدة، لأن العشرين للعبد والأربعين للحر هي أقل الحدود(3) وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله: أن عاقبوا الناس على قدر ذنوبهم، وإن بلغ ذلك سوطاً واحداً وإياكم أن تبلغوا بأحد حداً من حدود الله(4).
2 ـ النهي عن أخذ الناس بالمظنة وضربهم على التهمة:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/188) .
(2) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/365) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/189) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الجوزي صـ(117) .(4/150)
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى عدم جواز الأخذ بالظن أو الضرب على التهمة فهو يقرر بهذا مبدأ العدالة وترجيح التحقيق العادل على التحقيق الحازم، وذلك خوفاً من أن يظلم برئ فقد فضل عمر بن عبد العزيز أن يلقوا الله بخيانتهم على أن يلقى الله بدمائهم(1)، عن إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني قال حدثني أبي عن جدي، قال لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل، قدمتها فوجدتها من أكبر البلاد سرقاً ونقباً(2)، فكتبت إلى عمر أعلمه حال البلد وأسأله أخذ الناس بالمظنة وأضربهم على التهمة أو أخذهم بالبينة وما جرت عليه عادة الناس، فكتب إلي أن أخذ الناس بالبينة وما جرت عليه السنة، فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله، قال يحيى ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد وأقله سرقاً ونقباً(3) وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز. ... أما بعد أصلح الله أمير المؤمنين فإن قبلي أناساً من العمال قد إقتطعوا من مال الله عز وجل، مالاً عظيماً لست أرجو إستخراجه من أيديهم إلا أن أمسهم بشئ من العذاب، فإن رأى أمير المؤمنين ـ أصلحه الله ـ أن يأذن لي في ذلك أفعل. قال: فأجابه أما بعد: فالعجب كل العجب من إستئذانك إياي في عذاب بشر كأني لك جنة من عذاب وكأن رضائي عنك ينجيك من سخط الله عز وجل، فانظر من قامت عليه بينة عدول فخذه بما قامت عليه البينة، ومن أقر لك بشئ فخذه بما أقر به، ومن أنكر فأستحلفه بالله العظيم، وخل سبيله، وأيم الله، لأن يلقوا الله عز وجل بخيانتهم أحب إلي من أن ألقى الله بدمائهم(4). وهكذا يقرر عمر بن عبد العزيز الأخذ بالتحقيق العادل لا بالتحقيق الحازم. وقد قال بعدم الأخذ بالمظنة والضرب على التهمة كل من عمر بن الخطاب رضي
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/212) .
(2) النقب: التعب في أي شئ كان .
(3) حلبة الأولياء (5/271) وسيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الجوزي ص (117ـ118) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن الحكم صـ (55) .(4/151)
الله عنه وعطاء(1).
3 ـ ... النهي عن المثلة: حلق الرأس جعله الله نسكاً وسنة ـ في الحج والعمرة ـ كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن حلق اللحية ولكن بعض الناس خالفوا ذلك كله وجعلوا حلق الرأس واللحية عقوبة، وهذا عمر بن عبد العزيز ينهى عن هذا العمل ويسميه المثلة(2). فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: إياك والمثلة جز الرأس واللحية(3) ومذهب الأئمة، الأربعة أن لا يجوز التعزير بحلق اللحية وعند مالك وأبي حنيفة ولا يحلق الرأس(4).
سادساً: في أحكام السجناء:
1ـ ... تعجيل النظر في أمر المتهمين: أمر عمر بن عبد العزيز بتعجيل النظر في أمور المتهمين، فمن كان عليه أدب فيؤدب ويطلق سراحه ومن لم يثبت عليه قضية يخلي سبيله، ويرى أن إقامة الحدود سبب لقلة السجناء لأنه يكون زاجراً لا هل الفسق والزعارة(5)، فعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز. ... فلو أمرت بإقامة الحدود لقلَّ أهل الحبس، ولخاف أهل الفسق والدعارة، ولتناهوا عما هم عليه، إنما يكثر أهل الحبس لقلة النظر في أمورهم، إنما هو حبس وليس نظر، فمر ولاتك جميعاً بالنظر في أمر أهل الحبوس في كل الأيام، فمن كان عليه أدب وأطلق، ومن لم تكن له قضية خلي عنه(6).
2 ـ ... في الإهتمام بأمور المسجونين:
__________
(1) مصنف عبدالرزاق (10/217ـ219) فقه عمر (2 ـ 213) .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/215) .
(3) الطبقات الكبرى (5/380) .
(4) مغني المحتاج (4/192) جواهر الإكليل (2/225) .
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (2/225) .
(6) الخراج لأبي يوسف ص (301) ، فقه عمر بن عبد العزيز (2/225) .(4/152)
قام عمر بن عبد العزيز رحمه الله بالإصلاح على كل طريق، وحقق العدل على كل صعيد، فقد أهتم بأمر المسجونين إهتماماً شديداً، وأصدر تعليماته بتعهدهم بكل ما يحتاجونه من طعام وأدم وكسوة وغير ذلك(1)، وعن جعفر بن برقان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: . .... وأجروا عليهم من الصدقة ما يصلحهم في طعامهم وأدمهم. ..فمر بالتقدير لهم مايقوتهم في طعامهم وأدمهم، وصير ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر يدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليهم الخبز ذهب به ولاة السجن والقوام والجلاوزة(2)، وول ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح، ويدفع ذلك إليهم شهراً بشهر، يقعد ويدعو بإسم رجل رجل ويدفع ذلك إليه في يده... وكسوتهم في الشتاء قميص وكساء وفي الصيف قميص وإزار، وتزاد المرأة مقنعة. ...ومن مات منهم ولم يكن له ولي ولا قرابة يغسل ويكفن من بيت المال ويصلى عليه ويدفن(3). وكتب إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق. ..ولاتعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال. ...وأنظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي، فإن من إرتشى صنع ما أمر به(4).
3 ـ ... سجن خاص بالنساء:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/226) .
(2) الجلاوزة: جمع جلاوز وهو الشرطي.
(3) الخراج لأبي يوسف ص (300 ـ301) .
(4) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5 ـ 356) .(4/153)
يمضي عمر بن عبد العزيز قدماً في تنظيم السجون والاهتمام بأمر المسجونين وتعاهدهم، فيأمر بأن يجعل للنساء حبس خاص بعيداً عن الإختلاط بالرجال مما يؤكد على اختيار أهل الدين والأمانة، ليتولوا أمور السجناء(1). فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد: وأنظروا من في السجون ممن قام عليه الحق فلا تحبسه حتى تقيم عليه، ومن أشكل أمره إلي فيه، واستوثق من أهل الزعارات فإن الحبس لهم نكال، ولا تعد في العقوبة، ويعاهد مريضهم ممن لا أحد له ولا مال، وإذا حبست قوماً في دين فلا تجمع بينهم وبين أهل الزعارات في بيت واحد ولا حبس واحد وأجعل للنساء حبساً على حدة، وانظر من تجعل على حبسك ممن تثق به ومن لا يرتشي فإن من إرتشى صنع ما أمر به(2) ومما سبق نلاحظ إهتمام عمر بن عبد العزيز بالسجناء وحرصه على إقامة العدل فيهم وإصلاح ما أفسده من قبله في التعامل معهم
سابعاً: في أحكام الجهاد.
1 ـ ... سن من يشرع له الإشتراك في القتال:
كان شباب الرعيل الأول من المسلمين يتاسبقون ويتنافسون على الإشتراك في القتال، وإذا لم يسمح لا حدهم بالإشتراك في القتال فإنه يتحسر ويحاول إقناع ولي الأمر بأنه لا يستطيع القتال وقد حدد عمر بن عبد العزيز سن من يسمح له بالقتال، والفرض له مع المقاتلة حدده بخمس عشرة سنة ومن كان دون ذلك فيكون فرضة في الذرية ولا يسمح له بالإشتراك في القتال(3).
2 ـ ... كيفية بداية قتال غير المسلمين:
عن صفوان ابن عمرو قال: جاءنا كتاب عمر بن عبد العزيز وهو خليفة إلى عامله أن لا تقاتلن حصناً من حصون الروم ولا جماعة من جماعتهم حتى تدعوهم إلى الإسلام فإن قبلوا فاكفف عنهم وإن أبوا فالجزية، فإن أبوا فانبذ إليهم على سواء(4).
3 ـ في مدة الرباط:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (2/228) .
(2) الطبقات الكبرى (5ـ356) فقه عمر (2/228) .
(3) فقه عمر (2/415) د. شقير .
(4) الطبقات الكبرى (5/355) .(4/154)
الرباط في سبيل الله من أحب الأعمال إلى الله تعالى ويترتب عليه الأجر الوفير من الله سبحانه وتعالى، وقد ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن مدة الرباط أربعون يوماً، فقد قال: تمام الرابط أربعون يوماً(1).
4 ـ في حكم تصرف المقاتل في ماله:
قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان الرجل في الحرب على ظهر فرسه يقاتل فما صنع في ماله فهو جائز(2).
5 ـ ... في بيع الخيل للعدو:
بيع السلاح ونقله أو الخيل أو ما يقوى الأعداء ويشد من أزرهم ويقويهم على حرب المسلمين، جريمة في حق من يفعله وينبغي حجز هذه الأشياء وما في حكمها حتى لا تصل إلى العدو ومن هذا المنطلق منع عمر بن عبد العزيز حمل الخيل إلى الهند بإعتبارها بلد من بلدان المشركين في زمن عمر بن عبد العزيز، والعداوة لا تخفى بين أهل الإسلام وأهل الشرك(3).
6 ـ إفتداء أسارى المسلمين ولو كثر الثمن:
أكد عمر بن عبد العزيز على وجوب فك أساري المسلمين في رسائله إلى عماله بأن يغادروا مهما بلغ ذلك من المال، فقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله أن فاد بأسارى المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم(4)، وعن ربيعة بن عطاء عن عمر بن عبد العزيز أنه أعطى برجل من المسلمين عشرة من الروم وأخذ المسلم(5). وفي رواية أن فادوا بأساري المسلمين وإن أحاط ذلك بجميع مالهم(6).
__________
(1) المصدر نفسه (5/355) فقه عمر بن عبد العزيز (2/424) .
(2) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/352) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/427) .
(4) حلية الأولياء (5/311ـ312) .
(5) الطبقات الكبرى لا بي سعد (5/354) .
(6) سيرة عمر لابن الجوزي صـ(120) .(4/155)
7 ـ إفتداء الرجل والمرأة والعبد والذمي: عن ربيعة بن عطاء قال: كتب عمر بن عبد العزيز معي وبعث بمال إلى ساحل عدن أن أفتدي الرجل والمرأة والعبد والذمي(1). مما تقدم يظهر عدل عمر بن عبد العزيز جليا حيث أمر بإفتداء من يعيش على أرض المسلمين حتى ولو كان عبداً أو ذميا لأن الذمي له أن يحفظ ويدافع عنه ويفتد لو وقع في الأسر، وهذا أكبر دليل على وفاء المسلمين بذمتهم إلى أبعد مما يتصوره أحد(2).
8 ـ كراهة قتل الأسرى:
عن معمر قال: أخبرني رجل من أهل الشام ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ما رأيت عمر بن عبد العزيز قتل أسيراً قط، إلا واحداً من الترك قال: جئ بأسرى من الترك، قال: فأمر بهم أن يسترقوا، فقال رجل ممن جاء بهم يا أمير المؤمنين لو كنت رأيت هذا ـ لأحدهم ـ وهو يقتل في المسلمين لكثر بكاؤك عليهم: قال: فدونك: فأقتله، قال: فقام إليه فقتله(3).
لقد كره عمر بن عبد العزيز قتل الأسرى، ومنع ذلك إلا واحداً قتل كثيراً من المسلمين، ولكنه أذن في أن يسترقون(4).
ثامناً: في النكاح والطلاق:
1ـ زواج المرأة بغير ولي:
عن سفيان عن رجل من أهل الجزيرة عن عمر بن عبد العزيز أن رجلاً تزوج إمرأة ولها ولي هو أدنى منه بدروب الروم، فرد عمر النكاح وقال: الولي وإلا فالسلطان(5).
2 ـ ... تزويج الوليين للمرأة على رجلين:
عن ثابت بن قيس الغفاري قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز في جارية من جهينة زوجها وليها رجلاً من قيس، وزوجها آخر رجلاً من جهينة، فكتب عمر بن عبد العزيز أن أدخل عليها شهودا عدولاً وخيرها فأيهما اختارت فهو زوجها.
3 ـ ... زواج الرجل بالمرأة بعد الفجور بها:
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/353) .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/436) .
(3) مصنف عبدالرزاق (5/205ـ206) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (2/438) .
(5) مصنف أبن أبي شيبة (4/132) فقه عمر بن عبد العزيز (1/405) .(4/156)
... إذا زنى رجل بأمرأة ثم بدا له أن يتزوجها فهل يحل له ذلك ؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى جواز ذلك إذا رأى منها خيراً، وهذا رأي رشيد لأنه يسد كثيراً من أبواب الشر لأنه لا فرق بين من فجر بها ومن لم يفجر بها، فلو قلنا لا يجوز ذلك فغير هذا الرجل أولى بأن لا يقبلها، وفي هذا شرور ومفاسد عظيمة(1)، عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز سئل عن إمرأة أصابت خطيئة، ثم رأى منها خيراً، أينكحها الرجل؟ فقال له: الظن كما بلغني، أي إنها له(2).
4 ـ ... نكاح أمرأة الأسير:
عن عمر بن عبد العزيز قال: لا تنكح أمرأة الأسير أبداً مادام أسيراً(3). فالأسير المسلم إنما وقع في الأسر نتيجة لا قدامه وبلائه في قتال الإعداء رفعاً لرأية الإسلام، أو دفاعاً عن بلاد المسلمين وتقديراً لهذا الموقف النبيل حيث ضحى بنفسه في سبيل دينه، فإن على أمرأته أن تقدر له ذلك وأن تصبر حتى يفك الله أسره ثم يعود إليها خاصة وأن بقاءه في الأسر وغيبته هذه ليست من إختيا ره، كما أن إطلاق سراحه محتمل في كل وقت ولذلك كله كان من العدل والإنصاف أن لا تتزوج إمرأة الأسير مادام أسيراً(4).
5 ـ ... نكاح إمرأة المفقود:
إذا فقد الرجل وإنقطعت أخباره، فلا يدرى أحي هو أم ميت فهل تبقى زوجته تنتظره؟ وما مدة الإنتظار؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين وبعدها تتزوج(5)، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة: أن إمرأة المفقود تعتد أربع سنين(6)، والظاهر أن عمر بن عبد العزيز يرى جواز زواج إمرأة المفقود بعد مضي السنين الأربع، والعدة بعدها أربعة أشهر وعشراً(7).
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/412) .
(2) مصنف إبن أبي شيبة (4/250) فقه عمر (1/412) .
(3) الطبقات الكبرى لا بن سعد (5/351) .
(4) فقه عمر بن عبد العزيز (1/417) .
(5) المصدر نفسه (1/418) .
(6) المحلي (10/138) .
(7) فقه عمر بن عبد العزيز (1/418) .(4/157)
6 ـ ... صداق المطلقة قبل الدخول بها في مرض زوجها:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن لها نصف المهر، فلا تأثير لتطليق زوجها في حال المرض(1)، فعن عمر بن عبد العزيز قال: لها نصف الصداق ولاميراث لها ولا عدة عليها(2).
7 ـ ... إشتراط الرجل لنفسه شيئاً عند زواج إبنته:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن المهر للمرأة وإن إشترط والدها شيئاً لنفسه فهو للمرأة دون الأب(3)، وعن الأوزاعي أن رجلاً زوج إبنته على ألف دينار وشرط لنفسه ألف دينار فقضى عمر بن عبد العزيز للمرأة بألفين دينار دون الأب(4).
8 ـ في اللعب بالطلاق جد:
يرى عمر بن عبد العزيز، أن الرجل يحاسب على الطلاق سواء كان جاداً أوهازلاً، فعن سليمان بن حبيب المحاربي قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز: مهما أقلت السفهاء عن شئ فلا تقيلوهم الطلاق والعتاق(5).
9 ـ في طلاق المكره: قد يحصل للإنسان بعض مواقف يكره فيها على الطلاق كأن يستحلف بالطلاق على أن يفعل كذا أو يترك كذا، وقد يكره ويهدد إذا لم يطلق إمرأته، فهل هذا النوع من الطلاق على الصفة يقع ؟ ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن طلاق المكره لا يقع(6)، عن عمر بن عبد العزيز قال: لا طلاق ولاعتاق على مكره(7).
10 ـ في تطليق الرجل نصف تطليقة:
قيل لعمر بن عبد العزيز: الرجل يطلق إمرأته نصف تطليقة قال: هو تطليقة(8).
11 ـ تطليق المرأة نفسها إذا جعل أمرها بيدها:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/423) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (4/331ـ332) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/425) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (4/201) .
(5) المصدر نفسه (5/106) .
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (1/434) .
(7) مصنف ابن أبي شيبة (5/49) .
(8) مصنف ابن أبي شيبة (5/53) فقه عمر بن عبد العزيز (1/441) .(4/158)
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن الطلاق يقع وأن هذا الطلاق وإن كان ثلاثاً يعتبر واحدة، وهو أحق بها إن أراد مراجعتها، فقد كتب عمر بن عبد العزيز في رجل من بني تميم جعل أمر إمرأته بيدها، قال: إن ردت الأمر عليه فلا شيء وإن طلقت نفسها فهي واحدة وهو أحق بها(1).
12 ـ إسلام المرأة تحت الكافر:
إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه، ويفرق بينهما، فعن معمر بن سليمان عن أبيه أن الحسن وعمر بن عبد العزيز قالا في النصرانية تسلم تحت زوجها، قالا: الإسلام أخرجها منه(2). فمتى أسلمت المرأة وبقى الرجل على الكفر فلابد من التفريق بينهما، حتى لا تكون للكافر ولاية على مسلمة، لأن هذا غير مقبول في شرع الله، فعن عمر بن عبد العزيز يرى أنه إذا أسلمت المرأة تحت الرجل الكافر فإنها تخرج منه ويفرق بينهما(3)، وهذا التفريق لا يأتي إلا بعد عرض الإسلام عليه فإن أسلم فهي أمرأته وإن أبى فإن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك تطليقه بائنة(4). وأما إذا أسلم ولازالت إمرأته في العدة فهو أحق بها(5).
13 ـ مدة إنتظار الغائب:
ذهب عمر بن عبد العزيز إلى أن هناك حداً أقصى لمدة الغيبة وهو سنتان، وبعدها إما أن يقفل الغائب إلى زوجته، وإما أن يطلقها، فقد كتب: من غاب عن إمرأته سنتين فليطلق أو ليقفل(6) إليها(7).
__________
(1) مصنف أبن أبي شيبة (5/57) .
(2) المصدر (5/90) فقه عمر بن عبد العزيز (1/450) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/450) .
(4) المصدر نفسه (1/451) .
(5) المصدر نفسه(1/452) .
(6) المصدر نفسه (1/455) .
(7) المصدر نفسه (1/455) .(4/159)
هذه بعض الإجتهادات الفقهية والفتاوى والأحكام القضائية التي مارسها عمر بن عبد العزيز والتي تدل على تبحره في المسائل الشرعية وقدرته على الإجتهاد وإصدار الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ومن سبقه من الخلفاء الراشدين وعلماء الأمة، وقد قام الدكتور محمد شقير بجمع فقه عمر بن عبد العزيز، في مجلدين فمن أراد التوسع فليرجع إلى هذه الرسالة العلمية التي نال بها صاحبها درجة الدكتوراة من المعهد العالي للقضاء بالرياض في المملكة العربية السعودية.
المبحث الثامن: الفقه الإداري عند عمر بن عبد العزيز وأيامه الأخيرة ووفاته رحمه الله.
أولاً: أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز:
أختار عمر لسياسة الرعية وأعمال الحق بين الناس الولاة الثقات الخيرين الأبرار ممن إشتهروا بالأمانة والعلم والقوة والتواضع وعفة النفس، والعدالة، وحسن الخلق والرحمة والقدوة الحسنة ومشاورة الآخرين والنصح وعدم الأنانية والكفاءة والذكاء و الحكمة وقد قال ابن كثير في ولاة عمر بن عبد العزيز: وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من أستعمله عمر بن عبد العزيز ثقة(1) ومن هؤلاء:
1 ـ الحجاج بن عبد الله الحكمي (ولي خراسان وسجستان):
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ270 .(4/160)
قال عنه الذهبي: مقدم الجيوش، فارس الكتائب، أبوعقبة الجراح بن عبد الله الحكمي ولي البصرة من جهة الحجاج، ثم ولي خراسان وسجستان لعمر بن عبد العزيز وكان بطلاً شجاعاً مهيباً، عابداً، قارئاً، كبير القدر(1). قال الجراح الحكمي: تركت الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع(2). كان على خراسان كلها حربها وصلاتها ومالها(3). قتل عام 112هـ في خلافة هشام، فعن سليم بن عامر: دخلت على الجراح فرفع يديه، فرفع الأمراء أيديهم، فمكث طويلاً، ثم قال لي: يا أبا يحيى، هل تدري ما كنا فيه ؟ قلت: لا ،وجدتكم في رغبة فرفعت يدي معكم، قال: سألنا الله الشهادة، فوالله ما بقى منهم أحد في تلك الغزاة حتى أستشهد(4). قال خليفة: زحف الجراح من برذعة(5) سنة اثنتي عشر إلى ابن خاقا، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل الجراح في رمضان وغلبت الخرز على أذربيجان وبلغوا إلى قريب الموصل(6)، وكان البلاء بمقتل الجراح على المسلمين عظيماً، بكوا عليه في كل جند(7).
ـ عدي بن أرطاة الفزاري (والي البصرة):
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/189) .
(2) المصدر نفسه (5/190) .
(3) المصدر نفسه (5/190) .
(4) المصدر نفسه (5/190) .
(5) برذعة: قصبة أذربيجان .
(6) سير أعلام النبلاء (5/190) .
(7) المصدر نفسه (5/190) .(4/161)
كان أمير البصرة لعمر بن عبد العزيز، حدث عن عمرو بن عبسة وأبي أمامة، قال عباد بن منصور: خطبنا عدي على منبر المدائن حتى بكى وأبكانا(1)، وكان عمر بن عبد العزيز يتفقده بالنصائح والمواعظ، قال معمر: كتب عمر إلى عدي بن أرطاة: إنك غررتني بعمامتك السوداء، ومجالستك القراء، وقد أظهرنا الله على كثير مما تكتمون أما تمشون بين القبور(2)؟ قدم عدي على البصرة، فقيد يزيد بن المهلب، ونفذه إلى عمر بن عبد العزيز فلما مات عمر، انفلت، ودعا إلى نفسه وتسمى بالقحطاني، ونصب رايات سوداً، وقال: أدعو إلى سيرة عمر بن الخطاب، فحاربه مسلمة بن عبد الملك، وقتله، ثم وثب ولده معاوية فقتل عديا ، وجماعة صبراً، سنة إثنتين ومائة(3). قال الدار قطني: يحتج بحديثه.
ـ عبدالحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب (والي الكوفة):
الإمام الثقة الأمير العادل أبو عمر العدوي الخطابي المدني ولي إمرة الكوفة لعمر بن عبد العزيز، كان قليل الرواية، كبير القدر توفي سنة 115هـ(4).
ـ عمر بن هبيرة (والي الجزيرة):
كان من الدهاة الشجعان، وكان رجل أهل الشام ولاه عمر الجزيرة (100هـ) فتوجه إليها وغزا الروم من ناحية أرمينية، فهزمهم وأسر منهم خلقاً كثيراً، واستمر على الجزيرة إلى خلافة يزيد بن عبد الملك فولاه إمارة العراق وخراسان، ثم عزله هشام بخالد القسري فقيده وألبسه عباءة وسجنه، فتحيل غلمانه ونقبوا سربا وأخرجوه منه فهرب وإستجار بالأمير مسلمة بن عبد الملك، فأجاره ثم لم يلبث أن مات سنة سبع ومائة تقريباً(5).
__________
(1) سبر أعلام النبلاء (5/53) .
(2) المصدر نفسه (5/53) .
(3) المصدر نفسه (5/53) .
(4) المصدر نفسه (5/149) .
(5) المصدر نفسه (4/562) .(4/162)
5 ـ أبوبكر محمد بن عمرو بن حزم (والي المدينة): وهو أحد الأئمة الأثبات الثقات أمير المدينة ثم قاضي المدينة، قيل كان أعلم أهل زمانه بالقضاء، روي عن أبيه وعباد بن تميم وعن سلمان الأغر وخالته عمرة بنت عبد الرحمن وطائفة وعداده في صغار التابعين(1)، روى عطاف بن خالد عن أمه عن زوجة إبن حزم: أنه ما اضطجع على فراشه منذ أربعين سنة(2)، وقيل كان رزقه في الشهر ثلاثة مائة دينار(3).
6 ـ ... عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد الأموي (والي مكة):
أقر عمر على مكة عبد العزيز بن عبد الله الأموي والي سليمان بن عبد الملك، وثقة النسائي وابن حبان توفي في خلافة هشام بن عبد الملك(4).
7 ـ رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي (والي مصر):
ذكر ابن تغري بردى خبراً انفرد به وهو: أن عمر بن عبد العزيز أقر على مصر عبد الملك بن رفاعة بن خالد بن ثابت الفهمي المصري الذي كان حسن السيرة عفيفاً عن الأموال ثقة فاضلاً عادلاً بين الرعية روى عنه الليث بن سعد وغيره، ثم عزله في شهر ربيع الأول سنة تسع وتسعين دون أن يذكر سبب عزله(5) وولي مكانه أيوب بن شرحبيل بن أكسوم بن أبرهة بن الصباح(6).
8 ـ إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر المخزومي (والي المغرب):
كان صالحاً فاضلاً زاهداً قدم أفريقية سنة (99هـ) ويقال سنة (100هـ) كان حسن السيرة، سار فيهم بالحق فأسلم على يديه عامة البربر وكان حريصاً على إسلامهم وكان عمر يرسل إليه بالرسائل لدعوة أهل الذمة للدخول في الإسلام، فيقرأها عليهم توفى إسماعيل بن عبيد الله سنة (132هـ)(7).
__________
(1) المصدر نفسه (5/314) .
(2) سير أعلام النبلاء (5/314) .
(3) المصدر نفسه (5/314) .
(4) تاريخ خليفة ص(323)، عمر وسياسته في رد المظالم صـ273 .
(5) عمر وسياسته في رد المظالم صـ289 .
(6) المصدر نفسه صـ289 .
(7) المصدر نفسه صـ293 .(4/163)
9 ـ ... السمح بن مالك (بالأندلس): الأمير الشهير، إستعمله عمر على الأندلس وأمره أن يميز أرضها و يخرج منها ماكان فتحه عنوة فيا خذ منه الخمس وأن يكتب إليه بصفة الأندلس، فقدمها سنة (100هـ) وفعل ما أمره به عمر، واستشهد غازيا بأرض الفرنجة(1).
هؤلاء من أشهر ولاة عمر بن عبد العزيز الذين عينهم على الأقاليم والولايا ت والذين كانوا عند حسن الظن.
ثانيا : حرص عمر بن عبد العزيز على إنتقاء عماله من أهل الخير والصلاح:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار صـ271 .(4/164)
إن عمال الخليفة وأمراء البلدان بخاصة هم نواب الخليفة في أقاليمهم، والواسطة بينه ورعيته ومهما كان الخليفة على درجة من الدراية في تصريف أمور السياسة إلا أنه لا يستطيع تحقيق النجاح إلا إذا أختار عماله بعناية تامة، لذا عني عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ عناية فائقة بإختياره عماله وولاته، وحين نتبع أخباره في هذا الصدد نجد أن له شروطاً لا بد من تحققها فيمن يختار العمل عنده، ومن أهم هذه الشروط: التقوى، الأمانة، وحسن التدين، فلما عزل خالد بن الريا ن الذي كان رئيسا للحرس في عهد الوليد بن سليمان ـ نظر عمر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن المهاجر الأنصاري فقال: والله إنك لتعلم يا عمرو أنه مابيني وبينك قرابة إلا الإسلام، ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن انه لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة، خذ هذا السيف قد وليتك حرسي(1)، وكان يكتب إلى عماله: إياكم أن تستعملوا على شئ من أعمالنا إلا أهل القرآن، فإنه لم يكن عند أهل القرآن خير فغيرهم أحرى بأن لا يكون عندهم خير(2). وإذا شك في أمر من ينوي توليته لم يقدم على توليته حتى يتبين له حاله، فحين ولى الخلافة وفد عليه بلال بن أبي بردة فهنأه وقال: من كانت الخلافة ـ يا أمير المؤمنين ـ شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها وإستشهد بأبيات من الشعر في مدح عمر فجزاه عمر خيراً، ولزم بلال المسجد يصلي، ويقرأ ليله ونهاره، فهم عمر أن يوليه العراق، ثم قال: هذا رجل له فضل، فدس إليه ثقة له فقال له: إن عملت لك في ولاية العراق ما تعطيني؟ فضمن له مالاً جليلاً، فأخبر بذلك عمر، فنفاه وأخرجه(3)، وكان يكره أن يولي أحداً ممن غمس نفسه في الظلم أو عمل مع الظلمة لاسيما الحجاج(4)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ31 .
(2) المصدر نفسه صـ8، سراج الملوك للطرطوشي صـ 255.
(3) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ182 .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ182.(4/165)
، وإذا كان من قبل عمر يجعل للعصبية والقرابة من البيت الأموي وزنا في تولية العمل، فإنه لم يكن شئ من ذلك في ميزان عمر فحدث الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز جلس في بيته وعنده أشراف بني أمية، فقال: أتحبون أن أولي كل رجل منكم جنداً من هذه الأجناد ؟ فقال رجل منهم: تعرض علينا مالا تفعله؟ قال: ترون بساطي هذا؟ إني لا علم أنه يصير إلى بلى، وإني أكره أن تدنسوا علي بأرجلكم، فكيف أوليكم ديني؟ وأوليكم أعراض المسلمين وأبشارهم تحكمون فيهم؟هيهات هيهات(1). وقد كان لهذا النهج الذي تميزت به سياسة عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة والعمال أثر في الإستقرار السياسي في الأقاليم، حيث رضي الناس سير عماله وحمدوا فعالهم، إذ لم يكن في عماله من هو على شاكلة الحجاج يتعامل مع الناس بالشدة ويا خذهم بالتهمة، كما لم يكن منهم صاحب عصبية يرفع أناساً ويضع أخرين فيجدوا عليه في أنفسهم(2).
ثالثاً: الإشراف المباشر على إدارة شئون الدولة:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/132) .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ 183.(4/166)
أشرف عمر بن عبد العزيز بنفسه على ما يتم في دولته من أعمال صغرت أو كبرت، وكان يتابع عماله في أقاليمهم وساعده على ذلك أجهزت الدولة التي طورها عبد الملك بن مروان، كالبريد، وجهاز الإستخبارات الكبير الممتد في أطراف الدولة والذي كان الخلفاء يستخدمونه في جمع المعلومات، وعلى الرغم من عناية عمر بن عبد العزيز في إختيار الولاة، إلا أن هذا لم يمنعه من العمل على متابعة أمر الرعية وتصريف شئون الدولة وقد إشتهر عنه الدأب والجد في العمل حتى أصبح شعاره لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، فقد قيل له: يا أمير المؤمنين لو ركبت فتروحت، قال: فمن يجزي عني عمل ذلك اليوم ؟ قيل: تجزيه من الغد قال: فدحني عمل يوم واحد، فكيف إذ اجتمع علي عمل يومين(1). وقال ميمون بن مهران: كنت ليلة في سمر عمر بن عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين ما بقاؤك على ما أرى ؟ أنت بالنهار في حوائج الناس وأمورهم وأنت معنا الآن ثم الله أعلم ما تخلو عليه(2)، فقد كان ـ رحمه الله ـ يمضي الكثير من وقته لرسم سياسته الإصلاحية التي شملت مختلف الحياة، السياسية والإقتصادية والإدارية، وغيرها.. حتى خلف رحمه الله كماً هائلاً من تلك السياسات التي تمثل مواد نظام حكمه الإصلاحي الشامل، وقد بعث لهذه السياسات إلى عماله لتنفيذها في مختلف الأقاليم وكثيراً ما يردفها بتوجيهات تربوية يذكر فيها عماله بعظم الأمانة الملقاة على عواتقهم، ويخوفهم بالله ويأمرهم بمراقبته وتقواه فيما يعملون ويذرون(3)، وقد كان لمواعظ عمر وتوجيهاته أثر في نفوس عماله أشد من وقع السياط، وأبلغ من أوامر العزل والإعفاء، فكتب مرة إلى أحدهم: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون أخر العهد وإنقطاع الرجاء. فلما قرأ عامله الكتاب طوى البلاد حتى قدم
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ55 لابن عبد الحكم .
(2) الطبقات (5/371) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ186 .(4/167)
على عمر، فقال له: ما أقدمك ؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى(1)، ولم يكتف عمر ببعث تلك السياسات والتوجيهات إلى عماله، بل كان يحرص على متابعة تنفيذها، وتحقق آثارها على رعيته. فلا يفتأ يسأل القادمين عن ذلك، فقال زيا د بن أبي زيا د المدني حين قدم على عمر من المدينة: فسألني عن صلحاء أهل المدينة ورجالهم ونسائهم. .. وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته(2). وخرج عمر بن عبد العزيز يوماً فركب هو ومزاحم، وكان كثيراً ما يركب فيلقى الركبان ويتحسس الأخبار عن القرى، فلقيهما راكب من أهل المدينة وسألاه عن الناس وما وراءه، فقال لهما: إن شئتما جمعت لكما خبري وإن شئتما بعضته تبعيضاً، فقالا: بل أجمعه، فقال : إني تركت المدينة والظالم بها مقهور، والمظلوم بها منصور والغني موفور، والعائل مجبور، فسر عمر بذلك وقال: والله لأن تكون البلدان كلها على هذه الصفة أحب إلي مما طلعت عليه الشمس(3). وحين قدم عليه رجل من خراسان وأراد العودة إلى بلاده طلب من عمر أن يحمله على البريد، فقال له عمر وقد إطمأن لسيرته: هل لك أن تعمل لنا عملاً وأحملك ؟ فقال الرجل نعم. فقال عمر: لا تأت على عامل لنا إلا نظرت في سيرته، فإن كانت حسنة لم تكتب بها , وإن كانت قبيحة كتبت بها. قال مزاحم: فمازال كتاب منه يجيئنا في عامل فنعزله حتى قدم خراسان(4). ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز كان يهتم بمصادر متنوعة بجمع المعلومات، لعلمه أن المعرفة الدقيقة بأمور الرعية والولاة تحتاج لجمع معلومات صحيحة التي يبني عليها التوجيهات والأوامر والنواهي النافعة للأمة والدولة. لقد آتت هذه المتابعة الدقيقة من عمر لعماله والتوجيهات التفصيلية لهم ثمارها في إستقرار أحوال
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ186 .
(2) المصدر نفسه صـ187.
(3) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ115.
(4) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ188.(4/168)
الأقاليم، كما أن هذه التوجيهات والمتابعة من عمر جعلت العمال والولاة في حالة تحفز دائمة للعمل حيث كانت تلك التوجيهات تقع في نفوسهم بمكان، فحدث إبراهيم بن جعفر عن أبيه قال: رأيت أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يعمل بالليل كله بالنهار لاستحثاث عمر إياه(1).
وكان رحمه الله يرسل المفتشين في الأقاليم ليا توه بالأخبار: فقد بعث على خراسان ثلاثة مفتشين، يبحثون في ظلامات الناس من نظام خراجها، الذي قرره عدي بن أرطاة على الأهالي وأرسل مفتشاً إلى العراق، ليا تيه بأخبار الولاة والناس فيها(2). ولقد أعلن عمر في إطار متابعته لشؤون الدولة ما يمكن تسميته بالرقابة العامة، إذ كتب لا هل الموسم في يوم الحج الأكبر:...إني برئ من ظلم من ظلمكم... ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني، وأنا معوِّل كل مظلوم ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق، ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم. ..ألا وأيما وارد في أمر يصلح الله به , خاصة أو عامة , فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، على قدر ما نوى من الحسبة(3). فقد أعلن في أكبر تجمع إسلامي، بل شجع ماديا ومعنويا على مراقبته، ومراقبة عماله، والإفصاح عن كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، وبطبيعة الحال فالأمة الإسلامية لا تحتاج إلى غير تعاليم الكتاب والسنة، إذا كان الإلتزام بها هدف منشود(4).
رابعاً: التخطيط في إدارة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) الطبقات (5/347) أثر العملاء صـ188.
(2) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ182 .
(3) عمر لابن الجوزي صـ90 .
(4) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ413.(4/169)
يعرف التخطيط في معناه العام بأنه: العملية التي تتخذ لتلبية إحتياجات المستقبل، وتحديد وسائل تحقيقها(1)، كما عرف التخطيط بأنه: الجسر بين الحاضر والمستقبل، ومن هذا التعريف العام يمكن أن نقول: أن التخطيط في الإسلام هو الإستعداد في الحاضر لما يواجهه الإنسان في عمله , أو حيا ته في المستقبل(2). وعمر بن عبد العزيز لم يكن ليتخذ قراراً دونما تخطيط، وتوخ لعواقب الأمور، وأخذها بعين الإعتبار، ولعل من أهم المؤشرات على إدراك عمر لأهمية التخطيط والتفكير في الأمور قوله لرجاء: يا رجاء: إني لي عقلاً أخاف أن يعذبني الله عليه(3), وكان عمر بن عبد العزيز يعتمد على الله ثم جمع المعلومات والقدرة على حسن قرأتها، واستشراف المستقبل وتحقيق الأهداف المطلوبة، ففي ذلك يقول عمر: من عمل على غير علم كان يفسد أكثر مما يصلح(4)، وقد كان عمر بن عبد العزيز في تخطيطه يضع الأهداف ويختار السياسات، ويحدد الإجراءات ويبلور العمل في خطه ففي إطار بلورة الأهداف كان هناك هدف رئيسي يسعى عمر لتحقيقه ألا وهو الإصلاح والتجديد الراشدي على منهاج النبوة والخلافة الراشده، والقيا م بكل مقومات هذا المشروع الإصلاحي من إقامة العدل والحق وإزالة الظلم، وإعادة الإنسجام بين الإنسان وبين الكون والحياة وخالقهما في إطار الفهم الشمولي للإسلام وأما إختيار السياسات كأحد مقومات التخطيط، فإنه قد تجلى ذلك في تطبيقات عمر للتخطيط الإداري، ولا أدل على ذلك من عزم عمر على الإكتفاء بالكتاب الكريم والسنة الشريفة(5)، وأنه غير مستعد للإستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين، على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع من جانبه على نفسه وعلى رعيته، كما ألزم الرعية بالتمسك بذلك الشرع
__________
(1) الإدارة ، المنيف صـ147.
(2) الإدارة في الإسلام للضحيات صـ71.
(3) عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ266 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ250 لابن الجوزي .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ 35.(4/170)
القويم(1)، هذا في إطار تحديد وإختيار السياسة العامة، أما تحديد الإجراءات كأحد مقومات التخطيط أيضاً، فإن ذلك يتضح من خلال الإجراءات التي حددها لتنفيذ هذه السياسة من اللقاء الأول مع الأمة عند وضع شروطاً لصحبته والتي قد بينتها فيما مضى وأما بلورة طريقة العمل، فإنه قد وضح بأنه منفذ وليس مبتدع ـ أي منفذاً لتعاليم الدين وأن الطاعة لمن أطاع الله(2)ـ وأن يكون أساس العمل إقامة العدل والإصلاح والإحسان بدلاً من الظلم والفجور والعدوان(3) وقد مارس عمر التخطيط من حيث الشمول وشمل تخطيطه كافة المجالات، فلم يترك مجالاً إلا طرق بابه، في أمور السياسة والحكم، والقضاء والإقتصاد والتربية والتعليم والنواحي الإجتماعية فضلاً عن التخطيط للأمور العامة، كما أهتم ببعض الأقاليم بشكل منفصل مثل خراسان والعراق وأهتم بمؤسسات تنظيمية أخرى مثل القضاء، وبيت المال وولاة الخراج وغير ذلك(4).
خامساً: التنظيم في إدارة عمر بن عبد العزيز:
إن التنظيم يأتي مكملاً للتخطيط لبناء المتطلبات الإجرائية لتنفيذ الخطط، وقد جعل عمر بن عبد العزيز التنظيم أهم أولويات العمل الإداري ورسخ مفهوم التنظيم في سلوكه الإداري.
فمن حيث التنظيم الهيكلي للعمل، نجده قد جزأ أعمال الدولة إلى أربعة أجزاء رئيسية، تأتي تحت مسئولية أربعة أركان هم: الوالي والقاضي وصاحب بيت المال والخليفة(5) بالإضافة إلى تنظيمات أخرى مثل: الخراج والجند والكتاب والشرطة والحرس وصاحب الخاتم والحاجب وغير ذلك وفيما يلي اللائحة التنظيمية لمسئوليات العمل في عهد عمر بن عبد العزيز(6).
رئيس الدولة الخليفة عمر بن عبد العزيز
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ397.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ36 ، 35.
(3) المصدر السابق صـ102 .
(4) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ400.
(5) النموذج الإداري المستخلص صـ401.
(6) المصدر نفسه صـ401 .(4/171)
المستشارون والمعاونون ... الخاتم ... الكاتب ... الحاجب ... الحرس ... الشرطة
الخراج والجند ... الصائغة البريد ... الولاة بيت المال المركزي دار ضرب العملة الصدقات
القضاة المفتون والمعلمون الكاتب الخراج الصدقات البريد الشرطة الجواز أمور الحرب عند الحاجة
وأما فيما يتعلق بالتنظيم من حيث الإجراءات والعلاقات بين الخليفة والولاة والعمال وتحديد أوجه العمل وأساليب التنفيذ فإنه يمكننا القول أن الكثير من كتب عمر لعماله تسعى لتحقيق هذا الغرض وإيضاح هذا الجانب التنظيمي من العملية الإدارية، فعلى سبيل المثال، أوضح أسلوب التعامل بينه وبين المظلومين وكيفية الإتصال بينه وبينهم، إذ باح دخول المظلومين عليه من غير إذن ومن صور التنظيم إعادة الكثير من الأمور والقضايا إلى ماكانت عليه في عهد الرسول (عليه الصلاة والسلام) والخلفاء الراشدين، ومثال ذلك أمره بإرجاع مزرعته في خيبر إلى ماكانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتم الشئ نفسه بشأن (فدك)(1) إذكتب إلى أبي بكر بن حزم واليه على المدينة يقول: إني نظرت في أمر فدك، فإذا هو لا يصلح، فرأيت أن أردها على ما كانت عليه في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأبي بكر وعمر وعثمان، فأقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق، وسلام عليك(2). كما كتب إلى عماله بكل ما يتعلق بتنظيم الأمور المالية والصدقات والضرائب والأخماس والزكاة في الأموال والممتلكات وتنظيم العمال التجارية ومن ليس له الحق في ممارسة التجارة(3) وغير ذلك، كما أهتم عمر بتنظيم أمور القضاء بإعتباره السبيل الرئيسي للفصل بين الناس في منازعتهم
__________
(1) فدك: هي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة أفاءها الله على رسوله لما نزل خيبر وهي خالصة لرسول الله، لأنها مما لم يطأ عليه خيل ولا ركاب فيها عين فوَّارة ونحل كثير.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ131 لابن الجوزي .
(3) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ78ـ83 .(4/172)
وحماية حقوقهم، فكان لكل مصر أو ولاية قاضي يقضي بما في الكتاب والسنة وكان قضاته في كل مصر أجل وأفقه وأصلح علماء ذلك المصر(1)، كعامر بن شرحبيل الشعبي(2) بالكوفة والحارث بن يمجد الأشعري(3) بحمص، وعمر بن سليمان بن خبيب المحاربي بدمشق(4) وغيرهم، كما كان عمر يمارس القضاء بنفسه(5)، وكان الإعتبار الأساسي في التنظيم القضائي في نظر عمر هو مراجعة الحق، فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل(6)، وعندما إشتكى أهل سمرقند من قتيبة بن مسلم، عين لهم قاضي ليحكم في هذه القضية وقد مرت معنا، وفي هذه الحادثة أدرك عمر بن عبد العزيز مبدأ الفصل بين السلطات على أتم وجه ذلك بأنه حينما عرف مظلمة أهل سمرقند لم يبث هو بها، مع أنه كان يسعه ذلك، وهو خليفة المسلمين ولم يعهد بذلك إلى عامله على سمرقند سليمان بن أبي السرى، مخافة أن يجمع به الهوى، أو أن تأخذه العزة بالإثم، ولأنه عامل بإسم الخليفة الذي أبى هو نفسه أن يبث بالخلاف، ولم يفوض ذلك إلى القائد العسكري، بل أمر بأن يجلس لهم القاضي لأن القاضي لا يتأثر بالإعتبارات العكسرية أو السياسية، ولا يأبه إلا لحكم الله، يطبق أوامر الشريعة كما وردت، وهكذا تحقق ظن عمر بن عبد العزيز، وحكم القاضي بأن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم، أي أنه أمرهم بالجلاء، لأن الإحتلال وقع بصورة غير مشروعة(7). كما شملت تطبيقات عمر للتنظيم بيت الخلافة، فقد أعاد تنظيمه بما يتوافق مع نظرته في أنه واحد من عامة المسلمين وأنه ليس في حاجة إلى أبهة الملك، فانصرف عن كل مظاهر الخلافة التي سادت قبله، وألغى بعض الوظائف، كصاحب الشرطة الذي يسير بين يدي
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة صـ403 .
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسة رد المظالم صـ277.
(3) المصدر نفسه صـ284 .
(4) المصدر نفسه صـ285 .
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ403.
(6) المصدر نفسه صـ403 .
(7) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/407) .(4/173)
الخليفة بالحربة، كعادته مع الخلفاء السابقين له وقال له عمر: تنح عني مالي ولك ؟ إنما أنا رجل من المسلمين ثم سار وسار معه الناس(1).
سادساً: الوقاية من الفساد الإداري في عهد عمر بن عبد العزيز:
سعى عمر بن عبد العزيز لتحقيق السلامة من الفساد الإداري، بالحرص على سبل الوقاية منه، وسد المنافذ على السموم الإدارية مثل الخيانة، والكذب والرشوة والهدايا للمسئولين والأمراء والإسراف وممارسة الولاة والأمراء للتجارة وإحتجاب الولاة والأمراء عن الناس ومعرفة أحوالهم، والظلم للناس والجور عليهم وغير ذلك وإليك شئ من التفصيل:
1 ـ التوسعة على العمال في الأرزاق:
كان أول إجراء إداري رأى فيه عمر الوقاية من الخيانة أن وسع على العمال في العطاء، رغم تقتيره على نفسه وأهله وأراد بذلك أن يغنيهم عن الخيانة(2)، فقد كان يوسع على عماله في النفقة، يعطي الرجل منهم في الشهر مائة دينار، ومائتي دينار وكان يتأول أنهم إذا كانوا في كفاية تفرغوا لا شغال المسلمين فقيل له: لو أنفقت على عيا لك، كما تنفق على عمالك؟ فقال لا أمنعهم حقاً لهم، ولا أعطيهم حق غيرهم، وكان أهله قد بقوا في جهد عظيم، فاعتذر بأن معهم سلفاً كثيراً قبل ذلك(3)، وبهذا الإجراء ألا وهو التوسع على عماله يحقق عمر أمرين هامين:
أ ـ سد منفذ الخيانة، وما يدفع العمال من حاجة إلى الخيانة وسرقة أموال المسلمين.
ب ـ ضمان فراغ الولاة والعمال والأمراء لإشغال المسلمين وحوائجهم(4).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ65 لابن الجوزي .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ314 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ315.
(4) النموذج الإداري صـ315 .(4/174)
2 ـ حرصه على الوقاية من الكذب: قال ميمون بن مهران: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده عامله على الكوفة، فإذا متغيظ عليه، فقلت: ماله يا أمير المؤمنين قال: أبلغني أنه قال: لا أجد شاهد زور إلا قطعت لسانه: قال: فقلت: يا أمير المؤمنين: إنه لم يكن بفاعل. قال: فقال: أنظروا إلى هذا الشيخ ـ مستنكراً ماقال ميمون ـ إن منزلتين أحسنهما الكذب لمنزلتا سوء(1). والمقصود فإن الكذب أحد منازل السوء وبذلك يسعى عمر إلى قطع دابر الفساد الإداري بالتحذير من الوقاية عما يجر إليه الكذب والتحايل في إتخاذ القرارات(2).
3 ـ الإمتناع عن أخذ الهدايا والهبات:
رد على من قال له: ألم يكن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقبل الهدية ؟ قال بلى، ولكنها لنا ولمن بعدنا رشوة(3)، كما أبطل عمر أخذ الهدايا التي كان الولاة الأمويون يا خذونها وبخاصة هدايا النيروز والمهرجان، وهي هدايا تعطي في مناسبات وأعياد الفرس، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله كتاباً، يقرأ على الناس، يبطل فيه أخذ التوابع والهدايا ، التي كانت تؤخذ منهم في النيروز والمهرجان وغيرها من الأثمان والأجور(4)، كما أنذر ولاته وعماله من أن يتخذ أحداً منهم تلبية طلبات الخليفة أو أحد أهله شئ مسلم به، ومن ذلك ماحدث عندما أرسلت فاطمة بنت عبد الملك إلى أبن معدي كرب(5)، تطلب عسلاً من عسل سينين أو لبنان، فبعث إليها، وأيم الله لئن عدت لمثلها، لا تعمل لي عملاً أبداً، ولا أنظر إلى وجهك(6).
4 ـ النهي عن الإسراف والتبذير:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ134 لابن الجوزي .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ316 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ189 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ136.
(5) لم تمدنا المصادر ما إذا كان عامل لبنان وسينين (سيناء) .
(6) المعرفة والتاريخ للبسوي(1/580) النموذج الإداري صـ317 .(4/175)
فقد إتخذ قرارات تنم على حرص شديد على أموال المسلمين فكان أول إجراء له بعد توليه الخلافة هو إنصرافه عن مظاهر الخلافة، إذ قربت إليه المراكب، فقال ماهذه ؟ فقالوا: مراكب لم تركب قط، يركبها الخليفة أول ما يلي فتركها وخرج يلتمس بغلته، وقال: يا مزاحم ـ يعني مولاه ـ ضم هذه إلى بيت مال المسلمين، ونصبت له سرادقات وحجر لم يجلس فيها أحد قط، يجلس فيها الخليفة أول ما يلي، قال يا مزاحم ضم هذه إلى أموال المسلمين، ثم ركب بغلته، وأنصرف إلى الفرش والوطاء الذي لم يجلس عليه أحد قط، يفرش للخلفاء أول مايلون، فجعل يدفع ذلك برجله، حتى يفضي إلى الحصير، ثم قال: يا مزاحم ضم هذه لا موال المسلمين(1). وأخذ إجراء آخر لمحاربة الإسراف في الدولة، فحين قال له ـ ميمون بن مهران ـ وهما ينظران في أمور الناس: ما بال هذه الطوامير(2) التي تكتب فيها بالقلم الجليل، وتمد فيها وهي من بيت مال المسلمين ؟ فكتب إلى العمال أن لا يكتبوا في طومار ولا يمد فيه، قال: فكانت كتبه شبراً أو نحو ذلك(3). وقد مر معنا كتابه لا بي بكر بن محمد بن حزم الأنصاري والي المدينة في قصة الشموع، وتوجيه عمر له في ذلك وكيف يكتب له عندما قال: إذا جاءك كتابي هذا فأرق القلم، وأجمع الخط واجمع الحوائج الكثيرة في الصحيفة الواحدة، فإنه لا حاجة للمسلمين في فضل قول أضر ببيت مالهم والسلام عليك(4). ذلك هو شأن عمر في كل أمر يخص مال المسلمين، صغر أو كبر ومع كافة الولاة، فإنه من المسلم به أن عمر لن يكون كذلك مع والي المدينة فحسب بل هو كذلك مع غيره من الولاة والعمال فكان يسعى للتوفير والإقتصاد في الإنفاق من بيت المال، ليحول بذلك دون الإسراف والبذخ(5).
__________
(1) سيرة عمر لا بن عبد الحكم صـ33 .
(2) طوامير: جمع طومار وهو الصحيفة، لسان العرب (1/503) .
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ88 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ55 .
(5) النموذج الإداري المستخلص صـ319 .(4/176)
5 ـ منع الولاة والعمال من ممارسة التجارة:
قال في كتاب له إلى عماله: نرى أن لا يتجر إمام ولايحل لعامل تجارة في سلطانه الذي هو عليه، فإن الأمير متى يتجر يستأثر ويصيب أموراً فيها عنت وإن حرص أن لا يفعل(1)، وذلك إدراك منه أن ممارسة العمال والولاة للتجارة، لا تخلو من أحد أمرين، إن لم تكن الإثنان معاً: فإما أن ينشغل في تجارته ومتابعتهما عن أمور واحتياجات المسلمين، وإما أن تحدث محاباة له في التجارة لموقعه، ويصيب أموراً ليست له من الحق في شئ، وبهذا القرار سد عمر منفذاً خطيراً قد يؤدي إلى فساد إداري قل ماتتوارى عواقبه(2). وبعد ثمانية قرون جاء ابن خلدون وكتب في مقدمته العظيمة بعد تجارب طويلة ودراسة واسعة، ما يصدق عمر بن عبد العزيزفي نظرته الصادقة، وحكمته البالغة قال: إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا معسرة للجباية(3).
6 ـ فتح قنوات الإتصال بين الوالي والرعية:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ83 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ320 .
(3) مقدمة ابن خلدوزن نقلاً عن رجال الفكر والدعوة للندوي (1/46) .(4/177)
كانت الحاشية حول الخلفاء قبل عمر بن عبد العزيز قد حجبت الناس عن الوصل إلى الخليفة وقد بنى الحاشية سياجاً من حديد لا ينفذ منه إليه إلا ما يشتهون وما تسمح به مصالحهم أما عمر بن عبد العزيز، فقد أعلن بالجوائز والمكافأة المالية لمن يخبره بحقيقة الحال، أو يشير عليه بشئ فيه مصلحة المسلمين ومصلحة لدولتهم، وكتب إلى أهل المواسم: أما بعد فأيما رجل قدم إلينا في رد مظلمة أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة بقدر ما يرى الحسبة وبعد السفر، لعل الله يجيء به حقاً أ أو يميت باطلاً، أو يفتح به من ورائه خيراً(1). كما أمر العمال والولاة، بأن يحرصوا على فتح قنوات الإتصال بينهم وبين الرعية ويسمعوا منهم ويتعرفوا على أحوالهم فإن ذلك يمنع ممارسة الظلم والتعدي على حقوق الأخرين ويتيح لكل فرد طلب ما يريد دو ن اللجوء إلى أساليب وطرق لا تمت للإسلام بصلة(2).
7 ـ محاسبته لولاة من قبله عن أموال بيت المال:
لما تولى عمر بن عبد العزيز أمر بالقبض على والي خراسان يزيد بن المهلب، ولما مثل بين يديه، سأله عمر عن الأموال التي كتب بها إلى سليمان بن عبد الملك. فقال: كنت من سليمان بالمكان الذي قد رأيت، وإنما كتبت إلى سليمان لا سمع الناس به وقد علمت أن سليمان لم يكن ليا خذ بشئ سمًعت، ولا بأمر أكرهه. فقال له: ما أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدَ ماقبلك، فإنها حقوق المسلمين ولا يسعني تركها، فرده إلى محبسه، وبقي فيه حتى بلغه مرض عمر(3) وقد كان عمر بن عبد العزيز يتحسس أخبار ولاته ويراقبهم ويحاسبهم على تقصيرهم فقد كتب إلى أحدهم يقول: (لقد كثر شاكوك وقل شاكروك، فإما عدلت، وإما أعتزلت(4) والسلام).
__________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/47) .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ320 .
(3) تاريخ الطبري (7/460، 461 ، 462) .
(4) عمر بن عبد العزيز، عبد الستار الشيخ صـ275 .(4/178)
سابعاً: المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز:
أخذ عمر بن عبد العزيز بمبدأ الجمع والموازنة بين المركزية واللامركزية خلال إدارته للدولة، بتطبيق أحدهما بحسب الموقف تبعاً لمعايير محددة فإننا نورد بعض المواقف والإجراءات التي توضح ذلك، فقد كان من الأوامر التي تدل على تطبيقه للمركزية ماضمنه رسالته إلى عامله على الكوفة، إذ قال: . ..فإني قد وليتك من ذلك ماولاني الله، ولا تعجل دوني بقطع ولا صلب حتى تراجعني فيه(1). وهنا رجح عمر أن مصلحة الأمة في تطبيق المركزية في هذه المسألة البالغة الأهمية، فقد يسبق السيف العزل، فلا مصلحة للأمة في التعجيل في أمور القتل والصلب وكل سيلقي جزاءه طال الوقت أم قصر، فقد كان عمر يرجح التحقيق العادل على التحقيق الصارم(2)، فما بالك به في أمر أهم، وهو إزهاق الأرواح(3)، وهناك أمور أخرى أعم وأشمل، أوضح عمر لعماله وولاته وقضاته أنه لا بد من الرجوع إليه فيها متخذاً أسلوب المركزية فيها، وهي كل ما تبتلى به الأمة، وليس لها سابقة في قرآن أو سنة، إذ كتب إلى عماله يبين لهم سياسته، فقال: . ..وأما ما حدث من الأمور التي تبتلى الأمة بها، مما لم يحكمه القرآن ولا سنة النبي (صلى الله عليه وسلم)، فإن والي أمر المسلمين وإمام عامتهم، لا يقدم فيها بين يديه، ولا يقضي فيها دونه وعلى من دونه رفع ذلك إليه، والتسليم لما قضى(4)، وفي مجال آخر رأى ضرورة أسلوب المركزية، حيث جعل للعراق أكثر من وال، وأصبحت خراسان وسجستان وعمان كل منها مرتبطة بالخليفة مباشرة، كما عين واليا على الأندلس من قبله رغبة منه في الإعتناء بإقليم الأندلس دون الإرتباط بوالي إفريقية(5). هذا مما يدل على
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ322 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ323.
(3) المصدر نفسه صـ323 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لا بن عبد الحكم صـ63 .
(5) الإدارة في العصر الأموي، نجدة الخماش صـ107 .(4/179)
أن عمر بن عبد العزيز كان يا خذ بالمركزية وضرورة الرجوع إليه.
ـ ... وأما مايدل على ممارسته اللامركزية فنورد المواقف التالية:
روي أن عمر كتب إلى عروة بن محمد عامله على اليمن، يقول: أما بعد: فإني أكتب إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف بعد مسافة مابيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن أردد على مسلم مظلمة شاة، لكتبت أرددها عفراء أو سوداء، فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني(1) ويبدو في هذا القرار دقة متناهية في تحديد الشئ المرغوب فيه من المركزية واللامركزية وماحداه هنا إلى تبني اللامركزية من مصلحة للأمة(2)، وهذا موقف آخر فيه دلالة على رغبة عمر في إتباع اللامركزية فقد كتب إلى عدي بن أرطاة يقول: أما بعد: فإنك لن تزال تعنًي إلي رجلاً ـ أي يتعبه بإرساله إليه ـ من المسلمين في الحر والبرد، تسألني عن السنة، كأنك إنما تعظمني بذلك، وأيم الله لحسبك بالحسن، يعني ـ الحسن البصري ـ فإذا أتاك كتابي هذا فسل الحسن لي ولك وللمسلمين(3). فكان عمر يؤثر اللامركزية وعدم مراجعته في المسائل الروتينية طالما هناك من يثق بعلمه، مثل الحسن البصري رحمه الله، فالحسن أهل لا ن يسأل لعمر، ولعدي الوالي وللمسلمين كافة(4)، وفي هذا الموقف لفتة عمرية في تقدير وتبجيل وإحترام العلماء الربانيين كالحسن البصري وإنزاله مقامه اللائق به، فالأمم تنهض عندما تحترم علمائها الربانيين وتنزلهم المنازل التي يستحقونها.
لقد مارس عمر مبدأ الموازنة بين المركزية واللامركزية وكانت له معايير وعوامل تدفعه إلى أي شئ منها يمكن تلخيصها فيما يلي:
1 ـ إرتباط الموقف أو الإجراء بمصلحة عامة أو خاصة.
__________
(1) الطبقات (5/381) .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ324 .
(3) المصدر نفسه صـ324، حلية الأولياء (5/307) .
(4) المصدر نفسه صـ324 .(4/180)
2 ـ أهمية الأمر الذي سيحدد فيه ممارسة المركزية أو اللامركزية فالإجراء الذي يتعلق بالقتل والصلب مثلاً حري أن تكون المركزية فيه أصلح.
3 ـ مستجدات الأمور مما لم يرد في القرآن أو السنة فهي من الأهمية بمكان.
4 ـ مراعاة البعد الجغرافي بين الخليفة والولاة.
5 ـ مراعاة الوقت وما قد ينجم عن ذلك من ضرر قد يصل إلى الموت.
6 ـ ... وجود من يعتمد عليه ويطمئن له ولعلمه ويثق به.
7 ـ ... التأثير على سرعة وسلامة الإنجاز في العمل.
8 ـ ... مراعاة منح الثقة للقضاة والولاة والعمال(1).
... في ظل هذه المعايير جمع عمر بن عبد العزيز في ممارسته الإدارية بين المركزية واللامركزية، بالموازنة بينهما، وتحديد الدرجة الملائمة في ممارسته لكل منهما، وبذلك يتوافق عمر مع منظري وعلماء الإدارة في إدراك أبعاد هذا المبدأ(2).
ثامناً: مبدأ المرونة في إدارة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ326 .
(2) المصدر نفسه صـ326 .(4/181)
مارس عمر بن عبد العزيز المرونة في التفاهم والحوار والفكر وتنفيذ الأوامر والتقيد بها ومن تلك الشواهد، ما روى ميمون بن مهران: أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز قال: يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل ؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك. قال: يا بني إنما أروض الناس رياضة الصعب، وإني لا أريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا فينفروا لهذه ويسكنوا لهذه(1). وقال عمر: ماطاوعني الناس على ما أردت من الحق، حتى بسطت لهم من الدنيا شيئاً(2)، فقد أبدى بهذا الإعلان منذ توليه الخلافة، أن تحقيق الأهداف يتطلب شيئاً من المرونة والتغاضي، فليس الأمر كما يرى ولده بأن لا مانع لديه من أن تغلي بهم القدور في سبيل تحقيق العدل، بصرف النظر عن أي اعتبار أخر(3). وهذا موقف آخر مع إبنه عبد الملك وإليك ما دار بينهم من حوار:
الإبن: مايؤمنك أن تؤتى في منامك، وقد رفعت إليك مظالم لم تقضى حق الله فيها ؟
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ88 .
(2) المصدر نفسه صـ88 .
(3) النموذج الإداري المستخلص صـ328 .(4/182)
الأب: يا بني إن نفسي مطيتي، إن لم أرفق بها لم تبلغني، إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا، وإني لا حتسب في نومتي من الأجر مثل الذي أحتسب في يقظتي، إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لا نزله، ولكنه أنزل الآية والآيتين حتى أسكن الإيمان في قلوبهم. يا بني...مما أنا فيه أمر هو أهم إلي من أهل بيتك (الأمويين) هم أهل القدرة والعدد وقبلهم ماقبلهم، فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت إنتشاره علي ولكني أنصف من الرجل والإثنين، فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له(1) في الآثار السابقة، يقدم لنا عمر فقهه الحاذق في إدارة الحركات الإصلاحية التجديدية وتسيير البرامج التي تستهدف إسقاط الظلم والإستغلال ونشر العدل والمساواة(2). ففي قوله: إني لو أتعبت نفسي وأعواني لم يك ذلك إلا قليلاً حتى أسقط ويسقطوا. فبين رحمه الله: إن طاقة الإنسان محدودة، وأن القابلية على تحمل الجد الصارم لها حدودها هي الأخرى، والإنسان في تقبله لا لتزاماته في حاجة ضرورية إلى وقت كاف لتمثل هذه الإلتزامات من الداخل وتحويلها إلى مبادئ وقيم ممزوجة بدم الإنسان وأعصابه، ومتشكلة في بنيته وخلاياه، وبدون هذا سوف لن تجتاز هذه الإلتزامات حدود الإنسان الباطنبة، وستظل هناك مكدسة على أعتاب الحس الخارجي وطالما ظل هذا التكديس يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، فسوف يأتي يوم لا محالة يسقط فيه الإنسان تحت وطأة هذا الثقل المتزايد غير المتمثل(3)... ومما يلفت النظر عبارته:.. ولكني أنصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءه فيكون أنجح له. إن عمر هنا يؤكد على أهمية الإنجاز وعلى دوره في تحقيق ـ الإصلاح والتجديد ـ فكثيرون هم أولئك الذين طرحوا أقوالاً أعلنوا فيها عن عزمهم على أحداث ثورة حقيقية إنقلاب يجتث الجذور العفنة ويبدأ الزرع من جديد، ولكن هؤلاء ما
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ106 .
(2) ملامح الانقلاب صـ173 .
(3) ملامح الانقلاب صـ173 .(4/183)
لبثوا أن سقطوا وسقطت مبادؤهم لا نهم: طرحوا أقوالاً. ..أما عمر هذا المصلح الكبير والفقيه الحاذق، فإنه يريد أن يطرح أفعالاً، ولا يطرحها بالعنف والإكراه ودونما تخطيط، وإنما لينصف الرجل والإثنين فيبلغ ذلك من وراءهما حتى يسري الإصلاح في نفوس الأمة أنى كانت، سريان الضياء في الظلام. ثم إن عمر هذا الذكي المرن لم يشأ أن يخرج شيئاً إلا ومعه طرف من الدنيا يستلين به القلوب(1)، ولا يمكن لا حد أن يقول أن هذا يمثل تنازلاً من عمر بن عبد العزيز عن أهداف إصلاحاته الشاملة صوب إصلاح جزئي يقوم على الترقيع. .. لأن ما عرفنا عمر منذ حمل مسئولية أمته، يسعى إلى التنازل، ولو شبراً واحداً، عن الأهداف التي طرحها القرآن الكريم والسنة، ولكنه هنا يقدم فقه الأسلوب الحيوي الذي تتأتى به تلك الأهداف كاملة. .. إن الضغط المستمر يولد الإنفجار، ومهما كان سخف هذا الإنفجار وعبثه فإنه لا بد وأن يحرق ويدمر، وإذا كان بإمكان القادة والمسئولين تجاوز هذا الحريق والدمار عن طريق الإلتزام أسلوب حيوي ينسجم وبنية الإنسان النفسية، فلماذا لا يسلكوه(2) ؟ فعندما قال له أبنه عبد الملك يا أمير المؤمنين: أنفذ لأمر الله وإني جاشت بي وبك القدور فماذا كان جواب الخليفة المرن: يا بني: إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف لا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف(3). إن خليفة بهذا المرونة وبهذا الذكاء لا يمكن أن يجزع عن أهدافه يوماً(4) ومما مضى يتضح أدلة مرونة عمر في إدارته فيما يتعلق بتنفيذ السياسة العامة، سياسة إقامة العدل ونشر الإسلام، وبناء دولة العقيدة(5)، وإليك هذه الشواهد في تنفيذ مبدأ المرونة:
1 ـ فلا يحملنك إستعجالنا إيا ك أن تؤخر الصلاة في ميقاتها:
__________
(1) المصدر نفسه صـ174 .
(2) ملامح الانقلاب صـ174 .
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن ملامح الإنقلاب صـ175 .
(4) ملامح الانقلاب صـ175 .
(5) النموذج الإداري صـ329 .(4/184)
خرج عمر على حرسه يوماً، فقال: أيكم يعرف هذاالرجل الذي بعثناه إلى مصر ؟ قالوا: كلنا نعرفه ـ وكان قد كلف رجلاً بمهمة إلى مصر قبل وقت ليس ببعيد ـ قال: فليذهب إليه أحدثكم سناً فليدعه ـ قال: وذلك في يوم جمعة، فذهب إليه الرجل فظن الرسول أن عمر بن عبد العزيز إستبطأه فقال له: لا تعجلني حتى أشد على ثيابي، فشد عليه ثيابه، فأتى عمر، فقال: لا روع عليك، إن اليوم يوم الجمعة، فلا تبرح حتى تصلي الجمعة، وقد بعثناك لا مر عجلة من أمر المسلمين فلا يحملنك إستعجالنا إياك أن تؤخر الصلاة عن ميقاتها(1)، فأبدى عمر في هذا الموقف مرونة في التنفيذ، رغم أنه رسل مندوبه لا مر يهم المسلمين إنجازه على عجل(2).
2 ـ ... هلا أقمت حتى تفطر ثم تخرج:
إستدعى عمر بن عبد العزيز عامله على خراسان، فما كان من العامل إلا أن أسرع بالمغادرة إلى الخليفة تنفيذاً لا مره وعندما وصل إلى مقر الخلافة في دمشق ورأى الخليفة ملامح التعب والإجهاد على وجهه، سأله: متى خرجت ؟ فقال: في شهر رمضان، فقال له عمر: قد صدق من وصفك بالجفاء !! هلا أقمت حتى تفطر، ثم تخرج(3).
3 ـ لاتعنت الناس ولا تعسرهم ولا تشق عليهم:
ذكر ابن سعد أن ـ ميمون بن مهران ـ وكان على ديوان دمشق، قال: ففرضوا لرجل زمِن(4)، فقلت: الزمن ينبغي أن يحسن إليه فأما أن يا خذ فريضة رجل صحيح فلا. فشكوني إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: إنه يتعنتنا ويشق علينا، ويعسرنا. قال: فكتب إلي: إذا أتاك هذا فلا تعنت الناس ولا تعسرهم، ولا تشق عليهم فإني لا أحب ذلك(5)، فكتب إليه عمر إنطلاقاً من مبدأ المرونة وتسهيل الأمور.
4 ـ المرونة في الحوار والتفاهم:
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ106 .
(2) النموذج الإداري صـ330 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ330 .
(4) الزَمِن : هو المبتلي بالعاهة : لسان العرب (13/119) .
(5) الطبقات (5/380) .(4/185)
فقد كان الحوار الهادي ومقارعة الحجة بالحجة أسلوبه في حواره ومناظراته ـ كما مر معنا مع الخوارج ـ فقد حدث أن: دخل على عمر أناس من الحرورية، فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم، ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم مابقي فخرجوا على ذلك، فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه، فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك، دون الكي فلا تكوينه أبداً(1)، وأبدى مرونة في كافة أساليب التعامل معهم(2).
5 ـ المرونة الفكرية:
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ76 ، 78 .
(2) النموذج الإداري صـ331 .(4/186)
كان عمر يتحلى بالمرونة الفكرية، متجنباً الجمود والتشدد، فقد حدث ـ كما مر معنا ـ أن أرسل عمر يزيد بن أبي مالك، والحارث بن محمد، ليعلما الناس السنة وأجرى عليهم الأرزاق، فقبل يزيد ولم يقبل الحارث وقال: ما كنت لا خذ على علم علمنيه الله أجراً، فذكر ذلك لعمر، فقال: ما نعلم بما صنع يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث(1). فلم يتخذ موقفاً محدداً تجاه العالمين، رغم إختلاف موقفهما تجاه قبول الأجر على تعليم الناس، فأيد أخذ الأجر على التعليم، وأنه لا بأس فيه، ثم دعا الله أن يكثر من أمثال الحارث، فاتضحت مرونته في تأييد الموقفين في آن واحد، رغم إختلافهما وياتي ذلك في إطار ماعبر عنه عن قناعته التامة، أن مبدأ المرونة مطلوب وضروري حتى قال: مايسرني لو أن أصحاب (محمد صلى الله عليه وسلم) لم يختلفوا، لا نهم لو لم يختلفوا، لم تكن رخصة(2). وقال: مايسرني بإختلاف أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم)، حمر النعم(3) فهذه أدلة على تطبيق عمر لمبدأ المرونة في إدارته ولم تكن المرونة عائقاً لتنفيذ القرارات، وتحقيق الأهداف المرسومة، والوصول إلى المرامي والتطلعات(4).
تاسعاً: أهمية الوقت في إدارة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ137 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ275 .
(3) الطبقات (5/381) .
(4) النموذج الإداري صـ332 .(4/187)
كان عمر بن عبد العزيز يقضي جل وقته، أن لم يكن كله في تسيير أمور الدولة أوفي عمل فيه مصلحة الأمة أوفي أداء حق الله من العبادة، فكان يقضي ليلته في الصلاة والمناجاة وكان لا يكلم أحداً بعد أن يوتر(1)، وفي إطار إغتنام الوقت نسب إلى عمر قوله: إن الليل والنهار يعملان فيك ـ أي في الإنسان ـ فاعمل فيهما(2)، وكان يغتنم الوقت في الأعمال الصالحة وفي سرعة التوجيه والبت السريع في الأمور وإتخاذ القرارت الإدارية، وتلافي كل من شأنه تأخير أو عمل أو مصلحة، فإن أهم الأدلة على ذلك ما كان منه من سرعة إجراء لإصدار ثلاثة قرارات، تحدث عنها ابن عبد الحكم ورواها قائلاً: فلما دفن سليمان ـ وكان دفنه عقب صلاة المغرب ـ دعا عمر بدواة وقرطاس، فكتب ثلاثة كتب، لم يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يؤخرها، فأمضاها من فوره، فأخذ الناس في كتاباته إياها هنالك في همزه يقولون: ما هذه العجلة ؟ أما كان يصبر إلى أن يرجع إلى منزله ؟ هذا حب السلطان. هذا الذي يكره مادخل فيه، ولم يكن بعمر عجلة ولا محبة لما صار إليه، ولكنه حاسب نفسه ورأى أن تأخير ذلك لا يسعه، وكان الكتاب الأول عن أمر لا يمسه هو شخصيا في شئ، بقدر ما يمس المسلمين المجاهدين في القسطنطينية بعد أن أصابهم من الجوع والضنك، وأشتد بهم الأمر أمام عدوهم فأمر برجوع مسلمة بن عبد الملك من القسطنطينية ورفع الحصار فقد رأى عمر أنه لا يسعه فيما بينه وبين الله عز وجل أن يلبي شيئاً من أمور المسلمين، ثم يؤخر قفلهم ساعة، فذلك الذي حمله على تعجيل الكتاب(3)، حقاً إن الحال الذي كان عليه مجاهدوا القسطنطينية لا يحتمل التأخير في قرار عودتهم على الإطلاق فكان الإجراء المناسب في الوقت المناسب(4)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ210 ، 211 .
(2) الإدارة في التراث الإسلامي (1/279) البرعي وعابدين .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكيم صـ32.
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ337 .(4/188)
, وكتب بعزل أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر فعزله لظلمه وغشمه وتسلطه، كما كتب بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية لظلمه(1)، وكان عمر يهتم بالوقت من حيث إختيار الوقت المناسب لإعلان التوجيهات أو القرارات الإدارية وسهولة إبلاغها، فكان حين يستخدم البلاغة لا بلاغ الناس يراعي الوقت الأكثر ملائمة سواء من حيث كثرة المجتمعين أم من حيث قدسية المكان وحرمته ،وبالتالي زيادة الإهتمام بما يكون فيه ،ألا هو الموسم السنوي موسم الحج ليخطب في المسلمين أو يكتب إلى المسلمين في يوم حجهم الأكبر بما يراه على قدر كبير من الأهمية من أمورهم، إذ يتحقق بإختيار ذلك الوقت المناسب أمرين، أحدهما: نشر التوجيه أو القرار أو الإجراء في أكبر عدد من المسلمين، من كل بلد من بلدانهم، والثاني سرعة الإنتشار الذي يحققها إعلان القرار أو التوجيه في هذا الجمع في ذلك الوقت(2). ومن ذلك كتابه إلى أهل الموسم الذي جاء فيه: أما بعد: فإني أشهد الله وأبرأ إليه في الشهر الحرام والبلد الحرام، ويوم الحج الأكبر إني برئ من ظلم من ظلمكم، وعدوان من إعتدى عليكم، أن أكون أمرت بذلك أو رضيته أو تعمدته إلا أن يكون وهماً مني، أو أمراً خفي علي لم أتعهده وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي إذا علم مني الحرص والإجتهاد، ألا وإنه لا إذن على مظلوم دوني وأنا معول كل مظلوم، ألا وأي عامل من عمالي رغب عن الحق ولم يعمل بالكتاب والسنة فلا طاعة له عليكم، وقد صيرت أمره إليكم حتى يراجع الحق وهو ذميم، ألا وإنه لا دولة بين أغنيائكم، ولا أثرة على فقرائكم في شئ من فيئكم، ألا وأيما وارد ورد في أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من هذا الدين فله مابين مائتي دينار إلى ثلاث مائة دينار على قدر ما نوى من الحسنة وتجشم من المشقة ،رحم الله إمرءاً لم يتعاظمه سفر يجئ الله به حقاً لمن وراءه، ولولا أن أشغلكم عن
__________
(1) المصدر نفسه صـ337 ، 338 .
(2) المصدر نفسه صـ339 .(4/189)
مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحياها الله لكم وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام(1). فهذا كتاب عظيم من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز في محاربة الظلم وإقرار العدل فهو قد سعى جاهداً في رد المظالم التي عرف عنها، ولكنه يتوقع أن هناك مظالم لم تصل إليه، فكتب هذا الكتاب وأعلنه في موسم الحج الذي يضم وفوداً من أغلب بلاد المسلمين، لتبرأ ذمته من مظالم خفية لم تبلغه، وأعلن في هذا الكتاب براءته من الولاة الذين يقع منهم شيء من الظلم، وربط طاعتهم بطاعة الله تعالى، فهو بهذا يجعل كل فرد من أفراد الأمة رقيباً على أمير بلده، يسعى في تثبيته إذا استقام وفي تقويمه إذا أنحرف... ومن أروع ما جاء في هذا الكتاب تخصيص مبلغ من المال لمن يسعى في إصلاح أمور الأمة، وفي ذلك ضمان النفقة لمن أراد أن يسافر من أجل ذلك حتى لا يفقد به التفكر في تامين تلك النفقة، ثم يختم كتابه بشكر الله جلا وعلا على ما وفقه إليه من الإصلاح الذي تحقق على يديه، وهذا مثل من الإخلاص القوي لله تعالى بحيث يتلاشى حظ النفس ولا يكون إلا لطف الله جل وعلا وتوفيقه ومعونته(2). فهذا دليل على تطبيق عمر لمبدأ تحري ومراعاة أهمية الوقت، حيث لم يقتصر عمر في إدارته للوقت على أغتنام الوقت وإدراك أهميته، بل كانت إدارة كاملة لكل مقتضيا ت إغتنام الوقت وكل ما يتعلق به من ضرورة سرعة إتخاذ القرارات والتوجيه في الأوقات المناسبة والعمل على تلافي التأخير وأسبابه ودوافعه(3).
عاشراً: مبدأ تقسيم العمل في إدارة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) حلية الأولياء (5/292 ـ 293) .
(2) التاريخ الإسلامي (16/151) .
(3) النموذج الإداري صـ340 .(4/190)
كان عمر بن عبد العزيز قد أشار بصراحة إلى مبدأ تقسيم العمل ومهام المسئولية للدولة، فقد كان في كتابه كتبه إلى عقبة بن زرعة الطائي، بعد أن ولاه خراج خراسان: . ..إن للسلطان أركاناً لا يثبت إلا بها، فالوالي ركن، والقاضي ركن، وصاحب بيت المال ركن، والركن الرابع أنا ـ يعني الخليفة(1). هذا من حيث التقسيم الرئيسي العام، فبالإضافة إلى الأركان الرئيسية لا دارته وهي: الولاية ويشملها الوالي للإقليم، والقضاء ويمثله القاضي، ومالية الدولة ويمثلها الوالي للإقليم، والقضاء ويمثله القاضي، ومالية الدولة ويمثلها رجل أو صاحب بيت المال والرابع السلطة العليا للدولة رجل الدولة أو الخليفة ويمثلها أمير المؤمنين، إلا أن هناك تقسيمات فرعية لمهام الدولة منها ما يتعلق بإمارة الجهاد، فقد كان منصور بن غالب على ولاية الحرب(2)، وعلى الصائفة كل من الوليد بن هشام، وعمرو بن قيس السكوني(3). وقسم أخر وهو ما يتعلق بالأمن الداخلي، إذا أستعمل عمر بن يزيد بن بشر الكلبي على الشرطة(4)، وولى الحرس عمر بن مهاجر بن أبي مسلم الأنصاري، وحاجبه حبيش مولاه وأنشأ نقاط العبور وولى عليها، مثل جواز مصر وكان عليها عمر بن رزيق الأيلي، وهي ما يعرف الآن بنقاط الجمارك(5)، وقسم ثالث يختص بالكتابة (الكتاَب)، ومنهم ليث بن أبي رقية أم الحكم بنت أبي سفيان(6) والخاتم، وعليه نعيم بن سلامة(7)، وقسم يتولى متابعة الشؤون المالية، وله تفريعات منها الخراج ومن ولاته على الخراج عقبة بن زرعة الطائي(8)، والصدقات إذ وليها لعمر عبد الله بن عبد الرحمن بن عتبة القرشي(9)
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ342 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ71 .
(3) تاريخ خليفة صـ324 .
(4) المصدر نفسه صـ324 .
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ344 .
(6) تاريخ خليفة صـ324 .
(7) تاريخ خليفة صـ325 .
(8) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ344 .
(9) أمراء دمشق في الإسلام صـ48 .(4/191)
. وهي تمثل مؤسسة النقد في الوقت الراهن وليها لعمر بن أبي حملة القرشي(1)، وكذلك الخراج المركزي وكان عليه صالح بن جبير الغداني(2)، وأما في مجال التعليم والتثقيف فقد أنشأ عمر مجالس التعليم الدائمة في المساجد، وكلف من يقوم بالتفقيه والتعليم المتنقل في البداية، كما كلف أناساً بالدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام دور الإفتاء إذ جعل الفتيا في مصر إلى ثلاث فقهاء(3). بالإضافة إلى ما سبق فقد كان هناك ولايا ت أخرى، مثل ولاية الصلاة وولاية الحج وتسيير أموره، والبريد وغير ذلك مما لم يسعفنا المقام بالإحاطة والتفصيل له وهكذا كان عمر بن عبد العزيز يطبق مبدأ تقسيم العمل في دولته(4)، فقد كان رحمه الله رجل دولة من الطراز الأول.
هذا وقد كان عمر بن عبد العزيز في كثير من الأحيان يعطي الولاة الحق في تعيين وزرائهم، وتشكيل مجالس شوراهم، ولهم حق الإشراف على جيش الولاية، والحفاظ على الأمن الداخلي في الولاية، والنفقات اللازمة لكل ولاية مع الأشراف والمتابعة. ...الخ، هذه بعض الملامح والمعالم من فقه عمر بن عبد العزيز في إدارته للدولة.
ـ ... من أسباب نجاح مشروع عمر بن عبد العزيز الإصلاحي:
كانت هناك عوامل متعددة ساهمت في نجاح مشروعه الإصلاحي منها:
1 ـ ... صفاته الشخصية من العلم، والورع والخشية والزهد والتواضع والحلم والصفح والعفو والحزم والعدل مع قدرات إدارية كبيرة في فن التخطيط والتنظيم والقيادة والتوجيه ومعرفة الناس.
2 ـ إمتلاكه لرؤية إصلاحية تجديدية واضحة المعالم، هدفها الرجوع بالدولة والأمة لمنهج الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
3 ـ التفاف الأمة حول هذا المشروع عندما لمست صدق المشرف عليه وإخلاصه.
__________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ295 .
(2) تاريخ خليفة صـ324 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ344 .
(4) النموذج الإداري صـ345 .(4/192)
4 ـ ... وجود كوكبة من العلماء الربانيين في عهده كانوا مؤهلين لقيادة الدولة والأمة، فلما جاءت الفرصة بوصول عمر بن عبد العزيز للحكم وأتاح لهم المجال أبدعوا وأثبتوا جدارتهم في ما أسند لهم من مهام كبرى وهذا درس مهم في أهمية تكامل العلم الشرعي، والأمانة والتقوى مع القدرات القيادية في شخصية العلماء الربانيين، فذلك يساعدهم على تحكيم شرع الله من خلال مناصب الدولة وقيادة الجماهير والتفاهم حول المشروع الإسلامي الكبير.
5 ـ ... الحرص على تحكيم الشرع في كل صغيرة وكبيرة، على مستوى الدولة والأمة فيأتي بذلك التوفيق الرباني قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...)) (الأعراف، الآية: 96).
* ... أثر الإلتزام بأحكام القرآن والسنة الشريفة على دولة عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
إن التأمل في كتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وفي حيا ة الأمم والشعوب تعطي العبد معرفة أصيلة بأثر سنن الله في الأنفس والكون والآفات وأوضح مكان لسنن الله وقوانينه كتاب الله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) (النساء، الآية: 26).(4/193)
وسنن الله تتضح بالدراسة فيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالمطالعة في سنته صلى الله عليه وسلم فقد كان يقتنص الفرص والأحداث ليدل أصحابه على شيء من السنن، ومن ذلك أن ناقته صلى الله عليه وسلم (العضباء) كانت لا تسبق، فحدث مرة أن سبقها أعرابي على قعود له، فشق ذلك على أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال لهم (صلى الله عليه وسلم) كاشفاً عن سنة من سنن الله (حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)(1) وقد أرشدنا كتاب الله إلى تتبع آثار السنن في الأمكنة بالسعي والسير وفي الأزمنة من التاريخ والسير. قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)) (آل عمران، الآيتان: 137ـ138) وأرشدنا القرآن الكريم إلى معرفة السنن بالنظر والتفكر قال تعالى: ((قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ * فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)) (يونس، الآيتان: 101ـ102).
من خصائص السنن الإلهية:
1 ـ أنها قدر سابق: قال تعالى: ((مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا)) (الأحزاب، الآية: 38) أي أن حكم الله تعالى وأمره الذي يقدره كائن لا محالة وواقع لا حيد عنه، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
__________
(1) البخاري ، ك الجهاد والسير رقم 2872 .(4/194)
2 ـ أنها لا تتحول ولا تتبدل: قال تعالى: ((لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)) (الأحزاب، الآيات: 60ـ61ـ62).
وقال تعالى: ((وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)) (الفتح، الآيتان: 22ـ23).
3 ـ أنها ماضية لا تتوقف: قال تعالى: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)) (الأنفال، الآية: 38).
4 ـ ... أنها لا تخالف ولاتنفع مخالفتها: قال تعالى: ((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ)) (غافر، الآيات: 82ـ85).
5 ـ ... لاينتفع بها المعاندون ولكن يتعظ بها المتقون:(4/195)
قال تعالى: ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ)). (آل عمران، الآيتان: 137ـ138).
6 ـ أنها تسري على البر والفاجر:
فالمؤمنون ـ والأنبياء أعلاهم قدراً ـ تسري عليهم سنن الله ولله سنن جارية تتعلق بالآثار المترتبة على من إمتثل شرع الله أو أعرض عنه(1).
وللحكم بما أنزل الله آثار دنيوية وأخرى أخروية أما الآثار الدنيوية التي ظهرت في دولة عمر بن عبد العزيز فهي:
1 ـ ... الإستخلاف والتمكين:
حيث نجد أن عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ مكن الله له في الأرض تمكيناً عظيماً بسبب حرصه على إقامة شرع الله تعالى في نفسه وأهله ومن حوله وقومه وأمته وأخلص لله في مشروعه الإصلاحي الراشدي، فأيده الله عز وجل وشد أزره، فقد أخذ بشروط التمكين وعمل بها فتحقق له وعد الله قال تعالى: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)) (النور، الآية: 55). وهذه سنة ربانية نافذه لا تتبدل في الشعوب والأمم التي تسعى جاهدة وجادة لا قامة شرع الله.
2 ـ الأمن والإستقرار:
__________
(1) الحكم والتحاكم في خطاب الوحي (2/667 ، 669) .(4/196)
كانت الثورات في العهد الأموي على أشدها ضد النظام السائد، وخصوصاً من الخوارج إلا أن عمر بن عبد العزيز إستطاع بالحوار والنقاش أن يقنع الكثير منهم ولقد تميز عهده بالأمن والإستقرار بسبب عدله في الحكم ورفعه للمظالم، واحترامه الكبير لكل شرائح المجتمع، وحرصه على تطبيق الشريعة في كافة شؤون الحياة. قال تعالى:(( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) (الأنعام، الآية: 82).
3 ـ ... النصر والفتح:
إن عمر بن عبد العزيز حرص على نصرة دين الله بكل ما يملك وتحققت فيه سنة الله في نصرته لمن ينصره، لأن الله ضمن لمن إستقام على شرعه أن ينصره على أعدائه بعزته وقوته، قال تعالى: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)) (الحج، الآية: 41). فقد وعد الله من ينصره ونصره هو نصر كتابه ودينه ورسوله، لا نصر من يحكم بغير ما أنزل الله ولا يتكلم بما لا يعلم(1). كما نرى في حياتنا المعاصرة.
4 ـ العز والشرف:
__________
(1) صفحات مشرقة من التاريخ الإسلامي للصَّلاَّبيِّ (2/306) .(4/197)
إن الشرف الكبير والعز العظيم الذي سطر في كتب التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز بسبب تمسكه بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) وإن من يعتز بالإنتساب لكتاب الله الذي به تشرف الأمة ويعلو ذكرها وضع رجله على الطريق الصحيح وأصاب سنة الله الجارية في إعزاز وتشريف من يتمسك بكتابه وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: ((لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) (الأنبياء، الآية: 10) قال ابن عباس: ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره هذه الآية: فيه شرفكم(1). فهذه الأمة لا تستمد الشرف والعزة إلا من استمساكها بأحكام الإسلام.
5 ـ ... بركة العيش ورغد الحيا ة في عهده:
قال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (الأعراف، الآية: 96).
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/170) .(4/198)
إن إقامة شرع الله تعالى وتطبيق أحكامه يجلب للأمة بركات مادية ومعنوية، فمن حقق الإيمان والتقوى يكرمه الله بهذا العطاء الرباني الكبير. والبركات التي يعد الله بها الذين يؤمنون ويتقون في توكيد ويقين، ألوان شتى، لا يفصلها النص ولا يحددها، وإيماء النص القرآني يصور الفيض الهابط من كل مكان، النابع من كل مكان بلا تحديد ولا تفصيل ولا بيان فهي البركات بكل أنواعها وألوانها وبكل صورها وأشكالها وما يعهده الناس وما يتخيلونه، وما لم يتهيأ لهم في واقع الخيال(1). ولقد لا مس الناس وشاهد هذه البركات في عهد عمر بن عبد العزيز سواء كانت مادية أو معنوية، وفوجئ الناس أن بركة العيش ورغد الحياة قد عم جميع الناس ومالية الدولة قويت، وإطمأن الناس في كل رقعه من رقعة خلافة الدولة الأموية الواسعة، حتى عز وجود من يستحق الزكاة ويقبلها، وأصبحت هذه مشكلة للأغنياء وأصحاب الأموال تطلب حلاً سريعاً، قال يحيى بن سعيد: بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضيتها، وطلبت فقراء نعطيها لهم فلم نجد بها فقيراً، ولم نجد من يا خذها مني، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، فاشتريت بها رقاباً، فأعتقتهم وولاؤهم للمسلمين(2). وقال رجل من ولد زيد بن الخطاب: " إنما ولي عمر بن عبد العزيز سنيتين ونصف، فذلك ثلاثون شهراً، فما مات حتى جعل الرجل يا تينا بالمال العظيم فيقولوا: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح بماله يتذكر من يضعه فيهم فما يجده فيرجع بماله، قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس(3). فهذه الفوائد العامة من بركات الحكومة الإسلامية التي تطبق شرع الله تعالى.
6 ـ إنتشار الفضائل وانزواء الرذائل:
__________
(1) في ظلال القرآن (3/1339) .
(2) رجال الفكر والدعوة (1/58) .
(3) رجال الفكر والدعوة (1/58) .(4/199)
بين الشريعة وبين الخلق أو ثق الرباط وأمتن العرى، كيف لا ، والرسالة من غاياتها العظمى: تزكية الأخلاق وتربية الفضائل. قال تعالى: ((لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) (آل عمران، الآية: 164). فمعنى يزكيهم: أي يا مرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به حال شركهم وجاهليتهم(1). ولقد إهتم عمر بن عبد العزيز بنشر الفضائل وحارب الرذائل وتحركت معه مدرسة الوعظ والإرشاد والتزكية والتربية والتي كان من روادها الحسن البصري، وأيوب السختياني، ومالك بن دينار وغيرهم وقد حققت هذه المدرسة نتائج باهرة في نشر الفضائل وأنزواء الرذائل، وقد حدث في عهد عمر بن عبد العزيز تجديداً كبيراً في توجه الأمة والمجتمع الإسلامي والتطور في الأذواق والأخلاق والميول والرغبات في هذه المدة القصيرة. فقد حدث الطبري في تاريخه: كان الوليد صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فإنما يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولى سليمان فكان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن التزويج والجواري، فلما ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل ما وراءك الليلة، وكم تحفظ من القرآن ومتى تختم، ومتى ختمت، وما تصوم من الشهر(2)؟
7 ـ ... الهداية والتثبيت:
__________
(1) تفسير ابن كثير (1/401) ، الحكم والتحاكم (2/691) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن رجال الفكرة والدعوة (1/59) .(4/200)
جاء عن عمر بن عبد العزيز في خطابه الذي أرسل ليقرأ على الحجاج في موسم الحج: . .. ولولا أن أشغلكم عن مناسككم لرسمت لكم أموراً من الحق أحيا ها الله لكم، وأموراً من الباطل أماتها الله عنكم، وكان الله هو المتوحد بذلك فلا تحمدوا غيره، فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري والسلام عليكم(1). ولاشك أن عمر بن عبد العزيز حرص على تحكيم شرع الله في دولته وبذلك منحه الله نعمة عظيمة ألا وهي الهداية والتثبيت على الحق، قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) (النساء، الآية: 65). ثم قال سبحانه وتعالى بعدها: ((وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)) (النساء، الآيات:66 ، 67 ، 68) والأمر الذي وعظوا به ووعدوا الخير لا جله: هو تحكيم الشريعة والإنقياد للرسول (صلى الله عليه وسلم)، فلو أنهم إمتثلوا لما أمروا لثبت الله أقدامهم على الحق فلا يضطربون في دينهم، ولآتاهم الهداية التي لا عوج فيها بحيث توصلهم إلى الأجر العظيم(2).
إن الهداية والثبات على الأمر، هبة يهبها الله لمن تمخض قلبه لا مره وانقادت جوارحه لحكمه(3).
__________
(1) حلية الأولياء (5/292 ـ 293) .
(2) فتح القدير (1/485) .
(3) الحكم والتحاكم (2/690) .(4/201)
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد ترديد الببغاء للكلمات والأصوات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للإنهيار في كل ساعة، وأنها ليست إلا حلماً من الأحلام ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء ويقول لهم(1): ((قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (البقرة، الآية: 111).
ومما أدهشني في دراستي التاريخية تواصل الأجيال الإسلامية فيما بينها عبر حلقات متماسكة تؤثر بعضها في بعض فالسلطان نور الدين زنكي المتوفي (568هـ) كتب له الشيخ العلامة أبو حفص معين الدين عمر بن محمد بن خضر الإربلي سيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير نور الدين على منهاجها ولقد آتت معالم الإصلاح والتجديد الراشدي في عهد عمر بن عبد العزيز ثمارها في الدولة الزنكية عندما وجدت العالم الكبير الذي رسم ملامح المشروع الإصلاحي وهو الشيخ أبو حفص معين الدين، وأقتنع القائد العسكري والزعيم السياسي بسلامة المنهج وهو نور الدين زنكي، فقد قال: أبو حفص في مقدمة كتابه ـ عن عمر بن عبد العزيز وتقديمه ذلك الكتاب لنور الدين:.. علماً منه أن الإقتداء عن سلف الفضلاء والعقلاء يكمل الأجر ويبقي الذكر، وإتباع سنن المهديين الراشدين يصلح السريرة ويحسن السيرة، وأن الله سبحانه وتعالى أمر نبيه (صلى الله عليه وسلم) بالإقتداء عن سلف من الأنبياء فقال عز من قائل: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)) (الأنعام، الآية: 90)، وقال تعالى ((وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)) (هود، الآية: 120). فلذلك إشتد حرصه ـ أدام الله سعادته ـ على جمع السير الصالحة والآثار الواضحة، فحينئذ رأيت حقاً علي بذل الوسع في مساعدته وإستنفاذ القوة في معاضدته بحكم صدق الولاء وأكيد الإخاء فصرفت وجه همتي إلى
__________
(1) رجال الفكر والدعوة (1/59) .(4/202)
جمع سيرة السعيد الرشيد عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ والتجأت إلى الله الكريم جل أسمه أن يحسن معونتي ويُيسِّر ما صرفت إليه عزيمتي، فحين شرح الله صدري لذلك ولاحت أمارات المعونة، بادرت إلى جمع هذه السيرة برسم خزانته المعمورة معاونة على البر والتقوى(1). لقد قدم هذا الشيخ الجليل منهاجاً علميا لنور الدين زنكي من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز، فبنى دولة العقيدة، وحكم الشريعة وأقام العدل ورفع الضرائب والمكوس عن الأمة، وعمل على إحياء السنة وقمع البدعة وعمق هوية الأمة وفجر روح الجهاد فيها ونشر العلم وساهم في تحقيق الازدهار والرخاء وكان نسيجاً وحده في زهده وورعه وعبادته وصدقه وإخلاصه ومن أراد التوسع فليراجع الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري، عهد نور الدين وصلاح الدين لمحمد حامد الناصر.
إن آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بينة لدارس التاريخ، وإن تلك الآثار الطيبة التي أصابت دولة عمر بن عبد العزيز، ودولة نور الدين زنكي ودولة يوسف بن تاشفين ودولة محمد الفاتح لهي سنن من سنن الله الجارية والماضية والتي لا تتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل والعمل العظيم مخلفة لله في قصدها مستوعبة لسنن الله في الأرض فإنها تصل إليه ولو بعد حين وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها ومجتمعاتها ودولها وحكامها. إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم وعلمهم وتربيتهم وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله وأخذهم بسنن الله وفقهه ومراعاة التدرج والمرحلية والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة، إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يدي من أخلص لربه ودينه وأقام شرعه وقصد رضاه وجعله فوق كل إعتبار.
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/2) .(4/203)
* ـ الأيام الأخيرة في حيا ة عمر بن عبد العزيز ووفاته رحمه الله:
1 ـ أخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز:
كانت أخر خطبة خطبها بخناصرة، فقال فيها: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم وقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض، ألا وأعلموا أنما الأمان غداً لمن حذر الله وخافه، وباع نافذا بباق، وقليلاً بكثير وخوفاً بأمان ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين ؟ وفي كل يوم تشيعون غاديا ورائحاً إلى الله قد قضى نحبه وانقضى أجله، فتعيبونه في صدع من الأرض، ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد فارق الأحبة، وخلع الأسباب فسكن التراب وواجه الحساب، فهو مرتهن بعمله، فقير إلى ما قدم غني عما ترك، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقعه وأيم الله إني لا قو لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وما منكم من أحد تبلغنا عنه حاجة إلا أحببت أن أسد من حاجته ما قدرت عليه، وما منكم أحد يسعه ما عندنا إلا وودت أنه سداي ولحمتي، حتى يكون عيشنا وعيشه سواء، وأيم الله أن لو أردت غير هذا من الغضارة والعيش، لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه، ولكنه مضى من الله كتاب ناطق وسنة عادلة، يدل فيها على طاعته، وينهى عن معصيته، ثم رفع طرف ردائه فبكى حتى شهق وأبكى الناس حوله، ثم نزل فكانت إياها لم يخطب بعدها حتى مات رحمه الله(1).
2 ـ سقيه السم:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/475) .(4/204)
اختلفت الروايات عن سبب مرض وموت عمر بن عبد العزيز فعلى حين تذكر الروايات أن سبب مرضه وموته هو الخوف من الله تعالى والإهتمام بأمر الناس كما روي عن زوجته فاطمة بنت عبد الملك وكما ذكر إبن سعد في الطبقات عن ابن لهيعة(1)، إلا أنه قد ذكر سبب أخر لموته وهو أنه سقي السم وذلك أن بني أمية قد تبرموا وضاقوا ذرعاً من سياسة عمر بن عبد العزيز التي قامت على العدل وحمتهم من ملذاتهم وتمتعهم بميزات لا ينالها غيرهم، بل جعل بني أمية مثل أقصى الناس في أطراف دولة الإسلام ورد المظالم التي كانت في أيديهم وحال بينهم وبين ما يشتهون، فكاد له بعض بني أمية بوضع السم في شرابه(2). وهذا ليس من المستبعد أو المستغرب أن يعمد أحد هؤلاء إلى سقيه السم ليتخلص منه وليكن ذلك عن طريق خادمه الذي يقدم له الطعام والشراب، فقد روي أنهم وعدوا غلامه بألف دينار وأن يعتق إن هو نفذ الخطة فكان الغلام يضطرب كلما هم بذلك، ثم إنهم هددوا الغلام بالقتل إن هو لم يفعل، فلما كان مدفوعاً بين الترغيب والترهيب حمل السم فوق ظفره، ثم لما أراد تقديم الشراب لعمر قذف السم فيه ثم قدمه إلى عمر فشربه ثم حس به منذ أن وقع في بطنه(3). وعن مجاهد قال : قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس في؟ قلت: يقولون إنك مسحور. قال: ما أنا بمسحور ثم دعا غلاماً له فقال له: ويحك ما حملك على أن تسقيني السم ؟ قال: ألف دينار أعطيتها وعلى أن أعتق، قال: هات الألف فجاء بها فألقاها عمر في بيت المال. وقال: أذهب حيث لا يراك أحد(4) فالسبب المباشر لمرضه وموته فهو كما ذكرت الروايات كان بسبب سقيه السم(5)، ففي عفوه عن غلامه الذي وضع له السم وتسبب في قتله وهو قادر على أن يقتله شر قتلة وفي عدم إستفهامه
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/43) الحلية (5/342) .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/43) .
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ316 ، 317 .
(4) تذكرة الحفاظ (1/120) .
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (1/44) .(4/205)
من الغلام عن من أمره بوضع السم وقد كان يستطيع إرغام الغلام والاعتراف بذلك ثم يأمر بالقصاص منهم جميعاً، مثل عجيب في العفو وسبب ذلك لا نه كان يوقن أن ما عند الله خير وأنه إن عفا عنه حصل له الثواب من الله تعالى على عفوه، وإن انتصر منه فأقام عليه الحد لم يا ثم ولكنه لا يحصل على أجر العفو ونظراً إلى أن أغلى شيء عنده في هذه الحياة أن يرتفع رصيده من الحسنات فإنه قد فضل العفو على انتصاره للنفس(1).
3 ـ شراء عمر موضع قبره:
بلغ من تواضع عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه عندما ذكروا له ذلك الموضع الرابع في حجرة عائشة والتي فيها قبر النبي (صلى الله عليه وسلم) وأبي بكر وعمر، فقالوا: لو دنوت من المدينة حتى تدفن معهم قال: والله لا يعذبني الله عذاباً ـ إلا النار فإني لا صبر بي عليها ـ أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني أراني لذلك أهلاً(2). ويأبى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ إلا أن يشتري موضع قبره من ماله الخاص وذلك بسبب ورعه ومحاسبته الشديدة لنفسه، فقد جاءت الروايات أنه قال لمن حوله ـ وهو في مرض موته ـ إشتروا من الراهب موضع قبري فقال له النصراني: والله يا أمير المؤمنين إني لأتبرك بقربك وجوارك وإنها لخيرة أن يكون قبرك في أرضي، قد أحللتك ويأبى عمر قائلاً: إن بعتموني موضع قبري وإلا تحولت عنكم ثم دعا بالثمن الذي إختلفت الروايات في مقداره فقيل: دينارين، وقيل ستة، وقيل: ثلاثين، دعا بالثمن فوضعه في يد النصراني فقال أصحاب الأرض: لولا أنا نكره أن يتحول عنا ما قبلنا الثمن(3).
4 ـ وصيته لولي عهده يزيد بن عبد الملك:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (16/229) .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ321 ـ 324 ، فقه عمر بن عبد العزيز (1/45) .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ322 ـ 323 .(4/206)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك ـ وهو في مرض الموت ـ قائلا:: بسم الله الرحمن الرحيم: من عبد الله عمر ـ أمير المؤمنين ـ إلى يزيد بن عبد الملك، السلام عليك:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف(1) من وجعي وقد علمت إني مسئول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً يقول تعالى فيما يقول: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)): (الأعراف ، الآية : 7) فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير أسأل الله الذي لا إله إلا هو، أن يجيرني من النار برحمته، وأن يمن علي برضوانه والجنة. وعليك بتقوى الله والرعية الرعية، فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلاً حتى تلحق باللطيف الخبير(2). وجاء في رواية: . .. فإن سليمان بن عبد الملك، كان عبداً من عباد الله، قبضه الله واستخلفني وبايع لي من قبله، وليزيد بن عبد الملك إن كان من بعدي، ولو كان الذي أنا فيه لاتخاذ أزواج، أو اعتقاد أموال كان الله قد بلغ بي أحسن ما بلغ بأحد من خلقه ولكني أخاف حساباً شديداً ومسألة لطيفة، إلا ما أعان الله عليه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. لقد نصح عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ لولي عهده يزيد بن عبد الملك ما وسعه النصح وبذل ما يقدر عليه من التخويف والتهديد من عاقبة الأمر مع ضرب الأمثلة والإعتبار بالسابقين فقد نصح وبلَغ أتم البلاغ(3).
5 ـ وصيته لأولاده عند الموت:
__________
(1) دنف : برأه المرض حتى أشفى على الموت .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ318 ـ 319 ، فقه عمر بن عبد العزيز (1/47) .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/47) .(4/207)
لما حضرت عمر بن عبد العزيز الوفاة دخل عليه مسلمة بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد أفغرت أفواه ولدك من هذا المال، فلو أوصيت بهم إليَ وإلى نظرائي من قومك فكفوك مؤونتهم، فلما سمع مقالته: قال: أجلسوني فأجلسوه فقال: قد سمعت مقالتك يا مسلمة، أما قولك: إني قد أفغرت أفواه ولدي من هذا المال فوالله ما ظلمتهم حقاً هو لهم ولم أكن لأعطيهم شيئاً لغيرهم، وأما ما قلت في الوصية فإن وصيتي فيهم: ((إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) (الأعراف، الآية: 196). وإنما ولد عمر بين أحد رجلين: إما صالح فسيغنيه الله، وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله ادع لي بني، فأتوه فلما رآهم ترقرقت عيناه، وقال: بنفسي فتية تركتهم عالة لا شيء لهم ـ وبكى ـ: يا بني إني قد تركت لكم خيراً كثيراً، لا تمرون بأحد من المسلمين وأهل ذمتهم إلا رأوا لكم حقاً يا بني إني قد مثلت بين الأمرين: إما أن تستغنوا وأدخل النار، أو تفتقروا إلى أخر يوم الأبد وأدخل الجنة، فأرى أن تفتقروا إلى ذلك أحب إلي، قوموا عصمكم الله، قوموا رزقكم الله(1). وجاء في رواية: أن عمر وصى مسلمة أن يحضر موته وأن يلي غسله وتكفينه، وأن يمشي معه إلى قبره، وأن يكون مما يلي إدخاله في لحده، ثم نظر إليه وقال: انظر يا مسلمة بأي منزل تركتني، وعلى أي حال أسلمتني إليه الدنيا فقال له مسلمة: هذه مائة ألف دينار، فأوصي فيها بما أحببت، قال: أو خير من ذلك يا مسلمة ؟ أن تردها من حيث أخذتها، قال مسلمة: جزاك الله عنا خيراً يا أمير والله لقد ألنت قلوباً قاسية، وجعلت لنا ذكراً في الصالحين(2) وفي الأثرين الماضيين دروس وعبر ففي الخبر الأول مثل من ورع أمير المؤمنين عمر بن عبد
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ115 ، 116 ، التاريخ الإسلامي (16/220) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ122 ، 123 ، التاريخ الإسلامي (16/222) .(4/208)
العزيز رحمه الله تعالى حتى في وصيته لأولاده بعد موته، حيث لم يرض لنفسه أن يفارق الدنيا وقد حمل ذمته شيئاً لا يدري على أي وضع يكون تنفيذه، فربما تصور أنه لو أوصى بهم أحد أقاربه لأعطاهم من مصدر لا يحل، فيلحقه بذلك شيء من الإثم، فلجأ إلى الله تعالى وفوض أمرهم إليه، لقد تصور في معاملة أولاده وقوعه بين أمرين: أن يغنيهم في الحياة الدنيا ، وذلك يمنحهم شيئاً من المال العام للمسلمين، فيتعرض بذلك للفحات النار، أو أن يكتفي بالإنفاق عليهم من المورد القليل الحلال الخالي من الشبهات فيتعرض بذلك لنفحات الجنة، فاختار الطريق الأخير مع ثقته أن لن يضيعهم وقد أشار إلى أنه ترك لهم السمعة العالية، حيث سيكونون موضع إحترام وعطف جميع المسلمين وأهل الذمة، وأكرم بذلك من تركة إنها تركة عظيمة لا تقدر بها أموال الدنيا عند أصحاب الأفكار النيرة والعقول المبصرة، وفي قوله: (إنما ولد عمر بين رجلين: إما رجل صالح فسيغنيه الله وإما غير ذلك فلن أكون أول من أعانه بالمال على معصية الله) لفتة جليلة إلى معية الله تعالى لأوليائه بالحفظ أخذاً من قول الله تعالى: ((وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ)) ، وإشارة إلى أن الأمر المهم أن يبذل الوالد أقصى جهده في تربية أولاده على الصلاح ليحفظهم الله تعالى، وليس المهم أن يسعى في جمع المال لهم حتى يغتنوا من بعده، لا نهم إن لم يكونوا صالحين فسيكون ذلك المال عوناً لهم على معصية الله تعالى(1). وأما في الأثر الثاني يوجه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ابن عمه مسلمة بن عبد الملك إلى التحري في اكتساب المال، ويبين له أن إنفاق المال بالصدقة أو الهدية لا يجعله حلالاً، بل لا بد من التحري في كسبه، فإذا لم يكن للإنسان حق فيه وجب عليه أن يرده إلى مستحقيه، ولا يبرئ ساحته أن يتصدق به أو يهديه(2).
6 ـ وصيته إلى من يغسله ويكفنه:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (16/222) .
(2) المصدر نفسه (16/222) .(4/209)
عن رافع بن حفص المدني أن عمر قال لرجاء: إذا أنا مت وغسلتموني وكفنتموني وصليتم علي وأدخلتموني لحدي، فاجذب اللبنة من عند رأسي، فإن رأيت وجهي إلى القبلة فاحمدوا الله وأثنوا عليه، وإن رأيت قد زويت عنها، فاخرج إلى المسلمين ماداموا عند لحدي حتى يستوهبوني من ربي، قال : فلما وضع في لحده وقبل باللبن على وجهه جذبت اللبنة من عند رأسه فإذا وجهه إلى القبلة فحمدنا الله وأثنينا عليه(1).
7 ـ كراهته تهوين الموت عليه:
قال عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لا نه آخر ما يرفع للمؤمن من الأجر(2). وفي رواية: ما أحب أن يخفف عني سكرات الموت لا نه آخر ما يكفر به عن المرء المؤمن(3).
8 ـ حاله لما احتضر:
__________
(1) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/644 ، 645) .
(2) المصدر نفسه (2/648) .
(3) المصدر نفسه (2/648) .(4/210)
لما احتضر عمر بن عبد العزيز، قال: أخرجوا عني فلا يبقين عندي أحد. وكان عنده مسلمة بن عبد الملك، فخرجوا وقعد مسلمة وفاطمة زوجه أخت مسلمة على الباب فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه ليست وجوه إنس ولا بوجوه جان(1)، وجاء في رواية: . ..قالت فاطمة بنت عبد الملك: كنت أسمع عمر يقول في أيا م مرضه: اللهم أخف عنهم موتي ولو ساعة من نهار، فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت من عنده، وجلست في بيت بيني وبينه باب، فسمعته يقول: ((تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) (القصص ، الآية : 83). ثم هدأ فجعلت لا أسمع له صوتاً ولاحساً ولا كلاماً. فقلت لوصيف كان يخدمه: لو دخلت على أمير المؤمنين فدخل وصاح، فقمت ودخلت عليه وقد أقبل بوجهه إلى القبلة وأغمض عينيه بإحدى يديه وأغمض فمه بالأخرى، ومات رحمه الله(2). وجاء في رواية: أن عمر بن عبد العزيز لما كان مرضه الذي هلك فيه قال لهم: أجلسوني، فأجلسوه، ثم قال: أنا الذي أمرتني فقصرت ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه وأحد النظر فقالوا له: إنك لتنظر نظراً شديداً، فقال إني لأرى حضرة ليست بإنس ولا جن ثم قبض(3). وكان نقش خاتمه: عمر بن عبد العزيز يؤمن بالله.
9 ـ تاريخ وفاته:
توفي الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة لعشر ليال بقين من رجب سنة (101هـ) على أصح الروايات وأستمر معه المرض عشرين يوماً وتوفي بدير سمعان من أرض المعرة بالشام بعد خلافة إستمرت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيا م وتوفي وهو إبن تسع وثلاثين سنة وخمسة أشهر وعلى أصح الروايات وكان عمره لما توفي أربعين سنة(4).
10 ـ الأموال التي تركها عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) المصدر نفسه (2/652) .
(2) المصدر نفسه (2/653) .
(3) المصدر نفسه (2/654) .
(4) تاريخ القضاعي صـ363 .(4/211)
اختلفت الروايات على مقدار تركة عمر بن عبد العزيز حين توفي، ولكن الروايات متفقة على قلة التركة وانعدامها(1)، ومن هذه الروايات ما رواه عمر بن حفص المعيطي قال: حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت كم ترك لكم من المال ؟ فتبسم وقال: حدثني مولى لنا كان يتولى نفقته، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ حين أحتضر: كم عندك من المال ؟ قلت أربعة عشر ديناراً، قال: فقال تحتملون بها من منزل إلى منزل، فقلت: كم ترك من النحلة ؟ قال: ترك لنا نحلة ستمائة دينار ورثناها عنه عن اختيار عبد الملك، وتركنا إثني عشر ذكراً وست نسوة، فقسمناها على خمس عشرة(2). والصحيح أن الذكور الذين ورثوه هم أحد عشر ذكراً، لوفاة ابنه عبد الملك قبله(3). وقال ابن الجوزي: أبلغني أن المنصور قال لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: عظني. قال: مات عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ وخلف أحد عشر ابناً، وبلغت تركته سبعة عشر ديناراً كفن منها بخمسة دنانير، وثمن موضع قبره ديناران وقسم الباقي على بنيه وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً، ومات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يتصدق عليه(4). وما مضى يظهر لنا جليا أن المال الذي ورثه عمر بن عبد العزيز من أبيه ـ وهو مال كثير ـ أخذ في التناقص حتى توفي ـ رحمه الله ورضي الله عنه(5).
11 ـ ... ثناء الناس على عمر بن عبد العزيز بعد وفاته:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/50) تذكرة الحفاظ (1/118) .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ337 .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/55) .
(4) سيرة عمر لابن الجوزي صـ338 .
(5) فقه عمر بن عبد العزيز (1/56) .(4/212)
أ ـ مسلمة بن عبد الملك: حين توفي عمر ورآه مسجى قال يرحمك الله لقد لينت لنا قلوباً قاسية وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً(1).
ب ـ ... فاطمة بنت عبد الملك: فعن وهيب بن الورد، قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز لما توفي جاء الفقهاء إلى زوجته يعزونها، فقالوا لها: جئناك لنعزيك بعمر، فقد عمت مصيبة الأمة، فأخبرينا يرحمك الله عن عمر: كيف كانت حاله في بيته ؟ فإن أعلم الناس بالرجل أهله. فقالت: والله ما كان عمر بأكثركم صلاة ولا صياماً ولكني والله ما رأيت عبداً لله قط أشد خوفاً لله من عمر، والله إن كان ليكون من المكان الذي ينتهي إليه سرور الرجل بأهله، بيني وبينه لحاف، فيخطر على قلبه الشئ من أمر الله، فينتفض كما ينتفض طائر وقع في الماء، ثم يشجب، ثم يرتفع بكاؤه حتى أقول: والله لتخرجن نفسه فأطرح اللحاف عني وعنه، رحمة له وأنا أقول: يا ليتنا كان بيننا وبين هذه الإمارة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سروراً منذ دخلنا فيها(2).
ج ـ الحسن البصري: لما أتى الحسن موت عمر بن عبد العزيز قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا صاحب كل خير(3).
ح ـ ... مكحول: ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز.
دـ ... يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز(4)، كأن النار لم تخلق إلا لهما(5).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ329 .
(2) البداية والنهاية نقلاً عن ملامح الانقلاب صـ56 .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (1/53) .
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي نقلاً عن ملامح الانقلاب صـ55 .
(5) صفة الصفوة (3/156) .(4/213)
س ـ ... بكاء الرهبان عليه: عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز، ثم خرجت أريد مدينة قنسرين فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل قال: فقلت له: نعم فأرخى عينيه فبكى سجاماً، فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه ؟ فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فطفئ(1).
و ـ ... ملك الروم وبطارقته: بعث عمر بن عبد العزيز وفداً إلى ملك الروم في أمر من مصالح المسلمين، وحق يدعوه إليه، فلما دخلوا إذا ترجمان يفسر عليه وهو جالس على سرير ملكه، والتاج على رأسه والبطارقة على يمينه وشماله والناس على مراتبهم بين يديه، فأدى إليه ما قصدوه له فتلقاهم بجميل وأجابهم بأحسن الجواب، وانصرفوا عنه في ذلك اليوم، فلما كان في غداة غد أتاهم رسوله، فدخلوا عليه، فإذا هو قد نزل عن سريره ووضع التاج عن رأسه، وقد تغيرت صفاته التي شاهدوه عليها كأنه في مصيبة، فقال: هل تدرون لماذا دعوتكم ؟ قالوا: لا قال: إن صاحب مصلحتي التي تلي العرب جاء في كتابه في هذا الوقت: أن ملك العرب الرجل الصالح قد مات، فما ملكوا أنفسهم أن بكوا، فقال: ألكم تبكون، أو لدينكم أو له ؟ قالوا: نبكي لا نفسنا ولديننا وله قال: لا تبكوا له، وأبكوا لا نفسكم ما بدا لكم، فإنه خرج إلى خير مما خلف، وقد كان يخاف أن يدع طاعة الله فلم يكن الله ليجمع عليه مخافة الدنيا ومخافته، لقد بلغني من بره وفضله وصدقه ما لو كان أحد بعد عيسى يحيى الموتى لظننت أنه يحيي الموتى، ولقد كانت تأتيني أخباره باطناً و ظاهراً فلا أجد أمره مع ربه إلا واحداً بل باطنه أشد حين خلوته بطاعة مولاه، ولم أعجب لهذا الراهب الذي ترك الدنيا وعبد ربه على رأس صومعته، ولكني عجبت من هذا الذي صارت الدنيا تحت قدمه فزهد فيها، حتى صار مثل الراهب، إن أهل الخير لا يبقون مع أهل الشر إلا قليلاً(2)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ331 .
(2) مروج الذهب (3/195) فقه عمر بن عبد العزيز (1/54) .(4/214)
.
12 ـ ما نسب إليه من كرامات عند موته:
يحكى ويقال عن حسين القصار(1) قال: كنت أجلب الغنم في خلافة عمر بن عبد العزيز، فمررت يوماً براع وفي غنمه نحو من ثلاثين ذئباً حسبتها كلاباً، فقلت له: يا راعي ما ترجوه بهذه الكلاب كلها ؟ فقال: يا بني إنها ليست كلاباً إنما هي ذئاب. قلت: يا سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها، فقال: يا بني إذا صلح الرأس فليس على الجسد من بأس(2). ويبدو أن مثل هذه القصص من المبالغات وإلا في عهد النبوة وقيا م الدولة في المدينة وعهد الخلافة ولم نسمع بأن الذئاب كانت ترعى مع الغنم. وقد رئيت له منامات صالحة وتأسف عليه الخاصة والعامة، لاسيما العلماء والزهاد والعباد(3).
13 ـ ما قيل فيه من رثاء:
أ ـ كثير عزّة قال فيه:
عمّت صنائعه فعم هلاكه
... ... ... ... فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد
... ... ... ... ... في كل دار رنَة وزفير
يثني عليك لسانك من لم توله
... ... ... ... ... خيراً لأنك بالثناء جدير
ردَت صنائعه عليه حياته
... ... ... ... فكأنه من نشرها منشور(4)
ب ـ ... وقال جرير:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا
... ... ... ... يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به
... ... ... ... ... وقمت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة(5) ليست بطالعة
... ... ... ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا(6)
جـ ـ وقال محارب بن دثار:
لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه
... ... ... ... ... ... لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة عدل قد نعشت لهم ...
... ... ... ... كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي
... ... ... ... على العدول التي تغتلها الحفر
__________
(1) لعله جسر القصاب : اختلف فيه والأكثرون على تضعيفه .
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/670) .
(3) البداية والنهاية (12/718) .
(4) البداية والنهاية (12/718) .
(5) المصدر نفسه (12/719) .
(6) المصدر نفسه (12/719) .(4/215)
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً
... ... ... ... سقيا لها سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة
... ... ... ... تأتي رواحاً وتبياناً وتبتكر(1)
رحم الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وأعلى ذكره في المصلحين فهذه معالم من سيرته الإصلاحية التجديدية الراشدية التي سار بها على منهاج النبوة، وقد حفظ الله لنا هذه السيرة ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنا حواجز الزمن ولا أسوار القرون فلعلها تجد من يسير على نهجه من حكامنا وزعمائنا وقادتنا وما ذلك على الله بعزيز في جيلنا أو في غيره.
__________
(1) المصدر نفسه (12/719) .(4/216)