، وهنا تأكد للحسين صدق نوايا أهل الكوفة وأنه ليس عليهم إمام كما ذكروا من قبل(1)، فلا بد في هذه الحالة أن يفي لهم بما وعدهم به، حين كتب إلى أهل الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم، فإذا كتب إلي أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأته في كتبكم، أقدم عليكم إن شاء الله(2)، فلما وصل إلى الحسن بن علي كتاب مسلم بن عقيل والذي طلب منه القدوم إلى الكوفة وأن الأمر مهيأ لقدومه تجهز الحسين بن علي وعزم على المضي إلى الكوفى بأهله وخاصته(3).
2 ـ مواقف الصحابة والتابعين من خروج الحسين:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/272) .
(2) المصدر نفسه (6/274) .
(3) المصدر نفسه (6/305) .(2/208)
أ ـ محمد بن الحنفية: لما بلغ محمد بن الحنفية عزم أخيه الحسين على الخروج إلى الكوفة قدم عليه وقال: يا أخي أنت أحب الناس إلي، وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق أحق بها منك، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم أبعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدن الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك أني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً، وأباً، وأماً، أضيعها دماً، وأذلها أهلاً فقال الحسين: فإني ذاهب يا أخي، قال: فانزل مكة فإذا أطمأنت بك الدار فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد إلى بلد حتى تنتظر إلى ما يصير أمر الناس وتعرف عند ذلك الرأي فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً حين تستقبل الأمور استقبالاً، ولا تكون الأمور عليك أبداً أشكل منها حين تستدبرها استدباراً قال: يا أخي قد نصحت فأشفقت وأرجوا أن يكون رأيك سديداً(1) وجاء في رواية:.. فإن الحسين حين عزم على الخروج بعث إلى بني عبد المطلب في المدينة يدعوهم للخروج معه، فقدم عليه من خف منهم، وتبعهم محمد بن الحنفية فأدرك الحسين بمكة فأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل في نفسه على أخيه محمد وقال: ترغب بولدك عن موضع أصاب فيه؟ فقال محمد وما حاجتي أن تصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم(2).
__________
(1) أنساب الأشراف (4/15 ـ 16) .
(2) الطبقات (1/451) تحقيق السُّلمي .(2/209)
ب ـ عبد الله بن عباس رضي الله عنه: ولما بلغ خبر عزمه على الخروج إلى ابن عمه عبد الله بن عباس أتاه وقال: يا ابن عم أنه قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق، فبيّن لي ما أنت صانع؟ قال: قد أجمعت المسير في أحد يومي هذين إن شاء الله تعالى، فقال له ابن عباس: أخبرني إن كان عدوك بعد ما قتلوا أميرهم ونفوا عدوهم وضبطوا بلادهم فسر إليهم، وإن كان أميرهم حي وهو مقيم عليهم، قاهر لهم وعماله تجبي بلادهم فإنهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزوا عليك الناس ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد الناس عليك. فقال الحسين إني استخير الله وأنظر ما يكون. ولكن ابن عباس أدرك من كلام الحسين واستعداده أنه عازم على الخروج ولكنه يحاول إخفاء الأمر عنه لعلمه بعدم رضاه عن ذلك، لذا جاء ابن عباس إلى الحسين من الغد فقال: يا ابن عم إني أتصبر ولا اصبر، وإني أتخوف عليك في هذا الوجه الهلاك، أن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ثم أقدم عليهم، وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب. فقال الحسين: يا ابن عم! والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق، ولكني قد أزمعت المسير. فقال له: فإن كنت ولا بد سائراً فلا تسر بأولادك ونسائك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه، إلى أن قال: فوالله الذي لا إله إلا هو لو أعلم أنك إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علي وعليك الناس أطعتني واقمت لفعلت ذلك(1). وهكذا نجد أن محاولات ابن عباس لم تجد في إقناع الحسين على الرغم من أنه أظهر له ـ لما علم تصميمه على عدم رضاه بيزيد وضرورة العمل على تغييره ـ أنه لا يقف عند فكرة الحسين تماماً، ولكنه يوضح له عوامل فشل ما هو سائر لتحقيقه، ويطرح له
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/546) .(2/210)
البدائل التي ربما تكون أقرب لتحقيق ما يصبو إليه، وذلك بالانتظار حتى يقوم أهل العراق بالسيطرة التامة على إقليمهم ويحرروه من سلطان بني أمية وهو يدرك أنهم عاجزون عن ذلك فبالتالي هم عاجزون عن حماية الحسين أو أن يذهب إلى اليمن ويعمل بما أرشده إليه فإن عوامل النجاح فيه أكثر وعوامل الفشل فيه أقل من رحيله إلى العراق ولعل ابن عباس قد لا يريد للحسين لا هذا ولا ذاك ولكن أراد تأخير الحسين عن اتخاذ تلك الخطوة السريعة بخروجه إلى العراق والتي لا ينفع معها تدارك الأمر، أما لو اقتنع برأي ابن عباس من الانتظار حتى يتهيأ له الأمر في العراق، أو يعدل عنه إلى اليمن وهذا سيأخذ وقتلاً طويلاً لترتيب الأمور هناك، وبهذا أو ذاك فإنه يمكن أن يكون لعامل الوقت أثر في حل الوضع وإطفاء الفتنة(1) . ويفهم من كلام ابن عباس بأنه لا يخالف الحسين في خروجه على يزيد من الناحية الشرعية، ولكن كان يخالفه من الناحية الاستراتيجية فكان يرى ألا يخرج الحسين للعراق حتى يتأكد من قوة شيعته وأنصاره هناك، وأن الأمويين لم يعد لهم نفوذ، وإلا فإن اليمن بعيدة عن النفوذ الأموي وله فيها أنصار، وبها أماكن كثيرة للتخفي، حتى يتمكن من جمع القوى الكافية لمقاومة الأمويين(2).
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ475 .
(2) الفقهاء والخلفاء صـ25 .(2/211)
ت ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فقد نصح الحسين رضي الله عنه في أكثر من موقف، فحين بلغه خروج ابن الزبير والحسين إلى مكة رافضين بيعة يزيد لقيهما وقال: أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس وتنظران، فإن اجتمع عليه الناس لم تشذا، وإن افترق عليه كان الذي تريدان(1)، ولما قدم المدينة وبلغه خروج الحسين لأهل الكوفة لحقه ابن عمر على مسيرة ليلتين فقال: أين تريد؟ قال: العراق، ومعه طوامير وكتب، فقال: لا تأتهم قال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال: إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة، وإنكم بضعة منه، لا يليها أحد منكم أبداً، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فارجعوا فأبى، فاعتنقه ابن عمر، وقال: استودعك الله من قتيل(2). وكان ابن عمر يقول بعد ذلك: غلبنا الحسين بن علي بالخروج، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم ما كان ينبغي له ألا يتحرك ما عاش وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس، فإن الجماعة خير(3).
ج ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: اتهمته بعض الروايات الضعيفة أنه أحد المتسببين في إقناع الحسين بالخروج إلى الكوفة هو نفسه ثبت عنه بأنه قد أسدى النصائح للحسين، وحذره من مغبة مغادرة مكة والذهاب إلى الكوفة وقد نصح الحسين قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك، فقال له الحسين لإن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بي ـ يعني مكة(4)...
__________
(1) الطبقات الكبرى تحقيق السلمي (1/444) .
(2) سير أعلام النبلاء (3/292) .
(3) مختصر تاريخ دمشق (7/138) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (15/95) بسند حسن .(2/212)
... وقد نظر بعض الصحابة إلى العمل الذي سيقدم عليه الحسين بأنه في حقيقته خروج على الإمام صاحب البيعة، كما نظروا إلى خروج الحسين وما يحمله خروجه على أنه نذر شر وبلاء على الأمة مهما كانت النتائج لأي من الطرفين(1) منهم:
ح ـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : حيث قال: غلبني الحسين على الخروح وقد قلت له: اتق الله في نفسك والزم بيتك، ولا تخرج على إمامك(2).
خ ـ وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: كلمت حسيناً فقلت له اتق الله ولا تضرب الناس بعضهم ببعض فوالله ما حمدتم ما صنعتم فعصاني(3) ولم تتوقف المحاولات الهادفة بين الحسين وبين خروجه إلى الكوفة فكتب إليه ابن جعفر:
__________
(1) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ236 .
(2) تهذيب الكمال (6/461) ، الطبقات (1/445) تحقيق السلمي .
(3) الطبقات الكبرى (1/445) تحقيق السُّلمي .(2/213)
ر ـ عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: كتب إلى الحسين وأرسل كتابه مع ابنيه محمد وعون: أما بعد، فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإني مشفق عليك من الوجه التي توجهت له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك(1)، ولكن الحسين رفض الرجوع وهنا ظن عبد الله بن جعفر أن سبب خروج الحسين هو خوفه من الوالي عمرو بن سعيد بن العاص، فذهب إلى عمرو بن سعيد بن العاص وطلب منه أن يكتب كتاباً إلى الحسين يؤمنه فيه ويعده بالخير، وكان رد عمرو بن سعيد أن قال لعبد الله بن جعفر: اكتب ما شئت وائت به أختمه(2). فكتب ابن جعفر" بسم الله الرحمن الرحيم من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي، أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يبوقك، وأن يهديك لما يرشدك، بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، وإني أعيذك بالله من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر، ويحي بن سعيد، فأقبل إليّ معهما، فإن لك عندي الأمان والبر والصلة وحسن الجوار لك، والله بذلك شهيد وكفيل، ومراع ووكيل، والسلام عليك(3)، ولكن الحسين رضي الله عنه رفض هذا الرجاء أيضاً وواصل مسيره.
ز ـ أبو واقد الليثي رضي الله عنه: فقد روي عنه أنّه قال: بلغني خروج الحسين، فأدركته بملل، فناشدته الله ألا يخرج، فإنّه يخرج في غير وجه خروج، إنما يقتل نفسه، فقال: لا أرجع(4).
د ـ عمرة بنت عبد الرحمن: فقد كتبت إليه تعظّم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنّه إنّما يساق إلى مصرعه(5).
__________
(1) تاريخ الطبري (6/311) .
(2) المصدر نفسه (6/311) .
(3) المصدر نفسه (6/312) .
(4) مختصر تاريخ دمشق (7/139) .
(5) المصدر نفسه (7/140) .(2/214)
ذ ـ أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث: يا ابن عَمِّ إن الرحم تظأرُني(1) عليك وما أدري كيف أنا عندك في النصيحة لك؟ قال: يا أبا بكر ما أنت ممن يُستغشُّ ولا يُتَّهمُ، فقل. قال: قد رأيت ما صنع أهل العراق بأبيك وأخيك، وأنت تريد أن تسير إليهم وهم عبيد الدنيا، فيُقاتلك من قد وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره فأُذكِّرك الله في نفسك. فقال: جزاك الله يا ابن عمِّ خيراً، ومهما يقضي الله من أمر يكن. فقال أبو بكر: إنا لله عند الله نحتسب أبا عبد الله(2).
س ـ عبد الله بن مطيع فقد قال: إني فداك أبي وأمي! متعنا بنفسك، ولا تسر إلى العراق، فوالله لئن قتلك هؤلاء القوم ليتخذنا خولا وعبيداً(3).
ش ـ سعيد بن المسيب: فقد نقل عنه الذهبي أنه قال: لو أن الحسين لم يخرج لكان خيراً له(4).
ك ـ عمرو بن سعيد بن العاص: فقد كتب إليه يقول: إني أسأل الله أن يلهمك رشدك وأن يصرفك كمّا يرديك، بلغني أنك قد اعتزمت على لشخوص إلى العراق، فإني أعيذك بالله من الشّقاق(5).
و ـ الفرزدق: فقد لقيه بالصّفاح(6)، فسأله الحسين عمّا وراءه فقال: أنت أحب النّاس إلى النّاس، والقضاء في السماء، والسيوف مع بني أمية(7). وفي خبر آخر قال أنّه قال: قلت له: يخذلونك، لا تذهب إليهم فلم يطعني(8).
__________
(1) تظأرني : تعطفني عليك .
(2) البداية والنهاية (11/504) .
(3) مختصر تاريخ دمشق (7/139) .
(4) سير أعلام النبلاء (3/296) .
(5) تاريخ دمشق (14/209) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ212 .
(6) موضع بين حنين وأنصاب الحرم، على يسرة الدّاخل إلى مكة من مشاش .
(7) مختصر تاريخ دمشق (7/144) .
(8) تاريخ دمشق (14/214) .(2/215)
... هذه أقوال الصّحابة والتّابعين في موقفهم من خروج الحسين، وهذه فلسفتهم في هذه القضية، الهامّة، فهم لم يبايعوا يزيد لأنّهم يرونه أفضل من غيره من الصّحابة والتّابعين، ولكنهم فعلوا ذلك درءاً لمفسدة التّفرق والاختلاف بين المسلمين، ودليل ذلك ما رواه خليفة بن خياط وابن سعد، عن داود بن عبد الله الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن قال: دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم، حين استخلف يزيد بن معاوية، فقال: أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد، لا أفقه منها فقهاً، ولا أعظمها فيها شرفاً؟ قلنا. نعم. قال: وأنا أقول ذلك، ولكن ـ والله ـ لأن تجتمع أمة محمد أحب إليَّ من أن تفترق أرأيتم باباً لو دخل فيه أمة محمد وسعهم، أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه؟ قلنا: لا. قال: أرأيتم لو أن أمّة محمد قال كل رجل منهم: لا أهريق دم أخي، ولا آخذ ماله، أكان هذا يسعهم؟ قلنا: نعم. قال: فذلك ما أقول لكم(1)، ومن الملاحظ إجماع كل من نصح الحسين ـ حتى من لم ير بأساً برفضه البيعة ـ على أن لا يخرج للعراق ولا يثق في أهل الكوفة، فقد كتب إليه المسور بن مخرمة رضي الله عنه بأن لا يغتر بكتب أهل العراق، ونصحه بأن لا يبرح الحرم فإن كانت لهم حاجة فسيضربون إليه آباط الإبل حتى يوافوه فيخرج في قوة وعدة(2). ومما يلفت الانتباه ـ زيادة على إجماع الناصحين للحسين على خيانة أهل الكوفة ووجوب عدم الثقة بوعودهم ـ كذلك يلفت الانتباه إجماعهم في توقعهم لمقتل الحسين كما يبدو ذلك من أسفهم عليه وكلمات التوديع له. وما ذلك إلا دليل على معرفة أولئك الناصحين من العلماء بالأوضاع، ووعيهم لما سبق من أحداث جرت إبان الفتنة بين علي ومعاوية عرفوا من خلالها الدوافع والأهواء التي تدفع ببعض الأقوام للاستفادة من إثارة الإحن ودوام الفتن(3).
__________
(1) الطبقات (7/147) ، تاريخ خليفة صـ164 .
(2) مختصر تاريخ دمشق (7/140) .
(3) أثر العلم في الحياة السياسية صـ481 .(2/216)
رابعاً : موقف يزيد من أحداث الكوفة:
... لما تأكد ليزيد تصميم الحسين على الاستجابة لدعوة أهل الكوفة، كتب لإبن عباس لأنه شيخ بني هاشم في عصره وعالم المسلمين قائلاً، ونحسب أن رجالاً أتوه من المشرق فمنّوه الخلافة، فإنهم عندك منهم خبرة وتجربة، فإن كان فعل فقد قطع وشائج القرابة وأنت كبير أهل بيتك والمنظور إليه، فاكففه عن السعي في الفرقة(1) ثم كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مكة والمدينة من قريش:
... ... ... ... يا أيها الراكب الغادي لطيته
... ... ... ... ... ... ... على عُذَاقِرةِ في سيرها قحم
... ... ... ... أبلغ قريشاً على نأي المزار بها
... ... ... ... ... ... ... بيني وبين حسين الله والرحم
... إلى أن قال:
... ... ... ... يا قومنا لا تشبوا الحرب إذ خمدت
... ... ... ... ... ... ... وأمسكوا بجبال السلم واعتصموا
... ... ... ... لا تركبوا البغي إن البغي مصرعه
... ... ... ... ... ... ... وإن شارب كأس البغي يتخم
... ... ... ... فقد غرّت الحرب من كان قبلكم
... ... ... ... ... ... ... من القرون وقد بادت بها الأمم
... ... ... ... فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً
... ... ... ... ... ... ... قرب ذي بذخ زلت به القدم(2)
فكتب إليه ابن عباس: إني لأرجو أن لا يكون خروج الحسين لأمر تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كل ما يجمع الله به الألفة وتطفي بها الثائرة(3).
__________
(1) تهذيب الكمال (6/419) مواقف المعارضة صـ243 .
(2) البداية والنهاية (11/505) .
(3) سير أعلام النبلاء (3/304) مواقف المعارضة صـ344 .(2/217)
وفي تلك الأثناء كانت الأحداث تتسارع، وذلك بعدما أخذ الشيعة يختلفون على مسلم بن عقيل ويبايعونه وعندما أحس النعمان بن بشير الأنصاري والي الكوفة بخطورة الوضع قام فخطب في الناس وقال: اتقوا الله عباد الله ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء وتغصب الأموال وقال: إني لم أقتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي، لا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة والتهمة، ولكن إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل(1).
... وأشارت سياسة النعمان بن بشير رضي الله عنه مع أنصار الحسين حفيظة الناصحين للأمويين، وأحد الموالين لهم في الكوفة وهو عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي، حليف بني أمية، فقام إلى النعمان بن بشير وبين له أن طريقته هذه إنما هي طريقة المستضعفين وأنه يجب عليه أن ينهج سياسة البطش والقوة حيال المتربصين بأمن الكوفة، ولكن رد النعمان بن بشير رضي الله عنه كان واضحاً بأنه يراقب الله في سياسته(2)
__________
(1) تاريخ الطبري (6/277) .
(2) المصدر نفسه (6/277) .(2/218)
... ولم تعجب يزيد سياسة النعمان فعزله من ولاية الكوفة وعين بدله عبيد الله بن زياد وكتب إليه: إن شيعتي من أهل الكوفة كتبوا إليّ يخبروني أن ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة، حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام(1)، وغادر ابن زياد البصرة بعد أن اتخذ عدة إحتياطات خوفاً من حدوث إضطرابات وأناب عنه أخوه عثمان بن زياد على البصرة(2) ثم خرج من البصرة ومعه وجوه أهل البصرة أمثال مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(3). وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ودخلها متلثماً والناس قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينظرون قدومه، فظنوا حين قدم عبيد الله أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فلما أكثروا عليه صاح فيهم مسلم بن عمرو وقال: تأخروا هذا الأمير عبيد الله بن زياد فلما نزل في القصر نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج إليهم ثم خطبهم ووعد من أطاع منهم خيراً وتوعد من خالف وحاول الفتنة منهم شراً(4).
خامساً : عبيد الله بن زياد وخطواته للقضاء على مسلم بن عقيل وأنصاره:
1 ـ اختراق تنظيم مسلم بن عقيل:
__________
(1) المصدر نفسه (6/278) .
(2) تاريخ الطبري (6/279) .
(3) تاريخ الطبري (6/279) .
(4) تاريخ الطبري (6/280) .(2/219)
... حرص عبيد الله بن زياد على جمع المعلومات بواسطة جواسيسه على الفئات المعارضة واستطاع أن يخترق أتباع مسلم بن عقيل وقد كلّف أحد رجاله بهذه المهمة فأعطاه مبلغاً من المال وكان الرجل من أهل الشام يقال له معقلاً وكان مقدار المبلغ ثلاثة آلاف درهم وقال: خذ هذا المال، وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتّ له بغاية التأتي(1)، فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، ثم نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فجلس الرجل حتى إذا انفتل(2) من صلاته، فدنا منه وجلس، فقال: جعلت فداك إني رجل من أهل الشام مولى لذي الكلاع، وقد أنعم الله علي بحب أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وحب من أحبهم، ومعي هذه الثلاثة الآلاف درهم، أحب إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن علي، فهل تدلني عليه لأُوصل هذا المال إليه؟ ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحب من شيعته قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممن هو في المسجد قال: لأني رأيت عليك سيما(3) الخير فرجوت أن تكون ممن يتولى أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الرجل: ويحك قد وقعت عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك، واسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُرِرت بك وساءني ما كان من حسي قبلك فإني رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمة الله وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس فأعطاه من ذلك ما أراد، واستطاع الشامي في نهاية المطاف الوصول إلى مسلم بن عقيل، فكان يغدو إلى مسلم بن عقيل فلا يحجب(4) عنه، فيكون نهاره كله عنده فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيد الله بن زياد، فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وما فعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم بن عقيل في دار
__________
(1) التأتي : التهيّؤ والتسهل .
(2) انفتل من الصلاة : لوى وجهه أي ختم صلاته .
(3) سيما الخير : سمته وعلامته .
(4) حجب عنه : منع من رؤيته .(2/220)
هاني بن عروة(1). وهكذا استطاع ابن زياد أن يعرف أخبار مسلم بن عقيل وتحركاته(2).
2 ـ سجن هانيء بن عروة:
... كان محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة يدخلون على ابن زياد مُسَلّمين، فقال لهما: ما فعل هانيء بن عروة؟ فقالا أيها الأمير، إنه عليل(3) منذ أيام فقال ابن زياد: وكيف. بلغني أنه يجلس على باب داره عامّة نهاره، فما يمنعه من إتياننا وما يجب عليه في حق التسليم؟ قالا: سنعلمه ذلك، ونخبره باستبطائك إياه فخرجا من عنده، وأقبلا حتى دخل على هانيء بن عُروة، فأخبراه بما قال لهما ابن زياد، وما قالا له، ثم قالا له: اقسمنا عليك إلاّ قمت معنا إليه الساعة لَتُسلُ سخيمة(4) قلبه. فدعا ببغلته فركبها ومضى معهما، حتى إذا دنا من قصر الإمارة خبُثت(5) نفسه فقال لهما: إن قلبي قد أوجس(6) من هذا الرجل خيفة. قالا: ولم تحدث نفسك بالخوف وأنت بريء الساحة؟
... فمضى معهما حتى دخلوا على ابن زياد، فأنشأ ابن زياد يقول متمثلاً:
... ... ... ... أريد حياته ويريد قتلي
... ... ... ... ... ... ... عَذِيرَك من خَلِلِكَ من مراد
قال: هانيء وما ذاك أيها الأمير؟
__________
(1) الأخبار الطوال صـ218 تاريخ الطبري (6/284) .
(2) تاريخ الطبري (6/284) .
(3) عليل : مريض .
(4) سخيمة القلب : حقده الدفين .
(5) خبثت : صارت خبيثة ، أي رديئة ماكرة .
(6) أوجس خيفة : أحس بالخوف ، فزع .(2/221)
... قال ابن زياد: وما يكون أعظم من مجيئك بمسلم بن عقيل وإدخالك إياه منزلك، وجمعك له الرجال ليبايعوه؟ فقال هانيء: ما فعلت وما أعرف من هذا شيئاً فدعا ابن زياد بالشامي، وقال: يا غلام، ادع لي معقلاً. فدخل عليهم. فقال: ابن زياد لهانيء بن عروة: أتعرف هذا؟ فلما رآه علم أنه إنما كان عيناً عليهم. فقال هانيء: أصدُقُك والله أيها الأمير، وإني والله ما دعوت مسلم بن عقيل وما شعرت به، ثم قصّ عليه قصّته على وجهها. ثم قال: فأمّا الآن فأنا مخرجه من داري لينطلق حيث يشاء، وأعطيك عهد وثيقاً أن أرجع إليك. قال ابن زياد" لا والله لا تفارقني حتى تأتيني به. فقال هانيء: أو يجمل بي أن أسلم ضيفي وجاري للقتل والله لا أفعل ذلك أبداً. فاعترضه ابن زياد بالخيزرانة، فضرب وجهه، وهشم(1) أنفه،، وكسر حاجبه، وأمر به فأدخل بيتاً(2). فبلغ الخبر عمرو بن الحجاج الزبيدي أن هانئاً قد قتل، فأقبل في قبيلة مذجح، وأحاط بالقصر، ونادى بأنه لم يخلع الطاعة، وإنما أراد الاطمئنان إلى سلامة هانيء، فأمر ابن زياد القاضي شريح بأن يدخل على هانيء، وينظر إليه ويخبرهم أنه حي. ففعل(3). فقال لهم سيدهم عمروبن الحجّاج: أما إذا كان صاحبكم حياً فما يعجلكم الفتنة؟ انصرفوا فانصرف.
3 ـ استخدام ابن زياد للأشراف للقضاء على تمرد الكوفة:
__________
(1) هشم أنفه : حطّمه .
(2) الأخبار الطوال صـ219 ، تاريخ الطبري (6/288) .
(3) المصدر نفسه صـ219 .(2/222)
... لما بلغ مسلم بن عقيل خبر ضرب وجه هانيء بن عروة، أمر أن ينادي في أصحابه الذين بايعوه، واستخدم كلمة السر وهي: يا منصور أمت، فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا إليه وكان عدد الذين حصروا أربعة آلاف رجل(1)، فعقد مسلم لعبيد الله بن عمرو بن عزيز الكندي على ربع كنده وربيعة، وأمره أن يسير أمامه بالخيل، ثم عقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذجح وأسد وأمّره على الرجّالة، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على ربع تميم وهمدان، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة، ثم قدم نحو القصر، ولما بلغ ابن زياد إقباله تحرّز وتمنّع بالقصر(2)، وكان ابن زياد يملك قدراً كبيراً من الدهاء والمكر والخداع، حيث أنه بمجرد دخوله القصر جمع وجوه الكوفة واحتفظ بهم عنده حتى يكونوا وسيلة ضغط مهمة عنده ستثمر عن نتائج إيجابية جداً لصالح ابن زياد(3). وتقدم مسلم بهذه الجموع، صوب قصر الإمارة التي يتحصن بها ابن زياد، وهنا طلب ابن زياد من أشراف الناس وزعماء الكوفة الذين معه أن يعظوا الناس ويخذلوهم ويخوفونهم بقرب أهل الشام وصار هؤلاء الأمراء والزعماء يثبطون الناس، ويذكرونهم بالسلامة والأمن، وأنهم إن لم ينصرفوا سيحرمون من العطاء، وسيساقون إلى الثغور وسينالهم العقاب الشديد(4)، ولم يكن التثبيط مقصوراً على الأمراء فقط، بل إن النساء كان لهن دوراً كبيراً في إضعاف عزيمة المناصرين لمسلم، إضافة إلى الآباء وكبار السن فقد كان لهم نفس الدور. وكانت المرأة تأتي أبنها وأخاها وتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه ويقول غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر انصرف(5). وأخذت هذه الحرب النفسية التي جوبه بها المؤيدون لمسلم بن عقيل من التهويل والتخويف تعمل عملها بين صفوف الناس، فبدأوا ينصرفون عن مسلم بن
__________
(1) تاريخ الطبري (6/289) .
(2) تاريخ الطبري (6/291) .
(3) مواقف المعارضة صـ255 .
(4) تاريخ الطبري (6/293) .
(5) المصدر نفسه (6/293) .(2/223)
عقيل وأخذ العدد يتضاءل سريعاً حتى أنه لما قرب المساء لم يبقى مع مسلم بن عقيل إلا عدداً بسيطاً يتراوح بين الثلاثمائة والخمسمائة رجل(1)، وكان غالبية الذين بقوا مع مسلم بن عقيل من مذجح فأمر ابن زياد، عبيد الله بن كثير بن شهاب الحارثي أن يخرج فيمن أطاعه من مذجح ويسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم بالحرب وعقوبة السلطان(2)، ثم أمر ابن زياد محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كنده وحضرموت ويرفع راية الأمان لمن يأته من الناس وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبت بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وأبقى سائر وجوه الناس معه(3) وأمام هذه الإجراءات السريعة من ابن زياد، وأمام الشد النفسي الذي نازع غالبية من انضموا إلى مسلم بن عقيل أخذ هذا العدد يتضاءل حتى وصل إلى ستين رجلاً(4)، ثم حدثت معركة بين مسلم وأتباعه وبين ابن الأشعث، والقعقاع بن شور، وثبت بن ربعي عند الرحبة، ويبدو أن هذه المعركة لم تدم طويلاً عندما تنبه القعقاع بن شور إلى أن المقاتلين إنما يقاتلون لأجل النجاة، عند ذلك أمر بإفساح الطريق لهم، فهربوا نحو المسجد، ولما أمسى المساء تفرق الناس، وبقي مسلم بن عقيل وحيداً في طرقات الكوفة(5).
4 ـ القبض على مسلم بن عقيل وقتله:
__________
(1) المصدر نفسه (6/293) .
(2) المصدر نفسه (6/291) .
(3) تاريخ الطبري (6/291) .
(4) مواقف المعارضة صـ257 ، الطبقات (5/374) .
(5) تاريخ الطبري (6/293) .(2/224)
... أصبح مسلم بن عقيل وحيداً يتردد في طرق الكوفة، فأتى بيتاً فخرجت إليه امرأة، فقال: اسقني، فسقته، ثم دخلت، ومكثت ما شاء الله، ثم خرجت، فإذا به على الباب، فقالت: ياهذا، إن مجلسك مجلس ريبة، فقم، فقال: أنا مسلم بن عقيل، فهل عندك مأوىً؟ قالت: نعم فادخلته، وكان ابنها مولى لمحمد بن الأشعث، فانطلق إلى مولاه فأعلمه، فبعث عبيد الله الشُّرَط إلى مسلم، فخرج وسل سيفه، وقاتل فأعطاه ابن الأشعث أمانً فسلمّ نفسه(1)، وفي الطريق نحو ابن زياد بكى مسلم فقيل له: إن من يطلب مثل ما تطلب لا يبكي إذا نزل به مثل الذي نزل بك. قال: إني والله ما لنفسي أبكي ومالها من القتل أرثي وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلى الكوفة، أبكي حسيناً وآل الحسين. وأقبل مسلم على محمد بن الأشعث فقال: يا عبد الله، إني والله أراك ستعجز عن أماني، فهل عندك خير تستطيع أن تبعث رجلاً على لساني يبلغ حسيناً عني رسالة؟ فإني لا أراه إلا قد خرج إليكم اليوم أو غداً هو وأهل بيته، وإن ما تراه من جزعي لذلك، فتقول: إن ابن عقيل بعثني إليك وهو في أيدي القوم أسير لا يدري أيصبح أم يمسي حتى يقتل، وهو يقول لك: ارجع بأهلك ولا يغرنك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل، إن أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني وليس لكاذب رأي. فقال محمد بن الأشعث: والله لأفعلن ولأعلمن ابن زياد أني قد أمنتك ودعا ابن الأشعث إياس بن العباس الطائي، وقال له: اذهب فالق حسيناً فأبلغه هذا الكتاب، ثم أعطاه راحلة وتكفل له بالقيام بأهله وداره(2)، وأدخل محمد بن الأشعث مسلم بن عقيل على ابن زياد، وأخبره بما أعطاه من الأمان، فقال ابن زياد: ما بعثناك لتؤمنه ولم يقبل أمانه(3)، واستسقى مسلم وهو بباب القصر، فجاءه عمار بن عقبة
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/308) .
(2) البداية والنهاية (11/ 488) ، تاريخ الطبري (6/297) .
(3) تاريخ الطبري (6/298).(2/225)
بماء بارد، ولكنه لم يستطع أن يشرب لما كان يختلط به من دمه فتركه ودخل على بن زياد فقال له: إني قاتلك. قال: كذلك؟ قال: نعم. قال: فدعني أوصي إلى بعض قومي، قال: أوصي: فنظر مسلم في جلسائه وفيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال: عمر، إن بيني وبينك قرابة، ولي إليك حاجة، وهي سر، فقم معي إلى ناحية القصر حتى أقولها لك، فأبى أن يقوم معه حتى أذن له ابن زياد، فقام فتنحى قريباً من ابن زياد، فقال له مسلم: إن علي ديناً في الكوفة سبعمائة درهم، فأقضها عني، واستوهب جثتي من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين، فإني كنت قد كتبت إليه أن الناس معه، ولا أراه إلا مقبلاً, فقام عمر، فعرض على ابن زياد ما قال له: فأجاز ذلك كله، وقال: أما حسين فإنه لم يردنا ولا نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه ثم أمر ابن زياد بمسلم بن عقيل، فأصعد إلى أعلى القصر، وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلي على ملائكة الله ويقول: اللهمّ أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا، ثم ضرب عنقه رجل يقال له: بكير بن حمران ثم ألقى رأسه إلى أسفل القصر، وأتبع رأسه بجسده(1).
5 ـ قتل هانيء بن عروة:
__________
(1) البداية والنهاية (11/490) .(2/226)
... واتخذ ابن زياد إجراءً يدل على قسوته وجبروته وظلمه، فقد أمر بهانيء فأخرج إلى السوق وقتل وظل هانيء يصيح لقبيلته مذحج ولكن لم ينصره أحد، ثم صلب هانيء ومسلم في سوق أمام الناس(1)، ثم أمر بضرب أعناق اثنين من الذين كانوا يخططون لنصر مسلم بن عقيل وصلبهما في السوق أيضاً(2). وكان في وسع ابن زياد أن يرسل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة إلى الخليفة بدمشق، وربما يسجنون أو يعفى عنهم فيما بعد بدلاً من أراقة الدماء وإيجاد الإحن والعداوات بين المسلمين. وقد برهن ابن زياد على بطش الدولة وعسفها وأنها لا تبالي إلا بالحفاظ على سلطانها مهما كلفها ذلك من سفك الدماء ويبدو أن مسلماً ـ رحمه الله ـ لم يكن بالسياسي المحنك الذي ينظر للمستقبل بحذر، ويزن الأمور بميزان الوقائع السابقة ويقيس الأحداث القائمة على نظيراتها الماضية لهذا غرّه تكاثر المبايعين، وبكاؤهم بين يديه ووعودهم الموثقة بنصرة الحسين فأسرع وكتب إلى الحسين يستقدمه، ويحثه على سرعة الحضور فقد تمهدت له البيعة والحضور(3). فالعواطف وحدها لتكفي في قلب الأنظمة وإزالة الدول، فلا بد من القيادة الراشدة، والتنظيم المحكم، والتخطيط البعيد، وتوثيق الأفراد، والأعداد المعنوي والمادي معاً جنباً إلى جنب، ونستطيع أن نقول بأن ما اعتمد عليه مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة من حسابات كانت خاطئة وغير صحيحة، فقد ظن مسلم بن عقيل إن العاطفة المحركة لكثير من العامة هي السبيل الوحيد للنصر ولم يأخذ في الاعتبار تأييد زعماء الكوفة أو الاتصال بهم، ولم يحاول مسلم بن عقيل أن ينظم تلك الجموع، وفق اختصاصات معينة تسيطر عليها منظمة سرية تستطيع أن تتحرك في الخفاء وبدون قيود، كما أنه أخفق في توظيف الإمكانات التي توفرت له، حيث أن العاطفة المسيطرة على المجتمع الكوفي كفيلة بأن
__________
(1) المصدر نفسه (11/490) ، تاريخ الطبري (6/302) .
(2) تاريخ الطبري (6/302) .
(3) الأمويون بين الشرق والغرب (1/205) .(2/227)
تقلب الأمور لصالحه وذلك بعد إرادة الله، فيما لو استخدمت وأرشدت تلك العاطفة إرشاداً صحيحاً مميزاً، ونجد الطرف الآخر النصير وهو هانيء بن عروة والذي يعتبر من أبرز الناس الذين أيدوا مسلماً وناصروه اعتمد على قوة وكثرة قبيلته، وظن أنه بمنأى عن العقاب وذلك باعتباره زعيماً لمراد التي ذكر المؤرخون أنه كان يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا انضاف لهذه القبيلة أحلافها من كندة بلغ العدد ثلاثين ألف دارع، سوى الرجالة(1)، ولكن حسابات هانيء بن عروة كانت خاسرة، فالناس قد ضعفت بينهم الروابط القديمة التي تعتبر فيها القبيلة محور الارتكاز، وزعيم القبيلة هو القائد المهيمن الذي ينصاع لأوامره الجميع بدون تردد وكان لتقسيمات الأرباع في ولاية زياد بن أبيه أثر في هذا الضعف، كما أن نظام العطاء ربط مصالح القبائل بالسلطة الأموية، لقد كانت الحسابات التي ارتكز عليها هانيء والتي اعتمد فيها على القبيلة قد أثبتت خسارتها(2)، وممّا قيل من الشعر في مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة:
... ... ... ... فإن كنتِ لا تدرين ما الموت فانظري
... ... ... ... ... ... ... ... إلى هانيء في السُّوقِ وابن عقيل
... ... ... ... أصابهما أمر الإمام فأصبحا
... ... ... ... ... ... ... ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
... ... ... ... إلى بطل قد هَشَّم السيف وجهه
... ... ... ... ... ... ... ... وآخر يَهوِي من طمار(3) قتيل
... ... ... ... ترى جسداً قد غيَّر الموت لونه
... ... ... ... ... ... ... ... ونضح دمٍ قد سال كلَّ مَسيلٍ
... ... ... ... فإن أنتم لم تثأَروا بأخيكم
... ... ... ... ... ... ... ... فكونوا بغيا أُرضيت بقليل(4)
__________
(1) مروج الذهب (3/6) .
(2) مواقف المعارضة صـ259 إلى 261 .
(3) البداية والنهاية (11/490 ، 491) . المكان المرتفع .
(4) المصدر نفسه (11/491) .(2/228)
سادساً : وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل للحسين ، وملاقاته طلائع جيش بن زياد :
... خرج الحسين رضي الله عنه من مكة يوم التروية الموافق لثمان من ذي الحجة سنة ستين، أدرك والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص خطورة الموقف فأرسل وفداً إلى الحسين وعلى رأسهم أخوه يحي بن سعيد بن العاص فحاولوا أن يثنوه عن عزمه ولكنه رفض فنادوه: يا حسين، ألا تتقي الله تخرج عن جماعة المسلمين وتفرق بين هذه الأمة، فردَّ الحسين قول الله تعالى: ((لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ((يونس ، الآية : 41). فخرج الحسين متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة(1). وكتب مروان بن الحكم إلى ابن زياد: أما بعد فإن الحسين بن علي قد توجه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتالله ما أحد يسلمه الله أحب إلينا من الحسين، وإياك أن تهيج على نفسك ما لا يسده شيء ولا ينساه العامة، ولا يدع ذكره، والسلام عليك(2)، وكتب إليه عمرو بن سعيد بن العاص ينهاه عن التعرض للحسين ويأمره بأن يكون حذراً في تعامله مع الحسين: قائلاً له: أما بعد فقد توجه إليك الحسين وفي مثلها تعتق أو تعود عبداً تسترق كما يسترق العبيد(3). وفي الطريق إلى الكوفة قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور بذات عرق(4). فسأله الحسين بن علي عن تصوره لما يقوم به أهل الكوفة حياله، ثم أراد أن يعطي الفرزدق إيضاحاً أكثر وقال: هذه كتبهم معي، فرد عليه الفرزدق: يخذلونك فلا تذهب فإنك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك(5). وعندما علم يزيد بن معاوية بخروج الحسين
__________
(1) تاريخ الطبري (6/309) ، مواقف المعارضة صـ262 .
(2) الطبقات (5/167) ، تهذيب الكمال (6/422) مواقف المعارضة صـ263 .
(3) تهذيب الكمال (6/422) مواقف المعارضة صـ263 .
(4) ذات عرق على مرحلتين من مكة .
(5) البداية والنهاية (11/510) .(2/229)
من مكة واتجاهه للكوفة، كتب إلى ابن زياد يحذره ويقول: بلغني أن حسيناً قد سار إلى الكوفة وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلاد وابتليت به من بين العمال وعندها تعتق أو تعود عبداً كما تعتبد العبيد(1).
1 ـ ابن زياد يتخذ التدابير الأمنية:
... اتخذ ابن زياد بعض التدابير لكي يحول بين أهل الكوفة وبين الحسين، ويحكم سيطرته على الكوفة، فقام بجمع المقاتلة وفرق عليهم العطاء حتى يضمن ولاءهم(2). ثم بعث الحصين بن تميم الطهوي صاحب شرطته حتى نزل بالقادسية، وقام بتنظيم الخيل ما بين القادسية إلى خفضان(3)، وما بين القادسية إلى القطقطان(4)، وإلى لعلع(5). ثم أصدر أوامره إلى الحسين بن تيم بأن يقبض على كل من ينكره(6)، ثم أمر ابن زياد بأخذ كل من يجتاز بين واقصة(7) إلى طريق الشام ، إلى طريق البصرة فلا يترك أحد يلج ولا يخرج(8)، وأراد ابن زياد من الإجراء الأخير قطع الاتصال بين أهل الكوفة وبين الحسين بن علي ومضى الحسين بن علي في طريقه إلى الكوفة ولم يكن يعلم بتلك التغيرات التي حدثت في الكوفة بعد خروجه من مكة ولما بلغ الحاجز من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي إلى الكوفة وكتب معه إليهم برسالة يخبرهم فيها بقدومه(9) ولكن الحصين بن تميم قبض على قيس بن مسهر مبعوث الحسين حين وصوله إلى القادسية(10)
__________
(1) مجمع الزوائد (9/139) ، المعجم الكبير (3/115) .
(2) الطبقات (5/376) مواقف المعارضة صـ264 .
(3) خفضان : لعلها خفان : موضع قرب الكوفة يسلكه الحاج أحياناً .
(4) القطقطان : موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالقرب من القادسية .
(5) لعلع : منزل بين البصرة والكوفة بينها وبين البصرة عشرون ميلاً .
(6) أنساب الأشراف (3/166) الطبقات (5/376) .
(7) واقصة : منزل بطريق مكة لبن شهاب من طيء وهو دون زبالة بمرحلتين .
(8) أنساب الأشراف (3/573) مواقف المعارضة صـ265 .
(9) البداية والنهاية (11/512) .
(10) تاريخ الطبري نقلاً عن مواقف المعارضة صـ266 .(2/230)
. ثم بعث به إلى ابن زياد فقتله مباشرة(1). ثم بعث الحسين مبعوثاً إلى مسلم فوقع في يد الحصين بن تميم وبعث به إلى ابن زياد فقتله(2)، وكانت لتلك الإجراءات الصارمة التي اتخذها ابن زياد أثر كبير على نفوس أتباع الحسين، فهم يرون أن من كان له علاقة بالحسين فإن مصيره القتل وعلى أبشع صوره، فأصبح من يفكر في نصرة الحسين فإن عليه أن يتصور نهايته على ذلك النحو المؤلم(3)، وكان الحسين رضي الله عنه يحس أن الأمور تسير سيراً غير طبيعي في الكوفة وخاصة عندما أخبره الأعراب أن أحداً لا يلج ولا يخرج من الكوفة مطلقاً(4). واستمر التحذير من بعض رجال القبائل العربية الذين مرّ بهم، وبينوا له ذلك الخطر الذي يقدم عليه، ولكن الحسين كان يدلل على نجاح مهمته بالإشارة إلى ذلك العدد الهائل من أسماء المبايعين التي كانت بحوزته(5)، ولما بلغ الحسين زبالة(6)، وقيل شراف(7) جاءه خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن بقطر، إضافة إلى تخاذل أهل الكوفة عن نصرته(8). وكان لهذا الخبر المفجع المؤلم وقعه الشديد على الحسين رضي الله عنه، فهؤلاء أقرب الناس إليه قد قتلوا والشيعة في الكوفة تخاذلوا في نصرته(9).
2 ـ الحسين يعطي الأذن لأصحابه بالإنصراف:
__________
(1) الطبقات (5/376) أنساب الأشراف (3/167) .
(2) أنساب الأشراف (3/168) مواقف المعارضة صـ266 .
(3) مواقف المعارضة صـ266 .
(4) أنساب الأشراف (3/168) مواقف المعارضة صـ266 .
(5) الطبقات (5/371) .
(6) زبالة : منزل معروف بطريق مكة من الكوفة .
(7) شراف : بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الإحساء .
(8) تاريخ الطبري (6/322) .
(9) مواقف المعارضة صـ267 .(2/231)
... لما بلغ الحسين مقتل ابن عمه مسلم بن عقيل وتخاذل الناس عنه أعلم الحسين من معه بذلك، وقال من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يميناً وشمالاً(1)، وقال له بعض من ثبتوا معه: ننشدك الله إلا ما رجعت من مكانك، فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك. فوثب بنو عقيل إخوة مسلم ـ وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق كما ذاق مسلم(2).
3 ـ ملاقاة الحر بن يزيد التميمي ومعه طلائع جيش الكوفة:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/323) .
(2) تاريخ الطبري (6/322) .(2/232)
... انصرف الناس عن الحسين ـ رضي الله عنه ـ فلم يبق معه إلا الذين خرجوا معه من مكة، واستمر في سيره حتى بلغ شراف وهناك أمر فتيانه أن يستقوا ويكثروا، ثم سار حتى إذا كان منتصف النهار كبَّر رجل من أصحابه، فقال الحسين: الله أكبر ما كبّرت؟ قال الرجل رأيت النخل، فقال رجلان، إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط فقال الحسين: فما تريانه رأى؟ قالا: نراه رأى هوادي الخيل فقال الرجل وأنا والله أرى ذلك(1)... وبالفعل كانت طلائع خيل ابن زياد عليها الحر بن يزيد وكان عددها ألف فارس وقد أدرك الحر بن يزيد الحسين ومن معه قريباً من شراف. ولما طلب منه الحسين الرجوع منعه وذكر له أنه مأمور بملازمته حتى الكوفة وقام الحسين وأخرج خرجين مملوءة بالكتب التي تطلب منه القدوم إلى الكوفة، فأنكر الحر والذين معه أي علاقة لهم بهذه الكتب(2)، وهنا رفض الحسين الذهاب مع الحر إلى الكوفة وأصر على ذلك.، فاقترح عليه الحر أن يسلك طريقاً يجنبه الكوفة ولا يرجعه إلى المدينة، وذلك من أجل أن يكتب الحر إلى ابن زياد بأمره، وأن يكتب الحسين إلى يزيد بأمره(3). وبالفعل تياسر الحسين عن طريق العذيب والقادسية واتجه شمالاً على طريق الشام(4). وأخذ الحر يساير الحسين وينصحه بعدم المقاتلة ويذكّره بالله، وبيّن له أنه إذا قاتل فسوف يقتل(5)، وكان الحسين يصلي بالفريقين إذا حضرت الصلاة(6).
4 ـ ملاقاة عمر بن سعد بن أبي وقاص والمفاوضات:
__________
(1) المصدر نفسه (6/325) .
(2) المصدر نفسه (6/327) .
(3) المصدر نفسه (6/328) .
(4) المصدر نفسه (6/328) .
(5) المصدر نفسه (6/329) .
(6) المصدر نفسه (6/326)(2/233)
... ولما وصل الحسين إلى كربلاء أدركته خيل عمر بن سعد ومعه شمر بن ذي الجوشن، والحصين بن تميم(1)، وكان هذا الجيش الذي يقوده عمر بن سعد مكوناً من أربعة آلاف مقاتل وكان وجهة هذا الجيش في الأصل إلى الري لجهاد الديلم، فلما طلب منه ابن زياد أن يذهب لمقاتلة الحسين رفض عمر بن سعد في البداية هذا الطلب، ولكن ابن زياد هدده إن لم ينفذ أمره بالعزل وهدم داره وقتله، وأمام هذا الخيار رضي بالموافقة(2).
... ولما وصل الحسين كربلاء أحاطت به الخيل، ويطلق على المنطقة كلها اسم الطف(3). وبدأ الحسين بن علي بالتفاوض مع عمر بن سعد، وبيّن الحسين أنه لم يأت إلى الكوفة إلا بطلب من أهلها. وأبرز لعمر بن سعد الدليل على ذلك، واشار إلى حقيبتين كبيرتين تضمن أسماء المبايعين والداعين للحسين، وكتب عمر بن سعد لابن زياد بما سمعه من الحسين وقال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإني حيث نزلت بالحسين بعثت إليه رسولي، فسألته عما اقدمه وماذا يطلب، فقال: كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم، فسألوني القدوم ففعلت، فأما إذا كرهوني، فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم. فلما قريء على ابن زياد تمثل قول الشاعر:
... ... ... ... ... الآن إذا علقت مخالبنا به
... ... ... ... ... ... ... ... يرجو النجاة ولاة حين مناص
__________
(1) أنساب الأشراف (3/166) .
(2) تاريخ الطبري (6/335) .
(3) الطف : ما اشرف من أرض العرب على ريف العراق وهي بناحية الكوفة .(2/234)
ثم كتب ابن زياد لعمر بن سعد: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل ذلك رأينا رأينا والسلام. ولما اطلع عمر بن سعد على جواب بن زياد ساءه ما يحمله الجواب من تعنت وصلف، وعرف أن ابن زياد لا يريد السلامة(1). رفض الحسين هذا العرض، ثم لما رأى جهامة الموقف وخطورته طلب من عمر بن سعد مقابلته(2)، وعرض على عمر بن سعد عرضاً آخر يتمثل في إجابته واحدة من ثلاث نقاط(3).
أ ـ أن يتركوه فيرجع من حيث أتى.
ب ـ وإما أن يتركوه ليذهب إلى الشام فيضع يده في يد يزيد بن معاوية.
__________
(1) تاريخ الطبري (6/337) .
(2) المحن لأبي العرب صـ154 .
(3) المصدر نفسه صـ154 .(2/235)
جـ ـ وإما أن يسيّروه إلى أي ثغر من ثغور المسلمين فيكون واحداً منهم له ما لهم وعليه ما عليهم(1). وقد أكد الحسين رضي الله عنه موافقته للذهاب إلى يزيد(2). وكتب عمر بن سعد إلى ابن زياد بكتاب أظهر فيه أن هذا الموقف المتأزم قد حُلّ، وأن السلام قد أوشك، وما على ابن زياد إلا الموافقة(3). وبالفعل فقد أوشك ابن زياد أن يوافق ويرسله إلى يزيد، لولا تدخل شمر بن ذي الجوشن الذي كان جالساً في المجلس حين وصول الرسالة فقد اعترض على رأي ابن زياد في أن يرسله إلى يزيد، وبيّن لابن زياد أن الأمر الصائب هو أن يطلب من الحسين أن ينزل على حكمه ـ أي ابن زياد ـ حتى يكون هو صاحب الأمر المتحكم فيه(4). فلما وصل الخبر إلى الحسين رضي الله عنه رفض الطلب وقال: لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبداً(5)، وقال لأصحابه الذين معه أنتم في حل من طاعتي، ولكنهم أصرّوا على مصاحبته والمقاتلة معه حتى الشهادة(6)، واتخذ ابن زياد إجراءً احترازياً حين خرج إلى النخيلة(7)، واستعمل على الكوفة عمرو بن حريث، وضبط الجسر، ولم يترك أحداً يجوزه، وخاصة أنه علم أن بعض الأشخاص من الكوفة بدأوا يتسللون من الكوفة إلى الحسين(8).
سابعاً : المعركة الفاصلة استشهاد الحسين رضي الله عنه ومن معه:
__________
(1) المصدر نفسه .
(2) أنساب الأشراف (3/173 ، 224) بإسناد صحيح وتوبع عند الطبري بإسناد صحيح .
(3) تاريخ الطبري (6/340) .
(4) المصدر (6/340 ، 341) .
(5) حقبة من التاريخ صـ132 ، تاريخ الطبري (6/342) .
(6) تاريخ الطبري (6/346) .
(7) النخيلة : تصغير نخلة ـ موضع قرب الكوفة .
(8) الطبقات (5/378) .(2/236)
في صباح يوم الجمعة عام 61هـ نظم الحسين رضي الله عنه أصحابه وعزم على القتال وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في ميمنته وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي، وجعل البيوت وراء ظهورهم، وأمر الحسن بحطب وقصب فجعله من وراء البيوت، وأشعل فيه النار مخافة أن يأتوهم من خلفهم(1). وأما عمر بن سعد فقد نظم جيشه، وجعل على الميمنة عمرو بن الحجاج الزبيدي ـ بدلاً من الحر بن يزيد الذي انضم إلى الحسين. وجعل على الميسرة شمر بن ذي الجوشن ـ وعلى الخيل عزره بن قيس الأحمسي وعلى الرجال شبت بن ربعي الرياحي، وأعطى الراية ذويداً مولاه(2). وبدأت المعركة سريعة وكانت مبارزة في بداية الأمر، وجوبه جيش عمر بن سعد بمقاومة شديدة من قبل أصحاب الحسين، حيث أن مقاتلتهم اتسمت بالفدائية فلم يعد لهم أمل في الحياة(3)، وكان الحسين رضي الله عنه في البداية لم يشترك في القتال، وكان أصحابه يدافعون عنه ولما قتل أصحابه لم يجرؤ أحد على قتله، وكان جيش عمر بن سعد يتدافعون ويخشى كل فرد أن يبوء بقتله وتمنوا أن يستسلم، ولكن الحسين رضي الله عنه لم يبد شيئاً من الليونة، بل كان رضي الله عنه يقاتلهم بشجاعة نادرة، عندئذ خشى شمر بن ذي الجوشن من انفلات زمام الأمور فصاح بالجند وأمرهم بقتله، فحملوا عليه، وضربه زرعة بن شريك التميمي ثم طعنه سنان بن أنس النخعي واحتز رأسه(4)، ويقال أن الذي قتله عمرو بن بطار التغلبي، وزيد بن رقاده الحيني(5)، ويقال أن المتولي لإجهاز عليه شمر بن ذي الجوشن الضبي، وحمل رأسه إلى ابن زياد خولي بن يزيد الأصبحي(6)، وكان قتله رضي الله عنه في محرم في العاشر منه سنة إحدى
__________
(1) تاريخ الطبري (6/349) .
(2) تاريخ الطبري (6/249) .
(3) المصدر نفسه (6/350) .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن مواقف المعارضة صـ276 .
(5) المصدر نفسه نقلاً عن مواقف المعارضة صـ276 .
(6) تاريخ الطبري (385) .(2/237)
وستين(1). وقتل مع الحسين رضي الله عنه اثنان وسبعون رجلاً، وقتل من أصحاب عمر ثمان وثمانيون رجلاً(2)، وبعد إنتهاء المعركة أمر عمر بن سعد بأن لا يدخل أحد على نساء الحسين وصبيانه، وأن لا يتعرض لهم أحد بسوء(3)، وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونساءه ومن كان معه الصبيان إلى ابن زياد(4).
__________
(1) تاريخ الطبري (325) .
(2) الطبقات (5/386) إسناد جمعي تاريخ الطبري (6/385) .
(3) الطبقات (5/385) مواقف المعارضة صـ277 .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن مواقف المعارضة صـ276 .(2/238)
وكان الذين قتلوا مع الحسين رضي الله عنه من آل أبي طالب، فمن أولاد علي بن أبي طالب الحسين نفسه، وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان، ومن أولاد الحسين: علي الأكبر غير عليّ زين العابدين لأنه كان عنده علي الأصغر وعلي الأكبر وعبد الله. ومن أبناء ابناء الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر. ومن أولاد عقيل قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم بن عقيل قتل بالكوفة وعبد الله بن مسلم. ومن أولاد عبد الله بن جعفر: قتل عون ومحمد(1)، ثمانية عشر رجلاً كلهم من بيت رسول الله قد قتلوا في هذه المعركة غير المتكافئة، والعجيب في هذه أن ممن قتل بين يدي الحسين بن علي رضي الله عنهما أبو بكر بن علي وعثمان بن علي وأبو بكر بن الحسن ولا تجد لهم ذكراً عندما تسمع أشرطة الشيعة وتقرأ كتبهم التي أُلفت في مقتل الحسين حتى لا يقال إن علي بن أبي طالب سمي أولاده بأسماء أبي بكر وعمر وعثمان، أو أن الحسن سمي على اسم أبي بكر وهذا أمر عجيب جداً منهم(2). وعن أنس قال: ولما أُتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين جعل ينكث بالقضيب ثناياه يقول: لقد كان ـ أحسبه جميلاً. فقلت والله لأَسوءنَّك إني رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثم(3) حيث يقع قضيبك. قال: فانقبض(4). وفي رواية البخاري عن أنس قال: أتى عبيد الله بن زياد برأس الحسين فجعله في طست، فجعل ينكث عليه وقال في حسنه شيئاً فقال أنس: إنه كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مخضوباً بالوسمة(5).ولما وصل نساء الحسين وصبيانه صنع بهما ابن زياد أن أمر لهم بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهم الرزق، وأمر لهن بالكسوة والنفقة(6). وتذكر بعض الروايات التي لها ميول شيعية أن ابن زياد أمر بقتل كل من
__________
(1) تاريخ خليفة بن خياط صـ234 .
(2) قبة من التاريخ صـ135 ، 136 .
(3) مسند أبي يعلي رقم 3981 يلثم : يقبل .
(4) مسند أبي يعلي رقم 3981 .
(5) البخاري رقم 3748 .
(6) أنساب الأشراف (3/226) إسناد صحيح .(2/239)
أنبت، ولعل مما يظهر كذب هذه الروايات حينما تذكر أن علي بن الحسين كشفوا عنه فوجوده قد أنبت، فأمر ابن زياد بقتله ولكن شفاعة أخته زينب وتعلقها به حالت دون قتله(1)، وليس صحيحاً كذلك أن ابن زياد قد أساء معاملة نساء الحسين بعد قتله، أو في ترحيله لهن إلى الشام، فالروايات التاريخية تخبرنا أن أحسن شيء صنعه ابن زياد أنه أمر لهن بمنزل في مكان معتزل، وأجرى عليهن رزقاً، وأمر لهن بنفقة وكسوة(2)، ويقول ابن تيمية في رده على بعض كذابي الشيعة: وأما ما ذكره من سبي نسائه والدوران بهن على البلدان وحملهن على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب، وباطل وماسبى المسلمون ـ ولله الحمد ـ هاشمية قط، ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم هاشمية قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً(3). بل المرجح أن ابن زياد بعد أن ذهبت عنه نشوة النصر، أحس فداحة خطئه وكان ذلك الشعور هو المسيطر على بعض أفراد أسرته القريبين منه، فقد كانت أمه تقول له: ويلك ماذا صنعت، أو ماذا ركبت(4). وكان أخوه عثمان بن زياد يقول: لوددت والله أنه ليس من بني زياد رجل إلا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة، وأن حسيناً لم يقتل: فلا ينكر عليه عبيد الله قوله(5).
ثامناً : مواقف رائعة بجانب الحسين رضي الله عنه:
__________
(1) أبو العرب صـ157 ، تاريخ الطبري (6/388) .
(2) الدولة الأموية المفترى عليها صـ322 .
(3) منهاج السنة (2/249) .
(4) تاريخ الطبري ، نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ322 .
(5) الكامل في التاريخ (2/582) .(2/240)
كانت هناك مواقف رائعة هزت مشاعرنا وقد سطر التاريخ هذه المواقف لأصحابها لكي يتبين للناس أن في كل زمان شخصيات تقف إلى جوار الرجال تقديراً لمقامهم، ورعاية لحرمتهم، وإظهاراً للحق في مقارنة الرجال إذا واجه بعضهم بعضاً، فهم يقدرون الرجال لمكانتهم الاجتماعية ويفضلونهم على غيرهم، لما يتصفون به من العلم والشجاعة والتقوى ولو كان غيرهم هم الحكام والأمراء، فلا الخوف من الحاكم ينسيهم قدر الرجال، ولا ظلم الحكام ينحرف بهم إلى النفاق والمجاملة، ولا المناصب التي يشغلونها تلهيهم عما يجب أن يكونوا عليه من الصراحة والشجاعة الأدبية(1) ومن هذه المواقف:
1 ـ موقف الوليد بن عتبة بن أبي سفيان رحمه الله:
... فقد امتنع عن استخدام الشدة والقسوة مع الحسين والزامه بالقوة أو قتله وقال:... والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأني قتلت حسيناً سبحان الله، أقتل حسيناً أن قال: لا أبايع والله إني لأظن أمراً يحاسب بدم حسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة(2). وهكذا يقف الوليد هذا الموقف الرائع، وهو أمير المدينة يومئذ، وهو يعلم تماماً أن ذلك الموقف سيؤدي لا محالة إلى عزله عن إمارة المدينة، بل قد يزيد على ذلك، فيؤدي إلى قتله وهلاكه، وهو مع هذا يفضل هلاك الدنيا وزوال الملك والسلطان، على أن يلقى الله بدم الحسين(3) ـ رضي الله عنه ـ:
__________
(1) الأمويون بين الشرق والغرب (1/249) .
(2) تاريخ الطبري (6/259) .
(3) الأمويون بين الشرق والغرب (1/249) .(2/241)
2 ـ موقف النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ : وكان أمير الكوفة فإنه بلغه خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ ووصول مسلم بن عقيل إلى الكوفة يأخذ البيعة للحسين، قام فخطب في الناس وحذرهم الخروج على الإمام وأرهبهم من السعي في الفتنة، وذكرهم بما يجره على العامة والخاصة من الخراب والدمار ومع ذلك كان ليناً مع الناس، وأخبرهم أنه لن يأخذ أحداً بظنه، ولن يقاتل أحداً لم يقاتله، ولكن شدد في نهاية الخطبة، وقال للناس: ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر ومع هذا فقد عاب عليه محبو الأمويين هذا الموقف ووسموه بالضعف، وقالوا: إن هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين فقال: رضي الله عنه: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله، أحب إلي من أن أكون من الأعزِّين في معصية الله(1).
... إن رضا الله ـ تبارك وتعالى ـ غاية يضحي المسلم في سبيلها بكل غاية، ويبذل في سبيل الحصول عليها كل غالٍ ونفيس فرضوان الله هو النعمة العظمى التي سيتجلى الله بها على عباده المؤمنين في الجنة(2)، يقول الحق ـ عز وجل: ((وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة ، الآية : 72) .
__________
(1) تاريخ الطبري (6/277) .
(2) الأمويون بين الشرق والغرب (1/250) .(2/242)
3 ـ موقف الحر بن يزيد رحمه الله: وهو أول من لقي الحسين في جيش الكوفة، وهو الذي حال بينه وبين الرجوع إلى المكان الذي أتى منه، ولكنه مع ذلك كان نبيلاً في معاملته للحسين ـ رضي الله عنه ـ فقد قال له: أنا لم أؤمر بقتالك، ولكني أمرت أن أخرج بك إلى الكوفة إن وجدتك، ولكني أقول لك: اختر مكاناً لا يؤدي بك إلى الكوفة ولا يعود بك إلى المدينة، ثم أكتب بعد ذلك إلى يزيد بن معاوية أو إلى ابن زياد إن شئت ولم يكد يصل الجيش وعلى رأسه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وتواجه كلا الفريقين، وتأكد الُحرّ أن الحرب دائرة بينهما لا محالة، قال الحر لعمر بن سعد: أصلحك الله! أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر؟ إي والله قتالاً أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي عندئذ ضرب الحر فرسه، وانطلق به نحو الحسين، وانضم إلى جماعته، ثم قال: يا أهل الكوفة، لأمكم الهَبل، أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير، وقد صرعهم العطش؟ بئس ما خلفتم محمداً في ذريته، لأسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه واعتذر الحر عن موقفه الأول من الحسين وقبل الحسين عذره، فلما لامه بعض أصحابه عن الذهاب إلى الحسين قال: والله إني لأخير نفسي بين الجنة والنار، ووالله لا أختار على الجنة غيرها ولو قطعت وحرّقت(1)
__________
(1) تاريخ الطبري (6/355 ، 356) .(2/243)
... إن الحر بن يزيد ـ رحمه الله ـ غير موقفه من الحسين ـ رضي الله عنه ـ بعد أن جنح الحسين إلى السلم، ورأى أن موقفه ضده ليس فيه إنصاف ولا عدل، إذ كيف يقاتل رجلاً يدعو إلى السلم، ويطلبه، ويمد يده إلى عدوه ليصالحه، إن الرجولة تقتضي أن يكون الموقف مع هذا المسالم موقف العون وشد الأزر، وإن العقل يحكم بأن الحق مع من يطلب السلم وينشده والحر يعلم أن الوقوف مع حسين والميل إليه ليس له معنى إلا الموت، ولكنه اختار الموت الذي يوصل إلى الجنة(1)، ومما قيل في الحر بن يزيد التميمي من شعر ما قاله جعفر بن عفان الطائي:
... ... ... ... ولم يك فيهم رجل رشيد
... ... ... ... ... ... ... سوى الحر التميمي الرشيد
... ... ... ... فواحزناه إن بني عليّ
... ... ... ... ... ... ... وفاطم قد أبيدوا بالحديد(2)
4 ـ موقف النّوار بنت مالك الحضرمية: وهي امرأة خوليّ بن يزيد الذي بعثه عمر بن سعد برأس الحسين إلى عبيد الله بن زياد، فلما بلغ خولي الكوفة قصد القصر، فوجد بابه مغلقاً، فتوجه بالرأس الشريف إلى بيته، فوضعه هناك تحت إجاّنة ـ والإجانة إناء تغسل فيه الثياب ـ ثم دخل على زوجته، وآوى إلى فراشه فقالت له زوجته: ما الخبر؟ عندك؟
__________
(1) الأمويون للوكيل (1/252) .
(2) كتاب المحن صـ157 .(2/244)
قال: جئتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين معك في الدار، فقالت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضة، وجئت برأس ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا والله لا يجمع رأسي ورأسك بيت(1) أبداً ، هذه امرأة انتظرت زوجها طويلاً، ولكن زوجها جاءها بما عكر عليها صفوها، وكدر عليها حياتها، وأفسد عليها انتظارها الطويل، لقد كانت ترجو أن يعود إليها زوجها بأخبار سارة تشرح صدرها، وتملأ عليها نفسها سروراً نعم إن عودة زوجها إليها سالماً هي أحسن خبر يحمله لها، ولكنه لم يعد إليها خالي الوفاض من الذهب والفضة اللذين يعود بهما المحاربون عادة فقط، ولو كان الأمر كذلك لسُرّت بعودته، وسلامته، ولكنه حمل إليها رأس الحسين ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إنها يبلغها الخبر بفرحة تدل على رضاه وسروره، أفتفرح هي بذلك؟ أنه لو جاءها بالخبر دون أن يكون مصحوباً بالرأس كان ذلك كفيلاً بزيادة حزنها وأسفها، فكيف وهو يحدثها بالخبر مقروناً برأس الحسين ـ رضي الله عنه ـ إن كل مؤمن يحزنه الخبر، ويهدّ نفسه سماعه، لهذا غادرت النوار فراش زوجها، وأقسمت ألا تجتمع معه في بيت أبداً(2).
تاسعاً : موقف يزيد من قتل الحسين ومن أبناء الحسين وذريته:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/385) .
(2) الأمويون بين الشرق والغرب (1/253) .(2/245)
... كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى وقال: كنت أرضى من طاعتكم ـ أي أهل العراق ـ بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق لعن الله ابن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين(1)، وفي رواية أنه قال:... أما والله لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببت أن أدفعه عنه(2)، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها(3)، ومن هنا يعلم أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكل مؤلم أو أنه حملهم مغللين، كما ورد في بعض الروايات(4)، وقد مر معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزل منعزل وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم(5).
__________
(1) أنساب الأشراف بسند حسن (3/219 ، 220) مواقف المعارضة صـ282) .
(2) الأباطيل والمناكير (1/265) للجوزقاني بسند كل رجاله ثقات إلا أن فيه إنقطاعاً بين الشعبي والمدائني .
(3) الطبقات (5/393) مواقف المعارضة صـ282 .
(4) المحن صـ155 ، مواقف المعارضة صـ282 .
(5) مواقف المعارضة صـ283 .(2/246)
وتذكر رواية عوانة أن محفز بن ثعلبة هو الذي قدم بأبناء الحسين على يزيد(1)، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد قالت: فاطمة بنت الحسين: يا يزيد: أبنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا قال: بل حرائر كرام: أدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلت. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي(2). وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع الله به ما رأيت ـ وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء(3) ـ فرد علي بن الحسين على يزيد ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) (الحديد ، الآية : 22). ثم طلب يزيد من ابنه خالد أن يجبه، فلم يدر خالد ما يقول فقال يزيد: قل له ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى ، الآية : 30) .
__________
(1) تاريخ الطبري (6/394) .
(2) المصدر نفسه (6/395) .
(3) لطبقات (5/211) مواقف المعارضة صـ278 .(2/247)
وتحاول بعض الروايات ذات النزعات والميول الشيعية أن تصور أبناء الحسين وبناته وكأنهن في مزاد علني، جعل أحد أهل الشام يطلب من يزيد أن يعطيه إحدى بنات الحسين(1). فهذا من الكذب البين الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم أنها مغايرة لما ثبت من إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور من أراد فليختار ما يشاء(2). وأرسل يزيد إلى كل امرأة من الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعى شيئاً بالغاً ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية(3)، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين(4). وذُكر إن رأس الحسين أرسل إلى يزيد فهذا لم يثبت، بل إن رأس الحسين بقي عند عبيد الله في الكوفة(5).
عاشراً : رجوع أهل الحسين وأبنائه إلى المدينة:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/392) رواية أبي مخنف .
(2) البدء والتاريخ (6/12) وقال المؤلف : أن للروافض في هذه القصة من الزيادات والتهاويل شيئاً غير قليل .
(3) لطبقات (5/397) ، تاريخ الطبري (6/395) .
(4) الطبقات (5/397) .
(5) حقبة التاريخ صـ141 .(2/248)
... بعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوي السن من موالي بني هاشم ومن موالي بني علي(1)، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها(2)، ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم(3)،وقبل أن يغادروا قال يزيد لعلي بن الحسين إن أحببت أن تقيم عندنا فصل رحمك وتعرف لك حقك فعلت(4). ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم أبناء الحسين وخيّرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة(5)، وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار من علي بن الحسين وقال: لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك(6).
... وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفد من موالي بني سفيان(7)، وكان عددهم ثلاثين فارساً، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا وبعث معهم أيضاً محرز بن حريث الكلبي ورجل من بهرا، وكانا من أفاضل أهل الشام(8) وخرج آل الحسين من دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة(9). قال ابن كثير في يزيد: وأكرم آل بيت الحسين ورد عليهم جميع ما فقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين(10).
__________
(1) الطبقات (5/397) .
(2) المصدر السابق (5/397) تاريخ الطبري (6/393) .
(3) تاريخ الطبري (6/392) .
(4) المصدر نفسه (6/393) سير أعلام النبلاء (4/386) .
(5) منهاج السنة (4/559) .
(6) تاريخ الطبري (6/393) .
(7) الطبقات (5/397) مواقف المعارضة صـ286 .
(8) الحجة في بيان المحجة (2/525 ـ 526) مواقف المعارضة صـ286 .
(9) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ286 .
(10) لبداية والنهاية نقلاً عن مواقف المعارضة صـ287 .(2/249)
الحادي عشر : من المسئول عن قتل الحسين رضي الله عنه:
إن المسئول عن قتل الحسين أطراف متعددة منها:
1 ـ أهل الكوفة: إن أهل الكوفة هم الذين كاتبوا الحسين بن علي وهو في المدينة ومنّوه بالخروج حتى خرج إليهم بالرغم من تحذيرات الصحابة له بعدم الخروج ولما عين ابن زياد أميراً على الكوفة تأخر الناس عن نصرة الحسين وعن تأييده بل وانخرطوا في الجيش الذي حاربه وقتله، ولذا عبّر الحافظ ابن حجر عن موقف أهل الكوفة من الحسين بقول: فخُذِل غالب الناس عنه فتأخروا رغبة ورهبة، ولما تقابل الحسن ومن معه مع جند الكوفة نادى الحسين زعماء أهل الكوفة قائلاً لهم: يا شبث بن ربعي، وياحجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إلى أنه قد أينعت الثمار، وأخضر الجناب، وطمت الجمام، وإنما تقدم على جند لك مجند، فأقبل. قالوا: لم نفعل، فقال سبحان الله بلى والله لقد فعلتم ثم قال: أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني(1). وبالنظر إلى أقوال الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فإن الاتهام موجه إلى أهل العراق، وذلك في المسؤولية المتعلقة بقتل الحسين رضي الله عنه، فهذه أم سلمة رضي الله عنها لما جاء نعي الحسين بن علي لعنت أهل العراق وقالت: قتلوه قتلهم الله عز وجل غروه ودلوه لعنهم الله(2). وابن عمر رضي الله عنهما يقول لوفد من أهل العراق حينما سألوه عن دم البعوض في الإحرام فقال: عجباً لكم يا أهل العراق تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض(3). ويقول البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق: روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل، وقد سار المثل بهم فيها، حتى قيل أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي:
__________
(1) أنساب الأشراف (3/227) مواقف المعارضة صـ288 .
(2) فضائل الصحابة (2/782) بإسناد حسن .
(3) مسند أحمد رقم 5568 إسناده صحيح .(2/250)
أ ـ بعد مقتل علي رضي الله عنه، بايعوا الحسن، وغدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي .
ب ـ كاتبوا الحسين رضي الله عنه، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد، فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله يداً واحدة عليه. حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء .
جـ ـ غدرهم بزيد بن علي بن الحسين، نكثوا بيعته، وأسلموه عند اشتداد القتال(1).
... إن جزءاً كبيراً من المسئولسية يقع على أهل الكوفة، الذين جبنوا ونقضوا عهودهم.
2 ـ عبيد الله بن زياد:
__________
(1) الفرق بين الفرق صـ37 .(2/251)
... استمد عبيد الله جبروته وبطشه بالمعارضين من موافقة الخليفة يزيد بن معاوية، فعندما أقدم على قتل مسلم بن عقيل النائب الأول عن الحسين بالكوفة، وداعيته هانيء بن عروة الزعيم لقبيلة مراد المشهورة، استحسن يزيد هذا الفعل ولم يعترض عليه بل إنه لم يخف إعجابه به وبطشه وعسفه، فقد قال في ردّه على رسالته: أما بعد فإنك لم تعد إن كنت كما أحببت، عملت عمل الحازم، وصلت صولت الشجاع الرابط الجأش، فقد أغنيت وكفيت، وصدقت ظني بك، ورأي فيك(1).. فهذا التشيع دفع ابن زياد للشر أكثر خصوصاً وأن نفسه كانت ميالة للشر بطبيعتها، متطلعة إلى الغلو في مسيرتها، متعطشة إلى الدماء في سلطانها، وإلا فماذا كان عليه لو أنه نهر شمر وعنفه وردعه على قوله، واستمر في قبول خطة السلم التي عرضها الحسين رضي الله عنه. إن النفوس الدنية التي ارتفعت بعد انحطاط، وعزت بعد ذل، وتمكنت بعد حرمان، يعزّ عليها أن ترى الشرفاء الأمجاد، يتمتعون باحترام الناس وتقديرهم فتحاول أن تضع من مكانتهم، وتحط من منزلتهم إشباعاً لعقدة النقص التي تطاردهم في حياتهم، ولم يكن ابن زياد إلا واحداً من أصحاب هذه النفوس الدنية، فمن ابن زياد هذا ـ مهما كانت منزلته ـ إذا قورن بالحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ لهذا رفض الحسين أن يضع يده في يد ابن زياد، وقال لا أعطيهم بيدي إعطاء العبد الذليل، وقال عمر بن سعد لما وصله كتاب ابن زياد: لا يستسلم والله الحسين، إن نفساً أبية لبين جنبيه(2)، لقد كان عبيد الله بن زياد والياً ظالماً قبيح السريرة وهو الذي دخل عليه ـ عائذ بن عمرو المزني، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لعبيد الله: أي بني: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن شر الرِّعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم، فقال له، اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن مواقف المعارضةصـ293 .
(2) تاريخ الطبري (6/342) .(2/252)
وسلم، فقال: هل كانت لهم نخالة(1)؟ إنما كانت النخالة بعدهم، وفي غيرهم(2).
... لقد كان يتوجب على ابن زياد أن يلبي مطالب الحسين، وأن يتركه يذهب إلى يزيد، أو أي مكان آخر، خاصة أنه لن يدخل الكوفة(3)، وقد قال ابن الصلاح في فتاويه: والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو ابن زياد(4)،وقال يوسف العش: وينبغي لنا أن نقول أن المسؤول عن قتل الحسين هو أولاً شمر، وثانياً عبيد الله بن زياد(5). والصحيح أن المسئولية الأولى والإثم الأكبر في هذه المذبحة تقع على عاتق ابن زياد لأنه مدبر هذا الأمر كله وهو الذي رفض عروض الحسين، والتاريخ يستنكر كل ما فعله، ويذمه أشد الذم، ويدمغه بالبغي والطغيان(6). ويقول الذهبي في نهاية ترجمة عبيد الله: الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله، ونبرأ منهم/ ولا نلعنهم وأمرهم إلى الله(7).
3 ـ عمر بن سعد بن أبي وقاص قائد الجيش:
... ومن المسئولين على قتل الحسين رضي الله عنه قائد جيشه عمر بن سعد بن أبي وقاص، وبئس الخلف للسلف أو الابن لأبيه ثم الجنود الذين نفذوا أوامرهم في غيرما رحمة وكان لهم مندوحة أن ينأوا عن ذلك، أو ينضموا إلى جانب الحسين، كما فعل الحر بن يزيد التميمي القائد الأول الذي أرسله بن زياد، ثم رأى أن ابن زياد وصحبه اعتدوا وطغوا حين رفضوا عروض الحسين المنصفة، فتحول إلى معسكر الحسين وقاتل معه حتى قتل شهيداً(8).
__________
(1) نخالة : ما بقي في المنخل مما ينخل .
(2) البخاري رقم 7150 .
(3) مواقف المعارضة صـ297 .
(4) القيد الشريد ورقة 13 ، مواقف المعارضة صـ295 .
(5) الدولة الأموية صـ172 .
(6) عبد الملك بن مروان والدولة الأموية صـ105 .
(7) عبد الملك بن مروان والدولة الأموية صـ105 .
(8) عبد الملك بن مروان والدولة الأموية صـ105 .(2/253)
... إن عمر بن سعد لم يخرج ابتداءً لقتال الحسين، ولكنه كان خارجاً لقتال الديلم في أربعة آلاف مقاتل، فلما بلغ ابن زياد أمر حسين سيره إليه، وقال له: قاتل حسيناً فإذا انتهيت فانصرف إلى الديلم، وكان قد ولاه إمارة الرَّيّ واستعفى عمر ابن زياد من قتال الحسين، ولكن ابن زياد هدده بخلعه عن إمارة الرّي فتراجع عمر، وقال له: حتى أنظر، وأخذ يستشير الناس، وكلهم نصحوه بعدم الخروج إلى الحسين، وقال له ابن أخته ـ حمزة بن المغيرة بن شعبة ـ: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك، وتقطع رحمك فوالله لأن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها لو كان لك، خير لك من تلقى الله بدم الحسين(1). فقال عمر بن سعد: فإني أفعل إن شاء الله وبرغم نصح الناصحين، وترهيب المرهبين، إلا أن نفس ابن سعد كانت متعلقة بالدنيا وحب الإمارة ومشغولة بالمنصب وتقلد الإدارة.. والحق يقال: إنه اجتهد في محاولة إيجاد مخرج يبتعد منه عن قتال الحسين ومن معه، ولكنه لم يوفق في شيء .
... إن النفوس المتطلعة إلى الدنيا، تنسى في سبيلها شهامة الرجال، ومروءة الكرام بل تنسى ما هو أعظم من ذلك موقفها بين يدي الله عز وجل، وأنها ستحاسب على كل عمل تعمله، بل تنسى بديهيات الأمور، حيث تنسى فناء الدنيا، وزوال المنصب، وضياع الجاه والسلطان، لقد كان عمر بن سعد في غنى عن أن يقرن اسمه بأسماء الخونة الغادرين، وأن يسجل في سجل المعتدين الآثمين، لو أنه ضحى بالمنصب، وقبل طاعة الله ورسوله، ولو أنه فعل ما فاته شيء مما كتب له من متاع الدنيا، ولكان عند الله من الأبرار الصالحين(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (6/335) .
(2) الأمويون بين المشرق والمغرب (1/244) .(2/254)
4 ـ يزيد بن معاوية: وأما يزيد، فظاهر الأمر أنه كره قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ وحاول أن يمنعه من الخروج، فكتب إلى ابن عباس، يسأله أن يكف الحسين عن الخروج وحين وضعت الرأس الشريفة بين يديه وقال: لعن الله ابن مرجانة كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، أما والله لو أني صاحبه لعفوت عنه(1). وهذا البكاء على الحسين، وسب ابن مرجانة لا يرفع اللوم عن يزيد، ولا يخليه من تبعة قتل الحسين وأصحابه، ذلك لأنه كان قادراً على أن يوجه أوامر صريحة لابن زياد بعدم قتل الحسين رضي الله عنه، والتصرف معه بكل حكمة وتعقل، حفظاً لرحمه وقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكانته في قلوب المسلمين(2).
... إن تحمل يزيد لمسؤولية قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ قائمة كيف وقد قتل في خلافته وعلى أرض تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ يحمّل نفسه مسؤولية بغلة عثرة في العراق أو في الشام، لم يسو لها الطريق، فكيف إذا كان القتلة هم جند أمير المؤمنين(3)؟ إن مقتل الحسين رضي الله عنه سيظل وصمة عار ونقطة سوداء في عهد يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
الثاني عشر : أقوال الناس في يزيد وهل يجوز لعنه؟
افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط، فأحد الطرفين قالوا: إنه كان كافراً منافقاً، وأنه سعى في قتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم تشفياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتقاماً منه، وأخذاً بثأر جده عتبة وأخي جده شيبة، وخاله الوليد بن عتبة، وغيرهم ممن قتلهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب وغيره يوم بدر، وقالوا: تلك أحقاد بدرية، وآثار جاهلية وأنشدوا عنه:
... ... ... ... لما بدت تلك الحمول وأشرفت
__________
(1) أنساب الأشراف (3/219 ، 220) سند حسن .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ478 .
(3) الأمويون بين المشرق والمغرب (1/245) .(2/255)
... ... ... ... ... ... ... ... تلك الرؤوس على ربي جيروني
... ... ... ... نعق الغراب، فقلت نح أولاً تنح
... ... ... ... ... ... ... ... فلقد قضيت من النبي ديوني
وقالوا: إنه تمثل بشعر ابن الزَّبعري الذي أنشده يوم أحد:
... ... ... ليت أشياخي ببدر شهدوا
... ... ... ... ... ... ... جزع الخزرج من وقع الأسل
... ... ... قد قتلنا الكثير من أشياخهم
... ... ... ... ... ... ... وعدلناه ببدر فاعتدل(1)
وأشياء من هذا النمط وهذا القول سهل على الرافضة الذين يكفرون أبا بكر، وعمر، وعثمان، فتكفير يزيد أسهل.
والطرف الثاني: يظنون أنه كان رجلاً صالحاً وإمام عدل، وأنه كان من الصحابة الذين ولدوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وحمله على يديه وبرّك عليه، وربما فضله بعضهم على أبي بكر وعمر، وربما جعله بعضهم نبياً، ويقولون عن الشيخ عدي أو حسن المقتول ـ كذباً عليه ـ إن سبعين ولياً صرفت وجوههم عن القبلة لتوقفهم في يزيد، وهذا قول غالية العدوية.. ونحوهم من الضلال، فإن الشيخ عدياً كان من بني أمية وكان رجلاً صالحاً عابداً فاضلاً، ولم يحفظ عنه أنه دعاهم إلا إلى السنة التي يقولها غيره كالشيخ أبي الفرج المقدسي، فإن عقيدته موافقة لعقيدته، لكن زادوا في السنة أشياء كذب وضلال، من الأحاديث الموضوعة، والتشبيه الباطل، والغلو في الشيخ عدي وفي يزيد، والغلو في ذم الرافضة، بأنه لا تقبل لهم توبة وأشياء أخر. وكلا القولين ظاهر البطلان عند من له أدنى عقل وعلم بالأمور وسير المتقدمين، ولهذا لا ينسب إلى أحد من أهل العلم المعروفين بالسنة، ولا إلى ذي عقل من العقلاء الذين لهم رأي وخبرة(2)
__________
(1) الفتاوى (4/294) .
(2) الفتاوى (4/295) .(2/256)
... والقول الثالث : أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين، وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صاحباً ولا من أولياء الله الصالحين، وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين. قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: إن قوماً يقولون: إنهم يحبون يزيد، فقال: يا بني، وهل يحب يزيد أحد يؤمن بالله واليوم الآخر؟ فقلت: يا ابت، فلماذا لا تلعنه؟ فقال: يا بني، ومتى رأيت أباك يلعن أحداً. وقال منها: سألت أحمد عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. فقال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل قلت: وما فعل؟ قال: قتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل. قلت: وما فعل؟ قال: نهبها. قلت: فيذكر عنه الحديث؟ لا يذكر عنه حديث. وهكذا ذكر القاضي أبو يعلي وغيره(1)، وقال أبو محمد المقدسي لما سئل عن يزيد: فيما بلغني لا يُسَبّ ولا يُحَبّ وقال ابن تيمية: وبلغني ـ أيضاً ـ أن جدنا أبا عبد الله بن تيمية سئل عن يزيد. فقال: لا تنقص ولا تزيد. وهذا أعدل الأقوال فيه وفي أمثاله وأحسنها وأما ترك سبه ولعنته فبناء على أنه لم يثبت فسقه الذي يقتضي لعنه، أو بناء على أن الفاسق المعين لا يلعن بخصوصه، إما تحريماً، وإما تنزيهاً. فقد ثبت في صحيح البخاري عن عمر في قصة ((حمار)) الذي تكرر منه شرب الخمر وجلده لما لعنه بعض الصحابة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ولا تلعنه، فإنه يجب الله ورسوله(2). وقال: لعنُ المؤمن كقتله(3) هذا مع أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عموماً شارب الخمر ونهى في الحديث الصحيح عن لعن هذا المعين وهذا كما أن نصوص الوعيد عامة في أكل أموال اليتامى،
__________
(1) المصدر (4/295)
(2) البخاري رقم 6780 .
(3) البخاري 6652 .(2/257)
والزاني والسارق، فلا نشهد بها عامة على معين بأنه من أصحاب النار، لجواز تخلف المقتضَى عن المقتضيِ لمعارض راجع: إما توبة، وإما حسنات ماهية، وإما مصائب مكفرة وإما شفاعة مقبولة وإما غير ذلك(1). ومن اللاعنين من يرى أن ترك لعنته مثل ترك سائر المباحات من فضول القول، لا لكراهة في اللعنة، وأما ترك محبته، فلأن المحبة الخاصة إنما تكون للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس واحداً منهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب(2)، ومن آمن بالله واليوم والآخر، لا يختار أن يكون مع يزيد ولا مع أمثاله من الملوك، الذين ليسوا بعادلين. ولترك المحبة مأخذان: أحدهما: أنه لم يصدر عنه من الأعمال الصالحة ما يوجب محبته، فبقى واحداً من الملوك المسلطين ومحبة أشخاص هذا النوع ليست مشروعة، وهذا المأخذ ومأخذ من لم يثبت عنده فسقة أعتقد تأويلاً. والثاني: أنه صدر عنه ما يقتضي ظلمه وفسقه في سيرته من أمر الحسين وأمر أهل الحرة(3).
... وأما الذين لعنوه من العلماء كأبي الفرج الجوزي، والكيا الهراسي(4) وغيرهما، فلما صدر عنه من الأفعال التي تبيح لعنته، ثم قد يقولون: هو فاسق، وكل فاسق يلعن، وقد يقولون بلعن صاحب المعصية وإن لم يحكم بفسقة،... وقد يلعن لخصوص ذنوبه الكبار، وإن كان لا يلعن سائر الفساق، كما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنواعاً من أهل المعاصي، وأشخاصاً من العصاة وإن لم يلعن جميعهم فهذه ثلاثة مآخذ للعنته(5)
__________
(1) الفتاوى (4/296) .
(2) البخاري رقم 6169 .
(3) الفتاوى (4/296) .
(4) هو علي بن محمد الطبري الملقب بعماد الدين توفي 504هـ .
(5) الفتاوى (4/297) .(2/258)
... وأما الذين سوغوا محبته أو أحبوه، كالغزالي، والدستي فلهم مأخذان: أحدهما: أنه مسلم ولي أمر الأمة على عهد الصحابة وتابعه بقاياهم، وكانت فيه خصال محمودة وكان متأولاً فيما ينكر عليه من أمر الحرة وغيره، فيقولون: هو مجتهد مخطيء، ويقولون: إن أهل الحرة هم نقضوا بيعته أولاً وأنكر ذلك عليهم ابن عمر وغيره، وأما قتل الحسين فلم يأمر به ولم يرض به، بل ظهر منه التألم لقتله، وذم من قتله، ولم يحمل الرأس إليه، وإنما حمل إلى ابن زياد. والمأخذ الثاني: أنه قد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أول جيش يغزو القسطنطينية مغفور له(1). وأول جيش غزاها كان أميره يزيد. والتحقيق أن هذين القولين يسوغ فيهما الاجتهاد، وكذلك محبة من يعمل حسنات وسيئات، بل لا يتنافى عندنا(2) أن يجتمع في الرجل الحمد والذم، والثواب والعقاب، كذلك لا يتنافى أن يصلى عليه ويدعى له وأن يلعن ويشتم أيضاً باعتبار وجهين. فإن أهل السنة متفقون على أن فساق أهل الملة ـ وإن دخلوا النار ، أو استحقوا دخولها فإنهم ـ لا بد أن يدخلوا الجنة، فيجتمع فيهم الثواب والعقاب، ولكن الخوارج والمعتزلة تنكر ذلك، وترى أن من استحق الثواب لا يستحق العقاب ومن استحق العقاب لا يستحق الثواب(3). وأما جواز الدعاء للرجل وعليه... فإن موتى المسلمين يُصلي عليهم، برهم وفاجرهم، وإن لعن الفاجر مع ذلك بعينه أو بنوعه، لكن الحال الأول أوسط وأعدل، وبذلك أجاب ابن تيمية رحمه الله مقدم المغول بولاي، لما قدموا دمشق في الفتنة الكبيرة وجرت بينهما وبين غيره مخطابات، فسأل ابن تيمية: ما تقولون في يزيد؟ فقال: لا نسبه ولا نحبه، فإنه لم يكن رجلاً صالحاً فنحبه ونحن لا نسب أحداً من المسلمين بعينه فقال أفلا تلعنونه؟ أما كان ظالماً؟ أما قتل الحسين؟ فقلت له: نحن إذا ذكر الظالمون ـ كالحجاج
__________
(1) البخاري رقم 2924 .
(2) الفتاوى (4/297) .
(3) المصدر نفسه (4/297) .(2/259)
بن يوسف وأمثاله ـ نقول كما قال الله في القرآن: ((ألا لعنة الله على الظالمين)) (هود ، الآية : 18) ولا نحب أن نعلن أحد بعينه، وقد لعنه قوم من العلماء، وهذا مذهب يسوغ فيه الاجتهاد، لكن هذا القول أحب إلينا وأحسن وأما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة والناس، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. قال: فما تحبون أهل البيت؟ قلت محبتهم عندنا فرض واجب يؤجر عليه، فإنه قد ثبت عندنا في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير يدعى خمّا، بين مكة والمدينة فقال: أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله. فذكر كتاب الله وحض عليه،، ثم قال: وعترتي أهل بيتي(1) قال ابن تيمية لمقدم المغول: ونحن نقول في صلاتنا كل يوم: اللهم صلى على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد. قال مقدم المغول: فمن يبغض أهل البيت؟ قال: من أبغضهم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. ثم قال ابن تيمية للوزير المغولي: لأي شيء قال عن يزيد وهذا تتريٌّ؟ قال: قد قالوا له: إن أهل دمشق نواصب، قال ابن تيمية بصوت عال: يكذب الذي قال هذا، ومن قال هذا، فعليه لعنة الله، والله ما في أهل دمشق نواصب، وما علمت فيهم ناصبيا ولو تنقص أحد علياً بدمشق لقام المسلمون(2) عليه وعلينا أن نعرف أن لعن يزيد لم ينتشر إلا بعد أن قامت الدولة العباسية وأفسحت المجال للنيل من بني أمية(3)، وأما الحديث الذي ورد مرفوعاً: ((لا يزال أمر أمتي قائماً، حتى يثلمه رجل من بني أمية يقال له: يزيد، فهو حديث غير صحيح، لأن فيه أكثر من علة(4)، فقد رواه أبو
__________
(1) مسند أحمد (4/367) .
(2) الفتاوى (4/297 ، 298) .
(3) مواقف المعارضة صـ501 .
(4) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ204 مسند أبو يعلي رقم 870 .(2/260)
يعلي في مسنده من طريق صدقة السمين، عن هشام، عن مكحول عن أبي عبيدة مرفوعاً وفيه علتان.
أ ـ ضعف صدقة السمين، وهو أبو معاوية، صدقة بن عبد الله السمين، الدمشقي، ضعفه ابن معين والبخاري وأبو زرعة والنسائي، وقال أحمد ما كان من حديثه مرفوعاً فهو منكر، وما كان من حديثه مرسلاً عن مكحول فهو أسهل وهو ضعيف جداً وقال أيضاً: ليس يسوى شيئاً، أحاديثه مناكير وقال الدّارقطني: متروك(1)
ب ـ أن هناك انقطاعاً بين مكحول وأبي عبيدة لأنه لم يدركه(2).
... وقد تحدث ابن كثير عن الأحاديث في ذم يزيد فقال: وقد أورد ابن عساكر أحاديث في ذمّ يزيد بن معاوية كلها موضوعة لا يصح منها شيء، وأجود ما ورد ما ذكرناه على ضعف أسانيده وانقطاع بعضه، والله أعلم(3)
الثالث عشر : التحذير من أساطير حول مقتل الحسين رضي الله عنه:
__________
(1) تهذيب التهذيب (4/381) .
(2) أحداث وأحاديث صـ204 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن أحداث وأحاديث صـ204 .(2/261)
إن الشيعة بالغوا في نقل أخبار تلك الحادثة، وامتلأت كتب التاريخ بحوادث عجيبة قيل إنها وقعت إثر مقتل الحسين، من احمرار الأفق، وتدفق الدماء من تحت الحجارة، وبكاء الجنّ، إلى غير ذلك من الخيال الذي نسجته عقول الشيعة يومئذ، وما زالوا يردّدونه إلى اليوم تضخيماً لهذا الحادث على حساب غيره من الأحداث الأخرى(1)، وإن الذي يدرس أسانيد تلك الأخبار والرّوايات لا يرى إلا ضعفاً هالكاً، أو مجهولاً لا يعرف أصله أو مدلِّساً يريد تعمية الأبصار عن الحقائق(2)، ومن أكاذيب مؤرخي الشيعة على سبيل المثال في هذه الموقعة أن السبايا حملن على نجائب الأبل عرايا حتى أن الإبل البخاتي(3) إنما نبتت لها الأسنمة من ذلك اليوم لتستر عوارتهن من قبلهن ودبرهن(4). وقال ابن كثير: ولقد بالغ الشِّيعة في يوم عاشوراء، فوضعوا أحاديث كثيرة وكذباً فاحشاً، من كون الشمس كسفت يومئذ حتى بدت النجوم، وما رفع يومئذ حجر إلا وجد تحته دم، وإن أرجاء السماء احمرّت، وأن الشمس كانت تطلع وشُعاعُها كأنه الدم وصارت السماء كأنها علقة، وأن الكواكب صار يضرب بعضها بعضاً، وأمطرت السماء دماً أحمر، وأن الحمرة لم تكن في السماء قبل يومئذ.. وأن رأس الحسين لما دخلوا به قصر الإمارة جعلت الحيطان تسيل دماً، وأن الأرض أظلمت ثلاثة أيام، ولم يُمسَّ زعفران ولا ورس مما كان معه يومئذ إلا احترق مسَّه، ولم يرفع حجر من حجارة بيت المقدس إلا ظهر تحته دم عبيط. وأن الإبل التي غنموها من إبل الحسين حين طبخوها صار لحمها مثل العلقم. إلى غير ذلك من الأكاذيب والأحاديث الموضوعة التي لا يصح منها شيء(5).
__________
(1) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ204 .
(2) المصدر نفسه صـ213 .
(3) البخت : الأبل الخراسانية .
(4) البداية والنهاية (11/564 ، 565) .
(5) البداية والنهاية (11/576) .(2/262)
انتقام الله من قتلة الحسين: وأما ما رُوِيَ من الأمور والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح فإنَّه قَلَّ من نجا منهم في الدنيا إلا أُصيب بمرض، وأكثرهم أصابه الجنون، وللشيعة والرافضة في صفة مصرع الحسين رضي الله عنه، كذب كثير وأخبار طويلة، وفيما ذكرناه كفاية وفي بعض ما أوردنا نظر، ولولا أن ابن جرير وغيره من الحفاظ الأئمة ذكروه ما سُقته وأكثره من رواية أبي مخنف لوط ابن يحي، وقد كان شيعياً وهو ضعيف الحديث عند الأئمة ولكنه أخباري حافظ عنده من هذه الأشياء ما ليس عند غيره، ولهذا يترامى عليه كثير من المصنَّفين ممَّن بعده والله أعلم(1). ويقول ابن تيمية رحمه الله: وأما السؤال عن سَبْي أهل البيت وإراكابهم حتى نبت لها سنامان وهي البّخّاتي ليستتروا بذلك، فهذا من أقبح الكذب وأبينه وهو مما افتراه الزنادقة والمنافقون، الذين مقصودهم الطعن في الإسلام، وأهله من أهل البيت، وغيرهم، فإن من سمع مثل هذا وشهرته وما فيه من الكذب قد يظن أو يقول إن المنقول إلينا من معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء هو من الجنس، ثم إذا تبين أن الأمة سّبَّتْ أهل بيت نبيها، كان فيها من الطعن في خير أمة أخرجت للناس ما لا يعلمه إلا الله، إذ كل عاقل يعلم أن الإبل البَخَاتي كانت مخلوقة موجودة قبل أن يبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل وجود أهل البيت، كوجود غيرها من الإبل والغنم، والبقر والخيل والبغال(2)، وللأسف الشديد، فقد شحنت المصادر التاريخية الإسلامية، مثل تاريخ الطبري، وتاريخ ابن عساكر وغيرهما بمثل هذه الأباطيل والأكاذيب، ممّا يتطلب تحقيقاً علمياً لهذين الكتابين خاصة، ولغيرهما من كتب التاريخ(3).
الرابع عشر : ما قيل من رثاء في الحسين رضي الله عنه :
قال سليمان بن قَتّة التيمي:
... ... ... وإن قتيل الطَّف من آل هاشم
__________
(1) المصدر نفسه (11/577) .
(2) الفتاوى (4/306) .
(3) أحداث وأحاديث فتنة الهرج صـ213 .(2/263)
... ... ... ... ... ... ... أذل رقاباً من قريش فذلّت
... ... ... مررت على أبيات آل محمد
... ... ... ... ... ... ... فألفيتها أمثالها حين حُلّت
... ... ... وكانوا لنا عُنْماً فعادوا زبّة
... ... ... ... ... ... ... لقد عظمت تلك الرازيا وجَلّت
... ... ... فلا يبعد الله الديار وأهلها
... ... ... ... ... ... ... وإن أصبحت منهم برغمي تخلت
... ... ... إذا افتقرت قيسٌ جبرنا فقيرَها
... ... ... ... ... ... ... وتقتلنا قيس إذا النّعلُ زلّت
... ... ... وعند غِنيِّ قطرة من دماءنا
... ... ... ... ... ... ... سنجزيهم يوماً بها حيث حَلّت
... ... ... ألم تر أن الأرض أضحت مريضة
... ... ... ... ... ... ... لفقد حسين والبلاد أقشعرت(1)
... ... ...
وقال أبو الأسود الدِّيْلي في قتل الحسين رضي الله عنه:
... ... ... أقول وذاك من جزع ووجد
... ... ... ... ... ... ... أزال الله ملك بني زياد
... ... ... وأبعدهم بما غدروا وخانوا
... ... ... ... ... ... ... كما بعدت ثَمود وقوم عاد
... ... ... هموا خَشَمُوا الأنوف وكنا شُمّا
... ... ... ... ... ... ... لقتل ابن القُعَاسِ أخي مراد(2)
... ... ... قتيل السوق يا لك من قتيل
... ... ... ... ... ... ... به نضح من أحمر كالجِساد
... ... ... وأهل نبينا من قبل كانوا
... ... ... ... ... ... ... ذوي كرم دعائم للبلاد
... ... ... حسين ذو الفضول وذو المعالي
... ... ... ... ... ... ... يزين الحاضرين وكَّلَّ باد
... ... ... أصاب العِزَّ مَهْلِكُهُ فأضحى
... ... ... ... ... ... ... عميداً بعد مصرعه فؤادي(3)
وقال عبيد الله بن الحر أيضاً:
... ... ... يا لكِ حسرة ما دمت حيا
__________
(1) الطبقات (1/512) تحقيق السُّلمي .
(2) ابن القُعَاس : وصف لهانيء عروة يقال: رجل أقعس : ثابت عزيز منيع لسان العرب (6/177) .
(3) الطبقات تحقيق السُّلمي (1/512) .(2/264)
... ... ... ... ... ... ... تردّد بين حلقي والتّراقي
... ... ... حسيناً حين يطلب بذل نصري
... ... ... ... ... ... ... على أهل العداوة والشّقاق
... ... ... ولو أني أواسيه بنفسي
... ... ... ... ... ... ... لنلت كرامة يوم التّلاق
... ... ... مع ابن المصطفى نفسي فداه
... ... ... ... ... ... ... فولّى ثم ودّعَ بالفراق
... ... ... غداة يقول لي بالقصر(1) قولا
... ... ... ... ... ... ... أتتركنا وتُزمع بالظلاق؟
... ... ... فلو فلق التَلهّفُ قلب حَيّ
... ... ... ... ... ... ... لهمَّ اليومَ قلبي بانطلاق
... ... ... فقد فاز الأُولى نصروا حسيناً
... ... ... ... ... ... ... وخاب الآخرون أولو النفاق(2)
وقال شاعر الإسلام محمد أقبال:
... ... ... وحسين في الأبرار والأحرار
... ... ... ... ... ... ... ما أزكى شمائله وما أنداها
... ... ... فتعلموا ريّ اليقين من الحسين
... ... ... ... ... ... ... إذا الحسين وقد أجاب نداها
... ... ... الأمهات يلدن للشمس الضياء
... ... ... ... ... ... ... وللجواهر حسنها وصفاها(3)
المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد:
أولاً : يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر من محرم الحرام،وقد ابتدع فيه بدع منكرة، وهلك فيه طائفتان بين إفراط وتفريط طائفة تجعله يوم فرح وسرور وأخرى يوم حزن ونياحة(4) .
__________
(1) القصر هو قصر بني مقاتل وهو المكان الذي التقى فيه مع الحسين .
(2) الطبقات (1/516) .
(3) الدوحة النبوية صـ130 .
(4) الأعياد وأثرها على المسلمين ، سليمان السجمي صـ261 .(2/265)
لقد غلت الشيعة في مقتل الحسين رضي الله عنه غلواً مفرطاً فجعلوا يوم استشهاده رضي الله عنه العاشر من محرم مأتماً وحزناً ونياحة يكررونه في كل عام إلى يومنا هذا ورتبوا على هذا الفعل الأجر والثواب، فهو جالب للمغفرة والرحمة، مكفرة للذنوب والخطايا في زعمهم(1). فقد روي الطوسي في أماليه بسنده عن الرضا عليه السَّلام أنه قال من ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة ومن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه جعل الله عز وجل يوم القيامة، يوم فرحه، وسروره وقرت بنا في الجنان عينه(2)، وبسنده أيضاً عن أبي عمارة الكوفي قال: سمعت جعفر بن محمد عليه السلام يقول: من دمعت عينه دمعة لدم سفك لنا أو حق لنا أنقضاه أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا بوأه الله تعالى بها في الجنة أحقاباً(3). وروى البرفي بسنده عن جعفر الصادق أنه قال: من ذكر عنده الحسين فخرج من عينه دمع مثل جناح بعوضة غفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر(4). وقد بوب المجلسي باباً قال فيه: باب ثواب البكاء على مصيبته ومصائب سائر الأئمة وفيه أدب المأتم يوم عاشوراء، وساق فيه أكثر من ثمان وثلاثين رواية(5) منها ما رواه بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام(6). بل زعموا أن السماء والأرض بكت لقتله فأمطرت السماء دماً وتراباً أحمر، كما بكت الملائكة والجن وسائر المخلوقات(7)، ولم يكتفوا بذلك حتى قالوا بتحريم يوم عاشوراء وأن من صامه فهو عدو للحسين وأهل بيته رضي الله عنهم أجمعين(8)
__________
(1) العقيدة في أهل البيت بين الإفراط والتفريط ص،490 .
(2) أمالي الطوسي صـ194 بحار الأنوار (44/284) .
(3) البحار (44/279) أمالي المفيد صـ112 .
(4) المحاسن صـ36 ، البحار (44/289) .
(5) البحار (44/278 ـ 296) .
(6) المصدر نفسه (44/280) .
(7) المصدر نفسه (44/285 ـ 286) .
(8) العقيدة في أهل البيت صـ492 .(2/266)
، فقد روى الكليني بسنده عن جعفر بن عيسى قال: سألت الرضا عليه السلام عن صوم يوم عاشوراء وما يقول الناس فيه، فقال: عن صوم ابن مرجانة تسألني، ذلك يوم صامه الأدعياء من آل زياد لقتل الحسين عليه السلام وهو يوم يتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم ويتشاءم به أهل الإسلام لا يصام ولا يتبرك به ويوم الاثنين يوم نحس قبض الله عز وجل فيه نبيه وما أصيب آل محمد إلا في يوم الاثنين فتشاءمنا به وتبرك به ابن مرجانة وتشاءم به آل محمد صلى الله عليه وسلم، فمن صامهما أو تبرك بهما لقي الله تبارك وتعالى ممسوخ القلب وكان حشره مع الذين سنوا صومهما والتبرك بهما(1). والأكاذيب في هذا الباب كثيرة. وهذه المآتم تظهر علناً كلما قويت شوكة الشيعة أو ظهرت لهم دولة ففي دولة بني بويه الشيعية في سنة اثنين وخمسين وثلاثمائة ألزم معز الدولة ابن بابويه يوم عاشوراء أهل بغداد بالنواح على الحسين رضي الله عنه، وأمر بغلق الأسواق ومنع الطباخين من عمل الأطعمة، وخرجت نساء الشيعة منشرات الشعور مضحمات الوجوه يلطمن ويفتن الناس، وهذا أول ما نيح عليه(2)، كما اتخذت الدولة العبيدية الفاطمية على كثرة أعيادها ومناسباتها يوم عاشوراء يوم حزن ونياحة فكانت تتعطل فيه الأسواق ويخرج فيه المنشدون في الطرقات، وكان الخليفة يجلس في ذلك اليوم متلثماً يرى به الحزن كما كان القضاة، والدعاة، والأشراف، والأمراء يظهرون وهم ملثمون حفاة، فيأخذ الشعراء بالإنشاد ورثاء أهل البيت وسرد الروايات والقصص التي اختلقوها في مقتل الحسين رضي الله عنه(3). ومن مظاهرهم في هذه الأيام خروج المواكب العزائية في الطرقات والشوارع مظهرين اللطم بالأيدي على الخدود والصدور، والضرب بالسلاسل والحديد على الأكتاف حتى تسيل الدماء(4)
__________
(1) الكافي (4/146) الاستبصار (2/35) البحار (45/59) .
(2) العبر للذهبي (2/89) (البداية والنهاية (11/577) .
(3) الخطط للمقريزي (1/431) .
(4) العقيدة في أهل البيت صـ494 .(2/267)
وقد وصف ابن كثير ما يفعل الشيعة من تعدي لحدود الكتاب والسنة في دولة بني بويه في حدود الأربعمائة وما حولها فقال: فكانت الدَّبادب(1) تضرب ببغداد ونحوها من البلاد في يوم عاشوراء ويُذَرُّ الرماد والتبن في الطرقات والأسواق وتعلق المسوح على الدكاكين ويظهر الناس الحزن والبكاء، وكثير منهم لا يشرب الماء ليلتئذ موافقه للحسين، لأنه قتل عطشان ثم تخرج النساء حاسرات عن وجوههن ينحن ويلطمن وجوههن وصدورهن حافيات في الأسواق إلى غير ذلك من البدع الشنيعة والأهواء الفظيعة والهتائك المخترعة وإنما يريدون بهذا وأشباهه أن يُشنِّعوا على دولة بني أمية، لأنه قتل في أيامهم(2).
وقد جوّز علماء الشيعة ما يسمونه بالمواكب العزائية فقد أجاب محمد حسين الغروي النائيني عندما وجهت إليه أسئلة حول المواكب العزائية إذ قال:
1 ـ خروج المواكب العزائية في عشرة عاشوراء ونحوها إلى الطرقات والشوارع مما لا شبهة في جوازه ورجحانه وكونه من أظهر مصاديق ما يقوم به عزاء المظلوم وأيسر الوسائل لتبليغ الدعوة الحسينية إلى كل قريب وبعيد.
2 ـ لا إشكال في جواز اللطم بالأيدي على الخدود والصدور حد الاحمرار والإسوداد بل يقوي جواز الضرب بالسلاسل أيضاً على الأكتاف والظهور إلى الحد المذكور بل وإن تأذى كل من اللطم والضرب إلى خروج دم يسير على الأقوى، وأما إخراج الدم من الناحية بالسيوف والقامات فالأقوى جواز ما كان ضرره مأموناً.
__________
(1) الدبادب : جمع الدّبداب وهو الطبل .
(2) البداية والنهاية (11/577) .(2/268)
3 ـ الظاهر عدم الإشكال في جواز التشبيهات والتمثيلات التي جرت عادة الشيعة الإمامية باتخذها لإقامة العزاء والبكاء والإبكاء منذ قرون وإن تضمنت لبس الرجال ملابس النساء على الأقوى، فهذه الفتوى المعمول بها اليوم لدى الشيعة وعليها الإجماع وقد قرضها أكثر من إثني عشر من علمائهم(1)، وفي وصف هذه المظاهر يقول ناصر الدين شاه: وفي الهند وباكستان وإيران والعراق تكتسي هذه المآتم حللاً مركبة إذ يخرج الرجال في الطرقات وهم يسيرون وراء هودج قد يبالغون في ارتفاعه حتى يبلغ بضعة أمتار وهم عراة وفي أيديهم زناجير من حديد وفي رؤوسها شفرات صغيرة حادة يضربون بها صدورهم وظهورهم حتى تسيل الدماء منهم، وفي كثير من الأحيان يموت بعضهم، أما النساء فإنهن يجلسن في دورهن ينحن ويبكين ويلطمن صدورهن بأيديهن كل هذا تكريماً للحسين الذي قتل مظلوماً بزعمهم(2)، ويقول السيد محسن الأمين الحسيني العاملي معللاً إقامة المآتم، ونريد بإقامة المآتم البكاء لقتله (عليه السلام) بإخراج الدمع بصوت وبدونه والتعرض لما يسبب ذلك وإظهار شعار الحزن والتأسف والتألم لما صدر عليه، وتذكر مصابه ونظم الأشعار في رثائه، وتلاوتها واستماعها وتهييج النفوس بها للحزن والبكاء(3). ولم يكتفوا بذلك يقول الخميني: إن البكاء على سيد الشهداء عليه السلام وإقامة المجالس الحسينية هي التي حفظت الإسلام منذ أربعة عشر قرناً(4). فمتى كان البكاء دعوة ومتى كان العويل جهاداً فهذا معتقد الشيعة الإمامية في مقتل الحسين وفي يوم عاشوراء فهل هذا الفعل من الإسلام في شيء؟
__________
(1) مقتل الحسين وفتاوى العلماء الأعلام في تشجيع الشعائر للشيخ مرتضى عياد صـ12 ـ 40 وممن قرضها وأقرّها ، العقيدة في أهل البيت صـ495 .
(2) العقائد الشيعية صـ135 .
(3) إقناع اللائم على إقامة المآتم صـ2 .
(4) عقيدة أهل السنة في أهل البيت صـ496 نقلاً عن كشف الأسرار .(2/269)
... إن الحسين رضي الله عنه بريء من تلك الأفعال المذكورة لئن الإسلام الذي جاء به جده عليه الصلاة والسلام لا يجوّز تلك الأفعال فقد قال صلى الله عليه وسلم: ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدوى(1) الجاهلية وقال صلى الله عليه وسلم: النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال(2) من قطران(3)، ودرع من جرب(4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: أنا بريء من الصالقة والحالقة والشاقة(5)، كما أن ما يفعله الشيعة في الحسينيات والمآتم تحت مسمى الشعائر الحسينية مثل: اللطم والنياحة ولبس السواد، والتطبير وغيرها والتي أفتى علماؤهم وعظماؤهم بجوازها فإنها محرمة عل لسان الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى ألسنة أئمة أهل البيت الكرام في المصادر الشيعية القديمة والحديثة، واعترف بهذا التحريم شيوخ وأعلام المذهب الشيعي الإثني عشر(6)، فهذا محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الملقب عند الشيعة بالصدوق قال: من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي لم يسبق إليها: النياحة من عمل الجاهلية(7). ورواه محمد باقر المجلسي بلفظ: النياحة عمل الجاهلية(8)، فالنوح الذي استمرت عليه الشيعة جيلاً بعد جيل بعد جيل من عمل الجاهلية كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم(9). ومن هذه الروايات التي تنهي عما يقترفه الشيعة في الحسينيات ما قاله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: وإياك والنواح على الميت ببلد يكون لك به سلطان(10)، وقوله: ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال فيها الناس
__________
(1) البخاري رقم 1294 .
(2) السربال : القميص .
(3) القطران : هو النحاس المذاب شديدة الحرارة .
(4) مسلم رقم 934 .
(5) الصالقة التي تصيح والحالقة التي تحلق شعرها والشاقة التي تشق جيبها، مسلم ، ك الإيمان رقم 167 .
(6) من قتل الحسين صـ73 .
(7) من لا يحضره الفقيه (4/271 ـ 272) .
(8) بحار الأنوار (82/103) .
(9) من قتل الحسين صـ73 .
(10) مستدرك الوسائل للنوري (1/44) .(2/270)
حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم والطعن في الأنساب والنياحة على الموتى(1)، ومن الأدلة قول الإمام الباقر: أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر وجز الشعر من النواصي، ومن أقام النواحة فقد ترك الصبر وأخذ في غير طريقه(2)، وقد أنكر ما يحدث من ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء الشيخ حسن مغنية: والواقع أن ضرب الرؤوس بالخناجر والسيوف وإسالة الدماء ليست من الإسلام في شيء ولم يرد فيها نص صريح ولكنها عاطفة نبيلة تجيش في نفوس المؤمنين لما أريق من الدماء الزكية على مذابح فاجعة كربلاء(3)، ولا شك إن هذه الأمور من المنكرات والبدع الشنيعة(4). إن الإسلام علمنا آداب المصائب ومقتل الحسين رضي الله عنه مصيبة عظيمة، فمن آداب الإسلام في المصائب.
1 ـ الصبر عليها:
... وهذا أعظم آدابها، أن يصبر المؤمن على المصيبة التي تنزل به، ومن هذا الصبر حبس القلب عن التسخط، وحبس اللسان عن الشكوى وحبس الجوارح عمّا يغضب الله تعالى من لطم الخدود، وشق الجيوب وخمش الوجوه، ونتف الشعر والدعاء بدعوة الجاهلية وينبغي أن يكون هذا الصبر عند سماع الإنسان خبر المصيبة لأول مرة وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى(5).
__________
(1) بحار الأنوار (82/101) .
(2) الكافي للكليني (3/222 ـ 223) .
(3) آداب المنابر صـ182 .
(4) من قتل الحسين صـ83 .
(5) البخاري رقم 1283 .(2/271)
2 ـ احتساب المصيبة والصبر عليها: فينبغي أن يلتمس الأجر من الله تعالى في هذا الصبر، فيصبر ابتغاء موعود الله من الأجر والثواب ويصبر لأن الله أمره بالصبر، فقال عز وجل: ((واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور)) (لقمان الآية ، 17)، ويتذكر إن فقد عزيزاً لديه، قول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيَّه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة(1)، وصفيُّه: أي حبيبه من ولد أو والد أو نحوه. وهكذا فإن الله تعالى وعد بالأجر العظيم على الصبر على المصائب، ولكن بشرط أن يكون الصبر ابتغاء وجه الله تعالى، كما قال عز وجل ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد : 22) ، فينبغي أن يكون الصبر لله تعالى، ولا صبر المغلوب. بل صبر الراضي بقضاء الله، المسلِّم به(2).
3 ـ الاسترجاع ودعاء المصيبة: فيقول المرء عند نزول المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خير منها. فقد قال اله عز وجل ((وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) (البقرة ، الآيات : 155 ـ 157). وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون. اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها إلا أخلف الله له خيراً منها(3)، قالت أم سلمة: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة؟ أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إني قلتها، فأخلف الله لي رسول الله(4).
__________
(1) البخاري رقم 4624 .
(2) موسوعة الآداب الإسلامية ، عبد العزيز فتحي (2/786) .
(3) مسلم رقم 918 .
(4) مسلم رقم 918 .(2/272)
... ويقول كذلك: الله ربي لا شريك له: فإن ذلك يكشف عنه المصائب والبلاء بإذن الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أصابه هم أو غم، أو سقم، أو شدة فقال: الله ربي لا شريك له. كشف ذلك عنه(1)، ويدعو كذلك بدعاء المكروب الذي ذكره النبي صلى اله عليه وسلم حيث قال: دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت(2)، ويقول كذلك كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: فإنه صلى الله عليه وسلم: كان إذا كربه أمر قال: يا حي يا قيوم، برحمتك استغيث(3).
4 ـ اجتناب كل ما يغضب الله: وذلك من جنس الجهر بالسوء من القول، واللطم، وشق الجيوب، وحلق الشعور، والنياحة والشكوى إلى الناس والدعاء بالموت، والويل والثبور، وغير ذلك، فهذا كله يغضب الله تعالى، وينافي الصبر على المصائب والرضا بها(4).
5 ـ تهوين المصيبة على النفس بتذكرة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:
... فإن وفاته وانقطاع وحي السماء من أعظم المصائب التي نزلت بالأمة، وبكل مسلم، وإذا تذكر المصاب بمصيبة ما تلك المصيبة العظيمة بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهوَّن ذلك عليه مصيبته التي نزلت به، فإن المصيبة العظيمة لا تهون إلا بالنظر إلى ما هو أعظم منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها من أعظم المصائب(5).
__________
(1) صحيح الجامع رقم 6040 .
(2) سنن أبي داود رقم 5090 ، صحيح الجامع رقم 3388 .
(3) سنن الترمذي رقم 3524 صحيح الجامع .
(4) موسوعة الآداب الإسلامية (2/788) .
(5) البيهقي في شعب الإيمان رقم 10152 ، صحيح الجامع 347 .(2/273)
6 ـ مشاهدة النعمة في المصيبة: فمن أدب المسلم مع المصيبة أن يشاهد فيها نعمة الله تعالى، ولئن كان قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ عظيماً وشرّاً كبيراً، فإنه بالنسبة له خير وإكرام يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فلما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ـ يوم عاشوراء قتلته الطائفة الظالمة الباغية وأكرم الله تعالى الحسين بالشهادة كما أكرم بها من أكرم من أهل بيته. أكرم بها حمزة وجعفراً وأباه علياً وغيرهم، وكانت شهادته مما رفع الله بها منزلته وأعلى درجته، فإنه هو وأخوه الحسن سيدا شباب أهل الجنة والمنازل العالية لا تنال إلا بالبلاء كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس أشد بلاء؟ فقال: الأنبياء ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفف عنه، ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة(1). فكان الحسن والحسين قد سبق لهما من الله تعالى ـ ما سبق من المنزلة العالية، ولم يكن حصل لهما من البلاء ما حصل لسلفهما الطيب، فإنهما وُلِدا في عز الإسلام، وتربيا في عز وكرامة، والمسلمون يعظمونهما، ويكرمونهما، ومات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستكملا سن التمييز، فكانت نعمة الله عليهما أن ابتلاهما بما يُلحقهما بأهل بيتهما، كما ابتلى من كان أفضل منهما فإن علي بن أبي طالب أفضل منهما، وقد قُتل شهيداً(2).
__________
(1) الترمذي رقم 2398 حسن صحيح .
(2) الفتاوى (25/162) .(2/274)
7 ـ تذكر القضاء السابق: فإن المسلم متى ما أيقن إن هذه المصائب مكتوبة، ومقدرة، ومتى ما استحضر في ذهنه أن كل ما قدره الله فهو لابد كائن واقع لا محيد عنه، وأن لله تعالى حكمة في تقدير هذه المصائب، كلما تذكر هذه الأمور هانت عليه المصائب(1)، قال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)) (الحديد ، الآيتان : 22 ـ 23) .
8 ـ رأي ابن تيمية وابن كثير في ما يحدثه الشيعة يوم عاشوراء:
__________
(1) موسوعة الآداب الإسلامية (2/790) .(2/275)
أ ـ قال ابن تيمية: وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يفضي إلى ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم وإدخال من لا ذنب له من ذوي الذنوب حتى يسب السابقون الأولون وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله(1). والذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب والاسترجاع... وإذا كان الله قد أمر بالصبر والاحتساب عند حدثان العهد بالمصيبة، فكيف مع طول الزمان؟ فكان ما زينه الشيطان لأهل الضلال والغي من إتخاذ يوم عاشور مأتماً وما يصنعون فيه من الندب والنياحة، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب، وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام، والتوسل بذلك إلى سب السابقين الأولين، وكثرة الكذب والفتن في الدنيا(2).
__________
(1) منهاج السنة (4/554) .
(2) الفتاوى (25/165 ، 166) .(2/276)
ب ـ وأما ابن كثير فيقول: فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه، فإنه من سادات المسلمين وعُلماء الصحابة، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته، وقد كان عابداً وشجاعاً وسخياً ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء وقد كان أبوه أفضل منه وهم لا يتخذون مقتله مأتماً كيوم مقتل الحسين، فإن أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلى صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين، وكذلك عثمان كان أفضل من علي عند أهل السنة والجماعة وقد قُتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقد ذبح من الوريد إلى الوريد، ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتماً، وكذلك عمر بن الخطاب، وهو أفضل من عثمان وعلي، قُتل وهو قائم يُصليّ في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن، ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتماً، وكذلك الصديق كان أفضل منه، ولم يتخذ الناس يوم وفاته مأتماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة، وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتماً يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين، ولا ذكر أحد يوم موتهم وقبلهم شيء مما ادّعاه هؤلاء يوم مقتل الحسين من الأمور المتقدمة مثل كسوف الشمس والحمرة التي تطلع في السماء وغير ذلك وأحسن ما يقال عند ذكر هذه المصائب(1) وأمثالها ما رواه الحسين بن علي عن جدّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها، فيُحدثُ بها استرجاعاً إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب بها(2). يقول ابن تيمية تعليقاً على هذا الحديث: هذا حديث رواه عن الحسين ابنته فاطمة التي شهدت مصرعه وقد علم أن المصيبة بالحسين تذكر
__________
(1) البداية والنهاية (11/579) .
(2) سنن ابن ماجة رقم 1600 في إسناده ضعف ، ضعيف سنن ابن ماجة رقم 349 .(2/277)
مع تقادم العهد، فكان من محاسن الإسلام أن بلغ هو هذه السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه كلما ذكرت هذه المصيبة يسترجع لها، فيكون للإنسان من الأجر يوم أصيب بها المسلمون وأما من فعل مع تقادم العهد بها ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم عند حدثان العهد بالمصيبة فعقوبته أشد مثل لطم الخدود وشق الجيوب، والدعاء بدعوى الجاهلية(1).
9 ـ من يتخذ عاشوراء عيداً :
... هم من النواصب، والنواصب إحدى طوائف أهل البدع التي أصيبت في معتقدها بعدم التوفيق للإعتقاد الصحيح في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فقد زين لهم الشيطان عدم محبة أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وحملهم على التدين ببغضه وعداوته والقول فيه بما هو بريء منه، كما تعدى بغضهم إلى غيره من أهل البيت كابنه الحسين بن علي رضي الله عنهما وغيره فالنصب هو بغض علي رضي الله عنه والنيل منه والإنحراف عنه، وسمي من كانت هذه صفته ناصبياً، فالنصب كالرفض لأن الرفض هو بغض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنيل منهم بالشتم والسب وكلاهما ضلال وابتعاد عن منهج الله، في وجوب حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة سابقتهم في الإسلام وجهادهم بأنفسهم وأموالهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)، فإذا كانت الشيعة اتخذت يوم عاشوراء مأتماً وحزناً اتخذته طائفة أخرى عيداً وموسماً للفرح والسرور وهم إما من النواصب المتعصبين على الحسين وأهل بيته رضي الله عنه، وإما من الجهال الذين قابلوا الفاسد بالفاسد والكذب بالكذب والشر بالشر والبدعة بالبدعة، فوضعوا الآثار في شعائر الفرح والسرور يوم عاشوراء كالاكتحال والإختضاب وتوسيع النفقات على العيال وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ونحو ذلك مما يفعل في الأعياد والمواسم، فصار هؤلاء يتخذون يوم عاشوراء موسماً كمواسم الأعياد والأفراح
__________
(1) الفتاوى (4/312) .
(2) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام (3/1193) ، 1194) .(2/278)
مقابلة لأولئك وهي بدعة ثانية ومما ورد في ذلك من أحاديث موضوعة ومكذوبة ما يلي
أ ـ حديث: من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سنته(1).
ب ـ ابتداع صلاة مخصوصة في يومه وليلته: روي عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى لله يوم عاشوراء ما بين الظهر والعصر أربعين ركعة يقرأ في كل رقعة بفاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي عشر مرات وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة والمعوذتين خمس مرات فإذا سلم استغفر سبعين مرة أعطاه الله في الفردوس قبة بيضاء(2)، وغير ذلك من البدع التي أحدثت في ذلك اليوم والتي لا أصل لها في دين الله عز وجل(3). وقد سئل ابن تيمية عما يفعله الناس في عاشوراء من الكحل والاغتسال والحناء والمصافحة وطبخ الحبوب وإظهار السرور وعزوا ذلك إلى الشارع فهل ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حديث صحيح أم لا؟ وإذا لم يرد حديث صحيح في شيء من ذلك فهل يكون فعل ذلك بدعة أم لا؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين لم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين ولا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روي أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئاً لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين لا صحيحاً ولا ضعيفاُ. ولا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد، ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة وإنما حصلت هذه البدع في يوم عاشوراء، لأن الكوفة كان فيها طائفتان طائفة رافضة يظهرون موالاة أهل البيت وهم في الباطن إما ملاحدة زنادقة وإما جهال وأصحاب هوى وطائفة ناصبة تبغض علياً وأصحابه لما جرى من القتال في الفتنة ما جرى(4). فوضعت الآثار في الاحتفال بعاشوراء لما ظهرت
__________
(1) الموضوعات لابن الجوزي (2/203) .
(2) الموضوعات (2/122 ـ 123) .
(3) المدخل لابن الحاج (1/290 ـ 291) الأعياد صـ274 .
(4) الفتاوى (25/161) .(2/279)
العصبية بين الناصبة والرافضة فإن هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتماً، فوضع أولئك آثار تقتضي التوسع فيه واتخاذه عيداً وكلاهما باطل. فهؤلاء فيهم بدع وضلال وأولئك فيهم بدع وضلال(1). فمن جعل يوم عاشوراء مأتماً وحزناً ونياحة، أو جعله يوم عيد وفرح وسرور فقد ابتدع في الدين وخالف سنة سيد المرسلين(2).
10 ـ هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء:
... يوم عاشوراء من الأيام الفاضلة التي حث النبي صلى الله عليه وسلم على صيامها، فجاء في الحديث الصحيح عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا الدهر كله، وصيام عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده، وصيام عاشوراء احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله(3)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني شهر رمضان(4)، فالسنة إذا في اليوم هذا الصيام فحسب وقد صامه صلى الله عليه وسلم وأخبر بفضل صيامه كما في الحديث السابق وأمر بقيامه، فقد جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة.
أ ـ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون عاشوراء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان فلما افترض رمضان. قال: صلى الله عليه وسلم: إن عاشوراء من أيام الله فمن شاء صامه ومن شاء تركه(5).
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/622 ـ 623) .
(2) الأعياد وأثرها على المسلمين صـ276 .
(3) مسلم رقم 1162 .
(4) البخاري رقم 2006 .
(5) مسلم رقم 1126 .(2/280)
ب ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى، قال: فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه. وعنه أيضاً قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: بصوم يوم عاشوراء العاشر(1).
جـ ـ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا يوم التاسع. قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع(2). وعنه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود صوموا قبله يوماً وبعده يوماً(3).
... ولقد ذكر العلماء أن صوم يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
أ ـ صوم التاسع والعاشر والحادي عشر لحديث: صوموا قبله يوماً وبعده يوماً.
ب ـ صوم التاسع والعاشر لحديث: إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا التاسع.
جـ ـ إفراده بالصوم أي صوم يوم عاشوراء وحده، للأحاديث الدالة على تأكيد صومه(4).
... فهذا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عاشوراء ومن هنا تتجلى وسطية أهل السنة والجماعة فلا إفراط ولا تفريط إنما هو تمسك بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال لأمره رجاء لثواب الله تعالى.
ثانياً : التحقيق في مكان رأس الحسين رضي الله عنه:
__________
(1) مسلم رقم 1134 .
(2) مسلم رقم 1134 .
(3) السنن الكبرى للبيهقي ، ك الصيام (4/287) .
(4) زاد المعاد (2/76) فتح الباري (4/246) .(2/281)
إن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين رضي الله عنه عند عامة الناس إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين والتي أقيمت في عصور التخلف الفكري والعقدي ـ وكلها تدعي وجود رأس الحسين ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في إدعاء وجود الرأس عندها وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ إنتهاء معركة كربلاء(1). لقد ثبت أن رأس الحسين حمل إلى ابن زياد فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فقام إليه أنس بن مالك رضي الله عنه وقال: لقد كان أشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم(2). ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافاً بيناً بشأن رأس الحسين رضي الله عنه ولكن بعد دراسة الروايات التي ذكرت أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية وجدت أن الروايات على النحو التالي، هناك روايات ذكرت أن الرأس أرسل إلى يزيد بن معاوية، وأخذ يزيد ينكث بالقضيب في فم الحسين، الأمر الذي حدا بأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه على أن ينكر على يزيد فعلته، ولكن هذه الرواية التي ذكرت وصول الرأس وتعامل يزيد معه بهذا النحو ضعيفة(3). وقد استدل ابن تيمية على ضعف هذه الرواية: بأن الذين حضروا نكثه بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام، وإنما كانوا بالعراق(4)، ومما يدل على فساد متن هذه الرواية هو أن متنها مخالف لتلك الروايات الصحيحة، والتي بينت حسن معاملة يزيد لآل الحسين وتألمه وبكائه على قتل الحسين رضي الله عنه(5)، وقد قال ابن تيمية: ورأس الحسين إنما حمل إلى ابن زياد وهو الذي ضربه بالقضيب كما ثبت في الصحيح(6)، وأما ما حمله إلى عند يزيد فباطل، وإسناده(7) منقطع،
__________
(1) مواقف المعارضة صـ306 .
(2) سنن الترمذي (5/659) حسن صحيح غريب .
(3) المجمع (9/195) فيه انقطاع .
(4) منهاج السنة (4/557) .
(5) موقف المعارضة في خلافة يزيد صـ308 .
(6) منهاج السنة (8/141) .
(7) المصدر نفسه (8/142) .(2/282)
وقد ذهب ابن كثير إلى ذهاب الرأس إلى يزيد فقد قال: وقد اختلف العلماء في رأس الحسين هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين الأظهر منها أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة والله أعلم(1)، وهو ما ذهب إليه الذهبي(2).
وقد ذكر بأن رأس الحسين مقبور في ستة مدن وهي:
1 ـ دمشق: ذكر البيهقي في المحاسن والمساوئ: أن يزيد أمر بغسل الرأس وجعله في حرير وضرب عليه خيمة ووكل به خمسين رجلاً(3)، وساق ابن عساكر بإسناده عن ريا حاضنة يزيد بن معاوية أن الرأس مكث في خزائن السلاح حتى ولي سليمان، فبعث فجيء به فبقي عظماً فطيبه وكفّنه، فلما وصلت المسودّة(4)، سألوا عن موضع الرأس ونبشوه فالله أعلم ما صنع به(5)، ورواية القصة ((ريا)) هذه ذكرها ابن عساكر ولم يذكر فيها جرحاً، ولا تعديلاً وتكون بذلك مجهولة(6)، وبذلك تكون رواية ساقطة لا يعتمد عليها بأي حال من الأحوال(7)، وقد أورد الذهبي بإسناده عن أبي كريب قال: كنت فيمن توثب على الوليد بن يزيد بدمشق، فأخذت سفطاً وقلت فيه غنائي، فركبت فرسي، وخرجت من باب توما، قال: ففتحته، فإذا فيه رأس مكتوب عليها، هذا رأس الحسين بن علي، فحفرت فيه بسيفي فدفنته(8)؟. وهي رواية ضعيفة جداً(9). ومن ناحية أخرى ما هي فائدة يزيد في احتفاظه برأس الحسين وجعله في خزائن سلاحه(10).
__________
(1) البداية والنهاية (11/580) .
(2) تاريخ الإسلام (61 ـ 81) صـ106 .
(3) المحاسن والمساوئ صـ84 بدون إسناد .
(4) السودّة : جنود العباسيون وهو الشعار الذي رفعه العباسيون .
(5) تاريخ ابن عساكر ، تراجم النساء نقلاً عن مواقف المعارضة صـ311 .
(6) مواقف المعارضة صـ313 .
(7) المصدر نفسه صـ313 .
(8) السير (3/316) سمط النجوم العوالي (3/86) .
(9) مواقف المعارضة صـ313 .
(10) مواقف المعارضة صـ313 .(2/283)
2 ـ كربلاء: لم يقل أحد بأن الرأس في كربلاء إلا الشيعة الإمامية، فإنهم يقولون: بأن الرأس أعيد إلى كربلاء بعد أربعين يوماً من القتل، ودفن بجانب جسد الحسين(1) رضي الله عنه وهو يوم معروف عندهم يسمون فيه زيارة الأربعين ويكفي أن هذا القول إنما تفرد به الشيعة الإمامية وهم ليس عندهم في ذلك أي دليل أنما أقاويل عارية من الحجة والبرهان وقد أنكر أبو نعيم الفضل بن دكين على من زعم أنه يعرف قبر الحسين رضي الله عنه(2)، وقد ذكر ابن جرير وغيره أن موضع قتله عفي أثره حتى لم يطلع أحد على تعيينه(3).
3 ـ الرقة: لقد انفرد سبط ابن الجوزي بإيراد خبر يذكر أن الرأس قبر بالرقة وقال: إن الرأس بمسجد الرقة على الفرات وأنه جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: لأبعثن إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سور هناك(4). وهذا خبر مستبعد فالرواية ليست مسنده ثم إن الخبر فيه نكارة واضحة لمخالفته النصوص الصحيحة، والتي ثبت فيها حسن معاملة يزيد لأسرة الحسين وتحسّره وندمه على قتله(5)، ثم إن سبط ابن الجوزي هذا قال عنه الذهبي: ورأيت له مصنفاً يدل على تشيعه(6).
4 ـ عسقلان: لقد أنكر جمع من المحققين الخبر القائل بأن رأس الحسين دفن في عسقلان قال القرطبي: وما ذكر أنه في عسقلان فشيء باطل(7)، وأنكر بن تيمية وجود الرأس بعسقلان(8)، وتابعه على ذلك ابن كثير(9).
__________
(1) المصدر نفسه صـ313 ، نور الأبصار صـ121 .
(2) تاريخ بغداد (1/143 ـ 144) ترجمة الحسين 276 .
(3) البداية والنهاية (11/580) .
(4) شخصيات إسلامية (3/298) للعقاد ، مواقف المعارضة صـ314 .
(5) مواقف المعارضة صـ314 .
(6) السير (23/297) .
(7) التذكرة (2/295) .
(8) تفسير سورة الإخلاص لابن تيمية صـ264 .
(9) البداية والنهاية (11/582) .(2/284)
5 ـ القاهرة: يبدو أن اللعبة التي قام بها العبيديون (الفاطميون) قد انطلت على الكثير من الناس، فبعد أن عزم الصليبيون الاستيلاء على عسقلان سنة تسع وأربعين وخمسمائة خرج الوزير الفاطمي صالح طلائع بن زريك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودفن في المشهد الحسيني قريباً من خان الخليلي في القبر المعروف. وكان ذلك في يوم الأحد الثامن من جمادي الآخر سنة ثمان وأربعين وخمسمائة(1)، وقد ذكر الفارقي أن الخليفة الفاطمي نفسه قد خرج وحمل الرأس(2)، وذكر الشبلنجي أن الوزير الصالح طلائع افتدى الرأس من الأفرنج ونجح في ذلك بعد تغلبهم على عسقلان وافتداه بمال جزيل(3)، ولقد حاول بعض المؤرخين أن يؤكدوا على أن الرأس قد نقل فعلاً من عسقلان إلى مصر، وأن المشهد الحسيني في مصر إنما هو حقيقة مبني على رأس الحسين رضي الله عنه(4)وقد أثبت أحد المتأخرين وهو حسين محمد يوسف بأن الرأس الموجود في المشهد الحسيني هو حقيقة رأس الحسين وخطأ من يقول بغير ذلك وكان الاستدلال الذي جاء به: هي تلك المنامات والكشوفات التي تجلت لبعض الصوفية والتي جاء في تلك المنامات أن الرأس هو في الحقيقة رأس الحسين ثم أورد تأييداً لهذا القول، باستحداث قاعدة قال فيها: أن الرأس يوجد في القاهرة وذلك بسبب الشك الذي تعارض مع اليقين، واليقين هم أصحاب الكشف(5). وهذا الاستدلال لا يخضع إلى عقل أو منطق أو حجة علمية، أو برهان علمي ـ فضلاً عن قواعد المنهج الإسلامي في الاستدلال إن الاستدلال على وجود رأس الحسين في القاهرة كان مبنياً على استناده بأن الرأس كان في عسقلان،
__________
(1) المقريز (1/427) ، بدائع الزهور (1/227) .
(2) تاريخ ميارفين صـ70 .
(3) نور البصائر صـ121 ، مشاهد الصفا صـ316 مواقف المعارضة صـ316 .
(4) مواقف المعارضة صـ317 .
(5) الحسين سيد شباب أهل الجنة صـ149 ـ 153 .(2/285)
وقد أثبتنا قبل قليل بطلان وجود الرأس بعسقلان، وبالتالي يكون الرأس الذي حمل إلى القاهرة، والمشهد المعروف اليوم والمقام عليه والمسمى بالمشهد الحسيني هو كذب، وليس له علاقة برأس الحسين رضي الله عنه وإذا ثبت أن الرأس الذي كان مدفوناً بعسقلات هو ليس في الحقيقة برأس الحسين، فإذا متى أدّعي أن رأس الحسين بعسقلان وإلى من يعود ذلك الرأس؟ يقول النويري: أن رجلاً رأى في منامه، وهو بعسقلان أن رأس الحسين في مكان بها، عُيّن له في منامه، فنبش ذلك الموضع، وذلك في أيام المستنصر بالله العبيدي صاحب مصر، ووزارة بدر الجمالي، فابتني له بدر الجمالي مشهداً بعسقلان(1)، وقام الأفضل بعد ذلك بإخراجه وعطّره ووضعه في مكان آخر من عسقلان وابتنى عليه مشهداً كبيراً(2)، ولعلك تعجب من إسراع العبيديين لأقامة المشهد على هذا الرأس، لمجرد رؤية رجل فقط؟ ولكن إذا عرفت تاريخ العبيديين فإن الأمر لا يستغرب لهذا الحد، فإحاسهم بأن الناس لا يصدقون نسبتهم إلى الحسين، جعلهم يلجؤون إلى تغطية هذا الجانب، باستحداث وجود رأس الحسين بعسقلان، ويظهروا من الاهتمام به وبناء المشهد عليه والإنفاق على ترميمه وتحسينه من الأموال الشيء الكثير حتى يصدقهم الناس، ويقولون: إنه لو لم يكن لهم نسب فيه لما اهتموا به إلى هذا الحد؟ ثم إن هناك بعداً سياسياً أخر باستحداث وادعاء وجود رأس الحسين بعسقلان دون غيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرتهم وهو محاولة مجابهة الدويلات السنية التي قامت في بلاد الشام، ومن المعروف أن حكومة المنتصر بالله العبيدي قد صادفت قيام دولة السلاجقة السنية التي تمكن قائدها طغرلبك السلجوفي من دخول بغداد سنة سبع وأربعين وأربعمائة(3). ومما يدل على أن استحداث وجود رأس الحسين بعسقلان ونقله إلى مصر ما هو إلا خطة عبيدية، هو أنه لم يرد بأن رأس الحسين وجد
__________
(1) نهاية الأرب (20/478) .
(2) اتعاظ الحنفاء (3/22) للمقريزي .
(3) النجوم الزاهرة (5/57)(2/286)
في عسقلان في أي كتاب قبل ولاية المنتصر الفاطمي. وهذا مما يعزز كذب العبيديين وتحقيق أغراض خاصة لهم بذلك(1) ، وقد ذكر ابن تيمية أن هذا الرأس المزعوم بأنه رأس الحسين ليس في الأصل سوى رأس راهب(2). وقد نقل ابن دحية في كتابه ((العلم المشهور)) الإجماع على كذب وجود الرأس بعسقلان أو بمصر، ونقل الإجماع أيضاً على كذب المشهد الحسيني الموجود في القاهرة وذكر أنه من وضع العبيديين ولأنه لأغراض فاسدة وضعوا ذلك المشهد وقد أزال الله تلك الدولة وعاقبها بنقيض قصدها(3). وقد أنكر وجود الرأس في مصر كل من: ابن دقيق العيد، وأبو محمد بن خلف الدمياطي، ,ابو محمد بن القسطلاني، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهم(4). وقال ابن كثير: وادعت الطائفة المسماة بالفاطميين الذين ملكوا مصر قبل سنة أربعمائة إلى سنة ستين وخمسمائة أن رأس الحسين وصل إلى الديار المصرية ودفنوه بها وبنوا عليه المشهد المشهور بمصر، الذي يقال له تاج الحسين، بعد سنة خمسمائة، وقد نص غير واحد من أئمة أهل العلم على أنه لا أصل لذلك وإنما أرادوا أن يروجوا بذلك بطلان ما ادعوه من النسب الشريف، وهم في ذلك كذبة خونة، وقد نص على ذلك القاضي الباقلاني وغير واحد من أئمة العلماء في دولتهم، قلت: والناس أكثرهم يروّج عليهم مثل هذا، فإنهم جاءوا برأس فوضعوه في مكان هذا المسجد المذكور، وقالوا هذا رأس الحسين، فراج ذلك عليهم واعتقدوا ذلك والله أعلم(5).
__________
(1) مواقف المعارضة صـ319 .
(2) رأس الحسين صـ187 نقلاً عن مواقف المعارضة صـ320 .
(3) رأس الحسين صـ186 مواقف المعارضة صـ320 .
(4) المصدر السابق صـ186 ، 187 .
(5) البداية والنهاية (11/582) .(2/287)
6 ـ المدينة النبوية: إن المدن التي مرّ ذكرها لم يثبت لدينا أدنى دليل على وجود الرأس بها، ولم يبق أمامنا سوى المدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسناد جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم(1)، وقال ابن تيمية: ثم إن دفنه بالبقيع: هو الذي تشهد له عادة القوم فإنهم كانوا في الفتن، إذا قتل الرجل منهم، ـ لم يكن منهم ـ سلموا رأسه وبدنه إلى أهله كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما من الحروب أعظم بكثير مما كان بين الحسين وبين خصومه(2). كما أننا لا نجد انتقاداً واحداً انتقد فيه يزيد سواءً من آل البيت أو من الصحابة أو من التابعين فيما يتعلق بتعامله مع الرأس، فظني أن يزيد لو أنه تعامل مع الرأس كما تزعم بعض الروايات من الطوفان به بين المدن والتشهير برأسه، لتصرف الصحابة والتابعين تصرفاً آخر على أثر هذا الفعل، ولما رفض كبارهم الخروج عليه يوم الحرة ولرأيناهم ينضمون مع ابن الزبير المعارض الرئيسي ليزيد(3)، ويؤيد هذا الرأي قول الحافظ أبو يعلي الهمداني: إن الرأس قبر عند أمه فاطمة رضي الله عنهما وهو أصح ما قيل في ذلك(4)، وهو ما ذهب إليه علماء النسب مثل الزبير بن بكار ومحمد بن الحسن المخزومي(5)، وذكر ابن أبي المعالي أسعد بن عمار في كتابه ((الفاصل بين الصدق، والمَيْن في مقر رأس الحسين)) أن جمعاً من العلماء الثقات كابن أبي الدنيا وأبي المؤيد الخوارزمي، وأبي الفرج بن الجوزي قد أكدوا أن الرأس مقبور في البقيع بالمدينة(6)،
__________
(1) الطبقات (5/238) ، تاريخ الإسلام صـ20 حوادث (60 ـ 81هـ) .
(2) رأس الحسين صـ183 .
(3) مواقف المعارضة صـ323 .
(4) التذكرة (2/295) .
(5) التذكرة للقرطبي (2/295) .
(6) الرد على المتعصب العنيد نقلاً عن مواقف المعرضة صـ323 .(2/288)
وتابعهم على ذلك القرطبي(1)، وقال الزرقاني: قال ابن دحية ولا يصح غيره(2)، وابن تيمية يميل إلى أن الرأس قد بعث به يزيد إلى واليه على المدينة عمر بن سعيد وطلب منه أن يقبره بجانب أمه فاطمة رضي الله عنها والذي جعل ابن تيمية برأي ذلك هو: أن الذي ذكر أن الرأس نقل إلى المدينة هم من العلماء والمؤرخين الذين يعتمد عليهم مثل الزبير بن بكار، صاحب كتاب الأنساب، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي صاحب الطبقات ونحوهما من المعروفين بالعلم والثقة والاطلاع، وهم أعلم بهذا الباب، واصدق فيما ينقلونه من المجاهيل والكذابين، وبعض أهل التاريخ، الذين لا يوثق بعلمهم، وقد يكون الرجل صادقاً، ولكن لا خبرة له بالأسانيد، حتى يميز بين المقبول والمردود أو يكون سيء الحفظ أو متهماً بالكذب أو بالتزوير في الرواية، كحال كثير من الأخباريين والمؤرخين(3).
... وقال ابو عمر عبد الله بن محمد الحمادي: وهكذا اختلفوا في موقع رأس الحسين على ثلاثة أماكن وكل واحد منهم يريد أن يكون الرأس عنده حتى تكثر الزيارات فيكثر رمي الأموال على القبر ليتقاسمه السدنة، وحرّاس القبور وبهذا الاختلاف جعلوا للحسين ثلاثة رؤوس ومعلوم يقيناً أنه كان رضي الله عنه له رأس واحد(4). ومن خلال البحث، فإنه يتضح أن جسد الحسين رضي الله عنه بكربلاء وأما رأسه بالبقيع في المدينة والله أعلم.
ثالثاً : تقديس أضرحة الأئمة وزيارة قبر الحسين رضي الله عنه عند الشيعة:
__________
(1) التذكرة (2/295) مواقف المعارضة صـ324 .
(2) مشاهد الصفا ورقة 10 نقلاً عن مواقف المعارضة صـ324 .
(3) رأس الحسين صـ170 .
(4) شرح الصدور ببيان بدع الجنائز والقبور صـ127 .(2/289)
بالغ الشيعة في تعظيم مراقد الأئمة ومنحوها من القداسة والشرف ما لم تحظ به الكعبة المشرفة والمدينة المنورة، فقد نسبوا زوراً وبهتاناً إلى علي بن الحسين أنه قال: اتخذ الله أرض كربلاء حرماً آمناً مباركاً قبل أن يخلق الله أرض الكعبة ويتخذها حرماً بأربعة وعشرين ألف عام وقدسها وبارك عليها، فما زالت قبل خلق الله الخلق ـ مقدسة مباركة ولاتزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض الجنة وأفضل منزل ومسكن يسكن فيه أولياؤه في الجنة(1) ـ كما نسبوا إلى جعفر الصادق وهو بريء مما نسبوا إليه ـ: أن أرض الكعبة قالت: من مثلي وقد بُني بيت الله على ظهري يأتيني الناس من كل فج عميق وجعلت حرم الله وأمنه، فأوحى الله إليها: أن كفّي وقرّي ما فضل ما فضلت به فيما أعطيت أرض كربلاء إلا بمنزلة الإبرة غرست في البحر فحملت من ماء البحر، ولولا تربة كربلاء ما فضلتك ولولا ما تضمنه أرض كربلاء ما خلقتك ولا خلقت البيت الذي به افتخرت، فقري واستقري وكوني ذنباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكبر لأرض كربلاء وإلا سخت بك وهويت بك في نار جهنم(2). وهذه البقعة بالطبع لم تنل ما نالت إلا بكونها في معتقدهم مدفن الحسين رضي الله عنه: وقد جرت على ألسنة الشعراء وأقلام الكتاب من بعد الواقعة وإلى يومنا هذا المقارنة بينها وبين الكعبة وتفننوا بمختلف أساليب النثر والنظم في إثبات فضلها وقداستها وشرفها واستطالة أرضها على جميع الأقطار بالفضل والشرف، وهذه الأرض المباركة لم تنل هذا الشرف العظيم في الإسلام إلا بالحسين رضي الله عنه كما نص عليه الحديث: وزادها في تواضعها وشكرها لله بالحسين (ع) وأصحابه(3)، وبناء على غلوهم واعتقادهم في الأئمة ـ والتي قد مرّ بيان معتقدهم في ذلك في كتابي عن أمير
__________
(1) بحار الأنوار (101/107) ، أصول مذهب الشيعة .
(2) كامل الزيارات صـ(270) بحار الأنوار (101/109) ، أصول مذهب الشيعة (2/464) .
(3) أصول مذهب الشيعة (2/464) .(2/290)
المؤمنين علي رضي الله عنه ـ ولأجل ربط الناس بأضرحتهم ومشاهدهم، وضعوا الفضائل الكبيرة والأجور الكثيرة لمن زار تلك المشاهد، ومع الكثرة الكاثرة من النصوص في هذا الجانب والتي تتفاوت فيها الأجور والمقارنة بين زيارة كربلاء والحج والعمرة لبيت الله الحرام، فإنني(1) سأقتصر على نصين فقط لإحتوائهما على معظم تلك النصوص وتصوير مدى الكذب والافتراء عند القوم واستخفافهم بعقول اتباعهم وجرأتهم على الله عز وجل فيما نسبوه إلى أبي عبد الله جعفر الصادق أنه قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً وانقطعت أنفسهم عليه حسرات قلت: وما فيه؟ قال من زاره تشوقاً إليه كتب الله له ألف حجة متقبلة وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم، وثواب ألف صدقة مقبولة وثواب ألف نسخة أريد بها وجه الله، ولم يزل محفوظاً سنته من كل آفة أهونها الشيطان، وكل به ملك كريم يحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وفوق رأسه وتحت قدمه، فإن مات من سنته حضرته ملائكة الرحمن يحضرون غسله وأكفانه والاستغفار له ويشيعونه إلى قبره بالاستغفار ويفسح له في قبره مد بصره ويؤمنه الله من ضغطة القبر ومن منكر ونكير يروعانه، ويفتح له باب إلى الجنة ويعطى كتابه بيمينه، ويعطي له يوم القيامة نور يضيء لنوره ما بين المشرق والمغرب، وينادي مناد هذا من زوار الحسين شوقاً إليه، فلا يبقى أحد يوم القيامة إلا تمنى يومئذ أنه كان من زوار الحسين عليه السلام(2). وقد سوّغ هذه المبالغات أحد أئمتهم بذكر فضائلهم وما أعطوا من صفات فوق مستوى البشر فقال: إن هذا ليس بكثير على من جعله الله إماماً للمؤمنين، وله خلق السماوات والأرضين، وجعله صراطه وسبيله وعينه ودليله وبابه الذي يؤتي منه وجعله المتصل بينه وبين
__________
(1) تاريخ كربلاء صـ102 ، القبورية في اليمن صـ155 .
(2) ووسائل الشيعة (1/353) بواسطة أصول مذهب الشيعة (2/456) . .(2/291)
عباده من رسل وأنبياء وحجج وأولياء، هذا مع أن مقابرهم رضي الله عنهم فيها أيضاً إنفاق أموال ورجاء آمال وأشخاص أبدان وهجران أوطان وتحمل مشاق، وتجديد ميثاق، وشهود شعائر وحضور مشاعر(1). ومبالغة في تقديس تلك القبور جعلوا لها مناسك خاصة بها وهذه المناسك ليست خاصة بقبر الحسين فقط، بل إنها عامة بجميع مشاهد أئمتهم(2)، وقد قال آغا بزرك الطهراني أحد شيوخ الشيعة، أن ما صنفه شيوخهم في المزار، ومناسكه قد بلغ ستين كتاباً(3)، وإليك منسكاً من تلك المناسك التي يؤدونها عند المشاهد باختصار: قال الصادق عليه السلام: إذا أردت المسير إلى قبر الحسين عليه السلام فصُم يوم الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا أردت الخروج فاجمع أهلك وولدك وادع بدعاء السفر، واغتسل قبل خروجك، وقل حين تغتسل كذا، وكذا، فإذا خرجت فقل كذا وكذا، ولا تدّهن ولا تكتحل حتى تأتي الفرات، وأقِلْ من الكلام والمزاح، وأكثر من ذكر الله تعالى، وإياك والمزاح والخصومة، فإذا كنت راكباً أو ماشياً.. فإذا خفت شيئاً فقل.. فإذا أتيت الفرات فقل قبل أن تعبره... ثم أعبر الفرات.. ثم تفصيل إلى أن يقول واصنع هذه المناسك:.. ثم ضع خدك على القبر ((قبر علي بن الحسين)) وقل:.. ثم تدور من خلف الحسين عليه السلام إلى عند رأسه وصلّ عند رأسه ركعتين.. ثم تنكب على القبر وتقول.. ثم تخرج من السقيفة وتقف بحذاء قبور الشهداء وتوميء إليهم أجمعين(4) إلى غير ذلك من تفاصيل لبعض ما يفعلون عند المشاهد من طواف بها واستقبال لها حال الصلاة وغير ذلك آثرت تركها اختصاراً(5)، وانظر بعضها في أصول مذهب الشيعة(6)، كما أن
__________
(1) قائل ذلك الفيض الكاشاني (2/254) القبورية في اليمن صـ156 .
(2) القبورية في اليمن صـ157 .
(3) الذريعة إلى تصانيف الشيعة نقلاً عن أصول الشيعة (2/467) .
(4) تاريخ كربلاء صـ129 ـ 131 القبورية في اليمن صـ158 .
(5) القبورية في اليمن صـ158 .
(6) أصول مذهب الشيعة (2/467 ـ 477) .(2/292)
الشيعة تعتقد أن بناء الأضرحة والقباب على مراقد الأنبياء والأئمة ـ والشخصيات الإسلامية من أفضل المقربات لله سبحانه وتعالى، وإليك الرد على كل من:
1 ـ قدسية كربلاء:
... لا يوجد نص في كتاب الله ولا صح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أو علماء الأمة في خير القرون يدل على قدسية كربلاء أو الفضائل المزعومة لها وغيرها كالنجف وما يسمى بالعتبات المقدسة، وأما الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله من قدسية وفضائل فهي، المسجد الحرام، والمشاعر المقدسة داخل المسجد الحرام وخارجه، كالكعبة، ومقام إبراهيم، بئر زمزم، الصفا والمروة، منى، رحاب عرفات، رحاب مزدلفة والمسجد النبوي وفضل الصلاة فيه، وفضل ما بين بيت الرسول ومنبره، وجواز شد الرحل إليه، وإلى المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وفضائل المدينة، وفضائل مسجد قباء، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة للمدينة، وجود البركة في صاع أهل المدينة والبقاء بها، تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة وتحريم صيدها وشجرها، فضل وادي العقيق وبركته وفضائل المسجد الأقصى وبركاته، فضل الصلاة فيه، جواز شد الرحال إليه، وجود البركة حوله، وأنه ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام، الإسراء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وجاءت الآيات والأحاديث في فضل سائر المساجد وبيوت الله عز وجل، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم كون المساجد بيوت الله في الأرض، وفضل السعي إلى المساجد وملازمتها وفضل بناءها(1)..ألخ أما ما نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قدسية كربلاء وفضائلها فإنه لا يصح في ذلك، وهذا يجري حكمه على البلاد والمقابر والقبور والأضرحة مما يزعم الشيعة أو جهّال السنة.
2 ـ هدي الإسلام في زيارة القبور:
__________
(1) من قتل الحسين صـ113 .(2/293)
... كما هو في سائر شرائع الإسلام أنها تكون في غاية من الاعتدال والسماحة، وصادرة عن حكمة بالغة تضمن لمن عمل بها على بصيرة الفوز، والنجاح، والسعادة، دون أن يتعرض بسببها لأي نوع من أنواع الضلال والشقاء في الدنيا والآخرة، كذلك كانت شرعية زيارة القبور في الإسلام حينما كان الناس حدثاء عهد بالكفر والشرك وعبادة غير الله نهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن الزيارة حتى يكون هناك برزخ فاصل بين العهدين عهد الشرك وعهد التوحيد، وعهد الجاهلية، وعهد الإسلام حتى يذهب ما في النفوس من الإلتفات إلى الأرض وما عليها ممّا يقدِّسه الناس، وعهد السموّ الروحي والصفاء القلبي والذهني الذي لا يبقى معه إلتفات إلى غير الله عز وجل(1)، وفعلاًُ حينما حصل ذلك، خاطب النبي صلى الله عليه وسلم أمته قائلاً: كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها(2) فإنها تذكر الموت. وفي رواية: فإن في زيارتها تذكرة، وفي أخرى: فإنها تذكر الآخرة(3)، وفي ثالثة: ((فزوروها ولتزدكم زيارتها خيراً(4)، وفي رواية رابعة: فإن فيها عبرة(5)، ومن حديث أنس رضي الله عنه: ثم بدا لي أنها تُرقّ القلب وتُدمع العين وتُذكر الموت، والدار الآخرة، وتزهِّد في الدنيا، وترق القلب وتدمع العين، وينبغي أن يحرص الزائر أن تزيده زيارته للمقابر خيراً، وهذا كله فيما يخص الزائر(6)، وأما الأموات فإن لهم فيها نصيب أيضاً حيث كان صلى الله عليه وسلم إذا زارهم الله عنها قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً
__________
(1) القبورية في اليمن صـ73 .
(2) مسلم ، ك الجنائز ، شرح النووي على صحيح مسلم (7/46) .
(3) المصدر نفسه (7/46) .
(4) سنن الترمذي (3/361) صححه الألباني في صحيحه (1/307) .
(5) مسند أحمد (17/249) حديث صحيح . مؤسسة الرسالة .
(6) القبورية في اليمن صـ74 .(2/294)
مؤجَّلون وإنا إن شاء الله بكم للاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد(1). ففي هذه الأحاديث بيان أن من مقاصد الزيارة وعللها السلام على الأموات والدعاء والاستغفار لهم، قال الإمام الصنعاني ـ في سبل السلام ـ بعد ما شرح أحاديث الإذن بالزيارة: والكل دالّ على مشروعية زيارة القبور وبيان الحكمة فيها وأنها للاعتبار.. فإذا خلت من هذه لم تكن مرادة شرعاً(2). فهذه هي زيارة القبور في هدي الإسلام كما علمهم إيّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أتى بها على هذا الوجه ولهذه الغاية ظفر بالأجر والفائدة المترتبة عليها، ومن زارها لغير ذلك فهي ردٌّ عليه. ثم إنها إما أن تكون بدعية وإما أن تكون شركية بحسب ما يحصل فيها من أعمال ويقارنها من اعتقاد وقصد ذلك هو هدي الإسلام في زيارة القبور، وتلك هي أهداف وغايات الزيارة واضحة ناصعة بعيدة عن كل ذريعة تؤدي إلى الشرك بأربابها والغلوّ في أصحابها، وقد جاءت بعض القيود التي تسد الثغرات الموصلة إلى ذلك(3).
القيد الأول: ألا تتخذ أعياداً، قال صلى الله عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم(4). فليس من هدي الإسلام تعيين يوم معين من سنة أو شهر، أو أسبوع يخصص لزيارة القبور كما هو شأن(5) بعض الناس.
__________
(1) مسلم مع شرح النووي (7/40 ـ 41) ك الجنائز .
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام (2/230 ـ 231) .
(3) القبورية في اليمن صـ75 .
(4) مسند أبي يعلي (1/361) رقم 469 صحيح بشواهده وطرقه حسنة .
(5) القبورية في اليمن صـ75 .(2/295)
القيد الثاني: ألا تُشَدّ إليها الرحال، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام ومسجد الأقصى ومسجدي(1). فهذا النهي عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة مقصود به أن يشد رحله مسافراً إلى مكان بعينه لعبادة الله تعالى فيه(2)، ولم يثبت أن أحداً من الصحابة أو التابعين، أو علماء أتباع التابعين سافر إلى قبر، أو مشهد لمجرد الزيارة، ولم يصرح أحد منهم باستحباب ذلك العمل(3)، وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم ابن الحجاج وبعد إيراد مختلف الأقوال ومناقشتها قال: وأما السفر لغير زيارة القبور كما تقدم نظائره، فقد ثبت بأدلة صحيحة، ووقع في عصره صلى الله عليه وسلم وقرره النبي صلى الله عليه وسلم فلا سبيل إلى المنع منه والنهي عنه، بخلاف السفر إلى زيارة القبور فإنه لم يقع في زمنه ولم يقر أحداً من أصحابه، ولم يشر في حديث واحد إلى فعله واختياره ولم يشرعه لأحد من أمته لا قولاً ولا فعلاً(4).
3 ـ البناء على القبور واتخاذها مساجد:
__________
(1) مسلم مع شرح النووي (9/104 ـ 106) .
(2) القبورية في اليمن صـ76 .
(3) المصدر نفسه صـ77 .
(4) السراج الوهاج (5/116) القبورية في اليمن صـ77 .(2/296)
... نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عن البناء على القبور وتعظيمها بأي نوع من أنواع التعظيم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يفعل ذلك إلا شرار الخلق عند الله تعالى، فعن جندب بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:... ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك(1)، وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه ويبنى عليه(2). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن من شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء ومن يتخذ القبور مساجد.(3) ففي هذه الأحاديث التي مرت النهي الصريح عن أي نوع من أنواع التعظيم للقبور ومن ذلك، النهي عن اتخاذها مساجد، والنهي عن مجرد البناء عليها، وعن تجصيصها، والكتابة عليها، وقد توجه النهي أول ما توجه إلى قبور الأنبياء والصالحين، لماذا؟ لأنها هي التي يخشى الغلو في أربابها عكس قبور سائر الناس، والفتنة لها أعظم من غيرها. وهذا هو الواقع المشاهد فإنه ما من مشهد إلا ويزعم أنه بني على ولي صالح، ذي مناقب وكرامات عظيمة يرجى نفعه ويخاف انتقامه، أو يزعم أنه على نبي من أنبياء الله كما ظهر ذلك تخميناً في أماكن كثيرة من بلاد الله، ولكثير من الأنبياء مع تصريح العلماء أنه لا يُعلم على التحقيق واليقين إلا قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وزاد بعضهم قبر الخليل عليه في الموضع المشهور باسمه في فلسطين(4). وقد قال النووي في تعليقه على حديث رسول الله السابق: قال العلماء: إنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره مسجداً خوفاً من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، فربما أدى ذلك إلى الكفر كما
__________
(1) شرح النووي على مسلم (5/13) .
(2) شرح النووي (7/37) .
(3) المصدر نفسه .
(4) الفتاوى (27/140) .(2/297)
جرى لكثير من الأمم الخالية ولما احتاجت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كثر المسلمون وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين فيه ومنها حجرة عائشة رضي الله عنها، مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، بنوا على القبر حيطاناً مستديرة حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن أحد من استقبال القبر، ولهذا قال في الحديث. ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجداً. والله أعلم بالصواب(1)، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسوية القبور المشرفة مع قرن ذلك بطمس التماثيل، فعن أبي الهيّاج الأسدي ـ رحمه الله ـ قال: قال لي على بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع تمثالاً إلا طمسته ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته(2). فهذا أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يبعث رئيس شرطته أبا الهياج الأسدي لطمس القبور كما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم أي أنه يطبق ما عرفه وفهمه من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك(3). وقد صرّح العلماء بخلوّ القرون المفضلة من وجود المشاهد قال ابن تيمية وهو يتكلم عن مشهد رأس الحسين رضي الله عنه:... دع خلافة بني العباس في أوائلها وفي حال استقامتها فإنهم حينئذ في قوتهم وعنفوانهم ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم من ذلك شيء في بلاد الإسلام لا في الحجاز ولا اليمن ولا الشام والعراق ولا مصر ولا خراسان ولا المغرب ولم يكن قد أحدث مشهد لا على قبر نبي ولا صاحب ولا من أهل البيت وصالح أصلاً، بل عامة هذه المشاهد محدثة، بعد ذلك، وكان ظهورها
__________
(1) شرح النووي على مسلم (5/12 ـ 13) .
(2) شرح النووي على مسلم (7/36) .
(3) القبورية في اليمن صـ54 .(2/298)
وانتشارها حين ضعفت خلافة بني العباس وتفرقت الأمة وكثر فيهم الزنادقة والملبسون على المسلمين وفشت فيهم كلمة أهل البدع وذلك في دولة المقتدر في أواخر المائة الثالثة، فإنه إذ ذاك ظهرت القرامطة العبيدية القداحية بأرض المغرب ثم جاءوا بعد ذلك إلى أرض مصر وقريباً من ذلك ظهر بنو بويه في كثير منهم زندقة وبدع قوية، وفي دولتهم قويَ بنو القداح بأرض مصر، وفي دولتهم أظهر المشهد المنسوب إلى علي رضي الله عنه بناحية النجف، وإلا فقبل ذلك لم يكن أحد يقول إن قبر علي هناك وإنما دفن علي رضي الله عنه بقصر الإمارة بالكوفة، وإنما ذكروا أن بعضهم حكى عن الرشيد أنه جاء إلى بقعة هناك وجعل يعتذر إلى المدفون فيها، فقالوا إنه علي وإنه اعتذر إليه مما فعل بولده، فقالوا هذا قبر علي، وقد قال قوم إنه قبر المغيرة بن شعبة(1).. ويقول الذهبي في ترجمة عضد الدولة البويهي: وكان شيعياً جلداً أظهر بالنجف قبراً زعم أنه قبر الإمام علي وبنى عليه المشهد وأقام شعار الرفض ومأتم عاشوراء والاعتزال ثم قال: وبه ختم ترجمة عضد الدولة: قلت: فنحمد الله على العافية فلقد جرى على الإسلام في المائة الرابعة بلاء شديد بالدولة العبيدية بالمغرب، وبالدولة البويهية بالمشرق وبالأعراب القرامطة فالأمر لله تعالى(2). وقال ابن كثير في حوادث سنة 347هـ: وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد كانوا رفضاً وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب، وكثر السب والتكفير منهم للصحابة(3). ويؤيده كذلك ما ذكره السمهودي ـ رحمه الله ـ في كتابه وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، وهو يتحدث عن قبر فاطمة رضي الله عنها قال: وإنما أوجب عدم العلم بعين قبر
__________
(1) الفتاوى (27/245) .
(2) سير أعلام النبلاء (16/250 ـ 252) .
(3) البداية والنهاية (11/233) نقلاً عن القبورية في اليمن صـ118 .(2/299)
فاطمة رضي الله عنها وغيرها من السلف ما كنوا عليه من عدم البناء على القبور وتجصيصها(1). وقال الشافعي ـ رحمه الله : ولم أر قبور المهاجرين والأنصار مجصصة، قال الراوي عن طاووس : ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تبنى القبور أو تجصص ـ قال الشافعي: وقد رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما يبنى فيها فلم أرَ الفقهاء يعيبون ذلك(2)
... إن الحقيقة التاريخية تقول أن القرون الثلاثة المفضلة مضت وليس هناك قبور معظمة ولا مشاهد أو قباب ولا غيرها من مظاهر القبورية، ولا شيء من طقوس ومراسيم العبادات القبورية، وما حاول فعله الشيعة من ذلك فقد جُوبه بردع قوي من خلفاء المسلمين وأمرائهم، كأبي جعفر المنصور العباسي، وهارون الرشيد(3).
رابعاً : خروج الحسين رضي الله عنه في الميزان الشرعي:
__________
(1) وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى (3/906) .
(2) الأم للشافعي نقلاً عن القبورية في اليمن صـ119 .
(3) القبورية في اليمن صـ132 ، 133 .(2/300)
... إن عدم التمعن في معارضة الحسين ليزيد، والتأمل في دراسة الروايات التاريخية الخاصة بهذه الحادثة، قد جعلت البعض يجنح إلى اعتبار الحسين خارجاً على الإمام، وأن ما أصابه كان جزاءً عادلاً وذلك وفق ما ثبت من نصوص نبوية تدين الخروج على الولاة، فقد صلى الله عليه وسلم: من أراد أن يفرق بين المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان(1). قال السيوطي: أي فاضربوه شريفاً أو وضيعاً على إفادة معنى العموم(2). وقال النووي معلقاً على هذا الحديث: الأمر بقتال من خرج على الإمام أو أراد تفريق كلمة المسلمين ونحو ذلك وينهي عن ذلك فإن لم ينته قوتل، وإن لم يندفع شره إلا بالقتل قتل وكان دمه هدراً(3)، وفي الحديث وغيره من الأحاديث المشابهة له جاء تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم على أن الخارج على سلطان المسلمين يكون جزاؤه القتل، وذلك لأنه جاء ليفرق كلمة المسلمين، والتعلق المبدئي بهذه النصوص جعلت الكثير يظنون أنا أبا بكر بن العربي يقول: إن الحسين قتل بسيف جده صلى الله عليه وسلم(4). وإن الجمود على هذه الأحاديث جعلت الكرامية مثلاً يقولون: إن الحسين رضي الله عنه باغ على يزيد، فيصدق بحقه من جزاء وقتل(5). وأما البعض فقد ذهبوا إلى تجويز خروج الحسين رضي الله عنه واعتبر عمله هذا مشروعاً، وجعلوا المستند في ذلك إلى أفضلية الحسين وإلى عدم التكافؤ مع يزيد(6)، وأما البعض فقد جعل خروج الحسين خروجاً شرعياً بسبب ظهور المنكرات من يزيد(7). ولكن إذا أتينا لتحليل مخرج الحسين رضي الله عنه ومقتله، نجد أن الأمر ليس كما ذهب إليه هؤلاء ولا هؤلاء، فالحسين لم يبايع يزيد أصلاً،
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم (12/241) .
(2) عقد الزبرجد للسيوطي (1/264) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم (12/241) .
(4) العواصم من القواصم صـ244 ـ 245 .
(5) نيل الأوطار (7/362) .
(6) المصدر نفسه (7/362) .
(7) الدرة فيما يجب اعتقاده صـ376 ، المقدمة (1/271) .(2/301)
واعترض على فكرة التوريث دفاعاً عن الشورى ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار من تريد وخرج معه إلى مكة عبد الله بن الزبير وذهبا لأجل جمع الأتباع وحث المسلمين على الوقوف في وجه الانحراف الذي أحدث في نظام الحكم وقلبه من الشورى إلى الوراثة، واستنهض الهمم لتصحيح هذا الخلل الذي استجد في عالم الإسلام وبدأت رحلة الحسين لجمع الأتباع والأنصار نحو التصحيح وإعادة نظام الشورى ومنهاج الخلافة الراشدة والمبادئ الكريمة، لا كما يزعم البعض من كونه خرج طمعاً في الحكم والسلطة لأنه ينبغي أن تكون فيه وفي ذريته. بتلك النظرة فيها بخس للحسين ومنهجه ولأهل البيت ومنهج القرآن وهدي جده عليه الصلاة والسلام(1).
... إن القول بنظرية النص في علي وذريته قول باطل ولا توجد أية آثار ـ صحيحة لنظرية النص في قصة كربلاء ـ ولا في غيرها ـ وقد تحدث عن ذلك الأستاذ أحمد الكاتب في كتابه تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه(2)، وقد ناقشت نظرية النص على ولاية علي وذريته وأدله الشيعة في ذلك في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه.
__________
(1) عمر والحسين ، علاء الدين المدرس صـ52 .
(2) تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه صـ18 .(2/302)
... إن الحسين رضي الله عنه لم يبايع يزيد بن معاوية وشرع في إعداده العدة ولم يخرج عن تعاليم الإسلام التي تشترط الإعداد الجيد لإزاحة الحاكم الجائر حتى يغلب الظن على القدرة على ذلك،، فهو قد أعد القوة كما تصورها حتى ظنها كافية لتحقيق غرضه، ولكن حساباته ـ بلا شك ـ كانت(1) خاطئة فالحسين لم يقم خطأ شرعي مخالف للنصوص، وخاصة إذا عرفنا أن جزءً من الأحاديث جاءت مبينة لنوع الخروج، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي بعدها كفارة لما بينهما، والجمعة إلى الجمعة، والشهر إلى الشهر يعني رمضان كفارة لما بينهما قال: ثم قال بعد ذلك: إلا من ثلاث قال: فعرفت أن ذلك الأمر حدث ـ إلا من الإشراك بالله، ونكث الصفقة، وترك السنة: قال: أما نكث الصفقة: أن تبايع رجلاً ثم تخالف إليه تقاتله بسيفك، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة(2).
__________
(1) الدولة والمجتمع في العصر الأموي صـ165 .
(2) مسند أحمد (12/98) إسناد صحيح .(2/303)
... والحسين رضي الله عنه ما خرج يريد القتال ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد(1)، ولقد تعنّت ابن زياد أمام مرونة الحسين وسهولته وكان من الواجب عليه أن يجيبه لأحد مطالبه، ولكن ابن زياد طلب أمراً عظيماً من الحسين، وهو أن ينزل على حكمه، وكان من الطبيعي أن يرفض الحسين هذا الطلب، وحُقّ للحسين أن يرفض ذلك، ذلك لأن النزول على حكم ابن زياد لا يعلم نهايته إلا الله، ولربما كان حكمه فيه القتل، ثم إن هذا العرض إنما كان يعرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكفار المحاربين أعداء الإسلام، والحسين رضي اله عنه ليس من هذا الصنف بل هو من أفاضل المسلمين وسيدهم(2)، ولهذا قال ابن تيمية: وطلبه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه(3). والحقيقة أن ابن زياد خالف الوجهة الشرعية والسياسية حين أقدم على قتل الحسين رضي الله عنه(4). فالظالم هو ابن زياد وجيشه الذين قدموا على قتل الحسين رضي الله عنه بعد أن رفضوا ما عرض الحسين من الصلح. ثم إن نصح الصحابة للحسين يجب أن لا يفهم على أنهم يرونه خارجاً على الإمام كما ذهب لذلك يوسف العش(5). بل إن الصحابة رضوان الله عليهم أدركوا خطورة أهل الكوفة على الحسين وعرفوا أن أهل الكوفة كذبة، وقد حملت تعابير نصائحهم هذه المفاهيم(6). يقول ابن خلدون: فتبين بذلك غلط الحسين، إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه، وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه، لأنه منوط بظنه، وكان ظنه القدرة على ذلك(7). وأما الصحابة رضوان الله عليهم الذين كانوا بالحجاز ومصر والعراق والشام والذين لم يتابعوا الحسين رضوان الله عليه، فلم ينكروا عليه، ولا أثّموه، لأنه
__________
(1) منهاج السنة (4/42) .
(2) مواقف المعارضة صـ329 .
(3) منهاج السنة (4/550) .
(4) مواقف المعارضة صـ329 .
(5) الدولة الأموية صـ168 .
(6) مواقف المعارضة صـ330 .
(7) المقدمة (1/271) .(2/304)
مجتهد، وهو أسوة للمجتهدين به(1). قال ابن تيمية: وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله، فإنه رضي الله عنه لم يفارق الجماعة، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع، إلى بلدة، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضاً عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك، فكيف لا تجب إجابة الحسين(2)، ولم يقاتل وهو طالب الولاية، بل قتل بعد أن عرض الانصراف بإحدى ثلاث... بل قتل وهو يدفع الأسر عن نفسه، فقتل مظلوماً(3).
خامساً : بعض الرؤى في قصة الحسين رضي الله عنه:
__________
(1) مقدمة ابن خلدون (1/271) .
(2) منهاج السنة (4/556) بتصرف .
(3) المصدر نفسه (6/340) بتصرف .(2/305)
... ومن هذه الرؤى المتعلقة بقصة مقتل الحسين رضي الله عنه، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام بنصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم يلتقطه، قلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: دم الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم قال عمار راوي ذلك الحديث: فحفظنا ذلك فوجدناه قُتِل ذلك اليوم(1)، وهذا سنده صحيح عن ابن عباس(2)، وروى ابن سعد بأسانيده: قالوا: وأخذ الحسين طريق العُذيب(3) حتى نزل قصر أبي مقاتل(4)، فخفق خفقة، ثم استرجع، وقال: رأيت كأن فارساً يُسايرنا، ويقول: القوم يسيرون، والمنايا تًسري إليهم(5)، وقال بعض الناس أن الحسين رضي الله عنه بني خروجه على يزيد على رؤية رآها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأن رسول الله أمره بأمر وهو ماضٍ له(6)، وقد اعتمد على الرؤى قوم في أخذهم الأحكام ويقول الشاطبي: وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات، وأقبلوا وأعرضوا بسببها فيقولون: رأينا فلاناً الرجل الصالح، فقال لنا: أتركوا كذا واعملوا كذا، ويتفق مثل هذا كثيراً للمترسمين برسم التصوف، وربما قال بعضهم: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي كذا وأمرني بكذا، فيعمل بها ويترك بها، معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة، وهو خطأ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلاَّ أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية فإن سوغتها عمل بمقتضاها، وإلاَّ وجب تركها والإعراض عنها، وإنما فائدتها البشارة أو النذارة خاصة، وأما استفاده الأحكام فلا(7). وعليه فلا عصمة
__________
(1) فضائل الصحابة رقم 1380 إسناده صحيح .
(2) حقبة من التاريخ صـ137 .
(3) العُذيب : ماء بين القادسية والمغيثة .
(4) كان بين عين التمر والشام ، معجم البلدان (4/364) .
(5) سير أعلام النبلاء (3/298) .
(6) المصدر نفسه (3/297) .
(7) الاعتصام (1/260) دراسة في الأهواء والفرق والبدع صـ301 .(2/306)
فيما يراه النائم، بل لا بد من عرضه على الشرع فإن وافقه فالحكم بما استقر، لأن الأحكام ليست موقوفة على ما يرى من المنامات، وإن خالف رد مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويحكم على تلك الرؤيا بأنها حلم من الشيطان وأنها كاذبة وأضغاث أحلام(1). ولكن يبقى أن يقال: ما فائدة الرؤيا الموافقة للشريعة، إذا كان الحكم بما استقر عليه الشرع(2)؟. فائدتها التنبيه والبشرى كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة(3)، فإن الرجل الصالح قد يرى في النوم ما يؤنسه أو يزعجه فيكون ذلك دافعاً له إلى فعل مطلوب أن ترك محظور(4).
سادساً : أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتل الحسين رضي الله عنه:
... عن أم سلمة قالت: كان جبريل عند النبي صلى اله عليه وسلم والحسين معي فبكى الحسين فتركته فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم فدنى من النبي صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: أتحبه يا محمد؟ فقال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي يقتل بها فأراه إياها فإذا الأرض يقال لها كربلاء(5)، وقد وقع الأمر كذلك بعد مضي سنين طويلة، وهذه معجزة من معجزاته صلى الله عليه وسلم الدالة على نبوته وأنه رسول الله حقاً وصدقاً، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك عن طريق الوحي(6).
سابعاً : انتقام الله من قتلة الحسين رضي الله عنه:
__________
(1) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (2/687) .
(2) المصدر نفسه (2/687) .
(3) البخاري رقم 6990 .
(4) منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد (2/687) .
(5) فضائل الصحابة رقم 1391 بسند حسن .
(6) سير الشهداء صـ244 .(2/307)
... لقد انتقم الله للحسين الشهيد رضي الله عنه من قاتليه وعلى رأسهم عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية، وكل من شارك في قتله لم يَسلم، أما عبيد الله بن زياد فقد قتله إبراهيم بن الأشتر وحز رأسه وأرسل به إلى المختار ـ بن أبي عبيد الله الثقفي يقول بن عبد البر ـ قتل الحسين ـ رضي الله عنه ـ يوم الأحد لعشر مضين من المحرم يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ...وقضي الله ـ عز وجل ـ أن قتل عبيد الله بن زياد يوم عاشوراء سنة سبع وستين، قتله إبراهيم بن الأشتر في الحرب، وبعث برأسه إلى المختار، وبعث به المختار إلى بن الزبير وبعث به ابن الزبير إلى علي بن الحسين(1)،وقد صحَّ من حديث عمار بن عمير قال: جيء برأس عبيد الله بن زياد وأصحابه فأتيناهم وهم يقولون: قد جاءت قد جاءت، فإذا حية تخلل الرؤوس حتى دخلت منخر عبيد الله فمكثت هُنيَّهة ثم خرجت وغابت. ثم قالوا: قد جاءت قد جاءت ففعلت ذلك مرتين أو ثلاثاً(2). أما يزيد بن معاوية فقد مقته الناس وأبغضوه لمقتل الحسين وثار عليه غير واحد، وثار عليه أهل المدينة النبوية الشريفة، فارتكب جريمة أخرى هي موقعة الحرة بالمدينة فلم يمهله الله تعالى، وكانت دولته أقل من أربع سنين(3)، وجاء عن أبي رجاء العطاردي قال: لا تسبوا علياً ولا أحداً من أهل البيت، كان لنا دار من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين ابن على قتله الله؟ فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس بصره(4). قال ابن كثير: وأما ما روي من الأحاديث والفتن التي أصابت من قتله فأكثرها صحيح، فإنه قلّ من نجا من أولئك الذين قتلوه من آفة أوعاهة في الدنيا، فلم يخرج منها حتى أصيب بمرض وأكثرهم أصابه الجنون(5).
__________
(1) الاستيعاب حاشية الإصابة (1/382) .
(2) سير أعلام النبلاء (3/549) .
(3) الدوحة النبوية صـ129 .
(4) المعجم الكبير للطبراني (3/119) ورجاله رجال الصحيح .
(5) البداية والنهاية نقلاً عن الدوحة النبوية صـ129 .(2/308)
ثامناً : القوى المضادة للإسلام ومصيبة كربلاء:
... نجحت القوى المضادة لدولة الإسلام في حدوث واقعة كربلاء ثم وجدوا فيها الفرصة السانحة لتمزيق الجماعة الإسلامية، وتفريق الكلمة بتحويل النزاع بين المسلمين، فقد كانت الكوفة مجمع شذاذ الناس وأشرارهم مع خيارهم فقد أتى إليها الصحابة، كما أتى النصارى واليهود، وأقبلت القبائل العربية، كما أقبل الموالي وانتشرت الزندقة والسحر وانتشرت الحلقات المتعارضة والمجامع المتنافرة، وشرع اليهود بالكوفة في نشر التلمود، والنصارى كانوا ينادون بتجسيد الألوهية، فأطلت رؤوس مجامعهم السرية مع المراكز المتطفلة الخفية واستغل دم الحسين واعتبروه ذا قيمة في التضحية تشبه دم المسيح عند النصارى، وتسلل إلى نفوس من أسلم من الفرس من هذا الطريق يستثيرونهم ضد الدولة بحجة أن الحسين كان قد تزوج جيهان شاه ابنة يزدجرد أم علي بن الحسين(1)، فارتفعوا بهذه الفاجعة عن مصائب البشر الاعتيادية فشبهوها بمصائب الأنبياء(2)، وتسللت من خلالها أفكار أهل الكتاب بسهولة.. واعتبروا أن الحسين لم يتألم لما أصاب أهله ونفسه من القتل والإيذاء بل أنه تألم لأن أمة جدّه المسئول عن هدايتها بصفته الإمام والحجة ضلت بحربها إياه(3)، وهذا يذكرنا بفكرة النصارى عن صلب المسيح وتعذيبه ـ فكان من السهل بذر هذه الفكرة من قبل أهل الكتاب في نفس من أسلم حديثاً، فأقبل الموالي على التشيع ورأوا في الحسين إنساناً روحانياً قدر له الله منذ الأزل أن يفتدي الإسلام بدمه ويحفظه بتضحية نفسه فقرن بدور المسيح المخلص(4)... وكان لمستشاري يزيد من النصارى مثل سرجون أثر في تلك الأحاديث الدامية وما ترتب عليها من نكبات
__________
(1) فرق الشيعة صـ53 ، الطبقات (5/156) .
(2) أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية صـ491 ، تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة صـ54 .
(3) أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية صـ492 .
(4) المصدر نفسه صـ494 .(2/309)
ومصائب(1).
تاسعاً : استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع :
... يعتبر استشهاد الحسين رضي الله عنه نقطة تحول في التاريخ الفكري والعقدي للتشيع، إذ لم يقتصر أثر هذه الحادثة الأليمة على إذكاء التشيع في نفوس الشيعة وتوحيد صفوفهم بل ترجع أهمية هذه الحادثة إلى أن التشيع كان قبل مقتل الحسين مجرد رأي سياسي لم يصل إلى عقائد الشيعة، فلما قتل الحسين امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في نفوسهم(2) لقد نظر الشيعة إلى استشهاد الحسين على أنه أهم من استشهاد علي بن أبي طالب نفسه، لأن الحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم(3)، وقد اعتنق الفرس مبدأ التشيع وبذلك تمركزت العقيدة الشيعية حول الحسين وسلالته دون الحسن وذريته، وإلى اعتناق مبدأ حق الحسين بن علي الإلهي وذريته في الخلافة،وأن الإمامة بالنص لا بالاختيار(4)، بل اعتبر الشيعة سفك دم الحسين في سهل كربلاء ذا قيمة في التضحية تشبه سفك دم المسيح المزعومة عند المسيحية(5)، ولم يقتصر التمايز الفكري والعقدي بين أهل السنة والشيعة بعد مقتل الحسين، بل إن الشيعة أنفسهم قد أثر فيهم مصرع الحسين، وانقسموا على أنفسهم، وافترقوا بعد مقتله إلى فرق(6)، ولكي يكون لمقتل الحسين أهمية خاصة عند الشيعة فقد أكدوا على أهمية يوم عاشوراء، وتفننوا في إظهار الحزن في ذلك اليوم كما ابتدعوا لفضائل ذلك اليوم من الأحاديث والآثار ما لا يقع عليه الحصر، وقد جعلوا البكاء على الحسين يوم عاشوراء يمسح الذنوب ويغفر ما تقدم منها،
__________
(1) المصدر نفسه صـ494 .
(2) نظرية الإمامة صـ47 ، مواقف المعارضة صـ338 .
(3) الخوارج والشيعة صـ188 فلها وزن مواقف المعارضة صـ339 .
(4) الوثائق السياسية للجزيرة العربية صـ19 ـ 20 .
(5) مواقف المعارضة صـ339 ، التاريخ السياسي ، عبد المنعم ماجد (2/77) .
(6) فرق الشيعة صـ23 للنوبختي ، مواقف المعارضة صـ339 .(2/310)
مما جعل الاحتفال بيوم عاشوراء واجباً دينياً يقوم به الحكام والمحكومين على السواء ويبالغون في إظهار عواطفهم المذهبية في هذا اليوم الحزين(1)، لقد أراد واضعو التشيع وعقائده التأكيد على يوم عاشوراء(2) ويكون التشيع عقيدة ملتهبة في نفوس أتباعها وكانت دولهم تهتم بهذا الأمر، كالدولة البويهية بالعراق والدولة العبيدية الفاطمية بمصر(3)، وقد تعرضت لعقائد الشيعة بنوع من التفصيل في كتابي عن أمير المؤممين علي رضي الله عنه .
عاشراً : من دعاء الحسين رضي الله عنه :
__________
(1) إيران في ظل الإسلام ، عبد المنعم حسنين صـ104 مواقف المعرضة صـ339 .
(2) مواقف المعارضة صـ340 .
(3) المصدر نفسه صـ340 .(2/311)
... دعا الحسين رضي الله عنه بهذا الدعاء قبل المعركة: الله أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبة مني إليك عمن سواك، ففرجته وكشفته، فأنت ولي كل نعمة، وصاحب كل حسنة، ومنتهى كل رغبة(1). إن الحسين رضي الله عنه يعلمنا حسن الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى والثقة به والتوكل عليه والرغبة إليه فجدّه صلى الله عليه وسلم، قال: ليس شيء أكرم على الله من الدعاء(2)، وقد تعلم الحسين رضي الله عنه من تعاليم جدّه صلى الله عليه وسلم، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله والشكوى لا تكون إلا إليه سبحانه، فلا يستعين المرء ولا يشكو إلا إلى لله وحده دون غيره من نبي أو إمام أو صالح.. ويعلمنا الحسين رضي الله عنه أن الدعاء لا يصرف إلا لله وحده دون سواه، فهذا الحسين رضي الله عنه لم يدعُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أباه علياً، وهو في هذا الموقف العصيب الذي يودع فيه الحياة، بل دعا الله وحده وتوسل إليه فقط وفي هذا يعلمنا الحسين رضي الله عنه منهجاً يجب ألا نحيد عنه، وهو عند الدعاء لحاجة المرء أو طلب رزق أو شفاء مريض أو غيرها عليه أن يدعو الله وحده ولا يشرك في دعائه أحداً كائناً من كان هذا المدعو(3)، فمن أحب الحسين رضي الله عنه فعليه أن يدعو الله كما دعا الحسين رضي الله عنه، ولا يقول يا حسين أو يا علي، فإن دعاء المخلوقين انحراف عظيم عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدي العلماء الربانيين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت الأطهار
قال الشاعر :
... ... ... ... وأفنية الملوك محجبات
__________
(1) تاريخ الطبري (6/350) .
(2) سنن الترمذي رقم 3370 ، حسنه الأباني في صحيح الجامع .
(3) الحسين بن علي بين الحقائق والأوهام ، عبد الرحمن بن عبد الله جميعان صـ56 .(2/312)
... ... ... ... ... ... ... ... وباب الله مبذول الفِنَاءِ
... ... ... ... فما أرجو سواه لكشف ضٌريِّ
... ... ... ... ... ... ... ... ولا أفزعُ إلى غير الدُّعاء(1)
المبحث الخامس: وقعة الحرّة: 63هـ
إن ثورة أهل المدينة ومعارضتهم للحكم الأموي وخلافة يزيد بن معاوية ما هي إلا امتداد طبيعي لمعارضة ابن الزبير التي بدأها في مكة، ثم إن قرب فترة يزيد بن معاوية (60هـ) بالخلافة الراشدة جعل أبناء الصحابة أكثر شوقاً لإعادة الشورى وتمكينها بين الناس، وعندما قتل الحسين رضي الله عنه بتلك الصورة الشنيعة ومعه أخوته وأبناء عمه على يد عبيد الله بن زياد أحس الكثير من أبناء الصحابة بحجم الاستبداد والتسلط الذي بدأت تمارسه الدولة الأمر الذي جعل الناس في الحجاز يتعاطفون مع ابن الزبير رضي الله عنه، ورفعه شعار الشورى، في الوقت الذي لم يحاكم يزيد عبيد الله بن زياد كأحد المسئولين المباشرين عن الجريمة النكراء التي لحقت بالحسين وأهله في كربلاء واعتبر الناس هذا التصرف محاباة لابن زياد من قبل ابن عمه يزيد بن معاوية(2).
ومما لا شك فيه أن مقتل الحسين ومن معه بتلك الصورة قد أهاج الناس جميعاً، وولد لديهم شعوراً بالحزن والأسى العميق على فقدانه بتلك الطريقة البشعة(3).
أولاً : وفد المدينة يزور يزيد بدمشق:
__________
(1) الأخلاق صـ38 .
(2) مواقف المعارضة صـ361 .
(3) المصدر نفسه صـ362 .(2/313)
أراد والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن يثبت ولاء أهل المدينة ليزيد، فاختار منها وفداً وأرسلهم إلى دمشق، وهناك استقبلهم يزيد استقبالاً حسناً، فأكرم وفادتهم، وأحسن جوائزهم وأجزل عطاءهم وكان في وفد المدينة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص المغيرة الحضرمي، والمنذر بن الزبير، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة، وبعد أن أخذوا جوائزهم انصرفوا إلى المدينة، وهناك عابوا يزيد وشتموه، وأظهروا العداء له، وخلعوه(1)، وأخرج أهل المدينة عامل يزيد عثمان بن محمد من المدينة كما أخرجوا مروان ابن الحكم وسائر بني أمية وبلغ الأمر يزيد، وعلم بما كان من أهل المدينة من خلعه، والميل إلى ابن الزبير فأعد جيشاً لغزو المدينة أسند قيادته لمسلم بن عقبة المري(2).
ثانياً : موقف علماء أهل المدينة المعارضين للخروج:
1 ـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه:
__________
(1) البداية والنهاية (11/624 ، 625) .
(2) تاريخ خليفة صـ237 ، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ504 .(2/314)
... اعترض بعض علماء المدينة عن خلع يزيد والخروج عليه ولم يؤيدوا من قام بالخروج، وقاموا بنصح إخوانهم واعتزلوا الفتنة وكان أغلب هذا الرأي من أهل العلم والفقه في الدين وفي مقدمة هؤلاء العالم الجليل الإمام القدوة عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد اشتهر عنه إنكاره على الذين رفضوا البيعة ليزيد وسعوا في خلعه(1)، فعندما أراد عبد الله بن مطيع الفرار من المدينة تهرباً من البيعة ليزيد وسمع ذلك عبد الله بن عمر خرج إليه حتى جاءه فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ فقال: لا أعطيهم طاعة أبداً. فقال له: أين تريد يا ابن عم؟ لا تفعل فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهلية(2) ، وعندما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله وإني لا أعلم غدر أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه(3). فقد عارض ابن عمر من خرج من أهل المدينة لسببين:
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ506 .
(2) مسلم ، ك الإمارة (3/1478) سير أعلام النبلاء (3/323) .
(3) مسلم (3/1478) ك إمارة .(2/315)
... الأول: نقضهم البيعة، وهو يرى أنهم أعطوا البيعة عن رضى واختيار، ولم يفعلوا مثل الحسين رضي الله عنه، حيث كان موقفه واضحاً منذ البداية، ولم يعط البيعة، وذلك عند ابن عمر خيانة وغدر، ويتضح ذلك في قوله لعبد الله بن مطيع: إني سمعت رسو الله صلى الله عليه وسلم يقول: من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية(1). وأوجب على أهله الوفاء بالبيعة مذكراً لهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة. وإنا قد بايعنا هذا الرجل، ولا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيعة الله ورسوله، ثم ينصب له القتال(2)
__________
(1) البخاري ، ك الفتن ، باب 21 .
(2) الفقهاء والخلفاء صـ60 .(2/316)
... الثاني: هو تعظيم حرمة دماء المسلمين وحرمة الاقتتال بينهم وتزداد هذه الحرمة في الأماكن المقدسة كمكة والمدينة، ولقد استدل ابن حجر بموقف ابن عمر السابق والأحاديث التي أستشهد بها على وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، والمنع من الخروج عليه، ولو جار في حكمه، وأنه لا ينخلع بالفسق(1). والواقع أن موقف ابن عمر لا يدل على جواز بيعة رئيسي الدولة الفاسق الظالم، ولا على تحريم خلعه بسبب فسقه وظلمه، وإنما يدل على تحريم الغدر بكل أشكاله، وفي جميع مواضعه، بما فيها غدر الأمة برئيس الدولة الذي اختارته وبايعته(2)، وكأن لسان حال ابن عمر يقول: إذا كنتم تعلمون من يزيد الفسق والظلم فلماذا بايعتموه في أول الأمر وجعلتموني أبايعه؟ لأن ابن عمر لم يبايع حتى بايع أهل المدينة جميعهم ـ أما وقد بايعتموه فيلزمكم الوفاء بالبيعة، وكان ابن عمر يشك في أقوالهم عن فسق يزيد، ولم يكن وحده في هذا الشك، بل كان محمد ابن الحنفية ينكر عليهم اتهام يزيد بترك الصلوات وشرب الخمر(3)، ولعل ذلك هو ورع ابن عمر في أن يتهم أحداً في دينه ما لم يبلغ عنده ذلك الأمر مرحلة اليقين ومع ذلك فإنه، مع بقائه بيعة يزيد، اعتزل القتال ولم يشارك أياً من الطرفين(4) فهذا موقف شيخ الصحابة في عصره، وأروع الناس وأزهدهم وأفقههم في دين الله، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقوى(5). وقالت عنه عائشة ما رأيت ألزم للأمر الأول من عبد الله بن عمر(6)، وقال عنه سعيد بن المسيب: لو شهدت على أحد أنه من أهل الجنة لشهدت على ابن عمر(7)،وقال عنه علي بن الحسين إن بن عمر أزهد القوم وأصوب القوم(8)، وقال عنه مالك أقام ابن
__________
(1) فتح الباري (13/60) .
(2) الفقهاء والخلفاء صـ60 .
(3) المصدر نفسه صـ60 .
(4) المصدر نفسه صـ61 .
(5) مسلم (4/1927 ) رقم 2478 .
(6) المستدرك للحاكم (3/559) .
(7) المستدرك (3/559) فضائل الصحابة (2/895) رقم 1703 .
(8) المسدرك (3/160) .(2/317)
عمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة يفتي الناس في الموسم، وكان من أئمة الدين(1).
2 ـ محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية):
... فإنه لم ير خروج أهل المدينة على يزيد ولم يستجب لدعوتهم إياه بالخروج معهم بل جادلهم في نفي التهم التي أشاعوها عن يزيد، ولما رجع وفد أهل المدينة من يزيد مشى عبد الله بن مطيع وأصحابه إلى محمد بن الحنفية، فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر، ويترك الصلاة، ويتعدى حكم الكتاب. فقال لهم: ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته واقمت عنده فرأيته مواظباً على الصلاة، متحرياً للخير، يسأل عن الفقه، ملازماً للسنة، قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعاً لك. فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر لي الخشوع؟ فأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق، وإن لم يكن رأيناه فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة فقال: ((إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)) (الزخرف ، الآية : 86) ولست من أمركم في شيء(2). قالوا: فلعلك تكره أن يتولى الأمر غيرك فنحن نوليك أمرنا. قال: ما أستحل القتال على ما تريدون عليه تابعاً ولا متبوعاً. قالوا: فقد قاتلت مع أبيك، قال: جيئوني بمثل أبي أقاتل على ما قاتل عليه، فقالوا: فمر ابنيك أبا القاسم والقاسم بالقتال معنا قال: لو أمرتهما قاتلت. قالوا: فقم معنا مقاماً تحض الناس فيه على القتال، قال: سبحان الله آمر الناس بما لا أفعله ولا أرضاه إذا ما نصحت لله في عباده. قالوا إذا نكرهك. قال: إذا آمر الناس بتقوى الله ولا يرضون المخلوق بسخط الخالق
__________
(1) طبقات الفقهاء للشيرازي صـ50 مواقف المعارضة صـ457 .
(2) البداية والنهاية (11/654) وذكر الدكتور عبد العزيز دخان أن السند صحيح لأنه من طريق صخر بن جويرية وهو من الثقات عن نافع أحداث وأحاديث صـ203 .(2/318)
ولما رأى محمد بن الحنفية الأمور تسير في الاتجاه الذي لا يريده، وبدا يظهر له سوء عاقبة تصرفات المخالفين له من أهل المدينة حينما ترامى إلى الأسماع قدوم جيش أهل الشام إلى المدينة، لذلك قرر ترك المدينة وتوجه إلى مكة(1)، وسار أهل بيت النبوة على هذا المنوال ولزموا الطاعة، ولم يخرجوا مع أهل المدينة ضد يزيد، فعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يخرج مع أهل المدينة ولزم الطاعة ليزيد(2)، وهو الذي قال فيه الزهري: كان أفضل أهل بيته وأحسنهم طاعة، وقال عنه: لم أدرك من آل البيت أفضل من علي بن الحسين(3)، وكذلك ابن عباس رضي الله عنه وهو فقيه الأمة وحبرها وعالمها لم ينقل عنه تأييد لأهل المدينة كما أنه لم يذكر عنه أنه نزع بيعة يزيد بن معاوية، فهؤلاء أفضل آل بيت النبوة في زمانهم ومع ذلك لم يخرجوا مع أهل المدينة ومسوغات الخروج على يزيد عندهم هي أكثر من غيرهم(4).
3 ـ النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه:
__________
(1) البداية والنهاية (11/654) .
(2) مواقف المعارضة صـ458 .
(3) تاريخ ابن عساكر (12/35) مواقف المعارضة صـ458 .
(4) مواقف المعارضة صـ458 .(2/319)
... وممن عاب على أهل المدينة خروجهم وعارضه الصحابي الجليل النعمان بن بشير الأنصاري وقد كان إبان خروج أهل المدينة في الشام، فاستغل يزيد فرصة وجوده فبعثه إلى أهل المدينة لعله يفلح في صدهم عن الخروج ويعيدهم إلى الطاعة ولزوم الجماعة، فاستجاب النعمان لذلك وقدم المدينة فجمع عامة الناس، وأمرهم بالطاعة ولزوم الجماعة، وخوفهم الفتنة وقال لهم: إنه لا طاقة لكم بأهل الشام فقال له عبد الله بن مطيع: ما يحملك يا نعمان على تفريق جماعتنا، وفساد ما أصلح الله من أمرنا، فقال النعمان: أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف، ودارت رحى الموت بين الفريقين قد هربت على بغلتك تضرب جبينها إلى مكة، وقد خلفت هؤلاء المساكين(1) يقتلون في سككهم ومساجدهم وعلى أبواب دورهم فعصاه الناس، فانصرف، وكان والله كما قال(2).
4 ـ عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه:
... فقد كان بالشام عندما عزم يزيد أن يبعث جيشاً إلى المدينة، فحاول عبد الله بن جعفر أن يتدخل في الأمر ليجنب أهل المدينة شر القتال، فكلم يزيد وطلب منه الرفق بأهل المدينة ورققه عليهم، وقال: إنما تقتتل بهم نفسك وقد تجاوب معه يزيد حين قال: فأني أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير، فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقاً ولا يقاتلهم فإن أقر أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم، وقد وجد عبد الله بن جعفر مدخلاً لكف القتال والأذى عن أهل المدينة، فكتب على الفور إلى زعماء أهل المدينة يخبرهم بذلك ويقول: استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن، ولا تعرضوا لجنده ودعوهم يمضون عنكم(3) وكان ردهم عليه: لا يدخلها علينا أبداً(4).
__________
(1) المساكين : يعني الأنصار .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ513 .
(3) الطبقات (5/145) .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ514 .(2/320)
5 ـ سعيد بن المسيب رحمه الله:
... فإنه قد اعتزل فتنة خروج أهل المدينة ولم يدخل فيما دخلوا فيه، ولم يكن يحضر لهم أمراً من أمورهم إلا الجمعة والعيد، وقد لزم المسجد نهاره ولا يبرحه إلى الليل والناس في قتالهم أيام الحرة(1).
... ومن كل ما سبق ندرك أن أهل المدينة انقسموا تجاه البيعة ليزيد والدخول في طاعته إلى قسمين، القسم الأول منهم تزعمه عدد من دفعه الحماس والغيرة على الدين إلى خلع يزيد ولقد اشترك بعض الفقهاء في موقعة الحرة، وانضم إلى أهل المدينة وخلع يزيد، وقاتل الجيش الأموي، ومن أبرزهم محمد بن عمرو بن حزم(2)، وهذا يعطي لحركة أهل المدينة خصوصية الارتكاز على المرجعية الشرعية للفقهاء في مقاومة حكم يزيد بن معاوية ولقد اعتمدت ثورة أهل المدينة على فتوى هؤلاء العلماء ومن قبلهم الحسين بن علي في وجوب مقاومة المنكر ويتضح ذلك في خطاب عبد الله بن حنظلة حين قال: يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بحجارة من السماء(3)، وقد شارك في ثورة أهل المدينة عدد من صغار الصحابة هم: عبد الله بن زيد وعبد الرحمن بن أزهر وعبد الله بن حنظلة(4)، إلا أن معظم الصحابة ممن عاش إلى وقعة الحرة لم يشتركوا فيها، وحاولوا إقناع الثائرين بعدم خلع يزيد والخروج على حكمه(5).
__________
(1) الطبقات (5/132) ، سير أعلام النبلاء (4/228 ، 229) .
(2) الطبقات الكبرى (5/69 ـ 70) .
(3) المصدر السابق (6/66) .
(4) قيم المجتمع (2/47) للعمري الفقهاء والخلفاء صـ31 .
(5) الفقهاء والخلفاء صـ31 سلطان حثلين .(2/321)
... ومع أن الأسس الشرعية، التي قامت عليها حركة أهل المدينة وفتاويهم في الخروج على يزيد هي نفس الأسس التي بنى عليها الحسين موقفه، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجب على علماء الأمة وقادتها، وأن بني أمية قد تجاوزوا في حكمهم حدود الشريعة، سواء على الصعيد السياسي وطريقة الحكم كالانفراد بالسلطة وغياب الشورى، والاستبداد.. أو على الصعيد الشخصي، كانعدام الكفاءة والعدالة في شخص يزيد، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً من الناحية الشرعية في الأصل الذي بنى عليه الحسين فتواه ومن ثم اتخذ قراره في مقاومة يزيد، فالحسين لم يعط البيعة ليزيد منذ البداية، وعلى ذلك فإنه كان يرى أنه يحق له ـ من هذا المنطق ـ حرية التصرف في مقاومة الحكم الأموي، بينما نجد أن أهل المدينة قد أعطوا البيعة ليزيد، ومن بعد ذلك رأوا أنهم يجوز لهم نقض البيعة وخلع يزيد نظراً لعدم كفاءته وصلاحه للحكم فأضافوا بذلك بعداً جديداً إلى فتوى الحسين، وهي أنه يجوز خلع الحاكم المسلم الذي يعتقد بفساده وفسوقه وهو أمر خالفهم فيه بقية الصحابة أي القسم الثاني من أهل المدينة ولعل ذلك هو السبب الرئيس الذي جعل فقهاء المدينة من الصحابة ينددون بقوة بخروج أهل المدينةـ فهم يرون أن نقض البيعة لا يجوز، وأن فسوق الحاكم لا يوجب عليه الخروج(1)، يضاف إلى ذلك خوف كثير من فقهاء ومفتي الصحابة ممن حضر موقعة الحرة على أهل المدينة من القتل والخوف على انتهاك قدسية مدينة رسول الله صلى اله عليه وسلم، وقد وقع ذلك بالفعل(2)، ومع ذلك فإن جميع الصحابة وفقهاء المسلمين لم يرضوا عن تصرف يزيد وقتله أهل الحرة واستباحته المدينة(3) بل إن ابن تيمية يعتبر هذا التصرف من كبائر الذنوب التي اقترفها يزيد(4)
__________
(1) الفقهاء والخلفاء صـ32 .
(2) تاريخ خليفة صـ238 ، 239 ، الفقهاء والخلفاء صـ32 .
(3) حركة النفس الزكية صـ30 ، الفقهاء والخلفاء صـ30 .
(4) الفتاوى نقلاً عن الفقهاء والخلفاء صـ32 .(2/322)
.
ثالثاً : معركة الحرّة:
... اشتد الأمر على يزيد حين علم بأن بني أمية في المدينة محاصرون في دار مروان بن الحكم، فأرد أن يخلصهم من هذا الحصار قبل أن يقتلوا أو يحل بهم مكروه ـ وكانوا ألف رجل ـ فعز عليه أن يقتل هؤلاء، وفي سلطانه دون أن يقدم لهم عوناً فأمر بتجهيز جيش ليذهب إلى المدينة، فيخلص بني أمية، ويرد هؤلاء المتمردين إلى الطاعة وطلب عمرو بن سعيد ليقود الجيش فأبى، وأرسل إلى عبيد الله بن زياد ليرد أهل المدينة إلى الأهل الطاعة ثم يغزو ابن الزبير، فقال: لا أجمعهما للفاسق أبداً، أقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغزو البيت(1) ثم استقر الرأي على إرسال مسلم بن عقبة المرِّي(2).
1 ـ وصية يزيد لمسلم :
... اجتمع الجيش، وهمّ مسلم بن عقبة أن ينطلق بهم إلى المدينة فقال له يزيد: ادع القوم ثلاثاً، فإن رجعوا إلى الطاعة، فاقبل وكف عنهم، وإلا فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا ظهرت عليهم فأبح المدينة ثلاثاً، ثم أكفف عن الناس، وانظر إلى علي بن الحسين فاكفف عنه، واستوصي به خيراً، وأدن مجلسه فإنه لم يدخل في شيء مما دخلوا فيه وأمر مسلماً إذا فرغ من المدينة أن يذهب لحصار ابن الزبير، وقال له إن حدث بك أمر فعلى الناس حصين بن نمير السكوني(3).
2 ـ مسلم يستعرض الجيش:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/417) .
(2) تاريخ الطبري (6/416) .
(3) البداية والنهاية (11/617) .(2/323)
... ركب مسلم بن عقبة فرسه واستعرض جيشه الذي سيحارب به أهل المدينة، فجعل على هل دمشق عبد الله بن مسعدة الفزاري، وعلى أهل حمص حصين بن نمير السكوني، وعلى أهل الأردن حبيس بن دلجة القيني، وعلى أهل فلسطين روح بن زنباع الجذامي، وشريك الكناني، وعلى أهل قنسرين طريف بن الحسحاس الهلالي، وعليهم جميعاً مسلم بن الوليد بن عقبة المرِّيّ الغطفاني(1)، وسار مسلم إلى المدينة فوجد بني أمية وقد أخرجوا منها، وساروا في اتجاه الشام، فاستوقفهم وسألهم عن الوضع في المدينة، فلم ينطقوا بجواب، وكان أهل المدينة، قد أطلقوا حصارهم بعد أن أخذوا عليهم العهود والمواثيق ألاَّ يدلوا على عورة ولا يعاونوا عدواً، وطلب مسلم منهم أن يدلوه على ما ورائهم فلم يستجيبوا، فغضب مسلم منهم غضباً شديداً، فلم يبرد غضبه إلا عبد الملك بن مروان الذي دلَّه على الخطة التي يجب إتباعها في حرب المدينة، فأشار إليه بأن يأتيها من جهتها الشرقية، ويلحق في الجنوب منها، يواجه أهل المدينة، في مكان يسمى الحرَّة، وتأتي الشمس أمام جيش الشام فتلمع خوذهم وسلاحهم فيرهبون عدوهم، ويكون لهم السيطرة من الوجهة الحربية(2).
__________
(1) المصدر نفسه (11/616) .
(2) الدولة الأموية د.العش صـ176 ، الخلافة الأموية للهاشمي صـ85 .(2/324)
3 ـ بدء المعركة : وفي يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من شهر ذي الحجة 63هـ وقعت المعركة المشؤومة، فوجه مسلم خيله نحو أهل المدينة والتقى الجيشان، وحمل عبد الله بن حنظلة الغسيل على خيل الشام، فانكشفت الخيل، وانهزموا حتى انتهوا إلى مسلم، فنهض مسلم بمن معه وقاتلوا قتالاً شديداً، وانكشف أهل المدينة من كل جانب وجاء الفضل بن عباس بن ربيعة إلى ابن الغسيل فقاتل معه، وطلب منه أن يجمع الفرسان ليقاتلوا معه وكان قد عزم على الوصول إلى مسلم بن عقبة ليقتله، فأمر بن الغسيل أن يجتمع الفرسان حول الفضل، وحمل الفضل بهم على أهل الشام فانفرجوا وجثث الرجال أمامه على الركب، ومضى نحو راية مسلم فقتل صاحبها وهو يظنه مسلماً(1)، وكان الذي قتله الفضل غلاماً لمسلم اسمه رومي وأخذ مسلم الراية ونادى في جيشه يحضهم على القتال وأمر أحد قادته أن ينضحوا ابن الغسيل بالنبل ونادى مسلم: يا أهل الشام، أهذا هو قتال قوم يريدون أن يدفعوا به عن دينهم، وأن يُعزّوا به نصر إمامهم، قبح الله قتالكم منذ اليوم، ما أوجعه لقلبي، وأغيظه لنفسي، أما والله ما جزاؤكم عليه إلا أن تُحرموا العطاء، وأن تجمروا(2) في أقاصي الثغور، شدوا مع هذه الراية، ومشى برايته، وشدت الرجال أمام الراية، وصرع الفضل ابن عباس بن ربيعة وما بينه وبين أطناب مسلم إلا عشر أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف وإبراهيم بن نعيم العدوي في رجال من أهل المدينة كثير(3)، ثم أن خيل مسلم ورجاله أقبلت نحو عبد الله بن حنظلة الغسيل ورجاله حتى دنوا منه، وركب مسلم بن عقبة فرساً له، فأخذ يسير في أهل الشام ويحرضهم ويقول: يا أهل الشام إنكم لستم بأفضل العرب في أحسابها وأنسابها، ولا أكثرها عدداً، ولا أوسعها بلداً، ولم يخصكم الله بالذي خصكم به من النصر عل عدوكم وحسن المنزلة عند أئمتكم إلا بطاعتكم واستقامتكم وإن
__________
(1) تاريخ الطبري (6/422) .
(2) تجمروا : تحبسوا .
(3) تاريخ الطبري (6/423) .(2/325)
هؤلاء القوم وأشباههم من العرب غيَّروا فغير الله بهم، فتموا على أحسن ما كنتم عليه من الطاعة يتمم الله لكم أحسن ما ينيلكم من النصر والظفر(1). وأمر مسلم أجدر رماته أن يصوب رميه نحو ابن الغسيل فقال ابن الغسيل: علام تستهدنون لهم؟ من أراد التعجل فليلزم هذه الراية، فقام إليه كل مستميت، فقال الغدوُّ إلى ربكم. فوالله إني لأرجو أن تكونوا عن ساعه قريري عين، فنهض القوم واقتتلوا أشد قتال رئي في ذلك الزمان، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه أمامه واحد بعد واحد حتى قتلوا بين يديه وقتل هو وقتل معه أخوه(2).
4 ـ نهاية المعركة :
__________
(1) المصدر نفسه (6/423) .
(2) المصدر نفسه (6/424) .(2/326)
انتهت المعركة لصالح جيش الشام، وهزم أهل المدينة هزيمة ماحقة، قتل فيها خلق كثير من القادة ووجوه الناس ولم يخف مروان أسفه على ابن حنظلة ومحمد بن عمرو بن حزم، وإبراهيم بن نعيم بن النحام، وغيرهم، بل كان يثنى عليهم ويذكرهم بأحسن صفاتهم التي اشتهروا بها(1)، وكان القتل ذريعاً في المدنيين وقد شبهتهم الرواية بنعام الشرد، وأهل الشام يقتلونهم في كل وجه(2)،وقد قتل في هذه المعركة، عدد من الصحابة رضوان الله عليهم ويشهد لذلك ما ذكره سعيد بن المسيب حينما قال: وقعت الفتنة الأولى يعني مقتل عثمان ـ فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية ـ يعني الحرَّة ـ فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طبّاخ(3)، ولقد أورد خليفة في تاريخه قوائم بأسماء قتلى الحرَّة ثم قال: فجميع من أصيب من قريش والأنصار ثلاثمائة رجل وستة رجال(4)، وقد تابعه على ذلك أبو العرب(5)، والأتابكي(6)، وهناك رواية مسندة عن الإمام مالك قال فيها: إن قتلى الحرَّة سبعمائة رجل من حملة القرآن وقال الراوي: وحسبت أنّه قال: وكان معهم ثلاثة أو أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم(7) ورواية مالك أقرب إلى الصحة من الذي ذكر خليفة(8).
5 ـ المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين:
__________
(1) الطبقات (5/68 ، 71) المحن صـ179 .
(2) المصدر نفسه (5/68) .
(3) المراد لم تبق في الناس من الصحابة أحداً فتح الباري (7/375) .
(4) تاريخ خليفة صـ250 مواقف المعارضة صـ422 .
(5) المحن صـ187 ـ 200 .
(6) النجوم الزاهرة (1/160) .
(7) المحن صـ200 بإسناد صحيح ،مواقف المعارضة صـ423 .
(8) مواقف المعارضة صـ423 .(2/327)
... ومن الغريب تلك المبالغات التي أوردها البعض في تقدير نسبة القتلى من المدنيين فمثلاً هناك رواية الواقدي والتي أخذ بها غالب المتقدمين والمتأخرين قال الواقدي عن عبد الله بن جعفر قال: سألت الزهري: كم بلغ القتلى يوم الحرَّة؟ قال: أما من قريش والأنصار ومهاجرة العرب ووجوه الناس فسبعمائة، وسائر ذلك عشرة آلاف، وأصيب بها نساء وصبيان بالقتل(1) والسند عن الواقدي وهو متروك، ثم إنه عورض بسند أصح منه، وهي رواية مالك، فتعتبر رواية الواقدي رواية منكرة لا يعتمد عليها في تقدير عدد القتلى(2)، ولقد أنكر ابن تيمية صحة ما ذكر الواقدي، واستبعد أن يصل العدد إلى هذا الحد(3).
__________
(1) المحن صـ184 ، وفاء الوفاء (1/132) مروج الذهب (3/79) مواقف المعارضة صـ424 .
(2) مواقف المعارضة صـ424.
(3) مناهج السنة (4/775) .(2/328)
6 ـ نهب المدينة: لقد أشتهر أن مسلم بن عقبة المري، أمر بانتهاب المدينة، فمكثوا ثلاثة أيام من شهر ذي الحجة ينتهبون المدينة حتى رأوا هلال محرم، فأمر الناس فكفوا، وذلك لأن معركة كانت لثلاث يقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين للهجرة وتعتبر رواية نافع مولى بن عمر هي أصح رواية نصت على حدوث الإنتهاب فقد قال: .. وظفر ـ مسلم بن عقبة ـ بأهل المدينة وقتلوا وانتهبت المدينة ثلاثا(1). وقد وردت لفظة الاستباحة عند السلف لتعني النهب، كما ورد على لسان عبد الله بن يزيد بن الشخير حين قال: ولما استبيحت المدينةـ يعني الحرة ـ دخل أبو سعيد الخدري غاراً(2)، ومن هنا يعلم أن الاستباحة والنهب جاءت بمعنى واحد حيث جاءت هاتان اللفظتان في غالب المصادر المتقدمة(3)، وقرار انتهاب المدينة الذي اتخذه هو يزيد بن معاوية، وقد حمله الإمام أحمد مسؤولية انتهاب المدينة، فعند ما سأله مهنا بن يحيى الشامي السلمي عن يزيد قال: هو الذي فعل بالمدينة ما فعل. قلت: وما فعل؟ قال نهبها(4). وقال بن تميمة: فبعث إليهم ـ أي أهل المدينةـ جيشاً وأمره إذا لم يطيعوه بعد ثلاث أن يدخلها بالسيف ويبيحها ثلاثا(5)وذهب إلى ذلك بن حجر(6)ولا يشك أن انعدام الأمن والخوف في المدينة قد أدّى بالبعض إلى الهروب من المدينة والالتجاء إلى الجبال المجاورة، كما حدث لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه، فقد هرب من المدينة ودخل غاراً والسيف في عنقه ودخل عليه شامي فأمره بالخروج، فقال: لا أخرج وإن تدخل قتلتك، فدخل عليه فوضع أبو سعيد السيف وقال: بؤ بإثمي وإثمك قال: أنت أبو سعيد الخدري قال نعم: قال: فاستغفر لي فخرج(7)
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/38) بإسناد حسن .
(2) الطبقات الكبرى نقلا مواقف المعارضة صـ427 .
(3) الطبقات(5/225) ، مجمع الزوائد(7/249ـ .
(4) السنة للخلال صـ520 ، طبقات الحنابلة (1/347) .
(5) الوصية الكبرى صـ452 .
(6) تهذيب التهذيب (11/ 316) .
(7) تاريخ خليفة صـ239 إسناد صحيح .(2/329)
. وقد ذكر الواقدي أنّ أهل الشام نتفوا لحيته انتقاماً منه ولكن هذا لم يرد من طريق صحيحة(1). ولكن الشيء الذي يجب التنبه إليه هو أن النهب لم يمثل كل أهل المدينة، فلم نسمع أن ابن عمر قد انتهبت داره أو علي بن الحسين، أو غيره من الذين لم يقفوا بجانب المعارضين وإنما كان الانتهاب في الأماكن التي يدور فيها القتال وتعرف للمعارضة للحكم الأموي(2).
لقد أخطأ يزيد خطأ فاحشاً في قوله لمسلم بن عقبة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا خطأ كبير، فإنه وقع في هذه الثلاثة أيام من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يُوصَفُ، مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد أراد بإرسال مسلم بن عقبة توطيد سلطانه وملكه ودوام أيامه، فعاقبه الله بنقيض قصده فقصمه الله قاصم الجبابرة وأخذه أخذ عزيز مقتدر(3)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء(4)ومن الأحاديث التي تدل على شناعة جريمة إخافة أهل المدينة وتبين سوء عاقبة فاعلها(5)قوله صلى الله عليه وسلم: من أخاف أهل المدينة أخافه الله عز وجل، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً(6).
7 ـ ما قيل حول انتهاك الأعراض:
__________
(1) مجمع الفوائد (7/250) مواقف المعارضة صـ431 .
(2) مواقف المعارضة صـ431 .
(3) البداية والنهاية (11/627) .
(4) البخاري رقم 1877 .
(5) من تصلى عليهم الملائكة ومن نلعنهم صـ68 .
(6) مسند أحمد (27/94) إسناده صحيح مؤسسة الرسالة .(2/330)
لم نجد في كتب السنة أو في تلك الكتب التي ألفت في الفتن(1)وكذلك لم نجد في المصدرين التاريخيين المهمين عن هذه الفترة وهما (الطبري والبلاذري) أي إشارة لوقوع شيء من ذلك، وهما قد اعتمد على روايات الإخبار بين المشهورين مثل عوانة بن الحكم وأبي مخنف الشيعي وغيرهما(2)، وأول من أشار إلى انتهاك الأعراض، المدائني المتوفي سنة 225هـ حيث قال المدائني عن أبي قرة عن هشام بن حسان قال: وَلَدت بعد الحرة ألف امرأة من غير زوج، ويعتبر ابن الجوزي هو أول من أورد هذا الخبر في تاريخه(3)، وفي رسالته الخاصة التي ألفها في الطعن على يزيد بن معاوية وإظهار مثالبه(4)، وقد نقلها عن ابن الجوزي السمهودي مؤرخ المدينة المتوفي في القرن العاشر الهجري(5)، ويبدو أن الطبري، والبلاذري وخليفة بن خياط وغيرهم، لم يقتنعوا بصحة هذا الخبر ، فإنهم قد أعرضوا عنه ولم يدخلوه في كتبهم ولا يوجد خبر صحيح الإسناد في حادثة الاغتصاب المزعومة وقد ورد في دلائل النبوة للبيهقي من طريق يعقوب بن سفيان قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا جرير بن المغيرة قال: أنهب مسرف بن عقبة المدينة ثلاثة أيام، فزعم المغيرة أنه افتض فيها ألف عذراء(6)، ومن الجدير بالذكر أن كل من أورد خبر انتهاك أعراض أهل المدينة في معركة الحرَّة قد اعتمد على رواية يعقوب أو رواية المدائني فقط(7)، وكلاهما لا تصح ولا تثبت وقد ذكر العصامي فرية لم يسبق إليها حيث قال: وافتض فيها ألف عذراء وإن مفتضها فعل ذلك أمام الوجه الشريف، والتمس ما يمسح به الدم فلم يجد ففتح مصحفاً قريباً منه ثم أخذ من أوراقه ورقة فمسح بها، نعوذ بالله ما هذا إلا
__________
(1) انظر الفتن لنعيم بن حماد، والفتن لأبي عمرو الداني.
(2) مواقف المعارضة صـ432.
(3) المنتظم (6/15) .
(4) رسالة في جواز لعن يزيد نقلاً عن مواقف المعارضة صـ433 .
(5) وفاء الوفاء (1/134) .
(6) دلائل النبوة (6/475) مواقف المعارضة صـ434 .
(7) مواقف المعارضة صـ437 .(2/331)
صريح الكفر وأنتنه(1)، وقد أطلق العنان بعض الكتّاب لرغباتهم وأهوائهم ولم يستندوا إلى إي دليل والروايات المتعلقة بالاغتصاب لا يمكن الاعتماد عليها(2)، ثم إن القرائن المصاحبة لمعركة الحرّة تنفي وجود أي نوع من الاغتصاب، وقد رأينا أن الروايات الحسنة التي ذكرت إنتهاب المدينة وأثبتناها في موضعها، لم يرد فيها ذكر لانتهاك الأعراض(3).
إن انتهاك أعراض نساء المدينة لا أساس لها من الصحة، وأنها روايات جاءت متأخرة، وبدافع حزبي بغيض، يتخذ من الكره والتعصب ضد التاريخ الأموي دافعاً له وتهدف إلى إظهار جيش الشام، الذي يمثل الجيش الأموي جيشاً بربرياً لا يستند لأسس دينية أو عقائدية أو أخلاقية، وهذا الاتهام لا يقصد به اتهام الجيش الأموي فقط، بل إنَّ الخطورة التي يحملها هذا الاتهام تتعدى إلى ما هو أعظم من مجرد اتهام الجيش الأموي، إلى اتهام الجيش الإسلامي الذي فتح أصقاعاً شاسعة في تلك الفترة(4)، وقد ذهب بعض الباحثين المعاصرين إلى إنكار ذلك مثل د.نبيه عاقل(5)، ود.العرينان(6). ود. العقيلي(7)، وكذلك فلها وزن(8)، وقام الشيباني بدراسة عميقة حول الموضوع وأثبت بطلان هذه الأكاذيب(9).
8 ـ أخذ البيعة من أهل المدينة ليزيد بن معاوية:
__________
(1) سمط النجوم العوالي (3/92) مواقف المعارضة صـ438 .
(2) مواقف المعارضة صـ439 .
(3) مواقف المعارضة صـ439 .
(4) المصدر نفسه صـ439 إلى 446 .
(5) تاريخ خلافة بني أمية صـ12 .
(6) إباحة المدينة وحريق الكعبة .
(7) خلافة يزيد بن معاوية للعقيلي صـ69 .
(8) تاريخ الدولة العربية صـ154 ـ 155 فلها وزن .
(9) مواقف المعارضة صـ432 إلى 444 .(2/332)
... تعتبر الكيفية التي تمّ بها أخذ البيعة من المدنيين من أكبر الأمور التي انتقد فيها يزيد معاوية، فقد وردت الروايات لتبين أن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، يتصرف في دمائهم وأموالهم كيفما يشاء، فهناك رواية مجملة تفيد بأن مسلم بن عقبة أخذ البيعة من أهل المدينة على أنّهم عبيد ليزيد بن معاوية، وذلك بعد انتهاء معركة الحرّة وتضيف الرواية: على أن البيعة تضمنت الحرية الكاملة ليزيد بن معاوية للتصرف في دمائهم وأمواله وأهلهم(1)، وتضيف إحدى الروايات صيغة أخرى لأخذ البيعة من أهل المدينة، فتذكر الرواية: أنهم بايعوا كعبيد ليزيد في طاعة الله ومعصيته. وهذه الروايات أسانيدها ضعيفة جداً، ثم إن متونها يكتنفها الغموض، فليس هناك تفصيل وبيان عمن بايع على هذه الصفة، وهل كل المدنيين بايعوا هذه البيعة بمن فيهم ابن عمر وعلي بن الحسين وأبي سعيد الخدري وسعيد بن المسيب، وغيرهم من الذين لم يشتركوا في محاربة أهل الشام؟ والذي يبدو من خلال مجمل الروايات أنه فور انتهاء معركة الحرّة دعا مسلم بن عقبة الناس للبيعة، كما يبدو أن البيعة أخذت من جميع الناس(2)، وحتى أن علي بن الحسين قد أتي به إلى مسلم بن عقبة فأكرمه مسلم، وذلك بسبب وصية يزيد لمسلم بوجوب حسن معاملة الحسين بن علي مما يدل عل أن أهل المدينة ـ الخارج على طاعة يزيد والمقر بطاعة يزيد كلهم قد دعوا إلى مسلم بن عقبة(3)، ولقد وردت روايات أخرى تفصل وتبين هذه البيعة، وتجعل هذه البيعة لفئة مخصوصة، وكان الدافع لذلك هو غضب مسلم بن عقبة على هذه الفئة ومحاولته الخلاص إلى قتلهم بتلك البيعة(4)، يقول
__________
(1) تاريخ خليفة صـ239 بإسناد صحيح حتى جويرية بن أسماء أنساب الأشراف (4/335) .
(2) تاريخ ابن عساكر ترجمة معقل بن سنان نقلاً عن مواقف المعارضة صـ445 .
(3) طبقات ابن سعد (5/125) سير أعلام النبلاء (3/320 ـ 321) .
(4) مواقف المعارضة صـ446 .(2/333)
الدكتور يوسف العش: وبعد انتهاء معركة الحرّة أحضر مسلم مدبري الفتن واستعرضهم، وطلب إليهم أن يبايعوه على أنّهم خول ليزيد، ويحكم في أهلهم ودمائهم وأموالهم ما يشاء، فلم يقبلوا بأن يبايعوا هذه البيعة فقتلهم، وكان يريد أن يقضي على فتنتهم بالصغار، والحط من منزلتهم والتحقير من شأنهم، بحيث يعتبرون عبيداً، هم وما يملكون(1). وهذا انحراف عظيم عن شرع الله تعالى، ودليل على عسف الدولة وظلمها وجبروتها وقسوتها وتجاوزنها الحدود المعقولة والمنقولة بسبب غضبها وحنقها على أهل المدينة.
9 ـ وفاة مسلم بن عقبة: 64هـ:
... نفذ مسلم وصية يزيد بحذافيرها، فلم يفاجيء أهل المدينة بالقتال، ولكنه أنذرهم وحذرهم، ولما مضت الثلاث، حاول إقناعهم وألحّ عليهم أن يقبلوا السلام، وأن يكفوا عن القتال، ولكنهم سبوه وشتموه وردوا عليه أمانه، ويا ليت مسلماً تروى واستمر في حصار المدينة المحرمة، ولكن غلبه حبه لسفك الدماء، فدخل المعركة وأنزل بأهل المدينة روعاً عظيماً، وأعمل فيهم السيوف وقتل خيارهم، وشتتوا شملهم ولم ينج منهم إلا أسير أو هارب إلى مكة لينضم إلى ابن الزبير وقد أسرف مسلم في قتل المسلمين حتى بعد انتهاء المعركة فقتل رجالاً خرجوا من المعركة سالمين، ولم يكن له ليقتلهم وقد انتهت المعركة، واستسلمت المدينة، ولكن غلب عليه طبعه، وجرى في عروقه دم الشر الذي فطر عليه، فكان يقتل الرجل لمجرد أن يقول إنه يبايع على كتاب الله وسنه رسوله، أو يبايع على سنة أبو بكر وعمر، وبالطبع لم يكن هذا أبداً مبرراً لسفك دماء وإزهاق أرواح(2)، ولكنه الظلم والعسف والتجبر والطغيان.
__________
(1) الدولة الأموية صـ176 .
(2) الأمويون بين الشرق والغرب (1/283) .(2/334)
وفي أوّل المحرم من عام 64هـ بعد فراغ مسلم من حرب المدينةـ سار إلى مكة قاصداً قتال ابن الزبير، ولما بلغ ثنيَّة هرْش(1)، بعث إلى رؤوس الأجناد فجمعهم فقال: إنّ أمير المؤمنين عهد إليَّ إن حدث بي حدث الموت أن أستخلف عليكم حصين بن نمير السَّكوني ووالله لو كان الأمر لي ما فعلت. ثم دعابه فقال: انظر يا بن بردعة الحمار فاحفظ ما أوصيك به. ثم أمره إذا وصل مكة أن يناجز بن الزبير قبل ثلاث، ثم قال: اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله أحب إليّ من قتلي أهل المدينة ولا أرجى عندي في الآخرة، وإن دخلت النار بعد ذلك إني لشقيُّ. ثم مات قبحه الله ودفن بالمُشلل(2). انظر إلى شدة جهله وحماقته وكيف كان يعتقد أنه يتقرب بقتل هؤلاء إلى الله، وأنه يزداد بقتلهم قربى منه ـ سبحانه ـ والناظر في دعائه يستشعر الأسباب التي جعلت مسلماً يدير المعركة بشراسة، ويسرف في دماء المسلمين من غير وازع ولا رادع فقد كان مسلم يعتقد أن قتل أهل المدينة قربى إلى الله، فأسرف في القتلى وكان يؤمن بأن قتلهم هو السبيل إلى الجنة، فأمعن في سفك الدماء ولو أن الأحمق الجاهل الذي كان حريصاً أشد الحرص على طاعة أمير المؤمنين ولم يحرص قط على طاعة الله، وكان يكره معصية أمير المؤمنين عند الموت، بقدر ما كان يكره طاعة الله في عباده، لو أنه فقه أن زوال الدنيا عند الله أهون من سفك دم امرىء مسلم، ولو أنه علم أن ما فعله أهل المدينة لا يبيح دماءهم ولا تستباح أموالهم لو أنه علم ذلك لكان يكفيه من إدارة المعركة القدر الذي يخضع الناس ليزيد(3).
10 ـ كيف استقبل يزيد خبر موقعة الحرّة؟
__________
(1) هرْش: مكان مرتفع من طريق مكة: قريبة من الجحفة .
(2) بين مكة والمدينة، البداية والنهاية (11/263) .
(3) الأمويون بين الشرق والغرب (1/285) .(2/335)
... ولما بلغ يزيد خبر أهل المدينة وما وقع بهم قال: واقوْماه ثم دعا الضّحَّاك بن قيس الفهري فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة، فما الرأي الذي يجبرهم؟ قال الطعام والأعطية فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته. وهذا خلاف ما ذكره كذبة ـ الشيعة ـ عنه من أنه شمت بهم وشقى بقتلهم(1)، وأنه أنشد من شعر ابن الزِّبَعْرَي:
... ... ... ... ليت أشياخي ببدر شهدوا
... ... ... ... ... ... ... ... جزِع الخزرج من وقع الأَسَلْ
... ... ... ... حين حَكَّت بقُباء بَرْكها
... ... ... ... ... ... ... ... واستحر القتل في عبد الأَشَلْ
... ... ... ... وقد قتلنا الضّعف من أشرافهم
... ... ... ... ... ... ... ... وعَدَلْنا ميل بدر فاعتدل
وقد زاد بعض ـ كذبة الشيعة فيها ـ:
... ... ... ... لعبت هاشم بالملك فلا
... ... ... ... ... ... ... ... مَلَكُ جاء ولا وحي نزل(2)
... قال ابن كثير: فهذا إن قاله يزيد بن معاوية فلعنة الله عليه ولعنة اللاَّعنين، وإن لم يكن قاله فلعنة الله على من وضعه عليه ليُشنِّع عليه به وعلى ملوك المسلمين(3)، وقال ابن تيمية على أبيات الشعر: ويعلم بطلانه كل عاقل(4)، لقد وقع يزيد في خطأ مرّوع، لا تهون منه الاعتذارات والمواساة، وهو الأمر باستباحة المدينة للمحاربين ثلاثة أيام ينهبون ويسرقون، مما أدى إلى فساد خطير وشر مستطير، وفتح على يزيد باباً أدى إلى تشويه سمعته، وبغض المسلمين في خلافته، وبخاصة أن المسلمين لم ينسوا بعد مقتل الحسين بن علي ـ رضي الله عنه ـ حيث لم تجف دماؤه على ثرى كربلاء(5).
رابعاً : أهم الدروس والعبر والفوائد:
1 ـ دواعي فشل أهل المدينة:
__________
(1) البداية والنهاية (11/655) .
(2) المصدر نفسه (11/631) .
(3) المصدر نفسه (11/631) .
(4) منهاج السنة (4/550) .
(5) الأمويون بين الشرق والغرب (1/283) .(2/336)
... لقد كان محكوماً على حركة المدينة بالفشل، لأنهم لم يوحّدوا صفوفهم ولم يكن لهم قائد واحد، لأن تعدد القوّاد في المعركة من دواعي الهزيمة وهذا ما تنبأ به عبد الله بن عباس عندما سأل عن حالهم: فقيل استعملوا عبد الله بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظله على الأنصار. فقال ابن عباس: أميران؟ هلك القوم(1)، ولو حصل الانتصار، فدواعي اشتعال الفتنة موجودة ممن يكون الخليفة؟ هل يتولاها رجل من قريش أو من الانصار؟ فهم لم يعلنوا أنهم تبع لابن الزبير(2)، ومن دواعي الفشل: قلت ما تحت أيديهم من الأرزاق ولو أستمر الحصار مدة طويلة لهلك الناس من الجوع، لأن ما بها من الميرة لا يكفيها لسد حاجتها أياماً وجل طعامها يأتيها من التجارة، أو من بساتين خارج حدود المدينة، فكيف يغادر هؤلاء في حرب ليس عندهم مؤونة لها، يقفون أمام جند الشام المدعمين بالسلاح والمال؟ ومن دواعي فشلهم: عدم بروز هدف يريدون تحقيقه بعد خلع يزيد والنصر: وإذا كان هدفهم خلع يزيد: هل كانوا يريدون أن تكون إمارة مستقلة؟ وهذا غير ممكن. وإذا كان هدفهم تولية ابن الزبير، لماذا لم يرفعوا راية واحدة باسم ابن الزبير ، ولماذا لم يطلبوا المدد منه؟ ولو ضم ابن الزبير جنده إلى جند المدينة، لتكونت قوة تستطيع أن تقف أمام جيش مسلم بن عقبة، ولكنهم عندما وزعوا قواتهم وعددوا معاركهم استطاع الأمويون أن ينتصروا عليهم وهم متفرقون(3).
2 ـ موقف زعامة المدينة المنورة:
لم تكن زعامة المدينة المنورة، راضية عن هذه الثورة، فهناك أسرتان كبيرتان من المهاجرين عارضتا أهل المدينة، وهما آل الخطاب، وآل هاشم وعلى رأس آل الخطاب، شيخ الصحابة في زمانه وفقيههم عبد الله بن عمر، ومن آل هاشم عبد الله بن العباس وعلى بن الحسين ومحمد بن الحنيفة(4).
__________
(1) العقد الفريد(4/388) ، المدينة في العصر الأموي صـ134 .
(2) المدينة في العصر الأموي صـ134 .
(3) المصدر نفسه صـ135 .
(4) المصدر نفسه صـ135 .(2/337)
3 ـ رأي بن تيمية: .. وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا وكان ما تولد على فعله من الشرّ أعظم مما تولد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة فإنهم هزموا وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دنيا، ولا أبقوا دينا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل فيه صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.. وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين، وغيرهم، ينهون عام الحرّة عن الخروج على يزيد(1).
4 ـ عناية المؤرخين بمعركة الحرّة:
لم تجد معركة الحرّة من المؤرخين، كما لاقى غيرهما من الحوادث التي حصلت أيام يزيد بن معاوية، ولم يفرد المؤرخون المحدثون عنها أبحاثا، كما أفردوا عن الحركات الأخرى، ولو قارنا بينها وبين حركة الحسين لوجدنا فرقاً كبيراً في النتائج، فمجموع ما قتل في معركة الحرّة أضعاف ما قتل مع الحسين، وقتل في معركة الحرّة رجال مشاهير لهم منزلة صحبة وجهاد من هؤلاء عبد الله بن زيد حاكي وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم(2)، ومعقل بن سنان(3)وفيه يقول الشاعر:
... ... وأصبحت الأنصار تبكي سراتها
... ... ... ... ... وأشجع تبكي معقل بن سنان
وعبد الله بن حنظله الغسيل مع ثمانية من بنيه، وهؤلاء الرجال مكانتهم في الإسلام عالية ومصيبة المسلمين فيهم عظيمة وهي مصيبة تضاف إلى مصيبة المسلمين في الحسين رضي الله على مكانته وفضله وسيادته عند المسلمين وهذا ما يجعل معركة الحرّة فاجعة كبيره كما هي معركة كربلاء.
المبحث السادس: حركة عبد الله بن الزبير في عهد يزيد:
كان ابن الزبير رضي الله عنه قد عقد العزم على عدم البيعة ليزيد واختار الذهاب والاستقرار بمكة.
__________
(1) منهاج السنة (2/241) .
(2) عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب الأنصاري ، صحابي شهد بدراً ، وله ثمانية وأربعون حديثاً الإصابة رقم4688 .
(3) معقل بن سنان، صحابي من القادة الشجعان كانت معه راية قومه يوم حنين وفتح مكة .(2/338)
أولاً: أسباب اختيار ابن الزبير لمكة:
اجتمعت عدة أسباب جعلت مكة أنسب مكان يمكن أن يتجه إليه ابن الزبيرـ في نظره ـ ومن أهمها ما يلي:
1 ـ أنها المكان الوحيد الذي يمكن اللجوء إليه في هذه الفترة وذلك لأن الأقاليم الأخرى ليست مناسبة، فالعراق ـ بمصريه الكوفة والبصرة لا يمكن ضمان ولاء أهلها لأي زعيم معارضة ضد بني أمية، وما فعلوه مع الحسين خير دليل على ذلك، وكان ابن الزبير يعي ذلك تماماً حينما نصح الحسين بعدم الذهاب إلى العراق(1)، أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطغوا أخاك؟ أما مصر واليمن فقد كانتا بعيدتين عن مسرح الأحداث، ولم يكن لابن الزبير في هذين الإقليمين أنصار ومؤيدون يمكن أن يعتمد عليهم وأما الشام فكما هو معروف كان معقل الأمويين.
2 ـ إن مكةـ لوجود بيت الله فيها ـ كانت بلداً حراماً ولا يجوز سفك الدماء بها، وهذا يكفل لمن يعتصم بها حماية من القتل إلا إذا ارتكب حدا يوجب ذلك، وعلى أقل تقدير فوجود هذا الحكم الخاص بمكة يجعل التفكير باستخدام القوة هو آخر حل يُلجا إليه.
3 ـ وكما أن مكة بلد له مكانته وقدسيته في نفوس المسلمين فإن من يتعرض له بالإيذاء سيواجه معارضة من قبل العديد من المسلمين الذين سيهبون للدفاع عن بيت الله الحرام بغض النظر عمن يعتصم به، وقد أفاد ابن الزبير من هذه النقطة كثيراً.
4 ـ أنه يجتمع بمكة في موسم الحج كل عام الألوف من المسلمين من مختلف الأقاليم، ويمكن من خلال هذا الموسم التأثير على الرأي العام وتوجيهه وهو ما لا يمكن توفره في أي إقليم.
5 ـ أن مكة بدأت منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ـ والصحابة إلى المدينة تفقد دورها السياسي وبالتالي فإن قبضة الأمويين عليها لم تكن قوية بعكس وضع المدينة.
__________
(1) نسب قريش صـ239 للزبيري .(2/339)
6 ـ وأخيراً فإن معارضة ابن الزبير مرتبطة بأهل المدينة الذين يقفون معه الموقف نفسه ضد بني أمية، وبالتالي كان من المناسب أن يكون ابن الزبير قريباً من المدينة ليضمن استمرار تأييد أهلها له ولكي يتمكن من الاتصال المستمر بهم(1).
ثانياً أسباب خروج ابن الزبير ومن معه:
كان مقصد ابن الزبير رضي الله عنه ومن معه ومن بينهم بعض الصحابة والتابعين كالمسور بن مخرمة، وعبد الله بن صفوان، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من فضلاء عصرهم هو تغيير الواقع بالسيف لما رأوا تحول الخلافة إلى وراثة ملك، ولما أشيع حول يزيد من إشاعات أعطت صورة سيئة للخليفة الأموي في دمشق والذي ينبغي أن يفهم أن ابن الزبير قام لله وليس كما يقول البعض، مثل محمد ماهر حمادة عندما قال: وعلى الرغم من أن حركة ابن الزبير لم تكن سوى مزيج عجيب، من عدد من العناصر، يحركها طموح شخصي، وصراع قلبي،التقتا في نفس ابن الزبير، وشخصيته(2). لقد كان رضي الله عنه يهدف من وراء المعارضة أن تعود الأمة إلى حياة الشورى ويتولى الأمة حينئذ أفضلها وكان يخشى من تحول الخلافة إلى ملك، وكان يرى رضي الله عنه أنه باستعماله للسيف وتغييره للمنكر بالقوة يتقرب إلى الله ويضع حداً لانتقال الخلافة إلى ملك ووراثة ولهذا لم يدع لنفسه حتى توفي يزيد بن معاوية(3). وكان ابن الزبير يخطب ويقول: والله لا أريد إلا الإصلاح وإقامة الحق، ولا التمس جمع مالاً ولا إدخاره(4) وكان يقول: اللهم إني قد أحببت لقاءك فأحبب لقائي، وجاهدت فيك عدوك فاثبني ثواب المجاهدين(5). وقال عبد الله بن صفوان بن أمية لابن الزبير: إني والله ما قاتلت معك إلا عن ديني(6)
__________
(1) عبد الله ابن الزبير والأمويون صـ70، 71 عبد الله بن عثمان.
(2) الوثائق السياسية للجزيرة العربية صـ18 .
(3) الطبقات (5/147) .
(4) أنساب الأشراف (1/315)
(5) تاريخ بن عساكر نقلا عن عبد الله بن الزبير والأمويون صـ67 .
(6) أخبار مكة للفاكهي (2/364) .(2/340)
، والروايات في هذا المجال كثيرة جداً وهي تدل على النظرة الحقيقية لمعارضة ابن الزبير وكذلك أهل المدينة حيث اعتبروها جهاداً في سبيل الله(1)، إن الحسين بن علي وابن الزبير وأهل الحرَّة رضي الله عنهم كان خروجهم من أجل الشورى لأسباب مشروعة منها:
1 ـ دفاعاً عن حقهم الذي جعل الله لهم ((وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ).
2 ـ أن هذا الاغتصاب منكر وظلم تجب إزالته .
3 ـ تمسكا بالسنة وهدى الخلفاء الراشدين في باب الخلافة(2).
... وساعد في تحقيق أهداف ابن الزبير والتفاف الناس من حوله عدة أمور منها: ردة الفعل الذي أحدثته معركة كربلاء، سوء سيرة يزيد، سرعة يزيد في عزل ولاة الحجاز مركز الثقل السياسي كما كان زمن الرسول والخلفاء الراشدين(3).
ثالثاً : الجهود السلمية التي بذلها يزيد لاحتواء ابن الزبير:
__________
(1) عبد الله بن الزبير والأمويون صـ67 .
(2) انظر : الحرية والطوفان صـ124 ، 125 .
(3) عبد الله بن الزبير د. شحادة الناطور صـ96 إلى 98 .(2/341)
... كان ابن الزبير يدرك الخطورة التي ستلحق بالحسين إذا خرج إلى الكوفة، ولذا ناشده عدم الذهاب إلى الكوفة قائلاً: أين تذهب إلى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك(1). وكان ابن الزبير يدرك أن الحسين إذا أصيب في العراق، فإن النتائج ستنعكس عليه وسيكون المنفرد في الساحة، وبالتالي يسهل القضاء عليه وقد حرص ابن الزبير على إشعار الحسين بمكانته وأن وجوده في مكة يحظى بالتأييد من أهلها وبالأخص من ابن الزبير نفسه، ولذا فقد بادره بفكرة جريئة فقال للحسين: إن شئت أن تقيم أقمت فوليت هذا فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك، وبايعناك(2)، ويبدو أن ابن الزبير رغب أن تكون القيادة العامة بيد الحسين نظراً لمكانته ووجاهته، واحترام المسلمين له. ويكون بيده التخطيط لمجابهة يزيد بن معاوية، وبالأخص أنه يملك رصيداً كبيراً من المشاركات الحربية الناجحة في عمليات الجهاد الإسلامي، وكان يرغب في جعل ركيزة الانطلاق في المعارضة هي بلاد الحجاز، وذلك نظراً لصدق أهلها، ووجود العباد والصالحين والعلماء من الصحابة وكبار التابعين بها، ثم وجود الحرمين ومكانتهما، فإذا تمت لهما السيطرة على بلاد الحجاز، فإن قضيتهما ستكسب بعداً كبيراً في الأقاليم الإسلامية، فالناس تؤم الحرمين للعمرة والحج والزيارة، وبالتأكيد سينقلون أخبار المعارضين ومكانتهما، مما سيؤدي إلى تعاطف وتأييد وأنصار تلك الأقاليم، ولما خرج الحسين رضي الله عنه إلى الكوفة وقتل يوم عاشوراء من سنة إحدى وستين بكربلاء كان لذلك وقع كبير على ابن الزبير، فالذي يخشاه ابن الزبير وهو انفراد الأمويين به قد حدث، ثم إن الرجل الذي كان يضفي مكانة ومنزلة على المعارضة قد قتل ومع ذلك لم يحدث تحرك من الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين رضي الله عنه(3)، ولعل إنفراده بالمعارضة ضد يزيد هي التي
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (15/95) بسند حسن .
(2) أنساب الأشراف (4/13) ، مواقف المعارضة صـ518 .
(3) مواقف المعارضة صـ519 .(2/342)
جعلت ابن خلدون يقول: ولم يبق في المخالفة لهذا العهد ـ الذي اتفق عليه الجمهور ـ إلا ابن الزبير، وندور المخالف معروف(1)، وقد أحس ابن الزبير بخطورة موقفه، ولكنه حاول أن يستفيد من دوافع الكره والمقت التي تعتلج في نفوس الناس ضد الأمويين بسبب قتل الحسين(2).
1 ـ أول هجوم مباشر وصريح من ابن الزبير على يزيد:
... عندما سمع ابن الزبير مقتل الحسين رضي الله عنه قام خطيباً في مكة وترحم على الحسين وذم قاتليه وقال: أما والله لقد قتلوه طويلاً قيامه، وكثيراً في النهار صيامه، أحق بما هم فيه منهم، وأولى بما هم فيه منهم، وأولى به في الدين والفضل، أما والله ما كان يبدّل بالقرآن الغناء ولا البكاء من خشية الله الحداء، ولا بالصيام شراب الحرام، ولا بالمجالس في حلق الذكر ـ الركض في طلب الصيد ـ يعرّض بيزيد ـ فسوف يلقون غياً(3). ونظراً للمشاعر العاطفية التي أثرت على أهل الحجاز عموماً بسبب قتل الحسين رضي الله عنه فقد أبدى البعض استعداده لبيعة ابن الزبير(4)، ولاحظ ابن الزبير مشاعر السخط التي عمّت أهل الحجاز بسبب قتل الحسين رضي الله عنه، فأخذ يدعو إلى الشورى وينال من يزيد ويشتمه(5)، ويذكر شربه للخمر ويثبط الناس عنه، وأخذ الناس يجتمعون إليه فيقوم فيهم، فيذكر مساوئ بني أمية ويطنب في ذلك(6).
2 ـ مساعي يزيد السلمية :
__________
(1) مقدمة ابن خلدون (1/265) .
(2) مواقف المعارضة صـ520 .
(3) المصدر نفسه صـ520 .
(4) أنساب الأشراف (4/304) .
(5) المصدر السابق (4/304) .
(6) أخبار مكة (1/201) بسند كل رجاله ثقات .(2/343)
... لم يحاول يزيد في بداية الأمر أن يعمل عملاً من شأنه أن يعقّد النزاع مع ابن الزبير، ولهذا فلقد أرسل إليه رسالة يذكّره فيها بفضائله ومآثره في الإسلام، ويحذره في الفتنة والسعي فيها، وكان مما قال له: أذكرك الله في نفسك فإنك ذو سن من قريش وقد مضى لك سلف صالح، وقدم صدق من اجتهاد وعبادة، فأربب صالح ما مضى ولا تبطل ما قدمت من حسن، وأدخل فيما دخل فيه الناس، ولا تردهم في فتنة، ولا تحل ما حرم الله، فأبى أن يبايع(1).
3 ـ غضب يزيد على ابن الزبير:
__________
(1) أنساب الأشراف (4/303 ـ 304) .(2/344)
... لم يستجب ابن الزبير لدعوة يزيد السلمية ورفض بيعته وأقسم يزيد على أنه لا يقبل بيعة ابن الزبير حتى يأتي إليه مغلولاً(1)، ولقد حاول معاوية بن يزيد أن يثني والده عن هذا القسم، وذلك لمعرفته بابن الزبير، وأنه سيرفض القدوم على يزيد وهو في الغل، وكان معاوية بن يزيد صالحاً تقياً ورعاً يجنح للسلم ويخشى من سفك دماء المسلمين، وساند معاوية في رأيه عبد الله بن جعفر، ولكن يزيد أصر عل رأيه، وحتى يخفف يزيد من صعوبة الموقف على ابن الزبير، فقد بعث بعشرة من أشراف أهل الشام، وأعطاهم جامعة من فضة، وبرنس خز(2) وفي رواية أخرى: أن يزيد بعث لابن الزبير بسلسلة من فضة وقيد من ذهب، وجامعة من فضة(3). وعند وصول أعضاء الوفد إلى مكة تكلم ابن عضاة الأشعري، وقال: يا أبا بكر: قد كان من أثرك في أمر أمير الخليفة المظلوم ـ يعني عثمان بن عفان ـ ونصرتك إياه يوم الدار مالا يجهل، وقد غضب أمير المؤمنين بما كان من إبائك مما قدم عليك فيه النعمان بن بشير، وحلف أن تأتيه في جامعة خفيفة لتحل يمينه، فالبس عليها برنساً فلا ترى، ثم أنت الأثير عند أمير المؤمنين الذي لا يخالف في ولاية ولا مال(4).
4 ـ ابن الزبير يفكر ويستشير في عرض يزيد:
استأذن ابن الزبير الوفد بضعة أيام يفكر ويستشير، فعرض الأمر على والدته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها فقالت: يا بني عش كريماً ومت كريماً ولا تمكن بني أمية من نفسك، فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا(5)
__________
(1) أنساب الأشراف (4/304) أخبار مكة (2/351) إسناده حسن .
(2) تاريخ خليفة صـ251 إسناده حسن ، مواقف المعارضة صـ521 .
(3) الآحاد والمثاني (1/416) بسند صحيح لابن أبي عاصم .
(4) أنساب الأشراف (4/308) مواقف المعارضة صـ523 .
(5) أخبار مكة (1/201) بسند كل رجاله ثقات .(2/345)
... وكان مروان بن الحكم قد بعث ابنه عبد العزيز وقال له: قل لابن الزبير إن أبي أرسلني عناية بأمرك وحفظاً لحرمتك، فابرر يمين أمير المؤمنين ،فإنما يجعل عليك جامعة من فضة أو ذهب وتكسى عليه برنساً فلا تبدو إلا أن يسمع صوتها، فكتب ابن الزبير إلى مروان يشكره(1) وجاء رد ابن الزبير على الوفد بالمنع(2).
5 ـ تهديد الوفد لابن الزبير ورده عليهم:
__________
(1) نسب قريش صـ449 ، مواقف المعارضة صـ524 .
(2) مواقف المعارضة صـ524 .(2/346)
... بعدما أجاب بن الزبير على الوفد بالمنع قال لابن عضاة: إنما أنا بمنزلة حمام من حمام مكة أفكنت قاتلاً حماماً من حمام مكة؟ قال: نعم، وما حرمة حمام مكة: يا غلام ائتني بقوسي وأسهمي فأتاه بقوسه واسهمه، فأخذ سهماً فوضعه في كبد القوس ثمّ سدده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد الخمر، قولي: نعم. فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟ وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك؟ والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أو يتكلم الطائر؟ قال: لا، ولكنك يا ابن الزبير تتكلم، أقسم بالله لتبايعن طائعاً أو مكرهاً أو لتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ولئن أمرنا بقتالك ثم دخلت الكعبة لنهدمنها أو لنحرقنها عليك أو كما قال. فقال ابن الزبير: أو تحل الحرم البيت، قال: إنما يحله من ألحد فيه(1). ثم قال ابن الزبير: إنه ليست في عنقي بيعة ليزيد. فقال ابن عضاة: يا معشر قريش قد سمعتم ما قال: وقد بايعتم وهو يأمركم بالرجوع عن البيعة(2)، وأخذ ابن الزبير يبسط لسانه في تنقص يزيد وقال: لقد بلغني أنه يصبح سكران ويمسي كذلك ثم قال: يا ابن عضاة: والله ما أصبحت أرهب الناس ولا البأس، وإني لعلى بينة من ربي، فإن أقتل فهو خير لي، وإن أمت حتف أنفي فلله يعلم إرادتي وكراهتي لأن يعمل في أرضه بالمعاصي، وأجاب الباقين بنحو جوابه(3). ثم قال ابن الزبير: اللهم إني عائد ببيتك(4)، ولقب نفسه عائذ الله(5)، وكان يسمى العائذ(6).
رابعاً: الجهود الحربية ضد بن الزبير:
1 ـ حملة عمرو بن الزبير:
__________
(1) أنساب الأشراف (4/309) .
(2) عيون الأخبار (1/196) .
(3) أنساب الأشراف (4/309) .
(4) مواقف المعارضة صـ525 نقلا عن ابن عساكر .
(5) الإصابة (4/49) سند صحيح .
(6) تاريخ الطبري نقلا عن مواقف المعارضة صـ525 .(2/347)
رأى يزيد أنه لابد من القيام بعمل عسكري، يكون الهدف منه القبض أو القضاء على ابن الزبير أو حمله على الامتثال لقسم يزيد ووضع الأغلال في عنقه ولما حج عمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة في تلك السنةـ والمرجح سنة إحدى وستين ـ حج ابن الزبير معه، فلم يصل بصلاة عمرو، ولا أفاض بإفاضته(1)، وهذا العمل من ابن الزبير يعني المفارقة الواضحة لسلطة الدولة، وعدم الاعتراف بها، وخصوصاً أن إقامة الحج تمثل الدليل الأقوى على شرعية الدولة وقوة سلطانها، مثله مثل إقامته الجهاد في سبيل الله(2)، ثم منع ابن الزبير الحارث بن خالد المخزومي من أن يصلي بأهل مكة وكان الحارث بن خالد المخزومي نائب لعمرو بن سعيد على أهل مكة(3)، وكان ابن الزبير يتصرف وكأنه مستقل عن الدولة، وكان لا يقطع أمراً دون المسور بن مخرمة(4)، ومصعب بن عبد الرحمن بن عوف، وجبير بن شيبة، وعبد الله بن صفوان بن أمية، وكان يريهم أن الأمر شورى فيما بينهم، وكان يلي بهم الصلوات، والجمع ويحج بهم(5)، فكتب يزيد إلى عمرو بن سعيد بن العاص واليه على المدينة أن يوجه له جُنداً، فعين عمرو بن سعيد بن العاص على قيادة هذه الحملة عمرو بن الزبير بن العوام أخو عبد الله بن الزبير، وكان عمرو بن الزبير قد ولي شرطة المدينة لعمرو بن سعيد، وكان شديد العداوة لأخيه عبد الله وقام بضرب كل من كان يتعاطف مع ابن الزبير، وكان ممن ضرب المنذر بن الزبير، وابنه محمد بن المنذر وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوت(6)، وعثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام(7)، وخبيب بن عبد الله بن الزبير(8)، وفر منه عبد الرحمن بن عثمان، وعبد الرحمن بن عمرو بن سهيل وغيرهم
__________
(1) أنساب الأشراف (4/307) .
(2) مواقف المعارضة صـ526 .
(3) تاريخ ابن عساكر ترجمة ابن الزبير (30/200) .
(4) التقريب 533 .
(5) تاريخ ابن عساكر (30/2000) مواقف المعارضة صـ527 .
(6) نسب قريش صـ214ـ 215 .
(7) نسب قريش صـ233 ؟
(8) نسب قريش صـ239ـ 240 .(2/348)
إلى مكة فالتجأوا إلى ابن الزبير(1)، وكان تعيين عمرو بن الزبير على قيادة الجيش المتجه لمحاربة ابن الزبير جاء بناءً عل طلب من عمرو بن الزبير نفسه(2)، واتجه جيش عمرو بن الزبير إلى مكة وكان قوامه ألف رجل، وجعل على مقدمته أنيس بن عمرو الأسلمي في سبعمائة من الجند(3)، فسار عمرو بن أنيس الأسلمي حتى نزل بذي طوى، وسار عمرو بن الزبير حتى نزل بالأبطح(4)، وأرسل عمرو بن الزبير إلى أخيه (عبد الله) يطلب منه الامتثال ليمين يزيد بن معاوية وحذره من القتال في البلد الحرام(5) وكان عمرو بن الزبير يخرج من معسكره فيصلي بالناس خلال المفاوضات مع أخيه عبد الله. وكان عبد الله يسير معه ويلين له، ويقول: إني سامع مطيع وأنت عامل يزيد، وأنا أصلي خلفك، وما عندي خلاف، فأما أن تجعل في عنقي جامعة، ثم أقاد إلى الشام، فإني نظرت في ذلك، فرأيت أنه لا يحل لي أن أحله بنفسي فراجع صاحبك واكتب إليه ولكن عمرو بن الزبير اعتذر من الكتابة ليزيد، وذلك لأنه جاء في مهمة محددة مطلوب منه تنفيذها. وكان عبد الله بن الزبير قد أرسل عبد الله بن صفوان الجمحي ومعه بعض الجند، وأخذوا أسفل مكة، وأحاطوا بأنيس بن عمرو الأسلمي، ولم يشعر بهم أنيس إلا وقد أحاطوا به، فقتل أنيس وانهزم أصحابه، وفي الوقت الذي قتل فيه وانهزم جيش أنيس بن عمرو الأسلمي، كان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف، يقود طائفة أخرى من الجند نحو عمرو بن الزبير، الذي كان معسكراً في الأبطح، فانهزم عمرو بن الزبير، ودخل دار رجل يقال له علقمة، فجاءه أخوه عبيدة بن الزبير فأجاره، فأخذه إلى عبد الله، وذكر له أنه أجاره، فقال عبد الله، أما حقي فنعم، وأما حق الناس فلأقتص منه لمن أذاه
__________
(1) الطبقات (5/185) .
(2) أنساب الأشراف (4/312) مواقف المعارضة صـ528 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن مواقف المعارضة صـ528 .
(4) الأبطح: ما حاز السيل إلى الحناطين يميناً من البيت .
(5) تاريخ الإسلام (حوادث 61 ـ 80) صـ199 .(2/349)
في المدينة(1)، وأقام عبد الله عمرو بن الزبير ليقتص الناس منه، فكل من ادعى على عمرو بأنه فعل به كذا وكذا وكذا قال له عبد الله بن الزبير افعل به مثلما فعل بك وتذكر المصادر أن عمرو بن الزبير تعرض لتعذيب شديد من جراء ذلك ومات تحت الضرب(2)، لقد أثبت ابن الزبير رضي الله عنه أنه يملك ذكاء ودهاء بارزين، الأمر الذي مكّنه من تحويل القضية لصالحه، بعدما كانت في يد يزيد بن معاوية، وكان ابن الزبير في بداية معارضته يعتمد على أن البيعة التي تمت ليزيد بن معاوية لم تكن بموافقة الناس، ولا بد من مشاركة الناس وكان يدعو إلى الشورى ولم تحقق معارضة ابن الزبير أي نجاح يذكر، فخلال سنتين أو أكثر من معارضته ليزيد لم يحدث أي تغير بشأن هيمنة الدولة على الحجاز، فضلاً عن غيره من الأقطار ولكن ابن الزبير كان يهدف من التحرش بالأمويين إلى إيقاع يزيد في مأزق المواجهة، لقد ارتكب يزيد خطأً فادحاً عندما أقسم يزيد أن يأتيه ابن الزبير إلى دمشق في جامعة، فكيف يعقل من صحابي جليل تجاوز الستين من عمره أن يرضخ لطلب يزيد بن معاوية، ولقد استطاع ابن الزبير أن يظهر يزيد أمام أهل الحجاز بأنه شخص متسلط ليس أهلاً لولاية المسلمين، وجعلت هذه الحادثة من ابن الزبير ـ في نظر الكثير من المتمردين في موقفهم من ابن الزبير، على أنه طالب حق يواجه خليفة يحمل الظلم في أحكامه والتعسف في قراراته والذي مكّن ابن الزبير وأكسبه الكثير من التعاطف هو موقف أمير المدينة ـ عمرو بن سعيد ـ فكان هذا الأمير ـ كما تذكر الروايات ـ شديداً على أهل المدينة معرضاً على نصحهم متكبراً عليهم(3). ثم ذلك الخطأ الكبير الذي وقع فيه عمرو بن الزبير، الذي تصنعه الروايات أيضاً بأنه: عظيم الكبر شديد العجب، ظلوماً قد
__________
(1) الطبقات (5/185) أنساب الأشراف (4/312) .
(2) أنساب الأشراف (4/316) تاريخ الإسلام حوادث 61 .
(3) الموفقيات صـ152 للزبير بن بكار نقلاً عن مواقف المعارضة صـ531 .(2/350)
اساء السيرة وعسف الناس وأخذ من عرفه بمولاة عبد الله والميل إليه، فضربهم بالسياط ويقال: عمرو لا يكلم من يكلمه يندم(1)، ومن الأخطاء التي وقع فيها يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص والي المدينة، واستطاع ابن الزبير أن يوظفها لصالحه غزو مكة بجيش، فمكة لها حرمتها وخصوصيتها في الجاهلية ثم جاء الإسلام فزادها مكانة وقداسة على مكانتها تلك التي كانت في الجاهلية، وقام عمرو بن سعيد يتحدى مشاعر المسلمين في المدينة حين رقى المنبر في أول يوم من ولايته على المدينة، فقال عن ابن الزبير: تعوذ بمكة، فوالله لنغزونه، ثم والله لئن دخل الكعبة لنحرقنها عليه، على رغم أنف من رغم(2). ولما جهّز الحملة التي سيوجهها لابن الزبير في مكة، نصحه بعض الصحابة وحذّروه وذكّروه بحرمة الكعبة وبحديث رسول الله صلى اله عليه وسلم في بيان حرمتها ولكنه رفض السماع لنصحهم(3)، وكان مروان بن الحكم وهو الأمير المحنك والسياسي الداهية قد حذّر عمرو بن سعيد من غزو البيت وقال له: لا تغزو مكة، واتق الله ولا تحل حرمة البيت، وخلوا ابن الزبير فقد كبر، هذا له بضع وستون سنة، وهو رجل لجوج، والله لئن لم تقتلوه ليموتن، فقال له عمرو: والله لنقاتلنّه، ولنغزونّه في جوف الكعبة على رغم أنف من رغم، فقال مروان: والله إن ذلك يسوؤني(4). وكان عبد الله بن الزبير قد اختار لقباً مؤثراً حين أطلق على نفسه ((العائذ بالله)) فأصبح المساس بحرمة مكة أمر لا يوافق عليه الصحابة والتابعون وكان لا بد من الدفاع عن مكة، في وجه جيش يريد استحلال حرمتها وحتى الذي لا يستطيع أن يدافع عن مكة فسوف يكون متعاطفاً مع ابن الزبير بصفته يدافع عن بيت الله(5)، وتدافع الناس نحو ابن الزبير من نواحي الطائف
__________
(1) أنساب الأشراف (4/311) مواقف المعارضة صـ531 .
(2) تاريخ خليفة صـ233 .
(3) أنساب الأشراف (4/312) مواقف المعارضة صـ532 .
(4) أنساب الأشراف (4/313) .
(5) مواقف المعارضة صـ532 .(2/351)
يعاونونه ويدافعون عن الحرم(1)، وهذه القضايا المعنوية والحسية كان لها الأثر البالغ في تعاظم مكانة ابن الزبير لدى أهل الحجاز الأمر الذي جعله يحقق نصراً ساحقاً وسهلاً على جيش عمرو بن الزبير(2).
2 ـ حملة الحصين بن نمير وحصار ابن الزبير وحريق الكعبة:
هلك مسلم بن عقبة النميري في طريقه لابن الزبير وتولى القيادة من بعده الحصين بن نمير السكوني ووصل إلى مكة قبل انقضاء شهر محرم بأربع ليالي. وعسكر الحصين بن نمير بالحجون(3)إلى بئر ميمون(4)، وبذلك فقد عمل الحصين بن نمير على نشر جيشه على مسافة واسعة والذي دفعه إلى ذلك طبيعة الحرب التي ستدور في مكة وقام ابن الزبير يحث الناس على قتال جيش أهل الشام وانضم المنهزمون من معركة الحرّة إلى ابن الزبير، وقدم على ابن الزبير أيضاً نجدة بن عامر الحنفي في ناس من الخوارج، وذلك لمنع البيت من أهل الشام(5)، وكان عدد المقاتلين الذين اشتركوا مع ابن الزبير أقل بكثير من المقاتلين الذين اشتركوا في معركة الحرّة، ولم تكن القوات متكافئة وتحول الوضع لصالح الحصين بن نمير، بعد أن مني ابن الزبير بفقد خيرة أصحابه، مثل أخواه المنذر وأبو بكر ابنا الزبير، ومصعب بن عبد الرحمن، وحذافة بن عبد الرحمن بن العوام، وعمرو بن عروة بن الزبير(6)، وبعد ثلاثة أيام من ربيع الأول سنة 64هـ قام الحصين بن نمير بنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس(7)، وجبل قعيقعان(8) وفقد ابن الزبير أهم مستشاريه ومناصريه، وهو المسور بن مخرمة بعد أن أصابه بعض أحجار المنجنيق، وانكشفت مواقع ابن الزبير أمام الحصين بن
__________
(1) أنساب الأشراف (4/313) .
(2) مواقف المعارضة صـ533 .
(3) الحجون : الجبل المشرف بينه وبين الحرم ميل ونصف .
(4) بئر ميمون : حفرها ميمون بن الحضرمي .
(5) أنساب الأشراف (4/338) مواقف المعارضة صـ545 .
(6) جمهرة نسب قريش صـ362 .
(7) جبل أبي قبيس : وهو أحد أخشبي مكة وهو جبل مطل على الصفا .
(8) قيعقعان : جبل بمكة .(2/352)
نمير، ولم يبق مأمن لابن الزبير من أحجار المنجنيق سوى الحجر(1)، وحوصر ابن الزبير حصاراً شديداً ولم يعد يملك إلا المسجد الحرام فقط بعد أن فقد مواقعه المتقدمة في الأبطح(2)، وفي أثناء احتدام المعارك بين ابن الزبير والحصين بن نمير احترقت الكعبة وهذه مصيبة أضيفت إلى مصائب المسلمين التي نتجت عن استحلال القتال في البلد الحرام الذي حرم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم القتال فيه(3)، وكان يزيد بن معاوية قد مات في منتصف شهر ربيع الأول(4)، ولم يعلم أحد بموته نظراً لبعد المسافة بين مكة ودمشق، وقد جاء الخبر بموت يزيد إلى مكة لهلال شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين(5).
__________
(1) المحن لأبي العرب صـ203 .
(2) تاريخ خليفة صـ251 بإسناد صحيح حتى ابن جريج .
(3) مواقف المعارضة صـ548 .
(4) أنساب الأشراف (4/344) ، تعجيل المنفعة صـ453 .
(5) مواقف المعارضة صـ48 ، أخبار مكة (1/197) .(2/353)
... ولم تكن الكعبة مقصودة في ذاتها بالإحراق والدليل على ذلك ما أحدثه حريق الكعبة من ذهول وخوف من الله في كلا الطائفتين(1) جيش الحصين بن نمير، وجيش ابن الزبير، فقد نادى رجل من أهل الشام بعد أن احترقت الكعبة وقال: هلك الفريقان والذي نفس محمد بيده(2)، وأما أصحاب ابن الزبير، فقد خرجوا كلهم في جنازة امرأة ماتت في صبيحة ليلة الحريق خوفاً من أن ينزل العذاب بهم، وأصبح ابن الزبير ساجداً ويقول: اللهم إني لم أتعمد ما جرى فلا تهلك عبادك بذنبي، وهذه ناصيتي بين يديك(3). وأهل الشام بالرغم من جهل بعضهم بابن الزبير ومكانته(4)، إلا أنه من المستحيل أن يجهل أحد منهم مكانة الكعبة وأهميتها، كيف وهم يتجهون إليها في صلاتهم عندما كانوا يحاصرون ابن الزبير، فمن المستحيل أن يعمد أحدهم إلى حرق الكعبة، أو كان ذلك يدور في تفكير الحصين بن نمير، وقد وردت تصريحات لبعض اقارب ابن الزبير وبعض السلف والعلماء المتحققين بأنهم لم ينسبوا إلى أحد من الطائفتين قصد حريق الكعبة، فهذا هشام بن عروة يقول:.. فقاتلوا ابن الزبير واحترقت الكعبة أيام ذلك الحصار(5)، وقال ابن عبد البر: وفي هذا الحصار احترقت الكعبة(6)، وقال ابن حجر: ثم سارت الجيوش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فحاصروه بمكة وأحرقت الكعبة(7). ولا شك أن أحداً من أهل الشام لم يقصد إهانة الكعبة، بل كل المسلمين معظمين لها، وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير، والضرب بالمنجنيق كان لابن الزبير لا للكعبة/، ويزيد لم يهدم الكعبة، ولم يقصد إحراقها لا هو ولا نوابه باتفاق المسلمين(8)
__________
(1) أخبار مكة (1/203) .
(2) تاريخ خليفة صـ252 بإسناد صحيح .
(3) مواقف المعارضة صـ552 ، الأغاني (3/227) .
(4) مواقف المعارضة صـ552 ، حلية الأولياء (1/336) .
(5) الإصابة (4/94) عن الزبير بن بكار بسند صحيح .
(6) الاستيعاب (3/243) .
(7) تعجيل المنفعة صـ453 مواقف المعارضة صـ553 .
(8) منهاج السنة (4/477) مواقف المعارضة صـ553 .(2/354)
. وهكذا كانت أحد نتائج تلك الحرب التي دارت بين ابن الزبير والحصين بن نمير إحراق البيت الحرام(1). ولما وصل الحصين خبر موت الخليفة بعث إلى ابن الزبير فقال: موعد ما بيننا الليلة الأبطح، وكان يريد أن يجتمع به ويفاوضه في الخلافة فالتقيا وتحادثا طويلاً واشتد بينهما الجدل وكان فيما قال الحصين لابن الزبير وهو يدعوه للخلافة: إن يك هذا الرجل قد هلك فأنت أحق الناس بهذا الأمر، هلم فلنبايعك ثم أخرج معي إلى الشام، فإن هذا الجند الذي معي هم وجوه أهل الشام وفرسانهم، فو الله لا يختلف عليك اثنان، وتؤمن الناس، وتهدر هذه الدماء التي كانت بيننا وبينك، والتي كانت بيننا وبين أهل هذه الحرة. فقال عبد الله: أنا أهدر تلك الدماء؟ أما والله لا أرضى أن أقتل كل رجل منهم عشرة منكم، وكان الحصين يكلمه سراً، وهو يجهر جهراً ويقول: لا والله لا أفعل. فقال له الحصين: قبح الله من يعدك بعد هذه داهياً قط أو أديباً، قد كنت أظن لك رأياً، ألا أراني أكلمك سراً وتكلمني جهراً وأدعوك للخلافة وتعدني للقتل والهلكة(2)، بعد أن افترقا، أدرك عبد الله خطأه في موقفه مع الحصين عندما عرض عليه الخلافة ومرافقته إلى بلاد الشام، وأراد أن يصحح هذا الموقف وكان الحصين يستعد للعودة بجنده إلى دمشق، فأرسل إليه يقول: أما أن أسير إلى الشام فليس فاعلاً وأكره الخروج من مكة، ولكن بايعوا لي هناك فإني مؤمنكم وعادل فيكم، فرد الحصين بقوله: أرأيت إن لم تقدم بنفسك، ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس، فما أنا صانع(3)؟ وذكر البلاذري: أن عبد الله بن الزبير طلب من الحصين مهلة لاستشارة أصحابه عندما عرض عليه الحصين الأمر، ولكن أصحابه رفضوا الخروج إلى الشام(4). ويصعب على المرء أن ينفذ إلى
__________
(1) مواقف المعارضة صـ554 .
(2) تاريخ الطبري (6/436) .
(3) المصدر نفسه (6/436) .
(4) أنساب الأشراف (4/57 ، 58) ، عبد الله بن الزبير للناطور صـ107 .(2/355)
أعماق ابن الزبير ويعرف ما كان يدور في خلده والأسباب التي دفعته لرفض عرض الحصين ولكن هناك مؤشرات عديدة تؤخذ بعين الاعتبار من الواقع السياسي في بلاد الحجاز(1)، منها:
أ ـ ... لم تكن للحصين صفة رسمية عندما عرض الخلافة على ابن الزبير، ولم يكن يمثل الأمويين كلهم، رغم أنه قال: إن الجند الذين معه هم وجوه أهل الشام وفرسانهم. فكيف يثق ابن الزبير بقائد حملة كان يقاتله قبل أيام ويريد أن يفتك به، وقد ظهرت المناقضة عند الحصين بقوله بعد ذلك: أرأيت إن لم تقدم بنفسك ووجدت هناك أناساً كثيراً من أهل هذا البيت يطلبونها ويجيبهم الناس(2).
ب ـ إن الذي عرض عليه الخلافة هو أحد قادة معركة الحرّة، وكان حول ابن الزبير عدد من أهل المدينة الذين هربوا من وحشية تلك المعركة، لذلك كان ابن الزبير يرد على الحصين بصوت جهوري، يسمعه من حوله من أنصاره ليدفع الشك عن نفوسهم، ويطمئنهم على موقفه من الحصين، فقال: إنه لا يرضى قتل عشرة من جيش الحصين بكل واحد من أهل المدينة(3).
جـ ـ عدم وجود أنصار ـ حتى الآن ـ له في بلاد الشام يمكن أن يعتمد عليهم وينصرونه كما هو الحال في بلاد الحجاز، فأهل الشام كانوا يدينون بالولاء والمحبة والتقدير للأمويين.
ر ـ عدم وجود جيش منظم حقيقي كالجيش الأموي عند ابن الزبير، وكل ما نستطيع أن نسمي المدافعين عن ابن الزبير عن مكة، بأنهم من المقاتلين الذين يجتمعون وقت الشدة ويتفرقون عند زوالها، وهل هناك شدة أكبر من غزو الكعبة؟ وأعتقد لو كان لابن الزبير جيش منظم حقيقي ومدرب مسلح بحيث يستطيع هذا الجيش نصرة ابن الزبير لتوجه مع حصين بن نمير، لتم له النجاح(4).
المبحث السابع : وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:
أولاً : وفاة يزيد بن معاوية:
__________
(1) عبد الله بن الزبير ماجد لحام صـ115 .
(2) تاريخ الطبري (6/436) .
(3) عبد الله بن الزبير ، ماجد لحام صـ116 .
(4) عبد الله بن الزبير د. شحادة الناطور صـ109 ، 110 .(2/356)
في عام 64هـ هلك يزيد بن معاوية وكانت وفاته بقرية من قرى حمص يقال لها حوّارين من أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 64هـ وهو ابن 38سنة في قول بعضهم، وعن هشام بن الوليد المخزومي، أن الزهري كتب لجده أسنان الخلفاء، فكان فيما كتب من ذلك: ومات يزيد بن معاوية وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر في قول بعضهم، ويقال: ثمانية أشهر(1)، وعن أبي معشر أنه قال: توفي يزيد بن معاوية يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكانت خلافته ثلاث سنين وثمانية أشهر إلا ثمان ليالٍ، وصلى على يزيد ابنه معاوية بن يزيد(2)، وقيل وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر إلا أياماً(3)، وكان نقش خاتمه: ربنا الله(4).
ثانياً : خلافة معاوية بن يزيد:
معاوية بن يزيد: هو ثالث الخلفاء الأمويين، وكنيته أبو يزيد أو عبد الرحمن، أبوه يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وأمه أم هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة(5)، ويسمى معاوية الأصغر(6). ولد سنة 44هـ ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية، وكان رحمه الله ـ أبيض شديد البياض، كثير الشعر، كبير العينين، جعد الشعر، أقنى الأنف، مدور الرأس، جميل الوجه، كثير شعر الوجه، دقيقه، حسن الجسم، وكان رجلاً صالحاً ناسكاً(7).
__________
(1) تاريخ الطبري (6/433) .
(2) المصدر نفسه (6/433) .
(3) تاريخ القضاعي صـ329 .
(4) المصدر نفسه صـ332 .
(5) تاريخ الطبري (6/434) .
(6) الأمويون بين الشرق والغرب (1/286) .
(7) البداية والنهاية (11/663) .(2/357)
1 ـ مدة حكمه: يختلف المؤرخون كثيراً في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بين عشرين يوماً وثلاثة أشهر، ويبدو أن مدة ثلاثة الأشهر هي الأرجح، ويرجع بعض المؤرخين مدة الأربعين يوماً(1)وكان مريضاً مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام(2).
2 ـ تنازله عن الخلافة وتركه للأمر شورى :
__________
(1) المصدر نفسه (11/662) .
(2) البداية والنهاية (11/663) .(2/358)
... ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: أيها الناس إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم من هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم من يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات رحمه الله تعالى(1)، قد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: أنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون من يشاءون وقد جاء ذلك صريحاً في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير قال فيها: أما بعد فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورة فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له من أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات(2). واعتبر هذا الموقف منه دليلاً على عدم رضاه عن تحويل الخلافة من الشورى إلى الوراثة(3)، فقد رفض أن يعهد لأحد من أهل بيته حينما قالوا له أعهد إلى أحد من أهل بيتك، فقال: والله ما ذقت حلاوة خلافتكم، فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها، اللهم أني بريء منها، مُتخلِّ عنها(4)، وجاء في رواية: قيل له ألا توصي؟ فقال: لا أتزوّد مرارتها واترك حلاوتها لبني أمية(5)، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني لقد عرفت استقالات، فيها إكراه مادي أو معنوي. أما أن ملكاً استقال، لأن في أمته من هو خير منه، فهذا ما لم نقع عليه وأية محاسبة للنفس أرفع من هذه(6)؟
__________
(1) البداية والنهاية (11/663 ، 664) .
(2) الكامل في التاريخ (2/605) .
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ137 .
(4) مروج الذهب (3/82) .
(5) البداية والنهاية (11/663) .
(6) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ (1/116) .(2/359)
وإذا كان معاوية بن أبي سفيان أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة من الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضاً، قد أعاد الخلافة من الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً من التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط(1).
3 ـ كم كان عمره لما مات؟ ومن صلى عليه؟
مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يوماً. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل إنما عاش ثماني عشرة سنة وقيل: خمس عشرة سنة. فالله أعلم. وصلى عليه أخوه خالد؟ وقيل عثمان بن عنبسة. وقيل: الوليد بن عُتبة. وهذا هو الصحيح، فإنه أوصى إليه بذلك وشهد دفنه مروان بن الحكم(2)، فلما فُرغ منه قال مروان: أتدرون من دفنتم؟ قالوا: نعم، معاوية بن يزيد. فقال مروان: هو أبو ليلى الذي قال فيه أَزْنَمُ الفزاري:
إني أرى فتنة تغلي مراجلها
... ... ... ... ... ... والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا(3)
4 ـ أزمة خطيرة بعد وفاة معاوية بن يزيد:
__________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ293 .
(2) البداية والنهاية (11/663،662) .
(3) البداية والنهاية (11/664) .(2/360)
كان معاوية بن يزيد قد أحدث أزمة خطيرة، فقد كان أخوه خالد بن يزيد صبياً صغيراً. وكان أمر بن الزبير قد استفحل وبايع له الناس من أنحاء الدولة، فرأى فريق من جند الشام على رأسهم الضحاك بن قيس أمير دمشق أن يبايعوا لابن الزبير، وحتى مروان بن الحكم كبير بني أمية فكر في الذهاب إلى ابن الزبير ليبايعه ويأخذ منه الأمان ولكن سائر الجند والقادة بزعامة حسان بن مالك زعيم القبائل اليمنية ـ الذين كانوا أقوى المؤيدين لبني أمية وهم أخوال يزيد رفضوا أن يخرج الأمر عن بني أمية وأن يبايعوا لابن الزبير، فحدث خلاف شديد ولبث الشام ستة أشهر بدون إمام، وأخيراً اتفق القوم على أن يعقدوا مؤتمراً للشورى، يبحثون فيه عمن يصلح للخلافة ويصلوا في ذلك إلى قرار(1). ويعتبر معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان آخر خلفاء الفرع السفياني، وانتقلت الخلافة بعده إلى الفرع الثاني من بني أمية بالمروانيين، وأولهم مروان بن الحكم، ولا يُعد عند كثير من المحققين والمؤرخين خليفة، حيث يعتبرونه باغياً خرج على أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير، وكذلك ولده عبد الملك لا يعتبر خليفة إلا بعد موت ابن الزبير، واجتماع المسلمين عليه(2)، وبوفاة معاوية بن يزيد انتهت الدولة السفيانية وظهرت الدولة الزبيرية ولكنها لم تستمر، فقد استطاع بنو مروان القضاء عليها وسيأتي التفصيل في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
الفصل السادس
عهد أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه
المبحث الأول: اسمه ونسبه وكنيته ونشأته وبيعته
أولاً: اسمه ونسبه وكنيته:
__________
(1) النظريات السياسية الإسلامية، محمد ضياء الريس صـ202 .
(2) الأمويون بين الشرق والغرب صـ290 .(2/361)
هو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة، أمير المؤمنين، أبو بكر، وأبو خبيب، القرشي الأسدي المكي، ثم المدني، أحد الأعلام، ولد حواري رسول الله وابن عمته(1).
ثانياً: مولده ومبايعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أنها حملت بعبد الله بن الزبير في مكة، قالت: فخرجت وأنا مُتمُّ فأتيت المدينة، فنزلت قباء، فولدت بقباء، ثم أتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة، فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمرة، ثم دعا له، فبرّك عليه، وكان أول مولود ولد في الإسلام، ففرحوا به فرحاً شديداً لأنهم قيل لهم: إن اليهود قد سحرتكم، فلا يولد لكم(2). وسماه عبد الله، ثم جاء بعد وهو ابن سبع، أو ابن ثمان سنين، يبايع النبي صلى الله عليه وسلم، أمره الزبير رضي الله عنه بذلك، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حين رأه مقبلاً، وبايعه. وكان أول من ولد في الإسلام في المدينة بعد مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت اليهود تقول: قد أخذناهم، فلا يولد لهم بالمدينة ولد ذكر، فكبّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولد عبد الله(3)، وقد طاف به الصديق رضي الله عنه بالمدينة بعد ولادته ليشتهر أمر ميلاده على خلاف ما زعمت اليهود(4) وهذا أسلوب إعلامي عملي للقضاء على شائعات اليهود التي روجوا لها بالمدينة وكان ابن الزبير ملازماً للدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه من آله، فكان يتردد إلى بيت خالته عائشة(5)زوج الرسول صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/363) .
(2) البخاري رقم 5469 ، اليهود في السنة المطهرة (1/265) .
(3) الحاكم (3/548) .
(4) البداية والنهاية (11/188) .
(5) سير أعلام النبلاء (3/364 ،365) .(2/362)
ثالثاً: الزبير بن العوام والد عبد الله رضي الله عنهما:
هو أبو عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب القرشي الأسدي(1)، ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وأمه صفية بنت عبد المطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة وأحد أصحاب الشورى(2)، أسلم وهو حدث وله ستة عشر سنة(3)، ولم يتخلف عن غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم(4)، وقد تعرض بعد إسلامه للتعذيب، فقد روي أن عم الزبير، كان يعلق الزبير في حصير ويدخن عليه بالنار وهو يقول: أرجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً(5)، وقال في حقه رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواري الزبير(6). أي خاصتي من أصحابي وناصري ومنه الحواريون أصحاب عيسى عليه السلام أي خلصاه وأنصاره فالحواري هو الناصر المخلص، فالحديث أشتمل على هذه المنقبة، العظيمة التي تميز بها الزبير رضي الله عنه، ولذلك سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما رجلاً يقول: أنا ابن الحواري فقال: إن كنت من ولد الزبير، وإلا فلا(7)، وكان الزبير بن العوام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل المهمات الصعبة وكان في عهد الراشدين من أعمدة الدولة وشارك في فتوحاتها الكبيرة(8) وقد عرض عليه عمر بن الخطاب ولاية مصر في عهده فقال الزبير: لا حاجة لي فيها، ولكني أخرج مجاهداً وللمسلمين معاوناً، فإن وجدت عمرو بن العاص فتحها (مصر) لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطتُ به، وإن وجدته في جهاد كنت معه(9)
__________
(1) الإصابة (1/526 ـ528) .
(2) الطبقات (3/100) .
(3) سير أعلام النبلاء (1/41) .
(4) سير السلف (1/226) .
(5) الطبراني في الكبير (1/122) .
(6) مسلم رقم 2414 .
(7) مصنف بن أبي شيبة رقم 12219، صحيح .
(8) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صـ541 .
(9) فتوح البلدان صـ299، نظام الحكم للقاسمي (1/544) .(2/363)
، وقد تحدثت عن سيرته في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فمن أراد المزيد فليرجع إليه مشكوراً(1).
رابعاً: أسماء بنت الصديق والدة بن الزبير رضي الله عنهم جميعاً:
هي أسماء بنت عبد الله بن أبي قحافة بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة(2)، وكانت من أوائل المسلمات حيث أسلمت وأختها عائشة وهي يومئذ صغيرة(3). ولها مواقف مشهودة، وآثار محمودة في تاريخنا الإسلامي المجيد ومن هذه المواقف:
__________
(1) أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب صـ535 إلى 550 .
(2) الطبقات الكبرى (3/119) .
(3) السيرة النبوية (1/271) عبد الله بن الزبير للناطور صـ17 .(2/364)
1 ـ في الهجرة النبوية: قالت السيدة عائشة في حديث طويل منه: فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر، عند الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعاً(1) في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر إلى أن قالت: ..فجهزناهما أحث الجهاز (من الحثّ وهو الإسراع) وضعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قطعة من نطاقها، فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بذات النطاقين(2). فقد أسهمت السيدة أسماء رضي الله عنها في تموين الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار بالماء والغذاء، وكيف تحملت الأذى في سبيل الله، فقد حدثتنا عن ذلك فقالت:لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر رضي الله عنه أتانا نفر من قريش، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر، فخرجت ليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قالت: قلت لا أدري والله أين أبي قالت: فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشاً ـ فلطم خدّي لطمة، طرح منها قرطي، قالت: ثم انصرفوا(3)، فهذا درس من أسماء والدة عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، تعلّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدة شامخة أمام قوى البغي والظلم، وأما درسها الثاني البليغ، فعندما دخل عليها جدها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: والله إني لا أراه قد فجعكم بماله ونفسه. قالت: كلا يا أبت ضع يديك على هذا المال، قالت: ووضع يده عليه فقال: لا بأس، إذا كان ترك لكم هذا، فقد أحسن. وفي هذا بلاغ لكم، قالت: ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكت الشيخ بذلك(4)، وبهذه الفطنة،
__________
(1) متقنعاً : مغطياً رأسه .
(2) البخاري رقم 3905 السيرة النبوية للصّلاّبيّ (1/463) .
(3) تاريخ الطبري (2/379 ـ 380) السيرة النبوية لابن هشام (2/131 ـ132).
(4) السيرة النبوية لابن هشام (2/102) ، إسناده صحيح .(2/365)
والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكنت قلب جدها الضرير، من غير أن تكذب، فإن أباها قد تركت لهم حقاً هذه الأحجار التي كومتها، لتطمئن لها نفس الشيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحركه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلة أو كثرة في المال، وورثهم يقيناً، وثقة بلا حدٍ لها، وغرس فيهم همة تتعلق بمعال الأمور ولا تلتفت إلى سفاسفها(1)، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عز أن يتكرر، وقل أن يوجد نظيره لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء وبنات المسلمين مثلاً هن في أمس الحاجة إلى الإقتداء به والنسج على منواله(2).
2 ـ صلة أسماء لأمها المشركة: عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: قدمت أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى اله عليه وسلم، قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: نعم، صلي أمك(3)، قال ابن حجر: وفي قولها وهي راغبة أقوال، والذي عليه الجمهور من هذه الأقوال أنها قدمت طالبة من بر ابنتها لها، خائفة من ردها إياها خائبة. وفي هذا الحديث من الفوائد ما ذكره الخطابي: إن الرحم الكافرة توصل بالمال ونحوه كما توصل المسلمة(4). وقد قال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولن يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) (الممتحنة ، الآيتان 8 ، 9). وهذه الآيتان رخصة في الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين، وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة(5).
__________
(1) السفساف : الردئ الحقير من كل شيء والجمع سفاسف .
(2) الهجرة النبوية المباركة صـ128 .
(3) البخاري رقم 2620 .
(4) فتح الباري (5/277) .
(5) شرح منظومة الآداب (1/297) ، بر الوالدين أم حفص عبير بنت محمد صـ36 .(2/366)
3 ـ شجاعتها وجهادها في اليرموك مع زوجها:
... وأما شجاعتها وجراءتها وجهادها في سبيل الله فأمر يفوق الخيال: فمن ذلك خروجها مع الجيش يوم اليرموك، فلقد شهدت اليرموك مع زوجها الزبير وابنها عبد الله(1)، ومن شجاعتها استعدادُها التام لمواجهة اللصوص الذين كثروا في يوم من الأيام بالمدينة، عن فاطمة بنت المنذر أن أسماء بنت أبي بكر اتخذت خنجراً زمن سعيد بن العاص ـ أي في زمن إمارته المدينة وكانوا قد كثروا في المدينة، فكانت تجعله تحت رأسها(2).
4 ـ علاقتها بالقرآن الكريم :
... كانت رضي الله عنها قد تربت على كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وإليك هذه الصورة المشرقة من حياتها مع القرآن الكريم فذات يوم دخل عليها ابنها وهي تُصلي فسمعها تقرأ هذه الآية ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور ، الآية : 27). فبكت واستعاذت... فقام وهي تستعيذ. فلما طال عليه أتى السوق وقضى منه حاجته.. ثم رجع فوجدها ما تزال في بكائها تستعيذ(3). وكانت إذا أُصيبت بالصُّدَاع تضع يدها على رأسها وهي تقول: بذنبي وما يغفر الله أكثر(4). وهذا فهم عميق لقول الله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30) وقد أفرد الدكتور محمد بن لطفي الصبّاغ رساله قيمة في حياة السيدة أسماء رضي الله عنها، وسيأتي الحديث عن بعض الدروس والعبر في حصار الحجاج لأبنها عبد الله بمكة بإذن الله.
خامساً: أولاد ابن الزبير وزوجاته:
__________
(1) طبقات ابن سعد (8/253) أسماء بنت أبي بكر للصّباغ صـ33 .
(2) طبقات ابن سعد (8/253) أسماء بنت أبي بكر صـ33 .
(3) الحلية (2/55) أسماء بنت أبي بكر صـ9 .
(4) الحلية (2/55) أسماء بنت أبي بكر صـ33 .(2/367)
كان له من الولد خُبيبُ وحمزة وعباد وثابت وأمهم تماضر بنت منظور الفزاري، وهاشم وقيس وعروة ـ قتل مع أبيه ـ والزبير، وأمهم أم هاشم بنت حلة بن منظور وعامر وموسى وأمّ حكيم وفاطمة وفاختة، وأمهم جثيمة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبكر ورقية وأمهم عائشة بنت عثمان بن عفان، وعبد الله ومصعب من أم ولد(1).
سادساً : ابن الزبير في عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية رضي الله عنهم:
1 ـ في اليرموك:
... لا نجد في كتب السيرة أي خبر عن اشتراك عبد الله بن الزبير في الحروب والغزوات رغم حضوره مع والده غزوة الأحزاب وفتح مكة، فقد كان في مقتبل العمر ولم يتجاوز عمره عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إحدى عشر سنة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيز أحداً من الغلمان لم يبلغ الخامسة عشر وأول ما يرد من أخبار تتعلق بخروجه مع الجيوش، ومرافقته لوالده في تحرير بلاد الشام وحضوره معركة اليرموك إذ يقول عبد الله: كنت مع أبي عام اليرموك، فلما تعبأ المسلمون للقتال، لبس الزبير لآمته ثم جلس على فرسه ثم قال لموليين له: أحبسا عبد الله بن الزبير معكما في الرحل، فإنه غلام صغير(2). وبعد انتهاء القتال شارك عبد الله في علاج الجرحى بعد انهزام المشركين(3) وإن لم يشارك في القتال لصغر سنه فإنه ألف القتال والعراك وصليل السيوف منذ نشأته مما زاد في شجاعته وخبرته العسكرية(4).
2 ـ ابن الزبير مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم:
__________
(1) البداية والنهاية (11/213) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد الله بن الزبير ، ماجد لحام صـ41 .
(3) اريخ ابن عساكر نقلاً عن عبد الله بن الزبير صـ41 .
(4) عبد الله بن الزبير صـ41 .(2/368)
... مرّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن الزبير يلعب مع الصبيان، ففروا ووقف ابن الزبير فقال له عمر: مالك لم تفر معهم، فقال لم أجرم فأخافك، ولم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك(1)، وتروى المصادر حادثة أخرى تبين شجاعته منذ صباه الباكر، فقد ذكرت المصادر التاريخية إنه كان ذات يومٍ يلعب مع الصبيان وهو صبي، فمر بهم رجل فصاح عليهم ففروا، ومشى ابن الزبير القهقري وقال: يا صبيان أجعلوني أميركم وشّدوا بنا عليه ففعلوا(2).
3 ـ كتابة المصاحف في عهد عثمان :
... عن أنس: أن عثمان أمر زيداً، وابن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوا المصاحف، وقال: إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء، فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم(3)، ومن أراد التفصيل في جمع سيدنا عثمان رضي الله عنه للمصاحف فليراجع كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
4 ـ جهاده في شمال أفريقيا في عهد عثمان رضي الله عنه:
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/75) .
(2) الكامل في التاريخ (2/75) .
(3) سير أعلام النبلاء (3/370) .(2/369)
... انقطع خبر المسلمين في إفريقية عن عثمان بن عفان رضي الله عنه فسيّر إليهم عبد الله بن الزبير في جماعة ليأتيهم بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم، وأقام معهم، ولمّا وصل، كثر الصَّياح، والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر، فقيل: قد أتاهم عسكر، ففتَّ ذلك في عضده، ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كلّ يوم من بكرة إلى الظُّهر فإذا أُذِّن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن سعد معهم فسأل عنه فقيل: إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد، فله مئة ألف دينار، وأزوِّجه ابنتي وهو يخاف فحضر عنده، وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير، نفّلته مئة ألف، وزوجّته ابنته واستعملته على بلاده ففعل ذلك فصار جرجير يخاف أشدَّ من عبد الله(1). ثمّ إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إنَّ أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين، وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهِّبين، ونقاتل نحن الرُّوم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملُّوا فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون، ركب من كان في الخيام من المسلمين، ولم يشهدوا القتال، وهم مستريحون ونقصدهم على غرّة فلعلَّ الله أن ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصّحابة، واستشارهم، فوافقوه على ذلك، فلمَّا كان الغد، فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شُجعان المسلمين في خيامهم، وخيولهم عندهم مُسَرَّجة مضى الباقون، فقاتلوا الرّوم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزٌّبير، وألح عليهم بالقتال، حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم، والمسلمون، فكل الطائفتين ألقى سلاحه، ووقع تعباً فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الرّوم فلم يشعروا بهم حتى خالطهم، وحملوا حملة رجل واحد وكبَّروا فلم
__________
(1) التاريخ الإسلامي (12/388) .(2/370)
يتمكن الرّوم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير قتله ابن الزبير، وانهزم الرّوم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونزل عبد الله بن سعد المدينة، وحاصرها حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، وسهم الرَّاجل ألف دينار، ولما فتح مدينة سبيطلة، بثَّ جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا، وغنموا وسيَّر عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره، وفتحه بالأمان، فصالحه أهل إفريقية ـ ونفّل عبد الله بن الزبير ابنة الملك، وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية(1). قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير ـ رضي الله عنه وعن أبيه، وأصحابهما أجمعين(2)، وكان الشاعر أبو ذؤيب الهذلي قد خرج مع ابن الزبير في مغزّى نحو المغرب ـ في عهد عثمان ـ فمات فدلاّه عبد الله بن الزبير في حفرته وقد قال الشاعر أبو ذؤيب في تلك الغزاة في عبد الله بن الزبير:
... ... ... ... وصاحبِ صدق كسيد(3) الضَّرَاءِ(4)
... ... ... ... ... ... ... ... ينهض في الغزو نهضاً نجيحا(5)
... ... ... ... وشيكِ الفصول بطيِّ القفول
... ... ... ... ... ... ... ... إلا مشاحاً به أو مُشِيحا(6)
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/236 ، 237) .
(2) البداية والنهاية (7/158) .
(3) السيد : الذئب .
(4) الضراء : ما واراك من الشجر .
(5) نجيحاً : سريعاً .
(6) الشعر والشعراء لابن قتيبة (2/653) وشيك الفصول : أي سريع الغزو .(2/371)
5 ـ دفاعه عن عثمان يوم الدار: كان ابن الزبير من الذين كانوا مع عثمان بن عفان يوم حصر من قبل الغوغاء، وكان يلح على عثمان أن يسمح له بقتال الغوغاء ولكن عثمان كان يرفض ذلك(1)، ولما أمر عثمان من في الدار بالخروج أصر ابن الزبير ومروان بن الحكم على البقاء معه والدفاع عنه(2)، وقد أصيب ابن الزبير أثناء الحصار بإصابات بالغة كادت تودي بحياته، فقد روي المدائني أن كنانة ـ مولى صفية بنت حيي ـ أخرج أربعة محمولين وكان ابن الزبير منهم(3)،وكان ابن الزبير يخطب بمكة ويقول في خطبته: فجرحت بضعة عشر جرحاً وإني لأضع يدي اليوم على تلك الجراحات التي جرحت مع عثمان، فأرجوا أن تكون خير أعمالي(4)، وفي هذا وضوح موقف ابن الزبير من عثمان وأنه يراه إمام حق ورشد وأن المعتدين عليه مجرمون وأن قتالهم من أفضل الأعمال عند الله ومنها نستفيد أن الدفاع عن أولياء الصالحين بأي وسيلة شرعية من الذب عن أعراضهم وشدّ أزرهم من الأعمال الصالحة. ومما يدل على أهمية الدور الذي كان يقوم به ابن الزبير في الذود عن عثمان ما ذكرته الروايات من أن عثمان أمّر ابن الزبير يوم الدار وقال: من كانت لي عليه طاعة فليطع عبد الله بن الزبير(5). وفي رواية: أنه أمره أن يصلي بأهل داره فترة الحصار، وكان ابن الزبير يصلي بهم في صحن الدار(6).
6 ـ في معركة الجمل :
__________
(1) الطبقات (3/70) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ41 .
(2) تاريخ خليفة صـ174 .
(3) أنساب الأشراف (1/564) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ42 .
(4) الطبقات نقلاً عن عبد الله بن الزبير للخراشي .
(5) الطبقات (3/70) .
(6) عبد الله بن الزبير للخراشي 42 نقلاً عن الطبقات .(2/372)
... كان ابن الزبير يوم الجمل على الرجّالة وجُرح يومئذ تسع عشرة جراحة، وقد تبارز يومئذ هو ومالك بن الحارث بن الأشتر، فاتَّحدا فصرع الأشتر ابن الزبير فلم يتمكن الأشتر من القيام عنه، بل احتضنه ابن الزبير وجعل ينادي ويقول: اقتلوني ومالكاً واقتلوا مالكاً معي(1).
... فأرسلها مثلاً. ثم تفرَّقاً ولم يقدر عليه الأشتر وقد قيل: إنه جرح يومئذ بضعاً وأربعين جراحة ولم يوجد إلا بين القتلى وبه رمق، وقد أعطت عائشة لم بشَّرها أنه لم يقتل عشرة آلاف درهم وسجدت لله شكراً وقد كانت تحبه حباً شديداً، لأنَّه ابن أختها، وكان عزيزاً عليها وقد رُوِيَ عن عُروة أنّه قال: لم تكن عائشة تحب أحداً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مثل حُبِّها عبد الله بن الزبير وقال عروة: وما رأيت أبي وعائشة يدعوان لأحد من الخلق مثل دعائهما لابن الزبير(2).
7 ـ جهاده أيام معاوية رضي الله عنهما:
... تولى أمر إفريقية معاوية بن حديج، فكان عبد الله بن الزبير ساعده الأيمن بالفتح والجهاد وقد سار معاوية بن حديج في جيش قوامه عشرة آلاف مقاتل، وفتح بنزرت ـ سنة أحد وأربعين، كما دخل ((القيروان)) سنة خمس وأربعين، وبث السرايا في البلاد، وبعث إلى ((سوسة)) عبد الله بن الزبير ففتحها(3). وكان عبد الله بن الزبير كذلك في جيش يزيد بن معاوية الذي سار نحو القسطنطينية، وكان في ذلك الجيش عدد من الصحابة أيضاً منهم: أبو أيوب الأنصاري، والحسين بن علي، وعبد الله بن عمر، وابن عباس(4).
سابعاً: وصف ابن الزبير وأهم صفاته:
__________
(1) البداية والنهاية (11/196) .
(2) المصدر نفسه (11/197) .
(3) البيان المغرب (1/16 ـ 17) عبد الله بن الزبير ، محمود شاكر صـ43 .
(4) تاريخ الطبري (6/148) عبد الله ابن الزبير محمود شاكر صـ43 .(2/373)
كان آدم(1)نحيفاً ليس بالطويل، وكان بين عينيه أثر السجود، كثير العبادة مجتهداً شهماً فصيحاً، صوّاماً قوّاماً، شديد البأس ذا أنفة، له نفس شريفة وهمّة عالية، وكان خفيف اللحية ليس في وجهه من الشعر إلا قليلاً، وكانت له جُمة وكان له لحية صفراء(2)، وكان عالماً عابداً مهيباً وقوراً، كثير الصيام والصّلاة شديد الخشوع قويَّ السياسية(3)، وكان لأبيه الزبير وأمه أسماء وخالته عائشة وجده أبي بكر، وجدته صفية عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبر الأثر على شخصيته من جميع النواحي وهذا ما نلمسه من صفات ابن الزبير التي أهمها:
__________
(1) آدم : أسمر .
(2) البداية والنهاية (11/193) .
(3) البداية والنهاية (11/204) .(2/374)
1 ـ فقهه وعلمه: كان عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أحد العبادلة الأربعة تفقهوا في أمور الدين في المدينة، المنورة وهم عبد الله بن الزبير وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ولابن الزبير في الصحيحين أحاديث اتفقا له على حديث واحد وأنفرد البخاري بستة أحاديث، ومسلم بحديثين(1)، حدث عن رسول الله وهو صغير وكذلك حدث عن أبيه الزبير وعن جده أبي بكر وعمر وعثمان وخالته أم المؤمنين عائشة وغيرهم رضي الله عنهم وروى عنه مشاهير التابعين منهم أخوة عروة، وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار، وابن أبي مليكة، وثابت البناني، وغيرهم كثير(2)، وقد كان رضي الله عنه فقيهاً وقد قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لما مات العبادلة عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو العاص صار الفقه في جميع البلدان إلى الموالي(3)، وعرف ابن الزبير بأنه واسع المعرفة بالقرآن والسنة، وكان رضي الله عنه من العلماء المجتهدين، عالماً عابداً ولا غرور في ذلك إذ كان كثير الدخول على خالته عائشة، أم المؤمنين، رضي الله عنها، وهي العالمة الفقهية وكانت تحدثه وهو من أحب الناس إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أبيها أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وعنها، وكانت مدة خلافة عبد الله بن الزبير تسع سنوات وقد حج خلالها ثمان مرات، وفي السنة الأخيرة كان محاصراً فلم يستطع الحج. خطب ابن الزبير مرة الحُجّاج فقال: يا معشر الحجاج سلوني فعلينا كان التنزيل ونحن حضرنا التأويل، فقال رجل من أهل العراق: انحلّ جرابي فدخلت فيه فأرة فقتلتها، وأنا محرم، فقال: اقتلوا الفويسقة، فقال: أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر، فقال: العشر: الثمان وعرفة
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/363) .
(2) المصدر نفسه (3/363) ، عبد الله ابن الزبير محمد عبد الرضا هادي صـ9 .
(3) معجم البلدان نقلاً عن عبد الله بن الزبير ، الناطور صـ31 .(2/375)
والنحر، والشفع من تعجّل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، والوتر: هو هذا اليوم ((يعني عرفة))، ولم يكن أحد أعلم بالمناسك من ابن الزبير في عهده(1). وقال عنه ابن عباس رضي الله عنه: كان قارئاً لكتاب الله متبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قانتاً لله صائماً في الهواجر من مخافة الله ابن حواري رسول الله وأمه بنت الصديق، وخالته عائشة حبيبة حبيب الله زوجة رسول الله صلى اله عليه وسلم، فلا يجهل حقه إلا من أعمى الله بصيرته(2)وكتب في فقه رسالة علمية للطلب محمد عبد الرضا هادي بالعراق.
__________
(1) تهذيب تاريخ ابن عساكر نقلاً عن عبد الله بن الزبير، محمد شاكر صـ202 .
(2) سير أعلام النبلاء (3/367) ، البدايى والنهاية (11/191) .(2/376)
2 ـ عبادته وتقواه: تواترت الروايات التي تصور لنا حرص ابن الزبير على العبادة من صلاة وصيام وغيرها، حتى أنها أصبحت معالم شخصيته(1)، قال عنه مجاهد: لم يكن أحد يطيق ما يطيقه ابن الزبير من العبادة(2) (رضي الله عنه) وقال: جاء سيل مرة فطبق أبنية الكعبة فجعل ابن الزبير يطوف سباحة(3)، وكان ابن الزبير رضي الله عنه كثير العبادة إذا قام إلى الصلاة انقطع عن الدنيا ونسي مشاغلها وما فيها من حلو ومر وخرج من كل شيء إليها، فقد روي ابن الزبير كان يوماً يصلي فسقطت حية من السقف فطوقت بطن ابنه هاشم فصرخ النسوة وانزعج أهل المنزل واجتمعوا على قتل تلك الحية، فقتلوها وسلم الولد، فعلوا هذا كله وابن الزبير في الصلاة لم يلتفت ولا درى بما جرى حتى سلّم(4). وقال عنه ثابت البناني: كنت أمر بابن الزبير وهو خلف المقام يصلي كأنَّه خشبة منصوبة لا تتحرك(5)، وقال يزيد بن إبراهيم عن عمرو بن دينار، قال: كان ابن الزبير يصلي في الحجر والمنجنيق يصيب ثوبه، فما يلتفت يعني: لما حاصروه(6)، وعن ابن أبي مليكة: قال لي عمر بن عبد العزيز إن في قلبك من ابن الزبير: قلت: لو رأيته ما رأيت مناجياً ولا مصلياً مثله(7)، وعن ابن أبي مليكة قال: كان ابن الزبير يواصل سبعة أيام، ويصبح في اليوم السابع وهو أليَثُنا(8). وعلق الذهبي على ذلك فقال: لعله ما بلغه النهي عن الوصال ونبيك صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين رؤوف رحيم، وكل من واصل، وبالغ في تجويع نفسه، انحرف مزاجه وضاق خلقه، فاتباع السنة أولى، ولقد كان ابن الزبير مع مُلكه صِنفاً في العبادة(9).
__________
(1) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ32 .
(2) البداية والنهاية (11/19.3) .
(3) البداية والنهاية (11/19.3) .
(4) البداية والنهاية (11/19.1) .
(5) سير أعلام النبلاء (3/369) .
(6) المصدر نفسه (3/369) .
(7) المصدر نفسه (3/368) .
(8) المصدر نفسه (3/368) .
(9) المصدر نفسه (3/368) .(2/377)
3 ـ جرأته وشجاعته: كان عبد الله بن الزبير فارس قريش في زمانه، وكان يشتد بالسيف وقد ناهز السبعين كأنه فتى في ربيع العمر، قال عنه عثمان بن طلحة: كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة لا شجاعة ولا عبادة ولا بلاغة(1)، وعن هشام بن عروة قال: كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير وهو صغير السيف، فكان لا يضعه من فيه، فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول: أما والله ليكونن لك منه يوم ويوم وأيام(2)، وكان مشهود له بالشجاعة منذ كان صغيراً، وقد مرّت شجاعته في اليرموك وفي حصار القسطنطينية وفي فتح إفريقية، وفي دفاعه عن عثمان يوم الدار وفي قتاله في الجمل وسيأتي الحديث عن شجاعته أكثر بإذن الله في حصار الحجاج له بمكة وكان يقول: والله إني لا أبالي إذا وجدت ثلاث مئة يصبرون صبري لو أجلب عليَّ أهل الأرض(3)، وكان يضرب بشجاعته المثل(4)، وكان ابن الزبير متأثراً بشجاعة أبيه وإقدامه وشجاعة جده الصديق، وأمه وأخواله وعلى رأسهم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
__________
(1) المصدر نفسه (3/370)
(2) عبد الله الزبير فقياً صـ14 البداية والنهاية (11/208) .
(3) سير أعلام النبلاء (3/376) .
(4) المصدر نفسه (3/377) .(2/378)
4 ـ فصاحته وخطابته: كان ابن الزبير رضي الله عنه لا ينازع وكان من خطباء قريش المعدودين وكان إذا خطب يشبه بجده أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) في حركاته وإشاراته ونبرات صوته وكان صيتاً إذا خطب ويروي أن المسلمين عندما انتصروا على البربر فقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا أموالاً وغنائم كثيرة جداً فبعث ابن أبي سرح بالبشارة مع ابن الزبير إلى عثمان فقص على عثمان الخبر وكيف جرى، فقال له عثمان: إن استطعت أن تؤدي هذا للناس فوق المنبر، قال: نعم فصعد ابن الزبير فوق المنبر فخطب وذكر لهم كيفية ما جرى، قال عبد الله فالتفت فإذا أبي الزبير في جملة من حضر، فلما تبينت وجهه كاد يرتع عليّ في الكلام من هيبته في قلبي، فزبرني بعينه وأشار إلي ليحظنني، فمضيت في الخطبة كما كنت، فلما نزلت قال: والله لكأني أسمع خطبة أبي بكر الصديق حين سمعت خطبتك يا بني(1)، وعن محمد بن عبد الله الثقفي قال: شهدت ابن الزبير بالموسم خرج علينا قبل التروية بيوم وهو محرم فلبى بأحسن تلبية سمعتها قط ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم جئتم من آفاق شتى وفوداً إلى الله عز وجل فحق على الله أن يكرم وفده فمن كان منكم يطلب ما عند الله فإن طالب ما عند الله لا يخيب فاصدقوا قولكم بفعل فإن ملاك القول الفعل والنية النية، القلوب القلوب، الله الله في أيامكم هذه فإنها أيام تغفر فيها الذنوب، جئتم من آفاق شتى في غير تجارة ولا طلب مال ولا دنيا ترجون هاهنا، ثم لبى ولبى الناس، فما رأيت باكيا أكثر من يومئذ(2)، وقال سعيد بن المسيب خطباء قريش في الإسلام: معاوية وابنه وسعيد وابنه وعبد الله بن الزبير(3)، ومن خطبه المشهورة، خطبته في أهل مكة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، وخطبته في الخوارج حين ناظرهم وخطبته بعد مقتل أخيه مصعب في
__________
(1) البداية والنهاية (11/194) .
(2) المصدر نفسه (11/218) .
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن عبد الله بن الزبير للخراشي صـ34 .(2/379)
العراق(1)، ومن مواعظه المشهورة ما كتبه لوهب بن كيسان حيث قال: كتب إليّ عبد الله بن الزبير بموعظة: أما بعد فإن لأهل التقوى علامات يُعرفون بها، ويعرفونها من أنفسهم، صدق الحديث، وأداء الأمانة، وكظم الغيظ، وصبر على البلاء ورضي بالقضاء، وشكر للنعماء، وذلّ لحكم القرآن، وإنما الأيام كالسوق ما نفق فيها حمل إليها، إن نفق الحق عنده حمل إليه وجاءه أهله وإن نفق الباطل حمل إليه وجاءه أهله(2). ولا شك: أن صفة الخطابة والقدرة على الإقناع من أهم الأمور التي يجب أن يتحلى بها أي زعيم، وقد أفاد ابن الزبير من ذلك كثيراً وكانت فصاحته وقدرته الخطابية عاملاً من عوامل نشر أفكاره والقيم التي آمن بها في حياته.
5 ـ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه وجوده:
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/58) .
(2) البداية والنهاية (11/219) .(2/380)
... كان عبد الله بن الزبير كريماً يعطي حقوق الرعية كاملة، ويزيد إلى من يستحق، ولا يدفع إلا بطرق مشروعة، ولكن اتهمه بعضهم بالبخل إذ لم يكن مبذراً يعطي عن يمين وعن شمال من لا يستحق، ولم يكن مسرفاً فلا يدفع إلا قدر الحاجة، ولا يُقدّم للمدّاحين والمتزلّفين، وهم عادة أصحاب ألسنة حادة ومنها تخرج الشائعات الهادفة، غير أن ابن الزبير لم يكن يُبالي بما يُقال، ما دام أنه على الجادة(1)، وقد إنساق كثير من الباحثين وراء روايات الخصوم واتهموا ابن الزبير بالبخل وهذا الوصف فيه تجني على حقيقة ابن الزبير، وللأسف أن أصحاب الدراسات الحديثة لم يلتفتوا إلى الروايات الأخرى التي تنفي صفة البخل عن ابن الزبير(2)، والذي يظهر أن صفة البخل التي وصف بها ابن الزبير كانت بسبب سياسته المالية المتشددة، ذلك أن ابن الزبير كان يتأسى بالخلفاء الراشدين وينظر إلى ما بيده من مال أنه ليس ملكاً له وإنما هو للمسلمين ومن ثمّ لا ينفقه إلا في وجوهه الشرعية(3) فالذين عاشوا في ذلك العصر ورأوا سياسة ابن الزبير المتشددة وقارنوها بسياسة الأمويين في الإنفاق لكسب الأنصار والمؤيدين والشعراء اتهم بعضهم ابن الزبير بالبخل وهذه الآثار تدل على كرم وجود ابن الزبير رضي الله عنه حرصه على أموال المسلمين:
أ ـ ... شهادة السيدة عائشة في كرم ابن الزبير:
... قالت عائشة بنت طلحة خرجت مع أم المؤمنين عائشة وهي خالة عائشة بنت طلحة، فبينما نحن كذلك إذا براجز يقول:
... ... ... ... ... أنشد من كان يعيد الهمّ
... ... ... ... ... يدلني اليوم على ابن أمّ
... ... ... ... ... له أب في باذخ أَشَمِّ
... ... ... ... ... وأمه كالبدر ليل تمَّ
... ... ... ... ... مقابل الخال كريم العمّ
... ... ... ... ... جرّعه أكوسه بسمّ
__________
(1) عبد الله بن الزبير ، محمود شاكر صـ02 .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ36 .
(3) المصدر نفسه صـ37 .(2/381)
قالت: فلما سمعت أم المؤمنين أبيات دعت به، فقالت له من وراء حجابها: يا عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الدّال على الخير كفاعله. فحاجتك رجل بين يديك، فسئل عن عبد الله بن الزبير، فإنه شرطك، فخرج الرجل حتى أدرك عبد الله بن الزبير فحمله على راحلة وصنع إليه معروفاً(1).
ب ـ شهادة معاوية بن أبي سفيان في ابن الزبير رضي الله عنهم:
... سمع معاوية رضي الله عنه رجلاً وهو يقول:
... ... ... ... ... ابن رقاش ماجد سَمَيْدع
... ... ... ... ... يأتي فيعطي عن يدٍ أو يمنع
... فقال: ذاك عبد الله بن الزبير(2).
جـ ـ نابغة بني جعدة وابن الزبير:
... عن عبد الله بن عروة قال: أقحمت السنة نابغة بني جعْدة فدخل على عبد الله بن الزبير المسجد الحرام فأنشده:
... ... ... حكيت لنا الصديق لما وليتنا
... ... ... ... ... ... ... وعثمان والفاروق فارتاح مُعْدِمُ
... ... ... وسوُيت بين الناس في الحق فاستووا
... ... ... ... ... ... ... فعاد صباحاً حَالك اللون مظلم
... ... ... أتاك أبو ليلى يجوب به الدٌّجى
... ... ... ... ... ... ... دُجى الليل جوّاب الفلاة عَثمثمُ
... ... ... لتجبر منه جانباً دعدعتْ به
... ... ... ... ... ... ... صُروف الليالي والزمان المُصَمّم
__________
(1) تاريخ دمشق الكبير (30/147) .
(2) المصدر نفسه (30/147) .(2/382)
فقال ابن الزبير: هوّن عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون وسائلك عندنا، أمّا صفوة مالنا فلآل الزبير وأمّا عفوته فإن بني أسد تشغلها عنك، وتيماً، ولكن لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده فدخل به دار النَّعَم، فأعطاه قلائص سبعاً وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً وثياباً فجعل التابغة يستعجل ويأكل الحب صِرْفاً، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى، لقد بلغ الجهد(1). فهذا الخبر ينفي ما روى عن بخل ابن الزبير ففرق بين البخل والحفاظ على مال المسلمين، فقد بدا واصخاً من كلام عبد الله بن الزبير تبريره حق النابغة الجعدي فيما منحه إياه دون أي اعتبار لما مدحه به من شعر(2).
ش ـ عبد الله بن عروة ابن أخ ابن الزبير:
جاء في رواية للزبير بن بكار أن عبد الله بن الزبير زوّج ابنته أم حكيم ـ من ابن أخيه عبد الله بن عروة فأرسل عروة إلى أخيه عبد الله عشرين ألف درهم فردها عبد الله قائلاً: لو أردت المال لوجدته عند غيرك(3).
ر ـ حمزة بن عبد الله بن الزبير في سجن أبيه:
قدم حمزة بن عبد الله بن الزبير على أبيه بعد أن عزل من العراق فلما سأله أبوه عن المال أخبره بأنه وزعه على قومه فوصلهم به فقال له ابن الزبير: مال ليس لك ولا لأبيك ثم(4)سجنه وهكذا يتضح حرص ابن الزبير على مال العام، وإنفاقه وكرمه الذي لا تجاوز فيه لشرع الله في الإنفاق.
ثامناً: بيعة ابن الزبير بالخلافة:
__________
(1) تاريخ دمشق (30/146) .
(2) وقف الشعر من الحركة الزبيرية صـ47 .
(3) جمهرة نسب قريش صـ265 .
(4) جمهرة نسب قريش صـ40 .(2/383)
بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك من خليفة وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية فإن هذا لا يكفي للبيعة، إذ لا بيعة دون شورى، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها وأعيان بني كلب. هذا مع أن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً وترك الأمر شورى ولم يستخلف أحدا، ولم يوصي إلى أحد، وكان عبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما قد بويع له في الحجاز، وفي العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضاً إلا بعض جهات منها، ففي دمشق بايع الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير، وفي حمص بايع النعمان بن بشير، وفي قنسرين زفر بن الحارث الكلابي، وفي فلسطين بايع ناتل بن قيس، وأخرج منها روح بن زنباع الجذامي، ولم يكن رافضاً بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي(1)، وهكذا تمّت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام وأصبح الخليفة الشرعي(2)وعين ابن الزبير نوّابه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة المسلمين، ولذلك صرّح العديد من العلماء والمؤرخين بأن بيعة ابن الزبير بيعة شرعية، وأنه أولى بها من مروان بن الحكم(3)، فيروي ابن عبد البر عن مالك أنه قال: إن ابن الزبير كان أفضل من مروان وكان أولى بالأمر منه، ومن ابنه عبد الملك(4). ويقول ابن كثير: ثم هو ـ أي ابن الزبير ـ الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة وهو أرشد من مروان بن الحكم حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر(5)،
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/373) عبد الله بن الزبير، محمود شاكر صـ66 .
(2) عبد الله بن الزبير، محمود شاكر 68 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ117 .
(4) الاستيعاب (3/910) .
(5) البداية والنهاية نقلا عن عبد الله بن الزبير للخراشي صـ117 .(2/384)
ويؤكد كل ابن حزم(1)والسيوطي(2) شرعية ابن الزبير ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه خارجين على خلافته كما يؤكد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين(3)
1 ـ بيعة ابن الزبير بالحجاز: كان من الطبيعي أن يكون الحجاز أول المناطق خضوعاً وولاء لبيعة ابن الزبير لكونه مركز المعارضة ضد بني أمية وقد سارع أهل الحجاز إلى مبايعة ابن الزبير، ويروي ابن سعد أن من الأوائل الذين سارعوا إلى مبايعة ابن الزبير عبد الله بن مطيع العدوي، وعبد الله بن رضوان بن أمية الجمحي والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وعبيد بن عمير، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن جعفر(4)، وكان هناك بعض العناصر الذين امتنعوا عن بيعة ابن الزبير وعلى رأسهم ثلاث شخصيات لها مكانتها وتأثيرها لاسيما في الحجاز وهم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وتكاد تجمع المصادر أن أياً من هؤلاء لم يبايع ابن الزبير طيلة حياته(5).
أ ـ ... موقف ابن عمر من بيعة ابن الزبير :
__________
(1) المحلي (11/98) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ117 .
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ212 ابن الزبير للخراشي 118 .
(3) سير أعلام النبلاء (3/363) .
(4) أنساب الأشراف (1/352) ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ119 .
(5) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ119 .(2/385)
... بايع ابن عمر يزيد بالخلافة، والتزم ببيعته، وحاول اقناع ابن الزبير بذلك، ونهاه عن إثارة الفتنة والخروج على خلافة يزيد(1)، وبعد وفاة معاوية بن يزيد بويع ابن الزبير بالخلافة، وطلب من ابن عمر أن يبايع له فرفض ابن عمر البيعة معللاً ذلك بقوله: لا أعطي صفقة يميني في فرقة ولا أمنعها في جماعة(2). ولم يحاول ابن الزبير اجبار ابن عمر على البيعة، كما أن المصادر لم تشر إلى أي صدام أو مواجهة وقعت بين الاثنين(3)، وكان لامتناع ابن عمر على بيعة ابن الزبير تأثير سلبي، فقد كان ابن عمر يتمتع بمكانة عالية وبالأخص في الحجاز وكان تأثيره على الناس، فامتناعه عن البيعة يجعل البعض يقتدي به ويتخذ نفس الموقف، ومما يزيد من تأثيره السلبي على حركة ابن الزبير أن ابن عمر كان يجبر من له طاعة عليهم أن يتخذوا الموقف نفسه الذي يتخذه ومع كل ذلك فلم يكن ابن عمر يشكل خطراً حقيقياً على ابن الزبير فهو لم يكن ذا طموح للخلافة، كما أنه لا يملك أتباعاً يستطيع أن يواجه بهم ابن الزبير كما هو الحال عند محمد بن الحنفية(4).
ب ـ ابن عباس وبيعة ابن الزبير:
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (15/84) .
(2) أنساب الأشراف (1/352) ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ120 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ121 .
(4) المصدر نفسه صـ122 .(2/386)
... كان ابن عباس يختلف عن ابن عمر في مواقفه إزاء الفتن التي جرت في عصره، حيث خاض فيها وشهد مع علي صراعه ضد خصومه في موقعتي الجمل وصفين، ولما جاء الأمويون للحكم واستخلف معاوية يزيد بادر ابن عباس إلى بيعته، والتزم بها ولم يعرف أنه أيّد ابن الزبير الذي رفض البيعة، وفي نفس الوقت لم يعلن عداءه لابن الزبير، وبدأت العلاقة بين الاثنين تدخل طوراً جديداً بعد وفاة يزيد بن معاوية حيث بويع ابن الزبير بالخلافة سنة 64هـ وعندما طلب ابن الزبير من محمد بن الحنفية وابن عباس المبايعة قالا: حتى تجتمع لك البلاد ويتسق لك الناس(1)، ووعداه بعدم إظهار الخلاف له(2). لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إجبارهما على البيعة، وبدأت العلاقة بين ابن الزبير وابن عباس في تحسن تلمس ذلك في العديد من الروايات التي تدلل على شعور ابن عباس تجاه ابن الزبير والمتمثل في تأييده لبعض مواقفه(3)، أو في الثناء المباشر عليه(4)، ويروي عبد الرزاق في مصنفه أن ابن عباس كان قاضياً لابن الزبير بمكة، إلا أن العلاقة بينهما تعكرت، وقد وردت عدة روايات تدل على مظاهر تردي العلاقة بين الاثنين وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن نطاق المناقشات الحادة(5). ونظراً لتوافق ابن عباس مع محمد بن الحنفية في رفض بيعة ابن الزبير وتنامي خطر الأخير فقد انتهى الأمر بخروج ابن عباس إلى الطائف وبقي هناك إلى أن توفي(6). وكان ابن عباس يثني على ابن الزبير، فعندما ذكر عنده قال ابن عباس: قاريء لكتاب الله، عفيف في الإسلام، أبوه الزبير، وأمه اسماء وجده أبو بكر، وعمّتُه
__________
(1) الطبقات (5/100) .
(2) البداية والنهاية نقلاً عن عبد الله بن الزبير للخراشي صـ125 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ125 الفتح الرباني للبنا (3/167) .
(4) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن عبد الله بن الزبير للخراشي صـ125 .
(5) الفتح الرباني للساعاتي (12/98) أخبار مكة (2/72) .
(6) سير أعلام النبلاء (3/358) .(2/387)
خديجة، وخالته عائشة وجدّته صفية(1).
جـ ـ ابن الحنفية وبيعة ابن الزبير :
... كان المبدأ الذي صرح به ابن الحنفية بعد وفاة يزيد أن لا يبايع أحداً إلا في حالة اجتماع الناس عليه(2)، لم يحاول ابن الزبير في بداية الأمر إكراه ابن الحنفية على البيعة ولم يستمر ابن الزبير في سياسته اللينة مع ابن الحنفية، فبعد أن علا شأن ابن الزبير وجاءته بيعة الأمصار، وكادت الأمة أن تجتمع عليه، أحس أن الوقت قد حان لأن يبايع ابن الحنفية بناء على وعده فعاود الكرّة مرّة أخرى ودعاه إلى البيعة سنة 65هـ ولكن ابن الحنفية أبى أن يبايع فلجأ ابن الزبير إلى حبسه في الشعب(3)، ويبدو أن ابن الزبير تخوّف من دعوة المختار بن أبي عبيد الثقفي بالكوفة، فقد كان المختار من أشد المدافعين عن ابن الزبير أيام حوصر في مكة سنة 64هـ من قبل جيش الحصين بن نمير السكوني، وكان المختار بالإضافة إلى شجاعته وجرأته يتمتع بمكر ودهاء كبيرين ويحمل بين جنبيه طموحات عالية للزعامة(4)، لم يجد المختار عند ابن الزبير ما يحقق طموحاته، فأخذ يبحث عن مكان آخر يمكن أن يحقق فيه ما تصبو نفسه إليه، فترك مكة بعد ستة أشهر من نهاية الحصار الأول ووصل العراق في رمضان 64هـ واستطاع عن طريق إدعائه نصرة آل البيت ورفع شعار الأخذ بثأر الحسين أن يجتمع حوله الأنصار والمؤيدون والناقمون على حكم بني أمية، واستطاع أن يستولي على الكوفة(5)، وكان المختار على علم بما جرى بين ابن الزبير وابن الحنفية في أمر البيعة، وأراد أن يستغل هذا الموقف لصالحه وادعى أنه موفد من محمد بن الحنفية للأخذ بثأر آل البيت، والواقع أن ابن الحنفية تبرأ من المختار وأنكر أن يكون قد أرسله إلى
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/367) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة (15/73) ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ127 .
(3) تاريخ خليفة صـ262 .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد اله بن الزبير للخراشي صـ129 .
(5) تاريخ خليفة صـ263 .(2/388)
العراق(1)، ودعت الشيعة بالكوفة إلى ابن الحنفية، فخاف ابن الزبير أن تفتح بذلك جبهة جديدة عليه مما يزيد الأمر خطورة وتعقيداً(2)، وأرسل المختار جيشاً في عام 66هـ إلى مكة في موسم الحج واستطاع أن يخلص ابن الحنفية من سجنه، ومنع ابن الحنفية الجيش من قتال ابن الزبير لكونه لا يستحل القتال في الحرم(3)، والواقع إن ابن الحنفية أصبح يشكل خطراً على ابن الزبير بعد وصول نجدة العراق وتروي المصادر أنه كان لابن الحنفية لواء في الحج ينافس فيه لواء ابن الزبير(4)، أما بالنسبة لابن الزبير فقد أحس أن مصدر قوة ابن الحنفية يكمن في مساندة المختار بن أبي عبيد له، ولذلك فكر في القضاء عليه، فأرسل أخاه مصعباً والياً على البصرة، وأمره أن يقاتل المختار وفعلاً استطاع مصعب بن الزبير أن يقصي على المختار في الرابع عشر من رمضان سنة 67هـ(5) أدى مقتل المختار إلى تضعضع موقف ابن الحنفية بمكة، ويروي ابن سعد أن ابن الزبير أرسل إلى ابن الحنفية أخاه عروة يطلب منه أن يبايع وهدده بالحرب إن هو أصر على رفض البيعة(6). ولاحت لابن الحنفية في هذه الأثناء فرصة رأى فيها مخرجاً من ضغوط ابن الزبير تمثلت في دعوة عبد الملك بن مروان له بأن يقدم إلى الشام، فاغتنم ابن الحنفية هذه الفرصة وتوجه إلى الشام هو وأتباعه، واختاروا المقام بأيلة(7)، وهذه البلدة وإن كانت من بلاد الشام منطقة نفوذ عبد الملك بن مروان إلا أنها في أطرافها نحو الحجاز وأصبح تقريباً في منطقة بعيدة عن الاثنين معاً، ولكن إتضح أن نوايا عبد الملك لم تكن تختلف عن نوايا ابن الزبير، فعرض عليه البيعة
__________
(1) الطبقات (5/98) .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ130 .
(3) أنساب الأشراف نقلاً عن عبد الله بن الزبير صـ131 .
(4) الطبقات (5/3) تاريخ خليفة صـ263 .
(5) تاريخ خليفة صـ264 ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ131 .
(6) الطبقات (5/106) .
(7) أيلة : مدينة على ساحل بحر القلزم مما يلي الشام .(2/389)
مقابل أموال وأعطيات سخية أو الخروج من بلاد الشام، وآثر بن الحنفية الخروج على البيعة حيث اشترط ذلك على ابن الزبير من قبل. وأراد ابن الحنفية العودة إلى مكة ولكن ابن الزبير منعه من دخولها فتوجه بمن معه إلى الطائف وقيل المدينة وبقي بها إلى أن قتل ابن الزبير سنة 72هـ(1).
2 ـ بيعة ابن الزبير في العراق :
... أدت وفاة يزيد بن معاوية إلى اضطراب الوضع في العراق ونشوب النزاع بين قبائله المختلفة حول السلطة، وهرب عبيد الله بن زياد إلى الشام، وخرج الخوارج قبل هروبه من السجن وبدأوا بإشاعة الفوضى والفساد، وبعد فتن وقتال اتفقت القبائل بالبصرة على أن يتولى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب الأمر(2)، ثم شرع ابن الزبير في تعيين نوابه بعد بيعة أهل البصرة له إلى أن استقر على ولايتها أخوه مصعب وعين أهل الكوفة عامر بن مسعود بن خلف القرشي(3) وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير فأقره. وهذا التصرف يعد في حقيقته إقرار أهل الكوفة بخلافة ابن الزبير(4)، وتعامل أهل البصرة وأهل الكوفة مع ابن الزبير، كخليفة للمسلمين(5)، وقد ساعدت عوامل عديدة على نشر بيعة ابن الزبير بالعراق، من أهمها، الفراغ السياسي في السلطة، بعد وفاة يزيد بن معاوية، وهروب عبيد الله بن زياد إلى الشام، كما أن التنافس القبلي على السلطة، واشتداد شوكة الخوارج وتهديدهم للأمن ساهم في حث أهل العراق على توحيد كلمتهم والانضواء تحت لواء ابن الزبير(6).
3 ـ بيعة ابن الزبير في الشام:
__________
(1) الطبقات (5/107 ، 108) .
(2) تاريخ خليفة صـ258 ، عبدالله بن الزبير للخراشي صـ135 .
(3) أنساب الأشراف (1/400) عبد الله بن الزبير صـ134 .
(4) عبد الله بن الزبير صـ134 .
(5) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد الله بن الزبير صـ136 .
(6) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ136 .(2/390)
... بعد وفاة معاوية بن يزيد وفي مناخ الشام المشوب بالفوضى والاضطراب وجدت بيعة ابن الزبير منفذاً لها في بلاد الشام، لاسيما وأن أخبار صمود ابن الزبير أمام جيش الحصين بن نمير في الحصار الأول، وبيعة أهل الحجاز له، قد تنامت إلى بلاد الشام، ويصور لنا البلاذري موقف أهل الشام من بيعة ابن الزبير في تلك الظروف فيقول: فلما مات معاوية بن يزيد ـ مال أكثر الناس إلى ابن الزبير وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه بنت أبي بكر بن أبي قحافة وله فضل في نفسه ليس لغيره، وتكاد تجمع المصادر على بيعة جميع أقاليم أهل الشام ما عدا الأردن، فقد بايع زمز بن الحارث الكلابي(1) بقنسرين، وبايع النعمان بن بشبر الأنصاري(2)، بحمص، واستطاع نائل بن قيس الجذامي(3) أن يسيطر على فلسطين ويدعو فيها لابن الزبير، ودعا الضحاك بن قيس الفهري لابن الزبير في دمشق(4)، وعين ابن الزبير الضحاك بن قيس والياً على الشام(5)، هذه أهم الأقاليم التي بايعت ابن الزبير.
4 ـ موقف الخوارج من بيعة ابن الزبير:
__________
(1) الإعلام للزركلي (3/45) .
(2) الإعلام للزركلي (8/36) .
(3) المصدر نفسه (7/343) .
(4) الطبقات (5/38) الإعلام (2/244) .
(5) أنساب الأشراف (5/132) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ141 .(2/391)
... تحالف الخوارج مع ابن الزبير في الدفاع عن مكة حتى وفاة يزيد، فلما زال الخطر، دخل عليه قادتهم فأرادوا معرفة رأيه في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأجابهم فيه بما يسوءهم وذكر لهم ما كان متصفاً به من الإيمان والتصديق، والعدل والإحسان والسِّيرة الحسنة والرُّجوع إلى الحق إذا تبين له، فعند ذلك نفروا منه وفارقوه وقصدوا بلاد العراق وخراسان، فتفرقوا فيها بابدانهم وأديانهم ومذاهبهم ومسالكهم المختلفة المنتشرة التي لا تنضبط ولا تنحصر لأنها مفرّعة على الجهل وقوة النُّفوس والاعتقاد الفاسد، ومع هذا استحوذوا على كثير من البُلدان(1)، وتصدّى لقتالهم الفارس الهمام، البطل الكبير المهلب بن أبي صفرة، فقد كتب ابن الزبير له بأن يتولى حربهم فأستجاب لذلك، وكان على رأس الخوارج الأزارقة نافع بن الأزرق واستطاع المهلب أن يهزمهم وقتل أميرهم نافع بن الأزرق وانهزمت الخوارج نحو فارس(2)، وتسربت شائعات إلى أهل البصرة بأن المهلب قتل، فاضطرب المصر وهمّ أميرهم الحارث بن أبي ربيعة أن يهرب، وأقبل البشير إلى أهل البصرة بسلامة المهلّب، فاستبشروا بذلك واطمأنّوا وأقام أميرها، بعد أن همّ بالهرب وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة من الهرب، فعزله وولى أخاه مصعباً، فسار مصعب حتى قدمها وتولَّى أمر جميع العراقين وفارس والأهواز ومما قيل من الأشعار في قتال المهلب للخوارج الأزارقه:
... ... ... ... إنّ ربّا أنجى المهلَّب ذا الطول
... ... ... ... ... ... ... ... لأهلٌ أن تحمدوه كثيراً
... ... ... ... لايزال المهلّب بن أبي صفرة
... ... ... ... ... ... ... ... ما عاش بالعراق أميراً(3)
وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:
... ... ... إن مات غير مداهن في دينه
... ... ... ... ... ... ... ومتى يمر بذكر نار يصعق
__________
(1) البداية والنهاية (11/667 ، 668) .
(2) الأخبار الطوال صـ249 ، 250 .
(3) المصدر نفسه صـ251 .(2/392)
... ... ... والموت أمر لا محالة واقع
... ... ... ... ... ... ... من لا يصبحه نهاراً يطرق
... ... ... فلئن منينا بالمهلب إنّهُ
... ... ... ... ... ... ... لاَءَخو الحروب وليث أهل المشرق(1)
المبحث الثاني : خروج مروان بن الحكم على ابن الزبير:
أولاً : اسمه ونسبه وحياته قبل خروجه على ابن الزبير:
... هو مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الملك أبو عبد الملك القرشي الأموي(2)، يكنى أبا القاسم وأبا الحكم ولد بمكة وهو أصغر من ابن الزبير بأربعة أشهر، روى عن عمر وعثمان وعلي وزيد وروى عنه سهل بن سعد، وسعيد بن المسيب، وعلي بن الحسين، وعروة، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وعبيد الله بن عمر، ومجاهد بن جبر، وأبنه عبد الملك. وكان كاتب ابن عمه عثمان ودافع عن عثمان يوم الدار، وسأل عنه علي بن أبي طالب يوم الجمل وقال: يعطفني عليه رحم ماسة، وهو مع ذلك سيد من شباب قريش(3)، وكان يتتبع قضاء عمر(4)، وتولى ولاية المدينة في عهد معاوية وكان الحسن والحسين يصليان خلف مروان ولا يعيدان(5)، وكان إذا وقعت معضلة ـ أثناء ولايته على المدينة ـ جمع من عنده من الصحابة فاستشارهم فيها، وهو الذي جمع الصيعان فأخذ بأعدلها، فنسب إليه فقيل صاع مروان(6)، وكان ذا شهامة وشجاعة ومكر ودهاء(7)، وقد ذكرت شيء في سيرته في كتابي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان شديد الحب لبني أمية، وكان متحمساً لبيعة يزيد بن معاوية ولما توفي يزيد خرج مروان وبنو أمية من المدينة إلى الشام بصحبة الجيش الأموي الراجع من حصار مكة الأول وكان خروج بني أمية برغبتهم(8)، ولم
__________
(1) المصدر نفسه صـ251 .
(2) سير أعلام النبلاء (3/476) .
(3) المصدر نفسه (3/477) .
(4) المصدر نفسه (3/477) .
(5) المصدر نفسه (3/478) .
(6) البداية والنهاية نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ140 .
(7) سير أعلام النبلاء (3/477) .
(8) عبد الله بن الزبير للخراسي صـ146 .(2/393)
يبايع مروان ابن الزبير والتف زعماء القبائل وبنو أمية الموجودين بالشام حوله وبايعوه وكان يحمل بين جنبيه طموحات للزعامة وكانت هذه الطموحات مع رغبته في بقاء الخلافة في البيت الأموي هو الدافع لخروجه على ابن الزبير، وخير دليل على ذلك إقدامه على مبايعة ابنيه من بعده عبد الملك، وعبد العزيز ـ بولاية العهد(1)، وهناك روايات تذكر أن مروان بن الحكم كان قد عزم على مبايعة ابن الزبير لولا أن تدخل عبيد الله بن زياد وغيره في آخر لحظة وثنوه عن عزمه واقنعوه أن يدعو لنفسه(2)، والواقع وإن كنا لا نستبعد أن يكون مروان قد فكر في ذلك الأمر لاسيما بعد انتشار بيعة ابن الزبير في معظم الأقاليم مع تفرق كلمة بني أمية في بلاد الشام، وضعف موقفهم إلا أننا لا نعتبر ذلك مناقضاً لما ذهبنا إليه، لأن العبرة ليست فيما عزم عليه مروان بن الحكم، وإنما في الموقف الذي اتخذه وهو رفض بيعته لابن الزبير ومحاربته(3) والخروج عليه، ولقد سار مروان في محاربته لابن الزبير على الخطوات التالية:
1 ـ القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهم الأحداث بالشام كان مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط.
2 ـ إعادة مصر إلى الأمويين.
3 ـ محاولة إعادة العراق والحجاز.
4 ـ تولية العهد لعبد الملك وعبد العزيز.
ثانياً : القضاء على أنصار ابن الزبير بالشام وأهمية مؤتمر الجابية ومعركة مرج راهط:
__________
(1) الطبقات (5/226) ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ151 .
(2) الطبقات (5/40) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ152 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ152 .(2/394)
... بدأ مروان بن الحكم ـ بعد أن تزعم المعارضة الأموية بتوحيد صفوفه والدخول في صراع ضد ابن الزبير، ولم يبدأ مروان بمواجهة ابن الزبير في الحجاز وإنما لجأ إلى انتزاع الأقاليم البعيدة وذلك ليحسر نفوذه أولاً ومن ثم يتيسر له القضاء عليه(1)، وجاء مروان بن الحكم إلى الحكم بعد عقد مؤتمر الجابية لأهل الشام ولأهمية مؤتمر الجابية إليك تفصيل ما جرى فيه.
1 ـ مؤتمر الجابية:
... ظلت الأردن موطن الكلبيين على ولائها للأسرة الأموية وكان بعض زعماء الشام حريصاً على الاحتفاظ بالخلافة في الشام دون غيرها، ومثال ذلك الحصين بن نمير الذي عرض على ابن الزبير مبايعته بشرط الانتقال للشام، ويبدو أن تمسك بعض زعماء أهل الشام باستمرار دمشق مركزاً للخلافة لم يكن أمراً عاطفياً غير مبرر، بل كان يستند إلى قناعة أكيدة، أثبت الأيام صدقها، بمقدرة أهل الشام على تحقيق الحسم التاريخي، وبعمق الالتحام بين بنائها القبلي اليماني، والوجود الأموي بها، رغم ما تعرضت له الوحدة القبلية لأبناء الشام من هزات عنيفة، وتشقق مريع، حيث أفرزت الأحداث السياسية السريعة آنذاك صراعاً عنيفاً بين القبائل القيسية واليمانية ظل يرسل انعكاساته على الحياة السياسية بعد ذلك، فقد بايع القيسيون في شمال الشام ابن الزبير المرشح الوحيد الظاهر القوة والقبول في هذه المرحلة، وازدادت قوة القيسيين بانضمام الضحاك بن قيس الفهري إليهم، وهو الرجل الذي أمضى تاريخه كله في الشام وفي خدمة معاوية وابنه يزيد، والذي كان يُشرف آنذاك على شئون دمشق منذ وفاة معاوية الثاني ـ بينما تشبث الكلبيون ، رغم الضعف الظاهري لمواقفهم في ظل هذه البيعة الجماعية لابن الزبير حتى من إخوانهم الشماليين والمصاهرة بينهم وبين الأمويين منذ تزوج معاوية منهم(2) وتربى فيهم يزيد(3).. ولكن الكلبيين فيما عدا ذلك يختلفون فبينما
__________
(1) المصدر نفسه صـ152 .
(2) تاريخ الطبري (6/246) .
(3) المصدر نفسه (6/246) .(2/395)
يهوى بعضهم البيعة لخالد بن يزيد بن معاوية، وهو غلام صغير السن، يستنكف بعضهم من البيعة لغلام، في الوقت الذي يدعو فيه الآخرون إلى شيخ قريش عبد الله بن الزبير ـ ويفضل هذا الفريق البيعة لمروان بن الحكم، وبعد محاولات لرأب الصدع بين القيسية واليمنية اتفق الطرفان على الالتقاء في الجابية(1)، للتشاور والاتفاق، فسار الكلبيون والأمويون إلى هناك، على حين غلب بعض أنصار ابن الزبير الضحاك بن قيس على رأيه فأطاعهم ومال نحو مرج راهط(2).
أ ـ ... الممارسة الشورية في مؤتمر الجابية:
__________
(1) الجابية : بلدة من أعمال دمشق من ناحية الجولان الحموي (33/33) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الدولة الأموية المفترى عليها صـ266 .(2/396)
... في الجابية عقد الكلبيون مؤتمرهم وتشاوروا في أمر البيعة والخلافة، وكان مؤتمر الجابية مؤتمرا تاريخياً يمكن أن يوصف بلغة السياسية بأنه كان مؤتمر دستورياً وقد حضره أصحاب الشوكة والقوة والرأي من أهل الشام وتمت الدعوة إليه بالرضا من عناصر أهل الشام المؤثرة في القرار المصيري ونستطيع أن نلاحظ صورة لهذه التجربة الشورية النادرة حين نتصور أن أسماء المرشحين الآخرين للخلافة غير بني أمية قد عرضت للبحث، ولكن رجحت كفة مروان لعوامل كما يصور ذلك روح بن زنباع الجذامي أحد زعماء الشام. حيث قال: أيها الناس إنكم تذكرون عبد الله بن عمر بن الخطاب وصحبته من رسول الله، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون، ولكن ابن عمر رجل ضعيف، وليس بصاحب أمه محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير، ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون، إنه لابن الزبير،، حواري رسول الله وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق، ذات الناطقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله ولكن ابن الزبير منافق قد خلع خليفتين، يزيد وابنه معاوية بن يزيد، وسفك الدماء وشق عصا المسلمين، وليس بصاحب أمر أمه محمد منافق، وأما مروان بن الحكم فوالله ما كان في الإسلام صدع قط إلا كان مروان بن الحكم ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، وهو الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير، ويستشبّوا الصغير، يعني بالكبير مروان بن الحكم وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية، فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان ومن بعده لخالد بن يزيد، ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعد خالد(1)، فكانت تلك المعادلة هي التي جمعت بين مختلف الآراء وأرضت جميع الاتجاهات(2)، وقد دارت نقشات كثيرة، وكان العديد من زعماء القبائل وقادة بني أمية قد حضروا. ومن هؤلاء الزعماء،
__________
(1) تاريخ الطبري (6/472) .
(2) الدولة الأموية المفترى عليها صـ296 .(2/397)
حسان بن مالك بن بحدل الكلبي والحصين بن نمير السكوني، وروح بن زبناع الجذامي(1)، ومالك بن هبيرة السكوني وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد الله بن عضاة الأشعري، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة(2) والمعارضة لابن الزبير، وقد قلبت آراء عديدة وكثيرة حتى استقر الرأي على مروان(3)، ولم يمتنع مروان عن تقديم امتيازات لقبائل كلب وكندة لكي يستميلهم، وكانت له اتفاقات سرية وخاصة مع بعض الزعماء مما كان له الأثر الكبير في كسب المؤيدين له فمروان خطط واستطاع بشتى الطرق الوصول إلى الحكم في بلاد الشام رغم الظروف الصعبة آنذاك(4).
ب ـ أهم قرارات مؤتمر الجابية:
... كانت أهم قرارات مؤتمر الجابية، عدم مبايعة ابن الزبير، استبعاد خالد بن يزيد من الخلافة لأنه غلام والعرب لا تحب مبايعة الأطفال من ناحية ومن الناحية الأخرى هم الآن في أزمة وهم أحوج إلى الرجل المجرب الخبير علّه يقودهم إلى النصر وينقذهم من وضعهم المتدهور، مبايعة مروان بن الحكم وهو الشيخ المحنك، أن يتولى الخلافة بعد مروان على هذا الشرط شفوياً، الاستعداد لمجابهة وقتال المخالفين إتباع ابن الزبير في الشام بادي الأمر(5)
جـ ـ زعامة مروان لمعارضي أهل الشام قامت على الشورى:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/472) .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ147 .
(3) تاريخ الطبري (6/471 ، 472) .
(4) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام، إسماعيل الجبوري صـ46 ، 47 .
(5) عبد الله بن الزبير للناطور صـ132 .(2/398)
... قامت زعامة مروان لمعارضي ابن الزبير على أساس الشورى، إذ انتخب بالاختيار الحر من الذين شهدوا المؤتمر وهم أهل الحل والعقد والشوكة والقوة في الشام، وبويع بإجماع الحاضرين، فكانت طريقة توليته، شورية دستورية اتخذتها المعارضة لتقوية صفها، وبذلك صار في العالم الإسلامي إذ ذاك خليفتان عبد الله بن الزبير الخليفة الشرعي والمنتخب من قبل الأغلبية الساحقة للأمة والزعيم المعارض لابن الزبير والمنتخب من أهل الشوكة والقوة في عاصمة الخلافة ولما كان لابد من توحيد الدولة الإسلامية فقد كان على أحدهما أن يتغلب على الآخر ويتم التوحيد ويجمع كلمة الأمة، فكانت الحروب والمعارك الطاحنة فيما بعد حتى استقر الأمر لعبد الملك بن مروان بعد مقتل الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ويبدو أن أهل الشام الذين عارضوا ابن الزبير واجتمعوا بالجابية قد ذهبوا إلى أن بيعة أهل الشوكة والقوة من عاصمة الخلافة ملزم لبقية الأقطار والأمصار كلها وعلى الآخرين أن يسلموا لمن بايعوه لئلا ينتشر الأمر باختلاف الآراء وتباين الأهواء(1)، وقد نسب ابن حزم هذا الرأي لأهل الشام قائلاً: كانوا قد ادعوا ذلك لأنفسهم حتى حملهم ذلك على بيعة مروان وابنه عبد الملك واستحلوا بذلك دماء أهل الإسلام(2)
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي صـ6 .
(2) الفصل في الملل والنحل (4/168) .(2/399)
... والصحيح بالنسبة لعهد ابن الزبير هو الأخذ بمبدأ الأكثرية أو الأغلبية، وإن كان حجية إقرار بيعة أهل عاصمة الخلافة أخذ به في بيعة الصديق والفاروق وذي النورين والحسن بن علي، إلا أن الأمور قد تغيرت كثيراً فالأخذ بمبدأ الأكثرية للترجيح في تنازع قد قرره الإمام الغزالي حيث قال: يتم الترجيح بينهم بتقديم من انعقدت له البيعة من الأكثر والمخالف للأكثر باغٍ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق(1). وذلك هو الرأي الذي نؤيده، لأن حسم النزاع بترجيح أكثرهم حوزاً لرضا المسلمين هو ما يقضي به مبدأ حق الأمة الإسلامية في اختيار الخليفة(2)، فضلاً عن الأدلة الشرعية المؤكدة لترجيح رأي الأكثرية أو الأغلبية نذكر منها: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ بما انعقد عليه رأي أغلبية المسلمين وإن بدا مخالفاً لرأيه وذلك حيث علم بتحريك قوات المشركين في اتجاه المدينة لحربهم، فاستشار المسلمين فرأى فريق منهم وكان أكثرهم الخروج إليهم، وفريق آخر رأى ما رأه الرسول نفسه وهو أن يظلوا بالمدينة، فلما رأى الرسول أن رأي الأغلبية مع الخروج أخذ برأيهم ووافق على الخروج للمشركين في أحد(3)، وغير ذلك من الأدلة وقد أخذ مشروع الدستور الإسلامي الذي أعده مجمع البحوث الإسلامية والأزهر بفكرة الإلزام برأي الأغلبية حيث نصت المادة (46) منه على أن تكون البيعة بالأغلبية المطلوبة لأصوات المشتركين في البيعة(4).
2 ـ معركة مرج راهط:
__________
(1) الفصل في الملل والنحل (4/168) .
(2) نظام الحكم في الإسلام د. أحمد عبد الله صـ131 .
(3) المصدر نفسه صـ131 .
(4) نحو دستور إسلامي ، محمد سيد أحمد صـ173 ، نظام الحكم في الإسلام د.أحمد عبد الله صـ132.(2/400)
تمخض مؤتمر الجابية عن انتقال الخلافة الأموية من البيت السفياني إلى البيت المرواني وانعقدت البيعة لمروان وحل مؤتمر الجابية، مشكلة الخلافة بين بني أمية ـ وكانت هذه خطوة حاسمة ولكن لم يكن تثبيت هذا الأمر سهلاً فلا زالت تعترضه صعوبات كبيرة، فالضحاك بن قيس، زعيم القيسيين المناصر لابن الزبير قد ذهب إلى مرج راهط وأنضم إليه النعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وزفر بن الحارث الكلابي، أمير قنسرين، وكان واضحاً أنهم يستعدون لمواجهة الأمويين فكان على مروان أن يثبت أنه أهل للمسئولية وحمل أعباء الخلافة، والدفاع عنها وقد حقق أنصار مروان أول نجاح لهم بالاستيلاء على دمشق وطرد عامل الضحاك عنها، وكان أول فتح على بني أمية على حد تعبير ابن الأثير(1) ولم يضيع مروان وقتاً، فقد عبأ أنصاره من قبائل اليمن في الشام كلب وغسان والسكاسك والسكون، وجعل على ميمنته، عمرو بن سعيد، وعلى ميسرته عبيد الله بن زياد, واتجه إلى مرج راهط، فدارت المعركة الشهيرة التي حسمت الموقف في الشام لبني أمية ومروان حيث هزم القيسيون، أنصار بن الزبير، وقتل الضحاك بن قيس، وعدد كبير من أشراف قيس في الشام، واستمرت المعركة حوالي عشرين يوماً، وكانت في نهاية سنة 64 هـ ، وقيل في المحرم سنة 65 هـ(2).
أ ـ نتائج مرج راهط:
ـ أعادت هذه المعركة الملك لبني أمية بعد أن كان مهدداً بالزوال، وحوّلت السلطة من الفرع السفياني إلى الفرع المرواني.
ـ تخلص الأمويين من الضحاك بن قيس الذي كان يعتبر معارضاً قوياً للأمويين، وتابعاً مخلصاً لابن الزبير.
ـ سقطت قنسرين في يد الأمويين وهرب واليها زفر بن الحارث فتوجه إلى قرقيسيا وكان عليها عياض الحرثي حسب قول ابن الأثير.
ـ سقطت فلسطين وهرب ناتل بن قيس الجذامي إلى ابن الزبير.
__________
(1) الكامل لابن الأثير (2/618) .
(2) تاريخ الطبري (6/473)، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ143 .(2/401)
ـ سقطت حمص وقتل واليها النعمان بن بشير(1).
ـ اندلع الصراع بين اليمنية والقيسية ودخلت العصبية القبلية مسرح السياسة العليا للدولة وإذا كان يوم مرج راهط قد انتصر فيه الكلبيين فقد كان نصراً مؤقتاً، وكان الصراع بين العصبتين القيسية واليمنية من أسباب انهيار الدولة الأموية(2).
بـ ـ أسباب هزيمة القيسيين:
لم يرم ابن الزبير بثقله في تلك المعركة وكان عليه أن يجيش الجيوش ويمد أتباعه بالرجال والأموال والسلاح ليقضي على المعارضين بالشام عندما كانت المعارضة لم توحد صفوفها بعد.
ـ اعتماد مروان على رجال دهاة خبراء في الحرب من أمثال حصين بن نمير وعمرو بن سعيد.
ـ عدم اشتراك أتباع ابن الزبير في الشام كلهم، فقد شارك ولاة الشام التابعين لابن الزبير بأعداد من الجنود فقط.
ـ ترك الضحاك مدينة دمشق بدون قوة تستطيع المحافظة عليها رغم أهميتها، وهذا سهل للأمويين الاستيلاء عليها وعلى ما فيها من أموال مكنت الأمويين من الاستفادة من هذا الخطأ(3).
جـ ـ بكاء مروان بن الحكم في مرج راهط:
__________
(1) الكامل لأبن الأثير (2/618) ابن الزبير للناطور صـ137.
(2) تاريخ خلافة بني أمية، نبيه عاقل صـ130.
(3) عبد الله بن الزبير للناطور صـ138 .(2/402)
وروي أن مروان بن الحكم لما جيء برأس الضحاك إليه ساءه ذلك وقال: الآن حين كبرت سني ودق عظمي، وصرت في مثل ظمء الحمار(1)، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض(2) وروي أنه بكى على نفسه يوم مرج راهط(3): أبعد ما كبرت وضعفت صرت إلى أن أقتل بالسيوف على الملك(4) وفي رواية عن مالك قال: قال مروان: قرأت كتاب الله منذ أربعين سنة، ثم أصبحت فيما أنا فيه من إهراق الدماء، وهذا الشأن(5). إن ندم مروان في مثل هذا الموقف وبعد أن تحقق له، وتأكدت له طرق الحكم، وتمهدت له سبل الوصول إلى غايته لدليل قاطع على ما كان يجيش به قلب مروان من عامل الخير، لقد كان هذا النصر جديراً أن ينسيه كل منغصات الحياة، وكان فوزه بالخلافة حقيقاً بأن ينفي عنه كل ما يسبب له الندم، ويعكر له الصفو، فما بال مروان يندم وهو في هذه الظروف التي تزيل الهم عن النفس وتبعد الندم(6)، لطالبي الملك والزعامة والسلطان وأغلب الظن أنه تورط في طلبه للخلافة، ودفعه إلى هذا المستنقع الآسن أناس لهم مصالح دنيوية لا تخفي، فشعر بوخز الضمير وخاف على نفسه من سوء الخاتمة بعد أن ولغت يده في دماء المسلمين من أجل الحطام الزائل.
ثالثاً : ضم مصر إلى الدولة الأموية ومحاولة إعادة العراق والحجاز:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/474) .
(2) المصدر نفسه (6/474) .
(3) البداية والنهاية (11/676) .
(4) المصدر نفسه (11/676) .
(5) سير أعلام النبلاء (3/479) .
(6) الأمويون محمد الوكيل (1/307) .(2/403)
مكّن انتظار مروان في معركة مرج راهط لدولته في الشام فبسط نفوذه عليها، وكانت خطواته التالية المسير إلى مصر لاستردادها من عامل ابن الزبير، وكانت هذه خطوة تدل على ذكاء مروان، فلمصر أهميتها الكبيرة واستيلاؤه عليها يدعم موقفه في مواجهة ابن الزبير، ولم يكن استيلاؤه عليها صعباً، فمعظم المصريين هواهم مع بني أمية، وبيعتهم لابن الزبير لم تكن خالصة وإنما كانت بيعة ضرورة(1)، ودعا مروان شيعة بني أمية بمصر سراً(2)وهذا ما يفسر سهولة استيلاء مروان على مصر فقد سار إليها بجيشه، ومعه عمرو بن سعيد، وخالد بن يزيد بن معاوية وحسان بن مالك ومالك بن هبيرة وابنه عبد العزيز (3)، ودارت بين مروان وابن جحدم عدة معارك انتصر فيها مروان وهرب ابن جحدم، ثم جاء إلى مروان طالباً العفو على أن يخرج إلى مكة، فعفا عنه، وكان نجاح مروان في استرداد مصر من جمادي الآخرة سنة 65هـ(4)، وأقام في مصر شهرين لترتيب الأوضاع والاطمئنان عليها، ولما عزم على العودة إلى الشام عين ابنه عبد العزيز والياً عليها، وأوصاه وصية تدل على حنكة سياسية، وخبرة واسعة، وكان عبد العزيز قد توجس وأخذته وحشة من بقائه في مصر فقال لأبيه: يا أمير المؤمنين كيف المقام ببلد ليس به أحد من بني أبي؟ فقال له: يا بني عمهم بإحسانك يكونوا كلهم بني أبيك واجعل وجهك طلقاً تصف لك مودتهم، وأوقع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره، يكن لك عيناً على غيره، وينقاد قومه إليك وقد جعلت معك أخاك بشراً مؤنساً، وجعلت موسى بن نصير وزيراً ومشيراً وما عليك يا بني أن تكون أميراً بأقصى الأرض، أليس أحسن من إغلاق بابك وخمولك في منزلك(5)؟ بعد رجوع مروان بن الحكم قافلاً من مصر أقدم على تجهيز حملتين ضد
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ144 .
(2) الولاة والقضاء للكندي صـ41 ـ 42 .
(3) المصدر نفسه صـ42 .
(4) المصدر نفسه صـ41 ، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ144 .
(5) لولاة والقضاة صـ47 .(2/404)
ابن الزبير في محاولة منه لإعادة العراق والحجاز، فكانت الحملة ضد العراق بقيادة عبيد الله بن زياد وكانت مهمتها الأولى هي محاصرة زفر بن الحارث الكلابي والتخلص منه ثم التقدم نحو العراق، حيث مصعب بن الزبير ولكن هذه الحملة لم تحقق شيئاً من أهدافها في عهد مروان إذ سارع إليه الأجل وتوفى وهي في طريقها لمحاصرة زفر بن الحارث في قرقيسيا وعند مجيء عبد الملك أقر هذه الحملة التي سوف نعرض للحديث عنها فيما بعد، أما ما يتعلق بالحجاز فقد جهز مروان جيشاً من فلسطين يقدر بستة آلاف وأربعمائة فارس بقيادة حبيش بن دلجة القيني، وكان في الجيش الحجاج بن يوسف ووالده، اتجه هذا الجيش نحو الحجاز ولما وصل إلى وادي القرى هرب عامل بن الزبير على المدينة(1)، واستمرت الحملة إلى عهد عبد الملك بن مروان(2).
رابعاً : تولية العهد لعبد الملك ووفاة مروان بن الحكم:
__________
(1) أنساب الأشراف (5/50 ـ 151) الدور السياسي لأهل اليمن صـ57 .
(2) الدور السياسي لأهل اليمن صـ57 ، عبد الملك للريس صـ60 .(2/405)
ختم مروان بن الحكم أعماله بعقد البيعة لولديه عبد الملك بن مروان وعبد العزيز بن مروان مجسداً لمبدأ التوريث، وكان ذلك قبل وفاته بأقل من شهرين(1)، وبعد نجاحه بإعادة مصر إلى الحكم الأموي، بدأ مروان بالتخطيط لاستبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق من ولاية العهد الذي قرر في مؤتمر الجابية، فتزوج أم خالد بن يزيد وعمل للحصول على موافقة حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بتولية العهد لولديه وإبعاد خالد بن يزيد وعمرو بن سعيد الأشدق فوافقه حسان على ذلك، وقد كان عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كان يطالب بولاية العهد بعد مروان وأعلن ذلك بعد رجوعه من قتال مصعب بن الزبير عندما حاول إعادة ناتل بن قيس الجذامي إلى فلسطين(2)، مما دعا مروان بن الحكم إلى أن يعهد لابنيه عبد الملك وعبد العزيز وذلك سنة 65هـ مستعيناً بحسان بن مالك بن بحدل بعد أن أخبره بما يردده عمرو بن سعيد بن الأشدق بأن الأخير هو ولي العهد فقال حسان: أنا أكفيك عمرو. لهذا جمع الناس وخطبهم فبايع الجميع لعبد الملك ثم لعبد العزيز ولم يتخلف أحد(3)، ويعتبر بعض المؤرخين أن من أهم أعمال مروان بن الحكم تولية ولديه ولاية العهد، لولديه وذلك لحفظ الخلافة في البيت المرواني من جهة ولوضع حداً للتنافس على الخلافة بين بني أمية من جهة ثانية، ولتفادي المشاكل التي ربما تحدث بشأن الخلافة، كما حدثت بعد موت معاوية الثاني(4)، والملاحظ أن مروان بن الحكم نقض بعض مقررات مؤتمر الجابية المتعلقة بولاية العهد ولم يلتزم بعهوده وكان راغباً في حصر الخلافة في أبنائه، فآثر إسقاط وعوده ونقضها على المحافظة على طموحاته ورغباته وأوجد معادلة فيها مطامع ومصالح مشتركة مع المعارضين له مما جعلهم يستجيبون
__________
(1) عبد الملك بن مروان صـ60 نقلاً عن تاريخ خليفة .
(2) أنساب الأشراف (5/149) .
(3) الأنساب للبلاذري (5/150) الدور السياسي لأهل اليمن صـ58 .
(4) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ58 .(2/406)
لدعوته إلى تولية أبنائه ولاية العهد من بعده، فقد عمل على التحرش بخالد بن يزيد وتعمّد أهانته أمام الآخرين، بغية تحجيمه وإعطاء صورة للناس بعدم صلاحيته للخلافة ثم خطا الخطوة التالية فأخذ البيعة لولديه عبد الملك وعبد العزيز في بداية سنة 65هـ(1)، لقد استطاع مروان بدهائه ومكره وجهوده المتوالية الخروج بأزمة الحكم الأموي من حالة الضياع إلى مركز الصدارة والقيادة، وهذا لم يكن حدثاً عادياً محدود التأثير، وإنما هو عودة جديدة للحكم بعد تثبيته في الشام ومصر من جهة، وتجريد السفيانيين من الخلافة وتحويلها إلى المروانيين من جهة ثانية، ولم يكن ثمة ما يحول دون استمرار التقدم عند ابنه عبد الملك لنزع الخلافة من الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير ثم يتفرغ للقيام بالعديد من الإصلاحات التي جعلته المؤسس والمجدد الحقيق لمؤسسات الدولة الأموية، وتعميق الحكم العضوض بها مع وجود بعض الحسنات التي لا تنكر للملك الأموي الجديد.
__________
(1) البداية والنهاية (11/715) .(2/407)
توفي مروان بن الحكم بدمشق لثلاث خلون من شهر رمضان سنة 65هـ وهو ابن ثلاث وستين سنه، وصلى عليه ابنه عبد الملك وكانت مدة حكمه تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً ودفن بين باب الجابية وباب الصغير(1)، وكان آخر ما تكلم به مروان: وجبت الجنة لمن خاف النار. وكان نقش خاتمه: العزة لله وفي رواية : آمنت بالله العزيز الرحيم(2)، وقد اختلف في سبب وفاته إذ وردت ثلاث روايات فيها الأولى ـ ترى أنه توفي بالطاعون(3)؟، وتذهب الأخرى إلى أن زوجته أم خالد بن يزيد سقته سماً فمات أو وضعت وسادته على رأسه حتى مات(4)، وثالثة ترى أنه توفي وفاة طبيعية(5)، إن تناقض الروايات تدل على أن الحقيقة غير معروفة، وأما الرواية التي تتهم زوجته بالقتل تبدو كأنها أسطورة مختلقة ردّدتها الألسن، إما حباً في الثرثرة وإما طعناً في الأسرة الأموية وهذه الرواية غير مقبولة للأسباب الآتية:
1 ـ أنه لم يعرف عن نساء العرب مثل هذا الفعل فضلاً عن كونها سيدة حرة شريفة تلتقي وإياه في عبد شمس .
2 ـ مكانة مروان بن الحكم من قومه وتوليته الخلافة يجعل من الصعوبة بمكان الإقدام على مثل هذا الفعل له وذلك للنتائج المترتبة عليه فيما بعد.
3 ـ لم يظهر أي أثر لهذا الاغتيال في الأسرة الأموية وخاصة بين خالد بن يزيد وعبد الملك بن مروان، مما يدل على أن هذه الرواية غير صحيحة أما الرواية التي تشير إلى موته الطبيعي وإصابته بالطاعون فأنها محتملة لأنه كان قد تجاوز الستين من العمر(6)، فضلاً عن الجهد الذي بذله في أواخر أيامه مما جعل التعويل على موته الطبيعي(7)
__________
(1) المصدر نفسه (11/714) .
(2) المصدر نفسه (11/713) .
(3) مروج الذهب (3/89) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ59 .
(4) مروج الذهب (3/89) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ60 .
(5) الطبقات (5/226) .
(6) الأخبار الطوال صـ286 .
(7) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ60 .(2/408)
المبحث الثالث : عبد الملك بن مروان وصراعه مع ابن الزبير:
أولاً اسمه ونسبه وكنيته وشيء من حياته:
1 ـ اسمه ونسبه وكنيته: هو عبد الملك بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، أبو الوليد الأموي وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية(1).
2 ـ مولده ووصفه: كان مولده ومولد يزيد بن معاوية في سنة ستٍّ وعشرين، وقد كان عبد الملك قبل الخلافة من العباد الزهاد الفقهاء، الملازمين للمسجد، التالين للقرآن، وكان ربعة من الرجال أقرب إلى القصر، وكانت أسنانه مشبكة بالذهب، وكان أفوه مفتوح الفم، فربَّما غفل فينفتح فمه فيدخل فيه الذباب، فلهذا كان يقال له: أبو الذِّبان وكان أبيض ربعة ليس بالنحيف ولا البادن، مقرون الحاجبين، أشهل(2) كبير العينين، دقيق الأنف، مشرق الوجه، أبيض الرأس واللحية حسن الوجه لم يخضب ويقال: إنه خضب بعد ذلك(3).
3 ـ طلبه للعلم وعبادته قبل الإمارة وثناء الناس عليه:
__________
(1) البداية والنهاية (11/377) .
(2) أشهل : أي يشوب سواد عينه زرقة .
(3) البداية والنهاية (11/379) .(2/409)
... قال نافع: لقد رأيت المدينة ما فيها شاب أشدُّ تشميراً، ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان(1). وقال الأعمش عن أبي الزناد: كان فقهاء المدينة أربعة، سعيد بن المسيِّب، وعروة، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك قبل أن يدخل الإمارة(2)، وعن ابن عمر أنه قال: ولد الناس أبناء وولد مروان أبا ـ يعني عبد الملك(3) ـ ويقصد ابن عمر أن عبد الملك كان يفوق سنه، ويعلو فوق أقرانه(4)، وعن يحي بن سعيد قال: أول من صلّى ما بين الظهر والعصر عبد الملك بن مروان وفتيان معه. فقال سعيد بن المسيب: ليست العبادة بكثرة الصلاة والصيام، إنما العبادة التفكر، في أمر الله، والورع عن محارم الله(5). وقد صدق رحمه الله. وقال الشعبي: ما جالست أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك ابن مروان، فإنِّني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه(6).
4 ـ تعظيمه لاسم الله تعالى: روى البيهقي: أن عبد الملك وقع منه فلس في بئر قذرة، فاكترى عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه منها، فقيل له في ذلك، فقال: إنه كان عليه اسم الله عز وجل(7).
5 ـ التسبيح والتكبير في الأسفار: روى ابن أبي الدينا، أن عبد الملك كان يقول لمن يسايره في سفره إذا رفعت له شجرة سبِّحوا بنا حتى نأتي تلك الشجرة، وكبَّروا بنا حتى نأتي تلك الحجر، ونحو ذلك(8).
__________
(1) المصدر نفسه (11/379) .
(2) المصدر نفسه (11/379) .
(3) المصدر نفسه (11/379) .
(4) الخلافة الأموية للهاشمي صـ116 .
(5) المصدر نفسه (11/380) البداية والنهاية (11/380) .
(6) المصدر نفسه (11/380)
(7) المصدر نفسه (11/385) .
(8) المصدر نفسه (11/385) .(2/410)
6 ـ هل يصح هجره للقرآن الكريم؟ قيل: إنه لمّا وضع المصحف من حجره قال: هذا آخر العهد منك(1). وهذه رواية ضعفها ابن كثير ورواها بصيغة التمريض قيل(2)، كما أن عبد الملك قال لمؤدِّب أولاده وهو إسماعيل بن عبيد الله ابن أبي المهاجر:ـ علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن(3).
7 ـ ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته:
روى ابن سعد ما يدل على أن عبد الملك كان محبوباً مرغوباً من عمومته كبار بني أمية، فذكر أنه: كان معاوية بن أبي سفيان جالساً يوماً ومعه عمرو بن العاص رضي الله عنهما، فمر بهما عبد الملك بن مروان فقال معاوية: ما آدب هذا الفتى وأحسن مرؤته فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين، إن هذا الفتى أخذ بخصال أربع وترك خصالاً ثلاثاً: أخذ بحسن الحديث إذا حدّث، وحسن الاستماع إذا حُدِّث وبحسن البشر إذا لقي، وخفة المؤونة إذا خولف، وترك من القول ما يعتذر عنه، وترك مخالطة اللئام من الناس وترك ممازحة من لا يوثق بعقله ولا مروءته(4).
8 ـ وصيته لمؤدب أولاده: قال عبد الملك لمؤدِّب أولاده ـ وهو إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجرـ علمهم الصِّدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم السَّفِلَةَ فإنهم أسوأ الناس رِعة(5) ، وأقلهم أدباً، وجنِّبهن الحشم، فإنَّهم بهم مفسدة، وأحفِ شعورهم تغلظ رقابهم، وأطعمهم اللحم يقْوَوا وعلمهم الشعر يمجُدُوا وينجُدُوا ومُرْهم أن يستاكوا عَرْضاً ويمصوا الماء مصَّاً ولا يُعبُّوا عبّاً، وإذا احتجت أن تتناولهم بأدب فليكن ذلك في سرٍّ لا يعلم بهم أحد من الحاشية فيهونوا عليهم(6).
9 ـ موقفه من ابن الزبير قبل الإمارة وبعدها:
__________
(1) المصدر نفسه (11/381) .
(2) المصدر نفسه (11/381) .
(3) المصدر نفسه (11/388) .
(4) الطبقات لابن سعد (5/224) .
(5) البداية والنهاية (11/389) الرعة : قلة الورع .
(6) المصدر نفسه (11/389) .(2/411)
... فقد كان له من ابن الزبير موقفان متناقضان: أما الأول: فكان قبل أن يتولى الخلافة يستعيذ بالله أن يبعث خليفة إلى مكة جيشاً ليقتل ابن الزبير ومن معه، وكان يرى في ذلك إثماً كبيراً(1)، قال يحي الغساني: لما نزل مسلم بن عقبة المدينة، دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك: أمن هذا الجيش أنت؟ فقلت: نعم قال: ثكلتك أمك!! أتدري إلى من تسير؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام (بعد الهجرة) وإلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى ابن ذات النطاقين، وإلى من حنّكه رسول الله صلى اله عليه وسلم، أما والله لو جئته نهاراً لوجدته صائماً، ولئن جئته ليلاً لوجدته قائماً، فلو أن أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في النار(2). وأما موقفه الثاني: فكان بعد الخلافة ويأتي عكس الأول تماماً، عندما جهز عبد الملك جيشاً يقوده الحجاج بن يوسف الثقفي، وبعث به إلى مكة حيث كان يتحصن ابن الزبير بالكعبة، وظل محاصراً مكة حتى قُتل عبد الله بن الزبير(3).
ثانياً : حياته السياسية قبل الأمارة :
__________
(1) الخلافة الأموية للهاشمي صـ116 .
(2) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ217 .
(3) المصدر نفسه .(2/412)
... كان أول حادث سياسي أثر في حياته عندما كان عمره عشر سنوات، فقد شهد مقتل عثمان رضي الله عنه، وكان لهذا الحادث اثر في سياسته لما تولى الإمارة فقد خطب في إحدى خطبه: أيها الناس أنا نحتمل لكم كل اللغوبة ما لم يكن رأيه أو وثوب على منبر(1). وأول منصب إداري تولاه في الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان، فقد كان عاملاً على هجر(2) ثم تولى ديوان المدينة بعد وفاة زيد بن ثابت(3)، وشارك في الجهاد فقد خرج على رأس حملة إلى أرض الروم ويشتي هناك في سنة 42هـ(4)،كما يذكر أنه غزا إفريقية مع معاوية بن حديج وكلفه بفتح جلولا في بلاد الشمال الإفريقي وفي عهد يزيد كان يقول على ابن الزبير ما على الأرض اليوم خيراً منه(5)، كما أن علاقته بمصعب بن الزبير كانت حسنة، وأما عن دوره السياسي في عهد مروان بن الحكم، فقد تولى فلسطين وكان يبعث نائباً عنه روح بن زنباع(6) ، ويمكن أن يكون ذلك ليبقى في دمشق قريباً من إدارة الدولة لمساعدة والده هناك لاسيما أن الفترة التي تولى فيها والده الحكم كانت الدولة محاطة فيها بالأعداء من الداخل والخارج، وتولى أمرة دمشق عند ذهاب والده لفتح مصر(7)، وهذه المهمة تدل على كفايته الإدارية وحزمه(8).
ثالثاً : العلماء الذين كانوا مع عبد الملك:
__________
(1) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ64 .
(2) المعارف لابن قتيبة صـ355 ، الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ64 .
(3) الطبقات (5/225) .
(4) تاريخ خليفة (1/69) .
(5) الطبقات (5/226) .
(6) أنساب الأشراف (5/127) .
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن الدور السياسي لأهل اليمن صـ65 .
(8) الدور السياسي لأهل اليمن صـ65 .(2/413)
... بايع بعض العلماء لعبد الملك بن مروان بالشام وكانوا قلة لا يعدون شيئاً أمام العلماء الذين بايعوا ابن الزبير أو الذين اعتزلوا حتى تجتمع الأمة على خليفة، وانحصر وجود هؤلاء في إقليم الشام، وقد ذكر من هؤلاء العالم الجليل قبيصة بن ذؤيب ـ رحمه الله ـ فكان من المبايعين لعبد الملك وأحد المقربين إليه(1)، ومنهم يزيد بن الأسود الجرشي ـ رحمه الله ـ فورد أنه كان مع عبد الملك في خروجه لقتال مصعب بن الزبير وروي عنه أنه حين رأى الجيشين قد التقيا قال: اللهم أحجز بين هذين الجبلين وول الأمر أحبهما إليك(2).
رابعاً : حركة التوابين ومعركة عين الوردة 65هـ:
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ542 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/137) .(2/414)
... عندما عمّ الاضطراب أنحاء البلاد بعد موت يزيد وفرار عبيد الله بن زياد، شرع أنصار الحسين يتصلون ببعضهم البعض بهدف وضع خطة للثأر لدمه، إذ بعد استشهاده هزتهم الفاجعة وندموا على تقاعسهم عن نصرته، والدفاع عنه، معترفين بخطيئتهم بحماسة شديدة، لذلك لم يجدوا وسيلة يكفرون بها عن هذا التقصير ويتوبون إلى الله بها من هذا الذنب الكبير سوى الثأر للحسين(1)، وأخذ الشيعة يعقدون الاجتماعات برئاسة سليمان بن صرد الخزاعي لدراسة الموقف، وأسلوب العمل الذي سيتبعونه وغلب على هذه الاجتماعات موضوع التوبة والغفران، وثم شرعوا في تجييش الناس، وخرج التوابون من معسكرهم في النخيلة في شهر ربيع الأول 65هـ وهو الموعد الذي حددوه لخروجهم وكانت المحطة الأولى في مسيرتهم الانتقامية في كربلاء حيث بلغوا قبر الحسين فاسترحموا عليه وبكوا وتابوا عن خذلانهم له، وبعد يوم وليلة من البكاء كان الحماس قد أخذ منهم حق العمق، فقرروا السير إلى الشام لقتال عبيد الله بن زياد باعتباره الرجل الذي أصدر الأمر بقتل الحسين، لأنهم وجدوا أنه الطريق الأجدى لتحقيق الانتقام(2)، ومرّ جيش التوابين ببلدة هيت على الفرات ثم صعد مع النهر إلى أن وصل إلى قرقيسياء(3). وكانت هذه المدينة هي أبعد المناطق في هذا الاتجاه التي اعترفت ولو اسمياً ببيعة ابن الزبير(4)، واستقبل أمير قرقيسياء زفر بن الحارث الكلابي، جيش التوابين بحماسة خاصة وأنه قد جمعت الفريقين مصلحة مشتركة هي مقاتلة الأمويين واقترح زفر عليهم توحيد صفوفهم مع أنصار ابن الزبير، إلا أنهم اعتذروا عن قبول اقتراحه كما رفضوا نصيحته بالعدول عن قرارهم الانتحاري، واكتفوا بالتزود بما يحتاجون إليه من المدينة ثم مضوا إلى
__________
(1) الكامل في التاريخ (2/635) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن تاريخ الدولة الأموية طقوش صـ71 .
(3) الكامل في التاريخ (2/638) .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن تاريخ الدولة الأموية طقوش صـ71 .(2/415)
مصيرهم(1)، والتقى التوابون بالجيش الأموي في عين الوردة من أرض الجزيرة إلى الشمال الغربي من صفين في عام 65هـ وخاضوا ضده معركة ضارية غير متكافئة بفعل قلة عددهم بالمقارنة مع عدد أفراد الجيش الأموي، أسفرت عن تدميرهم ومقتل زعمائهم باستثناء رفاعة بن شداد الذي تراجع بالبقية القليلة منهم إلى الكوفة(2)وقد علق الذهبي على سليمان بن صرد زعيم جيش التوابين بقوله: كان ديناً عابداً، خرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسُمُّوا جيش التوابين(3). وعلق ابن كثير على جيش التوابين بقوله: لو كان هذا العزم والاجتماع قبل وصول الحسين إلى تلك المنزلة لكان أنفع له وأنصر من اجتماعهم لنصرته بعد أربع سنين(4)، وكان عمر سليمان بن صرد رضي الله عنه يوم قتل ثلاثاً وتسعين سنة(5).
__________
(1) تاريخ الدولة الأموية طقوش صـ72 ، الكامل في التاريخ (2/639) .
(2) تاريخ الطبري، نقلاً عن تاريخ الدولة الأموية صـ72 .
(3) سير أعلام النبلاء (3/395) .
(4) اليداية والنهاية (11/697) .
(5) البداية والنهاية (11/703) .(2/416)
والحق أن الإنسان يقف مبهوراً أمام شجاعة التوابين وجرأتهم فقد كان عددهم لا يتجاوز أربعة الآف رجل، وخاضوا هذه المعركة بإيمان صادق، وعقيدة راسخة، وشجاعة نادرة، وصبر فائق، مع عشرين ألف جندي على اقل تقدير من أهل الشام، وأنزلوا بهم خسائر فادحة في الأرواح، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة حتى خاضوا في الدماء، ولولا كثرة جيش الشام، حتى استطاعوا أن يلتفوا حولهم، ويضربوا عليهم طوقاً، وأحاطوا بهم من كل جانب، ثم رموهم بالنُّبل لما استطاعوا الانتصار عليهم(1)، ولكنا إزاء هذا الإعجاب بشجاعتهم، وإخلاصهم وتقانيهم في القتال، لا نملك إلا أن نتساءل، أين كانت هذه الشجاعة يوم تركوا الحسين رضي الله عنه ـ يواجه الموت هو وأهل بيته، دون أن يتحرك منهم أحد(2)؟ وأما أهم أسباب فشل التوابين فهي:
1 ـ قلة عددهم إذا قورنوا بجيش الشام، فكان عدد التوابين أربعة الآف مقاتل بينما كان جيش خصمهم الذين اشتبكوا معهم عشرين ألفاً عدا من كان ينتظر مع عبيد الله بن زياد على سبيل الاحتياط.
2 ـ ضعف التوابين من الناحية العسكرية، فلا نستطيع أن نقارن أي واحد من قادة التوابين بقدرة ابن زياد أو حصين بن نمير من حيث الخبرة والقدرة العسكرية، وهذا يتفق مع وصف المختار الثقفي لسلمان بن صرد: إن سليمان رجل لا علم له بالحرب وسياسة الرجال(3).
3 ـ تخاذل التوابين عن الاشتراك، فعندما أحصى ابن صرد من بايعوا وجدهم ستة عشر ألفاً عداً أهل المدائن والبصرة الذين لم يتم تنسيقهم مع الآخرين مع أن المشركين في القتال هم أربعة الآف .
4 ـ عدم اشتراك المختار الثقفي في القتال وليت الأمر كذلك ولكنه كان يثبط الناس عن سليمان بن صُرد(4).
خامساً: حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي:
__________
(1) الأمويون للوكيل (1/315) .
(2) المصدر نفسه (1/315) .
(3) أنساب الأشراف (5/207) .
(4) سير أعلام النبلاء (3/540) عبد الله ابن الزبير للناطور صـ148 .(2/417)
هو المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذَّاب، كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة الثقفي، أسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم نعلم له صحبة استعمله عمر بن الخطاب على جيشٍ، فغزا العراق، وإليه تنسب وقعة جسر أبي عبيد، ونشأ المختار، فكان من كبراء ثقيف، وذوي الرأي، والفصاحة، والشجاعة والدّهاء وقلة الدين(1)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يكون في ثقيف كذاب ومبير(2)، فكان الكذاب هذا، ادَّعى أنَّ الوحي يأتيه، وأنه يعلم الغيب، وكان المبير الحجاج، قبّحهما الله(3)، ظهر المختار بن أبي عبيد الثقفي على مسرح الأحداث بعد موت يزيد بن معاوية سنة 64هـ، وهو من الشخصيات التي حفل بها العصر الأموي، والتي كانت تسعى لها عن دور، وتسعى إلى السلطان بأي ثمن، فتقلب من العداء الشديد لآل البيت إلى ادعاء حبهم والمطالبة بثأر الحسين(4). فقد مر بنا في كتابي عن الحسن بن علي بن أبي طالب بأنه أشار على عمه سعد بن مسعود الثقفي بالقبض على الحسن بن علي وتسليمه إلى معاوية، لينال بذلك الحظوة عنده(5)، ثم حاول الاتصال بعبد الله بن الزبير والانضمام إليه، وشرط عليه شروطاً، منها أن يكون أول داخل عليه وألا يقضي الأمور دونه، وإذا ظهر استعان به على أفضل أعماله(6)، وباختصار أراد أن تكون له كلمة في دولته، ولكنه لم يجد تجاوباً من ابن الزبير، فانصرف عنه إلى الكوفة(7)، حيث كان الأمر فيها مضطرباً فأراد أن يصطاد في المياه العكرة، ولم يجد فيها ورقة رابحة سوى الادعاء بالمطالبة بدم الحسين وآل البيت وأدعى أن لديه تفويضاً بذلك من محمد
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/539) .
(2) مسلم رقم 2545 .
(3) سير أعلام النبلاء (3/539) .
(4) البداية والنهاية (11/66) .
(5) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ482 .
(6) الكامل في التاريخ نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ482 .
(7) البداية والنهاية (11/66) .(2/418)
بن على بن أبي طالب، الملقب بابن الحنفية، ولكنه لم يكن صادقاً في ذلك، بل قرر أن يركب تيار الشيعة ليصل إلى هدفه وهو الحكم والسلطان. وقد عبر هو نفسه عن ذلك في حواره مع رجال من رجاله الذين أخلصوا له، وكانوا يظنونه صادقاً في دعوته للثأر لآل البيت، وهو السائب بن مالك الأشعري. فقد قال له المختار عندما ضيق عليه وصعب الخناق واقتربت نهايته. ماذا ترى؟ فقال له السائب الرأي لك؟ قال: أنا أرى أم الله يرى: قال: الله يرى قال: ويحك أحمق أنت! إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب، فأخذت هذه البلاد، فكنت كأحدهم إلا أني قد طلبت وبالغت في ذلك إلى يومي هذا، فقاتل على حسبك إن لم تكن لك نية فقال السائب: إنا لله وإنا إليه راجعون(1). قال السائب ذلك لما تبين له أن المختار صنع كل ما صنع من أجل السلطان وحده، ولذلك يصف الذهبي المختار بالكذب وقلة الدين(2)، ظهر المختار في الكوفة في الوقت الذي كان فيه سليمان بن صرد الخزاعي زعيم التوابين يستعد للذهاب إلى الشام، لقتال عبيد الله بن زياد، فحاول تثبيط الناس عنه، وقد نجحت دعايته وتجمع حوله نحو ألفين من الشيعة وبقيت غالبيتهم مع سليمان بن صرد، وكانت نتيجة معركة عين الوردة من مصلحة المختار، فقد جاءته مصدقة لتوقعاته كما أنه انفرد بزعامة الشيعة ولجأ إليه الفارون من المعركة، فقويت حركته وكثر أتباعه، ثم ازداد مركزه قوة بانضمام إبراهيم بن الأشتر النخعي إليه، وهو من زعماء الكوفة فثار على عبد الله بن مطيع العدوي، أمير الكوفة من قبل عبد الله بن الزبير فأخرجه منها وأحكم سيطرته عليها.
ـ قضاء المختار على قتلة الحسين:
__________
(1) تاريخ الطبري (6/677) .
(2) سير أعلام النبلاء (3/539) .(2/419)
... ولكي يثبت دعواه في صحة دعوته في المطالبة بدم الحسين، فقد تتبع قتلته فقتل معظمهم في الكوفة(1)، ثم أعد جيشاً جعل على قيادته إبراهيم الأشتر، وأرسله إلى قتال عبيد الله، فالتقى به عند نهر الخازر بالقرب من الموصل وحلت الهزيمة بجيش ابن زياد، الذي خرّ صريعاً في ميدان المعركة سنة 67هـ(2).
وقد قال ابن مفرّغ حين قتل ابن زياد:
... ... ... ... إن المنايا إذا مازُرن طاغية
... ... ... ... ... ... ... هتّكن أستار حُجّاب وأبواب
... ... ... ... أقول بُعداً وسحقاً عند مصرعه
... ... ... ... ... ... ... لابن الخبيثة وابنِ الكوْدن الكابي(3)
... ... ... ... لا أنت زُوحِمت عن مُلك فتمنعهُ
... ... ... ... ... ... ... ولا متَتَّ إلى قوم بأسباب(4)
__________
(1) العراق في العصر الأموي ، ثابت الرواي صـ250 ـ 251 .
(2) الكامل في التاريخ (2/7) .
(3) الكودن : البرذون الهجين أو البغل : الكابي : المنكب على وجهه .
(4) الكامل في التاريخ (2/9) .(2/420)
... وقد شرع المختار في تتبع قتلة الحسين ومن شهد الوقعة بكربلاء من ناحية ابن زياد، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وظفر برؤوس كبار منهم، كعمر بن سعد بن أبي وقاص أمير الجيش الذين قتلوا الحسين، وشمر بن ذي الجوشن أمير الألف، الذين وَلُوا قتل الحسين، وسنان بن أبي أنس، وخوليّ بن يزيد الأصبحيِّ، وخلقاً غير هؤلاء(1). وكان مقتل عبيد الله بن زياد في يوم عاشوراء سنة سبع وستين، ثم بعث إبراهيم بن الأشر برأس بن زياد إلى المختار(2)، وتعاظم نفوذ المختار بعد انتصار جيشه على جيش ابن زياد، وسيطر على شمال العراق والجزيرة وجعل يولي العمال من قبله على الولايات(3)، ويجبي الخراج، وانضم إليه عدد كبير من الموالي لبغضهم لبني أمية من ناحية(4)، ولأنه أغدق عليهم الأموال من ناحية ثانية(5). وبدا كما لو أنه أقام دولة خاصة به في العراق بين دولتي ابن الزبير في الحجاز، وعبد الملك بن مروان في الشام(6).
1 ـ أسباب نجاح حركة المختار في مرحلتها الأولى:
... نجحت حركة المختار في بداية الأمر للأسباب الآتية:
__________
(1) البداية والنهاية (11/66) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ484 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ484 .
(4) الدولة الأموية في المشرق للنجار صـ143 .
(5) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ484 .
(6) المصدر نفسه صـ484 .(2/421)
أ ـ الأرضية الملائمة، حيث العواطف ثائرة والنفوس مشحونة في وقت كانت حركة التوابين تلقى مصيرها الذي اختارت، عبر عملية استشهادية في نظر التوابين كان لها صداها المأساوي في الكوفة، ومن ناحية أخرى، فإن ابن الزبير لم يدعم وجوده بالكوفة بالجيوش وإغداق الأموال والتلطف للأعيان والأشراف والزعماء، وكانت وجهة نظره معتمد على ترك تطاحن الأمويين مع أتباع المختار وما يترتب على ذلك من استنزاف لهما، بكون ابن الزبير هو المستفيد من نتائج ذلك التطاحن(1).
ب ـ تودد المختار لبني هاشم، فكان يرسل الهدايا لهم، وعمل على كسبهم(2).
جـ ـ الشخصية القيادية البارزة التي تمتع بها المختار في الوقت الذي غابت فيه عن الكوفة الزعامة السياسية المحورية، القادرة على توحيد اتجاهات الحركة الشيعية واستيعاب التطورات المتلاحقة، ولا نهمل المكر والدهاء والمرونة، والقدرة على استثمار الأحداث من مقتل الحسين، وحجر بن عدي، والتوابين وتوظيف ذلك، كما امتازت شخصية المختار بقدرتها على المناورة(3).
ت ـ البرنامج العملي الذي تقدم به، كان المدخل الاستقطابي لشريحة عريضة في المجتمع كانت مضطهدة ومسحوقة وهي شريحة الموالي التي وجدت في حركته المتنفس لتحقيق أهدافها في المساواة وتحسين أوضاعها الاجتماعية(4).
س ـ سوء اختيار ابن الزبير لعماله في الكوفة، ويبدو أنهم لم يكونوا على قدر المرحلة ولذلك انفلتت الأمور من أيديهم في الكوفة(5).
2 ـ نهاية المختار على يد مصعب بن الزبير:
__________
(1) من دولة عمر إلى دولة عبد الملك صـ204 ، 205 .
(2) عبد الله بن الزبير للناطور صـ158 .
(3) من دولة عمر إلى دولة عبد الملك صـ205 .
(4) المصدر نفسه صـ205 .
(5) عبد الله بن الزبير للناطور صـ205 .(2/422)
... كان من المتوقع أن تكون نهاية المختار على يد عبد الملك الذي وتره بقتل ابن زياد أبرز أعوانه ولكن عبد الملك كان من الدهاء بحيث أدرك أن ابن الزبير وإن كان قد اسعده ظهور المختار في البداية وقهره لجيش عبد الملك(1)، إلا أنه لن يسمح لنفوذه أن يتسع ويهدد دولته، وأنه لا بد أن يتحرك للقضاء عليه، فآثر الانتظار وترك ابن الزبير يواجه المختار، لأن نتيجة المواجهة ستكون في صالحه، فسوف يقضي أحدهما على صاحبه، ومن يبقى، تكون قوته، قد ضعفت فيسهل له القضاء عليه، وقد حدث ما توقعه عبد الملك، فإن المختار لم يكتف بانتصاره على جيش عبد الملك وبسط نفوذه على شمال العراق والجزيرة، بل أخذ يعد نفسه للسير إلى البصرة لانتزاعها من مصعب بن الزبير الذي أصبح والياً عليها من قبل أخيه عبد الله بعد أن بايعه أهلها، وهنا أصبح الصدام محتوماً بين المختار وآل الزبير(2)، فسار مصعب بن الزبير بنفسه إلى قتال المختار في جيش هائل فحاصره بالكوفة وضيق عليه ومازال حتى أمكن الله منه، فقتله واحتزَّ رأسه، وأمر بصلب كفِّه على باب المسجد، وبعث مصعب برأس المختار مع رجل من الشُّرَط على البريد إلى أخيه عبد الله بن الزبير، فوصل مكة بعدَ العشاءِ فوجد عبد الله يتنفَّل، فما زال يصلِّي حتى أسحر ولم يلتفت إلى البريد الذي جاء بالرأس فقال ألقه على باب المسجد، فألقاه ثم جاء فقال: جائزتي يا أمير المؤمنين. فقال: جائزتك الرأس الذي جئت به تأخذه معك إلى العراق. ثم زالت دولة المختار كأن لم تكن، وكذلك سائر الدول، وفرح المسلمون بزوالها وذلك لأنّ الرجل لم يكن في نفسه صادقاً، بل كان كاذباً، وكاهناً، وكان يزعم أن الوحي ينزل عليه على يد جبريل يأتي إليه(3)، وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنت أقوم على رأس المختار، فلمّا عرفت كذبه هممت أن
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ484 .
(2) المصدر نفسه صـ485 البداية والنهاية (11/67) .
(3) البداية والنهاية (11/68) .(2/423)
أسُلَّ سيفي فأضرب عنقه، فذكرت حديثاً حدّثناه عمرو بن الحمق قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أمَّن رجلاً على نفسه فقتله، أعطي لواء غدر يوم القيامة(1)، وقد قيل لابن عمر: إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه. فقال: صدق، قال الله تعالى: ((وإنَّ الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)) الأنعام ، الآية: 120). وعن عكرمة قال: قدمت على المختار، فأكرمني وأنزلني حتى كان يتعهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج فحدِّث الناس. قال: فخرجت فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: ((بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)) (يوسف ، الآية : 3) وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) (الأنعام ، الآية : 112) قال: فهمُّوا بي أن يأخذوني، فقلت: ما لكم وذاك، إنِّي مفتيكم وضيفكم، فتركوني، وإنما أراد عكرمة، أن يعرّض بالمختار وكذبه في إدّعائه أن الوحيّ ينزل عليه(2)قال ابن كثير: وذكر العلماء أن الكذَّاب هو المختار بن أبي عبيد، وكان يظهر التشيع ويبطن الكهانة ويُسّرُ إلى أخصّائه أنّه يوحى إليه. ولكن ما أدرى هل كان يدّعي النبوة أم لا؟، وكان قد وضِع له كرسي يُعَظَّمُ ويُحَقُّ بالرجال ويُسَترُ بالحرير، ويحمل على البغال، وكان يُضاهي به تابوت بني إسرائيل المذكور في القرآن، ولا شك أنَّه كان ضَالاًّ مضالاًّ، أراح الله المسلمين منه بعدما انتقم به من قوم آخرين من الظالمين(3)، قال تعالى ((وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (الأنعام ، الآية : 129)، وتسليط الظالم على الظالم سنة من سنن الله في حركة المجتمعات واضحة المعالم في دراسة تاريخ
__________
(1) سنن ابن ماجة رقم 2688 حديث صحيح .
(2) البداية والنهاية (11/69) .
(3) المصدر نفسه (11/71) .(2/424)
الإنسانية.
3 ـ أسباب فشل حركة المختار:
أ ـ نفور أشراف العرب في الكوفة وما يمثلون من حول وقوة وقتالهم له، ثم توجه من سلم إلى مصعب بن الزبير في البصرة واشتراكهم معه في القتال ضد المختار.
ب ـ إصابته بالغرور بحيث أنه طرد عمر بن علي بن أبي طالب لأنه لم يحظر له كتاباً من ابن الحنفية حيث قال له: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي(1)، فتركه وذهب إلى مصعب ليعود معه ليقاتله.
جـ ـ تجهيز مصعب جيشاً كبيراً وانضمام المهلب بن أبي صفرة واشتراكه معه في القتال. بينما لم يشترك قائد المختار إبراهيم بن الأشتر ولذلك لم يكن القتال متعادلاً
ح ـ اكتشاف كذب المختار، فقد قال الشعبي بأن ابن الحنفية لم يرسل مع المختار كتاباً لابن الأشتر(2)، ولم تخف الرسالة عليه فقد شك فيها لولا من شهد مع المختار، وقد عرف أشراف العرب ذلك وقالوا: هذا كذاب(3).
س ـ تخلي ابن الحنفية عن المختار، فقد قام على باب الكعبة وقال: أنه كان كذاباً يكذب على الله ورسوله(4)، بل أكثر من ذلك فقد روى الطبري إن ابن الحنفية كتب إلى شيعته: فاخرجوا إلى المجالس والمساجد فاذكروا الله علانية وسراً ولا تتخذوا من دون المؤمنين بطانة، فإن خشيتم على أنفسكم فاحذروا على دينكم الكذابين(5).
__________
(1) تاريخ الدولة الإسلامية ابن الطقطقي صـ121 ، عبد الله بن الزبير للناطور صـ159 .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد الله بن الزبير للناطور صـ159 .
(3) إمبراطورية العرب صـ156 ، غلوب نقلاً عن ابن الزبير للناطور صـ159 .
(4) الطبقات الكبرى (5/158) .
(5) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد الله بن الزبير للناطور صـ159 .(2/425)
ش ـ ابتداع المختار لأمر غريب في الإسلام إلا وهو الكرسي، فقد جاء بكرسي ثم قال لأصحابه: إنه لم يكن في الأمم الخالية أمراً إلا وهو كائن في هذه الأمة مثله، وإنه كان في بني إسرائيل التابوت فيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وإن هذا فينا مثل التابوت، اكشفوا عنه، فكشفوا عنه أثوابه، وقامت السبئية فرفعوا أيديهم فكبّروا ثلاثاً(1).
ع ـ حاجة ابن الزبير الماسة إلى العراق فهي مصدر المال والرجال الوحيد بعد ضياع الشام ومصر، وبقاء المختار في العراق يهدد مكانته وتقطع عليه الوصول إلى بلاد فارس التي لاتزال على طاعته(2).
4 ـ الفرقة الكيسانية وعلاقتها بالمختار:
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن عبد الله بن الزبير للناطور صـ159 .
(2) عبد الله بن الزبير للناطور صـ159 .(2/426)
... أما كيسان المنسوبة إليه(1) مختلف فيه، لكن الذي لا خلاف عليه أن المختار ابن أبي عبيد الثقفي تزعم الفرقة سنة 66هـ بالكوفة وكانت الفرقة الكيسانية من الشيعة الغلاة، وكان المختار الثقفي أول من أكد فكرة المهدية في شخص محمد بن الحنفية حيث أطلق عليه لقب المهدي، كما استخدم فكرة (البداء) وقد اشتهرت هذه المقولة قبيل قتل المختار 67هـ وكان المختار ـ أيضاً ـ يقول بالبداء الذي هو من أصول الرافضة الأولى، فإن المختار كان قد تكهن بنصر أصحابه، فلما انهزموا زعم أن الله بدا له(2)، وبهذه الفكرة الشيطانية مكنته من تغيير آرائه من حين لآخر ـ هذا فضلاً عن إظهار نفسه بمظهر النبي وإقراره لفكرة الكرسي الذي ادعى أنه يعود للإمام علي رضي الله عنه إلى غير ذلك من الآراء المبتدعة(3)، وقد تطورت معتقدات الكيسانية ودخلوا في النفق الشيطاني المظلم، وكانوا يقولون بإمامة ابن علي المعروف بابن الحنفية، لأنه دفع إليه الراية بالبصرة(4).وقالوا بالتناسخ ويزعمون أن الإمامة جرت في علي ثم في الحسن ثم في الحسين ثم في محمد بن الحنفية، ومعنى ذلك أن روح الله صارت في النبي صلى الله عليه وسلم، وروح النبي صلى الله عليه وسلم صارت في علي، وروح الحسين صارت في محمد بن الحنفية، وروح ابن الحنفية صارت في ابنه أبي هاشم(5). ويعتقدون في ابن الحنفية اعتقاد فوق حده ودرجته، من: احاطته بالعلوم كلها، واقتباسه من
__________
(1) أهو كيسان مولى على بن أبي طالب الذي قتل يوم صفين؟ أم كيسان تلميذ محمد الحنفية؟ أم كيسان رئيس حرس المختار بن عبيد الثقفي؟ أم هو المختار نفسه لأنه كان يسمى كيسان ويكنى أبا عمرة وأبا إسحاق؟ (الملل والنحل 1/133) .
(2) الفَرق بين الفِرقصـ55 ، 56 ، دراسات في الأهواء والفرق صـ248 .
(3) نشأة الحركات السياسية والدينية في الإسلام د.فاروق فوزي صـ101 .
(4) المقالات والفرق صـ26 ، الشيعة العربية والزيدية صـ258 .
(5) الملل والنحل (1/131) .(2/427)
(السيدين) الأسرار بجملتها من علم التأويل والباطن وعلم الآفاق والأنفس(1). والحق أن ابن الحنفية لم يقر الغلو الذي قيل فيه، ولم يعترف بأنه المهدي المنتظر، وروى ابن سعد حديثاً رفعه إلى أبي العريان المجاشعي قال: فبلغ محمداً أنهم يقولون: إن عندهم شيئاً أي من العلم. قال: فقام فينا وقال: إنا والله ما ورثنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما بين هذين اللوحتين. ثم قال: اللهم خلا وهذه الصحيفة في ذؤابة سيفي فسألت وما كان في الصحيفة؟ قال: من أحدث حدثاً أو آوى محدثاً(2). وقال محمد للرجل الذي قابله وسأله عن أشياء سرية نميت إلى الرجل عن محمد: أما بعد فإياكم وهذه الأحاديث فإنها عيب عليكم، وعليكم بكتاب الله، فإنه به هُدِي أولكم وبه يُهدي آخركم(3).. ويظهر أن المختار هو الذي روّج فكرة مهدية محمد لأسباب سياسية أي أنه أراد يحكم باسمه دون إشراكه بالسلطة الفعلية. وعندما هم ابن الحنفية أن يقدم إلى الكوفة، وبلغ ذلك المختار فثقل عليه قدومه فقال: إن في المهدي علامة، يقدم بلدكم هذه فيضربه رجل في السوق بالسيف لم تضره.. فبلغ ذلك ابن الحنفية فأقام(4)
وقال كثير بن عزّة في ابن الحنفية:
... ... ... ... ألا إن الأئمةَّ من قريش
... ... ... ... ... ... ... ولاة الحقِّ أربعة سواء
... ... ... ... عليُّ والثلاثة من بنيه
... ... ... ... ... ... ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
... ... ... ... فسبط سبط إيمان وبرِّ
... ... ... ... ... ... ... وسبط غيَّبته كربلاء
... ... ... ... وسبط لا تراه العين حتى
... ... ... ... ... ... ... يقود الخيل يقدمها لواء
... ... ... ... تغيب ـ لا يُرى عنهم زمانا
... ... ... ... ... ... ... برضوى عنده عسل وماء(5).
__________
(1) المصدر (1/131) .
(2) الشيعة العربية والزيدية صـ259 .
(3) الطبقات (5/70) .
(4) سير أعلام النبلاء (4/118) .
(5) المصدر نفسه (4/112) .(2/428)
سادساً : حركة عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) ومقتله :
... نصت مقررات مؤتمر الجابية كما اشرنا على أن تكون الخلافة لعمرو بن سعيد الأشدق بعد مروان بن الحكم وخالد بن يزيد بن معاوية، وتجاوز مروان عمراً وبايع لابنيه عبد الملك، وعبد العزيز، الأمر الذي آثار نقمة عمرو، بعكس خالد بن يزيد الذي انصرف إلى العلم لاسيما الكيمياء(1)، وفي أول سنة 69 هـ خرج عبد الملك بجنوده يريد قرقيسيا، ليحاصر فيها زفر بن الحارث، واستخلف على دمشق عمرو بن سعيد بن أبي العاص ولم يكد عبد الملك يخرج بجيشه من دمشق، حتى تحصن بها عمرو بن سعيد، وأخذ ما في بيت المال من الأموال،، وتذكر رواية أخرى أن عمرو بن سعيد كان مع عبد الملك حين خرج إلى قرقيسيا ولكنه استغل فرصة الليل، وانخذل هو وجماعة معه من الجيش، ورجعوا إلى دمشق ففر والي دمشق من قبل عبد الملك عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي، ودخلها عمرو بن سعيد واستحوذ على ما فيها من الخزائن(2) وبعث عمرو إلى عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يجده، فأمر بهدم بيته واجتمع الناس وصعد عمرو المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنه لم يقم أحد من قريش قبلي على هذا المنبر إلا زعم أن له جنة وناراً، يدخل الجنة من أطاعه، والنار من عصاه،، وإني أخبركم أن الجنة والنار بيد الله، وأنه ليس إليَّ من ذلك شيء غير أن لكم عليّ حسن المواساة والعطية(3)، وأصبح عبد الملك فسأل عن عمرو بن سعيد فلم يجده، فكرّ راجعاً إلى دمشق، فوجد عمراً وقد تحصن بها، ودارت بينهما معركة استمرت ستة عشر يوماً(4)، ويبدو أن عبد الملك قد رأى موقف عمرو قوياً حيث كان متحضاً بقلعة رومية منيعة، فعرض الصلح فتصالحاً على ترك القتال(5).
1 ـ شروط عمرو بن سعيد بن العاص:
__________
(1) تاريخ خلافة بني أمية نبيه عاقل صـ152 .
(2) البداية والنهاية (11/114) .
(3) البداية والنهاية (11/115) .
(4) المصدر نفسه (11/115) .
(5) الأمويون للوكيل (1/369) .(2/429)
كانت شروطه كالآتي: على أن لعمرو بن سعيد الخلافة بعد عبد الملك(1)، وأن يكون له عامل مع كل عامل لعبد الملك وأن يستشيره في كل صغيرة وكبيرة(2)ويوليه الديوان وبيت المال(3)، وتبرز كتب التاريخ أسباباً عديدة دعت عبد الملك بالقبول بهذه الشروط منها:
أ ـ انقسام قبيلة كلب ذات القوة والتأثير السياسي في الأحداث آنذاك بين عبد الملك وعمرو الأشدق مما جعل كسب المعركة بالقوة يؤدي إلى خسائر فادحة لكلا الطرفين، ولم يكن لصالح كلب التي فرضت الصلح(4).
ب ـ سيطرة عمرو الأشدق على مدينة دمشق التي تعد العاصمة آنذاك وفيها بيت المال وديوان الجند اللذان يعدان عصب الحياة وكسب المؤيدين آنذاك.
جـ ـ وقوف أكثر القبائل اليمانية الأخرى على الحياة وعدم تدخلها في الصراع مما يجعل القرار الفعلي للصلح بيد قبيلة كلب ذاتها(5).
د ـ قوة عمرو الأشدق في الشام وخاصة في دمشق فقد أيدته دمشق فضلاً عن زعيم بجيلة عبد الله بن كريز القسري الذي كان مع شرطته(6).
و ـ ويمكن أن يكون قبول الاتفاقية من قبل عبد الملك لحل النزاع سلمياً ثم القيام بقتل عمرو الأشدق بعد اتفاقه مع بعض زعماء الشام وبني أمية(7).
2 ـ غدر عبد الملك بابن عمه عمرو بن سعيد:
__________
(1) الدور السياسي لأهل اليمن في الشام صـ85 .
(2) تاريخ خليفة نقلا عن الدور السياسي لأهل اليمن صـ85 .
(3) أنساب الأشراف(4/139) .
(4) نهاية الأرض (21/102) ، الدور السياسي لأهل اليمن صـ86 .
(5) الدور السياسي لأهل اليمن صـ87 .
(6) الدور السياسي لأهل اليمن صـ87 .
(7) الكامل في التاريخ نقلاً عن الدور السياسي لأهل اليمن صـ87 .(2/430)
... وبعد عقد الصلح ودخول عبد الملك دمشق بأربعة أيام، أرسل إلى عمرو أن إئتني.. فلما كان بعد الظهر لبس عمرو درعاً بين ثيابه، وتقلد سيفه فلما نهض عثر في البساط، فقالت امرأته وبعض من كان حاضراً عنده: إنا لا نرى أن تذهب إليه، فلم يعبأ بكلامهم، ومضى في مائة من عبيده، وكان عبد الملك قد أمر بني مروان بالحضور عنده، وأمر حاجبه أن يدخل ابن سعيد ويغلق الباب دون من معه.. ثم غُلقت الأبواب واقترب عمرو من عبد الملك، فرحب به وأجلسه معه على السَّرير، ثم جعل يحدثه طويلاً. ثم إن عبد الملك قال: يا غلام، خذ السيف عنه، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك: أو تطمع أن تتحدَّث معي متقلِّداً سيفك؟ فأخذ الغلام السيف عنه، ثم تحدَّثا ساعة، ثم قال له عبد الملك: يا أبا أمية. قال: لبيك يا أمير المؤمنين قال: إنك حيث خلعتني آليت بيميني إن ملأتُ عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة. فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أُطلقه، وما عسيت أن أفعل بأبي أميّة؟ فقال بنو مروان: أبرَّ قسم أمير المؤمنين فقال عمرو: فأبرَّ قسمك يا أمير المؤمنين. فأخرج عبد الملك من تحت فراشه جامعه فطرحها إليه، ثم قال: يا غلام، قم فاجمعه فيها. فقام الغلام فجمعه فيها، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن تُخرجني فيها على رؤوس الناس فقال عبد الملك: أمكراً يا أبا أمية عند الموت؟ لاها اللهِ إذا، ما كنّا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ولمّا نخرجها منك إلا صعدا(1). ثم اجتذبه اجتذابة أصاب فمه السرير فكسر ثنيَّته، فقال عمرو: أُذكِّرُك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظمي إلى ما هو أعظم من ذلك. فقال عبد الملك والله لو أعلم أنّك إذا بقيت تفي لي وتصلح قريش لأطلقتك ولكن ما اجتمع رجلان قطّ في بلد على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه(2)
__________
(1) الصعد : المشقة . وعذاب صعد : شديد .
(2) البداية والنهاية (11/117) .(2/431)
، وجاء في رواية: أن عبد الملك كلّف أخاه عبد العزيز بقتله. وخرج لصلاة العصر ولما رجع من صلاته وجد أخاه لم يقتله فلامه وسبّه وسبّ أمه ـ ولم تكن أم عبد العزيز أم عبد الملك ـ فقال: إنه ناشدني الله والرحم وكان ابن عمة عبد الملك بن مروان، ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة، فأتاه بها فهزها وضربه بها فلم تغن شيئاً، ثم ثنى فلم تغن شيئاً، فضرب بيده إلى عضد عمرو فوجد مس الدرع فضحك وقال: ودارعٌ أيضاً، إن كنت لمُعِدّا، يا غلام ائتني بالصمّصامة، فأتاه بسيفه ثم أمر بعمرو فصُرع فجلس على صدره فذبحه وهو يقول:
يا عمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
وانتفض عبد الملك بعد ما ذبحه كما تنتفض القصبة برعدة شديدة جدا بحيث إنهم ما رفعوه عن صدره إلا محمولا فوضعوه على سريره وهو يقول: ما رأيت مثل هذا قط قتلة، صاحب دنيا ولا طالب آخرة. ودفع الرأس إلى عبد الرحمن بن أمّ الحكم، فخرج به للناس فألقاه بين أظهرهم وخرج عبد العزيز بن مروان ومعه البدرُ(1)من الأموال تحمل، فأُلقيت بين الناس فجعلوا يختطفونها، ويقال: إنها استرجعت بعد ذلك إلى بيت المال، ويقال: إن الذي ولي قتل عمرو بن سعيد مولى عبد الملك أبو الزُّعيزعة بعد ما خرج عبد الملك في الصلاة(2). وهكذا تخلص عبد الملك من منافس قوي له ولم يبالي بنقض العهود، وسفك الدماء فالطريق نحو الملك جعله يتخلص من ابن عمته عمرو بن سعيد، ومن أحب الأصدقاء إليه مصعب بن الزبير، ومن أفضل أهل الأرض في زمانه على حد تعبيره عبد الله بن الزبير،
سابعاً: مصالحة عبد الملك للروم والتضييق على الجراجمة:
__________
(1) البدر : جمع بدرة : وهي كيس فيه مقدار من المال يتعامل ويقدم في العطايا .
(2) البداية والنهاية (11/119) .(2/432)
نظراً للاضطرابات الداخلية في دولة عبد الملك اضطر عبد الملك إلى مصالحة الروم على أن يدفع لهم 365 ألف قطعة ذهبية، 360 عبداً و330 جواداً أصيلاً سنوياً وأن تقسم الدولة البيزنطية والدولة الأموية خراج قبرص وأرمينيا(1)، وارتهن منهم رهائن وضعهم في بعلبك(2)في مقابل ذلك يسحب ملك الروم الجراجمة إلى وسط الإمبراطورية البيزنطية(3)، ولم يمتنع عبد الملك عن مصالحة الجراجمة في جبل اللكام ووافق على أن يدفع لهم ألف دينار كل جمعة(4)، ولكن سرعان ما سنحت الفرصة لعبد الملك للتخلص من الجراجمة فبعد أن عقد الصلح معهم أرسل أحد قادته الثقات سحيم بن المهاجر إلى القائد البيزنطي والذي كان على رأس الجراجمة ونجح في كسب ثقته، ثم كاده بقوات دبرها لهذا الشأن فقتل القائد البيزنطي وهرب أصحابه وأمّن الباقين فرجع العبيد إلى أسيادهم والأنباط إلى قراهم(5)، كما أن الاتفاقية مع الدولة البيزنطية لم تدم طويلاً، لأن الروم نقضوا العهد كما أن عبد الملك استطاع القضاء على ابن الزبير وتوحيد الدولة تحت زعامته مما جعله يفكر بالرد على تحديات البيزنطيين المتكررة فعين أخاه محمد بن مروان سنة 73 هـ(6)، فشرع في غزوهم سنة 74 هـ(7).
ثامناً: زفر بن الحارث الكلابي:
__________
(1) الدولة البيزنطية صـ158، الدور السياسي لأهل اليمن صـ90 .
(2) فتوح البلدان (1/190) .
(3) المصدر نفسه (1/190)، الدور السياسي لأهل اليمن صـ90 .
(4) انساب الأشراف (5/299ـ300) ، الدور السياسي صـ90 .
(5) انساب الأشراف (5/301) .
(6) الكامل لأبن الأثير نقلاً عن الدور السياسي صـ92 .
(7) الكامل في التاريخ (3/84) .(2/433)
ظل القيسيون الموتورون في مرج راهط على ولائهم لابن الزبير، وكان أحد كبار زعمائهم ـ زفر بن الحارث الكلابي ـ قد فر إلى قرقيسيا، وتحصن بها وثابت إليه قيس وأصبح تجمعه هناك مركزاً لشن الغارات على كلب في المناطق المجاورة له، مما كان يسبب إحراجاً بالغاً لعبد الملك الذي كان يطمح إلى استعادة بقية بلدان العالم الإسلامي تحت سيادته وسلطانه وكان في هذه الفترة يوجه كل جهوده لاستعادة العراق من سيطرة مصعب بن الزبير وكان لابد لعبد الملك إذا أراد أن يضم إليه العراق، وينهي سيطرة الزبيريين عليه، من أن ينهي اعتصام زفر بن الحارث في قرقيسيا، فسار إليه في جيشه الذي كان جهزه لحرب مصعب بن الزبير وبدأ بزفر أولاً فحاصره ولكن رجال زفر أبدوا بطولة عجيبة وانتزعوا إعجاب عبد الملك الذي قال: لا يبعد الله رجال مضر، والله إن قتلهم لذل، وإن تركهم لحسرة(1)، ولجأ عبد الملك إلى المسالمة وكتب إلى زفر يدعوه إلى طاعته ويرغبه فيها ويهدده إن لم يقبل ذلك، وبعد جهود ومفاوضة أرسل إليه زفر يجيبه إلى طلبه، ويشترط عليه أن يبقى له الخيار في أن يظل مخلصاً لابن الزبير أو ينضم إلى عبد الملك، ورغم ذلك فقد وافق على شرطه، وأعطاه الأمان وابنه وقائده الهذيل بن زفر، وجميع أتباعهما، ولم يأخذ بمال أو دم أهدره، بل أعطى عبد الملك الزعيم القيسي مبلغاً من المال يوزعه بين أتباعه، ثم أختتم ذلك العمل بأن زوج ابنه مسلمة بن عبد الملك بالرباب بنت زفر بن الحارث، كما أمر زفر ابنه الهذيل أن ينضم إلى جيش عبد الملك المتجه إلى حرب مصعب بن الزبير، إذ لم يكن على ولده ما عليه هو من بيعة ابن الزبير(2)، وحرص عبد الملك إلى تحقيق التوازن بين القبائل اليمانية والقيسية وجعل في أصحابه زفر بن الحارث الكلابي وابنيه الهذيل وكوثراً وعبد الله بن مسعدة الفزاري وغيرهم من زعماء قيس، كما كان في أصحابه حسان بن
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/61) .
(2) الكامل في التاريخ (3/62) .(2/434)
مالك الكلبي، وروح بن زنباع الجذامي ورجاء بن حيوه الكندي وغيرهم من زعماء اليمانية، وكما عدل بين الفريقين في مجلسه عدل بينهم في وظائفه فكان يختار ولاته على الأمصار من القيسية غالباً بينما يختار موظفي بلاطه من اليمانية وهكذا(1).
تاسعاً: ضم العراق والقضاء على مصعب بن الزبير:
بعد أن استعاد ابن الزبير نفوذه على العراق أصبحت المواجهة محتومة بينه وبين عبد الملك، الذي قرر أن يقود المعركة بنفسه بعد أن شاور خاصته في ذلك، فمنهم من أشار عليه أن يقيم في الشام، ويرسل واحداً من أهله ليقود الجيش، ومنهم من أشار عليه بأن يسير بنفسه، فمال هو على هذا الرأي. وقال: إنه لا يقوم بهذا الأمر إلا قرشي له رأي، ولعلي أبعث من له شجاعة ولا رأي له، وإني بصير بالحرب، شجاع بالسيف إن احتجت إليه، ومصعب شجاع من بيت شجاعة ولكنه لا علم له بالحرب.. ومعه من يخالفه، ومعي من ينصح لي(2). عزم عبد الملك إذن على السير إلى العراق لانتزاعه من ابن الزبير وكان ذلك في سنة 71 هـ أي بعد أربع سنين من القضاء على المختار ولعله أخر الصدام مع ابن الزبير إلى هذا الوقت متعمداً، فهو لم يشأ أن يسير إلى العراق إلا بعد أن يوطد دعائم حكمه في الشام، فقضى هذه السنين في تحقيق هذا الهدف فقد حل مشاكله مع زفر بن الحارث الكلابي الذي كان معتصماً في قرقيسيا(3)، مهدداً بذلك إقليم الجزيرة كله، وقد عالج عبد الملك مشكلة زفر بالحكمة والسياسة، وأصطلح معه، وأنهى بذلك مسألة قرقيسياء التي استمرت حوالي سبع سنين كالشوكة في جنب دولته، واحكم سيطرته على إقليم الجزيرة(4)، ثم تخلص من منافسه الخطير، وهو عمرو بن سعيد الأشدق(5) ولما أراد الخروج للعراق ودّع زوجته عاتكة
__________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ386 .
(2) الكامل في التاريخ (3/51) .
(3) الكامل في التاريخ (3/59) .
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ501 ، نقلاً عن الكامل في التاريخ.
(5) البداية والنهاية (11/119) .(2/435)
بنت يزيد بن معاوية، فبكت وبكى جواريها لبكائها فقال:قاتل الله كثير عزة لكأنه يشاهدنا حين قال:
إذا ما أراد الغزو لم يثن همّهُ
حَصانٌ عليها عِقدُ دُرٍ يزينها
نهته فلما لم تر النّهي عاقه
بكت وبكى ممّا عناها قطينها(1)
وسارع عبد الملك إلى العراق بجيشه وجعل على مقدمته أخاه محمد بن مروان ونزل بمسكن وكان مصعب قد علم بمسيره، ونزل بمسكن مقدمته إبراهيم بن الأشتر، ونزل باجميرا(2)، وأخذ عبد الملك يكاتب زعماء أهل العراق من جيش مصعب يعدهم ويمنيهم، وكان إبراهيم بن الاشتر قائد جيوش المختار الثقفي قد انضم إلى مصعب بعد مقتل المختار، قد كتب إليه عبد الملك أيضاً، فأخذ الكتاب مختوماً ودفعه إلى مصعب، فقال له: ما فيه فقال له: ما قرأته: فقرأه مصعب فإذا هو يدعوه إلى نفسه، ويجعل له ولاية العراق، فقال لمصعب: إنه والله ما كان من أحد آيس منه منى، ولقد كتب إلى أصحابك كلهم بمثل الذي كتب إلي، فأطعني فيهم فاضرب أعناقهم قال: إذا لا تنصحنا عشائرهم، قال: فأوقرهم حديداً، وابعث بهم إلى ابيض كسرى فاحبسهم هناك، ووكل بهم على عشائرهم، فقال: يا أبا النعمان إني لفي شغل عن ذلك، يرحم الله أبا بحرـ الأحنف بن قيس ـ إنه كان ليحذرني غدر أهل العراق، كأنه ينظر إلى ما نحن فيه(3). وهذا ليس غريباً على أهل العراق، فلهم في الغدر وتغيير المواقف سجل حافل. بل لقد صرح عبد الملك بأن كتبهم كانت تأتيه يدعونه إليهم قبل أن يكتب هو إليهم(4). ولم يكن هذا خافياً في معسكر مصعب، فعندما استدعى المهلب بن أبي صفرة ـ وكان من رجاله في ذلك الوقت ـ يستشيره، قال له: أعلم أن أهل العراق قد كتبوا عبد الملك وكاتبهم، فلا تبعدني عنك. فقال له مصعب: إن أهل البصرة قد أبوا أن يسيروا حتى أجعلك على قتال الخوارج، وهم قد بلغوا سوق الأهواز، وأنا
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/51)، قطينها : خدمها.
(2) تاريخ الطبري (7/43) .
(3) الكامل في التاريخ (3/52)
(4) المصدر نفسه (3/52) .(2/436)
أكره إذا سار عبد الملك إليّ أن لا أسير إليه، فاكفني هذا الثغر(1). في الوقت الذي كان عبد الملك يكاتب فيه زعماء أهل العراق من قواد مصعب والذين قبلوا التخلي عنه والانضمام إليه(2). كان حريصاً على ألا يقاتل مصعباً، للمودة والصداقة القديمة التي كانت بينهما فأرسل إليه رجلاً من كلب، وقال له: أقرى ابن أختك السلام ـ وكانت أم مصعب كلبيةـ وقل له يدع دعاءه إلى أخيه، وأدع دعائي إلى نفسي، ويجعل الأمر شورى فقال له مصعب: قل له السيف بيننا(3).
__________
(1) المصدر نفسه (3/51) .
(2) تاريخ الطبري (7/44) .
(3) الكامل في التاريخ (3/52) .(2/437)
ثم حاول عبد الملك محاولة أخرى: فأرسل إليه أخاه محمد ليقول له: إن ابن عمك يعطيك الأمان، فقال مصعب إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالباً أو مغلوباً(1). ثم دارت المعركة فبدأت خيانات أهل العراق تظهر فقد أمد مصعب إبراهيم بن الأشتر بعتاب ابن ورقاء، وهو من الذين كانوا كاتبوا عبد الملك، فاستاء إبراهيم من ذلك وقال: قد قلت له لا تمدني بعتاب وضربائه، إنا لله وإنا إليه راجعون، فانهزم عتاب بالناس. فلما أنهزم صبر ابن الأشتر فقتل(2)، فكان مقتله خسارة كبرى لمصعب، لأنه فوق شجاعته، كان مخلصاً له غاية الإخلاص، ولذلك لما أشتد القتال على مصعب وتحرج موقفه صاح قائلاً: يا إبراهيم ولا إبراهيم لي يوم(3)، تخلى أهل العراق عن مصعب وخذلوه، حتى لم يبق معه سوى سبعة رجال(4)ولكنه ظل يقاتل في شجاعة وبسالة، حتى أثخنته الجراح، وأخيراً قتله زياد بن ظبيان. وكان مقتله في المكان الذي دارت فيه المعركة على قصر دجيل عند دير الجاثليق(5)في جمادى الآخرة سنة72هـ. فلما بلغ عبد الملك مقتله قال: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة ولكن هذا الملك عقيم(6)، وبمقتل مصعب انتهت المعركة، فدخل عبد الملك الكوفة، وبايعه أهلها، وعادت العراق إلى حظيرة الدولة الأموية. وعين عبد الملك أخاه بشراً والياً عليها، وقبل أن يغادرها أعد جيشاً للقضاء على ابن الزبير بمكة.
1 ـ أسباب هزيمة مصعب بن الزبير:
هناك أسباب كثيرة ساهمت في هزيمة مصعب بن الزبير منها:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/45) .
(2) الكامل في التاريخ (3/53) .
(3) تاريخ الطبري (7/45) .
(4) الكامل في التاريخ (3/54،53) .
(5) تاريخ الطبري (7/44) .
(6) تاريخ الطبري (7/47) .(2/438)
أ ـ عدم اشتراك المهلب بن أبي صفرة، ومن معه من الجنود، وهو المقاتل العنيد والخبير في شؤون الحرب، وإصرار مصعب بن الزبير على بقائه في قتال الخوارج بناء على رغبة أهل البصرة، علماً بأن المهلب قال: لا تبعدن عنك(1)، ولو لم يبعد مصعب المهلب لتمَّ الاستفادة من جيشه ومن قدرة وخبرة هذا القائد.
ب ـ خيانة قادة الفضائل من الجيش الزبيري من العراقيين بناء على الأماني التي مناهم إياها عبد الملك، وعدم قدرة مصعب على ثنيهم بعد اكتشاف خيانتهم.
جـ ـ عدم إغراق أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير الأموال، والأعطيات على أعيان وأشراف أهل العراق لما جاءوا إلى مكة مع مصعب.
ر ـ غضب بعض الشيعة لمقتل المختار، فلقد رأوا في المختار بأنه هو الذي انتقم من قتلة الحسين، بحيث لم يترك أحداً، ولهذا عبّر زائدة بن قدامة عندما طعن مصعب وقال:يالثارات المختار(2).
ز ـ قلة الخبرة العسكرية لدى مصعب على الرغم من شجاعته وإقدامه وبطولته التي اعترف بها خصمه.
س ـ أنهاك جيش الزبيريين فقد خاضوا معارك عدة في العراق بينما كان جيش الأمويين مرتاحاً، فلما رأوا جنود خصمهم تواكلوا وشملهم الرعب(3).
ش ـ عدم مد الخليفة"عبد الله بن الزبير" لأخيه بالقوات والجند، وكان الأجدر به أن يمده بكل ما يستطيع، لأن ضياع العراق من يديه يعني فقدان الموارد المالية وبداية الانهيار السياسي(4).
2 ـ أثر مقتل مصعب على ابن الزبير وخطبته:
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/51) .
(2) الكامل في التاريخ (3/54) .
(3) تجديد الدولة الأموية للناطور صـ80 .
(4) المصدر نفسه صـ80 .(2/439)
... ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب، قام فخطب في الناس، فقال: الحمد لله الذي له الخلق والأمر، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ألا أنه لن يُذلل الله من كان الحق معه، وإن كان فرداً، ولم يعز من كان وليه الشيطان وحزبه وإن كان معه الأنام طُرّاً ألا وإنه قد أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا، أتنا قتل مصعب ـ رحمه الله ـ فأما الذي أفرحنا فعلمنا أنه قتله له شهادة، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة، ثم يرعوي بعدها ذوي الرأي إلى جميل الصبر، وكريم العزاء ولئن أصبتم بمصعب لقد أصبت بالزبير قبله، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله وعون من أعواني، إلا إن أهل العراق أهل الغدر والنفاق، أسلموه وباعوه بأقل الثمن، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو العاص، والله ما قتل منهم رجل في زحف في الجاهلية ولا الإسلام وما نموت إلا قعصاً(1) بالرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. ألا إنما الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه، ولا يبيد ملكه، فإن تقبل لا آخذها أخذ الأشِر البَطر، وإن تدبر لا أبك عليها بكاء الحَرِقَ المَهين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم(2).
3 ـ رأي عبد الملك في مصعب بن الزبير:
__________
(1) القعص : الموت السريع .
(2) تاريخ الطبري (7/53) .(2/440)
... لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك، بكى وقال: ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له، حتى دخل السيف بيننا، ولكن الملك عقيم(1). لقد نسى عبد الملك كل ما كان بينه وبين مصعب ولم يذكر إلا الكرسي وسلطة الحكم، حتى إذا ما تم له الأمر، وخلص له الحكم، أخذ يتحدث عن ما كان بينهما من المودة والخُلة، وراح يذكر محاسنه في مجالسه، وهو يعلم أن ذلك لن يضر ملكه شيئاً(2). روى ابن كثير أن عبد الملك قال يوماً لجلسائه من أشجع العرب قالوا شبيب، قطرُّ بن الفجاءة فلان، فلان. فقال عبد الملك: إن أشجع العرب لرجل جمع بين سكينة بنت الحسين، وعائشة بنت طلحة، وأمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كُريز وأمّه رباب بنت أُنيف الكلبي، سيد ضاحية العرب، وولي العراقين خمس سنين فأصاب ألف ألف، وألف ألف، وألف ألف، وأعطى الأمان فأبى ومشى بسيفه حتى مات ذلك مصعب بن الزبير، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ومرّة هاهنا(3). إن مدح مصعب الآن لا يضر عبد الملك شيئاً، فقد مضى إلى ربه، وترك له الدنيا بزخارفها، فهو الآن، وبعد أن لم يعد مصعب يشكل خطراً على ملك عبد الملك، فلا بأس بأن يذكر محاسنه، ولا بأس بأن يؤبنه ولهذا لما جيء برأس مصعب إلى عبد الملك قال: واروه فقد والله كانت الحرمة بيننا قديمة، ولكن هذا الملك عقيم، وأمر به وابنه عيسى فدفنا(4).
4 ـ ما قيل من رثاء في مصعب بن الزبير:
... اشتهر عبيد الله بن قيس الرقيات بالدفاع عن الحركة الزبيرية وكان شاعرها الأول ومما قاله في رثاء مصعب بن الزبير:
... ... ... ... نَعَتِ السحائِبُ والغمام بأسرها
... ... ... ... ... ... ... ... جسداً بمسكِنَ عاري الأوصال
... ... ... ... تُمسي عوائده السِّباع وداره
... ... ... ... ... ... ... ... بمنازل أطلالهن بَوَالي
__________
(1) تاريخ الطبري (7/47) .
(2) الأمويون (1/380) .
(3) البداية والنهاية (11/152) .
(4) تاريخ الطبري ، الأمويون للوكيل (1/381) .(2/441)
... ... ... ... رحل الرِّفاق وغادروه ثاوياً
... ... ... ... ... ... ... ... للرِّيح بين صَباَ وبين شمالِ(1)
5 ـ سكينة بنت الحسين زوجة مصعب بن الزبير:
... كتب مصعب إلى زوجته سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب بعد خروجه من الكوفة بليال:
... ... ... ... وكان عزيزاً أن أبيت وبيننا
... ... ... ... ... ... ... ... حجاب فقد أصبحت مني على عشر
... ... ... ... وأبكاهما للعين والله فاعلمي
... ... ... ... ... ... ... ... إذا ازددت مثليها فصرت على شهر
... ... ... ... وأبكي لقلبي منهما أنني
... ... ... ... ... ... ... ... أخاف بأن لا نلتقي آخر الدهر
... وقيل دخل مصعب على سكينة يوم قتل، فنزع ثيابه ولبس غلالة، وتوشح بثوب، وأخذ سيفه، فعلمت سكينه أنه لا يريد أن يرجع، فصاحت: واحزناه عليك يا مصعب، فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها عنه، فقال: أوكل هذا لي في قلبك؟ قالت: وما أخفي أكثر، فقال: لو كنت أعلم هذا كانت لي ولك حال، ثم خرج فلم يرجع، ولما قتل مصعب خرجت سكينة تطلبه في القتلى فعرفته بشامة في خده، فأكبت عليه وقالت: يرحمك الله، نعم والله خليل المسلمة كنت أدرك والله ما قال عنترة:
وحليل غانية تركت مجندلاً
... ... ... ... ... ... ... ... بالقاع لم يعهد ولم يتكلم
... ... ... ... فهتكت بالرمح الطويل إهابه
... ... ... ... ... ... ... ... ليس الكريم على القنا بمحرم(2)
... وقالت سكينة في رثاء مصعب:
... ... ... ... فإن تقتلوه تقتلوا الماجد الذي
... ... ... ... ... ... ... ... يرى الموت إلا بالسيوف حراماً
... ... ... ... وقبلك ما خاض الحسين منية
... ... ... ... ... ... ... ... إلى القوم حتى أوردوه حماما(3)
المبحث الرابع : نهاية أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
__________
(1) البداية والنهاية (11/156) .
(2) المنتظم لابن الجوزي (6/114 ، 115) .
(3) موقف الشعر من الحركة الزبيرية صـ60 .(2/442)
أولاً : محاولات الأمويين إخضاع الحجاز قبل حصار ابن الزبير الأخير:
... كانت المناوشات مستمرة بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان على الجبهة الحجازية ومن أهم الحملات التي شنها الطرفين.
1 ـ حملة حبيش بن دلجة القيني: تكاد تجمع الروايات أن مروان بن الحكم هو الذي أرسل هذه الحملة إلى الحجاز وذلك بعد مقدمه من مصر(1). والذي يظهر أن هذه الحملة أرسلت في أواخر عهد مروان بن الحكم حيث توفي مروان قبل أن تكمل مهمتها، الأمر الذي حدا ببعض المؤرخين أن يذكروا أن عبد الملك بن مروان هو الذي أرسل هذه الحملة(2)، وكان عدد أفراد هذه الحملة يتراوح ما بين 6400 إلى 7000 رجل(3)، واستطاع ابن الزبير أن يتغلب على هذا الجيش، فقد أرسل الحارث بن أبي ربيعة وكان والياً على البصرة جيشاً بقيادة الحنتف بن السجف التميمي لمواجهة جيش حبيش بن دلجة ومن جهته أرسل ابن الزبير جيشاً آخر بقيادة عباس بن سهل بن سعد الأنصاري ليلتقي بجيش الحنتف ويتحدان للقضاء على جيش حبيش وهذا ما تمّ فعلاً(4)، بالربذة(5).
2 ـ حملة نائل بن قيس الجذامي: أرسل ابن الزبير نائلاً بحملة بعد وفاة الحنتف بن السجف بوادي القرى وأمره أن يعبر إلى نواحي الشام وأن يكون مسلحة بها(6)، وفي رواية أخرى تذكر أن ابن الزبير بعث نائلاً بعد وفاة مروان، وأمره أن يأتي فلسطين(7)، وعلى اية حال فكلا الروايتين تتفقان على أن عبد الملك بن مروان استطاع أن يقضي على نائل بن قيس (بأجنادين)(8)، وقد قتل نائل وأصحابه بفلسطين 66هـ.
__________
(1) تاريخ الطبري ، نقلاً عن عبد الله بن الزبير للخراشي صـ181 .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ181 .
(3) المصدر نفسه صـ181 .
(4) تاريخ الطبري (6/553) .
(5) أنساب الأشراف (5/151 ـ 153) .
(6) المصدر نفسه (5/158) .
(7) المصدر نفسه (5/159) .
(8) أجنادين : من نواحي فلسطين ، ياقوت معجم البلدان (1/103) .(2/443)
3 ـ حملة عروة بن أنيف: بعث عبد الملك عروة بن أنيف في ستة آلاف إلى المدينة وأمرهم أن لا ينزلوا على أحد، ولا يدخلوا المدينة إلا لحاجة ضرورية أو يعسكروا ((بالعرصة))(1) وسار عروة بن أنيف وعسكر بالعرصة، وتشير الرواية إلى أن الحارث بن حاطب ـ عامل ابن الزبير على المدينة ـ هرب منها، وكان عروة يدخلها ويصلي الجمعة بالناس ثم يعود إلى معسكره، ومكث عروة على هذا الوضع شهراً، ولم يبعث إليه ابن الزبير أحداً، ولم يحدث أي مواجهة بين جيش عروة وابن الزبير، عندها أمر عبد الملك هذا الجيش بالعودة إلى الشام فرجع(2).
4 ـ حملة عبد الملك بن الحارث بن الحكم: أرسل عبد الملك بن مروان هذه الحملة وقوامها أربعة آلاف إلى المدينة وكانت مهمتها الحفاظ على المنطقة ما بين الشام والمدينة. عسكر عبد الملك بن الحارث بوادي القرى ومن هناك أرسل فرقة قوامها خمسمائة رجل بقيادة أبي القمقام إلى سليمان بن خالد ـ عامل ابن الزبير على خيبر وفدك ـ للقضاء عليه وقد حاول سليمان الهرب منهم لكنهم أدركوه وقتلوه(3)ولم يستطع ابن الزبير عمل شيء حيال ذلك سوى عزله الحارث بن حطاب وتولية جابر بن الأسود مكانه، وأرسل جابر بن الأسود من جهته حملة بقيادة أبي بكر بن أبي قيس إلى أبي القمقام بخيبر، واستطاع أبو بكر أن يلحق بخصمه الهزيمة(4).
__________
(1) العرصة : وهما عرصتان بنواحي المدينة بالعقيق .
(2) الطبقات نقلاً عن عبد الله ابن الزبير للخراشي صـ185 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ185 نقلاً عن الطبقات
(4) المصدر نفسه صـ186، نقلا عن الطبقات.(2/444)
5 ـ حملة طارق بن عمرو: كانت هذه الحملة هي آخر حملة وجهها عبد الملك بن مروان تجاه الحجاز وكان الهدف منها أن يسيطر فيما بين(( أيلة)) و((وادي القرى)) ويكون مدداً لمن يحتاج إليه من عمال عبد الملك بن مروان، وفي الوقت نفسه تكون سداً أمام تحركات ابن الزبير وطلب ابن الزبير من واليه على البصرة إرسال قوات لحماية المدينة، فأرسل إليه ألفي رجل بقيادة ابن رواس واستطاعت تلك القوات حماية المدينة ولكن ما لبث ابن الزبير أن أمر ابن رواس بالمسير إلى طارق بن عمرو وكانت نتيجة الصدّام انتصار طارق بن عمرو وعاد طارق بن عمرو إلى أم القرى ملتزماً بالمهمة التي أوكلها له عبد الملك(1).
ثانياً : الحصار الثاني وسقوط خلافة ابن الزبير:
... كان انتصار عبد الملك بن مروان على مصعب بن الزبير في معركة دير الجاثليق إيذاناً بانتهاء دولة عبد الله بن الزبير فقد استقرت له الأمور في جميع الأمصار الإسلامية، وانحصرت دولة ابن الزبير في الحجاز، ولم يكن في استطاعته الصمود، لافتقاره إلى المال والرجال، كما أن مقتل أخيه مصعب قد فت في عضده وأصابه الإحباط، ولكنه لم يلق رايته وظل يقاوم حتى النهاية لم يضيع عبد الملك بن مروان وقتاً بعد انتصاره على مصعب، وقرر أن يقضي نهائياً على دولة ابن الزبير(2) ووقع الخيار لقيادة الجيش للقضاء على ابن الزبير على الحجاج بن يوسف وتوجه بجيشه إلى الحجاز، واستقر بالطائف وبدأ يرسل بعض الفرق العسكرية إلى مكة، وكان ابن الزبير يرسل إليه بمثلها فيقتتلون وتعود كل فرقة إلى معسكرها(3)، وأمر عبد الملك طارق بن عمرو الذي كان مرابطاً بوادي القرى أن ينضم إلى جيش الحجاج، فتوجه طارق إليه وكان معه خمسة آلاف رجل(4).
__________
(1) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ187 .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ503 .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ189 .
(4) المصدر نفسه صـ189 نقلاً عن الطبقات لابن سعد .(2/445)
1 ـ الحصار الاقتصادي: وفي محاولة لإنهاك ابن الزبير قام الحجاج بفرض حصار اقتصادي على مكة ويروي ابن حزم أن عبد الملك بن مروان كان يساهم في فرض هذا الحصار فقد أوكل إلى خالد بن ربيعة بمهمة قطع الميرة عن ابن الزبير وأهل مكة(1)، وقد أثر هذا الحصار على ابن الزبير وأصابت الناس مجاعة شديدة حتى إن ابن الزبير اضطر إلى ذبح فرسه ليطعم أصحابه(2)، وفي الوقت نفسه: كانت العير تحمل إلى أهل الشام من عند عبد الملك السويق، والكعك والدقيق(3)، وقد ترتب على تردي الأحوال داخل مكة، أن بدأ التخاذل يدب بين أنصار ابن الزبير، وبدأوا يسحبون واحداً تلو الآخر، ومما شجع على تخاذل هؤلاء إعطاء الحجاج الأمان لكل من كف عن القتال وانسحب من جيش ابن الزبير(4).
2 ـ نصب المنجنيق على جبال مكة:
__________
(1) جمهرة أنساب العرب صـ244 .
(2) أنساب الأشراف (5/361) عبد الله بن الزبير الخراشي صـ190 .
(3) أنساب الأشراف (5/360) .
(4) المصدر نفسه (5/366) ، عبد الله بن الزبير للخراشي صـ190 .(2/446)
... أراد الحجاج بن يوسف الثقفي أن ينهي أمر ابن الزبير فكتب إلى عبد الملك بن مروان يطلب منه الإذن بقتاله ومناجزته فأجابه عبد الملك بقوله: أفعل ما ترى(1). وهذه الإجابة تحمل في مضمونها الموافقة على طلب الحجاج المتحفز لقتال ابن الزبير وتوجه الحجاج بن يوسف بجميع جيشه إلى مكة ونصب المنجنيق على جبالها وبدأ يضرب ابن الزبير داخل الحرم ضرباً متواصلاً وفي الوقت نفسه كان بقية جيشه يقاتلون البقية الباقية مع ابن الزبير(2)، وتوسط بعض أعيان مكة وعلى رأسهم ابن عمر لدى الحجاج طالبين إليه أن يكف عن استعمال المنجنيق فأجابهم: والله إني لكاره لما ترون ولكن ماذا أصنع ولقد لجأ هذا إلى البيت؟ وكانت وفود الحج قد جائت إلى مكة من كافة الأقطار الإسلامية وقد منعهم من الطواف حول البيت ما يتعرض له الطائفون من خطر المنجنيق، ولما كان في ذلك تعطيل لركن من أركان الحج فقد تدخل في الأمر ابن عمر فكتب إلى الحجاج يقول له: اتق الله فإنك في شهر حرام وبلد حرام وقد قدمت وفود الله من أقطار الأرض ليؤدوا فريضة الله ويزدادوا خيراً(3)، فأرسل الحجاج إلى طارق بن عمرو بأن يكف عن استعماله حتى ينتهي الناس من الحج، وقال لهم: والله إني لكاره لما ترون، ولكن ابن الزبير لجأ إلى البيت(4)، وأياً ما كان فقد كف عن استعمال المنجنيق حتى انتهى الناس من الطواف(5)، وبعدما انتهى موسم الحج نادى الحجاج في الناس بالانصراف إلى البلاد وأن القتال سيستأنف ضد ابن الزبير(6)، ويروي البلاذري أن العديد ممن كانوا مع ابن الزبير حاولوا اقناعه بقبول أمان الحجاج بن يوسف، فلم يستجب ابن الزبير
__________
(1) أنساب الأشراف (5/358) .
(2) المصدر نفسه (5/358) .
(3) المصدر نفسه (5/376) الحجاج بن يوسف المفترى عليه صـ53 .
(4) المنتقى في أخبار أم القرى صـ26 ، الحجاج المفترى عليه صـ53 .
(5) الحجاج بن يوسف المفترى عليه صـ54 .
(6) أنساب الأشراف (5/376) الحجاج بن يوسف المفترى عليه صـ54 .(2/447)
لمحاولاتهم وأصر على القتال وقد سطرت الروايات مواقف بطولية رائعة لابن الزبير رضي الله عنه في مواجهة كتائب الحجاج ولم يمنعه كبر وخذلان من حوله، من الثبات على مبدئه الذي قاتل من أجله(1).
3 ـ أسماء بنت الصديق ترسم لابنها طريق الأحرار:
... بعد انتهاء موسم الحج نادى الحجاج في الناس أن يعودوا إلى بلادهم لأنه سيعود إلى ضرب البيت بالحجارة(2)، وبالفعل بدأ يضرب الكعبة، وشدد على ابن الزبير، وتحرج موقفه وانفض عنه معظم أصحابه، ومنهم ابناه حمزة وخبيب، اللذان ذهبا إلى الحجاج وأخذا منه الأمان لنفسيهما(3). فلما رأى ذلك دخل على أمه فقال لها: يا أمه خذلني الناس حتى ولدي وأهلي، فلم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني اعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامضى له، فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا، القتل أحسن. فدنا ابن الزبير فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي، والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله أن تستحل حرمه، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتني بصيرة مع بصيرتي فانظري يا أمه فإني مقتول من يومي هذا، فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، فإن ابنك لم يتعمد منكر، ولا عملاً بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في أمان، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا ربي، اللهم إني لا اقول هذا
__________
(1) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ191 .
(2) الكامل في التاريخ (3/69) .
(3) الكامل في التاريخ (3/70) .(2/448)
تزكية مني لنفسي، أنت أعلم بي، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني فقالت أمه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسناً إن تقدمتني، وإن تقدمتك ففي نفسي، اخرج حتى أنظر إلى ما يصير أمرك. قال: جزاك الله يا أمه خيراً، فلا تدعي الدعاء لي قبل وبعد. فقالت: لا أدعه أبداً، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب والظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبره بأبيه وبي، اللهمّ قد سلمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين(1)، فتناول يديها ليقبّلها فقالت: هذا وداع فلا تبعد. فقال لها: جئت مودعاً لأنّي أرى هذا آخر أيامي من الدنيا قالت: امض على بصيرتك وادن مني حتى أودّعك. فدنا منها فعانقها وقبّلها فوقعت يدها على الدرع فقالت: ما هذا صنيع من يريد ما تريد. فقال: ما لبسته إلاّ لأشدّ منك. قالت: فإنّه لا يشدّ مني، فنزعها ثمّ أدرج كميه، وشد أسفل قميصه، وجبة خز تحت القميص فأدخل أسفلها في المنطقة، وأمه تقول: البس ثيابك مشمّرة ثم انصرف ابن الزبير وهو قول:
... ... ... ... إني إذا أعرف يومي أصبر
... ... ... ... ... ... ... ... وإنما يعرف يومه الحُرّ
فسمعت والدته قوله فقالت: تصبر والله إن شاء الله، أبوك أبو بكر والزبير، وأمك صفية بنت عبد المطلب(2).
4 ـ استشهاد ابن الزبير رضي الله عنه:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/76) .
(2) المصدر نفسه (7/77)(2/449)
... إن الثبات على المبدأ، وإن كان يعارض مصالح الشخص، ويعرضها للخطر ـ يعتبر من أنبل الصفات، وقد تأصلت هذه الصفة في ابن الزبير، فما وهن وما ضعف وما استكان في سبيل المباديء التي نادى من أجلها ففي آخر يوم من حياته صلّى ركعتي الفجر ثم تقدم واقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: ((ن والقلم)) حرفاً حرفاً، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة جاء فيها:... فلا يرعكم وقع السيوف فإني لم أحضر موطناً قط إلا ارتثثت فيه من القتل وما أجد من أدواء جراحها أشد مما أجد من الم وقعها. صونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، لا أعلم أمراً كسر سيفه، واستبقى نفسه، فإن الرجل إذا ذهب سلاحه فهو كالمرأة أعزل غضوا أبصاركم عن البارقة، ويشغل كل امرئ قرنه، ولا يلهينكم السؤال عني، ولا تقولن: اين عبد الله بن الزبير؟ ألا من كان سائلاً عني فإني في الرعيل الأول.
... ... ... ... أبى لابن سلمى أنه غير خالد
... ... ... ... ... ... ... ... ملاقي المنايا أي صرف تيمّما
... ... ... ... فلست بُمبتاع الحياة بسُبَّة
... ... ... ... ... ... ... ... ولا مُرتَقَ من خشية الموت سُلَّما
احملوا على بركة الله. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون، فرُمي بآجُرَّة فأصابته في وجهه فأرعش لها، ودمي وجهه، فلما وجد سخونه الدم يسيل على وجهه ولحيته قال:
... ... ... ... فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
... ... ... ... ... ... ... ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما(1)
__________
(1) تاريخ الطبري (7/79) .(2/450)
وقاتلهم قتالاً شديداً، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء من جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة(1)، وتولى قتله رجل من مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج وسار الحجّاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا. فقال الحجّاج:: أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنّا محاصروه منذ سبعة اشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا مَنَعة فينتصف منّا بل يفضل علينا. فبلغ كلامهما عبد الملك فصوّب طارقاً(2)، ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك(3)، وقد ذكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيت في ليلتي كأنَّ السماء فرجت لي، فدخلتها، فقد والله مللت الحياة وما فيها(4).
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/73) .
(2) المصدر نفسه (3/73) .
(3) المصدر نفسه (3/74) .
(4) سير أعلام النبلاء (3/378) .(2/451)
5 ـ أسماء رضي الله عنها تقيم الحجة على الحجّاج: لما قتل عبد الله خرجت إليه أمُّه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجّاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، وإنك بين فرشها والجيّة. فقال إنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله تعالى: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) (الحج الآية : 25) وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم، قطع السبل قالت: كذبت، كان أوّل مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحنّكه بيده وكبّر المسلمون يومئذ حتى ارتجت المدينة فرحاً به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمن كان فرح يومئذ خير منَك ومن أصحابك، وكان مع ذلك برّاً بالوالدين صوّاماً قوّاماً بكتاب الله معظماً لحُرُم الله، يُبْغِضُ أن يُعص الله عز وجل(1)، وقد دافعت عن ابنها دفاعاً مجيداً، فانكسر الحجّاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء وقال: مالك ولابنة الرجل الصالح(2).
6 ـ ابن عمر وثناؤه على ابن الزبير بعد استشهاده:
... مرّ عبد الله بن عمر على ابن الزبير بعد صلبه فقال: السلام عليك أبا خبيب، السلام عليك أبا خُبيب، السلام عليك أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله إن كنت ما علمت صوّاماً قوّاماً وصولاً للرحم، أما والله لأُمّة أنت شرُّها لأمة خير ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجّاج وقوف ابن عمر عليه وقوله، فأرسل إليه فأنزله عن جذِعة(3).
__________
(1) البداية والنهاية (11/209) .
(2) المصدر نفسه (11/209) .
(3) المصدر نفسه (11/210)(2/452)
7 ـ بيعة ابن عمر لعبد الملك: لما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: أما بعد: فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيَّ ق أقرّوا بذلك(1)، وجاء في رواية أن ابن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان فبدأ باسمه، فكتب إليه: أما بعد: فالله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه... الخ)). وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون والسلام(2)، وحاول بعض بطانة الخليفة أن يوغروا صدره على ابن عمر لأنه بدأ باسمه قبل اسم الخليفة، فقال عبد الملك: إن هذا من أبي عبد الرحمن كثير(3)؟. وكان مما كتب به عبد الملك إلى الحجّاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج(4) لما يعرفه من فضله وفقهه(5).
8 ـ ابن عمر رضي الله عنه والحجاج:
__________
(1) الطبقات (4/152) .
(2) المصدر نفسه (4/152)
(3) عبد الله بن عمر ، محي الدين مستو صـ108 الطبقات (4/152) .
(4) نسب قريش صـ108 .
(5) عبد الله بن عمر ، محي الدين مستو صـ108 .(2/453)
... بقي الحجّاج بن يوسف الثقفي والياً على مكة بعد مقتل ابن الزبير وكان عبد الله بن عمر يترك المدينة ويأتي مكة حاجاً أومعتمراً، ويرى أو يسمع من أفعال الحجاج وأقواله المخالفة للشرع فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر يرد عليه بكل جرأة وشجاعة(1) وبعدما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وتمت له السيطرة على مكة خطب الناس، وكان مما قال: إن ابن الزبير حرف كتاب الله وفي رواية غير كتاب الله، فقام ابن عمر وقال: كذبت كذبت كذبت، ما يستطيع ذلك، ولا أنت معه(2)، وخطب الحجاج الناس يوم الجمعة، فأطال حتى كاد يذهب وقت الصلاة، فقام ابن عمر فقال: ايها الناس قوموا إلى صلاتكم فقام الناس، فنزل الحجاج فصلى، فلما انصرف قال لابن عمر ما حملك على ذلك، قال: فقال: إنما نجيء للصلاة فصل الصلاة لوقتها، ثم بقبق(3) بعد ذلك ما شئت من بقبقة(4)، كما أنكر ابن عمر على الحجّاج تهاونه في إشاعة حمل السلاح في مكة وتركه لرجال جيشه يضايقون به المسلمين ويعرضون حياتهم بذلك للخطر، ففي الصحيح عن سعيد بن جبير قال: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمس قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذلك بمنى فبلغ الحجّاج فجعل يعوده فقال الحجّاج: لو نعلم من أصابك فقال: ابن عمر: أنت أصبتني قال وكيف قال: حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه، وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم. وفي روية عن إسحاق بن سعيد عن أبيه قال: دخل الحجّاج على ابن عمر وأنا عنده فقال: كيف هو فقال: صالح . فقال: من أصابك قال: أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله يعني الحجّاج(5) ولما خرج الحجّاج قال ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث وذكر منها: ألا
__________
(1) المصدر نفسه صـ108 .
(2) الطبقات الكبرى (4/184) سير أعلام النبلاء (3/230) .
(3) بق الرجل : كثر كلامه .
(4) الطبقات (4/186 ، 185) سير أعلام النبلاء (3/230) .
(5) سير أعلام النبلاء (3/232) .(2/454)
أكون قاتلت هذه الفئة الباغية التي حلت بنا(1)، يقول الذهبي في تعليقه: يعني بالفئة الباغية الحجّاج(2) وأنا أزيد ومن أرسله.
9 ـ منهج ابن عمر في الفتن: لم يكن ابن عمر بمنأى عن الأحداث السياسية من حوله، بل كانت له نظراته وتحليلاته لتلك الأحداث، وتميز ابن عمر بمواقفه في الفتن تميزاً واضحاً فقد عايش عدداً من الفتن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية آنذاك، وقد كشفت تلك الفتن عن حكمة بالغة ونظرة ثاقبة للأحداث مما جعلته بحق مدرسة مليئة بالدروس المفيدة والآداب الجمة التي اهتدى بها كثير من الناس في عصره، وأصبحت بعده معلماً يقتدي به من بعده(3)، كما قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: يقتدي بعمر في الجماعة وبابنه في الفرقة(4)، ومن ابرز ما يميز منهج ابن عمر في التعامل مع الفتن ما يلي:
أ ـ تجنب القتال والحرص على حقن دماء المسلمين:
__________
(1) الطبقات (4/185) .
(2) سير أعلام النبلاء (3/232) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموي صـ325 .
(4) عبد الله بن عمر ، محي الدين مستو صـ212 .(2/455)
... وقد وردت عدة روايات توضح موقف ابن عمر رضي الله عنهما من ذلك القتال الدائر في الفتنة الأولى والثانية فعن القاسم بن عبد الرحمن قال: قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى ألا تخرج فتقاتل؟ فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله. قالوا والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضاً، حتى إذا لم يبق غيرك قيل: بايعوا لعبد الله بن عمر بإمارة المؤمنين. قال: والله ما ذلك في، ولكن إذا قلتم حي على الفلاح أجبتكم وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم(1)، وجاءه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس قد صنعوا ما ترى، وأنت ابن عمر وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي قائلاً: ألم يقل الله((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ)) (البقرة ، الآية :193) فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يرد قال فما قولك في علي وعثمان قال ابن عمر: ما قولي في علي وعثمان أما عثمان فكان الله قد عفا عنه فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي، فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده، وهذا بيته حيث ترون(2).ولم يكتف ابن عمر رضي الله عنه بالحرص على كف نفسه وتجنيبها إراقة دماء المسلمين، بل سلك بعض السبل التي تؤدي إلى تجنب المسلمين إراقة الدماء فيما بينهم، من ذلك محاولته الجادة ـ خلال الخلاف بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان ـ لإنهاء القتال بينهما حقناً لدماء المسلمين(3). فروى المدائني: أن عبد الله بن عمر كتب إلى عبد الملك بن مروان يأمره بتقوى الله وأن يكف نفسه، فكتب إليه عبد
__________
(1) حلية الأولياء (1/294) .
(2) هناك رواية وهذه بنته أو بنتيه ولعل ذلك تصحيف. .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ328 .(2/456)
الملك أنه سيخرج نفسه ويجعل الأمر شورى، فلما كتب ابن عمر إلى ابن الزبير بذلك لم يلتفت إليه(1).
ب ـ الحث على السمع والطاعة للإمام القائم ونهيه عن إثارة الفتنة وتفريق الكلمة: قال ابن عمر رضي الله عنه: جاءني رجل في خلافة عثمان فإذا هو يأمرني أن أعتب على عثمان، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة محمد بعده: أبو بكر وعمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، وجاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هذا المال، أن أعطاكموه رضيتم وإن أعطاه قرابته سخطتم. إنما تريدون أن تكونوا كفارس والروم، لا يتركون أميراً إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربع من الدمع ثم قال: اللهم لا تُرْد ذلك(2)، وروى سالم بن عبد الله بن عمر أن أباه قال: لقد عتبوا على عثمان أشياء لو فعلها عمر ما عتبوا عليه(3). فانظر إلى أي مدى كان حرص عبد الله بن عمر رضي الله عنه في الدفاع عن عثمان والذب عن عرضه والتصدي لما يثيره أهل الفتنة ضد عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كان يعلم من خطورة مثل هذا المنحى وما يؤدي إليه النيل من الخليفة والطغاة فيه من فساد، وفرقة، لذا فإن عثمان منحه ثقته فكان يستشيره إبان محنته مع الغوغاء، فحين دخل عليه ابن عمر قال له عثمان: أنظر ما يقول هؤلاء يقولون: اخلع نفسك أو نقتلك. قال له ابن عمر: أمخلد أنت في الدنيا؟ قال: لا. قال: هل يزيدون على أن يقتلونك؟ قال: لا قال: هل يملكون لك جنة أو ناراً؟ قال: لا. قال: فلا تخلع قميص الله عليك فتكون سنة، كلما كره قوم خليفتهم خلعوه أو قتلوه(4). وهذا الرأي من ابن عمر ينم عن بعد نظره وتقديره لعواقب الأمور، وقد أدى استعداده لحمل السلاح للدفاع عن أمير
__________
(1) أنساب الأشراف (5/195) .
(2) المعجم الكبير للطبراني (12/285) ابن عمر محي الدين صـ82 .
(3) العواصم من القواسم صـ104 ، 105 ابن عمر محي الدين مستو صـ83
(4) العواصم من القواسم صـ130 .(2/457)
المؤمنين عثمان والتصدي للغوغاء المحاصرين لعثمان في داره، فقد ذكر ابن سعد عن نافع أن ابن عمر لبس الدرع يوم الدار مرتين. ولما قتل عثمان رأى ابن عمر أن الأمة وقعت في محنة، وأن قتل الخليفة بهذه الصورة معصية شؤمها على الأمة خطيرة، لذا لما عرض عليه الغوغاء الخلافة بعد مقتل عثمان قال: إن لهذا الأمر انتقاماً والله لا أعترض له فالتمسوا غيري(1)، وكان ابن عمر رضي الله عنه كثيراً ما يركز في نصائحه للعامة على لزوم الجماعة والإعراض عن دماء المسلمين وأموالهم. فكتب له رجل: اكتب إلي بالعلم كله، فكتب إليه: إن العلم كثير، ولكن إن استطعت أن تلقى الله خفيف الظهر من دماء الناس خميص البطن من أموالهم، كافا لسانك عن أعرضهم لازماً لأمر جماعتهم فافعل، والسلام(2).
جـ ـ استجابته لكل من دعاه إلى خير وتعاونه مع أطراف الخلاف فيما يخدم المصلحة: ورد أنه كان لا يأتي أميراً ـ في زمان الفتنةـ إلا صلى خلفه وأدى إليه زكاة ماله(3)وقيل له أتصلي مع هؤلاء ومع هؤلاء وبعضهم يقتل بعضنا؟ فقال: من قال حي على الصلاة أجبته، ومن قال حي على الفلاح أجبته، ومن قال حي على أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا(4)، وكان ابن عمر يتبوأ مكانة رفيعة في الأمة لصحبته لرسول الله وعلمه وعبادته وزهده وكان عبد الله بن محيريز ـ رحمه الله ـ يراه أماناً في الأرض حيث قال: والله إن كنت أعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض(5).
__________
(1) تاريخ الطبري ، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ332 .
(2) تاريخ دمشق نقلا عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ334
(3) الطبقات الكبرى (4/149) .
(4) المصدر نفسه (4/170) .
(5) تهذيب التهذيب (5/331) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ337 .(2/458)
د ـ إن ابن عمر رضي الله عنه لم يدعوا إلى وجوب الخضوع المطلق للسلطان، أو جواز البيعة القهرية، أو أن في حياته ما يدل على عدم اهتمامه بأمور المسلمين السياسية أو عدم المشاركة فيها، بل على العكس، فهو كان دائماً أحد الأطراف الرئيسية في المعادلة السياسية في العهد الأموي، وكان أسلوبه هو الحوار واللجوء إلى الشورى، والابتعاد عن الاقتتال، وعندما بدأت الانشقاقات تظهر بين المسلمين اختار أن يكون محايداً وأن يعتزل الاقتتال، لا أن يعتزل الحياة السياسية، وكانت محايدته واعتزاله كنوع من التأمل والتفكر والإطلاع على مواقف الفئات المختلفة والبعد عن المشاركة في سفك دماء بسبب التصارع على السلطة، مع العمل على تهيئة الظروف، والمناخ السياسي الملائم يجمع شمل الأمة. فموقف ابن عمر المحايد كان في البداية بسبب صعوبة تكوين رأي قاطع، فضلاً عن خشية الوقوع في الفتن(1)، وكان يقول: كففت يدي عن القتال فلم أندم والمقاتل على الحق أفضل(2)، وهناك دلائل وحقائق تاريخية تثبت أن ابن عمر، عندما رأى ما يقوم به الحجّاج من مظالم عظيمة في الحرم المكي، وسفك الدماء به، والتعدي على حرمته غيّر رأيه في اعتزال الفتنة، بل وندم على أنه لم يقاتل في جيش علي بن أبي طالب ضد معاوية، الذي كان في نظره خارجاً عن شرعية علي وباغياً عليه، فقد روي حبيب بن ثابت أن ابن عمر عندما حضرته الوفاة قال: ما أجد في نفسي شيئاً إلا أن لم أقاتل الفئة الباغية مع علي(3)، وقد مرّ معنا قول ابن عمر: ما آسى على شيء من هذه الدنيا إلا على ثلاث، ظمأ الهواجر ـ، ومكابدة الليل، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا(4)، قال الذهبي: يعني الحجّاج(5)، وقد جاءت في كتب التاريخ أن ابن عمر كان يرى عبد الله بن الزبير أيضاً يندرج تحت مسمى
__________
(1) مع المسلمين حلمي مصطفى صـ54 .
(2) الطبقات (4/164) .
(3) سير أعلام النبلاء (3/232) .
(4) المصدر نفسه (3/232) .
(5) المصدر نفسه (3/232) .(2/459)
الفئة الباغية وأنه ندم على عدم قتاله لخروجه على بني أمية وبغيه عليهم ونكثه لعهدهم(1)، وهذه الرواية يؤخذ عليها عدة أمور:
ـ ... أن عبد الله بن عمر لو كان يعتقد بأحقية بني أمية بالخلافة من ابن الزبير في وقت الفتنة لبايعهم، ولكنه لم يفعل، فكيف يندم على عدم قتاله معهم، وهو لم يبايعهم ـ في الأصل ـ
ـ ... أن أقوال عبد الله بن عمر الأخرى، التي تؤكد أن الفئة الباغية هي بنو أمية ورجالاتهم وخاصة الحجّاج، كانت آخر أقواله، وهي ما يعتمد عليها، وأسانيدها صحيحة(2).
... إن مواقف ابن عمر السابقة تدحض وتبين ضعف الرأي الذي جعل ابن عمر رائداً لمدرسة الخضوع السياسي للسلطان، وخاصة أن ابن عمر هو الذي روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره إلا أن يؤمر في معصية فلا سمع ولا طاعة(3)، والحديث يدل على عدم طاعة الحاكم إذا أمر بمعصية أو خرج عن حكم الله، ولا يمكن لابن عمر أن يخالف حديثاً رواه، وعلى ذلك فإن نظرة ابن عمر تقوم على أن الطاعة للخليفة الشرعي، الذي بويع بالإجماع أو اتفاق الأغلبية، واجبة ما لم يؤمر بمعصية، فإن ظلم أو جار فلا طاعة له، بل يجب مناصحته، فإن لم تُجْدِ المناصحة يجب عندئذ اللجوء إلى المعارضة الصريحة، ولكنه كان يكره اللجوء إلى العنف والاقتتال، لما في ذلك من سفك الدماء وإضعاف لوحدة الجماعة(4).
10 ـ منهج أهل الحق في ابن الزبير:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (3/229) .
(2) الفقهاء والخلفاء ، سلطان بن حثلين صـ66 .
(3) مسلم رقم 1839 .
(4) الفقهاء والخلفاء صـ66 .(2/460)
... قال النووي في شرح مسلم: مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلوماً، وأن الحجّاج ورفقته خارجون عليه. ودخل الحجّاج على أمّه بعد قتله فقال: كيف رايتني صنعت بابنكِ؟ فقالت: أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن في ثقيف مُبيراً وكذّاباً، فأمّ الكذّاب فرأيناه ـ يعني المختارـ وأما المبير(1)، فلا أخالك إلا إياه(2).
11 ـ هدم الكعبة وبنائها في عهد ابن الزبير:
... في سنة 64هـ هدم ابن الزبير الكعبة وكانت قد مال حيطانها(3)، وتهدمت، وتشعّثت من حجر المنجنيق الذي كان يرمي به الحصين بن نمير وأصحابه(4)، ولما أراد ابن الزبير هدم البيت شاور الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير بذلك وقال ابن عباس: أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم حتى يتهاون الناس بحرمتها ولكن أرى أن تصلح ماوهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً بُعِث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها. فقال ابن الزبير: لو احترق بيت أحدكم ما رَضي حتى يُجَدِّده، فكيف ببيت ربِّكم(5)؟، ثم إن ابن الزبير استخار الله ثلاثة أيام(6).
__________
(1) المبير : المُهْلِكُ .
(2) مسلم رقم 2545 .
(3) تاريخ الطبري (6/520) .
(4) شذرات الذهب (1/308) .
(5) البداية والنهاية (11/691) .
(6) المصدر نفسه (11/691) .(2/461)
... ثم عزم في اليوم الرابع على ذلك فرقت الناس وخرج بعضهم هارباً إلى الطائف وإلى عرفات ومنى وطلع ابن الزبير بنفسه واتخذ معه عبداً حبشياً دقيق السّاقين رجاء أن يكون ذا السُّويقتين الحبشي الذي يهدم الكعبة(1)، فبدأ ينقض الرُّكن إلى الأساس فلمّا وصلوا إلى الأساس وجدوا أصلاً بالحجر مشبكاً كأصبع اليدين، فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً وأشهدهم على ذلك، ثم بنى البيت وأدخل الحجر فيه(2)، وجعل للكعبة بابين موضوعين بالأرض، باب يدخل منه، وباب يُخرج منه، ووضع الحجر الأسود بيده وشدَّه بفضة، لأنه كان قد تصدّع، وجعل طول الكعبة سبعة وعشرين ذراعاً، وكان طولها سبعة عشر ذراعاً فاستقصروه، وزاد في وسع الكعبة عشرة أذرع ولطخ جدرانها بالمسك، وسترها بالدِّيباج، ثم اعتمر من مساجد عائشة(3)، وطاف بالبيت، وصلَّى وسعى وأزال ما كان حول البيت وفي المسجد من الحجارة والزّبالة، وما كان حولها من الدماء وكانت الكعبة قد وهت من أعلاها إلى أسفلها من حجارة المنجنيق واسوَدَّ الركن، وانصدع الحجر الأسود من النار التي كانت حول الكعبة، وكان سبب تجديد ابن الزبير لها ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من المسانيد والسُّنن من طرق، عن عائشة أم المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا حدثان قومك بكفر لنقضت الكعبة ولأدخلت فيها الحجر، فإن قومك قصَّرت بهم النَّفقةُ ولجعلت لها باباً شرقياً وباباً غربياً يدخل الناس من أحدهما ويخرجون من الآخر، ولألصقت بابها بالأرض، فإن قومَك رفعوا بابها ليدخلوا من شاءُوا ويمنعوا من شاءُوا(4)، فبناها ابن الزبير على ذلك كما أخبرته به خالته عائشة أم المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزاه الله خيراً، ثم لما غلبه الحجّاج بن يوسف في سنة 73هـ وقتله وصلبه هدم الحائط الشمالي
__________
(1) شذرات الذهب (1/309) .
(2) البداية والنهاية (11/692) .
(3) مساجد عائشة المقصود بها التنعيم .
(4) البخاري رقم 1583 ، 4484 .(2/462)
وأخرج الحجر كما كان أولاً، وأدخل الحجارة التي هدمها إلى جوف الكعبة فرضَّها فيها، فارتفع البابُ، وسدَّ الغربيَّ وتلك آثاره إلى الآن، وذلك بأمر عبد الملك بن مروان له في ذلك، ولم يكن بلغه الحديث، فلمّا بلغه الحديث بعد ذلك قال: وددنا أنّا تركناه، وما تولى من ذلك(1).
ثالثاً : أسباب سقوط خلافة ابن الزبير:
... من خلال الدراسة تظهر للباحث أسباب عديدة في أسباب سقوط خلافة ابن الزبير وانتصار الأمويين ومن أهم هذه الأسباب:
1 ـ اتخاذ ابن الزبير الحجاز مقراً لخلافته:
... يجمع عدد من الباحثين على أن بقاء ابن الزبير في مكة كان من أهم أسباب أخفاقه(2)، ولئن كان لتوجه ابن الزبير إلى مكة في بداية الأمر له مبرراته(3)، إلا أن إصراره على البقاء فيها واتخاذها عاصمة لخلافته لم يكن في مصلحته وذلك لأن مكة بصفة خاصة والحجاز بصفة عامة لم يعد مكاناً صالحاً ليكون مركزاً لدولة كبيرة مترامية الأطراف، فمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها، فقدت دورها السياسي الذي قامت به المدينة إلى عهد عثمان بن عفان، ولما نشبت الفتنة وانتقل علي بن أبي طالب إلى الكوفة، واتخذها عاصمة له، ثم اتخذ معاوية بن أبي سفيان دمشق عاصمة له، بعد أن آلت إليه الخلافة ولم يعد للحجاز خاصة المدينة ومكة دورهما السياسي السابق ويمكن أن نجمل أثر بقاء ابن الزبير في مكة على حركته في النقاط التالية(4):
__________
(1) البداية والنهاية (11/693) .
(2) مثل ، الناطور ، والقبلان والخراشي وغيرهم .
(3) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ193 .
(4) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ193.(2/463)
أ ـ ... الموقع: فمكة ـ كما هو معروف ـ من حيث الموقع بعيدة عن الشام والعراق وهما الإقليمان اللذان شهدا أهم مراحل الصراع بين ابن الزبير وبني أمية، فهذا البعد لم يتح لابن الزبير الاطلاع ومتابعة ما يحدث من صراع بين الموالين وخصومه، لاسيما مع ضعف إمكانات الاتصال، وبالتالي فإن ذلك لا يتيح لابن الزبير اتخاذ القرارات المناسبة إزاء ما يجري على الساحة بعكس خصومه الأمويين الذين كانوا يعيشون الأحداث مباشرة، ومن جانب آخر فإن مكة تقع في واد محصور بين عدة جبال شاهقة وهي أشبه ما تكون بالمصيدة لمن يعتصم بها حينما تحاصرها الجيوش من كل الجوانب، ويقطعون عنها الإمدادات، وكادت حركة ابن الزبير تخمد منذ وقت مبكر حينما حاصر الحصين بن نمير ابن الزبير داخل مكة سنة 64هـ لولا أن الله أنقذه بوفاة يزيد بن معاوية وانسحاب جيش الحصين إلى الشام.
ب ـ الناحية الاقتصادية: تعتمد مكة ـ بشكل خاص ـ والحجاز بشكل عام في موارده الاقتصادية على ما يأتيه من خارجها وخاصة من الشام ومصر، وانقطاع هذه الموارد يتسبب في إحداث مجاعة ترهق المقيمين فيه، وقد أفاد بنو أمية من هذا العامل إفادة كبيرة في صراعهم مع ابن الزبير، فبعد سقوط مصر والشام في أيدي الأمويين انقطعت الإمدادات التي تصل إلى المدينة(1)، وبطبيعة الحال فإن مكة فسينالها ما نال المدينة كما لجأ الأمويون إلى هذا السلاح أيام الحصار الأول والثاني(2).
__________
(1) فتوح البلدان صـ218 للبلاذري ، عبد الله بن الزبير صـ194 .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ194 .(2/464)
جـ ـ الموارد البشرية: تبع قيام حركة الفتوح الإسلامية هجرة العديد من القبائل إلى الأقاليم المفتوحة وتركزت معظم هذه القبائل في العراق، والشام ومصر(1)، وقد ترتب على ذلك اختلال معادلة التوزيع السكاني لترجيح كفة هذين الإقليمين على الحجاز الذي عانى من نقص الكوادر البشرية، وهذا النقص في الواقع لم يتح لابن الزبير تكوين جيش قوي يكون مستعداً في أية لحظة لمهاجمة الخصم، أو على أقل تقدير لصد هجومه، ولذلك نجد أن ابن الزبير إزاء هذا الوضع يلجأ دائماً إلى طلب الإمدادات من العراق وهو بذلك يربط تحركاته بما يكون عليه الوضع في هذا الإقليم من حيث استقراره، واستعداد واليه لإرسال المدد، وهذا مما يفوت على ابن الزبير الكثير من الفرص(2).
__________
(1) هجرة القبائل العربية إلى البلاد المفتوحة للعلي صـ23، 57 .
(2) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ195 .(2/465)
2 ـ سياسة ابن الزبير الإدارية والمالية: لئن وفق ابن الزبير في تعيين بعض ولاته إلا أن هذا التوفيق لم يكن حليفه في جميع الأحوال، ويبدو أن بقاء ابن الزبير في الحجاز وعدم خروجه إلى الأقاليم الإسلامية لم يتح التعرف على أهل هذه الأقاليم، وطبائعهم وإتجاهاتهم، وتكوين تصور عام عنهم يعينه على اختيار الولاة المناسبين، ولعل أبرز مثال على اضطراب سياسة ابن الزبير في هذا المجال هو العراق ـ بمصرية الكوفة والبصرة ـ ذلك الإقليم الذي كان يعج بالتيارات المختلفة ـ العقدية والقبلية ـ والذي يحتاج إلى نوعية خاصة من الولاة تحسن التعامل مع أهله، فلو نظرنا إلى ولاة ابن الزبير على إقليمي العراق وسيرتهم لوجدنا ما يدلل على ذلك، ومن ولاته على الكوفة عبد الله بن مطيع العدوي الذي لم يستطع أن يواجه المختار بن أبي عبيد الثقفي، وهرب من أمامه وخلى بينه وبين الكوفة(1)، وبشكل عام لم يستطع ولاة ابن الزبير ضبط هذا الإقليم الحيوي والاستفادة من طاقات أهله في حرب الأمويين، فقد كان فيه الرجال والأموال، بل على العكس من ذلك فقد كان هذا الإقليم سبباً مباشراً في سقوط خلافة ابن الزبير، وذلك حينما تواطأ أهله مع الأمويين ضد مصعب بن الزبير، أما فيما يتعلق بصلة ابن الزبير بولاته، فيلاحظ أن ابن الزبير كان يخلي بينه وبين واليه والإقليم الذي حكمه ويكل إدارته والقيام بشئونه حتى في القتال ضد الخصوم، ولم يكن ابن الزبير يتدخل في ذلك، فالصلة بين ابن الزبير وبعض ولاته تكاد تكون مقطوعة مما ترتب عليه سقوط بعض الأقاليم في يد الأمويين، في الوقت الذي كان ابن الزبير يقيم في مكة، ولعل ما حدث لقرقيسياء يدل على ذلك فقد كان زفر بن الحارث الكلابي والياً على هذا الإقليم وكان يقاتل عبد الملك بن مروان عدة سنوات، وأعاق تقدمه إلى العراق، ولما طال عليه الأمد ولم يقدم له ابن الزبير أي عون أضطر في النهاية إلى التسليم لعبد الملك بن
__________
(1) الطبقات (5/148) .(2/466)
مروان بعد أن أقنعه ابنه الهذيل بن زفر بأن عبد الملك بن مروان خيراً له من ابن الزبير(1)، وأما عن سياسة ابن الزبير الاقتصادية فبالإضافة إلى قلة موارد ابن الزبير الاقتصادية، يلاحظ أنه كان متأثراً في نظرته لما بين يديه من المال بأسلافه من الخلفاء الراشدين وخاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد أن يسلك مسلكهم في طريقة الإنفاق، فأصبح ينظر إلى هذا المال أنه مال الله، وهو حق المسلمين، ولا يجوز أن يصرف إلا في أوجهه الشرعية، وتشدد في ذلك وهذه السياسة لم ترق للكثيرين في ذلك العصر لأن الناس ـ كما يقول د. العش ـ لم يكونوا قادرين على فهم هذه السياسة وقبولها(2)، فلم يسخر ابن الزبير هذا المال في توطيد حكمه، وتقوية صفه وكسب الأنصار، من الأعيان والمؤيدين واستمالتهم لمشروعه الشوري، وبطبيعة الحال لقد خسر ابن الزبير الكثير من المناصرين، خصوصاً إذا عرفنا بأن الأمويين كانوا يغدقون الأموال على والشعراء والأعيان والزعماء لكسبهم.
__________
(1) أنساب الأشراف (5/305) .
(2) الدولة الأموية صـ207 .(2/467)
3 ـ عدم استيعابه لزعماء العراق: كثير من زعماء القبائل يمكن للحكام أن يستوعبوهم بالأموال والعطايا، فسلاح المال خطير يجذب القلوب ويأثر في النفوس، فقد روي أن أخاه مصعباً ذهب إليه بعد مقتل المختار بزعماء أهل العراق وقال له: يا أمير المؤمنين: قد جئتك بزعماء أهل العراق وأشرافهم كل مطاع في قومه، وهم الذين سارعوا إلى بيعتك، وقاموا بإحياء دعوتك، ونابذوا أهل معصيتك، وسعوا في قطع عدوك، فاعطهم من هذا المال: فقال لهم:... جئتني بعبيد أهل العراق وتأمرني أن أعطيهم مال الله، لا أفعل وأيم الله لوددت أن أصرفهم كما تصرف الدنانير بالدراهم، عشرة من هؤلاء برجل من أهل الشام(1)، وجاء في رواية: فقال له أبو حاضر الأسيدي ـ وكان قاضي الجماعة بالبصرة ـ إن لنا ولكم مثلاً مضى يا أمير المؤمنين وهو ما قال الأعشى:
... ... ... ... عُلقِّتُها عرضاً وعُلِّقَت رجلاً
... ... ... ... ... ... ... ... غيري وعُلِّقَ أُخرى غيرها الرَّجل
... ...
... عُلَّقناك يا أمير المؤمنين وعُلَّقت أهل الشام، وعُلَّق أهل الشام إلى مروان، فما عسينا أن نصنع؟ قال الشعبي: فما سمعت جواباً أحسن منه(2)، ثم بعد ذلك خلعوا ابن الزبير وكتبوا إلى عبد الملك بن مروان أن أقبل إلينا(3).
4 ـ عدم بيعة زعماء بني هاشم له ومعارضاتهم لدولته: فقد امتنع عن بيعته عبد الله بن عباس، ومحمد بن علي بن أبي طالب ـ ابن الحنفية ـ وغيرهم. ولم يعاملهم بالرفق واللين، بل اشتد عليهم في بعض الأحيان(4).
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ506 .
(2) البداية والنهاية (11/146 ، 147) .
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ506 .
(4) المصدر نفسه صـ505 ، مروج الذهب (3/85 ، 86) .(2/468)
5 ـ إسراف أخيه مصعب في الدماء بعد القضاء على المختار: فقد جاء مصعب إلى ابن عمر فسلم عليه فقال: من أنت؟ قال: أنا ابن أخيك مصعب بن الزبير. قال: صاحب العراق؟ قال: نعم. قال لابن عمر: أسألك عن قوم خالفوا وخلعوا الطاعة وقاتلوا حتى إذا غلبوا دخلوا قصراً وتحصنوا فيه وسألوا الأمان على دمائهم فأعطوا، ثم قتلوا بعد ذلك، قال:.. يا مصعب لو أن امرؤ أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة أكنت تعده مسرفاً؟ فسكت مصعب. فقال: أجبني، قال: نعم، إني لأعد رجلاً يذبح خمسة آلاف شاة في يوم مسرفاً. قال: أفتراه إسرافاً في البهائم؟ لا تعبد الله وما تدري ما الله، وقتلت من وحد الله؟ أما كان فيهم مستكره يراجع به التوبة أو جاهل ترجى رجعته(1)؟ فهذا القتل الكثير في أهل العراق أوغر عليه صدور عشائرهم وليس ببعيد أن يكون موقفهم منه في معركة دير الجاثليق له علاقة بهذه الأحداث، فالذي قتل مصعباً هو زياد بن ظبيان، فلما ذهب إلى عبد الملك أمر له بألف دينار فرفض ابن ظبيان أن يأخذ شيئاً وقال لعبد الملك: لم أقتله على طاعتك فإنما قتلته عل قتل أخي النابيء(2)، وقيل اشترك في قتله زائدة بن قدامة الثقفي وقال حين قتله: يا لثارات المختار(3).
6 ـ تهاون ابن الزبير في أمر الأمويين: كان الأولى أن يعمل ابن الزبير على منع الأمويين من الخروج من المدينة إلى الشام وبخاصة مروان بن الحكم وابنه عبد الملك، ولو فعل ابن الزبير ذلك لما وجد الأمويون من يلم شعثهم، ويعيد السلطة ثانية، فلم يفكر مروان بن عبد الملك في الخلافة إلا بعد ما خرج من المدينة ووصل الشام، ولم يبذل الجهد المطلوب في دعم مناصريه في الشام، كخروجه على جيش كبير لضبط الأمور بها والقضاء على فتنة الأمويين عند ظهورها.
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (15/85) .
(2) الكامل في التاريخ (3/54) .
(3) الكامل في التاريخ (3/54) .(2/469)
7 ـ إهماله الدعاية والإعلان: وأقصد بذلك عدم اهتمامه بالشعراء وإغداق الهدايا عليهم، صحيح أن دعوة عبد الله بن الزبير أيدها مجموعة من الشعراء كعبيد الله بن قيس الرقيات(1)، الذي قال:
... ... ... ... ... أنت ابن معتلج البطاح
... ... ... ... ... ... ... ... كُدَيَّها فكَدَائِها
... ... ... ... ... فالبيت ذي الأركان
... ... ... ... ... ... ... ... فالمستن من بطحائها
... إلى أن قال:
... ... ... ... ... ولدت أغرَّ مباركاً
... ... ... ... ... ... ... ... كالبدر وسط سمائها
... ... ... ... ... في ليلية لا نحس فيه
... ... ... ... ... ... ... ... سحريها وعشائها
... ... ... ... ... إن البلاد سوى بلادك
... ... ... ... ... ... ... ... ضاق عرض فضائها
... ... ... ... ... فاجمع بني إلى بنيك
... ... ... ... ... ... ... ... فأنت خير رعائها
... ... ... ... ... نشهدك منا مشهداً
... ... ... ... ... ... ... ... ضنكاً على أعدائها
... ... ... ... ... نحن الفوارس من قريش
... ... ... ... ... ... ... ... يوم جد لقائها(2)
... ... ... ... ... ... ...
إلا أن المعركة الإعلامية انتصر فيها الأمويون إنتصاراً كبير على ابن الزبير، فقد كانوا يعطون الشعراء ويشترون الناس بالأموال، فهذه أعشى ربيعة من الشعراء الأمويين يقول:
... ... ... ... ... آل الزبير من الخلافة كالتي
... ... ... ... ... ... ... عجل النتاج بحملها فأحالها
... ... ... ... ... أو كالضعاف من الحمولة حُملت
... ... ... ... ... ... ... مالا تطيق فضيعت أحمالها
... ... ... ... ... قوموا إليهم لا تناموا عنهم
... ... ... ... ... ... ... كم للغواة أطلتم إمهالها
... ... ... ... ... إن الخلافة فيكم لا فيهم
... ... ... ... ... ... ... ما زلتم أركانها وثمالها
__________
(1) ديوان عبيد الله بن قيس ، تحقيق محمد يوسف صـ117 .
(2) موقف الشعر من الحركة الزبيرية صـ26 .(2/470)
... ... ... ... ... أمسوا على المعروف قفلا مغلقاً
... ... ... ... ... ... ... فانهض بيمنك فافتتح أقفالها(1)
وسيأتي الحديث عن اهتمام عبد الملك بالشعر والشعراء في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.
8 ـ استخدام الشدة والقوة مع أخيه عمرو بن الزبير:
إن الطريقة التي اتبعها ابن الزبير في القضاء على أخيه عمرو بن الزبير بعد ما وقع في الأسر جعلت الناس ينظرون إليه على أنه رجل تنقصه العاطفة والشفقة، وكان لذلك مرده السيء على تعاطف الناس مع قضيته، فعمرو بن الزبير كان يضرب الناس في المدينة بناء على تهم موجهة إليهم بشأن تعاطفهم وتعاملهم مع ابن الزبير وكان معيناً من قبل الدولة وكانت قرارته يتخذها بطبيعة عمله، وإن كان فيها شيء من التجني والخطأ والظلم، وبالتأكيد كان الكثير من الناس يتمنون أن يقوم ابن الزبير نفسه بحبسه، أو أن يطلب من كل الذين يدّعون على عمرو بن الزبير بأنه ظلمهم أن يسامحوه ويصفحوا عنه، ويغفروا له خطأه(2)، لقد اعتبر البعض أن ابن الزبير ما هو إلا طالب سلطة ودولة وإلا لما تعامل مع أخيه بتلك القسوة(3)، واستغل تلك الحادثة الشعراء الخصوم فقد قال الضحاك بن فيروز الديلمي ساخراً من ادّعاء عبد الله بن الزبير الزهد والصلاح:
تخبرنا أن سوف تكفيك قبضة
وبطنك شبرٌ أو أقلُّ من الشبر
وأنت إذا ما نلت شيئاً قضمته
كما قضمت نار الغضا حطب السدر
فلو كنت تجزي أو تبيت بنعمة
... ... ... ... قريباً لردتك العطوف على عمرو(4)
وقال عبد الله بن الزبير الأسدي مؤلِّباً على ابن الزبير داعياً عليه:
... ... ... تحدث من لاقيت أنك عائذ
... ... ... ... ... ... ... وصرّعت قتلى بين زمزم والركن
... ... ... قتلتم أخاكم بالسياط سفاهة
__________
(1) موقف الشعر من الحركة الزبيرية صـ87 .
(2) مواقف المعارضة في خلافة يزيد صـ535 .
(3) المصدر نفسه صـ535 .
(4) الحزب الزبيري في أدب العصر الأموي ، ثريا ملحس صـ225 .(2/471)
... ... ... ... ... ... ... فيالك للرأي المُشَلَّلِ والأَفْن(1)
إلى أن قال:
... ... ... قطعت من الأرحام ما كان واشجاً
... ... ... ... ... ... ... على الشَّيب وابتعت المخافة بالأمن(2)
9 ـ تفوق خصوم ابن الزبير:
... ليس بمستغرب أن يتفوق بنو أميه على ابن الزبير، الذي لم تتح له الفرصة لأن يتولى إقليماً من الأقاليم ليكتسب الخبرة، في حين أن بني أمية تهيأت لهم العديد من الفرص خاصة بعد أن آلت الخلافة إليهم في عهد معاوية بن أبي سفيان، وفي الجانب العسكري، نلمس تفوق بني أمية على ابن الزبير من حيث التكتيك الحربي، وقيادة الجيوش ولعل من أبرز ما يلاحظ في ذلك أن مروان بن الحكم قد خرج بنفسه على جيش كبير لضم مصر ثم ابنه عبد الملك باشر حرب العراق بنفسه وهذا أتاح لهما التعرف على ما يدور في ساحة القتال عن كثب، كما أنه يعطي المقاتلين دفعة معنوية كبيرة، وفي المقابل نجد ابن الزبير يعتمد على قواده أو ولاة الأقاليم في حروبه ولم يغادر مكة قط، وقد انتقد عبد الملك بن مروان هذه السياسة فقال: إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لأبدى صفحته، وآسى أنصاره بنفسه، ولم يغرز ذنبه في الحرم(3)، ويلاحظ أيضاً أن بني أمية منذ صراعهم مع ابن الزبير كانوا دائماً في موضع المهاجم بعكس ابن الزبير الذي ظل في موقف الدفاع(4).
10 ـ الظروف التي نشأت فيها حركة ابن الزبير:
__________
(1) المصدر نفسه د.ثريا ملحس صـ228 الأفن ضعف الرأي .
(2) المصدر نفسه صـ228 .
(3) الطبقات (5/232) .
(4) عبد الله بن الزبير للخراشي صـ199 .(2/472)
... إن من الإنصاف أن تذكر أن الظروف السيئة التي وجدت فيها حركة ابن الزبير ساهمت إلى حد كبير في سقوط خلافته، تمثلت هذه الظروف بظهور التيارات والاتجاهات المذهبية، والقبلية، وانعدام الاستقرار السياسي الذي هو من أهم الشروط لقيام حكم مستقر، لقد أشغل الخوارج ابن الزبير كثيراً، كما أن حركة المختار أخذت من جهده ووقته ورجاله، فهذه الحركات ذات المنطلقات العقائدية أشغلت ابن الزبير كثيراً عن التفكير في تنظيم دولته، كما استنزفت الكثير من طاقاته المادية والبشرية(1)
11 ـ رابعاً : رثاء عبد الله بن الزبير:
... رثى ابن الزبير بقصائد كثيرة مبكية حزينة حفظها لنا التاريخ، ولم تهملها الليالي، ولم تفصلها عنّا حواجز الزَّمن، ولا أسوار القرون ومما قيل في رثائه ما قاله عبد الله بن أبي مسروح:
... ... ... ... لقد أدركت كتائب أهل حمص
... ... ... ... ... ... ... ... لعبد الله طرفاً غير وعل
... ... ... ... شجاع الحرب إذ شدّت وقوداً
... ... ... ... ... ... ... ... وللحادين خيرُ محلّ رحل
... ... ... ... ومن ذا يكره الأبطال منه
... ... ... ... ... ... ... ... إذا اعتنشوا طريقاً غير سهل
... ... ... ... فمال الشامتين بنا أصيبوا
... ... ... ... ... ... ... ... وقلُّوا من سراتهم لمثلِ(2)
وقال قيس بن الهيثم السلمي:
... ... ... ... فقدنا مصعباً وأخاه لمّا
... ... ... ... ... ... ... ... نَفَتْ سماؤهما المحُولا
... ... ... ... وكنا لا يرام لنا حريم
... ... ... ... ... ... ... ... تُسحّبُ في مجالسنا الذيولا
... ... ... ... إذا أمن الجناب وإن فزعنا
... ... ... ... ... ... ... ... ركبنا الخيل واجتنبنا الشَّليلا
... ... ... ... ونرمي بالعدواة من رمانا
... ... ... ... ... ... ... ... ونوطئهم بها وطأ ثقيلاً
... ... ... ... فيا لهفي ولهف أبي وأمي
__________
(1) المصدر نفسه صـ199 .
(2) تاريخ ابن عساكر (30/193) .(2/473)
... ... ... ... ... ... ... ... لقد أصبحت بعدهما ذليلا
... ... ... ... ويا لهفاً على ما فات مني
... ... ... ... ... ... ... ... ألا أصبحت في القتلى قتيلا
... ... ... ... ولم أصبح لأهل الشام نَصْباً
... ... ... ... ... ... ... ... يذكرني ابن مروان الذُّحولا
... ... ... فلا رفداً يعدّ ولا غناء
... ... ... ... ... ... ... ... ولا إذْناً ولا حبساً جميلا
... ... ... ... ولكن بين ذلك بين بين
... ... ... ... ... ... ... ... لقد ضلّ ابن مروان السبيلا(1) ...
الفصل السابع
عهد أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان دون الفتوحات
__________
(1) تاريخ دمشق لابن عساكر (30/193 ، 194) .(2/474)
اجتمعت الأمة بعد مقتل عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان وأصبح الخليفة الشرعي وهو أول خليفة ينتزع الخلافة بقوة السيف والقتال، مما اثر على الفقه السياسي بعد ذلك أكبر الأثر، فإذا كان معاوية قد أصبح خليفة بعد الصلح مع الحسن بن علي وإجتماع الأمة عليه طواعية عام الجماعة، وإذا كان ابنه يزيد قد بويع من الأمصار في حياة أبيه ثم بعد وفاته، وإذا كان ابن الزبير قد بويع بعد وفاة يزيد وهو بمكة من عامة الأمصار عن رضا واختيار، فإن عبد الملك أول خليفة انتزع الخلافة انتزاعاً وبايعه كثير من الناس، بعد أن قتل عبد الله بن الزبير ليبدأ عصر الخليفة المتغلب وهو ما لم يكن للأمة به عهد من قبل، لقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عليهم ـ على أن الإمامة إنما تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام، وعقد الأمة البيعة له بعد وفاة من اختاره دون إكراه، كما أجمعوا على أنه لا يسوغ فيها التوارث ولا الأخذ لها بالقوة والقهر، وأن ذلك من الظلم المحرم شرعاً(1). قال ابن حزم: لا خلاف بين أحد من أهل الإسلام أنه لا يجوز التوارث فيها(2)، غير أن الأمر الواقع بدأ يفرض نفسه، وصار بعض الفقهاء ـ بحكم الضرورة ـ يتأولون النصوص لإضفاء الشرعية على توريثها وأخذها بالقوة لتصبح هاتان الصورتان بعد مرور الزمن هما الأصل الذي يمارس على أرض الواقع، وما عداهما نظريات لا حظ لها من التطبيق العملي(3)، إلا في حالات نادرة.
وأصبحت سنة هرقل وقيصر بديلاً عن سنة أبي بكر وعمر؟(4).
__________
(1) الحرية أو الطوفان صـ119 .
(2) الفصل (4/167) .
(3) الحرية أو الطوفان صـ119 .
(4) المصدر نفسه صـ119 .(2/475)
وقد أجاز كثير من الفقهاء طريق الاستيلاء بالقوة من باب الضرورة مع إجماعهم على حرمتها مراعاة لمصالح الأمة وحفاظاً على وحدتها وأصبح الواقع يفرض مفاهيمه على الفقه والفقهاء، وصارت الضرورة والمصلحة العامة تقتضي تسويغ مثل هذه الطرق إن الاستبداد والاستيلاء على حق الأمة بالقوة، وإن كان يحقق مصلحة آنية ـ إلا أنه يفضي إلى ضعف الأمة مستقبلاً وتدمير قوتها وتمزيق وحدتها، كما هو شأن الاستبداد في جميع الأعصار والأمصار وأن ما يخشى من افتراق المسلمين بالشورى خير من وحدتهم بالاستبداد على المدى البعيد(1)، وإن الاستمرارية في ممارسة الشورى مع ما يعتريها من عوائق ومصاعب تثري الأمة في الفقه السياسي وتقطع بها مسافات كبيرة في هذا المجال ولهذا تعثر الفقه السياسي في مسيرته التاريخية ولم ينطلق الانطلاقة المطلوبة منه بسبب النظام الوراثي والاستبدادي.
__________
(1) الحرية أو الطوفان صـ123 .(2/476)
إن عبد الملك بن مروان شق طريقه نحو الملك بسفك الدماء وقتل الأبرياء والخروج على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، فلم يراعي حرمته كصحابي جليل، ولم يلتمس عذراً لابن عمه عمرو بن الأشدق، ويحرص على الوفاء لعهده، ولم يحترم الزمالة والصداقة مع مصعب بن الزبير،، ولا ننكر بأن عبد الملك بن مروان كان من عقلاء الرجال ودهاتهم، ومن أكثرهم حزماً وشجاعة وإقداماً(1)، وقد أثبت عبد الملك كفاءة عالية في إدارة الدولة وسياستها وكان غير هياب يمضي إلى هدفه بعزيمة ثابتة، ولا يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا، ولا يتردد عن قيادة المعارك بنفسه، ولقد استطاع بعد جهود جبارة أن يعيد الوحدة ويجمع شمل الأمة الإسلامية وأن يصفي خصومه الواحد بعد الآخر، بالصبر والجلد والمثابرة، وعمل على توطيد دعائم دولته ونجح في ذلك نجاحاً فائقاً، ولم تكن تأخذه هوادة أو رحمة بكل من يحاول أن يعكر صفو الدولة أو يخرج عليها وقد استحق عبد الملك عن جدارة لقب المؤسس الثاني للدولة الأموية، بعد معاوية مؤسسها الأول(2)، وقد عمل على توطين الأمن في البلاد وتفرغ للخوارج وقمع الثورات، ومن أشهر الحركات التي خرجت في عهده، حركة الأزارقة والصفرية وابن الأشعث واستطاع أن ينتصر عليها جميعاً، إن عبد الملك بن مروان أصبح أمير المؤمنين بعد مقتل ابن الزبير وبيعة المسلمين له ومذهب عامة أهل السنة والجماعة، أن الإمامة يصح أن تنعقد لمن غلب الناس، وقعد بالقوة في موضع الحكم(3)، إلا أنه يجب أن يفهم أن هذه حال ضرورة والضرورات تبيح المحظورات فهذه حال إلجاء واضطرار كأكل الميتة ولحم الخنزير، وقبولها لأنها خير من الفوضى التي تعم الناس. وعلى هذا فإنه يجب ألا توطن الأمة نفسها على دوام هذا الوضع، بل يجب عليها أن تعمل على تغيير الإمامة الناقصة
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/249) .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي .
(3) الأحكام السلطانية لأبي يعلي صـ7 ، 8 ، رياسة الدولة صـ304 .(2/477)
بإمامة كاملة مستوفاة الشروط المطلوبة في الإمام الحق بالوسائل التي لا يكون فيها فتنة بين الناس، ويجب السعي دائماً لأن يكون الإمام آتياً عن الطريق الصحيح وهو طريق أهل الحل والعقد، ومع إن إمامة المتغلب تنعقد نظراً إلى حال الضرورة كما قلنا، إلا أن الغالبية العظمى من علماء المسلمين لم يجيزوا أن يكون القهر طريقاً لانعقاد إمامة الكافر للمسلمين(1)، وإذ حال القهر يمكن أن يتسامح فيها في بعض شروط الإمامة كالعلم أو العدالة أو البلوغ، إلا أن شرط الإسلام لا يمكن أبداً إسقاطه عن الإمام، وعلى هذا، فلو تغلب كافر على هذا المنصب فلا يجوز شرعاً ـ كما يرى ذلك الجمهور ـ السكوت على هذا الوضع ويجب خلع هذا المتغلب بقوة السلاح(2)لأن الله سبحانه يقول: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا)) (النساء ، الآية : 141) .
المبحث : الأول القضاء على حركة الخوارج:
ظل الخوارج فرقة واحدة يتبنون أفكاراً ومبادئ واحدة بصفة عامة إلى ما بعد وفاة يزيد بدأوا ينشقون على أنفسهم وكلما اختلف أحدهم مع رفاقه في الرأي، انشق عنهم مكوناً له فرقة خاصة، حتى وصل عدد فرقهم إلى أكثر من ثلاثين فرقة(3)، ومن أشهر فرق الخوارج التي قاتلها عبد الملك الأزارقة والصفرية.
__________
(1) حاشية نور الدين الشبراملسي على شرح الرملي (7/392) .
(2) رياسة الدولة في الفقه الإسلامي صـ305 .
(3) مقالات الإسلاميين للأشعري (1/157) رياسة الدولة في الفقه الإسلامي صـ305 .(2/478)
أولاً الأزارقة: هم أتباع نافع بن الأزرق ، الذين يعدون أشد فرق الخوارج تطرفاً في الأفكار والمبادئ وجنوحاً إلى العنف، وكان زعيم هذه الفرقة هو أول من أحدث الخلاف بين الخوارج لتطرفه، فقد برئ من القاعدين، الذين لا يخرجون معه للقتال، كما قال بكفر من لم يهاجر إليه(1). فضلاً عن إباحته أموال ودماء مخالفيه، وتكفيره لمرتكب الكبيرة وحكمه بخلوده في النار(2)ومن أهم ما تميزت به هذه الفرقة.
ـ الانفصال الكامل عن المجتمع المسلم، حيث زعم نافع وأتباعه أن دار مخالفيهم دار كفر.
ـ إيمانهم بمبدأ الاستعراض فكانوا يتعرضون للناس بالقتل والنهب، فقد أباحوا لأنفسهم قتل الرجال والنساء والصبيان((من المسلمين)).
ـ أنهم كفروا القعدة. ونافع أول من أظهر البراءة من القعدة عن القتال، وإن كانوا موافقين له على دينه وكفر من لم يهاجر إليه فهذه من أهم البدع الني فارق بها الأزارقة بقية الخوارج(3).
__________
(1) مقالات الإسلاميين (1/157) .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ456 .
(3) الخوارج دراسة ونقد لمذهبهم، ناصر السعوي صـ76 .(2/479)
فارق الأزارقه بقيادة نافع بن الأزرق عبد الله بن الزبير عند ما تبين لهم أنه لم يكن على رأيهم فيما يذهبون إليه، وقد أنبث أفراد هذه الفرقة الخارجية في مناطق البصرة والأهواز وما وراءها من بلاد فارس وكرمان في أيام عبد الله بن الزبير وصاروا يحاربون المسلمين جهاراً(1)، وجاءت تولية المهلب على حرب الأزارقة بناء على اختيار أهل البصرة له واقتران ذلك بموافقة عبد الله بن الزبير(2)، إلا أن المهلب لم يخرج لقتالهم إلا بعد أن اشترط على أهل البصرة جملة شروط أجابوه إليها، فخوّل الحق باختيار من يشاء من المقاتلة، وأن تكون له أمرة وخراج كل بلد يقع في حوزته(3)، وانتخب المهلب اثني عشر ألف رجل من أخماس البصرة، ولم يكن بيت المال سوى مئتي ألف درهم عجزت عن عطاء الجند وعن تجهيزاتهم، فبعث المهلب إلى التجار وقال لهم أن تجارتكم منذ حول قد كُسرِت بانقطاع موارد الأهواز وفارس عنكم، فهلمّ فبايعوني وأخرجوا معي أُوفيكم إن شاء الله حقوقكم، فأخذ منهم من المال ما يصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه ما يلزم من التجهيزات، فلما انتصر المهلب على الخوارج، قام بجباية الخراج من الكور حتى قضى للتجار ما أخذ منهم(4).
__________
(1) آل المهلب بن أبي صفرة ودورهم في التاريخ صـ37 .
(2) تاريخ الطبري ، نقلاً عن آل المهلب بن أبي صفرة صـ37 .
(3) الكامل في التاريخ نقلاً عن آل المهلب بن أبي صفرة صـ37 .
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ383 .(2/480)
استمر المهلب يقاوم الخوارج ما يقرب من عامين، ثم استدعاه مصعب بن الزبير الذي أصبح والي البصرة من قبل أخيه عبد الله ليشترك معه في حرب المختار الثقفي سنة 67هـ وبعد هزيمة المختار عين مصعب المهلب والياً على الموصل والجزيرة وأذربيجان وأرمينية(1)، ولكن أحد لم يستطع أن يقوم مقام المهلب في مقاومة الخوارج مما اضطر مصعباً أن يستدعيه من الموصل ليتولى قتالهم من جديد(2)، وبينما المهلب يقاوم الخوارج في الأهواز تمكن عبد الملك بن مروان من سيطرة الدولة الأموية على العراق، بعد مقتل مصعب بن الزبير سنة 72هـ(3)، وولي أخاه بشر بن مروان على العراق وأمره بإبقاء المهلب على حرب الخوارج ومساعدته، فعمل بشر بما أمره به أخوه وبرهن المهلب على إخلاصه في حرب الخوارج الأزارقة مهما كانت السلطة التي تصدر إليه الأوامر(4)، فكما قاتلهم تحت لواء آل الزبير استمر يقتالهم تحت لواء عبد الملك، ولما أسندت ولاية العراق إلى الحجّاج بن يوسف الثقفي سنة 75هـ جدّ في مساعدة المهلب وحشد له العراقيين وشد أزره، فاشتد في مقاومتهم حتى تمكن من القضاء على خطرهم، وقد أتاح له الخوارج أنفسهم فرصة كسر شوكتهم عندما انقسموا على أنفسهم قسمين، قسم تزعمه رجل اسمه عبد ربه فقد قضي عليه المهلب نهائياً(5)، وأما قطري بن الفجاءة ومجموعته فقد رحلوا إلى طبرستان، ولكن المهلب تمكن من القضاء عليهم سنة 77هـ بمساعدة جيش أرسله إليه الحجّاج بقيادة سفيان بن الأبرد الكلبي(6)، وهكذا قضى المهلب على خطر من أكبر الأخطار التي هددت الدولة الأموية في عهد
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ462 .
(2) المصدر نفسه نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ462 .
(3) المصدر نفسه نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ462 .
(4) العراق في العصر الأموي صـ233 ـ 234 .
(5) تاريخ الطبري (7/83 إلى 89) .
(6) المصدر نفسه نقلاً عن العالم الإسلامي صـ264 .(2/481)
عبدالملك بن مروان، وهم الخوارج الأزارقة الذين كان مسرح عملياتهم العراق وبلاد فارس وكرمان والأهواز، واستمرت حركتهم ثلاثة عشر عاماً 65 ـ 78هـ(1).
1 ـ وصف المهلب بن أبي صفرة الأزدي وشيء من أقواله:
... وصف المهلب بأنه كان نزر الكلام وجيزه، يفضل فعله على لسانه(2)، متلطفاً في إجاباته(3)، كاتماً للسر(4)، حليماً في موضع الحلم، شديداً في موضع الشدة، وإن كان الحلم أغلب عليه، فيروى أن رجلاً شتمه فلم يرد عليه: فقيل له لم حلمت عنه؟ قال: لم أعرف مساويه وكرهت أن أبهته بما ليس فيه(5)، واتصف المهلب بصبره واناته في أعماله وحروبه وكان يقول: إناة في عواقبها فوت خير من عجلة في عواقبها درك(6)، وعندما كان الحجّاج يستعجله بمناجزة الأزارقة الخوارج، أجابه بقوله: إن البلاء كل البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره(7)، ومما اشتهر به المهلب في حروبه هو إعداده للبيات وأحكامه الأمور(8)، أي أنه كان يباغت أعداءه بشن الهجوم عليهم ليلاً فيحرز انتصارات مؤزرة، واشتهر المهلب بكرمه وسخائه، ومن أقواله لأبنائه في هذا الباب: ما رأيت أحداً بين يدي قط إلا أحببت أن أرى ثيابي عليه، واعلموا يا بني أن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم(9)، وكان يحرص على شراء ود الناس وله قول مأثور في ذلك: عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه(10)، وقيل له بما ظفرت؟ قال: بطاعة الحزم، ومعصية الهوى(11).
2 ـ من أساليب المهلب في قتال الخوارج:
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ464 .
(2) الأخبار الطوال صـ281 .
(3) المصون في الآداب صـ187 .
(4) المحاسن والأضداد صـ14 ، آل المهلب صـ22 .
(5) الكامل في اللغة والأدب (2/314) آل المهلب صـ22 .
(6) المحاسن والمساوئ (2/91) .
(7) العقد الفريد (1/87) .
(8) البيان والتبيين (1/253) .
(9) قلائد العقيان في محاسن الأعيان صـ198 .
(10) آل المهلب بن أبي صفرة صـ24 .
(11) سرح العيون لابن نباته صـ113 .(2/482)
... كانت سياسة المهلب تقوم على النفس الطويل في محاربة الخوارج وكان ينتظر تفجيرهم من الداخل، حتى يهون عليه أمرهم ويسهل القضاء عليهم، فقد كتب إلى الحجّاج: إني انتظر منهم ثلاث خصال: موت صاحبهم قطري بن الفجاءة أو فرقة وتشتيتاً أو جوعاً قاتلاً(1)، ولم تخطيء تقديرات المهلب للخوارج إذ سرعان ما دبّ الشقاق في صفوف الأزارقة، فما كان من المهلب إلا أن انتهز الفرصة فصعّد الخلاف في صفوفهم، فعمد إلى حيلة ناجحة، فقد عرف بين الخوارج رجلاً يصنع السهام المسمومة، فأرسل المهلب أحد أصحابه، بكتاب أمره أن يلقيه بين عساكر قطري سراً كتب فيه: أما بعد، فإن نصالك وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فلما استوضح عن الصانع أنكر فقام قطري بن الفجاءة بقتله، فخالفه بذلك عبد ربه الكبير ووقع خلاف جديد(2). وتعميقاً للخلاف في صفوف الخوارج جنّد المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يسجد لقطري بن الفجاءة فلما شاهده الخوارج أنكروا ذلك عليه وقتلوا النصراني واتهموا زعيمهم بتأليه نفسه(3). وأخذ الخوارج يقتتلون فيما بينهم، بينما المهلب ينتظر النتائج النهائية، التي تسفر عنها هذه التصفيات ليتفرغ لها مما جعله لا يمتثل لأمر الحجّاج عندما طالبه بمقاتلتهم، بل كتب له: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تمّوا على ذلك، فهو الذي تريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رمق بعضهم بعضاً، فأناهضهم حينئذ، وهو أهون ما كانوا وأضعهم شوكة إن شاء الله تعالى(4)، فكف عنه الحجّاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم(5)، ثم سار إليهم المهلب وتهيأت له الخوارج بقيادة عبد ربه الكبير ثم تلا ذلك قتل شديد تمكن المهلب في نهايته من طردهم من جيرفت، ثم لاحقهم حتى هزمهم هزيمة منكرة، وقتل زعيمهم عبد ربه
__________
(1) الفتوح (7/14) .
(2) الكامل في الأدب (3/1139 ـ 1140) .
(3) الكامل في التاريخ (3/128) .
(4) المصدر نفسه (3/129) .
(5) الأخبار الطوال صـ276 .(2/483)
ولم ينج منهم إلا عدد قليل(1)، ولعل نجاح المهلب يعود إلى أسلوبه الحربي، الذي يعتمد على المطاولة ويتجنب العجلة، بجانب قيادته الحكيمة وشجاعته وخبرته العسكرية ومكره في الحروب(2). قال الشاعر:
... ... ... ... قد يدرك المرء بالتدبير ما عجزت
... ... ... ... ... ... ... ... عنه الكمأة ولم يحمل على بطل
... ونتيجة انتصاراته ضد الخوارج فقد رأى فيه الخليفة عبد الملك بأنه قادر على إيجاد التوازن بين الأطراف القبلية المتنازعة فولاّه على خراسان، فمكث فيها خمس سنوات إلى أن توفي عام 82هـ(3).
3 ـ قطري بن الفجاءة التميمي: خرج زمن مصعب بن الزبير، فبقي عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة(4) ـ عند الخوارج الأزارقة ـ وهزم الجيوش، واستفحل بلاؤه، جهز إليه الحجّاج جيشاً بعد جيش فيكسرهم، وغلب على بلاد فارس، وله وقائع مشهودة، وشجاعة لم يسمع بمثلها وشعر فصيح سائر(5) فله:
... ... ... ... أقول لها وقد طارت شعاعاً
... ... ... ... ... ... ... ... من الأبطال ويحك لن تراعي
... ... ... ... فإنك لو سألت بقاء يوم
... ... ... ... ... ... ... ... على الأجل الذي لك لم تطاعي
... ... ... ... فصبراً في مجال الموت صبراً
... ... ... ... ... ... ... ... فما نيل الخلود بمستطاعِ
... ... ... ... ولا ثوب الحياة بثوب عزٍّ
... ... ... ... ... ... ... ... فيطوى عن أخي الخنع اليراع
... ... ... ... سبيل الموت غاية كل حيٍّ
... ... ... ... ... ... ... ... وداعية لأهل الأرض داعي
... ... ... ... ومن لم يُعتبط يهرم ويسأم
... ... ... ... ... ... ... ... وتُسلمه المنون إلى انقطاع
... ... ... ... وما للمرء خيرٌ في حياة
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/129)
(2) تجديد الدولة الأموية صـ95 .
(3) الكامل في التاريخ (3/152) .
(4) شذرات الذهب (1/325) .
(5) سير أعلام النبلاء (4/152) .(2/484)
... ... ... ... ... ... ... ... إذا ما عُدَّ من سقط المتاع(1)
وقد أرسل الحجّاج لحربه سفيان بن الأبرد الكلبي فانتصر عليه وقتله، وقيل عثر به الفرس، فانكسرت فخذه بطبرستان، فظفروا به وحُمل رأسه سنة تسع وسبعين إلى الحجّاج، وكان خطيباً بليغاً كبير المحلِّ من أفراد زمانه(2).
ثانياً : الخوارج الصفرية:
... الخوارج الصفرية هم أحد فرق الخوارج الرئيسية وفي تعيين نسبتهم أقوالاً عدة، فقيل إنهم أتباع زياد بن الأصفر، وقيل: ابن عبد الله بن صفار وقيل: عبد الله بن قبيصة وأطلق عليهم ذلك اللقب لأن العبادة أنهكتهم فاصفرت وجوههم فنسبوا إلى تلك الصفرة(3)، وأي كان ذلك السبب فقد بدأت خطورة أمرهم من الصالحية أو أتباع صالح بن مسرح التميمي، ذلك الرجل الذي كان موطنه بين نصيبين ومساروين وهو مؤسس فرقة الخوارج الصالحية وسمت هذا الرجل الصمت والهدوء، وعدم التعجل لذا ظل يعلم الناس في هدوء وسكينة عشرين سنة(4)، وكان من أهم أتباعه وأنصاره، ذلك الرجل المقدام الذي دوّخ جيوش الحجّاج في مواقع عدة، وهو شبيب بن يزيد الشيباني، والذي كان يسكن في الجانب الأيمن من الفرات في صحراء الكوفة، وبدأ أمر الخوارج يعلو ولاسيما بعد محاولة شبيب اغتيال عبد الملك بن مروان في موسم الحج لولا وصول الخبر إلى عبد الملك فأخذ حذره وانقضى الموسم بسلام وبدأ الحجاج في التضييق على صالح وأتباعه، فنزلوا جميعاً وبعثوا إلى إخوانهم واستعدوا للخروج على دولة الخلافة، وكان الرجل من الخوارج كأنه جيش بمفرده بعدته وعتاده، وكان وقعات الخوارج مع جيوش الحجّاج كثيرة العدد وقد بدأت هذه الفرقة بالخروج على دولة الخلافة وهم مائة وعشرون(5). وكانت بداية هذه الثورة من الموصل في شمال العراق
__________
(1) المصدر نفسه (4/152) .
(2) المصدر نفسه (4/152) .
(3) الخوارج ، ناصر عبد الله صـ81 ، الحجاج بن يوسف ، جمال محمود صـ81 .
(4) تاريخ الطبري (7/104 ـ 112) .
(5) تاريخ الطبري (7/108) .(2/485)
وكانت ثورة خطيرة جداً، فقد تمكن قائدها شبيب بن يزيد من هزيمة العديد من جيوش الحجّاج الجرارة وهي في عدد قليل، وتمكن من دخول الكوفة(1)، بعد أن قتل خمسة قوّاد أرسلهم الحجّاج لحربه واحداً بعد واحدة، وكانت زوجته غزالة عديمة النظير في الشجاعة(2)، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما بالبقرة وآل عمران(3)، ووفت بنذرها(4)، وعيّر عمران بن حطان شاعر الخوارج الحجّاج فقال:
... ... ... أسد عليّ وفي الحروب نعامة
... ... ... ... ... ... ... فتخاء تنفُرُ من صفير الصافر
... ... ... هلاَّ كررت على غزالة في الوغى
... ... ... ... ... ... ... بل كان قلبك في جناحي طائر
... ... ... قرعت غزالة قلبه بفوارس
... ... ... ... ... ... ... تركت مناظره كأمس الغابر(5)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/146) .
(2) المصدر نفسه (4/145 ، 146) .
(3) الكامل في التاريخ (3/121) .
(4) شذرات الذهب (1/316) .
(5) سير أعلام النبلاء (4/147) تاريخ ابن عساكر (46/338) .(2/486)
وقد قتل شبيب عدداً من أشراف الكوفة ولكنه لم يتمكن من البقاء فيها فخرج منها، ثم عاد إليها ثانية وضرب عليها الحصار بعد أن هزم جيشاً للحجاج عدته ألوفاً وقتل قائده عتاب بن ورقاء وهو ستمائة رجل(1)، ولما يئس الحجّاج من أهل الكوفة لتقاعسهم عن القتال وهالته هزائمهم المتكررة وهم في أعداد كبيرة أمام شبيب وهو في أعداد قليلة أرسل إلى عبد الملك بن مروان يطلب مدداً من أهل الشام واضطر الحجاج أن يقود الجيش بنفسه، واستطاع هزيمة شبيب لأول مرة، فلاذ بالأهواز، فأرسل الحجّاج خلفه جيشاً التقى به هناك، ولم تكن النتيجة حاسمة لأي من الفريقين، غير أن شبيب غرق بينما كان يعبر أحد الأنهار فلما سقط قال: ((ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)) (الأنفال ، الاية : 42) وانغمس في الماء، ثم ارتفع وقال: ((ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)) (الأنعام ، الآية : 96) وغرق(2)، وبهذا تخلص منه الحجّاج بعد أن كبد الدولة كثيراً من الأموال والأرواح(3)، ولولا الله ثم تدخل عبد الملك لكان من الممكن أن تتغير الأوضاع السياسية في العراق والمناطق الشرقية، فقد استطاع أن يسوى المشكلة ووضع لها الحل المناسب من تجهيز الجيوش وإرسالها، وتولية القيادة المحنكين ليواجهوا شبيباً(4). ومن اللطائف التي تذكر: حضر عتبان الحروري عند عبد الملك بن مروان فقال: أنت القائل:
... ... ... فإن يك منكم كان مروان وابنه
... ... ... ... ... ... ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
... ... ... فمنّا حُصينُ والبطينُ وقعنبٌ
... ... ... ... ... ... ... ومنا أميرُ المؤمنين شبيب
__________
(1) العراق في العصر الأموي ، للراوي صـ238 .
(2) الكامل في التاريخ (3/123) .
(3) انظر : تاريخ الطبري (104 إلى 112) .
(4) تجديد الدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك صـ106 .(2/487)
فقال: إنما قلت: ومنا أميرَ المؤمنين شبيبُ. على النداء فأعجبه وأطلقه(1). وهذا الجواب في نهاية الحسن، فإنه إذا كان ((أمير)) مرفوعاً كان مبتدأ فيكون شبيب أمير المؤمنين وإذا كان منصوباً فقد حذف منه حرف النداء ومعناه يا أمير المؤمنين منا شبيب، فلا يكون شبيب أمير المؤمنين، بل يكون منهم(2).
1 ـ من شعراء الخوارج عمران بن حطان: هو عمرن بن حطّان ابن ظبيان، السدوسي البصري، من أعيان العُلماء، لكنّه من رؤوس الخوارج، حدّث عن عائشة وأبي موسى الأشعريّ وابن عباس، قال أبو داود: ليس في أهل الأهواء أصحُّ حديثاً من الخوارج ثم ذكر عمران بن حطان، وأبا حسَّان الأعرج(3)، وقد تميزت حياته أول الأمر بأنه فقيه ومحدث على منهج أهل السنة ثم تزوج قريبة له ـ كانت على مذهب الخوارج ـ يريد أن يصرفها عن مذهبها، لكنها استمالته إلى مذهبها، كان ذلك وقد كبرت سنه وطال عمره، فضعف عن الحرب، وقنع بالدعاية إلى مذهبه بلسانه، ولم يستطع أن يشارك في الحرب بسيفه ورضي القَعدّة من الصفرية منه بهذا البياني وطارده الحجّاج، ففر من العراق إلى الشام وجعل يتنقل من مدينة إلى مدينة في استخفاء وتمويه وتغيير للأسماء ونزل على روح بن زنباع الجذامي وأنس إلى كرمه وأخلاقه وادّعى أنه أزديّ، فاستضافه روح سنة كاملة كان فيها معجباً بتقوى ضيفه الأزدي وعلمه وأدبه وكان روح لا يسمع شعراً نادراً أو حديثاً غريباً عند عبد الملك ثم يقصه على صاحبه، أو يسأله عنه، إلا وجده عليماً به، وزائداً عليه وذات يومٍ حدّث روح عبد الملك بن مروان بمزايا ضيفه الأزدي فقال عبد الملك إنه عمران بن حطان فأحضره(4)، وكان عبد الملك بن مروان قد أهدر دمه لما بلغ شعره عبد الملك في علي رضي الله عنه وأدركته حمية لقرابته من علي رضي
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/106) .
(2) سير أعلام النبلاء (4/456) .
(3) المصدر نفسه (4/214) .
(4) أدب السياسة في العصر الأموي صـ526 ، سير أعلام النبلاء (4/216) .(2/488)
الله عنه ووضع عليه العيون وشعر عمران في علي قوله:
... ... ... ... يا ضربة من تقيِّ ما أراد بها
... ... ... ... ... ... ... ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
... ... ... ... إنِّي لأذكره حيناً فأحسبه
... ... ... ... ... ... ... ... أو في البرية عند الله ميزانا
... ... ... ... أكرم بقوم بطون الطير قبرهم
... ... ... ... ... ... ... ... لم يخلطوا دينهم بغياً وعدوانا(1)
وعندما علم عمران بطلب عبد الملك له هرب إلى الجزيرة ثم لحق بعمان فأكرموه(2) وقال شعراً في روح بن زنباع لما فارقه حيث قال:
... ... ... يا روح كم من كريم قد نزلت به
... ... ... ... ... ... ... ... قد ظنّ ظنّك من لخم وغسان
... ... ... حتى إذا خفته زايلت منزله
... ... ... ... ... ... ... ... من بعد ما قيل: عمران بن حطان
... ... ... قد كنت ضيفَكَ حولاً ما تُروّعُني
... ... ... ... ... ... ... ... فيه طوارق من إنس ولا جان
... ... ... حتى أَردْتَ بي العظمى فأوحشني
... ... ... ... ... ... ... ... ما يوحش الناس من خوف ابن مروان
... ... ... لو كنت مستغفراً يوماً لطاغية
... ... ... ... ... ... ... ... كنت المقدَّم في سرِّ وإعلان ...
... ... ... لكن أَبت لي آيات مُفصَّلةٌ
... ... ... ... ... ... ... ... عقد الولاية في ((طه)) و((عمران))(3)
فهو في ثنائه على ابن زنباع لم يبح لنفسه أن يستغفر له، لأنه ليس في رأيه ممن يستحقون المغفرة، فهو طاغية وكافر، على طريقة أكثر الخوارج في تكفير مخالفيهم(4)،وكان من فحول الشعراء وقد شهد له بذلك الفرذق، فقد وقف عمران بن حطان ذات يوم على الفرذدق وهو ينشد الناس فقال له:
... ... ... ... أيها السائل ليُعطي
... ... ... ... ... ... ... إن لله ما بأيدي العباد
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/215) .
(2) المصدر نفسه (4/216) .
(3) المصدر نفسه (4/215) .
(4) أدب السياسية في العصر الأموي صـ530 .(2/489)
... ... ... ... فسل الله ما طلبت إليهم
... ... ... ... ... ... ... وارج فضل المقسّم العواد
... ... ... ... لا تقل للئيم ما ليس فيه
... ... ... ... ... ... ... وتسمّي البخيل باسم الجواد(1)
... وجاء في رواية أن الفرزدق قال: الحمد لله الذي شغل عنا هذا ببدعته ولولا ذلك للقينا منه(2) عنتاً، ومن شعر عمران في الزهد في الدنيا والتزود للآخرة، فعن قتادة قال لقيني عمران بن حطان، فقال يا أعمى، أحفظ عني هذه الأبيات:
... ... ... حتى متى تُسقى النُّفوس بكأسها
... ... ... ... ... ... ... ريب المنون وأنت لاه ترتع
... ... ... أفقد رضيت بأن تُعللَّ بالمُنى
... ... ... ... ... ... ... وإلى المنيَّة كلَّ يوم تُدْفَعُ
... ... ... أحلامُ نوم أو كظل زائلٍ
... ... ... ... ... ... ... إن اللبيب بمثْلها لا يُخْدَعُ
... ... ... فتزوّدنَّ ليوم فقرك دائماً
... ... ... ... ... ... ... واجمع لنفسك لا لغيرك تجمع(3)
ومن شعره في الموت ورثاء مرداس قوله:
... ... ... إن كنت كارهة للموت فارتحلي
... ... ... ... ... ... ... ثم اطلبي أهل أرضٍ لا يموتون
... ... ... فلست واجدة أرضاً بها بشر
... ... ... ... ... ... ... إلاَّ يروحون أفواجاً ويغدون
... ... ... إلى القبور فما تنفك أربعة
... ... ... ... ... ... ... بذي سرير إلى لحد يمشونا
... ... ... يا حمز قد مات مرداسَ وأخوته
... ... ... ... ... ... ... وقبل موتهم مات النبيونا(4)
__________
(1) تاريخ دمشق (46/336) .
(2) المصدر نفسه (46/336) .
(3) تاريخ دمشق (46/339) .
(4) المصدر نفسه (46/340) .(2/490)
وقد شهد له النقّاد في الشعر بأن شعره كان يتسم بانتقاء مفرداته في غير توعر وإغراب، وبجزالة عباراته في نسق لا تعقيد فيه ولا التواء ولا اعتساف بتقديم وتأخير وكان يبتعد عن الخيال وما يجره من تهويل وتضخيم(1)، ومما يذكر في سيرة عمران بن حطان أن الحجّاج ظل يطارده ويطلبه طويلاً حتى ظفر به فقال للحرس: اضرب عنق ابن الفاعلة فقال عمران بئس ما أدبك به أهلك يا حجّاج أبعد الموت منزلة أمانعك عليها على ما كان منك أن ألقاك بمثل ما لقيتني به؟ فقال الحجّاج: صدق أطلقوا عنه فلما انطلق إلى الخوارج قالوا له ارجع إلى قتال الحجاج فوالله ما هو أطلقك الله الذي أطلقك فقال هيهات: غلَّ يداً مطلقها واستقر رقبة معتقها ثم قال:
... ... أأقاتل الحجّاج عن سلطانه
... ... ... ... ... ... بيد تقر بأنها مولاته
... ... ماذا أقول إذا وقفت حياله
... ... ... ... ... ... في الصف واحتجت له فعلاته
... ... وتحدث الأقوام أن صنيعه
... ... ... ... ... ... غرست لدى فحنظلت نخلاته
... ... تالله لو جئت الأمير بآلة
... ... ... ... ... ... وجوارحي وسلاحي آلاته(2)
هذا وقد توفي عمران بن حطان سنة 84هـ(3)
2 ـ أسباب فشل الخوارج في عهد عبد الملك:
... فشلت ثورات الخوارج في تحقيق الهدف الذي كانت تسعى إليه لأسباب منها:
أ ـ أن الخوارج كانوا يخرجون في أعداد قليلة وفي أوقات متباعدة مما سهل على ولاة الدولة الأموية القضاء عليهم.
ب ـ طغيان مذهب التشيع على أهل الكوفة ومناقضة ذلك المذهب لمبدأ الخوارج وكره أهل الكوفة والشيعة عامة للخوارج لخروجهم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وتكفيرهم أياه فساعد هؤلاء ولاة الدولة في غالب الأحيان على قتال الخوارج.
__________
(1) أدب السياسة في العصر الأموي صـ528 ، 529 .
(2) الحجّاج بن يوسف الثقفي المفترى عليه صـ375 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/216) .(2/491)
جـ ـ موقف أهل البصرة واندفاعهم إلى مقاومة الخوارج والقضاء عليهم ليحافظوا على تجارتهم واستمرارها.
ح ـ تفرق الخوارج إلى فرق متعددة مما أدى إلى أضعافهم وتفتيت وحدتهم، فسهل على ولاة الدولة القضاء عليهم.
س ـ الأعمال التخريبية التي كانوا يحدثونها من قتل النساء والأطفال وقتل مخالفيهم واحراق القرى وكسر الخراج وقطع طرق التجارة مما أدى إلى كرههم من جانب الناس عامة فاندفعوا إلى مساعدة ولاة الدولة في القضاء عليهم هذه هي أهم الأسباب التي جعلت الخوارج يفشلون في التخلص من الحكم الأموي، وتطبيق أفكارهم ومعتقداتهم التي يؤمنون بها(1).
المبحث الثاني : ثورة عبد الرحمن بن الأشعث:
__________
(1) العراق في العصر الأموي ، ثابت الرواي صـ243 ، 244 .(2/492)
... هذه واحدة من الثورات العديدة التي قام بها أهل العراق ضد الدولة الأموي، ولم يكن نشوبها على أساس مذهبي كما هو الحال بالنسبة لثورات الخوارج والشيعة، بل دفع إليها الكراهية المتبادلة بين قائدها وبين والي العراق الحجّاج بن يوسف وقائد هذه الثورة هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي(1)، وقد بدأت هذه الثورة العارمة من إقليم سجستان، ذلك الإقليم الذي أتعب الأمويين وكان كثير الانتقاض والتمرد عليهم(2)، فلما كانت ولاية الحجّاج بن يوسف على العراق 75هـ ـ 95هـ صبر على مضض على تجاوزات رتبيل ملك سجستان ضد الدولة واستغلاله الظروف الصعبة التي كانت تمر بها، ومنعه الجزية، فلما انتهت مشاكل العراق الخطيرة، وكسرت شوكة الخوارج سنة 78هـ قرر أن يؤدب رتبيل(3)، فأرسل الحجّاج إليه جيشاً بقيادة عبيد الله بن أبي بكرة سنة 79هـ، وأمره الحجّاج أن يتوغل في بلاد رتبيل وأن يدك حصونهم وقلاعهم، ففعل ما أمر به الحجّاج، وتمكن من هزيمة رتبيل واجتياح بلاده وغنم غنائم كثيرة ولكن رتبيل أخذ في التقهقر فأطمع المسلمين في اللحاق به حتى وصلوا قريباً من مدينته العظمى، عند ذاك بدأ الترك يغلقون على المسلمين الطرق والشعاب وحصروهم وقتل عامة جيش المسلمين(4).
أولاً أعداد وأرسال جيش الطواويس إلى سجستان بقيادة عبد الرحمن الأشعث:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/183) .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ507 .
(3) تاريخ الطبري (7/218) .
(4) تاريخ الطبري (7/219) تاريخ خليفة صـ277 .(2/493)
... أراد الحجّاج تأديب رتبيل وعقابه، فاستأذن عبد الملك بن مروان في أن يبعث جيشاً كبيراً بلغ عدده أربعين ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة وأنفق عليه ألفي ألف (مليونين) سوى أعطيات المقاتلين وبالغ في تجهيزه بالخيول الروائع والسلاح الكامل(1)، وبلغ من فخامة الجيش أن سماه الناس جيش الطواويس(2)، وأسند قيادته إلى عبد الرحمن بن الأشعث والحجّاج بإسناده قيادة هذا الجيش الكبير عدة وعدداً لابن الأشعث وهو يعلم موقفه منه، يهيء للثورة عليه وعلى الدولة الأموية، وقد نبه الحجّاج إلى هذاالخطأ الفادح، حيث قال له عم ابن الأشعث إسماعيل بن الأشعث: لا تبعثه فإني أخاف خلافه، والله ما جاز جسر الفرات قط فرأى لوال من الولاة عليه طاعة وسلطان(3)، ولكن يبدو أن الحجّاج قد خانه ذكاؤه هذه المرة، أو كان مفرطاً في ثقته بنفسه، فلم يسمع نصيحة إسماعيل ورد مستخفاً بعبد الرحمن، فقال: هولي أهيب وفي أرغب من أن يخالف أمري، أو يخرج عن طاعتي(4)، ومضى عبد الرحمن بهذا الجيش العظيم إلى سجستان لتأديب رتبيل، وكان ذلك في سنة 80هـ، فلما بلغته الأخبار، كتب إلى عبد الرحمن يعتذر إليه مما حل بالمسلمين في بلاده ويطلب منه الصلح ولكن عبد الرحمن لم يقبل(5)، وأخذ يتوغل في بلاده، وهنا حاول رتبيل أن يكرر مع عبد الرحمن ما صنعه مع عبيد الله بن أبي بكرة، فأخذ يخلي البلاد والحصون أمامه ليوقعه في شرك، ولكن ابن الأشعث فطن إلى ذلك، وكان كما يقول الطبري: لكلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وبعث معه أعواناً، ووضع البرد فيما بين كل بلد وبلد، وجعل الارصاد على العقاب والشعاب ووضع المسالح بكل مكان مخوف، حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة، وملأ يديه من البقر والغنم والغنائم العظيمة، حبس
__________
(1) تاريخ الطبري (7/224) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ508 .
(3) تاريخ الطبري (7/224) .
(4) تاريخ الطبري (7/224) .
(5) تاريخ الطبري (7/225) .(2/494)
الناس عن الدخول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما أصبناه العام في بلادهم، حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، ثم نتعاطى في العام المقبل ما وراءها، ثم لم نزل ننتقصهم في كل طائفة من أرضهم حتى نقاتلهم آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم ، وفي أقصى بلادهم وممتنع حصونهم، ثم لا نزايل بلادهم حتى يهلكهم الله(1). وهذه خطة سديدة وعملية وتدل على ذكاء وحنكة وتجربة وقد كتب إلى الحجّاج بما حققه من فتوحات وبخطته التي اعتزم تنفيذها(2)، ولكن الحجّاج ـ ودون أن يستشير أحد من أهل الحرب ـ رفض هذا الرأي واستهجنه وكتب إلى ابن الأشعث ثلاثة كتب عل التوالي سفه فيها رأي ابن الأشعث وهدده فيها بالعزل إن لم يفعل ما يأمره به ورماه فيها ببعض الأوصاف المقذعة(3).
ثانياً : تمرد عبد الرحمن بن الأشعث بجيشه على الحجّاج :
__________
(1) تاريخ الطبري (7/225) .
(2) تاريخ الطبري (7/225) .
(3) تاريخ الطبري (7/231)(2/495)
... وبرفض الحجّاج رأي ابن الأشعث، وبأسلوبه القاسي، وتعامله السيء، أذكى نار الفتنة وعجل بأسباب الثورة عليه، وقد أعماه فرط ثقته بنفسه واحتقاره لغيره عما ستؤدي إليه تلك التصرفات الهوجاء من عواقب خطيرة وأثارت مكاتبات الحجّاج حفيظة عبد الرحمن بن الأشعث وحركت ما في نفسه من كره للحجّاج فجمع الناس وخطبهم مبيناً لهم نصحه لهم ومعرضاً برأي الحجّاج، وطلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع(1) وانفتح الباب لكل من أراد أن يتكلم، فتكلم عامر بن واثلة الكناني وكان شاعراً خطيباً فكان مما قال: فإن الحجاج والله ما يرى بكم إلا ما رأى القائل الأول إذ قال لأخيه: احمل عبدك على الفرس، فإن هلك هلك، وإن نجا فلك وبعد كلامه دعا الناس إلى خلع الحجّاج ومبايعة عبد الرحمن بن الأشعث، فبايعهم ابن الأشعث على خلع الحجّاج والقتال معه حتى ينفي الله الحجّاج من العراق، ولم يذكر خلع عبد الملك(2)، ومن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث وهذه الثورة وإن لم تكن لها جذور بعيدة وإن لم تسبقها خطوات إعداد كبيرة إلا أنها كانت من أخطر الثورات التي قامت على الدولة الأموية أو أخطرها، حيث هددت كيان الخلافة بالزوال واضطرت الخليفة إلى مساومة أصحابها بما لم يساوم به غيرهم من أصحاب الثورات السابقة(3)، وانحدار ابن الأشعث بجيشه وانضم إليه خلق كبير في طريقه إلى العراق قاصداً الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج أصيب بالهلع والذعر، فكتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد، فتوالت الكتب بينه وبين عبد الملك وتوالى إرسال الجيوش من عبد الملك في كل يوم إلى الحجّاج(4).
1 ـ موقف المهلب بن أبي صفرة من الأحداث:
__________
(1) المصدر نفسه (7/232) .
(2) المصدر نفسه (7/233) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ547 .
(4) المصدر نفسه صـ547 .(2/496)
... كان المهلب بن أبي صفرة قد نهى ابن الأشعث عن فعلته قائلاً: إنك وضعت رجلك يا ابن محمد في غرز طويل الغي على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الله الله فانظر لنفسك لا تهلكها ودماء المسلمين فلا تسفكها والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها. فإن قلت: أخاف الناس على نفسي فالله أحق أن تخافه عليها من الناس، فلا تعرضها لله في سفك دم، ولا استحلال محرم. وكتب المهلب كذلك إلى الحجّاج بما يجب عليه أن يفعله في مواجهة ابن الأشعث حيث قال: فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر من علِ، وليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شرة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يسقطوا إلى أهليهم، ويشموا أولادهم، ثم وافقهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم إن شاء الله(1). ولكن لم يعر ابن الأشعث نصح المهلب أدنى اهتمام، فتقدم نحو العراق، وفي وسط الطريق أقدم ابن الأشعث ومن معه على خطوة خطيرة وهي خلع الخليفة عبد الملك بن مروان والسعي إلى تنحيته(2)، كما أن الحجّاج نظر إلى نصح المهلب من منظوره المتشكك فيمن حوله فعده غشاً من المهلب، فقد قال عندما قرأ كتابه: فعل الله به وفعل، والله مالي نظر، ولكن لابن عمه نصح(3).
__________
(1) تاريخ الطبري (7/235) .
(2) تاريخ الطبري (7/234) .
(3) تاريخ الطبري (7/235) .(2/497)
2 ـ معركة الزاوية(1): قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث، ومن معه قبل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فاراً بنفسه ومن معه من أهل الشام، ونزل بالزاوية، عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له فقال: لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل(2)، وانضم إلى ابن الأشعث جموع كثيرة من أهل البصرة، والتقى ابن الأشعث بالحجّاج في الزاوية وتتالت الهزائم بجيش الحجّاج، إلا أنه سنحت فرصة لفرقة من فرق الحجّاج حيث تمكنت من إلحاق الهزيمة بإحدى فرق ابن الأشعث، فاستغل الحجّاج الفرصة وكثف الهجوم على خصمه، فاضطر ابن الأشعث إلى التراجع وسار نحو الكوفة تاركاً البصرة، فبايعه أهل الكوفة ولحق به أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالح والثغور(3)، وبلغ عدد من معه مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم من مواليهم(4)، وقد دفعت الموالي أسباباً كثيرة للاشتراك في ثورة ابن الأشعث.
أ ـ ... السياسة المالية التي تبعها الحجّاج نحوهم وإجبارهم على دفع الجزية بعد إسلامهم .
ب ـ حرمانههم من الأعطيات والأرزاق عند اشتراكهم في الفتوح.
__________
(1) الزاوية : لفظ يطلق على عدة أماكن والمراد به هنا موضع قرب البصرة، معجم البلدان (3/128) .
(2) تاريخ الطبري (7/237) .
(3) تاريخ الإسلام للذهبي صـ9 .
(4) تاريخ الطبري ، نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ549 .(2/498)
جـ ـ حرمانهم من المساواة وشعورهم بالظلم من ممارسة بعض ولاة الدولة الأموية(1)، وغير ذلك من الأسباب اغتم عبد الملك لما حدث ولما وصله الخبر نزل عن سريره وبعث إلى خالد بن يزيد بن معاوية، ودعاه فأقرأه الكتاب، ورأى ما به من الجزع فقال: يا أمير المؤمنين، إن كان هذا الحدث من قبل سجستان، فلا تخفه، وإن كان من قبل خراسان تخوفته، وخرج عبد الملك إلى الناس فقام فيهم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن أهل العراق طال عليهم عمري فاستعجلوا قدري، اللهم سلط عليهم سيوف أهل الشام حتى يبلغوا رضاك، فإذا بلغوا رضاك لم يجاوزوا إلى سخطك. ثم نزل(2).
3 ـ استعداد عبد الملك أن يضحي بالحجّاج ومعركة دير الجماجم:
__________
(1) العراق في العصر الأموي ، ثابت الراوي صـ245 .
(2) تاريخ الطبري (7/236) .(2/499)
... لما رأى أهل الشام وبنو أمية قوة ابن الأشعث أشاروا على عبد الملك بعزل الحجّاج وقالوا: إن كان إنما يرضي أهل العراق أن تنزع عنهم الحجّاج فانزعه عنهم، تخلص لك طاعتهم، فإن عزله له ـ أيسر من حربهم، فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان بالجيش إلى العراق وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق نزع الحجّاج عنهم، وأن يجري عليهم العطاء، وأن ينزل ابن الأشعث أي بلد شاء من العراق ويكون والياً، فإن قبلوا ذلك نزعنا عنهم الحجّاج ويكون محمد بن مروان مكانه على العراق، وإن أبوا فالحجّاج أمير الجميع وولي القتال(1)، ولم يكن أمر أشق على الحجّاج ولا أغيظ له ولا أوجع لقلبه من هذا الأمر، وكان من الطبيعي أن يستاء الحجّاج من هذا، وعزّ عليه أن يضحي به عبد الملك بن مروان، بعد كل ما قدمه له من خدمات(2)، وكتب إليه يذكره بما حدث من أهل العراق مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال له: يا أمير المؤمنين، والله لئن أعطيت أهل العراق نزعي لا يلبثون إلا قليلاً حتى يخالفونك ويسيروا إليك، ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، ألم ترى وتسمع بوثوب أهل العراق مع الأشتر على عثمان بن عفان، فلما سألهم ما يريدون قالوا: نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إليه فقتلوه: إن الحديد بالحديد يفلح خار الله لك فيما رأيت والسلام عليك(3). غير أن عبد الملك كان مقتنعاً بالفكرة، وأن مصلحة الدولة عنده فوق كل اعتبار ورأى في ذلك منع الحرب(4). ولكن من حسن حظ الحجّاج أنه لما عرضت الفكرة على أهل العراق رفضوها بقوة، مع أن ابن الأشعث قبلها، وحثهم على قبولها، لكنهم لم يوافقوه، بل جددوا خلع عبد الملك، وظنوا الفرصة قد واتتهم للتخلص من الحكم الأموي(5)، وكان الأولى بابن
__________
(1) تاريخ الطبري (7/245) .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ515 .
(3) تاريخ الطبري (7/245) .
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ515 .
(5) تاريخ الطبري (7/246)(2/500)
الأشعث أن لا ينساق لما تطلبه الجماهير، فقد ضاعت فرصة كبيرة في التخلص من الحجّاج وكان يمكنهم رفع سقف المطالب والضغط على عبد الملك حتى يستجيب لرفع المظالم، وإقامة العدل، والتقيد بالكتاب والسنة وإن انحرف عن شروطهم أمكنهم بعد ذلك عزله ولكن يبدو أن الحس السياسي لدى زعماء ثورة ابن الأشعث كان غائباً، كما أن مبايعة أهل العراق لابن الأشعث جاءت في لحظات عاطفية ثورية ولم تكن نتيجة لمعرفة تامة به، وهل يستحق عن جدارة أن يكون أميرهم(1)؟. رفض ابن الأشعث تنازل عبد الملك في خلع الحجّاج وغيرها فعندها سلم محمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك قيادة الجيوش الأموية للحجّاج وقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك فأنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع لك(2).
__________
(1) حركة النفس الزكية صـ38 .
(2) تاريخ الطبري (7/246) .(3/1)
... وبدأ الفريقان يستعدان للقتال، فاشتبكا في أشهر وقائعهم ـ التي زادت عن ثمانين موقعة ـ في دير الجماجم(1) والتي استمرت مائة يوم حتى حلت الهزيمة بابن الأشعث في الرابع من جماد الآخرة سنة 83هـ(2)، ثم دارت معركة أخرى بعدها في مسكن في شعبان من نفس السنة، فهزم ابن الأشعث أيضاً، ثم ولى هارباً إلى سجستان(3)، حيث كان تصالح مع رتبيل على أن يسقط عنه الخراج إن ظفر، وإن هزم يأوي إليه ويحميه(4)، ولكن الحجّاج هدد رتبيل إن لم يسلم إليه ابن الأشعث ليغزون بلاده بألف ألف مقاتل(5)، فرضخ للتهديد وعزم على تسليمه إليه، فلما أحسَ ابن الأشعث بغدر رتبيل ألقى بنفسه من فوق القصر الذي كان فيه، فمات فأخذ رأسه وأرسلها إلى الحجّاج وكان ذلك سنة 85هـ(6)، وهكذا انتهت حياة ابن الأشعث الذي قاد أخطر ثورة ... ضد عبد الملك بن مروان، أريقت فيها دماء عشرات الألوف من المسلمين وهي ثورة دفعت إليها الأحقاد الشخصية المتأصلة في نفس ابن الأشعث والحجّاج كل منهما للآخر من ناحية، وبغض أهل العراق للحكم الأموي من ناحية ثانية(7)، ومظالم الحجّاج العظيمة التي دفعت بجمهور كبير من العلماء للانضمام للثورة والتخلص من الطاغية الحجّاج.
ثالثاً : موقف العلماء من ثورة ابن الأشعث :
__________
(1) تقع دير الجماجم على سبعة فراسخ من الكوفة من طريق البصرة .
(2) تاريخ الطبري (7/254) .
(3) المصدر نفسه (7/287) .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ551 ، سير أعلام النبلاء (4/184) .
(5) تاريخ الطبري (7/287) .
(6) المصدر نفسه (7/289) .
(7) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ516 .(3/2)
... يختلف موقف العلماء من حركة ابن الأشعث اختلافاً كثيراً عن موقفهم تجاه الحركات الأخرى ضد الدولة الأموية، إذ شارك جمهور غفير من العلماء في حركة ابن الأشعث هذه، سواء بتحريض الناس على المشاركة فيها أو بمشاركتهم المباشرة في القتال مع ابن الأشعث ضد الحجّاج، وقد استفاضت المصادر المتقدمة في ذكر تأييد العلماء ومشاركتهم في هذه الحركة، كما اجتمعت على كثرة عدد العلماء المشاركين ولكن على اختلاف بينهم في تقدير هذا العدد، فيذكر خليفة بن خياط، أن عددهم بلغ خمسمائة عالم، وعد منهم خمسة وعشرين عالماً(1)، ولعل من أسباب كثرة تلك الأعداد المذكورة إدخال غير العلماء فيها من أهل العبادة والصلاح وإن لم يشتهر عنهم العلم، حيث تردد إطلاق اسم القراء على هؤلاء المشاركين، ولعله يشمل العلماء وأهل الصلاح، والزهادة والمشهورين بكثرة التعبد(2).
1 ـ من اشهر العلماء المشاركين في حركة ابن الأشعث:
... وبتتبع كثير من المصادر أمكن حصر العديد من أسماء العلماء المشاركين في تلك الحركة منهم:
أ ـ أنس بن مالك رضي الله عنه: العالم الجليل والصحابي الكريم، فقد كان ممن يؤلب على الحجّاج ويدعو إلى الانضمام إلى ابن الأشعث، ولكنه لم يشارك مشاركة فعالة في القتال لكبر سنه(3).
ب ـ ومنهم أبو الشعثاء سليم بن اسود المحاربي، فقد شارك مع ابن الأشعث، وقيل قتل يوم الزاوية(4).
ت ـ وعبد الرحمن بن أبي ليلى، كان من كبار المشاركين في تلك الحركة المحرضين على القتال فيها، وتوفي بوقعة الجماجم حيث اقتحم به فرسه الفرات فغرق ـ رحمه الله(5) ـ.
__________
(1) تاريخ خليفة صـ286 ، 287 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ552 .
(3) أنس بن مالك طهماز صـ160 ـ 161 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/179).
(5) سير أعلام النبلاء (4/264 ، 267) الطبقات (6/113) .(3/3)
ث ـ الإمام الشعبي: ولكن في مشاركته شيء من الإكراه إذ لم يكن في بداية الأمر على قناعة بالمشاركة، حيث روى عنه أنه قال: فلم أزل عنده ـ أي الحجّاج ـ بأحسن منزلة حتى كان شأن ابن الأشعث، فأتاني أهل الكوفة، فقالوا: يا أبا عمرو، إنك زعيم القراء، فلم يزالوا حتى خرجت معهم(1).
ج ـ سعيد بن جبير، ممن شارك مع ابن الأشعث وكان يحضض على القتال، ونجا من القتل وتوارى عن الحجّاج مدة ولكن تمكن منه عندما قبض عليه والي مكة وأرسله إليه فقتله الحجّاج سنة أربع وتسعين(2). وغير ذلك من العلماء وهذا يدل على أن حركة بن الأشعث لقيت من الدعم والمشاركة من العلماء ما لم تلقه أي حركة قامت ضد الدولة الأموية. وقد كان لمشاركة العلماء في هذه الحركةـ بهذا الحجم ـ أثر كبير على الحركة، فقد كانت مشاركتهم وراء انضمام كثير من الناس لتلك الحركة، ولا سيما أن بعض الفقهاء والقراء كانوا يسعون لإقناع أكبر عدد للانضمام إلى القتال خاصة من فئة العلماء(3)، كما كان للعلماء المشاركين أثر كبير في ميدان القتال، فكانت لهم كتيبة خاصة بهم تسمى كتيبة القراء(4)، وكان بعض العلماء يبعثون الحماس في إتباع ابن الأشعث بما يلقونه من خطب وما يصدرونه من نداءات أثناء القتال كان لها أثر في غرس الثقة في النفوس والثبات في مواطن اللقاء(5)، وقد لقي الحجّاج وجيشه عنتا ومشقة من كتيبة القراء، فقد كان أصحابها يحملون حملة صادقة على جيش الحجّاج فما يعمد بها، ويضربون الكتائب حتى يفرقونها(6)، لذا عبأ الحجّاج لهذه الكتيبة ثلاث كتائب توقف زحفها والتقليل من خطرها
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/327 ، 336) الطبقات (6/265) .
(2) سير أعلام النبلاء (4/327 ، 336) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ557 .
(4) تاريخ الطبري نقلا عن، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ558 .
(5) الكامل في التاريخ (2/154) ، تاريخ الطبري (7/255،254) .
(6) الكامل في التاريخ (4/150) .(3/4)
عليه(1).
2 ـ أسباب مشاركة العلماء في ثورة ابن الأشعث:
انضم إلى حركة ابن الأشعث فئات وطوائف شتى، كل فئة مدفوعة بدافع تسعى لتحقيقه من خلال المشاركة في هذه الحركة، فهناك دوافع إقليمية، ودوافع عرقية، وأخرى اجتماعية، ولم يكن شيء من هذه حرّك العلماء للمشاركة في هذه الفتنة، وإنما انطلقوا من دوافع دينية وشرعية بحسب ما وصل إليه اجتهادهم، وقد كان القاسم المشترك لكل هذه الدوافع شخصية الحجّاج(2)، الظالمة، المتعسفة، الجائرة، والمتعطشة لسفك الدماء ولذلك كان العلماء ينقمون على الحجّاج تعديه لبعض حدود الإسلام وانتهاكه لبعض حرماته، وكانوا ينقمون عليه سوء معاملته وسوء نظرته للعلماء.
أ ـ تعدي الحجّاج لبعض حدود الدين وإنتهاكه لحرماته:
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ558، الكامل في التاريخ (3/154) .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ562 .(3/5)
... كان الحجّاج يملك جرأة عجيبة تعدى بها إلى غير مواضعها مما أدى إلى إحداث شرخ كبير في جانب من حياته المتعددة الجوانب فأسهم بذلك في تشويه صورته وصورة الحكم الأموي، وقد حرص بعض المولعين بشخصية الحجّاج إخفاء هذا الجانب المشوه من حياته، والدراسة الواعية المنصفة تأبى هذا المنهج، وما من شك في أنه ورد الكثير من المبالغات عن انتهاكات الحجاج لحرمات الدين وكثير منها لا يصح ودخل الدس من أعداء الحجّاج وبني أمية في صياغة كثير من هذه المبالغات، لذا فقد استبعدت(1) النقل والاعتماد في هذا الأمر على الكتب التي اشتهر عن أصحابها التهاون في إيراد الروايات دون تمحيص ولاسيما كتب الأدب، كالعقد الفريد لابن عبد ربه، والأغاني للأصفهاني، أو كتب الفرق المغالية في عداوتها لبني أمية كالشيعة، وحاولت(2) النقل والاعتماد على كتب السنة المشهورة بحفظ الأحاديث النبوية الشريفة وما يخدمها من روايات، وكذلك على الكتب المعتبرة التي اشتهر عن أصحابها التحري والدقة كالذهبي في سيره وتاريخه(3). ويأتي في مقدمة تجاوزات الحجّاج الشرعية إسرافه في القتل وأمره به بأدنى شبهة حيث كان الحجّاج يرى وجوب الطاعة العمياء من الرعية له، وأن مخالفة أمره ـ في أي شأن كان صغر أم كبر ـ تبرر له القتل، فقد روى أبو داود بسند صحيح عن عاصم قال: سمعت الحجّاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم ليس فيها مثنوية، واسمعوا وأطيعوا ليس فيها مثنوية لأمير المؤمنين عبد الملك والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلت لي دماؤهم وأموالهم، والله لو أخذت ربيعة بمضر لكان ذلك لي من الله حلالاً(4)، وقال ابن كثير معلقاً على بعض تجاوزات الحجّاج مما يبين سبب استهانته بالقتل:.. فإن الحجّاج كان عثمانياً أموياً، يميل
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ565 .
(2) المصدر نفسه صـ565 .
(3) المصدر نفسه صـ565 .
(4) سنن أبي داود (4/210) صحيح الإسناد .(3/6)
إليهم ميلاً عظيماً، ويرى خلافهم كفر، ويستحل بذلك الدماء ولا تأخذه في ذلك لومة لائم وقال في موضع آخر: أعظم ما نقم عليه وصح من أفعاله سفك الدماء وكفى به عقوبة عند الله(1) عز وجل، بسبب هذا المعتقد الذي استقر في نفس الحجّاج استهان بالقتل واشتهر إسرافه فيه لمخالفي أوامره صغرت أم كبرت، ومع ما ورد من مبالغات في الإحصاءات التي ذكرت عدد قتلى الحجّاج، فما من شك في تعديه الحدود المشروعة في القتل، ويؤيد ذلك ما صح عن المصطفى صلى الله عليه وسلم بروايات متعددة تصف الحجّاج بأنه مبير، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت للحجّاج بعد قتله لابنها عبد الله بن الزبير رضي الله عنه: : إما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً، فأما الكذاب فرأيناه وأما المبير فلا أخالك إلا إياه(2)، وقد أنكر العلماء على الحجّاج هذا الإسراف في القتل، فروي عن الإمام عبد الرحمن بن أبي أنعم أنه قال للحجّاج: لا تسرف في القتل إنه كان منصوراً فقال الحجّاج: والله لقد هممت أن أروي الأرض من دمك. فقال: إن من في بطنها أكثر ممن في ظهرها(3)، وكان جواب سعيد بن جبير للحجّاج عندما سأله عن رأيه فيه فقال: نعم ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله(4).
__________
(1) البداية والنهاية (12/507 إلى 554) .
(2) مسلم، ك فضائل الصحابة (4/1971) .
(3) سير أعلام النبلاء (5/63) المعرفة والتاريخ للنسوي (2/574) .
(4) صفة الصفوة (3/45) .(3/7)
ـ ... ومن التجاوزات التي كان العلماء ينكرونها على الحجّاج تأخيره للصلاة عن وقتها، وتأخير الصلاة عن وقتها ليس خاصاً بالحجّاج بل كانت عادة عند بعض خلفاء بني أمية وسار ولاتهم على نهجم ولكن الذي يؤخذ على الحجّاج مع تأخيره الصلاة عدم قبوله تنبيه أحد من العلماء أو إبداء النصح منهم له في ذلك وهذا مأخذ آخر أخذه العلماء على الحجّاج وهو عدم قبوله لقيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(1)، ومن ذلك أن الحجّاج أنكر يوماً أن يكون الحسين بن علي رضي الله عنه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ابن ابنته فقال له العالم الجليل يحي بن يعمر: كذبت. فقال الحجّاج: لتأتيني على ما قلت ببينة من كتاب الله أو لأضربن عنقك فقال: قال الله ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ)) إلى قوله ((وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى)) (الأنعام ، الآيتان : 84 و85). فعيسى من ذرية إبراهيم، وهو إنما ينسب إلى أمه مريم، والحسين ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الحجاج صدقت، فما حملك على تكذيبي في مجلسي، قال: ما أخذ الله على الأنبياء ((لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)) (آل عمران ، الآية : 187) فنفاه إلى خراسان(2).
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ569 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/442) .(3/8)
ـ ... ومن تجاوزات الحجّاج الشرعية تطاوله على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء تعامله مع العلماء، ومرّ معنا معاملته القبيحة لابن عمر، وابن الزبير والسيدة أسماء بنت الصديق رضي الله عنهم جميعاً، فمن ذلك تطاول على عبد الله بن مسعود وهو متوفي رضي الله عنه فقد قال: والله لو أدركت عبد هذيل لضربت عنقه(1) وفي أخرى أنه قال: ابن مسعود رأس المنافقين، لو أدركته لأسقيت الأرض من دمه(2)، وقد علق الذهبي على أقوال الحجّاج في عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: قاتل الله الحجّاج ما أجرأه على الله كيف يقول هذا في العبد الصالح عبد الله بن مسعود(3) ومن تطاول على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوء أدبه معهم ما حدث منه لكل من أنس بن مالك ـ خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجابر بن عبد الله وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم، فقد ورد أنه ختم على كل واحد منهم بختمه المشهور ((عتيق الحجّاج)) أنس وسهل في عنقيهما وجابر في يده(4)، أما فعله ذلك بأنس فلأنه بايع ابن الزبير وتولى له البصرة، ولأنه كان يحرص على المشاركة مع ابن الأشعث، لذا ناله ما ناله من أذى الحجّاج ولم ينقذه من إهانة الحجّاج إلا تدخل الخليفة عبد الملك حيث كتب كتاباً وبخ فيه الحجّاج على فعله بأنس وأمره بعدم التعرض له(5)، وأما سهل فقد ورد أن الحجّاج أرسل إليه يقول: ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان؟ قال: قد فعلت. قال كذبت ثم أمر به فختم في عنقه(6). وهذه عقدة عند الحجّاج حيث كان متعصباً للأمويين أكثر من تعصبهم لأنفسهم ففي الحين الذي نجد
__________
(1) المستدرك على الصحيحين (3/641) تهذيب تاريخ دمشق (4/72) .
(2) تهذيب تاريخ دمشق (4/72) .
(3) تهذيب الكمال (12/188) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ575 .
(4) تهذيب الكمال (12/188) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ575 .
(5) المستدرك على الصحيحين (3/664) أثر العلماء صـ576 .
(6) تهذيب الكمال (12/188) .(3/9)
معاوية وعبد الملك توددوا لكثير من الرجال الذين وقفوا ضدهم مع علي أو مع ابن الزبير وعفوا عما سلف منهم واستلوا بذلك ضغائن نفوسهم نجد الحجاج يخالف هذا المنهج السديد فيصر على محاسبة الرجال على ما سالف منهم أيام الفتن فأوغر صدور الكثير عليه وعلى بني أمية بهذا المسلك(1)، وأذكر مثال يوضح الفرق بين نظرة عبد الملك ونظرة الحجّاج للرجال وطريقة التعامل معهم، فقد كان محمد بن الحنفية ممن أمتنع عن مبايعة عبد الملك أو ابن الزبير حتى يجتمع المسلمين على واحد منهما، فلما تم قتل عبد الله ابن الزبير بعث الحجّاج على الفور لابن الحنفية يسأله البيعة ويقول: قد قتل عدو الله، فقال ابن الحنفية: إذا بايع الناس بايعت. قال والله لأقتلنك ومع أن ابن الحنيفة بايع لعبد الملك لما رأى اجتماع كلمة المسلمين عليه، إلا أن الحجّاج استمر في مضايقة ابن الحنيفة، فلما قدم على عبد الملك أكرمه عبد الملك وقضى كل حوائجه، ثم اشتكى إليه سوء معاملة الحجّاج له وكان حاضراً عند عبد الملك فقال: إن هذاـ يعني الحجّاج ـ قد آذاني واستخف بحقي ولو كانت خمسة دراهم أرسل إلى فيها. فقال عبد الملك: لا إمرة لك عليه وطلب منه أن يستل سخيمه ابن الحنيفة ويترضاه(2).
ب ـ سؤ معاملة الحجّاج ونظرته للعلماء:
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ577 .
(2) مختصر تاريخ دمشق (9/148) لابن منظور.(3/10)
وقد كان لتجاوزات الحجّاج وسؤ تعامله مع أهل العلم والفضل في مكة والمدينة أثر في عزله عن الحجاز بعدما كثرت الشكوى منه عند عبد الملك، فلما تولى العراق استمر في سوء تعامله فوجد كثير من العلماء المضايقة والشدة منه فضرب بعض العلماء في ولايته وسجن بعضهم ونفي بعض آخر، وقد يظن بعض الكتاب أن هذا الضرب والسجن بل والقتل للعلماء إنما حدث بعد فتنه ابن الأشعث فحسب فيكون تعامل الحجّاج هذا جاء ردة فعل على مشاركة العلماء في هذه الحركة، ولكن الأمر على غير هذا الظن فقد حدثت بعض تلك المضايقات والمعاملة السيئة قبل حركة ابن الأشعث، فمعاملته لابن عمر وجابر رضي الله عنهما كانت قبل ذلك حيث توفيا قبل حركة ابن الأشعث(1)، وقد تعدت مضايقة الحجّاج للعلماء للذين لم يشاركوا في هذه الحركة، ومن عهد عنهم النهي عن الخروج على الولاة ولا يرون استخدام السيف لتغير المنكر، ومن هؤلاء الحسن البصري فقد اشتهر عنه النهي عن حمل السيف ومقاومة ظلم الولاة به، وعندما أكره على المشاركة في القتال تخلص وهرب من الصف ومع ذلك فقد كان الحجّاج يطلبه وحاول قتله مراراً ولكن الله يعصمه منه(2)، حتى اضطر الحسن أن يختفي عن الحجّاج في منزل بعض أصحابه وهو أبو خليفة الحجّاج بن عتاب(3)، فكان أصحابه وطلابه يغشونه لمدارسته العلم والتلقي عنه في مكان تواريه(4)، ومن الذين لم يشاركوا في فتنة ابن الأشعث إبراهيم النخعي، ومع ذلك فقد عاش مدة مختف عن الحجّاج والحجّاج يطلبه حتى كان لا يصلي جماعة مدة اختفائه مخافة من الحجّاج(5)، وكذلك شأن الإمام مجاهد بن جبر، فإنه كان ممن يطارده الخوف من ظلم الحجّاج حتى اضطر إلى التواري
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ578 ، 579 .
(2) تاريخ الإسلام للذهبي نقلاً عن أثر العلماء صـ580 .
(3) كتاب المتوارين للأزدي صـ45 .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ581 .
(5) سير أعلام النبلاء (4/521) أثر العلماء صـ581 .(3/11)
عنه(1).
... ومن هذا العرض السابق يتضح مدى ما وصلت إليه تجاوزات الحجّاج الشرعية وطبيعة علاقته مع العلماء وعلاقة العلماء به والجدير بالذكر أنه لم تصل علاقة العلماء بأي والٍ من ولاة الدولة الأموية في سوئها كما وصلت إليه علاقتهم مع الحجّاج، بل كانت علاقتهم مع ولاة الدولة في عمومها حسنة يعينونهم على الحق، ويجاهدون معهم ويأمرونهم بالمعروف ويبدون لهم النصح فيسمع منهم في كثير من الأحيان(2)، ومن كل ما سبق يتضح أنه كان للحجّاج الأثر الكبير في مشاركة العلماء في حركة ابن الأشعث، بل وفي قيام تلك الحركة من وجهين. الأول: أنه بأسلوب الشدة والقسوة أضرم نيران الحقد والكراهية في قلوب مختلف الفئات من الناس في العراق ـ بما فيهم العلماء ـ عليه وعلى بني أمية والوجه الآخر: أنه كان سبباً مباشراً لإعطاء ابن الأشعث الفرصة في القيام بتلك الثورة، حيث جنده بكل ما يملك من جنود وسلاح ومال وهو يعلم ما بينهما من كره متبادل، وقد حذر من ذلك بأسلوبه المتعنت في التعامل مع ابن الأشعث وجنوده في رسائله التي تفوح بالحمق حيث ملأها بالشتائم لابن الأشعث ولم يراع مصلحة الجنود كما لم يشعرهم بأهميتهم لديه، بل العكس في ذلك كأنما أراد بتصرفه معهم التخلص من حياتهم وهذا يمثل ما وصل إليه غرور الحجّاج بنفسه(3).
3 ـ معارضة بعض العلماء لثورة ابن الأشعث:
__________
(1) المتوارين للأزدي صـ53 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ583 .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ586 .(3/12)
... كان هناك عدد من العلماء عارضوها أو اعتزلوها ولم يروا المشاركة فيها، ومن أبرز هؤلاء أبو الشعثاء جابر بن زيد الأزدي(1)، فهو من الذين لم يشاركوا في هذه الثورة، وأبو قلابة الجرمي، فلم يشارك وكان يعتب على غيره ممن شارك(2)، ومنهم إبراهيم النخعي، فلم يشارك وكان يعيب على سعيد بن جبير مشاركته فيها(3)، وقد قيل له أين كنت يوم الزاوية؟ قال: في بيتي. قالوا: فأين كنت يوم الجماجم؟ قال: في بيتي. قالوا: فإن علقمة شهد صفين مع علي، فقال: بخ بخ من لنا مثل علي بن أبي طالب ورجاله(4)، وممن لم يشارك في حركة ابن الأشعث أيوب السحتياني، فروي عنه أنه يقول في العلماء الذين خرجوا مع ابن الأشعث لا أعلم أحداً منهم قتل إلا رغب له عن مصرعه، أو نجا إلا ندم على ما كان منه(5)، ومنهم طلق بن حبيب، فكان معتزلاً الفتنة وكان يقول: اتقوها بالتقوى(6)، ومنهم مطرف بن عبد الله الشخير فقد امتنع عن المشاركة في هذه الفتنة، وحين جاءه ناس يدعونه للمشاركة امتنع، فلما أكثروا عليه قال: أرأيتم هذا الذي تدعوني إليه، هل يزيد على أن يكون جهاداً في سبيل الله؟ قالوا: لا. قال: فإني لا أخاطر بين هلكة أقع فيها وبين فضل أصيبه(7)، ومنهم مجاهد بن جبر. فإنه لم يشارك وحين دعي للمشاركة قال لمن دعاه: عده بابا من أبواب الخير تخلفت عنه(8)، ومنهم خيثمة بن عبد الرحمن الجعفي ومحمد بن سيرين فقد ورد ذكرهما مع الذين لم يشاركوا في فتنة ابن الأشعث(9).
4 ـ موقف الحسن البصري من ثورة ابن الأشعث:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/482) .
(2) المصدر نفسه (4/513) .
(3) الطبقات(6/266) أثر العلماء صـ559 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/526) .
(5) سير أعلام النبلاء (4/513) .
(6) سير أعلام النبلاء (4/601) الحلية (3/64) .
(7) المعرفة والتاريخ للنسوي (1/711) أثر العلماء صـ560 .
(8) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ561 .
(9) المصدر نفسه صـ561 .(3/13)
... يعد الحسن البصري واحداً من أولئك العلماء الذين اعتزلوا القرب من الولاة والأمراء وابتعدوا عن المناصب ورغبوا عن وجاهتها، فقد كان ينهي العلماء عن طرق أبواب الأمراء والتزلف لهم، لأن في ذلك إهانة للعلم وحطا من قدر العلماء ومكانتهم(1)، وبقي الحسن معتزلاً القرب من الولاة بعيداً عن تولي مناصبهم حتى توفي ـ رحمه الله ـ. إلا أن ذلك لم يكن سبباً في انزوائه عما يجري في عصره من أحداث سياسية بل كان، علماً بارزاً يهتدي كثير من الناس ـ بتوجيهاته المفيدة وآرائه السديدة، لاسيما في أوقات الفتن وفترات الخلاف لذا قال فيه الثقات: كان والله الحسن من رؤوس العلماء في الفتن والدماء والفروج(2)، وكان ينحى في نصحه للعامة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف وينهي عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة وكان يرى وجوب الموازنة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة، ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثل مدرسة سياسية في عصره، فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراض دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال من الأمويين(3)، وعلى ذلك أصبح موقفه من الحكم الأموي يقوم على أمور منها:
__________
(1) المصدر نفسه صـ338 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/575) وفيه زيادة لفظه الفروج والمقصود بها الثغور .
(3) موسوعة فقه الحسن البصري قلعجي (1/11) .(3/14)
أ ـ عدم الخروج على حكم بني أمية لما في ذلك: من سفك الدماء، وتقويض لقوة المسلمين، وازدياد الجور والظلم(1)، فقد دخل عليه رجل فقال: يا أبا سعيد إني أريد أن أسألك عن الولاة، فقال الحسن: سل عما بدالك. فقال: ما تقول في أئمتنا هؤلاء؟ فسكت الحسن ملياً ثم قال: وما عسى أن أقول فيهم وهم يلونا من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة، والفيء والثغور، والحدود، والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وإن ظلموا، والله ما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، والله إن طاعتهم لغبطة، وإن فرقتهم لكفر، فقال الرجل: يا أبا سعيد والله إني لذو مال كثير، وما يسرني أن يكون لي أمثاله وإني لم أسمع منك الذي سمعت فجزاك الله عن الدين وأهله خيراً، وحين سئل عن الحجّاج قال: يتلو كتاب الله ويعظ وعظ الأبرار ويطعم الطعام ويؤثر الصدق ويبطش بطش الجبارين. قالوا فما ترى في القيام عليه؟ فقال: اتقوا الله، وتوبوا إليه يكفيكم جوره(2). وكان إذا قيل له ألا تخرج فتغير قال: إن الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف(3). وكان يرى أن جور الحكام بسبب ما يحدثه الناس من ذنوب ومعاصي، وإن من أهم أسباب دفع الجور والظلم هو الرجوع إلى الله وكان يحث الناس على تجنب الفتن والبعد عن أسباب إشعالها وحين بلغ السخط على الحجّاج أوجه وثار عليه الناس مع ابن الأشعث وكان جملتهم عدد من العلماء لزم الحسن موقفه من الفتن فلم يخرج مع من خرج بل كان يكره ذلك وينهي الناس عنه وكان أخوه سعيد ممن يرى الخروج على الحجّاج ويدعو له، فعن حماد بن زيد بن أبي التياح قال: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن(4) حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهي عن الخروج على الحجّاج ويأمر بالكف وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض، فقال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام
__________
(1) الفقهاء والخلفاء صـ78 ، 79 .
(2) آداب الشيخ الحسن البصري لابن الجوزي صـ120 ، 121 .
(3) الطبقات الكبرى (7/172) .
(4) هو أخو الحسن البصري .(3/15)
إذا لقيناهم غداً؟ فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه ولكنا نقمنا عليه استعمال الحجّاج فاعزله عنا، فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجّاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم(1)، وقدم عليه جماعة من العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج، ولكنه رفض الخروج وقال: أرى أن لا تقاتلوه فإنها أن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث فقتلوا جميعاً(2)، وعندما أفتى رجلاً بعدم جواز الخروج على الحجّاج قال له الرجل: لقد كنت أعرفك سيء القول في الحجّاج غير راضٍ عن سيرته، فقال الحسن: وأيم الله إني اليوم لأسوأ فيه رأياً، وأكثر عتباً، وأشد ذماً ولكن لتعلم عفاك الله أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقي بالسيوف، وإنما تتقي، وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب(3) ، ولما توفي الحجّاج وجاء خبر وفاته الحسن سجد وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته فاقطع عنا سنته وأرحنا من سنته وأعماله الخبيثة(4)، وكان يوضح للناس حقيقة ما يعيشه بعض الولاة من تقلبه في عيش الفتنة بزخرف الحياة الفانية حتى لا يغتر بهم الناس فكان يقول: هؤلاء ـ يعني الملوك ـ وإن رقصت بهم الهماليج(5)، ووطيء الناس أعقابهم فإن ذل المعصية في قلوبهم،
__________
(1) الطبقات الكبرى (7/164) .
(2) المصدر نفسه (7/164) .
(3) آداب الحسن البصري لابن الحوزي صـ118 .
(4) حلية الأولياء (2/159) .
(5) الهماليبح : من البراذين . الكلمة فارسية معربة .(3/16)
إلا أن الحق ألزمنا طاعتهم، ومنعنا الخروج عليهم، وأمرنا أن نستدفع بالتوبة والدعاء مضرتهم، فمن أراد به خيراً لزم ذلك وعمل به، ولم يخالفه(1)، وكان ينهي العامة عن القتال وحمل السلاح حين تقبل الفتن، فعن سلم بن أبي الذيال قال: سأل رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين(2)، فكان يرى أنه يجب على المسلم الاعتزال وعدم المشاركة في سفك دماء المسلمين، فلا يقاتل في صفوف الخارجين على السلطة، ولا مع جيش الخليفة، إذا كان ظالماً(3).
__________
(1) آداب الحسن البصري صـ121 .
(2) الطبقات (7/164) .
(3) الفقهاء والخلفاء صـ79 .(3/17)
ب ـ وبالرغم من قوله بعدم الخروج على حكم بني أمية، إلا أنه كان يرى وجوب الإنكار عليهم لظلمهم، واستئثارهم بالأموال، وتوليتهم الولاة الظلمة، كأمثال الحجّاج، وكان شديد الانتقاد للحكم الأموي وخاصة سياسات الحجّاج في العراق، وكان يواجه الحجّاج بانتقاداته غير خائف من بطشه(1)، وعن ميمون بن مهران قال: بعث الحجّاج إلى الحسن وقد همّ به، فلما قام بين يديه قال: يا حجّاج، كم بينك وبين آدم من أب؟ قال كثير قال: فاين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن وقال أيوب السختياني: إن الحجّاج أراد قتل الحسن مراراً فعصمه الله منه(2)، وكان يحذر العلماء من مخالطة السلاطين والحكام لكي لا يوهموا المسلمين برضاهم عن حكمهم، ولكي يشعروا الحكام بعدم رضاهم عن سياساتهم الجائرة وكان يرى أن في مخالطة العالم والمفتي للحاكم إذلالاً لمكانته العلمية، والاجتماعية، وكان يقول لبعض الفقهاء ممن كانوا يخالطون الأمراء: والله لو أنكم زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم وهابوكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم(3)، ومع حرصه الشديد على عدم مخالطة الأمراء والحكام إلا أنه تولى القضاء في البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز(4)، نظراً لعدل وحسن سيرة عمر بن عبد العزيز(5). إن منهج الحسن في التعامل مع الحكام منهج وسط معتدل، فهو مع نهيه عن الخروج على الولاة وكرهه للمواجهة معهم لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة من سفك الدماء، وتفريق الأمة، وتعطيل الجهاد ..الخ . إلا أن ذلك لا يفهم منه تبريره لإخفاء الولاة أو عدم إنكارها، بل كان يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر.
5 ـ أسباب فشل ثورة ابن الأشعث:
__________
(1) موسوعة فقه الحسن البصري (1/13) .
(2) البداية والنهاية (12/543 ، 544) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/586) .
(4) الفقهاء والخلفاء صـ80 ، سير أعلام النبلاء (4/582) .
(5) الفقهاء والخلفاء صـ80 .(3/18)
أ ـ عدم تمكن العلماء من السيطرة على مسار تلك الحركة: وذلك حين تطور الأمر وخلع الثائرون الخليفة عبد الملك بن مروان، فلم يتمكن العلماء من إقناع الناس بالحفاظ على الهدف الذي قامت الثورة لأجله وهو خلع الحجّاج، بل ربما جر بعض العلماء إلى القناعة بهذا المسار الجديد ، وتأكد فشل العلماء في عدم محافظتهم على الهدف الرئيس للحركة وذلك حينما عرض عبد الملك على الثائرين عزل الحجّاج، ولكن الزهو والعجب بما تحقق من انتصارات أدى إلى رفض ذلك العرض من الخليفة ولم يتمكن العلماء من إقناع الثائرين بقبوله، وبهذا الرفض.
ب ـ تحكم أصحاب الدوافع الإقليمية والمذهبية في مسارها:
استطاع أصحاب الدوافع الإقليمية والميول المذهبية أن يسيروا بالحركة نحو التخلص من بني أمية.
ج ـ عدم امتلاك الثورة لرؤية كاملة: فقد أصبح العلماء يسيرون في طريق غير واضح المعالم، سوى تحقيق الانتصار على جيوش الأمويين، ولكن ماذا بعد؟ هل بالإمكان تغيير الخليفة بالانتصار على جيوش الأمويين في العراق، وهل يستستسلم الشام بهذه السهولة، أو تقر الأقطار الإسلامية ذلك؟ وهل يكون ابن الأشعث هو الخليفة للمسلمين في حالة القضاء على عبد الملك، لقد دخلت الثورة في طريق شائك معقد بمجرد رفضها عرض الخليفة بعزل الحجّاج واضطربت أهدافها مما أدى إلى وأدها وفشلها وانتصار جيوش الخليفة عليها(1).
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ587 .(3/19)
س ـ ذكاء الخليفة عبد الملك ودعمه المستمر بالجيوش للحجّاج، فقد مال للصفح والمسالمة والمسامحة ولبى طلب أهل العراق في عزل الحجّاج من أجل حقن الدماء وتوفير الجهود والحفاظ على الجبهة الداخلية الواحدة المتراصة، وكان عرضه على ابن الأشعث في عزل الحجّاج كسب سياسي له حيث تبلبل صف ثورة ابن الأشعث واختلفت الآراء، وكان عبد الملك في نفس الوقت قد أعد جيشين من أهل الشام، وسلم القيادة لأقرب الناس إليه إلى أخيه وولده وأمرهما بالتقيد بأوامر والي العراق(1)، إن عدد العساكر المقاتلة والقادة وتزويدهم بكل ما يحتاجون ثم تكليفهم بالمفاوضة مع ابن الأشعث، منحت الثقة لابنه وأخيه، وهزت قرارة نفوس العراقيين وهذا من رباطة جأش الخليفة، فكأنما قد قدّم جرعة كبيرة من الحرب النفسية، الأمر الذي أدخل الرهبة في نفس المفاوض الأول حتى مالت نفس ابن الأشعث للرضوخ لولا أصحابه، كما أكسبت الثقة للجنود الشاميين فكانوا يقاتلون ببسالة، ومن هنا يظهر دور الخليفة في كبح الحجّاج حيناً، وفي إعداد الجيش حيناً آخر، فلولاه لما كان بالإمكان القضاء على هذه الانتفاضة وبهذا القدر من الجهد، ويعود ذلك إلى السياسة المتجددة، القائمة على أصول من الفهم الكامل لخطط الخليفة البعيدة المدى، فقد كان رجل دولة من الطراز الأول يملك خطة مستقبلية لدولة قادرة على وضع أهدافها التكتيكية والاستراتيجية من أجل بناء دولة القوة والمنعة(2) على أسس راسخة من الملك العضوض،
ج ـ القيادة لم تكن بيد العلماء وإنما بيد الأشعث.
خ ـ عدم وجود تنظيم قوي يتحكم في توجيه الثوار وفق الأهداف المرسومة من القادة .
ش ـ شخصية بن الأشعث وطبيعة جيشه:
__________
(1) تجديد الدولة الأموية في عهد الخليفة عبد الملك صـ132 .
(2) تجديد الدولة الأموية صـ133 .(3/20)
... لم تكن شخصية ابن الأشعث تملك الصفات القيادية من بعد نظر، وثاقب فكر، وتقدير للأمور، وثبات في المواقف، فقد وقع في شباك رتبيل وباعه للحجّاج مقابل مصالحه وتحالف مع الكفّار ضد المسلمين، ولم يستطع أن يقود جيشه كما يريد بل انقاد لعواطف ومشاعر الجنود فأودت به إلى حتفه، كما أن جيشه لم يكن ينقصه عدد أو عدة، ولكن حماسهم خفّ بسبب طول انتظارهم، ولم تكن لهم طاعة قوية لرؤسائهم، بعكس أهل الشام الذين كانوا جنداً نظاميين بكل ما لهذه الكلمة من معاني(1)، وهذه أبيات من الشعر تصوّر حزنهم واعترافهم بأنهم لم يصبروا ويدافعوا حق المدافعة عن دنياهم التي أضاعوها بتفريطهم:
... ... ... أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً
... ... ... ... ... ... ... ويا حر الفؤاد لما لقينا
... ... ... تركنا الدين والدنيا جميعاً
... ... ... ... ... ... ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
... ... ... فما كنا أناساً أهل دين
... ... ... ... ... ... ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا
... ... ... وما كنا أناساً أهل دنيا
... ... ... ... ... ... ... فنمنعها ولو لم نرجُ دينا
... ... ... تركنا دورنا لطغام عَكٍ
... ... ... ... ... ... ... وأنباط القرى والأشعَرينا(2)
6 ـ من نتائج فشل ثورة بن الأشعث :
أ ـ ازدياد تسلط الحجّاج:
... ترتب على فشل نتائج ثورة ابن الأشعث نتائج خطيرة وسيئة، فقد زاد انتصار الحجّاج في النهاية على الثوار من تسلطه وتجبره، واشتد أكثر في تضييقه على العلماء فقتل من قتل منهم وسجن من سجن منهم وهرب من وجهه من استطاع(3).
ب ـ ندم الكثير من العلماء:
__________
(1) تاريخ خلافة بني أمية صـ177 .
(2) تاريخ الطبري (7/266) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ588 .(3/21)
... وندم الكثير من العلماء المشاركين في ثورة ابن الأشعث، فهذا طلحة بن مصرف يقول: شهدت الجماجم، فما رميت، ولا طعنت، ولا ضربت، ولوددت أن هذه سقطت هنا ولم أكن شهدتها(1)، وعن محمد بن طلحة قال: رآني زبيد اليامي مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك فقال: لو شهدت الجماجم ما ضحكت ولوددت أن يدي ـ أو قال يميني قطعت من العضد وأني لم أكن شهدت(2)، كما ندم عقبة بن عبد الغافر على مشاركته في القتال كذلك، وغيرهم من العلماء.
جـ ـ انتصار رأي العلماء القائلين بعدم الخروج:
... علت منزلة العلماء الذين اعتزلوا تلك الفتنة ولم يشاركوا فيها، فعن ابن عون قال: كان مسلم بن يسار أرفع عندأهل البصرة من الحسن حتى خف مع ابن الأشعث وكف الحسن، فلم يزل أبو سعيد ـ يعني الحسن ـ في علو منها(3)، وقد أسهمت حركة ابن الأشعث ـ بنهايتها بتلك الصور ـ في إقناع كثير ممن كان يرى استخدام القوة وحمل السيف لتغيير الجور والظلم الواقع من الولاة بعدم جدواها ولذلك قال ابن تيمية عقب الحديث عن ما حدث من فتن وقعت باجتهاد من بعض أهل العلم والصلاح، كخروج الحسين بن علي رضي الله عنه، وفتنة خروج أهل المدينة ووقعة الحرّة وفتنة ابن الأشعث قال: ولهذا استقر مذهب أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم(4)، وقال ابن حجر في ترجمة أحد هؤلاء الذين كانوا يرون السّيف: كان يرى الخروج بالسّيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسَّلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه أفضى إلى أشدّ منه، ففي وقعة الحرّة ووقعة ابن الأشعث ـ يعني: دير الجماجم ـ وغيرها عظة لمن تدبر(5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/192) .
(2) تاريخ خليفة صـ287 .
(3) الطبقات الكبرى (7/165) .
(4) منهاج السنة (4/529 ، 530) ، الإمامة العظمة صـ512 .
(5) تهذي التهذيب (2/250) .(3/22)
س ـ ظهور بدعة الإرجاء : أو نوع منه وهو ما يسمى(إرجاء الفقهاء نسبة إلى بعض الفقهاء الذين يقولون بأن الإيمان قول بلا عمل، وأنه لا يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم واحد يستوي فيه كل من اعتقده بقلبه وقال بلسانه، حيث يخرجون الأعمال ـ التي يتفاضلوا فيها المؤمنون ـ عن الإيمان، فيستوي عندهم، إيمان الصادقين الأولين كأبي بكر وعمر، وإيمان أفجر الناس كالحجّاج، وأبي مسلم الخراساني وغيرهما(1)، والذي دعا إلى الربط بين ظهور ذلك النوع من الإرجاء وحركة ابن الأشعث ما يشير إليه كثير من الذين كتبوا عن تاريخ الفرق حيث اشتهر عندهم قول قتادة: إنما أحدث الإرجاء بعد هزيمة ابن الأشعث(2)، وذكروا أن الكوفة كانت موطن الإرجاء الأول ثم إنتشر منها إلى سائر الأقطار(3) ويقول الدكتور ناصر العقل: أول ما ظهرت بدعة الإرجاء بعد فتنة ابن الأشعث سنة (83)(4)، وهو إرجاء العمل عن الإيمان ويسمى ((إرجاء الفقهاء))، وأول من قال به هو: ذر بن عبد الله المرهبي الهمداني، (مات قبل المائة(5) ثم ظهور القول بأن الإيمان قول: وأول من قال ذلك حماد بن أبي سليمان(6)، ت 120هـ واستقر إرجاء الفقهاء على ثلاثة أسس كلها مخالفة لقول السلف وهي:
ـ زعمهم أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو التصديق.
ـ زعمهم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.
ـ زعمهم أنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان(7).
__________
(1) الفتاوي (7/195) .
(2) الإبانة عن شريعة الفرقة الناحية (2/889) .
(3) الفتاوي (7/311) ، القدرية والمرجئة للعقل صـ86 ، 116 .
(4) السنة لعبد الله بن حنبل (1/309) .
(5) السنة ، لعبد الله (1/329) .
(6) الفتاوي (7/297 ، 311) .
(7) دراسات في الأهواء والفرق والبدع صـ248 .(3/23)
ويقال أن ذراً بن عبد الله المرهبي ـ وكان ممن شارك في فتنة ابن الأشعث ـ فبعد الهزيمة أصيب بردة فعل جعلته يتحول من تكفير الحجّاج وقتاله إلى اتجاه معاكس وهو الإرجاء الذي يسوي فيه أصحابه بين إيمان الحجّاج وأيمان غيره ولو كان من أعبد الناس واتقاهم لله(1). ويقول طاووس بن كسيان ـ منتقداً ذراً المرهبي ومن سلك مسلكه من الفقهاء: عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمون الحجّاج مؤمناً. قال الذهبي معلقاً على قول الطاووس: قلت يشير إلى المرجئة منهم، الذين يقولون: هو مؤمن كامل الإيمان مع عسفه وسفكه الدماء وسبه الصحابة(2)، وهكذا دأب الفتن فإنها غالباً ما تفرز بعدها بعض التوجهات المنحرفة أو المواقف المتضاربة تجاه أمر معين، حيث لا يسلم من ذلك إلا من عصمه الله بنور الإيمان ورسوخ العلم جعلنا الله منهم(3)
7 ـ ممن عفا الحجاج عنهم الشعبي وأسيرين:
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ592 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/44) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ593 .(3/24)
... أمر الحجّاج بعد انتهاء دير الجماجم مناديه أن يقول: من لحق بقتيبة ابن مسلم بالري فهو آمن، فكان الشعبي من الذين توجهوا إلى الري فذكره الحجّاج يوماً وسأل عنه فعلم بلحوقه بالري، فكتب إلى قتيبة بن مسلم يأمره بإرسال الشعبي إليه فأرسله إليه فلما قدم على الحجّاج لقيه يزيد بن أبي مسلم ـ حاجب الحجّاج ـ وكان صديقاً للشعبي ـ فقال للشعبي: أشر علي. فقال يزيد: اعتذر ما استطعت، وقال الشعبي: وأشار بمثل ذلك إخواني ونصحائي، فلما دخلت على الحجّاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه بالإمرة وقلت: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وإيم الله لا اقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله مردنا عليك وحرّضنا وجهدنا فما كنّا بالأقوياء الفجرة ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرّت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا(1). فقال الحجاج: أنت والله أحبّ إليّ قولاً ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت، وقد أمنت يا شعبي، كيف وجدت الناس بعدَنا؟ فقلت: أصلح اللهُ الأمير، اكتحلت بعدك السحر، واستوعرت الخباب، واستحلست الخوف وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف يا شعبي فانصرفت(2)، ولم يقتصر العفو على الشعبي لأنه فقيه أهل العراق فقد عفا عن أشخاص من عامة الناس لصدقهم فيروي أنه أتى بأسيرين، فأمر بقتلهما فقال أحدهما إن لي عندك يداً، قال: ما هي قال: ذكر ابن الأشعث يوماً أمك بسوء فنهيته فقال الحجّاج ومن يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر فسألة الحجّاج فصدقه فقال له الحجّاج: لم لم تفعل كما فعل؟ قال: ينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم، قال: منعني البغض لك ولقومك. فقال الحجّاج: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه(3)
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/165) .
(2) المصدر نفسه (3/166) .
(3) عيون الأخبار (1/98) ، الحجاج بن يوسف المفترى عليه صـ292 .(3/25)
.
8 ـ توحيد الدولة والقضاء على الثورات الداخلية:
... استطاع عبد الملك أن يقض على كل الحركات الداخلية وقد ذكرت أهم هذه الثورات، كثورة الأزارقة، والصفرية، وابن الأشعث، وهناك حركات أخرى ذكرتها كتب التاريخ كحركة مطرف بن المغيرة بن شعبة، وعبد الله بن الجارود، وحركة الأزد في عمان، وفي نهاية المطاف تغلب عبد الملك عليها واحدة تلو الأخرى ووضع الأساليب المناسبة لتحقيق الأهداف المخططة لذلك وقد أثبتت الأحداث قدرة الخليفة عبد الملك بن مروان على معرفة الأحداث معرفة جيدة، ثم السيطرة على هذه الأحداث والقدرة على احتوائها، باستئصال خصومه حيناً، والتسامح معهم حيناً آخر، ضمن خطة سياسية ومنهج قائم على أهداف واضحة، أدت إلى النتائج المتوخاة، وهي إعادة الوحدة السياسية مرّة أخرى، مما أدى إلى إيجاد علاقات جديدة مع الدولة البيزنطية، والقيام بفتوحات جديدة في الشرق والغرب ثم القيام بالعديد من الإصلاحات الجديدة، منحت سياسته الداخلية والخارجية قدرة على التخطيط الشامل الذي يؤدي إلى تحقيق الأهداف المنشودة(1)
المبحث الثالث: النظام الإداري في عهد عبد الملك:
__________
(1) تجديد الدولة الأموية 134 .(3/26)
أهتم عبد الملك بن مروان اهتماماً خاصاً بإدارة شؤون الدولة وسار على نهج معاوية في تطوير المؤسسات والاهتمام بالإصلاحات، وقد قام بتطوير الجهاز الإداري وتنشيطه، وقام بتعريب الإدارة والنقد وهو ما يعرف بحركة التعريب، كما استعان بنخبة من أمهر رجال عصره في الإدارة والسياسة، فقد كرّس عبد الملك كل وقته وجهده لتوطيد أركان الدولة وتنظيمها والسهر على سلامتها، حتى تركها قوية غنية مرهوبة الجانب مرعية السلطان(1)، وقد أعاد عبد الملك تنظيم الحكم الأموي على أسس جديدة واستفاد من سياسة معاوية ومن الأنظمة التي وضعها ولكنّ نزعته للتفرد بالسلطان والحكم جعلته يخالف معاوية رضي الله عنه في كثير من الأمور، فمعاوية كان يُشعر جلساءه وقواده وولاته على الأقطار أن لهم الحرية في النقد والقول، والرأي، أما عبد الملك فلا يشعرهم بشيء من ذلك، فهم بين يديه ليسيروا على هواه وليقدم إليهم الأوامر فينفذوها، فما كان يسمح لجلسائه بأن يجتزئوا من سلطانه شيئاً، وقد نظم دولته على هذا الأساس من التمسك بالسلطان والسيادة والانفراد ونظم وسائل الحكم تنظيماً جعله السيد المتفرد في دولته، ويبدو أن نظرته للنظام شملت النواحي الآتية:
ـ دواوين الدولة، فهي الأسلاك التي تدير دفة الحكم والأمة.
ـ الولاة، فهم الذين ينفذون سياسة الدولة ويضبطون الملك،
ـ البريد فهو الذي يوصل بين أطراف الدولة(2).
وتلك النظرة تشير إلى مبدأ في السيطرة، فالأمور المذكورة إنما هي أسلاك وخيوط في يده يحرك بها أجزاء خلافته والآتها ويستخدمها لسلطانه(3)، وإليك أهم معالم التطوير الإداري في عهد عبد الملك
أولاً: الدواوين:
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ153 .
(2) الدولة الأموية، يوسف العش صـ229 .
(3) الدولة الأموية صـ229 .(3/27)
1 ـ ديوان الرسائل: وقد تطور هذا الديوان كثيراً في عهد عبد الملك وازدادت أهميته بشكل واضح ولا سيما أثناء ولاية الحجاج للعراق، نظراً للمستجدات السياسية والعسكرية ووجود المتمردين والخارجين على الدولة، مما استوجب متابعة أخبارهم، فكان الخليفة عبد الملك يكتب للحجاج بشأنهم، مما كان باعثاً مهماً لازدهار ديوان الرسائل والكتابة، فكانت هذه الرسائل تصدر من الديوان بشكل مستمر إلى من يهمه الأمر لمعالجة أوضاع تلك الإضطرابات(1)، حيث أن الخليفة عبد الملك كان غالباً ما يلجأ إلى المكاتبات السياسية في محاولة منه أن يفت في عضد قادة الحركات فقد راسل وقبل اجتماع الأمة عليه ـ مصعب بن الزبير، وابن الأشتر(2)، كما كان يرسل التوجيهات الإدارية والعسكرية إلى ولاته وقادته، وكان من الطبيعي أن تزداد مراسلات الحجاج إلى ولاته وقادته ومراسلاتهم إليه كالمهلب بن أبي صفرة مثلاً(3)، ويلاحظ كثرة التواقيع(4)، في مراسلات الخليفة عبد الملك مع الحجاج بن يوسف الثقفي والتي تؤكد أهمية ديوان الرسائل وتطوره، وتوضح في جانب منها طبيعة سياسة الخليفة الإدارية فوقع مثلاً في كتاب أرسله إلى الحجاج: جنبني دماء بن عبد المطلب فليس فيها شفاء من الطلب(5)، وجاء في كتاب للحجاج: أرفق بهم فإنه لا يكون مع الرفق ما تكره ومع الخرق ما تحب(6)، ونظرا لأهمية الرسائل فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، وكذلك الحجاج لم يستخدما في هذا الديوان إلا من هو موضع ثقة وأمانة وإخلاص كما اُختير الكتاب الحاذقون الذين يجمعون بين الخبرة الإدارية وفي كتابة الرسائل وإجادة أسلوب المخاطبة، ومن اشهر من استخدمهم
__________
(1) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ137 .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ137 .
(3) الأخبار الطوال صـ277ـ 280 نهاية الأرب (7/246، 247) .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ137 .
(5) العقد الفريد (4/207) .
(6) خاص الخاص للثعالبي صـ87 .(3/28)
الخليفة عبد الملك قبيصة بن ذؤيب، وبلغ من علو مكانته انه كان يطلع على الكتب الواردة إلى الخليفة قبل أن يعرضها على الخليفة نفسه(1)ومن كتابه المشهورين روح بن زنباع الجذامي، وكان روح هذا على جانب كبير من العلم والأمانة إذ كان يقول فيه عبد الملك: ما أعطى أحد ما أعطى أبو زرعة ـ وكانت كنيته: أعطى فقه الحجاز، ودهاء أهل العراق، وطاعة أهل الشام(2)، والحق أن عبد الملك سلسل الأمور في أعمال الدولة تسلسلاً دقيقاً ووضع في ديوان الرسائل موظفين عارفين، وعلى رأسهم مستشاره الخاص، يستشيره في الرسائل التي يرسلها إلى الأقطار والتي ترد منها(3).
__________
(1) أنساب الأشراف للبلاذري (5/356) .
(2) البيان والتبيين (2/77) الإصلاحات المالية صـ138 .
(3) الدولة الأموية، يوسف العشي صـ230 .(3/29)
2 ـ ديوان العطاء: أدرك الخليفة عبد الملك بن مروان أهمية العطاء وبدأ العطاء في عهده يرتبط بشكل واضح بالنواحي العسكرية والسياسية ففي سنة 69 هـ ، خرج عبد الملك لقتال مصعب بن الزبير، فتخلف بعض من أهل الشام عن الخروج معه، فأخذ خمس أموالهم من عطاء سنة 70 هـ على الرغم من حبه العميق لهم(1)، كما كان عبد الملك يضطر أحياناً وتحت ضغط الظروف إلى زيادة العطاء أو إدخال أناس آخرين في الديوان، كما فعل حين تمرد الجراجمة في لبنان، إذ أعلن قائده سحيم بن المهاجر على لسان الخليفة: من أتانا من العبيد فهو حر ويثبت في الديوان، فانفض إليه خلق كثير(2)، كما استخدم سلاح زيادة العطاء أيضاً ضد عبد الله بن الزبير، حينما نادى الحجاج جنده قائلاً: يا أهل الشام قاتلوا على أعطيات عبد الملك(3)، وقد حدث تطور مهم لديوان الجند في عهد عبد الملك في العراق خاصة وذلك حينما بدأ الجند يتقاعسون عن الخروج لقتال الخوارج فعين عبد الملك الحجاج على العراق، وأمره أن يعيد تنظيم ديوان الجند، وتنظيم العطاء فيه على أساس المقدرة والكفاءة، فأعاد الحجاج تنظيم ذلك على أسس دقيقة(4)، ثم أمر بإعطاء الناس عطاءهم والتوجه لجبهات القتال، وتوعد المتخلفين منهم بالموت(5)، كما لم يقبل إعفاء جندي من الخروج للقتال مقابل تركه عطاءه(6)، وقد استخدم الخليفة عبد الملك العطاء وسيلة للقضاء على الفتنة، فقد كتب يوماً إلى الحجاج، أن يصف له الفتنة فوصفها له: فكتب إليه عبد الملك: فإن أردت أن يستقيم لك من قبلك فخذهم بالجماعة وأعطهم عطاء الفرقة(7)، وكان
__________
(1) سراج الملوك للطرطوش صـ118 .
(2) الكامل في التاريخ نقلاً عن الإصلاحات المالية والإدارية صـ131 .
(3) الإصلاحات المالية والإدارية صـ131 .
(4) العراق في عهد الحجاج ، طه عبد الواحد صـ126، 127 .
(5) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ132 .
(6) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ132 .
(7) مروج الذهب (3/126) .(3/30)
الحجاج يصرف العطاء بأكمله لجنده في أوقات الأزمات السياسية أو الاستعداد للقتال، كما فعل حينما أعطى الناس اعطياتهم كاملة عند تجهيز جيش الطواويس لقتال رتبيل(1)، ومن ناحية أخرى، فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، كان يكرم من أسدى خدمة عسكرية للدولة أو أظهر بطولة وشجاعة في جبهات القتال، فقد كرّم موسى بن نصير حينما حرر إفريقية سنة 83هـ(2)، كما كرّم الحجاج المهلب بن أبي صفرة وأصحابه لجهودهم في القضاء على الخوارج الأزارقة، إذ: أحسن عطاياهم وزاد في أعطياتهم ثم قال: هؤلاء أصحاب الفعال وأحق بالأموال هؤلاء حماة الثغور وغيظ الأعداء(3)، وأما إدارة هذا الديوان، فكان من أشهر من تولاه للخليفة عبد الملك بن مروان هو سرجون بن منصور الذي تولى ديواني الجند والخراج في دمشق(4)، ثم عزله الخليفة وعين بدله: سليمان بن سعد الخشني(5).
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ132 .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ132 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ133 .
(4) الوزراء للجهشياري صـ40 .
(5) الوزراء للجهشياري صـ45 نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ133 .(3/31)
3 ـ ديوان الخراج: كما ذكرنا قبل قليل، أن سرجون بن منصور كان قد تولى إدارة ديوان الخراج والجند على عهد الخليفة عبد الملك(1)، ثم عزله وعين بدله: سليمان بن سعد الخشني(2)، وكان يساعد صاحب الخراج عدد غير قليل من الكتّاب والموظفين، إذ كان بديوان خراج مصر حوالي أربعة وأربعين موظفاً(3)، ويبدو أن متولى الخراج كان يحصل على أموال طائلة من عمله، مثل ((اثيناس)) متولي الخراج في مصر على عهد عبد الملك، حيث كان واسع السلطات عظيم النفوذ(4)، وكان اشهر من تولى ديوان خراج العراق هو (زادان فروخ)(5)ثم صالح بن عبد الرحمن(6).
4 ـ ديوان الخاتم: في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان تطور ديوان الخاتم فأصبح إدارة منظمة، كما نشأت في هذه الفترة دار للمحفوظات الحكومية في دمشق(7)، ومن المحتمل إن هذا الديوان لم يقتصر على العاصمة دمشق، بل ربما وجد في باقي الولايات خصوصاً بعد التنظيم الإداري الواسع الذي قام به الخليفة عبد الملك بن مروان، وكذلك لكثرة المراسلات مع الولايات المختلفة وأهميتها السياسية ولا سيما مع العراق، وكان الخليفة عبد الملك لا يولي هذا الديوان إلا أوثق الناس عنده(8).
__________
(1) الوزراء للجهشياري صـ45 نقلاً عن الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ134 .
(2) التنبيه للمسعود صـ273، الإصلاحات المالية صـ134 .
(3) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ135 .
(4) المصدر نفسه صـ135 .
(5) المصدر نفسه صـ135 .
(6) المصدر نفسه صـ135 نقلا عن الكامل في التاريخ .
(7) الإدارة العربية صـ69 للحسيني .
(8) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ41 .(3/32)
5 ـ ديوان الطراز: يراد بالطراز في الأصل التطريز، ثم أصبح يدل على ملابس الخليفة أو الأمير ورجال حاشيته، لا سيما إذا كان فيها شيء من التطريز وعليه أشرطة من الكتابة، ثم اتسع مدلول الطراز، فأصبح يطلق على المصنع والمكان، الذي تصنع فيه مثل هذه المنسوجات(1)، وفي العصر الأموي ارتفع المستوى المعاشي، فزادت عناية الناس بمظاهر الترف والأبهة، لذلك أنشأ الأمويون عدداً من المصانع عرفت بدور الطراز(2)، وقد أهتم الخليفة عبد الملك بن مروان بالطراز، فنظمت صناعته بشكل واسع وأصبح أساساً لما حدث من نهضة في صناعة النسيج وبخاصة زمن الخليفة سليمان بن عبد الملك(3).
__________
(1) المصدر نفسه صـ156 .
(2) المدخل ، ناجي معروف صـ115 .
(3) النسيج الإسلامي صـ25 سعاد ماهر .(3/33)
6 ـ ديوان البريد: عندما تولى الخلافة عبد الملك طوّر الأجهزة التي تساعده على جمع المعلومات ولذلك اعتنى بشكل كبير بالبريد بوصفه وسيلة مهمة من وسائل ضبط دولته وانتظام أمورها، فطوّره ونظمه وأرسى قواعده(1)، فلم يعد وسيلة لنقل الأخبار والرسائل بين العاصمة والولايات وبطريقة تبادل الخيل وحسب، بل أصبح وسيلة مهمة في العمليات العسكرية، ونقل الأشخاص المهمين والمواد المختلفة، باستخدام الرحلات السريعة والمنظمة، كما أصبح عيناً للخليفة في نقل أخبار الإقليم والعمال وشكاوي الناس من عمالهم وموظفي الدولة هناك، ومن أجل تسهيل عمل البريد وانتظامه وسرعته، قام الخليفة عبد الملك بن مروان بتنظيم طرق البريد، وتحديدها وتثبيتها، فقام ببناء الأميال في الطرقات(2)، كعلامات دلالة للطرق وتحديد مسافاتها، ومما يؤكد ذلك، ما وصل ألينا من نقوش معاصرة للخليفة عبد الملك، كشفت بالقرب من بيت المقدس تشير إلى أوامره بعمل هذه الأميال(3)، فقد بذل الخليفة عبد الملك عناية فائقة في تنظيم الطرق وصيانتها، فأصبحت تخترق الدولة طرق عديدة أقيمت على طولها محطات للبريد(4)، وقد أفاد الخليفة عبد الملك فائدة كبيرة من البريد خصوصاً في الجوانب العسكرية، سواء كان ذلك بإرسال الجند، والإمدادات والأوامر إلى قادة جنده، أو في نقل أخبار المعارك والتحركات العسكرية إليه(5)، وإدراكاً من الخليفة عبد الملك لأهمية البريد وكسباً للوقت فقد جعل على هذا الديوان أخص خاصته وهو قبيصة بن ذؤيب: وأمر بألا يحجب أي ساعة جاء من ليل أو نهار(6)، وتأكيداً لذلك فقد منع عبد الملك حاجبه أن يحجب صاحب البريد، قائلاً له: وليتك ما خلف بابي إلا أربعة... والبريد متى جاء من ليل أو نهار فلا
__________
(1) الأوائل للعسكري صـ191 .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ145 .
(3) المصدر نفسه صـ145 .
(4) تاريخ القدس للعارف صـ52 .
(5) الإصلاحات المالية صـ146 .
(6) الطبقات (5/176)، (5/234) .(3/34)
يحجب، وربما أفسد على القوم تدبير سنتهم(1)، حبسهم البريد ساعة(2)، ونتيجة ذلك أن انتظم البريد وأصبح الخليفة يطلع بشكل يومي على تفاصيل الأحداث(3)، وقد استخدم البريد في عصر عبد الملك أيضاً في حمل الأشخاص ومن مختلف المستويات كالولاة والكتاب والشعراء وغيرهم، كما حمل كتب التأييد والرضا عن الخليفة من الأشخاص المهمين(4)، وكان الحجّاج هو أيضاً دائم الصلة بقواده في جبهات القتال، ويتسمع أخبارهم بواسطة البريد، فكانت كتب الحجّاج ترد على محمد بن القاسم الثقفي، وكتب محمد ترد عليه بصفة ما قبله واستطلاع رأيه فيما يعمل به في كل ثلاث أيام(5)ووصول الكتب بهذه السرعة يدل على التنظيم الرائع للبريد(6)، ومن وسائل الاتصال والمخابرة الجديدة التي استخدمها الحجّاج في الأحوال العسكرية خاصة لايصال الأخبار بين واسط وقزوين بسرعة، هو بناء المناظر والمنائر التي توضع على المرتفعات العالية حيث تنقل الإشارات بواسطتها عن طريق إشعال النار أو الدخان، فيصل الخبر بسرعة عن طريق انتقاله من منظره لأخرى وقد وضح ياقوت الحموي ذلك بقوله:.. وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً، وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً وتجرد الخيل إليه، وكانت المناظر متصلة بين قزوين وواسط(7)، ويبدو أن ما كان ينفقه عبد الملك على إدارة البريد لم يكن قليلاً لاسيما أنه قد بذل جهوداً كبيرة لتطويره وتنظيمه(8)، ويمكن القول بأن الخليفة عبد الملك بن مروان هو أول من عمل ديوان البريد مؤسسة إدارية منظمة مستقلة، وهذا لا يعني عدم وجود
__________
(1) سنتهم : طريقتهم .
(2) الأوائل صـ191 ، الإصلاحات المالية صـ147 .
(3) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ147 .
(4) الأخبار الطوال صـ324 ، الإصلاحات المالية صـ148 .
(5) فتوح البلدات للبلاذري صـ424 .
(6) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ148 .
(7) معجم البلدان (5/350) .
(8) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ149 .(3/35)
البريد المنتظم في عهد الخليفة معاوية بن أبي سفيان إلا أنه لم يكن ديواناً متكاملاً مستقلاً، خصوصاً أن مصادرنا التاريخية، لا تذكر البريد بوصفه ديواناً إلا في عهد عبد الملك بن مروان(1)، فالبريد في نظر عبد الملك عصب الدولة الحساس وذلك أقام له المحطات وفتح له المسالك ونظم مواعيده(2).
ثانياً : تعريب الدواوين وأسبابه والنتائج التي ترتبت عليه:
جاءت عملية تعريب الدواوين ضمن الخطة المرسومة لسياسة الدولة الإصلاحية التي بدأها الخليفة عبد الملك بن مروان وأكملها الخلفاء الذين جاءوا من بعده والتي تضمنت نقل الدواوين من اللغات الأجنبية، الفارسية، واليونانية، والقبطية إلى اللغة العربية لإزالة النفوذ الأجنبي من مؤسسات الدولة الإدارية والمالية، وعملية التعريب التي ابتدأها عبد الملك تعتبر من الأحداث العظيمة والجليلة التي قام بها عبد الملك وفق خطة شاملة وكان لتعريب المؤسسات الإدارية (الدواوين) أسباب كثيرة منها:
1 ـ إن دخول شعوب وأقوام مختلفة اللغات والديانات إلى الإسلام يعني حاجة هؤلاء الماسة إلى التفقه بالدين وقراءة القرآن الكريم مما شدد الصراع بين اللغة العربية واللغات الأخرى، ومن ثم إلى شيوع اللحن لذلك اعتنى عبد الملك وواليه الحجّاج بن يوسف، بضبط قراءة القرآن، عن طريق تمييز الحروف المتشابهة بوضع النقط عليها(3) لذلك كان التعريب ضرورة ملحة، وكان الحرص على سلامة اللغة العربية من العوامل المهمة التي أدت تعريب الدواوين في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان(4).
__________
(1) المصدر نفسه صـ149 .
(2) الدولة الأموية ، العشى صـ236 .
(3) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ169 .
(4) المصدر نفسه صـ169 .(3/36)
2 ـ كان الخليفة عبد الملك يهدف وراء التعريب إلى تحقيق وحدة الدولة وتماسكها، إذ أن اختلاف لغات الدواوين يكرّس اختلاف النظم المالية والإدارية، ويعيق عملية تنظيم وتوحيد إدارة الدولة، كما أن تعريب الدواوين يعني إنهاء التأثيرات الشعوبية والعنصرية مما يؤكد سيادة الدولة سياسياً على البلاد المفتوحة.
3 ـ إن استعمال اللغات الأجنبية في الدواوين يعني بقاء هذه اللغات حية وكأنها رسمية، فيتعلمها الناس لحاجة الدولة إليها لكونها طريقاً لتولي الوظائف الكبيرة، وينتج عن ذلك استمرار منافسة هذه اللغات اللغة العربية مما يضعف من شأنها، ويضعف كيان الدولة الأموية، ولذلك كان التعريب جزءاً من سياسة عبد الملك بن مروان الهادفة إلى إعادة تنظيم جهاز الدولة الإداري وتحقيق شخصية الدولة واستقلالها عن النفوذ الأجنبي(1).
4 ـ كان للعوامل الاقتصادية أثراً مهماً في تعريب الدواوين، فقد كان متولي هذه الدواوين يحصلون على أموال طائلة من عملهم هذا، لذلك كان تعريب دواوين الخراج خطوة أولى باتجاه إعادة تنظيم طريقة جباية الضرائب في الأقاليم، وبذلك يمكن ضبط أعمال تلك الدواوين والإشراف بدقة عليها، فيمنع الغش والتزوير، أي أن تعريب الدواوين هو جزء من خطة الإصلاح المالي الذي كانت الدولة بحاجة شديدة إليه إذ ذاك(2)، ولاسيما في العراق أهم أقاليم الدولة الأموية اقتصادياً، حيث حاول الحجّاج بن يوسف الثقفي معالجة الأوضاع الاقتصادية وذلك بالسيطرة على الشؤون الإدارية عن طريق السيطرة على سجلات الدواوين المالية(3)، هذه هي أهم الأسباب التي دعت عبد الملك يعرّب الدواوين.
* ـ ... نتائج تعريب الدواوين:
__________
(1) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية 168 .
(2) المصدر نفسه صـ168 .
(3) المصدر نفسه صـ168 .(3/37)
... حققت حركة تعريب الدواوين على يد الخليفة عبد الملك بن مروان نتائج ذات آثار عظيمة في جميع الميادين السياسية والإدارية والثقافية واللغوية ما زالت نتائجها شاخصة للعيان حتى اليوم ويمكن تحديد نتائج حركة التعريب بما يأتي:
1 ـ تحقيق سيادة لغة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة وتعزيز مكانتها، وانتصارها على اللغات الأجنبية في الدولة، كالفارسية واليونانية، والقبطية، إذ أصبحت لغة الدين الإسلامي، لغة السياسة والدين والعلم، وأصبحت مادة التفاهم اليومي في كل أنحاء الدولة، فانتشرت الثقافة العربية التي طغت على الثقافات الأخرى، وتفاعلت معها وأذابتها وحلت محلها، إذ اعتبر التعريب من الأحداث الكبيرة والإنجازات الضخمة في المجال الثقافي والسياسي وقد تمّ وفق خطة مدروسة.
2 ـ ظهور فئة مهمة من الكتاب العرب أو الموالي حلّوا محل الكتّاب الفرس والروم في إدارة الدواوين، إذ كان لصالح بن عبد الرحمن مهمة كبيرة في ذلك، حيث يقول عبد الحميد بن يحي المعروف بعبد الحميد الكاتب للخليفة مروان بن محمد: لله در صالح ما أعظم متنه على الكتّاب(1)، وبذلك كان عامّة كتاب العراق تلامذة صالح ومن هؤلاء قحذم بن أبي سليم وشيبة بن ايمن، والمغيرة وسعيد ابنا عطية ومروان بن إياس(2).
3 ـ ظهور حركة الترجمة، من اللغات الأجنبية إلى العربية حيث كانت حركة تعريب الدواوين أول عملية ترجمة منظمة أدت إلى نقل الكثير من المصطلحات الأجنبية، وظهر من أهتم بالترجمة، مثل خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان المتوفي 85هـ فهو أول من أمر بنقل بعض كتب الكيمياء والطب من اليونانية إلى العربية(3).
__________
(1) الفهرست لابن النديم صـ303 .
(2) الوزراء والكتاب للجهشياري صـ39 .
(3) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية 179 .(3/38)
5 ـ كان تعريب الدواوين سبيلاً إلى تعريب الأقاليم والجاليات غير العربية، فكان هذا من أكبر العوامل في انتشار اللغة العربية(1)، كما أن أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي ما زالت إلى وقتنا الحاضر عربية ثمرة لجهود عبد الملك(2)، فاللغة العربية هي الأداة التي جعلت مجتمع العرب يتسع رويداً رويداً حتى صارت حدوده تمتد من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً(3)
6 ـ تمكنت الدولة من تحقيق الإشراف التام على النواحي المالية والإدارية وضبط أعمال الدواوين وسجلات الضرائب أي أسهم ذلك في نجاح الدولة بخطه الإصلاحي.
7 ـ إتجه الموالي لتعليم اللغة العربية لكونها الطريق التي تؤدي إلى الوظائف والمناصب العالية، كما أدى من جهة أخرى إلى إشاعة اللحن في اللغة، مما دعا الحجّاج إلى معالجة ذلك، ثم اندفع الموالي للتخلص من اللحن والخطأ وتعلم النحو ودراسته، فحدثت نهضة لغوية واسعة، وهذا يفسر لنا ظهور علماء كبار من الموالي في العصر الأموي ثم العصر العباسي.
8 ـ إيجاد نظام إداري موحد وشامل، وللدلالة على حسن هذا النظام أن إتخذه العباسيون، فقد كانت الإدارة عندهم تطوراً للإدارة عند الأمويين(4)، هذه هي أهم نتائج حركة التعريب التي قام بها عبد الملك بن مروان.
ثالثاً : إدارة الأقاليم في عهد الخليفة عبد الملك:
__________
(1) عبد الملك بن مروان للريس صـ286 .
(2) التاريخ السياسي (2/162) عبد المنعم ماجد .
(3) الحضارة الإسلامية صـ15 عبد المنعم ماجد .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ180 .(3/39)
عندما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان (73 ـ 86هـ) قام بتنظيم دواوين الدولة ومؤسساتها، كما قام بتنظيم إدارة الأقاليم وأعاد النظر في تقسيمها وترتيبها، آخذاً بنظرة تغير الحياة وتطورها بمختلف أوجهها وكانت الدولة الأموية مقسمة إلى عدة أقاليم، ويرأس كل إقليم أمير، يكون تعيينه وعزله من الخليفة، ويملك هذا الأمير سلطات واسعة في إدارة إقليمه، فهو الذي يعين العمال على الولايات والمدن التابعة لإقليمه، كما يعين الموظفين أيضاً، وهو المسؤول عن تنظيم الجند، وتجهيز الحملات العسكرية، وغالباً ما يقودها بنفسه أو ينيب عنه قائداً لذلك، وكان له الإشراف على سك النقود أيضاً، وكان بجانب الأمير(1)، موظف له أهمية كبيرة هو صاحب الخراج، فالوالي، يدير الشؤون السياسية للولاية، وعامل الخراج يتولى إدارة الشؤون المالية، ويكون صاحب الخراج بمثابة الرقيب على الوالي، ويعين صاحب الخراج هذا من الخليفة، وقد تحصل مواجهة تصادم بين الوالي وصاحب الخراج، وكذلك كان يساعد الأمير في عمله عدد من الموظفين منهم القاضي، وصاحب الشرطة، ورئيس الحرس، والكاتب والحاجب(2)، وقد بلغت الدولة الإسلامية في العهد الأموي أقصى إتساعها وكانت مقسمة إدارياً في عهد عبد الملك إلى أقاليم كبرى هي:
1 ـ بلاد الشام العاصمة للدولة:
__________
(1) كان حكام الأقاليم يسمون في أول الأمر: عمالاً ثم استعملت فيما بعد كلمة والي ثم أطلقت عليهم كذلك كلمة أمير وتطور هذا اللفظ على هذا النحو: عامل فوالي، فأمير، يدل على أن سلطة هؤلاء الحكام بدأت محدودة ثم أخذت تتسع حتى أصبحت سلطاتهم عظيمة، فالعامل لم يكن مطلق السلطة، والوالي كان نفوذه واسعاً، والأمير كان نفوذه أوسع .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ184 .(3/40)
... وكانت بلاد الشام في عصر الخليفة عبد الملك بن مروان قد استقرت إدارياً إلى خمسة أجناد وهي جند دمشق، وحاضرتها دمشق، وجند حمص وحاضرتها حمص، ومن مدنها تدمر، وجند قنسرين، وحاضرتها قنسرين، ومن مدنها حلب ومرعش، وجند فلسطين، وحاضرتها اللد، ومن مدنها تبوك وجند الأردن، وحاضرتها طبرية، ومن مدنها عكا(1)، وكان لنظام الأجناد هذه أهمية إدارية وعسكرية كبيرة، إذ كان من أهم أسباب قوة الدولة الأموية، فقد كان الجند مستعدون دوماً للقضاء على أعداء الدولة في الداخل، والخارج(2)، ولم يعين عبد الملك والياً خاصاً على بلاد الشام، لأنها كانت تحت إشرافه المباشر، إلا أنه عين على الأجناد ولاة خاصين بها، وكان جند دمشق يقع تحت إدارة عبد الملك مباشرة بوصفها حاضرة الدولة الأموية(3).
2 ـ إدارة الحجاز وأواسط الجزيرة العربية واليمن:
__________
(1) المسالك والممالك صـ43 ، معجم البلدان (2/170) .
(2) الوليد بن عبد الملك للكاشف صـ50 ، 51 .
(3) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ186 .(3/41)
أ ـ الحجاز: في سنة 73هـ، حدث تطور إداري مهم، إذ جمع الخليفة عبد الملك أعمال الحجاز واليمن للحجّاج بن يوسف الثقفي(1)، فكان الحجّاج يستخلف على المدينة إذا أتى مكة، عبد الله بن قيس بن مخرمة الذي ولاه قضاء المدينة، وقد أدرك عبد الملك أهمية الحجاز المعنوية والمؤثرة فانتهج لذلك سياسة حكيمة، فقد أحسن إلى الناس واستجاب لطلبهم في عزل الحجّاج عن الحجاز، أدت بالتالي هذه السياسة إلى نجاحه في الحصول على بيعة كبار أهله وفي سنة 75هـ نقل عبد الملك بن مروان الحجّاج من الحجاز وولاه العراق(2)، ثم ولى الخليفة عبد الملك بعد ذلك على المدينة عمه يحي بن الحكم بن أبي العاص ثم عين أبان بن عثمان سنة 76هـ وفي عام 82هـ عزل الخليفة أبان بن عثمان عن ولايته المدينة وقبل سنة 83هـ وولى مكانه هاشم بن إسماعيل المخزومي(3)، فبقى في منصبه حتى وفاة الخليفة عبد الملك(4)، ومن الجدير بالملاحظة أن الولاة الذين عينهم الخليفة عبد الملك بن مروان على المدينة أما من أفراد الأسرة الأموية، أو ممن لهم صلة عائلية بالأسرة مثل هشام بن إسماعيل المخزومي، ويبدو أن هذا الاختيار كان الهدف منه ضمان الولاء والإخلاص التامين للخليفة، لاسيما أن المدينة كانت من مراكز المعارضة القوية للأمويين(5).
__________
(1) أخبار مكة (2/174) الإصلاحات المالية صـ199 .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ202 .
(3) الطبقات (5/152) .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ204 .
(5) المصدر نفسه صـ204 .(3/42)
ب ـ مكة: بعد مقتل ابن الزبير ولى الخليفة ابنه مسلمة بن عبد الملك والياً عليها، وفي السنة نفسها جمع عبد الملك الحجاز وأعماله واليمن للحجّاج حتى سنة 75هـ ثم ولى مكانه الحارث بن خالد المخزومي(1)، ولا بد من القول أنه تعاقب على مكة ولاة تختلف المصادر في تسميتهم وسني حكمهم، وربما يرجع ذلك إلى كثرة عددهم من جهة، وإلى قصر فترة ولاية بعضهم من جهة أخرى(2)، وكان عبد الملك يعتني بتعمير الكعبة والمحافظة على سلامتها وكان يبعث إليها بالهدايا والديباج كل سنة(3).
ج ـ أواسط الجزيرة العربية: كانت أهم مناطقها اليمامة وكانت اليمامة منذ سنه 65 هـ مقرا لنجدة الحنفي زعيم فرقة النجدات الخارجية(4)، والذي بدأ تحركاته العسكرية منطلقاً من اليمامة حتى تمكن من تأسيس دولة النجدات في اليمامة والبحرين وقد حاول عبد الملك استخدام الأساليب الدبلوماسية مع نجدة إذ وعده أن يوليه على اليمامة مقابل الدخول في طاعته(5)، فكان هذا أحد أسباب انشقاق النجدات بعد ذلك إلا أن اليمامة ظلت خارج سيطرة الدولة الأموية حتى تمكن الخليفة عبد الملك من القضاء على دولة النجدات في اليمامة والبحرين سنة 73هـ(6)، فولى عبد الملك يزيد بن هبيرة المحاربي ثم عزله وولى مكانه إبراهيم بن عربي وبقي الأخير إلى أن مات عبد الملك(7).
__________
(1) أخبار مكة (2/171) .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ207 .
(3) الأوائل صـ204 .
(4) الملل والنحل للشهر ستاني (1/193) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ208 .
(5) الكامل في التاريخ نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ208 .
(6) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ208 .
(7) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ208 .(3/43)
جـ اليمن: وفي عهد عبد الملك بن مروان أصبح لليمن وال واحد بعد أن كانت مقسمة إلى عدة عمال، في الحقب السابقة(1)، ومن أشهر ولاة عبد الملك على اليمن محمد بن يوسف الثقفي وهو أخو الحجّاج بن يوسف وظل محمد على ولاية اليمن إلى ما بعد وفاة الخليفة عبد الملك بن مروان(2)، ومحمد بن يوسف لم يحسن السيرة مع أهل اليمن كما أنه زاد ضريبة الخراج على الأراضي الزراعية(3).
3 ـ إدارة العراق والمشرق الإسلامي:
أ ـ العراق: وجه الخليفة كل إهتمامه نحو العراق واستطاع أن ينزع الحكم من مصعب بن الزبير، سنة 72هـ وبايعه أهل الكوفة، وأحسن إلى زعمائها وولى عليها أخاه بشر بن مروان وأمره باللين لأهل الطاعة والشدة على أهل المعصية(4)، وفرق العمال على المدن، أما البصرة فقد وليّ عليها خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد(5) الذي فشل في قتال الخوارج في البحرين والعراق، فعزله عبد الملك، وجمع العراق لبشر بن مروان فقدم البصرة سنة 74هـ، واستخلف على الكوفة عمرو بن حريث المخزومي، فأقام بشر بالبصرة شهراً ثم مات(6)، ثم أسند عبد الملك ولاية العراق إلى الحجّاج إلى أن مات الخليفة عبد الملك(7).
ب ـ الولايات التابعة للعراق في شرق الجزيرة العربية:
__________
(1) المصدر نفسه ص،209 .
(2) تاريخ اليمن صـ17 ابن عبد المجيد اليماني .
(3) فتوح البلدان للبلاذري صـ84 .
(4) أنساب الأشراف (5/354) الإٌصلاحات المالية صـ211 .
(5) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ211 .
(6) الفتوح لابن أعثم نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ212 .
(7) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ213 .(3/44)
... كانت الأجزاء الشرقية من شبه الجزيرة العربية، والمطلة على بحر الخليج، تابعة إدارياً في العصر الأموي إلى أمير العراق، وهو الذي يعين عليها ولاة، يتولون إدارتها، وأهم هذه الأقاليم هي البحرين، وعمان، وتشمل البحرين الإقليم الممتد على ساحل الخليج العربي، بين البصرة وعمان فهو يشمل ما نعده اليوم، الكويت والإحساء وقطر وجزر البحرين الحالية المعروفة قديماَ باسم ((أوال))(1)، ودولة الإمارات العربية المتحدة(2).
__________
(1) البحرين في صدر الإسلام صـ221 .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ221 .(3/45)
جـ ـ خراسان والمشرق الإسلامي: بعد أن تمكن عبد الملك من قتل مصعب وضم العراق عام 72هـ، بدأ يخطط لاسترجاع خراسان ونجح في ذلك،وفي عام 78هـ ضم عبد الملك ولاية خراسان، وسجستان وكل المشرق الإسلامي إلى ولاية العراق للحجّاج بن يوسف، فولى الحجّاج على خراسان ((المهلب بن أبي صفرة سنة 79هـ(1)، ويبدو أن نجاح الدولة في القضاء على كل منافسيها في الداخل، وجه الاهتمام بجهاد العدو في الثغور، فكانت خراسان بحاجة إلى رجل عسكري قوي كالمهلب يمكن أن يحقق أهداف حركة الجهاد هناك، ومما يؤكد ذلك بقاء المهلب في ولايته حتى وفاته، كما يمكن اعتبار هذا التعيين بمثابة تكريم لجهوده في القضاء على الخوارج الأزارقة وفي ولاية المهلب هذه نشطت حركة الفتوحات وسيأتي الحديث عنها عند كلامنا عن الفتوحات في عهد عبد الملك وعين الحجّاج على سجستان عبيد الله بن أبي بكرة وذلك سنة 78هـ(2)، وكتب عبد الملك إلى الحجّاج: لا تستعمل عبيد الله بن أبي بكرة على الخراج والجباية فإنه أريحي(3)، وهذا يعني أن الحجّاج أصبح هو الذي يعين الولاة على الأقاليم التابعة لولايته كخراسان وسجستان في الغالب، وهي جزء من سياسة عبد الملك في الاتجاه نحو اللامركزية الإدارية(4).
4 ـ إدارة الجزيرة الفراتية وأرمينيا وأذربيجان:
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (3/17) الإصلاحات المالية صـ227 .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ230 .
(3) انساب الأشراف (1/505،499) .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ230 .(3/46)
... تقع الجزيرة الفراتية بين نهري دجلة والفرات، وتشمل على ديار ربيعة وديار مضر، وديار بكر، وتمتد على نهر الفرات من شمال ملقية بمسيرة يومين شمالاً إلى الأنبار جنوباً، وعلى دجلة من تكريت جنوباً إلى شمال جزيرة ابن عمر شمالاً(1)، وتقع أرمينيا وأذربيجان إلى الشرق والشمال الشرقي، للجزيرة الفراتية(2)، وكانت الموصل في عهد عبد الملك، جزءاً من ولاية الجزيرة الفراتية(3)، وقد أدرك عبد الملك أهمية الجزيرة هذه فعمل جاهداً على تنظيمها لتقف بمواجهة الخزر والبيزنطيين أعداء الدولة، فشجع على استيطان العرب هناك وأقطعهم الأراضي(4)، أمر بنقل بعض القبائل القيسية إلى هناك(5)، كما نقل بعضاً من قبائل الأزد وربيعة من البصرة إلى الموصل وحديثة(6)، كما نظم الإدارة فيها، حيث فصلها عن قنسرين وجعلها فضلاً عن أرمينيا وأذربيجان، إقليماً إدارياً مستقلاً(7)، ولأهميتها فقد عين على إدارتها أخاه محمد بن مروان سنة 73هـ والذي يعتبر من أقدر الولاة الأمويين، وأوكل عليها مهمة مقاتلة الأعداء من البيزنطيين والخزر، والقيام بفتح المناطق المحادة للجزيرة(8)، وكانت هذه الولايات الجزيرة، وأرمينيا، وأذربيجان، فضلاً عن الموصل غالباً ما تجمع تحت إمرة أمير واحد، ولاسيما في عهد عبد الملك بن مروان، ويبدو أن محمد بن مروان هو الذي كان يعين ولاة على أرمينيا(9)، أما الموصل فإن الخليفة عبد الملك بن مروان، هو الذي كان يعين ولاتها في الغالب(10)
__________
(1) المسالك والممالك صـ52 ، صورة الأرض لابن حوقل (1/208) .
(2) بلدان الخلافة الشرقية صـ114 .
(3) فتوح البلدان للبلاذري صـ327 .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ233 .
(5) المصدر نفسه صـ233 .
(6) الروض المعطار صـ190 ، تاريخ اليعقوبي (3/17) .
(7) معجم البلدان (1/103) .
(8) الكامل في التاريخ نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ234 .
(9) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ334 .
(10) فتوح البلدان صـ328 ، الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ234 .(3/47)
.
5 ـ إدارة مصر: كان والي عبد الملك على مصر أخوه عبد العزيز، وقد أوصى عبد الملك أخاه حين ولاه مصر
بوصية تنم عن عقلية كبيرة حيث بين له الأسس الناجحة لإدارة ولايته وكيفية اختيار موظفيه، قائلاً له: أبسط بشرك وألف كنفك واثر الرفق في الأمور فأنه أبلغ بك، وأنظر حاجبك، فليكن من خير أهلك.. وإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ بالسلام.. وإذا انتهى إليك مشكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته(1)، ولم تقتصر مسؤولية عبد العزيز الإدارية على مصر فقط بل امتدت إلى إفريقية أيضاً، فهو المسؤول عن إدارة إفريقية، فقد كان يعين عليها الولاة ويعزلهم في بعض الأحيان، كما فعل حين عزل حسان بن النعمان سنة 78هـ وولى مكانه موسى بن نصير(2)، فأقرّ عبد الملك هذا التعيين وقد توفي عبد العزيز عام 86هـ ودامت ولايته على مصر أكثر من عشرين عاماً(3).
6 ـ إدارة إفريقية: كانت أوضاع افريقية الإدارية والسياسية قبل تولي عبد الملك الخلافة مضطربة، نتيجة عدم استقرار الأحوال السياسية في الحجاز والعراق خاصة، فارتد عن الإسلام قسم من البربر في افريقية(4)، كما تمكن كسيلة ومن معه من البربر والروم من دخول القيروان، فسيطر كسيلة على شمال أفريقية(5)، واستطاع عبد الملك أن يبسط نفوذ الدولة الأموية على شمال أفريقيا بعد أن تخلص من الصراعات الداخلية ومن أشهر ولاة افريقية في عهد، عبد الملك حسان بن النعمان الغساني وموسى بن نصير وسيتي الحديث عنهم بإذن الله تعالى في الفتوحات في عهد عبد الملك.
رابعاً: الخطوط العامة لسياسة الخليفة عبد الملك في إدارة شؤون الدولة:
__________
(1) الفخري في الآداب صـ126 .
(2) ولاة مصر صـ74 ، الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ239 .
(3) الخطط للمقريزي (1/302) .
(4) الإستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (1/75) .
(5) تاريخ افريقية والمغرب صـ46 الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ242 .(3/48)
1 ـ المشاورة : كان يعتمد على المشاورة في إنجاز مهمات الدولة، وبخاصة في الأمور المهمة، فهو القائل: المشاورة تفتح مغاليق الأمور(1)، فقد استشار أصحابه في المسير إلى مصعب بن الزبير في العراق(2)، كما قبل مشورة روح بن زنباع: بتولية الشعبي قضاء البصرة، حينما استشار الخليفة أصحابه بذلك(3)، وكان من أكبر مستشاريه ربيعة الجرشي، وروح بن زنباع(4)، وعلى الرغم من ذلك لم يكن يأخذ بكل استشارة، فكان يشاور يحي بن الحكم، ثم يخالفه، ويقول من أراد صواب الرأي فليخالف يحي بن الحكم فيما يشير به عليه(5).
2 ـ اعتماده على أهل الشام: كان الخليفة عبد الملك يعتمد على أهل الشام، لا نهم اخلصوا له، فكان يخاطبهم: يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح على فراخه يتقي عنهم القذر ويباعد عنهم الحجر، ويكفهم من المطر، ويحميهم من الضباب، ويحرسهم من الذئاب، يا أهل الشام أنتم الجبة والرداء وأنتم العدة والجداء(6)، ولا غرابة في ذلك فملك بني أمية قام على أكتاف قبائل الشام وجنودها.
__________
(1) الفخري في الآداب صـ126 .
(2) أنساب الأشراف (5/335) .
(3) العقد الفريد (1/20) .
(4) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي وأموي صـ94 .
(5) نساب الأشراف (5/335) .
(6) سراج الملوك صـ118 ، الإصلاحات المالية صـ195 ، ومعنى الظليم الرامح : كذكر النعام الذي يدافع عن فراخه .(3/49)
3 ـ الشخص المناسب في المكان المناسب: وقد حرص على تحقيق هذا المبدأ وكان يوكل المهمات لأصحابها ففي رسالة جوابية أرسلها الخليفة عبد الملك إلى خالد بن عبد الله أمير البصرة، سنة 72هـ قال له فيها:.. فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك إعرابياً من أهل مكة عل القتال، وتدع المهلب إلى جنبك يجبي الخراج، وهو الميمون النقيبة الحسن السياسية البصير بالحرب المقاسي لها ابنها وابن أبنائها... فإذا أنت لقيت عدوك فلا تعمل برأي حتى تحضره المهلب وتستشيره فيه(1)، كما كان يحسن معاملة قادته وحاشيته ويكرمهم ويمن عليهم، ويواسيهم، ويزورهم إذا مرضوا(2).
4 ـ متابعة أخبار العمال والولاة: فقد كان يقظاً وحريصاً على نزاهة عماله، واستقامة أخلاقهم وبعدهم عن الشبهات فعندما بلغه أن عاملاً من عماله قبل هدية فاستدعاه إليه ثم سأله: أقبلت هدية منذ وليت؟ قال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة، وخراجك موفور ورعيتك على أفضل حال قال: أجب فيما سألتك عنه، أقبلت هدية منذ وليتك؟ قال: نعم، قال: إن كنت قبلت ولم تعوض إنك للئيم ولئن كنت أنلت مهديها من غير مالك، أو استكفيته ما لم يكن مثله مستكفاه، إنك لخائن جائر وما أتيت أمر، لا تخلو فيه من دناءة أو خيانة أو جهل مصطنع،وأمر بصرفه عن عمله(3).
5 ـ تقديم الأقرباء في المناصب وحفظ التوازن القبلي:
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن الإصلاحات المالية صـ195 .
(2) الإصلاحات المالية والترتيبات الإدارية صـ195 .
(3) مروج الذهب (3/125) .(3/50)
... كان الخليفة عبد الملك في اختياره لعماله قد حبذا أقرباءه من أفراد البيت الأموي بالدرجة الأولى، واستعملهم في المناصب المختلفة، إلا أنه كان يراقبهم مراقبة دقيقة، ويعزل من أظهر عجزاً أو أخفق في عمله، كما أنه استخدم ولاته على الأقاليم في الأغلب من قبائل عرب الشمال ((مضر)) بينما اختار موظفي إدارته إلى حد كبير من قبائل عرب الجنوب ((اليمن)) ويبدو أن هذه كانت إحدى الوسائل التي اتبعها الخليفة لحفظ التوازن القبلي(1).
6 ـ تسامحه مع أهل الكتاب: كان عهد عبد الملك عصر تسامح مع أهل الذمة، فلم يحاول الخليفة عبد الملك الاستيلاء على كنيسة يوحنا عندما رفض أهل الذمة تسليمها إليه(2)، كما أنه سمح لهم بممارسة طقوسهم الدينية بحرية، وبناء الكنائس والأديرة فقد شيّد أثيناس ـ كاتب ديوان خراج مصر على عهد عبد العزيز ـ كنيسة ((أم الإله)) في الرها، كما شيّد في مصر أيضاً كنيستين وديراً، فضلاً عن أشغالهم مناصب عالية في إدارة الدولة(3)،، إذ كان الخليفة يثق بهم(4).
7 ـ التحقيق مع العمال المشتبه فيهم ومقاسمة أموالهم:
__________
(1) الإصلاحات المالية والترتيبات الإدارية صـ196 .
(2) فتوح صـ131 للبلاذري .
(3) الدعوة إلى الإسلام ، صـ85 ارنولد .
(4) تاريخ القدس ، عارف صـ52 .(3/51)
... وقد قام عبد الملك بمقاسمة بعض عماله وقد أراد التشبه بالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الشأن فقد جعل الضحاك بن عبد الرحمن الأشعري بمثابة المسئول عن مراقبة ومتابعة القضايا المالية في الأقاليم، فقد أرسله إلى الجزيرة الفراتية لدراسة وإصلاح الضرائب هناك(1)، كما قاسم ((أثيناس)) كاتب خراج مصر أمواله(2)، وبذلك اتبع نظاماً دقيقاً للاستخراج أو التكثيف، حيث كان يحقق مع الجباة وعمال الخراج ـ المشكوك في أمرهم ـ عند اعتزالهم عملهم ويستنطقون حتى يعترفوا بما ارتكبوا من مخالفات، وكان التحقيق مع هؤلاء يتم في أماكن خاصة تسمى (( دار الاستخراج(3)) .
8 ـ الإحسان لمن ندم وبايع من أصحاب ابن الأشعث:
وبعد انتهاء تمرد ابن الأشعث كتب الخليفة إلى الحجّاج، في أخذ البيعة له من الناس قائلاً: أن ادع الناس إلى البيعة، فمن أقرّ بذنبه وندم على فعله فخله سبيله(4)، وعند ذلك أمر عبد الملك الحجّاج باعطاء الناس عطاءهم فكتب إليه الحجّاج: أنهم نكثوا العهد ونقضوا البيعة وفارقوا الجماعة، وطعنوا على الأئمة، فكتب إليه عبد الملك: إنما تجب طاعتنا عليهم بأن نعطيهم حقوقهم(5). وحين حاول الحجّاج أن يأخذ فضول ((فروق العملة)) أموال السواد، كتب الخليفة إليه يمنعه من ذلك قائلاً له: لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك وابق لحم لحوماً يعقدون بها شحوماً(6).
9 ـ احترام وتقدير الشخصيات البارزة في المجتمع:
__________
(1) عبد الملك القائد للعسلي صـ122 ، الاصلاحات المالية صـ198 .
(2) الوزراء للجهشيار صـ34، 35 .
(3) النظم الإسلامية صـ196، حسن إبراهيم .
(4) النظم الإسلامية صـ196، حسن إبراهيم .
(5) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ219.
(6) واسط في العصر الأموي صـ79 .(3/52)
أدرك الخليفة عبد الملك أهمية توثيق العلاقة واحترامها مع الشخصيات البارزة في الجتمع، فقد حرص على كسبها وتأييدها، فحين بايع محمد بن الحنفية لعبد الملك أعطاه الخليفة ميثاقاً، وكتب إليه: إنك عندنا محمود... فلك العهد والميثاق وذمة الله ورسوله أن لا تهاج ولا أحد من اصحابك بشيء تكرهه، كما قضى حوائجه(1)، وكتب عبد الملك للحجّاج: لا تعرض لمحمد ولا لأحد من أصحابه(2). فلم يعترض الحجّاج لأحد من آل أبي طالب خلال ولايته، كما عزز عبد الملك الصلات مع آل العباس، فكان يكرم علي بن عبد الله بن العباس، ويعرف له حقه ويستوصي به خيراً، وكانت كتبه ترد إلى الحجّاج يأمره فيها أن لا يسيء إلى عروة بن الزبير(3). وبذلك نجح عبد الملك في الاحتفاظ بصلات حسنة بين الأمويين وبني هاشم ـ علويين وعباسيين ـ فلم يقتل أحد من العلويين في عهده، فكانت هذه ثمرة حسن سياسته وبعد نظره(4).
10 ـ تحجيم الولاة إذا أرادوا تجاوز الخطوط حمراء:
__________
(1) الطبقات (5/111 ، 112) .
(2) العقد الفريد (4/400) الإصلاحات المالية صـ200
(3) أخبار العباس وولده صـ131 ، 154 .
(4) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ201 .(3/53)
كان عبد الملك لا يسمع لولاته مجاوزة الخطوط الحمراء، فعندما أساء الحجّاج لأنس بن مالك كان رد عبد الملك على الحجّاج قاسياً وقصة ذلك: دخل أنس بن مالك على الحجّاج بن يوسف، فلمّا وقف بين يديه، سلمّ عليه فقال له: إيهٍ إيهٍ يا أُنيس يوم لك مع عليِّ، ويوم لك مع ابن الزبير، ويوم لك مع ابن الأشعث، والله لأستأصِلنَّك كما تستأصل الشأفة(1)، ولأدمغنك كما تُدمغ الصمغة. فقال أنس: إيَّاي يعني الأمير أصلحه الله؟ قال: إياك، سك الله سمعك. قال أنس: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله لولا الصبية الصغار ما باليت أيَّ قتلة قُتلتُ ولا أيَّ ميتة مِتُّ. ثم خرج من عند الحجّاج، فكتب إلى عبد الملك بن مروان يخبره بما قال الحجّاج فلمّا قرأ عبد الملك كتاب أنس استشاط غضباً وصَفَّقَ عجباً، وتعاظم ذلك من الحجّاج، وكان كتاب أنس إلى عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من أنس بن مالك أما بعد: فإن الحجّاج قال لي هُجراً(2)، وأسمعي نُكراً ولم أكن لذلك أهلاً، فخذلي على يديه، فإني أمُتُّ بخدمتي رسول الله، وصحبتي إياه، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(3)، فقرأ عبد الملك الكتاب وهو يبكي وبلغ به الغضب ما شاء الله، ثم كتب إلى الحجّاج بكتاب غليظ(4)، فبعث عبد الملك إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر ـ وكان مصادقاً للحجّاج ـ فقال له: دونّك كتابيَّ هذين فخذهما، وأركب البريد إلى العراق وأبدأ بأنس بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فادفع كتابي إليه وأبْلغه مني السلام، وقال له: يا أبا حمزة قد كتبت إلى الحجّاج الملعون كتاباً، إذا قرأه كان أطوع لك من أمتك وكان كتاب عبد الملك إلى أنس بن مالك: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الملك بن مروان إلى أنس بن مالك: خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) الشافة : قرحة تخرج من أسفل القدم فتقطع أو تكوى .
(2) هجراً : يعني فحشاً .
(3) البداية والنهاية (12/540) .
(4) البداية والنهاية (11/386) .(3/54)
أما بعد فقد قرأت كتابَك وفهمت ما ذكرت من شكايتك الحجاج، وما سلطته عليك ولا أمرته بالإساءة إليك، فإن عاد لمثلها واكتب إليَّ بذلك أُنزل به عقوبتي، وتَحْسُن لك معونتي والسلام. فلما قرأ أنس كتابه وأُخبر برسالته قال: جزي الله أمير المؤمنين عنِّي خيراً، وعافاه وكفاه وكفأه بالجنة، فهذا كان ظني به والرجاء منه(1)، كتاب عبد الملك إلى الحجّاج وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين إلى الحجّاج بن يوسف، أما بعد: فإنَّك عبد طمَتْ(2)، بك الأمور فسموت فيها، وعدوت طوَرك، وجاوزت قدرَك، وركبت داهية إدَّاً وأردت أن تَبُورني(3)، فإن سوَّغتكها مضيت قُدماً، وإن لم أُسوغها رجعت القهقري، فلعنك الله عبداً أخفش العينين، منقصوص الجاعرتين(4)، أنسيت مكاسب آبائك بالطائف، وحفرهم الآبار ونقلهم الصخور، على ظهورهم في المناهل؟ يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب والله لأغمزنك غمز الليث الثعلب، والصقر الأرنب وثبت على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فلم تقبل له إحسانه، ولم تجاوز له إساءته جُرأة منك على الربِّ عز وجل واستخفافاً منك بالعهد والله لو أنَّ اليهود والنصارى رأت رجلاً خدم عُزير بن عزرَا، وعيسى بن مريم لعظمته وشرَّفته وأكرمته، فكيف وهذا أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني سنين، يطلعه على سرِّه ويشاوره في أمره، ثم هو مع هذا بقية بقايا أصحابه، فإذا قرأت كتابي هذا فكن أطوع له من خُفِة ونعله وإلا أتاك مني سهم مثِكلٌ(5)، بحتف قاضٍ، ولكل نبأٍ مستقر وسوف تعلمون(6)، ولما علم الحجّاج بأن عبد الملك غاضباً عليه استوى جالساً مرعوباً، ولما قرأ الكتاب اعتذر لأنس ولم يزل
__________
(1) البداية والنهاية (12/540) .
(2) طمَت : ارتفعت وسمت .
(3) تبورني : تختبرني .
(4) الجاعرتين : حرفا الوركين المشرفين على الفخذين .
(5) البداية والنهاية (11/542) .
(6) المصدر نفسه (12/542) .(3/55)
مكرماً له حتى مات(1)، وكتب الحجّاج خطاباً يعتذر فيه عما حدث منه في حق أنس(2).
11 ـ محاربته للمداهنة والنفاق بين الناس: لم يكن عبد الملك يسمح لأحد أن يداهنه، أو ينافقه، أو يضيع وقته فيما لا يفيد، فقد طلب رجلاً من عبد الملك أن يخلو به فأمر من عنده بالإنصراف فلما أراد الرجل أن يتكلم بادره عبد الملك قائلاً: أحذر في كلامك ثلاثاً، إياك أن تخدعني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تكذبني فإنه لا رأى لكذوب أو تسعى إليّ بأحد من الرعية، فإنهم إلى عدلي وعفوي أقرب منهم إلى جوري وظلمي(3).
12 ـ مفهوم السياسة عند عبد الملك: أدرك الخليفة عبد الملك معنى السياسة بشكل دقيق واستوعب دروسها، كما أدرك السبل العملية لسياسة الناس ومن مختلف منازلهم فحين سأله الوليد وقال يا ابت ما السياسة قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها واقتياد قلوب العامة بالإنصاف واحتمال هفوات الصنائع(4).
__________
(1) العقد الفريد (3/13) الحجاج المفترى عليه صـ168 .
(2) العقد افريد (3/13/14) .
(3) البداية والنهاية (12/387) .
(4) عيون الأخبار (1/9) الإصلاحات المالية صـ196 .(3/56)
13 ـ سيرة أبي بكر وعمر ورعيتهما: قال عبد الملك: انصفونا يا معشر الرعية تريدون منا سيرة أبي بكر وعمر ولا تسيرون فينا ولا في أنفسكم بسيرة رعية أبي بكر وعمر نسأل الله أن يعين كلاً على كل، إني رأيت سيرة السلطان تدور مع الناس، فلا بد للوالي أن يسير في كل زمان بما يصلحه وهذا الكلام لا يسلم له به على إطلاقه، لأن السلطان المطلوب منه أن يسير مع القرآن الكريم وهدي النبي صلى اله عليه وسلم وسيرة الخلفاء الراشدين ويعمل على نشر سير الصالحين ويقتدي بهم لا أن ينهي عن ذكر عمر ويقول، .. فإنه مرارة للأمراء، مفسدة للرعية(1). والحقيقة تقول أن الأمراء في العهد الأموي الكثير منهم لا يستطيع أن يقتفي أثر عمر ولا أن يسير بسيرته، فيحز ذلك في نفوسهم، ويترك الحسرة والمرارة في قلوبهم، وأما الرعية فإنهم يسرعون إلى المقارنة بين ما هم فيه، وبين ما كان عليه الناس في عهد عمر، وما كانوا يتمتعون به من العدل والمساواة، والحرية والتمتع بكل حقوق الإنسان فيدفعهم ذلك إلى التمرد على أمرائهم، والسخط على أوضاعهم، وعدم الرضا بما هم فيه(2)، وأمثال عبد الملك يريد الأمور أن تستقر على منهاج الملك العضوض، وأما منهاج الخلافة الراشدة فيضيق عليه الخناق، وفي الحقيقة، إن سوء حال الحكم في مجتمع ما كان ذلك لنقص في الراعي والرعية معاً(3)، كما أن العودة إلى صفاء الحياة في عصر الخلفاء الراشدين ليس أمر مستحيلاً، ولكن لا يأتي به الحاكم وحده وإن صلحت نيته، وعظمت عزيمته، بل لا بد من تحقيق ذلك القدر من التوافق بين الراعي والرعية، حيث يتعاون الجميع على تحقيق ذلك المجتمع الطيب وطريق ذلك طويل وشاق، ويحتاج ربما إلى أجيال من الدعاة والحكام الذين يبذلون جهدهم لتربية الرعية على معاني الإيمان ويعطون في ذلك القدوة والمثل، ويستفرغون في ذلك وذاك وقتهم
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/233) .
(2) الأمويون بين الشرق والغرب (1/329) .
(3) مجموع الفتاوى (35/20) .(3/57)
وجهدهم(1).
هذه هي أهم الخطوط العامة لسياسة عبد الملك في إدارة شؤون الدولة
خامساً : من أهم ولاة عبد الملك الحجّاج بن يوسف الثقفي:
... هو الحجّاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، أبو محمد سمع ابن عباس وروى عن أنس وسمُرة بن جندب، وعبد الملك بن مروان، وأبي بردة بن أبي موسى وروى عنه أنس بن مالك وثابت البناني، وحميد الطويل، ومالك بن دينار، وقتيبة بن مسلم(2).
1 ـ بداية ظهوره: كان الحجّاج وأبوه يعلمان الغلمان بالطائف ثم قدم دمشق، فكان عند روح بن زنباع وزير عبد الملك فشكا عبد الملك إلى روح أنَّ الجيش لا ينزلون لنزله، ولا يرحلون لرحيله، فقال روح: عندي رجلٌ توليِّه ذلك فولى عبد الملك الحجّاج أمر الجيش، فكان لا يتأخر أحد في النزول والرحيل، حتى اجتاز إلى فسطاط روح بن زنباع وهم يأكلون، فضربهم وطوّف بهم، وأحرق الفسطاط، فشكا روح ذلك إلى عبد الملك فقال للحجّاج: لم صنعت هذا فقال: لم افعله إنما فعلته أنت، فإنَّ يدي يدُك وسوطي سوطك، وما ضرّك إذا أعطيت روحاً فسطاطين بدل فسطاطه وبدل الغلام غلامين، ولا تكسُرني في الذي وليّتني؟ ففعل ذلك وتقدم الحجّاج عنده(3).
2 ـ رأي الذهبي فيه: كان ظلوماً، جباراً خبيثاً سفّاكاً للدماء وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة، وتعظيم للقرآن إلى أن قال: فنسبه ولا نحبه، بل نبغضه في الله، فإن ذلك من أوثق عري الإيمان وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى الله وله توحيد في الجُملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء(4).
__________
(1) الدولة الأموية المفترى عليها صـ277 .
(2) البداية (12/507) .
(3) المصدر نفسه (12/509) .
(4) سير أعلام النبلاء (4/343) .(3/58)
3 ـ رأي ابن كثير فيه: وكانت فيه شهامة عظيمة وفي سيفه رهق(1)، وكان يغضب غضب الملوك، وكان ـ فيما يزعم ـ يتشبه بزياد بن أبيه، وكان زياد يتشّه بعمر بن الخطاب فيما يزعم أيضاً ولا سواء ولا قريب(2)، وقال: وبالجملة فقد كان الحجّاج نقمة على أهل العراق بما سلف من الذنوب والخروج على الأئمة وخذلانهم لهم وعصيانهم ومخالفتهم، والافتيات عليهم(3)، وقال:.. وكان جباراً عنيداً مقداماً على سفك الدماء بأدنى شبهة. وقد رُوِي عنه ألفاظ بشعة شنيعة ظاهرها الكفر، فإن كان قد تاب منها وأقلع عنها، وإلا فهو باقٍ في عهدتها، ولكن يخشى أنَّها رويت عنه بنوع من زيادة عليه، فإن الشيعة كان يبغضونه جداً لوجوه وربَّما حرّفوا عليه بعض الكلم، وزادوا فيما يحكونه عنه بشاعات وشناعات وقد روينا عنه أنه كان يتدين بترك المسكر، وكان يكثر تلاوة القرآن ويتجنب المحارم، ولم يُشتهر عنه شيء من التلطخ بالفروج، وإن كان متسرعاً في سفك الدماء فالله تعالى أعلم بالصواب وحقائق الأمور وسرائرها وخفيَّات الصدور وضمائرها(4).
... فلا نكفر الحجّاج، ولا نمدحه، ولا نسبه ونبغضه في الله بسبب تعديه على بعض حدود الله وأحكامه وأمره إلى الله.
__________
(1) البداية والنهاية (12/510) الرهق : الهلاك والظلم .
(2) المصدر نفسه (12/510) .
(3) المصدر نفسه (12/536) .
(4) المصدر نفسه (12/536) .(3/59)
4 ـ من خطب ومواعظ الحجّاج: قال الشعبي: سمعت الحجّاج تكلم بكلام ما سبقه إليه أحد، يقول: أما بعد، فإن الله تعالى كتب على الدنيا الفناء وعلى الآخرة البقاء، فلا فناء لما كتب عليه البقاء ولا بقاء لما كتب عليه الفناء. فلا يَغُرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، واقهروا طول الأمل بقصر الأجل(1)، وعن أبي عبد الله الثقفي عن عمّه، قال: سمعت الحسن البصريَّ يقول: وقذتني كلمة سمعتها من الحجّاج، سمعته يقول على هذه الأعواد: إن امرأ ذهب ساعة من عمره في غير ما خلق له لحريٌّ أن تطول عليها حسرته إلى يوم القيامة(2).
5 ـ صدق الله وكذب الشاعر: جاء رجل إلى الحجّاج فقال إن أخي خرج مع ابن الأشعث، فضُرب على اسمي في الديوان، ومُنعتُ العطاء، وقد هُدِمت داري.
... فقال الحجّاج: أما سمعت قول الشاعر:
... ... ... جانيك من يَجْني عليك وقد
... ... ... ... ... تُعدي الصِّحاح مبارك الجُرْب
... ... ... ولربَّ مأخوذٍ بذنب قَريبه
... ... ... ... ... ونجا المقارف صاحب الذنب
__________
(1) البداية والنهاية (12/522) .
(2) المصدر نفسه (12/522) .(3/60)
فقال الرجل: أيها الأمير، إني سمعت الله يقول غير هذا وقول الله أصدق من هذا. قال: وما قال؟ قال(( قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنّا نراك من المحسنين* قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون)) ( يوسف: آية: 79،78). قال: يا غلام أَعِد اسمه في الديوان، وابْن داره، وأعطاه عطاءه، ومُرْ منادياً ينادي: صدق الله وكذب الشاعر(1)، فهذه القصة تدل بوضوح على أن الشريعة الإسلامية سلطانها وهيبتها، حتى على طغاة الحكام وهذه خصيصة فريدة تتميز بها الشريعة الربانية عن الأنظمة والقوانين الوضيعة، كما تدلنا على أن أطغى الطغاة في العصور الأولى: لم يكن ليجرؤ على رفض شريعة الله أو تحدي نصوصها، ولو كان هو الحجّاج بن يوسف، المشهور بالقسوة والجبروت(2).
6 ـ الحجّاج مع أعرابي: حجّ الحجّاج مرّة، فمر يبن مكة والمدينة، فأُتى بغذائه فقال لحاجبه: انظر من يأكل معي، فذهب، فإذا أعرابي نائم فضربه برجله وقال أجب الأمير. فقام، فلمّا دخل الحجّاج قال له: اغسل يديك ثم تغدَّ معي. فقال: إنَّه دعاني من خير منك، فاجبته. قال ومن هو؟ قال: الله دعاني إلى الصوم، فأجبته. قال: في هذا الحرِّ الشديد؟ قال نعم، صمت ليوم هو أشدُّ حرَّاً منه قال: فأفطر وصُم ليوم غد، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذلك إليَّ. قال: فكيف تسألني عاجلاً بأجل لا تقدر عليه؟ قال: إن طعامنا طعام طبيب.. قال: لم تُطَّيْبه أنت ولا الطباخ، إنّما طيَّبته العافية(3).
7 ـ زواج الحجّاج من بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
__________
(1) المصدر نفسه (12/523) .
(2) تاريخنا المفترى عليه للقرضاوي صـ22 .
(3) البداية (12/518) .(3/61)
... قال الشافعي: لمّا تزوج الحجّاج بنت عبد الله بن جعفر قال خالد بن يزيد بن معاوية لعبد الملك بن مروان: أتُمكنه من ذلك؟ فقال: وما بأس بذلك؟ قال: أشدُّ البأس والله. قال: وكيف؟ قال: والله يا أمير المؤمنين لقد ذهب ما في صدري على آل الزبير منذ تزوجت رملة بنت الزبير. قال فكأنه كان نائماً فأيقظه، فكتب إلى الحجّاج يعزم عليه في طلاقها فطلقَّها(1)، وجاء في رواية: يا أمير المؤمنين إنما خفت أن يميل الحجّاج إليهم فيسعى لمحل سلطانه فإنه لم يكن بين أهل بيتين من شحناء ما كان بيننا وبين آل الزبير، فلما تزوجت برملة بنت الزبير انقلب ذلك البغض محبة حتى إني ما أحب أكثر منهم(2)، حتى قلت:
... ... ... ... تجول خلاخيل النساء ولا أرى
... ... ... ... ... ... ... ... خلخالاً يجول ولا قُلْبا
... ... ... ... فلا تكثروا فيها الملام فإنني
... ... ... ... ... ... ... ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا
... ... ... ... أحب بني العوام من أجل حُبِّها
... ... ... ... ... ... ... ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا(3)
__________
(1) المصدر (12/517) .
(2) الحجّاج بن يوسف المفترى عليه صـ137 .
(3) وفيات الأعيان (2/224 ، 225) .(3/62)
... وكان الحجّاج يحترم أهل البيت ويكرمهم وما زواجه ببنت عبد الله بن جعفر إلا مظهر من ذلك ليتقرب منهم ويصلهم وعلى الرغم من أنه طلقها فما زال واصلاً لعبد الله حتى مات، فكان يرسل له في كل شهر عيراً تحمل كسوة وتحفاً وميرة وكل ما يحتاج إليه(1)، وقد تجلى ذلك في أنه قال مرة: ليقم كل رجل منك يذكر بلاءه لنعطيه فقام رجل فقال: أنا قاتل الحسين. فقال: كيف قتلته؟؟ قال: دسرته بالرمح دسراً، وهبرته بالسيف هبراً. فقال: أما والله لا يجتمع الحسين وقاتله في الجنة، وحرمه من العطاء(2)، وما يذكر في كتب التاريخ من كون الحجّاج نصب العداء لأهل البيت غير صحيح، وخصوصاً إذا عرفنا معاملة عبد الملك لأهل البيت وحرصه على عدم مساسهم من قريب أو بعيد ما لم يتقربوا من كرسي الخلافة ويعملوا على الوصول إليه.
8 ـ الحجّاج والشعراء: وكان الحجّاج يقرب الشعراء ويستمع لشعرهم وكثيراً ما كان ينقد الشعر بملكة الأديب كما يحفظ الكثير من جيد الشعر ويقتبس منه في خطبه بما يناسب المقام، ومن الشعراء الذين أحسن لهم الحجّاج جرير بن عطية، فقد أطنب في مدح الحجّاج وأنشده قصيدة من عيون الشعر منها:
... ... ... ... من سَدَّ مُطَّلَع النفاق عليهم
... ... ... ... ... ... ... ... أم من يصول كصولة الحجّاج؟
... ... ... ... أم من يغار على النساء حفيظة
... ... ... ... ... ... ... ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
... ... ... ... إن ابن يوسف فاعلموا وتيقنوا
... ... ... ... ... ... ... ... ماضي البصيرة واضح المنهاج(3)
ومدحه بقصيدة أخرى من غرر الشعر جاء فيها:
... ... ... ... ترى نصر الإمام عليك حقا
... ... ... ... ... ... ... ... إذا لبسوا بدينهم ارتياباً
... ... ... ... عفاريت العراق شفيت منهم ...
__________
(1) المستطرف من كل فن مستظرف (2/321)
(2) تاريخ الإسلام للذهبي ، سرح العيون لابن نباته صـ108 ، الحجّاج بن يوسف المفترى عليه صـ399 .
(3) ديوان جرير صـ90 ، 91 .(3/63)
... ... ... ... ... ... ... ... فأمسوا خاضعين لك الرقابا
... ... ... ... وقالوا لن يجامعنا أمير
... ... ... ... ... ... ... ... أقام الحد واتبع الكتابا(1)
... وصار جرير يقول في الحجّاج قصائد من عيون الشعر وطال بقاؤه في بلاطه فخشي الحجّاج أن يكون في ذلك سبيل لدسيسة يتقرب بها بعض الناس لأمير المؤمنين فرأى أن يرسله لدمشق ليمدح عبد الملك وأجزل له العطاء(2) ، ومن الشعراء الذين مدحوا الحجّاج ليلى الأخيلية، والفرزدق والأخطل وغيرهم.
9 ـ رؤية رآها الحجّاج: رأى أن عينيه قُلعتا: وكان تحته هند بنت المُهلَّب، وهند بنت أسماء بن خارجة فطلَّقهما ليتأوَّل رؤياه بهما، فمات ابنه محمد وجاءه نعيُ أخيه محمد من اليمن، فقال: هذا والله تأويل رؤياي محمد ومحمد في يوم واحد، إنا لله وإنا إليه راجعون ثم قال من: يقول شعراً فيُسلني به فقال الفرزدق:
إن الرَّزيَّة لارزيَّة بعدها
... ... ... ... فقدان مثل محمد ومحمد
... ... ... مَلِكان قد خلت المنابر منهما
... ... ... ... ... ... أخذ الحمام عليهما بالمرصد(3)
__________
(1) الكامل في الأدب نقلاً عن الحجّاج بن يوسف المفترى عليه صـ365 .
(2) الحجّاج بن يوسف المفترى عليه صـ368 .
(3) شذرات الذهب (1/382) .(3/64)
10 ـ مقتل سعيد بن جبير: في عام 95هـ قتل الحجّاج سعيد بن جبير المقرئَ المفسَّر المحدث الفقيه، أحد الأعلام وله نحو من خمسين سنة أكثر روايته عن ابن عبّاس، وحدّث في حياته بإذنه، وكان لا يكتب الفتاوى مع ابن عبَّاس، فلمّا عَمِيَ ابن عباس كتب وروي أنه قرأ القرآن في ركعة في البيت الحرام، وكان يؤمّ الناس في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة ابن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وأخرى بقراءة غيرهما وهكذا أبداً، وقيل كان أعلم التابعين بالطَّلاق سعيد بن جبير، وبالحج عطاء، وبالحلال والحرام طاووس وبالتفسير مجاهد وأجمعهم لذلك سعيد بن جبير وقتله الحجّاج وما على وجه الأرض أحد إلاَّ وهو مفتقر إلى علمه(1)،، وقال الحسن يوم قتله: اللهمّ أَعِنْ على فاسق ثقيف، والله لو أنّ أهل الأرض اشتركوا في قتله لأكبهم الله في النار(2)، وعندما أمر الحجّاج بقتل سعيد قال سعيد: اللهم لا تحل له دمي ولا تُمهله من بعدي(3)، وأصيب الحجاج بفزع عظيم وجعل يقول: مالي ولك يا سعيد بن جبير، وكان في جملة مرضه كلما نام رآه آخذاً بمجامع ثوبه يقول: يا عدو الله فيم قتلتني، فيستيقظ مذعوراً ويقول: مالي ولابن جبير(4).
11 ـ مرض الحجاج وموته:
__________
(1) المصدر نفسه (1/383) .
(2) المصدر نفسه (1/383) .
(3) المصدر نفسه (1/386) .
(4) المصدر نفسه (1/386) .(3/65)
أ ـ خطبته قبل موته: لما مرض الحجّاج أرجف الناس بموته فقال في خطبته: إنَّ طائفة من أهل الشقاق والنفاق نزغ الشيطان بينهم، فقالوا: مات الحجّاج، ومات الحجّاج، فمه، وهل يرجو الحجّاج الخير إلا بعد الموت؟ والله ما يُسرُّني أن لا أموت وأنَّ لي الدنيا وما فيها وما رأيت الله رضي التخليد إلا لأهون خلقه عليه إبليس، قال الله له((إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)) (الأعراف ، الآية : 15). فأنظره إلى يوم الدين، ولقد دعا الله العبد الصالح فقال: ((وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي)) (ص ، الاية : 35). فأعطاه الله ذلك إلا البقاء، فما عسى أن يكون أيُّها الرجل، وكلُّكم ذلك الرجل كأنِّي والله بكل حيٍّ منكم ميتاً، وبكل رطبٍ يابساً، ثم نُقِلَ في ثياب أكفانه إلى ثلاثة أذرع طولاً في ذراع عرضاً، فأكلت الأرض لحمه، ومصَّت صديده، وانصرف الحبيب من ولده يُقسِمُ الحبيب من ماله إن الذين يعقلون. يعقلون ما أقول(1).
ب ـ الآلام الشديدة التي تعرض لها الحجّاج في مرضه:
كان موت الحجّاج بالأكلة(2)، في بطنه، سوَّغه الطبيب لحماً في خيط فخرج مملوءاً دوداً وسُلط عليه أيضاً، البرد فكان يوقد النَّار تحته وتأجِّجُ حتى تحرق ثيابه وهو لا يُحِسَّ بها، فشكا ما يجده إلى الحسن البصري ـ كما جاء في بعض الروايات ـ فقال له الم أكن نهتيْتُك أن تتعرّض للصالحين، فلججت، فقال له: يا حسن، لا أسألك أن تسأل الله أن يفرج عني ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي، فبكى الحسن بكاءً شديداً، وأقام الحجّاج على هذه العلة خمسة وعشر يوماً فلما أُخبر الحَسَنُ بموته سجد شكراً، وقال: اللهمَّ كما أمته أمت سنته(3)، وعن الأصمعي، قال: لما حضرت الحجّاج الوفاة أنشأ يقول:
... ... يا ربِّ قد حلف الأعداء واجتهدوا
__________
(1) البداية والنهاية (12/594).
(2) الأكلة : داء يقع في العضو فيأتكل منه .
(3) شذرات الذهب (1/381) .(3/66)
... ... ... ... ... ... بأنني رجل من ساكني النار
... ... أيحلفون على عمياء ويحهم
... ... ... ... ... ... ما علمهم بعظيم العفو غفار(1)
وقال عند موته: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل(2)، وعن عمر بن عبد العزيز أنَّه قال: ما حسِدتُ الحجّاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبِّه للقرآن وإعطائه أهله، وقوله له حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإنَّ الناس يزعمون أنك لا تفعل(3)، ولما قيل للحسن البصري: إن الحجّاج قال عند الموت كذا وكذا. قال: أقالها؟ قالوا: نعم. قال: عسى(4)، وقد فرح أهل العراق بموت الحجّاج، وسمي يوم موته عرس العراق(5).
ج ـ عمره لما مات وما تركه من مال:
... قال العماد في سنة 95هـ: فيها أراح الله العباد والبلاد بموت الحجاج بن يوسف الثقفي في ليلة مباركة على الأمة، ليلة سبع وعشرين رمضان، وله ثلاث وقيل أربع أو خمس وخمسون سنة أو دونها(6)، وزعموا أنَّ الحجّاج مات ولم يترك إلا ثلاثمائة درهم ومصحفاً وسيفاً وسرْجاً ورحلاً ومائة درع موقوفة(7).
س ـ ما رؤي له بعد موته: وقال الأصمعي عن أبيه قال رأيت الحجّاج في المنام فقلت ما فعل الله بك؟ فقال: قتلني بكل قتلة قتلت بها إنساناً.
... وكان الحسن لا يجلس مجلساً إلا ذكر فيه الحجّاج فدعا عليه، قال: فرآه في منامه فقال له: أنت الحجّاج قال: ما فعل الله بك؟ قال: قتلت بكل قتيل قتلته ثم عُزلت مع الموحِّدين. قال: فأمسك الحسن بعد ذلك عن شتمه(8).
__________
(1) البداية والنهاية (12/ 550) .
(2) المصدر نفسه (12/550) .
(3) البداية والنهاية (12/550) .
(4) المصدر نفسه (12/550) .
(5) المنتصم (7/4) .
(6) شذرات الذهب (1/377) .
(7) البداية والنهاية (12/552) .
(8) المصدر نفسه (12/554) .(3/67)
ش ـ حزن الوليد بن عبد الملك عليه: لما مات الحجّاج تفجع عليه الوليد وجلس للعزاء فيه محزوناً عليه ومازال مهموماً حتى دخل عليه الفرزدق ـ الشاعر ـ فرثى الحجّاج رثاءً أرضى الوليد واقر عينه فقد قال:
... ... ... لبيك على الإسلام من كان باكيا
... ... ... ... ... ... ... على الدين من مستوحش الليل خائف
... ... ... وأرملة لما أتاها نعيه
... ... ... ... ... ... ... فجادت له بالواكفات الزوارف
إلى أن قال:
... ... ... فما ذرفت عيناي بعد محمد
... ... ... ... ... ... ... على مثله إلا نفوس الخلايف(1)
وتتابع الناس في دخولهم على الوليد يعزونه في الحجّاج ويثنون عليه خيراً وقد وجد الوليد على عمر بن عبد العزيز لأنه لم يقل في الحجّاج شيئاً وألجأه إلى الكلام فقال: وهل كان الحجّاج إلا رجلاً من أهل البيت فنحن نُعزى فيه ولا نُعَزِّي(2)، وقال الوليد: لأشفعن في الحجّاج عند الله(3)، ووفاء لذكرى الحجّاج أقرّ الوليد العمال الذين استخلفهم(4).
ت ـ أقوال العلماء في موت الحجّاج:
... عن معمر، ، عن ابن طاووس، عن أبيه أنه أخبر بموت الحجّاج مراراً، فلما تحقَّق وفاته قال: ((فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين)) ((الأنعام ، الآية : 45).
ـ ... ولما أخبر إبراهيم النخعي بموت الحجّاج بكى من الفرح(5)، ولما بشر الحسن بموت الحجّاج سجد شكراً لله وقال اللهم أَمَتَّه، فأذهب عنا سنته(6)، وخرّ عمر بن عبد العزيز ساجداً حينما بلغه النبأ(7).
المبحث الرابع : النظام المالي في عهد عبد الملك:
أولاً : مصادر دخل الدولة:
__________
(1) العقد الفريد (3/19) ديوان الفرزدق صـ212 .
(2) مناقب عمر بن عبد العزيز صـ24 .
(3) المحاسن والأضداد صـ126 ، النجوم الزاهرة (1/218) .
(4) تاريخ الطبري ، نقلاً عن الحجّاج المفترى عليه صـ150 .
(5) المصدر نفسه (12/551) .
(6) المصدر نفسه (12/551) .
(7) العقد الفريد (3/18) .(3/68)
كانت من أهم مصادر دخل الدولة، الزكاة، والخراج، والجزية وخمس الغنائم والعشور والصوائف وقد تعرضت بعض هذه المصادر للإنحراف عن الشريعة من قبل القائمين عليها وعلى سبيل المثال:
1 ـ الجزية: صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل نجران على ما يعادل 80000 درهماً سنوياً، ولما تولى عثمان بن عفان شكوا إليه قلة عددهم وتفرقهم في البلاد فخفضها عنهم إلى 72000 درهماً، فلما تولى معاوية بن أبي سفيان، شكوا إليه نفس الشكوى فخفضها عنهم إلى 64000 درهماً، فلما تولى الحجّاج بن يوسف على العراق إتهمهم بمعاونة خصوم الدولة السياسيين فرفعها إلى 720000 درهماً(1)، ويمكن القول بأن رفع نظام الجزية في العصر الأموي شهد بصفة عامة انحرافات في طريقة الجباية والتي منها ما قيل أن المهلب بن أبي صفرة، حينما صالح أهل خوارزم على ما يزيد على عشرين مليون درهماً كان يأخذ بدل النقد سلعاً عينية لعدم توفر السيولة النقدية لدى أهلها لكنه أجحف في ذلك حيث كان يأخذ الشيء بنصف قيمته، فبلغ ما أخذه منهم خمسين مليون درهماً(2)، كما شهد انحرافات أخرى متمثلة في استمرار فرض الجزية على من أسلم، وقد برز هذا الأمر بصفة خاصة في ولاية الحجّاج(3)، ومع ذلك يمكن القول بأن التأثير الاقتصادي لهذا الانحراف كان محدوداً، وذلك لأن قرار الحجّاج في العراق قوبل بثورة أوقفت تطبيقه(4)، وأيضاً كان الانحراف الذي وقع في خراسان محدوداً، وعولج سريعاً بمجيء عمر بن عبد العزيز، ولكن للأسف لم يكتب لهذا الإصلاح الاستمرار حيث انتهى مفعوله بانتهاء عهد عمر بن عبد العزيز(5).
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ69 .
(2) البداية والنهاية نقلاً عن التطور الاقتصادي صـ70 .
(3) تاريخ الطبري نقلاً عن التطور الاقتصادي صـ70 .
(4) الخراج والنظم المالية للدولة الإسلامية للريس صـ219 .
(5) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ71 .(3/69)
2 ـ الخراج: تدنى الخراج كثيراً في عهد الحجّاج حتى وصل طبقا~ً لبعض الروايات إلى 18 مليون درهماً وقيل أنه وصل إلى 25 مليون عند موت الحجّاج(1)، بعد ما كان في عهد معاوية قد بلغ 135 مليون درهماً(2). وقام عبد الملك بمسح أرض الشام والجزيرة ويبدو أنه استقل ما كان يجبى من خراجهما، وكان معياره في التقدير هو مدى القرب والبعد من الأسواق، وكانت مسيرة اليوم واليومين فأكثر هي غاية البعد عنها، وما نقص عن اليوم فهو من القرب، وبناء على ذلك كان الخراج المفروض على الأرض القريبة يزيد عن المفروض على الأرض البعيدة(3)، وقد أحدث هذا المسح زيادة في حصيلة الخراج(4)، ويبدو أن عبد الملك أراد أن يعوض ما حدث من نقص في خراج العراق بسبب الثورات.
__________
(1) المصدر نفسه صـ74 .
(2) الأحكام السلطانية للماوردي صـ175 .
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ76 .
(4) المصدر نفسه صـ76 .(3/70)
2 ـ الصوافي: وبمجيء عبد الملك أقطع جميع الصوافي للأشراف حتى لم يبق منها شيئاً، إلا أن هؤلاء الملاكين الكبار لم يتوقفوا عن المطالبة بمزيد من القطائع وأمام الحاحهم المستمر، قام الخليفة بالتصرف ببعض الأراضي الخراجية التي توفي أصحابها ولم يكن لهم ورثة فأقطعهم جميع هذه الأراضي، وجعل لأصحابها حق ملكيتها التامة، بما في ذلك توريثها على أن يدفعون عن هذه الأراضي ضريبة العشر، ورفع ضربية الخراج عن هذه الأراضي وقد أعتبر الخليفة أن تصرفه هذا عملاً مشروعاً شبيهاً بإخراجه من بيت المال الجوائز الخاصة(1).أي أن الخليفة قد بّرر موقفه معتبراً أن ما قام به وكأنه نوع من المكافأة التي يحق للخليفة أن يأمر بها، بحيث أن ذلك يقع ضمن صلاحياته التي تتيح له أن يقدم المساعدات والمكافآت التي يراها مناسبة من بيت المال. ولكن هذا الموقف، الذي لم تكن تدعمه أية سوابق إسلامية في العهد الراشدي فقط بل هو يخالف صراحة ما قرّره المسلمون بشأن أرضى الصوافي والأراضي الخراجية حيث اعتبر فيئاً للمسلمين ووقفاً لهم فلا يحق لأحد التصرف فيها بأي شكل من الأشكال، إن كان بالبيع أو بالشراء أو بمنحها قطائع، حتى وإن كان أصحابها أي العاملين على هذه الأرض قد توفوا وليس لهم وارث، ولهذا فلا يصحّ ولا يجوز أن تعتبر هذه الأراضي متساوية مع الجوائز الخاصة(2)، هذه بعض الانحرافات التي حدثت في مصادر الدولة وكان لها الأثر البالغ على النظام المالي.
ثانياً: النفقات العامة:
__________
(1) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ117 .
(2) المصدر نفسه صـ118 .(3/71)
1 ـ النفقات العسكرية: في عهد عبد الملك زادت عطاءات الجنود العرب حتى بلغ حدها الأدنى 1200 درهماً. وحدها الأوسط 1600 درهماً وحدها الأعلى 1800 درهماً(1)، في ولاية العراق، والغريب أن هذا لا يتلائم مع الحالة الاقتصادية في عهد الحجّاج والتي انخفضت فيها إيرادات المال بشكل كبير لكن يفسر ذلك كثرة من خرج على الحجّاج من جنده، وكان يلقي عطاء من خرج عليه ويزيد في عطاء الباقين(2).
2 ـ نفقات الصناعات الحربية: كان اهتمام الدولة الأموية منصباً على تطوير سلاح البحرية وسيأتي الحديث عن ذلك في الصناعات بإذن الله.
3 ـ النفقات الإدارية: كان الحد الأقصى لرواتب الكتّاب طوال العصر الأموي وطرفاً من العباسي حنى عهد المأمون هو 3600 درهماً سنوياً، وكان حدها الأدنى 720 درهماً سنوياً(3)، وكان كتاب ديوان رسائل الحجّاج مرتبة ثلاثمائة درهم شهرياً، وقد كان يوزعها فيجعل لامرأته خمسين درهماً وينفق على شراء اللحم خمسة وأربعين درهماً، وما تبقى ينفقه على الدقيق وإن فضل شيء تصدق به، وقد عاده الحجّاج من علة، فوجد بين يديه كانون من طين ومنارة من خشب فقال له: ما أرى رزقك يكفيك. قال: إن كانت ثلاثمائة لا تكفيني فثلاثون ألفاً لا تكفيني(4)، ويمكن اعتبار متوسط الدخل الفردي المناسب في العصر الأموي هو ما بين مائتين وخمسين إلى ثلاثمائة درهم شهرياً(5)، ويدخل من ضمن النفقات الإدارية، مرتبات الولاة والقضاة وموظفي الدولة عموماً فقد كانت الدولة تتكفل بمرتباتهم.
ثالثا: تطور القطاع الزراعي:
... كان تطور الزراعي للدولة الأموية في الجانب الغربي وذلك بسبب عوامل عديدة منها:
1 ـ الاستقرار السياسي لتلك المنطقة خلال معظم العصر الأموي.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ100 .
(2) المصدر نفسه صـ100 .
(3) المصدر نفسه صـ107 .
(4) المصدر نفسه صـ108 .
(5) المصدر نفسه صـ108 .(3/72)
2 ـ الاستقرار النقدي الذي كانت تتمتع به المنطقة حتى قبل سك النقود الإسلامية، ذلك أنها ورثت الدنانير البيزنطية، والتي ظلت عملة مستقرة لم تتعرض لما تعرضت له الدراهم الفارسية من غشى.
3 ـ أن المنطقة الغربية من الدولة الأموية لم تعان مما كانت منه المنطقة الشرقية من تركز في الثروة، ووجود عدد كبير نسبياً من أفراد المجتمع دخولهم منخفضة نسبياً، ويعود ذلك إلى أن مادة الجيش الأموي السياسية كانت من جند الشام، وقد تميز أهل هذه المنطقة في العطاء(1)، مما جعل الدورة الاقتصادية في المنطقة الغربية تدور بسرعة أكبر وبالتالي ينشط القطاع الزراعي فيها بشكل اكبر وينمو بشكل أسرع، بينما كان معظم سكان المنطقة الشرقية هم من أصحاب الدخول المنخفضة (( الموالي)).
4 ـ استبدال الضرائب العينية في كل من الجزيرة والشام بضرائب نقدية خلال المسح الذي تمّ في عهد عبد الملك(2)، وهذا أثر في العطاء، فزاد الطلب النقدي لساكني المدن على السلع الزراعية، ومنتجات الريف، واحدث نوعاً من الاستقرار وأحدث زيادة في دخول المزارعين مكنتهم من تحقيق تنمية زراعية(3).
وقد ظهرت دلائل التطور الزراعي بالمنطقة الغربية كثمرة لتلك العوامل وغيرها وكان من أبرز تلك العوامل:
1 ـ زيادة حصيلة خراج منطقتي الجزيرة والشام نتيجة المسح الذي تم لهما في عهد عبد الملك بن مروان.
2 ـ تطور نظام الري من خلال توزيع المياه بين الأنهار الفرعية(4)، مما ادى إلى زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية فهذه بعض الدلائل التي تشير إلى التطور الزراعي بالمنطقة الغربية من الدولة الأموية.
* ـ التدهور الزراعي في القسم الشرقي من الدولة الأموية:
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ192 .
(2) المصدر نفسه صـ193 .
(3) المصدر نفسه صـ193 .
(4) المصدر نفسه صـ193 .(3/73)
... كان الطابع العام لقطاع الزراعة في هذا القسم السير نحو التدهور، ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى تدهور القطاع الزراعي في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية ما يلي:
1 ـ الاضطراب السياسي، وفقدان الأمن بالمنطقة، فانعكس ذلك على مستوى الإنتاجية الزراعية.
2 ـ تركز الثروة في يد قلة من سكان المنطقة، حيث كانت معظم التركيبه السكانية من الموالي، مما ترتب عليه ضعف حركة النقود داخل المنطقة، فضعفت حركة تبادل السلع، أي حدوث كساد اقتصادي بالمنطقة(1).
3 ـ قرار بيع الأراضي الخراجية وجعل ثمنها في بيت المال، جاء ذلك لموجهة النقص في إيرادات الدولة(2). فأدى إلى توفير السيولة النقدية اللازمة للدولة على المدى القصير، لكنه على المدى الطويل كانت له آثار عكسية على إيرادات بيت المال فقد تحولت هذه الأراضي الخراجية إلى أراضي عشرية، وبينما لا تقل ضريبة الخراج عن (25%) وقد تصل إلى (50%) من حصيلة الإنتاج الزراعي سنوياً، أصبح الحد الأقصى بما تدره لبيت المال هو (10%) سنوياً، وقد أدى انخفاض إيرادات الدولة على هذا النحو إلى إضعاف مقدرة الدولة في المدى الطويل على تمويل المشاريع العامة، والتي كان غالبها يدعم قطاع الزراعة، إلى جانب ذلك كان لهذا القرار أثر مباشر على الإنتاجية الزراعية، فقد كان البائعون هم أصحاب الأرض الأصليين الذين عرفوا كيف يتعاملون معها، وأسلوب زراعتها، واكتسبوا الخبرة الزراعية من طول مكثهم فيها، بينما كان المشترون من العرب وهم ذوو خبرة قليلة بالزراعة، خاصة إذا ما قورنت بالنسبة لخبرة المزارعين الأصليين.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ196.
(2) الخراج والنظم المالية صـ203 ، 204 .(3/74)
4 ـ إخضاع المشاريع الزراعية للضغوط السياسية، فقد أدت محاربة الدولة لخصومها السياسيين إلى تخريب أو تحجيم مشاريعهم الزراعية، فانعكس ذلك بنتائج سلبية على اقتصاد الدولة ككل، ومن صور ذلك ما حدث في عهد الحجّاج من أن بثوق انبثقت على الأرض المحياة من أرض البطائح فلم يعمل الحجّاج ـ بوصفه والي المنطقة ـ على سد تلك البثوق مضارة لأهلها ـ لاتهامهم بمساعدة ابن الأشعث في الخروج عليه ـ فغرقت أراضيهم الزراعية وتحولت إلى موات(1).
5 ـ حدوث مواجهة عسكرية بين المزارعين المهاجرين من الأرياف إلى المدن من الموالي والدولة الأموية، وذلك حينما حاول والي العراق إعادتهم إلى أراضيهم بالقوة وإعادة فرض الجزية عليهم، وقد وافق ذلك خروج ابن الأشعث على الدولة الأموية، فانضموا تحت لوائه(2). ونتيجة لتلك الأسباب وغيرها فقد بدت علامات تدهور القطاع الزراعي العام في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، وكان أبرز تلك العلامات ما يلي:
1 ـ تدهور غلة الخراج، حيث أخذت في التناقص المستمر(3).
2 ـ هجرة الفلاحين للأراضي الزراعية والاتجاه نحو المدن، وذلك لزيادة حجم ضريبة الخراج ـ بالضرائب الإضافية ـ وعنف الجباية، فتركوا أراضيهم وهاجروا إلى المدن(4).
3 ـ حالة القلق التي انتابت المزارعين الذين بقوا في أراضيهم مما دفعهم لتسجيل أراضيهم لأسماء الأمراء والأشراف ـ وهو ما يعرف بالإلجاء طلباً للحماية، ومن أمثلة ذلك إلجاء كثير من المزارعين أرضيهم بمسلمة بن عبد الملك للتعزز به(5).
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ198 .
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ198 .
(3) المصدر نفسه صـ199 .
(4) تطور ملكية الأراضي في منطقة السواد حتى نهاية العصر الأموي صـ195 .
(5) الخراج والنظم المالية للريس صـ260 .(3/75)
4 ـ حدوث نقص كبير في الإنتاج الحيواني، وبالذات حيوانات الحرث، مما دفع والي العراق إلى إصدار أمر يقضي بمنع ذبح الأبقار(1)في أحد خطوات علاج الأزمة كما قام بتوريد كمية من الجواميس من إقليم السند لسد العجز الحاصل في دواب التنمية الزراعية(2).
... ومع ذلك فقد كانت خلال هذه الفترة مجموعة من الإجراءات والمشاريع التي خففت من حدة التدهور الزراعي بالمنطقة خلال عهد عبد الملك وكان من أبرزها ما يلي:
1ـ عملية نقل الأيدي العامة الزراعية من منطقة إلى منطقة أخرى، بهدف أحداث تنمية زراعية من الجهة المنقول إليها ومن أمثلة:
... أ ـ نقل الحجّاج بن يوسف عدداً من مزارعي بلاد السند بأهليهم وجواميسهم وأسكانهم في أرض موات، فأحيوها(3).
... ب ـ نقل رؤوس الأموال إلى مناطق فقيرة لتنميتها، ومثال ذلك إسكان قتيبة بن مسلم لمجموعة من العرب في سمرقند(4)، ومعلوم أن العرب كانوا من أعلى الناس ثروة في العصر الأموي(5).
رابعاً: تطور التجارة:
مر تطور التجارة الداخلية في عهد عبد الملك بمرحلة ضعف بسبب عوامل أثرت على حجم التجارة الداخلية، كان من أبرزها ما يلي:
1 ـ كثرة الفتن والقلاقل الداخلية التي عصفت بمعظم أركان الدولة الأموية، ومن المعلوم بداهة أن الاستقرار السياسي والأمن الداخلي هي من أولويات ازدهار التجارة الداخلية ونموها، ومع افتقادهما في الدولة الأموية بشكل كبير تعثرت التجارة الداخلية.
2 ـ نقص السيولة النقدية.
3 ـ صعوبة دفع الأثمان للصفقات التجارية، وعلى جهة الخصوص الكبيرة منها.
4 ـ ارتفاع نسبة الضرائب على التجارة حيث روي أنها وصلت(6) إلى 33%.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ199 .
(2) فتوح البلدان صـ368 للبلاذري .
(3) الخراج والنظم المالية للدولة الأموية صـ215 .
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ200 .
(5) المصدر نفسه صـ200 .
(6) المصدر نفسه صـ216 .(3/76)
ومع بداية 77 هـ نمت التجارة الداخلية وازدهرت، وكان وراء ذلك العديد من الأسباب من أبرزها:
1 ـ زيادة السيولة النقدية الداخلية، وذلك بإصدار العملة الإسلامية الجديدة الموحدة، والتي تطورت من حيث الدقة والانضباط والعيار حتى أصبحت محل ثقة المتعاملين في الأسواق وأصبحت تلقى قبولاً عاماً مما سهل عملية المبادلات بشكل كبير وحل عدد النقود محل وزنها وبذلك كانت عملية الإصدار النقدي نقطة تحول في تطور التجارة الداخلية بشكل خاص، سواءً من حيث الزيادة في حجمها أو الاتساع في أرجائها.
2 ـ حدوث هدوء واستقرار نسبي داخل الدولة الأموية بعد القضاء على الثورات الداخلية.
3 ـ تمت في هذه المرحلة بعض الإصلاحات التي كان من شأنها تيسير الصفقات التجارية، ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
أ ـ توحيد وحدة الكيل والميزان من قبل الحجّاج بإقليم العراق(1).
ب ـ تنظيم الأسواق مما يسهل ويخدم الحركة التجارية(2).
ج ـ وجود خدمات لراحة التجار، كالفنادق والحمامات داخل الأسواق(3).
وأما التجارة الخارجية في عهد عبد الملك، فقد كانت متعلقة بالدولة البيزنطية ودول المشرق الأقصى.
1 ـ العلاقة مع الدولة البيزنطية: وقد مرّة العلاقة التجارية بمرحلتين:
* ـ مرحلة نمو وقوة وازدهار: وقد نشأ هذا النمو والقوة والازدهار نتيجة عدة عوامل لعل من أهمها:
أ ـ : كثرة الإضطرابات والحروب في المنطقة الشرقية من الدولة الأموية، مما خفض من حجم المبادلات التجارية بينها وبين دول المشرق ولو بشكل جزئي، وبالتالي زيادة حجم المبادلات التجارية مع دولة بيزنطية بالغرب.
ب ـ الاستقرار الأماني في المناطق الغربية مع الدولة الأموية، دفع بكثير من رؤوس الأموال للهجرة من مناطق التوتر في الشرق إلى إقليم الشام، بحثاً عن فرص استثمارية آمنة.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ217 .
(2) المصدر نفسه صـ217 .
(3) المصدر نفسه صـ217 .(3/77)
ج ـ الاعتماد الكلي لكل من الدولتين على الأخرى في مجال هام وحيوي بالنسبة لها، فكما كانت الدولة البيزنطية تعتمد كلياً على أوراق البردي، كانت الدولة الأموية تعتمد كلياً في حجم النقد الذهبي داخلها على ما يردها من الدولة البيزنطية(1).
* ـ مرحلة تدهور المبادلات التجارية بين البلدان:
وقد شهدت هذه المرحلة انخفاضاً كبيراً في المبادلات التجارية بين الدولتين ويعود ذلك إلى عدة عوامل من أبرزها ما يلي:
1 ـ تدهور العلاقات السياسية بين الدولتين بشكل كبير.
2 ـ حدوث هدوء نسبي في الأقاليم الشرقيةـ بعد قضاء على الثورات الداخلية ـ مما أدى إلى رفع معدلات التبادل التجاري مع دول الشرق الأقصى.
ح ـ دخول معظم دول المشرق تحت مظلة الدولة الإسلامية فتهيأ لها نوعاً من الاكتفاء الذاتي لتلك الدولة، لا سيما بعد دخول بلاد الهند والسند.
س ـ تزايد اعتماد الدولة الأموية في تجارتها مع دول الشرق الأقصى على التجارة البحرية عن طريق الخليج العربي، لا سيما بعد تطور صناعة السفن بها(2)، بشكل أصبحت معه قادرة على الخوض في المحيطات، مما جعل معظم تجارة الدولة الأموية مع دول الشرق الأقصى تتم بواسطة الطرق البحرية(3)، فنتيجة لتلك العوامل وغيرها تدهورت التجارة بين البلدين.
2 ـ العلاقات التجارية مع دول المشرق الأقصى:
كانت تعتمد التجارة بين الدولة الأموية ودول المشرق على نوعين من الخطوط، وهما خطوط التجارة البرية وخطوط التجارة البحرية.
أ ـ التجارة عن طريق الخطوط البرية:
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ208 .
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ209 .
(3) المصدر نفسه صـ209 .(3/78)
دخلت كثير من دول المشرق تحت مظلة الدولة الإسلامية لا سيما بلاد الهند، والسند، والتي كانت تحتل صادراتها نسبة كبيرة من واردات الدولة الأموية، ومعنى ذلك تحول جزء من التجارة الخارجية مع الشرق إلى تجارة داخلية بين أرجاء الدولة الإسلامية(1).
ب ـ التجارة عن طريق الخطوط البحرية:
اهتمت الدولة بالتجارة البحرية وأكدت على عنصر الأمن للطرق التجارية ومن صور ذلك إرسالها جيش للقضاء على قراصنة كانوا يقطعون الطريق على تلك الخطوط البحرية فقضى عليهم(2)، واهتم الحجاج بتحصين المدن التجارية(3)، كما طور صناعة السفن التجارية وأصبحت وسائل النقل البحري والرحلات التجارية أكثر أمناً، وسرعة وأعلى كفاءة مما شجع على رواج التجارة(4).
خامساً: الحرف والصناعات: من أشهر الصناعات في عهد عبد الملك:
1 ـ صناعة المنسوجات: وقد تطورت صناعة النسيج في الدولة الأموية كثيراً وأصبحت لها مصانع خاصة بها سميت دور الطراز، وكان دورها إنتاج الملابس الخاصة بموظفي الدولة الكبار، كالأمراء والولاة، وقد تحدثت عن ذلك في كلامنا عن ديوان الطراز.
2 ـ التشييد وصناعة مستلزمات البناء: شهدت الدولة الأموية إهتماماً بالعمران، وتشييد المساكن، وزخرفتها، ومن أبرز ذلك المسجد الأقصى وقبة الصخرة وقد أدى الإقبال على تزيين البيوت والتأنق فيها إلى ظهور صناعات تلبي تلك الرغبات، فظهرت على سبيل المثال صناعة قطع الرخام وزخرفته، وكذا استخدام الزخارف الحبيسة لتزيين المباني(5)
__________
(1) المصدر نفسه صـ211 .
(2) المصدر نفسه صـ212 .
(3) الحجاج بن يوسف وجه حضاري في تاريخ الإسلام صـ59 .
(4) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ213 .
(5) تاريخ الموصل (1/223) .(3/79)
3 ـ الصناعات الحربية: توسعت هذه الصناعة في عهد عبد الملك بن مروان وفتح داراً بتونس لصناعة السفن الحربية وكانت نواة تلك الدار ألف عامل متخصص في صناعة السفن ثم نقلهم من دار الصناعة ـ المنطقة الصناعية ـ بمصر، وقد تم وضع التنظيم اللازم وطريقة إمداد تلك الدار بالأخشاب من الغابات الإفريقية الداخلية، واختيار جماعات من البربر من سكان تلك المناطق للقيام بتلك المهمة، حيث هم أخبر الناس بمناطق وجود الأخشاب الجيدة الملائمة لتلك الصناعة(1)، وفي إرسال دار الصناعة بمصر لألف عامل ليكونوا نواة التصنيع بتونس ما يدل على مدى تطور تلك الصناعة بمصر وكبر حجمها وفي تطور لاحق لصناعة السفن الحربية بتونس، قام والي تونس بتوسيع دار الصناعة بها فشق قناة بين الميناء وبين المدينة بطول اثني عشر ميلاً(2)، وشكلت هذه القناة ما يماثل اليوم أحواض بناء السفن أو الأحواض الجافة(3)وأصبحت مناطق دور صناعة السفن الحربية مناطق جذب سكاني(4)، ولم تكن السفن الحربية تختلف كثيراً عن السفن التجارية، وقد تطورت صناعة السفن التجارية في ولاية الحجّاج بصفة عامة(5)، وكان من أشهر أماكن صناعتها البحرين ومدينةواسط بالعراق(6).
__________
(1) تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي صـ115 ، 116 .
(2) الإدارة في العصر الأموي صـ222 .
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ240 .
(4) المصدر نفسه صـ240 .
(5) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ242 .
(6) المصدر نفسه صـ242 .(3/80)
4 ـ صناعة البردي في مصر: كان لهذه الصناعة أهميتها الخاصة، ذلك لأن البردي كان يستخدم قبل ظهور صناعة الورق آنذاك في المكاتبات وأعمال الدولة وكانت الدولة تشرف على الإنتاج إشرافاً مباشراً لأهمية تلك الصناعة، وكانت صادرات البردي تدر أرباحاً طيبة، وما ذكر عنها من تطور أنها استبدلت العبارات البيزنطية التي كانت تطبع على البردي المخصص للتصدير بعبارات دينية إسلامية، وكان ذلك في عهد عبد الملك(1).
5 ـ صناعات وحرف أخرى: ومن أهمها، حرفة الحدادة والصناعات الخشبية، صناعة الحلي والمجوهرات(2).
سادساً : إحداث دور ضرب العملة وتعريب النقد:
كانت عوامل عديدة تتجمع في الأفق كلها تشير إلى وجوب حدوث تطور كبير في نظام العملة المتعارف عليه في العالم الإسلامي بعد أن اتسعت رقعته ذلك الاتساع الكبير، واستقرت أحواله الداخلية بعد مضي فترة من خلافة عبد الملك بن مروان، فقد كان العالم الإسلامي يتعامل حتى ذلك الوقت بالعملة المالية لفارس والروم من دراهم، ودنانير، وهذه العملات المالية قد تناقصت كمياتها المتداولة بشكل يثير القلق بعد انهيار الإمبراطورية الفارسية واضطراب الأحوال في إمبراطورية الروم، فلم يعد حجم هذه العملات المتوافر يكفي لتغطية النشاط التجاري والاقتصادي والحاجة المالية للدولة الإسلامية الواسعة والنشيطة(3)،
__________
(1) المصدر نفسه صـ243 .
(2) المصدر نفسه صـ244 .
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ428 .(3/81)
وقد قام عبد الملك بتعريب النقد تعريباً نهائياً وأحدث دور الضرب التي تضرب فيها الدنانير، وجعلها بإشراف الخلافة، ويود المؤرخون أن يشعرونا بأنه فعل ذلك لأنه تخاصم مع ملك الروم فيقولون: إن الروم كانوا يأخذون من البلاد العربية صحائف البَرْدي، وأمر عبد الملك أن يكتب على رأس صحائف البردي ((شهد الله أن لا إله إلا هو))، فغضب لذلك ملك الروم، وكان محتاجاً إلى البردي، فهدد بأن يطبع على الدنانير عبارات القذف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، إن استمرت تلك العبارة على صحف البردي، فاعتمد عبد الملك أن يضرب السكة في بلاده ويستغنى عن الدنانير التي تأتيه من بلاد الروم(1). على أن الأمر يبدو أوسع من هذا، فقد كان في بلاد المسلمين نقود فارسية ونقود حميرية قديمة، وغيرها، وقد حاول الخلفاء من قبله ضرب النقود، بل يرجع إلى عمر بن الخطاب أنه ضرب الدراهم لكنه استبقى عليها العبارات الفارسية، وأضاف بعض العبارات العربية فيها كقول ((جائز))، واستمر ضرب النقود في عهد عثمان ومعاوية وابن الزبير، فكان من الطبيعي أن يستأنف عبد الملك عمله، وهو ما فعل. على أن عبد الملك يمتاز بأنه وضع لذلك مخططاً واضحاً، فليست القضية قضية إنشاء مصنع للنقود، ونقل السكة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية فحسب، بل يدخل في هذا الأمر وزن النقود وشكلها(2). وقد تحدث المؤرخون عن أسباب دينية وسياسية واقتصادية قد لعبت دوراً أساسياً في بناء موقف الخليفة، تتلخص هذه الأسباب على الشكل التالي:
1 ـ كان الخليفة حريصاً على صبغ الدولة الأموية بصبغة إسلامية، ولذا فإن الإصلاح النقدي يندرج ضمن خطة شاملة لتعريب مؤسسات الدولة(3).
__________
(1) حياة الحيوان للدميري (1/91 ـ 94) .
(2) الدولة الأموية : يوسف العشي صـ234 .
(3) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي في العصر الأموي صـ320 .(3/82)
2 ـ حرص الخليفة على إنهاء التبعية الاقتصادية للدولة البيزنطية التي كانت تسيطر دنانيرها الذهبية على الجانب النقدي من اقتصاديات الدولة(1).
3 ـ توقف حجم السيولة النقدية للدولة الأموية على ما يرد عليها من الدولة البيزنطية، مما يعرضها لأزمات اقتصادية حادة، خاصة في حالات انقطاع هذه السيولة بسبب ممارسة ضغوط اقتصادية، أو نشوب معارك حربية أو نحوها.
4 ـ سيطرت الدولة على مصادر عرض النقود، وضمان تخليصها من الغش وكسب ثقة الناس في النقود المتداولة.
5 ـ حاجة الدولة الفعلية إلى عملة داخلية موحدة ومنضبطة حتى تستوفي بها حقوقها لدى الأفراد، وتسهل لها القيام بوظائفها الاقتصادية(2).
6 ـ إن إصدار النقود يعبر عن السيادة الكاملة للدولة الإسلامية ويحررها من النفوذ الأجنبي(3)، فقد أراد عبد الملك بن مروان أن يقيم سلطانه على أساس اقتصادي مستقل عن بيزنطة وعدم الارتباط بنقدها، كما أن إصدار أول دينار إسلامي يرتبط بحالة الصراع مع البيزنطيين حيث استطاع الخليفة أن يوجه ضربة اقتصادية موجعة للدولة البيزنطية.
7 ـ يعتبر سك النقود الإسلامية وتوحيدها في الدولة اتجاهاً نحو الدولة المركزية وضبط جهازها المالي(4).
8 ـ ومن المعلوم الأكثر أهمية التي جعلت الخليفة يقدم على إصدار النقود الإسلامية، توفر كميات كبيرة من الذهب والفضة لدى المسلمين في البلاد المفتوحة، فاستند على قاعدة هذا المخزون الكبير من المعادن في إصدار النقد الإسلامي الجديد(5).
أهم خصائص النقود الإسلامية في عهد عبد الملك:
1 ـ أنه ألغى العبارات والإشارات التي تشير إلى العقيدة المسيحية المحرفة واستبدلها بعبارات تدل على عقيدة التوحيد الإسلامية.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ145 .
(2) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ145 .
(3) تاريخ بلاد الشام الاقتصادي صـ321 .
(4) المصدر نفسه صـ322 .
(5) المصدر نفسه صـ322 .(3/83)
2 ـ إنها موافقة في أوزانها النسبية لنصاب زكاة النقدين ومقدارها.
3 ـ أنه حدد وزن الدينار باثنين وعشرين قيراطاً إلا حبة(1)، وجعل الدرهم خمسة عشر قيراطاً أو ستة دوانق(2).
4 ـ أنه حدد بناء على الوزن السابق سعر الصرف بين الدرهم والدينار، فكانت كل عشرة دراهم تساوي سبعة دنانير(3).
5 ـ تحددت تواريخ إصدار النقود الأموية بالتاريخ الهجري المتسلسل، إي وفق المتعارف عليه، بينما افتقرت النقود الساسانية والبيزنطية إلى التواريخ التقويمية، إذ اعتمدت تواريخها على بداية حكم كل ملك(4).
محاربة تزييف العملة: تشدد عبد الملك وخلفاءه من بعده وولاتهم في تعقب أية محاولة لغش النقود وتزييفها ومعاقبة من يثبت عليه ذلك، فقد روي أنه أخذ رجلاً يضرب على غير سكة المسلمين فأراد قطع يده، ثم ترك ذلك وعاقبه، فاستحسن ذلك شيوخ المدينة(5).
سابعاً : العمارة والبناء في عهد عبد الملك:
اقتضت أهداف دولة عبد الملك بإنشاء مدينة واسط، وتونس.
__________
(1) التطور الاقتصادي في العهد الأموي صـ146 .
(2) المصدر نفسه صـ146 .
(3) التطور الاقتصادي في العصر الأموي صـ146 .
(4) المصدر نفسه صـ146 .
(5) الدولة الأموية المفترى عليها صـ441 .(3/84)
1 ـ بناء واسط: اختطها الحجّاج بن يوسف الثقفي في أرض كسكر(1)، وهي تتوسط عدة مدن، فهي تبعد عن الكوفة أربعين فرسخاً، وكذلك عن المدائن والأهواز والبصرة وهي إحدى مدن العراق الكبرى قبل بناء بغداد(2)، وقد بدأ الحجّاج في بنائها عام 83هـ وانتهى منها سنة 86هـ(3)، وكان شروعه في البناء بعد موافقة عبد الملك وقد أنفق على بنائها خراج العراق كله لخمس سنوات(4)، كانت رؤية تخطيطها تتضح فيها الملامح الأساسية للتخطيط للمدينة الإسلامية، فاشتملت المدينة على المسجد ـ الجامع ـ ودار الإمارة في الوسط، وتضمينها الأسواق اللازمة لحياة مدينة مستقرة وفيها كذلك الملامح الجديدة ما يعكس ملامح النظام الأموي الجديد ولعبت واسط دوراً سياسياً مهماً، فكانت المناظر المتصلة بينها وبين قزوين وكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر إن كان نهاراً وإن كان ليلاً أشعلوا نيراناً، فتجرد الخيل إليهم، فكانت قزوين ثغراً(5)، فمنها كانت تتحرك الجيوش، وفيها ضربت النقود(6)، وازدهرت واسط من الناحية الاقتصادية فكثرت فيها المحلات التجارية، وتقدمت فيها الزراعة، وكانت عاصمة العراق في عهد الحجّاج.
__________
(1) تجديد الدولة الأموية صـ195 .
(2) فتوح البلدان صـ407 ، تجديد الدولة الأموية صـ195 .
(3) فتوح البلدان صـ407 ، تجديد الدولة الأموية صـ195 .
(4) تاريخ واسط ، بحشل صـ38 ، 39 ، تجديد الدولة الأموية صـ197 .
(5) معجم البلدان (5/350) .
(6) المصدر نفسه (5/350) .(3/85)
2 ـ بناء تونس: اختط هذه المدينة القائد حسان بن النعمان الغساني عام 82هـ، لتكون قاعدة عسكرية بحرية، ولتحول دون تكرار البيزنطيين الهجوم على قرطاجة عام 78هـ(1)، بنى حسان بن النعمان مدينة تونس على أنقاض قرية قديمة عرفت باسم ترشيش القديمة(2)، وإنما سميت تونس في أيام الإسلام لوجود صومعة الراهب، وكانت سرايا المسلمين تنزل بإزاء صومعته، وتأنس لصوت الراهب، فيقولون هذه الصومعة تؤنس، فلزمها هذا الإسم فسميت باسم تونس(3)، واختط حسان تونس غربي البحر المتوسط بنحو عشرة أميال(4)، فقام بحفر قناة تصل المدينة بالبحر لتكون ميناء بحرياً ومركزاً للأسطول الإسلامي بعد أن أنشأ فيها صناعة المراكب(5)، بخبراء في هذه الصناعة زوده بها والي مصر عبد العزيز بن مروان بناء على توجيه الخليفة عبد الملك(6)، وقد بنيت مدينة تونس طبقاً لأهداف سياسية استراتيجية، وأهداف اقتصادية إجتماعية تبناها الخليفة عبد الملك، أما الأهداف السياسية البعيدة المدى، فيتضح ذلك بوضع حد لاعتداءات الروم والمتمثلة بإغارتهم على الساحل الإفريقي، والسبيل الأمثل هو إيجاد قاعدة بحرية، وصناعة بحرية قادرة على إنشاء أسطوله مهمته صد العدوان الرومي بادي الأمر، ثم الانتقال من مرحلة التصدي إلى الغزو والفتح فيما بعد، وقد تمثل تطبيق هذه المرحلة من قبل الخليفة عبد الملك فقام بالإيعاز لشقيقه والي مصر: عبد العزيز بن مروان، لإرسال ألفي قبطي من مهرة الصناع لإقامة صناعة مراكب بحرية وقام هؤلاء بالمهمة الموكلة إليهم خير قيام، وأما الهدف الثاني: فيتمثل بإيجاد حياة إجتماعية بايجاد المؤسسات القادرة على خدمة
__________
(1) رياض النفوس للمالكي نقلاً عن تجديد الدولة الأموية صـ200 .
(2) معجم البلدان (2/601) .
(3) الروض المعطار صـ144 نقلاً عن تجديد الدولة الأموية صـ200
(4) تقويم البلدان نقلاً عن تجديد الدولة صـ200 .
(5) دائرة المعارف الإسلامية (6/32) .
(6) تجديد الدولة الأموية صـ200 .(3/86)
الأفراد، فأقام في المدينة المسجد الجامع ودار الإمارة وثكنات للجند للمرابطة وأخذ يقوم بتدوين الدواوين(1)، تنظيم الخراج والعناية بالدعوة الإسلامية بين البربر، فقام بإرسال الفقهاء ليعلموهم اللغة العربية والدين الإسلامي(2)، وسارت المدينة لتكون معسكراً حربياً في البداية، ومركز استيطان وإدارة لدعم الفتوحات وأخيراً مركزاً حضارياً ومركز إشعاع فكري وعلمي وثقافي(3). وهكذا رسخ الخليفة عبد الملك بن مروان إقدام الدولة الأموية بتأسيس مدينة تونس، وقطع دابر الغارات اليبزنطية بإيجاد مدينة إسلامية مرتبطة بالأهداف العليا للدولة(4).
3 ـ بناء مسجد قبة الصخرة:
__________
(1) البيان المغرب (1/38) .
(2) المصدر نفسه (1/38) .
(3) تجديد الدولة الأموية صـ203 .
(4) المصدر نفسه صـ203 .(3/87)
... بنى هذا المسجد الخليفة عبد الملك بن مروان وسماه الأوربيون خطأ مسجد عمر، وقد رصد الخليفة لأعماره أموالاً طائلة(1)، قال ابن كثير: ولما أراد عبد الملك عمارة بيت المقدس وجه إليه بالأموال والعمال ووكل بالعمل رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام مولاه، وجمع الصناع من أطراف البلاد وأرسلهم إلى بيت المقدس، وأرسل إليه بالأموال الجزيلة الكثيرة، وأمر رجاء بن حيوة ويزيد أن يفرغا الأموال إفراغاً ولا يتوقفا فيه، فبثوا النفقات وأكثروا، فبنوا القبة فجاءت في أحسن البناء، وفرشاها بالرخام الملون وحفاها بأنواع الستور، وأقاما لها سدنة وخداماً بأنواع الطيب والمسك والعنبر وماء الورد والزعفران، يعملون منه غاليه ويبخرون القبة والمسجد من الليل، وجعلا فيها من قناديل الذهب والفضة والسلاسل الذهبية والفضية شيئاً كثيراً، وفرشاها بأنواع البسط الملونة، وكانوا إذا أطلقوا البخور شمَّ من مسافة بعيدة، وقد عملوا فيها من الإشارات والعلامات المكذوبة شيئاً كثيراً مما في الآخرة، فصورا فيه صورة الصراط وباب الجنة وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووادي جهنم وكذلك في أبوابه ومواضع منه، فاغتر الناس بذلك إلى زماننا... وبالجملة فإن صخرة بيت المقدس لما فرغ من بنائها لم يكن لها نظير على وجه الأرض بهجة ومنظراً، وقد كان فيها من الفصوص والجواهر والفسيفساء وغير ذلك شيء كثير وأنواع باهرة، ولما فرغ رجاء بن حيوة ويزيد بن سلام من عمارتها على أكمل الوجوه، فضل من المال الذي أنفقاه على ذلك ستمائة ألف مثقال، وقيل ثلاثمائة ألف مثقال، فكتبا إلى عبد الملك يخبرانه بذلك، فكتب إليهما قد وهبته لكما، فكتبا إليه إنا لو استطعنا لزدنا في عمارة هذا المسجد من حلي نساءنا، فكتب إليهما: إذا أبيتما أن تقبلاه فأفرغاه على القبة والأبواب، فما كان أحد يستطيع أن يتأمل القبة مما عليها من الذهب القديم والحديث(2)
__________
(1) المصدر نفسه صـ206 .
(2) البداية والنهاية (12/40 ، 41) .(3/88)
، وهناك عدة أسئلة تطرح نفسها: ما سبب بناء هذا المسجد وبهذا الإتقان والإبداع؟ ولماذا تزامن مع حركة ابن الزبير في الحجاز؟، إن أول المؤرخين الذين حاولوا إيجاد التسويغ لبناء مسجد قبة الصخرة المشرفة هو اليعقوبي (ت 284) وقد ربط ذلك بالحكم والخلافة حينئذ، وأوجد صيغة مشتركة في التعامل بين السلطة الأموية والمجتمع، لأن معظم العالم الإسلامي كان قد بايع عبد الله بن الزبير بالخلافة (64 ـ 73هـ) ما عدا إقليم الأردن(1)، فقد قال في كتابه: ومنع عبد الملك أهل الشام من الحج، وذلك لأن ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجوا بالبيعة، فلما رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكة فضج الناس وقالوا: تمنعنا من حج بيت الله الحرام، وهو فرض علينا، فقال: هذا ابن شهاب الزهري يحدثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي ومسجد بيت المقدس. وهو يقوم لكم مقام المسجد الحرام، وهذه الصخرة التي يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع قدمه لما صعد إلى السماء(2). واليعقوبي راوي الأثر السابق مؤرخ شيعي إمامي كان يعمل في كتابة الدواوين في الدولة العباسية حتى لقب بالكاتب العباسي، وقد عرض اليعقوبي تاريخ الدولة الإسلامية من وجهة نظر الشيعة الإمامية، فهو لا يعترف بالخلافة إلا لعلي بن أبي طالب وأبنائه حسب تسلسل الأئمة عند الشيعة، ويسمي علي بالوصي، وعندما أرخ لخلافة أبي بكر وعمر وعثمان لم يضف إليهم لقب الخلافة إنما تولى الأمر فلان، ثم لم يترك واحداً منهم دون أن يطعن فيه، وكذلك كبار الصحابة، وقد ذكر عن عائشة رضي الله عنها أخباراً سيئة وكذلك عن خالد بن الوليد(3)، وعمرو بن العاص،(4)، ومعاوية بن أبي سفيان(5)، وعرض خبر السقيفة خبراً
__________
(1) تجديد الدولة الأموية صـ212 .
(2) تاريخ اليعقوبي (2/361) .
(3) المصدر نفسه (2/131) .
(4) المصدر نفسه (2/222) .
(5) المصدر نفسه (2/232 ، 238) .(3/89)
مشيناً(1)، إدعى فيه إنه قد حصلت مؤامرة على سلب الخلافة من علي بن أبي طالب الذي هو الوصي في نظره، وطريقته في سياق الاتهامات ـ الباطلة ـ هي طريقة قومه من أهل التشيع وهي إما اختلاق الخبر بالكلية(2)، أو التزيد في الخبر(3)، والإضافة عليه أو عرضه في غير صياغه ومحله حتى يتحرف معناه، ومن الملاحظ أنه عندما ذكر الخلفاء الأمويين وصفهم بالملوك وعندما ذكر خلفاء بني العباس وصفهم بالخلفاء، كما وصف دولتهم في كتابه البلدان باسم الدولة المباركة(4)، مما يعكس نفاقه وتستره وراء شعار التقية وهذا الكتاب يمثل الانحراف والتشويه الحاصل في كتابة التاريخ الإسلامي، وهو مرجع لكثير من المستشرقين والمستغربين الذين طعنوا في التاريخ الإسلامي وسيرة رجاله، مع أنه لا قيمة له من الناحية العلمية إذ يغلب على القسم الأول القصص والأساطير والخرافات، والقسم الثاني كتب من زاوية نظر حزبية، كما أنه يفتقد من الناحية المنهجية لأبسط قواعد التوثيق العلمي(5). هذا هو اليعقوبي الذي اعتمده المؤرخون المتأخرون في روايته قصة بناء مسجد قبة الصخرة أو مسجد بيت المقدس على حد تعبيره، وعلينا أن نتحفظ من رواية اليعقوبي الآنفة الذكر ونعتبرها خارجة عن الإطار المقبول لأنه لا يعقل رجل بمستوى عبد الملك في دهائه ومكره وعقله وفقهه يضع نفسه موضع شبهة الكفر، فيصد الناس عن الحج إلى بيت الله الحرام(6)، هذا من ناحية العقل والمنطق،وأما من ناحية السند فقد بينا ولم نسمع أن أحداً من خصوم الأمويين أوردوا ذلك في مطاعنهم على عبد الملك ـ سوى الشيعة ـ. كما أن الإمام الزهري لم يلتق بعبد الملك إلا بعد مقتل ابن الزبير، فقد نقل الذهبي عن الليث بن سعد أنه قال: قدِم ابن
__________
(1) المصدر نفسه (2/123 ، 126) .
(2) منهج كتابة التاريخ الإسلامي صـ431 .
(3) المصدر نفسه صـ431 .
(4) تاب البلدان لليعقوبي صـ432 .
(5) منهج كتابة التاريخ الإسلامي صـ432 .
(6) تجديد الدولة الأموية صـ214 .(3/90)
شهاب على عبد الملك سنة اثنين وثمانين(1). وقد نص على أن ابن الزبير قتل سنة 72هـ(2)، وبعد مقتله استوثقت الممالك لعبد الملك(3)، فليس هو في حاجة لمن يضع له أحاديث لصرف الناس عن الحج والزهري لم يكن عند مقتل ابن الزبير ذائع الصيت عند الأمة الإسلامية بحيث تتقبل منه حديثاً موضوعاً يلغي به فريضة الحج الثابتة بالقرآن والأحاديث الصحيحة وذلك لصغر سنه، فإنه قد ولد بعد الخمسين من الهجرة(4)، وصداقته بعبد الملك وتردده عليه لا يقدح في أمانته ودينه، وأما حديث شد الرحال فهو صحيح رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من العلماء، قال عنه ابن تيميه: وهو حديث مستفيض، متلقى بالقبول، أجمع أهل العلم على صحته وتلقيه بالقبول والتصديق(5)، ولم ينفرد الزهري رحمه الله برواية هذا الحديث حتى يتهم بوضعه، والحديث ليس فيه فضل قبة الصخرة وليس فيه الدعوة إلى الحج إليها والطواف حولها بدلاً عن الكعبة كما يدعي بعض المزورين، وغاية ما فيه فضل الصلاة في بيت المقدس وزيارته(6)، وأما الصخرة فقد ذكر ابن القيم أن كل حديث فيها فهو كذب مفترى(7)، وقد قام الدكتور حارث بن سليمان الضاري بنسف هذه الشبهة في كتابه القيم الإمام الزهري وأثره في السنة(8) في ثلاثة عشر صفحة وأتى بحجج دامغة قوية لمن يبحث عن الحقيقة العلمية، وسيأتي الحديث عن الإمام الزهري في عهد هشام بن عبد الملك بإذن الله تعالى.
المبحث الخامس : النظام القضائي والشرطة:
__________
(1) موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية صـ136 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/247) .
(3) المصدر نفسه (4/247) .
(4) السنة ومكانتها في التشريع صـ218 .
(5) الفتاوى (27/5 ـ 6) .
(6) السن ومكانتها في التشريع صـ219 .
(7) المنار المنيف صـ87 .
(8) الإمام الزهري وأثره في السنة صـ457 ـ 470 .(3/91)
أولاً : القضاء: كان القضاء على عهد عبد الملك استمراراً لما كان عليه زمن من سبقه من الخلفاء، فضلاً عن إسهاماته الرائدة بتنظيم جوانب متعددة منه، فهو أول من أفرد للمظالم(1) يوماً، كما أوجب أن تقرأ عهود القضاة، أي أوامر تعيينهم، في المسجد الجامع أولاً، ثم يتوجهون إلى دار الأمير حيث يُتلى أمامه عهد توليه القاضي(2)، وكان الخليفة عبد الملك يختار من القضاة من يتصف بالتقوى والنزاهة فقد ولى على القضاء بلال بن أبي الدرداء(3).
1 ـ أشهر قضاة عبد الملك: وكان من أشهر قضاة عبد الملك أبا أدريس الخولاني وذلك سنة 74هـ وكانت له المظالم أيضاً حتى أعفاه عبد الملك بطلب منه(4)، ثم ولى عامر الأشعري(5)، ثم عبد الله بن عامر اليحصبي(6)، وعبد الله بن قيس ثم سليمان المحاربي،ومعظم هؤلاء القضاة من الفقهاء ومن رواة الحديث(7).
2 ـ رزق القاضي: ولما قدم عبد الملك بن مروان النخيلة سنة 72 هـ قال ما فعل شريح العراقي؟ قيل حي قال: عليَّ به. فجاءه فقال: ما منعك من القضاء؟ فقال:ما كنت أقضي بين أثنين في فتنة(8).قال: وفقك الله عد إلى قضائك، فقد أمرنا لك بعشرة ألف درهم، وثلاثمائة جريب فأخذها بالفلوجة وقضى إلى سنة ثمان وسبعين(9).
3 ـ مراقبة القضاة: كان عبد الملك يراقب قضاته ويتابع أخبارهم، فقد أخبر أن زوجة قاضية الحارث الأشعري، كلمت زوجها في رجل يقضي له بقضية، وأن الرجل أهدى إلى زوجة القاضي هدية، فقال عبد الملك:
... ... إذا رشوة من باب بيت تقحمت
__________
(1) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ188 .
(2) الإسلام والحضارة الإسلامية ، كرد علي صـ161 .
(3) أخبار القضاة (3/202) .
(4) المصدر نفسه (3/202)، الإصلاحات صـ189 .
(5) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ189 .
(6) أخبار القضاة (3/203).
(7) إدارة بلاد الشام صـ133،132 .
(8) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/211) .
(9) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ (2/211) .(3/92)
... ... ... ... ... ... لتسكن فيه والأمانة فيه
سعت هرباً منه وولت كأنها
... ... ... ... ... ... حليم تولى عن جوار سفيه(1)
4 ـ عدم التدخل في أحكامهم وأعمالهم: فقد كان موقف عبد الملك من القضاء والقضاة مبني على الاحترام وعدم التدخل في عملهم وأحكامهم(2).
5 ـ احترامه لقضاء عبد الله بن الزبير رضي الله عنه:
أرسل أبان بن عثمان عامل عبد الملك على المدينة رسالة يسأله عن موقفه من أقضية وأحكام عبد الله بن الزبير، قائلاً له: إن عبد الله بن الزبير قضى بين الناس بأقضية، فما يرى أمير المؤمنين. أمضيها أم أردها؟ فكتب عبد الملك إلى ابان بن عثمان: إنا والله ما عبنا على ابن الزبير أقضيته، ولكن عبنا عليه ما تناول من الأمر، فإذا أتاك كتابي هذا، فأنفذ أقضيته، فإن ترداد الأقضية عندنا يتعسر(3)، وهذه الرسالة تبين لنا جانباً مهماً من سياسة عبد الملك الحازمة، وحكمته في عدم التدخل في المؤسسة القضائية، إذ سد باباً على الحكام والولاة كان فتحه أن يعرض أحكام القضاة إلى النقص المستمر(4).
6 ـ تحديد مهور النساء: قام عبد الملك بتحديد المهور وجعلها (400) أربعمائة دينار، حداً أعلى، وهو أول من فعل ذلك إقتداء بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خطب أم حبيبة بنت أبي سفيان(5)، وربما قام عبد الملك بذلك منعاً للمغالات في المهور، وتشجيعاً للزواج والإنجاب(6).
__________
(1) أخبار وكيع (1/56) الإصلاحات المالية صـ190 .
(2) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ190 .
(3) أخبار القضاة (1/130) .
(4) الإصلاحات المالية صـ191 .
(5) الطبقات (8/99) الإصلاحات المالية صـ190 .
(6) الإصلاحات المالية والتنظيمات الإدارية صـ190 .(3/93)
7 ـ ديوان المظالم: كان الخليفة عبد الملك أول من أفراد يوماً للنظر في المظالم، حيث جلس في يوم محدد يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة للنظر فيها، فكان إذا وقف منها على مشكل، أو احتاج فيها إلى حكم منفذ رده إلى قاضيه(1)، أبي إدريس الخولاني فنفذ فيه أحكامه، وقد قام للجلوس بنفسه حتى يرتدع الناس، فكان أبو إدريس هو المباشر وعبد الملك الآمر(2)، وكان عبد الملك حين يجلس للمظالم يستعد لها، فكان يلبس جبة ورداء(3)، كما ويقام على رأسه بالسيوف(4)، ويأمر شخصاً من هؤلاء القائمين على رأسه لإنشاد شعر لسعيه بن عُريض وهو:
... ... ... ... إنا إذا ما دواعي الهوى
... ... ... ... ... ... ... وأنصت السامع للقائل
... ... ... ... وأصطرع القوم بألبابهم
... ... ... ... ... ... ... نقضي بحكم عادل فاصل
... ... ... ... لا نجعل الباطل حقاً ولا
... ... ... ... ... ... ... نلفظ دون الحق بالباطل
... ... ... ... نخاف أن تسفه أحلامنا
... ... ... ... ... ... ... فنخمل الدهر مع الخامل(5)
__________
(1) الإصلاحات المالية والتراتيب الإدارية صـ151 .
(2) نهاية الإرب (6/269) .
(3) الإصلاحات المالية والتراتيب الإدارية صـ152.
(4) الإسلام والحضارة العربية ، كرد علي صـ167 .
(5) الإصلاحات المالية والتراتيب الإدارية صـ152.(3/94)
... ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين(1). وهذا يعني أن جلوس الخليفة عبد الملك للمظالم كان جلوساً منظماً ومتكاملاً، ولا بد أن جلسات الخليفة هذه كان يحضرها كتاب يدونون هذه الجلسات وأحكامها، كما أن تحديد الخليفة عبد الملك يوماً معيناً من كل أسبوع للنظر في المظالم، وتعيين قاضٍ لذلك وتعيين من يقوم على رأسه بالسيوف وهم من الحماة والأعوان، وارتداء الخليفة ملابس معينة، وانعقاد هذه الجلسات في مكان محدد، كل هذا يعني وجود الأسس لديوان مستقل لكل ذلك يمكننا أن نقول بأن الخليفة عبد الملك ربما كان أول من أسس ديوان النظر في المظالم في الدولة(2).
__________
(1) البداية والنهاية (12/385) .
(2) الإصلاحات المالية صـ153 .(3/95)
ثانياً : الشرطة: ومن الأجهزة المهمة التي كان لها أثر فاعل في إدارة بلاد الشام، جهاز الشرطة، وعلى رأسه صاحب الشرطة ولابد أن الخليفة عبد الملك كان لا يختار لهذا المنصب إلا من توفرت فيه شروط صعبة التوفر(1)، وعين الخليفة عبد الملك بن مروان على شرطته: عبد الله بن هاني الأودي(2)، ثم استبدل به يزيد بن كبشة السكسكي ثم عزل الكثير من هذا المنصب وآخرهم في عهد عبد الملك، كعب بن حامد العبسي(3)، ولم تكن مهمة الشرطة في عهد عبد الملك هي الجناة واللصوص فحسب، بل مارست الشرطة عملاً مهماً، إلا وهو عملية تنظيم وضبط نزول جيوش الخلافة ورحيلها أثناء الحملات العسكرية، فقد قلد الخليفة الحجّاج بن يوسف الثقفي هذه المهمة، فنجح فيها في عدة مناسبات وتمكن من ضبط جيش الخليفة وتأدية مهمته على أحسن وجه(4)، وكانت الشرطة موجودة في كافة أقاليم الدولة وتابعة لولاتها. واتخذ الخليفة عبد الملك بن مروان، حرساً خاصاً به(5)، ويرأس هؤلاء الحرس رئيس، يعين ويعزل من الخليفة، وهو المسئول عن أفراد حرسه أمام الخليفة. ويبدو أن أعدادهم لم تكن قليلة، وكانت مهمة الحرس الأساسية، هي حماية الخليفة، والمحافظة على سلامته، في حله وترحاله، وتنفيذ أوامره ومن الجدير بالذكر أن جميع رؤساء حرس عبد الملك كانوا من الموالي وبخاصة من موالي الخليفة نفسه، ويبدو أن ذلك راجع إلى طبيعة أعمال هؤلاء المرتبطة دوماً بالخليفة، والتي تستوجب أن يكونوا موضع ثقة الخليفة للاطمئنان على سلامته وكان الخليفة ينتقل في مدن بلاد الشام، ونظم إقامته على هذا الأساس، فلن يكن يقيم بدمشق طوال العام، بل كان يشتو بالصَنبرة من الأردن، وإذا انتهى الشتاء نزل الجابية، وفرّق الأرزاق على أصحابه، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق، حتى إذا اشتد الحر أتى بعلبك
__________
(1) عيون الأخبار (1/16) .
(2) الإصلاحات المالية صـ191 .
(3) المصدر نفسه صـ192 .
(4) المصدر نفسه صـ192 .
(5) المصدر نفسه صـ193 .(3/96)
فقام بها حتى تهيج رياح الشتاء فيرجع إلى دمشق، فإذا اشتد البرد خرج إلى الصنبرة(1)، وهذه التنقلات كانت تخضع لنظام حراسة مشدد، ومن أراد التفصيل فليراجع كتاب الشرطة في العصر الأموي، للدكتور أرسن موسى رشيد.
المبحث السادس : العلماء والشعراء في عهد عبد الملك:
أولاً : العلماء: اختلف موقف العلماء من عبد الملك فهناك من خرج عليه، كعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير، وهناك من ابتعد عنه والتزم بالبيعة كالحسن البصري وغيره، وهناك من كان قريباً منه ناصحاً له كقبيصة بن أبي ذؤيب وقد اخترت مجموعة من العلماء لمن كانت لهم قربة ومنزلة من عبدالملك، أو نصحوه أو ذكّروه ولم يكن عبد الملك بعيداً عن أجواء العلماء وطلاب العلم، فقد كان في المدينة في مقبل شبابه مشمراً في طلب العلم وعرف عنه أنه كان يلزم المسجد ولا يكاد يبرحه حتى سمي حمامة المسجد لعبادته، وطول انقطاعه للدراسة مقبلاً على طلب العلم مجلاً لشيوخه، ولما كان متوقد الذكاء، شديد الفطنة، قوي الذاكرة، فقد وعي كل ما سمع منهم، واتقنه لمجالسته لهم(2)، وهذا أكسبه قدرة بحيث صار حجة في المعارف الدينية كقراءة القرآن التي كان يطيل في تلاوتها بالمدينة(3)، كما كان يحضر دراسته بدمشق(4)، وعرف بروايته للحديث وإن كان مقلاً(5)، على الرغم أنه كان ثقة فيما رواه(6)، وروايته مثبتة في الصحيحين البخاري ومسلم(7)، وكان فقيهاً من الفقهاء، ومن أهل العلم بالمغازي والسير(8)، وأخباريا له علم واسع بأحاديث العرب وآثارهم في الجاهلية والإسلام، كثير المحاورة لرواة
__________
(1) الإصلاحات المالية صـ194 .
(2) أنساب الأشراف نقلاً عن تجديد الدولة الأموية صـ290 .
(3) تهذيب التهذيب (6/422) شذرات الذهب (1/97) .
(4) البداية والنهاية نقلاً عن تجديد الدولة الأموية صـ290 .
(5) الطبقات (5/226) تهذيب التهذيب (6/422) .
(6) تهذيب التهذيب (6/423) .
(7) المصدر نفسه (6/423) .
(8) تجديد الدولة الأموية صـ291 .(3/97)
وسادة القبائل ونسابه له معرفة دقيقة بأنساب العرب وبخاصة أنساب قريش(1) ولذلك كان عارفاً بنفسية العلماء قادراً على التعامل معهم، ومن اشهر العلماء الذين احتك بهم أو كانت له مواقف وعظ أو تذكيراً له هم:
1 ـ قبيصة بن ذؤيب: نشأ قبيصة في المدينة وكان في عداد علماءها ولكنه انتقل إلى الشام بجانب عبد الملك وأصبح من خاصته واختاره عبد الملك لعلاقته القديمة به في المدينة، ولما يتمتع به قبيصة من روح مرنة تراعي الأحوال، وتقدر المواقف، وتوازن بين المصالح وصاحب هذه الروح هو القادر على الصبر والقرب من الخلفاء والسلاطين وهو من يرغب الخلفاء في تقريبه عادة، ومن المواقف ظهرت فيها هذه الروح عند قبيصة ما ذكره ابن سعد في طبقاته، حيث ذكر أن الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه دخل على عبد الملك وقربه فقال جابر: يا أمير المؤمنين إن المدينة حيث ترى، وهي طيبة سماها النبي عليه الصلاة والسلام، فأهلها محصورون، فإن رأى أمير المؤمنين أن يصل أرحامهم ويعرف حقهم فعل، قال: فكره ذلك عبد الملك وعرض عنه، وجعل جابر يلح عليه حتى أومأ قبيصة إلى ابنه ـ وهو قائده وكان جابر قد ذهب بصره ـ أن أسكته، قال: فجعل ابنه يسكته، قال جابر: ويحك؟ ما تصنع بي؟ قال: اسكت فسكت جابر، فلما خرج أخذ قبيصة بيده فقال: يا أبا عبد الله إن هؤلاء القوم صاروا ملوكاً. فقال جابر: أبلى الله بلاءً حسناً فإنه لا عذر لك وصاحبك يسمع منك. قال يسمع ولا يسمع وما وافقه سمع، وقد أمر لك أمير المؤمنين بخمسة ألف درهم، فاستعن بها على زمانك فقبضها جابر(2). فمن هذا الموقف يتضح كيف أدرك قبيصة عدم رضا الخليفة عن فتح هذا الموضوع معه من قبل جابر، وكيف أنهى الموضوع حتى لا يتطور إلى ما لا تحمد عقباه للطرفين، فأشار على ابن جابر بإيقاف والده عن الكلام ثم يطيب خاطر جابر بأخذه بيده، والاعتذار إليه بألا يستغرب هذا التصرف من
__________
(1) المصدر نفسه صـ291 .
(2) الطبقات (5/231) .(3/98)
عبد الملك، فلا يتعامل معه على أنه عبد الملك العالم وإنما على أنه عبد الملك الذي صار ملكاً ينظر إلى الأمور من نافذة الملك ومصالحه، ثم هو يعتذر لنفسه عندما وجه جابر اللوم له بأنه ليس له عذر في عدم المطالبة بحقوق أهل المدينة ما دام له هذه المكانة عند عبد الملك، لأن الأمر ليس كما يتصور جابر وغيره بأنه قادر على تحقيق كل ما يريده من عبد الملك بل الواقع أنه يُسمع ولا يسمع، وفي هذا دليل على مراعاة قبيصة للأحوال والأشخاص(1).
أ ـ مكانته من عبد الملك: جمع قبيصة عدداً من المهام في عهد عبد الملك، وتعددت مسميات مهامه عند عبد الملك، فيذكر ابن سعد(2)، وابن عساكر، وابن عبد الهادي: إن قبيصة كان على الخاتم والبريد، وأما الذهبي، فقد ذكر هذه المهام السابقة وأضاف أخرى حيث ذكر أنه كان كاتباً لعبد الملك، ووصفه، بأنه الوزير(3). وكان يدخل على عبد الملك طروقاً(4)، وأن عبد الملك تقدم إلى حاجبه فقال: لا يحجب قبيصة أي ساعة جاء من الليل أو نهار إذا كنت خالياً أو كان عندي رجل واحد، أو كنت عند النساء أدخل المجلس ثم أعلمت مكانه. وكانت تأتيه الأخبار قبل عبد الملك فيقرأ الكتب قبله ثم يأتي بها منشورة إلى عبد الملك فيقرأها إعظاماً لقبيصة(5)، فقبيصة بهذا وزيراً لعبد الملك ومستشاراً له وساعده الأيمن في إدارة الدولة وتصريف شئونها، وكان ملازماً له في سفره وإقامته(6).
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ124 .
(2) الطبقات الكبرى (5/234) .
(3) الطبقات الكبرى (5/234) .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ125 .
(5) الطبقات الكبر (5/234) .
(6) المصدر نفسه (5/230) .(3/99)
ب ـ موقف قبيضة من محاولة عبد الملك خلع أخيه عبد العزيز: كان مروان بن الحكم قد عقد ولاية العهد لابنيه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز(1)، وبعد وفاة مروان تمت البيعة بالخلافة لعبد الملك بولاية العهد لأخيه عبد العزيز بن مروان من قبل المؤيدين لبني أمية، ثم تأكدت تلك البيعة من الأمة بعد مقتل ابن الزبير ونهاية سلطانه، ولكن عبد الملك بعدما استقرت له الأمور، وتذوق حلاوة الملك في دنياه ورغب في استمرار الذكر له بعد الوفاة لاسيما وقد رأى أن كل من ابنيه الوليد وسليمان قد بلغ من الرشد مبلغه، وتحركت فيه عاطفة الأبوة تجاههما، وأحب أن يصرف ولاية العهد من بعده لهما دون أخيه عبد العزيز، وكان قد عزم على ذلك إلا أن قبيصة بن ذؤيب نهاه عن ذلك، فقد أورد ابن سعد هذا الخبر: قالوا: كان عبد الملك بن مروان قد همّ أن يخلع أخاه عبد العزيز بن مروان ويعقد لابنيه الوليد وسليمان بعده بالخلافة، فنهاه قبيصة بن ذؤيب وقال: لا تفعل هذا فإنك تبعث عليك صوتاً نعار(2)، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه، فكف عبد الملك عن ذلك ونفسه تنازعه أن يخلعه فدخل عليه ليلة روح بن زنباع الجذامي وكان يبيت عند عبد الملك، وكان أحلى الناس كلاماً عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطحت فيه عنزان، قال: ترى ذلك يا أبا زرعة؟ قال: أي والله وأنا أول من يجيبك إلى ذلك، فقال: نصبح إن شاء الله، فبينما هو على ذلك، وقد نام عبد الملك بن مروان وروح بن زنباع إلى جنبه إذ دخل عليهما قبيصة بن ذؤيب.. فقال: آجرك الله يا أمير المؤمنين في أخيك. فقال: فهل توفي؟ قال: نعم. فاسترجع عبد الملك بن مروان ثم أقبل على روح فقال:: أبا زرعة كفانا الله ما كنا نريد وما أجمعنا عليه(3). ومن خلال هذا الموقف لقبيصة يمكن أن نستشف منهجه في التعامل مع عبد الملك
__________
(1) تاريخ خليفة صـ261 .
(2) النعار : العاصي والخراج السعاء في الفتن .
(3) الطبقات الكبرى (5/233 ، 234) .(3/100)
كمشير ووزير، ويتمثل ذلك المنهج في صدقه في النصيحة ومراعاة المصلحة العامة للأمة والدولة، فهو لم يجامل عبد الملك بموافقته له فيما يوده ويهواه، بل دفعه إخلاصه لله وتقديره لمصلحة الأمة بعامة والبيت الأموي بخاصة أن يقول رأيه بصراحة وإن كان يعلم أنه يخالف ما في نفس عبد الملك ويضاد رغباته وعواطفه تجاه بنيه(1).
ج ـ موقفه من محنة الإمام الجليل سعيد بن المسيب: بعد وفاة عبد العزيز بن مروان عقد عبد الملك البيعة من بعده لابنيه الوليد وسليمان، وبعث إلى البلدان لأخذ البيعة لهما، ففي المدينة دعا واليها هشام بن إسماعيل المخزومي الناس إلى البيعة فبايعوا إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: أنظر، فضربه هشام وطاف به ثم سجنه وبعث إلى عبد الملك يخبره بما فعل(2). وكانت الرسائل تصل إلى قبيصة بن ذؤيب ويقرؤها قبل عبد الملك، فلما وصل كتاب هشام واطلع على ما فيه كان له موقف من تصرف هشام مع سعيد بن المسيب يصور لنا ابن سعد هذا الموقف:... دخل قبيصة بن ذؤيب على عبد الملك بن مروان بكتاب هشام بن إسماعيل يذكر أنه ضرب سعيداً وطاف به قال قبيصة: يا أمير المؤمنين يقتات عليك هشام بمثل هذا؟ يضرب ابن المسيب ويطوف به؟ والله لا يكون سعيد أبداً أمحل وألج(3). منه حين يضرب، سعيد لو لم يبايع ما كان يكون منه؟ ما سعيد مما يخاف فتقه ولا غوائله على الإسلام وأهله، وإنه لمن أهل الجماعة والسنة. وقال قبيصة: أكتب إليه يا أمير المؤمنين في ذلك. فقال عبد الملك: أكتب أنت إليه عني تخبره برأي فيه ومخالفتي من ضرب هشام إياه. فكتب قبيصة إلى سعيد بذلك. فقال: سعيد حين قرأ الكتاب الله بيني وبين من ظلمني(4)، وكتب إلى والي المدينة كتاباًَ
__________
(1) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ136 .
(2) سير أعلام الذهبي (4/230) ، الطبقات (5/126) .
(3) المحل : المكر والكيد وما حله مما حلة ومحلا : قاومه حتى تبين أيهما أشد: واللجاجة : الخصومة.
(4) الطبقات (5/126 ، 127) .(3/101)
باسم عبد الملك: سعيد كان والله أحوج إلى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم ما عند سعيد شقاق ولا خلاف(1). ويتضح من هذا أثر قبيصة الكبير في صياغة موقف عبد الملك وقراره في مثل هذه القضايا المهمة والخطيرة، كما يظهر أثره الفعال في إطفاء الفتن وحسن معالجته لها معالجة تنم عن بعد نظره ومعرفته بعواقب الأمور منطق إرضاء الله أولاً ثم الحرص على مصلحة الأمة والدولة ثانية(2).
__________
(1) المصدر نفسه (5/126) أثر العلماء صـ140 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ141 .(3/102)
س ـ محاولته إصلاح بطانة عبد الملك: كانت له محاولات تستهدف إصلاح بطانة عبد الملك وذلك بتقريب العلماء له وجعلهم ضمن جلسائه ليكثر بذلك سوادهم عنده ويكون تأثيرهم أقوى وأنفع، ومن ذلك محاولته تقريب الإمام الزهري إلى عبد الملك فتسير بعض الروايات التي ذكرت صلة الزهري بعبد الملك أن الزهري خرج من المدينة لما اشتد به ضيق ذات اليد وساءت أحوال أهله وليس له مورد فرحل إلى الشام، وذكرت بعض الروايات أنه اتصل بقبيصة وجالسه مدة قبل اتصاله بعبد الملك(1)، وقد أكرم قبيصة الزهري وقال: له: ائتني في المنزل فلحق به الزهري فلما بلغ منزله كساه ومنحه بغلة ومائة دينار وغلاماً(2)، وعمل على تعريف عبد الملك بمكانة الزهري العلمية حتى أصبح من أصحابه وفرض له العطاء وتوطدت العلاقة بين الزهري وعبد الملك، وتكرر الدخول على عبد الملك بانتظام شأنه شأن أصحابه وجلسائه ولكن حرص الزهري على العودة إلى المدينة لمواصلة طلب العلم وتولي مؤونة أهله وذويه جعله يرحل وينقطع عن عبد الملك فكانت صلته هذه على يد قبيصة بداية اتصال الزهري بخلفاء بني أمية بعد عبد الملك(3)وقد قال ابن سعد في أثر قبيصة لتقريب الزهري لبني أمية بقوله: وهو الذي أدخل الزهري على عبد الملك بن مروان ففرض له ووصله وصار من أصحابه(4). وكان هذا من قبيصة حرصاً على مصلحة الزهري، كما كان همه إصلاح بطانة عبد الملك وتكثير سواد أهل العلم والصلاح في بلاطه مما سيكونه له أثر في توجيه سياسة الدولة نحو الأصلح بالتأثير على عبد الملك من قبل جلساته وبطانته(5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/329) .
(2) المصدر نفسه (5/329) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ143 .
(4) الطبقات (7/447) .
(5) أثر العلماء صـ143 .(3/103)
... وقال الذهبي عن قبيصة: الإمام الكبير، الفقيه، أبو سعيد الخزاعي، وعن الشعبي قال: كان قبيصة أعلم الناس بقضاء زيد بن ثابت، وعن ابن شهاب، قال: كان قبيصة بن ذؤيب من علماء هذه الأمة. وعن مكحول قال: ما رأيت أحداً أعلم من قبيصة. وقد توفي سنة 86 هـ وقيل: 87 هـ وقيل سنة88 هـ(1).
2 ـ عطاء بن أبي رباح ونصيحته لعبد الملك: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك وهو جالس على السرير وحوله الأشراف وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته، فلما بَصُر به عبد الملك قام إليه فسلم عليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال: يا أبا محمد: حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين اتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق دونهم بابك. فقال له: أفعل، ثم نهض، وقام فقبض عليه عبد الملك وقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها فما حاجتك؟ فقال: مالي إلى مخلوق حاجة، ثم خرج، فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف، هذا وأبيك السؤدد(2). وكان بنو أمية في عهدهم يأمرون منادياً يصيح في الحج لا يُفتي الناس إلا عطاء بن رباح، فإن لم يكن عطاء، فعبد الله بن أبي نجيح(3)، وقد فاق عطاء أهل مكة في الفتوى(4)وكان المسجد فراش عطاء عشرين سنة، وكان من أحسن الناس صلاة(5)، وكان معاشه، صلة الأخوان ونيل السلطان(6)، ومن أقوال عطاء: إن من قبلكم كانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو أن تنطق في معيشتك التي لابد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كرام كاتبين، عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/238،282) .
(2) المصدر نفسه (5/84، 85) .
(3) سير أعلام النبلاء (5/82) .
(4) المصدر نفسه (5/82) .
(5) المصدر نفسه (5/84) .
(6) المصدر نفسه (5/84) .(3/104)
إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم لو نشرت صحيفته التي أملى صدر نهاره وليس فيها شيء من أمر آخرته(1) ، وعن عطاء: إن الرجل ليحدثني بالحديث، فأُنصتُ له كأني لم أسمعه، وقد سمعته قبل أن يولد(2). وعطاء هذا الذي كان مرجع الأمة في موسم الحج كان أسود أعرج، أفطس، أعور ثم أعمى من الموالي فهذا الذي تجمعت فيه كل العاهات الجسدية جعلته الحضارة الإسلامية رأس الفتوى في أقدس بقعة عند المسلمين في مكة، فضلاً عن كونه من أشهر علماء الحجاز الذين يستقطبون طلبة العلم من مختلف أرجاء المعمورة(3) .
3 ـ يزيد بن الأصم وأجابته لعبد الملك: سأل عبد الملك يزيد بن الأصم عن معنى قوله تعالى ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين )) (القصص :الآية: 83) فأجاب بكل صراحة بقوله: التجبر في الأرض، والأخذ بغير الحق ـ أي من العلو والفساد في الأرض ـ فنكس عبد الملك برأسه، وجعل ينكث في الأرض، وكان إطراق عبد الملك وتنكيسه لرأسه حياء من يزيد لإدراكه أنه المعني لذلك بالتوجيه(4)
ثانياً: عبد الملك والشعر والشعراء:
كان عبد الملك بن مروان راويا للشعر ناقداً له، كثير الاستشهاد به في كثير من المناسبات يكثر من الأسئلة والمحاورة منه في مجلسه، فضلاً عن اهتمامه بمعانيه، كما كان يعلم خطورته في التأثير الإعلامي في كسب الأنصار والهجوم على خصومه ولذلك اهتم بالشعراء اهتماماً كبيراً ووظفهم لمدحه ودولته وبني أمية ولم يبخل عليهم بالعطاء ولذلك كان كبار شعراء عصره من الأمويين مثل الأخطل، والفرزدق، وجرير، وغيرهم كما أنه عمل على كسب خصومه حتى أنهم مدحوه بعد أن هجموا عليه بقصائد قوية في سبه وذمه مثل عبيد الله الرقيات وإليك شيء من شعر شعراء الدولة الأموية:
__________
(1) المصدر نفسه (5/86) .
(2) المصدر نفسه (5/86) .
(3) رعاية الفئات الخاصة صـ9 .
(4) تاريخ دمشق نقلاً عن اثر العلماء في الحياة السياسية صـ275 .(3/105)
1 ـ الأخطل: هو غياث بن غوث التغلبي النصراني شاعر زمانه وقد قيل للفرزدق: من اشعر الناس؟ قال: كفاك بي إذا افتخرت، وبجرير إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح(1)، وكان عبد الملك بن مروان يجزل عطاء الأخطل، ويفضله في الشعر على غيره(2)، فقد كان شاعر الدولة الرسمي الذي أكثر من مدح خلفائها، والدعاية لها، والترويج لسادتها نحو ربع قرن(3)، ومن مدحه في بني أمية:
... ... ... تمت جدودهم والله فضلهم
... ... ... ... ... ... ... وجد قوم سواهم خامل نكد
... ... ... وأنتم أهل بيت لا يوازنهم
... ... ... ... ... ... ... بيت إذا عدت الأحساب والعدد(4)
ومن شعره المتميز في بني أمية قوله:
... ... ... حشدٌ على الحق عيَّافو الخنا أُنُفٌ
... ... ... ... ... ... ... إذا ألمَّت بهم مكروهة صبروا
... ... ... شمس العداوة حتى يستقاد لهم
... ... ... ... ... ... ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا(5)
... وكان كثير المديح لعبد الملك والتنويه بصلاح السياسة في عهده كقوله:
... ... ... ... إلى إمام تغدينا فواضله
... ... ... ... ... ... ... ... أظفره الله فليهنأ له الظفر
... ... ... ... الخائض الغمر والميمون طائره
... ... ... ... ... ... ... ... خليفة الله يستقي به الله المطر
... ... ... ... والمستمر به أمر الجميع فما
... ... ... ... ... ... ... ... يغتره بعد توكيد له غرر
... ... ... ... نفسي فداء أمير المؤمنين إذا
... ... ... ... ... ... ... ... أبدى النواجز يوماً عارم ذكر(6)
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/589) .
(2) المصدر نفسه (4/589) .
(3) دب السياسة في العصر الأموي صـ492 .
(4) ديوان الأخطل صـ174 .
(5) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/495) .
(6) عارم ذكر : نكبة شديدة وأذى مهلك ، أدب السياسة صـ500 .(3/106)
وعرف الأخطل بأنه يعاود شعره بالتنقيح والصقل، حتى لقد قالوا إنه كان ينظم القصيدة تسعين بيتاً ثم يضرب عن ستين ويبقي ثلاثين، وهذا هو السبب في جودة تعبيره، وندرة سقطه وهو بهذا يشبه المنقحين القدماء، مثل زهير والحطيئة وأضرابهما مما سماهم الأصمعي عبيد الشعر(1). ومن أحسن ما قال من الشعر قوله:
... ... ... والناس همهم الحياة ولا أرى
... ... ... ... ... ... ... طول الحياة يزيد غير خبال
... ... ... وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد
... ... ... ... ... ... ... ذخراً يكون كصالح الأعمال(2)
2 ـ الفرزدق: هو همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن مجاشع(3)، وكان ممن مدح بني أمية وقال في عبد الملك بن مروان:
... ... ... ... فالأرض لله ولاّها خليفته
... ... ... ... ... ... ... ... وصاحب الله فيها غير مغلوب
... ... ... ... بعد الفساد الذي قد كان قام به
... ... ... ... ... ... ... ... كذاب مكة من مكر وتخريب
... ... ... ... راموا الخلافة في غدر فأخطأهم
... ... ... ... ... ... ... ... منها صدور وفازوا بالعراقيب
... ... ... ... والناس في فتنة عمياء قد تركت
... ... ... ... ... ... ... ... أشرافهم بين مقتول ومحروب
... ... ... ... دعوْ ليستخلف الرحمن خيرهم
... ... ... ... ... ... ... ... والله يسمع دعوى كل مكروب
... ... ... ... فأصبح الله ولَّى الأمر خيرهم
... ... ... ... ... ... ... ... بعد اختلاف وصدع غير مشعوب
... ... ... ... تراث عثمان كانوا الأولياء به
... ... ... ... ... ... ... ... سربال ملك عليهم غير مسلوب(4)
وكان للفرزدق أخٌ شاعر وهو هميم وهو القائل:
... ... ... ... لعمر أبيك فلا تكذبن
... ... ... ... ... ... ... ... لقد ذهب الخير إلا قليلا
__________
(1) أدب السياسة في العصر الأموي صـ501 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/590) .
(3) الشعر والشعراء (1/471) .
(4) أدب السياسة في العصر الأموي صـ149 ، الديوان (1/25) .(3/107)
... ... ... ... وقد فتن الناس في دينهم
... ... ... ... ... ... ... ... وخلىَّ ابن عفان شراً طويلا(1)
3 ـ جرير: هو جرير بن عطية بن الخطفي التميمي البصري مدح خلفاء بني أمية، وشعره مدون(2)، وقد مدح عبد الملك ووصفه بأنه ركن الدين، والحفيظ عل أحكام الشرع، ولولاه ما اجتمع المسلمون في صلواتهم في المساجد في الجمع، ثم يصفه بأنه أمين الله، والمبارك الذي يهدي به الله عباده، ويقول إن أوامره ميمونة مطاعة وإن الله فضل بني أمية على غيرهم من أهل البدع، يريد الأحزاب المعادية لبني أمية(3)، حيث قال:
... ... ... ... لولا الخليفة والقرآن يقرأه
... ... ... ... ... ... ... ... ما قام للناس أحكام ولا جمع
... ... ... ... أنت الأمين أمين الله لا سرف
... ... ... ... ... ... ... ... فيما وليت ولا هيابة ورع(4)
... ... ... ... أنت المبارك يهدي الله شيعته
... ... ... ... ... ... ... ... إذا تفرقت الأهواء والشيع
... ... ... ... فكل امرئ على يمن أمرت به
... ... ... ... ... ... ... ... فينا مطاع ومهما قلت يستمع
... ... ... ... يا آل مروان إن الله فضلكم
... ... ... ... ... ... ... ... فضلاً عظيماً على من دينه البدع(5)
... ... ... ...
ومدح عبد الملك بقصيدة جاء فيها:
... ... ... ... سأشكر إن رددت علي ريشي
... ... ... ... ... ... ... ... وأنبت القوادم من جناحي
... ... ... ... ألستم خير من ركب المطايا
... ... ... ... ... ... ... ... وأند العالمين بطون راح
... ... ... ...
__________
(1) الشعر والشعراء (1/472) .
(2) سير أعلام النبلاء (4/591) .
(3) أدب السياسة في العصر الأموي صـ147 ، 148 .
(4) سرف : متجاوز الحد . ورع : جبان .
(5) ديوان جرير صـ355 .(3/108)
فقال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت ووهبه مائة ناقة، فسأله الرعاء، فوهبه ثمانية أعبد، ورأى صحاف ذهب بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين والمحلب(1)، وأشار إليها، فنحاها إليه بالقضيب وقال: خذها لانفعتك(2). وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين، وحسن خلق، ورقة طبع، اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر، على أنه لم يوجد في الشعراء الذين نشأوا في ملك بني أمية أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل وإنما اختلفوا في أيهم أشعر(3). وإن لجرير في كل باب من الشعر أبياتاً سائرة، هي الغاية التي يضرب بها المثل:
أ ـ فيقال إن أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
... ... ... إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيينا قتلانا
... ... ... يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به
... ... ... ... ... ... ... ... وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا
ب ـ أفخر بيت قوله:
... ... ... إذا غضبت عليك بنو تميم
... ... ... ... ... ... ... ... رأيت الناس كلهم غضابا
جـ ـ أهجى بيت مع التصون عن الفحش قوله:
... ... ... فغض الطرف إنك من نمير
... ... ... ... ... ... ... فلا كعب بلغت ولا كلابا
س ـ أصدق بيت قوله:
... ... ... إني لأرجو منك خيراً عاجلاً
... ... ... ... ... ... ... والنفس مولعة بحب العاجل
ل ـ أشد بيت تهكما قوله:
... ... ... زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً
... ... ... ... ... ... ... أبشر بطول سلامة يا مربع(4)
ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي به امرأته:
... ... ... لولا الحياء لهاجني استعبار
... ... ... ... ... ... ... ولزرت قبرك والحبيب يزار
... ... ... ولقد نظرت وما تمنَّع نظرة
... ... ... ... ... ... ... في اللحد حيث تمكن الإحفار
... ... ... ولّهْتِ قلبي إذ علْتني كبرة
... ... ... ... ... ... ... وذوو التمائم من بنيك صغار
__________
(1) المحلب : الإناء .
(2) شذرات الذهب (2/57) .
(3) جواهر الأدب (2/151) .
(4) جواهر الأدب (2/152) .(3/109)
... ... ... لا يلبث القرناء أن يتفرقوا
... ... ... ... ... ... ... ليل يكرُّ عليهم ونهار(1)
... ... ... صلى الملائكة الذين تخيَّروا
... ... ... ... ... ... ... والطيّبون عليكِ والأبرار
... ... ... فلقد أراكِ كسيت أحسن منظر
... ... ... ... ... ... ... ومع الجمال سكينة ووقار
... ... ... كانت إذا هجر الحبيبُ فرَاشَها
... ... ... ... ... ... ... خُزِنَ الحديث وعَفَّتِ الأَسرار(2)
وكان قد افتخر على الأخطل في قصيدة وبين أن عبد الملك ابن عمه ولو شاء ساق إليه قبيلة الأخطل حيث قال:
... ... ... إن الذي حرم المكارم تغلبا
... ... ... ... ... ... ... جعل النبوة والخلافة فينا
... ... ... هل تملكون من المشاعر مشعرا
... ... ... ... ... ... ... أو تشهدون مع الأذان أذينا؟
... ... ... مضر أبي وأبو الملوك فهل لكم
... ... ... ... ... ... ... يا حُرزَ تغلب من أب كأبينا
... ... ... هذا ابن عمي في دمشق خليفة
... ... ... ... ... ... ... لو شئت ساقكم إليَّ قطينا(3)
قال الذهبي عن جرير: كان عفيفاً منيباً توفي 110هـ بعد الفرزدق بشهر(4)
4 ـ الراعي: من كبار الشعراء هو أبو جندل، عبيد بن حصين النُّميري، وإنما لقب بالراعي لكثرة ما يصف الإبل في شعره، وقد امتدح عبد الملك(5)، وانضم إلى الفرزدق على جرير فقال فيه جرير قصيدته المشهورة التي صارت وبالاً على بني نمير:
... ... ... ... أقِلىَ اللوم عاذل والعتابا
... ... ... ... ... ... ... ... وقولي إن أصبت لقد أصابا
... وفيها يقول له:
... ... ... ... فغض الطرف إنك من نُمير
... ... ... ... ... ... ... ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
__________
(1) جواهر الأدب (2/152) .
(2) الشعر والشعراء (1/491) .
(3) القطين : العبيد والإماء في هذا الموضوع .
(4) سير أعلام النبلاء (4/591) .
(5) المصدر نفسه (4/598) .(3/110)
... وأهم ما بقي للراعي لاميته التي مدح بها عبد الملك بن مروان ويشكو له العريف أو الجابي، ويرجو التخفيف عن قومه، ويتبرأ من الخوارج النجدية والزبيريين ويعد نفسه بذلك مخلصاً للأمويين(1)، ويبدو الراعي كان اموياً لأجل قومه ورغبة في عبد الملك أن يرفع عن قومه ظلم الجباة ومن شعر الراعي لعبد الملك:
إنّي حلفت على يمين برَّة
... ... ... ... لا أكذب اليوم الخليفة قيلا
ما إن أتيت نُجيدة بن عويمر
... ... ... ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا(2)
إلى أن قال في رواية أخرى:
... ... أحليفة الرحمن إنا معشر
... ... ... ... ... ... حُنفاء نسجد بكرة وأصيلا
... ... عُربٌ نرى لله في أموالنا
... ... ... ... ... ... حق الزكاة منزلاً تنزيلا
... ... إن السُّعاة عصوك يوم أمرتهم
... ... ... ... ... ... وأتوا دواهي لو علمت وغُولا(3)
... ... أخذوا العريف فقطعوا حيزومه
... ... ... ... ... ... بالأصبحية قائماً مغلولا(4)
... ... إن الذين أمرتهم أن يعدلوا
... ... ... ... ... ... لم يفعلوا مما أمرت فتيلا
... ... فادفع مظالم عيَّلَت أبناءنا
... ... ... ... ... ... عنا وأنقِذْ شِلْونا المأكولا(5)
هؤلاء من أشهر شعراء عهد عبد الملك وكان يهتم بهم ويسمع لهم ويجزل لهم في العطاء وكسبهم في صفه وأصبحوا من أبرز المدافعين عن الخليفة ودولته وكان لا يتورع عن دفع الأموال للشعراء ما داموا يمدحون ويبجلون خلفاء بني أمية.
الفصل الثامن
الفتوحات الإسلامية في عهد عبد الملك والوليد وسليمان
__________
(1) تاريخ الشعر السياسي صـ371 .
(2) طبقات فحول الشعراء (2/508) .
(3) الغول : الهلكة والداهية .
(4) العريف : شيخ القبيلة : حيزومة : وسطه : الأصبحية : جمع أصبحي وهو السوط نسبة إلى ذي أصبح وهو ملك يمني .
(5) عيلت : أجاعت . شلو : عضو ، أدب السياسة في العصر الأموي صـ172 .(3/111)
وتجدر الإشارة في هذا الفضل سوف نجمع الفتوحات في عهد عبد الملك والوليد وسليمان لكي نعطي صورة متكاملة عنها بسبب ترابطها ببعضها .
المبحث الأول : الفتوحات في بلاد الروم:
في أواخر عام 73هـ شعر عبد الملك أن الدولة استعادت قوتها، وأنها تستطيع أن تستأنف جهادها وتعلي إرادتها، وكانت العلاقات قد ساءت بين دولة الروم والدولة الإسلامية في هذه الفترة، وأخذ الروم يتأهبون للانتقاض فكان عبد الملك لهم بالمرصاد وقد أحكم إعداده، فعين أخاه محمد بن مروان والياً على الجزيرة وأرمينية ليكون القائد في هذه الجبهة، ومنع عبد الملك إرسال النقود التي كانت يدفعها وقت الضرورة فأثار هذه حنق الأمبراطور الروماني البيزنطي، فأعلن الحرب، وقدم بجيش كبير ليغزو المسلمين من ناحية أرمينية، فلاقاه محمد بن مروان بجيشه ودارت موقعة عنيفة هزم فيها الروم على كثرة عددهم هزيمة شنيعة وفر الإمبراطور بنفسه وانفض عنه أكثر جنوده وكان ذلك عام 74هـ، فزعزعت هذه الوقعة الدولة البيزنطية(1)، واستغل عبد الملك هذا النصر وواصل ضغطه على الدولة البيزنطية عبر الحدود وانتظمت غزوات الصوائف والشواتي وشرع في التوغل داخل الأراضي البيزنطية القريبة فكانت الصوائف تخرج بانتظام للإغارة على هذه الأراضي يقودها محمد بن مروان أو غيره من أمراء بني أمية. وفي عام 81هـ بعث عبد الملك ابنه عبد الله بن عبد الملك ففتح ((قاليقالا)) وهي إحدى مدن الروم الكبيرة، وفي عام 84هـ تمكن عبد الله بن عبد الملك من فتح مدينة أخرى رئيسية، داخل دولة الروم في آسيا الصغرى، وهي مدينة ((المصيصة) فبنى حصنها، ووضع بها حامية من ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون يسكنوها من قبل وبني مسجدها وهكذا اندفعت قوة المسلمين إلى الإمام، تفتح المعاقل وتستولي على الحصون داخل أرض العدو في دولة الروم، منذ تحققت الوحدة في عهد عبد الملك(2)
__________
(1) عبد الملك بن مروان ، محمد ضياء الدين 208 .
(2) المصدر نفسه صـ209 .(3/112)
. ولقد أثبت عبد الملك بعد إعادة الوحدة السياسية أن الدولة وأن قوّتها الموحدة قادرة على التفوّق وإحراز السيادة، وتحقيق النصر على البيزنطيين، وأن قوتها الموحدة قادرة على الاندفاع في الجبهات كافة(1)، واستمرت الجيوش الإسلامية في جهادها طوال مدة الوليد ثم سليمان، وقد برز مسلمة بن عبد الملك في تلك الحروب كقائد فذ، ومقاتل عظيم، فكان في كل سنة يفتح بلداً أو حصناً من الحصون العظيمة التي أقامها الروم لتأمين سلامة بلادهم والمحافظة عليها من غارات الأعداء، وكان يغزو معه هذه الغزوات ـ في عهد الوليد ـ فتح هذه الفتوح العباس بن الوليد بن عبد الملك ومن الحصون التي فتحها: حصن عمورية وهرقلية وقمونية، وحصن طوانة وسمطية والمرزبانين وطروس، وكثير غير هذه الحصون(2).
__________
(1) تجديد الدولة الأموية صـ149 .
(2) الأمويين بين الشرق والغرب (1/420) .(3/113)
ففي جماد الآخرة سنة 88هـ ـ 707م فتح مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد حصن طوانة وشتوا بها، وهزم المسلمون الأعداء حتى صاروا إلى كنيستهم ثم رجعوا فانهزم الناس، وبقي العباس ومعه نُفير، منهم ابن محيريز الجُمحي، فقال العباس لابن محيرز: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن، فأقبلوا جميعاً فهزم الله العدو حتى دخلوا طوانة(1). وهكذا لا تمر سنة وإلا ويغزو المسلمون أرض الروم ويستولون على بعض حصونهم ومعاقلهم، ومن الجدير بالذكر أن معظم الذين كانوا يقودون هذه الحملات هم من أبناء البيت الأموي، أولاد الخليفة الوليد نفسه وأخوه مسلمة الذي لم يكد يتخلف سنة واحدة عن غزو أرض الروم، وهذا أمر له مغزاه فقد كان مسلمة هو الذي قاد الجيش الذي حاصر القسطنطينية الحصار الأخير في عهد سليمان ـ كما سنذكر قريباً بإذن الله ـ ومعنى هذا أن اشتراكه المستمر في غزو بلاد الروم كان مقصوداً ليزداد معرفة وخبرة بالطرق والمسالك إلى عاصمة البيزنطيين، التي كانت إحدى الأهداف الرئيسية من هذه الغزوات(2).
أولاً : البيزنطيون يرصدون تحركات المسلمين العسكرية:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/334) .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ256 .(3/114)
من الطبيعي أن تكون عيون البيزنطيين دائماً مفتوحة على حدودهم مع المسلمين، فجبهة الحدود دائماً ملتهبة والغزو الإسلامي لا يكاد يتوقف ولكي يتأكد البيزنطيون من نوايا المسلمين وأهدافهم من وراء هذا النشاط العسكري المستمر، أرسل الإمبراطور البيزنطي انسطاس 713 ـ 716م سفارة إلى دمشق لتستطلع الأخبار عن كثب، وتعرض على الخليفة الوليد مشروع عقد هدنة بين الدولتين، ولما وصلت السفارة البيزنطية إلى دمشق، شاهدت عظمة المسلمين في عاصمتهم ونشاط الخليفة في إعداد الجيوش لتوجيهها إلى القسطنطينية وعاد السفير إلى الإمبراطور يؤكد صدق عزيمة المسلمين على الجهاد وينصح بضرورة إتخاذ الإحتياطات اللازمة للدفاع عن العاصمة فأخذ اسنطاس برأي سفيره، وأعلن في القسطنطينية أخبار الحملة الإسلامية المنتظرة، وأمر كل فرد أن يخزن لنفسه مؤونة تكفيه ثلاث سنوات وأن يخرج من المدينة كل معوز وغير قادر على تدبير مؤونته، ثم ملأ الخزائن الإمبراطورية بكميات كبيرة من القمح وغيره من الحاجيات التي يتطلبها المدافعون عن المدينة، واهتم كذلك بتجديد أسوار المدينة لاسيما الجهات المطلة منها على المياه، حيث كان التداعي قد دب فيها، ووضع على الأسوار البرية كل الآلات الحربية من المجانيق وغيرها من وسائل الدفاع(1)، وبينما يمضي الخليفة الوليد في استعداداته للزحف على العاصمة البيزنطيين إذ وافته منيته سنة 96هـ، فخلفه أخوه سليمان ليواصل جهوده في هذا الميدان(2).
ثانياً : سليمان بن عبد الملك وحصاره للقسطنطينية:
__________
(1) الأمويون والبيزنطيون نقلاً عن العالم الإسلامي صـ256 .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ256 .(3/115)
يبدو أن اهتمام الخلفاء بفتح القسطنطينية، إنما يرجع لرغبتهم الشديدة في أن يكونوا المقصدوين بقوله عليه الصلاة والسلام: لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش(1)، ويضاف إلى ذلك رغبة سليمان الشديدة، في وضع حد للهجمات البيزنطية المتكررة على الشواطئ الشامية والمصرية، والتي من شأنها بث حالة من عدم الاستقرار في تلك النواحي وبالتالي المساس بسيادة الدولة الإسلامية، فقد هاجم البيزنطيون ساحل جند حمص، وسبوا ((امرأة وجماعة))، وللمرأة فيهم ذكر إذ ذاك، فغضب سليمان وقال: ما هو إلا هذا نغزوهم ويغزوننا والله لأغزونهم غزوة أفتح فيها القسطنطينية، أو أموت دون ذلك(2).
1 ـ الاستعداد للحملة:
شملت الاستعدادات للحملة معظم العالم الإسلامي، فقد ضمت الحملة البرية نحو مائةً وعشرون ألفاً من الشام والجزيرة والموصل وضمت الحملة البحرية ألف مركب من أهل مصر وإفريقيا(3)ويبدو أن تقدير المسلمين بحصانة القسطنطينية، وطول أمد الحرب، تقدير سليم وقوي، حيث أنهم أدركوا أن حصارها يتطلب قوات كبيرة ووقتاً طويلاً وأسلحة متنوعة لذلك جمعوا: آلات الحرب للصيف والشتاء والمجانيق والنفط وغير ذلك(4).
2 ـ سير الحملة:
__________
(1) مسند أحمد رقم 1969 .
(2) الوافي بالوفيات (15/403) ، خلافة سليمان بن عبد الملك صـ177 .
(3) البداية والنهاية نقلا عن خلافة سليمان بن عبد الملك صـ181 .
(4) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ181 .(3/116)
... تجاذبت قادة المسلمين العسكريين خطتان حول سير الحملة، الأولى طرحها موسى بن النصير، وفحواها أن على المسلمين احتلال المدن والحصون التي دون القسطنطينية، لتجريدها من المواقع الحصينة المحدقة بمسالكها، والتي قد تعيق حركة الجيش الإسلامي، ويستمر الأمر بهذه الخطة حتى تفتح القسطنطينية، وأما الخطة الثانية، فطرحها مسلمة بن عبد الملك والذي ارتأى أن إتباع خطة موسى، يحتاج إلى أمد بعيد جداً حتى يتحقق حصار القسطنطينية، وفتحها، لذلك أشار بضرورة التوجه مباشرة إلى القسطنطينية دون التعرض للمدن والحصون المحدقة بجانبي الطريق إلا ما كان ضرورياً، ويبدو أن رأي مسلمة لقي قبولاً لدى الخليفة ومستشاريه العسكريين لذلك تقرر سير الحملة حسب خطته(1)، وسار سليمان من القدس إلى دمشق ومضى حتى نزل دابق(2)، وأقسم ألا ينتقل منها حتى يفتح القسطنطينية، فأقام بها(3)، وفي سنة 98هـ تحركت الحملة بقيادة مسلمة بن عبد الملك من سوريا براً، وبحراً باتجاه القسطنطينية واستمر مسلمة في سيره ووصلت الحملة البرية القسطنطينية عام 98هـ ووصلها الأسطول في عام 99هـ، وضرب المسلمون الحصار على المدينة، وقاتلوا الروم قتالاً شديداً واستبسلوا في جهادهم، ورغم المصابرة التي استمرت قرابة سنة، فإن المحاولة فشلت وخسر المسلمون خسارة كبيرة في العدد والعدة(4)، وقد وصفت المصادر الإسلامية الحالة السيئة، التي آل إليها الجيش الإسلامي في الفترة الأخيرة من الحصار، فالبسوي يقول: وقد كان الناس لقوا جهداً من القسطنطينية من الجوع(5)، ويقول الطبري: فلقي الجند ما لم يلق جيش، حتى أن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكل الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب(6)
__________
(1) البداية والنهاية (12/632) .
(2) المصدر نفسه (12/633) .
(3) تاريخ الطبري (7/433) .
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ261 .
(5) المعرفة والتاريخ (1/618) .
(6) تاريخ الطبري (7/433) .(3/117)
، كما أن البيزنطيين داخل القسطنطينية كانوا في حالة سيئة أيضاً ولعل من الشواهد التاريخية على ذلك ما يأتي:
أ ـ إن مخاطرة السفن البيزنطية في الخروج لجلب القمح من شواطئ البحر الأسود وخروج المراكب الصغيرة لجلب الطعام، وصيد الأسماك، دليل قوي على الضنك الاقتصادي عند أهل القسطنطينية بالرغم من إنكسار حدة القتال.
ب ـ سعي البيزنطيين إلى عقد صلح مع مسلمة، حيث عرض بطريقهم، دفع دينار عن كل رجل محتلم في القسطنطينية دليل، آخر على سوء الأوضاع الداخلية.
ج ـ الصلح الذي تم إبرامه بين المسلمين والبيزنطيين، قبيل إنسحاب الجيش الإسلامي، وتعهد البيزنطيين بموجبه المحافظة على المسجد الذي بناه مسلمة(1).
3 ـ انسحاب الجيش الإسلامي:
__________
(1) عيون المعارف للقضاعي صـ358 .(3/118)
... لما مات سليمان بن عبد الملك تولى عمر بن عبد العزيز أمر الخلافة، فوجه إلى مسلمة وهو محاصر للقسطنطينية وأمره بالقفول منها بمن معه من المسلمين، ووجه إليه خيلاً عتاقاً وطعاماً كثيراً وحث الناس على معونتهم، وكان عدد الخيل التي وجهها لمسلمة خمسمائة فرس(1)، لأنه كان قد أصاب المسلمين مجاعة فقواهم بذلك(2)، وكان قرار عمر بن عبد العزيز بانسحاب مسلمة حصيفاً صائباً، لا لأنَّ عمر غير مبال إلى حروب الفتح والاستيلاء(3) بل لأنّ موقف المسلمين المحاصرين للقسطنطينية كان ميئوساً منه، فأمر بانسحابهم حقناً لدمائهم، بعد أن بلغ بهم الجهد(4)، إذ لم يغفل عمر أبداً عن غزو الروم دفاعاً عن حدود أرض الشام الشمالية الغربية(5) لقد أحسن عمر بن عبد العزيز في قراره بانسحاب المسلمين عن القسطنطينية، لأن الموقف العسكري كان يتطلب إصدار مثل هذا القرار، ولو كانت كفة المسلمين راجحة في حينه لكان من المستحيل عليه الأمر بانسحاب المسلمين، ولكن هناك مسوِّغ للإدعاء بأن عمر بن عبد العزيز غير ميال لحروب الفتح دون تمحيص للموقف العسكري الراهن(6).
4 ـ أسباب فشل الحملة:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/457) .
(2) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ256 .
(3) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ256 .
(4) خطط الشام (1/552) .
(5) قادة الفتح افسلامي في أرمينية صـ257 .
(6) المصدر نفسه صـ259 .(3/119)
أ ـ غدر وخيانة: تناولت الأخبار غزوة القسطنطينية وذكرت أن ليو حاكم ـ بطريق ـ عمورية اتصل بسليمان بن عبد الملك وحرّضه على حرب تيودوسيوس ـ تيدوس ـ ووعد ليون سليمان أن يقف إلى جانب المسلمين ويسلمَّهم أرض الروم، وقيل الذي عرض التحالف على الآخر هو سليمان بن عبد الملك، وقيل مسلمة بن عبد الملك عرض ذلك أثناء حصار القسطنطينية وهو يتظاهر أمام مسلمة أنه يحاول إقناعهم في النزول على رغبة مسلمة، وكان مسلمة حسب هذه الأخبار طلب إليهم ليرحل عنهم أن يملَّكوا حليفه ليو عليهم، وأما ليو فكان في حقيقة الحال يطلب الملك لنفسه ويريد أن ينقذ البلد من خطر المسلمين، ولما أطمأن الأساقفة والبطارقة إليه وحلف لهم انقادوا له واستوى له الأمر، فخرج إلى مسلمة وأشار عليه أن يحرق ما عنده من الطعام لييأسوا من المطاولة ويصح عندهم عزم مسلمة على المناجزة فيعطوا ما بأيديهم، وقيل أشار عليه أيضاً أن يأذن لأهل القسطنطينية لليلة واحدة أن يحملوا مما عنده من الغلال ليروا حسن رأيه فيهم وأن أمره وأمر ليو واحد وانطلت الخديعة على مسلمة وأطاع ليو، وأما ليو فقد استولى على الحكم وأعلن الحرب على مسلمة في الوقت الذي صار مسلمة في حال لا يحسد عليه من سوء الأحوال الجوية وقلة الميرة لجنده حتى لقوا من الشدة ما لم يلق أحد قط، واضطروا إلى أكل الدواب والجلود والميتة وأصول الشجر وغير ذلك(1)، وخلاصة القول، أن هذه الأخبار تلقي مسئولية الفشل على عاتق مسلمة بن عبد الملك الذي كان عندها شجاعاً فحسب ولم يكن من ذوي الرأي والبصيرة في الحرب، ولم يكن له رأي فيها يرجع إليه(2)، ولو صدقنا هذه الأخبار لكانت الدولة أي سليمان بن عبد الملك ابتداء، ومسلمة بن عبد الملك قائد الجيوش تالياً ربطا مصير فتح القسطنطينية ومصير الجند المسلمين هناك بوعود شخص هو ليو مظنة
__________
(1) أخبار القضاة لوكيع (3/213) دراسة في تاريخ الأمويين 261 .
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين 262 .(3/120)
كذب وخديعة، وهو حال يتناقض واستعدادات الدولة في هذا الوجه(1)، وقد علق الأستاذ محمود شيت خطاب على حصار القسطنطينية فقال: وإذا كان هناك ما يلام عليه مسلمة في معركة حصار القسطنطينية فهو عدم استفادته كما ينبغي من الصفة الأولى من صفات حصار ((القسطنطينية)) وهي صفة ((المبادرة)) في التركيز بالهجوم على المدينة المحاصرة وإدامة زخم الهجوم عليها أولاً، وثقته غير المحدودة بحليفه ((ليو)) لأن الذي يخون بلاده وقومه أولى به أن يخون غير بلاده وغير قومه، فكانت هذه الثقة العمياء في هذا العميل لا مسوِّغ لها ثانياً، فالحرب من القضايا المصيرية، ولا بدّ من إدخال أسوأ الاحتمالات في كلِّ ما يؤَّثر في نتائجها من قريب أو بعيد(2).
ب ـ ضراوة الشتاء: بخصوص ضراوة الشتاء عام 99هـ قيل أن الثلج غطى وجه الأرض، وهلك فيه كثير مما كان مع المسلمين من الجمال والخيل والبغال ولابدّ أن المسلمين في هذه الأحوال الجوية القاسية أتوا على أكثر ما كان معهم من الطعام وأصبحوا في نقص من الميرة وعضّهم الجوع، ولذلك قيل، استطاع ليو أن يفخر بأن ديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) كانوا أعظم قواده(3).
ت ـ مناعة أسوار المدينة وتحصيناتها الدفاعية:
... أخذ حكام بيزنطة في تحصين أسوار القسطنطينية وتسليحها بالمجانيق، منذ علموا بعزم المسلمين على غزوها، وزادها ليو الذي تقلد الحكم فيها زمن الحصار تحصناً، وأمر حكام بيزنطة بتخزين الطعام بالقدر الذي يكفي أهلها لثلاث سنوات ومنعوهم من أن يغادروها(4).
ج ـ استخدام سلاح جديد ضد المسلمين: ((النار الإغريقية)):
__________
(1) المصدر نفسه صـ262 .
(2) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ261.
(3) الحدود الإسلامية البيزنطية فتحي عثمان (2/85 ، 91) .
(4) الحدود الإسلامية ، فتحي عثمان (2/85، 91) .(3/121)
... استخدم البيزنطيون النار اليونانية فأثرت في جيش المسلمين وكبّدتهم خسائر في الأرواح والسفن والمعدات وتاريخ الحرب في جميع العصور يقرر إن من أهم أسباب عوامل النصر هو استخدام سلاح فتاك جديد لا يتوقعه الخصم أو استخدام أسلوب قتالي جديد لا يتوقعه الخصم، أو إستعمالهما معاً في الزمن والمكان المناسبين بشكل لا يتوقعه الخصم، وكل ذلك يباغت هذا الخصم ويربك قيادته وخطته المرسومة والمباغتة كما هو معروف هي أهم مبادئ الحرب على(1) الإطلاق ومن الإنصاف أن نضيف إلى عوامل انتصار الروم في الدفاع عن القسطنطينية عاملاً آخر هو: كفاية (ليو الثالث) المتميزة في القيادة، وتشبعه بمزية إرادة القتال(2).
س ـ التيارات المائية: واجه المسلمون في البحر صعوبات كثيرة فقد جعلت التيارات المائية المنحدرة من البحر الأسود إلى بحر مرمرة حركة السفن الإسلامية بطيئة، وأدى تغير الريح إلى اضطرابها، ونالت النار الإغريقية منها وألحقت بها أضراراً كثيرة(3).
ش ـ المصالحة بين البيزنطيين والبلغار والخزز:
... صالح ليو الحاكم البيزنطي إعداءه الخارجين عليه من الخزر والبلغار، وبذلك ضمن الجبهة الشمالية مما جعله يصب جل إهتمامه على القوات الإسلامية لغرض تدميرها وإيقاف زحفها على المدينة(4).
ك ـ الاستعجال وعدم التريث:
... ويبدو أن المسلمين لو تريثوا حتى أتموا فتح البر الآسيوي البيزنطي، ثم تقدموا إلى القسطنطينية من مواقع مجاورة وبأحوال جوية مماثلة ومألوفة للمقاتلة وخطوط ومواصلات قصيرة وإمدادات قريبة وأعداد بشرية كثيرة فربما وجدوا المهمة أيسر، ولكنهم عمدوا إلى صقع من البلاد في محيط من الأعداء حصين وبعيد فاستعصى عليهم(5).
__________
(1) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ260 .
(2) المصدر نفسه صـ260 .
(3) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين 264 .
(4) العلاقات العربية ـ البيزنطية في العصر الأموي صـ64 .
(5) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين 264 .(3/122)
و ـ ضعف خبرة مسلمة العسكرية:
... كان مسلمة بن عبد الملك القائد الأموى في حصار القسطنطينية صغيراً في السن واقل تجربة من عظماء الفتح الإسلامي في ذلك العهد مما أثر في فشل الحصار.
5 ـ نتائج الحملة: ترتب على حملة القسطنطينية العديد من النتائج ولعل من أبرزها ما يلي:
أ ـ تأكد للمسلمين أنهم لا يستطيعون فتح القسطنطينية دون فتح المناطق المجاورة لها، وتثبيت أقدامهم فيها حتى تكون عوناً لهم، لا عليهم في حالة حصار القسطنطينية، وبالرغم من ذلك فقد كانت للمسلمين سيطرة واضحة على العديد من موانئ البحر الأبيض المتوسط خاصة في حوضه الغربي.
ب ـ تخلي أباطرة البيزنطيين عن فكرة استعادة شمال إفريقيا، وعدوا الدفاع عن هذه المنطقة في المرتبة الثانية، بعد الدفاع عن عاصمتهم، وبالتالي أصبحت منطقة شمال إفريقيا ركناً هاماً من أركان الدولة الإسلامية قوية الأوتاد(1).
جـ ـ ولعل من أهم النتائج المباشرة لغزو القسطنطينية، ازدياد نشاط الأسطول البيزنطي في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط فقد هاجم البيزنطيون بالإغارة على تِنِّيْس(2) في خلافة يزيد بن عبد الملك(3).
__________
(1) خلافة سليمان بن عبد الملك ، علي إبراهيم 200 .
(2) تِنِّيْس : جزيرة في بحر مصر، قربة من البر .
(3) ولاة مصر للكندي صـ91 ، خلافة سليمان بن عبد الملك صـ200 .(3/123)
6 ـ من خطب عبد الملك في التحريض على قتال الروم: وفي عهد عبد الملك عندما علم بتحرك الروم بأرض القسطنطينية وغيرها من بلاد الروم على غزو المسلمين ومفاجأتهم نادى بالنفير العام وحين اجتمع لديه جند المسلمين قام فيهم محرضاً فقال لهم بعد أن حمد الله عز وجل وأثنى عليه: أيها الناس إنكم قد علمتم ما ذكر الله عز وجل في كتابه من فضل الجهاد وما وعد الله عليه من الثواب ألا وأني قد عزمت أن أغزو بكم غزوة شريفة على أليون صاحب الروم فإنه طغى وبغى وقد بلغني أنه قد جمع للمسلمين جموعاً كثيرة وعزم على غزوكم ومفاجأتكم في دياركم وقد علمت أن الله تعالى مهلكه ومبدد شمله وجاعل دائر السوء عليه وعلى أصحابه وقد جمعتكم من كل بلد وأنتم أهل البأس والنجدة، والشجاعة والشدة وأنتم من قام لله بحقه ولدينه بنصرته وهذا ابني مسلمة وقد أمرته عليكم، فاستمعوا له وأطيعوا يوفقكم الله ويرشدكم لصالح الأمور فقال الناس جميعاً سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين(1)، وعندما سير عبد الملك بن مروان ابنه مسلمة لمحاربة الروم أوصاه بالعسكر بقوله: فكن يا بنيَّ بالمسلمين باراً رحيماً وأميراً حليماً ولا تكن عنيداً كفوراً ولا مختالاً فخوراً(2)، كما أوصى عبد الملك قائداً آخر سيره إلى أرض الروم: أنت تاجر الله لعباده فكن كالمضارب الكيس الذي إن وجد ربحاً تاجر، وإلا احتفظ برأس المال ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك(3).
7 ـ من أشهر قادة المسلمين ضد الروم: مسلمة بن عبد الملك:
__________
(1) الفتوح لابن أعثم (4/123) .
(2) المصدر نفسه (4/123) .
(3) نهاية الإرب (6/170) .(3/124)
... مسلمة بن عبد الملك الأمير الضرغام، قائد الجيوش، أبو سعيد الأموي الدمشقي، ويلقب بالجرادة الصفراء(1)، له مواقف مشهودة مع الروم، وهو الذي غزا القسطنطينية وكان ميمون النقيبة، وقد ولى العراق لأخيه يزيد ثم أرمينية(2)، قال عنه الذهبي: كان أولى بالخلافة من سائر أخوته(3)، وقد ظهرت مزايا مسلمة وألمعيته مبكراً وهو صغير السن، فركز أبوه عبد الملك عليه وبخاصة في وصيته أبناءه وبنيه وهو على فراش الموت فقال فيه:.. وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه، فإنه نابكم الذي عنه تفترون ومِجّنَّكم الذي عنه ترمون(4). فهو قائد من قواد الفكر وقائد من قادة الجهاد بالنسبة لبني أمية، لا يخالفون له رأياً، ولا يعصون له أمراً، ويلجأون إليه في أيام المحن والحروب(5)، ومسلمة هذا عُرف في التاريخ مع قصة صاحب النقب، حيث حاصر مسلمة حصناً، فندب الناس إلى نَقْب منه، فما دخله أحد فجاء رجل من عُرض الجيش، فدخله ففتحه الله عليهم: فنادى مسلمة: ((أين صاحب النِّقب؟)) فما جاء أحد. فنادى: إني قد أمرت الأذن بإدخاله ساعة يأتي، فعزمت عليه إلا جاءا فجاء رجل فقال: استأذن لي على الأمير. فقال له: أنت صاحب النِّقب؟ قال: أنا أخبركم عنه، فأتى مسلمة فأخبره عنه، فإذن له، فقال: إن صاحب النِّقب يأخذ عليكم ثلاثاً: ألا تسودوا إسمه في صحيفة إلى الخليفة، ولا تأمروا له بشيء، ولا تسألوه: ممن هو؟ قال مسلمة: فذاك له، قال: ((أنا هو)). فكان مسلمة لا يصلي بعدها إلا قال: اللهم أجعلني مع صاحب النقِّب(6). وكان مسلمة في جهاده يحرص على سلامة جنده وفي قتاله للخزر، تكالب عليه الأعداء مما اضطره إلى خداعهم بإشعال النيران ليوهمهم بمكوثه وجعل خيامه
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/241) .
(2) المصدر نفسه (5/241) .
(3) المصدر نفسه (5/241) .
(4) الكامل في التاريخ نقلاً عن قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ289 .
(5) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ289 .
(6) عيون الأخبار (1/172) .(3/125)
مضروبة بعد العشاء الآخرة جعل مسلمة يطوي المراحل طياً في العودة فقد جعل كل مرحلتين في مرحلة غير أنه قدم الضعفاء بين يديه واهتم بهم وجعل الأقوياء أهل الجلد والشجاعة على الساقة، فلم يزل كذلك حتى جاوز الخطر(1). وكان يمقت العجز ويمدح الحزم، فقد قال: ما حمدت نفسي على ظفر ابتدأته بعجز ولا ذممتهما على مكروه ابتدأته بحزم(2)، ومن أقواله في الزهد: إن اقل الناس هماً في الدنيا أقلهم هماً في الآخرة(3). وكانت تجربته العملية غنية إلى أبعد الحدود، فقد شهد كيف تدار الدولة على أعلى المستويات مع أبيه عبد الملك بن مروان ومع إخوته من بعده، وكان الخلفاء من إخوته يحرصون على أن يبقى إلى جانبهم مستشاراً يتعلمون منه أكثر مما يتعلم منهم إلا إذا حزبهم أمر يهدد أمن الدولة ومصيرها تهديداً خطيراً، فيبعثونه، ليقضي على الثورات، وليقمع الإضطرابات، وليعيد الأمن والاستقرار(4). وكان مسلمة مخلصاً غاية الإخلاص لبني أمية ويدين بالولاء المطلق للخلفاء، ولم يكن يطمح لتولي الخلافة لأن بني أمية لم يكونوا يبايعون لبني أمهات الأولاد، ولم يكن لعبد الملك بن مروان ابن أسدَّ راياً ولا أذكى عقلاً، وأشجع قلباً، وأسمح نفساً ولا أسخى كفاً من مسلمة، وإنما تركوه لهذا المعنى(5). وكانت بني أمية لا تستخلف بني الإماء، وقالوا: لا تصلح لهم العرب(6). ولم يكن لمسلمة أمل في تولي الخلافة مع أنه ـ كما قال الذهبي ـ: كان أحق بالملك من سائر إخوته(7). وكان ذا عقل راجح ورأي سديد يحولان بينه وبين مغامرة تشق صفوف المسلمين، وكان بحق من أكثر الناس حرصاً على رص الصفوف والوحدة، كما أنه كان يعتبر
__________
(1) الفتوح لابن أعثم (4/283) .
(2) الشهب اللامعة صـ476 .
(3) المعرفة والتاريخ (2/226) .
(4) قادة الفتح الإسلامي في أرمينية صـ305 .
(5) العقد الفريد (6/131) قادة الفتح الإسلامي صـ310 ، أرمينية .
(6) قادة الفتح الإسلامي في أرمينينة صـ310 .
(7) سير أعلام النبلاء (5/241) .(3/126)
الخلافة (وسيلة) من أجل خدمة الأمة لا (غاية) من أجل أطماع شخصية، وأمجاد أنانية، وهو بحق خدم الأمة أجل الخدمات، وبذلك حقق (الوسيلة) واستغنى عن (الغاية)(1)، وكان رحمه الله جميل الصورة حسن الوجه صبيحاً، من أجمل الناس وهو معدود من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الشام(2)، توفي 120هـ(3).
8 ـ أبو محمد البطال: كان من أبطال المسلمين وأمرائهم الشاميين وكان مع جيش مسلمة بن عبد الملك وكان مقره بإنطاكية أوطأ الروم خوفاً وذلاً. ولكن كذب عليه أشياء مستحيلة في سيرته الموضوعة، وعن عبد الملك بن مروان أنه أوصى مسلمة أن صير على طلائعك البطال ومره فليعس بالليل، فإنه أمير شجاع مقدام(4)، وعقد مسلمة للبطال على عشرة آلاف وجعلهم طلائع للجيش(5)، ومن نوادر ما يحكى عن البطال أنه قال: اتفق لي إنا أتينا قرية لنغير، فإذا بيت فيه سراج وطفل صغير يبكي، فقالت أمه أسكت، أو لأدفعنك إلى البطال فبكى وقالت: خذه يا بطال فقلت: هاتيه: وجرت له أعاجيب وفي الآخر أصبح في معركة مثخوناً وبه رمق فجاء الملك ليون، فقال: أبا يحي، كيف رأيت؟ قال: وما رأيت؟ كذلك الأبطال تقتل ولا تُقتل، فقال: عليَّ بالأطباء، فأتوا فوجوده قد أنفذت مقاتله،، فقال: هل لك حاجة؟ قال: تأمر من يثبت معي بولايتي وكفني والصلاة عليَّ ثم تطلقهم، ففعل، قتل 112هـ وقيل 113هـ(6). قال عنه ابن العماد:.. وله حروب ومواقف ولكن كذبوا عليه، فأفرطوا، ووضعوا له سيرة كبيرة، تقرأ كل وقت، يزيد فيها من لا يستحي من الكذب(7)
9 ـ عامر الشعبي سفير عبد الملك لعظيم الروم:
__________
(1) قادة الفتح الإسلامي في أرمينينة صـ311 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/241) .
(3) المصدر نفسه (5/241) .
(4) المصدر نفسه (5/241) .
(5) سير أعلام النبلاء (5/269) .
(6) المصدر نفسه (5/269) .
(7) شذرات الذهب (2/93) .(3/127)
... وجه عبد الملك بن مروان الشعبي إلى ملك الروم ـ يعني رسولاً ـ فلما انصرف من عنده قال: يا شعبي، أتدري ما كتب به إليّ ملك الروم؟ قال: وما كتب به يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت أتعجب لأهل ديانتك، كيف لم يستخلفوا عليهم رسولك. قلت: يا أمير المؤمنين لأنه رآني ولم يرك، وفي رواية: يا شعبي، إنما أراد أن يغريني بقتلك. وبلغ ذلك ملك الروم فقال لله أبوه، والله ما أردت إلا ذاك(1). وفي هذا ما يدل على أن الروم لم تكن نياتهم سليمة مع المسلمين حتى في زمن السلم والمراسلات وعقود الصلح، وأنهم يستخدمون الكيد والمكر لشق الصفوف، والتخلص من الأفذاذ.
المبحث الثاني : الفتوحات في الشمال الإفريقي والأندلس:
أولا: فتوحات حسان بن النعمان الغساني:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/304) .(3/128)
استشهد زهير البلوي وأصحابه في معركة مع البيزنطيين في مدينة درنة بشرق ليبيا ودفن مع أصحابه، وقبورهم هناك معروفة إلى اليوم تسمى مقبرة الشهداء وكان ذلك 71هـ(1)، وكان وقع استشهاد زهير بن قيس البلوي ورفاقه عظيماً على الخليفة عبد الملك بن مروان لذلك ما إن انتهى من حربه مع ابن الزبير حتى أولى اهتماماً خاصاً إلى الوضع في شمال إفريقيا، لذلك نراه يجهز جيشاً كبيراً قوامه نحو أربعين ألف مقاتل غالبيتهم من أهل الشام، وعهد بقيادته إلى حسان بن النعمان الغساني الذي كان رجلاً ورعاً تقياً يدل على ذلك تسميته بـ((الشيخ الأمين))(2)، وقد أقر الخليفة حسان بن النعمان أن يقيم بمصر استعداداً لإنجاز مهمته وكتب إليه: إني قد أطلقت يدك في أموال مصر، فأعط من معك ومن ورد عليك من الناس، وأخرج إلى جهاد إفريقيا على بركة الله(3). وقد وصف ابن الأثير عظمة هذا الجيش من حيث تعداده وعدته بقوله: لم يدخل إفريقيا جيش مثله(4)، وكان بداية الغزو في عام 74هـ(5)، وقد تمكن هذا الجيش من فتح المناطق التي مر بها وكان على مقدمته كل من محمد بن أبي بكير وهلال بن ثروان اللواتي(6) ووجود هذا الأخير كقائد على مقدمة الجيش حسان يشير إلى مشاركة البربر بشكل كبير في هذه الحملة(7).
1 ـ فتح قرطاجنة:
__________
(1) مصر في العصر الأموي صـ140 .
(2) تاريخ إفريقيا والمغرب صـ67 .
(3) نهاية الإرب في فنون الأدب (24/34) .
(4) مصر في العصر الأموي صـ143 .
(5) الكامل في التاريخ (3/82) .
(6) فتوح مصر والمغرب صـ270 .
(7) مصر في العصر الأموي صـ143 .(3/129)
... وصل حسان القيروان ودخلها دون أن يواجه أي مقاومة ثم توجه بعد ذلك إلى الشمال حيث قرطاجنة القاعدة البيزنطية على الساحل(1)، وسار حسان إلى قرطاجنة وكان صاحبها أعظم ملوك إفريقية، فلما وصل إليها رأى بها من الروم والبربر ما لا يحصى كثرة(2)، ولم تطل المعركة مع البيزنطيين ودخل حسان قرطاجنة عنوة، ولم يكد حسان ينصرف منها عائداً إلى القيروان حتى عاد أهلها للاعتصام بها مرة أخرى، مما اضطر حسان لفتحها مرة الثانية(3)، فهدم المسلمون ما أمكنهم منها(4)، لكي لا يعود إليها من يطمع بالتحصن بها. ثم أعقب حسان حملته هذه بحملة على ططفورة وبنزرت فافتتحها ولم يتبع المنهزمين من الروم الذين تحصنوا في مدينة باجة ولا البربر الذين تحصنوا في مدينة بونة(5). وعاد حسان إلى القيروان، لأن الجراح قد كثرت في أصحابه فأقام بها حتى صحوا(6).
2 ـ هزيمة حسان أمام الكاهنة:
__________
(1) نهاية الإرب (22/19) .
(2) الكامل في التاريخ (3/82) .
(3) رياض النفوس (1/32) .
(4) نهاية الإرب (22/19) .
(5) الكامل في التاريخ (3/82) .
(6) المصدر نفسه (3/82) .(3/130)
... وبعد ضرب الروم التفت حسان إلى زعامة البربر، فقال: دلوني على أعظم من بقي من ملوك إفريقية؟ فدلوه على إمرأة تملك البربر وتعرف بالكهانة(1)، والتقى حسان بن النعمان بالكاهنة عند نهر يدعى نيني أو مسكيانة على مرحلة من باغاي ومجانة فانتصرت الكاهنة وقتل من المسلمين خلق كثير وانسحب حسان إلى قابس(2)، وقامت الكاهنة بالهيمنة على المغرب كله بعد حسان خمس سنين، فلما رأت إبطاء العرب عنها قالت: إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي فلا نرى لكم إلا خراب بلاد إفريقية كلها، حتى ييأس منها العرب فلا يكون لهم رجوع إليها إلا آخر الدهر(3)، واستجاب لها قومها من جراوة الذين كان يغلب عليهم الطابع البدوي فذهبوا إلى كل ناحية يقطعون الشجر، ويهدمون الحصون(4).. فكانت إفريقية من طرابلس إلى طنجة ظلا وقرى متصلة فأخرجت جميع ذلك(5)، وقد أضر هذا التخريب بالبرانس والأفارقة حتى ألجأهم إلى الفرار وطلب المساعدة، وخرج يومئذ من النصارى والأفارقة خلق كثير مستغيثين مما نزل بهم من الكاهنة، فيتفرقوا على الأندلس وسائر الجزر البحرية(6)، وملكت الكاهنة إفريقية وأساءة السيرة في أهلها وعسفتهم وظلمتهم(7).
3 ـ استعادة البيزنطيين قرطاجنة وانسحاب حسان إلى سرت بليبيا:
__________
(1) المصدر نفسه (3/82) .
(2) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/151) .
(3) المصدر نفسه (1/153) .
(4) الكامل في التاريخ (3/83) .
(5) نهاية الإرب (22/21) .
(6) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/154) .
(7) الكامل في التاريخ (3/83) .(3/131)
... كان لسقوط قرطاجنة بيد المسلمين أثر بالغ على البيزنطيين ووجدوا في خروج حسان من إفريقية والفوضى التي عمّت البلاد مجالاً لإعادة نفوذهم في الشمال الإفريقي، فجهز الإمبراطور ليونتوس ـ الذي خلف جستنيان الثاني ـ سنة 695م حملة كبيرة بقيادة البطريق يوحنا إلى إفريقية وأعد أسطولاً كبيراً لنقل الجند إليها، فتمكنت القوة البيزنطية من استعادة قرطاجنة سنة 78هـ، دون مقاومة تذكر واضطر أبو صالح نائب حسان عليها أن ينسحب منها مع من كان معه من المسلمين ودخلها البطريق يوحنا(1)، ويتضح من دراسة حركة الفتح أن مصير المغرب كان مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً بالأوضاع في المشرق وأقام حسان في منطقة طرابلس قرب سرت في المكان المسمى قصور حسان خمس سنين، وحين استقرت الأوضاع في المشرق سارع عبد الملك بإرسال المدد إلى حسان وأمره بالمسير إلى إفريقية في أواخر سنة 81هـ(2).
4 ـ مقتل الكاهنة: 82هـ
... كان خالد بن يزيد العبسي أسيراً عند الكاهنة، فأرسل إلى حسان: إن البربر متفرقون لا نظام لهم ولا رأي عندهم فأطوي المراحل وجد في السير(3). ودارت المعركة بين الكاهنة وحسان على مقربة من قابس وانتهت بنصر كبير للمسلمين، وبمقتل الكاهنة عند بئر سمي بئر الكاهنة(4)، وبعد هذا الانتصار عاد حسان إلى القيروان في سنة 82هـ، ومنها زحف إلى قرطاجنة وأعاد فتحها(5). وبهذا النصر المزدوج خلصت أرض إفريقية للمسلمين، تلت ذلك فترة استقرار ثم انطلاق لفتح ما تبقى من المغرب(6).
5 ـ سياسة حسان مع البربر:
أ ـ إدخالهم في قيادة الجيوش:
__________
(1) فتح العرب للمغرب، حسين مؤنس صـ370 .
(2) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/155) .
(3) الكامل في التاريخ (3/83) .
(4) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/157) .
(5) رياض النفوس(1/37) الإسلام والتعريب (1/158) .
(6) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/158) .(3/132)
... نهج حسان نفس السياسة التي سار عليها أبو المهاجر وهي تأليف البربر وإشراكهم في الفتوح ولعله توسع في ذلك بإدخالهم في الجيش على نطاق واسع(1)، فكانت سياسته خطوة كبيرة في اكتساب ولاء البربر وإخلاصهم، ففي حملته الأولى عين هلال بن شروان اللواتي قائداً على مقدمته مع اثنين من العرب هما محمد بن بكير وزهير بن قيس(2)، كما استعان بالبربر كعيون فقد أرسل أحد رجالهم الذي أسلم طوعاً ليأتيه بالأخبار عما يجري في معسكر الكاهنة(3)، ورحب بولدي الكاهنة وولى أكبرهما قيادة الجيش في منطقة الأوراس واثقاً بإخلاصه وحسن إسلامه مما أدى إلى إسلام نفر كبير من البتر(4). ويبدو نجاح سياسته من استغاثة أهل قابس وقفصه وأهل نقراوة به فسره ذلك(5).
ب ـ المساواة بين البربر والعرب المسلمين:
... حين جند حسان البربر ساوى بينهم وبين العرب المسلمين وذلك وفقاً لمبادئ المساواة في الإسلام، ففرض لهم ومنحهم نصيبهم من الغنائم(6). ثم خطا خطوى كبرى بأن قسم المغرب خططاً للبربر(7). ويبدو أن حساناً اعتبر أرض المغرب أرضاً أسلم عليها أهلها(8).
ج ـ الاهتمام بالتنظيم الإداري:
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها صـ201 .
(2) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/158) .
(3) تاريخ إفريقية والمغرب صـ59 ، 60 ، الرقيق .
(4) فتوح مصر وأخبارها صـ201 .
(5) رياض النفوس (1/35) .
(6) المصدر نفسه (1/36) .
(7) المصدر نفسه (1/36) .
(8) الإسلام والتعريب في الشمال الإفريقي (1/160) .(3/133)
... كان حسان قد اعتنى بالتنظيم الإداري في المغرب خلال مدة إقامته (82هـ ـ 86هـ). فقد أنشأ الديوان أو ديوان الجند، وهو سجل يحفظ فيه أسماء المقاتلين وأنسابهم وصفاتهم ومقدار أعطياتهم، ونظم ديوان الخراج بأن عني بتحديد الجزية والخراج. يقول ابن عذاري فدون الدواوين وصالح على الخراج وكتبه على عجم إفريقية وعلى من أقام معهم على دين النصرانية(1)، وكان عامتهم من البرانس إلا قليلاً من البتر(2).
... وقام حسان ببناء دار لصناعة السفن، وأنشأ مدينة إسلامية ثانية وهي تونس أصبحت رباطاً يحمي القيروان ومحرساً للبحر وميناء جديداً للبلاد. وصارت تونس ثانية العواصم الإفريقية حين أولاها حسان اهتمامه(3)، واهتم بالقيروان فجدد بناء مسجدها أحسن مما كان عليه أيام عقبة(4)، واهتم بتعليم البربر مبادئ الإسلام، وترك معهم ثلاثة عشر رجلاً من علماء التابعين يعلمونهم القرآن وشرائع دينهم(5)،، وبث الدعاة في مختلف القبائل لنشر الإسلام بين البربر، فبنوا المساجد، واستلموا المنابر ومن ذلك بناؤهم لمسجد أغمات سنة 85هـ(6)، وانتشرت الكتاتيب لتعليم أولاد المسلمين مبادئ القراءة والكتابة(7)
6 ـ عزل حسان عن ولاية إفريقية:
__________
(1) البيان المغرب (1/38) .
(2) فتوح مصر وأخبارها صـ201 البرانس والبتر من قبائل البربر .
(3) الإسلام والتعريب (1/164) .
(4) رياض النفوس (1/37) الإسلام والتعريب (1/162) .
(5) البيان المغرب (1/43) الإسلام والتعريب (1/162) .
(6) البيان المغرب (1/43) .
(7) الإسلام والتعريب (2/311) .(3/134)
... في سنة 85هـ عزل حسان بن النعمان من قبل والي مصر عبد العزيز بن مروان، ويذكر أن خلافاً نشب بين حسان وعبد العزيز على ولايتي برقة وطرابلس أثر تعيين عبد العزيز والياً منفصلاً عليها، فلم يوافق حسان على هذا الأمر(1)، ويبدو أن المشكلة هي أن حسان رأى أنه تابع للخليفة مباشرة وأن إفريقية ولاية(2)، بينما رأى أمير مصر أنها تابعة له وأن حسان يجب أن يراجعه ولذلك أخذ أغلب الغنائم والهدايا الثمينة التي كان حسان ينوي أن يحملها إلى الخليفة في دمشق، فحين وصل حسان إلى دمشق شكاه للخليفة وأعطاه ما تبقى من الغنائم(3)، وواضح من شكوى حسان أنه يرى أن عبد العزيز يتهمه بالخيانة المالية ظلماً، فحين أراد الخليفة مكافأته برده إلى ولاية إفريقية رفض حسان وأقسم أنه لا يولى لبني أمية أبداً(4)، ولا يستبعد أن عبد العزيز كان يرغب أن تدار إفريقية من قبل أحد رجاله وإصرار عبد العزيز لتولية موسى بن نصير دليل على ذلك(5).
... قال الذهبي عن حسان بن النعمان الغسّاني: من ملوك العرب ولي المغرب فهذَّبه وعَمَره وكان بطلاً شجاعاً، مجاهداً لبيباً، ميمون النقيبة كبير القدر، وجهه معاوية في سنة 57هـ فصالح البربر ، ورتب عليهم الخراج وانعمرت البلاد، وله غزوات مشهودة بعد قتل الكاهنة وكان يدعى الشيخ الأمين، توفي سنة 80هـ(6).
ثانياً : فتوحات موسى بن نصير 85هـ:
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها صـ203 .
(2) الإسلام والتعريب (1/165) .
(3) الإسلام والتعريب في الشمال الأفريقي (1/165) .
(4) المصدر نفسه (1/165) .
(5) المصدر نفسه (1/166) .
(6) سير أعلام النبلاء (4/140) .(3/135)
... لا يتفق المؤرخون على تاريخ محدد لتولية موسى بن نصير على المغرب وعزل حسان بن النعمان عنه، ولكن الأقرب إلى تسلسل الأحداث أن يكون عزل حسان وتوليه موسى بن نصير في سنة 85هـ، قبيل وفاة عبد العزيز ابن مروان والذي ينسب إليه المؤرخون عزل حسان وتولية موسى(1)، وبعد أن عزل عبد العزيز بن مروان والي مصر حسان بن النعمان والي إفريقية وليَّ مكانه موسى بن نصير، وكان في أواخر سنة خمس وثمانين الهجرية أو في أوائل سنة ست وثمانين الهجرية وعندما توافدت الجيوش، قام موسى بن نصير خطيباً، فكان مما قاله: وإنما أنا رجل كأحدكم، فمن رأى مني حسنة، فليحمد الله، وليحض على مثلها، ومن رأى مني سيئة، فلينكرها، فإني أخطئ كما تخطئون، ,أصيب كما تصيبون، وقد أمر الأمير أكرمه الله لكم بعطاياكم وتضعيفها ثلاثاً، فخذوها هنيئاً مريئاً، من كانت له حاجة فليرفعها إلينا، وله عندنا قضاؤها على ماعز وهان مع المواساة إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله(2)، وهكذا أنجز موسى قبل أن يدخل إفريقية حشد جيشه وأكمل استحضاراته الإدارية وساوى نفسه برجاله، وسار موسى متوجهاً إلى الغرب وكان الأمن غير مستتب، فلما وصل إفريقية برز موسى بن نصير قائداً منتصراً في فتح المغرب ويرجع ذلك إلى السياسة التي اتبعها مع الأهالي وهي سياسة التعاون والاندماج الكلي مع البربر(3)، فحين كان يقدم على موسى وفود القبائل ليعلنوا ولاءهم كان يولي عليهم رجلاً منهم ويأخذ رهائن من خيارهم لضمان هذا الولاء، كما فعل مع وفد كتامة(4)ومع وفد مصمودة وغيرهم(5)، ولكن ما أن يعتنق البربر الإسلام، كان موسى يقر زعمائهم في الرئاسة مقابل مساهمة كل قبيلة بعدد كان من المقاتلين للانضمام للمقاتلة
__________
(1) الولاة والقضاة صـ52 ، 53 ، العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ296 .
(2) مصر في العصر الأموي صـ155 ، 156 .
(3) البيان المغرب (1/42) .
(4) الإسلام والتعريب (1/172)
(5) البيان المغرب (1/42) .(3/136)
العرب. وأعطت سياسة التفاهم هذه ثمارها، فقد استطاع موسى أن يجند أعداداً كبيرة من قبائل البربر مثل كتامة وهوارة وزناتة ومصمودة(1)، وألحق موسى بن نصير هؤلاء المقاتلة من البربر مع جراوة الذين كانوا قد جندوا في عهد حسان، ووضعهم جميعاً في حامية طنجة تحت قيادة طارق بن زياد الذي وليها سنة 90 هـ من قبل موسى بن نصير(2)، ومن الوسائل التي استخدمها موسى في تأليف القلوب وضبط الأمور، وتقوية الدولة الإسلامية:
1 ـ عتق بعض السبايا:كان موسى بن نصير يعتق بعض سباياهم ويتولاهم في نطاق خطته لتشجيع البربر على الدخول في الإسلام، فكان يشتري من السبايا من كان في ظنه أن يقبل الإسلام.
2 ـ تطبيق مبدأ المساواة:في النفل بين البربر المسلمين والعرب الذين أبلوا بلاء حسناً وذلك تشجيعاً وتقديراً لبلائهم وبهذا التصرف تمكن موسى من جلب أعداد كبيرة إلى الإسلام وإشراكهم في الجيش الإسلامي(3).
3 ـ التنظيم الإداري: ويبدو أن موسى بن نصير حين دخل إفريقية وجدها في حاجة ماسة إلى إدارة مستقرة، فقد انفردت كل قبيلة بربرية بناحيتها واستبدت بها دون أن تخضع لولاة أو عمال، فأخذ موسى يعمل على إخضاع كل المغرب إلى الحكم الإسلامي فبدأ ينقل البيزنطيين من المدن الساحلية والنواحي الداخلية وأسكنهم قرب مراكز الحكم الإسلامي مما يتيح للمسلمين مراقبتهم ودعوتهم وتعليمهم.
4 ـ تكوين القوة البحرية: أنشأ حسان بن النعمان دار صناعة السفن بتونس ثم استكملها بعده موسى بن نصير وعبيد الله بن الحباب، ويذكر أنه صنع بها مراكب مما مكنه من غزو صقلية.
5 ـ سك النقود: ويبدو أنه بادر بسك النقود بإفريقية، إذ يرى حسن حسني عبد الوهاب أن أول أمير سك النقود بإفريقية، هو موسى بن نصير سنة 95هـ(4).
__________
(1) المصدر نفسه (1/42) .
(2) المصدر نفسه (1/42) .
(3) الإسلام والتعريب (1/174) .
(4) المصدر نفسه (1/176) .(3/137)
... وتتلخص أعمال موسى بن نصير في حرصه على نشر الإسلام بين البربر ولهذا كان يختار عمالاً يحسنون السيرة في أهالي المناطق المفتوحة(1)، واختار فئة من أصحابه لتعليم البربر حديثي الإسلام، القرآن ومبادئ الإسلام. فقد أمر العرب أن يعلموا البربر القرآن وأن يفقهوهم في الدين(2)، وذكر ابن عذارى أن موسى ترك سبعين رجلاً من العرب في طنجة يعلمون البربر القرآن وشرائع الإسلام. وهذه السياسة هي استمرار لسياسة عقبة بن نافع وحسان بن النعمان(3). وهذا أدى إلى انتشار الإسلام في المغرب الأقصى(4). واستطاع موسى بن نصير بعد حملات جهادية منظمة السيطرة على جميع شمال إفريقية من برقة إلى المحيط الأطلسي وأصبح سيد إفريقية بدون منازع، وكان أولاده من ضمن قادته في فتوحاته الكبرى وكانت له حملات بحرية على جزر البحر الأبيض المتوسط ومن أشهر تلك الحملات ما سمي بحملة الأشراف بسبب اشتراك أشراف الناس فيها وكانت وجهتها جزيرة صقلية حيث بلغ عدد مقاتليها بين التسعمائة والألف وكانت بقيادة ابنه عبد الله الذي حقق نصراً حاسماً حتى غنم المسلمون غنائم كثيرة بلغ فيها سهم المقاتل مائة دينار ذهب(5). هذا ولم تقتصر حملات موسى بن نصير البحرية على مقاتلة إفريقية بل شملت دعم الحملات البحرية في ولاية مصر(6)، هذا وقد توجت هذه الانتصارات البحرية الرائعة التي حققها الأسطول الإسلامي بفتح بلاد الأندلس الذي خطط له موسى بن نصير ونفذه طارق بن زياد وتم بشكل نهائي بتوفيق الله ثم جهود هذين القائدين العظيمين(7).
* ـ ... فتح الأندلس وجهود طارق بن زياد:
__________
(1) فتوح مصر وأخبارها صـ205 .
(2) البيان المغرب (1/42) .
(3) المصدر نفسه (1/42) .
(4) الإسلام والتعريب (1/177) .
(5) مصر في العصر الأموي صـ161 .
(6) المصدر نفسه صـ161 .
(7) المصدر نفسه ص 162 .(3/138)
... كان الفتح الإسلامي لشبه الجزيرة الايبيريَّة (أسبانيا والبرتغال) أمراً طبيعياً حسب الخطة التي اتبعها المسلمون أثناء فتوحاتهم، وهي تأمين حدودهم ونشر دعوتهم وذلك بالمضي في جهادهم إلى ما وراء تلك الحدود، لنشر العقيدة الإسلامية التي تقتضي أن يستمر المدُّ الإسلامي ما دامت فيه القوة على الاستمرار، وبعد أن أرسى موسى بن نصير، ومن معه، كلمة الإسلام بجهودهم في المغرب الكبير، كانت الخطوة التالية الطبيعية هي فتح الأندلس وقد عمل موسى على إكمال جهود من سبقه من الجند الدعاة ـ قادة وجيشاً ـ في ترسيخ قدم الإسلام في الشمال الإفريقي، فقد عمل على تثبيت الإسلام في قلوب الناس ونشط في تعليمهم وتربيتهم على مبادئ الدين الحنيف، وآتت جهوده الدعوية ثمارها الزكية فقد أصبح البربر في تلك الديار من أخلص الناس للإسلام والدعوة إليه والجهاد في سبيل نشر تعاليمه، ولقد كانت أكثرية جيش طارق إلى الجزيرة الايبيريَّة من المسلمين البربر، الذين تحمسوا لدعوة الإسلام، حباً لها وتضحية من أجلها، لا طمعاً في مغنم أو حرصاً على جاه، فهذا هو هدف جميع الفتوحات الإسلامية التي يكفي الاطَّلاع عليها ومعرفة طبيعتها لرفض الإدعاءات وإسقاط المفتريات المزوّرة، التي تشير ـ تلميحاً أو تصريحاً ـ إلى إعتبار الغنائم سبب هذا الفتح، وهو أمر عاري من الحجج والبراهين والأدلة، وإنما هي أوهام لا تحمل أي رائحة من الطابع العلمي أو السند التاريخي(1).
__________
(1) التاريخ الأندلسي صـ 43 ، 44 .(3/139)
1 ـ فكرة الفتح: يمكن القول بأن فكرة فتح الجزيرة الايبيريَّة هي فكرة إسلامية تماماً. بل يُروى بأنها فكرة قديمة تمتد إلى أيام الخليفة الراشد عثمان بن عفان، فقد كان عقبة بن نافع الفهري يفكر في إجتياز المضيق إلى أسبانيا لو استطاع وسبق للمسلمين نشاط على شواطئ أسبانيا الشرقية وبعض الجزر القريبة منها، وهي مَيورْقة ومَنورقة، واليابسة، يذكر الذهبي أنه في سنة 89هـ: جهز موسى بن نصير ولده عبد الله، فافتتح جزيرتي مَيورْقة ومَنورقة(1)، أما الإتصال بيُليان حاكم مدينة سبتة أو بغيره من الأسبان فإنها جاءت مواتية على ما يبدو وفي الوقت الذي كان موسى بن نصير يفكر في تنفيذ فكرة الفتح ولكن كيف تم الاتصال بالجانب الأسباني ((يُليْان وأنصار الملك المخلوع وغيرهم،؟ اختلفت الأقوال فيما إذا تم الأمر بالمراسلة أو باللقاء الشخصي وأين؟ إذا كان هذا الاتصال أصلاً قد تمّ وبهذا المستوى على كل حال فإن اتصالات الجانب الأسباني بموسى ومساعداتهم ـ أثناء عمليات الفتح ـ ربما كانت عاملاً مساعداً سهّل سير الفتح أو عجّل به. لكن المبادأة ومردّ العمليات وإنجازها كانت من الجانب الإسلامي الذي اندفع مع الفتح بقوة فائقة معتمداً على الله في تحقيق ما يصبوا إليه من هداية الناس وقد استشار موسى الوليد بن عبد الملك (86 ـ 96هـ) قبل اتصالاته بليُليان، أو اتصال هذا الأخير بموسى. وقد ترددت الخلافة ـ بادي الأمر ـ بالقيام بمثل هذا العمل الكبير، خوفاً على المسلمين من المخاطرة في مفاوز أو إيقاعهم في مهالك، ولكن موسى أقنع الخليفة بالأمر، ثم تمّ الاتفاق على أن يَسبق الفتح اختبار المكان بالسرايا أو الحملات الاستطلاعية(2).
2 ـ الحملة الاستطلاعية ، أو حملة طريف:
__________
(1) العبر في خبر من غبر (1/304) نقلاً عن التاريخ الأدنلسي صـ45 .
(2) التاريخ الأندلسي صـ45 .(3/140)
... نفذ موسى أوامر الوليد بأن جهز حملة استطلاعية مؤلفة من خمسمائة جندي منهم مائة فارس بقيادة طريف بن مالك الملقب بأبي زُرعة وهو مسلم من البربر وجاز هذا الجيش الزُّقاق ـ اسم يطلق أحياناً على المضيق(1) ـ من سبتة بسفن يُليْان أو غيره، ونزل قرب أو في جزيرة بالوما في الجانب الأسباني وعرفت هذه الجزيرة فيما بعد باسم هذا القائد: جزيرة طريف(2)، وكان إبحار هذه الحملة من سبتة في رمضان عام 91هـ )تموز 710م) وقد جال طريف في المدينة والنواحي المحيطة بها واستطلع أخبار العدو في تلك الجهات(3)، وعادت حملة طريف بالأخبار المطمئنة والمشجعة على الاستمرار في عملية الفتح(4)،، فقد درس أحوال المنطقة وتعرّف على مواقعها وأرسل جماعات إلى عدة أماكن ـ منها جبل طارق ـ لهذا الغرض فكانت هذه المعلومات عوناً في وضع خُطة الفتح ونزول طارق بجيشه على الجبل(5).
3 ـ العبور:
__________
(1) المصدر نفسه صـ45 نقل عن ابن خلدون .
(2) التاريخ الأندلسي صـ46 .
(3) الفن العسكري الإسلامي ، د.ياسين سويد صـ334 ، 335 .
(4) التاريخ الأندلسي صـ46 .
(5) المصدر نفسه صـ46 .(3/141)
... لما رأى موسى بن نصير ما حققته حملة طريف، وصحّ عنده ما نقل إليه من أحوال الأندلس، بعث طارق بن زياد في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم من البربر والموالي وأقلهم من العرب ولما احتاج طارق إلى أعداد في فترة تالية أمدّه موسى بخمسة آلاف فتمّ جيش طارق من السفن لنقل الجنود إلى بر الأندلس وقد حرص القائمون على الحملة لاستكمال عملية نزول الجند أن يُعموُا أخبار الحملة على الناس، لذلك أحضر يوليان السفن إلى سبتة ليلاً وأخذت تنقل الجنود تباعاً، ويبدو أن عملية إبحار الجند اقتضت أكثر من ليلة، فقيل أن الجند الذين نزلوا بر الأندلس كانوا يكمنون في النهار حتى لا يشعر بهم أحد، وكانت السفن تختلف بين سبتة والأندلس وأهل الأندلس لا يظنون إلا أنها تختلف بمثل ما كانت السفن تختلف به من المنافع والمتاجر، ولما علم أهل الأندلس بالحملة كانت عملية الإبحار قد تمت بسلام في رجب من عام اثنين وتسعين للهجرة، ونزل طارق، بالجند عند جبل كالبي، وهو الجبل الذي أخذ اسم طارق وصار يعرف بجبل طارق، وقيل لما ملك رئيس الموحدين عبد المؤمن الأندلس وعبر جبل طارق أمر ببناء مدينة على الجبل وسماه جبل الفتح ولكن الاسم لم يثبت له وظل اسم جبل طارق جارياً على الألسنة(1)، وسار طارق بالجيش نحو الجزيرة الخضراء ففتحها، وكان لذريق في شمال الأندلس مشغولاً في محاربة البشكنس، وقيل في محاربة الفرنسيين، فأرسل خليفته تدمير يُعْلِمُه بالهجوم الإسلامي، فعاد لذريق مسرعاً لصده، وفي طريقه لقتال المسلمين عرّج على العاصمة طليطلة دون أن يدخلها وصالح أسرة غيطشة ودعاهم والقوط المخالفين له إلى الانضمام إليه في حرب العدو المشترك فساروا معه، وقيل أن لذريق عهد بقيادة ميمنة جيشه وميسرته إلى ابني غيطشة(2)، وعلم طارق بالحشود التي حشدها لذريق لمجابهته فكتب إلى موسى ينبئه
__________
(1) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ299 .
(2) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ300 .(3/142)
بضخامتها ويطلب منه مدداً، فأمدّه موسى بخمسة آلاف مقاتل(1)، ويصف المقري، نقلاً عن بعض المؤرخين جند طارق لقد أقبلوا وعليهم ((الزرد)) وفوق رؤوسهم ((العمائم البيض)) وبأيديهم ((القسي العربية)) وقد تقلدوا السيوف وحملوا الرماح فلما رآهم لذريق دخله منهم الرعب(2)، وذكر ابن الأثير: أن طارقاً لما ركب البحر غلبته عينه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ـ في نومه ـ ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلّدوا السيوف وتنكّبوا القسّي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا طارق تقدم لشأنك، وأمره بالرفق بالمسلمين، والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه قد دخلوا الأندلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر(3).
4 ـ معركة وادي لكّة أو العبور إلى الأندلس:
__________
(1) المصدر نفسه صـ300 .
(2) نضح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/226 ، 227) .
(3) الكامل في التاريخ (3/209) .(3/143)
... لم يعد بين طارق وخصمه لذريق سوى عاملي الزمن، والأرض وأصبح من الواضح أن طارقاً أكثر حرية من خصمة بعد سقوط ولاية ((الجزيرة الخضراء)) بيده وهزيمة قائد القوط ((بنج)) وهلاك فرقته بكاملها على يدي جيش طارق، وأصبح قادراً على اختيار المكان المناسب للقتال، فقد كان اختيار ميدان القتال من قبله من أهم عناصر نجاحه في هذه المعركة(1)، إذ كان قد أسند ميمنة جيشه إلى بحيرة خاندا شرقاً، الممتدة عدة كيلومترات والتي يصب فيها نهر البرباط الذي بمر بوادي البرباط وأسند ميسرته إلى الوادي المذكور غرباً، كما اسند مؤخرة هذا الجيش إلى جبال ((رتينا)) العالية جنوباً، منتظراً أن يأتيه العدو من الشمال بعد أن وضعه في موضع الاضطرار لا الاختيار(2)، وما أن استكمل لذريق عدة الجيش وعديدة حتى تحرك جنوباً لمواجهة طارق وجيشه في المكان الذي اختاره هذا الأخير، فوصله في الأيام الأخيرة من شهر رمضان عام 92هـ وعسكر بجيشه على الجهة الشمالية للوادي(3)، والتقى الجيشان على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة 92هـ واتصلت الحرب بين الجانبين ثمانية أيام استشهد فيها ثلاثة آلاف من المسلمين ولكن الهزيمة دارت على لذريق وجيشه، وقيل أن لذريق غرق وقتل كثير من جيشه، ومما يروي عن ابناء غيطشة أنهم خذلوا لذريق وتركوهم وأنصارهم مواقفهم أمام المسلمين ظناً منهم أن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنائم عادوا إلى بلادهم فبقي الملك لهم(4)، ولعل خذلان آل غيطشة وأنصارهم لذريق كان بدافع الانتقام منه(5)، ولا شك أن هذا الفتح مثل غيره يعود إلى قوة المسلمين بتمكن العقيدة وتغلغل معانيها في نفوسهم وحرصهم على الشهادة في سبيلها(6).
__________
(1) الفن العسكري الإسلامي صـ339 .
(2) الفن العسكري الإسلامي صـ339 .
(3) المصدر نفسه صـ341 .
(4) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ300 .
(5) المصدر نفسه صـ301 .
(6) التاريخ الأندلسي صـ55 .(3/144)
... وبعد هذا النصر العظيم تعقب طارق فلول الجيش القوطي التي لاذت بالفرار. وسار الجيش الإسلامي فاتحاً لبقية مناطق الجزيرة الإيبيريّة(1).
5 ـ الدروس المستخلصة من معركة وادي لكّة:
أ ـ أسلوب ((الحذر واليقظة)) تجاه الحلفاء: لم يكتف موسى بن نصير بقول يليان ووعده بالعون والمساعدة في فتح الأندلس بل كلفه مهمة استطلاعية في تلك البلاد ليختبر صدقه ووفاءه بعهده، وقد كان يليان صادقاً بما قال ووفياً لما تعهد به، كما كان موسى حذراً ويقظاً ونبهاً.
ب ـ أسلوب الاستطلاع قبل الانزال: أراد موسى أن يستطلع البيئة التي سوف يقتحمها والعدو الذي سوف يقاتله والبقعة التي سوف يتم النزول فيها، وذلك قبل أن يدفع بجيشه في مغامرة مجهولة النتائج، فأرسل حملة استطلاعية بقيادة طريف بن مالك وما أن عادت تلك الحملة بالمعلومات الوافية عن البيئة والعدو وبقعة النزول حتى اطمأن إلى سلامة قراره فكتب إلى الخليفة يستأذنه بالفتح(2)
__________
(1) المصدر نفسه صـ57 .
(2) الفن العسكري الإسلامي صـ 349 .(3/145)
ج ـ الأسلوب المتكرر في الاختبار والحيطة: رغم ما سبق من اختبار سواء بواسطة الحملة التي قام بها يليان أو حملة طريف، فقد أبى الخليفة إلا أن يكرر الاختبار فقال لموسى: خضها بالسرايا حتى ترى وتختبر شأنها، ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال(1). ولما لفت موسى نظر الخليفة إلى سهولة عملية الإبحار والإنزال أصر الخليفة قائلاً: وإن كان، فلابد من اختباره بالسرايا قبل اقتحامه(2). وذلك يدل على مدى حرص الخليفة على التأكد من نجاح العملية وسلامتها وتأمين الفوز للمسلمين بدل أن يغرر بهم في بحر شديد الأهوال. وهذا الأسلوب المتكرر في الاختبار والحيطة قبل الإنزال والاقتحام سهّل عملية الفتح إلى حد كبير وأعان المسلمين في مواجهتهم الحاسمة للعدو، إذ أمّن لهم عملية (( المباغتة)) لعدو لم يكن ينتظر مثل هذه المفاجأة أبداً(3).
خ ـ أسلوب المباغتة: إن الأسلوب الذي اتبعه طارق في إيصال المسلمين إلى ساحل الأندلسي منفذاً تعليمات الخليفة، كان أسلوباً بارعاً إلى حد كبير، فهو لم يبحر بالمسلمين دفعة واحدة بل أبحر بهم على دفعات متتالية وفي مراكب تجارية، وما أن التأم شمل المسلمين في تلك البلاد، حتى فوجئوا بالهزيمة الساحقة التي لحقت بهم على يد هؤلاء المسلمين ومقتل أحد أهم قادتهم ((بنج)) ابن أخت مليكهم لذريق، فانتزع المسلمون، بهذه المباغتة وهذا الانتصار، المبادرة من يد أعدائهم وأسقط في يد القوط، وأصبحت هزيمتهم على يد المسلمين قدراً محتوماً(4).
__________
(1) نفح الطيب (1/253) .
(2) البيان المغرب (2/5) التاريخ الأندلسي صـ46 .
(3) الفن العسكري الإسلامي صـ350 .
(4) الفن العسكري الإسلامي صـ350 .(3/146)
س ـ تنفيذ أسلوب (( رأس الجسر)): نفذ طارق، فور وصول جيشه إلى الساحل الأندلسي، أسلوب (( رأس الجسر)) وهو أسلوب يعمل به في الحروب الحديثة، فأقام على الساحل قاعدة حصينة سوّرها وحماها وانطلق منها في فتوحاته، تماماً كما يفعل أي جيش في أيامنا هذه(1).
ش ـ اختيار ميدان القتال: لقد أحسن طارق اختيار ميدان القتال وفرض على العدو أن يجابهه من جهة واحدة هي جبهة الشمال، ووضعه في موضع الاضطرار الاختيار.
ص ـ المبادرة بالقتال: كان طارق في هذه المعركة هو البادئ بالقتال بل بادر إلى اجتياز النهر لملاقاة عدوه، فناوشه ثلاثة أيام ثم شن عليه بعد ذلك هجوماً عاماً انتهى بهزيمته.
ر ـ صدق المسلمين ووفاؤهم بالعهود: كان المسلمون صادقين ووفوا بعهودهم تجاه يليان وأبناء غيطشة فأعادوا لهؤلاء ضياع أبيهم واحترموا تعهداتهم ليليان وأنصاره، وكانت نتيجة ذلك أن أعتقت سلالة كل من يليان وأبناء غيطشة الإسلام، فكان فيها من حسن إسلامه مثل أيوب ( توفي سنة226 هـ) وسليمان( توفي سنة 379 هـ) وأحمد(( توفي سنة 388 هـ)) من سلالة يليان، ومثل أبي بكر محمد بن عمر المعروف بابن القوطية صاحب كتاب تاريخ افتتاح الأندلس وهو من سلالة سارة بنت المنذر بن غيطشة آخر ملوك القوط(2).
__________
(1) المصدر نفسه صـ350 .
(2) الفن العسكري الإسلامي صـ352 .(3/147)
ك ـ استثمار النصر: طبق طارق بالبداهة، مبدأ من أهم المبادئ العسكرية الحديثة وهو استثمار النصر، إذ أنه ما أن هزم لذريق في وادي لكّة حتى لاحق فلول جيشه دون أن يترك لهذا الجيش مجالاً للتجمع وإعادة التنظيم من جديد، وكان طارق قد وضع لنفسه هدفاً أساسياً هو احتلال طليطلة عاصمة العدو، إذ أنه يعرف ولا شك، أنه باحتلاله لعاصمة المملكة، تفقد هذه المملكة مركزيّتها، ويفقد الملك قاعدة ملكه وحكمه، ولكن طارقاً مع ذلك، لم ينس أن يرسل جيشه في حملات إلى مختلف أنحاء البلاد لكي يحتل المواقع الاستراتيجية فيها فيفقد القوط كل أمل بمتابعة القتال والنصر، فأرسل إحداها إلى داخل البلاد شمالاً نحو قرطبة، وكانت قصبة هامة في الأندلس، وأرسل أخرى شرقاً، على الساحل الجنوبي للبلاد، نحو ملقة، وأرسل ثالثة إلى داخل البلاد شمالاً بشرق، نحو غرناطة وكانت تشكل موقعاً استراتيجياً هاماً في البلاد، ثم توجه بنفسه شمالاً إلى العاصمة طليطلة واستولى عليها، فظل الحكم القوطي، من جراء ذلك، شديداً طريداً في أنحاء الأندلس إلى أن سقط(1).
6 ـ الخطبة المنسوبة إلى طارق وحرق السفن:
__________
(1) المصدر نفسه صـ352 .(3/148)
يعتقد كثير من المؤرخين أن طارقاً أحرق سفنه، بعد أن أنزل جيشه على الساحل الأندلسي، ثم خطب بجنده الخطبة الشهيرة، أيها الناس، أين المفر البحر ورائكم، والعدو أمامك وليس لكم والله إلا الصدق والصبر...، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوِّكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رُعْبها... وجاء في الخطبة:,, وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الحور الحسان، من بنات اليونان، الرافلات بالدّر والمرجان والحُلل المنسوجة بالعقبان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عُربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمُجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله إلى إعلاء كلمته،.. الخ الخطبة(1)، وبالإمكان إيراد الملاحظات التالية حول الخطبة:
أ ـ لم تكن الخطبة وما فيها من السجع من أسلوب ذلك العصر القرن الأول الهجري، وغير متوقع لقائد جيش أن يعتني بهذا النوع من الصياغة.
__________
(1) وفيات الأعيان (5/321 ، 322) .(3/149)
ب ـ إن المعاني التي تناولتها الخطبة لا تتلاءم وروح الإسلام العالية، التي توفرت لدى الفاتحين، ومقدار حبهم للإسلام وإعلاء كلمته، ورغبتهم في الاستشهاد من أجل ذلك،، فهي لا تشيد بدوافع الفتح وأهدافه ـ وهي معروفة مألوفة ـ التي أنبتتها ورعتها العقيدة الإسلامية، عاملة على ابتغاء مرضات الله تعالى وحده، لتعلو راية الإسلام وتسود شريعته ويكون الدين كله لله، ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (الأنفال ، الآية : 39).
ت ـ يلاحظ في الخطبة عديد من الأخطاء ويلاحظ فيها التناقض في المعاني، وبعض ما فيها مخالف لحقائق تاريخية، كاستعمال ((اليونان)) التي ربما جاء ذكرها للسجع فالمؤرخون الأندلسيون اعتادوا أن يستعملوا في هذه المناسبة القوط أو الروم(1)، وكذلك العلوج والعجم أو المشركين والكفار(2)، وليس لدينا نص يحتوي مثل هذا الاستعمال، غير أن ابن خلكان ـ وهو مشرقي ـ أورد هذا الاستعمال في غير الخطبة(3) ثم. ((وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين..)) فالذي انتخبهم موسى بن نصير وليس الوليد(4).
ج ـ كان المتوقع أن تحتوي الخطبة على آيات من القرآن الكريم وأحاديث الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم، أو وصايا وأحداث ومعاني إسلامية أخرى تناسب المقام كالمعهود(5). وغير ذلك من الملاحظات.
... وكل ما تقدم لا يمنع أن يكون طارق جيد الكلام، وأنه خطب جنده يحُّثهم على الجهاد(6)، ويروي المَقَّري أبياتاً قالها طارقاً بهذه المناسبة:
... ... ... ركبنا سَفينا بالمجاز مُقَيَّرا
__________
(1) نفح الطيب (1/264) التاريخ الأندلسي صـ60 .
(2) نفح الطيب (1/259 ، 261 ، 263 ، 270) .
(3) التاريخ الأندلسي صـ60 وفيات الأعيان (5/223) .
(4) المصدر نفسه صـ60 .
(5) التاريخ الأندلسي صـ61 .
(6) المصدر نفسه صـ61 .(3/150)
... ... ... ... ... ... عسى أن يكون الله منا قد اشترى
... ... ... نفوساً وأمولاً وأهلاً بجنَّة
... ... ... ... ... ... إذا ما اشتهينا الشيء منها تيسَّرا
... ... ... ولسنا نُبالي كيف سالت نفوسنا
... ... ... ... ... ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجْدرا(1)
وقال ابن بشكوال: إن طارقاً كان حسن الكلام ينظم ما يجوز كتبه(2). ووجهة هذه الأبيات تغاير وجهة الخطبة، فهي منسجمة والمعاني الإسلامية ومستمدة من قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) (التوبة ، الآية : 111) .
وأما موضوع حرق طارق للسفن التي عبر بها المضيق، كي يقطع على الجيش الإسلامي كل أمل في العودة، فيستميت في الدفاع؟ ذكر بعض المؤرخين ذلك؟
__________
(1) المصدر نفسه صـ61 .
(2) نفح الطيب (1/231) التاريخ الأندلسي صـ61 .(3/151)
لكن لماذا يحرق طارق السفن، سواء امتلكها المسلمون أم يُلْيان؟ وكان طارق وجيشه يقاتلون من أجل عقيدة وإنهم في ساعة عبورهم جاؤوا مجاهدين مستعدين للشهادة، وطارق متأكد من هذه المعاني، فإذا كانت السفن ليُليان فليس من حق طارق التصرف بها، وإن كانت للمسلمين فليس حرقها عملاً عسكرياً سليماً أو مناسباً، ما دام يحتاج إليها وإلى النجدة والاتصال الدائم بالمغرب لأي غرض، وقد رأينا كيف احتاج إلى النجدة قبل خوض هذه المعركة واحتاجها فيما بعد(1)، كما أن طارقاً كان قادراً على إعادتها إلى الساحل الأفريقي إن الدوافع الإسلامية والهدف الذي جاء الجيش من أجله أقوى في الاندفاع من أي سبب آخر، وما كان المسلمون يتخلفون عن خوض معركة أو تقديم أنفسهم لإعلاء كلمة الله، بل لذلك أتوا، والمصادر الأندلسية ـ لاسيما الأولى ـ لا تشير إلى قصة حرق السفن التي لا تخلو من علاقة وارتباط بقصة الخطبة(2).
7 ـ عبور موسى بن نصير إلى الأندلس:
__________
(1) التاريخ الأندلسي صـ62 .
(2) المصدر نفسه صـ62 .(3/152)
... كان موسى بن نصير من التابعين ـ رحمهم الله تعالى ـ وقد روى تميم الداري رضي الله عنه، وكان عالماً كريماً شجاعاً ورعاً تقياً لله تعالى(1)، وكان من رجال العلم حزماً ورأياً وهمّة ونبلاً وشجاعة وإقداماً(2)، وكان حين وجّه طارقاً لفتح الأندلس كان يتلقى الأخبار ويراقب الأحداث، منذ بدايتها، ويُهيء المتطلبات لإنجاز هذا الفتح الكبير، بهمة المؤمن وإخلاص التقي، ويدعو الله أن ينزل نصره على المسلمين(3). وكان موسى بن نصير يعتقد اعتقاداً كبيراً في أهمية الدعاء والتضرع لتحقيق النصر على الأعداء ويعتبر الدعاء من أسباب النصر التي أرشد إليها القرآن الكريم ومارسها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول ابن الكردبوس: وكان موسى بن نصير حين أنفذ طارقاً مُكبَّاً على الدعاء والبكاء والتضرع لله تعالى، والابتهال إليه في أن ينصر جيش المسلمين، وما عُلم أنه هزم له جيش قط(4)، وكان طارق بن زياد على صلة بقائده موسى بن نصير، يفتح الفتوحات باسمه وبتعليماته، ويخبره عن كل شيء أولاً بأول منذ بداية الفتح، ويستشيره فيما يحتاج إليه وقد رأينا كيف طلب المدد قبل معركة وادي لكّة وكان موسى على علم تام بأحوال الفتوح وبعد سنة تقريباً من عبور طارق، وتفرق جيشه وتوزيعه على المناطق والمدن التي فتحت ـ خاف طارق أن يُغلب وأن يُستغل القوط قلة جيشه، فأرسل إلى موسى يستنجده واستخلف موسى على القيروان ولده عبد الله.. ونهض من القيروان سنة ثلاث وتسعين من الهجرة في عسكر ضخم(5)، وتحرك موسى بجيشه نحو شذونة فكانت أول فتوحاته ثم توجه إلى مدينة قرمونة وليس بالأندلس أحصن منها، ولا أبعد على من يرومها بحصار أو قتال فدخلها بحيلة توجهت بأصحاب يُلْيان، دخلوا إليهم كأنهم فُلاّل
__________
(1) وفيات الأعيان (5/318 ـ 319) .
(2) العبر في خبر من غبر للذهبي (1/116) .
(3) التاريخ الأندلسي صـ67 .
(4) التاريخ الأندلسي صـ68 .
(5) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس صـ68 .(3/153)
وطرقهم موسى بخيله ليلاً ففتحوا لهم الباب، وأوقعوا بالأحراس، فملكت المدينة(1) فافتتحها. وتوجه بعد ذلك: إلى أشبيلية جارتها فحاصرها وهي أعظم مدائن الأندلس... فامتنعت شهراً على موسى ثم فتحها الله عليه،.. ثم سار إلى مدينة ماردة وفتح في طريقه إليها لَبْلَة وباجة ثم فتح ماردة صلحاً بعد قتال وجهاد عظيم(2)، وأقام موسى في ماردة زيادة على شهر يرتب أحوالها وينظم أمورها ويريح الجند من العناء ويستعد لاستئناف السير(3)، ووجه موسى ابنه عبد العزيز من ماردة إلى أشبيلية، وكانت فلول القوط من لبلة وباجة قد اجتمعت فيها وقتلوا العديد من المسلمين، منتهزين فرصة انشغال موسى بحصار ماردة وبلغه الخبر خلال الحصار، فأعاد عبد العزيز فتح أشبيلية ثم فتح لبلة وباجة(4)، وأصبحت المدن والقرى تتساقط أمام جيوش الفاتحين كتساقط الأوراق من على الأشجار في فصل الخريف.
8 ـ لقاء موسى وطارق:
__________
(1) نفح الطيب (1/231) التاريخ الأندلسي صـ74 .
(2) التاريخ الأندلسي صـ74 إلى 76 .
(3) المصدر نفسه صـ78 .
(4) المصدر نفسه صـ78 .(3/154)
... في بداية ذي القعدة سنة 94هـ ابتدأ موسى بالسير صوب طليطلة ـ وكتب إلى طارق بالتوجه إليه في مجموعة من جيشه ثم جاءه طارق. ذكر البعض أن لقاءهما كان عند طليطلة أو قرطبة، ورجح الدكتور الحجي العالم البارز في تاريخ الأندلس: بأن اللقاء كان خارج مدينة طلبيرة التي تبعد 150كم غرب طليطلة(1)، ووصل موسى وطارق إلى طليطلة ذو القعدة ـ ذي الحجة أو آخر سنة 94هـ وأقاما بالجيش الإسلامي فصل الشتاء أو جله في طليطلة يرتبون أحولها وينظمون شئونها، ويستريحون ويتهيأون ويخططون لفتح شمال شبه الجزيرة الأيبيريَّة، وكتب موسى والقادة الآخرون إلى الخليفة الوليد ـ وربما ليس لأول مرة ـ أخبار الفتح، وضربت العملة الإسلامية لأول مرة في الأندلس وقام بالدعوة إلى الله وتعليم الناس حقائق الإسلام وشرحه لهم ودعوتهم إليه بعد أن رآه أهل البلاد عملياً في خلق الفاتحين. ولعلهم أرسلوا فرقاً إلى بعض المناطق، فقد كان طارق خبر أحوال طليطلة لاسيما شمالها، إذ كان قد وصل إلى المدينة المائدة (في منطقة وادي الحجارة)(2).
__________
(1) التاريخ الأندلسي صـ83 .
(2) المصدر نفسه صـ85 .(3/155)
... وأما ما تحدثت عنه المصادر عن قصة الخلاف الذي قيل إنه حدث بين القائدين الكبيرين موسى وطارق، وتبالغ هذه المصادر فترجع أمر هذا الخلاف إلى حسد دب في نفس موسى على مولاه طارق وعلى ما حققه من نجاح، وتنسب إلى موسى أنه أهان طارقاً بأن وضع السوط على رأسه(1)، فهذه روايات ناقشها عدد من الباحثين وأبانوا ضعفها وسقوطها وتفاهتها، كمحمود شيت خطاب(2)، وعبد الله عنان(3)، ود. عبد الرحمن الحجي(4)، ود. محمد بطاينة(5)، ود. عبد الشافي محمد عبد اللطيف(6)، وغيرهم وإن كان حدث شيء فلا يعدو أن يكون مناقشة القضايا أو استفهامه من طارق خطته وإبداء الملاحظات عنها، تخوفاً من الأذى، وعندما استفسر موسى من طارق عن سبب الايغال والتقحم في بلاد العدو، اعتذر إليه طارق بخطته العسكرية أمام الظروف المحيطة والضرورة الداعية لأسلوبه، وقبل موسى عذره. وسارا بعده ـ سوية إخوة مجاهدين، ينشرون دين الله ويُعلون كلمته ويبلغون للناس شريعته(7)، كما لا ننسى أن طارق جندي من جنود موسى والانتصارات التي حققها طارق إنجازات تكتب في صفحة موسى القيادية(8).
__________
(1) البيان المغرب (2/16) ، العالم الإسلامي صـ316 .
(2) قادة فتح المغرب (1/251 ـ 255) .
(3) تاريخ المسلمين وآثارهم في الأندلس صـ91 ـ 92 .
(4) التاريخ الأندلسي صـ90 .
(5) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ303 .
(6) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ316 .
(7) التاريخ الأندلسي صـ90 .
(8) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ303 .(3/156)
... وعند انتهاء الشتاء وحلول الربيع سنة 95هـ تهيأ الجيش الإسلامي لترك طليطلة ثم أوغل شمالاً ففتح مدن لاردة ووشقة وطركونة وبرشلونة، كما فتح بلنسية وطرطوشة على الساحل الشرقي للأندلس وفي هذا الوقت وصل مغيت الرومي مبعُوثاً من جانب الخليفة الوليد عبد الملك يحمل إلى موسى بن نصير أمر الخليفة بالقدوم إلى دمشق، ولكن فتح الأندلس لم يكن قد اكتمل بعد، لذلك لاطف موسى مغيثاً وسأله إنظاره إلى أن ينفذ عزمه في دخول بلاد جليقية واشتوريس ويكمل فتح الأندلس ويكون مغيث شريكه في الأجر والغنيمة ـ أي يصبح له سهماً في القيمة ـ ففعل مغيث ومشى في ركاب موسى إلى جليقية والأشتوريس ففتحها وتعقب موسى وطارق فلولا القوط حتى اضطرّ هؤلاء إلى الفرار إلى جبال كنتبرية في أقصى الشمال الغربي من الأندلس(1)، ولما تأخرت أخبار موسى قلق الخليفة الوليد على مصير الجيش الذي مضى على وجوده في البعوث ما يقارب أربع سنين، لذلك أرسل الوليد رسولاً ثانياً، فوصل الرسول الأندلس وموسى في مدينة لَكْ بحُليقية يُوجَّهُ السرايا والبعوث التي بلغت صخرة بلاك التي تقع في الشمال الغربي على البحر الأخضر ـ خليج بسكاي ـ من المحيط الأطلسي، فاستجاب موسى إلى الرسول وعاد إلى طليطلة ثم غادرها إلى قرطبة ومنها إلى أشبيلية حيث استخلف فيها ولده عبد العزيز والياً واتخذ منها عاصمة للبلاد، ولكن أشبيلية لم تمكث طويلاً عاصمة للبلاد وإنما استعيض عنها بقرطبة منذ عام 97هـ وظلت قرطبة مركز الديار الأندلسية حتى نهاية عهد الخلافة في الأندلس(2)، ويبدو أن موسى اختار اشبيلية عاصمة في هذه المرحلة من تاريخ الأندلس لوقوع اشبيلية في منطقة تتساوى عندها احتمالات الخطر والسلامة، وواجبات الحفاظ على البلاد وحمايتها، فهي لم تخرج إلى الأطراف بعيداً عن الوسط،ولم تقترب
__________
(1) نفح الطيب (1/275) التاريخ الأندلسي صـ96 ـ 98 ، دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ308 .
(2) نفح الطيب (3/14) .(3/157)
من خطوط المواجهة مع الأعداء بعيداً عن بلاد المغرب وإمداداتها(1).
9 ـ رجوع موسى إلى عاصمة الخلافة دمشق:
... غادر ركب موسى وطارق بن زياد الأندلس في ذي الحجة عام 95هـ يحمل معه الأسرى والغنائم الوفيرة والهدايا الثمينة وغيرها من الكنوز، فلما بلغ طنجة ترك ابنه عبد الملك فيها حاكماً، ثم انصرف منها إلى القيروان فأقرّ ابنه عبدالله الذي كان قد استخلفه في أثناء غيابه في الأندلس(2)، ثم سار من هناك يريد دمشق فوصلها في عام 96هـ قبل وفاة الوليد وقيل إن سليمان بن عبد الملك بعث إلى موسى بن نصير أن لا يدخل دمشق يريد أن ينتظر وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك ثم يدخلها، فتكون علامات الفتح ودلائل النصر من الأسرى والغنائم والهدايا فاتحة عهده فيعظم مقامه عند الناس ولكن موسى خالف سليمان ودخل، فلما ولى سليمان الخلافة حقد على موسى وعزله وحبسه وأغرمه أموالاً كثيرة(3)، ويبدو أن تدخل يزيد بن المهلب وعمر بن عبد العزيز لصالح موسى، لدى سليمان بن عبد الملك أثمر عن رضا سليمان عن موسى وأصبح فيما بعد عظيم المنزلة، وكان سليمان يستشيره في بعض الأمور العسكرية، كما هو الحال في الخطة العسكرية الواجب إتباعها في سير الحملة المتجهة إلى القسطنطينية كما أن سليمان كان يخرج إلى بعض أمواله متنزهاً وبرفقته موسى بن نصير(4)، ويبدو أن سعة البلاد التي صارت إلى نظر موسى وتحت سلطانه وكانت تمتد من غرب مصر إلى جنوب فرنسا، وقيام موسى بتوزيع الحكم فيها على أبنائه، كان مما يثير الشكوك في نفوس أولي الأمر، لذلك بادر سليمان حرصاً على وحدة الدولة وسلامتها من الإنقسام إلى عزل موسى بن نصير عما كانت تحت يده من الأعمال(5)، ومن الأسباب التي ذكرت في سبب استدعاء موسى إلى
__________
(1) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ308 .
(2) المصدر نفسه صـ308 .
(3) الكامل في التاريخ (3/212) .
(4) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ122 .
(5) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ309 .(3/158)
دمشق تخوف الوليد على المسلمين أن يكونوا في أرض منقطعة، ومحاطة بمناطق غير إسلامية وعلى اتصال بها، هي أقرب إليها من العالم الإسلامي أو مراكز ارتباطه واستمداده وهو الذي رأيناه عارض فتح الأندلس خوفاً على المسلمين أن يخوضوا المخاطر ويركبوا المهالك حتى بين له موسى ألا داعي للخوف(1)، ويرى الكثير من المؤرخين أن موسى بن نصير لم يكن يعتزم التوقف في فتوحاته عند هذا الحد وإنما كان يخطط لعبور جبال البرانس واجتياح أوربا كلها والوصول إلى القسطنطينية وفتحها من جهة الغرب لولا أن استدعاه الخليفة الوليد إلى دمشق وأمره بالتوقف بالفتح عند هذا الحد، ويؤكد المؤرخون أنه لو قد قدر لموسى بن نصير أن يمضي قدماً في مشروعه هذا لتغير شكل النظام الدولي تماماً ولقضى على القوى غير الإسلامية، ذلك أنهم باستقرائهم النظام الدولي وقتئذ فإنهم يؤكدون أن احتمالات نجاح مشروعه هذا كانت عالية جداً، إذا لم تكن الظروف مواتية لنجاحه مثلما كانت مواتية وقتها، فمملكة الفرنجة كانت مشغولة وقتها بصراعاتها مع الممالك الأخرى ولم يكن هناك كيان سياسي واحد في أوربا كلها يعادل قوة الدولة الإسلامية أو حتى بدايتها، ويشير هؤلاء المؤرخون إلى أنه لما قدر للمسلمين في هذه المنطقة قائد كفء بعد عشرين عاماً من ضياع هذه الفرصة كانت الظروف الدولية قد تغيرت لغير صالح المسلمين، فلما حاول هذا القائد إحياء مشروع موسى بن نصير هزم هزيمة ضخمة تدخل في تاريخ العلاقات الدولية بوصفها نقطة تحول وهي معركة بلاط الشهداء(2)، وقد تكرست الآثار السلبية لعدم استكمال موسى بن نصير لمشروعه بفشل حصار المسلمين للقسطنطينية بعد ذلك بسنوات قليلة وهو ما أغلق أوربا أمام المسلمين من الشرق بعد أن كانت قد أُغلقت أمامهم من الغرب، ولقد فشل المحللون في تفسير سبب استدعاء الخليفة
__________
(1) دولة الإسلام في الأندلس (1/54) التاريخ الأندلسي صـ113 .
(2) الدولة الأموية دولة الفتوحات صـ44 .(3/159)
الوليد لموسى بن نصير، فبعضهم قائل إنه أشفق على المسلمين من مخاطر هذا المشروع البحري، وبعضهم الآخر يؤكد أن الخليفة إنما خاف على سلطانه من تصاعد نفوذ وقوة موسى بن نصير وسواء صحت هذه التفسيرات أو أخطأت، فإن ما حدث بالفعل بعد استدعاء موسى بن نصير إلى دمشق، هو تقويض هدف مصيري للأمة أضاعت فيه فرصة ثمينة في فتح أوربا وجعلها تحت نفوذ الدولة الإسلامية(1).
10 ـ خاتمة موسى بن نصير وطارق بن زياد رحمهما الله تعالى:
__________
(1) الدولة الأموية دولة الفتوحات صـ44 .(3/160)
... تخبطت الروايات في الحديث عن نهاية موسى وما لقيه من الخليفة سليمان من الأذى والغمط والنكران وفي هذه الروايات غموض وتشويش وتناقض ومبالغات كبيرة(1)، والصحيح أن سليمان كان عاتباً على موسى، لأمر لا نستطيع تحديده على وجه الدقة ثم رضي عنه سليمان وقرّبه منه وأصبح من خاصته(2)، وكانت بينه وبين سليمان محاورات وتساؤلات فقد قال له سليمان يوماً: ما كنت تفزع إليه عند الحرب؟ قال الدعاء والصَّبْر، قال: فأي الخيل رأيت أصبر؟ قال:الشُقُر، قال: فأي الأمم أشدُّ قتالاً؟ قال: هم أكثر من أن أصف؟ قال: قال: فأخبرني عن الرُّوم، قال: أُسْدٌ في حصونهم عِقبان على خيولهم، نساء في مَراكبهم، إن رأَوا فرصة انتهزوها، وإن رأَوْا غلبة، فأُوعال تذهب في الجبال، لا يرون الهزيمة عاراً. قال: فالبربر؟ قال: هم أشبه العجم بالعرب لقاء ونجدة وصبراً وفروسية، غير أنهم أغدر الناس قال: فأهل الأندلس؟ قال: ملوك مترفون وفرسان لا يجبنون، قال: فالفرنج؟ قال: هناك العدد والجلد والشدة والبأس، قال: فكيف كانت الحرب بينكم وبينهم؟ قال: أمَّا وهذا فوالله ما هُزمت لي راية قط ولا بُدِّد لي جمع، ولا نُكب المسلمون معي منذ اقتحمت الأربعين إلى أن بلغت الثمانين، ولقد بعثت إلى الوليد بتور(3) زبرجد كان يجعل فيه اللبن حتى ترى فيه الشعرة البيضاء ثم أخذ يُعدِّد ما أصاب من الجوهر والزبرجد حتى تحير سليمان(4)، وقد وصف الذهبي موسى بن نصر بقوله: الأمير الكبير، أبو عبد الرحمن اللخمي، متولي إقليم المغرب، وفاتح الأندلس، قيل: كان مولى امرأة من لخم، وقيل: ولاؤه لبني أمية. وكان أعرج مهيباً ذا رأي وحزم(5)، وكان من اصحاب الهمم الكبيرة فقد قال مرّة: والله لو انقاد الناس لي، لقدتهم حتى أُوقعهم على رُومية ثم ليفتحنها
__________
(1) التاريخ الأندلسي صـ126 .
(2) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ123 .
(3) التور : الإناء
(4) سير أعلام النبلاء (4/499) .
(5) المصدر نفسه (4/496 ، 497) .(3/161)
الله على يدي(1)، وكان موسى بن نصير بوسعه أن يستقل على الخلافة ويقيم ملكاً له ولأولاده في المغرب والأندلس، ولكن إيمانه العميق بتعاليم الإسلام وتمسكه والتزامه بها جعله لا يفكر بذلك حتى إن يزيد بن المهلب ابن أبي صفرة سأله عن ذلك فقال موسى: والله لو أردت ذلك ما نالوا من أطرافي طرفاً، ولكني آثرت الله ورسوله، ولم نر الخروج عن الطاعة والجماعة(2)، وقد توفي موسى بن نصير رحمه الله تعالى وهو متجه للحج برفقة الخليفة سليمان بن عبد الملك في المدينة المنورة ـ على سكانها أفضل الصلاة والسلام ـ أو في وادي القرى ((العُلا ، حاليا) أواخر سنة 97هـ(3) وعمره ثمان وسبعون سنة أو يزيد (في سنة 97هـ)(4)، وقال صاحب معالم الإيمان: توفي بالمدينة متوجهاً إلى الحج وكان قد سأل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة أو يموت بالمدينة فأجاب الله دعاءه(5)، وصلى عليه مسلمة بن عبد الملك(6)، لقد كانت الدنيا وما فيها صغيرة ولا قيمة لها عند موسى بن نصير ويرجع الفضل في ذلك إلى الله ثم نصيحة العالم الجليل أبو عبد الله علي بن رباح اللخمي لموسى بن نصير، فقد أورد صاحب كتاب رياض النفوس أن موسى بن نصير لما وصل من الأندلس إلى القيروان قعد يوماً في مجلسه، فجاءه العرب يسلمون عليه، فلما احتفل المجلس قال: إنه قد صحبتني ثلاث نعم: أما واحدة فإن أمير المؤمنين كتب إلى يهنئني في كتابه وأمر بقراءة الكتاب، فهنيء بذلك وأما الثانية فإن كتاب ابني قدم علي بأنه فتح له بالأندلس فتح عظيم، وأمر بالكتاب فقريء فهنيء بذلك، وكان علي بن رباح ساكت فقال له موسى: مالك يا علي لا تتكلم؟ فقال: أصلح
__________
(1) المصدر نفسه (4/500) .
(2) المصدر نفسه (4/499) الشرف والتسامي صـ279 .
(3) تاريخ علماء الأندلس (2/146) التاريخ الأندلسي صـ127 .
(4) نفح الطيب (1/283) .
(5) معالم الإيمان (1/20) التاريخ الأندلسي صـ128 .
(6) الشرف والتسامي للصَّلآَّبي صـ281 قادة فتح المغرب (1/221 ـ 309) .(3/162)
الله الأمير، قد قال القوم فقال: وقل أنت أيضاًَ. فقال: أنا أقول ـ وأنا أنصح القائلين لك ـ إنه ما من دار امتلأت حبرة إلا امتلأت عبرة، وما انتهى شيء إلا رجع، فارجع قبل أن يرجع بك، فانكسر موسى بن نصير وخشع وفرق جواري عدة.. وقال صاحب الرياض: ونفعه الله عز وجل بموعظة أبي عبد الله بن رباح، فصغرت عنده الدنيا وما فيها ونبذها وانخلع مما كان فيه من الإمارة(1)، فرضي الله عن التابعي الجليل، والإداري الحازم، والبطل المغوار، والقوي الأمين، القائد الفاتح، موسى بن نصير اللخمي الذي فتح المغرب الأقصى، واستعاد فتح المغرب الأوسط، وأنه دعم الفتح الإسلامي في الشمال الإفريقي وأنه فتح الأندلس وقسماً من جنوب فرنسا وأنه كان من أعظم قادة الفتح الإسلامي(2)، لقد مات موسى بن نصير بعد أن ملأ جهاده ـ بقيادة المد الإسلامي المبارك ـ وديان المغرب الإسلامي ((الشمال الإفريقي والأندلسي)) وجباله وسهوله وهضابه ووجه دعاة الحق لإسماع ساكنيه دعوة الإسلام الخالدة، فكانت سبباً في إخراجهم من الكفر إلى الإيمان، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، أما ترى معي موسى وهو يجوب الصحاري والوديان والسهول والجبال وقد سلخ من سني عمره خمساً وسبعين سنة ممتطياً جواده يتحرك في أعماقه إيمان بالله العلي القدير قد دفعه للجهاد والدعوة والعلم والتربية وأحكام أمور الدولة رغم ما علا رأسه من الشيب الوقور، منقاد لإصرار العقيدة السمحة، وهمة الإيمان الفتي(3)، التي كانت سبباً في كل خير أصاب المسلمين,
__________
(1) رياض النفوس (1/119 ، 120) .
(2) قادة فتح المغرب (1/221 ـ 309) .
(3) التاريخ الأندلسي صـ128 .(3/163)
... أما عن البطل الكبير طارق بن زياد، فلا نكاد نعرف عما حدث له بعد وصوله دمشق غير أن رواية تذكر رغبة سليمان في تولية طارق الأندلس(1)، وبعد ذلك قضى آخر أيامه مغموراً(2) فهل عاد إلى المغرب والأندلس؟ أم بقي في دمشق ولا يستبعد أن يكون عاد إلى الأندلس أو المغرب(3)، كان طارق من البربر وعامّة جنوده كذلك، فيهم شجاعة وإقدام، فقد تربوا في أحضان الإسلام وعلى تعاليم القرآن الكريم وأصبحوا أصحاب رسالة خالدة صنعت منهم الأبطال، وقدموا في سبيل دينهم وعقيدتهم الغالي والنفيس، بل نجزم بأن الجيوش الإسلامية الضاربة التي اصطدمت بالأسبان اعتمدت بعد الله على إخواننا من البربر الذين اندفعوا خلف طارق في سبيل هذا الدين ونشره، إن العقيدة الإسلامية صهرت المنتسبين إليها عرباً وعجماً في رحاب الإسلام العظيم(4).
11 ـ الأندلس بعد موسى بن نصير:
__________
(1) نفح الطيب (3/13) .
(2) نفح الطيب (3/14) دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين صـ309 .
(3) التاريخ الأندلسي صـ128 .
(4) فاتح الأندلس طارق بن زياد صـ45 ، 46 .(3/164)
... تولى الأندلس منذ عودة موسى بن نصير إلى دمشق وحتى قيام الإمارة الأموية سنة 138 حوالي عشرين أميراً، كان أولهم عبد العزيز بن موسى بن نصير الذي ألقى أبوه بزمام الأندلس بين يديه، وكان خير خلف لخير سلف، فقط ضبط الأمور وسد الثغور وافتتح مدائن كثيرة وكان من خيرة الولاة(1)، ولكن لم تطل مدة عبد العزيز في حكم الأندلس، فقد قتله بعض جنده غيلة لأشياء ونقموها عليه، وكان ذلك في مستهل رجب سنة 97هـ(2)، وأعقب مقتل عبد العزيز بن موسى فترة من الاضطراب، ومكث أهل الأندلس شهوراً لا يجمعهم وال. حتى اجتمعوا على أيوب بن حبيب اللخمي ابن أخت موسى بن نصير(3)، وكان أيوب رجلاً صالحاً فاضلاً ولكن مدة ولايته لم تطل، ويبدو أن الناس هناك هم الذين نصبوه ليدبر الأمور حتى تعين الخلافة والياً من قبلها، وقد عينت الحر بن عبد الرحمن الثقفي الذي كان أهم أعماله نقل مقر إمارة الأندلس من اشبيلية ـ حيث كان يحكم عبد العزيز بن موسى ـ إلى قرطبة(4). كما كانت له غزوات تجاوز بها حدود بلاد الأندلس إلى بلاد الفرنجة ونواحي أربونة، فسبى وغنم وقفل بالأسارى والغنائم(5)، وقد أدى انشغال الحر الثقفي بالغزو في الشمال الشرقي إلى انتعاش حركة المقاومة المسيحية ـ في المنطقة التي لم يتمكن المسلمون من فتحها وهي المنطقة الشمالية الغربية بزعامة بلاي(6)، مما اضطره إلى العودة للقضاء على تلك المقاومة، وبينما هو مشغول بذلك عزله الخليفة عمر بن عبد العزيز 99 ـ 101هـ وعين مكانه السمح بن مالك الخولاني 100هـ ـ 102هـ(7).
المبحث الثالث : فتوحات المشرق:
__________
(1) البيان المغرب (2/24) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ320 .
(2) البيان المغرب (2/24) .
(3) المصدر نفسه (2/25) .
(4) المصدر نفسه (2/25) .
(5) المسلمون في المغرب والأندلس (1/193) د.محمد زينون .
(6) دراسات في تاريخ المغرب والأندلس د. مختار العبادي صـ40 ـ 41 .
(7) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ321 .(3/165)
أولاً : فتوحات المهلب بن أبي صفرة: كوفئ المهلب بن أبي صفرة على إخلاصه للدولة وتفانيه في محاربة الخوارج أميراً على خراسان عام 78 هـ بناء على توصية الخليفة عبد الملك، فنزل العاصمة مرو، ثم أخذ يعيد الهدوء والأمن والنظام إلى البلاد، ولأول مرة بعد أربع عشرة سنة، تمّ إرسال جحافل المسلمين من جديد نحو الشرق إلى بلاد تركمان 80 هـ(1)، فعبر المهلب بنفسه نهر بلخ(( سيحون)) ونزل كش(2)، ثم جعل يغزو البلاد غزواً متواصلاً لا يفتر عن الجهاد، فخيل له بسمرقند، وأخرى ببخاري وثالثة بطخارستان ورابعة ببست(3)، وكان كلما فتح فتحاً أخرج الخمس لبيت المال وأرسله إلى الحجّاج ويقسم الباقي بين أصحابه(4)، وكان على مقدمته أبو الأدهم الزماني في ثلاثة الآلف وهو في خمسة الآلف، ووجه المهلب ابنه يزيد إلى بلاد الختل، وملكها الشبل بناء على ترغيب ابن عم الملك وفي بلاد الختل تمكن الملك الشبل من ابن عمه فقتله، أما يزيد بن المهلب، فقد استطاع تحقيق أهداف الحملة، فقد اضطره إلى المصالحة ودفع الفدية، بعد أن هزمه عسكرياً وقام. بمضايقته في حصار قلعة الشبل، وأرسل ابنه الثاني حبيب إلى رابنجن، فوافى صاحب بخاري في أربعين ألفاً، فقام قسم من أهالي بخار بالهروب والاختباء بإحدى القرى فاجتثهم وعاد حبيب إلى أبيه منتصراً(5).
1 ـ وفاة المهلب:
__________
(1) الكامل في التاريخ (3/138) .
(2) المصدر نفسه (3/138) .
(3) بست : مدينة عظيمة من سجستان وهراة : تقويم البلدان (3/625) .
(4) الفتوح لأبن أعثم (7/58) .
(5) الكامل في التاريخ (3/138) ، تجديد الدولة الأموية صـ167 .(3/166)
كان المهلب من التابعين، فقد ولد عام الفتح الذي كان سنة ثمان الهجرية ومات سنة 82 هـ في ولاية خراسان وكان يقال: ساد الأحنف بحلمه ومالك بن مسمع بمحبته للعشيرة، وقيبة بدهائه وساد المهلب بهذه الخلال جميعاً(1). وكان سيداً جليلاً نبيلاً خطيباً شجاعاً فقيها وكان على جانب عظيم من السخاء والكرم ومما يدل على كرمه أنه أقبل يوماً في بعض غزواته فتلقته امرأة فقالت له: أيها الأمير إني نذرت إن أقبلت سالماً أن أصوم شهراً وتهب لي جارية وألف درهم، فضحك المهّلب وقال: قد وفينا نذرك فلا تعودي لمثله، فليس كل أحد يفي لك به(2). ووقف رجل فقال: أريد منك حُويجة. فقال المهلب: أطلب لها رُجيْلا يعني أن مثلي لا يسأل إلا عن حاجة عظيمة(3)، وكان حليماً من أخبار حلمه، أنه مرّ يوماً بالبصرة، فسمع رجلاً يقول: هذا أعور قد ساد الناس، ولو خرج إلى السوق لا يساوي أكثر من مائة درهم فبعث إليه المهلب بمائة درهم وقال: لوزدتنا في الثمن زدناك في العطية(4)، وكان قد فقئت عينه بسمرقند(5)، وكان بليغاً في كلامه حكيماً في آرائه، له كلمات لطيفة وإشارات مليحة تدل على مكارمه ورغبته في حسن السمعة والثناء الجميل ومن ذلك قوله: الحياة خير من الموت، والثناء خير من الحياة، ولو أعطيت ما لم يعطه أحد لا حببت أن تكون لي أذن أسمع بها ما يقال فيَّ غداً إذا مت(6)، وقيل يوماً للمهلّب: ما خير المجالس؟ فقال: ما بعد فيه مدى الطرف وكثر فيه فائدة الجليس. وقال يوماً: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسرّ إليه(7).
__________
(1) قادة فتح السند وأفغانستان صـ192 .
(2) قادة الفتح السند وأفغانستان صـ192 .
(3) البخلاء للجاحظ صـ133 نقلاً عن قادة فتح السند صـ192 .
(4) قادة فتح السند نقلاً عن سرح العيون صـ107 .
(5) وفيات الأعيان (4/434) قادة فتح السند صـ193 .
(6) وفيات الأعيان (4/434) .
(7) قادة فتح السد وأفغانستان صـ193 .(3/167)
2 ـ وصيته لأبنائه حين حضرته الوفاة: دعا ابنه حبيباً ومن حضره من ولده، ودعا بسهام فحزمت ثم قال: أفترونكم كاسريها مجتمعة؟ قالوا: لا. فقال: أفترونكم كاسريها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة، فأوصيكم بتقوى الله ، وصلة الرحم، فإن صلة الرحم تنسيء في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإن القطيعة تعقب النار وتورث الذلة والقلّة، فتحابوا وتواصلوا وأجمعوا أمركم لا تختلفوا، وتبارّوا تجتمع أموركم. إن بني الأم يختلفون فكيف ببني العَلات؟ وعليكم بالطاعة والجماعة وليكن فعالكم أفضل من قولكم، فإني أحبّ للرجل أن يكون لعمله فضل على لسانه، واتقوا الجواب وزلة اللِّسان فإن الرجل تزلّ قدمه فينتعش من زلّته ويزلّ لسانه فيهلك. اعرفوا لمن يغشاكم حقّه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحبوا العرب واصطنعوا العرف، فإن الرجل من العرب تَعده العِدة فيموت دونك، فكيف الصنيعة عنده؟ عليكم في الحرب بالإناة والمكيدة فإنها أنفع في الحرب من الشجاعة وإذا كان اللقاء نزل القضاء، فإن أخذ الرجل بالحزم فظهر على عدوه قيل: أتى الأمر من وجهه ثم ظفر فَحُمد وإن لم يظفر بعد الأناة قيل: ما فرّط ولا ضيّع، ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعلم السنن وأدب الصالحين وإياكم والخفة وكثرة الكلام في مجالسكم(1).
__________
(1) تاريخ الطبري (7/251) .(3/168)
... وبعد وفاة المهلب وليّ الحجّاج ابنه يزيد خراسان، فقام يزيد عام 84هـ بفتح قلعة باذنجس(1)، التي كان ينزلها ينزك، بعد أن وضع عليه العيون، وتأكد من خلو القلعة بخروج ينزك منها فسار إليها وحاصرها فتم له فتحها، واستولى على ما فيها من الأموال والذخائر وكانت القلعة على جانب كبير من المنعة بحيث أن صاحبها ينْزك كان يسجد لها(2)، وعزل الحجّاج يزيد بن المهلب وعين أخاه المفضل على ولاية خراسان عام 85هـ فولى المفضل البلاد تسعة أشهر قام خلالها بغزو باذنجس، ففتحا وأصاب منها مغنماً فقسم المغانم بين المقاتلين، فأصاب كل رجل منهم ثمانمائة درهم ثم غزا المفضل آخرون وثومان، فظفر وغنم، وكان يقسم الأموال مباشرة لعدم وجود بيت مال عنده(3) .
... وفي عام 86هـ عين الحجّاج قتيبة بن مسلم على خراسان(4) وقبل الحديث عن قتيبة وفتوحاته لابد من الإشارة إلى فتوحات سجستان.
__________
(1) المصدر نفسه (7/252) (7/284) .
(2) المصدر نفسه (7/285) .
(3) تجديد الدولة الأموية صـ168 ، تاريخ الطبري (7/291) .
(4) تاريخ الطبري (7/323) .(3/169)
3 ـ سجستان: ولى الخليفة عبد الملك: أمية بن عبد الملك بن خالد بن أسيد بن أبي العيص فوجه هذا ابنه عبد الله فصالحه رتبيل القائم على ثلاثمائة ألف درهم، ولما بلغ الخليفة ذلك عزله، ثم ولى الحجّاج عام 78هـ عبيد الله بن أبي بكرة فلبث سنة بلا غزو، وفي السنة التالية تحرك لمناجزة رتبيل الذي كان مصالحاً، ولكنه يؤدي الخراج حيناً ويمنع حيناً آخر، فقام عبيد الله بن أبي بكرة عام 79هـ، ومضى إليه غازياً حتى دخل بلاده، فأصاب منها الغنائم وهدم الحصون وغلب على أرض من أرضيهم وهرب أتباع رتبيل من الترك أمام جحافل المسلمين، حتى اقتربوا من عاصمتهم كابل، فأخذ الترك على المسلمين الشعاب والمسالك، فسقط في أيديهم المسلمين حتى شعر الجنود المسلمين بالضيق والهلاك، مما دفع عبيد الله بن أبي بكرة إلى مصالحة رتبيل ليمكن المسلمين الخروج من أرض الترك سالمين(1)، وكان بين المقاتلين أحد الزهاد ممن يعشق الجهاد، ويعرف باسم شريح بن هانيء، فقام شريح ودعا الجنود إلى الاستمرار في القتال لطلب الشهادة ومما جاء في دعوته: يا أهل الإسلام، من أراد منكم الشهادة فإلي: فاتبعه أُناس من المتطوعة وفرسان الناس، وأهل الحفاظ فقاتلوا الترك حتى أصيبوا إلا قليلاً، وعادوا من بلاد رتبيل فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، وبذلك لم تحقق هذه الغزوة أهدافها العسكرية مما دفع الحجّاج إلى استئذان الخليفة عبد الملك بإرسال جيش جديد(2)، يعيد للدولة هيبتها ومكانتها(3)، فأعد الحجّاج في عام 80هـ جيشاً قوياً من أهل الكوفة بلغ عدد عسكره أربعين ألفاً، عشرون ألفاً من الكوفة ومثلهم من البصرة وتشجيعاً للجنود ورفعاً لروحهم المعنوية أعطاهم أعطياتهم مسبقة، وأنفق فيها الأموال، وأنجدهم بالخيل والسلاح، حتى سمي هذا الجيش ((جيش الطواويس)) فقد
__________
(1) تاريخ الطبري (7/219) .
(2) المصدر نفسه (7/223) .
(3) المصدر نفسه (7/224) تجديد الدولة الأموية صـ169 .(3/170)
بلغت الأموال التي أنفقها على تجهيزه سوى الأعطيات مليوني درهم(1)، واختار لهذا الجيش الكبير عبد الرحمن بن الأشعث الذي سار بهم حتى وصل سجستان(2). وقد تحدثنا عن هذا الجيش وما قام به من حروب أهلية عند دراستنا لثورة عبد الرحمن بن الأشعث.
ثانياً : فتوحات قتيبة بن مسلم في بخارى وسمرقند وغيرها:
هو قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير أبو حفص، أحد الأبطال والشجعان، ومن ذوي الحزم والدهاء والرأي والغَنَاء، وهو الذي فتح خوارزم وبخارى وسمرقند وكانوا قد نقضوا وارتُّدوا. ثم أنه افتتح فرغانه، وبلاد الترك في سنة 95هـ(3)، ولي خراسان عشر سنين وله رواية عن عمران بن حصين، وأبي سعيد الخدري(4)، ولم ينال قتيبة أعلى الرتب بالنسب، بل بكمال الحزم والعزم والإقدام، والسَّعد، وكثرة الفتوحات ووفور الهيبة(5).
__________
(1) المصدر نفسه (7/224) تجديد الدولة الأموية صـ169 .
(2) تاريخ الطبري (7/224) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/410) .
(4) سير أعلام النبلاء (4/410) .
(5) المصدر نفسه (4/411) .(3/171)
... تولى قتيبة خراسان بعد المفضل بن المهلب وكان من الأبطال الشجعان ذوي الحزم والدهاء والرأي والغناء، ويعتبر بحق من أعظم القادة الفاتحين، الذين عرفهم التاريخ الإسلامي عامة وتاريخ الدولة الأموية خاصة(1)، ففي عشر سنين فتح أقاليم شاسعة: وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يحصيهم إلا الله، فأسلموا ودانوا لله عز وجل(2)، وكانت بداية فتوحاته عندما وصل لخراسان، فقد جمع الناس وخطبهم قائلاً: إن الله أحلكم هذا المحل ليعز دينه ويذب بكم عن الحرمات، ويزيد بكم المال استفاضة والعدو ـ وقماً ـ أي ذلاً ـ ووعد نبيه صلى الله عليه وسلم النصر بحديث صادق وكتاب ناطق فقال : ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)) (الصف ، الآية : 9). ووعد المجاهدين في سبيله أحسن الثواب وأعظم الذخر عنده فقال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إلى قوله: ((أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (التوبة ، آية : 120 ـ 121) ثم أخبر عمن قتل في سبيله أنه حي مرزوق، فقال: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) (آل عمران ، الآية 169) فتنجزوا موعود ربكم ووطنوا أنفسكم على أقصى أثر وأمضى ألم وإياي والهويني))(3)، بهذه الخطبة الموجزة ذكر قتيبة المسلمين برسالتهم، ومسئولياتهم تجاهها، وأهاب بهم أن يوطنوا أنفسهم على تحمل المشقة في سبيل الله وأن يسيروا في طريق إسلامهم طريق الجهاد، والعزة في الدنيا والفوز بالجنة في الآخرة(4)، وشرع قتيبة في الفتوحات وفتح منطقة ما وراء النهر ثم عبر نهر سيحون وفتح أقاليم كبرى، حتى
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ341 .
(2) البداية والنهاية نقلاً عن العالم الإسلامي صـ341 .
(3) تاريخ الطبري (3/323) .
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ343 .(3/172)
وصل كاشغر متاخماً بذلك حدود الصين وأهم المراحل الكبرى في هذه الفتوحات:
المرحلة الأولى : استعادة الطالقان(1) والصغانيان وطخارستان(2):
عرض قتيبة جنده وحثهم على الجهاد وسار غازياً، فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين (بلخ) وساروا معه، فقطع نهر ((جيحون)) فتلقاه ملك (الصغانيان) بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده وسلّمها إليه، لأنّ ملك شومان(3) وأخْرون(4)، كان يسيء جواره، وسار قتيبة منها إلى أخرون وشُومان وهما من الصَغَانيان، فصالحه ملكها على فدية أداها إليه، فقبلها قتيبة ثم انصرف عائداً إلى (مرو) واستخلف على جنده أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة (كاشان)(5) وأورشت(6)، وفتح أخسيكت(7)وهي مدينة (فرغانة)(8) القديمة(9)، بهذا الفتح الكبير، استهل قتيبة ولايته لخراسان سنة 86هـ(10).
المرحلة الثانية : فتح إقليم بخارى 87 ـ 90هـ:
__________
(1) بلد في خراسان بين مرو الروذ وبلخ .
(2) طخارستان : ولاية واسعة تشمل عدة بلاد وهي من نواحي خراسان .
(3) شومان : بلد الصغانيان من وراء نهر جيحون معجم البلدان (5/310) .
(4) أخرون : الظاهر مدينة قريبة من شومان .
(5) كاشان : مدينة فيما وراء ، معجم البلدان (7/207) .
(6) أورشت : مدينة من مدن فرغانة .
(7) أخسيكت، اسم مدينة بما وراء النهر .
(8) فرغانة : مدينة متاخمة لبلاد تركستان
(9) معجم البلدان (2/85) .
(10) قادة الفتح الإسلامي في ما وراء النهر صـ378 .(3/173)
كانت أول مدينة غزاها في هذا الإقليم، وهي مدينة بيكند، يقول الطبري: إن قتيبة لما صالح نيزك، أقام إلى وقت الغزو ثم غزا في تلك السنة 87هـ فقطع النهر وسار إلى بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى النهر فلما نزل قريباً منها استنصروا الصغد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير، وأخذوا بالطريق فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه رسول، ولم يعرف له خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجّاج، فأشفق الحجّاج على الجند، فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد، وكتب بذلك إلى الأمصار، وهم يقتتلون كل يوم، فكانت بين الناس مشاولة(1)، ثم تزاحفوا والتقوا وأخذت السيوف مأخذها وأنزل الله على المسلمين الصبر، ثم منح الله المسلمين أكتافهم فانهزموا يريدون المدينة واتبعهم المسلمون فشغلوهم عن الدخول فتفرقوا وركبهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاءوا واعتصم من دخل المدينة بالمدينة وهم قليل، فوضع قتيبة الفَعَلة في اصلها ليهدمها، فسألوه الصلح فصالحهم، واستعمل عليها رجلاً من بني قتيبة(2)، ولكنهم سرعان ما نقضوا الصلح، وقتيبة منهم على خمس فراسخ فرجع إليهم، وقتل من كان في المدينة، وغنم غنائم كثيرة، ورجع قتيبة إلى مرو، وقوى المسلمون، فاشتروا السلاح والخيل.. وتنافسوا في حسن الهيئة والعدة(3)، واستمرت حملات قتيبة على إقليم بخارى في هذه المرحلة بصفة منظمة كل سنة، وكان غزوه يتم في فصل الصيف فإذا دخل الشتاء عاد إلى مرو وفي سنة 88هـ ترك أخاه بشاراً على مرو وعبر النهر ففتح نومشكت ورامثنة من أعمال بخاري صلحاً بناء على طلب أهلها(4)، ولكن هاله حلف من أهل فرغانة والصغد في مائتي ألف عليهم ابن أخت ملك الصين ـ كور مغايون ـ وواضح من هذا التجمع الكبير أن الأمم في هذه المناطق قد تداعت وتحالفت على المسلمين، ولكن الله نصر قتيبة وجنده على هذا
__________
(1) المشاولة : القتال بالرماح .
(2) تاريخ الطبري (7/331) .
(3) المصدر نفسه (7/332) .
(4) المصدر نفسه (7/336 ، 337) .(3/174)
الحلف، ثم عاد إلى مرو(1)، وفي عام 89هـ استأنف قتيبة فتوحاته وقصد بخاري هذه السنة بناء على أوامر الحجّاج، فلقيه في طريقه جمع من أهل كش ونسف فظفر بهم ومضى إلى بخاري، فتصدى له ملكها ـ وردان خذاه ـ فلم يستطع الاستيلاء عليها، فرجع إلى مرو، وكتب إلى الحجّاج يخبره فطلب منه الحجّاج أن يصورها له فبعث إليه بصورتها، فنصحه وأمده وعرفه الموضع الذي يأتيها منه، وأمره بالمسير إليها، فسار إليها سنة 90هـ ومع أن وردان خذاه كان قد استجاش الصغد والترك ليساعدوه في التصدي لقتيبة، إلا أنه تمكن من الانتصار عليهم بعد معارك شرسة، واستولى على بخاري، وكتب بالفتح إلى الحجّاج(2)، وبهذا استكمل قتيبة فتح إقليم بخارى كله في ثلاث سنوات.
__________
(1) المصدر نفسه (7/337) .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي صـ346 .(3/175)
المرحلة الثالثة من 90 ـ 93هـ فتح سمرقند: وهي المرحلة التي فرض فيها قتيبة السيادة الإسلامية على حوض نهر جيحون وتوج عمله فيها بالاستيلاء على مدينة سمرقند، أعظم المدائن في بلاد الصغد، وكان طرخون ملك الصغد، قد أرسل إلى قتيبة بعد انتصاره في معركة بخارى سنة 90هـ يطلب الصلح(1)، فأجابه قتيبة وصالحه، ورجع قتيبة(2)، وفي سنة 91هـ كان غدر نيزك ـ صاحب قلعة بادغس ـ وتأليبه ملوك طخارستان ورتبيل ملك سجستان على المسلمين، وقد نكل به قتيبة سجستان من الشمال وربما كانت تلك أول مرة يغزو فيها قتيبة سجستان وربما كان قد أراد تأديب رتبيل ملكها لانضمامه إلى نيزك في غدره، ولكن رتبيل قدر العواقب وطلب الصلح فقبل قتيبة وصالحه، وانصرف عائداً إلى مرو، وترك عبد ربه بن عبد الله بن عمير الليثي عاملاً على سجستان(3)، وقد توج قتيبة فتوحاته في هذه المرحلة بفتح سمرقند، وهي أعظم مدائن ما وراء النهر والذي دعاه إلى ذلك أن طرخون ملكها كان قد نقض الصلح الذي أبرمه معه قتيبة سنة 90هـ، وامتنع عن دفع ما كان صالح عليه، فقرر قتيبة أن يضع حداً لهذا العبث، فجمع جنده وأخبرهم بنقض طرخون الصلح وبعزمه على فتح سمرقند بالقوة وجهز أخاه عبد الرحمن بن مسلم في عشرين ألف مقاتل وأمره بالسير أمامه، ثم تبعه هو في أهل خوارزم وأهل بخاري وضرب عليها الحصار وقال: إنا إذا نزلنا بساحة قوم ((فساء صباح المنذرين))(4)، متيمناً بقول: رسول الله صلى الله عليهوسلم عندما حاصر خيبر، فلما رأى أهل سمرقند أن مدينتهم قد حوصرت خافوا طول الحصار فكتبوا إلى ملوك الشاش وفرغانة يستغيثوهم، ويحرضونهم على المسلمين وقالوا لهم: إن العرب إذا ظفروا بنا عادوا عليكم بمثل ما أتونا به فانظروا لأنفسكم(5)
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ346 .
(2) تاريخ الطبري (7/344 ، 345) .
(3) تاريخ الطبري (7/369) .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ348 .
(5) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ348 نقلاً عن تاريخ الطبري .(3/176)
، استجاب هؤلاء الملوك لنداء أهل سمرقند واختاروا عدداً من أولادهم ومن أهل النجدة والبأس من ابناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يفاجأوا قتيبة في معسكره، وهو مشغول بحصار سمرقند، ولكن قتيبة كان يقظاً باثاً عيونه ولم يغب عن باله حدوث مثل هذه المفاجآت، فعلم بخبرهم، وأرسل لهم فرقة من جنده بقيادة أخيه صالح بن مسلم، فبدد شملهم وقتلهم ولم يفلت منهم إلا الشريد، وغنم السملمون أمتعتهم وأسلحتهم(1)، فلما رأى الصغد ما حل بهؤلاء انكسروا وضيق عليهم قتيبة الخناق ونصب المنجنيق على المدينة واستطاع إحداث ثلمة فيها وصاح صيحة الأسد: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان أما والله لئن أصبحت لأحاولنّ من أهلك أقصى غاية، فلما أصبح أمر الناس بالجد في القتال فقاتلوهم، واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا، فأرسل الصغد إلى قتيبة، فقالوا له: انصرف عنا اليوم، حتى نصالحك غداً، فقال: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثلمة.. فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف رأس وأن يخلو له المدينة فلا يكون فيها مقاتل، فيبني فيها مسجداً، ويدخل ويصلي ويخطب ويتغذى ويخرج(2). دخل قتيبة سمرقند وحطم ما بها من الأصنام ولم يعبأ بما خوفه منها حيث قال له أحدهم مدعياً نصيحته: لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها أهلكته، فقال له: أنا أحرقها بيدي، فأمر بإشعال النار، وكبر ثم أحرقها، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب والفضة خمسين ألف مثقال(3)،وبعد أن أتمّ قتيبة هذا الفتح العظيم عاد إلى مرو، لكي يستريح، ثم يستعد لجولته الأخيرة، التي سيفتح فيها المناطق السيحونية(4).
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ348 نقلاً عن الكامل في التاريخ .
(2) تاريخ الطبري (7/377) .
(3) المصدر نفسه (7/377) .
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ349 .(3/177)
المرحلة الرابعة : أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر 94هـ ـ 96هـ:
وهي المرحلة التي فتح الله فيها على يديه أقاليم الشاش وفرغانة وكاشغر وقد بدأ هذه المرحلة سنة 94هـ، حيث سار في موعد غزوه ـ في الصيف ـ ومعه عشرون ألفاً من أهل بخارى وكش ونسف، وخوارزم(1)، فوجه قسماً منهم إلى الشاش وتوجه هو بالقسم الآخر إلى فرغانه، حيث دار بينه وبين الترك قتال عنيف حول مدينة خجنده، ويبدو أن نتيجة المعركة لم تكن حاسمة، حيث توجه قتيبة إلى كاشان قبل أن يحسم أمر خجنده وهناك أتاه جنوده الذين كان أرسلهم إلى الشاش ويبدو أن قتيبة قد وجد مقاومة شرسة من الأتراك في هذه البلاد، فقد كتب إلى الحجّاج يطلب مدداً، فأرسل إليه جيشاً من العراق(2)، ثم أمر محمد بن القاسم الثقفي أن يوجه إليه من السند مدداً(3) أيضاً، فإمداد قتيبة بهذه الجيوش من العراق ومن السند(4)، فوق ما معه من قوات كبيرة، يدل على قوة المقاومة التي لقيها في أقاليم سيحون، كما يدل على قوة عزم المسلمين في الجهاد، وأنه أراد أن يكون متفوقاً عليهم، حتى يحقق هدفه، وقد نجح بالفعل وفتح أقاليم الشاش وفرغانة 95هـ(5)، وبعد أن أتم هذا الفتح الكبير، جاءته الأخبار بموت الحجّاج في شوال في تلك السنة، فاغتم لموته، لما كان يجد منه من التأييد والتشجيع والمساندة وقفل راجعاً إلى مرو، وتمثل قول الحطيئة:
... ... ... لعمري لنعم المرء من آل جعفر
... ... ... ... ... ... ... بحوران أمس أعلقته الحبائل
... ... ... فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت
... ... ... ... ... ... ... فما في حياة بعد موتك طائل(6)
__________
(1) تاريخ الطبري (7/385) .
(2) تاريخ الطبري (7/386) .
(3) تاريخ الطبري (7/387) .
(4) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ349 .
(5) تاريخ الطبري (7/394) .
(6) تاريخ الطبري (7/394) .(3/178)
عاد قتيبة إلى مرو وقد ترك حاميات من جنده في بخارى وكش ونسف، وانتظر ما تأتي به الأقدار بعد موت الحجّاج. وكان الخليفة الوليد بن عبد الملك يعرف طبيعة العلاقة بين الحجّاج وقتيبة، وأن للحجّاج دوراً كبيراً في نجاح قتيبة في مهمته، فقدر وقوع نبأ موت الحجّاج عليه، لذلك واساه وأرسل إليه رسالة كلها تشجيع وثناء وتزكية، قال له فيها:. قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فأتمم مغازيك، وانتظر ثواب ربك، ولا تغيب عن أمير المؤمنين كتبك، كأني أنظر إلى بلادك والثغر الذي أنت فيه(1).
ـ فتح كاشغر وغزو الصين:
__________
(1) المصدر نفسه (7/395) .(3/179)
أحدثت رسالة الخليفة الوليد بن عبد الملك أثراً طيباً في نفس قتيبة وأعطته دفعة قوية من العزم والتصميم فتوجه من مرو ليواصل فتوحاته، فقصد مدينة كاشغر التي يقول عنها الطبري: إنها أدنى مدائن الصين(1)، ومع أن الوليد بن عبد الملك قد توفي في جمادي الآخرة سنة 96هـ، وصل نبأ وفاته إلى قتيبة وهو في فرغانة(2)، وقبل أن يصل إلى كاشغر، إلا أنه واصل سيره حتى فتحها، وهنا جاءه رسول مالك الصين يطلب منه أن يوجه إليه وفداً ليعرف خبرهم، فاختار قتيبة عشرة ـ وقيل اثني عشر ـ من خيرة رجاله برئاسة هبيرة بن المشمرج الكلابي، فأرسلهم إلى ملك الصين ويقص الطبري خبر هذه السفارة في حديث طويل، نكتفي منه بما انتهى إليه الحوار مع ملك الصين، حيث قال لهم مهدداً فانصرفوا إلى صاحبكم، فقلوا له: ينصرف، فإني قد عرفت حرصه وقلة أصحابه، وإلا بعثت عليكم من يهلككم ويهلكه، فرد عليه هبيرة في شجاعة المؤمن وعزته فقال له: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك، وآخرها في منابت الزيتون؟ وكيف يكون حريصاً من خلف الدنيا قادرا عليها وغزاك؟ وأما تخويفك إيانا فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل، فلسنا نكرهه، ولا نخافه. أعادت هذه المقالة ملك الصين إلى صوابه، وأيقن أنه أمام قوم لا يجدي معهم التهديد ولا الوعيد فاعتدل في كلامه، وقال لهبيرة: فما الذي يرضي صاحبكم؟ قال: إنه قد حلف ألا ينصرف حتى يطأ أرضكم، ويختم ملوككم، ويعطي الجزية، قال: فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من أرضنا فيطؤه، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بجزية يرضاها قال: فدعا بصحائف من ذهب فيها تراب وبعث بحرير وذهب وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن جوائزهم فساروا فقدموا بما بعث به، فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان وردهم، ووطئ التراب(3)، وهكذا انتهت هذه المرحلة من فتوحات
__________
(1) المصدر نفسه (7/401) .
(2) تاريخ الطبري (7/401) .
(3) تاريخ الطبري (7/404) .(3/180)
قتيبة، التي طوى فيها أقاليم ماوراء جيحون، ثم عبر نهر سيحون، وفتح فرغانة والشاش، وأشروسنه، وكاشغر، وفرض سيادة الإسلام على ملك الصين، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وكان قتيبة قائداً عسكرياً فذا، وبطلاً سياسياً بارعاً، قهر الصعاب وتغلب على كل المشاكل التي واجهته، ولم يثنه عن عزمه لا صعوبة الطرق ووعورتها ولا قسوة المناخ وشدته، فقد كان عزمه حديداً، وكان هدفه رشيداً، وغايته عظيمة، والعون من الله مكفول للمخلصين لهذا الدين العظيم(1)
1 ـ جهود قتيبة في نشر الإسلام:
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ352 .(3/181)
... كان قتيبة ومن معه من الفاتحين يحرصون على دعوة الناس للإسلام, وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام, فكان قتيبة يهتم ببناء المساجد في المدن والقرى والأرياف ويصنع فيها العلماء والفقهاء لتربية الناس وتعليمهم الإسلام وقام بتسكين المسلمين بين السكان الأصليين, ليطلعوا على تعاليم الإسلام وعادات المسلمين واخلاقهم عن طريق الاحتكاك بهم, مثل ما حدث مع أهل بخارى(1) فأظهر الإسلام بهذه الطريقة, وازال آثار الكفر ورسم المجوسية وبني ببخارى المسجد الجامع وأمر المسلمين باداء صلاة الجمعة فيه, ومن اساليب قتيبة في ترغيب الناس في الدخول في الإسلام, كان يأمر بمنادٍ كل يوم يقول : بأن كل من يأتي لصلاة الجمعة يعطى درهمين(2), ويعد هذا العمل طريقة جديدة في ذلك العهد في تأليف قلوب الناس للإسلام والحفاظ على الذين اعتنقوه(3), وكان في جيشه مجموعة من العلماء, كمحمد بن واسع, والقاضي يحي بن يعمر والضحاك بن مزاحم صاحب التفسير فقد ساهم أمثال هؤلاء في نشر الإسلام وكان محمد بن واسع ينافس قتيبة في بناء المساجد وقد صاحب عمليه انتشار الإسلام بين سكان ما وراء النهر سرعة تعلمهم اللغة العربية, حيث كان قتيبة يصدر أوامره ببناء المساجد ولم تكن تقتصر على اقامة شعائر الصلاة فقط وإنما فيها حلقات الدرس في تعليم القران الكريم والأحاديث النبوية الشريعة, وكان للمسجد والعلماء الذين أشرفوا عليها دور عظيم في تعليم السكان اللغة العربية(4), وقد قال ابن كثير عن قتيبة : انه ما انكسرت له راية وكان من المجاهدين في سبيل الله واجتمع له من العسكر مالم يجتمع لغيره(5). وكان من نتائج الجهود التي بذلها قتيبة في نشر الإسلام, أن أصبحت بخارى وسمرقند وأقليم
__________
(1) قتيبه بن مسلم الباهلي, غانم السلطاني ص 138.
(2) تاريخ بخارى ص 74 للنرشخي .
(3) قتيبة بن مسلم الباهلي ص 138 .
(4) المصدر نفسيه ص 140 .
(5) البداية والنهاية نقلا عن قتيبة بن مسلم الباهلي ص 140 .(3/182)
خوارزم مراكز للثقافة العربية ونشر الإسلام في اسيا الوسطى, كما كانت مرو ونيسابور في خراسان, ومنها ايضاً دخول كثير من أهلي ما وراء النهر في دين الله أفواجا, فظهر بينهم عدد من الكتاب والمحدثين والفقهاء والمؤرخين, ممن لا يزال ذكرهم خالد, وآثارهم عظيمة في تاريخ الإسلام(1).
2 - من حكم قتيبية وأقواله المأثورة :
قوله : ملاك الأكثر في السلطان الشدة على المذنب واللين للمحسن(2), وكان يقول : الخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة, وأن كانت الجماعة لا تخطيء والفرقة لا تصيب(3) وخاطب قتيبة الحجاج حين ظفر باصحاب ابن الأشعث فأراد قتلهم : أن الله قد اعطاك ما تحب من الظفر, فاعطه مايحب من العفو(4). وقال : الكامل المرؤة من احرز دينه ووصل رحمه وتوقى مايلائم عليه(5).
3 – مدح الشعراء له :
قال نهار بن توسعة يذكر انتصار قتيبة على الاتراك :
... ... ... ... أراك الله في الأتراك حكماً
... ... ... ... ... ... ... كحكم في قريظة والنفير
... ... ... ... قضاء من قتيبة غير جور
... ... ... ... ... ... ... به يُشفي الغليلُ من الصدور(6)
وقال كعب الأشقري يمدح قيادة قتيبة :
... ... ... ... كل يوم يخوي قتيبة نهباً
... ... ... ... ... ... ... ويزيد الأموال مالا جديداً
... ... ... ... باهليٌ قد ألبس التاج حتى
... ... ... ... ... ... ... شاب منه مفارق كنّ سُودا
... ... ... ... دوّخ (السُّغد) بالكتائب حتى
... ... ... ... ... ... ... ترك (الصُّغد) بالعراء قُعودا
... ... ... ... فوليد يبكي لفقد أبيه
... ... ... ... ... ... ... وأب موجع يبكي الوليدا
... ... ... ... كلما حلّ بلدة أو أتاها
__________
(1) قتيبة بن مسلم الباهلي ص 140 .
(2) بهجة المجالس ابن عبد البر (1/334) .
(3) المصدر نفسه (1/455) .
(4) قتيبة بن مسلم الباهلي ص 198 .
(5) المصدر نفسه ص 199 .
(6) قادة الفتح الإسلامي في بلاد ماوراء النهر ص 419.(3/183)
... ... ... ... ... ... ... تركت خيله بها أخدودا(1)
ونهار بن توسعة هو القائل :
... ... ... ... أبي الإسلام لا أب لى سواه
... ... ... ... ... ... ... إذا هتفوا ببكر أو تميم(2)
4 – مقتل قتيبة ونهايته : 96هـ
انتهت حياة هذا المجاهد الكبير نهاية حزينة أليمة, فقد مات الخليفة الوليد وتولى أخوه سليمان بن عبد الملك 96- 99هـ وكانت العلاقة بين سليمان والحجاج ورجاله, ومنهم قتيبة غير حسنة, قيل لأنهم كانوا وافقوا الوليد على خلع أخيه سليمان, وتولية ابنه عبد العزيز بن الوليد(3), فخشي قتيبة أن يعزله سليمان, فأرسل إليه رسائل يعزيه في الوليد ويهنئه بالخلافة, ويختبر نواياه نحوه, لكن سليمان لم يعزله, بل أرسل له عهداً بولاية خراسان(4), مع رسول خاص من عنده, تكريماً له ولكن قتيبة تعجل وخلع طاعة سليمان قبل وصول ذلك العهد, فغضب الناس واستنكروا خلع سليمان وثار الجند على قتيبه فقتلوه(5) يقول الذهبي : ولما بلغه موت الوليد, نزع الطاعة, فاختلف عليه جيشه, وقام عليه رئيس تميم وكيع بن حسَّان, وألَّب عليه, ثم شَدَّ عليه في عشرة في فرسان تميم فقتلوه في ذي الحجة سنة ستِّ وتسعين, وعاش ثمانياً وأربعين سنة(6), وقال ابن كثير في سبب مقتل قتيبة بن مسلم : وذلك أنَّه جمع الجند والجيوش, وعزم على خلع سليمان وترك طاعته وذكر لهم همّته وفتوحه وعدله فيهم ودفعه الأموال الجزيلة إليهم, فلما فرغ من مقالته, لم يجبه أحد منهم إلى مقالته, فشرع في تأنيبهم وذمِّهم قبيلة قبيلة وطائفة طائفة, فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرَّقوا, وعملوا على مخالفته وسعوا في مقتله وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له : وكيع بن أبي سُود, فجمع
__________
(1) المصدر نفسه ص 419 نقلا عن تاريخ الطبري .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/537) .
(3) البداية والنهاية (12/613) .
(4) تاريخ الطبري نقلا عن العالم الإسلامي ص 352.
(5) الكامل في التاريخ (3/238) .
(6) سير أعلام النبلاء (4/410) .(3/184)
له جموعاً كثيرة, ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذى الحجة من هذه السنة, وقتل معه أحد عشر رجلا من إخوته وأبناء إخوته, ولم يبق سوى ضرار بن مسلم وكانت أُمُّه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زُرارة, فحمته أخواله – وعمرو بن مسلم, وكان عامل الجوزجان وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح, وبشار, وهؤلاء أبناء مسلم وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سُود(1), وقد كان قتيبة بن مسلم من سادات الأمراء وخيارهم, وكان من القادة النجباء الكبراء, والشجعان وذوي الحروب والفتوحات السعيدة والآراء الحميدة, وقد هدى الله على يديه خلقاً لا يُحصيهم إلا الله فأسلموا ودانوا لله عز وجل, وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئاً كثيراً, كما تقدم ذلك مفصَّلاَّ مبيَّناَّ والله سبحانه لا يضيِّعُ سعيه ولا يخيِّبُ تعبه وجهاده, ولكن زلَّ زلة كان فيه حتفه وفعل فعلة رغم فيها أنفه, وخلع الطاعة فبادرت إليه المنية, وفارق الجماعة, فمات ميتة جاهلية, لكن سبق له من الأعمال الصالحة ماقد يكِّفرُ الله بها عنه من سيئاته, ويمحو عنه من خطيَّاتِه والله يسامحه ويعفو عنه ويتقبَّلُ منه, ما كان يكابده من مُناجرة الأعداء(2).
5 – بين قتيبة بن مسلم ومحمد بن واسع : أصبعه أحب إلى قتيبة من ألف سيف شهير :
__________
(1) البداية والنهاية (12/615) .
(2) البداية والنهاية (12/616) .(3/185)
لما صافَّ قتيبة بن مسلم للترك, وهاله أمرهم, سأل عن محمد بن واسع, فقيل : هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه, يبصبص بأصبعه نحو السماء. قال : تلك الأصبع أحب إليّ من مئة ألف سيف شهير وشاب طرير(1), وهذا فهم راسخ من قتيبة بن مسلم الباهلي لأسباب النصر, ألا وهو التوكل على الله تعالى, وتوثيق الصلة به واستلهام النصر منه, ولقد عبأ جيشه وتأكد من حسن إعداده ولكنه بحاجة إلى التأكد مما هو أهم من الإعداد المادي حيث يتجاوز المسلمون بالسلاح المعنوي حدود التكافؤ المادي في القُوَى بمراحل عديدة ولما كان محمد بن واسع في جيشه سارع إلى السؤال عنه, فلما أخبر بأنه مستغرق في مناجاة الله تعالى ودعائه واطمأن قلبه وارتفع مستوى الأمل بالنصر عنده قال تلك الكلمات الإيمانيه الرفيعة : تلك الإصبع أحب إلى من مائة ألف سيف شهير وشاب طرير(2). إن قوى الأرض كلها بيد الله تعالى, وإن النظر إلى القوى المادية من حيث العدد والعُدد والمواقع, إنما هو حسابات البشر والله جل جلاله قادر على تغيير هذه الموازين في لحظة, وإن من أهم استجلاب نصر الله تعالى دعاء الصالحين, فلذلك استبشر قتيبة خيراً حينما علم باستغراق محمد بن واسع في الدعاء, وهذا الفهم الرفيع من قتيبة رحمه الله يبين لنا سبباً مهما من أسباب انتصاراته الباهرة, التي ظلت تتولى أكثر من عشر سنوات فبالرغم من كونه بطلا لا يُشَقُّ له غبار, وقائداً مخططا يضع للأمور أقرانها, وسياسيا محنكا لا يُخدع, فإنه لم يغتر بكل ذلك بل اعتبر ذلك كله من الأمور الثانوية, ونظر قبل ذلك إلى مدى توثيق الحبل الذي يصل جيشه بالله تعالى فلما عرف بأن محمد بن واسع قد وصل ذلك الحبل بالدعاء وبما سبق ذلك من شهرته بالإيمان القوي والعمل الصالح حصل له اليقين وزال عنه سبب من أسباب الخوف المتمثل بضعف الصلة بالله تعالى(3).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (6/121) .
(2) المصدر نفسه (6/121) .
(3) التاريخ الإسلامي (19/200,99) .(3/186)
إن محمد بن واسع رحمه الله تعالى معدود من العلماء الربانيين المشهورين بالزهد والورع والخشوع وهو مدرسة في معالجة أمراض النفوس وتطهير القلوب, ومن أقواله النيَّرة في الزهد والورع واليقين : إني لأغبط رجلا معه دينه ومامعه من الدنيا شيء وهو راض(1) وإذا كان محمد بن واسع يغبط أهل الدين المجردين من الدنيا فما أكثر من يغبطون أصحاب الأموال, وما أبعد الفرق بين السابقين بالخيرات والمقصِّرين(2). وقيل إنه قال لرجل : هل أبكاك قط سابق علم الله فيك(3) يعني أن المقربين مع ما يقومون به من الورع والعمل الصالح يخشون من سابق قدر الله فيهم, حيث يخافون من سوء الخاتمة, فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن جل جلاله يقلبها كيف يشاء وقيل له كيف أصبحت؟ قال : قريباً أجلي بعيداً أملي, سِّيئاً عملي(4). وهذا من عمق الإدراك وقوة تصور ما بعد الموت, وإذا كان محمد بن واسع الذي قيل عنه إنه أفضل أهل البصرة في زمنه يتهم نفسه بطول الأمل وسوء العمل فكيف بحال المقصرين(5) _ أمثالي . وذات يوم قال له رجل لمحمد بن واسع : أوصيني, قال : أوصيك أن تكون ملكا في الدنيا والآخرة, قال : كيف؟ قال : ازهد في الدنيا(6) وهذه وصية نافعة من طبيب ماهر في طب القلوب فهذا الرجل يطلب الوصية من محمد بن واسع فيوصيه بأعلى مرتبة تطمح لها النفوس عادة, وهي أن يكون ملكاً في الدنيا والآخرة, فيتعجب الرجل لأنه لم يرد الدنيا حينما طلب منه الوصية, ثم كيف يجمع بين الأمرين, فيكون ملكاً في الدنيا ولآخرة, فلذلك استفهم منه استفهام تعجب, فكان جواب ابن واسع له : ازهد في الدنيا(7), ومن كلامه التربوى العميق قوله : ما آسى على الدنيا إلا على ثلاث : صاحب إذا اعوججت
__________
(1) سير أعلام النبلاء (6/121) .
(2) التاريخ الإسلامي (19/93) .
(3) سير أعلام النبلاء (6/121) .
(4) المصدر نفسه (6/121) .
(5) التاريخ الإسلامي (19/94) .
(6) سير أعلام النبلاء (6/121) .
(7) المصدر نفسه (6/120) .(3/187)
قوَّمني, وصلاة في جماعة يُحمَل عني سهوُها وأفوز بفضلها, وقوتٍ من الدنيا ليس لأحد منه فيه منّة ولا لله علىَّ فيه تَبِعة(1). فهذا العالم الرباني كان من ضمن جنود الفاتحين الذين نفع الله بهم شعوب المشرق, كأهل بخارى, وسمرقند وخراسان وغيرها.
6 – المشرق بعد مقتل قتيبة بن مسلم :
لم تحدث فتوحات إسلامية فيما تبقى في عهد الدولة الأموية في هذه الجهات بعد فتوحات قتيبة, وتوقفه عن كاشغر على حدود الصين, ذلك لأن الظروف التي مرت بها الدولة الأموية منذ هذا التاريخ, وحتى سقوطها سنه 132هـ - لم تكن تسمح بذلك . فقد انشغلت بالثورات التي بدأت تهب في وجهها من جديد مثل ثورات الخوارج وثورة يزيد بن المهلب في عهد يزيد بن عبد الملك 101 – 105 هـ كما أن الخلافات نشبت من جديد بين العرب في خراسان, وفي هذا الجو بدأت الدعوة السرية للرضا من آل محمد وهي الدعوة التي كان يوجهها العباسيون لمصلحتهم بكتمان ومقدرة رائعة, والتي نجحت في النهاية في الإطاحة بالدولة الأموية, كما أن التناحر والتنافس والنزاع قد احتدم بين أبناء البيت الأموي أنفسهم, وأصبحوا يقاتل بعضهم البعض, مما أضعف هيبة الدولة في عيون الناس, كما أن هذه البلاد نفسها التي فتحها قتيبة لم تكف عن التمرد والثورة ونقض العهود, فأصبح جهد الخلفاء والولاة منصبا – بعد مرحلة قتيبة – على إخضاع الثائرين والمتمردين وردهم إلى الطاعة والنظام(2), وقد نجحت الدولة الأموية في ذلك, فهي وإن كانت لم تضف جديداً إلى فتوحات قتيبة في هذا الجزء من العالم, إلا أنها لم تتراجع ولم تخسر أرضا واحتفظت بمواقعها, ونهض الولاة في هذه المناطق بمسؤلياتهم, وهيأوها لقبول الإسلام, وجعلها جزءاً لا يتجزأ من العالم الإسلامي(3)
ثالثاً : محمد بن القاسم الثقفي وفتح السند : 89 – 96هـ :
__________
(1) التاريخ الإسلامي (19/394) .
(2) فتوح البلدان للبلاذري ص523 – 527 .
(3) العالم الإسلامي في عصر الأموي ص 353 .(3/188)
كان انتصار المسلمين في معركة القادسية في عهد عمر بن الخطاب إيذاناً لهم بفتح السند, فقد استنجد كسرى الفرس ببعض ملوك البلاد المجاورة ومنها مملكة السند حيث أمده ملك السند بالمال والرجال الأمر الذي اضطر المسلمين بمهاجمة السند رداً على تدخلهم ضدهم في معركة(1) القادسية ولذلك فإن البلاذري يحدثنا عن حملات إسلامية مبكرة على السند كان أولها في عهد عمر بن الخطاب, وكان ثانيها في عهد علي بن أبي طالب, كما نفهم من رواية البلاذري أن عثمان بن عفان كان أيضا مهتما بتقصي تحركات السند(2), كما أن البلاذري يوضح الأسباب التي حولت هذه الحملات إلى فتح منظم للسند في الأسباب الآتية
... * ـ اكتشاف تحالف آخر بين السند والترك حيث لقي المهلب في عهد معاوية بن أبي سفيان ثمانية عشر فارساً من الترك ببلاد القيقان بالهند(3), لذلك تلاحقت حملات معاوية فأغار عبد الله بن سوار وسنان بن سلمة بن المحبق الهذلي فأنى الثغر ففتح مكران عنوة ومصرها وأقام بها(4)
__________
(1) العلاقات السياسية بين الهند والخلافة العباسية, محمد النجرامي ص30 .
(2) الحضارة الإسلامية, محمد عاد ص 299 فتوح البلدان ص 420 .
(3) المصدر نفيه ص 299 فتوح البلدان ص 421 .
(4) فتوح البلدان ص423, الحضارة الإسلامية ص299 .(3/189)
... * ـ أعمال القرصنة البحرية التي كان يقوم بها الهنود حيث يذكر البلاذري أن البوارج الهندية قد استولت على سفينة كانت تحمل نساء مسلمات أرسلهن ملك جزيرة الياقوت هدية إلى الحجاج بن يوسف فنادت امرأة من تلك النسوة وكانت من يربوع : يا حجاج وبلغ الحجاج ذلك فقال : يا لبيك فأرسل إلى داهر يسأله تخلية النسوة . فقال أخذهن لصوص لا أقدر عليهم(1), لذلك أرسل الحجاج بن يوسف عبيد الله بن نبهان إلى الديبل "كراتشي اليوم" فقتل, فكتب إلى بديل بن طهفة البجلي وهو بعمان يأمره أن يسير إلى الديبل, لكن الهنود استطاعوا محاصرته وقتله أيضا(2).
1 – تعيين محمد بن القاسم على ثغر الهند وتجهيزات الحجاج لجيشه :
تبدّى للحجاج مدى الإهانة التي تلحق بهيبة المسلمين وخطورتها إن هو سكت على هذا الأمر, فاختار محمد بن القاسم وكان بفارس, وكان قد أمره أن يسير إلى (الريّ), فردّه إليه(3), وعقد له ثغر (السند), وضمّ إليه ستة الآف من جند أهل الشام, وجهّزه بكلِّ ما احتاج اليه – حتى الخيوط والإبر والمال- وأمره أن يقيم بشيراز حتى يكمل حشد رجاله ويوافيه ما أعدّ له(4)واهتمّ الحجاج اهتماما بالغاً في إنجاز إستحضارات جيش محمد بن القاسم حتى بلغ بذلك حدّ الروعة حقاً فلم ينس أصغر التفاصيل الإدارية لإكمال الستحضارات هذا الجيش, حتى إنه عمد إلى القطن المحلوج فنُقع في الخل الأحمر الحاذق, ثم جُفِّف في الظل وقال لهم : إذا صرتم إلى (السِّند) فإن الخل بها ضيِّق, فانقعوا هذا القطن في الماء, ثم اطبخوا به واصطبغوا . ويقال : إن محمداً لما صار إلى ثغر السِّند, كتب يشكو ضيق الخلِّ عليهم, فبعث الحجاج إليه بالقطن المنقوع في الخل.
2 – المعارك التي خاضها محمد بن القاسم :
__________
(1) فتوح البلدان ص 423, 424 .
(2) المصدر نفسه ص 424, الحضارة الإسلامية ص 299 .
(3) فتوح البلدان ص 424, قادة فتح السند ص 210 .
(4) فتوح البلدان ص 424, قادة فتح السند ص 211 .(3/190)
مضى محمد إلى مكران فأقام بها أياماً, ثم أتى فنزبور(1) ففتحها, ثم أتى (أرمائيل(2) ففتحها أيضا, فقدم (الديبل) يوم جمعة, فوافته هناك سفنه التي كانت تحمل الرجال والسِّلاح والعتاد والمهمات, فخندق حيث نزل (الديبل) وأنزل الناس منازلهم ونصب منجنيقاً يقال له: العروس, الذي كان يعمل لتشغيله خمسمائة من الرجال ذوي الكفاية المدربين على استخدامه, فدكّ بقذائفه معبد الهنادكة الأكبر (البد)(3), وكان على هذا البد دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبّت الريح أطافت المدينة(4), وحاصر محمد الديبل وقاتل حماتها بشدّة, فخرجوا إليه, ولكنه هزمهم حتى ردهم إلى البلد, ثم أمر بالسلالم فنصبت وصعد عليها الرجال, وكان أولهم صعوداً رجل من بني مراد من أهل الكوفة ففتحت المدينة عنوة فاستباحها محمد ثلاثة أيام, ولكنّ عامل (داهر) ملك السند عليها هرب عنها سالما(5), فأنزل فيها محمد بن القاسم أربعة الآف من المسلمين وبنى عليها جامعها, فكان أول جامع بني في هذه المنطقة(6), وسار محمد عن الديبل إلى النيرون(7), وكان أهلها بعثوا إلى الحجّاج فصالحوه, فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم ووفوا بالصلح(8), وسار محمد عن (نيرون) وجعل لايمر بمدينة إلاَّ فتحها حتى عبر نهراً دون "مهران"(9), فأتاه أهل (سربيدس)(10), وصالحوه ففرض عليهم الخراج وسار عنهم إلى (سهبان)(11)
__________
(1) فنزبور : مدينة بين مكران والديبل .
(2) أرمائيل : مدينة كبيرة بين مكران والديبل من أرض السند .
(3) البد : هو المعبد, وكل شيء عظموه من طريق العبادة فهو عندهم (بد) .
(4) فتوح البلدان ص 424 .
(5) المصدر نفسه ص 424 , 425 .
(6) تاريخ الإسلام في الهند ص 74, قادة فتح السند ص212 .
(7) نيرون : مدينة تقع على مسافة (75) ميلاً عن مكران .
(8) فتوح البلدان ص 425 .
(9) مهران : موضع على نهر السند معظم البلدان (8/209) .
(10) سربيدس : مدينة بالقرب من مهران على نهر السند .
(11) سهبان : مدينة في منطقه سربيس على نهر السند.(3/191)
, ففتحها ثم سار إلى نهر (مهران) فنزل في وسطه, وبلغ خبره (داهر) فاستعدّ لمجابهته(1), وبعث محمد إلى (سدوستان)(2), فطلب أهلها الأمان والصلح, فأمنهم محمد وفرض عليهم الخراج أيضا(3).
3 – مقتل داهر ملك الهند :
عبر محمد بن القاسم نهر (مهران) مما يلى بلاد الملك (راسل) ملك (قصة) من الهند على جسر عقده, و (داهر) مستخف به لاهٍ عنه, ولقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة فاشتد القتال بشكل لم يسمع بمثله وترجّل (داهر) وقاتل حتى قتل عند المساء, فانهزم أصحابه وقتلهم المسلمون كيف شاءوا فقال قاتل داهر(4)
... ... ... ... الخيل تشهد يوم داهر والقنا
... ... ... ... ... ... ... ... ومحمد بن القاسم بن محمد
... ... ... ... أني فرجت الجمع غيرُ مَعرد(5)
... ... ... ... ... ... ... ... حتى علوت عظيمهم بمهند
... ... ... ... فتركته تحت العجاج مجندلا
... ... ... ... ... ... ... ... متعفر الخدين غير موسّد
__________
(1) فتوح البلدان ص425 .
(2) قادة فتح السند وافغنستان ص 213 .
(3) فتوح البلدان ص425 .
(4) هو القاسم بن ثعلبة بن عبد الله الطائي, فتوح البلدان ص 426 .
(5) معرد : عرد الرجل عن الطريق إذا انحرف عنه .(3/192)
فلما قتل (داهر) غلب محمد على بلاد السند فتح (راوَر)(1)عنوة، وكان بها امرأة(2) لدهر فحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها(3)، وتقدم المسلمون بعد ذلك صوب الشمال مشرقين حتى بلغوا (برهمنآباد)(4) العتيقة على فرسخين من المنصورة(5) وكان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من أصحاب داهر بها، ففتحها محمد وقتل بها بشراً كثيراً وخرّبها(6)، وسار محمد يريد(الرور) و(بغرور(7)، فلقيه أهل ساوندري(8)، وسألوه الأمان، فأعطاهم إياه، واشترط عليهم ضيافة المسلمين، فأسلم أهلها من بعد ذلك(9) ، وتقدم نحو (بسمد)(10)،على مثل صلح (ساوندري) فسار عنها حتى انتهى إلى (الرور) وهي من مدائن السند تقع على جبل فحاصرها شهوراً ثم فتحها صلحاً(11) وسار محمد إلى (السكة)(12)، فتحها ثم عبر نهر (بَياس)(13) رافد نهر السند إلى مدينة (المُلْتان)(14)،، أعظم مدن السند الأعلى وأقوى حصونه، فامتنعت عليه شهوراً وقاتله أهلها، فانهزموا فحصرهم، فأتاه رجل مستأمن دلّه على مدخل الماء الذي يشرب منه السكان، فقطعه عليهم، فنزلوا على حكمه، فقتل محمد المقاتلة وسبى الذرية وسبى سدنة (البد) وهم ستة آلاف، وأصاب مالاً كثيراً جمعه في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع
__________
(1) راور : مدينة كبيرة بالسند معجم البلدان (4/214) .
(2) هي راني باي ، كانت أختاً لداهر بني بها .
(3) فتوح البلدان صـ425 ، 426 .
(4) برهمنآباد : مدينة تقع على نهر السند بين كراجي والبنجاب .
(5) المنصورة : مدينة كبيرة يحيط بها خليج نهر مهران .
(6) فتوح البلدان صـ226 .
(7) الرور : ناحية بالسند تقرب من (الملتان) في الكبر .
(8) مدينة في منطقة الرور قادة فتح السند صـ214 .
(9) فتوح البلدان صـ426 ، قادة فتح السند صـ214 .
(10) مدينة في منطقة الرور قادة فتح السند صـ214 .
(11) قادة فتح السند صـ214 .
(12) السكة : مدينة في منطقة الرور .
(13) بياس : نهر عظيم بالسند مفضاه إلى المولتان .
(14) الملتان : مدينة من الهند قرب بها صنم يعظمه الهنود .(3/193)
يلقى إليه في كوّة في وسطه، فسميت (الملتان: فرج(1) بيت الذهب(2). وكان (بد) الملتان (بداً) تهدى إليه الأموال وتنذر له النذور ويحجّ إليه السند فيطوفون به ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أنه صنماً فيه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم(3)، وعظمت فتوح محمد، فراجع الحجّاج حساب نفقاته على هذه الحملة، فكانت ستين ألف ألف درهم فقال: شفينا غيضنا، وأدركنا ثأرنا، وازددنا ستين ألف ألف درهم ورأس داهر(4). لقد أنجز محمد هذا الفتح كله في المدة بين سنة تسع وثمانين الهجرية وأربع وتسعين الهحرية(5).
__________
(1) الفرج : الثغر .
(2) فتوح البلدان صـ427 .
(3) فتوح البلدان صـ427 قادة فتح السند صـ215 .
(4) قادة فتح السند صـ215 فتوح البلدان صـ427 .
(5) تاريخ اليعقوبي (3/32) قادة فتح السند صـ216 .(3/194)
4 ـ نهاية محمد بن القاسم: بينما محمد بن القاسم يدبر أمر السند وينظم أحواله بعد الفتح ويستعد لفتح إمارة قنوج وهي أعظم الإمارات في شمال الهند توفي الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ وتولى أخوه سليمان 96ـ 99 هـ الذي بدأ يغير ولاة الحجّاج، فعين على العراق رجلاً من ألد أعداء الحجّاج، وهو صالح بن عبد الرحمن، الذي كان الحجّاج قد قتل أخاً له اسمه آدم بن عبد الرحمن كان يرى رأي الخوارج(1)، فقرر صالح بن عبد الرحمن أن ينتقم من أقرب الناس إلى الحجّاج، وهو محمد بن القاسم فعزله عن السند وولى رجلاً من صناعه وهو يزيد بن أبي كبشة، وأمره بالقبض على محمد، فقبض عليه وأرسله إليه، فحبسه في واسط في رجال من آل أبي عقيل(2)، وقد ادعت ابنة ملك السند الذي قتله ابن القاسم أنه راودها عن نفسها أو نالها قسراً، ولذا فقد سجن في واسط وعذب، ثم تضاربت الروايات بشأنه فقيل إنه مات تحت العذاب، وقيل إنه أطلق سراحه ثم قتل، وقيل بل قتل بدسائس من أتباع داهر فأتهم به الخليفة، ثم اعترفت ابنة داهر فيما بعد بانها كانت كاذبة في إدعائها(3)، وهكذا انتهت حياة هذا البطل وهذا الفاتح الكبير هذه النهاية الأليمة، وحرمة الأمة الإسلامية من هذه العبقرية الشابة، فإن محمداً حقق هذه الأمجاد وهو في مقتبل العمر حتى قال فيه الشاعر:
... ... ... ... إن الشجاعة والسماحة والندى
... ... ... ... ... ... ... ... لمحمد بن القاسم بن محمد
... ... ... ... قاد الجيوش لسبع عشرة حجة
... ... ... ... ... ... ... ... يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
... ...
وقد ساس الجيوش وقادها وعمره سبع عشرة سنة قال فيه الشاعر يزيد بن الأعجم:
... ... ... ... ساس الجيوش لسبع عشرة حجة
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ362 ، نقلاً عن فتوح البلدان .
(2) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ362 .
(3) الدولة الأموية المفترى عليها صـ209 .(3/195)
... ... ... ... ... ... ... ... ولداته عن ذاك في أشغال
... ... ... ... فغدت بهم أهواؤهم وسمت به
... ... ... ... ... ... ... ... همم الملوك وسورة الأبطال
وكان محمد بن القاسم يهتف في أعماق سجنه وفي ظلماته:
... ... ... ... أتنسى بنو مروان سمعي وطاعتي
... ... ... ... ... ... ... ... وإني على ما فاتني لصبور
... ... ... ... فتحت لهم ما بين (سابور)(1) بالقنا
... ... ... ... ... ... ... ... إلى الهند منهم زاحف ومغير
... ... ... ... فتحت لهم ما بين جُرجان(2) بالقنا
... ... ... ... ... ... ... ... إلى الصين ألقى مرة وأغير(3)
... ... ... ... وما وطئت خيل السكاسك عسكري
... ... ... ... ... ... ... ... ولا كان من (عك) عليّ أمير(4)
__________
(1) مدينة مشهورة بأرض فارس .
(2) مدينة مشهورة في خراسان معجم البلدان (3/75) .
(3) قادة فتح السند صـ211 .
(4) قادة فتح السند صـ221 .(3/196)
مات محمد بن القاسم بالتعذيب، أو قتل بعد تعذيبه، دون أن يشفع لهذا القائد الشاب، بلاؤه الرائع في توسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولا مهارته الفذة في القيادة والإدارة ولا انتصاراته الباهرة في السند، ولكنَّ آثاره الخالدة وأعماله المجيدة باقية بقاء الدهر، ولم يختره الله إلى جواره إلا بعد أن أبقى اسمه على كلِّ لسان وفي كل قلب، رمزاً للجهاد الصادق والتضحية الفذّة والصبر الجميل. أما الذين عذبوه فقد ماتوا وهم أحياء ولانزال حتى اليوم نذكر محمد بن القاسم بالفخر والاعتزاز، ونذكر الذين عذّبوه بالخزي والاشمئزاز(1)، رحم الله محمد القاسم الشاب المظلوم، الأمير العادل الإداري الحازم، لقد بكاه أهل السند من المسلمين، لأنه كان يساويهم بنفسه ولا يتميز عليهم بشيء، ويعدل بالرعية ولأنه نشر الإسلام في ربوعهم فأرسل دعاته شرقاً وغرباً يجوبون البلاد التي فتحها وكان أكثر من هداهم الله إلى الإسلام من أهل السند على يديه(2)، فمنذ الخطوات الأولى للفتح بدأت شخصيات كبيرة تعتنق الإسلام فعندما فتح محمد بن القاسم مدينة الديبل واستولى على قلعتها التي كان بها الأسرى من الجنود والتجار المسلمين والنساء المسلمات وقتل حرّاس القلعة بناء على أوامر الحجّاج انتقاماً لشهداء المسلمين، عندئذ جاء مدير السجن الذي كان به المسلمون طالباً العفو عنه لأنه كان محسناً للأسرى المسلمين ويعاملهم معاملة كريمة، فلما تأكد محمد بن القاسم من صدقه عفا عنه، بل فوض إليه مهمة الإشراف على الشئون الاقتصادية بمدينة الديبل ثم أعلن الرجل إسلامه، فقربه محمد أكثر، وعينه مترجماً لرئيس الوفد الذي أرسله إلى داهر ملك السند لتوجيه الإنذار إليه(3)، وعندما تقدم محمد بن القاسم في السند، بعد فتح الديبل، وجه الدعوة إلى الأمراء والحكام والوزراء والأعيان وعامة الشعب للدخول في
__________
(1) المصدر نفسه صـ222 .
(2) المصدر نفسه صـ221 .
(3) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ445 .(3/197)
الإسلام، فاستجاب له كثيرون وبصفة خاصة من البوذيين(1)، وقد كان لسلوك المسلمين وقائدهم الشاب، واهتمامه بإقامة المساجد وأداء شعائر الإسلام، أثر كبير في جذب الأهلين إلى الإسلام، فلم يكن محمد القاسم يدخل مدينة إلا ويبني فيها مسجداً(2)، فقد بنى مساجد في الديبل والرور والبيرون والملتان وغيرها من المدن السندية(3)، فرحمة الله على هذا الفاتح الكبير.
5 ـ السند بعد محمد بن القاسم:
توقفت الفتوحات في هذه الجبهة عند الحدود التي وصل إليها محمد بن القاسم، ولم يستطع ولاة بني أمية ـ فيما تبقى من عمر دولتهم ـ أن يضيفوا جديداً، ولكنهم استطاعوا المحافظة على ما تحقق من فتوحات، وبذلوا قصار جهدهم في تثبيت أقدام الإسلام في إقليم السند، ووقفوا بالمرصاد لكل حركات التمرد والثورات التي قام بها الأمراء الهندوس، بعد رحيل محمد بن القاسم، فقد حاول هؤلاء الأمراء استرداد إماراتهم، وبصفة خاصة ابن داهر المسمى حليشة أو جيشبة، الذي حاول الرجوع إلى برهمنآباذ ولكن حبيب بن المهلب الذي ولاه سليمان بن عبد الملك السند ـ لم يمكنه من ذلك(4).
المبحث الرابع : أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد عبد الملك والوليد وسليمان:
أولاً : بماذا انتصر المسلمون:؟
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ446 .
(2) المصدر نفسه صـ447 .
(3) المصدر نفسه صـ447 .
(4) المصدر نفسه صـ364 .(3/198)
إن ما حدث في عهد عبد الملك من فتوحات هي امتداد طبيعي للأسس المتينة والقواعد الراسخة لفقه النهوض الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكمل بناؤه الخلفاء الراشدون، وكانت الأمة وكثير من حكامها يعيشون لأجل العقيدة والدعوة الإسلامية وقد انتصر المسلمون بالإسلام نفسه، فهم قد فهموه فهماً صحيحاً دقيقاً وطبقوه على أنفسهم فأنشأ منهم خلقاً جديداً، غير النفوس والقلوب والعقول، وحررها من الوثنية وعبادة غير الله وفتح أمامهم آفاق الإيمان والعمل فاندفعوا يحملون رسالة التوحيد إلى الإنسانية كلها فأقاموا أمة وأنشأوا دولة كبرى وأعلنوا كلمة الله في الأرض حقاً وصدقاً(1)، لقد صيغت هذه الأمة منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على أساس واضح من الترابط بين الإسلام والإيمان، والعقيدة والعمل، وفق أصفى مفهوم للتوحيد وأصدق فهم لإقامة المجتمع الإنساني واجتمع لها في إيمانها: العقيدة والشريعة والأخلاق دون أن ينفصل أحدها عن الآخر، وتكامل لها مفهوم المعرفة القائم على القلب والعقل(2)، وقد ظلت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بكل دقائقها وتفاصيلها أمام المسلمين قدوة صادقة وأسوة حسنة وقد كانت المثل الأعلى أمام القادة والمصلحين والأبطال والمجاهدين وما زالت وستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد انتصر المسلمون بقيم ومقومات ومثل كثيرة تعلموها وتربوا عليها من القرآن الكريم وهدي الرسول الأمين صلى الله عليه وسلم ومن أبرز هذه القيم والمقومات عقيدة سليمة، عبادة صحيحة، كتاب منير، أسوة حسنة، شريعة عادلة، أخلاق حميدة، جهاد في سبيل الله، تربية صالحة مستمرة، مفهوم شامل للحياة والمجتمع، بطولة في المواقف، وصمود في وجوه(3) العدو وغير ذلك من القيم والمقومات.
ثانياً : أسباب دخول الإسلام في البلاد المفتوحة:
__________
(1) بماذا انتصر المسلمون ، أنور الجندي صـ5 .
(2) بماذا انتصر المسلمون صـ6 .
(3) المصدر نفسه صـ7 إلى 9 .(3/199)
كانت هناك عدة أسباب أدت إلى هذا منها:
1 ـ عالمية الدعوة: الحقيقة الثابتة التي تؤيدها النصوص القاطعة أن الإسلام دين عالمي،ورسالته للجنس البشري كله، لا لأمة دون أمة، ولا لشعب دون شعب، فمحمد رسول الله إلى الناس كافة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)) (سبأ ، الآية : 28) ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 107). إلى غير ذلك من الآيات الكريمة التي توضح أن الرسالة الإسلامية للناس كافة، وأنها خاتمة رسالات السماء إلى أهل الأرض، فليس بعد القرآن الكريم كتاب من الله، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم رسول ((مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)) (الأحزاب ، الآية : 40) وقد قام بالتبشير بعالمية الدعوة ودعوة الأمم قادة وعلماء كموسى بن نصير، وقتيبة بن مسلم، ومحمد بن القاسم وغيرهم كثير.(3/200)
2 ـ المعاملة السمحة الكريمة: إن النماذج التي خرجها الإسلام من القادة والجنود قد اتصفوا بأخلاق حميدة وقيم سامية، فرفعت من المستوى الإنساني عند معتنقيها، فكان لها أثر كبير في إقبال أبناء البلاد المفتوحة على اعتناق الإسلام، فكم من أفواج من البربر دخلوا في الإسلام وقاتلوا في سبيله في عهد موسى بن نصير وكذلك في الهند، وبخاري وسمرقند وغير ذلك من البلدان فالمسلمون لم يفتحوا البلاد ليدمروها ويذلوا أهلها، وإنما ليعمروها ويعزوا أهلها، ويحرروهم من عبادة العباد إلى عبادة خالق العباد، ويخرجوهم من ضيق الدنيا إلى سعةالدنيا والآخرة، فهم أصحاب رسالة خالدة، تحمل للناس العدل والإنصاف وتحقق لهم الحرية والمساواة والكرامة الإنسانية، وبمجرد ما عرف الناس في البلاد المفتوحة أهداف المسلمين الحقيقية وتكشفت لهم حقيقة الإسلام أسرعوا إلى اعتناقه بأعداد كبيرة ـ كما سنعرفه فيما بعد ـ ولقد حرص المسلمون، على الوفاء بكل ما التزموا به ولم يكن هذا من حسن السياسة فقط فالوفاء بالعهد ليس تبرعاً من المسلمين يمنون به على الناس ولكنه مسئولية واجبة عليهم(1)، قال تعالى ((وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)) (الإسراء ، الآية : 34) .
3 ـ إشراك أبناء البلاد المفتوحة في إدارة بلادهم:
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ378 .(3/201)
... كانت سياسة المسلمين منذ بداية الفتوحات من سعة الأفق والمرونة بحيث أدركوا إن استتباب الأمن وسير الأمور سيراً حسناً في البلاد المفتوحة بما يحقق خير أهلها ومصالحهم يكمن في الأسلوب الإداري الذي سيسيرون عليه، فلم يترددوا في الاستفادة من النظم الإدارية التي وجدوها في البلاد المفتوحة سواء كانت خاضعة للبيزنطيين مثل الشام ومصر أو خاضعة للفرس مثل العراق وبلاد فارس نفسها واستفادوا من الجهاز الإداري وطبقة الموظفين الذين كانوا يسيّرون دولاب العمل في البلاد، فقد كان الوالي في العهد الأموي يتمتع بكل السلطات والصلاحيات الإدارية والمالية والعسكرية في إقليمه، وكان المسلمون يحتفظون بمناصب القضاء والشرطة والحسبة أما ما عدا ذلك من الوظائف الإدارية فكان المجال فيها متسعاً أمام أبناء البلاد المفتوحة في الإدارة، بل إن كثيراً منهم وصلوا إلى مناصب إدارية في ظل الحكم الإسلامي كانوا محرومين منها في ظل حكومات ما قبل الإسلام كما هو الحال في مصر، فقد كان البيزنطيون يستحوذون على معظم المناصب الإدارية، بالإضافة إلى المناصب العسكرية العليا ولا يتركون للمصريين إلا أقل القليل(1)، وقد توسع الأمويون في استخدام أهل الذمة في الإدارة، مما أشعرهم بالأمان والاطمئنان تجاه الدولة، فبدأوا يقبلون على اعتناق الإسلام لترتفع مكانتهم أكثر فأكثر(2).
4 ـ الوضع الديني في البلاد المفتوحة: ومما جعل أبناء البلاد المفتوحة يقبلون على الإسلام بسرعة، فساد الأديان في بلادهم وانحلالها، وفساد رجالها، سواء كانت هذه الأديان سماوية كاليهودية والمسيحية أو وضعية كالبوذية والزرادشتية والمانوية والمزدكية وغيرها من الأديان الوثنية التي كانت سائدة في البلاد المفتوحة(3).
... هذه هي أهم العوامل والأسباب التي ساعدت في دخول شعوب البلاد المفتوحة في الإسلام.
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ383 .
(2) المصدر نفسه صـ384 .
(3) المصدر نفسه صـ384 .(3/202)
ثالثاً : تفسير حركة التعريب بين الشعوب المفتوحة:
نعني بالتعريب تحول لسان الأهالي في البلاد المفتوحة إلى اللسان العربي وهجر لغاتهم المحلية، وقد حدث هذا في عهد الخلافة الراشدة والدولة الأموية في المنطقة المحصورة بين الخليج والمحيط والمعروفة حالياً بمنطقة الدول العربية فقد هجر أهالى تلك البلدان لغاتهم الأعجمية وحلت اللغة العربية محل الآرامية والسريانية في الشام والعراق، والقبطية في مصر، والبربرية في بلدان المغرب ومن أهم أسباب التعريب(1)
__________
(1) الحضارة الإسلامية صـ127 .(3/203)
1 ـ ... انتشار الإسلام: ومهما يكن من أمر فإن انتشار الإسلام بتلك السرعة والسهولة اللتين تم بهما جاء ظاهرة فريدة من نوعها في التاريخ، ذلك أنه لم تكد تنقضي على وفاة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مائة سنة حتى كان الإسلام قد ثبتت ركائزه في بلاد ممتدة من المحيط الأطلسي وشبه جزيرة أيبيريا غرباً حتى بلاد الهند وحدود الصين شرقاً، وكان لا بد أن يأتي انتشار الإسلام مصحوباً بالتعريب، لأن معتنقيه كانوا مطالبين بأداء فروضه ومن الواضح أن النطق بالشهادتين يتطلب نطق بعض الألفاظ العربية وفهم معناها، فضلاً عن أن أداء شعائر الصلاة يتطلب معرفة فاتحة الكتاب وحفظ بعض قصار السور من القرآن الكريم، ثم إن الإسلام يطلب من المسلم الإنصات للقرآن الكريم إذا قرئ على مسمع منه وترتيله وتدبر ما فيه من آيات بينات، وهذه كلها أمور ترتبط بمعرفة اللغة العربية وفهمها. وطبيعي أن يكون من المتعذر على اللغات المحلية أن تستمر فأخذت تتقلص تدريجياً، وتنكمش دائرة استعمالها لتفسح المجال أمام العربية(1) . وهناك حالات ترتبط ببلاد فتحها المسلمون وحكموها بضعة قرون ومع ذلك لم تعرب أي منهم، ونعني بهذه البلاد فارس والتركستان، فالفرس اعتنقوا الإسلام ولكنهم احتفظوا بلغتهم، وإن جاء هذا الاحتفاظ جزئياً غير كامل حيث إن اللغة الفارسية غدت تكتب وتدون بأحرف عربية من ناحية، كما أن كثيراً من الألفاظ العربية، وخاصة تلك المرتبطة بالإسلام وعلوم الدين دخلت الفارسية من ناحية أخرى(2)، وأما التركستان، فقد كانت حماية ما وراء النهر من عدوان الأتراك الشرقيين من أهم منجزات العصر الأموي التي مكنت السيادة الإسلامية في ما وراء النهر، وأضافوا إلى هذه الجهود جهوداً أخرى في ميدان الدعوة إلى الإسلام ونشر الثقافة العربية في البلاد، وقد وضحت هذه الجهود منذ فجر الفتح الأول، فقد كان قتيبة بن
__________
(1) الحضارة الإسلامية صـ129 .
(2) الإسلام والتعريب ، سعيد عاشور صـ251 .(3/204)
مسلم يبني المساجد في بخاري وسمرقند ولم تكن المساجد دوراً للعبادة فحسب إنما كانت مدارس الثقافة العربية الإسلامية، وأتبع ذلك بتوطين القبائل العربية في المدن الكبرى، وتتابعت الجهود في عهد عمر بن عبد العزيز الذي أسقط الجزية عمن أسلم وأمر عماله بالدعوة إلى الإسلام واستمرت هذه الجهود بعد عمر وخاصة في عهد الوالي أشرس بن عبد الله السلمي (108 ـ 110هـ) إذ كان أول من أنشأ الربط والخوانق والمدارس وعمل على تثبيت قدم الثقافة العربية في البلاد(1).
... ومع كل ذلك فإن اللغة العربية لم تستطع أن تنتشر رغم إسلام الأتراك وحماسهم الشديد له وكل ما عمله الأتراك أنهم انتحلوا الخط العربي بحيث لا تجد تركيا على شيء من التعليم لا يستطيع أن يفهم لغة القرآن في سهولة(2)، وهنا لابد أن نأتي إلى تلك النتيجة المنطقية وهي أن انتشار الإسلام قد أدى إلى انتشار اللغة العربية ولكنه لم يؤد بالضرورة إلى التعريب(3) في المناطق الفارسية والتركية وغيرها.
2 ـ هجرة القبائل العربية إلى البلاد المفتوحة:
... ساعد على تعريب البلاد المفتوحة أن العرب الذين نزحوا إلى الأرض الجديدة استقر معظمهم فيها، ولم يستمروا طويلاً في حالة عزلة وإنما أخذوا يندمجون تدريجياً مع الأهالي الأصليين، ولعل أول موجة نذكرها جاءت إلى مصر مع عمرو بن العاص واستمرت الهجرة في العهد الأموي وأخذوا يندمجون تدريجياً مع الأهالي الأصليين(4).
3 ـ تعريب الدواوين:
__________
(1) الإسلام والحضارة العربية صـ129 ـ 130 حسن أحمد محمود .
(2) الإسلام والتعريب صـ255 .
(3) الحضارة الإسلامية صـ132 .
(4) المصدر نفسه صـ134 .(3/205)
... ومن الأمور التي ساعدت على حركة التعريب، ما قام به عبد الملك من حركة التعريب في الدواوين فقد أدى هذا الفعل إلى تعريب اللسان ونشر الخط العربي في كل البلدان التي توالى فيها بعد ذلك نقل دواوينها إلى اللغة العربية، ذلك أن: استخدام اللغة العربية في الشئون الإدارية كان وسيلة فعالة كبرى إلى نشر العلم بطراز معهود في الكتابة العربية، ومن الثابت أيضاً أن هذا الطراز لم يتم تطوره الكامل بتحقيق حروف الهجاء من أواخر القرن الأول بعد الهجرة(1).
4 ـ تفوق الحضارة الإسلامية: ساعد ازدهار الحضارة الإسلامية واتساع نطاقها وتنوع آفاقها على حركة التعريب فهذه الحضارة ساهمت في كافة الميادين ذات الخبرة الإنسانية، سواء الدراسات القطرية والعملية والأطعمة والأشربة والعقاقير والأسلحة والفنون والصناعات والنشاط التجاري والبحري، وكانت اللغة العربية أداة تلك الحضارة العظيمة(2)، وقد استفاد العرب من حضارات الأمم الأخرى وقد أدى تفوق الحضارة الإسلامية إلى انتشار اللغة العربية في ربوع العالم ولكنه لم يؤد إلى التعريب(3).
__________
(1) المصدر نفسه صـ136 .
(2) المصدر نفسه صـ137 .
(3) المصدر نفسه .(3/206)
5 ـ لغة الغالبين الفاتحين: كانت اللغة العربية هي لغة الغالبين الفاتحين، سادة البلاد، وحكامها الجدد، وثمة علاقات متبادلة بين الحاكم والمحكوم تتطلب قدراً من التفاهم المشترك الذي لا يتحقق إلا داخل إطار لغة متفق عليها بين الطرفين، ولما كان الحكام الجدد لا يعرفون لغة إلا العربية، فلم يبق أمام الشعوب التي خضعت لهم سوى تعلم العربية، هذا فضلاً عما يقال من أن ثمة عقدة نفسية عند البشر تجعل الضعيف شغوفاً بمحاكاة القوي، والمغلوب مولعاً دائماً أبداً بتقاليد الغالب(1) وهذا القول ليس على اطلاقه فهناك أمثلة عديدة في التاريخ قبل حركة الفتوح الإسلامية وبعدها تثبت أن تحول شعوب بأكملها إلى لغة الحكام الفاتحين ونبذها لغة الآباء والأجداد ليست القاعدة في التاريخ فاللغة العربية وإن كانت لغة غالب الفاتحين فإن ذلك لم يؤد إلى تعريب كل الشعوب، وإن أدى ذلك إلى انتشار اللغة العربية في تلك البلاد المفتوحة وذلك أن الإسلام لا يجبر الشعوب على ترك لغتها وأعرافها وعاداتها ما لم تخالف الشرع(2). هذه هي أهم الأسباب التي ساهمت في انتشار اللغة العربية وحركة التعريب في بعض البلدان المفتوحة.
__________
(1) الحضارة الإسلامية صـ138 .
(2) المصدر نفسه صـ139 .(3/207)
رابعاً : الحرص على سلامة الجيوش: كان عبد الملك بن مروان يوصي قادته بالحذر من البيات والتيقظ والحرص على سلامة العسكر، بإقامة الحرس فكان قادته لا يسيرون ولا ينزلون إلا على تعبئة ويتخذون في نزولهم الخنادق والمسالح بكل مكان مخوف والأرصاد على العقاب والشعاب(1)، واهتم عبد الملك بجمع الأخبار عن العدو، فلا يسير له جيش إلا وقد سبقته العيون لترصد أخبار العدو واستطاع قادته استمالة بعض أبناء البلاد المفتوحة ليكونوا عيوناً لهم يقدمون لهم المعلومات الصحيحة عن تحركات العدو، واستعانوا أيضاً بالتجار في هذه المهمة(2)، فكل قادة الفتح لهم عيون يجمعون لهم المعلومات على الأعداء، وهذا دليل على حرص القيادة على سلامة جنودها وجيوشها.
__________
(1) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/198) .
(2) المصدر نفسه (1/407) .(3/208)
خامساً أهمية الشورى في إدارة الصراع: ومما أوصى به الخليفة عبد الملك بن مروان أخاه عبد العزيز عندما أبقاه على ولاية مصر قوله: ((وإذا انتهى إليك مشكل، فاستظهر عليه بالمشورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه ولن يهلك امرؤ عن مشورة(1). كما أوصى أحد قواده بقوله: لا تستعن في أمر دهمك برأي كذاب ولا معجب، فإن الكذاب يقرب لك البعيد ويبعد عنك القريب، وأما المعجب فليس له رأي صحيح ولا روية تسلم(2)، ومما قاله عبد الملك في المشورة: لأن أخطئ وقد استشرت أحب إليّ من أن أصيب وقد أستبددت برأي وأمضيته من غير مشورة لأن المقدم على رأيه يزري به أمران تصديقه رأيه الواجب عليه تكذيبه وتركه من المشورة ما يزداد به بصيرة(3)، وعندما تحركت الروم بأرض القسطنطينية حيث عزموا على غزو المسلمين وبلغ أمرهم عبد الملك بن مروان نادى في أهل الشام وجمعهم في المسجد الأعظم ثم صعد المنبر وقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أيها الناس إن العدو قد كلب عليكم وطمع فيكم وهنتم عليه لترككم العمل بطاعة الله تعالى واستخفافكم بحق الله وتثاقلكم عن الجهاد في سبيل الله ألا وإني قد عزمت على بعثكم إلى أرض الروم فماذا عندكم من الرأي(4)؟ وهنا نجد أن الخليفة عبد الملك بن مروان شاور المسلمين في مرحلة الإعداد والإقرار فيبرز بذلك مبدأ الشورى في إتخاذ القرار العسكري في الإدارة العسكرية الأموية وأخذ قادة الخليفة عبد الملك بن مروان يعملون بالمشورة فيما بينهم في إدارتهم للمعارك الحربية وبين القيادة العليا المركزية(5)، وحين حضرت الخليفة عبد الملك الوفاة أوصى أبناءه بقوله: وانظروا ابن عمكم عمر بن عبد العزيز فاصدروا عن رأيه
__________
(1) تاريخ ابن خلدون نقلاً عن الإدارة العسكرية (1/282) .
(2) المنهج المسلوك للشيرازي صـ490 .
(3) المصدر نفسه صأ481 ، الإدارة العسكرية (1/283) .
(4) الفتوح لابن أعثم (4/122) .
(5) الإدارة العسكرية (1/283) .(3/209)
ولا تَخَلَّوا عن مشورته اتخذوه صاحباً لا تجفوه، ووزيراً لا تعصوه فإنه من علمتم فضله ودينه وذكاء عقله فاستعينوا به على كل مهم، وشاوروه في كل حادث(1). وبإنتقال الخلافة إلى ابنيه الوليد وسليمان سلكاً نهجه في إدارتهما العسكرية بمبدأ الشورى وأخذهما بها لدى فتوحاتهم الإسلامية في مرحلة الإعداد والإقرار أو التخطيط والتنفيذ(2).
سادساً : الاهتمام بالحدود البرية:
__________
(1) المصدر نفسه (1/284) .
(2) الإدارة العسكرية (1/284) .(3/210)
اهتم الخليفة عبد الملك بالحدود البرية، فقام ببناء عسقلان وحصّنها ورمّ قيسارية، وبنى بها بناءً كثيراً وبنى مسجدها، وقام بتجديد وترميم صور وعكا وأردبيل وبرذعه لما لهذه الثغور من أهمية حربية(1)، وبنى واليه الحجّاج بن يوسف مدينة واسط كقاعدة عسكرية تتوسط بين الأهواز والبصرة والكوفة بمقدار واحد قدره خمسون فرسخاً وذلك أنه كان حينما يريد غزو خراسان ينزل جيش الشام على أهل الكوفة فكانوا يتأذون منهم فبنى واسطاً، كمعسكر لهم ولقد لعبت دوراً مهماً في عملية الإمداد لثغور المشرق(2)، وفي عهد عبد الملك فتح حصن سنان(3)، من بلاد الروم حيث استفاد منه بشحنه بالجند لحماية الحدود(4)، واهتم عبد الملك في إدارته العسكرية بحملات الصوائف والشواتي، فكان يوليها كبار رجالات البيت الأموي، مما يدل على حرصه وعنايته في حماية وتأمين حدود الدولة الإسلامية ضد هجمات الأعداء، وكان من هؤلاء الأمراء ابنه الوليد، ومن أمراء البيت الأموي الذين تولوا حملات الصوائف والشواتي لعدة سنوات أخو الخليفة عبد الملك محمد بن مروان والذي له الأثر الجميل في مباشرة تحصين وإنشاء حصن المصيصة وشحنه بالجند وبنائه لطرندة وتعزيزه إياها بالعسكر، وابنه مسلمة بالإضافة إلى كبار القادة أمثال يحي بن الحكم وعثمان بن الوليد وغيرهما(5)، واهتم الخليفة الوليد بالحدود البرية وقام بتحصينات ثغرية كالتي أنشأها بالثغور الشامية على الخط الساحلي للبحر الأبيض المتوسط لحماية حدود الدولة الإسلامية من هجمات الروم استحداثه لأربع نقاط حصينة هي حصن سلوقية(6) وإقطاعه الجند للأرضي بها لتعميرها وإلصاقهم بالثغر وحصن بغراس
__________
(1) شذرات الذهب (1/95) الإدارة العسكرية (2/479) .
(2) الإدارة العسكرية (2/479) .
(3) في بلاد الروم فتحه عبد الله بن عبد الملك .
(4) الإدارة العسكرية (2/480) .
(5) تاريخ اليعقوبي (2/281) الإدارة العسكرية (2/481) .
(6) سلوقية : حصن عند الساحل بأرض الروم (تركيا) .(3/211)
وعين السلور(1)، وبحيرتها والإسكندرونة(2)، فأصبح هذا الخط الساحلي أكثر مناعة وحصانة في عهده من قبل(3)،وقام بفتح حصون كثيرة ثم شحنها بالجند المرابطين منها حصن طوانة(4) وغيرها من الحصون، واهتم الوليد بالطرق الموصلة إلى الثغور وقام بتسهيلها وتأمينها وبنى بها القناطر لعبور الجند عليها في حملاتهم الصائفة والشاتية(5) واستمر والي العراق من قبل الوليد الحجّاج بن يوسف بتحصين ثغور المشرق وعمل المراصد بها وبناء القواعد العسكرية فيها كخوارزم(6)، وشيراز وخراسان وغيرها من ثغور المشرق(7)، واستمر الخليفة سليمان على نهج والده وأخيه في الاهتمام بالحدود البرية(8).
سابعاً : الأثر الاقتصادي والاجتماعي للفتوحات:
__________
(1) عين السلور : قرب انطاكية : السلور ، السمك البحري .
(2) اسكندرونة : مدينة شرق انطاكية .
(3) الإدارة العسكرية (2/483) .
(4) طوانة : بلد بثغور المصيصة ، معجم البلدان (4/45) .
(5) الإدارة العسكرية (2/483) .
(6) المصدر نفسه (2/485) .
(7) المصدر نفسه (2/486) .
(8) المصدر نفسه (2/487) .(3/212)
من الآثار الاقتصادية والاجتماعية في عهد الخليفة عبد الملك للفتوحات ظهور التجار برفقة العسكر بشراء بعض ما يغنمه الجند من العدو،، فبذلك تنشط الحركة التجارية وتزدهر، كما أنه أثناء سير العسكر نحو العدو وحين يصادف مرورهم بالمدن والقرى المتواجدة في طريقهم يقومون بشراء احتياجاتهم(1) منها وكان والي مصر عبد العزيز بن مروان من قبل عبد الملك يحفر الخلجان بها وكانت له بمصر ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره ومائة جفنة يطاف بها على القبائل، تحمل على عجل من أجل الإطعام(2)، وحين انتقلت الخلافة إلى الوليد كانت إدارته من أفضل الإدارات في تقديم الخدمات الاجتماعية والاقتصادية بين أفراد المجتمع وسيأتي عنها الحديث في محلها بإذن الله تعالى هذه هي أهم الدروس والعبر والفوائد من الفتوحات في عهد عبد الملك وبنيه .
المبحث الخامس : ولاية العهد وموقف سعيد بن المسيب منها ووصية عبد الملك لأولاده ووفاته:
أولاً : ولاية العهد وموقف سعيد بن المسيب منها:
__________
(1) تاريخ الطبري نقلاً عن الإدارة العسكرية (2/775) .
(2) الولاة للكندي صـ313 ، الإدارة العسكرية (2/776) .(3/213)
عقد مروان بن الحكم ولاية العهد لابنيه عبد الملك ومن بعده عبد العزيز بعد عودته من مصر وبعد وفاته سنة 65هـ تولى عبد الملك الحكم وكانت العلاقة التي تربط بين الخليفة وأخيه وولي عهده، عبد العزيز يسودها الصفاء ولم يتوان الأخير في خدمة الخلافة طيلة حياته وبعد أن مضى ما يقارب عشرين سنة على هذه الحال بدأت تظهر فكرة تحويل ولاية العهد من عبد العزيز إلى الوليد وأخيه سليمان ابني الخليفة، وقد تباينت الروايات في ذكرها لمن أشار بأمر الخلع ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف فعلى ما يبدو أن الخليفة عبد الملك بعد أن ظهرت هذه الفكرة لديه كتب إلى أخيه يطلب منه أن يتنازل عن ولاية العهد لابنيه الوليد وسليمان، فأبى عبد العزيز وأراد عبد الملك أن ينتقم من عبد العزيز ويضيق عليه(1)، فكتب عبد العزيز إلى أخيه: يا أمير المؤمنين إني وإياك قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً. وإني لا أدري ولا تدري أينا يأتيه الموت أولاً فإن رأيت ألا تغثث علي بقية عمري فافعل. فقال الخليفة عبد الملك: لعمري لا أغثث عليه بقية عمره، وقال لابنيه أن يرد الله أن يعطيكموها لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك(2)، وحسم موت عبد العزيز الخلاف مع أخيه وعقد عبدالملك بيعة ولاية العهد للوليد وسليمان من بعده وأمر ولاته في جميع الأمصار بأخذ البيعة لهما، فكان موقف سعيد بن المسيب هو الامتناع عن البيعة لأن ذلك التزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم في نظره لأنه نهى عن البيعة لاثنين، فلا بد من تنفيذ ذلك، مهما كلفه الامتناع من ثمن باهظ. قال عمران بن عبد الله: دعي سعيد للبيعة للوليد وسليمان بعد عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع لاثنين ما اختلف الليل والنهار. قال: فقيل له: أدخل من الباب واخرج من الباب الآخر، قال: والله لا يقتدي بي أحد من الناس(3)
__________
(1) عبد العزيز بن مروان ، بديع محمد الدليمي صـ206 إلى 209 .
(2) تاريخ الطبري (7/313) .
(3) سعيد بن المسيب سيد التابعين صـ157 ، سير أعلامالنبلاء (4/231) .(3/214)
.
وكان حجة سعيد بن المسيب في امتناعه عن البيعة أنه لا يجوز أن يبايع لاثنين بالخلافة في آن واحد(1). وقال عبد الرحمن بن عبد القاري، لسعيد بن المسيب، حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة من بعد أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي؟ قال" تعتزل مقامك، فإنك هو وحيث يراك هشام بن إسماعيل ـ والي المدينة ـ قال: ما كنت لأغيّر مقاماً قمته منذ أربعين سنة. قال: تخرج معتمراً؟ قال: ما كنت لأنفق مالي، وأجهد بدني في شيء ليس فيه نيه. قال: فما الثالثة.قال: تبايع. قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك، كما أعمى بصرك. قال: فما علي!(2) ـ وكان أعمى ـ قال رجاء بن جميل الإيلي: فدعاه هشام إلى البيعة، فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك، فكتب إليه عبد الملك، مالك ولسعيد، ما كان علينا منه شيء نكرهه، فأما إذا فعلت، فاضربه ثلاثين سوطاً، وألبسه تُبَّان(3) شعر، وأوقفه للناس(4).
وكان للفقيه الكبير قبيصة بن ذؤيب دور في ندم الحكام على صنيعهم، ولام الخليفة على ما فعل بابن المسيب وتم اخلاء سبيله من السجن من قبل والي المدينة الذي سجنه وجلده(5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/231) .
(2) المصدر نفسه (4/231) .
(3) التبان : سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة .
(4) سير أعلام النبلاء (4/231) .
(5) سعيد بن المسيب سيد التابعين صـ161 .(3/215)
فهذا هو موقف سعيد بن المسيب وتمسكه بفتواه فقد رفض بشدة الخضوع للسلطان وخداع الأمة، فهو يرى أن امتناعه عن البيعة، إذا لم يعلمه الناس فلا جدوى منه فلابد للعالم والفقيه أن يبين ما يحدد موقفه(1)، وكان سعيد بن المسيب عنده أمر عظيم من بني أمية وسوء سيرتهم وكان لا يقبل عطاءهم(2)، وقد اختلف المؤرخون في أمر سعيد بن المسيب، بأن والي المدينة هو الذي عرض سعيد للعقوبة بدون أمر عبد الملك، والبعض الآخر الآخر قال: بأن عبد الملك هو الذي أمر، فالذي يهمنا هنا هو موقف سعيد من ولاية العهد للوليد وسليمان وتعرضه للعقوبة والمحنة مما زاد من حدة الخلاف بينه وبين بني مروان وأسهم في توسيع الفجوة في علاقته بهم وولاتهم(3) وكانت له مواقف صلبة أمام عبد الملك وابنه الوليد من بعده(4)، ويلحظ المتمعن في خلاف سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ لبني أمية وولاتهم ـ التزامه بآداب جمة يجدر الوقوف عندها وتأملها للإفادة منها ومن أهم تلك الآداب ما يلي:
__________
(1) الفقهاء والخلفاء ، سلطان حثلين صـ70 .
(2) سير أعلام النبلاء (4/228) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ378 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/226 ، 227) .(3/216)
1 ـ إنه على الرغم مما حدث بينه وبين بعض خلفاء بني أمية وولاتهم فإنه يعترف بإمامتهم وشرعية خلافتهم، فهو يعترف لعبد الملك بن مروان وابنه الوليد بإمرة المؤمنين، كما ورد ذلك في قوله لحاجب عبد الملك حين دعاه لمقابلة عبد الملك فقال سعيد: ما لأمير المؤمنين(1) حاجة. وكذلك قالها للوليد حين قدم الوليد المدينة ودخل المسجد مع عمر بن عبد العزيز ودار فيه مع عمر حتى قربا من سعيد بن المسيب ووقفا عليه، فقال الوليد لسعيد كيف أنت أيها الشيخ؟ فقال سعيد: خير والحمد لله. فانصرف وهو يقول لعمر هذا بقية الناس، فقال عمر: أجل يا أمير المؤمنين(2). كما أنه على الرغم من ما صنع به والي المدينة ـ هشام بن إسماعيل ـ فإنه كان يصلي خلفه، وكل ما فعله مقابل إساءته له أن قال: الله بيني وبين من ظلمني أو اللهم انصرني من هشام(3)، وكان يمتثل أوامرهم فيه، فحين أخرج من السجن نهوا أن يجالسه أحد، فكان إذا أراد أحد أن يجالسه قال: إنهم قد جلدوني، ومنعوا الناس أن يجالسوني(4).
2 ـ ومن أدب خلافه أنه لم يشغل نفسه بسب بني أمية أو ولاتهم، أو التعرض لهم بالقدح وإثارة الناس عليهم، فحين قيل له: ادع على بني أمية، قال: اللهم أعز دينك وأظهر أولياءك وأخز أعداءك في عافية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم(5).
3 ـ كما لم يدفعه كرهه لبني أمية أن يضع يده مع كل معارض لهم ويسعى لتأييده نكاية للأمويين.
__________
(1) المصدر نفسه (4/227) .
(2) تاريخ الإسلام للذهبي ، نقلاً عن اثر العلماء صـ389 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/230) الطبقات (5/126) .
(4) سير أعلام النبلاء (4/232) .
(5) سير أعلام النبلاء (4/232) .(3/217)
4 ـ كما أنه على الرغم من كرهه القرب من خلفاء بني أمية ـ لاسيما بني مروان منهم ، وربما انتقاده لبعض العلماء الذين خالطوهم كقبيصة بن ذؤيب والزهري، على الرغم من ذلك إلا أن كرهه لهذا العمل من العلماء لم يمتد ليشمل نظرته وتقويمه لهم، بل كان يقدر لهم عملهم واجتهادهم، فروى عنه قوله في الزهري: ما مات من ترك مثلك(1). فانظر إلى هذا الأدب في الخلاف بين العلماء حين يختلفون في قضية من القضايا أو موقف من المواقف، فإنه لا يمتد هذا الخلاف ليفسد ذات بينهم أو يشعل فتيل التهم فيما بينهم(2).
وقد استطاع عمر بن عبد العزيز حين تولى الحجاز في عهد الوليد أن يحسن التعامل مع العلماء بشكل عام وقدر لهم قدرهم وجعلهم مستشاريه، وخص سعيداً بمزيد من التقدير والاحترام، ونتيجة لحسن معاملة عمر بن عبد العزيز له تجاوب سعيد معه قال ابن كثير: وكان سعيد لا يأتي أحد من الخلفاء وكان يأتي عمر بن عبد العزيز وهو بالمدينة ومرة أرسل عمر بن عبد العزيز رسولاً إلى سعيد ليسأله في مسألة فأخطأ الرسول فدعاه فلما جاء سعيد قال عمر: أخطأ الرسول، إنما أرسلناه يسألك في مجلسك(3). فانظر كيف كان حرص عمر على تقديره، وانظر أيضاً كيف سارع سعيد إلى المجيء إليه تقديراً له(4). كان عالم المدينة وسيد التابعين مدرسة في الأخلاق والقيم والمبادئ ومن حياته يستفاد دروس وعبر وفوائد منها:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/337) .
(2) أثر الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ390 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن أثر الحياة السياسية صـ392 .
(4) أثر الحياة السياسية صـ392 .(3/218)
1 ـ تزويجه ابنته: كانت بنت سعيد قد خطبها عبد الملك لابنه الوليد، فأبى عليه(1)، وزّوج سعيد ابنته لابن أبي وداعة أحد تلاميذه فعن ابن أبي وداعة ـ قال: كنت أجالس سعيد بن المسِّيب، ففقدني، اياماً، فلما جئته قال: أين كنت؟ قلت: تُوُفِّيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: ألاَّ أخبرتنا فشهدناها، ثم قال: هل استحدثت امرأة؟ فقلت: يرحمك الله، ومن يزوِّجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟ قال: أنا فقلت: وتفعل؟ قال: نعم، ثم تحمَّد، وصلىَّ على النبي صلى الله عليه وسلم وزوّجني على درهمين ـ أو قال: ثلاثة فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح فصرت إلى منزلي وجعلت أتفكر فيمن أستدين. فصليتُ المغرب، ورجعت إلى منزلي، وكنت وحدي صائماً، فقدمت عشائي أُفطر وكان خبزاً وزيتاً، فإذا بأبي يقرع فقلت من هذا؟ فقال: سعيد. فأفكرت في كل من اسمه سعيد إلا ابن المسيِّب، فإنه لم يُر أربعين سنة إلا بين بيته والمسجد، فخرجت، فإذا سعيد، فظننت أنه قد بدا له فقلت يا أبا أحمد ألا أرسلت إليَّ فآتيك؟ قال: لا أنت أحق أن تؤتي، إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت، فكرهت أن تبيت الليلة وحدك، وهذه أمرتك، فإذا هي قائمة من خلفه في طوله، ثم أخذ بيدها فدفعها في الباب، وردَّ الباب. فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب، ثم وضعت القصعة في ظلَّ السراج لكي لا تراه، ثم صعدت إلى السطح فرميت الجيران، فجاؤوني فقالوا: ما شأنك؟ فأخبرتهم. ونزلوا إليها وبلغ أميَّ، فجاءت وقالت" وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أُصلحها إلى ثلاثة أيام، فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها، فإذا هي من أجمل الناس، وأحفظ الناس لكتاب الله، وأعلمهم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرفهم بحق زوج، فمكثت شهراً لا آتي سعيد بن المسيب ثم أتيته وهو في حلقته فسلَّمت، فردَّ عليَّ السلام، ولم يُكلمني حتى تقوَّض المجلس، فلما لم يبق غير قال: ما حال ذلك الإنسان؟ قلت: خير يا أبا
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/233) .(3/219)
محمد، على ما يحب الصديق، ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا. فانصرفت إلى منزلي، فوجَّه إليَّ بعشرين ألف درهم(1).
2 ـ معرفته بتأويل الرؤى: كان سعيد من أعبر الناس للرؤيا أخذ ذلك عن أسماء بنت أبي بكر الصِّديق وأخذته أسماء عن أبيها(2)، وعن عمر بن حبيب بن قُليع قال: كنت جالساً عند سعيد بن المسيِّب يوماً، وقد ضاقت بي الأشياء ورهقني دين، فجاءه رجل، فقال: رأيت كأنِّي أخذت عبد الملك بن مروان، فأضجعته إلى الأرض، وبطحته فأفندت في ظهره أربع أوتاد. قال: ما أنت رأيتها قال: بلى. قال: لا أخبرك أو تخبرني قال: ابن الزبير رآها، وهو بعثني إليك قال: لئن صدقت رؤياه قتله عبد الملك، وخرج من صُلب عبد الملك أربعة كلهم يكون خليفة. قال: فرحلت إلى عبد الملك بالشام فأخبرته، فسُرَّ، وسألني عن سعيد بن المسيِّب وعن حاله فأخبرته وأمر بقضاء ديني وأصبت منه خيراً(3). وعن إسماعيل بن أبي حكيم، قال: قال رجل: رأيت كأنّ عبد الملك بن مروان يبول في قبلة مسجد النبي صلى اله عليه وسلم أربع مرار. فذكرت ذلك لسعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياك قام فيه من صلبه أربعة خلفاء(4). وعن عمران بن عبد الله ، قال: رأى الحسن بن علي كأن بين عينيه مكتوب ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) فاستبشر به، وأهل بيته، فقصُّوها على سعيد بن المسيِّب، فقال: إن صدقت رؤياه فقلَّما بقي من أجله، فمات بعد أيام(5).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/234) .
(2) المصدر نفسه (4/235) .
(3) سير أعلام النبلاء (3/235) .
(4) المصدر نفسه (3/236) .
(5) المصدر نفسه (3/237)(3/220)
3 ـ من كلام سعيد بن المسيب: قال: أيس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء(1)، ثم قال لنا سعيد ـ وهو ابن أربع وثمانين سنة قد ذهبت إحدى عينينه وهو يعشو بالأخرى: ما شيء أخوف عندي من النساء(2)، وقال: لا تقولوا مصيحف ولا مسيجد، ما كان لله فهو عظيم حسن جميل(3)، وقال: لا خير في من لا يُريد جمع المال من حلِّه، يعطي منه حقه، ويكف به وجهه عن الناس(4)، فقال: من استغنى بالله، افتقر الناس إليه(5). وقال: برد مولى بن المسيب لسعيد بن المسيب، ما رأيت ما أحسن ما يصنع هؤلاء! قال سعيد: وما يصنعون؟ قال: يصلي أحدهم الظهر، ثم لا يزال صافاً رجليه حتى يصلي العصر. فقال:
... ويحك يا برد أما والله ما هي العبادة، إنما العبادة التفكر في أمر الله، والكف عن محارم الله(6). وقال:
... ما خفت على نفسي شيئاً مخافة النَّساء، قالوا: يا أبا محمد إنَّ مثلك لا يريد النساء ولا تريده النساء، فقال: هو ما أقول لكم. وكان شيخاً كبيراً أعمش(7).
__________
(1) المصدر نفسه (3/237) .
(2) المصدر نفسه (3/237) .
(3) المصدر نفسه (3/238) .
(4) المصدر نفسه (3/238) .
(5) المصدر نفسه (3/239) .
(6) المصدر نفسه (3/241) .
(7) سير أعلام النبلاء (4/241) .(3/221)
4 ـ دعاء مستجاب: عن علي بن يزيد قال: قال لي سعيد بن المسيِّب: قل لقائدك يقوم، فينظر إلى وجه هذا الرجل وإلى جسده، فقام، وجاء فقال: رأيت وجه زنجيٍّ وجسده أبيض. فقال سعيد: إن هذا سبَّ طلحة والزبير وعلياً رضي الله عنهم، فنهيته، فأبى، فدعوت الله عليه، قلت: إن كنت كاذباً فسود الله وجهك، فخرجت بوجهه قرحة فأسود وجهه(1). توفي رحمه الله عام 94هـ، وسميت السنة التي مات فيها سنة الفقهاء لكثرة من مات منهم فيها(2). ولما اشتد به الوجع دخل عليه نافع بن جبير يعوده، فأغمي عليه فقال نافع: وجِّهوه، ففعلوا، فأفاق فقال: من أمركم أن تحولوا فراشي إلى القبلة، أنافع؟ قال: نعم. قال له سعيد: لئن لم أكن على القبلة والملة والله لا ينفعني توجيهكم فراشي(3).
ثانيا : وصية عبد الملك لأولاده ووفاته:
لما احتضر عبد الملك أمر بفتح الأبواب من قصره، فلما فتحت سمع قصاراً ـ أي: غسالاً ـ بالوادي، فقال: ما هذا قالوا: قصار، فقال: يا ليتني كنت قصاراً أعيش من عمل يدي، فلما بلغ ذلك سعيد بن المسيِّب قال: الحمد لله الذي جعلهم عند موته يفرون إلينا ولا نفر إليهم(4).
1 ـ ولما حضره الموت جعل يندم ويندب ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت لو أكتسب قوتي يوماً بيوم واشتغلت بعبادة ربي(5).
2 ـ وقيل له لما حضره الموت: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ))(6)(الأنعام ، الآية : 94).
3 ـ وقيل إنه لما حضرته الوفاة دعا بنيه فوصاهم فقال: الحمد لله الذي لا يسأل أحداً من خلقه صغير أو كبيراً ثم أنشد:
... ... ... فهل من خالد إما هالكنا
__________
(1) المصدر نفسه (4/242) .
(2) المصدر نفسه (4/245) .
(3) المصدر نفسه (4/245) .
(4) البداية والنهاية (12/395) .
(5) المصدر نفسه (12/395) .
(6) المصدر نفسه (12/394) .(3/222)
... ... ... ... ... ... ... وهل بالموت للباقين عار
وقيل: إنه قال: أرفعوني فرفعوه حتى شم الهواء وقال: يا دنيا ما أطيبك؟ إن طويلك لقصير، وإن كثيرك لحقير، وإن كنا بك لفي غرور، ثم تمثل بهذين البيتين:
... ... إن تناقش يكن نقاشك يا رب
... ... ... ... ... ... عذاباً لا طوق لي بالعذاب
... ... أو تجاوز فأنت رب صفوح
... ... ... ... ... ... عن مسيء ذنوبه كالتراب(1)
وخطب عبد الملك يوماً خطبة بليغة، ثم قطعها وبكى بكاءً شديداً، ثم قال: يا رب إن ذنوبي عظيمة، وإن قليل عفوك أعظم منها، اللهم فامح بقليل عفوك عظيم ذنوبي فبلغ ذلك القول زاهد العراق الحسن البصري فبكى وقال: لو كان كلام يكتب بالذهب لكتب هذا الكلام(2)، وقال الشعبي: خطب عبد الملك، فقال: اللهمّ إن ذنوبي عظام وهي صغار في جنب عفوك يا كريم، فأغفرها لي(3).
4 ـ جاء ابنه الوليد بباب المجلس وهو غاص بالنساء، فقال: كيف أصبح أمير اامؤمنين؟ قيل له يُرجى له العافية وسمع عبد الملك ذلك فقال:
... ... ... وكم سائل عنا يريد لنا الرَّدى
... ... ... ... ... ... ... وكم سائلات والدموع ذوارف
ثم أمر النساء، فخرجن وأذن لبني أمية فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية فقال لهما: يا بني يزيد أتحبان أن أقيلكما بيعة الوليد؟
... قالا معاذ الله يا أمير المؤمنين. قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه. ثم خرجوا عنه واشتد وجعه، فتمثل ببيت أمية بن الصَّلت:
... ... ... ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
... ... ... ... ... ... ... في قلال الجبال أرعى الوعولا(4)
وصية عبد الملك لابنه الوليد عند موته تدل على حزمه:
__________
(1) البداية والنهاية (12/396) .
(2) المصدر نفسه (12/391) .
(3) سير أعلام النبلاء (4/249) .
(4) الأخبار الطوال صـ296 .(3/223)
لما احتضر عبد الملك دخل ابنه الوليد فبكى، وقال له عبد الملك: ما هذا؟ أتخن حنين الجارية والأمة، إذا مت فشمر واتزر، وألبس جلد النمر وضع الأمور عند أقرانها واحذر قريشاً:
1 ـ يا وليد: أتقي الله فيما استخلفك فيه، واحفظ وصيتي.
2 ـ انظر إلى أخي معاوية فصل رحمه واحفظني فيه.
3 ـ وانظر إلى أخي محمد فأمره على الجزيرة ولا تعزله عنها.
4 ـ أنظر إلى ابن عمنا علي بن عباس، فإنه قد انقطع إلينا بمودته ونصيحته وله نسب وحق فصله رحمه، واعرف حقه.
5 ـ وانظر إلى الحجّاج بن يوسف فاكرمه، فإنه هو الذي مهد لك البلاد، وقهر الأعداء، وخلص لك الملك وشتت الخوارج.
6 ـ وأنهاك وإخوتك عن الفرقة، وكونوا أولاد أمٍ واحدة، وكونوا في الحرب أحراراً، وللمعروف مناراً، فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها، وإن المعروف يشيد ذكر صاحبه، ويميل القلوب بالمحبة، ويذلل الألسنة بالذكر الجميل، ولله در القائل:
... ... ... ... إن الأمور إذا اجتمعنا فرامها
... ... ... ... ... ... ... ... بالكسر ذو حنقٍ وبطشٍ مفند
... ... ... ... عزت فلم تكسر وإن هي بددت
... ... ... ... ... ... ... ... فالكسر والتوهين للمتبدد
7 ـ ثم قال: إذا أنا مت فادعو الناس إلى بيعتك، ومن أبى فالسيف، وعليك بالإحسان إلى أخواتك فاكرمهن، وأحبهن إليَّ فاطمة، وكان قد أعطاها قرطي ماريا، والدرة اليتيمة، ثم قال: اللهم أحفظني فيها(1)، وكان قد تزوجها عمر بن عبد العزيز وهو ابن عمها.
ـ وصيته لبنيه:
... لما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة دعا بنيه، فأوصاهم فقال:
1 ـ يا بني: أوصيكم بتقوى الله، فإنها أحصن كهف وأزين حلة ليعطف الكبير منكم على الصغير، وليعرف الصغير منكم حق الكبير.
2 ـ وإياكم والاختلاف والفرقة، فإنها بها هلكة الأولون قبلكم، وذل ذو العدد والكثرة.
3 ـ وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه جنتكم الذي به تستجنون، ونابكم الذي عنه تفترون.
__________
(1) البداية والنهاية (12/392 ، 393) .(3/224)
4 ـ اكرموا الحجّاج، فإنه وطأ لكم المنابر وكونوا عند القتال أحراراً وعند المعروف مناراً، وكونوا بني أم بررة، أحلولوا في مرارة ولينلوا في شدة ثم رفع رأيه إلى الوليد فقال:
5 ـ يا وليد: لأعرفنكم إذا وضعتني في حفرتي تمسح عينيك وتعصرهما فعل الأمة ولكن إذا وضعتني في حفرتي فشمر واتزر، والبس جلد النمر، ثم أصعد المنبر فادعو الناس إلى البيعة، من قال كذا فقل كذا(1).
* ـ وفاته ودفنه:
... كان عبد الملك يقول: ولدت في رمضان، وفطمت في رمضان، وختمت القرآن في رمضان، وأتتني الخلافة في رمضان، وأخشى أن أموت في رمضان، فلما دخل شوال وأمن مات(2)، مات بدمشق سنة 86هـ يوم الجمعة وقيل الأربعاء وصلى عليه ابنه الوليد ولي عهده من بعده وكان عمره يوم مات ستين سنة، وقيل ثلاث وستين سنة وقيل ثمان وخمسين سنة(3)، ودفن بين باب الجابية وباب الصغير(4)، وكان نقش خاتمه (آمنت بالله مخلصاً)(5)، وانفرد بالخلافة منذ مقتل ابن الزبير إلى وفاته، والصحيح أنه لما مات كان عمره ستين سنة حيث ولد عام ستة وعشرين هجرية(6).
المبحث السادس : خلافة الوليد بن عبد الملك: 86 إلى 96 هـ
__________
(1) المعمرون والوصايا صـ160 ، نقلاً عن وصايا وعظات قيلت في آخر الحياة صـ97 تاريخ ابن عساكر (66/126) .
(2) أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ (2/22) .
(3) البداية والنهاية (12/ 396) .
(4) أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ (2/23) .
(5) تاريخ القضاعي صـ347 .
(6) سير أعلام النبلاء (4/246) .(3/225)
هو أبو العباس الوليد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي، الدمشقي بويع بعهد من أبيه، وكان مترفاً دميماً، قليل العلم نهمته في البناء، أنشأ جامع بني أمية وأنشأ أيضاً مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وزخرفه ورزق في دولته سعادة، ففتح بوابة الأندلس، وبلاد الترك، وكان لحنة وحرص على النحو أشهراً، فما نفع وغزا الروم مرات في دولة أبيه، وحج وقيل كان يختم في كل ثلاث، وختم في رمضان سبعة عشرة ختمة، وكان يقول: لولا أن الله ذكر قوم لوط ما شعرت أن أحداً يفعل ذلك. وكان فيه عسف وجبروت. وقيام بأمر الخلافة، وقد فرض للفقهاء والأيتام والزّمنى والضعفاء وضبط الأمور(1).
أولاً : أهم أعماله الحضارية والإنسانية:
1 ـ توسيع المسجد النبوي:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/348 ، 349) .(3/226)
كان الوليد بن عبد الملك من اشهر خلفاء بني أمية وهو أكثرهم عناية بالبناء والعمران حتى لقب مهندس بني أمية، وأراد الوليد أن يبني المسجد النبوي ويشيده بما يليق به وبعظمة الخلافة في عهده، فصمم على تنفيذ ذلك المشروع وهو توسعة المسجد النبوي، وأدخل حجر أمهات المؤمنين وحجرة فاطمة وحجرة عائشة رضي الله عنهن جميعاً في المسجد إضافة إلى أن المؤرخين قد ذكروا أن بعض جدران الحجرة قد بدأ فيه الخلل نتيجة القدم(1)، وعندما وصل خطابه بذلك إلى واليه على المدينة عمر بن عبد العزيز جمع الفقهاء العشرة(2) ووجوه الناس وأخبرهم بما أمر به الوليد فأنكروا ذلك وكرهوه ورأوا أن بقاء بيوت النبي صلى الله عليه وسلم على حالها أدعى للعبرة والاتعاظ(3)،وقد قال الفقهاء: هذه حجر قصيرة السقوف وسقوفها من جريد النخل وحيطانها من اللبن وعلى أبوابها المسوح وتركها على حالها أولى، ينظر فيها الحجاج والزوار والمسافرون إلى بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فينتفعوا بذلك ويعتبر به، ويكون ذلك أدعى لهم إلى الزهد في الدنيا، فلا يعمرون فيها إلا بقدر الحاجة، وهو ما يستر ويكن، ويعرفون أن هذا البنيان العالي إنما من أفعال الفراعنة والأكاسرة، وكل طويل الأمل راغب في الدنيا وفي الخلود فيها. فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد بما أجمع عليه الفقهاء العشرة المتقدم ذكرهم، فأرسل إليه يأمره بتجديد البناء، كما أراد الوليد، ويحكى أن سعيد بن المسيِّب أنكر إدخال حجرة عائشة في المسجد كأنه خشي أن يتخذ القبر مسجداً(4). ومن الأعمال التي مهدت للبدع حول القبور من البناء عليها والصلاة إليها، ودعاء الأموات، إدخال حجرة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد في عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك، وزخرفته
__________
(1) الشامل في تاريخ المدينة (1/396) ، القبورية في اليمن صـ71 .
(2) البداية والنهاية (12/414) .
(3) البداية والنهاية (12/414) .
(4) البداية والنهاية (12/415) .(3/227)
وتزيينه بالفسيفساء(1)، ثم تدرج الحال إلى إدخال جميع الحجرة في المسجد، ثم البناء عليها، وبناء القبة، ثم اتخاذها مصلى واتخاذها ذريعة للبناء على القبور واتخاذها مساجد، والوقوع فيما حذر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر مما صنعوا(2). وقال صلى الله عليه وسلم: ألا، لا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك(3)، وقد بنى التابعون على القبر حيطاناً مرتفعة مستديرة حوله، لئلا يظهر في المسجد فيصلى إليه العوام ويؤدي إلى المحظور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا حتى لا يتمكن من استقبال القبر(4). هذا ما فعله أهل العلم وأولو الأمر عندما اضطروا إلى ذلك ستراً للقبر ستراً كاملاً، فلا ينظر، ولا يتمكن أحد من الصلاة إليه، وما ذلك إلا أنهم فهموا الأحاديث الناهية عن الصلاة على القبور وإليها وعن اتخاذ القبور مساجد، وفهم العلة في ذلك النهي فعملوا على إزالة تلك العلة وفي هذا أبلغ رد على شبهة بعض الناس الذين يحتجون بأن قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده(5)، وقد كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز أن يحفر الفوارة بالمدينة، وأن يجري مائها ففعل، وأمره أن يحفر الآبار وأن يسهل الطرق والثنايا، وساق إلى الفوارة الماء من ظاهر المدينة، والفوارة بنيت في ظاهر المسجد عند بقعة رآها فأعجبته(6).
2 ـ بناء المسجد الأموي:
__________
(1) دراسة في الأهواء والفرق والبدع صـ250 .
(2) البخاري رقم 435 ، 436 .
(3) مسلم رقم 532 .
(4) شرح مسلم (5/12 إلى 13) .
(5) القبورية في اليمن صـ73 .
(6) البداية والنهاية (12/415) .(3/228)
... قال ابن كثير في حوادث عام 96هـ: فيها تكامل بناء الجامع الأموي بدمشق على يد بانيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك بن مروان، جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء وكان أصل موضع هذا الجامع قديماً معبداً بنته اليونان الكلدانيون الذين كانوا يعمرون دمشق، وهم الذين وضعوها وعمروها أولاً... ثم ـ إن النصارى حولوا بناء هذا المعبد الذي هو بدمشق معظماً عند اليونان، فجعلوه كنيسة واستمر النصارى على دينهم هذا بدمشق وغيرها نحو ثلاثمائة سنة حتى ـ جاء الإسلام ـ وعندما صارت الخلافة إلى الوليد عزم على تحويلها إلى مسجد، بعد أن تفاوض مع النصارى وقام بترضيتهم مقابل عروض مغرية(1). ثم أمر الوليد باحضار آلات الهدم واجتمع إليه الأمراء والكبراء من رؤساء الناس وجاء إليه أساقفة النصارى وقساوستهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن نجد في كتبنا أن من يهدم هذه الكنيسة يجن. فقال: أنا أحب أن أجن في الله عز وجل والله لا يهدم فيها أحد شيئاً قبلي(2)، ثم صعد المنارة ثم إلى أعلى مكان من الكنيسة وضرب بها في أعلى حجر فألقاه، فتبادر الأمراء إلى الهدم(3)، فهدم الوليد والأمراء جميع ما جدده النصارى في تربيع هذا المكان من المذابح والأبنية.. ثم شرع في بنائه وقد استعمل الوليد في بناء هذا المسجد خلقاً كثير من الصناع والمهندسين والفعلة، وكان المستحث على عمارته أخوه، وولي عهده من بعده سليمان بن عبد الملك(4)، وقد أنفق في مسجد دمشق أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار وفي رواية: في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار. قلت فعلى الأول يكون ذلك خمسة آلاف وألف دينار وستمائة ألف دينار، وعلى الثاني يكون المصروف في عمارة الجامع الأموي أحد عشر ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار(5)،وقد نقل إلى الوليد
__________
(1) المصدر نفسه (12/566 ـ 567) .
(2) المصدر نفسه (12/569) .
(3) المصدر نفسه (12/569) .
(4) المصدر نفسه (12/570) .
(5) البداية والنهاية (12/575) .(3/229)
بأن الناس يقولون أنفق الوليد أموال بيت المال في غير حقها فنودي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فصعد الوليد المنبر وقال: إنه بلغني عنكم إنكم قلتم: أنفق الوليد بيوت الأموال في غير حقها. ثم قال: يا عمر بن مهاجر، قم فاحضر أموال بيت المال، فحملت على البغال إلى الجامع وبسطت الأنطاع تحت القبة ثم أفرغ عليها المال ذهباً صبيباً وفضة خالصة حتى صارت كوماً حتى كان الرجل لا يرى الرجل من الجانب الآخر وهذا شيء كثير، فوزنت الأموال، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة، وفي رواية: ستة عشرة سنة مستقبلة ولو لم يدخل للناس شيء بالكلية ـ ففرح الناس وكبروا وحمدوا الله عز وجل على ذلك، ثم قال الوليد: يا أهل دمشق إنكم تفخرون على الناس بأربع: بهوائكم ومائكم، وفاكهتكم، وحماماتكم، فأحببت أن أزيدكم خامسة وهي هذا الجامع فاحمدوا الله تعالى. وانصرفوا شاكرين داعين(1). وقد كان الجامع الأموي لما كمل بناؤه لم يكن على وجه الأرض بناء أحسن منه، ولا أبهى ولا أجل منه، بحيث أنه إذا نظر الناظر إليه، أو إلى أي جهة منه، أو إلى أي بقعة أو مكان منه، تحير فيما ينظر إليه لحسنه جميعه، ولا يمل ناظره، بل كلما أدمن النظر، بانت له أعجوبة ليست كالأخرى(2).
3 ـ المستشفيات في عهد الوليد:
__________
(1) المصدر نفسه (12/576) .
(2) المصدر نفسه (12/579) .(3/230)
... كان الخليفة الوليد بن عبد الملك أول من أسس مستشفى خاصاً بالمجذومين وذلك سنة 88هـ، وجعل فيه أطباء مهرة، وأجرى عليهم الأرزاق، وأمر بعزلهم عن الأصحاء كي لا تنتقل العدوى من المصابين إلى الأصحاء، وهذا ما يعرف في التاريخ بدور المجذومين(1). يقول الأستاذ الدكتور أحمد شوكت الشطي:.. أول مؤسسة عرفت هي مجذمة الوليد بن عبد الملك في دمشق سنة 88هـ، ثم تعددت الملاجئ بعد ذلك في مختلف البلاد العربية لبذل العناية الإنسانية لهؤلاء التعساء، وتعد المجاذم العربية أول دور عولج فيها المصابون بالجذام معالجة فنية(2)، ويقول أحمد عيس بكر: قال الشيخ أبو العباس أحمد القلقشندي، إن أول من اتخذ البيمارستان بالشام للمرضى الوليد بن عبد الملك وهو سادس خلفاء بني أمية.. وقال رشيد الدين بن الوطواط: أول من عمل البيمارستان وأجرى الصدقات على الزَمْنَى والمجذومين والعميان والمساكين واستخدم لهم الخدام الوليد بن عبدالملك. وقال تقي الدين المقريزي: أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى الوليد بن عبد الملك وهو أيضاً أول من عمل دار الضيافة وذلك سنة 88هـ وجعل في البيمارستان أطباء، وأجرىلهم الأرزاق وأمر بحبس المجذومين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق، ولم يصل إلينا إي علم أو إشارة عن المكان الذي أنشأ فيه الوليد البيمارستان(3).
4 ـ كفالة الدولة للمحتاجين وتطوير الطرق:
__________
(1) المستشفيات الإسلامية من العصر النبوي إلى العصر العثماني صـ80 . الأمويون وآثارهم المعمارية صـ97 .
(2) المستشفيات الإسلامية صـ80 .
(3) المصدر نفسه صـ188 .(3/231)
... كان الوليد يخصص الأرزاق للفقهاء والضعفاء والفقراء ويحرم عليهم سؤال الناس، ويفرض لهم ما يكفيهم كما فرض على العميان والمجذومين(1)، فقد أعطى المجذومين وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً وفتح في ولايته فتوح عظام(2)، وقد اهتم الوليد بتعبيد الطرق وبخاصة تلك التي تؤدي إلى الحجاز لتيسير سفر الحُجاج إلى بيت الله الحرام، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وعمل الفوارة في المدينة وأمر لها بقوام يقومون عليها وأن يسقى منها أهل المساجد(3).
ثانياً : ديوان المستغلات:
يعتبر عهد الوليد امتداد لأبيه في النظام السياسي والاقتصادي والإداري وغيرها ويبدو أن ديوان المستغلات ظهر ذكره في عهد الوليد، وكان هذا الديوان ينظر في إدارة أموال الدولة غير المنقولة من أبنية وعمارات وحوانيت ولأول مرة ترد إشارة ديوان المستغلات في عهد الوليد حيث ذكر أن نفيع بن ذؤيب تقلد للوليد بن عبد الملك ديوان المستغلات، وأن اسمه مكتوب على لوح في سوق السراجين بدمشق(4). وهذا يدل على: أن الديوان كان قائماً في خلافة الوليد، ولعله أحدث قبل هذا الوقت، وأن وجود اسمه على لوح في سوق دمشق له دلالته على وجود أملاك عائدة إلى الدولة، وإن نفيع كان يشرف على جباية وارداتها(5).
ثالثاً : الوليد والقرآن الكريم:
__________
(1) العالم الإسلامي في العصر الأموي صـ158 .
(2) البداية والنهاية (12/609) .
(3) تاريخ الطبري (7/337) .
(4) إدارة بلاد الشام في العهدين الراشدي والأموي صـ200 .
(5) المصدر نفسه صـ200 .(3/232)
أخذ الخلفاء الأمويون والأمراء أنفسهم بتلاوة القرآن وختمه من وقت لآخر وقد شب الوليد على حب القرآن الكريم والاكثار من تلاوته وحث الناس على حفظه وإجازتهم على ذلك، حدث إبراهيم بن أبي عبلة قال: قال لي: الوليد بن عبد الملك يوماً في كم تختم القرآن؟ قالت: كذا وكذا، فقال: أمير المؤمنين على شغله يختمه في ثلاث ـ وقيل في سبع ـ قال: وكان يقرأ في شهر رمضان سبعة شعرة ختمة، قال إبراهيم: رحم الله الوليد، وأين مثله؟ بنى مسجد دمشق، وكان يعطيني قطع الفضة، فأقسمها على قرّاء بيت المقدس(1)، ورى الطبري أن رجلاً من بني مخزوم سأل الوليد قضاء دين عليه. فقال: نعم إن كنت مستحقاً لذلك، قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكون مستحقاً لذلك مع قرابتي؟ قال: أقرأت القرآن؟ قال: لا، قال: أدن مني فدنا منه، فنزع عمامته بقضيب كان في يده وقرعه قرعات بالقضيب، وقال للرجل: ضم إليك هذا فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن، فقام إليه عثمان بن يزيد بن خالد... فقال يا أمير المؤمنين إن علي ديناً، فقال: أقرأت القرآن قال: نعم، فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشر آيات من براءة، فقرأ، فقال: نعم نقض عنكم، ونصل أرحامكم على هذا(2). وقال عنه ابن كثير: .. فقد كان صيناً في نفسه حازماً في رأيه يقال: إنه لا تعرف له صبوة ومن جملة محاسنه ما صح عنه أنه قال: لولا أن الله قص علينا قصة لوط في كتابه ما ظننت أنَّ ذكراً يأتي ذكراً كما تؤتي النَّساءُ(3)
رابعاً : عروة بن الزبير في ضيافة الوليد:
__________
(1) البداية والنهاية (12/607) .
(2) تاريخ الطبري (7/397 ، 398) .
(3) البداية والنهاية (12/403) .(3/233)
عروة بن الزبير بن العوام، ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، الإمام، عالم المدينة، المدني، الفقيه، أحد الفقهاء السبعة(1)، كان عروة يقرأ القرآن كل يوم في المصحف نظراً ويقوم به الليل فما تركه إلا ليلة قطعت رجله وقصة ذلك، أن عروة خرج إلى الوليد بن عبد الملك، حتى إذا كان بوادي القُرى، وجد في رجله شيئاً، فظهرت به قرحة، ثم ترقّى به الوجع، وقدم على الوليد وهو في محمل، فقال: يا أبا عبد الله أقطعها، قال: دونك. فدعا له الطبيب وقال: أشرب المُرْقد(2). فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسِّ(3) حسِّ، فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا. وأصيب عُرْوة بابنه محمد في ذلك السفر، في إصطبل(4) الوليد فضربته الدواب بقوائمها فقتلته، فأتى عروة رجل يعزيه فقال: إن كنت تُعزِّيني برجلي فقد احتسبتها، قال: بل أُعَزِّيك بمحمد ابنك، قال: وما له؟ فأخبره فقال:: اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء(5)، وجاء في رواية: اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحداً، وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفاً، وأبقيت ثلاثة، ولئن ابتليت، لقد عافيت، ولئن أخذت لقد أبقيت(6). وجاء في رواية عن ابنه عبد الله: نظر أبي إلى رجله في الطست، فقال: إنَّ الله يعلم أنِّي ما مشيت بك إلى معصية قط وأنا أعلم(7)، ولما قدم المدينة أتاه ابن المنكدر فقال: كيف كنتَ؟ قال: ((لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا)) (الكهف ، الآية : 62) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/421) .
(2) المرقد : شيء يُشرب فينوّم من يشربه ويرقده .
(3) حس : تقال عند الألم .
(4) سير أعلام النبلاء (4/433) .
(5) المصدر نفسه (4/433) .
(6) المصدر نفسه (4/431) .
(7) المصدر نفسه (4/431) .(3/234)
وجاء عيسى بن طلحة إلى عروة بن الزبير حين قدم، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك رجلي، ففعل، فقال عيسى: إنا والله يا أبا عبد الله ما أعددناك للصراع، ولا للسباق، ولقد أبقى الله منك لنا ما كُنَّا نحتاج إليه، رأيك وعلمك. فقال: ما عزَّاني أحد مثلك(1)، قال ابن خلِّكان: كان أحسن من عزّه إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي، ولا أربٌ في السَّعي، وقد تقدّمك عضو من أعضاك وابن من أبنائك إلى الجنَّة، والكل تبع للبعض إن شاء الله، وقد أبقى الله لنا منك ما كنَّا إليه فقراء من علمك ورأيك، والله وليٌّ ثوابك والضمين بحسابك(2)، وقد توفي عروة وهو ابن سبع وستين سنة، سنة 93 هـ(3).
خامساً: الوليد يطلب من الحجّاج أن يكتب له سيرته:
كتب الوليد إلى الحجّاج أن يكتب إليه بسيرته، فكتب إليه إني أيقظت رأيي وأنمت هواي وأدنيت السيد المطاع في قومه ووليت الحرب الحازم في أمره وقلدت الخراج الموفر لأمانته وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً يعطيه حظاً من نظري، ولطيف عنايتي، وصرفت السيف إلى النَّطِف(4) المسيء، والثواب إلى المحسن البريء(5)، فخاف المذنب صولة العقاب وتمسك المحسن بحظه من الثواب(6).
سادساً : أم البنين زوجة الوليد بن عبد الملك:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/434) .
(2) المصدر نفسه (4/434) .
(3) المصدر نفسه (4/434) .
(4) الشهب اللامعة صـ635 : النطف : المريب المتهم .
(5) الشهب اللامعة صـ636 .
(6) المصدر نفسه ص،636 .(3/235)
هي أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان الأموية أخت عمر بن عبد العزيز وزوجة الوليد بن عبد الملك كانت إحدى فضليات النساء في عصرها وقد ذكرها أبو زرعة في طبقاته فيمن حدَّث بالشام من النساء فقال أم البنين ابنة عبد العزيز بن مروان وروى عنها ابن أبي عَبْلة(1). وكانت رحمها الله ـ دائمة الذكر لله سبحانه وتعالى موصولة القلب بكتابه الكريم، تتعاهد القرآن صباح مساء فلا تكاد ترى إلا وهي تالية للقرآن خاضعة لذكر الرحمن، وكانت تسابق زوجها الوليد في تلاوة القرآن ولها مواقف وأقوال محمودة منها:
__________
(1) تهذيب التهذيب (1/142 ، 143) نساء من عصر التابعين صـ191 .(3/236)
1 ـ خشيتها لله عز وجل: كانت تختلف عما كانت عليه عامّة النساء، فإذا ما ذكر الله عز وجل، استشعرت خشيته ومهابته في قلبها، ورأت بنور بصيرتها أنَّ السعداء هم الذين يخافون الله ومن أقوالها في هذا: ما تحلّى المتحلّون بشيء أحسن عليهم من عظيم مهابة الله عز وجل في صدورهم وكانت تتقرّب إلى الله عز وجل بكل ما يرضيه ويقرّبها إليه. ومن صور حياتها المضيئة ما ذكره ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ أنَّها كانت تعتق في كل جمعة رقبة، وتحمل على فرس في سبيل الله عزَّ وجل(1)، وبلغت هذه التابعية درجة عالية من الورع والخوف من الله تعالى فقد كانت تتحرى أمورها بدقة وتعقل، فلا تكاد تقبل عرضاً أو مالاً جاء إلا من وجه شرعي وترفض كل ((هدية)) جاءت من أي مصدر غير مشروع , وإليك هذه القصة: حجَّ الوليد بن عبد الملك، وحجّ محمد بن يوسف من اليمن وحمل هدايا للوليد، فقالت أم البنين للوليد ـ زوجها ـ: يا أمير المؤمنين اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن يوسف فيها فأبى وقال: ينظر فيها أمير المؤمنين، فيرى رأيه ـ وكانت هدايا كثيرة: فقالت يا أمير المؤمنين إنك أمرت بهدايا محمد بن يوسف أن تُصرف إليَّ، ولا حاجة لي بها قال: ولم؟ قالت: بلغني أنّه غصبها الناس، وكلَّفهم عَمَلها وظَلَمهم، وحمل محمد بن يوسف المتاع إلى الوليد. فقال له الوليد: بلغني أنَّك أصبتها غصباً. قال: معاذ الله، فأمر الوليد، فاستُحلف بين الرُّكن والمقام خمسين يميناً لله ما غصب شيئاً منها، ولا ظلم أحداً ولا أصابها إلا من طَيّب، فحلف، فقبلها الوليد ودفعها إلى أم البنين، فمات بن يوسف باليمن(2).
__________
(1) نساء من عصر التابعين (2/159) .
(2) تاريخ الطبري (7/399) .(3/237)
2 ـ جودها وكرمها: قيل لأمِّ البنين ـ رحمها الله ـ: ما أحسن شيء رأيت؟ قالت: نعم الله مقبلة عليّ(1). ومن أقوالها في ذم البخل والبخلاء: لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنّهم بالله عز وجل لكان عظيماً. ومن أخبار جودها أنها كانت تدعو النِّساء إلى بيتها، وتكسوهن الثياب الحسنة، وتعطيهن الدنانير وتقول: الكسوة لكُنَّ والدّنانير أقسمتها بين فقرائكن ـ تريد بذلك أن تعلمهن وتعودهن على البذل والجود. وكانت تقول: أفٍ للبخل والله لو كان ثوباً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته(2)، وكانت تقول: البخل كل البخل من بخل عن نفسه بالجنة(3)، ويبدو أن أم البنين قد أحبت بذل المال، وإنفاقه في طرق مشروعة لتشعر بنعمة الله عليها، ولم تكن الدراهم والدنانير تعرف إلى بيتها سبيلا فسرعان ما تنفقها، ولله در الشعر فكأنه عناها بقوله:
... ... ... ... وإني امرئ لا تستقر دراهمي
... ... ... ... ... ... ... ... على الكف إلا عابرات سبيل(4)
__________
(1) لهجة المجالس للقرطبي (1/119) نقلاً عن نساء التابعين (2/160) .
(2) تاريخ دمشق نقلاً عن نساء عصر التابعين (2/162) .
(3) المحاسن والمساوئ للبيهقي صـ186 .
(4) نساء عصر التابعين (2/162) .(3/238)
وكانت تقول: جُعل لكل قوم نهمه في شيء وجعلت نهمتي في البذل والإعطاء والله للصِّلة والمواساة أحب إليّ من الطعام الطيب على الجوع ومن الشراب البارد على الظمأ(1)، ولشدة حرصها على الإنفاق، ووضع في مواضعه واصطناع آيات المعروف كانت ـ تقول ـ: ما حسدت أحداً قط على شيء إلا أن يكون ذا معروف، فإني كنت أحب أن أشركه في ذلك. ومن الروائع أقوالها في هذا: وهل ينال الخير إلا باصطناعه(2)؟ فمن جملة اصطناعها للمعروف، والإعانة عليه ما ورد أن الثريا بنت علي بن عبد الله، لما مات زوجها سهيل بن عبد الرحمن بن عوف عنها أو طلقها ـ خرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين كان عليها، فبينما هي عند زوجه أمِّ البنين بنت عبد العزيز، إذ دخل عليها الوليد، فقال: من هذه عندك؟ قالت أم البنين: الثُّريا بنت علي جاءتني أطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها. فقضيت حوائجها وانصرفت شاكرة لأمِّ البنين وزوجها الوليد(3).
3 ـ أم البنين والحجّاج:
__________
(1) زهر الآداب للحصري (1/258) ، بتصرف يسير نقلاً عن نساء عصر التابعين (2/163) .
(2) نساء عصر التابعين (2/163) .
(3) زهر الآداب للحصري (1/258) ، بتصرف يسير نقلاً عن نساء عصر التابعين (2/163) .(3/239)
... تذكر كتب التاريخ أن الحجّاج بن يوسف قدم على الوليد بن عبد الملك، فإذن له بالدخول، فدخل عليه، وعليه عمامة سوداء وقوس عربية، وكنانة. فبعثت إليه أمِّ البنين فقالت: من هذا الإعرابي المستلئم ـ المتسلح في السِّلاح عندك، وأنت في غِلالة غررٌ، فأرسل إليها أنه الحجّاج بن يوسف الثقفي. فراعها ذلك وأوجست خيفة في نفسها وقالت: والله، لأن يخلو بك ملك الموت، أحب إليَّ من أن يخلو بك الحجّاج بن يوسف وقد قتل الخلق وأهل الطاعة ظلماً وعدواناً، فعرف الحجّاج رأي أم البنين، فقال للوليد: يا أمير المؤمنين، دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول، فإنما المرأة ريحانة، وليس بقهرمانة، ولا تطلعهن على أمرك ولا تطلعهن في سرّك، ولا تستعملهن لأكثر من زينتهن، وإياك ومشاورتهن، فإنّ رأيهن إلى أفن وعزمهن إلى وهن، ولا تملك الواحدة منهن من الأمور ما يجاوز نفسها ولا تطمعها أن تشفع عندك لغيرها ولا تطل الجلوس معهن، فإنَّ ذلك أوفر لعقلك وأبين لفضلك ثم نهض الحجّاج وخرج من عند الوليد، فدخل الوليد على أم البنين، فأخبرها بمقالة الحجّاج ورأيه، فقالت: يا أمير المؤمنين، أحبُّ أن يأمره أمير المؤمنين بالتسليم علي غداً قال: أفعل فغدا الحجّاج على الوليد فقال: ائت أم البنين، فسلم عليها. فقال: أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين فقال الوليد: لتفعلنّ، فلا بدّ من ذلك، وأسقط في يد الحجّاج، فهو يعلم رأيها فيه، وفي أخيه محمد بن يوسف من قبل، واللقاء معها لا يبشر بخير، ولكن، ليس في الأمر حيلة، ولا مخرج له من هذا الموقف المحرج. فمضى وأتى مكانها ، فحجبته طويلاً، ثم أذنت له، وتركته قائماً ولم تأذن له في الجلوس، ثم قالت له: أنت الممتنُّ على أمير المؤمنين بقتل ابن الزبير وابن الأشعث؟ ثم ذكرت له قتل عبد الله بن الزبير، وعددت له فظائعه وأنكرت عليه قوله بالأمس ـ بالنساء ـ مع زوجها الوليد، وذكرت له قبح منظره وسوء خلقه، ثم قالت تعرّض به: قاتل الله الذي(3/240)
يقول وسنان غزالة الحرورية بين كتفيك:
... ... ... ... أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة
... ... ... ... ... ... ... ... ربداء تنفر من صفير الصَّافر
إلى أخر الأبيات: ثم أمرت جارية لها، فأخرجته مقبوحاً مذموماً مدحوراً، فلما دخل على الوليد سأله فقال: ما كنت فيه يا أبا محمد؟ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما سكتت حتى كان بطن الأرض أحب إلي من ظهرها، فضحك الوليد وقال: يا حجّاج إنها ابنة عبد العزيز بن مروان(1)، وأما ما ينسب إلى أم البنين في قصتها المكذوبة مع وضاح اليمني، فهي ليس لها نصيب من الصًّحة(2)، وماذكرته كتب الأدب من الأكاذيب والأباطيل في حق هذه التابعية لا ينظر إليه ولا يعتمد في تقرير الحقائق التاريخية.
سابعاً : المراسلات بين الوليد وملك الروم:
__________
(1) وفيات الأعيان (2/44 ، 45) نساء في عصر التابعين (2/169) .
(2) أثر أهل الكتاب في الفتن والحروب الأهلية صـ418 .(3/241)
كانت هناك مراسلات بين الوليد وبين ملك الروم ولاسيما حينما هدم الوليد كنيسة دمشق، فكتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن كان صواباً فقد أخطأت، وإن كان خطأ فما عذرك؟. فكتب إليه الوليد: ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا)) (الأنبياء ، الآيتان : 78 ـ 79). وحين قرر الوليد بن عبد الملك فتح القسطنطينية وأعد العدة لذلك أرسل قيصر الروم سفيراً يدعى دانيا حاكم مدينة سينوب إلى دمشق للتداول مع الخليفة حول إمكانية عقد هدنة بين الطرفين وزوده بتعليمات سرية ترمي إلى الوقوف على مدى استعدادات المسلمين لحصارالقسطنطينية، وعند رجوعه اطلعهم على استعداد العرب للحملة وحث الروم على اتخاذ التدابير الكفيلة لمواجهة الموقف(1)، وهذا يدل على أن الروم كانوا يتخذون من السفراء والوفد وسيلة لجمع المعلومات في الدولة الإسلامية واستعداداتهم إتجاه الروم والتجسس على الدولةالإسلامية مستغلين كونهم رسلاً بين الدولتين مستفيدين من طبيعة المهمة السلمية التي يقومون بها وكانت هناك مراسلات وتبادل هدايا بين الخليفة الوليد بن عبد الملك وبين ملوك الروم حين أراد بناء الجامع الأموي، فعلى سبيل المثال لا الحصر ما أهداه الوليد إلى ملك الروم من كميات الفلفل قدرت قيمتها بعشرين ألف دينار(2)، وهناك روايات كثيرة تشير إلى التعامل السلمي وتبادل الخبرات كان موجود بين الوليد وقيصر الروم، فقد أراد الوليد الاستفادة من خبرات الروم في صناعة الفسيفساء والبناء والعمران(3)، وكانت هناك مراسلات متعلقة بالأسرى والرهائن بين الطرفين، فقد كانت من المسائل
__________
(1) السفارات في التاريخ الإسلامي ، يونس السامرائي صـ409 .
(2) العلاقات العربية ـ البيزنطية صـ130 .
(3) المصدر نفسه صـ139 .(3/242)
المهمة جداًَ وكانت المفاوضات بشأنها تجري أما في دمشق أو في القسطنطينية، وليس في مدن محلية صغيرة(1).
ثامناً: محاولة نزع سليمان من ولاية العهد ووفاة الوليد عام 96 هـ:
وفي سنة 96 هـ كان الوليد يريد الشخوص إلى أخيه سليمان لخلعه، وأراد البيعة لابنه من بعده، وذلك قبل مرضته التي مات فيها، فقد أراد من سليمان أن يبايع لابنه عبد العزيز فأبى سليمان، فأراده على أن يجعله من بعده فأبى، فعرض عليه أموالاً كثيرة فأبى، فكتب إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز ـ ابنه ـ ودعا الناس إلى ذلك فلم يجبه أحد إلا الحجّاج وقتيبة وخواصَّ من الناس(2)، وطلب الوليد من عمر بن عبد العزيز، فامتنع عمر وقال: لسليمان في أعناقنا بيعة، فغضب الوليد، وطيَّن على عمر، ثم فتح عليه بعد ثلاث، وقد ذبل ومالت عنقه وقيل: خنق بمنديل حتى صاحت أمُّ البنين أخت الوليد، فلذلك شكر سليمان لعمر وأعطاه الخلافة من بعده وقد حج عبد العزيز بن الوليد بالناس وكان لبيباً عاقلاً، دعا إلى نفسه بالخلافةـ بعد موت سليمان ـ فلمّا سمع باستخلاف خاله سكن، ودخل في الطاعة(3).
وأصرّ الوليد على بيعة ابنه وخلع أخيه سليمان وكتب إليه يأمره بالقدوم فأبطا، فاعتزم الوليد المسير إليه وعلى أن يخلعه، فأمر الناس بالتأهب وأمر بحُجَره فأخرجت، فمرض ومات قبل أن يسير وهو يريد ذلك(4)، وكان آخر ما تكلم به الوليد عند موته: سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله وكان نقش خاتمه: يا وليد إنك ميت(5)، وكان عمر بن عبد العزيز ممن حضر دفنه قال: لتنزلنه غير موسد ولا ممهد قد، خلفت الأسباب وفارقت الأحباب، وسكنت التراب، وواجهت الحساب، فقيراً إلى ما تقدم عليه غنيِّا عما يخلف(6).
__________
(1) العلاقات العربية ـ البيزنطية صـ143 .
(2) تاريخ الطبري (7/399) .
(3) سير أعلام النبلاء (5/148، 149) .
(4) تاريخ الطبري (7/400) .
(5) تاريخ دمشق (66/129) .
(6) تاريخ ابن عساكر (66/132) .(3/243)
وكانت وفاة الوليد يوم السبت في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين في قول جميع أهل السير(1)، واختلف في قدر مدة خلافته واخترت قول الزهري في ذلك: ملك الوليد عشر سنين إلا شهراً(2)، واختلف في سنه لما مات فقيل ست وأربعين سنة وأشهر، وقيل توفي وهو ابن خمس وأربعين سنة وقيل وهو ابن اثنتين وأربعين سنة وأشهر وقيل سبع وأربعين سنة(3)، وقيل صلى عليه عمر بن عبد العزيز وكان له: تسعة عشر ابناً: عبد العزيز ومحمد والعباس، وإبراهيم، وتمام، وخالد، وعبد الرحمن، ومبشر، مسرور، وأبو عبيدة، وصدقة، ومنصور، ومروان، وعنبسة، وعمرو، وروح، وبشر، ويزيد، ويحي،. وأم عبد العزيز ومحمد أم البنين بينت عبد العزيز بن مروان، وأم أبي عبيدة فزارية، وسائرهم لأمهات شتى(4).
المبحث السابع: خلافة سليمان بن عبد الملك: 96هـ 99هـ:
هو سليمان بن عبد الملك بن أبي العاص بن أمية الخليفة أبو أيوب القرشي الأموي بويع بعد أخيه الوليد سنة ست وتسعين، وكان له دار كبيرة مكان طهارة جيرون(5)، وكان دينا فصيحاً مفوها عادلاً محباً للغزو(6)، وكان جميلاً ويرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله وأتباع القرآن والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية(7)، وكان يستعين في أمر الرعية بعمر بن عبد العزيز، وعزل عُمّال الحجّاج. وكتب إن الصلاة قد أميتت فأحيوها بوقتها، وهمَّ بالإقامة ببيت المقدس، ثم نزل قنسرين للرباط وحجّ في خلافته(8)، وعن ابن سيرين قال: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة واختتمها باستخلاف عمر(9)، وكان سليمان ينهي الناس عن الغناء(10).
أولاً: سياسته العامة:
__________
(1) تاريخ الطبري (7/396) .
(2) المصدر نفسه (7/396) .
(3) المصدر نفسه (7/396) .
(4) المصدر نفسه (7/397) .
(5) سير أعلام النبلاء (5/111) .
(6) المصدر نفسه (5/111) .
(7) البداية والنهاية (12/642) .
(8) سير أعلام النبلاء (5/112) .
(9) المصدر نفسه (7/112) .
(10) المصدر نفسه (7/112) .(3/244)
كان عهد سليمان يمثل بداية المرحلة الجديدة من مراحل الخلافة الأموية وعلى الأخص، المروانية منها، لما امتاز به من خصائص جديدة وتغير في أسلوب الحكم عن سابقيه منهم، إذ اتسمت سياسته بإيثار السلامة والعافية والنزوع إلى الموادعة والأخذ برأي أهل العلم والفضل من باب العمل بمفهوم الشورى والتمسك بالتعاليم والأحكام الإسلامية، والحرص على تنفيذها، وهي الأمور التي وضحها في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، وبين فيها سياسته التي سينتهجها في الحكم(1) .
1 ـ حض الناس على الرجوع إلى القرآن الكريم: إذ يقول: اتخذوا كتاب الله إماماً وارضو به حكماً واجعلوه قائداً فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده(2).
__________
(1) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ95 .
(2) البيان والتبيين للجاحظ (1/244) خلافة سليمان صـ95 .(3/245)
2 ـ مفهومه للخلافة: وقال في موضع آخر من خطبته مؤكداً على تمسكه بتعاليم الإسلام ورغبته بالموادعة والمسالمة ومبيناً مفهومه للخلافة، وما يترتب على ذلك: جعل الله الدنيا داراً لا تقوم إلا بأئمة العدل، ودعاة الحق، وإن لله عباداً يملكهم أرضه، ويسوس بهم عباده، ويقيم بهم حدوده ورعاة عباده... ولولا أن الخلافة تحفة من الله كفر بالله خلعها، لتمنيت أني كأحد المسلمين يضرب لي بسهمي، فعلى رسلكم بني الوليد، فإني شبل عبد الملك، وناب مروان لا تضلعني حمل النائبة ولا يفزعني صريف الأجفر(1)، وقد وليت من أمركم ماكنت له مكفياً وأصبحت خليفة وأميراً وما هو إلا العدل أو النار.. فمن سلك المحجة حُذي نعل السلامة، ومن عدل عن الطريق وقع في وادي الهلكة والضلالة، إلا فإن الله سائل كلا عن كل، فمن صحت نيته ولزم طاعته، كان الله له بصراط التوفيق، وبرصد المعونة فكتب له سبيل الشكر والمكافأة فأقبلوا العافية فقد رزقتموها، والزموا السلامة فقد وجدتموها، فمن سلمنا منه، سلم منا ومن تاركنا تاركناه ومن نازعنا نازعناه فارغبوا إلى الله في صلاح نياتكم وقبول أعمالكم وطاعة سلطانكم، فإني غير مبطل لله حداً ولا تارك له حقاً، أنكثها عثمانية عمريه(2). أي الشدة واللين(3).
__________
(1) صوت الأجفر : أي صوت الجمال الصغيرة .
(2) المنتظم (7/14 ـ 15) .
(3) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ96 .(3/246)
3 ـ مفهوم الشورى عند سليمان: وتأكيداً على مفهوم الشورى الذي جعله سليمان أحد دعائم حكمه، وصفة لنهجه الجديد قال: وقد عزلت كل أمير كرهته رعيته، ووليت على أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم(1). ويقول رحم الله امرءاً عرف سهو المغفل عن مفروض حق واجب فأعان برأي(2). ويقول أيضاً في موقع آخر: أيها الناس رحم الله من ذُكِّرَ فاذّكر فإن العظة تجلو العماء(3) هذا النهج الجديد، مخالف لما نهجه عبد الملك والوليد في سياسة الدولة، القائمة على بسط النفوذ والسلطة بالقوة والتضييق على الناس(4)، فعبد الملك بن مروان يقول في إحدى خطبه: والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه(5)، وكان عبد الملك بن مروان: أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعون الخلفاء ويعترضون عليهم فيما يفعلون(6)، ولما حضرته الوفاة قال للوليد وكان يبكي عليه عند رأسه: يا وليد، لا ألفينك إذا وضعتني في حفرتي أن تعصر عينيك كالأمة الورهاء(7)، بل ائتزر وشمر، والبس جلد النمر، وادع الناس إلى البيعة ثانياً، ومن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا(8)، وقد سار الوليد بن عبد الملك على هذا النهج، فمن خطبته عندما تولى الخلافة قوله:.. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي في عيناه ومن سكت مات بدائه(9). فهذا النهج الذي وضحه سليمان في خطبته وسار عليه في خلافته تنبه عدد من المؤرخين القدامى إليه وأشاروا إلى جوانبه المختلفة في كتاباتهم فوصفه بعضهم بأنه من خيار بني أمية(10)
__________
(1) المنتظم (7/14 ـ 15) .
(2) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ96 .
(3) المنتظم (7/13) .
(4) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ96 .
(5) فوات الوفيات لابن شاكر (2/404) .
(6) المصدر نفسه (2/404) .
(7) الوره : الحمق في كل عمل ويقال الخرق في العمل .
(8) الأخبار الطوال صـ325 .
(9) تاريخ الطبري نقلاً عن خلافة سليمان بن عبد الملك صـ97 .
(10) فوات الوفيات (2/68) ، خلافة سليمان صـ97 .(3/247)
، وحتى المؤرخ الشيعي المسعودي وصفه إلى إشارة السلامة والعافية ونزوعه إلى الموادعة واستشارة أهل العلم بقوله: كان سليمان لين الجانب.. لا يعجل إلى سفك الدماء ولا يستنكف عن مشورة النصحاء(1)، ووصفه ابن كثير بقوله: يرجع إلى دين وخير ومحبة للحق وأهله، وإتباع القرآن والسنة وإظهار الشرائع الإسلامية رحمه الله(2)، ووصفه لسان الدين الخطيب بقوله: وكان قائماً برسوم الشريعة(3). وأما ابن قتيبة فيقول: افتتح بخير وختم بخير لأنه رد المظالم إلى أهلها، ورد المسيرين وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة واستخلف عمر بن عبد العزيز وأغز أخاه الصائفة حتى بلغ القسطنطينية، فأقام بها حتى مات(4)، وأما أبي زرعة الدمشقي، فقد عد خلافة سليمان، وخلافة عمر بن عبد العزيز واحدة، حيث يقول: كانت خلافة سليمان بن عبد الملك كأنها خلافة عمر بن عبد العزيز، كان إذا أراد شيئاً قال له: ما تقول يا أبا حفص؟ قالا جميعاً(5)
ثانياً: سياسة سليمان في اختيار الولاة:
راعى سليمان اختيارات عدة في اختيار ولاته على الأمصار ونظراً لحساسية هذا الموضوع، فقد أوضح جانباً من سياسته تلك في خطبته التي خطبها بعد استخلافه، حيث قال: قد عزلت كل امير كرهته رعيته ووليت أهل كل بلد، من أجمع عليه خيارهم واتفقت عليه كلمتهم(6).
1 ـ استشارة العلماء والنصحاء من ذوي الخبرة:
__________
(1) التنبية للمسعودي صـ319 نقلاً عن خلافة سليمان صـ98 .
(2) البداية والنهاية (12/642) .
(3) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ98 .
(4) المعارف صـ360 ، خلافة سليمان بن عبد الملك صـ98 .
(5) تاريخ أبو زرعة (1/193ـ 194) نقلاً عن خلافة سليمان صـ99 .
(6) المنتظم (7/13، 14، 15) .(3/248)
ولعل من هذه الاعتبارات استشارة العلماء والنصحاء من ذوي الخبرة في كل أمور الأمصار، فقد أتخذ عمر بن عبد العزيز وزيراً ومستشاراً(1)، وقد صدر سليمان عن رأيه في عزل عمال الحجاج(2)، وممن كان يستشيرهم رجاء بن حيوة الكندي، فقد ولى سليمان محمد بن يزيد الأنصاري ـ ويقال القرشي ـ إفريقية بمشورته(3).
2 ـ اختيار العلماء وأهل الصلاح:
__________
(1) المصدر نفسه (7/13، 14، 15) خلافة سليمان صـ148 .
(2) الوافي بالوفيات (15/403) خلافة سليمان صـ148 .
(3) فتوح مصر صـ213 ، خلافة سليمان صـ149 .(3/249)
ومن هذه الاعتبارات في اختيار الولاة أيضاً اختيار الفقهاء، وأهل الصلاح والزهد، آملاً من ذلك استبدال الظلم بالعدل،وبالتالي تغيير نظرة المجتمع الإسلامي آنذاك إلى الخلافة الأموية، وكسب الرأي العام لصالحها، ومن هؤلاء أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري على المدينة، وهو أحد فقهائها وكان ثقة كثير الحديث(1)، وكذلك الأمر مع عروة بن محمد بن عطية السعدي(2)، الذي ولاه سليمان اليمن وكان من الزهاد(3)وولى اليمن أيضاً في عهدي عمر بن عبد العزيز ويزيد بن عبد الملك(4)وخرج من اليمن وما معه إلا سيفه ورمحه ومصحفه(5)، ويروى أنه لما دخل اليمن قال:يا أهل اليمن هذه راحلتي فإن خرجت بأكثر منها فأنا سارق(6)، والشيء ذاته يمكن أن يقال عن عبد الملك بن رفاعة الفهمي والي مصر، حيث اتصف بحسن السيرة والتدين والعفة عن الأموال والعدل في الرعية بالإضافة إلى كونه ثقة أميناً فاضلاً(7)، وكذلك الأمر بالنسبة لمحمد بن يزيد والي إفريقية، حيث اتصف بحسن السيرة والعدل بين الرعية(8)
3 ـ مصلحة الدولة فوق كل الاعتبارات:
في سنة 96هـ جمع سليمان عبد الملك العراق ليزيد بن المهلب حربها وصلاتها(9) ، وأضيفت له خراسان حربها وصلاتها سنة 97هـ(10)، ويمكن رد أسباب تولية يزيد لعدة اعتبارات منها:
__________
(1) تهذيب التهذيب (12/39) .
(2) تهذيب الكمال للمزي (2/32) خلافة سليمان صـ150 .
(3) مرآة الزمان نقلاً عن خلافة سليمان صـ150 .
(4) تهذيب الكمال (20/340) ، خلافة سليمان صـ150 .
(5) خلافة سليمان صـ150 .
(6) تهذيب التهذيب (7/187) خلافة سليمان صـ150 .
(7) النجوم الزاهرة (1/296) خلافة سليمان صـ150 .
(8) تاريخ إفريقية للرقيق القيرواني صـ58 خلافة سليمان صـ150 .
(9) تاريخ الطبري (7/424) .
(10) تاريخ الطبري (5/425) .(3/250)
أ ـ انقطاع يزيد بن المهلب إلى سليمان، بعد أن أجاره سليمان من الحجاج والوليد، وتعاظم ما بينهما لدرجة كبيرة جداً فالطبري يقول: وكان لا تأتي يزيد بن المهلب هدية إلا بعث بها إلى سليمان، ولا تأتي سليمان هدية ولا فائدة إلا بعث بنصفها إلى يزيد بن المهلب، كما أن من دلائل تعاظم حظوة يزيد عند سليمان، أن يزيد كان يجلس على سريره(1).
ب ـ اتخذ سليمان يزيداً مستشاراً له فيما يخص المشرق الإسلامي، ويعزز هذا الرأي أن يزيد كان في خراسان في حياة أبيه ووالياً بعد وفاة أبيه حتى عزله الحجاج عن خراسان، وبالتالي فإن الحجاج باعتباره قائداً عسكرياً وإدارياً كبيراً أحدث بوفاته فراغاً كبيراً ووجد سليمان أن يزيد هو الأفضل لملء الفراغ الذي أحدثته وفاة الحجاج(2)، وكانت مصلحة الدولة عند سليمان تفوق كل اعتبار في تولية الولاة فقد ولى يزيد بن المهلب حرب العراق وصلاته، إلا أنه لم يوله الخراج وإنما عهد بأمره إلى أهل المعرفة والكفاية والدراية في أمور الخراج في العراق وهو صالح بن عبد الرحمن ـ مولى تميم(3)، كما أنه أقر تولية وكيع بن حميد الدوسي على خراج خراسان، وهو من أهل المعرفة والكفاية والدراية في هذا المجال(4).
ثالثاً: سياسة سليمان تجاه حركات المعارضة:
__________
(1) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ151 ، الوزراء والكتاب صـ50 .
(2) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ151 .
(3) المنتظم (7/18) خلافة سليمان صـ152 .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن خلافة سليمان صـ152 .(3/251)
1 ـ الخوارج: لم يعد لهم قوة تذكر وكل ما كان منه في عهد سليمان لا يعدو عن كونه عصيان مجموعات صغيرة أو قل كبيرة فردية لا تكاد تقوم لها قائمة بمجرد إعلانها، ويذكر لسليمان بأنه كان أقل شدة من سابقيه في تعامله مع الخوارج غير الثائرين فاكتفى بسجن من يسبون الخلفاء منهم(1)، وكان يستشير عمر بن عبد العزيز في أمرهم ويصدع لحكمه فيهم، معلماً سليمان عدم وجود سبة، تحل دم المسلم غير سبة الأنبياء(2)، وكان عمر يرى حبسهم أو العفو عنهم(3).
2ـ الهاشميون: أما بالنسبة لعلاقة سليمان بالعلويين اتسمت بالمودة والهدوء، حيث كان يقرِّب العلويين ويقضي حوائجهم(4)، وليس من الثابت أن سليمان تحامى أبا هاشم ـ عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ت 98هـ ـ وأرصد له من سمه ويبدو لنا من دراسة تلك الروايات المتعلقة بهذه القصة أنها موضوعة للأسباب التالية:
أ ـ تختلف الروايات اختلافاً بيناً في تحديد اسم الخليفة الذي دبر حادثة السم، وبعضها تنسب ذلك إلى الوليد بن عبد الملك، وبعضها تنسب إلى سليمان بن عبد الملك، أما الجاحظ فقد حمّل الأمويين مسئولية سم أبي هاشم دون تحديد الشخص المسؤول عن ذلك .
ب ـ وحتى هذه المصادر التي صرحت بأن سليمان سمَّ أبا هاشم، فإنها تختلف في تحديد كيفية وحيثيات هذه المؤامرة.
جـ ـ لا تجمع المصادر التي بين أيدينا على أن أبا هاشم توفي مسموماً، فهناك عدة مصادر يستشف منها أن وفاته كانت طبيعية(5).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ112 .
(2) المصدر نفسه صـ112 .
(3) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ131 .
(4) المصدر نفسه صـ132 .
(5) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ134 .(3/252)
د ـ وهناك عدة رجال وافتهم المنية بعد عودتهم من عند الخليفة سليمان أو أثناء إقامتهم عنده(1)، ولا يمكن اعتبار وفاة هؤلاء الرجال جميعاً، أو أحدهم من تدبير الخليفة لمجرد وفاتهم وهم في صحبته، أو أثناء عودتهم من عنده. والذي يبدو، أن وفاة أبي هاشم كانت طبيعية وليست بالسم، وأن ادعاء السم ما هي إلا روايات موضوعة(2)..
3 ـ الزبيريون: اتسمت علاقة سليمان بالزبيريين بالمودة، كان سليمان يسأل عن أحوالهم ويتفقدهم، حيث قضى دين جعفر بن الزبير، عندما علم به(3)، وتَردُ المصادر قوة علاقة سليمان بالزبيريين إلى يد سلفت لعبد الله بن الزبير على سليمان، ففي أثناء الصراع بين عبد الله بن الزبير والأمويين أتى إليه بسليمان بن عبد الملك من الطائف، وكان يومئذ غلاماً صغيراً فكساه وجهزه إلى أبيه للشام، بعد أن وصله ووصل جميع من كان معه: فكان سليمان يشكر ذلك لعبد الله بن الزبير، فلما ولي أحسن إلى جميع ولده وكثيراً ما يأتونه فيبرهم ويصلهم، وكان يعظِّم ثابت بن عبد الله من بينهم(4). إن عهد سليمان اتسم بهدوء نسبي إلى درجة كبيرة، فلم يشهد حركات معارضة عنيفة، فكانت حركات الخوارج صغيرة ولم تهدد كيان الدولة، ووادع الهاشميين وأحسن إليهم، كما وادع الزبيريين مكافأة لهم باليد التي كانت لعبد الله بن الزبير عليه(5).
رابعاً : سليمان والعلماء :
تميز سليمان بن عبد الملك بحرصه على تقريب العلماء وقبول نصيحتهم والاستماع إليهم من اشهر هؤلاء العلماء الذين كانوا مستشارين، رجاء بن حيوه، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم..
__________
(1) المصدر نفسه صـ134 .
(2) المصدر نفسه صـ134 .
(3) المصدر نفسه صـ136 .
(4) المصدر نفسه صـ137 .
(5) المصدر نفسه صـ138 .(3/253)
1 ـ رجاء بن حيوة: أبو نصر الكندي، والإمام القدوة، الوزير العادل، الفقيه، من جلة التابعبين، حدث عن معاذ بن جبل وأبي الدرداء، وعبادة بن الصامت وطائفة(1)، قال عنه مسلمة بن عبد الملك أمير السرايا: برجاء ابن حيوة وبأمثاله ننصر(2). وهو من العلماء الذين كان لهم قرب وحظوة عند خلفاء بني أمية قال عنه صاحب الحلية: مشير الخلفاء والأمراء(3)، وقد بدأ اتصاله بهم منذ عهد عبد الملك وقد بلغت مشاركة رجاء وتأثيره السياسي في عهد سليمان بن عبد الملك الذروة، فقد اتخذه سليمان وزير صدق له يستشيره في كثير من الأمور والقضايا المتعلقة بسياسة الدولة وإدارتها فقال عنه سعيد بن صفوان: وكانت له من الخاصة والمنزلة عند سليمان بن عبد الملك ما ليس لأحد يثق به ويستريح إليه(4)، وقد كان رجاء ملازماً لسليمان بن عبد الملك حتى في سفره بدليل أنه كان مع سليمان حين خرج إلى دابق(5)، وكان يخلو معه في مجلسه وأشرف بنفسه على تمريضه حتى مات(6)، على أن أكبر تأثير سياسي لرجاء في عهد سليمان يظهر في إشارته عليه باستخلاف عمر بن عبد العزيز من بعده والتخطيط الدقيق لتنفيذ ذلك بحكمة وحنكة(7)، وسيأتي الحديث عن ذلك في محله بإذن الله لقد كان لموقف رجاء في استخلاف عمر أثر سياسي كبير غير مجرى التاريخ الأموي بصفة خاصة والإسلامي بصفة عامة وفي عهد عمر بن عبد العزيز ظل رجاء يتبوأ مكانة كبيرة ومنزلة عالية من خلال قربه من عمر وملازمته له، حيث جعله عمر من خواصه وسماره يستشيره ويستنصحه في أمور العامة والخاصة(8)، وبعد وفاة عمر بن عبد العزيز أقبل على شأنه وترك القرب من الخلفاء وذلك حين رأى أنه
__________
(1) سير أعلام النبلاء (4/557) .
(2) المصدر نفسه (4/561) .
(3) الحلية (5/170) .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ146 .
(5) دابق : قرية قرب حلب .
(6) تاريخ الطبري (7/453 ، 454) .
(7) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ147 .
(8) سير أعلام النبلاء (4/560) .(3/254)
لم يعد لقربه من الخليفة ما كان يهدف إليه من تحقيق المصالح وبذل الخير لعامة الأمة(1).
2 ـ سليمان ونصيحة أبي حازم:
... حج سليمان بالناس سنة 97هـ فمرّ على المدينة وهو يريد مكة فقال: أهاهنا أحد يذكّرنا؟ فقيل له: أبو حازم، فأرسل إليه فدعاه، فلما دخل عليه.
... قال له: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال:: يا أمير المؤمنين، أعيذك بالله أن تقول ما لم يكن، ما عرفتني قبل ولا أنا رأيتك، فالتفت سليمان إلى محمد بن شهاب وقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا. فقال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم وعمرتم الدنيا فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب، قال: صدقت. فكيف القدوم على الله عز وجل غداً؟ قال: أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري، ما أنا عند الله؟ قال: يا أمير المؤمنين، اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده؟ قال: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)) (الانفطار ، الآيتان : 13 ـ 14) قال: يا أبا حازم، فأي عباد الله أفضل،؟ قال: أولو المروءة والتقى، قال: فأي الأعمال أفضل؟ قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم قال: فأي الدعاء أسمع؟ قال: دعوة المحسن للمحسن، قال فأي الصدقة أزكى؟ قال: صدقة السائل البائس وجهد من مقلّ ليس فيها منُّ ولا أذى، قال: فأي القول أعدل، قال: قول الحق عند من يخافه أو يرجوه، قال فأي الناس أحمق؟ قال: رجل انحط من هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره. قال: صدقت، فما الذي تقول فيما نحن فيه؟ قال: يا أمير المؤمنين تعفيني من ذلك؟ قال: لا، ولكن نصيحة تلقيها إليّ، قال: إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا الملك عنوة من غير مشورة من المسلمين ولا رضى حتى قتلوا عليه مقتلة عظيمة، وارتحلوا عنها، فلو سمعت ما قالوا وما قيل لهم، فغش على
__________
(1) أثر الحياة السياسية صـ156 .(3/255)
سليمان، فقال رجل من جلسائه: بئس ما قلت يا أبا حازم، قال أبو حازم كذبت يا عدو الله إن الله أخذ ميثاق العلماء ليبينُنّه للناس ولا يكتمونه فأفاق سليمان فقال: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح للناس؟ قال: تدع الصلف وتستمسك بالمروّة وتقسم بالسويّة، قال سليمان: كيف المأخذ به؟ قال: أن تأخذ المال من حله وتضعه في أهله، قال سليمان: هل لك أن تصحبنا فتصيب منا ونصيب منك؟ قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين! قال: ولمَ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعف الحياة وضعف الممات، قال: يا أبا حازم ارفع إليّ حوائجك، قال: تنجيني من النار وتدخلني الجنة، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فلا حاجة لي غيرها، قال: فادع لي الله يا أبا حازم، قال: اللهمّ إن كان سليمان وليَّك فيسّره بخير الدنيا والآخرة، وإن كان عدوّك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، قال سليمان: زدني، قال: يا أمير المؤمنين قد أوجزت وأكثرت إن كنت من أهله، وإن لم لم تكن من أهله فما ينبغي لي أن أرمي عن قوس ليس لها وتر، قال: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز: عظِّم ربك ونزّهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك من حيث أمرك، ثم قام، فبعث إليه سليمان بمائة دينار وكتب إليه أن أنفقها ولك مثلها كثير فردها عليه وكتب إليه: يا أمير المؤمنين أعوذ بالله أن يكون سؤالك إياي هزلاً وردّي عليك باطلاً، فوالله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟ يا أمير المؤمنين، إن كانت هذه المائة عوضاً لما حدثتك فالميتة ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ من هذه، وإن كانت هذه حقاً لي في بيت المال فلي فيها نظر، فإن سويت بيننا وإلا فلا حاجة لي فيها، قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين أيسرّك أن يكون الناس كلهم مثله؟ قال: لا والله(1).
خامساً : إكرام سليمان لأهل الوفاء ووفاة ابنه أيوب:
1 ـ إكرام سليمان لأهل الوفاء:
__________
(1) وفيات الأعيان (2/423) .(3/256)
... دعا سليمان بن عبد الملك يزيد بن أبي مسلم وهو موثوق في الحديد، وكان صاحب أمر الحجّاج، فلما دخل عليه ازدراه حين رآه ونبت عنه عيناه، وقال: ما رأيت كاليوم، وكان يزيد لا يملأ العين منظره، ثم قال له سليمان: لعن الله رجلاً أقادك رسَنه وحكمك في أمره فقال له يزيد: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، إنك ازدريتني والأمر عني مدبر، وعليك مقبل، ولو رأيتني والأمر عليّ مقبل، لاستعظمت من أمري ما استحقرت واستكبرت منه ما استصغرت، فقال له سليمان: صدقت، ثكلتك أمك اجلس فجلس في قيوده، فقال له سليمان: عزمت عليك يا ابن أبي مسلم، لتخبرني عن الحجّاج، أتراه يهوى في جهنم، أم قد قرّبها، قال: يا أمير المؤمنين لا تقل هذا في الحجّاج، وقد بذلك لكم النصيحة، وأخفر دونكم الذمة، وآلى وليكم وأخاف عدوكم وأنه يوم القيامة لعن يمين عبد الملك ويسار الوليد، فجعله حيث شئت، وصاح سليمان استكراهاً لكلامه وأمر باخراجه، ثم التفت إلى جلسائه وقال: ثكلته أمه، ما أحسن بديهته، وأحد قريحته، وأجمل تزيينه لنفسه ولصحابه، لقد أحسن المكافآت على الصنيعة، وراعى اليد الجميلة، خلو سبيله، وأمر بحل قيوده ولم يتعرض لمضرته(1).
2 ـ وفاة أيوب بن سليمان:
__________
(1) الشهب اللامعة صـ455 .(3/257)
... لما حضر أيوب بن سليمان بن عبد الملك الوفاة ـ وكان ولي عهد أبيه ـ دخل عليه أبوه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز وسعيد بن عقبة ورجاء بن حيوه، فجعل سليمان ينظر في وجه أيوب، فخنقته العبرة، ثم قال: إنه ما يملك العبد نفسه أن يسبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة والناس في ذلك أضاف: فمنهم المحتسب ومنهم من يغلب صبره وجزعه فذلك الجلد الحازم، ومنهم من يغلب جزعه صبره فذلك المغلوب والضعيف، وإني أجد في قلبي لوعة إن أنا لم أبردها خفة أن تتصدع قلبي كمداً، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين، الصبر أولى بك فلا يحبطن أجرك قال سعيد بن عقبة: فنظر إلي وإلى رجاء بن حيوه نظر المستغيث يرجو أن نساعده على ما أدركه من البكاء، فأما أنا فكرهت أن آمره أو أنهاه، وأما رجاء فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أرى بذلك بأساً ما لم يأت الأمر المفرط، وإني قد بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم دمعت عيناه، فقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. فبكى سليمان حين اشتد بكاؤه فظننا أن نياط قلبه قد انقطع، فقال عمر بن عبد العزيز لرجاء بن حيوه: بئس ما صنعت بأمير المؤمنين، فقال: دعه يا أبا حفص يقضي من بكائه وطراً، فإنه لو لم يخرج من صدره ما ترى خفت أن يأتي عليه، ثم أمسك عن البكاء، ودعا بماء فغسل وجهه، وقضى الفتى، فأمر بجهازه، وخرج يمشي أمام جنازته، فلما دفن وقف ينظر إلى قبره ثم قال:
... ... ... وقفت على قبر مقيم بقفرة
... ... ... ... ... ... ... متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: السلام عليك يا أيوب، وقال:
... ... ... كنت لنا أنساً ففارقتنا
... ... ... ... ... ... ... فالعيش من بَعدك مرُّ المذاق
ثم قال: يا غلام أدن دابتي مني، فركب وعطف دابته إلى القبر، وقال:
... ... ... فإن صبرت فلم ألفظكَ من شبع
... ... ... ... ... ... ... وإن جزعت فعلِقٌ منفسٌ ذهبا(3/258)
فقال عمر: بل الصبر أقرب إلى الله عز وجل، قال: صدقت وانصرف(1)
سادساً : سليمان والأكل والغناء ومدح الشعراء له:
1 ـ سليمان والأكل: قدمت المصادر الشيعية وصفاً للعديد من مناقب سليمان، حيث ذكرت محاسنه الخلقية(2)، ووصفته بالفصاحة(3)، والتوقف عن سفك الدماء، وباستشارة النصحاء(4)، ورد المظالم(5)، وبتوالي الفتوحات في أيامه(6)، وعلى النقيض من ذلك، فإن رواة الشيعة لما لم يجدوا ما يقدح بسيرة سليمان ومنجزاته، نجدهم يركزون جل اهتمامهم على وصفه بالشراهة وبالغوا في ذلك أيما مبالغة، فتارة يصفونه بأنه لا يكاد يشبع(7)، وتارة يصفونه بأنه المصيبة العظمة في الأكل(8)، وتارة يصفونه بأنه أكولاً نهماً نكاحاً(9). ويبدو أن الروايات الموالية للعباسيين، والروايات الشيعية تناست صعوبة وربما استحالة أن من جمع بين هذه المحاسن أن تكون همته مصروفة إلى النكاح والطعام، ولو كان الأمر على ما يقولون، فلن ينتصف سليمان للمظلومين، ولن يعير السياسة الداخلية، والخارجية أي اهتمام، ولكان إنكفى على تلبية ملذاته ورغباته، ولكن سيرته وسياسته ومنجزاته العمرانية والعسكرية كفيلة بالرد على هذا الاتهام(10)، وقد ذكرت قصص في هذا الميدان، تشبه الأساطير كالتي ذكرها ابن أبي الحديد: وكان سليمان بن عبد الملك المصيبة الكبر في الأكل، حيث أكل ثلاثين خروفاً بثمانين رغيفاً ثم أكل مع الناس كأنه لم يأكل شيئاً(11)
__________
(1) وفيات الأعيان (2/302) .
(2) تاريخ اليعقوبي (2/299) .
(3) تاريخ اليعقوبي (2/229) ، مروج الذهب ، (3/190) .
(4) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ207 .
(5) شرح البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن خلافة سليمان صـ207 .
(6) خلافة سليمان صـ207 ، نقلاً عن الفخري صـ128 .
(7) خلافة سليمان صـ207 ، نقلاً عن الفخري صـ128 .
(8) شرح البلاغة لابن أبي الحديد نقلاً عن خلافة سليمان صـ207 .
(9) خلافة سليمان صـ207 .
(10) المصدر نفسه صـ208 .
(11) شرح ابن أبي الحديد (5/465) ، خلافة سليمان صـ65 .(3/259)
، وغيرها من القصص الغريبة والعجيبة ويتبين للدارس المحقق أن المبالغة واضحة جلية في تصوير شره سليمان لعدة أسباب:
أ ـ مخالفتها للطبيعة البشرية التي لا تستطيع إلتهام هذا الكم الهائل من الطعام مع ملاحظة أن المصادر تصفه بنحافة البدن(1) مما يتعارض وشرهه الموصوف في هذه الروايات.
ب ـ أن هذه الروايات جاءت من طريقين هما:
ـ ... المؤرخون ذو الميول الشيعية مثل: اليعقوبي، والمسعودي، وابن أبي الحديد، وابن الطقطقا.
ـ ... المؤرخون ذو الميول العباسية مثل: الواقدي، والمدائني، ويبدو أن الأمر لم يعد كونه وجود شهية قوية للأكل عند سليمان، واستغل خصوم الأمويين من عباسيين وشيعة هذا الأمر وضخموه(2).
2 ـ موقفه من الغناء: كان ينهي الناس عن الغناء(3)، لوجود شواهد تؤيد ذلك، ويضاف إلى ذلك أن روايات الأصفهاني التي قالت بحب سليمان للغناء اتسم سندها بالضعف، حيث ضم سندها محمد بن زكريا الغلابي(4)، وهو ضعيف(5)، وهناك مسألة أخرى متصلة بالغناء، وهي خصي المخنثين كنتيجة مترتبة على الغناء وهناك من يرى أن سليمان قد أمر بإخصاء المخنثين فتدخل عمر بن عبد العزيز موضحاً بأن هذا العمل مثلة ولا يحل فارتجع عن ذلك(6).
3 ـ مدح الشعراء له:
... قال جرير في مدحه:
... ... ... ... سليمان المبارك قد علمتم
... ... ... ... ... ... ... ... هو المهدي وقد وضح السبيل
... ... ... ... أجرت من المظالم كل نفس
... ... ... ... ... ... ... ... وأديت الذي عهد الرسول(7)
وقال الفرزدق:
... ... ... ... يداك يد الأسرى التي أطلقتهم
__________
(1) تاريخ اليعقوبي (2/299) ، خلافة سليمان 69 .
(2) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ69 .
(3) سير أعلام النبلاء (5/112) .
(4) لسان الميزان (5/168) .
(5) ميزان الاعتدال (3/550) ، لسان الميزان (5/168) .
(6) مرآة الزمان سبط ابن الجوزي نقلاً عن خلافة سليمان 276 .
(7) ديوان جرير صـ346 ـ 347 .(3/260)
... ... ... ... ... ... ... ... وأخرى هي الغيث المغيث نوالها
... ... ... ... وكم أطلقت كفاك من قيد بائس
... ... ... ... ... ... ... ... ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها
... ... ... ... كثيراً من الأسرى التي قد تكنعت
... ... ... ... ... ... ... ... فككت وأعناقاً عليها غلالها(1)
سابعاً : ولاية العهد ووفاة سليمان 99هـ:
ذكر الفضل بن المهلب وغيره، أنه لبس في يوم جمعة حلة صفراء ثم نزعها ولبس بدلها حلة خضراء واعتم بعمامة خضراء وجلس على فراش أخضر، وقد بسط ما حوله بالخضرة ثم نظر في المرآة فأعجبه حسنه وشمر عن ذراعيه وقال: أنا الخليفة الشاب وقيل إنه كان ينظر في مرآة من فرقه إلى قدمه ويقول: أنا الملك الشاب(2)، وفي رواية أنه كان ينظر فيها ويقول: كان محمد نبياً صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر صديقاً وعمر فاروقاً، وكان عثمان حيياً، وكان علي شجاعاً وكان معاوية حليماً، وكان يزيد صبوراً، وكان عبد الملك سائساً، وكان الوليد جباراً، وأنا الملك الشاب(3)، قالوا: فما دار عليه شهر وفي رواية: جمعة حتى مات(4)، ولمّا حُمَّ شرع يتوضأ فدعا بجارية فصبت عليه ماء الوضوء ثم أنشدته:
... ... ... ... أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
... ... ... ... ... ... ... ... غير أن لا بقاء للإنسان
... ... ... ... ليس فيما علمته فيك عيب
... ... ... ... ... ... ... ... كان في الناس غير إنك فان
فصاح بها وقال: عزتني في نفسي وصرفها ثم أمر خاله الوليد بن القعقاع العنسي أن يصب عليه وقال:
... ... ... قرّ وضوءك يا وليد فإنما
... ... ... ... ... ... ... هذه الحياة تعلة ومتاع
... ... ...
فقال الوليد:
... ... ... فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً
... ... ... ... ... ... ... فالدهر فيه فرقة وجماع
... ... ...
__________
(1) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ103 ديوان الفرزدق (2/76) .
(2) البداية والنهاية (12/648) .
(3) المصدر نفسه (12/648) .
(4) المصدر نفسه (12/648) .(3/261)
وكان سليمان بمرج دابق من أرض قنسرين، فأمر خاله فوضأه، ثم خرج يصلي بالناس، فأخذته لجة في الخطبة ثم نزل وقد أصابته حمى، فاستمر فيها حتى مات في الجمعة المقبلة(1)، وكان قد أقسم أنه لا يبرح دابقاً حتى يرجع إليه الخبر بفتح القسطنطينية، أو يموت قبل ذلك، فمات قبل ذلك ـ رحمه الله وأكرم مثواه ـ وكان آخر ما تكلم به أن قال: أسألك منقلباً كريماً. ثم قضى(2)، وكان لرجاء بن حيوه أثر كبير في تولية عمر بن عبد العزيز، ولم يكن للشيطان نصيب في قرار سليمان بتولية عمر الخلافة من بعده، وقال عبد الرحمن بن حسان الكناني: لما مرض سليمان بن عبد الملك المرض التي توفي فيه، وكان مرضه بدابق، ومعه رجاء بن حيوه، فقال لرجاء بن حيوه: يا رجاء من لهذا الأمر من بعدي. استخلف ابني؟ قال: ابنك غائب. قال: فالآخر؟ قال: ذاك صغير. قال: فمن ترى؟ قال: أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز. قال: أتخوف من بني عبد الملك ألا يرضوا. قال: فولي عمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، وتكتب كتاباً وتختم عليه وتدعوهم إلى بيعة مختومة عليها، قال: لقد رأيت، إئتني بقرطاس. قال: فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد لعمر بن عبد العزيز ومن بعده يزيد بن عبد الملك، ثم ختمه، ثم دفعه إلى رجاء، قال: أخرج إلى الناس فمرهم أن يبايعوا على ما في هذا الكتاب مختوماً. قال: فخرج إليهم رجاء فجمعهم، وقال: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب من بعده. قالوا: ومن فيه؟ قال: مختوم، لا تخبرونا بمن فيه حتى يموت، قال: لا نبايع حتى نعلم ما فيه. قال: فرجع رجاء إلى سليمان، قال: إنطلق إلى أصحاب الشرطة والحرس، وناد الصلاة جامعة، ومر الناس فليجتمعوا، ومرهم بالبيعة على ما في هذا الكتاب، فمن أبى أن يبايع منهم فاضرب عنقه، قال: ففعل، فبايعوا على ما فيه. قال رجاء: فلما خرجت إلى منزلي، فبينما أنا أسير في
__________
(1) البداية والنهاية (12/649) .
(2) المصدر نفسه (12/650) .(3/262)
الطريق، إذ سمعت جلبة موكب فالتفت فإذا هشام، فقال لي: يا رجاء قد علمت موقعك منا وإن أمير المؤمنين قد صنع شيئاً لا أدري ما هو، وأنا أتخوف أن يكون قد أزالها عني فإن عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نفس، حتى أنظر في هذا الأمر قبل أن يموت. قال: قلت: سبحان الله، يستكتمني أمير المؤمنين أمراً أطلعك عليه لا يكون ذلك أبداً، فأدارني وألاصنى(1)، فأبيت عليه، قال: فانصرف، بينما أنا اسير إذ سمعت جلبة خلفي، فإذا عمر بن عبد العزيز فقال لي: يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كثير من هذا الرجل، أتخوف أن يكون قد جعلها إلي، ولست أقوم بهذا الشأن، فاعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حياً. قلت: سبحان الله، استكتمني أمير المؤمنين أمراً وأطلعك عليه، فأدارني وألاصني، فأبيت عليه(2). قال رجاء: وثقل سليمان، وحجب الناس عنه حتى مات فلما مات أجلسته وأسندته وهيأته، وخرجت إلى الناس، فقالوا: كيف أصبح أمير المؤمنين؟ فقلت: إن أمير المؤمنين أصبح ساكناً وقد أحب أن تسلموا عليه، وتبايعوا على ما في هذا الكتاب، والكتاب بين يديه. قال: فإذنت للناس فدخلوا عليه وأنا قائم عنده فلما دنوا قلت إن أمير المؤمنين يأمركم بالوقوف ثم أخذت الكتاب من عنده(3) ثم تقدمت إليهم فقلت: إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا على ما في هذا الكتاب. قال: فبايعوا، وبسطوا أيديهم، فلما بايعتهم على ما فيه أجمعين وفرغت من بيعتهم قلت لهم: آجركم الله في أمير المؤمنين قالوا فمن؟ فافتتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز، فلما نظرت بنو عبد الملك تغيرت وجوههم(4). وفي رواية أنه لما انتهى رجاء إلى عمر بن عبد العزيز نادى هشام بن عبد الملك: لا نبايعه أبداً. فقال رجاء: أضرب والله عنقك، قم
__________
(1) ألاصه : أي راوده
(2) أثر الحياة السياسية في الدولة الأموية صـ152 .
(3) سير أعلام النبلاء (5/125) . أخذت الكتاب من جيبه .
(4) أثر الحياة السياسية صـ153 .(3/263)
فبايع. فقام يجر رجليه(1). فلما قرأوا من بعده يزيد بن عبد الملك كأنهم تراجعوا(2)، وقد توفي سليمان يوم الجمعة لعشر بقين من صفر 99هـ وكانت وفاته بمرج دابق، واختلف المؤرخون بنوع مرضه الذي مات فيه. فقسم منهم، قال: إنه أصيب بالتخمة وهذا رأي ضعيف، وقسم آخر قال: إنه أصيب بذات الجنب(3)، وظهرت له أعراض المرض فعرضت له سعلة وهو يخطب فنزل وهو محموم، فما جاءت الجمعة التالية حتى مات، كما روى سبط ابن الجوزي ما نصه: ما زال سليمان بعد وفاة ابنه يذوب وينحل حتى مات كمداً(4)، وقد توفي وعمره على الأرجح 39 سنة(5)، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز(6). وكان في نقش خاتمه: آمنت بالله مخلصاً(7)، وقد حفظ لسليمان بعض أبيات الشعر التي نظمها منها:
... ... ومن شيمتي أن لا أفارق صاحبي
... ... ... ... ... ... وإن ملّني إلا سألت له رشدا
... ... وإن دام لي بالود ولم أكن
... ... ... ... ... ... كآخر لا يراعى ذماماً ولا عهدا(8)
هذا وقد كانت خلافته ثلاث سنين إلا أربعة أشهر وقيل ثلاث سنين، وقيل كانت ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام(9).
الفصل التاسع
عهد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز:
المبحث الأول : من الميلاد إلى خلافته:
أولاً : اسمه ولقبه وكنيته وأسرته:
__________
(1) المصدر نفسه صـ153 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/124 ـ 126) .
(3) تاريخ القضاعي صـ358 .
(4) مرآة الزمان (12/230) .
(5) خلافة سليمان بن عبد الملك صـ91 .
(6) تاريخ القضاعي صـ358 .
(7) المصدر نفسه صـ359 .
(8) خلافة سليمان صـ59 ، نقلاً عن مرآة الزمان (12/23) .
(9) تاريخ الطبري (7/449) .(3/264)
هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، الإمام الحافظ العلامة المجتهد الزاهد العابد، السيد أمير المؤمنين حقاً أبو حفص القرشي الأموي المدني ثم المصري، الخليفة الزاهد الراشد أشج بني أمية(1)، كان من أئمة الاجتهاد ومن الخلفاء الراشدين(2)، وكان حسن الأخلاق والخُلق، كامل العقل، حسن السمت، جيِّد السياسة حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، طاهر الذكاء والفهم، أوّاها منيباً، قانتا لله حنيفاً، زاهداً مع الخلافة ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذين ملُّوهُ وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أُعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم، مما أخذوه بغير حقٍّ، فمازالوا به حتى سقوه السم فحصلت له الشهادة والسعادة، وعُد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين(3)، وكان رحمه الله فصيحاً مُفوَّهاً(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/144) .
(2) المصدر نفسه (5/114) .
(3) المصدر نفسه (5/120) .
(4) المصدر نفسه (5/136) .(3/265)
1 ـ والده: هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكان من خيار أمراء بني أمية، شجاعاً كريماً بقي أمير لمصر أكثر من عشرين سنة، وكان من تمام ورعه وصلاحه أنه لما أراد الزواج قال لقيمه: اجمع لي أربعمائة ديناراً من طيب مالي، فإني أريد أن أتزوج إلى أهل بيت لهم صلاح(1)، فتزوج أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهي حفيده أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب وقيل اسمها ليلى(2)، كما أن زواجه من آل الخطاب ما كان ليتم لولا علمهم بحاله وحسن سيرته وخلقه، فقد كان حسن السيرة في شبابه، فضلاً عن التزامه وحرصه على تحصيل العلم واهتمامه بالحديث النبوي الشريف فقد جلس إلى أبي هريرة وغيره من الصحابة وسمع منهم، وقد واصل اهتمامه بالحديث بعد ولايته مصر، فطلب من كثير بن مرة في الشام أن يبعث إليه ما سمعه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من طريق أبي هريرة فإنه عنده(3)، وقد كان والد عمر بن عبد العزيز ذا نفس تواقة إلى معالي الأمور سواء قبل ولايته مصر أو بعدها فحين دخل مصر أيام شبابه تاقت نفسه إليها وتمنى ولايته فنالها(4)، ثم تاقت إلى الجود فصار أجود أمراء بني أمية وأسخاهم(5)، فكانت له ألف جفنة كل يوم تنصب حول داره وكانت له مائة جفنة يطاف بها على القبائل تحمل على العجل(6)، ومن جوده كان يقول: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده فيده عندي أعظم من يدي عنده(7). وقد أكثر المؤرخين من الثناء عليه لجوده وهذا الجود كان ممتزجاً باليقين بأن الله سبحانه
__________
(1) الطبقات الكبرى (5/331)، الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر بن عبد العزيز، نيء عمر صـ11 .
(2) عبد العزيز بن مروان وسيرته وأثره في أحداث العصر الأموي صـ58 .
(3) سير أعلام النبلاء (4/47) .
(4) الولاة وكتاب القضاة للكندي صـ54 .
(5) معجز الإسلام ، خالد محمد خالد صـ55 .
(6) الخطط للمقريزي (1/21) ، بدائع الزهور (1/28) .
(7) عبد العزيز بن مروان صـ55 .(3/266)
وتعالى يخلف على من يرزقه فيقول: عجب لمؤمن يؤمن أن الله يرزقه ويخلف عليه كيف يحبس ماله عن عظيم أجر وحسن ثناء، وكان ذا خشية من الله، ونستقرأ هذه الخشية من قوله حين أدركه الموت: وددت أني لم أكن شيئاً مذكوراً، ولوددت أني أكون هذا الماء الجاري أو نبته بأرض الحجاز(1).
2 ـ أمه: أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ووالدها، عاصم بن عمر بن الخطاب، الفقيه، الشريف أبو عمرو القرشي العدوي ولد في أيام النبوة وحدّث عن أبيه وأمه هي جميلة بنت ثابت بن أبي الأقلح الأنصاريّة، وكان طويلاً جسيماً وكان من نبلاء الرجال، ديِّنا، خيِّراً، صالحاً، وكان بليغاً، فصيحاً، شاعراً، وهو جد الخليفة عمر بن عبد العزيز لأُُمِّه، مات سنة سبعين، فرثاه ابن عمر أخوه
... ... ... فليت المنايا كُنَّ خلَّفن عاصماً
... ... ... ... ... ... ... فعشنا جميعاً أو ذهبنا بنا معاً(2)
__________
(1) المصدر نفسه صـ56 نقلا عن البداية والنهاية .
(2) سير أعلام النبلاء (4/97) .(3/267)
وأما جدته لأمه فقد كان لها موقف مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فعن عبد الله بن الزبير بن أسلم عن أبيه عن جده أسلم قال: بينما أنا وعمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يَعُسُّ(1)، بالمدينة إذ أعيا فاتكأ على جانب جدار في جوف الليل، فإذا امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه قومي إلى ذلك اللبن فامذ قيه بالماء فقالت لها: يا أمتاه أو ما علمت ما كان من أمير المؤمنين اليوم قال: وما كان من عزمته يا بنية؟ قالت: إنه أمر منادياً ، فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت: لها يا بنتاه قومي إلى اللبن فامذقيه بالماء فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادي عمر فقالت الصبية لأمها: يا أمتاه والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء، وعمر يسمع كل ذلك، فقال : يا أسلم عَلِّم الباب وأعرف الموضع، ثم مضى في عسه، فلما أصبحا قال: يا أسلم أمض إلى الموضع فانظر من القائلة، ومن المقول لها وهل لهم من بعل؟ فأتيت الموضع فنظرت فإذا الجارية أيِّم لا بعل لها وإذا تيك أمها وإذا ليس بها رجل، فأتيت عمر أخبرته، فدعا عمر ولده، فجمعهم، فقال: هل فيكم من يحتاج إلى امرأة أزوجه.. فقال عاصم: يا أبتاه لا زوجة لي فزوجني، فبعث إلى الجارية، فزوجها من عاصم فولدت لعاصم بنتاًَ وولدت البنت عمر بن عبد العزيز(2)، ويذكر أن عمر بن الخطاب رأى ذات ليلة رؤيا، ويقول: ليت شعري من ذو الشين(3)من ولدي الذي يملؤها عدلاً، كما ملئت جوراً(4)، وكان عبد الله بن عمر يقول أن آل الخطاب يرون أن بلال بن عبد الله بوجهه شامة فحسبوه المبشر الموعود حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز(5).
3 ـ ولادته ومكانها : 61هـ، المدينة:
__________
(1) العُس : تقص الليل عن أهل الريبة ، معجم مقاييس اللغة (4/42) .
(2) سيرة عمر لابن الحكم صـ19 ـ 20 ، سيرة عمر لابن الجوزية صـ10 .
(3) الشين : العلامة .
(4) سير أعلام النبلاء (5/122) .
(5) المصدر نفسه (5/122) .(3/268)
... اختلف المؤرخون في سنة ولادته والراجح أنه ولد عام 61هـ وهو قول أكثر المؤرخين ولأنه يؤيد ما يذكر أنه توفي وعمره أربعون سنة حيث توفي عام 101هـ(1)، وتذكر بعض المصادر أنه ولد بمصر وهذا القول ضعيف لأن أباه عبد العزيز بن مروان بن الحكم إنما تولى مصر سنة خمس وستين للهجرة، بعد استيلاء مروان بن الحكم عليها من يد عامل عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، فولّى عليها ابنه عبد العزيز ولم يعرف لعبد العزيز بن مروان إقامة بمصر قبل ذلك، وإنما كانت إقامته وبني مروان في المدينة(2)، وذكر الذهبي أنه ولد بالمدينة زمن يزيد(3).
4 ـ أشج بني أمية: كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يلقب بالأشج، وكان يقال له أشج بني مروان، وذلك أن عمر بن عبد العزيز عندما كان صغيراً دخل إلى اصطبل أبيه عندما كان والياً على مصر ليرى الخيل فضربه فرس في وجهه فشجه، فجعل أبوه يمسح الدم عنه ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذاً لسعيد(4)، ولما رأى أخوه الأصبغ الأثر قال: الله أكبر! هذا أشج بني مروان الذي يملك، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: إن من ولدي رجلاً بوجهه أثر يملأ الأرض عدلاً(5). وكان الفاروق قد رأى رؤيا تشير إلى ذلك وقد تكررت هذه الرؤيا لغير الفاروق حتى أصبح الأمر مشهوراً عند الناس بدليل ما قاله أبوه عندما رأى الدم في وجهه وما قاله أخوه عندما رأى الشج في وجهه كلاهما تفاءل لعله أن يكون ذلك الأشج الذي يملأ الأرض عدلاً(6)
__________
(1) البداية والنهاية (12/676) .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/54) .
(3) تذكرة الحفاظ (1/118 ـ 120) .
(4) البداية والنهاية نقلاً عن فقه عمر بن عبد العزيز (1/20) .
(5) المعارف لابن قتيبة صـ362 .
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (1/20) د.محمد شقير .(3/269)
5 ـ إخوته: كان لعبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز عشرة من الولد وهم: عمر وأبو بكر ومحمد وعاصم وهؤلاء أمهم ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، وله من غيرها ستة وهم: الأصبغ وسهل وسهيل وأم الحكم وزبّان وأم البنين(1)، وعاصم هو من تكنى به والدته ليلى بنت عاصم بن عمر بن الخطاب فكنيتها أم عاصم(2).
6 ـ أولاده: كان لعمر بن عبد العزيز رحمه الله أربعة عشرة ذكراً منهم: عبد الملك وعبد العزيز وعبد الله وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وبكر والوليد وموسى وعاصم ويزيد وزبان وعبد الله(3) وبنات ثلاثة أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد اختلفت الروايات عن عدد أولاد وبنات عمر بن عبد العزيز فبعض الروايات تذكر أنهم أربعة عشر ذكراً كما ذكره ابن قتيبة وبعض الروايات تذكر أن عدد الذكور اثنا عشر وعدد الإناث ست كما ذكره ابن الجوزي(4) والمتفق عليه من الذكور اثنا عشر، وحينما توفي عمر بن عبد العزيز لم يترك لأولاده مالاً إلا الشيء اليسير أنه أصاب الذكر من أولاده من التركة تسعة عشر درهماً فقط، بينما أصاب الذكر من أولاد هشام بن عبد الملك ألف ألف (مليون) وما هي إلا سنوات قليلة حتى كان أحد أبناء عمر بن عبد العزيز يحمل على مائة فرس في سبيل الله في يوم واحد، وقد رأى بعض الناس رجلاً من أولاد هشام يتصدق عليه(5). فسبحان الله رب العالمين..
__________
(1) لمعارف لابن قتيبة صـ362 .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (1/22) .
(3) المصدر نفسه (1/23) .
(4) سيرة عمرة بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338 ، فقه عمر بن عبد العزيز (1/24) .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ338 .(3/270)
7 ـ زوجاته: نشأ عمر بالمدينة وتخلق بأخلاق أهلها، وتأثر بعلمائها وأكب على أخذ العلم من شيوخها، وكان يقعد مع مشايخ قريش ويتجنب شبابهم، ومازال ذلك دأبه حتى اشتهر، فلما مات أبوه أخذه عمه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان فخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه، ابنته فاطمة بنت عبد الملك(1)، وهي امرأة صالحة تأثرت بعمر بن عبد العزيز وآثرت ما عند الله على متاع الدنيا وهي التي قال فيها الشاعر:
... ... ... ... بنت الخليفة والخليفة جدها
... ... ... ... ... ... ... ... أخت الخلائف والخليفة زوجها
... ومعنى هذا البيت أنها بنت الخليفة عبد الملك بن مروان والخليفة جدها مروان بن الحكم، وأخت الخلائف فهي أخت الخلفاء الوليد بن عبد الملك وسليمان بن عبد الملك ويزيد بن عبد الملك وهشام بن عبد الملك، والخليفة زوجها فهو عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حتى قيل عنها: لا نعرف امرأة بهذه الصفة إلى يومنا هذا سواها(2). وقد ولدت لعمر بن عبد العزيز إسحاق ويعقوب وموسى، ومن زوجاته لميس بنت علي بن الحارث وقد ولدت له عبد الله وبكر وأم عمار، ومن زوجاته أم عثمان بنت شعيب بن زيان، وقد ولدت له إبراهيم. وأما أولاده: عبد الملك والوليد وعاصم ويزيد وعبد الله وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله فأمهم: أم ولد(3).
__________
(1) البداية والنهاية (12/680) .
(2) المصدر نفسه (12/680) .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ314 ـ 315 .(3/271)
8 ـ صفاته الخلقية: كان عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ أسمر رقيق الوجه أحسنه، نحيف الجسم حسن اللحية، غائر العينين بجبهته أثر نفحة دابة وقد خطه الشيب(1)، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف، وقيل في صفته: أنه كان رجلاً أبيض دقيق الوجه، جميلاً، نحيف الجسم، حسن اللحية(2).
ثانياً : العوامل التي أثرت في تكوين شخصية عمر بن عبد العزيز:
1 ـ الواقع الأسري:
... نشأ عمر بن عبد العزيز في المدينة، فلما شب وعقل وهو غلام صغير كان يأتي عبد الله بن عمر بن الخطاب لمكان أمه منه، ثم يرجع إلى أمه فيقول: يا أمه أنا أحب أن أكون مثل خالي ـ يريد عبد الله بن عمر ـ فتؤفف به ثم تقول له: أغرب أنت تكون مثل خالك وتكرر عليه ذلك غير مرة. فلما كبر سار أبوه عبد العزيز بن مروان إلى مصر أمير عليها، ثم كتب إلى زوجته أم عاصم أن تقدم عليه وتقدم بولدها، فأتت عمها عبد الله بن عمر فأعلمته بكتاب زوجها عبد العزيز إليها فقال لها: يا أبنة أخي هو زوجك فالحقي به، فلما أرادت الخروج قال لها: خلفي هذا الغلام عندنا ـ يريد عمر ـ فإنه أشبهكم بنا أهل البيت فخلفته عنده ولم تخالفه، فلما قدمت على عبد العزيز اعترض ولده فإذا هو لا يرى عمر، قال لها: وأين عمر؟ فأخبرته خبر عبد الله وما سألها من تخليفه عنده لشبهه بهم، فسرّ بذلك عبد العزيز، وكتب إلى أخيه عبد الملك يخبره بذلك، فكتب عبد الملك أن يجري عليه ألف دينار في كل شهر، ثم قدم عمر على أبيه مسلماً(3)، وهكذا تربى عمر رحمه الله تعالى بين أخواله بالمدينة من أسرة عمر بن الخطاب، ولا شك أنه تأثر بهم وبمجتمع الصحابة في المدينة(4).
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/58) .
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/11) الآثار الواردة (1/58) .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ24 ـ 25 .
(4) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/56) .(3/272)
2 ـ إقباله المبكر على طلب العلم وحفظه القرآن الكريم:
... فقد رزق منذ صغره حب الإقبال على طلب العلم وحب المطالعة والمذاكرة بين العلماء كما كان يحرص على ملازمة مجالس العلم في المدينة وكانت يومئذ منارة العلم والصلاح زاخرة بالعلماء والفقهاء والصالحين، وتاقت نفسه للعلم وهو صغير وكان أول ما استبين من رشد عمر بن عبد العزيز حرصه على العلم ورغبته في الأدب(1)، وجمع عمر بن عبد العزيز القرآن وهو صغير وساعده على ذلك صفاء نفسه وقدرته الكبيرة على الحفظ وتفرغه الكامل لطلب العلم والحفظ. وقد تأثر كثيراً بالقرآن الكريم في نظرته لله عز وجل والحياة والكون والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الموت وكان يبكي لذكر الموت بالرغم من حداثة سنه فبلغ ذلك أمه فأرسلت إليه وقالت ما يبكيك؟ قال: ذكرت الموت. فبكت أمه حين بلغها ذلك(2)، وقد عاش طيلة حياته مع كتاب الله عز وجل متدبراً ومنفذاً لأوامره، ومن مواقفه مع القرآن الكريم:
أ ـ عن ابن أبي ذيب: قال: حدثني من شهد عمر بن عبد العزيز وهو أمير المدينة، وقرأ عنده رجل: ((وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)) (الفرقان ، الآية : 13). فبكى عمر حتى غلبه البكاء وعلا نشيجه، فقام من مجلسه فدخل بيته، وتفرق الناس(3). ومفهوم هذه الآية: إذا ألقي هؤلاء المكذبون بالساعة من النار مكاناً ضيقاً، قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ((دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا)). والثبور في هذا الموضوع دعا هؤلاء القوم بالندم على انصرافهم عن طاعة الله في الدنيا والإيمان بما جاء به نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى استوجبوا العقوبة(4) .
__________
(1) البداية والنهاية (12/679) .
(2) البداية والنهاية (12/678) .
(3) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 83 .
(4) دموع القراء ، محمد شومان صـ107 نقلاً عن تفسير ابن جرير .(3/273)
ب ـ وعن أبي مودود قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قرأ ذات يوم: ((وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)) ( يونس ، الآية : 61). فبكى بكاءً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة ـ زوجته ـ فجعلت تبكي لبكائه وبكى أهل الدار لبكائهم، فجاء عبد الملك، فدخل عليهم وهم على تلك الحال يبكون فقال: يا أبه، ما يبكيك؟ قال: خير يا بني، ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك والله يا بني لقد خشيت أن أكون من أهل النار(1). ومعنى الآية: إن الله تعالى يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين كقوله: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) (الأنعام ، الآية 59) . فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات، وكذلك الدواب السارحة في قوله: ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)) (الأنعام ، الآية 38)، وقال تعالى : ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) (هو ، الآية :6)، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ))
__________
(1) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 91 .(3/274)
(الشعراء ، الآيات : 217 ، 219)، ولهذا قال تعالى: إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون(1)
ج ـ وعن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنزي قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة ووراءه حبشي يمشي فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر، فخطب فقرأ: ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))، فقال: وما شأن الشمس؟ ((وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ))، حتى انتهى إلى ((وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ)) (التكوير: الآيتان: 11 ، 12) فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء حتى رأيت أن حيطان المسجد تبكي معه(2). وهذه السورة جاء فيها الأوصاف التي وصف بها يوم القيامة من الأوصاف التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم، ولهذا قال بعض السلف: من أراد أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليتدبر سورة((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))(3). بل ثبت مرفوعاً من حديث أبن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)) ((إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ))(4).
__________
(1) تفسير ابن كثير .
(2) دموع القراء صـ111، 112 .
(3) تفسير السعدي 912 .
(4) أخرجه الترمزي رقم 3333 والحاكم (2/515)،(4/576) وصححه ووافقه الذهبي والألباني في الصحيحة (3/70).(3/275)
س ـ وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)) فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)) ما أرى المقابر إلا زيارة، ولابد لمن يزورها أن يرجع إلى جنة أو إلى النار(1)، هذه بعض المواقف التي تبين تأثير القرآن الكريم على شخصية عمر بن عبد العزيز.
3 ـ الواقع الاجتماعي: إن البيئة الاجتماعية المحيطة لها دور فعال ومهم في صناعة الرجال وبناء شخصيتهم، فعمر بن عبد العزيز عاش في زمن ساد فيه مجتمع التقوى والصلاح والإقبال على طلب العلم والعمل بالكتاب والسنة، فقد كان عدد من الصحابة لا زالوا بالمدينة، فقد حدث عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والسائب بن يزيد، وسهل بن سعد، واستوهب منه قدحاً شرب منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأمّ بأنس بن مالك، فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى(2)، فكان للإقامة بالمدينة آثار نفسية ومعان إيمانية، وتعلق روحي، وكان لذلك المجتمع قوة التأثير في صياغة شخصية عمر بن عبد العزيز العلمية والتربوية(3).
4 ـ تربيته على أيدي كبار فقهاء المدينة وعلمائها:
__________
(1) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا رقم 425 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/114) .
(3) الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز صـ23 .(3/276)
اختار عبد العزيز والد عمر صالح بن كيسان ليكون مربياً لعمر بن عبد العزيز، فتولى صالح تأديبه وكان يلزم عمر الصلوات المفروضة في المسجد، فحدث يوماً أن تأخر عمر بن عبد العزيز عن الصلاة مع الجماعة فقال صالح بن كيسان ما يشغلك؟ قال: كانت مرجّلتي(1)تسكن شعري، فقال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟ فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث أبوه رسولاً فلم يكلمه حتى حلق رأسه(2)، وحرص على التشبه بصلاة رسول الله أشد الحرص، فكان يتم الركوع والسجود ويخفِّف القيام، والقعود وفي رواية صحيحة: أنّه كان يسبح في الركوع والسجود عشراً عشراً(3)، ولمّا حج أبوه ومرّ بالمدينة سأل صالح بن كيسان عن ابنه فقال: ما خبرت أحداً الله أعظم في صدره من هذا الغلام(4)، ومن شيوخ عمر بن عبد العزيز الذين تأثر بهم عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، فقد كان عمر يجله كثيراً ونهل من علمه وتأدب بأدبه وتردد عليه حتى وهو أمير المدينة، ولقد عبّر عمر عن إعجابه بشيخه وكثرة التردد إلى مجلسه فقال: لمجلس من الأعمى: عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحب إليّ من ألف دينار(5)، وكان يقول في أيام خلافته لمعرفته بما عند شيخه من علم غزير، لو كان عبيد الله حياً ما صدرت إلا عن رأيه ولوددت أن لي بيوم واحد من عبيد الله كذا وكذا(6)، وكان عبيد الله مفتي المدينة في زمانه، وأحد الفقهاء السبعة(7)، قال عنه الزهري: كان عبيد الله بن عبد الله بحراً من بحور العلم(8)، وكان يقرض الشعر، فقد كتب إلى عمر بن عبد العزيز هذه الأبيات:
__________
(1) مرجلتي: مسرحة شعري .
(2) البداية والنهاية (12/678) .
(3) المصدر نفسه (12/682) .
(4) المصدر نفسه (12/678) .
(5) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ59 ، الطبقات(5/250) تهذيب التهذيب (7/22) .
(6) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ59 .
(7) سير أعلام النبلاء (4/475) .
(8) المصدر نفسه (4/477) .(3/277)
... ... ... بسم الذي أنزلت من عنده السور
... ... ... ... ... ... ... والحمد لله أمّا بعد يا عمر
... ... ... إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر
... ... ... ... ... ... ... فكن على حذر قد ينفع الحذر
... ... ... واصبر على القدر المحتوم وأرض به
... ... ... ... ... ... ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
... ... ... فما صفا لامرئ عيش يُسرٌّ به
... ... ... ... ... ... ... إلا سيتبع يوماً صفوه كدر(1)
... وقد توفي هذا العالم سنة 98هـ، وقيل 99هـ(2).
... ومن شيوخ عمر سعيد بن المسيب وقد تحدثت عن سيرته في عهد عبد الملك بن مروان وكان سعيد لا يأتي أحداً من الأمراء غير عمر(3)، ومن شيوخه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي قال فيه سعيد بن المسيب: كان عبد الله بن عمر أشبه ولد عمر به وكان سالم أشبه ولد عبد الله به(4)، وكان ابن عمر يحب ابنه سالم وكان يلام في ذلك فكان يقول:
... ... ... ... يلومنني في سالم وألومهم
... ... ... ... ... ... ... وجلدة بين العين والأنف سالم(5)
__________
(1) المصدر نفسه (4/477) .
(2) المصدر نفسه (4/478 ، 479) .
(3) الجوانب التربوية في حياة الخليفة عمر صـ25 .
(4) سير أعلام النبلاء (4/459) .
(5) المصدر نفسه (4/460) .(3/278)
... كانت أمه أم ولد وقال فيه ابن أبي الزناد: كان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم الغُرُّ السادة علي بن الحسين، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة علماً وتقىً وعبادة وورعاً، فرعب الناس حينئذ في السراري(1)، وقال عنه الإمام مالك: لم يكن أحد في زمان سالم أشبه بمن مضى من الصالحين، في الزهد والفضل والعيش منه، كان يلبس الثوب بدرهمين، ويشترى الشمال(2) ليحملها. قال: فقال سليمان بن عبد الملك لسالم ورآه حسن السّحنة. أي شيء تأكل؟ قال: الخبر والزَّيت، وإذا وجدت اللحم، أكلته. فقال له عمر: أو تشتهيه؟ قال: إذ لم أشتهه تركته حتى أشتهيه(3)، وذات يوم دخل سالم بن عبد الله على سليمان بن عبد الملك، وعلى سالم ثياب غليظة رثَّه، فلم يزل سليمان يرحب به، ويرفعه حتى أقعده معه على سريره، وعمر بن عبد العزيز في المجلس، فقال له رجل من أُخريات الناس: ما استطاع خالك أن يلبس ثياباً فاخرة أحسن من هذه، يدخل فيها على أمير المؤمنين؟ وعلى المتكلم ثياب سريَّة، لها قيمة، فقال له عمر: ما رأيت هذه الثياب التي على خالي وضعته في مكانك، ولا رأيت ثياباً هذه رفعتك إلى مكان خالي ذاك(4)وتربي وتعلم عمر بن عبد العزيز على يدي كثير من العلماء والفقهاء وقد بلغ عدد شيوخ عمر بن عبد العزيز ثلاثة وثلاثين، وثمانية منهم من الصحابة وخمسة وعشرون من التابعين(5)، فقد نهل من علمهم وتأدب بأدبهم ولازم مجالسهم حتى ظهرت آثار هذه التربية المتينة في أخلاقه وتصرفاته(6)فامتاز بصلابة الشخصية والجدية في معالجة الأمور والحزم وإمعان الفكر وإدامة النظر في القرآن، والإرادة القوية والترفع عن الهزل والمزاح(7)
__________
(1) المصدر نفسه (4/460) .
(2) سير أعلام النبلاء (4/460) .
(3) المصدر نفسه (4/460) .
(4) المصدر نفسه (4/461) .
(5) مسند أمير المؤمنين عمر صـ33 .
(6) الجوانب التربوية في حياة عمر بن عبد العزيز (1/67) .
(7) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ30 .(3/279)
، هذه هي أهم العوامل التي أثرت في تكوين شخصيته ومن الدروس المستفاده هو أن العلماء الربانيين يقع على عاتقهم مسؤولية كبيرة وهي الاهتمام بأولاد الأمراء والحكام وأهل الجاه والمال ففي صلاحهم خير عظيم للأمة الإسلامية.
ثالثاً: مكانته العلمية: اتفقت كلمة المترجمين له على أنه من أئمة زمانه، فقد أطلق عليه كل من الإمامين: مالك وسفيان بن عيينة وصف إمام(1)، وقال فيه مجاهد: أتيناه نعلمه فما برحنا حتى تعلمَّنا منه(2)، وقال ميمون بن مهران: كان عمر بن عبد العزيز معلمَّ العلماء(3)، قال فيه الذهبي: كان إماماً فقيهاً مجتهداً، عارفاً بالسنن، كبير الشأن، حافظاً، قانتاً لله أوَّاهاً منيباً يعد في حسن السيرة والقيام بالقسط مع جده لأمه عمر، وفي الزهد مع الحسن البصري وفي العلم مع الزهري(4)، وقد احتج الفقهاء والعلماء بقوله وفعله ومن ذلك رسالة الإمام الليث بن سعد إلى الإمام مالك بن أنس رضي الله عنهما وهي رسالة قصيرة وفيها يحتج الليث ـ مراراً ـ بصحة قوله، بقول عمر بن عبد العزيز على مالك فيما ذهب إليه في بعض مسائله(5)، ويرد ذكر عمر بن عبد العزيز في كتب الفقه للمذاهب الأربعة المتبوعة على سبيل الاحتجاج بمذهبه، فاستدل الحنفية بصنيعه في كثير من المسائل وجعلوا له وصفاً يتميَّز به عن جدّه لأمه: عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال القرشي في الجواهر المضيئة: فائدة يقول: أصحابنا في كتبهم في مسائل الخلاف: وهو قول عمر الصغير. يريدون به عمر بن عبد العزيز الإمام الخليفة المشهور(6)، ويكثر الشافعية من ذكره في
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/67) .
(2) تهذيب التهذيب (7/405) الآثار الواردة (1/67) .
(3) تاريخ أبي زرعة صـ255 ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/67) .
(4) تذكرة الحفاظ صـ118 ـ 119 .
(5) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/70) .
(6) الجواهر المضيئة (4/552) الآثار الواردة (1/71) .(3/280)
كتبهم ولذلك ترجم له الإمام النووي ترجمة حافلة في تهذيب الأسماء واللغات وقال في أولها: تكرر في المختصر والمهذب(1). وأما المالكية فيكثرون من ذكره في كتبهم أكثر من غيرهم، ومالك إمام المذهب ذكر في ((الموطأ)) محتجاً بفتواه وقوله في مواضع عديدة في موطئه(2)، وأما الحنابلة فكذلك، يذكرونه كثير، وعمر هو الذي قال فيه الإمام أحمد: لا أدري قول أحد من التابعين حجة إلا قول عمر بن عبد العزيز وكفاه هذا(3)، وكفانا قول الإمام أحمد أيضاً: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله(4)، ومن أراد أن يتبحر في علم عمر بن عبد العزيز ويعرف مكانته العلمية، فليراجع الكتب الآتية: الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة للأستاذ حياة محمد جبر والكتاب في مجلدين، وهي رسالة علمية وكذلك فقه عمر بن عبد العزيز للدكتور محمد سعد شقير في مجلدين وهي رسالة علمية نال بها المؤلف درجة الدكتوراه، وموسوعة فقه عمر بن عبد العزيز لمحمد رواس قلعجي وسوف نرى في بحثنا فقه عمر بن عبد العزيز بإذن الله تعالى في العقائد والعبادات والسياسة الشرعية، وإدارة الدولة، والنظم المالية والقضائية والدعوية وتقيده بالكتاب والسنة والخلفاء الراشدين في خطواته وسكناته.
رابعاً : عمر في عهد الوليد بن عبد الملك:
__________
(1) المختصر والمهذب من كتب الشافعية المشهورة .
(2) انظر : الموطأ الأرقام الآتية : 305 ، 592 ، 594 ،614 .
(3) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/72) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ61 .(3/281)
يعد عمر بن عبد العزيز من العلماء الذين تميزوا بقربهم من الخلفاء وكان لهم أثر كبير في نصحهم وتوجيه سياستهم بالرأي والمشورة ويحتل عمر بن عبد العزيز مكانة متميزة في البيت الأموي، فقد كان عبد الملك يجله ويعجب بنباهته أثناء شبابه مما جعله يقدمه على كثير من أبنائه ويزوجه من ابنته، ولكن لم يكن له مشاركات في عهد عبد الملك بسبب صغر سنه واشتغاله بطلب العلم في المدينة، ومع ذلك فقد أورد ابن الجوزي أنه كتب إلى عبد الملك كتاباً يذكره فيه بالمسئولية الملقاة على عاتقه وقد جاء فيها: أما بعد: فإنك راعٍ، وكل مسؤول عن رعيته حدثنا أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل راعٍ مسئول عن رعيته(1). ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)) (النساء ، الآية : 87) .
ويقال بأن عمر بن عبد العزيز ولاّه عمه عبد الملك خناصره لكي يتدرب على الأعمال القيادية في وقت مبكر(2)، وقد قيل: إن سليمان بن عبد الملك هو الذي ولاه على خناصره، وهناك من رجح القول وقد تأثر عمر بن عبد العزيز لموت عمه وحزن عليه حزناً عظيماً وقد خاطب عمر ابن عمه مسلمة بن عبد الملك فقال له: يا مسلمة إني حضرت اباك لما دفن، فحملتني عيني عند قبره فرايته قد أفضى إلى أمر من أمر الله، راعني وهالني فعاهدت الله ألا أعمل بمثل عمله إن وليت وقد اجتهدت في ذلك(3).
1 ـ ولايته على المدينة:
... في ربيع الأول من عام 87هـ ولاّه الخليفة الوليد بن عبد الملك إمارة المدينة المنورة، ثم ضم إليه ولاية الطائف سنة 91هـ وبذلك صار والياً على الحجاز كلها: واشترط عمر لتوليه الإمارة ثلاثة شروط:
__________
(1) أثر الحياة السياسية صـ159 .
(2) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز (1/93) .
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز بشير كمال عابدين صـ10 .(3/282)
... الشرط الأول:أن يعمل في الناس بالحق والعدل ولا يظلم أحداً ولا يجور على أحد في أخذ ما على الناس من حقوق لبيت المال، ويترتب على ذلك أن يقل ما يرفع للخليفة من الأموال من المدينة. الشرط الثاني: أن يسمح له بالحج في أول سنة لأن عمر كان في ذلك الوقت لم يحج.
الشرط الثالث: أن يسمح له بالعطاء أن يخرجه للناس في المدينة فوافق الوليد على هذه الشروط، وباشر عمر بن عبد العزيز عمله بالمدينة وفرح الناس به فرحاً شديد(1).
2 ـ مجلس شورى عمر بن عبد العزيز: مجلس فقهاء المدينة العشرة:
... كان من أبرز الأعمال التي قام بها عمر بن عبد العزيز تكوينه لمجلس الشورى بالمدينة، فعند ما جاء الناس للسلام على الأمير الجديد بالمدينة وصلى، دعا عشرة من فقهاء المدينة، وهم عروة ابن الزبير، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وأبو بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وأخوه عبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة وخارجه بن زيد بن ثابت، فدخلوا عليه فجلسوا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: إني دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، إني لا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي من حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى، أو بلغكم عن عامل لي ظلامة، فأحرّج الله على من بلغه ذلك إلا أبلغني(2). لقد عرفت أن عمر بن الخطاب كان يجمع المجلس للأمر يطرأ، فيرى ضرورة الشورى فيه، أما عمر بن عبد العزيز، وهو سبط عمر بن الخطاب، فقد أحدث مجلساً، حدّد صلاحياته بأمرين:
__________
(1) فقه عمر بن عبد العزيز (1/63)، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ41 ـ42 .
(2) الطبقات (5/257) موسوعة فقه عمر، قلعجي صـ548 .(3/283)
أ ـ أنهم أصحاب الحق في تقرير الرأي، وأنه لا يقطع أمراً إلا برأيهم. وبذلك يكون الأمير قد تخلى عن اختصاصاته إلى هذا المجلس، الذي نسميه ((مجلس العشرة)).
ب ـ أنه جعلهم مفتشين على العمال، ورقباء على تصرفاتهم فإذا ما اتصل بعلمهم أو بعلم أحدهم أن عاملاً ارتكب ظلامة، فعليهم أن يبلغوه وإلا فقد استعدى الله على كاتم الحق. ونلاحظ كذلك على هذا التدبير قد تضمن أمرين:
... أحدهما: أن الأمير عمر بن عبد العزيز لم يخصص تعويضاً لمجلس العشرة لأنهم كانوا من أصحاب العطاء، وبما أنهم فقهاء، فماندبهم إليه داخل في صلب اختصاصهم.(3/284)
... الثاني: إن عمر افترض ـ غياب أحدهم عن الحضور لعذر من الأعذار ولهذا لم يشترط في تدبيره حضورهم كلهم، وإنما قال: ((أو برأي من حضر منكم))(1)، إن هذا المجلس كان يستشار في جميع الأمور دون استثناء(2)، ونستنتج من هذه القصة أهمية العلماء الربانيين وعلو مكانتهم وأنه يجب على صاحب القرار أن يدنيهم ويقربهم منه ويشاورهم في أمور الرعية، كما أنه على العلماء أن يلتفوا حول الصالح من أصحاب القرار من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن للمصالح وتقليل ما يمكن من المفاسد، كما أن عمر بن عبد العزيز لم يختصر في شوراه على هؤلاء فحسب، بل كان يستشير غيرهم من علماء المدينة، كسعيد بن المسيِّب، والزهري، وغيرهم، وكان لا يقضي في قضاء حتى يسأل سعيد، وفي المدينة أظهر عمر عبد العزيز إجلاله للعلماء وإكباره لهم، وقد حدث أن أرسل رحمه الله تعالى رسولاً إلى سعيد بن المسيِّب يسأله عن مسألة، وكان سعيد لا يأتي أمير ولا خليفة فأخطأ الرسول فقال له: الأمير يدعوك، فأخذ سعيد نعليه وقام إليه في وقته، فلما رآه عمر قال له: عزمت عليك يا أبا محمد إلا رجعت إلى مجلسك حتى يسألك رسولنا عن حاجتنا، فإنا لم نرسله ليدعوك، ولكنه أخطأ أنما أرسلناه ليسألك(3)، وفي إمارته على المدينة المنورة وسع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر من والوليد بن عبد الملك، حتى جعله مائتي ذراعاً في مائتي ذراع، زخرفه بأمر الوليد أيضاً، مع إنه رحمه الله تعالى كان يكره زخرفة المساجد(4)، ويتضح من موقف عمر بن عبد العزيز هنا أنه قد يضطر الوالي للتجاوب مع قرارات ممن هو أعلى منه حتى وإن كان غير مقتنع بها إذا قدر أن المصلحة في ذلك أكبر من وجوه
__________
(1) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (1/561 ، 562) .
(2) نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق صـ391 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ23 لابن عبد الحكم .
(4) تفسير القرطبي (12/267) موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20 .(3/285)
أخرى. وفي أمارته على المدينة في سنة 91هـ حج الخليفة الوليد بن عبد الملك فاستقبله عمر بن عبد العزيز أحسن استقبال، وشاهد الوليد بأم عينيه الإصلاحات العظيمة التي حققها عمر بن عبد العزيز في المدينة المنورة(1).
3 ـ الحادث المؤسف في ولاية عمر:
... قال العلماء في السير: كان خبيب بن عبد الله بن الزبير قد حدَّث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا بلغ بنو أبي العاص(2) ثلاثين رجلاً اتخذوا عباد الله خولاً، ومال الله دولاً(3)وهو حديث ضعيف فبعث الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز ـ واليه على المدينة ـ يأمره بجلده مائة سوط وبحبسه فجلده عمر مائة سوط، وبرد له ماءً في جرّة ثم صبه عليه في غداة باردة فكزّ(4)، فمات فيها. وكان عمر قد أخرجه من السجن حين اشتد وجعه، وندم على ما صنع منه وحزن عمر على موت خبيب، فقد روى مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان أنهم نقلوا خبيباً إلى دار عمر بن مصعب بن الزبير ببقيع الزبير واجتمعوا عنده حتى مات، فبينما هم جلوس، إذ جاءهم الماجشون يستأذن عليهم وخبيب مسجى بثوبه. وكان الماجشون مع عمر بن عبد العزيز في ولايته على المدينة. فقال عبد الله بن عروة: ائذنوا له. فلما دخل قال: كأن صاحبكم في مرية من موته اكشفوا له عنه، فكشفوا عنه، فلما رآه الماجشون انصرف. قال الماجشون: فانتهيت إلى دار مروان، فقرعت الباب ودخلت فوجدت عمر كالمرأة الماخض
__________
(1) موسوعة فقه عمر بن عبد العزيز صـ20 .
(2) أبي العاص : أي بنو العاص بني أمية الجد الثالث لكل من الوليد وعمر بن عبد العزيز .
(3) الحديث رواه البيهقي في دلائل النبوة (6/507) ، عن أبي سعيد وأبي هريرة قال ابن كثير رحمه الله بعد ذكر طرق أخرى ورد بها هذا الحديث : وهذه الطرق كلها ضعيفة ، أنظر البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/98) .
(4) كزّ الرجل: فهو مكزوز أصابه داء الكزاز ، وهو يبس وانقباض من البرد .(3/286)
قائماً وقاعداً فقال لي: ما وراءك فقلت: مات الرجل. فسقط على الأرض فزعاً ثم رفع رأسه يسترجع فلم يزل يعرف فيه حتى مات. واستعفى من المدينة، وامتنع من الولاية. وكان كلما قيل له: إنك قد صنعت كذا فأبشر فيقول: كيف بخبيب(1) ، ولم يذكرها ويتصورها أمام عينه حتى مات(2)، ومن الأدلة على صلاح عمر بن عبد العزيز وقت ولايته على المدينة غير ما ذكر: ما رواه أبو عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: فأتيته في مجلسه الذي يصلي فيه الفجر والمصحف في حجره، ودموعه تسيل على لحيته(3)، وحدّث ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كان عمر بن عبد العزيز وهو أمير على المدينة إذا أراد أن يجود بالشيء قال: ابتغوا أهل بيت بهم حاجة(4).
4 ـ عظة مزاحم مولى عمر بن عبد العزيز له:
... حبس عمر رجلاً بالمدينة، وجاوز عمر في حبسه القدر الذي يستحقه فكلمه مزاحم في إطلاقه، فقال له عمر: ما أنا بمخرجه حتى أبلغ في الحيطة عليه بما هو أكثر مما مرّ، فقال: مزاحم: مغضباً. يا عمر بن عبد العزيز، إني أحذرك ليلة تمخض بالقيامة، وفي صبيحتها تقوم الساعة يا عمر: ولقد كدت أنسى أسمك مما اسمع: قال الأمير قال الأمير. قال الأمير، قال عمر: إن أول من أيقظني لهذا الشأن مزاحم، فوالله ما هو إلا أن قال ذلك، فكأنما كشف عن وجهي غطاء(5). وهذه القصة تبين لنا أهمية الصديق الصالح المخلص الذي يذكرك بالله حين الغفلة .
5 ـ بين عمر بن عبد العزيز والحجّاج في خلافة الوليد:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ43، 44 .
(2) المصدر نفسه صـ42 .
(3) المصدر نفسه صـ42 .
(4) المصدر نفسه صـ42 ، الآثار الواردة (1/66) .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز للجوزي صـ140 .(3/287)
ذكر ابن الجوزي أن عمر بن عبد العزيز قد استعفى من المدينة كما مرّ ذكره ولكن ذكر غيره أنه عزل عنها، ففي سنة 92هـ عقد الخليفة الوليد لواء الحج للحجاج بن يوسف الثقفي ليكون أميراً على الحج ولما علم عمر بن عبد العزيز بذلك، كتب رحمه الله تعالى إلى الخليفة يستعفيه أن يمرَّ عليه الحجاج بالمدينة المنورة، لأن عمر بن عبد العزيز كان يكره الحجّاج ولا يطيق أن يراه، لما هو عليه من الظلم، فامتثل الوليد لرغبة عمر، وكتب إلى الحجّاج: إن عمر بن عبد العزيز كتب إليَّ يستعفيني من ممرك عليه، فلا عليك أن لا تمر بمن كرهك فتنحّ عن المدينة(1)، وقد كتب عمر بن عبد العزيز وهو والٍ على المدينة إلى الوليد بن عبد الملك يخبره عما وصل إليه حال العراق من الظلم والضيم والضيق بسبب ظلم الحجّاج وغشمه، مما جعل الحجّاج يحاول الانتقام من عمر لاسيما وقد أصبح الحجاز ملاذاً للفارين من عسف الحجاج وظلمه حيث كتب الحجّاج إلى الوليد: إن من قبلي من مراق أهل العراق وأهل الثقاف قد جلوا عن العراق، ولجأوا إلى المدينة ومكة، وإن ذلك وهن: فكتب إليه يشير عليه بعثمان بن حبان، وخالد بن عبد الله القسري، وعزل عمر عبد العزيز(2). وقد كان ميول الوليد لسياسة الحجّاج واضحاً وكان يظن بأنه سياسة الشدة والعسف هي السبيل الوحيد لتوطيد أركان الدولة، وهذا ما حال بينه وبين الأخذ بآراء عمر بن عبد العزيز ونصائحه، وقد أثبتت الأحداث فيما بعد أن ما كان يراه عمر أفضل مما كان يسير عليه الوليد، وذلك بعد تولي عمر الخلافة وتطبيقه لما كان يشير به(3).
6 ـ عودة عمر بن عبد العزيز إلى دمشق:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه ، صـ24 لابن الحكم .
(2) تاريخ الطبري (7/383) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ165 .(3/288)
... خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة المنورة وهو يبكي ومعه خادمه مزاحم، فالتفت إلى مزاحم وقال: يا مزاحم، نخشى أن نكون من نفت المدينة(1)، يشير بذلك إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا وإن المدينة كالكير يخرج الخبث، لا تقوم الساعة حتى تفني المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد(2). وقال مزاحم: ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظرت فإذا القمر في الدبران(3) ـ كأنه تشاءم من ذلك ـ فقال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة! فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران. يا مزاحم: إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكن نخرج بالله الواحد القهار(4)، وسار عمر حتى وصل السويداء، وكان له فيها بيت ومزرعة، فنزل فيها فأقام مدة يرقب الأوضاع عن بعد، ثم رأى أن مصلحة المسلمين تقتضي أن تكون إقامته في دمشق، بجوار الخليفة، لعله بذلك يستطيع أن يمنع ظلماً، أو يشارك في إحقاق حق، فانتقل إلى دمشق فأقام بها(5)، ولم يكن عمر بن عبد العزيز على وفاق تام مع الخليفة الوليد بن عبد الملك، ولذلك فإن إقامته في دمشق بجوار الوليد لم تخل من مشاكل، فالوليد يعتمد في تثبيت حكمه على ولاة أقوياء قساة يهمهم إخضاع الناس بالقوة، وإن رافق ذلك كثير من الظلم، بينما يرى عمر إن إقامة العدل بين الناس كفيل باستقرار الملك وإئتمارهم بأمر السلطان، فكان رحمه الله يقول: الوليد بالشام والحجّاج بالعراق، ومحمد بن يوسف ـ أخ الحجّاج ـ في اليمن، وعثمان بن حيان بالحجاز، وقرة بن
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز ومناقبه صـ27 لابن الحكم .
(2) مسلم ، ك الحج ، باب : المدينة تنفي شرارها .
(3) الدبران : نجم بين الثريا والجوزاء ويقال له التابع والتويبع وهو من منازل القمر سمي دبراناً لأنه يدبر الثريا أي يتبعها .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ27 .
(5) البداية والنهاية (12/683) .(3/289)
شريك في مصر،.. امتلأت والله الأرض جوراً(1).
7 ـ نصح عمر للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل:
... سلك عمر بن عبد العزيز بعض الطرق والوسائل لإصلاح هذا الوضع، فمن ذلك نصحه للوليد بالحد من صلاحيات عماله في القتل، وقد نجح في بادي الأمر في استصدار قرار يمنع أي والٍ من القتل إلا بعد علم الخليفة وموافقته على ذلك، فيذكر ابن عبد الحكم أن عمر بن عبد العزيز دخل على الوليد بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين إن عندي نصيحة، فإذا خلا لك عقلك، واجتمع فهمك فسلني عنها، قال: ما يمنعك منها الآن؟ قال: أنت أعلم، إذا اجتمع لك ما أقول فإنك أحق أن تفهم فمكث أياماً ثم قال: يا غلام من بالباب؟ فقيل له ناس وفيهم عمر بن عبد العزيز، فقال: أدخله، فدخل عليه فقال: نصيحتك يا أبا حفص فقال عمر: إنه ليس بعد الشرك إثم أعظم عند الله من الدم، وأن عمالك يقتلون، ويكتبون إن ذنب فلان المقتول كذا وكذا، وأنت المسئول عنه والمأخوذ به، فاكتب إليهم ألا يقتل أحد منهم أحداً حتى يكتب بذنبه ثم يشهد عليه، ثم تأمر بأمرك على أمر قد وضح لك. فقال: بارك الله فيك يا أبا حفص ومنع فقدك. عليَّ بكتاب، فكتب إلى أمراء الأمصار كلهم فلم يحرج من ذلك إلا الحجّاج فإنه أمضه، وشق عليه وأقلقه. وظن أنه لم يكتب إلى أحد غيره، فبحث عن ذلك، فقال: من أين ذهبنا؟ أو من أشار على أمير المؤمنين بهذا؟ فأخبر أن عمر بن عبد العزيز هو الذي فعل ذلك فقال: هيهات إن كان عمر فلا نقض لأمره. ثم أن الحجّاج أرسل إلى إعرابي حروري ـ من الخوارج ـ جاف من بكر بن وائل، ثم قال له الحجّاج ما تقول في معاوية؟ فنال منه. قال: ما تقول في يزيد؟ فسبه. قال: فما تقول في عبد الملك؟ فظلمه. قال: فما تقول في الوليد؟ فقال: أجورهم حين ولاك وهو يعلم عداءك وظلمك. فسكت الحجّاج وافترصها منه(2)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ146 ، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ162 .
(2) افترصها : انتهزها .(3/290)
، ثم بعث به إلى الوليد وكتب إليه: أنا أحوط لديني، وأرعى لما استرعيتني واحفظ له من أن أقتل أحداً لم يستوجب ذلك، وقد بعثت إليك ببعض من كنت أقتل على هذا الرأي فشأنك وإياه. فدخل الحروري على الوليد وعنده أشراف أهل الشام وعمر فيهم فقال له الوليد: ما تقول فيّ؟ قال ظالم جبار. قال: ما تقول في عبد الملك؟ قال: جبار عاتٍ. قال فما تقول في معاوية؟ قال: ظالم. قال الوليد لابن الريان أضرب عنقه فضرب عنقه، ثم قام فدخل منزله وخرج الناس من عنده فقال: يا غلام أردد عليّ عمر، فرده عليه فقال: يا أبا حفص ما تقول بهذا؟ أصبنا أم أخطأنا؟ فقال عمر: ما أصبت بقتله، ولغير ذلك كان أرشد وأصوب، كنت تسجنه حتى يراجع الله عز وجل أو تدركه منيته، فقال الوليد شتمني وشتم عبد الملك وهو حروري أفتستحل ذلك؟ قال لعمري ما استحله، لو كنت سجنته إن بدا لك أو تعفو عنه، فقام الوليد مغضباً، فقال ابن الريان لعمر: يغفر الله لك يا أبا حفص، لقد راددت أمير المؤمنين حتى ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك(1)، وهكذا احتار الحجّاج على الوليد ليصرفه على الأخذ برأي عمر في الحد من سرف الحجّاج وأمثاله في القتل(2).
8 ـ رأي عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ119 ـ 121 أثر العلماء في الحياة السياسية 164 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ164 .(3/291)
... فبالإضافة إلى الموقف الذي مرّ ذكره آنفاً ـ في شأن الحروري الذي بعث به الحجّاج ـ وردت روايات توضح الموقف نفسه فعن ابن شهاب أن عمر بن عبد العزيز أخبره أن الوليد أرسل إليه بالظهيرة، فوجده قاطباً بين عينيه، قال: فجلست وليس عنده إلا ابن الريان، قائم بسيفه، فقال: ما تقول فيمن يسب الخلفاء؟ أترى أن يقتل؟ فسكت، فانتهرني، وقال: مالك؟ فسكت، فعاد لمثلها، فقلت: أقتل يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنه سب الخلفاء قلت: فإني أرى أن ينكل فرفع رأسه إلى ابن الريان، فقال الوليد: إنه فيهم لتائه.
9 ـ نصحه الوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه"
... ومن آخر مواقفه التي ذكرت لعمر بن عبد العزيز في عهد الوليد بن عبد الملك نصحه للوليد عندما أراد خلع سليمان والبيعة لابنه عبد العزيز من بعده، فوقف عمر من ذلك موقفاً حازماً حيث لم يستجب لأمر الوليد في ذلك وقال حين أراده على ذلك: يا أمير المؤمنين إنما بايعنا لكما في عقدة واحدة فكيف نخلعه ونتركك: فغضب الوليد على عمر، وحاول استخدام الشدة معه لعله يوافقه على ما أراد، فيذكر أنه أغلق عليه الدار وطين عليه الباب حتى تدخلت أم البنين أخته وزوجة الوليد ففتح عنه بعد ثلاث وقد ذبل ومالت عنقه(1).
خامساً: عمر في عهد سليمان بن عبد الملك:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/148، 149) أثر العلماء صـ167 .(3/292)
في عهد سليمان تهيأت الفرص لعمر بن عبد العزيز بقدر كبير فظهرت آثاره في مختلف الجوانب، فبمجرد تولي سليمان الخلافة قرب عمر بن عبد العزيز وأفسح له المجال واسعاً حيث قال: يا أبا حفص إنا ولينا ما قد ترى، ولم يكن بتدبيره علم، فما رأيت من مصلحة العامة فمر به(1) وجعله وزيراً ومستشاراً ملازماً له في إقامته أو سفره وكان سليمان يرى أنه محتاج له في صغيره وكبيره، فكان يقول: ما هو إلا أن يغيب عني هذا الرجل فما أجد أحداً يفقه عني(2). وفي موضع آخر قال: يا أبا حفص ما اغتممت بأمر ولا أكربني أمر إلا خطرت فيه على بالي(3).
1 ـ أسباب تقريب سليمان لعمر:
والذي دفع سليمان إلى إفساح المجال أمام عمر بهذه الصورة يعود في نظري إلى عدة أسباب منها:
أ ـ شخصية سليمان بن عبد الملك: حيث لم يكن مثل أخيه الوليد معجباً بنفسه معتداً برأيه وواقعاً تحت تأثير بعض ولاته، بل كان سليمان على العكس من ذلك غير معتد برأيه خالياً من التأثيرات الأخرى عليه .
ب ـ قناعة سليمان بما يتمتع به عمر من نظرات وآراء صائبة.
جـ ـ موقف عمر من محاولة الوليد لخلع سليمان مما جعل سليمان يشكر ذلك لعمر، وقد أشار لهذا الذهبي حيث قال بعد عرضه لموقف عمر: فلذلك شكر سليمان وعمر وأعطاه الخلافة بعده(4).
2 ـ تأثير عمر على سليمان في إصدار قرارات إصلاحية:
__________
(1) المصدر نفسه نقلاً عن اثر العلماء صـ168 .
(2) المعرفة والتاريخ للفسوي (1/598) .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ28 لابن عبد الحكم ، اثر العلماء صـ168 .
(4) سير أعلام النبلاء (5/149) .(3/293)
فقد كان لعمر أثر كبير على سليمان في إصدار عدد من القرارات النافعة ومن أهمها: عزل ولاة الحجّاج، وبعض الولاة الآخرين، كوالي مكة، خالد القسري ووالي المدينة عثمان بن حيان(1)، ومنها الأمر بإقامة الصلاة في وقتها، فأورد ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز: أن الوليد بن عبد الملك كان يؤخر الظهر والعصر، فلما ولي سليمان كتب إلى الناس ـ عن رأي عمر ـ أن الصلاة كانت قد أميتت فأحيوها(2) وهناك أمور أخرى أجملها الذهبي بقوله: مع أمور جليلة كان يسمع من عمر فيها(3).
3 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في تحكيمه كتاب أبيه:
__________
(1) أثر العلماء على الحياة السياسية صـ169 .
(2) تاريخ دمشق نقلاً عن أثر العلماء على الحياة السياسية صـ170 .
(3) سير أعلام النبلاء (5/125) .(3/294)
كلمّ عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك في ميراث بعض بنات عبد العزيز من بني عبد الملك، فقال له سليمان بن عبد الملك: إن عبد الملك كتب في ذلك كتاباً منعهن ذلك، فتركه يسيراً ثم راجعه فظن سليمان أنه اتهمه فيما ذكر من رأي عبد الملك في ذلك الأمر فقال سليمان لغلامه: ائتني بكتاب عبد الملك، فقال له عمر: أبا المصحف دعوتَ يا أمير المؤمنين؟ فقال أيوب بن سليمان: ليوشكن أحدكم أن يتكلم الكلام تضرب فيه عنقه، فقال له عمر: إذا أفضى الأمر إليك فالذي دخل على المسلمين أعظم مما تذكر، فزجر سليمان أيوب، فقال عمر: إن كان جهل فما حلمُنا عنه(1). فهذا موقف من مواقف الجرأة في قول الحق الذي يُحمد لعمر حيث اعتبر سليمان بن عبد الملك كتابة أبيه شرعاً لا يمكن تغييره فنبهه عمر إلى أن الكتاب الذي لا ينقض ولا يغيّر هو كتاب الله تعالى وحده، وهكذا يصل الطغيان بضحاياه إلى تعظيم شأن الآباء والأجداد الذين ورّثوا ذلك المجد الزائل لأبنائهم إلى الحد الذي يعتبرون فيه قضاءهم شرعاً نافذاً من غير نظر في موافقته لحكم الإسلام أو مخالفته، وموقف يذكر لسليمان حيث وبخّ ولده الذي هدد عمر أن قال كلمة الحق، وهذا يدل على ما يتصف به سليمان من سرعة الرجوع إلى الحق إذا تبين له(2).
4 ـ إنكاره على سليمان بن عبد الملك في الإنفاق:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ31 .
(2) التاريخ الإسلامي (15/30 ،31) .(3/295)
... قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فأعطى بها مالاً عظيماً، فقال لعمر بن عبد العزيز: كيف رأيت ما فعلنا يا أبا حفص؟ قال: رأيتك زدت أهل الغنى غنى وتركت أهل الفقر بفقرهم(1). فهذا تقويم جيد من عمر بن عبد العزيز لعمل سليمان بن عبد الملك، فقد كان سليمان لجهله بدقائق أحكام الشريعة في مجال الإنفاق ـ يظن أنه بإنفاقه ذلك المال الكثير على الرعية قد عمل صالحاً، فأفاده عمر بن عبد العزيز بأنه قد أخطأ حينما صرف ذلك المال لغير مستحقيه وحرم منه أهله(2)، فقد بين عمر رحمه الله أهمية التفريق بين بذل الخير وصرفه لمستحقيه.
5 ـ حث عمر سليمان على رد المظالم:
... خرج سليمان ومعه عمر إلى البوادي، فأصابه سحاب فيه برق وصواعق، ففزع منه سليمان ومن معه، فقال عمر: إنما هذا صوت نعمة فكيف لو سمعت صوت عذاب؟ فقال سليمان: خذ هذه المائة ألف درهم وتصدق بها، فقال عمر: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: وما هو؟ قال: قوم صحبوك في مظالم لم يصلوا إليك، فجلس سليمان فرد المظالم(3)، ويظهر عند عمر وضوح فقه ترتيب الأولويات فرد المظالم مقدم على بذل الصدقات.
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ131 .
(2) التاريخ الإسلامي (15/29) .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ33 ، أثر العلماء في الحياة السياسية صـ170 .(3/296)
6 ـ أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً: أقبل سليمان بن عبد الملك وهو أمير المؤمنين، ومعه عمر بن عبد العزيز على معسكر سليمان، وفيه تلك الخيول والجمال والبغال والأثقال والرجال، فقال سليمان ما تقول يا عمر في هذا؟ قال: أرى دنيا يأكل بعضها بعضاً، وأنت المسئول عن ذلك كله. فلما اقتربوا من المعسكر، إذا غراب قد أخذ لقمة في فيه من فسطاط سليمان وهو طائر بها ونعب نعبة(1)، فقال له سليمان: ما تقول في هذا يا عمر؟ فقال: لا أدري. فقال: ما ظنك أنه يقول؟ قال: كأنه يقول: من أين جاءت؟ وأين يذهب بها؟ فقال له سليمان: ما أعجبك؟ فقال عمر: أعجب مني من عرف الله فعصاه، ومن عرف الشيطان فأطاعه(2).
7 ـ هم خصماؤك يوم القيامة: لما وقف سليمان وعمر بعرفة جعل سليمان يعجب من كثرة الناس، فقال له عمر: هؤلاء رعيّتُك اليوم،، وأنت مسئول عنهم غداً وفي رواية: وهم خصماؤك يوم القيامة فبكى سليمان وقال: بالله استعين(3).
8 ـ زيد بن الحسن بن علي مع سليمان:
__________
(1) نعب الغراب : صوت أو مد عنقه وحرك رأسه في صياحه .
(2) البداية والنهاية (12/685) .
(3) المصدر نفسه (12/685) .(3/297)
... كان زيد بن الحسن بن علي قد أجاب الوليد بن عبد الملك في مسألة خلع سليمان خوفاً من الوليد، وكتب بموافقته من المدينة إلى الوليد، فلما استخلف سليمان وجد الكتاب، فبعث إلى واليه على المدينة، أن يسأل زيداً عن أمر الكتاب، فإن هو اعترف به فليبعث بذلك إليه، وإن أنكر عليه اليمين أمام منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بعث باعترافه إلى سليمان كتب سليمان إلى والي المدينة أن يضربه مائة سوط ويمشيه حافياً.. فحبس عمر الرسول وقال: لا تخرج حتى أكلم أمير المؤمنين، فيما كتب في زيد بن حسن لعلي أطيب نفسه فيترك هذا الكتاب. فجلس الرسول فمرض سليمان، فقال للرسول لا تخرج فإن أمير المؤمنين مريض، فلما توفي سليمان وأفضى الأمر إلى عمر دعا بالكتاب ومزقه(1). وظل عمر بن عبد العزيز قريباً من سليمان طيلة مدة خلافته يحوطه بنصحه ويشاركه مسئولياته(2)، ويرى الدكتور يوسف العش أن سياسة عمر بن عبد العزيز ومنطلقاتها بدأت منذ بداية خلافة سليمان، نعم أن سليمان كان يشتط حيناً في سياسته، فيتخذ تدابير لعل عمر لا يقرها، لكن عمر بن عبد العزيز كان بالرغم من ذلك راجح القوة في خلافته وسياسة عمر لم تتغير، فهو في دمشق مثله في المدينة، على أنه في دمشق يستطيع أن يفعل أكثر من المدينة، والأمر المهم عنده هو منع الجور(3)، والظلم والعسف، ونلاحظ أن عمر بن عبد العزيز تعامل مع سنة التدرج وفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في رد المظالم ومنعها وعندما وصل للخلافة إزداد في إحقاق العدل ومحاربة الظلم لأن الصلاحيات المتاحة كانت أكبر، فهو نصح عمه عبد الملك وذكره بالآخرة مع جبروته وظلمه، ولم يتقاعس في عهد ابن عمه الوليد، وتقدم خطوات ووفق حسب الإمكان في عهد سليمان وأتيحت له الفرصة في خلافته وبالتالي لا نقول
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ104 .
(2) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ173 .
(3) الدولة الأموية ، يوسف العشي صـ254 .(3/298)
أن ما حدث لعمر على مستواه الشخصي انقلاب وإنما الانقلاب في توظيف الدولة لخدمة الشريعة في كافة شؤون الحياة ولو كان على حساب العائلة الحاكمة، التي كانت لها مخصصاتها وصلاحياتها والتي اعتبرها عمر بن عبد العزيز حقوق للأمة يجب ردها إلى بيت المال أو إلى أصحابها الأصليين.
سادساً : خلافة عمر بن عبد العزيز:
ومن حسنات سليمان عبد الملك قبوله لي نصيحة الفقيه العالم رجاء بن حيوة الكندي الذي اقترح على سليمان في مرض موته أن يولي عمر بن عبد العزيز، وكانت وصية لم يكن للشيطان فيها نصيب(1)، قال ابن سيرين: يرحم الله سليمان افتتح خلافته بإحياء الصلاة، واختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز، وكانت سنة وفاته سنة 99هـ، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان منقوش في خاتمه: (أؤمن بالله مخلصاً)(2)، وتعددت الروايات في قصة استخلاف سليمان لعمر ، وقد ذكرت بعضها في حديثي عن عهد سليمان، ومن الروايات أيضاً ما ذكره ابن سعد في طبقاته، عن سهيل بن أبي سهيل قال: سمعت رجاء بن حيوة يقول: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباُ خضر من خز ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب، وهو غلام لم يبلغ فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح، فقال سليمان: كتاب استخير الله فيه، وانظر، ولم أعزم عليه، فمكث يوماً أو يومين، ثم خرقه ثم دعاني، فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت هو غائب بقسطنطينية، وأنت لا تدري أحي هو أم ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ قال: فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين وأنا أريد أن أنظر من يذكر. فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً. فقال: هو على ذلك
__________
(1) عصر الدولتين الأموية والعباسية صـ37 للصَّلاَّبي .
(2) سير أعلام النبلاء (5/111 ، 112) .(3/299)
والله لئن وليته، ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده ـ ويزيد بن عبد الملك غائب على الموسم ـ قال: فيزيد بن عبد الملك أجعله بعده، فإن ذلك مما يسكنه ويرضون به، قلت : رأيك قال: فكتب بيده بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة من بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك، فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا، فيطمع فيكم. وختم الكتاب فأرسل إلى كعب بن حامد صاحب الشرطة أن مرّ أهل بيتي فليجتمعوا، فأرسل إليهم كعب، فجمعهم، ثم قال سليمان: لرجاء بعد اجتماعهم: أذهب بكتاب هذا إليهم، فاخبرهم، إنه كتابي ومرهم فليبايعوا من وليت. قال: ففعل رجاء، فلما قال لهم ذلك رجاء قالوا: سمعنا وأطعنا لمن فيه، وقالوا: ندخل فنسلم على أمير المؤمنين، قال نعم. فدخلوا فقال لهم سليمان: هذا الكتاب ـ وهو يشير لهم وهم ينظرون إليه في يد رجاء بن حيوة ـ هذا عهدي، فاسمعوا، وأطيعوا وبايعوا لمن سميت في هذا الكتاب. قال فبايعوا رجلاً. قال: ثم خرج بالكتاب مختوماً في يد رجاء. قال رجاء: فلما تفرقوا جاءني عمر بن عبد العزيز فقال: يا أبا المقدام، إن سليمان كانت لي به حرمة ومودة، وكان بي براً ملطفاً، فأنا أخشى أن يكون قد أسند إلي من هذا الأمر شيئاً، فأنشدك الله وحرمتي ومودتي، ألا أعلمتني إن كان ذلك حتى أستعفيه الآن قبل أن يأتي حال لا أقدر فيها على ما أقدر الساعة. فقال رجاء: لا والله حرفاً واحداً. قال: فذهب عمر غضبان. قال رجاء: ولقيني هشام بن عبد الملك، فقال: يا رجاء، إن لي بك حرمة ومودة قديمة وعندي شكر، فأعلمني أهذا الأمر إليّ؟ فإن كان إلي علمت، وإن كان إلى غيري تكلمت، فليس مثلي قصر به، ولا نحي عنه هذا الأمر، فأعلمني فلك الله لا أذكر اسمك أبداً. قال رجاء: فأبيت وقلت لا والله لا أخبرك حرفاً واحداً مما أسر إلي.،(3/300)
فانصرف هشام..، وهو يضرب بإحدى يديه على الأخرى، وهو يقول: فإلى من إذا نحيت عني؟ أتخرج من بني عبد الملك؟ فوالله إني لعين بني عبد الملك قال رجاء: ودخلت على سليمان بن عبد الملك، فإذا هو يموت. قال: فجعلت إذا أخذته سكرة من سكرات الموت، حرفته إلى القبلة، فجعل يقول وهو يفأق: لم يأت ذلك بعد يا رجاء. حتى فعلت ذلك مرتين. فلما كانت الثالثة قال: من الآن يا رجاء، إن كنت تريد شيئاً أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. قال فحرفته، ومات، فلما أغمضته سجيته بقطيفة خضراء وأغلقت الباب، وأرسلت إلى زوجته تنظر إليه، كيف أصبح فقلت: نام وقد تغطى، فنظر الرسول إليه، مغطى بالقطيفة فرجع، فأخبرها، فقبلت ذلك وظنت أنه نائم. قال رجاء: وأجلست على الباب من أثق به وأوصيته أن لا يريم حتى آتيه، ولا يدخل على الخليفة أحداً. قال: فخرجت، فأرسلت إلى كعب بن حامد العنسي، فجمع أهل بيت أمير المؤمنين، فاجتمعوا في مسجد دابق فقلت: بايعوا، قالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى! قلت: هذا أمير المؤمنين، بايعوا على ما أمر به، ومن سمى في هذا الكتاب المختوم، فبايعوا الثانية رجلاً رجلاً. قال رجاء: فلما بايعوا بعد موت سليمان، رأيت أني قد أحكمت الأمر، قلت قوموا إلى صحابكم فقد مات. قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون وقرأت عليهم الكتاب، فلما انتهيت إلى ذكر عمر بن عبد العزيز نادى هشام: لا نبايعه أبداً. قال قلت: أضرب والله عنقك، قم فبايع. فقام يجر رجليه. قال رجاء: وأخذت بضبعي عمر، فأجلسته على المنبر وهو يسترجع، لما وقع فيه، وهشام يسترجع لما أخطاه فلما انتهى هشام إلى عمر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي حين صار هذا الأمر إليك على ولد عبد الملك، قال فقال عمر: نعم، فإنا لله وأنا إليه راجعون، حين صار إلي ـ لكراهتي له(1). وقال أبو الحسن الندوي على موقف رجاء بن حيوة: وكان لرجاء
__________
(1) تاريخ الطبري (7/445) ، الطبقات (5/335 ـ 338) .(3/301)
مأثرة لا ينساها الإسلام، ولا أعرف رجلاً من ندماء الملوك ورجالهم انتفع بقربه ومنزلته عند الملوك مثل انتفاعه، وانتهز الفرصة مثل انتهازه وأسدى للإسلام خدمة مثله(1)، فرحم الله رجاء بن حيوة فقد رسم منهجاً لمن يجلس مع الملوك من العلماء كيف يعز الإسلام ويذكر الخلفاء بالله وينتهز الفرص المناسبة لخدمة دين الله.
1 ـ منهج عمر في إدارة الدولة من خلال خطبته الأولى:
صعد عمر المنبر وقال في أول لقاء مع الأمة بعد استخلافه: أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم. فصاح الناس صيحة واحدة. قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فوّل أمرنا باليمن والبركة وهنا شعر أنه لا مفر من تحمل مسؤولية الخلافة فأضاف قائلاً يحدد منهجه وطريقته في سياسة الأمة المسلمة(2): أما بعد فإنه ليس بعد نبيكم نبي، ولا بعد الكتاب الذي أنزل عليه كتاب، ألا إن ما أحل الله حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاض، ولكني منفذ، ألا وإني لست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله، ألا إني لست بخيركم، ولكني رجل منكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً. أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس، و إلا فلا يقربنا: يرفع إلينا حاجة من لا يستطيع رفعها، ويعيننا على الخير بجهده ويدلنا من الخير على ما نهتدي إليه، ولا يغتابن عندنا الرعية ولا يعترض فيما لا يعنيه. أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا الآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر ديناه، وأصلحوا سرائركم، يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا من ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات... وإن
__________
(1) رجال الفكر والدعوة للندوي (1/40) .
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم ، ماجدة فيصل صـ102 .(3/302)
هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقا. ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. وإن من حولكم من الأمصار والمدن فإن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا وليكم، وإن هم نقموا فلست لكم بوال(1)، ثم نزل. وهكذا عقدت الخلافة لعمر بن عبد العزيز في ذلك اليوم، وهو يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة تسع وتسعين(2)، ويظهر لنا من هذه الخطبة السياسية التي قرر عمر بن عبد العزيز أتباعها في الحكم وهي:
أ ـ الترامه بالكتاب والسنة، وأنه غير مستعد للاستماع إلى أي جدل في مسائل الشرع، والدين على أساس أنه حاكم منفذ وأن الشرع بين من حيث تحليل ما أحل الله وتحريم ما حرم الله ورفضه للبدعة والآراء المحدثة.
ب ـ حدد لمن يريد أن يتصل به ويعمل معه من رعيته أن يكون اتصاله معه لخمسة أسباب:
* ـ أن يرفع إليه حاجة من لا يستطيع أن يصل إلى الخليفة، أي أنه جعل المقربين منه همزة وصل بينه، وبين من لا يستطيعون الوصول إليه، فيعرف بذلك حوائج الناس، وينظر فيها.
* ـ أن يعينه على الخير ما استطاع، أي أن علاقة هؤلاء به تقوم على أساس نزعة الخير يعين الخليفة عليه، وبالتالي يحذره من أي شر.
* ـ فرض على من يقترب إليه فريضة أن يرشده، ويهديه إلى ما فيه خير الأمة، وخير الدين.
* ـ نهى من يريد أن يتقرب إليه، عن أن يغتاب إليه أحد.
* ـ أن لا يتدخل أي متقرب منه في شؤون الحكم، وفيما لا يعنيه عامة .
__________
(1) انظر : مع بعض الاختلاف الطبقات (5/340) ، سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الحكم صـ35، 36، عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ104 .
(2) البداية والنهاية (12/657) .(3/303)
لقد كان يدرك مدى تأثير البطانة والمقربين من الحاكم على الحاكم وعلى الرعية، وعلى أسلوب الحكم، فآثر أن ينبه الناس حتى يتركوه يحكم بما ارتضى في نطاق شرع الله، دون أن يبعدهم نهائياً لأنه أجاز لهؤلاء المقربين أن يدلوه على الخير، ويعينوه عليه، وأن ينقلوا إليه حاجة المحتاج(1).
ج ـ كما أنه حذر الناس من عواقب الدنيا لو أساؤوا فيها، وطلب إليهم أن يصلحوا سرائرهم ويحذروا الموت، ويتعظوا به.
ح ـ قطع على نفسه عهداً بأن لا يعطي أحداً باطلاً، ولا يمنع أحداً حقاً، وأنه أعطاهم حقاً عليه، وهو أن يطيعوه ما أطاع الله، وأنه لا طاعة له عليهم إذا عصاه سبحانه وتعالى. هذه هي الخطوط العريضة لسياسة عمر، ذكرها في أول لقاء له مع الرعية وأهل الحل والعقد في المسجد، بعد بيعته فدولته قد حدّدها بالسير على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد آثر أن لا يدع لأي عامل من عماله حجة عليه بعد ذلك ففصل ما أجمل في خطبته الأولى في كتب أرسلها إلى عماله وقد كانت هذه الكتب نوعين:
ـ كتب إلى العمال يبصرهم بما يجب عليهم أن يلتزموا به في مسلكهم الشخصي، والخاص، إزاء الرعية ـ وسوف نتحدث عن ذلك بإذن الله.
ـ وكتب إلى عماله التي حددت سياستهم، وطريقة تعاملهم مع أفراد الرعية من المسلمين، وغير المسلمين، ممن كانوا يسكنون دار الإسلام وعمر في هذه الكتب ـ كما سيظهر بإذن الله ـ تكلم عن موقفه كفقيه متبحر في أصول الدين(2)، وسيأتي الحديث عن منهجه من خلال أعماله.
2 ـ الحرص على العمل بالكتاب والسنة:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ105 .2
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ106 .(3/304)
من أهم ما يميز منهج عمر في سياسته، حرصه على العمل بالكتاب والسنة ونشر العلم بين رعيته وتفقيههم في الدين وتعريفهم بالسنة، ومنطلق عمر في ذلك فهمه لمهمة الخلافة، فهي حفظ الدين وسياسة الدنيا به(1)، فهو يرى أن من أهم واجباته تعريف رعيته بمبادئ دينهم وحملهم على العمل بها، فورد عنه أنه قال: في إحدى خطبه: إن للإسلام حدوداً وشرائع وسنناً فمن عمل بها استكمل الإيمان، ومن لم يعمل بها لم يستكمل الإيمان، فلأن أعش أعلمكموها وأحملكم عليها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص(2). وقال أيضاً: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي وكل سنة يعيشها الله على يدي ببضعة من لحمي حتى يأتي آخر ذلك على نفسي كان في الله يسيراً. وفي موضع آخر قال: والله لولا أن أنعش سنة أو أسير بحق ما أحببت أن أعيش فواقاً(3)، لهذا بادر عمر في تنفيذ هذه المسئولية المهمة، فبعث العلماء في تعليم الناس وتفقيههم إلى مختلف أقاليم الدولة وفي حواضرها وبواديها، وأمر عماله على الأقاليم بحث العلماء على نشر العلم، فقد جاء في كتابه الذي بعث إلى عماله: ومر أهل العلم والفقه من جندك فلينشروا ما علمهم الله من ذلك، وليتحدثوا به في مجالسهم(4)، ومما كتب به إلى بعض عماله: أما بعد فأمر أهل العلم أن ينشروا العلم في مساجدهم فإن السنة كانت قد أميتت(5)، كما أمر عماله أن يجروا الرواتب على العلماء ليتفرغوا لنشر العلم(6)، وانتدب العديد من العلماء لتفقيه الناس في الدين، فبعث يزيد بن أبي مالك الدمشقي والحارث بن يمجد الأشعري يفقهان
__________
(1) الأحكام السلطانية والوليات الدينية صـ5 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ60 لابن عبد الحكم .
(3) الفواق : ما بين الحلبتين من الوقت أو ما بين فتح اليد وقبضها على الضرع .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ73 .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ76 .
(6) البداية والنهاية نقلاً عن أثر العلماء في الحياة السياسية صـ179 .(3/305)
الناس والبدو(1)، وذكر الذهبي أن عمر ندب يزيد بن أبي مالك ليفقه بني نمير ويقرئهم، وبعث نافع مولى ابن عمر إلى أهل مصر ليعلمهم السنن(2)، وكان قد بعث عشرة من الفقهاء إلى إفريقية يفقهون أهلها وسيأتي الحديث عنهم بإذن الله، ولم تنحصر مهمة هؤلاء العلماء في التعليم فحسب، بل منهم من أسند إليه بعض الولايات، ومنهم من تولي القضاء وأسهم أكثرهم بالإضافة إلى نشر العلم في مجال الدعوة والجهاد في سبيل الله ، وهذا الاهتمام الذي تميز به منهج عمر لتعليم الناس وتفصيلهم لأمور دينهم له أبعاد سياسية وآثار أمنية، ذلك أن نشر الوعي الديني الصحيح والفقه فيه بين أفراد الرعية له أثر في حماية عقول أبناء الأمة من عبث الأفكار التي ينعكس خطرها على الاستقرار السياسي والأمني، كأفكار الخوارج(3) وغيرهم.
__________
(1) مختصر تاريخ دمشق (6/175) أثر العلماء صـ179 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/438) .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ180 .(3/306)
3 ـ الشورى في دولة عمر بن عبد العزيز: قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)) (الشورى / الآية : 38). وقال تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)) (آل عمران : الآية : 159). وقد اهتم عمر بن عبد العزيز بتفعيل مبدأ الشورى في خلافته، ومن أقواله في الشورى: إن المشورة والمناظرة باب رحمة ومفتاح بركة لا يضل معهما رأي، ولا يفقد معهما حزم(1)، وكان أول قرار اتخذه عمر بعدما ولي أمر المدينة للوليد بن عبد الملك، يتعلق بتطبيق مبدأ الشورى، وجعله أساساً في إمارته، حين دعا من فقهاء المدينة وكبار علمائها، وجعل منهم مجلساً استشارياً دائماً(2) ـ كما مر معنا ـ حري بمن جعل الشورى أحد مبادئ إمارته حين كانت مسئوليته جزئية أن يطبقه وقت المسئولية الكاملة، والمهمة العظمى، ألا وهي ولاية أمر المسلمين كافة وقد تبين مبدأ الشورى من أول يوم في خلافته، وقال للناس: أيها الناس، إني قد ابتليت بهذا الأمر، من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، (فاختاروا لأنفسكم) فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك فول أمرنا باليمن والبركة(3)، وبذلك خرج عمر من مبدأ توريث الولاية الذي تبناه معظم خلفاء بني أمية إلى مبدأ الشورى والانتخاب، ولم يكتف عمر باختياره ومبايعة الحاضرين، بل يهمه رأي المسلمين في الأمصار الأخرى ومشورتهم، فقال في خطبته الأولى ـ عقب توليه الخلافة ـ:.. وإن من حولكم من الأمصار والمدن إن أطاعوا كما أطعتم.، وإن هم أبوا
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي صـ189 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ283 .
(3) سيرة مناقب عمر بن عبد العزيز صـ65 .(3/307)
فلست لكم بوال، ثم نزل(1). وقد كتب إلى الأمصار الإسلامية فبايعت كلها، وممن كتب لهم يزيد بن المهلب يطلب إليه البيعة بعد أن أوضح له أنه في الخلافة ليس براغب، فدعا يزيد الناس إلى البيعة فبايعوا(2). وبذلك يتضح أنه لم يكتف بمشورة من حوله بل امتد الأمر إلى جميع أمصار المسلمين ونستنتج من موقف عمر هذا ما يلي:
أ ـ أن عمر كشف النقاب عن عدم موافقة الأصول الشرعية في تولي معظم الخلفاء الأمويين.
ب ـ حرص عمر على تطبيق الشورى في أمر يخصه هو، ألا وهو توليه الخلافة.
جـ ـ أن من طبق مبدأ الشورى في أمر مثل تولي الخلافة حري بتطبيقه فيما سواه.
__________
(1) البداية والنهاية (12/657) .
(2) تاريخ الطبري ، نقلاً عن النموذج الإداري المستخلص من عمر صـ285 .(3/308)
... وكان عمر يستشير العلماء، ويطلب نصحهم في كثير من الأمور أمثال سالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرطبي، ورجاء بن حيوة وغيرهم، فقال: إني قد ابتليت بهذا الأمر فأشيروا عليّ(1). كما كان يستشير ذوي العقول الراجحة من الرجال(2)، وقد حرص عمر على إصلاح بطانته لما تولى الخلافة، فقرب إلى مجلسه العلماء وأهل الصلاح، وأقصى عنه أهل المصالح الدنيوية والمنافع الخاصة ولم يكتف ـ رحمه الله ـ بانتقاء بطانته، بل كان زيادة على ذلك يوصيهم ويحثهم على تقويمه، فقال لعمر بن مهاجر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي ثم هزني ثم قل يا عمر ما تصنع(3)؟، وقد كان لهذا المسلك أثر في تصحيح سياسته التجديدية ونجاحها، حيث كان لبطانته أثر في شد أزره، وسداد رأيه وصواب قراره(4)، فمن أسباب نجاح عمر بن عبد العزيز تقريبه لأهل العلم والصلاح وانشراح صدره لهم ومشاركتهم معه لتحمل المسئولية فنتج عن ذلك حصول الخير العميم للإسلام والمسلمين.
4 ـ العدل في دولة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ16 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من عمر بن عبد العزيز صـ285 .
(3) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ175 إلى 177 .
(4) أثر العلماء في الحياة السياسية صـ178 .(3/309)
... قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)) (النحل ، الآية : 90) وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خبِيراً)) (النساء ، الآية : 135) وللعدل صورتان: صورة سلبية بمنع الظلم وإزالته عن المظلوم، أي بمنع انتهاك حقوق الناس المتعلقة بأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وإزالة آثار التعدي الذي يقع عليهم وإعادة حقوقهم إليهم ومعاقبة المعتدي عليها فيما يستوجب العقوبة(1).وصورة إيجابية: وتتعلق أكثر ما تتعلق بالدولة، وقيامها بحق أفراد الشعب في كفالة حرياتهم وحياتهم المعاشية، حتى لا يكون فيهم عاجز متروك، ولا ضعيف مهمل، ولا فقير بائس، ولا خائف مهدد، وهذه الأمور كلها من واجبات الحاكم في الإسلام(2). وقد قام أمير المؤمنين عمر بهذا الركن العظيم والمبدأ الخطير على أتم وجه وكان يرى أن المسئولية والسلطة في نظر عمر هي القيام بحقوق الناس والخضوع لشروط بيعتهم، وتحقيق مصلحتهم المشروعة، فالخليفة أجير عند الأمة وعليه أن ينفذ مطالبها العادلة حسب شروط البيعة(3)، وقد أحب الإستزاده من فهم صفات الإمام العادل وما يجب أن يقوم به ليتصف بهذه الخصلة الفريدة الحميدة فكتب إلى الحسن البصري يسأله في ذلك فأجابه الحسن: الإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأب الحاني على ولده يسعى لهم صغاراً،
__________
(1) عمر بن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين ، عبد الستار الشيخ صـ222 .
(2) المصدر نفسه صـ222، نظام الإسلام محمد المبارك صـ45 ـ 46 .
(3) عمر بن عبد العزيز ، خامس الخلفاء عبد الستار صـ223 .(3/310)
ويعلمهم كباراً، يكتب لهم في حياته ويدخرهم بعد مماته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البّرة الرفيقة بولدها، حملته كرهاً، ووضعته كرهاً، وربته طفلاً، تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتمّ بشكايته، والإمام العدل يا أمير المؤمنين وصيّ اليتامى، وخازن المساكين يربي صغيرهم، والإمام العدل يا أمير المؤمنين كقلب بين الجوانح، تصلح الجوانح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويُسمعهم، وينظر إلى الله ويريهم وينقاد إلى الله ويقودهم، فلا تكن يا أمير المؤمنين، فيما ملَّكك الله كعبد ائتمنه سيده واستحفظه ماله وعياله، فبدَّد، وشرَّد العيال، فأفقر أهله وفرَّق ماله(1).
أ ـ سياسته في رد المظالم:
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ224 .(3/311)
ـ ... أمير المؤمنين يبدأ بنفسه: تنفيذاً لما أراده عمر من رد المظالم مهما كان صغيراً أو كبيراً بدأ بنفسه، روى ابن سعد: أنه لما رد عمر بن عبد العزيز المظالم قال: إنه لينبغي أن لا أبدأ بأول من نفسي(1). وهذا الفعل جعله قدوة للآخرين، فنظر إلى ما في يديه من أرض، أو متاع، فخرج منه حتى نظر إلى فص خاتم. فقال: هذا مما كان الوليد بن عبد الملك أعطانيه مما جاءه من أرض المغرب فخرج منه(2). وكان ذلك لإصراره على قطع كل شك بيقين، وحتى يطمئن إلى أن ما في يده لا شبهة فيه لظلم أو مظلمة حتى ولو كان ورثه، خصوصاً وأن القصص والحكايات كانت كثيرة يتناقلها الناس عن مظالم ارتكبت على عهد خلفاء بني أمية، وعمالهم وقد بلغ به حرصه على التثبت أنه نزع حلي سيفه من الفضة، وحلاه بالحديد، قال عبد العزيز بن عمر: كان سيف أبي محلى بفضة فنزعها وحلاه حديداً(3)، وكان خروجه مما بيده من أرض أو متاع بعدة طرق كالبيع، ذلك أنه حين استخلف نظر إلى مكان له من عبد، وإلى لباسه وعطره وأشياء من الفضول، فباع كل ما كان به عنه غني، فبلغ ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعله في السبيل(4). أو عن طريق ردها إلى أصحابها الأصليين، وهذا ما فعله بالنسبة للقطائع التي أقطعه إياها قومه، يروي ابن الجوزي عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه قال: كنا عند عمر بن عبد العزيز حتى تفرق الناس ودخل إلى أهله للقائلة فإذا منادٍ ينادي: الصلاة جامعة. قال: ففزعنا فزعاً شديداً مخافة أن يكون قد جاء فتق من وجه من الوجوه أو حدث. قال جويرية: وإنما كان أنه دعا مزاحماً فقال يا مزاحم، إن هؤلاء القوم قد أعطونا عطايا والله ما كان لهم أن يعطوناها، وما كان لنا أن نقبلها، وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب. فقال له
__________
(1) الطبقات (5/341) .
(2) المصدر نفسه (5/341 ـ 342) .
(3) المصدر نفسه (5/355) عمر وسياسته في رد المظالم صـ205 .
(4) المصدر نفسه (5/345) عمر وسياسته في رد المظالم صـ205 .(3/312)
مزاحم: يا أمير المؤمنين، هل تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا، قال: فذرفت عيناه، فجعل يستدمع ويقول: أكِلهم إلى الله؟ قال: ثم انطلق مزاحم من وجهه ذلك حتى استأذن على عبد الملك، فأذن له ـ وقد اضطجع للقائه ـ فقال له عبد الملك: ما جاء بك يا مزاحم هذه الساعة؟ هل حدث حدث؟ قال: نعم أشد الحدث عليك وعلى بني أبيك. قال: وما ذاك؟ قال: دعاني أمير المؤمنين ـ فذكر له ما قاله عمر ـ فقال عبد الملك: فما قلت له؟ قال: قلت له يا أمير المؤمنين، تدري كم ولدك؟ هم كذا وكذا قال: فما قال لك؟ قال: جعل يستدمع ويقول أكِلهم إلى الله تعالى. قال عبد الملك بنس وزير الدين أنت يا مزاحم. ثم وثب فانطلق إلى باب أبيه عمر، فاستأذن عليه، فقال له الآذن: أما ترحمونه ليس له من الليل والنهار إلا هذه الوقعة؟ قال عبد الملك: استأذن لي، لا أم لك. فسمع عمر الكلام، فقال من هذا؟ قال: هذا عبد الملك. قال: ائذن له. فدخل عليه ـ وقد اضطجع عمر للقائلةـ فقال: ما حاجتك يا بني هذه الساعة؟ قال: حديث حدثنيه مزاحم. قال: فأين وقع رأيك من ذلك؟ قال: وقع رأيي على إنفاذه. قال: فرفع عمر يديه. ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني. نعم يا بني أصلي الظهر، ثم أصعد المنبر فأردها علانية على رؤوس الناس. فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين، ومن لك إن بقيت إلى الظهر أن تسلم لك نيتك إلى الظهر. قال عمر: قد تفرق الناس ورجعوا للقائلة، فقال عبد الملك: تأمر مناديك ينادي: الصلاة جامعة، فيجتمع الناس. فنادى المنادي: الصلاة جامعة. قال: فخرجت فأتيت المسجد فجاء عمر فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن هؤلاء القوم قد كانوا أعطونا عطايا، والله ما كان لهم أن يعطوناها وما كان لنا أن نقبلها. وإن ذلك قد صار إلي ليس علي فيه دون الله محاسب، ألا وإني قد رددتها، وبدأت بنفسي وأهل بيتي: إقرأ يا مزاحم، قال ـ وقد جيء بسفط قبل ذلك، أو قال جرنة ـ(3/313)
فيها تلك الكتب. قال: فقرأ مزاحم كتاباً منها، فلما فرغ من قراءته ناوله عمر ـ وهو قاعد على المنبر وفي يده جلم ـ قال: فجعل يقصه بالجلم. واستأنف مزاحم كتاباً آخر فجعل يقرؤه، فلما فرغ منه دفعه إلى عمر فقصه ثم استأنف كتاباً آخر فما زال حتى نودي بصلاة الظهر(1)ومن بين مارده عمر مما كان في يده من القطائع جبل الورس باليمن وقطائع باليمامة(2)، إلى جانب فدك وخيبر(3)، والسويداء، فخرج منها جميعاً إلا السويداء، فقد قال عمر فيها: ما من شيء إلا وقد رددته في مال المسلمين إلا العين التي بالسويداء فإني عمدت إلى أرض براح ليس فيها لأحد من المسلمين ضربة سوط، فعملتها من صلب عطائي الذي يجمع لي مع جماعة المسلمين وقد جاءت غلتها مائتا دينار(4). وأما قرية فدك ـ التي تقع شمال المدينة ـ فقد كانت تغل في السنة عشرة آلاف دينار تقريباً، فلما ولي عمر الخلافة سأل عنها وفحصها، فأخبر بما كان من أمرها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ...فكتب ـ بناء على ذلك ـ إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم كتاباً قال فيه: أما بعد فإني نظرت في أمر فدك وفحصت عنه، فإذا هو لا يصلح لي، ورأيت أن أردها على ما كنت عليه في عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، وأترك ما حدث بعدهم، فإذا جاءك كتابي هذا فاقبضها وولها رجلاً يقوم فيها بالحق والسلام(5). وأما الكتيبة فهي حصن من حصون خيبر، وعندما تولى عمر بن عبد العزيز كتب على عامله على المدينة أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم يقول: إفحص لي عن الكتيبة، أكانت من خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيبر أم كانت لرسول الله خاصة؟ قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ107 ـ 108 .
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ207 .
(3) المصدر نفسه صـ207 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ40 .
(5) الطبقات (5/389) عمر وسياسته في رد المظالم صـ208 .(3/314)
الرحمن فقالت: إن رسول الله لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق خمسة أجزاء فكانت للكتيبة جزءاً منها، وأعادها عمر بن عبد العزيز إلى ما كانت إليه في عهد رسول الله(1)، كما أرجع عمر للرجل المصري الذي أرضه بحلوان بعد أن عرف أن والده عبد العزيز قد ظلم المصري فيها، وحتى الدار التي كان والده عبد العزيز بن مروان قد اشترها من الربيع بن خارجه الذي كان يتيماً في حجره، ردها عليه، لعلمه أنه لا يجوز إشتراء الولي ممن يلي أمره، ثم التفت إلى المال الذي كان يأتيه من جبل الورس باليمن، فرده إلى بيت مال المسلمين رغم شدة حاجة أهله إلى هذا المال، لكنه كان يؤثر الحياة الآخرة على الحياة الدنيا، كما أمر عمر بن عبد العزيز مولاه مزاحماً برد المال الذي كان يأتيه من البحرين كل عام إلى مال الله(2). وهكذا بدأ عمر بنفسه يضرب المثل ويكون الأسوة أمام رعيته حين رد من أملاكه كل ما شابته شائبة الظلم، أو الشك في خلاص حقه فيه، فرد كل ذلك إلى أصحابه، إنطلاقاً من تمسكه بالزهد، وإيمانه برد المظالم إلى أصحابها تقوى الله، ووضعاً للحق في نصابه، بعد أن انتهى من رد كل مال شك بأنه ليس له فيه حق اتجه إلى زوجته فاطمة بنت عبد الملك ـ وكان لها جوهر ـ فقال لها عمر: من أين صار هذا المال إليك؟ قالت: أعطانيه أمير المؤمنين، قال: إما أن ترديه إلى بيت المال وإما أن تأذني لي في فراقك، فإني أكره أن أكون أنا وأنت وهو في بيت(3)، وقد أوضح عمر لها سبب كرهه له بقوله: قد علمت حال هذا الجوهر وما صنع فيه أبوك، ومن أصابه، فهل لك أن أجعله في تابوت ثم أطبع عليه وأجلعه في أقصى بيت مال المسلمين وأنفق ما دونه، وإن خلصت إليه أنفقته، وإن مت قبل ذلك فلعمري ليردنه إليك. قالت له: أفعل ما شئت وفعل ذلك: فمات ـ
__________
(1) عمر بن عبد العزيز سياسته في رد المظالم صـ209 .
(2) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ212 .
(3) المصدر نفسه صـ212 ، الطبقات (5/293) .(3/315)
رحمه الله ـ ولم يصل إليه، فرد ذلك عليها أخوها يزيد بن عبد الملك فامتنعت من أخذه، وقالت: ما كنت لأتركه ثم آخذه، وقسمه يزيد بين نسائه ونساء بنيه(1).
ـ ... رد مظالم بني أمية: وإذا كان عمر قد بدأ بنفسه في رد المظالم فقد ثنى في ذلك بأهل بيته وبني عمومته وبإخوته من أفراد البيت الأموي، وفور فراغه من دفن بن عمه سليمان بن عبد الملك، فقد رأى ما أذهله وهو أن أبناء عمه من الأمويين أدخلوا الكثير من مظاهر السلطان التي لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو خلفائه الراشدين، فأنفقوا الكثير من المال من أجل الظهور بمظاهر العظمة والأبهة أمام رعيتهم ومن تلك المظاهر المراكب الخلافية التي تتألف من براذين وخيول وبغال، ولكل دابة سائس، ومنها أيضاً تلك السرادقات والحجرات والفرش والوطاءات التي تعد من أجل الخليفة الجديد وفوجيء بتلك الثياب الجديدة وقارورات العطر والدهن التي أصبحت له بحجة أن الخليفة الراحل لم يصبها فهي من حقه بصفته الخليفة الجديد، وهذا كله إسراف وتبذير لا مبرر له يتحمله بيت مال المسلمين، وهو بأمس الحاجة لكل درهم فيه لينفق في وجهه الصحيح الذي بينه الله ورسوله، وهنا أمر مولاه مزاحماً فور تقديم هذه الزينة له ببيعها، وضم ثمنها إلى بيت مال المسلمين(2). ولقد كانت لعمر بن عبد العزيز سياسة محددة في رد المظالم من أفراد البيت الأموي تكون لديه خطوطها فور تسلمه زمام الخلافة، حين وفد عليه أفراد البيت الأموي عقب انصرافه من دفن سليمان يسألونه ما عودهم الخلفاء الأمويون من قبله، وحين أراد عبد الملك أن يرد أفراد البيت الأموي عن أبيه كشف له أبوه عن سياسته تلك حين قال له: وما تبلغهم؟ قال: أقول أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: ((قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))(الزمر
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ52 ، 53 .
(2) عمر بن العزيز وسياسته في رد المظالم صـ213 .(3/316)
، الآية : 13) . ثم أوضحها له مرة أخرى حين جاءه يطالبه بالإسراع باستخلاص ما بأيدي الأمويين من مظالم، فقال: يا بني، إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة، ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليّ فتقاً تكثر فيه الدماء والله لزوال الدنيا أهون علي من أن يهراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين(1)؟ ثم زاد في توضيح سياسته تلك حينما قال له ولده عبد الملك: ما يمنعك أن تمضي الذي تريد؟ فوالذي نفسي بيده ما أبالي لو غلت بك وبي القدور، قال وحق هذا منك، قال: نعم والله قال عمر: الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بداً من السيف ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف، يا بني، إني أروض الناس رياضة الصعبة، فإن بطأ بي عمر أرجو أن ينفذ الله مشيئتي وأن تعدو منيتي فقد علم الله الذي أريده(2). وهكذا يتبع عمر أسلوب الحكمة والحسنى في تنفيذ سياسته وتطبيقاً لهذه السياسة فإنه قد مهد لهذه الخطوة الحاسمة، والخطيرة بخطوات تسبقها خروجه هو أولاً مما بيده من مظالم وردها إلى أصحابها، أو بيت المال، ثم إتجه إلى أبناء البيت الأموي فجمعهم وطلب إليهم أن يخرجوا مما بأيدهم من أموال وإقطاعات أخذوها بغير حق(3). وشهدت الأيام الأولى من خلافة عمر تجريداً واسع النطاق لكثير من أموال وأملاك بني أمية، ظلت تنمو في الماضي وتتضخم لكونهم العائلة الحاكمة ليس إلا.. وها هي الآن ترد إلى بيت مال المسلمين لكي يأخذ العدل مجراه، وتعود أموال المسلمين إلى المسلمين، لا
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ260 ـ 263 .
(2) المصدر السابق صـ262 ـ 263 .
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ215 .(3/317)
يستأثر بها أحد دون أحد، ولا حزب دون حزب.. أموال وأملاك من شتى الصنوف والأنواع، جمعت بمختلف الطرق وسائر الأساليب جرد عمر بني أمية منها ومزق مستنداتها واحدة واحدة، وردها إلى مكانها الصحيح: مظالم وجوائز وهدايا ومخصصات استثنائية وضياع وقطاع، جمعت كلها على شكل ممتلكات ثابتة ونقود سائلة بلغت في تقدير عمر شطراً كبيراً من أموال الأمة جاوزت النصف(1)، ولا تمضي سوى أيام معدودات حتى يجد بنو أمية أنفسهم مجردين إلا من حقهم الطبيعي المشروع، فيضجون ضد سياسة عمر هذه ويعلنون معارضتهم الصارمة لها، فماذا يكون جواب عمر. أنظروا: والله لوددت أن ألا تبقى في الأرض مظلمة إلا ورددتها على شرط ألا أرد مظلمة إلا سقط لها عضو من أعضائي أجد ألمه ثم يعود كما كان حياً، فإذا لم يبق مظلمة إلا رددتها سألت نفسي عندها(2)، ولكن بني أمية لم ييأسوا من هذا الحزم والعزم إزاء حقوق الأمة، وهم الذين ما خطر ببالهم يوماً أن يجردوا هذا التجريد فاجتمعوا وطلبوا من أحد أولاد الوليد وكان كبيرهم ونصيحهم، أن يكتب إلى عمر، فكتب إليه: أما بعد فإنك أنسيت ممن كان قبلك من الخلفاء وسرت بغير سيرتهم وسميتها المظالم نقصاً لهم لأعمالهم، وشاتماً لمن كان بعدهم من أولادهم ولم يكن ذلك لك، فقطعت ما أمر الله أن يوصل، وعملت بغير الحق في قرابتك وعمدت إلى أموال قريش ومواريثهم وحقوقهم فأدخلتهم بيت مالك ظلماً وجوراً وعدواناً فاتق الله يا ابن عبد العزيز وارجعه، فإنك قد أوشكت لم تطمئن على منبرك إن خصصت ذوي قربتك بالقطيعة والظلم، فوالله الذي خص محمد صلى اله عليه وسلم بما خصه من الكرامة لقد ازدادت من الله بعداً في ولايتك هذه التي تزعم أنها بلاء عليك، وهي كذلك، فاقتصد في بعض ميلك وتحاشيك(3)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ115 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ147 ـ 151 .
(3) المصدر نفسه صـ126 ـ 127 ، عمر بن عبد العزيز صالح العلي صـ194 .(3/318)
، ويظهر في هذا الكتاب مآخذ الأمويين على سياسة عمر وهي:
ـ ... خالف سيرة من قبله من الخلفاء وأزرى بهم وعاب أعمالهم.
ـ ... أساء إلى أولاد من قبله من الخلفاء.
ـ ... لم يكن عمله منسجماً مع الحق.
ـ ... إن قطيعة أهل بيته يهدد مكانه من الخلافة.
... ولا ريب أن سياسة عمر بن عبد العزيز تهدد مكانة الأسرة الأموية وتضعف مراكز قوتها، وقد تؤدي إلى دفعها لإتخاذ مواقف مهددة للخليفة القائم، وفي هذا خطر كبير عليه وعلى الخلافة(1)، وكان رد عمر حمم من نار الحق تتفجر في كل كلمة فيها:.. ويلك وويل أبيك ما أكثر طلابكما وخصمائكما يوم القيامة... رويدك فإنه لو طالت بي حياة ورد الله الحق إلى أهله، تفرغت لك ولأهل بيتك، فأقمت على المحجة البيضاء، فطالما تركتم الحق وراءكم(2)..
ـ ... بنو أمية يلجأون إلى أسلوب الحوار الهادي :
__________
(1) عمر بن عبد العزيز ، صالح العلي صـ195 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ147 ـ 151 .(3/319)
... وما أن يأس بنو أمية من صمود عمر إزاء معارضتهم الجماعية الشديدة هذه، لجأوا إلى أسلوب الحوار الهادي، علهم يصلون عن طريقه إلى ما يشتهون فيتكلمون معه يوماً مستشيرين فيه نزعة القربى وعاطفة الرحم، فيجيبهم: أن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ أي المال العام ـ فحقكم فيه كحق أي رجل من المسلمين. والله أني لا أرى أن الأمور لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله(1)ودخل عليه هشام بن عبد الملك يوماً فقال: يا أمير المؤمنين إني رسول قومك إليك، وإن في أنفسهم ما جئت لأعلمك به أنهم يقولون: إستأنف العمل برأيك فيما تحت يدك وخل بين من سبقك وبين ما ولوا بما عليهم ولهم، وببديهة يجيب عمر: أرأيت أن أتيت بسجلين أحدهما من معاوية والآخر من عبد الملك فبأي السجلين آخذ؟ قال هشام: بالأقدم. فأجب عمر: فإني وجدت كتاب الله الأقدم، فأنا حامل عليه من أتاني ممن تحت يدي وفيما سبقني(2).
ـ ... بنو أمية يرسلون عمة عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ114 ـ 115 .
(2) المصدر نفسه صـ118 ـ 119 ، ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز د.عماد الدين خليل صـ117 ، 118 .(3/320)
... فعندما عجز الرجال من بني أمية عن جعل عمر يخاف أو يلين عن سياسته إزاءهم، لجأوا إلى عمته فاطمة بنت مروان، وكانت عمته هذه لا تحجب عن الخلفاء ولا يرد لها طلب أو حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل استخلافه، فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها كعادته وألقى لها وسادة لتجلس عليها. فقالت: إن قرابتك يشكونك ويذكرونك أنك أخذت منهم خير غيرك قال: ما منعتهم حقاً أو شيئاً كان لهم، ولا أخذت منهم حقاً أو شيئاً كان لهم فقالت: إني رأيتهم يتكلمون، وإني أخاف أن يهيجوا عليك يوماً عصيباً. فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره. قال: فدعا بدينار، وجنب، ومجمرة، فألقى ذلك الدينار بالنار، وجعل ينفح على الدينار إذا احمر تناوله بشيء، فألقاه على الجمر فنشى وقتر فقال: أي عمه أما ترثين لابن أخيك من هذا(1)؟ وتؤخذ العمة بهذا المشهد المؤثر، وتلتفت إلى عمر طالبة منه أن يستمر في الكلام واسمعوه يقول وكأنه يرسم لوحة فنية رائعة للعدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام لكي يجعلها تفجر الخير والنعيم على الجميع قال: إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة ولم يبعثه عذاباً إلى الناس كافة، ثم اختار له ما عنده وترك للناس نهراً شربهم فيه سواء ثم ولي أبو بكر وترك النهر على حاله، ثم ولي عمر فعمل عملهما، ثم يزل النهر يستقي منه يزيد ومروان وعبد الملك وابنه الوليد وسليمان أبناء عبد الملك حتى أفضى الأمر إلي وقد يبس النهر الأعظم فلم يرو أصحابه حتى يعود إلى ما كان عليه فقالت: حسبك، قد أردت كلامك فأما إذا كانت مقالتك هذه فلا أذكر شيئاً أبداً. فرجعت إليهم فأخبرتهم كلامه(2) وجاء في رواية: إنها قالت لهم:.. أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده: فسكتوا(3)
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ117 .
(2) الكامل في التاريخ (3/270) .
(3) المصدر نفسه (3/271) .(3/321)
ـ ... تلاشي المعارضة الجماعية لابني أمية:
... وسرعان ما تلاشت السمة الجماعية لمعارضة بني أمية بعد ما رأوا من جد عمر إزاء أموال الأمة وقالوا: ليس بعد هذا شيء(1). ومن ثم أخذ كل منهم يسعى على إنفراد ليسترد ما يستطيع استرداده من الأموال، ولكن عمر الذي وقف تجاه رغباتهم مجتمعين، أحرى به الآن أن يتصدى لكل واحد منهم على انفراد ويعلمه أنّ حق الأمة لا يمكن أن يكون موضع مساومة في يوم من الأيام(2).
__________
(1) عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ58 ، 59 ، ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ119 .
(2) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر صـ119 .(3/322)
أ ـ رد الحقوق لأصحابها: لم يقف عمر عند حد استرداد الأموال من بني أمية وردها إلى بيت المال، بل يخطو خطوة أخرى ويعلن لأبناء الأمة الإسلامية أن كل من له حق على أمير أو جماعة من بني أمية أو لحقته منهم مظلمة، فليتقدم بالبينة لكي يرد عليه حقه.. وتقدم عدد من الناس بظلامتهم وبيّناتهم وراح عمر يردها واحدة بعد الأخرى: أراضٍ ومزارع وأموال وممتلكات(1)، ومرة بعث إليه واليه على البصرة برجل اغتصب أرضه فرد عمر هذه الأرض إليه ثم قال له: كم أنفقت في مجيئك إلي؟ قال: يا أمير المؤمنين تسألني عن نفقتي وأنت قد رددت علي أرضي وهي خير من مائة ألف؟ فأجابه عمر: إنما رددت عليك حقك، ثم ما لبث أن أمر له بستين درهماً كتعويض له عن نفقات سفره(2)، وقد قال ابن موسى: ما زال عمر بن عبد العزيز يردّ المظالم منذ يوم استخلف إلى يوم مات(3)، وذات يوم قدم عليه نفر من المسلمين وخاصموا روح بن الوليد بن عبد الملك في حوانيت(4)، قد قامت لهم البينة عليه، فأمر عمر روحاً برد الحوانيت إليهم، ولم يلتفت لسجل الوليد، فقام روح فتوعدهم، فردع رجل منهم وأخبر عمر بذلك، فأمر عمر صاحب حرسه أن يتبع روحاً فإن لم يرد الحوانيت إلى اصحابها فليضرب عنقه، فخاف روح على نفسه وردّ إليهم حوانيتهم(5) ، وردّ عمر أرضاً كان قوم من الأعراب أحيوها، ثم انتزعها منهم الوليد بن عبد الملك فأعطاها بعض أهله، فقال عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:.. من أحيا أرضاً ميتة فهي له(6)، ولقد أحبّ آل البيت وأعاد إليهم حقوقهم وقال مرة لفاطمة بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحبّ إليَّ منكم ولأنتم أحب إليَّ
__________
(1) المصدر نفسه صـ120 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ146 ، 147 .
(3) الطبقات لابن سعد (5/341) .
(4) الحوانيت : جمع حانوت وهو محل التجارة .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ60 .
(6) صحيح الجامع للألباني رقم 2766 .(3/323)
من أهل بيتي(1)
ب ـ عزله جميع الولاة والحكام الظالمين:
... لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة عمد إلى جميع الولاة والحكام المسؤولين الظالمين فعزلهم عن مناصبهم، ومنهم خالد بن الريان وصاحب حرس سليمان بن عبد الملك الذي كان يضرب كل عنق أمره سليمان بضربها، وعين محله عمرو بن مهاجر الأنصاري فقال عمر بن عبد العزيز: يا خالد ضع هذا السيف عنك، اللهم، إني قد وضعت لك خالد بن الريان اللهم لا ترفعه أبداً، ثم قال لعمرو بن مهاجر: والله؟ إنك لتعلم يا عمرو، إنه ما بيني وبينك قرابة إلا قربة الإسلام ولكني سمعتك تكثر تلاوة القرآن، ورأيتك تصلي في موضع تظن ألا يراك أحد، فرأيتك حسن الصلاة خذ هذا السيف قد وليتك حرسي(2). وهكذا يعزل عمر الظالمين وهذا أسلوبه في اختيار الولاة والقضاة والكتاب وغيرهم، إنه يبحث عن أصلح الناس ديناً وأمانة، ولما انتقد أحد ولاته الذين اختارهم نكت بين عينيه بالخيزرانة في سجدته وقال: هذه غرتني منك. يريد سجدته أي أثر السجود في وجهه، فهذه علامة من علامات صلاح الرجل وهي دليل على كثرة السجود، ومن أجل ذلك اختاره عمر بن عبد العزيز، وعمر لا يكتفي بمظهر الرجل ولكنه يختبره أيضاً، قد رأى رجلاً كثير الصلاة، وأراد أن يمتحنه ليوليه، فأرسل إليه رجلاً من خاصته فقال: يا فلان إنك تعلم مقامي عند أمير المؤمنين فمالي لو جعلته يوليك على أحد البلدان؟ فقال الرجل: لك عطاء سنة، فرجع الرجل إلى عمر وأخبره بما كان من هذا الرجل، فتركه لأنه سقط في الاختبار(3)ن وكان من ضمن من عزلهم عمر بن عبد العزيز: أسامة بن زيد التنوخي وكان على خراج مصر، لأنه كان غاشماً ظلوماً يعتدي في العقوبات بغير ما أنزل الله عز وجل، يقطع الأيدي في خلاف ـ دون
__________
(1) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ131 السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ45 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ50 .
(3) قه عمر بن عبد العزيز د. محمد شقير (1/91) .(3/324)
تحقق شروط القطع ـ فأمر به عمر بن عبد العزيز أن يحبس في كل جُنُد(1) سنة ويقيد ويحل عنه القيد عند كل صلاة ثم يرد في القيد، فحبس بمصر سنة، ثم فلسطين سنة ثم مات عمر وولي يزيد بن عبد الملك الخلافة فردّ أسامة على مصر في عمله(2)، وكتب عمر بن عبد العزيز بعزل يزيد بن أبي مسلم عن إفريقية وكان عامل سوء يظهر التأله والنفاد لمل ما أمر به السلطان مما جل أو صغر من السيرة بالجور، والمخالفة للحق، وكان في هذا يكثر التسبيح والذكر ويأمر بالقوم فيكونون بين يديه يعذبون وهو يقول: سبحان الله والحمد لله شد يا غلام موضع كذا وكذا، لبعض مواضع العذاب وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر، شد يا غلام شد موضع كذا وكذا، فكانت حالته تلك شر الحالات، فكتب عمر بعزله(3)، وهكذا استمر عمر في عزل الولاة الظلمة وتعيين الصالحين وسيأتي الحديث عن فقه عمر في تعامله مع الولاة في محله بإذن الله تعالى.
ج ـ ... رفع المظالم عن الموالي:
__________
(1) الجند : المدينة وقيل مدن الشام .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32 ـ 33 .(3/325)
... تعرض الموالي قبل عمر بن عبد العزيز للمظالم فقد فرضت الجزية على من أسلم منهم، كما منعوا من الهجرة مثلما حدث للموالي في العراق ومصر وخراسان وفي عهد عبد الملك أوقع الحجّاج بالموالي ظلم عظيم، فقد عمل على إبقاء الجزية على من أسلم منهم، وحرمهم من الهجرة من قراهم وهذا ما دفعهم للاشتراك في ثورة ابن الأشعث ضد الحجّاج، كما وقع الظلم على الموالي في مصر وخراسان، فلما تولى عمر بن عبد العزيز أزال تلك المظالم التي لحقت بهؤلاء الموالي وكتب إلى عماله يقول".. فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي من أهل الجزيرة اليوم فخالط المسلمين في دارهم، وفارق داره التي كان بها فإن له للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه غير أرضه وداره إنما هي من فيء الله على المسلمين عامة، ولو كانوا أسلموا عليها قبل أن يفتح الله للسملمين كانت لهم، ولكنها فيء الله على المسلمين عامة(1)، وكتب إلى عامله على مصر حيان بن شريح ـ يقول: وأن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) (التوبة ، الآية : 5) وقال: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة ، الآية : 29). إلا إن هذا العامل أرسل إلى عمر يقول: أما بعد، فإن الإسلام قد أضر بالجزية حتى سلفت من الحارث بن نابتة عشرون ألف دينار أتممتها عطاء أهل الديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بقضائها فعل(2). وجاء رد عمر:أما بعد
__________
(1) المصدر نفسه صـ78 ـ 79 .
(2) الخطط للمقريزي (1/78) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ233 .(3/326)
، فقد بلغني كتابك وقد وليتك جند مصر وأنا عارف بضعفك، وقد أمرت رسولي يضربك على رأسك عشرين سوطاً، فضع الجزية عن من أسلم ـ قبح الله رأيك ـ فإن الله إنما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم هادياً ولم يبعثه جابياً، ولعمري ولعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على دينه(1) . وفي رواية ابن سعد: أما بعد، فإن الله بعث محمداً داعياً ولم يبعثه جابياً، فإذا أتاك كتابي هذا فإن كان أهل الذمة أسرعوا في الإسلام وكسروا الجزية فاطو كتابك وأقبل(2). ولم يكن عامل عمر على مصر هو الوحيد الذي طلب من عمر السماح له في أخذ الجزية ممن أسلم، فها هو عامله على الكوفة ـ عبد الحميد بن عبد الرحمن ـ يسأله أخذ الجزية المتراكمة على اليهود والنصارى والمجوس الذين أسلموا، فجاءه رد عمر الواضح أيضاً يقول: كتبت إلي تسألني عن أناس من أهل الحيرة يسلمون من اليهود والنصارى والمجوس وعليهم جزية عظيمة، وتستأذنني في أخذ الجزية منهم، وإن الله جل ثناؤه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام ولم يبعثه جابياً، فمن أسلم من أهل تلك الملل فعليه في ماله الصدقة ولا جزية عليه، وميراثه ذوي رحمه إذا كان منهم يتوارثون أهل الإسلام، وإن لم يكن له وارث فميراثه في بيت مال المسلمين الذي يقسم بين المسلمين، وما أحدث من حدث ففي مال الله الذي يقسم بين المسلمين يعقل عنه منه والسلام(3). كما كتب إليه عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة ـ يقول: أما بعد، فإن الناس كثروا في الإسلام وخفت أن يقل الخراج. فكتب إليه عمر: فهمت كتابك، والله لوددت أن الناس كلهم أسلموا حتى نكون أنا وأنت حراثين نأكل من كسب أيدينا(4). هذا إلى جانب إبطاله
__________
(1) الخطط للمقريزي (1/78) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ233 .
(2) الطبقات (5/384) .
(3) الخراج لأبي يوسف صـ142 عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ234 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ99 ـ 100 لابن الجوزي .(3/327)
لمظلمة المنع من الهجرة التي أوقعها الحجّاج بالموالي في العراق، وهكذا أبطل عمر تلك المظالم التي أصابت الموالي، فترتب على ذلك أن أعاد إليهم حقوقهم المسلوبة والهدوء والطمأنينة إلى نفوسهم، وباتوا ينعمون بالمساواة والعدل مع غيرهم من أبناء الأمة الإسلامية(1).
ح ـ رفع المظالم عن أهل الذمة:
... زاد عبد الملك في عهده الجزية على أهل قبرص وكان معاوية بن أبي سفيان غزا قبرص بنفسه وصالحهم صلحاً دائماً على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين، وإنذارهم عدوهم من الروم ولم يزل أهل قبرص على صلح معاوية حتى ولي عبد الملك بن مروان، فزاد عليهم ألف دينار، فجرى ذلك إلى عهد عمر بن عبد العزيز فحطها عنهم(2)، كما أصابت الزيادة فيما يجبى من جزية أهل الذمة في العراق وقد وضعها عنهم عمر بن عبد العزيز كسياسة عامة التزم بها في أن يرفع المظالم عن أهل الذمة حتى يدعهم ينعمون بحياتهم في ظل الشرائع الإسلامية السمحة ويؤيد ذلك ما جاء في كتابه إلى عامله على البصرة ـ عدي بن أرطأة: أما بعد، فإن الله سبحانه إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن رغب عن الإسلام واختار الكفر عتيا(3)، وخسراناً مبيناً، فضع الجزية على من أطاق حملها، وخل بينهم وبين عمارة الأرض، فإن في ذلك صلاحاً لمعاش المسلمين، وقوة على عدوهم، وانظر من قبلك من أهل الذمة ممن قد كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت عنه المكاسب، فأجر عليه من بيت مال المسلمين ما يصلحه. فلو أن رجلاً من المسلمين كان له مملوك كبرت سنه وضعفت قوته وولت عنه المكاسب كان من الحق عليه أن يقوته حتى يفرق بينهما موت أو عتق، وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر مر بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب الناس فقال: ما أنصفناك، إن كنا أخذنا منك الجزية في شبيبتك ثم
__________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ234 .
(2) فتوح البلدان صـ159 ، عمر وسياسته في رد المظالم صـ240 .
(3) عتيا : العاتي المجاوز للحد في الاستكبار .(3/328)
ضيعناك في كبرك. قال: ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه(1)، كما بلغت سياسة عمر بن عبد العزيز في وضع المظالم عن الناس ومساعدتهم أيضاً حين كتب إلى عامله على الكوفة يقول: انظر من كانت عليه جزية فضعف عن أرضه فأسلفه ما يقوي به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام ولا لعامين(2)، وقد أمر عمر ولاته بالأخذ بالرحمة والرأفة بالناس، فقد منع تعذيب أهل البصرة وغيرهم لاستخراج الخراج منهم، وعندما أرسل إليه عامله على البصرة عدي بن أرطأة يقول: إن أناساً قبلنا لا يؤدون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شيء من العذاب فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر كأني جنة لك من عذاب الله، وكأن رضاي ينجيك من سخط الله، وإذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك فاقبله عفواً وإلا فأحلفه، فوالله لأن يلقوا الله بخياناتهم أحب إلى من أن ألقاه بعذابهم. والسلام(3). ومما أصاب أهل الذمة من المظالم قبل عهد عمر بن عبد العزيز سبى بنات ونساء من لواتة بشمال أفريقية ولكن عمر رد هذه المظلمة يذكر أبو عبيد: أن عمر بن عبد العزيز كتب في اللواتيات: من أرسل منهن شيئاً فليس من ثمنها شيء وهو ثمن مرجها الذي استحلها به ـ أو كلمة تشبه الثمن ـ قال: ومن كانت عنده امرأة منهن فليخطبها إلى أبيها، وإلا فليردها إلى أهلها قال أبو عبيد: قوله اللواتيات هن من لواتة: فرقة من البربر، يقال لهم لواتة أراه قد كان لهن عهد، وهم الذين كان ابن شهاب يحدث: أن عثمان أخذ الجزية من البربر، ثم أحدثوا بعد ذلك فسبوا. فكتب عمر بن عبد العزيز بما كتب به(4)، كما أرجع عمر بن عبد العزيز إلى أهل الذمة كل أرض أو كنيسة أو بيت اغتصب منهم(5)، ومما رفعه عمر عن أهل
__________
(1) الأموال لأبي عبيد صـ57 .
(2) المصدر نفسه صـ320 عمر وسياسته في رد المظالم صـ241 .
(3) الخراج لأبي يوسف صـ129 .
(4) فتوح البلدان صـ226 ـ 227 .
(5) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ245 .(3/329)
الذمة من المظالم السخرة التي على أساس أنه يحل للمسلمين أن يسخروا أهل الذمة لمصالحهم الشخصية طالما أن هذا غير موجود في صلحهم(1). فكتب إلى عماله يقول:... ونرى أن توضع السخر عن أهل الأرض، فإن غايتها أمر يدخل فيه الظلم(2)، وهكذا رد عمر بن عبد العزيز ما اصاب أهل الذمة من مظالم، فترتب على ذلك أن أعاد السكينة، والطمأنينة والهدوء إليهم، وأوضح لهم، إن بإمكانهم أن يعيشوا في ظل الإسلام آمنين مطمئنين تشملهم سماحة الدين ويظلهم عدله، وتستقيم أمورهم وشؤونهم في كنفه، لا يضارون ولا يستضعفون ولا يستعبدون لهم حقوقهم المعلومة وعليهم واجباتهم المحددة ضمنها لهم الشارع الحكيم، وما تأسس من أحكام كتاب الله وسنة رسوله الكريم(3).
س ـ إقامة العدل لأهل سمرقند:
__________
(1) المصدر نفسه صـ245 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ83 .
(3) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ248 .(3/330)
... لما وصل خبر تولية عمر بن عبد العزيز الخلافة إلى سكان ما وراء النهر، اجتمع أهل سمرقند وقالوا لسليمان بن أبي السرّي: إن قتيبة غدر بنا، وظلمنا وأخذ بلادنا، وقد أظهر الله العدل والانصاف، فإذن لنا فليفذ منا وفد إلى أمير المؤمنين، يشكو ظلامتنا، فإن كان لنا حق أعطيناه، فإن بنا إلى ذلك حاجة. فإذن لهم سليمان، فوجهوا منهم قوماً فقدموا على عمر، فكتب لهم عمر إلى سليمان بن السري: إن أهل سمرقند، قد شكوا إليَّ ظلماً أصابهم،، وتحاملاً من قتيبة عليهم أخرجهم من أرضهم فإذا أتاك كتابي، فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فأخرجهم(1) إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن ظهر عليهم قتيبة. فأجلس سليمان جُمَيْعَ بن حاضر القاضي فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحاً جديداً أو ظفراً عنوة، فقال أهل الصُّغد(2): بل نرضى بما كان ولا نجدِّد حرباً، وتراضوا بذلك، فقال أهل الرأي: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم، وأمنونا وأمنّاهم، فإن حكم لنا عدْنا إلى الحرب ولا ندري لمن يكون الظفر، وإن لم يكن لنا اجتلبنا عداوة في المنازعة، فتركوا الأمر على ما كان ورضوا ولم ينازعوا(3). أية دولة في القرن العشرين تحني رأسها هكذا للعدل كي يأخذ مجراه وللحق كي يعود إلى أصحابه؟ وأي حاكم في تاريخ الشعوب التي لم تعرف الله، استجاب، هكذا، لنداءات المظلومين الذين سلبت حقوقهم، كهذه الاستجابة السريعة الحاسمة من عمر بن عبد العزيز؟ ألا أنه المسؤول الذي نذر نفسه للدفاع عن قيم الحق والعدل في أقطار الأرض، فبدونهما تفقد شريعة الله مقوماتها وأهدافها العليا(4). فهذا مثل رفيع من عدل عمر وإننا لنلاحظ في هذا الخبر عدة أمور:
__________
(1) يعني المسلمين الغزاة .
(2) الصُّغد : قوم يسكنون بعض بلاد ما وراء النهر .
(3) تاريخ الطبري (7/472) .
(4) ملامح الانقلاب الإسلامي في خلافة عمر بن عبد العزيز صـ68 .(3/331)
ـ ... أن الناس يقبلون على التظلم والشكوى والمطالبة بالحقوق حينما يكون الحكام عادلين، لأنهم يعلمون أن دعواهم ستؤخذ مأخذ الجد وسينظر فيها بعدل، فهؤلاء المتظلمون قد سكتوا على ما هم فيه من الشعور بالظلم طيلة ولاية الوليد وسليمان، فلما رأوا عدل عمر بن عبد العزيز رفعوا قضيتهم.
ـ ... أن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لم يهمل قضيتهم وإنما أحالها إلى القضاء الشرعي، وهذا مثل من الخضوع للإسلام والتجرد من هوى النفس، وكان باستطاعته أن يعمل كما يعمل كثير من المسئولين، من إرسال خطابات الوعيد والتهديد والبحث عن رؤوس القوم وإجراء العقوبات المناسبة عليهم ولكنه قد نذر نفسه لرفع المظالم وإقرار العدالة، وذلك لا يكون إلا بحكم الشرع والتحاكم إليه.
ـ ... أن أولئك القوم قد أسقط في أيديهم لما اطلعوا على كتاب أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ورأى أهل الرأي منهم أنهم خاسرون في كلا الحالين، سواء حكم لهم أو عليهم، وأن مصلحتهم في بقائهم على ما هم عليه، وبهذا زال تظلمهم وشعروا بعدالة الحكم الإسلامي(1).
ش ـ الاكتفاء باليسير من البينات في رد المظالم:
__________
(1) التاريخ الإسلامي (15 ، 16/62) .(3/332)
... نظراً لمعرفة عمر بن عبد العزيز بغشم الولاة قبله وظلمهم للناس حتى أصبحت المظالم كأنها شيء مألوف، فإنه لم يكلف المظلوم بتحقيق البينة القاطعة على مظلمته، وإنما يكتفي باليسير من البينة، فإذا عرف وجه مظلمة الرجل ردها إليه دون أن يكلفه تحقيق البيئة، فقد روى ابن عبد الحكم وقال: قال أبو الزناد: كان عمر بن عبد العزيز يرد المظالم إلى أهلها بغير البينة القاطعة، وكان يكتفي باليسير، إذ عرف وجه مظلمة الرجل ردها عليه، ولم يكلفه تحقيق البينة، لما يعرف من غشم الولاة قبله على الناس،ولقد أنقذ بيت مال العراق في رد المظالم حتى حُمل إليه من الشام(1). فما أحسن ما فعله عمر بن عبد العزيز وما أحسن التيسير على الناس قدر المستطاع لأن فيه اختصار للوقت وتوفيراً للجهود(2)، كما أن هذا العمل نستنبط منه قاعدة هامة في التفريق بين أصول التحقيق في القضاء العادي وبين أصول التحقيق في القضاء الإداري، وضعها عمر بن عبد العزيز، فالبينة القاطعة قد تستحيل إقامتها، وجمع عناصرها، فإذا كان الظلم واضحاً، اكتفى قاضي المظالم بالبينة اليسيرة(3).
__________
(1) سيرة عمرة بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ106 ـ 107 .
(2) فقه عمر بن عبد العزيز (2/558) .
(3) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي (2/565) .(3/333)
ر ـ وضع المكس(1): لما كان المكس من الظلم والبخس، لأنه جباية أو ضريبة تؤخذ من الناس بغير وجه شرعي، ولما كانت الزكاة على المسلم والجزية والعشور والخراج على الذمي كافيه عما سواها، فقد نهى عمر عن المكس وشدد في ذلك ومنعه كما يأتي: عن محمد بن قيس قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز وضع المكس عن كل أرض ووضع الجزيه عن كل مسلم(2)وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة أن ضع عن الناس... والمكس ولعمري ما هو بالمكس ولكنه البخس الذي قال الله فيه: ((ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين)). فمن أدى زكاة ماله فاقبل منه ومن لم يأت فالله حسيبه(3)، وكتب إلى عامله عبد الله بن عوف على فلسطين: أن: أركب إلى البيت يقال له: المكس، فاهدمه ثم أحمله إلى البحر فأنسفه في اليم نسفاً(4). نعلم مما سبق أن المكس دراهم تؤخذ من بائع السلع في الأسواق وأن ذلك يصدق على الجمارك التي تؤخذ على السلع عند استيرادها في هذا الزمان، وأن عمر بن عبد العزيز يرى أن ذلك من الظلم فمنعه(5). والحجة فيما فعله عمر بن عبد العزيز قول الله تعالى: ((وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)) (الشعراء ، الآية : 183) .
ز ـ ... رد المظالم وإخراج زكاتها:
__________
(1) المكس : دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية أو هي الجباية .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد(5/345) .
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد(5/383) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ113 .
(5) فقه عمر بن عبد العزيز د.محمد شقير (2/561) .(3/334)
... قرر عمر بن عبد العزيز رد المظالم التي في بيوت المال، وأخذ زكاتها لسنة واحدة(1)، عن مالك بن أنس عن أيوب السختياني أن عمر بن عبد العزيز رد مظالم في بيوت الأموال فرد ما كان في بيت المال وأمر أن يزكي لما غاب عن أهله من السنين، ثم كتب بكتاب آخر: إني نظرت فإذا هو ضمار(2) لا يزكي إلا لسنة واحدة(3)، وعن عمرو بن ميمون قال: أخذ الوالي في زمن عبد الملك مال رجل من أهل الرقة يقال له أبو عائشة عشرين ألفاً فأدخلت في بيت المال، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أتاه ولده فرفعوا مظلمتهم إليه، فكتب إلي ميمون: أدفعوا إليهم أموالهم، وخذوا زكاة عامه هذا، فلولا أنه كان مالاً ضماراً أخذنا منه زكاة ما مضى(4).
__________
(1) المصدر نفسه (2/566) .
(2) المال الضمار : أي الذي لا يرجى رجوعه .
(3) الطبقات الكبرى لابن سعد (5/342) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (3/202) .(3/335)
... هذا هو عمر بن عبد العزيز في دولته التي أقامها على العدل وكان رحمه الله يعلم ولاته أنه بالعدل تستقيم الحياة بكل شئونها فلما أرسل إليه بعض عماله يقول: أما بعد، فإن مدينتنا قد خربت، فإن يرى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمّها به فعل. فكتب إليه عمر: أما بعد، فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصِّنها بالعدل، ونَقِّ طرقها من الظلم، فإنَّه مرمَّتها والسلام(1)، وكتب إلى بعض عماله: إن قدرت أن تكون في العدل والإحسان والإصلاح كقدر من كان قبلكم في الجور والعدوان والظلم، فافعل ولا حول ولا قوة إلا بالله(2)، وكتب إلى أبي بكر بن حزم: أن استبرئ الدواوين، فانظر إلى كل جور جاره من قبلي من حق مسلم أو معاهد فردَّه إليه، فإن كان أهل تلك المظلمة قد ماتوا فادفعه إلى ورثتهم(3). وكان رحمه الله يواجه في تنفيذ ما يريده من العدل مصاعب ومشقات ومقاومة، وعقبات، فكان ينفق بعض المال في سبيل تهدئة بعض النفوس، لإنفاذ الحق ونشر العدل، ورفع الظلم، دخل عليه ابنه عبد الملك ذات يوم، فقال: يا أبتِ ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك؟ قال: يا بني، إنما أروِّض الناس رياضة الصَّعْب، إني لأريد أن أحيي الأمور من العدل، فأوفِّر ذلك حتى أُخرج معه طمعاً من طمع الدنيا، فينفروا لهذا ويسكنوا لهذه(4)، وقام برصد الجوائز لمن يدل لمن يدل على خير، أو ينبه على خطأ، أو يشير إلى وقوع مظلمة لم يستطع صاحبها إبلاغها فكتب كتاباً أمر أن يُقرأ على الحجيج في المواسم وفي كل المحافل والمجامع جاء فيه: أما بعد، فأيما رجل قدم علينا في رد مظلمة، أو أمر يصلح الله به خاصاً أو عاماً من أمر
__________
(1) اريخ الخلفاء للسيوطي صـ23 ، عمر بن عبد العزيز عبد الستار صـ226 .
(2) الطبقات (5/383 ـ 384) .
(3) المصدر نفسه (5/342 ـ 343) .
(4) عمر بن عبد العزيز ، عبد الستار الشيخ صـ226 .(3/336)
الدين، فله ما بين مائة دينار إلى ثلاثمائة دينار، بقدر ما يرى من الحسبة، وبعد الشقة. رحم الله أمراً لم يَتَكَاءده بعد سفر، لعل الله يحي به حقاً، أو يمت به باطلاً أو يفتح من ورائه خيراً(1). ولاستعذابه حلاوة العدل ورحمته وتنعم الناس بتفيّؤ ظِلاله كان يقول: والله لوددت لو عدلت يوماً واحداً وأن الله تعالى قبضني(2)، ومع أنه رأى ثمرات العدل التي قطف منها جميع الناس في خلافته إلا أن نفسه التوّاقة لكل شامخ ورفيع كانت تطمح للمزيد ولقد عبر عن ذلك بقوله: (لو أقمت فيكم خمسين عاماً ما استكملت العدل(3). وحتى الحيوانات نالهن عدله وانصافه ورفع الظلم عنه وإليك هذه المشاهد:
ـ ... النهي عن نخس الدابة بالحديدة وعن اللجم الثقال: فقد أكد عمر بن عبد العزيز على الرفق بالحيوان وعدم ظلمه أو تعذيبه قال أبو يوسف: حدثنا عبيد الله بن عمر: أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يجعل البريد في طرف السوط حديدة ينخس بها الدابة، ونهى عن اللجم الثقال(4)، وقد أصدر أوامره بمنع استخدام اللجم الثقيلة مع الخيول والبغال، كما منع استخدام المناخس ذات الرؤوس الحديدة(5).
ـ ... في تحديد حمولة البعير بستمائة رطل:
وحين بلغه أن قوماً يحملون على الجمال ما لا تطيق وذلك في مصر كتب إلى واليها يحدد أقصى حمولة للبعير بستمائة رطل وطلب منه إبلاغ قراره هذا الناس وأمره بتنفيذه(6).
__________
(1) المصدر نفسه صـ227 تَكَاَءَدَهُ: شقَّ عليه وصعب.
(2) تهذيب الأسماء واللغات (2/23) .
(3) تاريخ ابن عساكر نقلاً عن عمر بن عبد العزيز ، لعبد الستار صـ227 .
(4) مصنف ابن أبي شيبة (12/332) فقه عمر بن عبد العزيز (2/573) .
(5) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ71 .
(6) فقه عمر بن عبد العزيز (2/575) محمد شقير .(3/337)
ـ ... هذه بعض الملامح السريعة على إقامة العدل في دولة عمر بن عبد العزيز، إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع الذي تسود فيه قيم العدل ورفع الظلم، ومحاربته بكافة أشكاله وأنواعه وهذا ما قام به عمر بن عبد العزيز رحمه الله .
5 ـ المساواة: قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) (الحجرات ، الآية : 13). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى(1)،، وقد قام عمر بن عبد العزيز بتطبيق هذا المبدأ في دولته، وكان أول مؤشر على رغبته في تطبيق مبدأ المساواة، حين أقسم أنه يودُّ أن يساوي في المعيشة بين نفسه ولحمته التي هو منها وبين الناس(2)، فقال: أم والله لوددت أنه بُدئ بي، وبلحمتي، التي أنا منها، حتى يستوي عيشنا وعيشكم، أم والله، أم والله لو أردت غير هذا من الكلام، لكان اللسان به منبسطاً ولكنت بأسبابه عارفاً(3). وقال في خطبة له:.. وما منكم من أحد تبلغنا حاجته إلا أحببت أن أسد من حاجته، ما قدرت عليه(4). كما أن عمر اتخذ مبدأ المساواة بين الناس، في الحقوق والواجبات في كافة مجالات الحياة، فلم يميز بين الناس في حقهم في تولي الوظائف والولايات، ولم يعط أحداً كائناً من كان شيئاً ليس له فيه حق، فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني أمية وبين الناس، فمنع عنهم العطايا والأرزاق الخاصة، وقال لهم حين كلموه في ذلك: لن يتسع مالي لكم، وأما هذا المال ـ يقصد
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر بن عبد العزيز صـ297 .
(2) المصدر نفسه .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ112 .
(4) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري من إدارة عمر صـ297 .(3/338)
المال الذي في بيت مال المسلمين ـ فإنما حقكم فيه كحق رجل، بأقصى برك الغماد(1)، فكانت سياسته المالية تقوم على مبدأ المساواة، فبيت المال لجميع المسلمين ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه أسوة بغيره، فلا يكون حكراً على فئات معينة من الناس، ومن أعماله التي تدل على ترسيخه بمبدأ المساواة بين الناس ما أعلنه عندما رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الأرض وجعلوها حمى، يحرم من الاستفادة منها عامة الناس، فقال: إن الحمى يباح للمسلين عامة.. وإنما الإمام فيها كرجل من المسلمين، إنما الغيث ينزله الله لعباده، فهم فيه سواء(2). كما ساوى بين من أسلم من أهل الأديان الأخرى من النصارى واليهود وبين المسلمين، وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم، فقال:... فمن أسلم من نصراني أو يهودي أو مجوسي، من أهل الجزية اليوم، فخالط عمّ المسلمين في دارهم وفارق داره التي كان بها، فإن له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وعليهم أن يخالطوه وأن يواسوه(3)، ويروي ابن سعد: أن عمر بن عبد العزيز جعل العرب والموالي في الرزق والكسوة والمعونة والعطاء سواء، غير أنه جعل فريضة المولى المعتق خمسة وعشرين ديناراً(4)، وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء، وأحكام الإسلام، نكتفي بهذا الدليل الذي كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام القاضي، وتفصيل ذلك أنه: أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد العزيز، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عبد العزيز ـ يقصد والد عمر ـ أخذ أرضي ظلماً، قال: وأين أرضك يا عبد الله؟ قال: حلوان، قال عمر: أعرفها ولي شركاء ـ أي شركاء في حلوان ـ وهذا الحاكم بيننا، فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه، فقال عمر: قد أنفقنا عليها، قال القاضي: ذلك بما نلتم غلتها، فقد نلتم منها مثل نفقتكم، فقال
__________
(1) بلد باليمن وهو أقصى حجر باليمن ، وقيل موضع بمكة .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ81 لابن عبد الحكم .
(3) المصدر السابق صـ79 .
(4) الطبقات (5/375) .(3/339)
عمر: لو حكمت بغير هذا ما وليت لي أمراً أبداً، وأمر بردها(1). وكان عمر يقيم وزناً لمبدأ المساواة بين المسلمين، حتى في الأمور العامة، ومن ذلك أمره بأن لا يخص أناس بدعاء المسلمين والصلاة عليهم، فكتب إلى أمير الجزيرة يقول:.. وقد بلغني أن أناساً من القصاص قد أحدثوا صلاة على أمرائهم، عِدل ما يصول على النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا جاءك كتابي هذا، فمر القصاص، فليجعلوا صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين عامة، وليدعو ما سوى ذلك(2)، ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس حتى في الدعاء لهم، ولا يختص أحد بدعاء، فالمسلمون عامة في حاجة دعوة الله عز وجل لهم والله سبحانه وتعالى جدير بالإجابة(3)، وقد طبق مبدأ المساواة بينه وبين عامة الناس، فقد حصل أن شتمه رجل بالمدينة لسبب أو لآخر، فلم يكن ما أمر به سوى ما قد يأمر به كما لو كان المشتوم أحد أفراد الأمة، ذلك ما حدث حين حُكم رجل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بن محمد بن حزم والي عمر على المدينة في صلاته ـ فقطع عليهم الصلاة، وشهر السيف، فكتب أبو بكر إلى عمر، فأتي بكتاب عمر، فقرئ عليهم، فشتم عمر، والكتاب ومن جاء به، فهمَّ أبو بكر بضرب عنقه، ثم راجع عمر وأخبره أنه شتمه، وأنه همَّ بقتله: فكتب إليه عمر: لو قتلته لقتلك به، فإنه لا يقتل أحد، بشتم أحد ألا أن يُشتم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك كتابي فاحبس على المسلمين شره، وادعه إلى التوبة في كل هلال، فإذا تاب فخلِّ سبيله(4)، ولم يكتف عمر بالأخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب، بل كان يأمر عماله وولاته بذلك، فقد كتب إلى عامله على المدينة يقول
__________
(1) عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم صـ298 .
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ273 .
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ299 .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ142 .(3/340)
له: أخرج للناس فآسي بينهم في المجلس والمنظر، ولا يكن أحد الناس آثر عندك من أحد، ولا تقولن هؤلاء من أهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين، فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم سواء، بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون من نازعهم(1). كانت تلك بعض مواقف عمر، وإن كانت متفاوتة، إلا أن فيها دلالة واضحة على أخذ عمر بمبدأ المساواة في دولته(2)..
6 ـ الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز: إن مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في دولة عمر بن عبد العزيز، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحريات العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد اهتم عمر بكافة صور الحرية الإنسانية، فجاء مستعرضاً لأنواع وصور الحرية، فأقر ما كان فيها موافقاً، لتعاليم الإسلام، وأعاد ما لم يكن كذلك إلى دائرة التعاليم الإسلامية وإليك بعض التفاصيل عن الحريات في دولة عمر بن عبد العزيز.
__________
(1) الطبقات (5/343) ، النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ301 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ301 .(3/341)
أ ـ الحرية الفكرية والعقدية: حرص عمر بن عبد العزيز على تنفيذ قاعدة حرية الاعتقاد في المجتمع وكان سياسته حيال النصارى واليهود تلتزم بالوفاء بالعهود والمواثيق وإقامة العدل معهم ورفع الظلم وعدم التضييق عليهم في معتقدهم ودينهم انطلاقاً من قوله تعالى: ((لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)) (البقرة ، الآية : 256) وكان عمر ينهج أسلوب الدعوة مع ملوك الهند، والقبائل الخارجة عن الإسلام وسيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، ولم يكره عمر أحداً من النصارى أو غيرهم على الدخول في الإسلام، وأما حرية الفكر من حيث الرأي والتعبير، فقد أخذت نطاقاً واسعاً في إدارة الدولة، وقيادته لعماله ورعيته، فقد أتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه وأطلق للكلمة حريتها، وترك للناس حرية أن يقول كلُّ ما يريد وقد عبر عن هذا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق بقوله: اليوم ينطق كل من كان لا ينطق(1). إذا لم يخالف الشرع.
__________
(1) الطبقات لابن سعد (5/344) .(3/342)
ب ـ الحرية السياسية: كما أعلن عمر استئناف الحرّية السياسية التي منحها الإسلام للمسلمين إذ لإطاعة لا مخلوق في معصية الخالق، حتى وإن كان حاكما أو والياً، فقد أعلن عمر في أول يوم من أيام حكمه الحرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منكراً على الناس واقعهم المظلم، وأن الإسلام لا يرضى السكوت عن الظلم، فقد خطب الناس يوماً فقال:... ألا لأسلامة لامريء في خلاف السنة، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله، ألا وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه: العاصي، إلا وإن إولاهما بالمعصية الإمام الظالم(1)، ومما يدل على إعطاء عمر للناس الحرية السياسية، أن أول إجراء اتخذه عقب إعلان العهد له بالخلافة تنازله في الخلافة وطلب من الناس أن يختاروا خليفة، فإذا كانت الحرية السياسية تتجلى في ممارستها في موضعين: أولهما المشاركة في اختيار الحاكم، عن طريق أهل الحل والعقد، وبيعة المسلمين ورضاهم، وثانيهما: إبداء الرأي والنصح للحكام، ونقد أعمالهم بمقاييس الإسلام(2)، فإن عمر قد مارس الحرية السياسية في هذين الموضعين فجعل لهم الخيار في توليه الخلافة قبل الوعظ والنصح(3)، وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ240 لابن الجوزي .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ312 .
(3) المصدر نفسه صـ212 .(3/343)
ت ـ الحرية الشخصية: عمل عمر بن عبد العزيز على تحقيق وتدعيم الحرية الشخصية لأفراد الأمة الإسلامية، إذ بدا له بعض القيود على الهجرة أو ما يسمى بحرية التنقل، أو الغدو والرواح، فاتخذ إجراء فتح فيه باب الهجرة لمن يريد، إذ قال:.. وأما الهجرة فإنا نفتحها لمن هاجر من إعرابي فباع ماشيته، وانتقل من دار إعرابيته إلى دار الهجرة وإلى قتال عدونا، فمن فعل ذلك فله أسوة المهاجرين فيما أفاء الله عليهم(1)، كما قال في كتابه لعماله:.. وأن يفتح لأهل الإسلام باب الهجرة(2)، وإذا كان ذلك موقفه من حرية الناس في الهجرة والتنقل فقد تجلى حرصه على مبدأ حرية الإنسان في أمر قل من يراعيه، أو يهتم به، أمر يخص من هم في ملكه، ألا وهو تخييره لجواريه عقب تولي الخلافة بين العتق والإمساك على غير شيء، فقد علم أن لهنّ عليه حقوقاً لن يستطيع الإيفاء بها بعد توليه الخلافة، فترك لهنّ حرية الإقامة معه من غير شيء أو العتق، فتكون الواحدة منهنّ حرة حرية شخصية كاملة(3)، فقد روي ابن عبد الحكم (أن عمر خيّر جواريه، فقال: إنه قد نزل بي أمر شغلني عنكنّ فمن اختارت منكنّ العتق أعتقتها، ومن أمسكتها لم يكن لها مني شيء، فبكين بكاءً شديداً يأساً منه(4).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ79 .
(2) لمصدر نفسه صـ78 .
(3) النموذج الإداري المستخلص صـ310 .
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ121 .(3/344)
ج ـ حرية التجارة والكسب: أما في حرية التجارة والكسب وابتغاء فضل الله في البر والبحر، كجزء من الحرية الاقتصادية، فقد أكد في كتاب له إلى عماله على ضرورة منح الناس حرية استثمار أموالهم، والاتجار بها في البر والبحر على حد سواء، فقد كتب إلى عماله:.. وإن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يدعى الناس إلى الإسلام كافة،... وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر، ولا يمنعون ولا يحبسون(1). وكتب أيضاً:.. وأما البحر، فإنا نرى سبيله سبيل البر، قال الله تعالى: ((اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (الجاثية، الآية : 12)، فإذن أن يتجر فيه من شاء، وأرى أن لا نحول بين أحد من الناس وبينه، فإن البر والبحر لله جميعاً سخرهما لعباده يبتغون فيهما من فضله، فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم(2). ويقول عمر في موضع آخر:.. أطلق الجسور والمعابر للسابلة يسيرون عليها دون جعل(3)، لأن عمال السوء تعدوا غير ما أمروا به(4)، وأما عن الأسعار والتسعير زمن عمر، فقد قال أبي يوسف: حدثنا عبد الرحمن بن شوبان عن أبيه قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين، ما بال الأسعار غالية في زمانك وكانت في زمان من قبلك رخيصة؟ قال: إن الذين كانوا قبلي كانوا يكلفون أهل الذمة فوق طاقتهم، ولم يكونوا يجدون بداً من أن يبيعوا ويكسروا ما في أيديهم، وأنا لا أكلف أحداً إلا طاقته، فباع الرجل كيف شاء، قال: فقلت: لو أنك سعَّرت، قال: ليس إلينا من ذلك شيء إنما السعر إلى الله(5). وتشدد عمر في أمر السلع المحرمة، ومنع التعامل بها فالخمر من
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ94 .
(2) المصدر نفسه صـ98 .
(3) الجعل : من الجعالة وهو ما يجعل للشخص على عمله.
(4) الإدارة الإسلامية محمد كرد صـ105 .
(5) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ48 .(3/345)
الخبائث التي لا يجوز التعامل فيها بين المسلمين، لحرمتها ولضررها حيث يؤدي شربها إلى استحلال الدم الحرام وأكل المال الحرام(1)، ويقول عمر: فإنا من نجده يشرب منه شيئاً بعد تقدمنا إليه فيه نوجعه عقوبة في ماله ونفسه ونجعله نكالاً لغيره(2). ولقد أثمرت سياسة عمر في رد الحقوق وإطلاق الحرية الاقتصادية المنضبطة، حيث وفرت للناس الحوافز للعمل والإنتاج، وأزالت العوائق التي تحول دون ذلك، وهذا أدى إلى نمو التجارة ونمو التجارة أدى إلي زيادة حصيلة الدخل الخاضع للزكاة، وهذا يؤدي بدوره إلى زيادة الزكاة، مما يؤدي إلى رفع مستوى الطبقات الفقيرة، وارتفاع قوتها الشرائية والتي ستتوجه إلى الاستهلاك وبالتالي إلى زيادة الطلب على السلع والخدمات وهذا كله يؤدي إلى انتعاش الاقتصاد، وارتفاع مستوى المعيشة وزيادة الرفاه(3). لقد كانت الحرية في دولة عمر بن عبد العزيز مصونة ومكفولة ولها حدودها وقيودها، ولذلك ازدهر المجتمع وتقدم في مدار الرقي، فالحرية حق أساسي للفرد والمجتمع، ليتمتع بها في تحقيق ذاته وإبراز قدراته وسلب الحرية من المجتمع سلب لأهم مقوماته فهو أشبه بالأموات، إن الحرية في الإسلام إشعاع داخلي ملأ جنبات النفس الإنسانية بارتباطها بالله، فارتفع الإنسان بهذا الارتباط إلى درجة السمو والرفعة، فأصبحت النفس تواقة لفعل الصالحات، والمسارعة في الخيرات ابتغاء رب الأرض والسماوات، فالحرية في المجتمع الإسلامي دعامة من دعائمه تحققت في دولة عمر بن عبد العزيز في أبهى صورة انعكست أنوارها على صفحات الزمن(4).
المبحث الثاني : أهم صفاته ومعالم تجديده:
__________
(1) المصدر نفسه صـ48 .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ103 .
(3) السياسة الاقتصادية والمالية لعمر بن عبد العزيز صـ48 ، سياسة الإنفاق العام في الإسلام ، عوف محمد الكفراوي صـ372 .
(4) المجتمع الإسلامي ، محمد أبو عجوة صـ245 مع التصرف .(3/346)
أولا : أهم صفاته: إن شخصية عمر بن عبد العزيز تعتبر شخصية قيادية جذابة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرباني، ومن أهم هذه الصفات: إيمانه الراسخ بالله وعظمته، وإيمانه بالمصير والمآل، وخوفه من الله تعالى والعلم الغزير، والثقة بالله، والقدوة، والصدق، والكفاءة والشجاعة والمروءة والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإدارة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، وقدرته على التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات، وبسبب ما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع أن يقوم بمشروعه الإصلاحي ويجدد كثيراً من معالم الخلافة الراشدة التي اندثرت أمام زحف الملك العضوض، واستطاع أن يتغلب على العوائق في الطريق، وتوجت جهوده الفذة بنتائج كبيرة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة وأصبح منهج عمر بن عبد العزيز الإصلاحي التجديدي مناراً للعاملين على مجد الإسلام وقد ترسم نور الدين زنكي خطوات عمر بن عبد العزيز في عهده، فحقق نجاحاً كبيراً للأمة في صراعها مع الصليبيين، وكان الفضل لله ثم الشيخ أبي حفص عمر محمد الخضر المتوفي عام 570هـ والذي كان أحد شيوخ نور الدين زنكي حيث كتب لنور الدين كتابه الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز لكي يسير عليها نور الدين زنكي في خطواته وجهاده، وإن من أهم الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز هي:(3/347)
1 ـ شدة خوفه من الله تعالى: كانت ميزته الكبرى والسمة التي اتسم بها ودافعه إلى كل ذلك هو إيمانه القوي بالآخرة وخشية الله والشوق إلى الجنة، وليس لغير هذا الإيمان القوي، الذي إمتاز به عمر بن عبد العزيز أن يحفظ إنساناً في مثل شباب عمر بن عبد العزيز، وقوته وحريته وسلطانه ـ من إغراءات مادية قاهرة ـ ومن تسويلات الشيطان، والنفس المغرية، وتفرض عليه المحاسبة الدقيقة للنفس، والاستقامة على طريق الحق(1)، فقد كان مشتاقاً إلى الجنة مؤثراً الآخرة على الدنيا، مؤمناً بقوله تعالى: ((يا قوم ـ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَار)) (غافر ، الآية : 39) فأدرك عمر بفطرته السليمة وعقيدته الصحيحة، أن آخرة المسلم أولى باهتمامه من دنياه، يقول عمر في كتاب له إلى يزيد بن المهلب:.. لو كانت رغبتي في اتخاذ أزواج، واعتقال أموال، كان في الذي أعطاني من ذلك، ما قد بلغ بي أفضل ما بلغ بأحد من خلقه، ولكنِّي أخاف ـ فيما أبتليت به ـ حساباً شديداً، ومسألة عظيمة، إلا ما عافى الله ورحم(2) ، كما كان عمر شديد الخوف من الله تعالى، تقول زوجته فاطمة بنت عبد الملك: والله ما كان بأكثر الناس صلاة، ولا أكثرهم صياماً، ولكن والله ما رأيت أحداً أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف حتى نقول: ليصبحَنَّ الناس ولا خليفة لهم(3)، وقال مكحول: لو حلفت لصدقت، ما رأيت أزهد ولا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز(4)، ولشدة خوفه من الله، كان غزير الدمع وسريعه، فقد: دخل عليه رجل وبين يديه كانون فيه نار، فقل: عظني. قال: يا أمير المؤمنين ما ينفعك من دخل الجنة،
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص صـ140 نقلاً عن رجال الفكر للندوي .
(2) تاريخ الطبري نقلاً عن النموذج الإداري صـ140 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ42 .
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطي صـ221 .(3/348)
إذا دخلت أنت النار، وما يضرّك من دخل النار، إذا دخلت أنت الجنة، قال: فبكى عمر(1) حتى طفئ الكانون الذي بين يديه من دموعه، وقد كان جلّ خوفه ـ رحمه الله ـ من يوم القيامة، فيدعو الله، ويقول: اللهم إن كنت تعلم إني أخاف شيئاً دون القيامة، فلا تؤمن خوفي(2)، ذلك اليوم الذي أحدث تغيراً جذرياً في مجرى حياته ذلك اليوم الذي يقول عنه عمر: ((..لقد عنيتم بأمر، لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لتشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى أحداهما(3)، نعم إن الخوف من الله، والرؤية الواضحة للحياة، والفناء والخلود، والإحساس بيوم الحساب، والانفعال بمشاهد الجنة والنار، هي التي تضع المسؤولين، وتجعلهم يرتعدون خوفاً إن هم انحرفوا قيد شعرة عما يريد الله(4)، فالوعي والإحساس بيوم الحساب، وغيرها من الصفات الاعتقادية، تجعل القائد لا يخطو خطوة، ولا يقول قولاً، ولا يفعل فعلاً، إلا ربط ذلك بما يرضي الله عز وجل، وتلك الصفات والجوانب، لم تعط حقها من البحث والتحرى في الدراسات القيادية الحديثة وهي أساس النجاح في القيادة، وأهم الصفات القيادية التي ينبغي للقائد أن يتحلى بها، وإن من أهم صفات عمر بن عبد العزيز، الإيمان الراسخ بالله واليوم الآخر، وشدة خوفه من الله والوجل من يوم القيامة(5).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ90 .
(2) تاريخ الخلفاء صـ224 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ232 .
(4) ملامح الانقلاب صـ45 عماد الدين خليل .
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ142 .(3/349)
2 ـ زهده: فهم عمر بن عبد العزيز من خلال معايشته للقرآن الكريم ودراسته لهدي النبي الأمين صلى الله عليه وسلم ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار ابتلاء واختبار، وإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرّر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها وخضع وانقاد وأسلم لربه ظاهراً وباطناً، وكان وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
أ ـ اليقين التام بأننا: في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل(1).
ب ـ وأن هذه الدنيا: لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله ـ تبارك وتعالى ـ إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء(2).
ج ـ وأن عمرها قد قارب على الانتهاء:إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين بالسبابة والوسطى(3).
__________
(1) الترمذي ، ك الزهد رقم 2333 وهو حديث صحيح .
(2) الترمذي ، ك الزهد رقم 2320 .
(3) مسلم، ك الفتن وأشراط الساعة رقم 132 ـ135 .(3/350)
د ـ وأن الآخرة هي الباقية وهي دار القرار، فلهذه الأمور وغيرها زهد عمر بن عبد العزيز في الدنيا وأول الزهد الزهد في الحرام، ثم الزهد في المباح، وأعلى مراتب الزهد أن تزهد في الفضول وكل مالك عنه غنى(1)، وكان زهد عمر بن عبد العزيز مبني على الكتاب والسنة ولذلك ترك كل أمر لا ينفعه في آخرته فلم يفرح بموجود وهي الخلافة، ولم يحزن على مفقود من أمور الدنيا، وقد ترك ما هو قادر على تحصيله من متاع الدنيا إنشغالاً بما هو خير في الآخرة ورغبة في ما عند الله عز وجل(2)، قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك بن دينار زاهد، إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها(3)، قال ابن عبد الحكم: ولما ولي عمر بن عبد العزيز زهد في الدنيا، ورفض ما كان فيه وترك ألوان الطعام، فكان إذا صنع له طعام هيىء على شيء وغطي، حتى إذا دخل اجتذبه فأكل(4)، فكان لا يهمه من الأكل إلا ما يسد جوعه ويقيم صلبه وكانت نفقته وعياله في اليوم كما في الأثر، فعن سالم بن زياد: كان عمر ينفق على أهله في غدائه وعشائه كل يوم درهمين(5)، وكان لا يلبس من الثياب إلا الخشن، وترك مظاهر البذخ والإسراف التي سادت قبله وأمر ببيعها وأدخل أثمانها في بيت مال المسلمين(6)، وهكذا فعل بالجواري والعبيد حيث رد الجواري إلى أصحابهن إن كن من اللاتي أخذن بغير حق ووزع العبيد على العميان وذوي العاهات وحارب كل مظاهر الترف والبذخ، والإسراف(7)، وأما ما قيل عن زهده بالنسبة للنكاح، فقد روى ابن عبد الحكم فقال: وقالت فاطمة زوجته ما اغتسل من جنابة منذ ولي حتى لقي الله غير ثلاث مرات،
__________
(1) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ148 .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/146) .
(3) حلية الأولياء (5/257) .
(4) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ43 .
(5) المصدر نفسه صـ38 .
(6) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/155) .
(7) المصدر نفسه (1/155) .(3/351)
ويقال: ما اغتسل من جنابة حتى مات(1)، فهذا ينافي ما اشتهر به عمر بن عبد العزيز من حبه الشديد لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فيستبعد منه رحمه الله أن يترك السنة، وأن يقع في ظلم زوجاته وحقوقهن، فإن ترك الزواج وتحريم ذلك لا علاقة له بالزهد الإسلامي الذي بينه رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو دخيل على المجتمع المسلم، وهو ما تفتخر به بعض الفرق المنحرفة عن الإسلام وتدعي أنه من الزهد الإسلامي، ولهم في ذلك حكايات لا يشك من تأملها أنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولهم في ذلك وصايا عجيبة وتوجيهات غريبة، فمن أقوالهم:
ـ من ترك النساء والطعام فلابد له من ظهور كرامة .
ـ من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته، فاحذروا من التزويج.
ـ لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة وأولاده كأنهم أيتام، ويأوي إلى منازل الكلام.
ـ من تعود أفخاذ النساء لا يفلح.
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ50 .(3/352)
ـ ... من تزوج فقد ركن إلى الدنيا(1). إلى غير ذلك من العجائب والغرائب وهذا المفهوم يخالف الإسلام دين التوسط والاعتدال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن رغب عن سنتي فليس مني(2). وجملة القول أن زهد عمر بن عبد العزيز كان مقيداً بالكتاب والسنة وأن كثيراً مما نسب إليه في هذا الباب لا يصح لمخالفته هدى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن زهد عمر بن عبد العزيز في جمع المال، فقد كان على النقيض ممن يلي منصباً في وقتنا الحاضر فقد كانت غلته حين استخلف أربعين ألف دينار، ثم أصبحت حين توفي أربعمائة دينار، ولو بقي لنقصت(3)، حيث لم يرتزق رحمه الله من بيت المسلمين شيئاً(4)، فقد كان رحمه الله من زهاد زمانه إن لم يك أزهدهم، فكان يقول: إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، تسر قليلاً وتحزن طويلاً(5). وأخباره في الزهد كثيرة ذكر منها الشيخ أبو حفص عمر بن محمد الخضر المعروف بالملاء حوالي ثمانية وعشرين أثراً(6)، لقد وصل عمر بن عبد العزيز إلى مرحلة متقدمة في الزهد والتحلي بصفات الزاهدين، وذلك ما لا يستطيع الوصول إليه أصحاب العيش في الظروف المادية في وقتنا الحاضر، الذي طغت فيه المادة على كل شيء في الحياة، وأصبح الناس يقيسون بعضهم البعض بما يملك من الدنيا وحطامها، حسبنا من قادة وزعماء هذا العصر المادي إن لم يتصفوا بصفة الزهد، على أقل تقدير، أن يكفوا أنفسهم عن الطمع، والجشع، وأن يسعوا إلى الكسب الحلال وأن يعملوا على قهر رغباتهم الدنيوية، لينالوا ما تاقت إليه نفس عمر بن عبد العزيز إلى ما هو أسمى من الدنيا.. إلى جنات النعيم(7)
__________
(1) الطبقات للشعراني (1/34) .
(2) فتح الباري على صحيح البخاري (9/104) .
(3) حلية الأولياء (5/257) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ186
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ151 .
(6) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/366إلى378) .
(7) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ151 .(3/353)
، ونختم حديثنا عن الزهد عند عمر بن عبد العزيز بهذا الأثر فقد قال لمولاه مزاحم: إني قد اشتهيت الحج، فهل عندك شيء؟ قال: بضعة عشر ديناراً. قال: وما تقع مني؟ ثم مكث قليلاً، ثم قال له: يا أمير المؤمنين تجهّز، فقد جاءنا مال سبعة عشر ألف ديناراً من بعض مال بني مروان، قال: اجعلها في بيت المال، فإن تكن حلالاً فقد أخذنا منها ما يكفينا، وإن تكن حراماً فكفانا ما أصابنا منها قال مزاحم: فلما رأى عمر ثقل ذلك علي قال: ويحك يا مزاحم لا يكثرن عليك شيء ضعته لله، فإن لي نفساً توّاقة لم تَتُق إلى منزلة، فنالتها إلا تاقت إلى ما هي أرفع منها، حتى بلغت اليوم المنزلة التي ليس بعدها منزلة، وإنها اليوم قد تاقت إلى الجنة(1).
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ62 .(3/354)
3 ـ تواضعه: قال تعالى:(( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ...)) (الفرقان:آية : 63). قال ابن القيم: أي يمشون بسكينة ووقار متواضعين(1). وقال صلى الله عليه وسلم: إن الله أوحى إليّ: أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغى أحد على أحد(2). وهذه الصفة الحميدة كانت إحدى الصفات الأساسية التي تميز بها عمر بن عبد العزيز، فقد أدى زهد عمر إلى تواضعه، لأن شرط الزهد الحقيقي هو التواضع لله(3)، وقد كان تواضع عمر في جميع أمور حياته ومعاملاته، فذلك ما يتطلبه الأمر من قائد خاف الله، ورجاء ما عنده، وأراد الطاعة والولاء من رعيته(4)، ومما يذكر من تواضع عمر جوابه لرجل ناداه: يا خليفة الله في الأرض، فقال له عمر: مه: إني لما ولدت أختار لي أهلي أسماً فسموني عمر، فلو ناديتني: يا عمر، أجبتك، فلما اخترت لنفسي الكُنى فكنيت بأبي حفص، فلو ناديتني يا أبا حفص أجبتك، فلما وليتموني أموركم سميتموني: أمير المؤمنين، فلو ناديتني يا أمير المؤمنين أجبتك، وأما خليفة الله في الأرض، فلست كذلك ولكن خلفاء الله في الأرض داوود والنبي صلى الله عليه وسلم وشبهه(5)، مشيراً على قوله تعالى:(( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)) (ص :آية :36). ومن تواضعه أن نهى الناس عن القيام له، فقال: يا معشر الناس: إن تقوموا نقم، وإن تقعدوا نقعد، فإنما يقوم الناس لرب العالمين، وكان يقول للحرس: لا تبتدئوني بالسلام، إنما السلام علينا لكم(6)، وكان متواضعاً حتى في إصلاح سراجه بنفسه، فقد: كان عنده قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغشى سراجه، فقام إليه فأصلحه
__________
(1) مدارج السالكين (2/340) .
(2) مسلم رقم 2865 .
(3) عمر بن عبد العزيز للزحيلي صـ105 .
(4) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ152 .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ46 .
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ34 ـ35 .(3/355)
فقيل له: يا أمير المؤمنين ألا نكفيك؟ قال: وما ضرني؟ قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعت وأنا عمر بن عبد العزيز(1)، ومن تواضعه أيضاً قال يوماً لجارية له:يا جارية روّحيني قال: فأخذت المروحة فأقبلت تروحه، فغلبتها عينها فنامت، فانتبه عمر، فإذا هو بالجارية قد أحمّر وجهها، وقد عرقت عرقاً شديداً ـ وهي نائمة ـ فأخذ المروحة واقبل يروحها، قال: فانتبهت، فوضعت يدها على رأسها فصاحت، فقال لها عمر: إنما أنت بشر مثلي أصابك من الحر ما أصابني، فأحببت أن أروحك مثل الذي روحتني(2)، وكان يمتنع عن كثرة الكلام ـ وهو العالم الفصيح المفوّه ـ خشية على نفسه من المباهاة بما عنده، أو يظن الناس به ذلك، فكان يقول: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة(3)، ودخل عليه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين، إن من كان قبلك كانت الخلافة لهم زيناً، وأنت زين الخلافة، وإنما مثلك كما قال الشاعر:
... ... ... ... وإذا الدرّ زان حسن وجوه
... ... ... ... ... ... ... كان للدرّ حسن وجهك زيناً
__________
(1) المصدر نفسه صـ39 .
(2) أخبار أبي حفص للاجري صـ86 .
(3) المصدر السابق صـ84 .(3/356)
فأعرض عنه(1). وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فقال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيراً(2)، ودخل عليه رجل، وهو في ملء من الناس فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فقال عُمّ سلامك(3)، وهكذا أمير المؤمنين عمر، يخفض الجناح للمؤمنين، ولا يتكبر على أحد من عباد الله، ولم تزده الخلافة إلا تواضعاً ورأفة ورحمة، ولم يحمله المنصب إلا على الإخبات والخضوع لسلطان الحق، يصلح سراجه بنفسه، ويجلس بين يدي الناس على الأرض، ويأبى أن يسير الحراس والشُّرط بين يديه، ويعنّف من يعظمه أو يخصه بسلام من بين الجالسين، ويتأبى أن يتميز على الناس بمركب، أو مأكل، أو ملبس، أو مشرب(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/36) الحلية (5/329) .
(2) سير أعلام النبلاء (5/147) الحلية (5/331) .
(3) الطبقات (5/384) .
(4) عمر بن عبد العزيز، لعبد الستار الشيخ صـ123 .(3/357)
4 ـ ورعه: من صفات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز الورع، والورع هو الإمساك عما قد يضر، فتدخل المحرمات والشبهات لأنها قد تضر، فإنه من اتقى الشبهات إستبرأ لعرضه ودينه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يواقعه(1) ، والورع في الأصل الكف عن المحارم والتحرج منها، ثم استعير للكف عن الحلال المباح(2). وللدلالة على ما كان يتصف به عمر من الورع، وتحري السلامة من الشبهات، فقد روي أنه كان: يعجبه أن يتأدم بالعسل، فطلب من أهله يوماً عسلاً فلم يكن عنده، فأتوه بعد ذلك بالعسل، فأكل منه، فأعجبه، فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالت امرأته بعثت مولاي بدينارين على بغل البريد، فاشتراه لي، فقال: أقسمت عليك لما أتيتني به، فأتته بُعكَّة(3)، فيها عسل، فباعها بثمن يزيد على الدينارين، ورد عليها مالها وألقى بقيته في بيت مال المسلمين وقال: انصبت دواب المسلمين في شهوة عمر(4). ومن ورعه أنه: كان له غلام يأتيه بقمقم(5)، من ماء مسخن، يتوضأ منه، فقال للغلام يوماً: أتذهب بهذا القمقم إلى مطبخ المسلمين، فتجعله عنده، حتى يسخن، ثم تأتي به؟ قال: نعم أصلحك الله، قال: أفسدته علينا، قال: أفسدته علينا، قال: فأمر مزاحماً أن يغلي ذلك القمقم، ثم ينظر ما يدخل فيه من الحطب ثم يحسب تلك الأيام، التي كان يغليه فيها، فيجعله حطباً في المطبخ(6). ومن أمثلة ورعه كان لا يقبل أي هدية من عماله أو من أهل الذمة خوفاً من أن يكون ذلك من باب الرشوة، فعن عمرو بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحاً فقال: لو كانت لنا أو عندنا ـ شيء من التفاح، فإنه طيب الريح طيب الطعم فقام رجل من أهل بيته
__________
(1) الفتاوى (10/615) .
(2) لسان العرب (8/288) .
(3) العكة : وعاء من جلد ما عز يدبغ ويخصص للسمن والعسل .
(4) أخبار أبي حفص للآجري صـ54 .
(5) القمقم : هو ما يسخن فيه الماء من نحاس وغيره .
(6) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ40 .(3/358)
فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به الرسول، قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه، ارفعه يا غلام، فأقرئ فلاناً السلام وقل له:إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب، فقلت يا أمير المؤمنين ابن عمك ورجل من أهل بيتك وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة قال: ويحك؟ إن الهدية كانت للنبي هدية وهي لنا اليوم رشوة(1)، ومن ورعه أنه كان لا يرى لنفسه أن تشم رائحة مسك أتته من أموال المسلمين، فعندما وضعت بين يديه مسكة عظيمة فأخذ بأنفه، فقيل يا أمير المؤمنين إنما هو ريح قال: وهل ينتفع منها إلا بريحها(2)،وكان يحترز من استعمال أموال المسلمين العامة، فكان يسرج السراج من بيت إذا كان في حاجة المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه الخاص به من ماله الخاص(3)، وقد ذكر المؤرخون كثيراً من الأمثلة التي تدل على ورعه، فقد اعتبر أن البعد عن أموال السملين حتى في الأشياء اليسيرة القليلة هو من باب الابتعاد عن الشبهة، فكان بعيد عن الشبهات(4)احتياطاً لدينه، وذلك أن الأمور ثلاثة كما قال هو بنفسه:
1 ـ أمر استبان رشده فاتبعه . ... ... 2 ـ وأمر تبين خطؤه فاجتنبه .
3 ـ وأمر أشكل عليك فتوقف عنه(5) .
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ197 .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ200 ، كتاب الورع لابن أبي الدنيا صـ74 وقال محقق الكتاب إسناد الأثر .
(3) الآثار الواردة في عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/164) .
(4) المصدر نفسه (1/165) .
(5) العقد الفريد (4/397) الآثار الواردة (1/165) .(3/359)
... وكان رحمه الله ورعاً حتى في الكلام فعندما قيل له: ما تقول في أهل صفين؟ قال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أُخضب لساني بها(1)، وهكذا يتضح أن ورع عمر كان في شأنه كله، في مأكله وحاجته وشهوته، ومال المسلمين وفي كافة أمور حياته، ذلك الورع النابع مع الإيمان القوي، والشعور بالمسئولية واستحضاره الآخرة، فقد كانت صفة الورع من صفاته الجلية، فقد بلغ به مبلغاً جعله يشتري مكان قبره الذي سيواري فيه، فلا يكون له من الدنيا شيء دون مقابل حتى موضع قبره(2).
5 ـ حلمه وصفحه وعفوه:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ195 .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ156 .(3/360)
... ومن الصفات التي تجسدت في شخصية عمر بن عبد العزيز الحلم والصفح والعفو، فعن شيخ من الخناصريين قال: كان لعمر بن عبد العزيز ابن له من فاطمة، فخرج يلعب مع الغلمان فشجه غلام فاحتملوا ابن عمر والذي شجه فأدخلوهما على فاطمة، فسمع عمر الجلبة وهو في بيت آخر فخرج، وجاءت امرأة فقالت: هذا ابني وهو يتم قال: أله عطاء؟ قالت: لا. قال: فاكتبوا في الذرية فقالت فاطمة: فعل الله به وصن إن لم يشجه مرة أخرى فقال عمر: إنكم أفزعتموه(1). وعن إبراهيم بن أبي عبلة قال: غضب عمر بن عبد العزيز يوماً غضباً شديداً على رجل، فأمر به فأحضر وجرِّد وشُدَّ في الحبال وجيء بالسياط فقال: خلُّوا سبيله ثم قال: أما أني لولا أن أكون غضباناً لسُؤْتُك. وتلا: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ)) (آل عمران ، الآية : 134)، وعن عبد الملك قال: قام عمر بن عبد العزيز إلى قائلته، وعرض له رجل بيده طومار(2)، فظن القوم أنه يريد أمير المؤمنين، فخاف أن يُحبس دونه فرماه بالطومار، فالتفت عمر فوقع في وجهه فشجه. قال: فنظرت إلى الدماء تسيل على وجهه وهو قائم في الشمس، فلم يبرح حتى قرأ الطومار وأمر له بحاجته وخلَّى سبيله(3)وروى أن رجلاً نال من عمر فلم يجبه. فقيل له: ما يمنعك منه؟ قال: التقيُّ مُلجم(4)، وعن حاتم بن قدامه أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو يخطب فقال له: أشهد ـ\أنك من الفاسقين. فقال له عمر: وما يدريك؟ وأنت شاهد زور فلا نجيز شهادتك(5)، وروي أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة خرج ليلة في السحر إلى المسجد ومعه حرسي فمرا برجل نائم على الطريق فعثر به عمر. فقال له:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ207 الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/423) .
(2) الطومار : صحيفة مطوية .
(3) حلية الأولياء (5/311) .
(4) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ208 .
(5) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/424) .(3/361)
أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا فهمَّ الحرسي به. فقال له عمر: مه، فإنه سألني أمجنون أنت؟ فقلت: لا(1). وروي أن رجلاً قام إلى عمر بن عبد العزيز وهو على المنبر فنال منه وأغضبه، فقال له عمر يا هذا أردت أن يستفزني الشيطان مع عزة السلطان أن أفعل بك اليوم ما تفعل بي غداً مثله. اذهب غفر الله لي ولك(2). وقيل: أتى ولد لعمر بن عبد العزيز وهو يبكي، فقال له: ما شأنك؟ فقال: ضربني فلان العبد. فجيء به. فقال له: ضربته؟ قال: نعم. فقال له: اذهب فلو أني معاقب أحداً على الصدق لعاقبتك اذهب ولم يكلمه(3). والمواقف في حلمه وصفحه وعفوه كثيرة وهذا غيض من فيض.
__________
(1) المصدر نفسه 2/425) .
(2) المصدر نفسه 2/425) .
(3) المصدر نفسه 2/425) .(3/362)
6 ـ صبره: ومن صفاته رحمه الله الصبر والشكر، روى أنه لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز حضر عند قبره فقال: لا تعمقه فإن ما علا من الأرض أفضل مما سفل منها(1)، وروي أن حين مات عبد الملك ولده، وسهل بن عبد العزيز أخوه ومزاحم مولاه، قال رجل من أهل الشام: والله لقد ابتلى أمير المؤمنين ببلاء عظيم: مات ولده عبد الملك لا والله إن رأيت ولداً كان أنفع لوالده منه، ثم أصيب أمير المؤمنين بأخ لا والله ما رأيت أخاً أنفع لأخ منه. قال: وسكت عن مزاحم. فقال عمر بن عبد العزيز: لم سكت عن مزاحم، فوالله ما هو أدنى الثلاثة عندي، رحمك الله يا مزاحم مرتين أو ثلاثاً والله لقد كنت كفيت كثير الدنيا، ونعم الوزير كنت في أمر الآخرة(2)، وعن حفص بن عمر قال: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل أبوه يثني عليه عند قبره فقال مسلمة: أرأيت لو بقي أكنت تولِّيه؟ قال: لا. قال: فأنت تثني عليه بهذا الثناء قال: إني أخاف أن يكون زيِّن لي من المحبة له ما يزين في عين الوالد من حبِّ ولده(3). وخطب عمر في خطبته فقال: ما من أحد يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.إلا كان الذي أعطاه الله من الأجر فيها أفضل مما أخذ منه، وقال: الرضى قليل والصبر معتمد المؤمن. وقال: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح، ومن لم يَعدَّ كلامه من عمله كثرت خطاياه، والرضا قليل ومعول المؤمن على الصبر(4). وكان من أجل ما صبر عليه عمر في حياته: أمر الخلافة، فقد قال: والله ما قعدت مقعدي هذا إلا خوفاً أن يثبت عليه من ليس بأهل، ولو أني أطاع فيما أعمل لسلمتها إلى مستحقيها ـ يعني الخلافة ـ ولكنني أصبر حتى يأتي الله بأمر من عنده، أو يأتي بالفتح(5).
__________
(1) المصدر نفسه 2/427) .
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (2/427) .
(3) المصدر نفسه 2/428 ) .
(4) المصدر نفسه 2/428 ) .
(5) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ144 .(3/363)
7 ـ الحزم: لقد اتسم عمر بن عبد العزيز بهذه الصفة، في وقت أكثر ما يكون فيه أمر الأمة والخلافة في حاجة إلى الحزم، وبخاصة فيما يتعلق بالولاة والأمراء والعمال وللدلالة على تحلّي عمر بصفة الحزم وضبط الأمور، وعدم التهاون فيما يراه ضرورياً لخدمة الصالح العام، وما يصلح به أمر المسلمين، ولقد أخذ حزم عمر صوراً مختلفة ومجالات عدة، كحزمه مع أمراء وأشراف بني أمية ومع الذين يريدون شق عصا المسلمين والخروج على جادتهم وإثارة الفتن وسفك الدماء وغير ذلك من الأمور، فقد كان أول مؤشر على حزمه موقفه من بني مروان، إذ قال لهم: أدوا ما في أيديكم ولا تُلجئوني إلى ما أكره، فأحملكم على ما تكرهون، فلم يجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني فقال رجل منهم: والله لا نخرج عن أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنُفقِّر أبناءنا ونكفر آباءنا، حتى تتزايل رؤوسنا فقال عمر: أما والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلب هذا الحق له، لأضرعت خدودكم عاجلاً، وكني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأُردَّنَّ إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله(1) ، وكان إذا وقع في أمر مضى فيه، وجاءه يوماً كتاب من بعض بني مروان فأغضبه فاشتاط(2) ثم قال: إن لله من بني مروان يوماً ـ وقيل ـ وذبحاً ـ وأيم الله، لئن كان ذلك الذبح على يدي، فلما بلغهم ذلك، كفوا وكانوا يعلمون صرامته، وأنه إذا وقع في أمر مضي فيه(3)، وأما فيما يتعلق بمن يريد شق عصا المسلمين والخروج عليهم، فقد اتبعه معهم أسلوب الحوار والمناظرة ـ وهم الخوارج الذين ثاروا ضد بني أمية بقيادة شوذب الخارجي 100هـ ليقف على ما دفعهم إلى ذلك ويرى إن كان الحق معهم نظر في أمره، وإلا فليدخلوا فيما دخل فيه الناس، إلا أنه في الوقت نفسه قرن إجراءاته تلك بشيء من الحزم والصلابة، عندما يصل الأمر
__________
(1) العقد الفريد (5/173) .
(2) استشاط ارجل : أي إحندَّ واحتدم كأنه التهب في غضبه .
(3) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ158 .(3/364)
إلى مرحلة سفك دماء المسلمين أو الإفساد، إذ كتب إلى عامله على العراق يقول: ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دماً، أو يفسدوا في الأرض، فإن فعلوا فخل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً طيباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جنداً، وأوصه بما أمرتك به(1)، وهكذا كان عمر في حزمه، فقد أخذ الإجراءات والمواقف الحازمة والتي كانت على درجة كبيرة من الأهمية والحساسية وكان لذلك الحزم مردوداً إيجابياً كبيراً على سير الأمور وتنفيذ ما كان يسعى لتحقيقه من العدل والطمأنينة ومعالم الخلافة الراشدة(2).
__________
(1) تاريخ الطبري (7/459) .
(2) النموذج الإداري المستخلص من إدارة عمر صـ163 .(3/365)
8 ـ العدل:إن صفة العدل من أبرز صفات عمر بن عبد العزيز القيادية على الإطلاق ـ وقد تحدث عن العدل في دولته وسياسته في رد المظالم فيما مضى، ولقد أجمع العلماء قاطبة على أنه ـ أي عمر بن عبد العزيز ـ من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين(1)، ولعل عدل عمر من أهم أسبابه يرجع إلى إيمانه بأن العدل أحد نواميس الله في كونه ويقينه التام بأن العدل ثمرة من ثمرات الإيمان، وأنه من صفات المؤمنين المحبين لقواعد الحق وإلى إحساس عمر بوطأة الظلم للناس في خلافة من سبقه من الخلفاء والأمراء الأمويين بالإضافة إلى السبب الأهم وهو: ما أمر الله به من العدل والإحسان، وأنهما الأسس العامة لأحكام الشرائع السماوية، وما نماه الإسلام في نفس عمر، من حب للعدل وإحياء لقيمه(2)، وإليك هذه الصور من عدله والتي لم أذكرها فيما مضى، فتورد ما رواه الآجري من أن رجلاً ذمّياً من أهل حمص قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله عز وجل، قال: وما ذاك، قال العباس بن الوليد بن عبد الملك: اغتصبني أرضي ـ والعباس جالس ـ فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، فأردد عليه يا عباس ضيعته فردّها عليه(3). ومن مواقفه العادلة ما حدّث به الحكم بن عمر الرعيني، قال: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير إسحاق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة(4)، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على الوسائد، وخصماؤك بين يدي، ولكن وكّل بخصومتك من شئت، وإلا فجاثي القوم بين يدي، فوكل مولى له
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن النموذج الإداري صـ163 .
(2) النموذج الإداري صـ163، 164 .
(3) أخبار أبي حفص صـ58 .
(4) الناعورة: موضع بين حلب وبالس يبعد عن حلب ثمانية أميال .(3/366)
بخصومته ـ يعني مسلمة ـ فقضى عليه بالناعورة(1)، وهذا قليل من كثير، مما أوردته كتب السير عن عدل عمر.
9 ـ تضرعه ودعاؤه واستجابة الله لدعائه:
كان عمر بن عبد العزيز كثير التضرع والدعاء، فقد كان يقول: يا رب خلقتني ونهيتني ووعدتني بثواب ما أمرتني، ورهبتني عقاب ما نهيتني عنه وسلطت علي عدواً أسكنته صدري وأجريته مجرى دمي، إن أهمّ بفاحشة شجعني وإن أهم بصالحة ثبطني، لا يغفل إن غفلت، ولا ينسى إن نسيت، ينصب لي في الشهوات، ويتعرض لي في الشبهات، وإلا تصرف عني كيده يستذلني، اللهم فأقهر سلطانه علي بسلطانك عليه حتى أحبسه بكثرة ذكري لك فأكون مع المعصومين بك، ولا حول ولا قوة إلا بالله(2)، وكان يقول: اللهم أصلح صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم أهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم(3)، وكان يدعو بهذا: اللهم ألبسني العافية حتى تهنّيني المعيشة، واختم لي بالمغفرة حتى لا تضرني الذنوب، واكفني كل هول دون الجنة حتى تبلغنيها برحمتك يا أرحم الراحمين(4)، وكان يقول: اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك بأبغض الأشياء إليك وهو الشرك، فأغفر لي ما بينهما(5).وكان يقول: اللهم أني أعوذ بك أن أُبدّل نعمتك كفراً، أو أن أكفرها بعد موتها، أو أن أنساها فلا أثني بها(6). وكان كثيراً ما يدعو بها: اللهم رضني بقضاك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أحب تعجيل شيء أخرته، ولا تأخير شيء عجلته(7). وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، فروى ابن الحكم أن ابن الريان كان سيافاً للوليد بن عبد الملك، فلما ولي عمر الخلافة قال: إني أذكر ابأوه
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز صـ91 لابن الجوزي .
(2) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/341) .
(3) المصدر نفسه (1/342) .
(4) المصدر نفسه (1/343) .
(5) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ230 .
(6) الكتاب الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز (1/343) .
(7) المصدر نفسه (1/344) .(3/367)
وتيهه، ثم قال: اللهم إني قد وضعته لك فلا ترفعه، فما رئي شريف قد خمد ذكره مثله حتى لا يذكر(1)، وقد دعا عمر رحمه الله حين حج وأخبر قبل دخوله إلى مكة بقلة الماء فيها، فدعا عند ذلك، فأجاب الله دعاءه، فسقوا وهذا حين كان أمير على المدينة(2)، كما دعا على غيلان القدري حين ناظره فقال: اللهم إن كان عبدك غيلان صادقاً وإلا فأصلبه، فصلب بعد في خلافة هشام بن عبد الملك(3).
ثانياً: معالم التجديد عند عمر بن عبد العزيز:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ30 .
(2) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/183) .
(3) الشريعة للآجري (1/438) .(3/368)
يرى المتتبع لأقوال العلماء والمؤرخين والمهتمين بدراسة الحركة التجديدية، إجماعاً تاماً على عدّ الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز المجدد الأول في الإسلام(1)، وكان أول من أطلق عليه ذلك الإمام محمد بن شهاب الزهري، ثم تبعه على ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال:يروى في الحديث إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصحح لهذه الأمة أمر دينها، فنظرنا في المائة الأولى فإذا هو عمر بن عبد العزيز(2)، وتتابع العلماء على عدّه أول المجددين وذكر بعض أهل العلم هو من المقصودين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها(3). ولا شك أن عمر بن عبد العزيز خليق بأن يكون ممن يحمل عليه هذا الحديث، فقد كان عالماً عاملاً، همه كله، وعزمه، وهمته، آناء الليل والنهار إحياء السنن وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها، وكسر أهلها باللسان، والسنن(4)، يقول ابن حجر العسقلاني: إن إجمّاع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على راس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي، وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل(5). ومع أن بعض العلماء رأى أن مقام المجدد الكامل لا يستحقه إلا مهدي آخر الزمان، وأنه لم يولد في الأمة المسلمة مجدد كامل حتى الآن، وإن كان عمر بن عبد العزيز أوشك
__________
(1) عون المعبود (11/393) العظيم آبادي، جامع الأصول (11/322) .
(2) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ74 .
(3) المجددون في الإسلام صـ57 للصعيدي صـ57 ، موجز تاريخ للمودودي صـ63 .
(4) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/177) .
(5) فتح الباري (13/295) .(3/369)
أن يبلغ مرتبة المجددية الكاملة لو أنه استطاع إلغاء طريقة الحكم الوراثية، وإعادة انتخاب الخليفة عن طريق الشورى(1).وسواء استحق عمر بن عبد العزيز لقب المجدد الكامل أم لا، فإن الأعمال التجديدية التي قام بها، والجهود الكبيرة التي بذلها لاستئناف الحياة الإسلامية، وإعادتها إلى نقائها وصفائها زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين تجعله على رأس المجددين الذين جاد بهم الزمان حتى يومنا هذا، وقد ساعده على ذلك موقعه الذي تبوأه على راس خلافة قوية، منيعة الجانب، مترامية الأطراف، ولكي ندرك حجم الأعمال التجديدية التي إضطلع بها هذا الخليفة، وقدر الإصلاح الذي أحدثه، ينبغي أن نقف على حجم الانحرافات التي طرأت على الحياة الإسلامية والتغيّر والانقلاب الذي حدث للخلافة الإسلامية، ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا حصرنا الانحراف في ذلك الوقت بنظام الحكم، وما نتج عن ذلك مظالم وفساد وأما الحياة العامة فكانت أنوار النبوة لازالت ذات أثر بالغ فيها وكان الدين صاحب السلطان الأول في قلوب الناس(2).
1 ـ من إصلاحات عمر وأعماله التجديدية:
أ ـ الشورى: قد مرّ معنا أن عمر بن عبد العزيز في أول لقاء له مع الناس حمد الله وأثني عليه وقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لآنفسكم فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين، ورضينا بك: فَلِ أمرنا باليُمن والبركة(3). وبهذا يكون عمر قد قام بأول عمل تجديدي، حيث أعفى الناس من الملك العضوض، ولم يجبرهم على القبول بمن لم يختاروه، بل رد الأمر إليهم وجعله شورى بينهم(4).
__________
(1) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي صـ69 .
(2) عمر بن عبد العزيز للندوي صـ10 .
(3) سيرة ومناقب عمر لابن الجوزي صـ65 .
(4) التجديد في الفكر الإسلامي د.عدنان محمد صـ79 .(3/370)
ب ـ الأمانة في الحكم وتوكيل الأمناء:
... فقد تواترت النقول المفيدة أنه بلغ من حرصه على ذلك أقصى المراتب فقد استشعر عظم المسؤولية وضخامة الحمل منذ اللحظة الأولى لاستلامه الخلافة، فقال لمن سأله: مالي أراك مغتماً؟ قال: لمثل ما أنا فيه فليُغتم، ليس أحد من الأمة إلا وأنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إليّ فيه، ولا طالبه مني(1). وقال: لست بخير من أحد منكم، ولكن أثقلكم حملاً(2). وكان يطالب عمّاله باختيار أصحاب الكفاءة والدين فيمن يولونه شأنا من شؤون المسلمين، فقد كتب إلى أحد عمّاله: لا تولين شيئاً من أمر المسلمين إلا المعروف بالنصيحة لهم، والتوفير عليهم، وأداء الأمانة فيها استرعى(3)، ولم تكن سياسته في التورع عن أموال المسلمين سياسة طبقها على خاصة نفسه فقط بل أزم بها عمّاله وولاته، فقد كتب إلى عامله أبي بكر بن حزم: أن أدق قلمك، وقارب بين أسطرك، فإني أكره أن أخرج من أموال المسلمين مالاً ينتفعون به(4)، وقد ساس رعيته سياسة رحيمة، وأمَّن لهم عيشاً رغيداً وكفاهم مذلة السؤال، فقسم فضول العطاء في أهل الحاجات(5)، وقسم في فقراء أهل البصرة ثلاثة دراهم لكل إنسان، وأعطى الزمنى خمسين خمسين(6)، وطلب من عماله أن يجهزوا من أراد أداء فريضة الحج(7)، وكتب إلى عماله: أن اعملوا خانات في بلادكم فمن مر بكم من المسلمين، فاقروهم يوماً وليلة وتعهدوا دوابهم فمن كانت به علّة فاقروهم يومين وليلتين، فإن كان منقطعاً به فقوّوه بما يصل به إلى بلده(8)، وقد عزّ في زمن عمر وجود من يقبل الزكاة يقول عمر بن أسيد: والله ما مات عمر بن عبد
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/586) .
(2) المصدر نفسه (5/586) .
(3) تاريخ الطبري ، نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ81 .
(4) سير أعلام النبلاء (5/595) .
(5) تاريخ الطبري ، نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ81 .
(6) تاريخ الطبري (7/474) .
(7) تاريخ الطبري (7/474) .
(8) المصدر نفسه (7/472) .(3/371)
العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون، فما يبرح يرجع بماله كله قد أغنى عمر الناس(1)، وكانت حرمة المسلمين فوق كل الأموال فقد كتب إلى عماله: أن فادوا بأسارى المسلمين، وإن أحاط ذلك بجميع مالهم(2)، ولاتزال خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية، على كل أولئك الذين يشككون في إمكانية إقامة نظام اقتصادي إسلامي وبرهاناً ساطعاً على أن الاحتكام للشريعة الربانية هو وحده الذي يكفل للناس السعادة في الدنيا والآخرة(3).
ج ـ مبدأ العدل:
... فقد كان فيه لعمر القدح المعلاّة، وكان بحق وارثاً فيه لجدّه لأمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد ضرب فيه على النقود عبارة: أمر الله بالوفاء والعدل(4)، وطلب أن لا يقام على أحد حد إلا بعد علمه(5)، وكتب لعامله الجراح بن عبد الله الحكمي أمير خراسان: يا ابن أم جراح: لا تضربن مؤمناً ولا معاهداً سوطا إلا في حق، واحذر القصاص، فإنك صائر إلى من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وتقرأ كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا إحصاها(6). وأنصف أهل الذمة وأمر أن لا يعتدي عليهم أو على معابدهم وكتب إلى عماله: لا تهدموا كنيسة ولا بيعة، ولا بيت نار صولحتم عليه(7)، وقد رفع المكس وحطّ العشور والضرائب التي فرضتها الحكومات السابقة، وأطلق للناس حرية التجارة في البر والبحر، وقد تبرأ من المظالم التي كان يرتكبها بنو أمية وتبرأ من الحجّاج وأفعاله و أنكر على عمّاله الاستنان بسنته(8).
س ـ أحياؤه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/588) .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ120 .
(3) خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز صـ41 ـ 42 .
(4) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ98 .
(5) تاريخ الطبري (7/474) .
(6) تاريخ الطبري (7/464) .
(7) المصدر نفسه (7/477) .
(8) سيرة ومناقب عمر صـ107ـ108 .(3/372)
... أخذت الخلافة تتراجع عن الغاية التي قامت من أجلها وهي حراسة الدين، فنهض عمر بهذا المبدأ ورفع لواءه وأعلى شأنه وجعله المهيمن والمقدّم على ما سواه وما حقق عمر ما حققه من أعمال وإنجازات إلا انطلاقاً من خوفه الشديد من الله، وطلبه فيما فعله مرضاته، وقد ساعده على ذلك أنه كان من أجلة العلماء التابعين وأئمة الاجتهاد(1)حتى قال عنه عمر بن ميمون: كان العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة(2)وقد كان لسلامة دينه وصدق عقيدته الأثر البالغ في تجديده وإصلاحاته، فقد حارب الأهواء والبدع، وشدد النكير على أهلها(3)ـ وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى. وقد نقل عنه الإمام الأوزاعي قوله: إذا رأيت قوماً يتناجون في دينهم بشيء دون العامة، فاعلم أنهم على تأسيس ضلالة(4). وكان يرى أنه لا قيمة لحياته لولا سنة يحيها، أو بدعة يميتها(5)، وقد أهتم اهتماماً شديداً بديانة الناس وأخلاقهم، فكتب إلى عمّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات فمن أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشدّ تضييعاً(6). والناظر في رسائل عمر وخطبه وموعظة وهي أكثر من أن تحص يرى إيماناً قوياً، ومراقبة جلية وخوفاً من يوم يقف فيه الناس بين يدي رب العالمين، وقد أثرت شخصية عمر وسياسته العادلة تأثيراً بالغاً في حياة العامة وميولهم وأذواقهم ورغباتهم(7)يدل على ذلك ما ذكره الطبري في تاريخه مقارناً عهد عمر بعهود من سبقه من الحكام السابقين: كان الوليد صاحب بناء واتخذ المصانع والضياع وكان الناس يلتقون في زمانه، فكان يسأل بعضهم بعضاً عن البناء والمصانع، فولي سليمان فكان صاحب
__________
(1) التجديد في الفكر الإسلامي صـ85 .
(2) سير أعلام النبلاء (5/518) .
(3) التجديد في الفكر الإسلامي 86 .
(4) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ83 لابن الجوزي .
(5) التجديد في الفكر الإسلامي 86 .
(6) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز صـ221 لابن الجوزي .
(7) التجديد في الفكر الإسلامي 86 .(3/373)
نكاح وطعام، فكان الناس يسأل بعضهم عن التزويج والجواري، فلمّا ولي عمر بن عبد العزيز كانوا يلتقون فيقول الرجل للرجل: ما وراءك الليلة؟ وكم تحفظ من القرآن؟ ومتى تختم، ومتى ختمت. وما تصوم من الشهر(1)؟ ولم يكتف عمر بإقامة الدين داخل دولته، بل وجّه عنايته إلى غير المسلمين، ودعاهم إلى الدخول في الإسلام، وراسل ملوك الهند وملوك ما وراء النهر، ووعدهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، فأسلم الكثير منهم وتسموا باسماء(2)العرب، ولعل من أجّل الأعمال التي خدم بها هذا الدين أمره بتدوين العلوم الإسلامية وخاصة علم الحديث، وسيأتي بيان ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى، كل هذه الأعمال العظيمة والإصلاحات الجليلة حققها عمر في مدة خلافته الوجيزة، فغدا درة للأمة، ومنارة يستهدي بنورها الملتسمون دروب التجديد والإصلاح(3).
2 ـ من شروط المجدد وصفاته:
... نستطيع أن نحدد أهم شروط المجدد والصفات التي ينبغي أن تتوافر فيه حتى يعد من المجددين من خلال سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله.
... أ ـ أن يكون المجدد معروفاً بصفاء العقيدة وسلامة المنهج:
... وذلك لأن من أخص مهمات التجديد إعادة الإسلام صافياً نقياً من كل العناصر الدخيلة، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدد من السائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة وأنها تلزم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عقيدته، ومنهجه وتصوراته(4)وهذا الشرط قد توفر في عمر بن عبد العزيز، وسوف نوضحها في آثاره العقدية عند دراستها بإذن الله تعالى.
... ب ـ أن يكون عالماً مجتهداً:
__________
(1) تاريخ الطبري نقلا عن التجديد في الفكر الإسلامي 87 .
(2) خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز للندوي صـ30 .
(3) التجديد في الفكر الإسلامي 87 .
(4) التجديد في الفكر الإسلامي صـ46 .(3/374)
... وهذا الشرط تحقق في عمر بن عبد العزيز فقد واجه المشكلات التي تولدت في عصره واجتهد في وضع الحلول الشرعية لها، وفي الحقيقة أن رتبة الاجتهاد ليست عسيرة إلى الحد الذي تصوره بعض كتب أصول الفقه وممن ذهب إلى وضع شروطاً يكاد يكون من المحال الإحاطة بها، حيث أوجبوا أن يحيط المجتهد بعلوم الآلة كلها من نحو ولغة وبلاغة وبعلوم الشريعة من تفسير وحديث وأصول فقه وعلوم قرآن ومصطلح حديث وسيرة، وبعلمي المنطق وعلم الكلام، وغير ذلك مما يصعب الإحاطة به(1)، والصواب أن الاجتهاد سهل ميسور، لمن كانت عنده أهلية النظر، والمهم أن نعلم أن المجدد يشترط فيه أن يكون محيطا بمدارك الشرع، قادراً على الفهم والاستنباط مطَّلعاً على أحوال عصره، فقيها بواقعة(2)، يقول المناوي: إن على المجدد أن يكون: قائماً بالحجة، ناصراً للسنة، له ملكة رد المتشبهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والنظريات، من نصوص الفرقان وإرشاداته ودلالاته واقتضاءاته من قلب حاضر وفؤاد يقظان(3)ويقول العظيم آبادي: إن المجدد للدين لابد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصراً للسنة، قامعاً للبدعة(4)، ويقول المودودي: من الخصائص التي لابد أن يتصف بها المجدد هي: الذهن الصافي، والبصر النفاذ، والفكر المستقيم بلا عوج والقدرة النادرة على تبيين سبيل القصد بين الإفراط والتفريط، ومراعاة الاعتدال بينهما، والقوة على التفكير المجرد عن تأثير الأوضاع الراهنة، والعصبيات الراسخة على طول القرون، والشجاعة والجرأة على مزاحمة سير الزمان المنحرف(5)، ويقول في تعداده لعمل المجدد: الاجتهاد في الدين، والمراد به أن يفهم المجدد كليات الدين، ويتبين اتجاه الأوضاع المدنية والرقي العمراني في عصره ويرسم
__________
(1) كون المعبود (11/392) .
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ46 .
(3) فيض القدير للمناوي (1/14) .
(4) عون المعبود (11/319) .
(5) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي صـ52 .(3/375)
طريقاً لإدخال التعبير والتعديل على صورة التمدن القديمة المتوارثة، يضمن للشريعة سلامة روحها وتحقيق مقاصدها، ويمكّن الإسلام من الإمامة العالمية في رقي المدينة الصحيح.
ج ـ أن يشمل تجديده ميداني الفكر والسلوك في المجتمع:وذلك لأن تصحيح الانحراف من أخص المهمات التي ينبغي أن يقوم بها المجدد، ومعلوم أن الانحراف يطرأ على السلوك كما يطرأ على الفكر، بل إن غالب الانحرافات السلوكية منشؤها الخرافات فكرية، فيقوم المجدد بتصويب الأفهام والأفكار، وتخليصها مما داخلها من شكوك وشبهات، ويحيى العلم النافع، والفهم الصحيح للإسلام، ويبثه بين الناس، وينشره بالتدريس، وتأليف الكتب، وغير ذلك من الوسائل المتاحة، ثم يعمد إلى إصلاح سلوك الناس وتقويم أخلاقهم، وتزكية نفوسهم، وإبطال التقاليد المخالفة للشريعة، وإعلان الحرب على البدع والخرافات، والمنكرات المتفشية في حياة الناس، ومواجهة الفساد بمختلف أشكاله وصوره، وخاصة الفاسد في الحكم والإمارة، بهذا يكون المجدد قد جمع بين القول والفعل، والعلم والعمل، قد أثار السلف إلى هذا الشرط بقولهم عن المجدد إنه ينصر السنة ويقمع البدعة(1).
س ـ أن يعم نفعه أهل زمانه:
... وذلك لأن المجدِّد رجل مرحلة زمنية، تمتد قرناً من الزمن، فلابد إذن من أن يكون منارة يستضيء بها الناس ويسترشدون بهداها، حتى مبعث المجدد الجديد على الأقل، وهذا يقتضي أن يعم علم المجدد ونفعه أهل عصره، وأن تترك جهوده الإصلاحية أثراً بيناً في فكر الناس وسلوكهم، وغالباً ما يتم تحقيق ذلك عبر من يربيهم من تلامذة، وأصحاب أوفياء، يقومون بمواصلة مسيرته الإصلاحية وينشرون كتبه وأفكاره ويؤسسون مدارس فكرية تترسم خطاه في الإصلاح والتجديد(2).
__________
(1) عون المعبود(11/391) ، التجديد في الفكر الإسلامي صـ48 .
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ48 .(3/376)
3 ـ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها(1). والدروس والعبر والفوائد المستنيطه منه:
... يعد هذا الحديث إحدى البشائر بحفظ الله لهذا الدين مهما تقادم الزمان وبكفالته سبحانه إعزاز هذه الأمة ببعثة المجددين الربانيين الذين يحيونها بعد موات، ويوقظونها من سبات، بما يحملونه من الهدى والنور، وأن هذا الحديث يمنح المسلم طاقة من الأمل الأكيد، بأن المستقبل للإسلام مهما تكاثرت قوى الشر، وتعاظم طغيان أهل الباطل، وبأن النور سيسطع مهما احلولك الليل، واشتد الظلام، ونحن في الوقت الحاضر بحاجة ماسّة لتأكيد هذا المعنى، ونشره بين الناس، حتى نقاوم موجات اليأس والقنوط التي عمَّت النفوس، فجعلتها تستسلم للذل والخضوع والخنوع، بحجة أننا في آخر الزمان وأنه لا فائدة ولا رجاء من كل جهود الإصلاح التي تبذل لأن، الإسلام في إدبار والكفر في إقبال، وها قد ظهرت علامات الساعة الصغرى، ونحن في انتظار العلامات الكبرى التي سيعقبها قيام الساعة، وقد يستدل أصحاب هذا الاتجاه ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها، من ذلك استدلا لهم ببعض الأحاديث، ويفهمونها على غير الوجه المراد منها(2). من ذلك استدلا لهم بحديث أنس رضي الله عنه عند البخاري: لا يأتي عليكم زمان إلا والذي بعده شرُّ منه حتى تلقوا ربكم(3)، وحديث بدأ الإسلام غريباً وسيعود قريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء(4). وينسون أنه لا يجوز أن نفهم هذه الأحاديث بمعزل عن الأحاديث الأخرى التي تحمل البشرة والأمل للأمة، مثل حديث: مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أو آخره(5)، وفي قوم دون غيرهم، وفي زمن دون زمن، كما ذكر ابن القيم(6)
__________
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/151) .
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ55 .
(3) البخاري رقم 6541 ، ك الفتن .
(4) مسلم ، ك الإيمان رقم 208 .
(5) سنن الترمذي رقم 2795 صحيح .
(6) مدارج السالكين (3/196) .(3/377)
ولذلك شهد التاريخ الإسلامي حقباً من الظهور والإشراق كعهد عمر بن عبد العزيز(1)، ونور الدين، وصلاح الدين، ويوسف بن تاشفين، ومحمد الفاتح، وغيرهم، وتجب الشارة هنا إلى أن حديث التجديد الذي نحن بصدد شرحه، وكذا الأحاديث التي تحمل البشرى بعودة الإسلام إلى واجهة الحياة، وإن كانت أخباراً يقينية صدرت عن الصادق المعصوم، ولابد أن تتحقق كما أخبر، إلا أنها تحمل في مضمونها تكليفاً واستنهاضاً لعزمات المسلمين بوجوب السعي الدؤوب لتحقيق نصر الله لهذا الدين وإعزاز أهله كما هي سنة الله في ترتيب المسببات على الأسباب(2).
... أ ـ في قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث لهذه الأمة(3): إن هذا المبعوث لم يعد همه نفسه فقط، بل تجاوز ذلك ليعيش لهذه الأمة، فهو صاحب عزيمة وهمة يعيش هموم أمته ويبذل قصارى جهده مواصلاً عمل النهار بالليل، لينقذ هذه الأمة من وهدتها، ويعيد لها ثقتها بدينها، ويردها إلى المنهج الصحيح، مصابراً على ما يعترض سبيله من عقبات ومغالباً كل المشقات والتحديات، ليصل إلى رفعة هذه الأمة وعودة مجدها(4).
ب ـ قوله: على رأس كل مائة سنة(5)
__________
(1) التجديد في الفكر الإسلامي صـ56 .
(2) الاجتهاد للتجديد ، عمر عبيد حسنة صـ7 .
(3) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/151) .
(4) التجديد في الإسلام نقلاً عن التجديد في الفكر الإسلامي صـ57 .
(5) سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/151) .(3/378)
الرأس في اللغة يمكن أن يراد به أول الشيء، كما أن يمكن أن يراد به آخره(1)، وقد اختلف العلماء في المراد من الرأس في هذا الحديث، فقال بعضهم: المراد: أول المائة وقال آخرون: المراد آخرها(2)، وهذا ما اختاره ابن حجر(3)، والطيبي(4)، والعظيم آبادي(5)، وقد احتج العظيم آبادي لاختياره بكون الإمامين الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين، اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة احدى ومائة، وله أربعون سنة، ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين(6)، ولا يمكن عد عمر بن عبد العزيز مجدد المائة الأولى اعتباره أولها لأنه لم يكن مولوداً أولها فضلاً عن أن يكون مجددها وكذا الإمام الشافعي لم تكن ولادته بداية المائة الثانية فضلاً عن أن يكون مجددها(7).
ج ـ هل يشترط لعد المجدد أن تقع وفاته على رأس المائة؟
... يشترط بعض العلماء لاستحقاق المجدد هذا الوصف أن تقع وفاته على رأس القرن، إلا أن هذا الرأي مرجوح لأن كلمة (البعث) في الحديث تدل على الإرسال والإظهار والموت قبض وزوال، فالمقصود من الحديث: أن المجدد من تأتي عليه نهاية القرن وقد ظهرت أعماله التجديدية، واشتهر بالصلاح وعمّ نفعه، ولا يشترط أن تقع وفاته قبيل نهاية القرن أو أن يبقى حياً حتى يدخل عليه القرن التالي(8).
س ـ هل مجدد القرن واحد أو متعدد؟
__________
(1) عون المعبود (11/386) .
(2) المصدر نفسه (11/386) .
(3) فتح الباري (13/295) .
(4) عون المعبود (11/389) .
(5) المصدر نفسه (11/387) .
(6) المصدر نفسه (11/387) .
(7) التجديد في الفكر الإسلامي صـ58 .
(8) التجديد في الفكر الإسلامي ص61 .(3/379)
... أثار قوله صلى الله عليه وسلم: من يجدد لها دينها سؤالاً في الماضي والحاضر، هو: هل المقصود بلفظة (من) الواردة في الحديث فرداً واحداً من أفراد الأمة وأفذاذها يحي الله بها دينها، أم المراد بها ما هو أوسع من ذلك فيشمل الأفراد والجماعات، وذهب كثير من العلماء إلى أن المجدد فرد واحد، ونسب السيوطي هذا الرأي إلى الجمهور فقال في أرجوزته عن المجددين:
... ... ... وكونه فرداً هو المشهور
... ... ... ... ... ... قد نطق الحديث والجمهور(1)
وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن كلمة (من) في الحديث للعموم في أصل وضعها اللغوي(2)، فتشمل الواحد والجماعة على حد سواء(3)، ومن هؤلاء العلماء ابن حجر وابن الأثير والذهبي وابن كثير والمناوي والعظيم آبادي(4)، ويتبين من خلال البحث أن حمل لفظة (من) في الحديث عن العموم أولى، لأن التاريخ والواقع يثبت وجود أكثر من مجدد رأس كل قرن من القرون الخوالي، ولأن مهمة التجديد مهمة ضخمة واسعة لكونها لا تقتصر على جانب من جوانب الدين، ولأن رقعة الأمة الإسلامية تمتد على مساحة شاسعة يصعب معها على فرد بل مجموعة أفراد أن يقوموا بعملية التجديد الشامل المطلق(5).
ك ـ المجدد هو دين الأمة وليس الدين نفسه:
__________
(1) عون المعبود (11/394) .
(2) التجديد في الفكر الإسلامي صـ61 .
(3) المصدر نفسه صـ61 .
(4) المصدر نفسه صـ62 ، 63 .
(5) المصدر نفسه صـ65 .(3/380)
... يلاحظ المتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم (من يجدد لها دينها) أنه أضاف الدين إلى الأمة ولم يقل يجدد لها الدين، وذلك لأن الدين بمعنى المنهج الإلهي الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وما إشتمل عليه من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع تنظم علاقة العبد بربه وعلاقته بغيره من بني جنسه، ثابت كما أنزله الله لا يقبل التغيير ولا التجديد، وأما دين الأمة بمعنى علاقة الأمة بالدين ومدى تمسكها وتخلقها به وترجمتها له واقعاً ملموساً على الأرض، فهو المعنى القابل للتجديد ليعيد الناس إلى المستوى الذي ينبغي أن يكونوا عليه بعلاقتهم مع الدين(1).
المبحث الثالث : اهتمام عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة:
اهتم عمر بن عبد العزيز بعقائد أهل السنة وحرص على تعلمها وتعليمها وبثها بين الناس، وتناثرت أقواله في عقائد أهل السنة بين المراجع والمصادر الإسلامية من عقائد وتفسير وحديث وفقه وغيرها، وقام الأستاذ حياة بن محمد بن جبريل بجمع الكثير منها ونال بهذا الجهد العلمي رسالة الماجستير والكثير ممن كتب عن حياة عمر بن عبد العزيز لم يسلط الأضواء على هذا البعد المهم في حياته والمتعلق بحرصه على توعية الناس وتعليمه المعتقد الصحيح الذي جاء ذكره في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أهم الجوانب العقائدية التي تحدث فيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
__________
(1) من أجل صحوة إسلامية للقرضاوي صـ26 ـ 27 .(3/381)
أولاً : توحيد الألوهية: توحيد الألوهية أساس دين الإسلام، بل هو أساس كل دين سماوي، به أرسل جميع الرسل وأنزلت عليهم جميع الكتب، وهو الذي دعا إليه كل رسول من آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بل هو الغاية من خلق الجن والإنسان، قال تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) (الذاريات ، الآية :56). وكان سلف هذا الأمة رحمهم الله يهتمون بهذا النوع من التوحيد وممن كان له إسهام في هذه المسألة عمر بن عبد العزيز(1)، وقبل بيان ما اثر عنه فمن الأهمية بمكان بيان المقصود من توحيد الألوهية عند إطلاقه: فعرف بأنه: استحقاق الله سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له(2). وعرفه بعض الباحثين بأنه: توحيد الله بأفعال العباد وهو المعبر عنه بتوحيد الطلب والقصد، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ومحبته وخوفه ورجاءه والتوكل عليه والرهبة والرغبة منه وإليه وحده، والتقرب إليه بسائر العبادات البدنية والمالية دون إشراك أحد أو شيء من خلقه(3)، وقد ورد عن عمر بن عبد العزيز آثار في الدعاء والتبرك والخوف والرجاء والتوكل والشكر:
1 ـ الدعاء:
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/199) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (1/29) .
(3) رسالة توحيد الألوهية أساس الإسلام للباحث حامد عبد القادر الأحمدي صـ7 مطبوع على الآلة الكاتبة نقلاً عن الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/200) .(3/382)
أ ـ مر عمر بن عبد العزيز برجل في يده حصاة يلعب بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحور العين، فقام إليه فقال: بئس الخاطب أنت، ألا ألقيت الحصاة، وأخلصت إلى الله الدعاء(1). وفي هذا الأثر بين عمر بن عبد العزيز أن من شروط الدعاء الإخلاص وحضور القلب وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة. قال تعالى:(( فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) (غافر :آية: 14)وقال صلى الله عليه وسلم: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه(2).
ب ـ قال عمر بن عبد العزيز:اللهم إني أطعتك في أحب الأشياء إليك وهو التوحيد، ولم أعصك في أبغض الأشياء إليك وهو الكفر فاغفر لي ما بينهما(3). فهنا توسل عمر بن عبد العزيز بالطاعة والتوحيد وطلب الغفران من الله تعالى، ولا شك أن التوسل بالأعمال الصالحة مشروع كحديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار(4)، فإنهم توسلوا بأعمالهم الصالحة ليجيب الله دعاءهم ويفرج كربتهم وقد توسل المؤمنون بأعمالهم الصالحة من الإيمان وقدموه قبل الدعاء قال تعالى: ((رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ)) (آل عمران ، الآية : 193)، فإنهم قدموا الإيمان قبل الدعاء وأمثال ذلك كثير(5).
__________
(1) الحلية (5/287) سيرة عمر لابن الجوزي صـ84 .
(2) سنن الترمذي (5/483) صحيح سنن الألباني رقم 2766 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن القيم الجوزية صـ242 .
(4) مسلم رقم 2743 .
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/219) .(3/383)
ج ـ حصلت زلزلة بالشام، فكتب عمر بن عبد العزيز: أما بعد: فإن هذا الرجف شيء يعاتب الله به العباد، وقد كتب إلى أهل الأمصار أن يخرجوا يوم كذا من شهر كذا، فمن كان عنده شيء فليتصدق(1). قال الله عز وجل:(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى)) (الأعلى، آية: 14 ـ 15) وقولوا كما قال آدم: ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (الأعراف ، الآية : 13)، وقولوا كما قال نوح عليه السلام: ((وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (هود ، الآية : 47) قولوا كما قال يونس عليه السلام: ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 87)، فقد أمر رحمه الله الرعية بالالتجاء إلى الله تعالى والتصدق والاستغفار والخروج إلى المصلى عندما حصلت الزلزلة بالشام(2).
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ64 الحلية (5/304 ، 305) .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/220) .(3/384)
س ـ قال ميمون بن مهران: كنت عند عمر بن عبد العزيز: فكثر بكاؤه ومسالته ربه الموت، فقلت: لم تسأل الموت، وقد صنع الله على يديك خيراً كثيراً، أحيا بك سنناً، وأمات بك بدعاً، قال: أفلا أكون مثل العبد الصالح حين اقر الله عينه وجمع له أمره قال: ((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف ، الآية : 101). وقد طلب الدعاء له بالموت على الإيمان ودعا به إقتداء بالصالحين، فهذا الدعاء من سنن المرسلين وهو من شعار الصالحين، وقد يكون أيضاً دعا به ـ رحمه الله ـ خوفاً من الفتنة في الدين لاسيما عند وفاة أعوانه ابنه عبد الملك ومولاه مزاحم وأخيه سهل، كما جاءت في بعض الروايات(1)
__________
(1) العقد الفريد (4/396) الآثار الواردة (1/224) .(3/385)
2 ـ الشكر: عن يحي بن سعيد قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال: ذكر النعم شكرها(1)، وقال عمر بن عبد العزيز: شيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى(2)،، وكتب إلى بعض عماله فقال:.. أوصيك بتقوى الله وأحثك على الشكر فيما عندك من نعمته وآتاك في كرامته فإن نعمه يمدها شكره ويقطعها كفره(3) حث عمر بن عبد العزيز على شكر الخالق فتبارك وتعالى على نعمه الكثيرة وآلائه الجسيمة، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة،، قال تعالى: ((وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون)) (البقرة ، الآية : 172) وقال عز وجل: ((وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ)) (البقرة ، الآية : 152). والشكر يستلزم المزيد قال تعال: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) (إبراهيم ، الآية : 7) وما أثر عن عمر ـ رحمه الله تعالى ـ في هذا الجانب يبين منهج السلف في التعامل مع النعم التي ينعمها الخالق على عباده(4).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (8/240) .
(2) ابن أبي الدنيا، كتاب الشكر لله تعالى صـ19 .
(3) ابن أبي الدنيا ذم الدنيا صـ81 .
(4) الآثار الواردة (1/230) .(3/386)
3 ـ التوكل: قال الحكم بن عمر: كان لعمر بن عبد العزيز ثلاثمائة حرسيّ وثلاثمائة شرطي فشهدته يقول لحرسه: إن لي عندكم بالقدر حاجزاً، وبالأجل حارساً من أقام منكم فله عشرة دنانير ومن شاء فليلحق بأهله(1). ولما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة نظر مولاه مزاحم إلى القمر فإذا القمر في الدبران(2)، قال: فكرهت أن أقول ذلك له فقلت: ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة فنظر عمر فإذا هو بالدبران فقال: كأنك أردت أن تعلمني أن القمر بالدبران يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر ولكننا نخرج بالله الواحد القهار(3). يظهر حرص عمر على التوكل مع الأخذ بالأسباب المشروعة، والتوكل هو الاعتماد على الله مع الأخذ بالأسباب، وهو أصل من أصول التوحيد قال تعالى: ((فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) وقال عز وجل: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ)) (الفرقان ، الآية : 58) . والتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويدفع بها المكروه، فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب. وقطع علاقة القلب بها، فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها(4).
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/136) .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/235) .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ32 .
(4) مدارج السالكين (2/125) .(3/387)
4 ـ في الخوف وارجاء: عن يزيد بن عياض بن جعدبة، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى سليمان بن أبي كريمة: إن أحق العباد بإجلال الله والخشية منه من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حساباً ولا أهون على الله إن عصاه مني فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي وخفت أن تكون منزلتي التي أنا بها هلاكاً إلا أن يتداركني الله منه برحمة، وقد بلغني أنك تريد الخروج في سبيل الله، فأحب يا أخي إذا أخذت موقفك أن تدعو الله أن يرزقني الشهادة فإن حالي شديدة وخطري عظيم، فأسأل الله الذي ابتلاني بما ابتلاني به أن يرحمني ويعفو عني(1). وقال ربيع بن سبرة لعمر بن عبد العزيز وقد هلك ابنه وأخوه ومولاه مزاحم في أيام ـ: يا أمير المؤمنين ما رأيت رجلاً أصيب في أيام متوالية بأعظم من مصيبتك، ما رأيت مثل ابنك ابناً، ولا مثل أخيك أخاً، ولا مثل مولاك مولى، قال: فنكس ساعة ثم قال لي: كيف قلت يا ربيع؟ فأعدتها عليه. فقال: لا والذي قضى عليهم الموت ما أحب أن شيئاً من ذلك كان لم يكن من الذي أرجو من الله فيهم(2)، وعن قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى ولي العهد من بعده: بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى يزيد بن عبد الملك: السلام عليك: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد: فإني كتبت إليك وأنا دنف(3) من وجعي وقد علمتني أني مسؤول عما وليت يحاسبني عليه مليك الدنيا والآخرة ولست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئاً يقول: ((فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ)) (الأعراف ، الآية : 7) فإن يرضى عني الرحيم فقد أفلحت ونجوت من الهول الطويل، وإن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير، أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته
__________
(1) الطبقات (5/394 ـ 395) الآثار الواردة (1/240) .
(2) المعرفة والتاريخ للفسوي (1/610) الآثار الواردة (1/241) .
(3) دنف الرجل من مرضه براه المرض حتى أشفى على الهلاك .(3/388)
وأن يمن علي برضوانه والجنة(1). ومن كلام عمر يتبين لنا جمعه بين الخوف والرجاء ولا شك أن الجمع بين الخوف والرجاء هو من عقيدة السلف الصالح، وهو توسط المؤمن بين الأمن من مكر الله واليأس من روح الله، فالسلف كانوا يخافون ربهم، ويرجون رحمته(2) وهم سائرون على ما قال تعالى: ((أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) (الأسراء ، الآية : 57). وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: ((أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ)) (الزمر ، الآية : 9).
ثانياً : معتقد عمر بن عبد العزيزو في أسماء الله الحنسى:
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي صـ244 .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/245) .(3/389)
... أسماء الله الحسنى: هي كلماته الدالة على ذاته المتضمنة إثبات صفات الكمال له بلا مماثلة وتنزيهه عن صفات النقص والعيب(1). والأسماء الحسنى المعروفة هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي تقتضي المدح والثناء بنفسها(2)، ولا شك أن كل قاري للقرآن الكريم، وللأحاديث النبوية يجد أن الله تبارك وتعالى في كتابه قد سمى نفسه بأسماء، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم قد سمى ربه بأسماء ومن المعلوم أن السلف الصالح يثبتون لله تعالى من الأسماء ما أثبته الله نفسه أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا أحد أعلم بالله من الله، ولا أحد أعلم بالله بعد الله من رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء الله تعالى كلها حسنى، وهي أعلام، وأوصاف وهي أسماؤه حقيقة دالة على ذاته وصفاته وهي توقيفية، وغير محصورة بعدد معين، وغير مخلوقة، ولا يجوز الإلحاد فيها(3)، ومن خلال رسائل وخطب عمر بن عبد العزيز نوضح بعض أسماء الله تعالى التي ذكرها في رسائله وخطبه ومنهج عمر بن عبد العزيز هو منهج الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وقد قعد أهل السنة قواعد في أسماء الله تعالى يمكن استنتاج بعضها من كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله فمن هذه القواعد ما يلي:
ـ أن أسماء الله تعالى أزلية، قال عمر بن عبد العزيز:.. ولقد أعظم بالله الجهل من زعم أن العلم كان بعد الخلق بل لم يزل الله وحده بكل شيء عليماً، وعلى كل شيء شهيداً قبل أن يخلق شيئاً وبعد ما خلق(4)فبين عمر أن الله له الأسماء الحسنى وهي العليم، والشهيد أزلاً وهذا معتقد أهل السنة والجماعة(5).
__________
(1) منهج أهل السنة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله ، خالد عبد اللطيف (2/391) .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/276) .
(3) المصدر نفسه (1/287) .
(4) الحلية (5/348) ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/304) .
(5) الآثار الواردة (1/305) .(3/390)
ـ أن أسماء الله تعالى توقيفية، وهذا منهج أهل السنة والجماعة وهو ما تبين بالاستقراء من كلامه حيث لم يذكر حسب إطلاعي إلا أسماء الله الواردة في الكتاب والسنة، وهو الحق إذ لا يجوز أن يسمى الله إلا بما سمى به نفسه في كتابه الكريم أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم(1).
ـ ... أن أسماء الله تعالى أعلام وأوضاف، أعلام باعتبار دلالتها على الذات وأوصاف باعتبار ما دلت عليه من المعاني وهي بالاعتبار الأول ـ أي أعلام ـ مترادفة، وبالاعتبار الثاني ـ أي أنها أوصاف ـ متباينة للدلالة كل واحد منها على معناه الخاص، فالحي الرحمن الرحيم كلها أسماء لمسمى واحد لكن معنى الحي غير معنى الرحمن هكذا(2). وقد خالف معتقد السلف الصالح في توحيد الأسماء الحسنى بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام فالجهمية(3)، أنكرت الأسماء الحسنى وذلك لظنهم أن التوحيد نقي محض، وأن إثبات الأسماء الحسنى إثبات لأعراض حادثة ولم يثبتوا من الأسماء الحسنى غير اسم (القادر والخالق) لأن الجهم لا يسمى أحداً من المخلوقين قادراً لنفيه استطاعة العباد ولا يسمي أحداً خالقاً غير الله تعالى، لأن عنده أن كل صفة أو اسم يجوز أن يسمي أو يتصف به غير الله فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى(4)، وعلى هذا يجب على المسلم الوقوف عندما ثبت وترك الابتداع، والتحريف والتأويل المفضي إلى الإلحاد(5) فإن الله تعالى قال: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف ، الآية : 180) .
__________
(1) المصدر (1/305) .
(2) القواعد المثلى صـ8 .
(3) الجهمية : سيأتي الحديث عنها في محاورات عمر لأهل الفرق .
(4) منهاج السنة (2/526) الآثار الواردة (1/306) .
(5) الآثار الواردة (1/306) .(3/391)
... وقد وردت في رسائل عمر بن عبد العزيز وخطبه كثير من أسماء الله الحسنى، كالله عز وجل، والرب، والرحمن والرحيم، المليك والخبير، والكريم، والحي، والرقيب، والشهيد والواحد القهار، والعلي العظيم، والعفو الغفور، والعزيز الحكيم، والوارث، والخالق، والعليم(1)، ونتحدث عن بعض هذه الأسماء.
1 ـ في أسمه تعالى ((الرب)): كان عمر يقول: يا رب انفعني بعقلي(2) والرب من اسماء الله الحسنى، قال تعالى: ((بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)) (سبأ ، آية : 15) . ومعنى الرب: المصلح للشيء . ورب الشيء: مالكه فالله عز وجل مالك العباد ومصلحهم ومصلح شئونهم(3) ومصدر الرب الربوية، وكل من ملك شيئاً فهو ربه، يقال: هذا رب الدار، ورب الصنيعة ولا يقال: الرب: معرفاً بالألف واللام مطلقاً إلا لله عز وجل لأنه مالك كل شيء(4).
2 ـ في اسمه تعالى ((الحي)): كان لعمر بن عبد العزيز صديق، فأخبر أنه قد مات فجاء إلى أهله يعزيهم، فصرخوا في وجهه، فقال لهم عمر: إن صاحبكم هذا لم يكن يرزقكم، وإن الذي يرزقكم حي لا يموت(5) فالحي اسم من اسماء الله الحسنى. قال تعالى: ((اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) (البقرة ، الآية : 255). وحياته تعالى لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، الحياة المستلزمة لكمال الصفات في العلم والقدرة والسمع والبصر، وغيرها(6).
__________
(1) الآثار الواردة (1/279 إلى 306) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ68 الآثار الواردة (1/281) .
(3) الآثار الواردة (1/281) .
(4) اشتقاق أسماء الله الحسنى للزجاجي صـ32 ، 33 ، الآثار الواردة (1/281) .
(5) الحلية (5/330) ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/288) .
(6) اشتقاق أسماء الله الحسنى صـ102 للزجاجي .(3/392)
3 ـ في اسميه : الواحد القهار: قال عمر بن عبد العزيز لمولاه مزاحم: يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا قمر، ولكنا نخرج بالله الواحد القهار(1). من أسماء الله الحسنى الواحد القهار قال تعالى: ((يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)) (إبراهيم ، الآية : 48)، والواحد القهار أي: المتفرد بعظمته واسمائه وصفاته وأفعاله العظيمة وقهره لكل العوالم، فكلها تحت تصرفه وتدبيره، فلا يتحرك منها متحرك ولا يسكن ساكن إلا بإذنه(2).
4 ـ في اسميه تعالى: العلي العظيم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أمراء الأجناد رسالة واختتمها بقوله:.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(3)، العلي العظيم من الأسماء الحسنى قال تعالى: ((وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) (البقرة ، الآية : 255). والعلي: بذاته فوق عرشه، العلي بقهره لجميع المخلوقات، العلي بقدره لكمال صفاته،(4) والعظيم: الذي تتضاءل عند عظمته جبروت الجبابرة، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة، فسبحان من له العظمة العظيمة(5). فهذه بعض أسماء الله الحسنى التي جاءت في رسائل أو الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز وهي للمثال وليست للحصر.
ثالثاً : معتقد عمر بن عبد العزيز في صفات الله تعالى:
__________
(1) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم صـ32 .
(2) تفسير السعدي صـ428 .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ81 .
(4) تفسير السعدي صـ110 .
(5) تفسير السعدي صـ110 .(3/393)
صفات الله عز وجل هي نعوت الكمال القائمة بالذات الإلهية، كالعلم والحكمة، والسمع، والبصر، واليدين والوجه، وغيرها مما أخبر الله تعالى بها عن نفسه في كتابه وعلى لسانه نبيه صلى الله عليه وسلم وتوحيد الله عز وجل في صفاته هو أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً، فيثبت ما أثبته لنفسه وينفي عنه ما نفاه عن نفسه(1). فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً فيثبت ما أثبته لنفسه، وينفي عنه ما نفاه عن نفسه، وقد علم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه، مع إثبات ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله تعالى ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته كما قال تعالى: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) (الأعراف ، الآية : 180). وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ)) (فصلت ، الآية : 40). فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) رد للإلحاد والتعطيل(2). وقد جاءت الآثار عن عمر بن عبد العزيز في باب الصفات، فأثبت ما أثبته الله لنفسه، وتحدث عن إثبات صفة النفس، والوجه، والعلم، والكبرياء والقدرة، والعلو،
__________
(1) أقوال التابعين في مسائل التوحيد والإيمان (3/874) .
(2) مجموع القناوي (3/8) .(3/394)
والمعية والقرب، وصفة المشيئة والإرادة وصفة الغضب، والرضى، وصفة الرحمة(1)، وإليك الحديث عن بعضها:
1 ـ صفة النفس: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الضحاك بن عغبد الرحمن رسالة فقال: أما بعد فإن الله عز وجل جعل الإسلام الذي رضي به لنفسه ومن كرم عليه من خلقه لا يقبل دنيا غيره(2). وهذا الأثر يبين إثبات صفة النفس وهو ما دل عليه الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) (آل عمران ، الآية : 28). وقال صلى الله عليه وسلم في ثنائه على ربه: ((.. لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك(3)، فنفسه تعالى هي ذاته المقدسة، كما تبين ذلك من الكتاب والسنة(4). فنفسه تعالى هي ذاته المتصفة بصفاته وليس المراد بها ذاتاً منفكة عن الصفات، ولا المراد بها صفة الذات(5).
2 ـ صفة الوجه لله تعالى: كتب عمر إلى الخوارج رسالة وفيها:.. وإني أقسم لكم بالله لو كنتم أبكاري من ولدي.. لدفقت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة(6). صفة الوجه من الصفات الخبرية الذاتية دل عليها الكتاب والسنة، قال تعالى: ((وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)) (الرعد ، الآية : 22). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ربه ما لا يجوز، ففي سؤاله ربه لذة النظر إلى وجهه يقول: وأسألك لذة النظر إلى وجهك(7).
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/313 إلى 359) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ86 ، الآثار الواردة (1/313)
(3) مسلم رقم 486 .
(4) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/314) .
(5) الفتاوى نقلاً عن الآثار الواردة (1/314) .
(6) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ75 .
(7) صححه الألباني في صحيح سنن النسائي (1/280 ـ 281) .(3/395)
3 ـ صفة القدرة لله تعالى: كتب عمر إلى بعض عماله: أما بعد، فإذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم، فاذكر قدرة الله عليك في نفاذ ما يأتي إليهم وبقاء ما يأتي إليك(1). وقال في رسالته في الرد على القدرية وفيها:.. فالله أعز في قدرته وأمنع من أن يملك أحداً إبطال علمه(2). يتبين من خلال الأثرين السابقين إثبات عمر بن عبد العزيز صفة القدرة لله تبارك وتعالى وهي من الصفات التي دل عليها السمع والعقل قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (البقرة ، الآية : 20). ومن السنة حديث أبي مسعود البدري لما ضرب غلامه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم يا أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام(3).
... هذه بعض الأثار التي تدل على إثبات عمر بن عبد العزيز لصفات الله تعالى على أصول منهج أهل السنة والجماعة.
__________
(1) سيرة عمر صـ125 لابن الجوزي .
(2) الحلية (5/347) .
(3) مسلم رقم 1659 .(3/396)
رابعاً : نهيه عن اتخاذ القبور مساجد: عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى ـ أو قال: لا يجتمع: دينان بأرض العرب(1)، حدثنا حصين، أن عمر بن عبد العزيز نهى أن يبنى القبر بآجر وأوصى بذلك(2). والحديث الذي أرسله عمر رحمه الله ـ يبين تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته من اتخاذ القبور مساجد وبين أن ذلك فعل اليهود والنصارى والمسلم منهي عن الاقتداء بهؤلاء الضلال المغضوب عليهم بنص القرآن، ولا شك أن اتخاذ القبور مساجد والبناء عليها وتجصيصها مما أجمع على منعه سلف هذه الأمة كما مر عن عمر بن عبد العزيز حيث نهى أن يبني القبر بآجر وأوصى أن لا يفعل ذلك بقبر(3)، ولما أمر الوليد بن عبد الملك ببناء المسجد النبوي حين كان عمر عاملاً له على المدينة وإدخال حجرات الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها حجرة عائشة رضي الله عنه ـ التي فيه قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه كان عمر بن عبد العزيز هو الذي جعل مؤخر القبر محدداً بركن، لئلا يستقبل قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيصلي إليه جعل ذلك حين إنهدم جدار البيت فبناه على هذا فصار للبيت خمسة أركان(4)، والمقصود أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى قد سد منافذ الشرك بعلمه وحكمته كما تبين من نقل من شاهدوا بناء المسجد النبوي في عهد ولايته على المدينة النبوية، ولا شك أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجداً كان خوفاً من المبالغة في تعظيمه والافتتان به، بل ربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية(5)
__________
(1) البخاري رقم 1330 مصنف عبد الرزاق (10/359 ـ 360) .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ346 .
(3) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (1/264) .
(4) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/265) .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي (2/185) .(3/397)
. وقد منع عمر من اتخاذ البناء لقبره وأوصى بذلك مع أنه كان في الزمن الذي فيه العقيدة صافية نقية إذا قورن ذلك الزمان بما بعده، ولكن لفهمه الصحيح لمقاصد السنة ولاتباعه المنهج الصحيح منهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفقه الله تعالى للوصية بأن لا يبني على قبره خشية أن يتخذ مسجداً فحسم الموقف قبل أن يستفحل، ولا شك أن ما ذهب إليه عمر هو ما يدل عليه الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه(1).
__________
(1) مسلم رقم 970 .(3/398)
خامساً : مفهوم الإيمان عند عمر بن عبد العزيز: قال عدي بن عدي. قال: كتب إليّ عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن الإيمان فرائض وشرائع وحدوداً، وسنناً فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان، فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها، وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص(1)،، وعن جعفر بن برقان قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز أما بعد: فإن عرى الدين وقوائم الإسلام الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فصلوا الصلاة لوقتها(2). بين عمر بن عبد العزيز أن الإيمان فرائض أي : أعمالاً مفروضة كالصلاة والحج والصوم، وشرائع أي: عقائد دينية كالإيمان بالله وملائكته، وحدوداً أي: منهيات ممنوعة كشرب الخمر والزنا، وسنناً أي مندوبات كإماطة الأذى عن الطريق، وغيرها من المندوبات فهذه الأمور كلها من الإيمان(3)، وهذا المأثور عن عمر هو الحق الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، فالإيمان عند أهل الحق: قول اللسان، وتصديق بالجنان وعمل بالأركان(4)، فمن الأدلة الدالة على أن الإيمان قول باللسان قوله تعالى:(( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ)) (البقرة:آية:136). وقوله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله(5). ومن الأدلة على أن أعمال القلوب من الإيمان قوله تعالى:(( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ..))(الأنفال:آية:3). والوجل من أعمال القلوب. وقد سمي في الآية
__________
(1) فتح الباري على صحيح البخاري (1/45) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ72 ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/543) .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/545) .
(4) المصدر نفسه (1/544) .
(5) مسلم رقم 32 .(3/399)
إيماناً، ومن الأدلة على أن أعمال الجوارح من الإيمان قوله تعالى:((.. وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ...)) (البقرة:آية :143). يبين ذلك سبب نزول الآية حين سئل عليه السلام أرأيت الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله عز وجل((...وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ..)). وفي هذا دلالة على أنه تعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيماناً، فإذا ثبت ذلك في الصلاة ثبت ذلك في سائر الطاعات(1)، وكتب عمر بن عبد العزيز رسالة وفيها..أسأل الله برحمته وسعة فضله أن يزيد المهتدي هدى، وأن يرجع بالمسيء التوبة في عافيته(2)، وفي قوله عن الحديث عند الإيمان، ...فمن استكملهن فقد استكمل الإيمان ومن لم يستكملهن لم يستكمل الإيمان(3). فهذه الآثار تبين أن الإيمان يزيد وينقص وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة والآثار عن السلف الصالح. قال تعالى:(( تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا))(الأنفال:آية:2). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا إيمان لمن لا أمانة له(4)، ومن أقوال سلف الأمة قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص(5).
سادساً: الإيمان باليوم الآخر:
الحديث عن الإيمان باليوم الآخر يشتمل على أمور كثيرة، فكل ما أخبر به الله ورسوله مما يكون بعد الموت من عذاب القبر ونعيمه، وما يكون من البعث والنشور، وما يكون في يوم القيامة من ثواب وعقاب وجنة ونار...الخ وقد تحدث عمر بن عبد العزيز عن هذه الأمور منها:
__________
(1) الاعتقاد للبيهقي صـ95ـ 96 الآثار الواردة (1/545) .
(2) الطبقات (6/313)، الآثار الواردة (1/550) .
(3) فتح الباري (1/45) .
(4) الإيمان لابن أبي شيبة صـ5 وصححه الألباني ، الآثار الواردة عن عمر (1/553) .
(5) البخاري مع الفتح (1/47) .(3/400)
1 ـ عذاب القبر ونعيمه: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: يا فلان قرأت البارحة سورة فيها زيارة((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ))(التكاثر:الآيتان:1، 2). فكم عسى يلبث عند المزور حتى ينكفي إما إلى جنة وإما إلى نار(1).وخطب مرة فقال: أيها الناس ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وفي بيوت الميتين وفي دور الظاعنين جيراناً كانوا معكم بالأمس أصبحوا في دور خامدين، بين آمن روحه إلى يوم القيامة وبين معذب روحه إلى يوم القيامة(2). وخطب مرة أخرى بخناصرة فقال: ..في كل يوم تشيعون غادياً إلى الله ورائحاً قد قضى نحبه وانقضى أجله ثم تغيبونه في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد قد فارق الأحباب وخلع الأسباب وواجه الحساب وسكن التراب مرتهناً بعمله غنياً عما ترك فقيراً إلى ما قدم(3)، وما قاله عمر بن عبد العزيز يدل على أثبات عذاب القبر ونعيمه وهو معتقد أهل السنة والجماعة وبهذا دلت النصوص من الكتاب والسنة قال تعالى:(( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) . فقد ثبت في الصحيح أنها نزلت في عذاب القبر(4). وقال تعالى:(( النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)) (غافر:آية:45).
__________
(1) الحلية (5/317)، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/336) .
(2) سيرة عمر صـ259 ـ260 لابن الجوزي .
(3) سيرة عمر صـ259 ـ260 لابن الجوزي .
(4) الروح لابن القيم صـ144 .(3/401)
2 ـ الإيمان بالمعاد ونزول الرب لفصل القضاء: خطب عمر بن عبد العزيز بخناصرة فقال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً، ولم تتركوا سدى، وإن لكم معاداً ينزل الله تبارك وتعالى للحكم فيه والفصل بينكم(1). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله، أما بعد: فكأن العباد قد عادوا إلى الله فينبئهم بما عملوا ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى(2)، وعن جرير بن حازم قال قرأت كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عدي:... اعلم أن أحداً لا يستطع إنفاذ قضايا ما بين الناس حتى لا يبقى منها شيء لابد أن تتأخر قضايا ليوم الحساب(3). وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة، أما بعد: فإني أذكرك ليلة تمخض بالساعة وصباحها القيامة فيالها من ليلة وياله من صباح كان على الكافرين عسرين(4). وكتب إلى بعض الأجناد أما بعد: أوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته.. فمن كان راغباً في الجنة أو هارباً من النار، فالآن في هذه الأيام الخالية، والتوبة مقبولة، والذنب مغفور قبل نفاذ الأجل وانقضاء المدة وفراغ الله عز وجل للثقلين ليدينهم بأعمالهم في موطن لا تقبل فيه فدية، ولا تنفع فيه الحيلة تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يرده الناس جميعاً بأعمالهم، ويتفرقون منه أشتاتاً إلى منازلهم، فطوبى يومئذ لمن أطاع الله عز وجل وويل يومئذ لمن عصى الله عز وجل(5), إن الإيمان بالمعاد والبعث والنشور وأن الله تبارك وتعالى يجمع كل الخلائق وبيان الحكمة من ذلك وبيان شدة هذا اليوم على الكفار هو مدلول الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى هنا، ولا شك أن الإيمان بالمعاد من أهم العقائد التي تميز بها
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ42 .
(2) ذم الدنيا 81 لابن أبي الدينا .
(3) في الزهد ، هناد السرى (1/299ـ300) ، الآثار الواردة (1/448) .
(4) سيرة لابن الجوزي صـ115 أبو حفص الملاء (1/206) .
(5) سيرة ابن الجوزي صـ115ـ116 أبو حفص الملاء (1/266) .(3/402)
الإسلام، وقد تحدث القرآن الكريم عن الإيمان بالمعاد، إما تصريحاً وتأكيداً أو تلميحاً وإشارة وقد بين الله تبارك في كثير من آيات الكتاب وجوب الإيمان بالبعث وبين في بعضها الرد على من ينكر حشر الأجساد بحجج عقلية لا يمكن للمنكرين إلا الإذعان لها أو المكابرة(1)، قال تعالى ((اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) ( الروم، آية: 11) وقال عز وجل:(( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ)) ( المؤمنون، الآيات: 16) وقال في منكري البعث((أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) (ياسين، آية: 77ـ79). وقال تعالى:(( أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)) ( القيامة، الآيات: 36ـ40). كما ثبت في الأحاديث الإيمان بالبعث منها ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله لي ولد فسبحاني أن أتخذ صحابة ولا ولداً(2). ومضمون هذه النصوص هو المأثور عن عمر(3).
__________
(1) الآثار الواردة في العقيدة (1/451) .
(2) البخاري رقم 3093 .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/452) .(3/403)
3 ـ الميزان: قال عمر بن عبد العزيز: أو ما رأيتم حالات الميت؟ وجهه مفقود وذكره منسي، وبابه مهجور، كأن لم يخالط إخوان الحفاظ ولم يعمر الديار: واتقوا يوماً لا يخفي فيه مثقال ذره في الموازين(1). قال:.. أعوذ بالله أن أمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي وتظهر عولتي وتبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغنى والفقر، والموازين منصوبة(2).
وعن بجدل الشامي عن أبيه وكان صاحباً لعمر بن عبد العزيز قال: رأيت عمر بن عبد العزيز يتلو على هذه الآية((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (الأنبياء، الآية: 47) حتى ختمها فمال على أحد شقيه يريد أن يقع(3). فهذه الآثار تدل على أن بعد القيام من القبور والذهاب إلى المحشر، ونزول الرب تبارك وتعالى ـ يليق بجلاله ـ لفصل القضاء ينصب الميزان، وهو ميزان حقيقي توزن به أعمال العباد، وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة(4)، قال ابن حجر: قال أبو إسحاق الزجاج: أجمع أهل السنة على الإيمان بالميزان وأن أعمال العباد توزن به يوم القيامة، وأن الميزان له لسان وكِفَّتان ويميل بالأعمال. وأنكرت المعتزلة الميزان وغيرهم وقالوا: هو عبارة عن العدل فخالفوا الكتاب والسنة، لأن الله أخبر أنه يضع الموازين لوزن الأعمال ليري العباد أعمالهم ممثلة ليكونوا على أنفسهم شاهدين(5)، وهذا الميزان دقيق لا يزيد ولا ينقص قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) (الأنبياء ، الآية : 47) .
__________
(1) سيرة عمر صـ255 لابن الجوزي .
(2) الحيلة (5/291) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ234ـ 244 .
(3) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي صـ248) .
(4) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/457) .
(5) فتح الباري (13/538) .(3/404)
4 ـ الحوض: كتب عمر بن عبد العزيز إلى صاحب دمشق أن سل أبا سلام عما سمع من ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوض فإن كان يثبته فاحمله على مركبة من البريد(1). وفي رواية: بعث عمر بن عبد العزيز إلى أبي سلام الحبشي يحمل على البريد، فلما قدم عليه قال: لقد شق علي، قال: عمر: ما أردنا ذلك، ولكنه بلغني عنك حديث ثوبان في الحوض، فأحببت أن أشافهك به فقال: سمعت ثوبان: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن حوضي من عدن إلى عمان البلقاء(2) ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأكوابه عدد نجوم السماء من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً، أول الناس ورووداً عليه فقراء المهاجرين(3). ولا شك أن الإيمان بالحوض هو عقيدة أهل السنة والجماعة استناداً إلى النصوص الصريحة بذلك وأدلة إثبات الحوض في السنة بلغت حد التواتر.
__________
(1) البداية والنهاية نقلاً عن الآثار الواردة (1/462) .
(2) الآثار الواردة (1/463) .
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ37 .(3/405)
5 ـ الصراط: كتب عمر بن عبد العزيز إلى أخ له: يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر وبقي أقله، فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أوحي إلى نبيك صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود ولم يخبر أنك من أهل الصدور والخروج، وإياك أن تغرك الدنيا فإن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له(1)، وهذا الأثر الوارد عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى يدل على الإيمان بالصراط، وذلك أنه بعد الخروج من عرصات القيامة في اليوم العصيب يمر الناس على الصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم، أدق من الشعرة، وأحد من السيف، يردوه الأولون والآخرون من أتباع الرسل الموحدون وفيهم أهل الذنوب والمعاصي، وفيهم أهل النفاق فتلقى عليهم الظلمة قبل الصراط وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ويتخلفون عنهم ويسبقهم المؤمنون ويُحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم، ويعطي كل مؤمن نوره بقدر عمله يضيء له الطريق فيمرون على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، وكالريح، ومنهم من يرمل رملاً حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه تَخِرّ يدُ وتعلق يد وتخر رجل وتصيب جوانبه النار(2) وقد دل الكتاب والسنة على المرور على الصراط. قال تعالى: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)) (مريم ، الآية : 72) وقال تعالى: ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)). وقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة قالت حفصة: فقلت يا رسول الله أليس الله يقول: ((وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)) فقال ألم تسمعه قال: ((ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)) (مريم ، الآية : 72). أشار إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من
__________
(1) سيرة عمر لابن الجوزي ، صـ257 .
(2) شرح الطحاوية صـ470 ، الآثار الواردة (1/468) .(3/406)
الشر لا تستلزم حصوله. فالمؤمنون يمرون فوق النار على الصراط ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا، فبين صلى الله عليه وسلم أن الورود هو الورود على الصراط(1)، والحق أن الورود على النار ورودان: ورود الكفار أهل النار، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك، كما قال تعالى: ((يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)) (هود ، الآية : 98). أي بئس المدخل المدخول، والورود الثاني: ورود الموحدين وهو مرورهم(2) على الصراط وهو ما عناه عمر بن عبد العزيز رحمه الله في الأثر الماضي.
__________
(1) شرح الطحاوية صـ471 .
(2) القيامة الكبرى للأشقر صـ278 .(3/407)
6 ـ الجنة والنار: بكى عمر بن عبد العزيز، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم الصبر قالت فاطمة بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم صرخ وغشي عليه(1). وعن سفيان قال: كان عمر بن عبد العزيز يوماً ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: مالك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها ثم بكى(2). وكتب إلى بعض الأجناد.. واعلم أنه ليس يضر عبداً صار إلى رضوان الله وإلى الجنة ما أصابه في الدنيا من فقر وبلاء، وأنه لن ينفع عبداً صار إلى سخط الله وإلى النار ما أصاب في الدنيا من نعمة أو رخاء. وما يجد أهل الجنة من مكروه أصابهم في دنياهم وما يجد أهل النار طعم لذة نعموا بها في دنياهم كل شيء من ذلك لم يكن(3) وعن الفضل بن ربيع قال: سمعت فضيل بن عياض يقول: بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكر طول سهر أهل النار مع خلود الأبد وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر فقال له ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك. لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله تعالى(4)، ومعتقد عمر بن عبد العزيز في الجنة والنار هو ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ)) الانفطار ، الآيتان : 13 ـ 14)، وقال تعالى: ((وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
__________
(1) الرقة والبكاء صـ76 .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ154 .
(3) المصدر نفسه صـ250 ـ 251 ، الآثار الواردة (1/473) .
(4) سيرة عمر صـ124 ـ 125 لابن الجوزي ، الآثار الواردة (1/474) .(3/408)
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى))(طه ، الآيتان : 75 ـ 76). وقال صلى الله عليه وسلم: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة(1).
7 ـ رؤية المؤمنين ربهم في الجنة: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمراء الأجناد: أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله والتمسك بأمره والمعاهدة على ما حملك الله من دينه، ، واستحفظك من كتابه، فإن بتقوى الله نجا أولياؤه من سخطه، وبها تحقق لهم ولايته، وبها وافقوا(2) أنبياءه وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم(3). وهذا المعتقد الذي كان يعتقده عمر بن عبد العزيز في رؤية الله تعالى في الجنة من أعظم النعم بعد نعمة التوفيق والهدايا قال تعالى في وصف المؤمنين في ذلك اليوم: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) (القيامة ، الآيتان : 22 ـ 23) وقال جل شأنه ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) (يونس ، الآية : 26)، وعن صهيب قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) قال" إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ينادي منادٍ يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فقالوا: ألم تبيض وجوهنا وتثقل موازيننا وتجرنا من النار. قال: فيكشف الحجاب فينظروا إليه فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل(4).
سابعاً : الاعتصام بالكتاب والسنة وسنة الخلفاء الراشدين:
__________
(1) مسلم رقم 2866 .
(2) في الحلية وابن الجوزي والملاء : رافقوا بدل وافقوا .
(3) الرد على الجهمية للدارمي صـ103 ، الآثار الواردة م\عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/479) .
(4) مسلم رقم 297 .(3/409)
1 ـ إتباع الكتاب والسنة: لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب: أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله ولزوم كتابه والإقتداء بسنة نبيه وهديه(1)، وليس لأحد في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أمر ولا رأى إلا إنفاذه والمجاهدة عليه(2)... فإن الذي في نفسي وبقيتي في أمر أمة محمد صلى الله عليه ومسلم أن تتبعوا كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأن تجتنبوا ما مالت إليه الأهواء والزيغ البعيد، من عمل بغيرهما فلا كرامة ولا رفعة له في الدنيا والأخرى، وليعلم من عسى أن يذكر له ذلك، ولعمري لأن تموت نفسي في أول نفس أحب إلى من أن أحملهم على غير إتباع كتاب ربهم وسنة نبيهم إلتي عاش عليها من عاش وتوفاه الله عليها حين توفاه ـ إلا أن يأتي علي وأنا حريص على إتباعه ـ وإن أهون الناس علي تلفاً وحزناً لمن عسى أن يريد خلاف شيء من تلك السنة(3). وقال عمر بن عبد العزيز: إن الله فرض فرائض وسنّ سنناً من أخذ بها لحق ومن تركها محق(4). وقال: يا ليتني عملت فيكم بكتاب الله وعملت به، فكلما عملت فيكم بسنة وقع مني عضو، حتى يكون آخر شيء منها، خروج نفسي(5)، واكتب إلى الخوارج:... فإني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم(6). وقال: سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً، الأخذ بها، الاعتصام بكتاب الله وقوة على دين الله، ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها، من اهتد بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ65 ، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/284) .
(2) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ68 ، الكتاب الجامع لسيرة عمر (1/287) .
(3) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ71 الآثار الواردة (2/601) .
(4) محق : أهلكه وأباده ، سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ39 .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ130 ، الآثار الواردة (2/602) .
(6) الآثار الواردة (2/602) .(3/410)
ولاّه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً(1). فهذه الآثار توضح إتباع عمر للكتاب والسنة ولزومهما، وبذل الجهد، والطاقة في تطبيقها، وإن أدى ذلك إلى قطع الأعضاء، وإزهاق النفس وما ذهب إليه عمر هو أصل الدين واساسه قال تعالى: ((فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) (النساء ، الاية : 65) وقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس: إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنتي(2).
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ40 .
(2) موطأ مالك (3/93) والحاكم (1/93) .(3/411)
2 ـ الاعتصام بسنة الخلفاء الراشدين: عن حاجب بن خليفة البرجمي قال: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس وهو خليفة فقال في خطبته: ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه وما سن سواهما فإنا نرجئه(1)، وكتب إلى سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب: من عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أما بعد: فقد ابتليت بما ابتليت به من أمر هذه الأمة من غير مشاورة مني، ولا إرادة يعلم الله ذلك، فإذا أتاك كتابي هذا، فاكتب به سيرة عمر بن الخطاب في أهل القبلة وأهل العهد، فإني سائر بسيرته إن أعانني على ذلك والسلام(2)، وعن عون بن عبد الله، قال: قال لي عمر بن عبد العزيز أعدلان عندك عمر وابن عمر؟ قال: قلت نعم، قال: إنهما لم يكونا يكبران هذا التكبير(3). وعن الأزهري، قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران، قال الزهري، فكان رأي عمر بن عبد العزيز أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته حتى حدثه أبان بن عثمان (عن أبيه): ليس على المجنون ولا السكران طلاق، فقال عمر: تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان بن عفان؟ فجلده وردّ إليه امرأته(4)، وقال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر من بعده سنناً الأخذ بها اعتصام بكتاب الله، قوة على دين ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها، ولا النظر في أمر خالفها من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر فهو منصور، ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً(5)، إن عمر بن عبد العزيز تمسك بسنة رسول الله وخلفائه الراشدين وأعاد للخلافة الراشدة معالمها وملامحها وسار على هديها وعض على سننهم بالنواجز
__________
(1) الحلية (5/298) جامع العلوم والحكم صـ288 .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ108 .
(3) مصنف عبد الرزاق (2/66) الآثار الواردة (2/66) .
(4) المصدر (4/31) الآثار الواردة (2/633) .
(5) سيرة عمر لابن عبد الحكيم صـ40 .(3/412)
ورجع إلى أقوالهم عند النزاع وأخذ بها في الحكم على أهل القبلة وأهل العهد، كما أخذ بها في العبادات والمعاملات وقد أولى الخليفة الأول والثاني أبا بكر وعمر جل اهتمامه، وعدّ الأخذ بسنتهم أخذاً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ بسنة الخليفة الثالث فور سماعه وطبّق تلك السنة، واعتصم بسنة الخليفة الرابع في معاملة الخوارج حيث ناظرهم وكتب إليهم فلما تمادوا حاربهم، وحكم على أموالهم وذراريهم وأسراهم بقضاء الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنهم(1)، بل يرى عمر بن عبد العزيز أن من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة خلفائه الراشدين رضي الله عنهم فهو خارج عن سبيل المؤمنين، وهو من الفرقة الهالكة، وكل ما سنه الخلفاء الراشدون فإنه من سنته صلى الله عليه وسلم لأنهم إنما سنوه بأمره ولا يكون في الدين واجباً إلا ما أوجبه ولا حراماً إلا ما حرمه ولا مستحباً إلا ما استحبه ولا مكروهاً إلا ما أكرهه ولا مباحاً إلا ما أباحه واتباع سنة الخلفاء الراشدين في العقائد والأحكام هو ما عليه السلف الصالح وهو الذي دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) (النساء ، الآية : 115) . وقال صلى الله عليه وسلم: فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة(2). وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم جلوساً فقال: إني لا أدري ما قدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار إلى أبي بكر وعمر(3).
__________
(1) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/637) .
(2) سنن الترمذي (5/44) حديث حسن صحيح .
(3) سنن الترمذي (5/610) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/200) .(3/413)
3 ـ التمسك بما تدل عليه الفطرة:
... عن جعفر بن رقان، قال: جاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فسأله عن شيء من الأهواء فقال: الزم دين الصبي في الكُتّاب والأعرابي، والْهَ عما سوى ذلك(1). وعمر بن عبد العزيز هنا يرى أن العباد مخلوقون على الدين القويم، وأن الانحراف عنه طاريء وحادث، وهذا ما دل عليه القرآن الكريم، قال تعالى: ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) (الروم ، الآية : 30)، وقال صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء(2)، هل تحسون فيها من جدعاء(3)، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنهـ فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم(4). فالفطرة السليمة تقر بخالقها وتحبه وتتذلل له وتخلص له الدين وفيها قوة موجبة لذلك، وكذلك تقرّ بشرعه وتؤثر هذا الشرع على غيره، فهي تعرف هذا الشرع وتشعر به مجملاً ومفصلاً بعض التفصيل فجاءت الرسل تذكرها بذلك وتنبهها عليه وتفصله لها وتبينه وتعرفها الأسباب المعارضة لموجب الفطرة المانعة من اقتضائها أثرها(5).
__________
(1) الطبقات (5/374) شرح اعتقاد أهل السنة رقم 250 .
(2) جمعاء : سليمة من العيوب الأعضاء كاملتها فلا جدع ولا كي .
(3) جدعاء : أي مقطوعة الأطراف أو واحدها .
(4) البخاري رقم 1358 .
(5) شفاء العليل صـ629 ـ 630 .(3/414)
ثامناً : موقفه من الصحابة والخلاف بينهم: عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه أنه قال:: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا لأنه لو كان قولاً واحداً كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم ولو أخذ رجل بقول أحدهم كان في سعة(1). قال أبو عمر رحمه الله هذا فيما كان طريقه الاجتهاد(2)، وسئل عمر بن عبد العزيز عن علي وعثمان وصفين وما كان بينهم فقال: تلك دماء كف الله يدي عنها وأنا أكره أن أغمس لساني فيها(3) وعن محمد بن النضر قال: ذكروا اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عند عمر بن عبد العزيز فقال: أمر أخرج الله أيديكم منه ما تعملون ألسنتكم فيه(4). وعمر بن عبد العزيز كغيره من علماء السلف الصالح حريص على إبراز فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم لا يكون ذلك وقد قال الله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيباًً)) (الفتح ، الآية : 18) ومعتقد أهل السنة: بأن لا يذكر أحد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس أن يلتمس لهم أحسن المخارج ويظن بهم أحسن المذاهب(5)، وقال ابن حجر: واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك ولو عرف المحق منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجراً واحداً وأن المصيب يؤجر أجرين(6)، ومضمون
__________
(1) جامع بيان العلم (2/901 ـ 902) الآثار الواردة (1/410) .
(2) الآثار الواردة (1/410) .
(3) الطبقات (5/394) الآثار الواردة (1/412) .
(4) الطبقات (5/382) الآثار الواردة (5/382) .
(5) الثمر الداني في تقريب المعاني شرح رسالة أبي زيد صـ23 .
(6) فتح الباري (13/34) .(3/415)
الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز توضح معتقده في الصحابة وهو معتقد أهل السنة والجماعة.
تاسعاً : موقفه من أهل البيت: قال ابن القيم أن العلماء اختلفوا في تحديد المراد بأهل البيت على أقوال، قال رحمه الله واختلف في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أربعة أقوال: فقيل هم الذين حرمت عليهم الصدقة وفيهم ثلاثة أقوال:
1 ـ أنهم بنو هاشم وبنو المطلب.
2 ـ أنهم بنو هاشم خاصة.
3 ـ أنهم بنو هاشم ومن فوقهم إلى غالب.
والقول الثاني : أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم ذريته وأزواجه خاصة.
والقول الثالث : أن آله أتباعه إلى يوم القيامة.(3/416)
والقول الرابع: أن آله هم الأتقياء من أمته(1). ثم رجح رحمه الله القول الأول وهو أن آله صلى الله عليه وسلم هم الذين حرمت عليهم الصدقة(2). هذا ويرى الشيعة أن آل النبي صلى الله عليه وسلم هم: علي وفاطمة والحسن والحسين وذريتهما، وقولهم هذا مخالف للنصوص الصحيحة ولا تؤيده اللغة ولا العرف، لأن لفظة أهل البيت وردت في القرآن الكريم في سياق الخطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: ((وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا))(الأحزاب ، الآية : 28) وقد تحدثت عن هذه الآية ورددت على أفهام الشيعة الإمامية لها في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. هذا وقد عرف عمر بن عبد العزيز حقوق أهل البيت المادية والمعنوية وأداها إليهم كافة مستوفاة كاملة بدون بخس ولا شطط(3)، وأزال عنهم المظالم التي وقعت عليهم وأحسن إليهم غاية الإحسان المعنوي والمادي، فعن جويرية بن أسماء قال: سمعت فاطمة بنت علي بن أبي طالب ذكرت عمر بن عبد العزيز، فأكثرت الترحم عليه، وقالت: دخلت عليه وهو أمير المدينة يومئذ فأخرج عني كل خصي وحرسي، حتى لم يبق في البيت غيري وغيره ثم قال: يا بنت علي والله ما على ظهر الأرض أهل بيت أحب إلى منكم ولأنتم أحب إلي من أهل بيتي(4)، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب قال: أول مال قسمه عمر بن عبد العزيز لمال بعث به إلينا أهل البيت فأعطى المرأة منا مثل ما يعطي الرجل وأعطى الصبي مثل ما تعطي المرأة قال:
__________
(1) جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام صـ109 .
(2) المصدر نفسه صـ110 ـ 119 الآثار الواردة (1/428) .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (1/429) .
(4) الطبقات (5/388) .(3/417)
فأصابنا أهل البيت ثلاثة آلاف دينار وكتب لنا: إني إن بقيت لكم أعطيتكم جميع حقوقكم(1)، وعن حسين بن صالح قال: تذاكروا الزهاد عند عمر بن عبد العزيز فقال قائلون فلان وقال قائلون فلان، فقال عمر بن عبد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب رضي الله عنه(2)، فعمر بن عبد العزيز كغيره من السلف الصالح كان قائماً بأداء حقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لما أمر به صلى الله عليه وسلم:... وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي(3)، وقال ابن تيمية: وإن من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ويتولونهم ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته صلى الله عليه وسلم لهم من الحقوق ما يجب رعايتها فإن الله جعل لهم حقاً في الخمس والفيء وأمر بالصلاة عليهم مع الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم(4). والحقوق التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله هي التي حرص عمر بن عبد العزيز رحمه الله على أدائها على الوجه المطلوب شرعاً فرد على آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدك كما قام برد خمس الخمس عليهم كما أطعمهم في الفيء(5)، وقام رحمه الله بالاهتمام بحقوق أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم المادية والمعنوية، حرصاً منه على إتباع ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه وحباً منه لإتباع السلف الصالح(6) رضوان الله عليهم وأما ما تذكره كتب التاريخ أن ولاة بني أمية قتل عمر بن عبد العزيز كانوا يشتمون علي وهذا الأثر الذي ذكره ابن سعد لا يصح، قال ابن سعد: أخبرنا علي بن محمد، عن لوط بن يحي قال: كان الولاة من بني أمية قبل عمر بن عبد العزيز يشتمون رجلاً رضي الله عنه، فلما ولي هو ـ عمر بن عبد العزيز ـ
__________
(1) المصدر نفسه (5/392) .
(2) سيرة عمر صـ292 لابن الجوزي .
(3) مسلم رقم 2408 .
(4) الفتاوى (3/407) .
(5) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (1/433) .
(6) المصدر نفسه (1/435) .(3/418)
أمسك عن ذلك فقال كثير عزة الخزاعي:
... ... ... ... وليت فلم تشتم علياً ولم تخف
... ... ... ... ... ... ... ... برياً ولم تتبع مقالة مجرم
... ... ... ... تكلمت بالحق المبين وإنما
... ... ... ... ... ... ... ... تبين آيات الهدى بالتكلم
... ... ... ... فصدَّقت معروف الذي قلت
... ... ... ... ... ... ... ... بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم(1)
...
... فهذا الأثر واهٍ، فعلي بن محمد هو المدائني فيه ضعف وشيخه لوط بن يحي واهٍ بمرة، قال عنه يحي بن معين: ليس بثقة، وقال أبو حاتم: متروك الحديث وقال الدارقطني أخباري ضعيف ووصفه صاحب الميزان: أخباري تالف لا يوثق به(2). وعامة رواته عن الضعفاء والهلكى والمجاهيل(3) وقداتهم الشيعة معاوية رضي الله عنه بحمل الناس على سب علي رضي الله عنه ولعنه فوق منابر المساجد، فهذه الدعوة لا أساس لها من الصحة، والذي يقصم الظهر أن الباحثين قد التقطوا هذه الفرية على هوانها دون إخضاعها للنقد والتحليل، حتى صارت عند المتأخرين من المُسلَّمات التي لا مجال لمناقشتها علماً بأنها ولم تثبت قط في رواية صحيحة، ولا يعول على ما جاء في كتب الدميري، واليعقوبي، وأبي الفرج الأصفهاني، علماً بأن التاريخ الصحيح يؤكد خلاف ما ذكره هؤلاء(4)، ومن احترام وتقدير معاوية لأمير المؤمنين علي وأهل بيته الأطهار، فحكاية لعن علي على منابر بني أمية لا تتفق مع منطق الحوادث ولا طبيعة المتخاصمين، فإذا رجعنا إلى الكتب التاريخية المعاصرة لبني أمية، فإننا لا نجد فيها ذكراً لشيء من ذلك أبداً، وإنما نجده في كتب المتأخرين الذين كتبوا تاريخهم في عصر بني العباس بقصد أن يسيئوا إلى سمعة بني أمية في نظر الجمهور الإسلامي وقد كتب ذلك المسعودي في مروج الذهب وغيره من
__________
(1) سير أعلام النبلاء (5/147) .
(2) الميزان (3/419) .
(3) دفاعاً عن السلفية صـ 187 .
(4) الحسن والحسين ، محمد رضا صـ18 كلام المحقق د.أحمد أبو الشباب .(3/419)
كتّاب الشيعة وقد تسربت تلك الأكذوبة إلى كتب تاريخ أهل السنة ولا يوجد فيها رواية صحيح، فهذه دعوة مفتقرة إلى صحة النقل، وسلامة السند من الجرح، والمتن من الاعتراض، ومعلوم وزن هذه الدعوة عند المحققين والباحثين، ومعاوية رضي الله عنه بعيد عن مثل هذه التهم بما ثبت من فضله في الدين، وكان محمود السيرة في الأمة أثنى عليه بعض الصحابة ومدحه خيار التابعين، وشهدوا له بالدين والعلم، والعدل والحلم، وسائر خصال الخير(1). وقد ثبت هذا في حق معاوية ـ رضي الله عنه ـ كما أنه من أبعد المحال على من كانت هذه سيرته، أن يحمل الناس على لعن علي رضي الله عنه على المنابر، وهو من هو في الفضل، ومن علم سيرة معاوية ـ رضي الله عنه في الملك وما اشتهر به من الحلم والصفح، وحسن السياسة للرعية ظهر له أن ذلك من أكبر الكذب عليه، فقد بلغ معاوية رضي الله عنه في الحلم مضرب الأمثال، وقدوة الأجيال(2). وقد تحدثت عن هذه الفرية بنوع من التوسع في كتابي خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب. وقد بينت فيه علاقة معاوية بأولاد علي رضي الله عنه بعد استقلاله بالخلافة وما كان بينهم من الألفة والمودة والاحتفاء والتكريم، كما أن المجتمع في عمومه مقيد بأحكام الشريعة حريصاً على تنفيذها ولذلك كانوا أبعد الناس عن الطعن واللعن والقول الفاحش والبذيء. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب الأموات المشركين، فكيف بمن يسب أولياء الله المصلحين، فعن عائشة رضي الله عنها ـ مرفوعاً ـ لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا(3).
المبحث الرابع : موقف عمر بن عبد العزيز من الخوارج والشيعة والقدرية، والمرجئة والجهمية:
أولاً : الخوارج:
__________
(1) الانتصار للصحب والآل صـ367 للرحيلي .
(2) خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي بن أبي طالب صـ303 .
(3) البخاري رقم 6516 .(3/420)
برزت هذه الفرقة أثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبالتحديد عام 37هـ بعد معركة صفين وقبول علي رضي الله عنه تحكيم الحكمين وقد تحدثت عن هذه الفرقة بشيء من التفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن أهم آرائهم الاعتقادية:
1 ـ تكفير علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعثمان بن عفان رضي الله عنه والحكمين رضي الله عنهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص.
2 ـ القول بالخروج على الإمام الجائر.
3 ـ قولهم بتكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار(1).
... هذه المباديء الثلاثة هي جوهر اعتقاد الخوارج، وليس بينهم في ذلك خلاف إلا خلافاً لبعضهم في تطبيق هذه المباديء(2). يقول أبو الحسن الأشعري في حكاية ما أجمع عليه الخوارج من الآراء: أجمعت الخوارج على إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن حكم وهم مختلفون هل كفره شرك أم لا؟
... وأجمعوا على: أن كل كبيرة كفر إلا النجدات(3)، فإنها لا تقول ذلك. وأجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى يعذب أصحاب الكبائر عذاباً دائماً إلا النجدات أصحاب نجدة(4)، وقال المقدسي في ذلك: وأصل مذهبهم: إكفار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والتبرؤ من عثمان بن عفان، والتكفير بالذنب، والخروج على الإمام الجائر(5).
__________
(1) وسطية أهل السنة بين الفرق صـ291 .
(2) المصدر نفسه صـ291 .
(3) النجدات: اتباع نجدة بن عامر الحنفي المقتول 69هـ فرقة من فرق الخوارج .
(4) المقالات (1/167 ـ 168) .
(5) البدء والتاريخ (5/135) وسطية أهل السنة في الفرق صـ292 .(3/421)
... استمر الخوارج في حربهم للدولة الأموية أحياناً ينشطون وفي الغالب، تتغلب عليهم الدولة بالقوة وتكسر شوكتهم إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز فدخل معهم في محاورات ونقاشات واستخدم معهم القوة عند اللزوم، وكان عمر بن عبد العزيز يذم الجدال المذموم ويناظر ويجادل بالتي هي أحسن، فقد قال: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل(1). وقال: احذروا المراء فإنه لا تؤمنه فتنة ولا تفهم حكمته(2)، وقال قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع(3)، فقد كان رحمه الله ينهى عن المراء العقيم ويحث على الجدال بالتي هي أحسن وقد كان لعمر بن عبد العزيز مواقف مشهورة واقوال مأثورة في التعامل مع الخوارج ومناظرتهم ودحض شبهاتهم بالحجة وآرائهم بالدليل وإيضاح الحق لهم ودليله حباً منه للسنة وإتباعاً للسلف الصالح رحمة الله عليهم(4).
__________
(1) ابن أبي الدنيا ، ك الصمت وآداب اللسان صـ116 الطبقات (5/371) .
(2) سيرة عمر لابن الجوزي صـ293 ، الحلية (5/325) .
(3) سيرة عمر لابن الجوزي صـ291 الآثار الواردة (2/671) .
(4) الآثار الواردة عن عمر في العقيدة (2/693) .(3/422)
1 ـ موقفه من خروج الخوارج عليه: عن هشام بن يحي الغساني، عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إليه في الخوارج إن كان من رأي القوم أن يسيحوا في الأرض من غير فساد على الأئمة ولا على أحد من أهل الذمة، ولا يتناولون أحداً، ولا قطع سبيل من سبل المسلمين فليذهبوا حيث شاءوا وإن كان رأيهم القتال فوالله لو أن أبكاري من ولدي خرجوا رغبة عن جماعة المسلمين لأرقت دماءهم ألتمس بذلك وجه الله والدار الآخرة(1). وجاء في رواية: أقسم بالله لو كنتم أبكاري من أولادي ورغبتم عما فرشنا للعامة فيما ولينا لدفقت دماءكم ابتغي بذلك وجه الله الدار الآخرة، فإنه يقول: ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين)) (القصص ، الآية : 83)، فهذا النصح إن أحببتم وإن تستغشوني فقديماً ما استغش الناصحون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(2)، يتبين من الآثار السابقة منهج عمر بن عبد العزيز في التعامل مع الخوارج، فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، وإنما كتب إليهم وحذرهم من الخروج عن الجماعة الذين هم أهل الحق، لقد أمر الله تبارك بالاجتماع ونهى عن التفرق وأمر بلزوم الجماعة ونهى عن الخروج عنها وجعل إجماع هذه الأمة حجة فإذا اجتمعوا على أمير وجب طاعته وحرم الخروج عليه ما لم يأمر بمعصية ولم يظهر كفراً بواحاً(3)، والآثار المروية عن عمر بن عبد العزيز هنا تبين منهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الخوارج الذين هم أوائل الفرق ظهوراً في الإسلام فمع خروجهم عليه وهو الخليفة الحق لم يحركهم، ولم يرسل عليهم الحملة تلو الحملة، وإنما عاملهم معاملة أتاحت لهم الفرصة في الرجوع إلى الحق مستناً بسنن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ75 ، سيرة عمر لابن الجوزي صـ99 ـ 100 .
(2) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/695) .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/695) .(3/423)
معاملة الخوارج حين خرجوا عليه(1).
2 ـ مناظرته للخوارج: تبين موقف عمر ابن عبد العزيز من الخوارج عموماً فيما سبق وفي هذا المبحث يتضح موقفه من الذين كتبوا إليه وكتب إليهم طالباً المناظرة معهم، إذا كانوا مستعدين لذلك، وقد وجد من بعضهم استجابة قال ابن عبد الحكم: كتب عمر بن عبد العزيز إلى الخوارج: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى هذه العصابة، أما بعد: أوصيكم بتقوى الله فإنه ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًاً * ويََرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَوكّلْ عَلَى الله فَهَوَ حَسَبُه إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)) (الطلاق ، الآيتان : 2 ، 3). أما بعد: فقد بلغني كتابكم والذي كتبتم فيه إلى يحي بن يحي، وسليمان بن داود الذي أتى إليهما وإن الله تبارك وتعالى يقول: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (الصف ، الآية : 7)، وقال تعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) (النحل ، الآية 125)، وقال تعالى ((فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)) (محمد ، الآية : 35). وإني أدعوكم إلى الله وإلى الإسلام وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر إن شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وادعوكم أن تدعو ما كانت تهراق عليه الدماء قبل يومكم هذا بغير قوة ولا تشنيع، وأذكركم بالله أن تشبهوا علينا كتاب الله وسنة نبيه، ونحن ندعوكم إليهما. هذه
__________
(1) المصدر نفسه (2/696 ، 697) .(3/424)
نصيحة منا نصحنا لكم فإن تقبلوها فذلك بغيتنا، وإن تردوها على من جاء بها فقديماً ما استغش الناصحون، ثم لم نر ذلك وضع شيئاً من حق الله قال العبد الصالح لقومه: ((وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ)) (هود ، الآية : 3). وقال الله عز وجل: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف ، الآية : 108)(1). وجاء في رواية وكتب عمر كتاب إلى الخوارج فلما قرؤوها قالوا نوجه رجلين يكلمانه فإن أجابنا فذاك، وإن أبا كان الله من ورائه، فأرسلوا مولى لبني شيبان يقال له عاصم ورجلاً من بني يشكر من أنفسهم فلما دخلا عليه قالا: السلام عليكم وجلسا، وقال لهما عمر: أخبراني ما أخرجكما مخرجكما هذا؟ وأي شيء نقمتم علينا؟ قال عاصم وكان حبشياً: ما نقمنا عليك في سيرتك لتحري العدل والإحسان فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر أعن رضا من المسلمين ومشورة أم ابتززتهم إمرتهم؟، قال ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم على مشيئتهم وعهد إليّ رجل عهداً لم أسأله قط لا في سر ولا علانية فقمت به ولم ينكره عليّ أحد ولم يكرهه غيركم وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فأنزلوني ذلك الرجل فإن خالفت الحق وزغت عنه فلا طاعة لي عليكم، قالا: بيننا وبينك أمر إن أعطيتناه فأنت منا ونحن منك، وإن منعتنا فلست منا ولسنا منك. قال عمر: وما هو؟ قالا: رأيتك خالفت أعمال أهل بيتك وسلكت غير طريقهم وسميتها مظالم، فإن زعمت إنك على هدى وهم على ضلال فابرأ منهم وألعنهم، فهو الذي يجمع بيننا وبينك أو يفرق، قال: فتكلم عمر عند ذلك، فقال: إني قد عرفت أو ظننت أنكم لم تخرجوا لطلب الدنيا، ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ79 ـ 80 وسيرة عمر لابن الجوزي صـ99 ، الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز (2/701) .(3/425)
سبيلها. وأنا سائلكم عن أمر فبالله لتصدقاني عنه فيما بلغكم علمكما. قالا: نفعل. قال: أرأيتم أبا بكر وعمر أليسا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهما بالنجاة؟ قالا: بلا. فقال: هل تعلمون أن العرب ارتدت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتلهم أبا بكر فسفك الدماء وسبى الذراري وأخذ الأموال؟ قالا: قد كان ذاك. قال: فهل تعلمون أن عمر لما قام بعده رد تلك السبايا إلى عشائرهم؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أبو بكر من عمر أو عمر من أبي بكر؟ قالا: لا قال: فهل تبرأون من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: أخبراني عن أهل النهروان أليسوا من أسلافكم وممن تتولون وتشهدون لهم بالنجاة؟ قالا: بلا.؟ قال: فهل تعلمون أن أهل الكوفة حين خرجوا إليهم كفوا أيديهم فلم يخيفوا أمناً، ولم يسفكوا دماً، ولم يأخذوا مالاً؟ قالا: قد كان ذلك. قال: فهل تعلمون أن أهل البصرة حين خرجوا إليهم مع عبد الله بن وهب الراسبي(1)، واستعرضوا الناس فقتلوهم وعرضوا لعبد الله بن خباب(2)، صاحب رسول الله فقتلوه وقتلوا جاريته، ثم صبحوا حياً من العرب يقال لهم بنو قطيعة فاستعرضوهم فقتلوا الرجال والنساء والولدان حتى جعلوا يلقون الأطفال في قدور الإقط وهي تفور بهم، قالا: قد كان ذلك. قال: فهل بريء أهل الكوفة من أهل البصرة؟ أو أهل البصرة من أهل الكوفة؟ قالا: لا. قال: فهل تبرأون من طائفة منهما. قالا: لا. قال عمر: أخبراني أرأيتم الدين واحداً أم أثنين؟ قالا: بل واحد. قال: فهل يسعكم فيه شيء يعجز عني؟ قال: لا. قال: فكيف وسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وتولى كل واحد منهما صاحبه وقد اختلفت سيرتهما؟ أم كيف وسع أهل الكوفة أن تولوا أهل البصرة واهل البصرة أهل الكوفة وقد اختلفوا في أعظم الأشياء: في الدماء والفروج الأموال، ولا يسعني بزعمكما إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم، فإن كان لعن أهل الذنوب فريضة مفروضة لابد منها
__________
(1) الآثار الواردة (2/703) .
(2) المصدر نفسه .(3/426)
فأخبرني عنك أيها المتكلم متى عهدك بلعن فرعون، ويقال: بلعن هامان؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال: ويحك فيسعك ترك لعن فرعون، ولا يسعني بزعمك إلا لعن أهل بيتي والبراءة منهم؟ ويحك أنهم قوم جهال. أردتم أمراً فأخطأتموه، فأنتم تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتردون عليهم ما قبل منهم، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده. قال: ما نحن كذلك. قال: بلى تقرون بذلك الآن. هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس وهم عبدة أوثان فدعاهم إلى أن يخلعوا الأوثان، وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فمن فعل ذلك حقن دمه وأمن عنده، وكان أسوة المسلمين ومن أبى ذلك جاهده؟ قالا: بلى. قال: أفلستم أنتم اليوم تبرأون ممن يخلع الأوثان وممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله. وتلعنونه وتقتلونه وتستحلون دمه وتلقون من يأبى ذلك من سائر الأمم من اليهود والنصارى فتحرمون دمه ويأمن عندكم؟ فقال الحبشي: ما رأيت حجة أبين ولا أقرب مأخذاً من حجتك، أما أنا فأشهد أنك على الحق وأنني بريء ممن خالفك. وقال للشيباني فأنت ما تقول؟ قال: ما أحسن ما قلت وأحسن ما وصفت ولكن أكره أن أفتات على المسلمين بأمر لا أدري ما حجتهم فيه حتى أرجع إليهم فلعل عندهم حجة لا أعرفها. قال: فأنت أعلم. قال: فأمر للحبشي بعطائه وأقام عنده خمس عشرة ليلة ثم مات ولحق الشيباني بقومه فقتل معهم(1). وجاء في رواية ودخل رجلان من الخوارج على عمر بن عبد العزيز فقالا: السلام عليك يا إنسان، فقال وعليكما السلام يا إنسانان قالا: طاعة الله أحق ما اتبعت. قال: من جهل ذلك ضل. قالا: الأموال لا تكون دولة بين الأغنياء. قال: قد حرموها. قالا: مال الله يقسم على أهله. قال: الله بين في كتابه تفصيل ذلك. قالا: تقام الصلاة لوقتها. قال: هو من حقها. قالا:
__________
(1) أنساب الأشراف (8/211 ـ 215) الآثار الواردة (2/704) .(3/427)
إقامة الصفوف في الصلوات. قال: هو من تمام السنة. قالا: إنما بعثنا إليك. قال: بلغا ولا تهابا. قالا: ضع الحق بين الناس. قال: الله أمر به قبلكما. قالا: لا حكم إلا لله. قال: كلمة حق إن لم تبتغوا بها باطلاً. قالا: ائتمن الأمناء. قال: هم أعواني. قالا: احذر الخيانة. قال السارق محذور. قالا: فالخمر ولحم الخنزير. قال: أهل الشرك أحق به. قالا: فمن دخل في الإسلام فقد أمن. قال: لولا الإسلام ما أمنا. قالا: أهل عهود رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لهم عهودهم. قالا: لا تكلفهم فوق طاقاتهم. قال: ((لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)) (البقرة، الآية : 286). قالا: ذكرنا بالقرآن. قال: ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ)) (البقرة، الآية : 281). قالا: تردنا على دواب البريد. قال: لا هو من مال الله لا نطيبه لكما. قالا: فليس معنا نفقة. قال: أنتما إذن إبنا سبيل على نفقتكما(1)، وعن أرطأة بن المنذر قال: سمعت أبا عون يقول: دخل ناس من الحرورية على عمر بن عبد العزيز فذاكروه شيئاً، فأشار إليه بعض جلسائه أن يرعبهم، ويتغير عليهم فلم يزل عمر بن عبد العزيز يرفق بهم حتى أخذ عليهم ورضوا منه أن يرزقهم ويكسوهم ما بقي فخرجوا على ذلك فلما خرجوا ضرب عمر ركبة رجل يليه من أصحابه فقال: يا فلان إذا قدرت على دواء تشفي به صاحبك دون الكي فلا تكوينه أبداً(2). وجاء في رواية: عندما خرج شوذب واسمه بسطام من بني يشكر على عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق في خلافة عمر بن عبد العزيز، وكان مخرجه بجوخي(3)في ثمانين فارساً أكثرهم من ربيعة، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد ألا تحركهم إلا أن يسفكوا دما، أو يفسدوا في الأرض، فإن
__________
(1) سيرة عمر لابن عبد الحكم صـ147 ، الآثار الواردة (2/677) .
(2) سيرة عمرة لابن الجوزي صـ81 ، الآثار الواردة (2/705) .
(3) جُوخي : بضم والكسر وقد يفتح: نهر بالجانب الشرقي من بغداد .(3/428)
فعلوا فحل بينهم وبين ذلك، وانظر رجلاً صليباً حازماً فوجهه إليهم، ووجه معه جندا. وأوصه بما أمرتك به، فعقد عبد الحميد لمحمد بن جرير بن عبد الله البجلي في ألفين من أهل الكوفة، وأمره بما أمره به عمر، وكتب عمر إلى بسطام يدعوه ويسأله عن مخرجه، فقدم كتاب عمر عليه. وقد قدم عليه محمد بن جرير، فقام بإزائه لا يحركه ولا يهيجه، فكان في كتاب عمر إليه: إنه بلغني أنك خرجت غضباً لله ولنبيه، ولست بأولى بذلك مني. فهلم أناظرك فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك، فلم يحرك بسطام شيئاً وكتب إلى عمر: قد أنصفت، وقد بعثت إليك رجلين يدارسانك ويناظرانك قال أبو عبيدة: معمر بن المثنى: الرجلين اللذين بعثهما شوذب إلى عمر مخدوج مولى بني شيبان، والآخر من صليبة بني يشكر ـ قال: فيقال: أرسل نفراً فيهما هذان، فأرسل إليهم عمر: أن اختاروا رجلين فاختاروهما، فدخلا عليه فناظره، فقالا له: أخبرنا عن يزيد لم تقره خليفة بعدك؟ قال: صيره غيري، قالا: أفرأيت لو وليت مالا لغيرك، ثم وكلته إلى غير مأمون عليه، أتراك كنت أديت الأمانة إلى من ائتمن(1)، وتذكر الروايات تخميناً: إن بني مروان خافوا أن يخرج عمر ما عندهم وما في أيديهم من الأموال، وأن يخلع يزيد بن عبد الملك، فدسوا عليه من سقاه سماً، فلم يلبث أن مات في اليوم الذي تقرر أن يعطي فيه جوابه للمتفاوضين(2). يتضح من الآثار السابقة أن عمر بن عبد العزيز سلك معهم المسلك الصحيح الذي تبعه سلفنا الصالح كابن عباس وأمير المؤمنين علي رضي الله عنهما ويبدو أن عمر قد طمع في رجوع هؤلاء الخوارج ولذلك لم يترك لهم شبهة إلا كسرها وبين زيفها وكشف عوارها(3)، ولم يجادلهم في الحق الذي معهم ولكنه طلب مهلة إلا أنه مات قبل
__________
(1) تاريخ الطبري (7/460) .
(2) المصدر نفسه (7/460) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ97 .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/711) .(3/429)
انتهائها، وعندما استخدم خوارج العراق القوة ضد واليه عبد الحميد وتمكن الخوارج من دحر جيش الوالي، أسرع عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الخوارج مسلمة بن عبد الملك على رأس جيش من أهل الشام، وكتب إلى عبد الحميد: قد بلغني ما فعله جيشك، جيش السوء، وقد بعثت مسلمة فخل بينه وبينهم، وتقدم مسلمة على رأس قواته إلى حيث عسكر الخوارج ودارت معركة بين الطرفين انتهت بانتصار جيش الخلافة(1). إن اضطرار عمر إلى استخدام القوة إزاء فئة من الخوارج، لم يدفعه أبداً إلى تطبيق أسلوب الشدة تجاه كل الخوارج، فما دام خصمه مستعد للحوار، فلا داعي أبداً لإراقة الدماء(2).
3 ـ السبب المفضي لقتال الخوارج: لم يأمر عمر بن عبد العزيز بقتال الخوارج لما اختلفوا معه في الرأي ولا عندما عارضوه وسبوه، بل صبر عليهم لعل الله أن يهديهم إلى الصواب، ثم لما وصلوا إلى مرحلة خطيرة وهي أخذ المال وإخافة السبيل وسفك الدماء عند ذلك أمر بقتالهم(3).
4 ـ رد متاع الخوارج إلى أهليهم: لم يسب عمر بن عبد العزيز نساء الخوارج وذراريهم ولم يستحل أموالهم، بل أمر برد متاعهم إلى أهليهم، فقد كتب إلى عامله في الخوارج: فإن أظفرك الله بهم وأدالك عليهم فرد ما أصبت من متاعهم إلى أهليهم(4)، وهذا رأي علي بن أبي طالب فيهم في عدم سبي ذرية ونساء الخوارج وعدم استحلال أموالهم(5).
__________
(1) الطبقات (5/358) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ94 .
(2) ملامح الانقلاب الإسلامي صـ94 .
(3) فقه عمر بن عبد العزيز (2/469) د. محمد شقير .
(4) المصدر نفسه (2/471) .
(5) المصدر نفسه (2/471) .(3/430)
5 ـ حبس أسرى الخوارج حتى يحدثوا خير: فلما قاتلهم، فقتل منهم من قتل، واسر منهم من أسر، أمر عمر بن عبد العزيز بسجنهم حتى يحدثوا خيراً، من الرجوع إلى الحق والتخلي عن أفكارهم الضالة(1)، فلقد مات عمر بن عبد العزيز وفي حبسه منهم عدة(2). فهذا منهج وفقه عمر بن عبد العزيز في التعامل مع المعارضين من الخوارج.
ثانياً : الشيعة: تذكر في الإصلاح كإسم لكل من فضل علياً رضي الله عنه على الخلفاء الراشدين قبله رضي الله عنهم جميعاً ورأى أهل بيته أحق بالخلافة(3)، وقد تحدثت عن الشيعة بالتفصيل في كتابي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه. والشيعة فرق عديدة منهم الغلاة الذين خرجوا عن الإسلام وهم يدعونه ويدعون التشيع، ومنهم دون ذلك ومن أهم فرقهم: الكسيانية، والسبئية والإمامية وغيرها. وكان لعمر بن عبد العزيز أقوال في الشيعة الغلاة، فقد قال عمر بن عبد العزيز: إني لا أعرف صلاح بني هاشم وفسادهم بحب كُثير(4)، فمن أحبه منهم فهو فاسد، ومن أبغضه فهو صالح لأنه كان خشبياً يؤمن بالرجعة(5)، وجاء عمر بن عبد العزيز كتاب من عامله على الكوفة يخبره بسوء طاعة أهلها فرد عمر: لا تطلب طاعة من خذل علياً رضي الله عنه وكان إماماً مرضياً(6)، وعن إسحاق بن طلحة بن أشعث قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال: أقرئهم ولا تستقرئهم وحدثهم ولا سمع منهم، وعلمهم ولا تتعلم منهم. فقد كان عمر بن عبد العزيز على معرفة بعقيدة كثير الشاعر ويؤيدها ما يروى أن كثير عزة له أبيات يثبت فيها عقيدته الفاسدة في الغلو في أهل البيت مثل قوله: ألا إن الأئمة من قريش
__________
(1) المصدر نفسه (2/473) .
(2) الطبقات (5/5/358 ـ 359) فقه عمر بن عبد العزيز (2/473) .
(3) مقالات الإسلاميين صـ65 ، الآثار الواردة (2/727) .
(4) تاريخ الإسلام نقلاً عن الآثار الواردة (2/728) .
(5) المصدر نفسه (2/728) .
(6) تاريخ دمشق نقلاً عن الآثار الواردة (2/729) .(3/431)
... ... ... ... ... ... ... ... ولاة الحق أربعة سواء
... ... ... ... ... علي والثلاثة من بنيه
... ... ... ... ... ... ... ... هم الأسباط ليس بهم خفاء
... ... ... ... ... فسبط سبط إيمان وبر
... ... ... ... ... ... ... ... وسبط غيبته كربلاء
... ... ... ... ... وسبط لا يذوق الموت حتى
... ... ... ... ... ... ... ... يقود الخيل يقدمها اللواء(1)
... قال الذهبي قال الزبير بن بكار عن كثير: كان شيعياً يقول بتناسخ الأرواح ويقرأ ((فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)) (الانفطار ، الآية : 8) قال: وكان خشبياً يؤمن بالرجعة يعني رجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا(2). ولم يهتم عمر بالرد على ما كان يراه كثير وغيره من الشيعة الغلاة كما اهتم بالرد على القدرية والخوارج، وحذر عمر بن عبد العزيز من مخالطة ومجالسة أصحاب البدع والأهواء(3)، ومن أشهر آراء الشيعة الغلاة:
ـ ... القول بوجوب إمامة علي رضي الله عنه، وتقديمه وتفضيله على سائر الصحابة وأن الرسول نص على إمامته.
ـ ... القول بعصمة الأنبياء والأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر.
ـ ... القول بالتولي والتبري قولاً وفعلاً، أي تولي علي رضي الله عنه والتبري من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولاسيما الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم(4)، ومن أراد الرد على هذه المعتقدات فليراجع كتابي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ثالثاً : القدرية في عهد عمر بن عبد العزيز:
1 ـ تعريف القدرية في الاصطلاح: للقدرية إطلاقات، خاص وعام
__________
(1) الفرق بين الفرق نقلاً عن الآثار الواردة (2/734) .
(2) تاريخ الإسلام نقلاً عن الآثار الواردة (2/734) والخشبية فرقة من الشيعة سموا بذلك لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب منهاج السنة (1/36) .
(3) الآثار الواردة عن عمر بن عبد العزيز في العقيدة (2/733 ، 734) .
(4) وسطية أهل الشيعة بين الفرق صـ293 ، 294 .(3/432)
أ ـ فالقدرية بالمعنى الخاص: هم المنكرون للقدر: أي المكذبون بتقدير الله تعالى لأفعال العباد أو بعضها أي: الذين قالوا: لا قدر (من الله) والأمر أنف أي مستأنف ليس لله فيه تقدير سابق كما سيأتي بيانه بإذن الله.
ب ـ القدرية بالمعنى العام: هم الخائضون في علم الله تعالى وكتابته ومشيئته وتقديره وخلقه بغير علم، وبخلاف مقتضى النصوص وفهم السلف(1)
2 ـ نشأة القول بالقدر في الإسلام:
... عن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث أخاف على أمتي الاستسقاء بالأنوار، وحيف السلطان، وتكذيب بالقدر(2)، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من المراء والجدل في الدين عموماً وفي القدر على جهة الخصوص، وعن ضرب آيات الله والأحاديث الصحيحة بعضها ببعض، وعن إثارة الشبهات والمعارضات في نصوص القدر من ذلك ما رواه أحمد في المسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج رسول الله ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال: فكأنما تفقأ في وجهه حبّ الرمان من الغضب قال: فقال لهم: مالكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم(3).
ب ـ تتابع الفرق ومقالاتها في القرن الأول إلى ظهور القدرية:
... بعد ظهور الفرق الأولى سنة (37 ـ 40هـ) الخوارج والشيعة بقي الحال على هذا إلى ما بعد سنة (62هـ) حيث بزغ نجم القدرية النصرانية والمجوسية حين نبغ بها بعد معبد الجهني ثم توالت المقولات على منوالها تترى، أو كما قال ابن تيمية: فالبدع تكون في أولها شبراً ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذراعاً وأميالاً وفراسخ(4).
__________
(1) القدرية والمرجئة د. ناصر العقل صـ19 .
(2) مسند أحمد (5/90) صححه الألباني في سلسلة الصحيحة رقم 1127 .
(3) مسند أحمد (2/178 ، 196) قال صاحب الزوائد : هذا إسناد رجاله ثقات .
(4) الفتاوى (8/425) .(3/433)
ج ـ ظهور القدرية الأولى: وتتمثل في مقولات معبد الجهني ت(80)هـ وأتباعه، ثم غيلان الدمشقي وأتباعه (105)هـ وتتلخص بأن الله تعالى (بزعمهم) لم بقدِّر أفعال العباد ولم يكتبها، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) لم يكن في علم الله ولا تقديره السابق، وكانت بدايات كلامهم في هذا بعد سنة 63هـ وهو تاريخ نشأة القدرية الأولى، إذن فالقدرية الأولى هم: الذين أنكروا علم الله السابق، وزعموا أنه تعالى لم يقدر أفعال العباد سلفاً ولم يعلمها ولم يكتبها في اللوح المحفوظ، وأن الأمر أنف (أي مستأنف) ليس بتقدير سابق من الله تعالى مما استقل العباد بفعلها وهذه مقولة غالية في القدر حيث تنكر العلم والكتابة وتقدير عموم أفعال المكلفين خيرها وشرّها فيما يظهر، هذا أول أمرهم، فلما أنكر الأئمة هذا القول صار جمهور القدرية يقرون بالعلم المتقدم والكتاب السابق، لكن ينكرون عموم مشيئة الله وقدرته وخلقه لأفعال العباد فأنكروا أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد أو بعضها وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، هذا ما استقرت عليه القدرية الثانية وعلى رأسهم المعتزلة(1).
... وكانت مقالات القدرية الأولى تتخلص في قولين.
ـ ... إن الأمر أنف ((أي مستأنف)) ويعنون بذلك أفعال المكلفين(2) فيزعمون أن الله تعالى لم يقدرها ولم يعلمها إلا أثناء حدوثها من المكلف ويفسره الثاني.
ـ ... قولهم: إن الله تعالى لم يقدر الكتابة (أي في اللوح المحفوظ) ولا الأعمال(3)،، في السابق.
س ـ رؤوس القدرية الأولى:
ـ ... معبد الجهني ت(80)هـ: ساق ابن حجر في تهذيب التهذيب أقوال بعض أهل الجرح والتعديل فيه فقال: وقال أبو حاتم: كان صدوقاً في الحديث وكان أول من تكلم في القدر بالبصرة وكان رأساً في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناساً(4).
__________
(1) القدرية والمرجئة ، ناصر العقل صـ25 .
(2) الفتاوى (7/385) .
(3) المصدر السابق نقلاً عن القدرية والمرجئة صـ30 .
(4) تهذيب التهذيب (10/225) .(3/434)