بسم الله الرحمن الرحيم
الكتاب : البهجة التوفيقية في تاريخ مؤسس العائلة الخديوية
المؤلف : محمد فريد بك
دار النشر : دارالكتب والوثائق القومية - القاهرة / مصر - 1426هـ /2005 م
الطبعة : الثانية
تحقيق : د .أحمد زكريا الشلق
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ](1/28)
"""""" صفحة رقم 29 """"""
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم المؤلف
الحمد لله الذي جعل فن التاريخ عبرة لمن اعتبر وتبصرة لمن تأمل وادّكر
والصلاة والسلام من الملك السلام على نبينا محمد سيد ولد عدنان القائل حب
الوطن من الإيمان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعترته وحزبه ، من خاضوا
الفيافي والقفار حتى جاء تاريخهم من أحسن الآثار .
( أما بعد ) فأقول وأنا المتوكل على مولاى المبدئ المعيد عبده محمد فريد
غفر الله له ولوالديه ولأرباب الحقوق عليه : لما كان لفن التاريخ فوائد جمة
وثمرات مهمة تعرب عما مضى من كوارث الأزمان والأوقات وتكشف عن
وجوه الحوادث قناع الشبهات فلكثرة نفعه وعظم وقعه كان له في الكتاب
المبين أصل قوى متين . قال الله تعالى : ' يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما
أنزلت التوارة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ' استدل على بطلان دعوى
اليهود في إبراهيم أنه يهودىّ وبطلان دعوى النصارى أنه نصراني بأن التوراة
والإنجيل إنما نزلا من بعده ، ولله الحجة البالغة والحكمة الدامغة إذ لولا التاريخ
لجهلت الدول ومات في الأيام الأخر ذكر الأول ، عنّ لى مع قلة بضاعتي
وكساد صناعتي أن أؤلف في وطني العزيز مختصر تاريخ وجيز يدل على فضل
جنتمكان محمد علي باشا الكبير على الشأن من هو أكبر مؤسس لديارنا المصرية
وأشهر مهندس لخططها النيلية على أحسن الوجوه كما يشهد له بذلك الوجوه ،
برّد الله مضجعه ، وجعل في رياض النعيم مرتعه .
وحيث كنت ممن تربى في المدارس الخديوية ذات الشهرة المرضية رأيت أن
أعتني بتأليف هذا الكتاب قياماً للوطن بواجب أداء الخدمة وشكراً لما للحضرة
التوفيقية على جميعنا من النعمة ، حملني على ذلك انتشار المعارف والعلوم التي(1/29)
"""""" صفحة رقم 30 """"""
أصبحنا نتسابق في مضمار حلبتها يوماً عن يوم ، وانتزع ما كان اعترى هممنا
من الفتور وخرجنا من الظلمات إلى النور بعناية خديو مصر الأعظم وعزيزها
الأكرم ذي العلم الآصفى والحلم الأحنفى والذكاء الأياسي والرأي الذي هو
لداء الأعداء الألدّاء ، وإن أعضل أعظم آسى ، الشهم القوي الجنان والسهم
النافذ في أكباد أهل العناد وإن كان مجبولاً على الرأفة والحنان ، من تغنت بلابل
الأفكار من أمداحه بفنون ، وترنمت سواجع الأطيار من الثناء عليه بما أرقص
معاطف الغصون ، المتحلى بآداب السنة والكتاب ، المتخلى عن الميل مع الهوى
وهو في ريعان الشباب ، ذى الفضل الجم والبيان الذي أفحم بلغاء عصره وألجم
من سكنت هيبته ومحبته قلوب الخاص والعام وأغدق على أرباب دولته
بالتشاريف والانعام ، فكان قبولها دليل إقبالها وتلقيها بحول الله وقوّته أصل
استقبالها ، فكانت على الدوام هي أولى له وهو أولى بها ألا هو سيد ولاة
الأمصار ، المعطر ذكره الذي ذاع في سائر الأقطار ، الجدير بالمدح على التحقيق ،
أفندينا خديو مصر ( محمد باشا توفيق ) حفظ الله دولته وأنجاله وحرس بعينه
التي لا تنام نظاره الكرام ورجال دولته الفخام والله المرجوّ لبلوغ كل مرام ومنه
جلت قدرته الإعانة في المبدأ وعليه حسن الختام .(1/30)
"""""" صفحة رقم 31 """"""
( المقدمة )
- مجيء محمد علي إلى مصر وتوليته
ولد ممدّن مصر المغفور له محمد على باشا في مدينة قولة سنة 1182
هجرية الموافقة سنة 1769 ميلادية وتوفي والده وهو في حداثة سنه وقام بتربيته
بعده عمه طوسون أغا ، كافل أمر ضبط هذه المدينة إلى أن قضى نحبه فقيض الله
له أحد أصدقاء والده للقيام بكفالته وكان ضابطاً بجيش الإنكشارية ومقيماً
بفرقته في مدينة ( براوستا ) بالقرب من قوله بصفة حاكم وجاب للخراج ، فرباه
مع ولده إلى أن بلغ أشدّه وصار يمرّنه على قضاء بعض مهماتهُ التي تتعلق
بوظيفته ، فوجد منه عضداً ومعيناً فيها في بعض القرى التي لا تؤدي ما عليها إلا
بالتهديد الشديد أو استعمال القوى العسكرية ، فلم يزل كذلك حتى بلغ من
العمر ثمان عشرة سنة وذلك يوافق ( 1787 ) فزوّجه بإحدى قريباته ليربطه
بعائلته ، وكانت زوجته ذات يسار فاشتعل بتجارة الدخان حيث كان يزرع في
هذه الجهة كثيراً ، وساعده على ذلك ما كان بينه وبين أحد التجار الفرنساويين
من العلائق الودّية فبرع فيها حتى ربح منها كثيراً ونال شهرة جليلة بين تجار
هذا الصنف .(1/31)
"""""" صفحة رقم 32 """"""
مجيء محمد على باشا إلى مصر :
لما احتل الفرنساويون مصر تحت قيادة بونابرت في سنة 1798 أرسل
الباب العالي إلى الأقاليم والبلدان جميعها بتجهيز الجند لإخراجهم منها ، وطلب
أيضاً من حاكم ( براوستا ) ثلثمائة جندي فجمعهم ، وجعل ولده علي أغا قائداً
لهم والمرحوم محمد علي باشا قائم مقام له .
فسارت هذه الكتيبة مع الدونانمة العثمانية إلى سواحل مصر حيث نزل
الجيش بأبي قير في يوم 14 يوليو سنة 1799 . وكان الجيش العثماني مؤلفاً من
ثمانية عشر ألف مقاتل ومعه مدافع كثيرة من الطراز الجديد يتولاها ضباط من
الإنكليز ، وبعد قليل انتشب الحرب بين بونابرت والجيوش العثمانية واستمر
بينهما عدة أيام سجالاً ، لثبات العثمانيين بموازة الدونانمة لهم ولعدم يأس
الفرنساويين من الإنتصار وبعد أن قتل عدد عظيم من الجانبين التجأ العثمانيون
إلى مراكبهم ، وكان ذلك في 2 أغسطس سنة 1799 ، ولبثوا فيها إلى أن تمكن
الباب العالي والإنكليز من إخراج الفرنساويين من مصر بتقدم جيش تركي
مركب من ثلاثين ألف مقاتل من جهة العريش فالصالحية فالقاهرة تحت قيادة
الصدر الأعظم يوسف باشا ونزول الإنكليز إلى الإسكندرية ( أول مارث سنة
1801 ) ورشيد وصعودهم النيل إلى القاهرة على مراكب صغيرة أتوا بها من
بلادهم لهذا الغرض .
وفي أثناء ذلك عاد على أغا قائد الكتيبة المقدونية ، فخلفه محمد علي باشا في
رياستها ثم بعد أن أخلى الفرنساويون القاهرة بمقتضى الإتفاق الذي أبرم بين(1/32)
"""""" صفحة رقم 33 """"""
الجنرال ( منو ) قائد الفرنساوية ، الذي ينسب مؤرخوهم خروجهم من مصر
لسوء إدارته وعدم كفاءته ، وبين الصدر الأعظم والأميرال كيث الإنكليزي في
25 يونية سنة 1801 . وسافروا إلى بلادهم في أوائل سبتمبر من هذه السنة
وتبعهم الإنكليز ، وعادت بذلك سلطة الباب العالي إلى ما كانت عليه قبل
دخول الفرنساوية ، وعينت الدولة العلية خسرو باشا والياً من قبلها على
الحكومة المصرية في ثاني عشر جمادى الأولى سنة 1216 وكان بها إذ ذاك
من الجنود أربعة آلاف من الأرنؤد ، منهم فرقة تحت قيادة محمد علي باشا ، فلما
توسم فيه الإستعداد لمهمات الأمور وجه إليه التفاته ورقاه تدريجياً حتى وصل في
وقت قريب إلى رتبة ( سرششمه ) أي رئيس فرقة مؤلفة من ثلاثة أو أربعة آلاف
جندي ، ومن ذلك العهد أخذ في استعمال الجند واستمالة قلوبهم إليه للإستعانة
بهم عند سنوح الفرصة .
أما المماليك فكانوا لا يزالون يجادلون ويحاولون الإستقلال ، ويرغبون في
عدم رجوع مصر إلى الباب العالي وصيرورتها كغيرها من الولايات ، فلما بلغ
الدولة هذا الخبر أصدرت أوامرها إلى خسرو باشا بأن يقاتلهم حتى يفنوا عن
آخرهم ، وكانت قوّتهم قد ضعفت لوقوع الشحناء بين رئيسيهم ، وهما عثمان
بك البرديسي ومحمد بك الألفي ، اللذان كانا يتنازعان السلطة ويودّ كل منهما
لو انفرد بها بدون مشارك أو منازع ، فوجه خسرو باشا جماعة من الأرنؤد
ومعهم فرقة محمد علي باشا لمحاربة المماليك بالقرب من الجيزة وكانت الدائرة
فيها على الأرنؤد قبل وصول محمد علي مع فرقته .
فلما حصل ذلك حنق قائد هذه الحملة غيظاً ، وعزم على نسبة عدم انتصاره
إلى تأخر محمد علي ، وأنه اتفق مع المماليك ، فسعى بذلك عند خسرو باشا فسر
بهذه التهمة الباطلة ومع اعتقاده بطلانها أرسل للمرحوم محمد علي يطلبه ليلاً
إلى سرايه بالقلعة محتجاً بأنه وردت إليه أوامر مهمة من دار الخلافة وأنه لابد أن(1/33)
"""""" صفحة رقم 34 """"""
يعلمه بها في الحال وأصر على قتله وأمر خدمة بذلك حين دخوله من الباب .
فلما وصل الطلب إلى محمد علي جزم بداهة بأن هذا الإستدعاء لم يكن إلا
للإيقاع به ، فتحير في أمره وعلم أنه إن لم يجب طلب الوالى عدّ ذلك عصياناً
وإن امتثل وذهب كان في ذهابه ذهاب حياته ، فبعد التروّى في ذلك ظهر له
أرجحية عدم التوجه وآثر نسبة العصيان إليه على قتله وبات ليلته يترقب ما
يبدو له وقت الصباح .
فساعده الحظ الأوفر بقيام الجند على خسرو باشا ومأمور ماليته ( خزنة دار )
لعدم صرف مرتباتهم وكان هذا ناشئاً عن عدم تحصيل الخراج لإستيلاء المماليك
على الوجه القبلي وجزء عظيم من الوجه البحري بحيث لم يكن في حوزة الوالي
إلا القاهرة وثغر الإسكندرية وما بينهما من القرى والبلدان .
ثم إن خسرو باشا أمر بإطلاق المدافع على الثائرين حتى خرب جزأ عظيماً
من القاهرة ، ولما علم أركان حرب الوالي المدعو طاهر باشا بذلك نزل من
القلعة ليتوسط بين الفريقين ، فاتهمه الوالي بالإتحاد مع العصاة فاغتاظ طاهر باشا
ومال مع الجند وحارب الوالي إلى أن ألزمه بالفرار إلى المنصورة ثم انتقل إلى
دمياط وتحصن بها فاتخذ طاهر باشا هربه فرصة للحصول على الولاية ، وجمع
أعيان البلد وعلماءها وطلب منها أن يختاروه والياً على مصر حتى يعين الباب
العالي خلفاً لخسرو باشا ، فأقره المجلس على ذلك ، لكنه لم يلبث الجند أن عصاه
خصوصاً الإنكشارية لعدم صرفه مرتباتهم وصرف مرتبات الأرنؤد ليس إلا ،
فحاصروه في سرايه في يوم 25 مايو سنة 1803 وأرسلو إليه اثنين من أغواتهم
ليرفعا إليه شكواهم فلم يستعمل السياسة معهما ، بل نهرهما على عصيانهما
وطلب منهما أن يكونا مطيعين لأوامره فلم يرضيا بذلك واشتد الأمر بينه
وبينهما إلى أن جردّ أحدهما سيفه وحز رأسه وألقاها من النافذة وكانت مدة
ولايته ستا وعشرين يوماً .(1/34)
"""""" صفحة رقم 35 """"""
وبعد قتله رغب الإنكشارية في تولية أحمد باشا أحد أمراء الدولة وكان
موجوداً بمصر أثناء توجهة للمدينة المنورة حيث عين والياً ، فلم يقبل محمد علي
باشا هذا التعيين بل صعد إلى القلعة ومعه آلاف من الأرنؤد وأراد أن
يقاوم الإنكشارية ولكنه لما علم أنه لا يقدر على المقاومة كاتب عثمان بيك
البرديسي المقيم بالصعيد وغيره من أمراء المماليك بأن يساعدوه على طرد
الإنكشارية ويرد مصر إلى حكمهم المطلق كما كانت عليه ، فاغتروا بوعده
وصاروا يأتون القاهرة أفواجاً ، حتى استجمع محمد علي ياشا من القوة ما يقاوم
بها الإنكشارية وزيادة فنزل من القلعة وانضم معهم ثم تفرقوا في أنحاء القاهرة
وأحدقوا بمنزل أحمد باشا المذكور وهددوه وخيروه بين أمرين : الخروج من مصر
أو القتل ، فامتثل وخرج ثم نهبت العساكر داره .
ثم حول محمد على فكرته إلى الفتك بالإنكشارية خيفة أن يثوروا عليه كما
فعلوا مع طاهر باشا فأوعز إلى الأرنؤد بذلك فانقضوا عليهم كالسيل المنهمر
وسلبوا أموالهم وقتلوا أعيانهم ، فاجتمع الباقون منهم بمصر القديمة وعزموا على
التوجه إلى الشام من طريق الصحراء فهجم عليهم الأرنؤد وأعلموا فيهم
السيف حتى لم يبق إلا من اختفى منهم ، ففتشوا عليهم بالبيوت وغيرها ثم أطالوا
أيديهم إلى الأهالي وتعدّوا عليهم بالأذى وتفرقوا في النواحي وأكثروا من النهب
خصوصاً في الوجه البحري .
وكان إذ ذاك محمد خسرو باشا مقيماً بثغر دمياط يقرر على أهلها ومن
جاورهم الأموال الباهظة ويسومهم سوء العذاب ألواناً فتوجه محمد علي باشا
وعثمان بك البرديسي لمقاتلته ، فحارباه وأسراه بعد أن هزما من معه في 14
ربيع الأول سنة 1218 وأرسلاه إلى مصر في سجن القلعة .
أما الأرنؤد فارتكبوا من أنواع السلب والنهب وغير ذلك ما يعجز عن
وصفه الواصفون ، ويكل عن إحاطته العالمون ، ثم عاد محمد علي باشا إلى مصر(1/35)
"""""" صفحة رقم 36 """"""
وتوجه البرديسي إلى رشيد لمحاربة من فيها من العثمانيين فهزمهم وأسر علي
باشا القبطان ، وحصل برشيد ما حصل بدمياط وكان الأرنؤد كلما مروا بقرية
نهبوا أموالها وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وآذوا مردانها ولما وصل خبر هذه
الفوضى إلى دار الخلافة وعلم الباب العالي فوضوية مصر وأن لا والي لها يؤيد
سلطته ، أرسل إليها علي باشا الجزايرلي والياً عليها لإخماد هذه الثورة ومعاقبة
أمراء المماليك وكل من كان سبباً في عزل خسرو باشا .
فلما وصل إلى الإسكندرية اشتغل بتدريب من أتى معه من الجند على النظام
الأوربي ، وأظهر له أمراء المماليك الميل والطاعة والإمتثال لأوامر الدولة ودعوه
للحضور إلى القاهرة فاغتر بذلك الوعد وخرج من الإسكندرية قاصداً العاصمة
فخرج عليه الأرنؤد في الطريق وقتلوا من كان معه من الجنود العثمانية وأسروا
الباشا وأتوا به إلى مصر أسيراً لا أميراً ، ومحكوماً لا حاكماً ، ثم أخرجه الأمراء
بقصد إرساله إلى الشام من طريق الصحراء وأمروا من رافقه من الجند بقلته في
الطريق فقتلوه قبل أن يصلوا إلى الصالحية .
وفي أثناء هذه المدة عاد محمد بك الألفي من انكلترا ، التي كان قد ذهب
إليها ليطلب منها مساعدته على الإستقلال بمصر وإبادة الباقي من الأمراء
العاملين على معاكسته ويقال أنه وعدها بتسليمها بعض الثغور لو نال مرغوبه
بمساعدتها . ولما علم محمد علي باشا بقدوم الألفي خشى من اتحاده مع البرديسي
فيضيع عمله سدى ، فعمد إلى توغير صدر البرديسي علي محمد بك الألفي
فنجح في مسعاه حتى هم بالفتك به غدراً ولولا هرب الألفي إلى الصعيد لقتل
بدسيسة البرديسي ومحمد علي وبعد هرب الألفي إلى مصر العليا هاج الأرنؤد
علي البرديسي لطلب مرتباتهم ( وربما كان ذلك بإيعاز من محمد علي ) فأمر
البرديسي بضرب الضرائب الشديدة على أهالي العاصمة وخصوصاً الأغنياء من
بينهم لإرضاء الجند فتذمرت الأهالي من هذا الظلم الدائم وشكوا أمرهم إلى
محمد علي باشا ، لما كانوا يرونه فيه من الميل إليهم والحنوِّ عليهم فتلقاهم بالبشر(1/36)
"""""" صفحة رقم 37 """"""
والإيناس ووعدهم بالمساعدة على دفع المظالم ، ثم بعد قليل اتحد الأهالي مع
الأرنؤد وهاج الكل على البرديسي وحاصره بمنزله وأرادوا قتله لكنه تمكن من
الفرار وحارب مماليكه الجند وقاوموهم مقاومة عنيفة ، فصعد محمد علي باشا إلى
القلعة وأحكم مدافعه على الجهة التي بها منزل البرديسي فخرب أكثر منازلها
وانجلت هذه المعركة عن خروج كافة أمراء المماليك من القاهرة فنهبت بيوتهم
وسبيت نساؤهم ويتمت أطفالهم .
فصفا الجوّ لمحمد علي باشا ، لكن لحسن سياسته لم يرغب إظهار ما يكنه
صدره من الإنفراد بالحكم والإستقلال بولاية مصر بل تربص حتى تساعده
الفرص فينال مرغوبه بلا عناء ولا نصب .
تعيين محمد علي باشا والياً على مصر :
لما خرج عثمان بك البرديسي وكافة الأمراء من القاهرة ، دعا المرحوم محمد
علي باشا أعيان البلد وعلماءها وقال لهم أنه لا يليق بقاء مصر بدون وال
يواليها ولا سائس يسوسها ولا راع يراعيها ، وأن الأولى إخراج خسرو باشا من
سجنه بالقلعة وجعله والياً فأقر المجلس على ذلك وأخرج الباشا من السجن .
لكن بعد يوم ونصف ثار عليه رؤساء الأرنؤد وطلبوا من محمد علي إخراجه من
مصر وطرده منها فأذعن لطلبهم وأرسله تحت الحفظ إلى رشيد ومنها إلى
إسلامبول ، ثم طلب محمد علي من الأرنؤد أن يعين أحمد باشا خورشيد والياً
على مصر فرضي الكل بذلك بشرط تولية محمد علي قائم مقام له وبذلك
انحسم النزاع وحرر بذلك محضر وأرسل للباب العالي للتصديق عليه فصدق
على ما حصل وأرسل بذلك فرماناً مع مخصوص من طرفه فقام خورشيد باشا
من الإسكندرية وانتقل إلى القاهرة وحصل بعد ذلك وقائع لها وقع بين الجند
والمماليك الذين كانت سلطتهم مبسوطة على الصعيد إلى الجيزة . وبينما محمد(1/37)
"""""" صفحة رقم 38 """"""
على مشتعل بمحاربتهم استحضر خورشيد باشا طائفة من الدلاة ليجعلهم
حرساً لنفسه وذلك لتوجسه خيفة من محمد علي وجنوده الأرنؤد وعدم ثقته
بهم ، لا سيما وكان الأهالي يميلون كل الميل إلى محمد علي لإستعماله اللطف
واللين معهم خصوصاً مع العلماء والأعيان .
فلما علم محمد علي بحضور هؤلاء الدلاة عاد بسرعة إلى القاهرة واشتغل بمقابلة علمائها وصار يشنع لهم على الدلاة وما ارتكبوه وكانوا قد انتشروا في
البلد كالجراد ينهبون وفي العالم يقتلون وفي النساء يهتكون ويأخذون أموال
الناس ظلماً وبهتاناً وصار محمد علي يحرض الناس على رفع شكواهم إلى الوالي
فاتبعوه وتظلموا لخورشيد باشا ، فكان يعدهم بالنظر بالنظر في شكواهم والتأمل في
بلواهم ولا يمكنه الوفاء بوعده مراعاة للجند حتى مل الأهالي من إزدياد الجور
والتعدي وانتشر الهياج في كافة أنحاء البلد وخاف كل فريق من الآخر .
وبينما هم على ذلك إذ ورد فرمان بتولية محمد علي باشا جدّة فأظهر
الإمتثال وأخذ يتأهب للسفر فاضطرب العسكر والأهالي لعدم رضا الأهالي
بمفارقته ، وفي أثناء ذلك صادف أن طلب الجند صرف مرتباتهم فأحالهم محمد
علي باشا على الوالي ولما لم يكن بيده ما يسد به عوزهم ، صرح لهم بنهب
القليوبية فتفرّقوا فيها شذر مذر ونهبوها وسبوا النساء وباعوا الأولاد فتغيرت
قلوب الأهالي وأبغضوا الوالي ومالوا إلى محمد علي لما كانوا يرونه فيه من الحزم
والمساعدة فألح العلماء والأعيان ، ولجوا على محمد علي باشا بعدم السفر إلى
جدّة وانتخبوه والياً عليهم ثم أرسلوا إلى خورشيد باشا بذلك فقال لهم إنّى مولى
من طرف السلطان فلا أعزل إلا بأمره ، وتحصن في القلعة ، أما جميع القوى
العسكرية من أرنؤد ودلاة وغيرهم فانحازت إلى محمد علي إلا القليل وكتبوا(1/38)
"""""" صفحة رقم 39 """"""
باشتراكهم مع العلماء إلى الباب العالي يطلبون تولية محمد علي على مصر
فأجاب الباب العالي طلبهم أملاً في حسم النزاع وأصدر بذلك فرماناً وصل إلى
القاهرة في 9 يوليه سنة 1805 .
لكن لم يقبله خورشيد باشا بل ظنه إفكا افتراه أعداؤه فحاصره محمد علي في
القلعة ورتب على أبوابها الخفر من الأرنؤد إلا أنهم لم يفعلوا ما أمروا به لعدم
صرف مرتباتهم فتركوه وتفرقوا في البلد ينهبون ويسلبون ، إلا أن ذلك لم يؤثر
في عزيمته بل رتب بدلهم خفراء من الأهالي وقلدهم بالسلاح .
وبعد قليل حضر قبطان باشا من قبل الدولة العلية ومعه أوامر مشددّة
بإخراج خورشيد باشا ، فامتثل وخرج مع بعض الدلاة إلى الجهات البحرية يعثو
في الأرض فساداً فأرسل خلفهم محمد علي بعضاً من جنده فلحقوهم وأجلوهم
عن مصر ، فذهبوا إلى الشام واستقل محمد علي بولاية مصر ولم يكن له فيها
منازع إلا من بقي من المماليك بعد هذه المناوشات والحروب .
ثم إن الإنكليز طلبت من الباب العالي عزل محمد علي أو نقله إلى ولاية
أخرى لأمر بدا لها في ذلك ، سنأتي على تفصيله قريب ، فسمع الباب العالي
مقالها وأرسل إلى مصر دونانمة تحت إمرة قبطان باشا ومعه فرمان بتولية محمد
علي باشا سلانيك وتعيين من يدعى موسى باشا مكانه ، فأتى الإسكندرية ومعه
فرقة من العساكر المنتظمة وأمر بإعادة أمراء المماليك إلى ولاية الأقاليم . ولما بلغ
هذا الفرمان إلى محمد علي باشا لم يظهر عدم الإمتثال بل استعد للسفر فاجتمع
عليه العلماء والقوّاد والجنود وأخبروه أنهم لا يرضون بخروجه ، وأنهم يحررون
خطاباً للباب العالي ويرسلونه مع ولده إبراهيم بك ويكون مضمونه إظهار
رغبتهم في بقائه عليهم والياً لما رأوه منه من مراعاة جانب الأهالي ومنع مظالم
الجنود عنهم واتباعه مشورة العلماء في الأمور المهمة ، ولما وصل إبراهيم بك إلى
الإسكندرية رجع معه قبطان باشا بمراكبه ومعه موسى باشا الذي أتى ليكون
والياً فلما وصلوا إلى إسلانبول وعرض الأمر على الباب العالي ، قبل السلطان(1/39)
"""""" صفحة رقم 40 """"""
ما طلبه المصريون وأرسل إلى مصر فرماناً بتثبيت محمد علي باشا على ولايته
فوصلها الفرمان في أواخر شعبان شنة 1221 ( 7 نوفمبر سنة 1806 ) .
لكن لم ينقطع أذى الجند عن الأهالي بل كان الخلاف عاماً في جميع الأنحاء
والشغب ضارباً أطنابه بين صفوف العساكر ، فالأرنؤد تخالف الإنكشارية
وتقاتلها ، والدلاة تعادى كل فرقة وتنازعها ، والكل معاد للأهالي عاص للوالي
يعيثون ويعربدون في أنحاء القاهرة وينهبون الأهالي ويطردونهم من منازلهم
ويسكنونها واستعملوا في النهب والسلب أنواع الحيل فيما لم يجدوا إليه سبيلاً
فربما جلس العسكري على حانوت رجل بدعوى الإستراحة أو اشتراء شيء ثم
يقوم ويعود ثانياً قائلاً إني نسيت وتركت هنا كيساً ، ويجعل ذلك سبيلاً لإهانة
صاحب الحانوت ونهب ما عنده وربما زاد على ذلك ما لا يخطر بالبال ولم يحصل
مثله عند الممم الجائلة في ظلمات التوحش وفيافي الهمجية . فشاركوا الباعة في
عروضهم وساهموهم فيما يربحون من أموالهم ، هذا والأهالي يتحملون كل هذه
الشدائد ولا يهمون بمنعها بل يتجلدون بالصبر والتضرع إلى الله في أن يخلصهم
مما نزل بهم من شرور هذه الفئة الباغية فكانوا متقلبين على جمرات البلايا في
بحار الرزايا تضيق صدورهم ولا تنطلق ألسنتهم .
ولما أتى إلى محمد علي باشا الفرمان المؤذن ببقائه في ولاية مصر أخذ في
استعمال الوسائط لإراحة البلاد من شر هؤلاء الطغاة تارة بالملاينة وأخرى
بالمحاربة ، حتى أذعن له أمراء المماليك فأقطعهم البلدان والأقاليم وأعطى لشاهين
بك إقليم القيوم وثلاثين بلداً من أقاليم البهنسا وعشرة من الجيزة - ومما ساعد
على استتباب الأمن موت محمد بك الألفي الذي كان من أكبر أمرائهم جسارة
وإقداماً ، وعقب موته مات عثمان بك البرديسي فكانت وفاة الأول في ديسمبر
سنة 1806 والثاني في يناير سنة 1807 ، ثم حضر إليه نعمان بك من أمرائهم
فأكرمه وزوّجه إحدى جواريه وأعطاه بيت المهدي بدرب الدليل . وهكذا صار
يكرم كل من أتى إليه منهم كعمر بك وغيره ثم أتى إليه إبراهيم بك الكبير(1/40)
"""""" صفحة رقم 41 """"""
فولاه إقليم جرجا وبهذه الحالة لم يعد لمحمد علي باشا شاغل من جهة الأمراء ولا
أتباعهم ، لكنه لم يزل يخشى غدرهم وخيانتهم عند حصول أقل أمر يغضبهم
وتيقن أن لا راحة له إلا بعد استئصال جرثومتهم الخبيثة وتطهير القطر المصري
من دنس وجودهم ، ولقد ساعده الحظ على تتميم ذلك وتمكن من إبادتهم كما
سيجيء .(1/41)
"""""" صفحة رقم 42 """"""
صفحة فارغة(1/42)
"""""" صفحة رقم 43 """"""
- دخول الإنكليز مصر
لما علم الإنكليز بتثبيت محمد علي باشا على ولاية مصر يئسوا من نوال
مرغوبهم بالطرق السلمية وعمدوا إلى استعمال القوّة وأرسلوا إلى الأسكندرية
إسطولاً بحرياً مركباً من سبعة عشر مركباً حربياً يقل جيشاً مؤلفاً من خمسة
آلاف جندي تحت قيادة الجنرال ( فريزر ) لإحتلالها فوصلت إلى الثغر في أول
المحرم سننة 1222 ( 10 مارث سنة 1807 ) وأرسل قائد الجيش إلى حاكم
المدينة أن يأذن لهم بالنزول إلى البر ، لأنهم يريدون احتلال الثغر محافظة على
مصر من الفرنساويين خوفاً من أن يعيدوا الكرّة عليها فأجابهم الحاكم بأنه لا يأذن لهم بذلك إلا إذا كان معهم أمر من الدولة العلية ، فلما وجد الإتكليز أنه
لابدّ من النزول إلى البرّ عنوة تأهبوا للقتال وأمهلوا المدينة أربعاً وعشرين ساعة ،
وقبل انقضاء هذا الميعاد سلم حاكم المدينة ، المدعو أمين أغا من ضباط الإستانة ،
المدينة بدون أن يتعرض لمنع خروج العساكر إلى البر ولا لمنع تقدمهم نحو
المدينة ، بل قبل العار وسلم نفسه ومن معه من العساكر من غير أن يرمي شيئاً
من المقذوفات عليهم وبهذه الكيفية تمكن الجنرال الإنكليزي من أخذ هذه
المدينة الشهيرة بدون أن يفقد أحداً من عساكره فاحتلها الإنكليز في صبيحة
يوم الجمعة 10 محرم سنة 1222 .
وذكر الجبرتي أنهم شرطوا مع الأهالي أنهم لا يسكنون البيوت قهراً عن
أصحابها بل بالمؤاجرة والتراضي ، ولا يمتهنون المساجد ولا يعطلون الشعائر
الإسلامية وأعطوا أمين أغا نظير خيانته أماناً على نفسه ومن معه من العساكر
وأذنوا لهم بالذهاب إلى أيّ محل أرادوه ومن كان له دين على الديوان يأخذ(1/43)
"""""" صفحة رقم 44 """"""
نصفه حالاً ونصفه الثاني مؤجلاً ومن أراد السفر في البحر من التجار وغيرهم
يسافر في خفارتهم إلى أي جهة أراد ما عدا إسلامبول ، وأما الغرب والشام
وتونس وطرابلس ونحوها فطلق السراح ذهاباً وإياباً وأن محكمة الإسلام تكون
مفتحة الأبواب للمتقاضين تحكم بشريعتها الإسلامية ولم يكلفوا أهل الإسلام
بإقامة دعوة عند الإنكليز بغير رضاهم . اه بتصرف .
واقعة رشيد :
أما الجنرال الإنكليزي ، فمن بعد أن استراح بضعة أيام وجهز ما يلزم ، أمر
بتوجيه بعض عساكره إلى رشيد ليكون له في القطر موقع آخر وكان عدد من
أرسل من الجند إلى ثغر رشيد ألفى جندي منهم مائتان من البحرية ، ولم تكن
حامية رشيد مؤلفة إلا من بضع مئين يرأسهم شخص ذو صداقة وشجاعة يسمى
علي بك ، فلم يقلد أمين أغا حاكم الإسكندرية في تسليمه المدينة بل صمم على
المدافعة والمكافحة عن المدينة بكتيبة قليلة العدد والعدد على قدر الإستطاعة ، ثم
أمر عسكره وشدد عليهم بأن لا يطلقوا بنادقهم مطلقاً حتى يشير إليهم ولما
شاهد عساكر الإنكليز ما شاهدوه من هذه الحالة ظنوا أنهم لا يجدون مدافعة بل
يدخلونه ثغر رشيد كما دخلوا الإسكندرية وكانوا في تعب من السير فدخلوا
البلد بدون احتراس وانتشروا في أسواقها حيث وجدوها خالية خاوية ، ثم بحثوا
عن أمكنة يلتجأون إليها ويستريحون فيها وأغلبهم رموا أسلحتهم وناموا في
الطرق ، فلما رأى ذلك على بك وتحقق التمكن منهم ، خرج عليهم بقليل من
العسكر وأطلق النار على كل جهة كانوا موجودين فيها ، فنالهم من ذلك دهشة
عظيمة كأنما بعثوا من القبور وأخذ الفشل فيهم ومما زاد في ارتباكهم إطلاق
العسكر بنادقهم عليهم من الأبواب والشبابيك وأسطحة البيوت فبعد قليل من
الزمن فرت الجنود الإنكليزية هاربة بدون انتظام إلى جهة الإسكندرية بعد أن
هلك اللواء القائد لها وكثير أيضاً من الضباط ومائة جندي وأخذ منهم مائة
وعشرون أسيراً ومدفعان ، أما الهاربون فلم يزالوا يتحملون عناء السفر حتى
وصلوا إلى الإسكندرية .(1/44)
"""""" صفحة رقم 45 """"""
وذكر الجبرتي أنه في يوم الأحد السادس والعشرين من محرم سنة 1222
أشيع بالقاهرة خبر وصول رؤس القتلى ومن معهم من الأسرى إلى بولاق فهرع
الناس بالذهاب للفرجة ووصل الكثير منهم إلى ساحل بولاق وركب أيضاً كبار
العسكر ومعهم طوائفهم لملاقاتهم وطلعوا بهم إلى البر ومعهم جماعة العسكر
المتسفرين ، فأتوا بهم من خارج مصر ودخلوا بهم من باب النصر وشقوا بهم من
وسط المدينة وفيهم ضابطان وهما راكبان على حمارين والباقي مشاة في وسط
العسكر روؤس القتلى معهم على نبابيت وقد تغيرت وأنتنت رائحتها وكانت
عدة الرؤس أربعة عشر والأحياء خمسة وعشرين ولم يزالوا سائرين بهم إلى بركة
الأزبكية ، وضربوا عند وصولهم شنكاً وطلعوا بهم إلى القلعة وفي اليوم التالي
وصل أيضاً إلى القاهرة عدة من الرؤس وثلاثة عشر أسيراً من الإنكليز وساروا
بهم إلى القلعة بمثل ما حصل بهم في اليوم الذي قبله .
ولما وصل إلى محمد علي باشا خبر وصول الإنكليز إلى الإسكندرية وكان
بالصعيد يحارب المماليك كتب إليهم بالصلح وأرسل إليهم المشايخ ، يحثونهم
على الإتفاق معه لمحاربة الإنكليز فلم يقبلوا الصلح بل قالوا : لو تحققنا الأمن
والصدق من مرسلكم لما حصل منا خلاف ولا حاربناه ولا قاتلناه ولكنه كثيراً
ما يعدنا بمثل هذه المواعيد عند الإحتياج إلينا ثم لا يفي بما وعد ، وحيث أنه قد
تهدمت دورنا وتفرق شملنا ولم يبق لنا ما نأسف عليه ونتحمل المذلة من أجله
وقد ماتت إخواننا ومماليكنا فنستمر على ما نحن عليه حتى نفنى عن آخرنا
ويستريح باله من جهتنا ، فلاطفهم المشايخ وأقنعوا بالصلح وقالوا لهم أنه أولى
من تداخل الأجانب بينكم فقبل الكل وساروا إلى القاهرة .
وفي اليوم الثاني من شهر صفر سنة 1222 عاد محمد علي باشا وأخذ في
تحصين القاهرة بمساعدة قنصل فرانسا واستمر الأهالي في قلق واضطراب والجند(1/45)
"""""" صفحة رقم 46 """"""
في تأهب وسفر إلى يوم 14 منه ، فوردت الأخبار بانتصار المصريين على
الإنكليز في ضواحي رشيد وقد عادوا إلى مهاجمتها بعد انهزامهم أول مرة . وفي
يوم 15 منه وصل إلى القاهرة من أسر في هذه الواقعة ورؤس بعض القتلى
فأطلقت المدافع من الأزبكية والقلعة استبشاراً ثم أمر الباشا بإرسال الأطباء إلى
القلعة لمعالجة الجرحى من أسراء الإنكليز والإعتناء بهم وتمييز الضباط عنهم في
المأكل والمشرب ورتبت لهم المرتبات وقضوا مدة أسرهم في مصر بغاية الإكرام .
وإليك تفصيل هجوم الإنكليز على رشيد نقلاً عن جريدة أركان حرب
الجيش المصري وذلك أنه لما وصل الإنكليز إلى الإسكندرية وجرى ما أسلفناه
اغتاظ الجنرال ( فريزر ) مما حصل لجنده في رشيد فشكل سرية أخرى وأرسلها
إليها وكانت مركبة من ثلاث آلاف نفر وستة مدافع وأربعة قطع من الهوّان
تحت رياسة الجنرال ( استيوارت ) فلما وصلت تلك السرية إلى رشيد في 18
إبريل سنة 1807 وضع الجنرال المذكور بطريتين في القطعة المرتفعة من ناحية
أبي مندور وتمكن من قرية الحماد ووضع فيها خمس بلوكات لأجل محافظة
ووقاية الخلف ، ثم ابتداء المحاصرون ، أي الإنكليز ، في ضرب النار فكلما تذكر
المحصورون الظفر الذي نالوه في الواقعة الأولى صبروا وتجلدوا وكانوا يرهبون
الحاصرين في غالب الأحيان بخروجهم إلى خارج البلدة وهجومهم عليهم
فمكث ضرب النار أسبوعين بلا ثمرة وفي آخر تلك المدة أي في 21 إبريل
تعجب الفريقان من الإمدادية التي أتت على حين غفلة من طرف محمد علي
باشا فاستبشر المحصورون بذلك ، وكان مقدار الإمدادية المذكورة ألفاً وخمسمائة
سوارى وأربعة آلاف بيادة ، وفي الحال انقسمت تلك العساكر إلى فرقتين
إحداهما صغيرة واتخذت موقعها أمام الحماد والثانية كبيرة تحت رئاسة الكيخيا
واتخذت موقعها في برنبال وكان عساكر الفرقتين يشاهد بعضهم بعضاً .(1/46)
"""""" صفحة رقم 47 """"""
وعند فلق صباح اليوم التالي هجمت الفرقة الصغيرة على مدافع الإنكليز
الذي كان بالحماد بعساكر البيادة والسوارى لكنها تقهقرت فتبعها أحد
بلوكات الإنكليز إلى مسافة بعيدة حتى انفصل البلك المذكور عن بقية الجيش
وحينئذ رجع سوارى المصريين بالهجوم على ذلك البلك ففرّقته وقتلت منه
عشرين نفراً وأسرت خمسة عشر ، وفي الليلة التالية اقتحم الكيخيا بعساكره
نيران الإنكليز واجتمع مع قائد الفرقة الأخرى وفي هذه الليلة أخذ الجنرال
( استيوارت ) عساكر قره قول الحماد بخمس بلوكات فصار جميع القول 850
نفراً تحت قيادة الأميرالاي ( مكليود ) وكان الأميرالاي المذكور يظن حينئذ أنه لم
يكن أمامه خلاف الفرقة الصغيرة لكنه لما رأى في الصباح أن جميع الجيش
اجتمع أمامه وأخذلإي السير لمهاجمته أمر بالتقهقهر ، إلا أنه غلط في تقهقرهبسبب
تجزئة قوته إلى سريات فجعل أولاها مركبة من ثلاث بلوكات تحت رئاسة
البيكباشي ( مور ) وثانيتها من بلوكين تحت رئاسته والثالثة من خمس بلوكات
ومدفعين تحت رئاسة البيكباشي ( وجلستر ) ثم لم يسير أيضاً تلك السريات مع
بعضها بل جعلها منفصلة عن بعضها بمسافات بعيدة ، فعند ذلك انتظرت
السوارى المصرية سرية البيكباشي ( مور ) حتى انفصلت من السريتين الأخريين
وأحاطت بها من كل جانب ومكان حتى لم ينج من القتل إلا من أسر وهو
البيكباشي ( مور ) وقليل من الأنفار ، ولما بعد الأميرالاي ( مكليود ) مسافة نصف
ميل أراد الرجوع والإجتماع مع سرية البيكباشي ( وجلستر ) لكن كان ذلك
صعب المنال لأن السواري المصرية لم تمهله بل أحاطت به فالتزم بأن يشكل
سريته بهيئة قلعة وتمكن بذلك من صدّ السواري المصرية إلى أن عساكر البيادة
أطلقت عليه ناراً مدراراً وقتلته وكثيراً من الجند ، فأخذ اليوزباشي ( ماكي )
مكانه من الرئاسة وصمم على اقتحام وسط المصريين كي يلحق بإخوانه لكن لم
تزل نيران بنادق المصريين تنهال عليه كالسيل ، حتى لم يصل إلى البيكباشي
( وجلستر ) إلا بنفر قليل مقداره سبعة أشخاص ، وأما البيكباشي ( وجلستر )(1/47)
"""""" صفحة رقم 48 """"""
فدافع بعد وصول الميرألاي ( مكليود ) بشجاعة وإقدام ، لكنه التزم في آخر أمره
أن يسلم نفسه ومن معه .
هذا وأمَا الجنرال ( استيوارت ) فأسرع في تسمير المدافع الكبيرة وحرق
الذخيرة ثم قفل راجعاً إلى الإسكندرية مع ألفي نفر بقيت ممن كان معه من الجند
وبعد الهزيمة الثانية التي حصلت للإنكليز أمام رشيد لم ير الجنرال ( فريزر ) من
الحكمة أن يهاجم رشيد مرة أخرى حتى يحضر له إمداد من انكلترا ، وخاف من
هجوم عساكر الوالي عليه فأخذ في تحصين المدينة . اه بتصرف .
ولما رجع الإنكليز إلى الإسكندرية بعد هزيمتهم ثاني مرة أمام مدينة رشيد
قطعوا جسر أبي قير الحائل بين مياه البحر المالح وأرض البحيرة لقطع المواصلات
بين الإسكندرية وداخل القطر فعم الماء أغلب جهات البحيرة وخرّب بلادها
وأتلف أرضها ومزروعاتها وأعدم منها نحو مائة وأربعين بلداً بقي أغلبها إلى الآن
وهي ما تراه بين إتكو وبحيرة المعدّية إلى المحمودية وما جاور بحيرة مريوط ممتداً
بالقرب من دمنهور .
خروج الإنكليز من مصر
وفي وسط جمادى الثانية سنة 1222 ( 1807 م ) سافر الباشا بنفسه إلى
دمنهور وتكررت بينه وبين الإنكليز المكاتبات في شأن إخلاء الإسكندرية وتم
بينهما الإتفاق على إخلائها وتعهد محمد علي باشا بتسليم ما أخذ من
عساكرهم أسرى في أثناء الحرب . وفي 5 رجب أتت أوامر الباشا إلى العاصمة
بإرسال الأسرى فأرسلوا إلى الإسكندرية ، وبمجرد وصولهم نزل الإنكليز
مراكبهم ورجعوا إلى بلادهم وكان ذلك في 10 رجب سنة 1222 ( 4 سبتمبر
سنة 1807 ) ولما وصل إلى القاهرة خبر زوال الخطر من احتلال الإنكليز الثغر
الإسكندري ودخول محمد علي باشا بها ، أطلقت المدافع من القلعة ثلاثة أيام
متوالية في الأوقات الخمس .(1/48)
"""""" صفحة رقم 49 """"""
3 - حرب الحجاز
وفي شهر ديسمبر من السنة المذكورة أتى فرمان لمحمد علي باشا من
الدولة العلية يؤيده على ولاية مصر ويأمره فيه بإرسال تجريدة من مصر إلى
العرب الوهابيين الذين تملكوا بلاد العرب ومدينتي مكة والمدينة المنورة وصاروا
يؤذون حجاج بيت الله الحرام واتسع حكمهم وتفاقم أمرهم حتى خشيت
الدولة العلية بأسهم وجردت الجيوش لهم فعادوا بالخيبة والوبال .
ولقد أردت قبل تفصيل ما جرى بين المصريين وبينهم من الحروب أن أذكر
نبذة من مذهبهم عثرت عليها بالمجلة الفرنساوية المسماة ( جورنال آزياتيك )
نشرت في هذه المجلة باللغة العربية وها هي بحروفها :
إن الوهابيين قوم من العرب تمذهبوا بمذهب عبد الوهاب وهو رجل ولد
بالدرعية ، وهي مدينة بأرض العرب من بلاد الحجاز ، وكان من وقت صغره
تظهر عليه النجابة وعلوّ الهمة والكرم وشب على ذلك واشتهر بالمكارم عند
كل من يلوذ به وبعد أن تعلم مذهب أبي حنيفة في مدارس بلاده سافر إلى
أصفهان ولاذ بعلمائها وأخذ عنهم حتى اتسعت معلوماته في فروع الشريعة
وخصوصا في تفسير القرآن ثم عاد إلى بلاده في سنة 1171 هجرية ( 1757 م )
فأخذ يقرر مذهب أبي حنيفة مدة ثم أدّته ألمعيته إلى الاجتهاد والإستقلال فأنشأ
مذهباً مستقلاً وقرّره لتلامذته فاتبعوه وأكبوا عليه ودخل الناس فيه بكثرة
وشاع في نجد والإحساء والقطيف وكثيراً من بلاد العرب مثل عمان وبني عتبة
من أرض اليمن ، ولم يزل أمرهم شائعاً ومذهبهم متزايداً إلى أن قيض الله لهم
عزيز مصر محمد علي باشا فأطفأ سراجهم في سنة 1232 ( 1816 م ) وكسر
شوكتهم وأخفى ذكرهم وهالك رسالة من كلامهم تدل على بعض مذهبهم
ومعتقداتهم :(1/49)
"""""" صفحة رقم 50 """"""
اعلموا رحمكم الله أن الحنيفية ملة إبراهيم عليه السلام وهي أن تعبد الله
مخلصاً له الدين وبذلك أمر الله جميع الناس وخلقهم له كما قال تعالى ' وما
خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإذا عرفت أن الله سبحانه وتعالى خلق العباد
للعبادة فاعلم أن العبادة لا تسمى عبادة إلا مع التوحيد كما أن الصلاة لا
تسمى صلاة إلا مع الطهارة فإذا دخل الشرك في العبادة فسدت كالحدث إذا
دخل في الطهارة كما قال تعالى ' ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله
شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون فمن
دعا غير الله طالباً منه ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه من جلب خير أو دفع ضر
فقد أشرك في العبادة كما قال تعالى ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا
يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم
أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ' وقال تعالى ) والذين تدعون من دونه ما يملكون
من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم
القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئنك مثل خبير ( فأخبر تبارك وتعالى أن دعاء
غير الله شرك فمن قال يا رسول الله أو يا ابن عباس أو يا عبد القادر زاعماً أنه
باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه فهو المشرك الذي يهدر دمه
وماله إلا أن يتوب من ذلك ، وكذلك الذين يحلفون بغير الله أو الذي يتوكل
على غير الله أو يستعين بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله فهو أيضاً مشرك ، وما
ذكرنا من أنواع الشرك هو الذي قال الله فيه ) إن الله يغفر أن يشرك به
ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( وهو الذي قاتل عليه رسول الله [ ]
المشركين وأمرهم بإخلاص العبادة كلها لله سبحانه وتعالى .
ويصح ذلك أي التشنيع عليهم بمعرفة أربع قواعد ذكرها الله في كتابه أولها
أن تعلم أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله يقرون أن الله هو الخالق الرازق
المحي المميت المدبر لجميع الأمور والدليل على ذلك قوله تعالى ) قل من يرزقكم
من السماء والأرض أمّن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحيّ من الميت(1/50)
"""""" صفحة رقم 51 """"""
ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ( وقوله
تعالى ) قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تتقون قل
من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله
قل فأنى تسحرون ( فإذا اعترفوا بذلك ثم توجهوا إلى غير الله يدعونه من دونه
وهو لا يملك كشف الضر عنهم ولا تحويله فلا بد أن يشركوا . . . القاعدة الثانية
أنهم يقولون ما نرجوهم إلا لطلب الشفاعة عند الله سبحانه وتعالى ونحن نريد
من الله لا منهم ولكن بواسطتهم وشفاعتهم وهذا شرك أيضاً والدليل عليه قول
الله تعالى ) ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء
شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه
وتعالى عما يشركون ' قال تعالى ' الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي
من هو كاذب كفار ( ، فإذا عرفت هذه القاعدة أيضاً فاعرف القاعدة الثالثة
وهي أن منهم من طلب الشفاعة من الأصنام ومنهم من تبراً من الأصنام وتعلق
بالصالحين مثل عيسى وأمه والملائكة والدليل على ذلك قوله تعالى ) أولئك
الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون رحمته
ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محظوراً ( ورسول الله [ ] لم
يفرق بين من عبد الأصنام ومن عبد الصالحين بل حكم على الجميع بالكفر
وقاتلهم حتى يكون الدين كلمة الله ، وإذا عرفت هذه القاعدة فعليك بالقاعدة
الرابعة وهي أنهم يخلصون لله في الشدائد وينسون ما يشركون به والدليل على
ذلك قوله ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر
إذا هم يشركون ( وأهل زماننا يخلصون الدعاء في الشدائد لغير الله سبحانه ، فإذا
عرفت هذه القاعدة فسلم القاعدة الخامسة وهي أن المشركين في زمن النبي
أخف شركاً من عقلاء مشركي زماننا لأن أولئك يخلصون لله في الشدائد
وهؤلاء يدعون مشايخهم في الشدة والرخاء ولم يعلموا قوله عليه السلام تعرّف
إلى الله في الرخاء يعرفك الله في الشدة والله أعلم بالصواب .(1/51)
"""""" صفحة رقم 52 """"""
هذا ولما أتى ذلك الفرمان إلى محمد علي باشا بذل جهده في تجريد العسكر
وجمع لهم ما يلزم من مؤن وذخائر مع صعوبة هذا الأمر في الوقت الذي كانت
فيه المماليك متحزبة عليه ، فضلاً عن أن خزينته خالية إذ ذاك من النقود ولما
كان على يقين من أن السفر بطريق البر صعب يهلك فيه كثير من العساكر
وبهائم النقل أيضاً ، أصرّ على أن يتخذ طريقه البحر الأحمر حيث كان سهلاً
لنقل جنوده إلى فرضة جدّة ، ولم يغيره عن هذا العزم عدم وجود مراكب له
لنقل الجند بل أصدر أوامره إلى سائر جهات القطر المصري بجمع الأخشاب وما
يلزم لأنشاء خمسة عشر سفينة فوردت ووضعت في الترسانة ببولاق مصر
القاهرة وتجهزت للتركيب ثم نقلت على ظهور الجمال إلى ميناء السويس ،
فركبت هناك وبينما هو آخذ في التجهيز إذ حضر رسول من قبل السلطان إلى
القاهرة ومعه سيف برسم طوسون باشا ولد المرحوم محمد علي باشا المعين
لقيادة الحملة المزمع إرسالها إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين ، وجواب من الباب
العالي يحثه على الإٍسراع في إرسال تلك الحملة ، فسافر إلى السويس لإنجاز تلك
التحضيرات وبينما هو مقيم بها إذ اكتشف مكيدة من المماليك لإختطافه أثناء
عوده من السويس إلى مصر ، ولما كان دائماً يدبر في طريقة للتخلص من شرهم
قبل سفر الجند إلى بلاد العرب خوفاً من قيامهم عليك والفتك به ، انتهز هذه
الفرصة لإتمام ما ينويه لهم منذ دخوله مصر ولأجل أن يقع في أيديهم ركب
هجيناً جيداً أوصله إلى القاهرة في ليلة واحدة وليس معه إلا خادم واحد حتى
نجا بنفسه من تلك المهلكة وشرع في تنفيذ ما عزم عليه .(1/52)
"""""" صفحة رقم 53 """"""
واقعة القلعة
تفصيل ذلك على ما جاء في الجبرتي إن العزيز محمد علي باشا لما قلد ابنه
طوسون سر عسكر الركب المتوجه إلى الحجاز وخرجت جيوشه إلى قبة العزب
ونوه بتوجيه العساكر إلى جهة الشام لتمليك يوسف باشا محله الذي كان عزل
عنه ، وجعل رئيسهم شاهين بك الألفي واختار يوم الجمعة للسفر ( 5 صفر سنة
1226 الموافق أوّل مارث سنة 1811 ) فلما كان يوم الخميس طاف ألاي
جاويش بالأسواق على الهيئة القديمة في المناداة للمواكب العظيمة وهو لابس
الضلمة والطبق على رأسه ، وراكب حماراً عالياً وأمامه مقدم بعكاز وحوله
قبجية ينادون بقولهم ( يارن ألاي ) يريد بذلك إعلامهم بحصول الموكب
ويكرّرون ذلك في جميع أنحاء المدينة وطافوا بأوراق التنبيهات على كبار العسكر
والأمراء المصريين الألفية وغيرهم يطلبونهم للحضور في باكر النهار إلى القلعة
ليركب الجميع بتجملاتهم وزينتهم أمام الموكب .
فلما أصبح يوم الجمعة ركب الجميع في الساعة الخامسة وطلعوا إلى القلعة
وطلع المصريون بمماليكهم وأتباعهم وأجنادهم فدخل الأمراء عند الباشا وحيوه
وجلسوا معه مدّة من الزمن وشربوا القهوة وتضاحك معهم ، ثم سار الموكب
على الوضع الذي رتبوه فسارت طائفة الدلاة وأميرهم المسمى أزون على ومن
خلفهم الوالي ( حاكم القاهرة ) والمحتسب والأغا والوجاقلية والألداشات
المصرية ومن تزيا بزيهم ومن خلفهم طوائف العسكر الخيالة والمشاة
والبكباشيات وأرباب المناصب وإبراهيم أغا ( أغا الباب ) وليمان بيك البواب
يذهب ويجيء ويرتب الموكب .(1/53)
"""""" صفحة رقم 54 """"""
وكان العزيز قد أصر على قتل جميع الأمراء المماليك وأتباعهم ليتخلص من
شرهم ويريح القطر من أذاهم وسلبهم ونهبهم وأسرّ ذلك إلى حسن باشا
وصالح قوج والكتخدا فقط ، وفي صبح ذلك اليوم أسرّ به إبراهيم أغا ( أغا
الباب ) ، فلما سار الموكب وانفصل الدلاة ومن خلفهم من الوجاقلية
والألداشات المصرية عن باب العزب ، أمر صالح قوج عند ذلك بغلق الباب
وعرف طائفته بالمراد فالتفتوا ضاربين للمصريين ( يقصد بذلك المماليك ) وقد
انحصروا بأجمعهم في المضيق المنحدر ، وهو الحجر المقطوع في أعلى باب العزب ،
فيما بين الباب الأسفل والباب الأعلى الذي يتوصل منه إلى سوق القلعة ،
وكانوا قد أوقفوا عدّة من العسكر على الحجر والحيطان فلما حصل الضرب
من أسفل ، أراد الأمراء القهقري فلم يمكنهم ذلك لإنتظام الخيول في مضيق
النقر وأخذهم ضرب البنادق والقرابين من خلفهم أيضاً ولما علم الواقفون
بالأعلى المراد ضربوا أيضاً ، فلما رأى المصريون ( المماليك ) ما حل بهم ارتبكوا
في أنفسهم وتحيروا في أمرهم ، ووقع منهم أشخاص بكثرة فنزلوا عن الخيول
واقتحم شاهين بيك وسليمان بيك البواب وآخرون وعدة من مماليكهم راجعين
إلى فوق ، والرصاص ينصب عليهم من كل فج ونزعوا ما كان عليهم من
الفراوي والثياب الثقيلة ولم يزالوا سائرين شاهرين سيوفهم حتى وصلوا إلى
الرحبة الوسطى المواجهة لقاعة الأعمدة وقد سقط أكثرهم وأصيب شاهين بيك
وسقط إلى الأرض فقطعوا رأسه وأسرعوا بها إلى الباشا ليأخذوا البقاشيش ،
وكان الباشا عندما سار الموكب قد ركب من ديوان السراى إلى بيت الحريم
وهو بيت إسماعيل أفندي الضربخانة ، وأما سليمان بيك البواب فهرب من
حلاوة الروح وصعد إلى حائط البرج الكبير فتبعه الجند بالضرب حتى سقط
وقطعوا رأسه أيضاً ، وهو كثير إلى بيت طوسون باشا فقتلوهم وأسرف
العسكر في قتل المصريين ( المماليك ) وسلب ما عليهم من الثياب وقتلوا معهم
من رافقهم من طوائف الناس وأهالي البلد وكل من تزيا بزيهم وقبضوا على من(1/54)
"""""" صفحة رقم 55 """"""
أدرك حياً وقتلوهم في حوش الديوان واستمر القتل من صخوة النهار إلى مضّى
جزء من الليل على المشاعل .
هذا ما حصل بالقلعة وأما أسفل المدينة فإنه عندما أغلق باب القلعة وسمع من
الرميلة صوت الرصاص وقعت الكبسة في الناس واتصلت بأسواق المدينة وأغلق
الباعة حوانيتهم وانتشرت العساكر إلى بيوت الأمراء المصريين ومن جاورهم
كالجراد ونهبوها نهباً بليغاً حتى حلىّ النساء ، وركب الباشا ضحوة ثاني يوم
ونزل من القلعة بموكب حافل ومنع النهب ودخل بيت الشرقاوي وجلس عنده
ساعة لطيفة ، وكذا ابنه طوسون دخل البلد ومنع العسكر من الإفساد والنهب
وأرسل الباشا إلى القرى والبلدان بضرب عنق من وجدوه بها من الكشاف
التابعين للمصريين ( المماليك ) فضربت أعناقهم ومات في هذه الواقعة نحو الألف
ما بين أمير وكاشف وجندي وكانوا يحملونهم على الأخشاب ويرمونهم عند
المغسل بالرميلة وقد جردوهم من ثيابهم وألقوهم بحفرة من الأرض ، قيل إنها
بقرة ميدان ، ولم ينج من الألفيين إلى أحمد بيك زوج عديلة هانم فإنه كان غائباً
بناحية بوش وأمين بيك تسلق من القلعة وهرب إلى ناحية الشام ، وممن قتل من
مشاهيرهم شاهين بيك كبير الألفية ونعمان بيك وحسين بيك الصغير ومصطفى
بيك الصغير ومراد بيك الكلارجي ومرزوق بيك بن إبراهيم بيك ( انتهى
ملخصاً ببعض تغييرات ) وكان موتهم رحمة للعباد وعمارة للبلاد وأمنت بعدهم
السبل براً وبحراً .
أما ما تواتر على الألسن من أن أمين بيك عندما حصلت المذبحة همّ بجواده
فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقتل جواده وسلم هو فقط فذلك أمر
مبالغ فيه إن لم يكن محض اختلاق .
ولما خلص من شرهم بقتلهم أخذ في تجهيز التجريدة بكل جدّ واجتهاد
فجمع ستة آلاف من البيادة وألفين من السواري ومثلهما من الطوبجية وجعل
قيادة هؤلاء لنجله طوسون باشا كما مر وفي شهر شعبان سنة 1266 نزلت(1/55)
"""""" صفحة رقم 56 """"""
البيادة في المراكب وسافرت قاصدة فرضة ينبع ، وأما السواري سافرت عن
طريق البر تحت قيادة طوسون باشا ، فلما وصلت الدونانمة المصرية إلى ينبع
قابلها السكان بغاية الفرح وأما قائدهم الأعظم فقد وصل لهم بعد قليل مع من
كان بصحبته من السواري ولما كان طوسون باشا شاباً ذا جسارة وجرأة اعتمد
على بأس عسكره وحسن أسلحتهم بالنسبة لأتباع الوهابي وأجناده ولم يستعمل
مع قبائل العرب ما يجذب قلوبهم إليه ، بل ابتداً بالسير نحو المدينة المنوّرة فتجمع
الوهابيون ووقفوا له بالقرب من مدينة بدر الشهيرة بانتصار سيدنا محمد [ ]
على كفار قريش فهجموا على المصريين بشدّة وعادوا بالغلبة إلا
أنهم تقهقروا بغاية النظام واحتموا في متاريس أقاموها هناك لكن لم يثن ذلك
طوسون باشا عن عزمه بل أمر حالاً بالهجوم فتقدمت البيادة بقوّة على
تلك الخطوط حتى إنهم أخذوا الخط الأول من هذه المتاريس ثم تقدمت نحو
الخط الثاني الذي كان آخذاً من المتانة مكاناً عظيماً ودافعت عنه الوهابيون بغاية
القوّة والشجاعة حتى اضطر المصريون إلى القهقرى ، ثم وقع الخوف في صفوف
المصريين وفروا من أمام العدو عائدين إلى فرضة ينبع بصفة غير منتظمة وهلك
منهم خلق عظيم من شدّة الجوع والعطش وجهلهم بالطريق ولولا قلة عدد
الوهابيين الذين لم يتمكنوا من اتباع أثر المصريين لما نجا منهم أحد .
ولما علم محمد علي باشا بهذا الإنكسار الذي لم يخطر له على بال أرسل المدد
إلى ولده طوسون باشا ومقداراً عظيماً من المؤن والذخائر لتعويض ما فقد منه في
واقعة بدر وأمر بعزل ونفى أغلب رؤساء العسكر الذين هربوا وقد تحصن
طوسون باشا بعد ذلك في مدينة ينبع وبادر بترتيب عساكره وفي هذه المرة لم
يهمل في إجراء الطرق اللازمة لجذب قلوب ومودّة القبائل التي كانت غير
راضية بأحكام الوهابيين ، وبعد أن تحقق من مصافاة موالاة القبائل القاطنة بين
ينبع والمدينة ومن انتظام جيشه خرج قاصداً المدينة المنورة فوصلها بدون أن
يصادف أدنى معارضة في الطريق وابتدأ الحصار لكنه لم يرغب في استعمال
المدافع لإجراء فتحة في سور المدينة لدخول الجند خوفاً من أن تصيب بعض(1/56)
"""""" صفحة رقم 57 """"""
مقذوفاتها حيطان الحرم النبوي ، فاستعمل اللغم حتى إذا جهزه أرسل لسكان
المدينة بأن كل من لم يكن وهابياً فليتزى بزى مغاير لزى هذه الطائفة وبعد ذلك
أطلق اللغم فهدم جزأ عظيماً من السور يمكن الجيش الدخول منه ، فأمر طوسون
باشا إذ ذاك بمهاجمة المدينة المنورة ودخولها عنوة فهاجمتها الجيوش المصرية ودخلتها لكن
بعد عناء كثير واستخلصت المدينة المنورة من يد هذه الفئة العاتية الخارجة عن
طاعة أمير المؤمنين .
ثم أخذ طوسون باشا بعسكره في تحصين خط الرجعة إلى مدينة ينبع التي هي
قاعدة أعماله وبعد ما تم هذا العمل سافر إلى فرضة جدّة حيث كان الشريف
غالب مقيماً ففتحت له أبوابها بغاية السهولة والسرور والإنشراح ومن هناك
سار السر عسكر بجيشه نحو مدينة مكة لإستخلاصها من أيدي الوهابيين
فوصلها ودخلها بدون قتال لقيام الأهالي على الفرقة المحافظة وطردها إياها
حينما علموا بقدوم الجيوش المصرية . فحينئذ كتب السر عسكر المصري لوالده
أن طريق حج بيت الله الحرام وزيارة قبر النبي عليه السلام صار آمناً وسهلاً
للقاصدين ووصل هذا الخبر أولاً إلى مصر ثم إلى إسلامبول في شهر ذي القعدة
سنة 1227 ، ثم أراد طوسون باشا أن يحتل مدينة الطائف لأهميتها بالنظر
لمكة المشرفة ، ولهذا السبب كان قد حصنها سعود زعيم الوهابيين وأودع فيها
السلاح وجعل فيها مخازن ممتلئة من الذخائر ووضع فيها ما ينيف على ألف
شخص من أجود جنوده وأشدّهم بأساً وأكثرهم دربةً وعلماً بفنون الحرب .
لكن لما علم السردار أن ما معه من الجنود لا يكفي لفتح هذه البلدة عنوة ،
أرسل فريقاً من جيشه لمحاربتها ومنع وصول المدد إلى حاميتها حتى إذا أتته
النجدة من مصر هاجمها بكل قواه لكن لحسن حظه لم يلبث قائد الحامية
الوهابية أن ترك مركزها هارباً بمجرد وصول الجند المصري المرسل لمحاصرته ،
وتيسر بذلك للمصريين دخول هذه النقطة المهمة بدون قتال ولا جدال ، فاغتاظ(1/57)
"""""" صفحة رقم 58 """"""
لذلك سعود زعيم الوهابية وخشى من تقدم المصريين فجمع كل ما كان عنده
من القوى وقسمهم إلى فرقتين عظيمتين كل منهما تزيد عن المصريين عدّا ،
ومؤلفة من أناس أقوياء وذوي بأس شديد وجعل نفسه رئيساً على إحدى هاتين
الفرقتين وجعل الأخرى تحت قيادة ولده المدعو فضل الله وأرسلها إلى تربة
ليجعلها قاعة لإعماله ومستقراً لمؤنته وذخائره ، وكان هو ومن معه من جنود
الفرقة الأولى متجمعين في شمال تربة ومستعدين لمساعدتها إذا اقتضى الحال
ذلك ، وفي أثناء هذه المدة كانت سواري الوهابيين تناوش الجنود المصرية وتقتل
كل من تأخر منهم في المسير .
ولما علم طوسون باشا بهذه الحركات العدوانية جمع ما تفرق من جنوده
وتأهب لصدّ الوهابيين على قدر الطاقة ريثما يأتيه المدد ، لكن سبقه سعود
وهاجم فجأة مدينة الحناكية واضطر قائد حاميتها المدعوّ عنان كاشف إلى
التسليم بعد عدة هجمات عنيفة ، لكن أطلق سعود سبيله سبيل الحامية بشرط
أن يسلموا أسلحتهم ويتوجهوا إلى بغداد ويقسموا بأن لا يحملوا السلاح أبداً
في مواجهة الوهابيين ثم أرسل طوسون باشا فرقة عظيمة تحت قيادة أحد قواده
المشهورين إلى مدينة تُرَبَة لإستخلاصها من أيدي الوهابيين ، لكن بمجرد قربه من
تلك المدينة خرج عليه الوهابيين وهجموا عليه من كل حدب وناحية حتى
اضطر إلى التقهقر والعود إلى الطائف واقتفى الوهابيون أثره حتى دخل المدينة
وكان ينعم بها طوسون ياشا فأحدقوا بها وقطعوا المواصلات بين المدن التي
شغلها بعساكره فكتب لوالده بإرسال المدد .
سفر محمد علي باشا إلى الحجاز
فعزم محمد علي باشا عند ذلك على السفر بنفسه إلى بلاد الحجاز لقطع دابر
الوهابيين وسافر من مصر بجيش عظيم على طريق السويس فوصل جدّة في يوم
27 أغسطس سنة 1812 وسافر حالاً إلى مكة وقبل أن يشرع في عمل ما
أصر على القبض على الشريف غالب الذي مكن الوهابيين من الاستيلاء على(1/58)
"""""" صفحة رقم 59 """"""
مدينتي مكة والمدينة بهروبه والتجائه إلى جدّة وكان مذبذباً بين الوهابيين
والمصريين ليرى أيهما يفوز بالنصر ويتبعه .
القبض على الشريف غالب :
وكيفية القبض عليه على ما جاء في الجبرتي أنه لما ذهب الباشا إلى مكة
استمر هو وابنه طوسون باشا مع الشريف غالب على المصادقة وبساط
المصافاة ، وجدّد معه العهود والمواثيق والإيمان في جوف الكعبة بأن لا يخون أحد
صاحبه وكان الباشا يذهب إليه في قلة ، والآخر يأتي إليه وإلى ابنه كذلك
واستمروا على ذلك مدة ، وفي خامس عشر ذي القعدة دعاه طوسون باشا فأتى
إليه في قلة كالعادة فوجد بالدار عساكر كثيرة عندما استقر المجلس ووصل
عابدين بيك في عدة وافرة وطلع إلى المجلس فدنا منه وأخذ الجنبية من حزامه
وقال : أنت مطلوب للدولة فقال : سمعاً وطاعة ولكن صبراً حتى أقضي أشغالي في
مدة ثلاثة أيام وأتوجه إليها ، فقال عابدين بيك لا سبيل إلى ذلك والسفينة
حاضرة في انتظارك ، فحصل في جميعه الشريف وعبيده رجة ، وصعدوا على
أبراج السراية وأرادوا الحرب فأرسل إليهم الباشا يقول لهم إن وقع منكم
حرب أحرقت البلد وقتلت أستاذكم ، وأرسل أيضاً لهم الشريف يكفهم عن
ذلك وكان بهذه السراية أولاده الثلاثة فحضر إليهم الشيخ أحمد تركي وهو من
خواص الشريف وحزبه ، وقال لهم لم يكن هناك بأس وإنما والدكم مطلوب في
مشاورة مع الدولة ويعود لكم بالسلامة وحضرة الباشا يريد أن يقلد كبيركم
نيابة عن أبيه إلى رجوعه ولم يزل يكرر حتى انخدع كبيرهم لكلامه ، وقاموا معه
فذهب بهم إلى محل غير الذي به والدهم ووضعوا تحت الحفظ وفي الوقت نفسه
أحضر الباشا الشريف يحيى بن سرور وهو ابن أخي الشريف غالب وخلع عليه
وقلده إمارة مكة ونودي في البلدة باسمه وعزل الشريف غالب حسب الأوامر
السلطانية واستمر الشريف غالب عند طوسون باشا حتى أركبوه وأصحبوا معه
عدة من العسكر وذهبوا به وبأولاده إلى بندر جدة وأنزلوهم السفينة وساروا
بها من ناحية القصير إلى صعيد مصر .(1/59)
"""""" صفحة رقم 60 """"""
ثم ذكر الجبرتي في حوادث شهر محرم سنة 1229 خبر وصول الشريف غالب
إلى القاهرة فقال وفي يوم الأحد سابع عشرة وصل السيد غالب شريف مكة إلى
مصر القديمة وقد أتت به السفينة من القلزم إلى مرفأ ثغر القصير فتلقاه إبراهيم
باشا وحضر معه إلى قنا وقوص ثم ركب النيل بمن معه من أولاده وعبيدة
والعسكر الواصلين معه وحضر إلى مصر القديمة فلما وصل الخبر إلى كتخدا
بيك ضربوا عدة مدافع من القلعة إعلاماً بوصوله وإكراماً لمقامه ، على حدّ قوله
تعالى ) ذق إنك أنت العزيز الكريم ( هذا وبعد سفر الشريف غالب إلى مصر أمر
محمد علي باشا ولده طوسون باشا بالمسير إلى مدينة تربة لكنه التزم بالبقاء في
بلدة تدعى ( الكلخة ) بين الطائف وتربة عدة أيام لتأخر الشريف راجح في
إحضار الجمال التي كلفه الباشا بإحضارها للحملة .
ولما علم طوسون باشا أن المؤن كادت أن تنفد أمر بالسفر نحو مدينة تربة وهي
لا تبعد عن الكلخة إلا مسافة أربعة أيام ، ولكنه أبطأ بهم راجح في الطريق حتى
نفدت ، فحينئذ اضطر للرجوع خوفاً من موت عساكره جوعاً فعند ذلك انضم
الشريف راجح إلى عساكر الوهابيين لأنه كان متفقاً معهم على خيانة المصريين
والإيقاع بهم ، فلما تقهقر المصريون عاد مع الوهابيين للهجوم عليهم فقابلهم
طوسون باشا وصدّهم وفي أثناء ذلك ورد له المدد والمؤن فعاد بالكرة إلى تربة
ولم يتمكن من فتحها ، بل رجع ثانياً إلى الكلخة ومنها إلى الطائف وكتب إلى
والده بمكة يخبره بأنه تقهقر بسبب خيانة العرب ورئيسهم الشريف راجح وأنه
التزم بإحراق الخيم التي كانت معهم وكثير من لوازم العسكر حتى لا تقع في
أيدي العدوّ .
ولقد أرسل محمد علي باشا فرقة أخرى على طريق البحر لاحتلال مدينة
( قنفذه ) فرضة إقليم العسير تحت قيادة المدعو زعيم أوغلى فاحتلها بدون
معارضة ، ثم تركها عند مهاجمة العرب له . وتفصيل ذلك على ما جاء في الجبرتي
أن المصريين طلعوا عليها وملكوها بدون ممانع ولا مدافع وليس بها غير أهلها(1/60)
"""""" صفحة رقم 61 """"""
وهم أناس ضعاف فقتلوهم وقطعوا آذانهم وأرسلوها إلى مصر ليرسلوها إلى
إسلامبول فعندما علم العرب ويقال له عرب العسير بمجيء المصريين تركوها
وتنازلوا عنها ، ولهم رئيس يسمى طامي ، فلما استقر المصريون ومضى عليهم نحو
ثمانية أيام رجعوا عليهم وأحاطوا بهم ومنعوهم الماء فعند ذلك ركبوا عليهم
وحاربوهم فانهزموا وقتل الكثير منهم ولم ينج إلا نحو سبعة أشخاص وزعيم
أوغلى ، فنزلوا في سفينة وهربوا فغضب الباشا لأنه كان أرسل لهم نجدة من
الخيالة فحاربتهم العرب ورجعوا منهزمين من ناحية البر . اه .
لكن لم تؤثر هذه الهزيمة على عزيمة محمد علي باشا بل أمر عابدين بيك
بالسفر مع فرقته لإحتلال إقليم زهران منعاً للتعدي الحاصل من أهاليه على
القوافل ولعدم اجتماع قوّات اليمن مع جنود الوهابيين فاحتلها بعد محاربة عنيفة
استمرت ثلاثة أيام متوالية وبعد قليل أتى إلى العدو المدد من الدرعية التي هي
قاعدة الوهابيين ومن بلاد اليمن ، ولمعرفة العرب بالطرق ومفاوز الجبال لم
يتمكن عابدين بيك من محاربتهم محاربة أصولية بل صاروا يكمنون له في المضايق
ويمنعون جنوده من أخذ العلف لخيولهم من المراعي المجاورة لهم ولهذا هلك خلق
كثير من جنود المصريين حتى اضطر آخر الأمر عابدين بيك للتقهقر إلى الكلخة
ولم يلبث بها إلا قليلاً لأن الوهابيين ألزموه بالرجوع إلى الطائف حيث كان
طوسون باشا مقيماً وحاصره الوهابيون فيها .
فلما أرسل لوالده بجدّة ليعلمه بما هو فيه من الضيق قام في الحال مع قليل من
الجند قاصداً ، مدينة الطائف لفك الحصار عنها وطرد الوهابيين ولما وصل إلى
جبل يقرب من الطائف أراد الإستراحة وإمضاء الليل وفي أثنائه قبض محافظوه
على أعرابيّ آت من الطائف ، فأيقظوه فاستفهم منه عن قوة المحاصرين ولما علم
منه ما كان يريده أعطاه مكافأة جزيلة ولم يعلمه بحقيقة أمره بل قال له أنه قائد
لمقدّمة عساكر المصريين ، وأن محمد علي باشا قادم خلفه بجيش عرمرم لمحاربة
الوهابيين ، ثم دفع إليه خطاباً وكلفه بتوصيله إلى طوسون باشا فشكره الأعرابيّ(1/61)
"""""" صفحة رقم 62 """"""
وأوصل الخطاب للمرسل إليه وكان فيه إخبار طوسون باشا بوجود والده
بالقرب من المدينة وأمره بالخروج منها بكل قواه لملاقاته .
ففي أصيل اليوم التالي أطلقت المدافع من المدينة استبشاراً بهذا المدد غير
المنتظر وخرج طوسون باشا وعابدين بيك من المدينة فظن الوهابيون أنهم
سيكونون بين جيشين لما بلغهم من الأعرابي من قدوم محمد علي باشا وجيشه
فولوا الأدبار ولجؤا إلى الفرار وبذلك نجح تدبير الباشا وخلص جيشه وابنه
بدون قتال ولا حرب ولا نزال .
وبعد أن تم النصر لمحمد علي باشا بدون إهراق دم عاد إلى جدّة ومكث فيها
شهرين جهز في أثنائهما ما يلزم لتتميم فتح بلاد العرب وتخليصها من الوهابيين
وأحضر من مصر ما يلزم من العساكر والذخائر وأرسل ولده طوسون باشا إلى
ثغر يتبع لجمع الجيش اللازم لاحتلال مضايق ( الصفراء ) وأمره أيضاً باستعمال
الرفق واللين مع العرب وبذل الهمة في كل ما يمكن استمالتهم به إليه .
فلما وصل طوسون باشا إلى ينبع ابتدأ بطلب مشايخ القبائل فلبوا دعوته
وحضروا بين يديه فأحسن وفادتهم وأجزل إليهم العطايا حتى خرجوا من عنده
مسرورين ثم أرسل إلى مشايخ قبيلة حرب ، النازلة بين ينبع ومضايق الصفراء ،
وبعث لهم من عنده رهائن كي لا يخشوا المجيء إليه وطلب منهم مقابلته في مدينة
بدر وزحف إلى هذه النقطة بمدفعين وأربعة آلاف عسكري من المشاة فلما
وصلها وجدها خاوية على عروشها لا ترى بها صغيراً ولا كبيراً ، لأن أهلها
حينما علموا بقدوم المصريين هاجروا منها وتركوها كما علمت فكتب إليهم
بالعودة وعمهم بنواله حتى استعملهم في نقل المؤن إليه من ينبع وكان يعطيهم
على ذلك أجرة معينة وبعد قليل أتى إليه مشايخ حرب وتظلموا بين يديه من
تعدى حاكم المدينة عليهم وقتله شيخهم الأكبر بغير حق فاعتذر لهم بما وقع من
هذا القائد وأعلمهم بأن ذلك لم يكن بعلم والده وأنه لابد أن يذيقه ما ذاق كل
ظلوم جزاء على ما كان منه ، ثم أعطاهم من الخلع ما ينيف على ألفين وثلاثين(1/62)
"""""" صفحة رقم 63 """"""
كشميراً وصادف ذلك ورود الخبر بموت هذا الحاكم ، فأبهم عليهم الأمر
طوسون باشا ، وأخبرهم بأنه قتل بإذن والده جزاء على ما أتاه جنده من القتل
والنهب فانشرحت لذلك صدورهم واطمأنت خواطرهم ومما زاد في تعلقهم
بالحكومة المصرية صدور أمر محمد علي باشا بتعيين أحد مشايخهم المدعو غانم
بن مدين حاكماً على المدينة المنورة .
وبعد ذلك قام طوسون باشا وجيشه لاحتلال مضايق الصفراء والجديدة
فاحتلها بدون ممانع وأحدث قلاعاً في أوّلها وآخرها وحصنها بالمدافع وأودع
فيها ما يلزم من أنواع الذخائر والمؤن ثم سافر قاصداً المدينة المنورة وكان ذلك
في أوائل شهر ذي الحجة سنة 1229 فأقبل الحجاج من كل فج .
وبعد أن أدّى محمد علي باشا ومن معه فريضة الحج وعاد الحجاج إلى
أوطانهم شاكرين همته على ما أتاه من إقامة شعائر الحج وإعادتها إلى ما كانت
عليه أرسل الباشا عدداً عظيماً من الجند إلى مدينة الطائف للإستعداد لمحاربة
الوهابيين لما رأى فيهم محمد علي باشا من الضعف المبين بسبب موت زعيمهم
سعود في 29 ربيع الآخر سنة 1229 الموافق ( 17 إبريل سنة 1814 ) .
وكان الوهابيون قد تجمعوا زهاء عشرين ألفاً بالقرب من مدينة تربة
فهاجمتهم الجيوش المصرية ولم يكن النصر لأحد من الفريقين وفي صبيحة ذلك
اليوم الموافق ( 10 يناير سنة 1815 ) وصل إلى المعسكر محمد علي باشا بنفسه
ومعه بقية الجيش ووجه كل قواه أوّلاً لمحاربة الجيش الآتي من جهة اليمن ،
من يعوقه في السير تقدّم نحو مدينة تربة فاحتلها واحتل أيضاً مدينة بيشة ورينة
وكان لإنتصاره هذا وقع عظيم في قلوب الوهابيين فانضم إليه كثير منهم ومن
قوّادهم وصار يقطعهم المدن والقرى ليزيد ارتباطهم به وإطاعتهم له .(1/63)
"""""" صفحة رقم 64 """"""
ثم توجه الجيش إلى بلاد العسير الواقعة في جنوبي مكة وحارب جنود الأمير
طامى الذي حارب المصريين في قنفذة على البحر الأحمر واضطر زعيم أوغلى
إلى اختلائها ، ثم صار القبض عليه بمساعدة حسن بن خالد قائد جيوش أمير
تهامة وأرسل إلى مصر ومنها إلى إسلامبول حيث قتل .
وذكر الجبرتي في أخبار سنة 1230 وصول الأمير طامى إلى مصر فقال وفي
يوم الجمعة ثامن عشر شهر جمادى الأولى وصل طامى إلى البركة والمحمل إذ ذاك
بها ، فخرجت جميع العساكر في ليلة الإثنين الحادي والعشرين منه وساروا في
صبيحتها طوائف وخلفهم المحمل وبعد مرورهم دخلوا بطامى المذكور وهو
راكب على هجين وفي رقبته الحديد والجترير مربوط في عنق الهجين وصورته
رجل شهم عظيم اللحية وهو لابس عباءة عبدانية وكان يقرأ وهو راكب وعملوا
أيضاً شنكاً وضربوا مدافع . اه .
وبعد أن استتب الأمن في جهة العسير وما جاورها عاد الجيش إلى المدينة
واستعدّ طوسون باشا إجابة لرغبة والده للزحف على بلاد نجد وقام من المدينة
ووصل إلى قرب مدينة الرسّ فأتى إليه مشايخها وطلبوا منه ألا يحتل مدينتهم
بشرط أن لا يصرحوا للوهابين بالدخول إليها وأن يقدّموا لجيشه كل ما يلزمه
من المؤن بالثمن الملائم فقبل ذلك منهم طوسون باشا رغبة في عدم تعريض
جيشه للحرب وحفظاً له من فنائه بدون ضرورة شديدة داعية إلى ذلك ولا
احتياج كلي ، ثم انتظر بالقرب من الرسّ ريثما تأتيه الجنود اللازمة ليزحف على
الدرعية عاصمة الوهابيين .
وفي أثناء انتظاره الجنود دخل المدينة بقصد أداء فريضة الصلاة فدعاه أحد
مشايخها لتناول القهوة عنده وكان ( طوسون باشا ) قد أمر أنه في ذلك الوقت
تدخل العساكر وتحتل المدينة أثناء اشتغال الأهالي بالصلاة فقاموا بما أمروا به
واحتلوا المدينة بهذه الحيلة بدون حرب فلما احتلوها أمر بهدم أسوارها حتى لا
تعود صالحة لإقامة الوهابيين . وبعد مناوشات خفيقة احتل طوسون باشا في(1/64)
"""""" صفحة رقم 65 """"""
خلالها عدداً عظيماً من مدن نجد أرسل إليه عبد الله بن سعود ، الذي تولى بعد
والده سعود على طائفة الوهابيين ، رسولاً يدعى الشيخ أحمد الحنبلي يطلب
الصلح والطاعة ويكون تحت طاعة أمير المؤمنين ومذعناً لجميع أوامره فجاوبه
طوسون باشا أنه لا يمكنه قبول ذلك منه إلا بعد استشارة والده محمد علي باشا
وأن يمنحه هدنة مدّة عشرين يوماً حتى يخبر والده بذلك فقبل منه عبد الله بن
سعود وبطلت كافة الحركات العدوانية وبقي كل جيش في مكانه ينتظر انتهاء
الهدنة لإتمام الصلح أو استمرار القتال .
وفي أثناء هذه الهدنة وصل إلى طوسون باشا خطاب من والده يخبره بأنه
سافر إلى مصر لأشياء ضرورية وأنه ترك عدداً عظيماً من الجند بين رجّاله
وركبان تحت قيادة خزنداره ويوصيه فيه بالإسراع في الزحف على الدرعية
لإستئصال شأفة الوهابيين وإراحة العباد من مكايدهم ، وكان السبب في رجوع
محمد علي باشا إلى مصر على عجل هو علمه برجوع نابوليون من منفاه الأول
إلى فرانسا وتحققه من طمع هذا الرجل في احتلال مصر وجعلها مستعمرة
فرنساوية على طريق الهند الإنكليزية لما بين الدولتين من العداوة الوراثية وكان
وصول عزيز مصر إلى القاهرة على طريق القصير فقنا فمصر في يوم 18 يونيه
سنة 1815 ( اليوم الذي أنهزم فيه نابليون في واقعة وترلو ) وقد ذكر الجبرتي
وصول العزيز إلى القاهرة في أخبار شهر رجب سنة 1230 فقال : وفي يوم
الأربعاء سادسه وصلت هجانة من ناحية قبلى وأخبروا بوصول الباشا إلى
القصير فخلع عليهم كتحدا بيك كساوى ولم يأمر بعمل شنك ولا ضرب
مدافع حتى يتحقق صحة الخبر وفي يوم الجمعة ثامنه قبل العصر ضربت مدافع
كثيرة من القلعة والجيزة وذلك عندما ثبت وتحقق وصول الباشا إلى قنا وقوص
وفي ليلة الجمعة خامس عشره وصل إلى الباشا إلى الجيزة ليلاً فأقام بها إلى آخر
الليل ثم حضر إلى داره في الأزبكية . اه .(1/65)
"""""" صفحة رقم 66 """"""
هذا ولما وصل إلى طوسون باشا جواب أبيه أرسل إلى الخزندار يستقدمه
وجيشه إلى مدينة الرسّ قبل انتهاء الهدنة فأتى إليها بسرعة وبعد مشاورات
طويلة مع رؤساء الجيوش المصرية والقبائل المتحاربة ، قبل طوسون باشا الصلح
بشروط أهمها أن الجيوش المصرية تحتل الدرعية وأن عبد الله ين سعود يؤد كل
ما أخذ من الحجرة النبوية من المجوهرات وغيرها وخصوصاً الكوكب الدري
الذي زنته مائة وثلاثة وأربعون قيراطاً من الألماس وأن يكون تحت أمره حتى إذا
طلب منه السفر إلى أيّ جهة كانت يكون مطيعاً لذلك وأن يؤدي لطوسون
باشا رهائن من أقاربه إلى صدور تصديق محمد علي باشا على هذه المعاهدة .
فلاح من عبد الله بن سعود امتناع من إنفاذ هذه المعاهدة خصوصاً لما طلب
منه أن يسافر إلى إسلامبول كي يبرئ نفسه مما نسب إليه من الخروج عن حد
الديانة المحمدية فكتب إليه العزيز محمد علي باشا بما مضمونه إنه إذا لم يعمل
بمقتضى الشروط التي عقدها على نفسه يبعث إليه عسكراً جراراً يخرب بلاده ،
فلم يرد إليه من الوهابيين إلا محاولات تفيد عدم الإمتثال ، فجهز الباشا عليهم
تجريدة جديدة تحت قيادة ابنه البكري إبراهيم باشا .
ولنذكر ما حدث بالقاهرة من تمرد لطيف باشا على ولي نعمته وموته شر
ميتة وعصيان الجند على محمد علي باشا قبل أن نأتي على تفصيل ما حصل بين
إبراهيم باشا والوهابيين من الحروب فنقول :
تمرد لطيف باشا :
إنه حصل بالقاهرة أثناء تغيب العزيز بالأقطار الحجازية أمر مهم لو لم
يتداركه الكيخيا بعزم وهمة لكان من ورائه تفويض سلطة محمد علي باشا
وزوال ملكه ، نريد بذلك تمرد لطيف باشا وطلبه ولاية مصر واختلاسها من
عزيزها الذي لم يصل إليها إلا بركوب الأهوال والأخطار وإضاعة الدرهم
والدينار ، وبيان ذلك أنه لما أعاد طوسون باشا الأمن إلى طريق الحجاج
واستخلص المدينة المنورة من أيدي الوهابيين أرسل محمد علي باشا لطيف باشا(1/66)
"""""" صفحة رقم 67 """"""
المذكور إلى القسطنطينية لإبلاغ هذا الخبر إلى الدولة العلية فاستقبل هناك بغاية
الترحيب والإجلال نظراً لمقام مرسله ولأهمية مأموريته .
فلما عاد إلى مصر داخله الكبر وظن أنه لو اغتصب الولاية من محمد علي
باشا ربما يروق ذلك في أعين ولاة الأمر في إسلامبول فأخذ في جمع الجند حول
داره وإجزال العطايا للكشاف ورؤساء الجند من أرنؤد ودلاة ، فلما رأى
الكيخيا ذلك دخله الخوف وخاف سوء المنقلب وأراد أن يخلص بلاده من شره
قبل تفاقم أمره فجمع ديواناً بالقلعة وأرسل إليه يستدعيه فأبى الحضور لعلمه
بالمكيدة ثم أرسل إليه الكيخيا يطلب منه إما الإطاعة أو الخروج من القاهرة
فقبل الخروج ، لكن وجد الجند من الأرنؤد متربصين له في الطرق الموصلة إلى
داره فناوشهم واستمر إطلاق البنادق بين الطرفين إلى نصف الليل بل وبعده ،
ولما رأى لطيف باشا أن العسكر أحدقت بمنزله وهدّدته بالدخول فيه والقبض
عليه اختفى في مخبأه مع ست من الجواري التركيات ومملوك مخلص له ولم يعلم
بمحله إلا أحد خصيانه وبعد قليل دخل الجند داره وفتشوها ولما لم يقفوا له على
أثر نهبوها وسبوا نساءه وسراريه وبحثوا عنه أيضاً في الدور المجاورة لها ثم اكتفوا
بحفظ الطرقات وفي مساء ذلك اليوم خرج لطيف باشا من المخبأة وتسلق
الأسطحة حتى وصل إلى دار خزنداره واختفى هناك ، ففي اليوم التالي أخبر
الخصي بالمخبأة التي بالبيت ففتحوها ولم يجدوا بها إلى الجواري والمملوك فأخذوا
يقررونهم عنه وأين ذهب ولكن لم يجد ذلك شيئاً ثم خطر ببال لطيف باشا أن
يذهب من بيت خزنداره إلى أحد البيوت المجاورة له من السطح ليهرب وينجو
بنفسه إلا أنه لسوء حظه ودنّو أجله رآه أحد الجند المعينيين فوق الأسطحة لمنعه
من الهرب ، فلما رآه أسرع بالصياح على إخوانه وعند ذلك أطلق فيه لطيف
باشا رصاصه قتلته فاجتمع الجند واحتاطوا به وقبضوا عليه وسجنوه في بيت
محمود بيك الدويدار ، حتى إذا أصبح اليوم التالي عقدوا ديواناً للحكم عليه
بالقلعة حضره أكابر الحكومة وأعيانها وحكموا عليه بالقتل ثم أرسلوا من
يستحضره فجاء مع محمود بيك الدويدار إلى القلعة وهناك قبض عليه وضرب(1/67)
"""""" صفحة رقم 68 """"""
عنقه وعلقت رأسه على باب زويله طول نهاره وكان ذلك في يوم الثلاثاء 21
من ذي الحجةسنة 1288 ( 8 نوفمبر سنة 1813 ) أما لطيف باشا المذكور
فكان جرجي الأصل ومملوكاً لعارف بيك ابن خليل باشا الذي كان قاضياً
بمصر ، أهداه إلى العزيز فاختاره لما تفرس فيه النجابة وقرّبه إليه ورقاه إلى رتبة
انختر أغاسي أي صاحب المفتاح وصار له حرمة زائدة وكلمة عند الباشا .
عصيان الجند بالقاهرة
وأما ما حصل بمصر غير تلك الحادثة من الأمور المهمة فهو عصيان الجند
وتمردهم على العزيز بعد عودته من الأقطار الحجازية وذلك أنه لما عاد إلى مصر
في يونيو سنة 1815 شرع في ترتيب عسكره على النظام الأوربي لتزداد بذلك
قوتهم لكن لم يوافقه على ذلك قوّاد جنوده فقضى مدة في إقناعهم بدون ثمرة
ولما رأى منهم عدم موافقته على مشروعه عزم على تنفيذه رغم أنفهم ، وابتدأ
بالفعل في تمرين الفرقة التي هي تحت قيادة ولده إسماعيل بيك في يوم 12
أغسطس سنة 1815 ، وأعلن بأن كل من لم يقبل هذا النظام الجديد سواء كان
من الأنفار أو من البيكوات يجرد ويطرد من مصر فتحزب الجند واتفقوا مع
قوّادهم على الغدر بالباشا .
واتفق في هذا الوقت أن عابدين بيك أولم وليمة في ليلة الجمعة 28 شعبان
سنة 1230 احتفالاً بقدوم العزيز محمد علي باشا من بلاد الحجاز سالماً فاجتمع
بداره جماعة من أكابر الجند ، فيهم حجو بيك وعبد الله أغا صارى جله وحسن
أغا الأرزنجلي ، فتكلموا في هذا الشأن واتفقوا على الهجوم عليه في داره
بالأزبكية عند طلوع الفجر ولما استشعر عابدين بيك بما يقصدونه من الخيانة
بالوالي خرج خفية من داره مسرعاً إلى الباشا ليخبره بما اتفق عليه أعداؤه ثم
عاد إلى أصحابه بدون أن يعلم أحد بخروجه وهنالك ركب الباشا حالاً وتوجه(1/68)
"""""" صفحة رقم 69 """"""
إلى القلعة مستصحباً معه عساكر طاهر باشا وغيرهم ممن يثق بهم وترك عدداً
عظيماً من الجند يحرسون منزله بالأزبكية ، ولما علم المتآمرون أن الباشا وقف
على حقيقة حالهم وجلية أمرهم ، لم ينثنوا عن مقصدهم ، بل قصدوا منزله
بالأزبكية لنهبه فمنعهم من كان به من الجند وتراموا بالرصاص ولم يتمكنوا من
شيء ثم ساروا إلى القلعة واجتمعوا بالرميلة ولما لم يجدوا للهجوم عليها سبيلاً
لتسلط أفواه المدافع عليهم انتشروا في البلد للسلب والنهب لينضم إليهم من
خالفهم في الرأي ، وتقوى شوكتهم بذلك فيعودوا إلى القلعة بقوة عظيمة فنهبوا
الغورية والسكرية والحمزاوي إلا خان الخليلي فإنه لم يردّهم عن نهبه إلا قوة
بنادق من به من ترك وأرنؤد وكذلك دافع المغاربة عن الفحامين والشوّايين
والكعكيين واستمر النهب ساعات وكان ذلك في يوم جمعة ولم تصل فيه لشدة
ما كان .
وفي وقت المساء استدعى الباشا السيد محمد المحروقي وأمر بتحرير قوائم
مشتملة على ما نهب من التجار ليدفعه لهم فحررت القوائم وظهر أن ما خص
الغورية مائة وثمانون كيساً والسكرية سبعون والحمزاوي ثلاثة آلاف فصرفها
الباشا لأربابها بعد تنزيل شيء يسير وبعد أداء اليمين الشرعية على ما سلب منهم
فبذلك أطمأن الناس واستبشروا بانتشار العدل وانقضاء أيام الظلم ، ثم أخذ
الباشا يستميل قلوب الجند ويوزع النقود والعلائف عليهم ، وترك مشروع
تدريبهم على النظام الأوربي ، حيث أدّى إلى ما حصل ، منتظراً فرصة أخرى
وبعد انقضاء عيد الفطر نزل الباشا من القلعة وهدّأ خاطر الأهالي وأراح بالهم
وشرح صدورهم ، وزار يوسف باشا المعزول من ولاية دمشق واجتمع مع
العلماء والأعيان ووعدهم بأن يريح العباد من عود الجند إلى مثل ذلك .
رجوع طوسون باشا إلى مصر :
ولما بلغ طوسون باشا خبر ثورة العسكر بالقاهرة ونهبهم لها سافر من المدينة
إلى ينبع ومنها إلى جبل الطور فالسويس بحراً وكان وصوله إليها في غاية شهر(1/69)
"""""" صفحة رقم 70 """"""
ذي القعدة سنة 1230 . وجاء في الجبرتي أنه في يوم الإثنين رابع شهر ذي
الحجة سنة 1230 ( 7 نوفمبر سنة 1815 ) نودي بزينة الشارع الأعظم
لدخول طوسون باشا سروراً بقدومه ، فلما أصبح يوم الثلاثاء خامسه احتفل
الناس بزينة الحوانيت بالشارع وعملوا له موكباً حافلاً ودخل من باب النصر
وعلى رأسه الطيلسان وشعار الوزارة وطلع إلى القلعة وضربوا في ذلك اليوم
مدافع كثيرة وشنكاً وحرائق وفي ليلة الجمعة الخامس عشر سافر طوسون باشا
إلى الإسكندرية ليرى أباه ويسلم عليه وليرى أيضاً ولداً له ولد في غيبته يدعى
عباس بيك أخذه جدّه مع حاضنته إلى الإسكندرية وسنه دون سنتين وفي يوم
السبت العشرين منه حضر طوسون باشا إلى مصر راجعاً من الإسكندرية .
حبس المعلم غالي :
ولخلوّ الخزينة من النقود وعدم وجود موسرين بالبلد يؤخذ منهم ما يحتاج
إليه على سبيل القرضة أو غيرها وتأخير المعلم غالي باشا ' محاسبجي ' في ستة
آلاف كيس ، أصدر الباشا أمره إلى كيخيا بيك بطلب هذا المبلغ أو حبسه حتى
يفيه فطلبه الكيخيا فاعتذر بأن هذا المبلغ متأخراً على الأهالي وأنه ساع في
تحصيله وطلب مهلة قليلة فلم يقبل منه الكيخيا وأمر بحبسه وحبس أخيه
تحصيله وطلب مهلة قليلة فلم يقبل منه الكيخيا وأمر بحبسه وحبس أخيه
المسمى فرنسيس و ' خزنداره ' المدعو سمعان ، ثم وشى به عند الكيخيا طائفة من
الأقباط وعرّفوه بأنه إذا حوسب يظهر عليه ثلاثون ألف كيس ، فاشترط عليهم
الكيخيا أنه إن لم يظهر على المعلم غالي هذا المبلغ يكونوا ملزمين بالباقي ، فقبلوا
هذا الشرط وهم المعلم جرجس الطويل ومنقريوس البتوني وحنا الطويل ولما
أبطأ المعلم غالي في دفع ما طلب منه أمر الكيخيا بضرب أخيه أمامه وبضربه هو
أيضاً وضرب خزنداره ، ثم أفرج عن أخيه وخزنداره ليسعيا في تحصيل المطلوب .
أما سمعان فمات على أثر الضرب لأنه ضرب ألف كرباج وأما فرنسيس أخو
المعلم غالي فسعى في أداء المطلوب ببيع ما يملكونه من منقول وعقار ، ثم توسط
له لدى الباشا المسيو ( بوزاري ) طبيبه الخاص فقبل منه الباشا ذلك وأمر بإخلاء
سبيل المعلم غالي بشرط أن يدفع أربعة عشر ألف كيس وألزم معارضيه جرجس(1/70)
"""""" صفحة رقم 71 """"""
الطويل ومنقريوس البتوني بدفع أربعة آلاف كيس . ولقد رأى بعد ذلك محمد
علي باشا أن يخرج الجند من القاهرة منعاً لما يحصل منهم من الشغب والهياج
فأمر ولده طوسون باشا الخروج إلى جهة فوّة مع عساكر الدلاة وعابدين
بيك إلى جهة المنصورة مع عساكر الأرنؤد ولم يبق بالقاهرة إلا حاشية الباشا
وأتباع خواصه وعساكر الشرطة .
عزل الشيخ الدواخلي :
وفي أوائل شهر ربيع الأول سنة 1231 في يوم مولد النبي عليه الصلاة
والسلام طلب الباشا المشايخ فحضروا ولما أستقر بهم المجلس أظهر الباشا رغبته
في عزل الشيخ الدواخلي نقيب الأشراف من منصبه واستشارهم في تولية خلف
له فأقر الجميع على تعيين الشيخ البكري ورضوه ، فألبسه الخلعة وانصرفوا وفي
اليوم الثاني صدر أمر من الباشا بنفي الشيخ الدواخلي إلى دسوق فسافر في
الحال إلى منفاه ، وطلب الباشا من المشايخ أن يحرروا محضراً يبينون فيه أسباب
عزله ليرسله إلى نقيب الأشراف في إسلامبول ، الذي من خصائصه عزل وتولية
نقباء الأشراف بولايات الدولة العلية فحرر المشايخ ذلك المحضر ونسبوا له فيه
أشياء كثيرة ، منها أنه تطاول على السيد منصور اليافي لفتوى أفتاها مستنداً
على قول ضعيف ، ومنها أنه يعارض القاضي في أحكامه ، وذكروا أسباباً أخر
غير ذلك لم يكن فيها السبب الحقيقي في عزل الباشا له وهو في الحقيقة انتقاده
على أحكام الباشا على مرأى ومسمع من المقربين إليه .(1/71)
"""""" صفحة رقم 72 """"""
سفر إبراهيم باشا إلى الحجاز :
لنرجع إلى الكلام على الحملة التي كان جارياً تجهيزها لمحاربة الوهابيين تحت
إمرة إبراهيم باشا فنقول أن محمد علي باشا لما عزم على معاقبة الوهابيين لعدم
قيامهم بما تعهدوا به ، أمر بجميع ما يلزم من المراكب بساحل بولاق لنقل المؤنة
والذخائر إلى مدينة قنا لتنقل منها لتنقل منها على ظهور الجمال إلى ثغر القصير ثم إلى ثغر
ينبع من طريق البحر الأحمر فلما صار تجهيز كل ما لزم لسفر الحملة سافر
إبراهيم باشا من بولاق في يوم 12 شوال سنة 1231 ( 3 سبتمبر سنة
1816 ) فوصل ينبع في 9 ذي القعدة سنة 1231 ( 29 سبتمبر سنة 1816 )
ثم سار قاصداً المدينة المنورة ، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ، فوصلها بعد
عشرة أيام وفي اليوم الرابع من عيد الأضحى قام إبراهيم باشا وعسكره من
المدينة وأقام في مدينة تدعى الصويدرة واقعة على مسافة متساوية بين فرضتي
جدّة وينبع وجعلها مركزاً لأعماله لقربها من هاتين الفرضتين ، ثم أخذ في جمع ما
يلزم من الجمال للزحف على بلاد نجد لكنه لم يجد مساعدة من العرب المجاورة
لها الذين اتحدوا مع الوهابيين على محاربة المصريين ، وشرعوا في مناوشة القوافل
بين الصويدرة والموانئ البحرية ، فأرسل إبراهيم باشا لمحاربتهم ألفي جندي من
مشاة وفرسان فقابلوهم على بعد يومين وهزموهم شر هزيمة .
فلما لم يروا من الوهابيين أقل مساعدة أتوا إلى معسكر المصريين وأذعنوا
بالطاعة لرئيسهم وتعهدوا بإحضار كل ما يطلب منهم من جمال وغيرها ثم قام
إبراهيم باشا من الصويدرة قاصداً مدينة تدعى الحناكية وسار منها إلى مدينة
الرس فحاصروها ، وفي أثناء ذلك جمع عبد الله ابن سعود جميع ما عنده من القوة
والرجال فكانت زهاء أربعين ألفاً من فرسان العرب ومجربيها في الحروب ومن
سوء سياسة عبد الله بن سعود أن استجلب كراهة القبائل لمحاربته إياهم
واضطهادهم خصوصاً عرب حرب النازلين بين المدينة المنورة والحناكية فزرع
العداوة معهم وكان قريباً منهم الأمير ' أوزون على الأورفه لي ' الكردي قائد
مقدمة جيوش إبراهيم باشا ومعه نحو مائة وخمسين من فرسان الأكراد المشهورين(1/72)
"""""" صفحة رقم 73 """"""
بالهجوم ، فلما تقدم عبد الله بن سعود نحو مقدمة المصريين هجم عليه أوزون
بعسكره القليلة العدد الكثيرة القوة وزحف بخيلة في وسط عسكر عبد الله بن
سعود ولحقه عرب حرب مساعدين له لما ذاقوه من الوهابيين من النهب
والسلب ، ونزل رصاص الأكراد على عرب ابن سعود مثل المطر ، ودهموهم
مثل القضاء المبرم لحسن سلاحهم ، فمسافة ما يفك الوهابي بندقيته من جرابها
ويولع الفتيلة يكون قد أصابة خمس رصاصة على الأقل . فما مضت برهة من
الزمن إلا وقد انكسرت مقدمة عساكر عبد الله بن سعود ورجع القهقري ومن
هذه الواقعة عرف إبراهيم باشا أن لا صبر ولا جلد للوهابيين أمام الرصاص
والنار ، بل هم رجال يحاربون بالرماح والسيوف على الطراز القديم ومعهم
بنادق بالفتيل لا تفيدهم شيئاً أمام بنادق المصريين ومدافعهم .
وبعد هذه الوقعة تحصن عبد الله بن سعود داخل مدينة عنيزة - أما إبراهيم
باشا فحاصر مدينة الرسّ ، وكان قد احتلها الوهابيون بعد عودة طوسون باشا
إلى مصر ، وأقام حولها الإستحكامات القوية وعززها بالمدافع وابتدأ في إطلاقها
على سور المدينة بدون أن يسلم العدوّ ، ولما عيل صبر إبراهيم باشا من الإنتظار
بعد أن استمر إطلاق القنابل على المدينة ستة أيام متوالية ، أمر بالهجوم عليها
ليلاً فهجمت المشاة ومنعت الخيالة الأهالي من الخروج لكن لم تنجح العساكر
المصرية في هذه الدفعة والتزمت بالرجوع بعد استمرار القتال أربع ساعات .
وبعد أن استمر الحصار ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً بدون فائدة تصالح مع
أهل المدينة على أن يرفع الحصار عن مدينتهم بشروط أهمها : أن لا يدخل المدينة
أحد من جنوده وأن لا يقدم لهم الأهالي شيئاً من المؤنة وأنه إن استولت الجيوش
المصرية على مدينة عنيزة تسلم إليه مدينة الرس بدون قتال وإن لم ينجح أمامها
تستأنف المحاربة ثانية .
ثم قام إبراهيم باشا بجيشه قاصداً مدينة عنيزة فصادف في طريقه بلدة تدعى
( الخَبْراءَ ) فدخلها بعد أن دهمها بمدافعة عدة ساعات ، وبعد أن أراح جيشه أحد(1/73)
"""""" صفحة رقم 74 """"""
عشر يوماً سافر إلى ( عنيزة ) فوصلها وبعد أن حاصرها ستة أيام سلمها له
حاكمها المدعو محمد بن حسن بشرط أن يجوز لعساكر الوهابية الذهاب إلى أي
جهة أرادوا ويتركوا في البلد كافة ما لديهم من الأسلحة والذخائر ، فقبل ذلك
إبراهيم باشا ودخل المدينة وأرسل فرقة لإحتلال مدينة الرس كما تقدم لك .
ثم إنه ارتحل من عنيزة ونزل ببلدة تدعى ( بُريْدَةَ ) ودخلها بعد قتال قليل
وكان صاحبها يقال له ( حُجَيْلانُ ) بضم الحاء وفتح الجيم فنفاه الباشا إلى المدينة
حيث توفي بعد أيام قلائل ومنها ذهب إبراهيم باشا لمحاصرة بلد تدعى
( الشقْرَاءَ ) فوصلها في يوم 13 يناير سنة 1818 الموافق أوائل شهر ربيع أوّل
سنة 1233 وابتدأ في محاصرتها بدون إمهال وأقام حولها بطاريات المدافع
واستمر في إطلاقها حتى طلب الأهالي التسليم واشترط من بها من جنود
الوهابيين أنهم بعد أن يسلموا سلاحهم إلى إبراهيم باشا يباح لهم الذهاب إلى أيّ
جهة ساروا ، فقبل منهم ذلك وقيده بأن يتعهد هؤلاء الجند بأن لا يحملوا
السلاح مرة أخرى في وجه المصريين وأنهم لو خالفوا هذا الشرط عوقبوا
بالقتل .
وعقب هذا الإتفاق فتح الأهالي أبواب المدينة ودخلها بطل مصر إبراهيم
باشا في 22 يناير سنة 1818 الموافق 14 ربيع أوّل سنة 1233 ثم ترك
بالمدينة الحامية الكافية وذهب لفتح ( الدرعيّة ) عاصمة الوهابيين وكانوا يسمونها
دار الهجرة وكان كلما مرّ على قرية ودخلها لا يتعرض لأهلها بسوء ويمنع
عساكره من التعرض لهم ويكتفي بطاعتهم له .
لكنه لم يتوجه تواً إلى مدينة الدرعيّة بل عرّج على مدينة يقال لها ( درمة ) لما
بلغه من وجود كثير من المؤن بها وعدد عظيم من الخيول فوصلها وأحرق جزءاً
كبيراً منها بالمدافع ، حتى تحصن حاكمها وأتباعه في قصره ولما لم يرغب إبراهيم
باشا في هدم قصره بالمدافع خوفاً من إتلاف ما به من الأشياء الثمينة والخيول(1/74)
"""""" صفحة رقم 75 """"""
العربية المطهمة ، قبل أن يخرج الحاكم من البلد بشرط أن لا يأخذ شيئاً معه مما
في القصر فسر الحاكم بذلك ونجا بنفسه .
فتح الدرعية وتسليم عبد الله بن سعود :
ثم توجه إبراهيم باشا إلى ناحية الدرعية فوصل أمامها في تسع
وعشرين خلت من شهر جمادي الأولى سنة 1233 الموافق 6 إبريل سنة
1818 وكان جيشه مؤلفاً من خمسة آلاف جندي من المشاة والفرسان واثنى
عشر مدفعاً ، ولما لم يكن هذا العدد كافياً لحصار المدينة بأجمعها لإتساعها ، أشار
على الباشا أحد أركان حربه الفرنساويين المدعو مسيو ( فسيير ) بحصار القرى
الأربع المحيطة بالمدينة الواحدة بعد الأخرى ، حتى إذا احتلها حاصر المدينة
الأصلية بكل سهولة ، فاتبع إبراهيم باشا رأيه ومع ذلك استمر الحصار ستة
أشهر ، ولا حاجة لذكر تفاصيله ، ولما رأى عبد الله بن سعود سقوط ثلاث قرى
من ضواحي المدينة في أيدي إبراهيم باب باشا وأنه لا بد من التسليم عاجلاً أو آجلاً مال للتسليم وأرسل إلى إبراهيم باشا في يوم 9 سبتمبر سنة 1818 يطلب منه
إيقاف القتال ريثما يتم بينهما الإتفاق فأوقفه ، وأتى عبد الله بن سعود إلى
معسكر إبراهيم باشا فأكرمه ، وبعد محادثة طويلة ثم الأتفاق على أن تسلم
الدرعية إلى الباشا وتعهد بعدم إضرار الوهابيين وأقاربهم ، وأن يسافر عبد الله بن
سعود إلى القسطنطينية كما هي رغبة السلطان فلبى إجابته وتوجه إلى داره
ليتأهب للسفر إلى مصر ومنها إلى القسطنطينية .
ولما بلغ محمد على باشا خبر انتصار نجله على الوهابيين وتبديده إياهم
ودخوله عاصمتهم أطلقت المدافع من القلعة ، وذكر الجبرتي في أخبار سنة
1233 أنه في سابع شهر ذي الحجة الحرام وردت بشائر من الحجاز برسالة من
عثمان أغا الورداني أمير ينبع بأن إبراهيم باشا استولى على الدرعية ، فسرّ الباشا
بهذا الخبر سروراً عظيماً وانجلى عنه الضجر والقلق وأنعم على المبشر ، وعند
ذلك ضربت مدافع كثيرة من القلعة والجيزة وبولاق والأزبكية وانتشر(1/75)
"""""" صفحة رقم 76 """"""
المبشرون على بيوت الأعيان لأخذ البقاشيش ، وفي ثاني عشرة وردت مكاتبات
بذلك من إبراهيم باشا نفسه فأكثر من ضرب المدافع من كل جهة واستمر
الضرب من العصر إلى المغرب بحيث ضرب بالقلعة خاصة ألف مدفع وصدرت
الأوامر بتزيين المدينة ثلاثة أيام متوالية وفي كل يوم يطوف المنادي ويكرر المناداة
بالشوارع على الناس بالسهر والوقود والزينة وعدم غلق الأبواب ليلاً ونهاراً .
( اه ملخصاً ) .
وصول عبد الله بن سعود إلى القاهرة :
ثم تم بالسرور وكل الحبور بوصول عبد الله بن سعود إلى القاهرة وكان
وصوله إليها في يوم الإثنين سابع عشر محرم سنة 1234 الموافق 17 نوفمبر
سنة 1818 فدخل من باب النصر ومعه عبد الله بكاش قبطان السويس وهو
راكب على هجين وأمامه طائفة من الدلاة فذهبوا به إلى بيت إسماعيل باشا ابن
الباشا فأقام يومه وذهبوا به في صبيحة اليوم الثاني إلى عزيز مصر بسراي شبراً
فلما دخل عليه قام إجلالاً له وقابله بالبشاشة وأجلسه بحذائه ، وحادثه في أمر
الحرب فقال له الوهابي إن الحرب سجال قال له : وكيف رأيت إبراهيم باشا
قال : شجاعاً مقداماً بذل همته ، وقد دافعنا عن ديارنا دفاع الأبطال حتى كان ما
قدره الله ، فوعده الباشا بالسعي لدى الباب العالي ليعفو عنه فانصرف الوهابي
وعاد لمنزل إسماعيل باشا ثم سافر إلى القسطنطينة في يوم الأربعاء التاسع عشر
من شهر محرم سنة 1234 الموافق 19 نوفمبر سنة 1818 وقتل عند وصوله
للقسطنطينية .
أما المجوهرات التي أخذها الوهابيون من الحجرة النبوية حين دخلوا المدينة
المنورة سنة 1220 فردّها عبد الله بن سعود إلى إبراهيم باشا منها الحجر
الألماس المسمى بالكوكب الدرّي فأعاده الباشا إلى محمله وأما ما نقص منها
فادعى الوهابي أنها بيعت وصرف ثمنها في الحروب ، ووزع جانب منها على
رؤساء القبائل فبددّوها .(1/76)
"""""" صفحة رقم 77 """"""
موت طوسون باشا :
ومما حصل في أثناء هذه الحروب من الأمور المهمة التي ينبغي ذكرها موت
المرحوم طوسون باشا نجل الباشا فتوفي في برنبال أمام مدينة رشيد في ليلة الأحد
سابع ذي القعدة سنة 1232 الموافق 6 يوليه سنة 1816 عقب مرض أتاه
فجأة ولم يمهله إلا عشر ساعات فغسل وكفن ووضع في صندوق خشب وسير
به من طريق النيل إلى القاهرة ، هذا ولم يتجاسر أحد بإخبار والده ولبس الكل
سربال الحيرة وصاروا في حيرة من تبليغ هذا الخبر المشئوم إلى والده فدخل عليه
كتخدا بيك آخذاً في البكاء والإنتخاب فعلم الباشا حقيقة الأمر وحزن لفقده
حزناً شديداً ، ثم أمر بإعادة الجنازة حسب العادة فجهزت وسير بها إلى الإمام
الشافعي وواره التراب في المقبرة التي أعدّها الباشا لنفسه وعائلته وسار والده
خلف نعشه ينظر إليه ويبكي .
وتوفي طوسون باشا رحم الله الجميع ، وهو في مقتبل العمر ولم يبلغ عمره إلا
عشرين سنة وكان أبيض ذا جسم ، بطلاً شجاعاً جواداً له ميل للمصريين قائماً
بأوامر الديانة الإسلامية تخشاه العسكر وتهابه مع المحبة الزائدة لأنه كان يكافئ
ذا العمل الصالح بالبر والإحسان وذا العمل السيء بالذل والهوان ، اقتداء بقوله
عزوجل ) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ( وقلما يوجد مثل هذا
الشهم المسدّد الرأي الذكيّ الفطرة ، وعلى فراقه يحق للعيون أن تدمع وللقلوب
أن تجزع وللأحشاء أن تتميز وللأكباد أن تحترق . ولما انتهى الحرب وانتشر لواء
الأمن في جميع الجهات الحجازية ونجد عاد الأمير إبراهيم باشا إلى مصر من
طريق القصير فقنا فالنيل إلى القاهرة فوصلها في يوم الخميس 21 صفر سنة
1235 وهاك ما ذكره الجبرتي في قدومه :
قال : وعند وصول إبراهيم باشا نودي بزينة المدينة سبعة أيام بلياليها فشرع
الناس في تزيين الحوانيت والدور والخانات بما أمكنهم وقدروا عليه من الملوّنات
والمقصبات وأما جهات النصارى وحاراتهم وخاناتهم فإنهم أبدعو في عمل(1/77)
"""""" صفحة رقم 78 """"""
تصوير مجسمات وتماثيل وأشكال غريبة ، ولما أصبح يوم الجمعة دخل إبراهيم
باشا في موكب حافل من باب النصر وشق المدينة وعلى رأسه الطيلسان
السليمي من شعار الوزارة ، وقد أرخى لحيته بالحجاز وحضر والده إلى جامع
الغورية بقصد التفرج على موكب ابنه وطلع بالموكب إلى القلعة ثم رجع سائراً
بالهيئة الكاملة إلى جهة مصر القديمة ومر على جسر من مراكب أقيم على النيل
بين مصر القديمة وجزيرة الروضة وذهب إلى قصره واستمرت الزينة والوقود
والسهر ليلاً وعمل الحراقات وضرب المدافع في كل وقت من القلعة ، ومغان
وملاعب في مجامع الناس سبعة أيام بلياليها في مصر الجديدة والقديمة وبولاق
وجميع الأخطاط .
وبعد ذلك أخذ محمد علي باشا في إصلاح أحوال المصريين زراعية وصناعية
وعلمية وغيرها ، واستدعي لهذه البغية كثيراً من الإفرنج وكذلك شرع في
ترتيب الجيش على النظام الجديد وبينما هو يفتكر في المسائل المؤدّية إلى هذه
البغية إذ قدم إلى مصر رجل فرنساوي يدعى ( سيف ) من ضباط الجيش
الفرنساوي ، فاستخدمه لهذا الغرض ولما كان لهذا الرجل شأن عظيم في كافة
الحروب التي حصلت في بلاد اليونان والشام أردنا أن نأتي بترجمته وكيفية مجيئة
إلى مصر قبل الشروع في تفصيل هذه الحروب وما نشأ عنها من تداخل الدول
الأوربية .(1/78)
"""""" صفحة رقم 79 """"""
4 - ترجمة سليمان باشا الفرنساوي
ولد والد هذا القائد الشهير في 26 يوليه سنة 1754 وكان أبوه مزارعاً
مقيماً بضواحي مدينة ( ليون ) من أعمال فرنسا واسمه ( انسلم سيفوس ) وشب
بين أهله حتى بلغ سن المراهقة فلم يرض بصنعة أبيه فتركه وذهب إلى رجل كان
يصنع البرانيط ليتعلم منه ومكث عنده حتى برع في هذه الصناعة ثم سافر إلى
مدينة ( ليون ) واتخذ له فيها حانوتاً يعمل به البرانيط واشتهر صيته بذلك
خصوصاً في الجهات المجاورة لها ، وصار كل من لا يستعمل برانيطه لا يعد في
ذوي الذوق والكياسة فاتسعت ثروته اتساعاً عظيماً حتى طمح نظره إلى المعالى
فاشتغل بصناعة الآلات وازدادت ثروته ، وتزوج في سنة 1786 بابنه أحد
الطحانين وكانت فقيرة لا تقدر على دفع مهرها كما في عادة الإفرنج ولم يكن
لها إلا شبابها وعفافها وجمالها ، فساعدته مساعدة عظيمة في أشغاله الكثيرة
وصارت تفرح لفرحه وتحزن لحزنه شأن الزوجة الصالحة التي تشارك زوجها في
السراء والضراء وكانت ولوداً فلم تأت عليه سنة 1791 إلا وكان له منها
خمسة أولاد ثانيهم المترجم واسمه ( يوسف ) نسبة لشبينة الذي حضره وقت
العماد وكانت ولادته في 17 مايو سنة 1788 .
وفي أثناء هذه المدة ابتدأت الثورة الفرنساوية الشهيرة في الظهور وكان من
دأب حكام ذلك الوقت قتل الأشراف وهدم قصورهم خصوصاً المشيدة البنيان
القوية الأركان التي كانت تشبه القلاع لأنهم كانوا يصطنعونها ليحتموا فيها(1/79)
"""""" صفحة رقم 80 """"""
أحياناً عند شن الغارة عليهم ، كما كانت عادتهم في تلك الأعصر ، وكان بجوار
مدينة ( ليون ) شريف يدعى الماركيز ( _ دي بارال ) له قصر باذخ به قلعة فتظاهر
بالدخول في حرب الجمهورية خيفة من أن يضطهده الجمهوريون وشرع في بيع
قصره حتى لا يكون ثمة داع لاضطهاد الجمهوريين إياه ، فلما علم والد المترجم
بنوايا الماركيز اشترك مع ثلاثة من الفلاحين واشتروا القصر مع قلعته بثمن بخس
على شرط هدمه فقبل هدمه ، ثم شرع ( انسلم سيفوس ) هو وشركاؤه في بيع ما
كان فيه من الأمتعة الثمينة والأثاثات الفاخرة والأسلحة القديمة فربح من ذلك
مبالغ جسيمة ، ثم ابتدأ في هدم القصر حسب شروطه فساعده الحظ بقتل
الماركيز ، الذي قتله الجمهوريون عند وقوفهم على حقيقة حاله وكنه خبره ،
فتخلص بذلك ( انسلم سيفوس ) من تنفيذ شرطه الذي ربما استغرق جلّ ما ربحه
من بيع الأثاث .
هذا وكان ( يوسف سيف ) المترجم حاد الطبع شكس الأخلاق لا يقبل
نصائح والده ولا أوامره ولا يطيع إلا هوى نفسه ، وكان في ذلك ضرورة فلما
أراد والده أن يمرنه على أشغاله لم يجد منه إلا أذناً صماء وكان يترك منزل
والديه ويرتع في الفلوات مع الصبيان ، وحين كان يعود إلى والده وقد رأى منه
عدم الهداية والإمتثال يذيقه أنواع الأذى كالضرب المؤلم والشتم الفظيع فحين
يرى ذلك من أبيه يهرع ثانياً إلى ما كان عليه وهلم جرّا . . . ولما يئس والده من
إصلاح أخلاقه وتقويم ما اعوج من طباعه أدخله المدرسة البحرية في أواخر سنة
1799 الموافق ( 2 فاندمير سنة 7 ) من التاريخ الجمهوري وكان عمره إذ
ذاك إحدى عشرة سنة وأربعة أشهر وتسعة أيام .(1/80)
"""""" صفحة رقم 81 """"""
فلم تهذب طباعه صعوبة أحكام القانون الباري ولذلك لم يرتق في الرتب بل
بقي في درجة صف ضابط مع أنه كان متصفاً بالشجاعة وسكون الجأش عند
الخطر ، فحضروا واقعة ( ترافلجار ) سنة 1805 ولم يبلغ من العمر وقتئذ إلا
سبع عشرة سنة وهو في رتبة صف ضابط في الألاي الثاني من الطوبجية البحرية
ولم ترعه مخاوف هذه الواقعة الهائلة التي انتصر فيها الأميرال ( نلسون )
الإنكليزي على دوننمات فرنسا وإسبانيا معاً وجرح في ذراعه الأيمن جرحاً غير
ذي بال ولما شفى منه توجه مع الدوننمة الفرنساوية إلى جزائر ( أسور ) وجزائر
( كناريا ) وبقي مدّة سنتين في السفن الطرّادة عن شواطئ إفريقيا الغربية وأوربا ،
ومع ذلك لم تؤثر هذه الصعوبات الشاقة في طباعه بل استمر على ما كان عليه
من عدم طاعة رؤسائه والإذعان لأوامرهم ، حتى غضب عليه في يوم من الأيام
أحد الضباط ورفع عصاه ليضربه فأخذها منه وطفق يضرب ذلك الضابط بها
حتى كسرها ، فوضعت لذلك فيه الأغلال ، وسجن إلى أن يحكم عليه بالإعدام
رمياً بالرصاص كما هو حكم القانون العسكري ولكن لم ينفذ هذا الحكم عليه
لأن أخذ رؤساء الجيوش وكان قد خلصه المترجم من الموت في إحدى الوقائع
سعى في حصول العفو عنه من الإمبراطور نابوليون الأول فلم ينجح سعيه في
العفو عنه ، فتحيَّل له في خروجه من السجن وأرسله إلى أحد أصدقائه وكان
أميرالاي من الفرنساويين الموجودين إذ ذاك في إيطاليا فقبله في ألايه بصفة نفر
عسكري وذلك في 2 مايو سنة 1807 وغير اسمه من ذلك العهد ( بانسلم
سيف ) على اسم والده لئلا يعرف ولم يزل هذا القائد مساعداً له حتى حصل(1/81)
"""""" صفحة رقم 82 """"""
على رتبة أونباشي بعد أن دخل الجيش بثلاثين يوماً في 2 يونيه سنة 1807 ولم
يتعرض أحد لهذه الترقية لأنه كان محبوباً عند هذا الجيش للطفه وحسن أخلاقه
في نظرهم وشجاعته لا سيما في استعمال كافة أنواع الأسلحة ، وقوته كانت
تغرس مهابته في قلوب أقرانه .
ولم يزل في رتبته التي أعطيها لم يتعدها إلا بعد مدة وذلك أنه في إبريل سنة
1809 كان الألاي الفرنساوي السادس الذي فيه المترجم معسكراً في شمال
مدينة ( مينينح ) وفي 15 إبريل من هذه السنة أرسل قائد هذا الألاي أربعة
من الجند منهم ( انسلم سيف ) للإستكشاف تحت إمرة أحد الضباط فتوغلوا في
البر حتى وقعوا في كمين من الأعداء كان يتربص في هذه الجهة فرصة فأحاط به
الأعداء إحاطة الهالة بالقمر فسقط في أسرهم وقد أصيب بثلاث جراح وطلق
ناري بعد أن قتل حصانه تحته فحرم لذلك من حضور الوقائع المهمة التي انتصر
فيها نابوليون على النمساوية نصراً مبيناً وسيق مع الأسرى إلى بلاد
( هنكاريا ) حيث ضمدت جراحه ولم يمض عليه زمن طويل حتى نقه ولما بلغ
تمام الشفاء دخل في خدمة أحد أمراء المجر فكان يعامله كصاحب مخلص لا
كعدوّ أوقعه الحرب في ربقة الأسر ولذلك لم يتمكن من الرجوع إلى فرنسا إلا
بعد أن أقام سنتين أسيراً .
ولما عاد إليها لحق بألايه وكان معسكرا في مدينة ( فيزول ) من أعمال فرنسا
وترقى إلى رتبة جاويش مكافأة له على ما قاساه من عناء الحرب وشدّة الأسر
وكان ذلك في 16 يوليو سنة 1811 ثم سافر ألايه إلى بلاد ( هانوفر ) بألمانيا
في نوفمبر سنة 1811 وانتظم في سلك الجيش المعدّ للهجوم على روسيا وكان
مؤلفاً من ستمائة ألف مقاتل ما بين فرنساويين وألمانيين وإيطاليين وغيرهم من(1/82)
"""""" صفحة رقم 83 """"""
كافة ممالك أوربا الخاضعة لفرنسا فعبر نهر ( نيمين ) في 24 يونيه سنة 1812
ونهر ( دنيبر ) في شهر أغسطس التالي ، وكانت الجيوش الروسية تنسحب متقهقرة
أمام الجيوش الفرنساوية بدون قتال ، كأنهم لا يريدون المدافعة عن وطنهم وما
كانت هذه القهقري إلى حيلة أرادوا بها أن يطمعوا الفرنساويين في الدخول إلى
داخل السهول الروسية ثم يقطعون عنهم خط الرجعة بلا تعب ولا نصب ، ولقد
نجحت هذه الحيلة وتوغل نابوليون في البلاد الروسية حتى وصل مدينة
( موسكو ) ودخلها عنوة بعد واقعة ( موسكووا ) التي كانت سبباً لتخليد اسم
( الماريشال ني ) في التواريخ في 7 سبتمبر سنة 1812 ، لكن آلي الروس
على أنفسهم أن لا يسلموا المدينة للفرنساويين إلا بعد أن يحرقوها ولم يتيسر
للفرنساويين حينئذ المكث مدّة الشتاء داخل هذه المدينة ولما لم يكن في البلاد
المجاورة لها ما يكفي مؤنة هذا الجيش الجرار لا سيما وأن الروس أحرقوا كافة
مزروعاتهم وكانت المسافة بين موسكو والبلاد التابعة لفرنسا شاسعة ولم يتيسر
لهم الإتيان بالمؤن والذخيرة منها عزم نابوليون على الرحيل من الروسيا
والرجوع إلى فرانسا ، فهلك السواد الأعظم من جيشه إما من شدّة البرد أو من
هجمات عساكر القوزاق عليهم ولم يعد إلى فرنسا إلا أقل من النصف .
وكانت هذه الواقعة أول أفول نجم نابوليون وفاتحة انكساره حتى لم يقم له
بعدها قائمة وقد رقي المترجم أيضاً إلى رتبة باشجاويش بعد عودته من الروسيا
إلى رتبة ملازم ثاني في 5 يوينه سنة 1813 بعد أن اشتهر في وقعة ( بوزن ) في
12 فبراير سنة 1813 واستحق الثناء من رؤسائه وطعن في هذه الوقعة برمح(1/83)
"""""" صفحة رقم 84 """"""
طعنة كادت تكون القاضية ولقد اشتهر ( سيف ) بين أقرانه بالشجاعة والنخوة
وثبات الجأش فكان لا يرهبه رئيس ولا أمير ولا الإمبراطور نفسه ، لأنه كان
سالكاً في طريق الواجب المطلوب منه لا يخشى لومة لائم ويحكي عنه حادثة
غريبة تدل على قوّة بأسه وزيادة طيشه وذلك أنه بعد وقعة ( بوتزن ) في 21
مايو سنة 1813 كتب اسمه في قائمة من استحقوا نيشان الشرف ( ليجون
دونور ) فناداه الإمبرطور أمام الصفوف ليقلده النيشان بيده تشريفاً له على
أقرانه فلما حضر أمامه ناوله النيشان موبخاله على طيشه وعدم إنقياده لأوامر
رؤسائه فاحمر وجهه وقفل راجعاً إلى مركزه بدون أن يستلم النيشان فغضب
الإمبراطور لذلك وقال لولا ما اشتهر به ( سيف ) من الشجاعة لبطشت به
ولكنى عفوت عنه وكفاه بعدم إعطائه هذا النيشان جزاء .
ثم امتاز أيضاً عن أقرانه حين دخل جيش الدول المتحدة إلى أراضي فرانسا
في أوائل سنة 1814 بعدّة أمور تدل على شجاعته وقوّة جنانه وأنه لا يتأخر
عن اقتحام الخطوب للدفاع عن وطنه شأن كل رجل حرّكته المحبة لمسقط رأسه
واستفزته النخوة الوطنية وذلك أن قائد ألايه لما بلغه أن بعض عساكر وضباط
القوزاق الروسيين محتلون قرية لا تبعد عن الموقع المعسكر هو فيه إلا ثلاثة
فراسخ ، أراد أن يستطلع حقيقة هذا الخبر وطلب أن أحد الضباط يعرّض نفسه
لهذا الاستكشاف فلم يجب طلبه إلا ( سيف ) فاستصحب معه بعض الفرسان
وهجم على نقطة العدوّ وقتل بعضهم وأسر الباقي فاستحق بذلك رضا رؤسائه
ومحبتهم ومدحهم له على ما شوهد منه وامتاز به بينهم حتى أن قائد هذه الفرقة
هنأه على شجاعته أمام بقية الجيش ورقى ( سيف ) بذلك إلى رتبة ملازم أول في
13 مارث سنة 1814 ونقل إلى الألاي الرابع عشر وكلف بحمل بيرقه ولكن
لم يلبث أن تبدل فرحه ترحاً وسروره حزناً بانتصار جيوش أوربا على العساكر(1/84)
"""""" صفحة رقم 85 """"""
الفرنساوية ودخولهم مدينة باريس وإجبارهم نابوليون على الإستقالة ونفيهم إياه
لأول مرة في جزيرة ( إلبه ) وسافر نابوليون في 20 إبريل سنة 1814 مودعاً
عساكره في حوش قصر ( فونتنبلو ) وأعقب سفره دخول لويز الثامن عشر
مدينة باريس التي لم يتمكن من الدخول إليها إلا بمساعدة الأجانب له .
فانتهى الحرب بذلك وأفاقت الأهالي من هم الحروب وما يتبعها من الكروب
مع إن الفرنساويين كانوا يؤثرون استمرار القتال ، ولو كان فيه فناؤهم عن
آخرهم ، أولى من وطأة الأجنبيأرضهم ولكن للدهر حالات وللوقت ضرورات
توجب الوطني لتحمل وجود الأجنبي في بلاده بصفة حاكم أو مالك معللاً
نفسه بالحصول على الإستقلال السياسي قريباً كان ذلك أو بعيداً .
هذا ولم يرض ( سيف ) أن يبقى في خدمة حكومة تعضدها العساكر الأجنبية ،
لغاية في النفس لا لخير تعود ثمرته على بلاده ، كما كان يظن أحزاب لويز
الثامن عشر ، فرجع إلى بلده ( ليون ) حيث كان أبوه وأقاربه مقيمين فكانوا
يجتمعون به ويسلون أنفسهم عن هذه المصيبة بتذكر مجد فرنسا وما نالته من
الفتوحات في زمن هذا الرجل الذي تحدث بذكره الركبان وخشى بأسه
القاصي والدان حتى وافاهم خبر رجوع نابوليون من منفاه ونزوله إلى البر في
خليج ( جوان ) بالقرب من مدينة ( كان ) في أول مارث سنة 1815 أي بعد
تنازله عن أريكة الإمبراطورية بعشرة أشهر .
ولما شاع خبر عودته تجمع ضباط جيوشه المظفرة وطفقوا يهيجون الأهالي
على حكومة لويز الثامن عشر ويذكرونهم بمجد نابوليون وانتصاره على جيوش
أوربا بأسرها غير مرة ويقولون لهم أنه لم ينهزم فعلاً بل خانه بعض قوّاده الذين
قابلوا نعمته بالكفران وخانوا وطنهم العزيز وساعدوا الأجانب على إذلال
مواطنيهم طمعاً في الدنيا وحباً في المال الذي سعوا في اكتسابه بدون مراعاة
شرف ولا ذمة ولا حرمة وطن .(1/85)
"""""" صفحة رقم 86 """"""
وكان ( سيف ) المترجم من أعظم نصراء نابوليون في مدينة ( ليون ) فكان
يدخل القهاوي والتياترات وكافة المجتمعات العمومية لتهييج الأهالي وإثارتهم
على الحكومة المعضدة من أعداء الوطن والأمة ولم يكن ذلك منه طلباً لإقنتاء
الثروة والترقي إلى الرتب العالية بل حباً منه في استخلاص وطنه وتطهيره من
احتلال الأجنبي فيه .
ولم يكن مع نابوليون عند نزوله على شواطئ فرانسا إلا تسعمائة رجل ، ومع
كون جنوب فرانسا من حزب البوربون ، لم يخش نابليون من التوغل في البلاد
مع قلة حرسه لفرط شجاعته وقوة بأسه حتى قرب من مدينة ( جرينوبل ) إحدى
مدن فرانسا الحصينة فأرسل حاكمها عساكر الحامية لقتال نابليون وحاميته
والإتيان به أسيراً إلا أن الجنود لما رأته تذكرت مجدها الأثيل فلم تجسر على
مطاردته بل انضمت إليه وصافحته وصاحبته إلى مدينة ( جرينوبل ) وكان
دخوله فيها في التاسع عشر من مارث .
فلما رأت حكومة البوربون الإسراع في تقدمه نحو مدينة ( ليون ) وظهر لها
أن أغلب الضباط والقوّاد كارهون لها ومائلون إلى نابليون أرسلت إلى ( ليون )
الكونت ( درتوا ) أخا الملك ليقود حاميتها المؤلفة من خمسة عشر ألف عسكري
فاستعرضهم في 10 منه ولما رأى على وجوههم علامات الميل لنابليون ويئس
من مساعدتهم سافر من ( ليون ) في صبيحة 11 من الشهر وبعد سفره أعلن
الجند الإنحياز لحزب الإمبراطور فدخلها في مساء اليوم نفسه ثم سافر منها في
اليوم الثالث عشر منه قاصداً باريس الزهراء ، ودخلها جهاراً بين صفوف
الأهالي والجند في 20 مارث بدون أن يصادف ما يعوقه في مرور من جنوب
فرنسا إلى شمالها .
ولما عين الجنرال ( جروشي ) قائداً عاماً للفرقة العسكرية في مدينة ( ليون )
وضواحيها وسمع بما أتاه ( سيف ) من المساعدة لنابليون ، كأفأه على ذلك بتعيينه(1/86)
"""""" صفحة رقم 87 """"""
ضمن أركان حربه ورقاه إلى رتبة يوزباشي ولكنه لم يحظ بها ، لأن الإمبراطور لم
يلبث إلا قليلاً وهزمته جيوش انكلترا وبروسيا المتحدة في وقعة ( وترلو ) في
يوم 18 يونيه سنة 1815 وبعد هذه الواقعة التي خلت اسم ( ولنجتون )
الإنكليزي دخلت الجيوش باريس ولم يسع نابليون إلا التسليم ليأسه من الظهور
على أعدائه حيث لم يبق في فرانسا جيوش مدرّبه في مركب في 11 يوليو السفينة
المسماة ( بلوروفون ) وقصد بلاد الإنكليز ووضع نفسه تحت حمايتهم ، لكن خانه
الدهر فسيق إلى النفي في جزيرة ( سانت هيلينه ) الواقعة في الأوقيانوس
الأطلانطيقي في المنطقة الحارة ومكث بها ست سنوات إلى أن قضى نحبه في 5
مايو سنة 1821 .
هذا وبعد دخول البوربون في فرنسا عقب هذه الواقعة أمر ( لويس ) الثامن
عشر بتشكيل مجلس حربي لمحاكمة القواد والضباط الذين انضموا إلى نابوليون
حين أرسلوا لمحاربته والقبض عليه فأقيمت الدعوى الحربية على تسعة عشر
جنرالاً ومارشالاً وكان من ضمن هؤلاء وفي مقدّمتهم المارشال ( ني ) الملقب
ببرنس مسكووا نسبة إلى البلدة التي انتصر فيها نابليون على الجيوش الروسية
وكان هذا النصر بسبب ما أظهره المارشال من الشجاعة والمعرفة في فنون
الحرب .
وسبب محاكمته أنه لما كان نابليون عائداً من منفاه الأول أرسلته حكومة
البوربون لمحاربته وأخذه أسيراً فسافر معترفاً لها بذلك لكنه لما تقابل معه تذكر(1/87)
"""""" صفحة رقم 88 """"""
نعمته ومصاحبته له في سائر الحروب ومشاركته إياه في غالب انتصاراته بل
أشهرها ، وأمالته إليه عوامل المحبة التي كانت تجره نحوه من جهة ، وميل العساكر
التي تود الإنضمام إلى نابليون من جهة أخرى فانضم إليه بعسكره .
ولما بلغه الخبر بإصدار الأمر بالقبض عليه لم يصدقه حيث أن معاهدة 3 يوليه
سنة 1815 أقرت بالأمان لكافة الضباط الذين انحازوا إلى نابليون ولم يجزم بأن
حكومة متمدنة تقر على شيء ولم تنفذه ، فلذلك لم يبرح بلده مع أن إخوانه
وخلانه عرضوا عليه البراح وبذلوا له جميع ما يلزمه من المال والرجال للخروج
من أرض فرنسا والإلتجاء إلى حكومة أخرى فلم يجبهم لذلك وبقي حتى قبض
عليه في يوم 5 أغسطس سنة 1815 وفي أثناء سفره مخفوراً بأنفار الشرطة إلى
مدينة باريز لإيقاع الحكم عليه عرض عليه أيضاً بعض أصحابه أن يأخذوه
عنوة من الخفر ويهربوه من فرانسا فمنعته نفسه الأبية أن يأتي هذا الأمر الذي
ربما ينسب به إلى الجبن والنذالة فلما وصل إلى باريس وسجن بها ألّف بعض
الضباط عصبة قوية وكان المحرض عليها ( سيف ) وتشعبت فروعها في أكناف
باريس قصد تخليص المارشال ( ني ) من القتل فلم يقبل ذلك وآثر الموت على
الحياة مع الهرب فحكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص ونفذ عليه الحكم في يوم
7 ديسمبر سنة 1815 فمات على شهامته وفرط شجاعته مأسوفاً عليه من كل
وطني إلا من على بصرهم غشاوة .
ومما يحسن ذكره هنا أنه أثناء المرافعة والمدافعة قام أحد المحامين المكلفين
بالمدافعة عنه وطلب عدم اختصاص المجالس الفرانساوية عموماً بمحاكمته لأنه
ليس فرانساوياً لكون البلدة التي ولد فيها سلخت عن فرانسا وألحقت بألمانيا
فقام عند ذلك المارشال ( ني وقال إني لم أزل فرانساوياً وإني أودّ الموت كذلك
وأوثره على أن أعيش أجنبياً عن وطني الذي تربيت فيه واستظللت تحت سمائه
ونلت الرتب العالية في الدفاع عنه .(1/88)
"""""" صفحة رقم 89 """"""
وبعد موت المارشال ( ني ) ضاق بسيف الحال ولم يكن عنده ما يسد به رمقه
لأنه أراد الدخول في عداد الجيش الذي ألف بعد حل الجيش الذي ساعد
نابليون ، فلم يجد لذلك سبيلاً ولم يقبل في مصالح الحكومة أيضاً لتشيعه
للإمبراطور ، فاشتغل آخر الأمر بالتجارة في الخيول والعربات فنجح فيها قليلاً
ولكن لم يكفه ربحه من ذلك لما كان متعوداً عليه من كثرة النفقة والميل للملاذ ،
فتركها ودخل في إحدى العزب مديراً وكان ذلك في 10 إبريل سنة 1816
لكنه لم يرض بهذه الوظيفة لحقارتها بالنسبة لما كان فيه أولاً من علو الرتبة
والدرجة فعاد إلى تجارة الخيول ثانياً ولم يزل في هذه المهنة حتى نفد ما كان عنده
من المال وبلغ من حاله أنه لم يقدر على دفع أجرة منزله الذي كان يسكنه .
ولما يئس من بلوغ الثروة التي كان يسعى دائماً وراءها في باريس باع ما بقي
عنده من العربات والخيول ورحل إلى مدينة ( ليون ) وأقام عند عمه مدّة مختفياً
خشية من مطالبة غرمائه له ومضايقتهم إياه فلما علموا بمكانه ذهبوا إليه
وصاروا يطالبونه ويعنفونه ويهدّدونه بالمرافعة أمام المحاكم حتى ضايقوه مضايقة
شديدة حملته على المهاجرة إلى بلاد إيطاليا وكان ذلك في أوائل سنة 1819
وأقام في مدينة ميلان عميلاً لأحد تجار مدينة ليون بشيء تافه هذا وفي أثناء هذه
المدّة بلغه أن شاه العجم يريد أن يستخدم بعض الضبط الأورباويين لتنظيم
جيوشه على الطراز الأوربي الجديد فرغب في ذلك ولكن رأى أنه لا يمكنه
السفر إلى مثل هذه البلاد بدون توصية عظيمة فتحير في أمره ثم أرسل خطاباً
إلى الكونت ( دي سيجور ) يطلب منه المساعدة في هذه المسألة .
فلم يمض إلا أيام قلائل حتى ورد إليه من الكونت خطاب يخبره فيه أن الأولى له
العدول عن السفر إلى العجم والتوجه إلى مصر لوجود كثير من الفرانساويين بها
تسهل عليهم مساعدته وأرسل يوصي به الفرانساويين المقيمين في القطر المصري
ليقدّموه إلى محمد علي باشا الذي كان آخذاً وقتئذ في عمل كل ما يعود على
مصر التي اختارها وطناً له من الخير العميم والنفع الجزيل ، وكان يقبل كل من(1/89)
"""""" صفحة رقم 90 """"""
يساعده على إنفاذ مشروعاته من حيز الفكر إلى حيز العمل من أي جنس كان
غير مراع في ذلك شيئاً سوى مصلحة البلاد المصرية فإنه كان يستعمل الأجانب
للوصول إلى هذه الغايات ويستعين بهم كالآلات لتقدم بلاده في مدارج الكمال
وتأسيس المدارس والمعامل والإسبتاليات وفتح الورش وحفر الترع لتسهيل
الري وغير ذلك . وكان من حسن إدارته أنه متى نشأ من المصريين رجال أكفاء
يقومون بما تقدم حق القيام استغنى بهم عن الأجنبيين وولى مكانهم من نبغ من
المصريين .
وصول سليمان باشا إلى مصر :
وبمجرد وصول جوابات الكونت دي سيجور إليه ( وكان من ضمنها كتاب
مخصوص لمحمد على باشا ) قام من ساعته قاصداً ثغر الإسكندرية ومنه إلى
القاهرة ولما وصل إليها تقرب إلى محمد علي باشا بواسطة الفرنساويين المقيمين
إذ ذاك بمصر وقدم إليه كتاب الكونت دي سيجور فقابله مقابلة خصوصية
استفسر منه في خلالها عن حقيقة أمره حتى وقف منه على سبب مجيئه إلى مصر
وبعد محاورة طويلة تفرس منه في خلالها الشجاعة والشهامة والصداقة والولاء
عرض عليه أن يستخدمه فقبل منشرح الصدر مستبشراً ببلوغ المأمول حيث
نال ما لم ينله في فرانسا وإيطاليا بعد السعي المديد والعناء الشديد فكانت عاقبة
أمره خيراً وعند حسن الصبر كثيراً ما ينال الصابرون .
وصادف مجيئه إلى مصر انتصار الجيوش المصرية على الوهابيين - كما تقدم
في موضعه - ولا يخفى أن محمد علي باشا وطد ملكه في القطر المصري بفتحه
بلاد العرب بناء على طلب الباب العالي صاحب السيادة في هذه البلاد وكانت
الصناعة والتجارة سالكتين سبيل التقدم والفلاح لا سيما بعد إنشائه فوريقات
في سائر أكناف البلاد فضلاً عن المعامل التي لم تزل آثارها باقية مشاهدة إلى
الآن مهملة في زوايا النسيان وكانت القوة البحرية في غاية الإستعداد ولم ينقص(1/90)
"""""" صفحة رقم 91 """"""
مصر في ذلك الوقت شيئاً إلا جيشاً مرتباً ومنظماً على الطراز الأوربيّ الجديد ،
وكان قد شرع في ذلك مراراً قبل مجيء سليمان باشا ولكن لم يتم مشروعه
لمعارضة عساكر الترك والأرنؤد له ، كما سبق ذكر ذلك في موضعه ، ولكون
السواد الأعظم من جيشه كان مركباً منهم بعد أن قتل جميع رؤسائهم في القلعة
أوّل مارث سنة 1811 لم يقو على إذلالهم وتنفيذ أغراضه بالرغم عنهم .
ولما تم له النصر على الوهابيين ولم يكن ثمة احتياج إلى مراعاة خاطرهم ، عزم
على تنفيذ مشروعه وهم لم يمانعوه ولم يعارضوه في التنفيذ حيث قتل الكثير
منهم في بلاد العرب فاستخدم ( سيف ) ليكون هو المنفذ لهذا المشروع لما تفرسه
فيه من الشجاعة والمثابرة على الأعمال التي لا يردّها أعظم الموانع ولا أهول
الوقائع مادّية كانت أو أدبية ، ولكي لا يشعر أحد بمقصوده أرسل ( سيف ) أوّلاً
إلى جهات الحدود القبلية ليبحث عما يوجد هناك من معادن الفحم الحجري
بناء على اعلام بعض سكان تلك الجهات ، فعجب ( سيف ) من هذا التعيين
لكونه لم يكن له أدنى إلمام بمثل هذه المسائل العلمية ، لكن لم يتأخر عن الإمتثال
لأوامر من أوقف نفسه لخدمته ظاناً أن وراء هذا التعيين أمور خفية لا بد أن
تكشفها الحوادث والأيام
فعاد من ساعته إلى القاهرة ليتهيأ للسفر إلى الحدود منشرح الصدر قرير
العين لتحسن المستقبل أمامه ولكي يسهل عليه محمد علي باشا الأمر
والإجراءات الإدارية اللازمة لصرف ما يلزمه من المال والميرة أرسل الأوامر
الشديدة إلى سائر الجهات بإعطائه كل ما يلزمه بدون احتياج إلى الحصول على
إذن خصوصي وبتنجيز كل طلباته بغاية السرعة حتى لا يكون ثمة مانع من
سفره . ولما تم له جميع ما يلزمه في هذه الرحلة سافر من القاهرة في بحر شهر
يوليو سنة 1819 في إحدى مراكب الحكومة الشراعية فوصل إلى مدينة
أسيوط بعد ثمانية أيام لمساعدة ريح الشمال له وعدم حدوث أنواء عاقته عن
السير وكان معه في هذه الرحلة أحد مأموري الحكومة المصرية ليكون معيناً له(1/91)
"""""" صفحة رقم 92 """"""
في تنفيذ أوامره ومزيجاً عنه ما يعتريه في سبيل العقبات الشاقة ، هذا هو ظاهر
مأموريته ، وفي باطن الأمر أن يكون مراقباً عليه خشية من أن يكون مرسلاً من
قبل إحدى الدول الأجنبية بمأمورية سرية لإكتشاف أمر ، وليرى أيضاً كفاءته
ومقدرته على العمل وهل يمكن أن تحال عليه مهمة عظيمة كتشكيل الجيش
المصري وتدريبه على النمط الأفرنكي ولم يعارض ( سيف ) في استصحابه ، بل
سرّ من ذلك عازماً على الاستعانة به على معرفة طباع البلاد وإطلاعه على
أخلاق أهلها حتى لا يحصل منه أدنى أمر مغاير لعوائدهم وأحوالهم الوطنية
والدينية .
ولم يزل سائراً حتى وصل إلى أسوان ، حدود الحكومة المصرية وقتئذ بعد أن
شاهد في طريقه العجائب من آثار المصريين القدماء الموجودة على ضفتي النيل
وبقايا مدينة طيبة التي كانت في ذلك الوقت مطمح أنظار السائحين لقرب عهد
أوربا بمعرفتها في أثر أعمال واكتشافات اللجنة الفرنساوية العلمية التي أتت
مصر مع بونابرت قائد الجيوش الفرنساوية التي أغارت على هذه البلاد في
أوائل هذا القرن إذ كانت العلماء تؤم مصر من سائر أنحاء أوربا لحل رموز
الكتابة الهيروجليفية ( لسان قدماء مصر ) التي بقيت معماة حتى فيضن الله العالم
الفرنساوي ( شامبوليون ) فحل رموزها وفك عقودها وأزاح ظلماتها مع أن
المصريين كانوا أحرى بذلك وأولى بما هنالك .
فلما دخل أسوان واستراح من تعب أسفاره شرع في البحث عن الفحم
الحجري الذي أرسل لأجله ولم يتأخر بسبب اعتقاده الجازم أنه لا يوجد في مثل
هذه الجبال الصوّانية ، بل كان جل بغيته أن يؤدي مأموريته بالصداقة والأمانة(1/92)
"""""" صفحة رقم 93 """"""
ولم يأل جهداً في المرور على الحدود المصرية وما يكتنف أسوان من الجبال شرقاً
وغرباُ للبحث عن هذا المعدن الذي لا بد منه في تقدم الصناعة في مصر ، ولو
كان البحث بدون فائدة ولا جدوى ثم سافر من أسوان إلى مينا القصير الواقعة
على البحر الأحمر مفتشاً في طريقه عما جاء للبحث عنه وقد أنهكت قواه هذه
الرحلة الأخيرة لعدم تعوده على الإقامة في البلاد الواقعة في المنطقة الحارة حتى
اعتراه المرض بسبب شدة الحرارة وثقل عليه ، حتى كادت روحه أن تزهق
وتكون هذه الرحلة خاتمة أسفاره ، ولكن لقوّة بنيته الأصلية أمكنه أن يقاوم
المرض فاستراح أياماً حتى رجعت إليه قواه وقفل راجعاً إلى أسوان .
وفي أثناء هذه المدة أخذ الجيش المصري في العودة إلى مصر وذلك أن بطل
مصر إبراهيم باشا بعد أن استأصل شأفة الوهابيين وأعاد الأمن إلى طريق
الحجاج أراد أن يريح عساكره من الأتعاب والأوصاب التي كابدوها أثناء هذه
الحروب الهائلة التي استمرت عدّة سنوات فترك مدافعه في جدّة وأرسل أوامره
إلى جزء من جيشه بالعودة إلى مصر براً على طريق ساحل البحر الأحمر ثم سافر
معه من بقى من جيشه من جدة بحراً إلى القصير ومنها على طريق الصحراء إلى
قنا ثم ركب النيل من قنا قاصداً العاصمة وكان أمراء الصعيد ومأمورو الحكومة
يتلقونه أينما حل بالتبجيل والتعظيم ، مفتخرين بعوده منصوراً على الفئة التي
أعيت العساكر الشاهانية ، وما الفضل في ذلك إلا له ولعساكره المصرية التي
كانت هذه النصرة مقدّمة انتصاراتهم وفتوحاتهم كما سيأتي إن شاء الله .
ثم وصل إلى الجيزة في 9 ديسمبر سنة 1819 وقابل والده في سراى شبرا
في يوم 11 فتلقاه فرحاً به مسروراً ومفتخراً بما آتاه الله من الفوز والنصر على
أعدائه بواسطة ابنه ، وبعد هذه المقابلة العائلية أمر محمد علي باشا ، كما تقدم
آنفاً ، أن تزين العاصمة عدّة أيام متوالية فلم يتأخر أحد من سكان البلد عن
القيام بأداء الزينة الواجبة عليها احتفالاً بهذا الشجاع الذي أعاد لمصر فخرها(1/93)
"""""" صفحة رقم 94 """"""
الأثيل وملأ الأصقاع بصيته وشهرته وشهرة الجيوش المصرية التي برهنت تحت
إمرته على أنهم قادرون على أن يدافعوا عن وطنهم مدافعة الأسود عن غاباتها لا
بل ويفتحون ما جاورهم من البلاد إذا راعى رؤساؤهم الذمة والشرف وحب
الوطن العزيز ولم يؤثروا المنفعة الخاصة على المنفعة العامة .
ثم دخل شجاع مصر وفخرها إلى العاصمة من باب النصر بموكب حافل
اجتمع فيه كل من بالقاهرة من الأعيان والقوّاد يتقدّمهم إبراهيم باشا تخفق فوق
رأسه الأعلام التي اغتنمها من الوهابيين حتى وصل إلى القلعة بين صفوف
الأهالي وأصوات النساء التي كانت تملأ الآفاق برنينها استبشاراً بقدوم موكبه
الميمون وتعلو عليها أصوات المدافع التي كانت تطلق من القلعة أثناء مرور
الموكب من شمال البلد إلى جنوبها ، ولم يظهر محمد علي باشا في هذا الموكب
ليكون في الإستقبال لولده فقط ، بل توجه إلى جامع السلطان الغوري يشاهد
موكب ولده العزيز ويتمتع برؤيته محفوفاً بأعيان البلدة وتجارها ، فيا لها من حفلة
يعجز عن وصفها الواصفون وتقصر عن تسطيرها الأقلام ثم اشتهر بعد ذلك
إبراهيم باشا وتحدّث بذكر أعماله الركبان . وإنما أعدنا ذكر الإحتفال برجوعه
لأن في الإعادة ثمرة وإفادة .
ولنرجع إلى المترجم ( سيف ) فنقول أنه عاد إلى أسوان وأخذ في التفتيش
عن الفحم الحجري فعثر على بئر غاز أرشده إليها العرب القاطنون بين القصير
وأسوان وكتب عنها تقريراً مبيناً فيه فوائد استعمال الغاز في الإستصباح بدل
الشمع والزيت وأنه أيسر من غيره ثمناً ولو التزمت الحكومة استخراجه لعاد
إليها منه ربح عظيم ، فلما وصل إلى أسوان لم يجد البيك الذي كان معيناً
لمصاحبته فإنه رجع إلى مصر لمقابلة إبراهيم باشا غير مفكر فيما عين لأجله
وكذلك لم يجد في البلدة أحد من الأعيان فلما رأى أن الكل هرعوا إلى العاصمة(1/94)
"""""" صفحة رقم 95 """"""
رجع هو أيضاً ليقابل من اشتهر صيته في الآفاق مؤملاً أنه ربما يجد عند وظيفة أو مأمورية يظهر فيها معارفه العسكرية والحربية .
رجوع سيف إلى القاهرة والإبتداء في تنظيم الجيش :
لما عاد المترجم إلى العاصمة قابله محمد علي باشا بالبشاشة والترحاب ولم
يسأله عن مأموريته ولا عن نتيجتها بل قدّمه إلى ولده إبراهيم باشا وقال له أنه
ضابط من جيش فرنسا ويمكنه أن يثق به في سائر أعماله ويستعين بمعارفه في
جميع مشروعاته ، فأنزله إبراهيم باشا من الإكرام والإعتبار منزلاً رحيباً ، وأسرّه
بما كان في عزمه وعزم والده من تشكيل جيش جديد مدرّب على الحركات
العسكرية والأمور القانونية على وفق الطراز الأوربي ، ليمكنه باستخدامه من
إتمام ما يقصده من الغزوات والفتوحات وأن ذلك هو غاية مرغوبه ولولا
معارضة العساكر الباشبوزق له والأرنؤد لما كان فيهم من القوّة لحصل ذلك
المشروع ، ولكن الآن وقد ضعفت شوكتهم وقل عددهم فيمكنه تتميم هذا المشروع الجليل الفائدة الكثير العائدة بعجزهم اليوم عن المعارضة في ذلك ، لا
سيما مع وجود الجيش المنصور في العاصمة بعد ما اشتهر به من الأعمال في
بلاد العرب ، ثم شرعا في تدبير وسنّ ما يلزم لذلك من القوانين والتنظيمات
وبعد أن أتم كل ما يلزم ابتدأ في تنفيذ هذا المشروع وعينّ سيف بوظيفة ضابط
( أغا ) معلم للجيش .
وبمجرد أن شاع خبر تعيينه تذمر ضباط الباشبوزق وتآمروا على معاكسة
هذا الأجنبي الذي أتى لتنظيم وتغيير ما تعوّدوا عليه من عدم النظام والإخلال
بشئون وظائفهم وسعوا في الفتك به للتخلص من أعماله التي يرون أنها تعود
عليهم بالضرر على زعمهم ، غير ناظرين إلا إلى المصلحة الخصوصية التي
يهدرون في سبيلها كل منفعة عمومية ، ولولا عزم محمد علي باشا ونجله وثباتهما(1/95)
"""""" صفحة رقم 96 """"""
على تنفيذ مشروعهما المفيد فائدة حسنة رغم أنف كل مقاوم ومعاند ، لنجحوا
في مشروعهم السيئ .
ولم يلبث المترجم أن أخذ في تعليم العساكر حتى أتم تعليم فرقة واستعرضها
في ميدان الرميلة أمام القلعة بحضرة محمد علي باشا وجميع أعيان البلد وكثير من
المعارضين لهذا المشروع المعتقدين عدم نجاحه ، وإنما أتوا بأنفسهم ليتحققوا نجاحه
من عدمه ، فلما رأوا أن المشروع قد أخذ في النجاح صاروا من جهة ينفرون
الأهالي منه ويفهمونهم أنه لو نجح هذا المشروع لكان سبباً في أخذ أولادهم
وتغريبهم عن أوطانهم وتصير الخدمة العسكرية جبرية على كل شاب مصري
سواء كان مزارعاً أو من أهل العاصمة ، ومن جهة أخرى يحرّضون العلماء
ويلقون في أذهانهم كلا ما يفهم منه الحث على عدم تنفيذ هذا المشروع
ويلبسون عليهم الأمر ويرونهم أن هذا المشروع ربما يكون سبباً لتداخل
الأجانب في مصر خصوصاً في الإدارة العسكرية وأن ذلك مخالف للقرآن
الشريف والشرع الحنيف .
فصار العلماء يلقون هذه الأوهام في أذهان تلامذتهم وهم ينشرونها بين العامة
فازداد بذلك الكلام في هذه المسألة ولكن لم يزعزع هياج العلماء والقواد
وتذمرهم شيئاً من أركان ثبات محمد علي باشا ، لكنه توقياً مما عساه يقع مما لا
تحمد عقباه صار يحضر التمرينات بنفسه كل يوم وولده إبراهيم باشا وبقية
أعضاء عائلته وحاشيته . ويحكى أن الأمير إبراهيم باشا كي يكون قدوة للعسكر
ويعوّدهم على تحمل مشاق النظام العسكري والطاعة لرؤسائهم طاعة عمياء في
كل ما يؤمرون به انتظم في سلك العساكر الذين يتعلمون فأخذ بندقية ووقف
أمام الصف فلما رآه ( سيف ) أمام الصف وبخه على ذلك وقال له إن كنت تريد
التعلم فاتبع أحكامه وقف في آخر الصف مع أترابك فامتثل وهو كاره ليظهر
بذلك التحمل للحاضرين معه من الجند ويعلمهم أن التحمل هو الطاعة وهي(1/96)
"""""" صفحة رقم 97 """"""
أول الواجبات المفروضة على الجندي وبدونها لا يستقيم نظام الجيش واستمر
التعليم عدة أيام على هذا المنوال .
وأما التذمر فكان آخذاً في الازدياد يوماً عن يوم حتى خيف أن هذه الفتنة
تسري إلى العسكر فإنها لو وصلت إليهم لكانت الحاسمة والقاصمة لهذا
المشروع ، فجمع محمد علي باشا مجلساً خاصاً للتروّي والمشاورة في اتخاذ الطرق
المؤدية إلى إتمامه بدون تشويش ولا حصول فتنة تؤدي إلى سفك الدماء فقرّ
رأيهم على أن يرسل سيف وفرقته إلى أسوان في الصعيد ليتم تعليمهم هناك ،
وبعد ذلك ينظر فيما يكون إجراءه وكانت تلك الفرقة مؤلفة من ثلاثمائة أو
أربعمائة شاب من المماليك الخاصة بمحمد علي باشا ، وكان جلهم من الجراكسة
وما جاورهم ممن لم يعرفوا من النظامات العسكرية شيئاً بل هم متعّودون على
الحروب بدون انظام في جبالهم الشامخة التي يكسو بعضها الثلوج الدائمة وكانوا
حسان الصور أقوياء أصحاء سريعي الحركات أخفاءها مطيعين لأوامر سيدهم
في كل ما أمرهم به بدون أدنى معارضة وقد اختارهم محمد علي باشا ليكونوا
أوّل فرقة نظامية لما يعهده فيهم من الإستعداد والنباهة حتى إذا أتموا تعليمهم
صاروا رؤساء ومعلمين لغيرهم ممن يراد انتظامه من أولاد المصريين .
فسافر بهم سيف إلى أسوان ليكون بعيداً عن العاصمة وعن دسائس
المعارضين للنظام الجديد وعن غواية الغاوين وفساد المفسدين ، واشتغل بتعليمهم
هناك الحركات العسكرية على النمط الأوربي وما يلزمها ويتبعها من ركوب
الخيل والضرب بالسيف إلى غير ذلك وكان دائماً يلقي في نفوسهم حب هذه
المهنة الشريفة ويذكر لهم ما حدث لنابليون وكيف ارتقى إلى أن صار امبراطوراً
على فرنسا واستولى على أغلب عواصم أوربا وكيف أن سائر القوّاد الذين
ساعدوه على ذلك كانوا من أولاد الفقراء وتقدمّوا بجدّهم واجتهادهم وحصلوا
على هذه الرتب العالية ، لينشطهم ويبث في قلوبهم الحمية العسكرية والنخوة
الحربية ليكونوا مثالاً للعساكر الذين سيكونون تحت إمرتهم في المستقبل .(1/97)
"""""" صفحة رقم 98 """"""
ولقد أثر كلامه هذا في بعضهم ولم يؤثر في البعض الآخر الذين كانوا
يفضلون المعيشة ضمن الخدم على الأتعاب والتمرينات العسكرية غير ناظرين لما
ينالون في المستقبل فأبغضوه وتآمروا عليه وهموا بقتله تخلصاً منه ظانين أنهم لو
قتلوه ربما يرجع محمد علي باشا عن عزمه ويردهم إلى خدمته الخاصة فيقضون
عمرهم بين أسافل الخدم وأدنياتهم لكن لحسن حظ المترجم أخبره أحداً محبيه
منهم بذلك فأسرّها في نفسه إلى صباح الغد حتى إذا كان معهم في ميدان
التمرين خاطبهم بما نمى إليه وقال لهم إن القتل غدراً وخيانة هو من أكبر الكبائر
وأشنع الرذائل وأفظع القبائح الذي لا يقدم عليه أحد في جيوش أوربا بل إذا
أهان أحد آخر استدعاه للمبارزة ( الدويلو ) جهاراً ويعرّض حياته في الدفاع عن
شرفه ثم ختم كلامه بأن قال إن كنت أهنت أحدكم أو أسأت إليه عن غير
قصد فليبارزني إما قتلته أو قتلني فبهتوا جميعاً ولم يجسر أحد منهم على مبارزته
من هيبته وشدة فراسته وتعجبوا من قوّة جنانه وثبات جأشه .
ولكن لم يزدهم كلامه هذا إلا كراهة له وبغضاً فحنقوا عليه وعزموا على
قتله متى سنحت الفرصة وبعد مضي عدة أيام بينما هو يمرّنهم على إطلاق
البنادق وضبط النيشان أراد أن يتحقق من نظامهم فركض جواده حتى وصل
أمام العسكر وبعد إجراء جميع الحركات اللازمة لتعمير البنادق أمر بإطلاقها
على هدف كان قد أقامه ونصبه لهم وكان هذا الهدف مرتفعاً عنه ببعض أقدام
فبدلاً عن إطلاق البنادق على الهدف صوّبوها نحوه وأطلق الجميع بنادقهم
قاصدين قتله ، لكن لطول أجله لم يصب بواحدة منها فغضب لذلك غضباً
شديداً وهجم عليهم بجواده ولم يهبهم بل طفق بضربهم بكرباج كان بيده على
رؤسهم ووجوههم موبخاً لهم على عدم إتقان النيشان وبعد أن فرقهم في كل جهة
دون أن يجسر أحد على معارضته أمرهم بالإنتظام ووقف أمامهم راكباً جواده
وبعد أن انتظم عقد اجتماعهم نادى عليهم بإطلاق النار عليه فبهت الجند وبعد
أن ترددوا رموا بنادقهم على الأرض وأسرعوا نحوه يقبلون رجليه في الركاب(1/98)
"""""" صفحة رقم 99 """"""
طالبين أن يعفو عنهم ويغفر ما كان منهم وأقسموا بأن لا يعودوا لمثل ذلك بل
يطيعونه إطاعة محضة فتبسم وصفح عن ذنوبهم بشرط أن يمتثلوا له في كل ما
يأمرهم به مما لا يخالف الذمة الشرف وقال لهم أن المستقبل هو لكم وأنكم
ستكونون رؤساء الجيش المصري عن قريب فأثرت فيهم هذه الأفعال والأقوال
تأثيراً حسناً ولم يقع بعد منهم ما يخل بالنظام العسكري حتى صاروا في غاية
الطاعة لرئيسهم .
دخول سيف في الديانة الإسلامية :
وبسبب هذه الحادثة اشتهر المترجم وذاع صيته ، حتى صار لا يجهله أحد في
القطر المصري عموماً وفي حاشية محمد علي خصوصاً ، وانتقل خبر ذلك إلى
أوربا فنشرته الجرائد هناك وصارت بحيث لا يتكلم إلا بها في الأندية والمجتمعات
العمومية وكانت هي باكورة أعماله ، ومن وقئتذ طلع نجم سعده في أفق البلاد
المصرية في ظل حامي حماها ومعلي كلمتها المغفور له محمد علي باشا لكن بقيت
عقدة مانعة من وجود الإخلاص القلبي والولاء الصحيح بينه وبين عساكره ،
وهي اختلاف الدين ، وهذا أمر لم يفتكر فيه المترجم لعدم تدينه بدين دون آخر
فكان في الحقيقة لا دين له إلا ما يسمونه بالدين الطبيعي وهو الإعتقاد بالخالق
والإيمان به وبقدرته ونعيمه وعذابه ورفض أقوال الأنبياء جميعاً واتباع الذمة
والشرف في كل الأمور ، وأهل هذا الرأي قوم يدّعون أن الأديان لم توجد أو
أوجدتها العقلاء إلا لتكون رادعة للإنسان عن وقوعه في المحظورات وارتكابه
المنكرات والإضرار بالناس وما دام للإنسان رادع ووازع من نفسه وذمة ، فلا
حاجة له باتباع أوامر هذا الدين أو اجتناب منهيات ذاك .
لكن المترجم منعاً لما عسى أن يكون باقياً في قلب عسكره من الضغائن
المسببة عن اختلاف الدين وموافقة لهم على أفكارهم وعوائدهم اعتنق الدين
الإسلامي ودان له بواسطة أحد البيكوات المحبين له وتزيا بزي الترك الذي كان
شائعاً وموجوداً وقتئذ في البلاد المصرية ، ومن يومئذ سمى بسليمان أغا ،(1/99)
"""""" صفحة رقم 100 """"""
وسنذكره من الآن بهذا الاسم تاركين الأفرنكي ، وكان دخوله في الدين
الإسلامي ظاهرياً فقط بدليل حضوره الصلاة التي أقيمت على روح والدته حين
سفره إلى ليون كما سيجيء ، فلما أسلم ازدادت محبة عسكره له وإطاعتهم إياه
وأقبلوا حينئذ على تعليمه بإخلاص النية وصفاء الطوية وأكبوا على تمريناته
العسكرية حتى حاكوا بعد قليل من الزمن أحسن الجيوش الأورباوية نظاماً
وشجاعة وإقداماً .(1/100)
"""""" صفحة رقم 101 """"""
5 - فتح السودان
وكان العزيز محمد علي باشا في أثناء هذه المدة يدبر حيلة لشّن الغارة على
بلاد النوبة وفتحها لإتصال أسباب التجارة بينها وبين مصر ، ولجمع جيش من
سكانها المشهورين بالشجاعة والإقدام ، وكان له قصداً آخر في إثارة هذه
الحروب وهو استئصال شأفة من بقي من عساكره الأرنؤد وغيرهم من الأخلاط
والتخلص من شرهم والتملص من كيدهم ، فإنه كان لا يعوَل إلا على المصريين
الذين ألقيت محبته في قلوبهم لما رفعه عنهم ودفعه من جور المماليك وتعديهم
عليهم وظلمهم المتراكم لهم ونشره لواء الأمن بين ظهرانيهم وسعيه آناء الليل
وأطراف النهار فيما يعود عليهم بالنجاح والفلاح ، ولقد كان لديه فرصة
مناسبة لدخوله السودان بخيله ورجله وهي التجاء بعض المماليك بعد قتل
أغلبهم في القلعة إلى مديرية دنقلة خارجاً عن الحدود المصرية حتى اتخذوها
حصناً حصيناً لهم ، ولأجل أن يثير خاطرهم أرسل لهم أحد أعوانه ليدعوهم
للرجوع إلى مصر والإقامة فيها بشروط أهمها أن لا يدخلوا الحدود المصرية إلا
بعد الإذن لهم بذلك وإرسال أحد الضباط ليأتي بهم إلى العاصمة وأن لا يأخذوا
شيئاً من المصريين أثناء مرورهم في أرض مصر ، كما كانت عليه عادتهم ، بل
يكون الضابط الذي يرافقهم هو الذي يقوم بجميع ما يلزم لهم من الميرة وغيرها ،
وأنهم إذا أتوا القاهرة يقيمون في جهة مخصوصة ، ومنها أيضاً أن يتنازلوا عما
كان لهم من الإمتيازات والحقوق وأن لا تطلبوا ما أخذ منهم بحق أو بدونه بعد
مذبحة القلعة من عقار أو أثاث وغير ذلك ، فأبى المماليك تلك الشروط الصارمة
كما كان يتوقعه محمد علي باشا ولم يكتفوا بابائهم بل تهددوه بالدخول إلى
الحدود المصرية وإيقاد نار الوغى وإدارة رحاها .
فبمجرد وصول جوابهم إلى الوالي عزم على فتح النوبة لإذلالهم وقطع
دابرهم وأمر بحشد الجيوش في جهات مصر القديمة للزحف على السودان
وجعل هذا الجيش تحت إمرة إسماعيل باشا ثالث أولاده ، وكان إسماعيل باشا(1/101)
"""""" صفحة رقم 102 """"""
المذكور متصفاً بالشجاعة بارعاً في ضروب القتال لكن أنى له أن يماثل أو يشابه
أخاه إبراهيم باشا الذي قهر العرب الوهابيين ودوّخهم ، حتى لم تقم لهم بعد
ذلك قائمة مع كون العرب مشهورين بالبسالة وشدة البأس وهم الذين فتحوا
معظم البلاد في صدر الإسلام ولولا ما وقع بينهم من انفصام عرى الإتحاد
وتفرق الكلمة لملكوا سائر الأقطار وتغلبوا على جميع ما فيها . أما السودانيون
فهم قوم متوحشون لا علم لهم بفنون القتال عزل لا سلاح لهم إلا الرماح ولا
علم لهم بقوّة نيران البنادق والمدافع إذ لم يسعموا بها قبل ذلك الوقت ولا واقي
لهم من مقذوفاتها إلا جلودهم أو الدرقة المصنوعة من جلد حصان البحر ،
فشتان بين هذه الأمم المتبربرة والعرب الذين كأنهم لم يخلقوا إلا للقتال ومع
ذلك فقد تمكن إبراهيم باشا من قهرهم وكبح جماحهم .
وكان هذا الجيش الذي كان تحت قيادة إسماعيل باشا مؤلفاً من ثلاثة آلاف
وأربعمائة راجل وألف وخمسمائة فارس واثني عشر مدفعاً وخمسمائة من عرب
العبابدة تحت رياسة شيخهم عابدين كاشف الذي وعده المرحوم محمد علي باشا
بأن يوليه على ونفلة بعد فتحها .
فلما اجتمع الجيش في جهة مصر القديمة أرسلت العساكر المشاة وباقي الميرة
والذخيرة إلى أسوان على طريق النيل وأما الخيالة والمدفعيون فسافروا إليها عن
طريق البر وكانت المقدمة تحت قيادة محمد بيك الدفتردار صهر الوالي .
وأما إسماعيل باشا ومعيته فسافروا من القاهرة في 20 يوليو سنة 1820 ،
وبمجرد وصوله إلى أسوان اجتاز هو ومن معه الحدود المصرية ودخلوا أرض
دنقلة وكان قد احتلها الدفتردار وجيوشه المؤلفة من خمسمائة فارس ولم
يعارضهم أحد من المماليك في حال سيرهم بل أخلوا البلاد ورحلوا إلى مدينة
( شندي ) فلم يقبلهم ملكها ، ولما وجدوا أن بلاد السودان قد أغلقت في
وجوههم وأنهم لا يمكنهم الرجوع إليها لإقتفاء الدفتردار أثرهم أيسوا من الحياة
وتفرقوا بين القبائل المتبربرة فمات أغلبهم جوعاً وصار السودانيون يسلبون(1/102)
"""""" صفحة رقم 103 """"""
أسلحتهم وملابسهم حتى انقطعوا عن آخرهم غير مأسوف عليهم لما تركوه في
مصر من قبح السيرة وسوء السريرة ولما ارتكبوا فيها من السلب والنهب مما
سبق ذكره .
وقد ظن النوبيون أن المصريين يرجعون إلى بلادهم بعد تشتت شمل المماليك ،
ولذلك لم يستعدوا للقائهم ولا محاربتهم بل استمروا على اختلافاتهم الداخلية
فانتهز المصريون هذه الفرصة لإحتلال بلاد دنقلة حتى دخلوا هذه المدينة
وحينئذ شكل فيها إسماعيل باشا حكومة منتظمة باسم أمير المؤمنين ، لا بإسم
محمد علي ، لأنه لم يكن والياً إلا على مصر من قبل دار الخلافة العظمى .
ثم خرج بجيشه إلى مدينة ( شندي ) فاعترضه في الطريق النوبيون الذين كانوا
قد جمعوا شتات قواهم واتحدوا للدفاع عن وطنهم ، ومع ذلك لم يجد دفاعهم
شيئاً أمام القوة المصرية لأنها منتظمة مسلحة بالأسلحة النارية والمدافع القهرية
بل اضطروا إلى القهقرى بعد ما دفعوا عن وطنهم دفاع الأبطال ومات أغلبهم
شهداء وطنهم العزيز ، فاقتفى إسماعيل باشا أثر الباقيين حتى فرقهم أيدي سباً ولم
يجد بعد هذه المقاومة العظمى معارضاً في طريقه فتقدم بخيله ورجاله ، ومدافعه
تتقدمه وألقى في قلوب السودانيين ما ألقاه من الرعب حتى وصل إلى مدينة
بربرة فألقى فيها بعض قنابل ليتحقق من عدم وجود من يدافع عنها فدخلها
وكان دخوله بموكب حافل في 8 خلت من شهر مارث سنة 1821 . وفي 8
مايو من هذه السنة دخل مدينة ( شندي ) وهي واقعة في منتصف الطريق بين
بربر والخرطوم على البر الشرقي للنيل وفيها استسلم إلى إسماعيل باشا من
يدعى ( شاويش ) أحد أمراء بربر ودخل مع قومه في عداد العساكر المصرية
ليأمن بذلك على روحه وماله ولينتقم من باقي الأمراء الذين كانوا معادين له .(1/103)
"""""" صفحة رقم 104 """"""
وبعد ذلك تقدم في داخلية السودان حتى وصل إلى ملتقى النهرين الأزرق
والأبيض وأسس هناك مدينة الخرطوم لما لهذا الموقع من الأهمية التجارية والحربية
لسهولة الوصول منه بواسطة النيل إلى مصر ولإمكان إرسال الجيوش منه لفتح
السودان الشرقي حتى الحبشة حيث يخرج نهر ( عتبرا ) والنهر الأزرق أو لفتح
السودان الجنوبي حتى خط الإستواء بركوب النهر الأبيض ، وبعد أن حصّن هذه
المدينة وجمع فيها المؤن والذخائر الكافية ترك فيها بعض عسكره لحمايتها وسافر
ببقية جيشه لفتح بلاد ( سنّار ) الواقعة بين النهر الأزرق ونهر ( عتبرا ) ففتحها
وخلع أميرها واحتل تخته عنوة ثم أراد أن يستريح ويريح جيشه مما كابده من
الأتعاب والأوصاب وتحمل المشاق في هذه البلاد الحارّة لا سيما وكان قد فشا
في عسكره المرض وأهلك كثيراً منهم .
هذا ولم يجد إسماعيل باشا ما حمل والده على فتح السودان وهو تبر الذهب
وإنما وجد بعض رمال يمكن أن يستخرج منها ذهب لكن الذي يحصل منها لا
يفي بما ينفق لإستخراجه ، ولما لم يجد مرغوبه استعاضه بأسر كل الشبان
السودانيين القادرين على حمل السلاح وإرسالهم مصفدين بالسلاسل والأغلال
إلى أسوان ليندرجوا في سلك العساكر المنتظمة الذين كان يمرّنهم سليمان أغا
المتقدم ذكره ، فزاد عدد الوارد منهم بعد من يموت منهم في الطريق إما
بالأمراض الناشئة عن تغير حالتهم وطبيعتهم من المأكل والمشرب أو لعدم
موافقة طقس البلاد لهم ازدياداً عظيماً حتى اضطّر سليمان أغا إلى طلب
مساعدين له على القيام بواجبات وظيفته وكتب بذلك إلى محمد علي باشا
فأجابه وعين معه ضابطين فرنساويين آخرين ومن يومئذ أخذ جيش أسوان
المنتظم في التقدم يوماً عن يوم في سبل الفلاح والنجاح .
ولم يقدر إسماعيل باشا مع علو همته وشدّة سطوته على منع الأمراض عنهم ،
بل هاجمته بقوّة عظيمة حتى أبادت أغلب عساكره ، وكان هذا حاملاً له على
العدول عن فتح بلاد كردفان وكان قد عزم على فتحها بعد أن تم فتح ( سنّار )(1/104)
"""""" صفحة رقم 105 """"""
والتزم بالإقامة فيها حتى يأتيه من مصر ما طلبه من المدد والمؤن وكان جنده
حينئذ في غاية الضعف مادياً لقلتهم ، وأدبياً لفتور عزيمتهم بإقامتهم بين قبائل
معادين لهم ولا يمكنهم المدافعة عن أنفسهم لو ثاروا عليهم وهاجموهم قبل مجيء
المدد إليهم .
سفر إبراهيم باشا إلى السودان :
وبقي إسماعيل باشا مشغول البال زائد البلبال لإزدياد الوفيات في جيشه
ولكون أغلب الباقين مرضى بالمستشفيات ولا يثمر فيهم علاج لتسلط اليأس
عليهم . واستمر على هذه الحال حتى أتاه المدد وما طلبه من المؤن فسرّ بذلك
ومما زاده سروراً قدوم أخيه إبراهيم باشا إلى سنّار لمساعدته على إتمام فتح
السودان وتوطيد الأمن به مع أنه كان يودّ الإنفراد في مثل هذه المهمة بدون
مشاركة أحد له فيما يكتسبه من أنواع الفخر وعلو القدر . ولما انتشر في الجيش
خبر قدوم إبراهيم باشا وعسكره انبثت فيهم روح جديدة وشفي كل مريض
بلا علاج لما استولى عليهم من الفرح والانشراح وذهب عنهم اليأس والخمول
وسرت في عروقهم الرغبة في القتال وما يتبعه من كسب الغنائم .
اغتنم إبراهيم باشا وأخوه هذه الحركة لتنفيذ مشروعهما وقسما الجيش إلى
فرقتين بعد أن تركا حامية قوية في مدينة ( سنّار ) إحداهما تحت قيادة إسماعيل
باشا لفتح البلاد الواقعة على البحر الأزرق إلى حدود الحبشة والأخرى تحت
قيادة إبراهيم باشا لفتح بلاد كردفان ودارفور وبعد أن أتما ما يلزم لهما من
الإستعدادات جمعا الذخيرة والمؤن وتوجه كل منهما لوجهته فقام كل منهما بما
عهد إليه أحسن قيام ونشر علم التمدن في هذه الأصقاع واستبق كل منهما
لخيرات ما سيق إليه وقام بأداء ما يجب عليه ، وانبثت الراحة في هذه البلاد
المتبربرة التي أرخى التوحش عليها سدوله وضرب الجهل بين أهلها أطنابه . فلما
اعتراهما التعب من المشاق الشديدة أرسلا إلى والدهما يطلبان منه العودة إلى
الأهل والوطن وكان ذلك في شهر يوليو سنة 1822 فلم يقع طلبهما هذا عند(1/105)
"""""" صفحة رقم 106 """"""
والدهما موقع الإستحسان وأمرهم بالإقامة في السودان حتى ينظما فيه حكومة
ثابتة لا يخشى عليها من طوارق الزمان وبواعث الحدثان ، وآثر المنفعة العمومية
على المحبة الوالدية فبمثل هؤلاء الرجال تسهل المسالك وبضدّهم تزول الممالك ،
فلبثا بعد ذلك شهرين في أقاصى هذه البلدان ثم سافر إبراهيم باشا إلى مصر توّاً
مستصحباً معه بعض الجند .
وأما إسماعيل باشا فمكث بعد أخيه عدة أسابيع لترتيب أمور هذه المملكة
الواسعة المفتتحة حديثاً وبعد ما دبر أمورها أرسل بعض الجند ومعهم أسرى
الزنج إلى مصر على طريق البر واستعد للسفر من طريق البحر فبلغه في أثناء
ذلك أن أهالي دنقلة وبربر وما جاورهما أخذوا يتآمرون على معاكسة الحكومة
المصرية لما انتشر بينهم من الأخبار الكاذبة والأراجيف الملفقة التي كان يبثها
بينهم ذووا الأغراض الفاسدة مما يتعلق بانكسار المصريين في ( سنّار ) وبلاد
البحر الأبيض فشدّوا أزرهم وتكاثروا وتجمعوا حوالي بربر وشندي وهجموا
على قوافل الأسرى التي أرسلها إسماعيل باشا إلى معسكر أسوان قبل
مبارحته السودان وهددوا من كان معهم من العساكر حتى تخلصت الأسرى من
أيديهم ورجعوا إلى شندي فرحين مسرورين بما أوتوا من النصر والظفر على
جيوش المصريين .
موت إسماعيل باشا :
لما وصل هذا الخبر المشئوم إلى إسماعيل باشا قام من ساعته ومعه باقي الجيش
قاصداً مدينة شندي وكان ملكها رئيساً لهذه الثورة فوصلها فجأة ودخلها بدون
أن يقاومه أحد أو يعارضه معارض حتى احتلها مع عسكره ثم أمر بإحضار ملك
شندي أمامه ، فلما مثل بين يديه أخذ يرميه بأنواع الشتم والسب حتى اشتد
غيظه ، وزاد بصفعه على وجهه فلم يقدر أن يفوه ببنت شفة ، بل أسرّها له في
نفسه وعزم على الإنتقام منه ، وأما إسماعيل باشا فعفا عنه بشرط أن يدفع غرامة(1/106)
"""""" صفحة رقم 107 """"""
قدرها خمسة آلاف بينتو يدفعها في مدة خمسة أيام وألفان من الرقيق فامتثل
لذلك ملك شندي وقبل هذه الغرامة ظاهراً مصمماً على الأخذ بالثأر .
ثم أولم لإسماعيل باشا ومن معه من كبار القوم وليمة في قصره ودعاهم إليها
فأجوبوا دعوته وتوجههوا إلى منزله غير عالمين بما تكنّ لهم صدور أعدائهم من
المكايد ، فبينما هم على الطعام إذ أمر الملك أعوانه بأن يجمعوا حطباً كثيراً وقشاً
وتبنا وغير ذلك من المواد الجافة السريعة الإلتهاب ، وأمرهم أن يضعوه حول
البيت فلما فرغ الأضياف من تناول الطعام وتأهبوا للخروج والذهاب إلى
معسكرهم ، أضرم الأعداء النار فيما جمعوه حول المنزل من المواد الإلتهابية فلم
يمض إلا هنيهة حتى اتقد المنزل وما فيه من الأثاث وصار كشعلة من نار ولم
يتيسر لإسماعيل باشا ورفقائه الخروج لشدّة النار ولإحاطة جنود الملك بهم من
كل جهة فسدّت في وجوههم المسالك حتى ماتوا حرقى ولم يتيسر لعساكرهم
أن يبسطوا لهم يد المساعدة ويخلصوهم من هذه الميتة الشنعاء لإنقضاض باقي
جنود السودانيين عليهم وذبحهم إياهم ، فلم ينج منهم إلا من تمكن من الهرب
تحت جنح الظلام وأستار الليل .
فلما بلغ محمد علي باشا نعي ولده تأثر جداً وحزن على فقده زمناً طويلاً لا
سيما وكان قد توفي قبله ولده طوسون باشا ومع ذلك لم يلهه حزنه عن النظر
في أمور حكومته والسعي في إتمام مشروعاته خصوصاً ما يتعلق بتنظيم الجيش
مع ما صادفه في طريقه من العقبات التي كادت أن تحول بينه وبين نجاح
مشروعه لولا ثباته ومثابرته على العمل وعدم تأخره عند حدوث مانع أو طروء
صعوبة بل كان يلقى الصعوبات بقلب ثابت لا تزعزعه العواصف ولا ترهبه
القلاقل ولما جيء بجثة إسماعيل باشا محرقة إلى مصر احتفل بدفنها احتفالاً عظيماً
ظهر به ميل المصريين للعائلة الحاكمة ومشاركتها لها في فرحها وحزنها وسرائها
وضرائها .(1/107)
"""""" صفحة رقم 108 """"""
ولم يكن يشوب تلك المحبة الخالصة والألفة الصادقة إلا مسألة إدخال الشبان
المصريين في العسكرية وهو الأمر الذي نسيه المصريون من عهد سقوط دولة
الفراعنة وإغارة الأجانب على مصر وحكمهم إياها حتى جهل المصريون في هذه
الأحقاب العديدة والقرون المديدة أن لهم وطناً يلزمهم الدفاع عنه والسعي في
كل ما يعود عليه بالسعادة والرفاهية لعلمهم أنهم ليسوا آمنين على أرواحهم
وأولادهم وأموالهم وأعراضهم من ظلم من أتى إليهم وطرأ عليهم من الأجانب
بين عجم ويونان ورومان ومسلمين على اختلاف عائلاتهم بين عباسيين
وفاطميين وأيوبيين وترك وجركس ومماليك مختلفي المشارب والمذاهب متحدين
على امتصاص دم المصري واستتراف ثروته واستخدامه واستعباده إلى غير ذلك
مما يضيق عنه هذا الكتاب .
هذا وقد اتخذ العساكر الألبانيون ( الأرنؤد ) اشتغال محمد علي باشا بموت
ولده والإحتفال بشأنه ، فرصة ووسيلة لتحريض الأهالي لا سيما المزارعين الذين
هم أكثر المصريين عدداً إن لم يكونوا كلهم على مخالفة محمد علي باشا حتى إن
بعض البلاد امتنعت عن إدخال أولادهم في العسكرية وأهانوا المأمورين المكلفين
بجمعهم ولولا حكمة محمد علي باشا لتفاقم الأمر وعظم الخطب ونال الألبانيون
بغيتهم من تفويض أركان حكومته ودك دعائمها .
هذا ولما كان الجيش الجاري تنظيمه بأسوان بمعرفة سليمان أغا ورفقائه قد
بلغ درجة عظيمة في حسن النظام وصار بحيث يمكن الإعتماد عليه والإستناد
إليه ، أراد محمد علي باشا أن يجعله ركناً لدولته فأرسل إلى سليمان أغا أن يحضر
مع جيشه إلى الخانقاه ( الخنكا ) فحضر وكان جيشه مؤلفاً من خمس وعشرين
ألفاً ما بين مصري وسوداني وهو منقسم إلى ستة ألايات ضباطهم وصف
ضباطهم من الأورباويين ومن مماليك محمد علي باشا الذين كانوا أول من تدرب
على التعليمات العسكرية .(1/108)
"""""" صفحة رقم 109 """"""
ولما حضر الوالي مناوراتهم في ميدان الخانقاه وشاهدها ازداد بها سروراً وأنعم
على سليمان أغا برتبة أميرالاي مع لقب بيك وجعله ( أميرالاياً ) للألاى السادس
وأقطعه أرضاً واسعة وأموالاً كثيرة مكافأة له على إتمام هذا المشروع وإخراجه
من حيز الفكر إلى حيز الفعل ، ثم أمر بإلغاء الجيش غير المنتظم ( باشبوزق )
ورسم بأن من يريد الدخول في الجيش الجديد من الألبانيين يقبل وإلا يطرد من
الحكومة المصرية ويرجع إلى وطنه .
أما سليمان بيك فأخذ من يومئذ في إصلاح أطيانه وأمواله وبنى له قصراً
جليلاً على النيل في مصر العتيقة وفرشه بالأثاث العربي وأحاطه بالبساتين
والمروج حتى صار من أحسن أماكن مصر وأبهجها وأعلاها ، وصار يؤمه كل من
دخل مصر من الفرنساويين فيلاقون من ربّ البيت ما تقرّ به أعينهم ويسر به
خاطرهم وينشرح به صدرهم من إكرام الوفادة ولطف اللقاء .
هذا ولما وصل خبر غدر ملك شندي بإسماعيل باشا إلى محمد بيك الدفتردار
الذي كان إذ ذاك ببلاد دارفور قفل راجعاً إلى بلاد النوبة ليأخذ بثأره فأحرق
القرى بعد قتل سكانها بين رجال ونساء وأطفال ولم يترك النوبة وشندى إلا
بلقعاً لا يسكنه إلا بنات آوى والوحوش الضارية والطيور الكاسرة لأكل جثث
القتلى التي أفسدت الهواء بما تصاعد منها من الروائح الكريهة ومع هذا كله لم
يتمكن الدفتردار من قتل الملك ولا القبض عليه ولم يقف له على أثر بعد أن
بذل جهده في التفتيش والبحث عليه في أنحاء السودان .(1/109)
"""""" صفحة رقم 110 """"""
صفحة فارغة(1/110)
"""""" صفحة رقم 111 """"""
6 - حرب اليونان
ثم إن محمد علي باشا لم يبق له شاغل بعد ترتيب الجيش المنتظم واستتباب
الأمن في ديار السودان بهمة صهره محمد بيك الدفتردار ونشر لواء العدل
والمساواة في داخلية الحكومة ، إلا نشر التمدن وأسبابه بين الأهالي فأخذ في فتح
المدارس التي هي أساس التمدن والعمران في كل الحكومات والمالك لتعليمها
الشباب ما لهم من الحقوق وما عليهم من الواجبات نحو أنفسهم والعائلة
والوطن وبث روح التعاضد والتساعد بين أفراد الأمة وحب الاتحاد والارتباط
اللازمين لنجاح أي مشروع كان ، ثم وجه التفاته إلى إصلاح مجرى النيل وإقامة
الجسور لمنع الغرق وشق الترع والجداول لمنع الشرق ، وتأسيس الورش والمعامل
لإيجاد الصناعة في القطر والاستغناء بها عن المصنوعات الأجنبية وحصر ثروة
البلاد في أيدي أهلها الذين هم أولى بها من غيرهم من الأجانب الذين جل
بغيتهم جمع الأموال وحوزها ، والإثراء بأي طريق كان غير ناظرين إلا لمنفعتهم
الخاصة ومنفعة بلادهم تاركين منفعة البلاد التي يظلهم سماؤها ويروي غليلهم
ماؤها ، لكن لا لوم عليهم في ذلك ولا تثريب لكونهم أجنبيين عن البلاد .
وبينما هو مشتغل بهذه الإصلاحات آمن على داخلية حكومته لعدم وجود
منغص في جيش الألبانيين ، وخارجيتها لوجود الجيش المنتظم الذي يمكنه به أن
يصدّ به كل مهاجم مع مساعدته بسفنه الحربية العديدة المسلحة بالمدافع على
الطراز الذي كان مستعملاً في ذلك الوقت ، إذا ورد إليه خبر تعيينه والياً على
ولايتي كريد وموره بشرط إرسال قوّة كافية لإخماد ثورة اليونان الثائرين
للحصول على الاستقلال السياسي المستدعي لطرح سلطة الدولة العلية .
نستطرد هنا إلى الكلام على الثورة اليونانية بشرح وجيز قبل التكلم على
حرب موره فنقول :(1/111)
"""""" صفحة رقم 112 """"""
من عهد فتح العثمانين بلاد اليونان لم يحصل من اليونانيين ما يخل بالراحة بل
أذعنوا الحكم الأتراك بعد مقاومة يسيرة وأمتتلوا الأحكام بالقوة واستمر هذا
السكون إلى سنة 1820 حتى انتشرت في أوربا مبادئ الثورة الفرنساوية المبنية
على ثالوت الحرية والمساواة والإخاء على أثر حرب نابليون التي اشتد فيها
بأسه ولم يمنعه تغلب الجيوش الأورباوية عليه وإرجاعهم فرنسا إلى حدودها التي
كانت عليها قبل الثورة ، من غرس مبادئ الثورة في كل بلد دخلها أو مرَّ بها ،
فنبتت ونمت وامتدت فروعها إلى سائر أنحاء أوربا حتى وصلت إلى اليونان
فنبهتهم للمطالبة بحقوقهم وعرّفتهم أن لهم حقاً في المجتمع السياسي وبثت فيهم
الشوق إلى أن يكونوا إسوة بسويسرا مثلاً .
لكن لما علم أغنياء الأمة اليونانية أن السواد الأعظم من أبناء جنسهم قد
طمس على أعينهم الجهل وأن أساس الحرية هو الإستشارة بنبراس العلم ، إذ به
يعلم الإنسان أن له حقوقاً يطالب بها كما أن عليه واجبات يطالبه بها الغير ،
أخذوا أولاً في إرسال أولادهم إلى الممالك الأروباوية ليتحلوا بالعلوم والمعارف
وليكونوا رؤساء الأمة ودعاة حريتها في المستقبل ثم ألفوا عدة جمعيات لنشر
العلم بها بين سائر طبقات الأمة من وجه ، ولبث روح الوطنية بينهم من وجه
آخر ، وألفواجمعيات أخرى سياسية وجعلوا مراكزها في الروسيا أو في النمسا
وأهم هذه الجمعيات الجمعية السرية المسماة جمعية ( هينيري ) فإنها تألفت في
مدينة ويانا سنة 1815 وقد قيل إن الإسكندر الأول قيصر الروسيا كان هو
المحرّض عليها تنفيذ الوصية بطرس الأكبر من الإستيلاء على القسطنطينية لكن
حال دون نفاذها محافظة انكلترا خصوصاً وأوربا عموماً على التوازن السياسي
بين قوى الدول .(1/112)
"""""" صفحة رقم 113 """"""
وكان كل من يدخل هذه الجمعية يقسم على أن يبذل روحه وماله في سبيل
الحصول على الإستقلال السياسي والمحافظة على السر في كل ما يتعلق بهذا
المشروع أو يضمن نجاحه ، فكانت هذه الجمعية أشبه شيء بجمعية الكاربوناري
التي انتشرت أثناء ذلك في كافة الممالك اللاتينية ، فرنسا وإيطاليا وإسبانيا
والبرتغال ، ثم تشعبت فروع هذه الجمعية في أنحاء الدولة العلية التي بها يونانيون
حتى بلغ أعضاؤها في أوائل سنة 1821 نيفا وعشرين ألفاً أقوياء على حمل
السلاح ومستعدين للقيام عند أول إشارة تصدر من رؤسائهم . وكان من
أسباب المساعدة على انتشارها اشتغال الدولة بمحاربة علي باشا والي ' يانينا '
الذي ثار عليها طلباً في الإستقلال والإستيلاء على الجزء الغربي من تركية
أوربا ، ولكنه لم ينجح في مشروعه لمضايقة خورشيد باشا له وحصره إياه في
قصره الكائن بجزيرة في وسط بحيرة بالقرب من يانينا ومع ذلك لم يستسلم من
أوّل وهلة بل دافع مع من بقي من رجاله حتى أصيب بعدة جراحات وخر قتيلاً
فأمر خورشيد باشا بحز رأسه وإرسالها إلى دار الخلافة وكان ذلك في 5 فبراير
سنة 1822 .
ولقد انتهز اليونانيون اشتغال عساكر الدولة بمحاربة علي باشا المذكور
وأيقنوا أن هذه فرصة لهم فرفعوا راية العصيان وانتشر القتال بينهم وبين
عساكر الدولة العلية فلم تشرع الدولة في قمع عصيانهم إلا بعد قتل علي باشا
ثم أرسلت إليهم قوّة عظيمة تحت قيادة خورشيد باشا قاهر وإلى يانينا فكانت له
عليهم الغلبة أوّلا ثم انقلبت عليه الدائرة فانهزم في واقعة ( ترموبيل ) في شهر
أغسطس سنة 1822 فلما تبدد جيشه آثر الموت على أن يعود إلى دار الخلافة
مهزوماً بعد ما نال من الشهرة فانتحر مسموماً .
ومما زاد هذا الإنكسار أهمية حرق الدونانمة التركية في جزيرة صاقس وذلك
أنه بعد انتصار العسكر العثمانيين بحراً على مراكب اليونان الحربية واستيلائهم
على جزائر صاقس وساموس ، صادف ذلك حلول عيد الفطر فبينما العثمانيون(1/113)
"""""" صفحة رقم 114 """"""
في فرح وحبور غير ملتفتين إلى سفنهم انتهز اليونانيون هذه الفرصة وأحرقوا
الدونانمة التركية عن آخرها ومات فيها ثلاثة آلاف بحري وقبودان الدونانمة
وكان ذلك في 18 يونيه سنة 1822 وبقي الحرب بعد ذلك بينهم سجالاً إلى
سنة 1824 .
فلما رأى السلطان محمود الثاني ما حصل من الأهوال في هذه الحروب التي
قتل فيها أعظم قوّاده البرية والبحرية ونفدت في سبيلها الخزينة السلطانية
وخشي من أن اشتغال محمد علي باشا بما كان يجريه من الإصلاحات الداخلية
ربما يكون سبباً لحصوله على الإستقلال وتمكنه من مثل ما وقع من علي باشا
والي يانينا ، أصدر فرماناً بتاريخ 6 مارث سنة 1824 مشعراً بتعيين محمد علي
باشا والي مصر والياً على كريد وموره وكلفه بإخضاع اليونان وإدخالهم تحت
الراية العثمانية بعد مجازاتهم على ما ارتكبوه من كفران نعمة الدولة العلية التي
لم تعارضهم منذ استيلائها على بلادهم في شيء من ديانتهم ولا عوائدهم بل
عاملتهم بالإحسان إليهم وأن ما حصل لهم من الأمور المغايرة لخواطرهم إنما هي
من بعض الموظفين فكان الأجدر بهم أن يرفعوا شكايتهم إلى الباب الهمايوني بدلاً
من رفعهم راية العصيان ونبذهم طاعة أولى الأمر وراء ظهرهم ، اتباعاً لذوي
المفاسد الذين يسعون دائماً في إحداث القلاقل والأراجيف المزعجة في داخلية
المملكة العثمانية لغرض يقصدونه أو لسبب ينالونه لا لمنفعة تعود على من
يغرونهم على المخالفة والعصيان .
فلما وصل لمحمد علي باشا خبر تعيينه والياً على هاتين الولايتين حار في أمره
وصار يضرب أخماساً لأسداس ولم يدر ما يصنع ولا أي الأمرين يختار أيقبل ما
عين إليه ويتكفل بعهدة هذه الحروب التي أعيت الدولة العلية مع جلالة قدرها
وعظم شأنها وأدواتها الغريبة وقوّتها العجيبة أو يأتي التعيين فيغتنم أخصامه بذلك
فرصة إقناع السلطان بأنه ينوي الإستقلال كوالي ( يانينا ) .(1/114)
"""""" صفحة رقم 115 """"""
فجميع أعضاء عائلته وكبار حكومته وتروّى معهم في أحب الأمرين فقرّ
رأيهم على قبول المأمورية والإستعداد إلى السفر قبل أن يتفاقم الأمر ويعظم
الخطب في بلاد اليونان ويتسع الخرق على الراقع ، لكن حدثت في هذا الوقت
حادثه أوجبت تأخير سفر الإرسالية وهي أن أحد الحجاج المغربيين عند عودته
من مكان نزل بالقصير وأخذ يحرّض الناس على عصيان محمد علي باشا ، لما أتاه
من محاربة الوهابيين الذين لم يقوموا على زعمه إلا لنصرة الدين وأقنع سذّج
العقول ممن اجتمع عليه بأن محمد علي باشا خرج بذلك عن النصوص الشرعية
وصار من الواجب على كل مسلم محاربته مجازاة له على محاربته الوهابيين وقهره
إياهم ، فتبعوه على ذلك ووافقوه وسار بهم قاصداً مدينة قنا وازداد عدد تابعيه
ممن لقيه من العرب الذين انضموا إليه قصداً للنهب والسلب فوصل ( قنا ) بجيش
عظيم أوقع الرهبة في قلوب سكان تلك المدينة فتبعه أغلبهم وسار بهم إلى مدينة
( اسنا ) وصادف وصولهم إلى المدينة وجود بعض مع العساكر المصريين مسافرين
إلى السودان ، فأراد حاكم البلدة أن يفرّق بهم جموع العصاة فقاتلوهم قليلاً ثم
انضموا إليهم تخلصاً من السفر إلى السودان حيث كانوا مكرهين عليه .
فلما بلغ محمد علي باشا هذه الأخبار المشوّشة للأفكار وكان إذ ذاك مشتغلاً
بتجهيز جيشه للسفر إلى بلاد اليونان اضطرّ أن يرسل إلى جهة الصعيد الألاي
السادس تحت قيادة سليمان بيك فتوجه إليهم وحاربهم هو ومن معه من
العساكر الأبطال وهجموا عليهم حتى شتتوهم في أنحاء الجهات ثم اقتفوا أثرهم
حتى أوصلوهم إلى الصحراء فلم تقم لهم بعد ذلك قائمة ولقد برهن سليمان
بيك في هذه الواقعة على كفاءته واستعداده وأن العسكريّ المنتظم يمكنه أن
يقاوم عدداً عظيماً من غير المنتظمين وهذا هو الأمر الذي زاد محمد علي باشا
تمسكاً بالنظام الجديد .
وبعد استتباب الأمن في جهات الصعيد اهتمّ بالتجهيزات العسكرية وجمع
سبعة عشر ألفاً من العساكر المشاة وهم الألاي الثالث والرابع والخامس(1/115)
"""""" صفحة رقم 116 """"""
والسادس وأربع بلوكات من البلطجية وسبعمائة فارس تحت إمرة من يدعى
حسن بيك وعدّة من مدافع القلاع والمدافع الخفيفة ، وكان هذا الجيش تحت
قيادة إبراهيم باشا فأقلع من مينا الإسكندرية هو وعسكره في 10 يوليو سنة
1824 ومعه ستون سفينة حربية غير السفن الحاملة للعساكر وخيلها ومهماتها
قاصداً جزيرة ( رودس ) ليجتمع هناك مع دونانمة الدول العلية فوصلت الدونانمة
المصرية إلى جزيرة ( رودس ) قبل وصول الدونانمة العثمانية والسبب في هذا
التأخير أنه حال سير الدونانمة العثمانية قابلها الأميرال اليوناني ومعه خمسون
سفينة حربية صغيرة وبعض حرّاقات أحرق بها سفينتان عثمانيتان أحداهما بها
32 مدافعاً والآخرى 54 مدافعاً وأخذ عشرون زورقاً من زوارق الحمل بما فيها
من المؤن والذخائر ، ولما لم يتيسر للأميرال العثماني مقاومته أقلع بمراكبه من وجه
العدو والتجأ إلى أحدى مدن آسيا الصغرى ثم أرسل أوامره إلى الدونانمة
المصرية بالحضور إلى هذه الجهة لمساعدته على اليونانيين فلم يسع إبراهيم باشا
إلا تلبية طلبه وكان اجتماع الدونانمتين في يوم 26 أغسطس سنة 1824 وبعد
قدوم المدرعات المصرية اطمأن جأش الجيوش العثمانية وهدأ روعهم وقد بهرهم
العجب والاندهاش مما وجدوا عليه الدونانمة المصرية من الإستعداد والنظام
الذي لم يروا مثله عندهم وشهدوا لمنشئها بعلوّ الهمة وحسن التدبير ومزيد
السياسة وطول الباع وسعة الإطلاع .
هذا وبإجتماع الدونانمتين المصرية والعثمانية تألفت منها قوّة عظيمة بحرية لم
يسبق وجودها في بحر اليونان أثناء هذه الحروب لكن لم توقع هذه القوى
المجتمعة الرعب في قلوب البحرية اليونانيين لتدربهم على الحروب البحرية
ومعرفتهم بمسالك البحار ومفاوزها ، بل جمع أميرال العدوّ سفنه الصغيرة
السريعة السير وأتى بها في 5 سبتمبر سنة 1824 لمهاجمة الدونانمات المتحدة ،
وكانت تتقدمه الحرّاقات فلما قربت سخر منها المصريون لصغرها ولم يدر
بخلدهم أنها تحمل النار في جوانبها وتحرق كل ما تلمسه من السفن ، كبيرة كانت
أو صغيرة ، أما العثمانيون فلمكابدتهم غير مرة نيران هذه الحرّاقات وما تجلبه من(1/116)
"""""" صفحة رقم 117 """"""
الضرر لجأوا إلى الفرار وولوا الأدبار فتبعهم العدو بحراقاته حتى لحقهم وتمكن
من اضرام النار في السفينة الحاملة قبطان باشا وفي خمسة مراكب أخرى فعجز
العثمانيون عن إطفاء النار وقصروا في إطفائها وإخماد سعيرها فتركوا سفنهم
تستعر ناراً ونزلوا في الزوارق قاصدين فرض الأناضول ليتخلصوا من كيد هذا
العدوّ الذي لم يقدر على مقاومته لشجاعة اليونانيين وتعريضهم أنفسهم
للتهلكة لإحراق سفنهم ولو أفضى ذلك لإحراق السفينة ومن فيها ولا يخفي ما
في ذلك من الخطر لأن قابوذان الحرّاقة ملتزم بأن يكون بحذاء سفينة العدوّ
ويربط فيها سفينته بخطاطيف من الحديد بعد وضع النار في البارود الموجود بها
والمعلق على جوانبها ثم ينزل هو ومن معه إلى زورق صغير ويلجأ إلى الفرار حين
يكون عسكر العدوّ مشتغلين بإطفاء النار والهرب فراراً من الموت حرقاً .
هذا ما كان من أمر الدونانمة العثمانية وأما إبراهيم باشا فإنه ولو فقد
مساعدة العثمانيين له فلم يخطر بباله الهرب من أمام العدوّ قط ، بل قابل سفنه
بنيران المدافع المحكمة الطلقات حتى أمكنه أن يتخلص من شرهم ثم أقلع قاصداً
بلاد ( موره ) ، ولكن لسوء حظه لم يتيسر له إنزال عساكره إلى البر لمعاكسة
العدوّ له لا سيما وقد أحرق العدوّ بالقرب من جزيرة ( كريد ) أحدى سفنه
وأخذ منه خمس سفن جسيمة فيها ألفاً عسكري بري ولما لم يتمكن من إنزال
عساكره رجع إلى جزيرة ( رودس ) وبعد أن استراح وأراح عساكره أقلع منها
قاصداً جزيرة ( كريد ) وترك سليمان بيك مع فرقته لحماية ( رودس ) .
وفي هذه الأثناء وقع الخلاف بين رؤساء دونانمة العدوّ وهياج عساكره
البحرية لعدم صرف مرتباتهم وأبوا استمرار القتال ورجعوا إلى اليونان لإجراء
ما فيه الحصول على متأخر ماهياتهم ، فبمجرد وصول الخبر إلى إبراهيم باشا
بذلك أرسل توّا إلى سليمان بيك يستقدمه إليه من رودس فوصل إليه ثم أقلع
من ( خانيا ) مينا جزيرة ( كريد ) وجدّ في السير واجتهد حتى وصل إلى مينا
( مودون ) وأنزل عساكره إلى البر قبل أن يشعر بقدومه أحد وكان ذلك في 26(1/117)
"""""" صفحة رقم 118 """"""
فبراير سنة 1825 . ولما وصل إبراهيم باشا إلى بلاد ( موره ) رأى العثمانيين في
أسوأ حال من الضنك والضيق لتغلب اليونانيين عليهم في كل المواقع البرية
والبحرية ولم يكن ذلك بقوّة اليونان فلم لم يوجد أمام العثمانيين إلا هم
لأهلكوهم عن آخرهم وألزموا من بقي معهم بعد الحرب بالدخول تحت
جناحهم وسلطتهم ، كما كانوا قبل ذلك وما ساعدهم على مقاومة العثمانيين
والإستظهار عليهم في عدة مواقع مهمة إلا إسعاف الأوروباويين لهم بالمال
والرجال وإن كان هذا غير رضا دولهم ظاهراً ، فتألف في جميع إرجاء أوربا
جمعيات كثيرة دعيت بجمعيات محبي اليونان وأرسلت إليهم كثيراً من المؤن
والذخائر بل وتطوّع كثير من مشاهير أوربا وقوّادها مثل ( وشنطون ) نجل محرر
أمريكا الشهير واللورد بيرون الشاعر الإنكليزي وغيرهما من فحول الرجال
للدفاع عنها ، ووهبوا أنفسهم لخدمة الحرية في أي مكان سعى أهله في الحصول
عليها ومما زاد في استمالة الشبان الأوروباويين إلى الدخول في سلك العسكرية
اليونانية ما أذاعه وأشاعه في ربوعها من المكاتبات والقصائد الحماسية المحببة في
ذلك كل من ( فكتور هوجو ) و ( كازيمير ديلافين ) .
وبعد ظهور اليونانيين على العثمانيين وقع الخلاف والشقاق بين رؤس الثورة
لحب كل منهم الإستقلال برأيه ، ولكن منعهم نزول إبراهيم باشا وجيشه
ببلادهم لأنه لما نزل اتحدوا على مقاومته والدفاع عن وطنهم .
هذا ولما وصل الباشا المذكور إلى بلاد اليونان لم يكن مع العثمانيين إلا ميناء
( مودون ) التي نزل بها وميناء ( كورون ) .(1/118)
"""""" صفحة رقم 119 """"""
حصار ناوارين :
لم يلبث إبراهيم باشا بعد نزوله ( مودون ) أن رتب عساكره وأصدر الأوامر
اللازمة وخرج مع نخبة جيشه وألاي سليمان بيك في اليوم الثاني من مارث سنة
1825 وقصد مينا ( كورون ) برًّا ليخلصها من محاصرة اليونانين لها فتمكن
بإنتظام عسكره من الإنتصار على العدوّ وإدخال المدد والمؤن والرجال إلى البلد
المحصورة ثم أرسل في 23 مارث الألاي الثالث والرابع لمحاصرة مدينة ( ناوارين )
فحاصرها المصريون وضايقوها بالحصار رغم أنف اليونانيين الذين قاوموهم
مقاومة عظيمة الأهوال ، وعند ذلك قام إبراهيم باشا مع بقية جيشه من
( مودون ) قاصداً ( ناوارين ) لتعزيز الجيش المحاصر فهاجمه في طريقة فرقة من
اليونان يبلغ عددها ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل كانت آتية لمساعدة ( ناوارين ) ،
فهزمها الباشا وأسر قائدها وشتت جمعها أدراج الرياح وبالجملة فقد قاومت
حامية المدينة وهجمت غير مرة على الجيش المحاصر ولولا انتظام المصريين لنال
اليونانيون مرامهم بالغلبة ، لكن إبراهيم باشا بما عهده فيه من ثباته الذي لا
تزعزعه هجمات الأعداء ولا تروعه شجاعتهم وقوّة جأشهم ذلل هذه
الصعوبات وشدد الحصار على المدينة براً وبحراً وكادت حاميتها تستسلم لولا
مساعدة حظها لها بقدوم تسعة آلاف من شبان اليونان قصد تخليصها من
محاصرة المصريين وقهرهم وإرجاعهم من حيث أتوا .
وقبل وصول هذا الجيش بعشرة أميال سمعهم إبراهيم باشا يتغنون بنشيدهم
الوطني فلم يعبأ بهم بل ترك جزأ من جيشه لاستمرار الحصار وتركيب المدافع
القوية حول المدينة وقابلهم بعسكره على مقربة من البلد فهجموا عليه بقوّة
وشجاعة لكن بدون انتظام وأما هو فأمر عساكره بالثبات مكانهم بدون إطلاق
النيران حتى إذا قرب العدوّ منهم أطلقوا بنادقهم دفعة واحدة ليلقوا في قلوبهم
الرعب وهجموا عليه بالسلاح الأبيض على هيئة صفوف منتظمة فلما صار
العدوّ على بعد مائة متر قابله المصريون بالنيران الصائبة كالشهب المنقضة
وهجموا عليهم هجوم الأبطال فلم يمض إلا قليل زمن حتى قتل أغلب عساكر(1/119)
"""""" صفحة رقم 120 """"""
العدّو وفر الباقون منتشرين في أنحاء اليونان ، ومن وقتئذ أفل نجم سعدهم
وغربت شمس استقلالهم بعد إشراقها وأيقنوا أنه لو لم تمدّ لهم أوربا يد المساعدة
وتنصرهم بعساكرها لهلكوا عن آخرهم إن لم يقبلوا العودة إلى ما كانوا عليه
قبل ذلك ولقد ربح المصريون من هذه الواقعة غنائم كثيرة وأخذوا عدة من
الأسرى ، وكان فيهم كثير من الضباط والقوّاد الذين كان عليهم المعوّل في
الشدائد المهمات بل وسائر الملمات .
ولقد شهد الأعداء للمصريين بالإنتظام والثبات لما شاهدوه أمام نيرانهم ومما
يزيد المصريين فخراً أنهم لم يرتكبوا الفظائع في هذه الحروب وكانوا يحسنون
المعاملة للأسرى ولا يقتلون من سلم نفسه إليهم وألقى سلاحه بين أيديهم ،
وكانت أطباء الجيش المصري تضمد جراح الأسرى وتعولهم كما تعول جرحاهم
إتباعاً لأوامر إبراهيم باشا التي أصدرها إلى جيوشه واستمال بصنعه هذا قلوب
اليونانيين إليه ولولا ما حصل بين العثمانيين واليونانيين من جهة وتحريض ذوي
الغايات من جهة أخرى لفاز إبراهيم باشا بمأموله ونشر لواء الأمن في أنحاء
اليونان ، ولكن آلى محبو الفساد على أنفسهم إلا استمرار القتال بين الفريقين
لنيل مآربهم غير ناظرين إلى ما يترتب عليه من سفك دماء البرآء وترميل النساء
وتيتيم الأطفال .
وكانت هذه الوقعة فاتحة انتصار المصريين وبها أمكنهم تتميم الحصار برًّا على
مدينة ( ناوارين ) لكن لما كانت تلك المدينة واقعة على البحر وكان يأتيها المدد
والمؤن كلما نضبت علم إبراهيم باشا أنه لا يتيسر له إذلالها إلا إذا احتل جزيرة
صغيرة واقعة في مدخل الميناء ليتمكن بواسطة ما يضعه فيها من المدافع من قفل
مدخل المينا ومنع المدد عن الوصول إليها أما هذه الجزيرة فكانت ذات أهمية
عظيمة عند اليونان وكانت تحميها نيران قلاع البلد فلذلك كان دخولها من
أصعب الأمور الشاقة ، إن لم يكن مستحيلاً ومع ذلك فقد صمم إبراهيم باشا
على احتلالها بعد أن جمع هو وأركان حربه وفي مقدمتهم سليمان بيك على أن(1/120)
"""""" صفحة رقم 121 """"""
الاستيلاء على مدينة ( ناوارين ) مستحيل ما دامت هذه الجزيرة في يد الأعداء
فندب إبراهيم باشا سليمان بيك لهذه الخطة المهمة المحفوفة بالأخطار وكلفه
بأخذ الاستعدادات اللازمة للاستيلاء على هذه الجزيرة وأطلق له الحرية الكاملة
في العمل وكان ذلك في أوائل شهر مايو سنة 1825 .
فانتخب من العساكر كل من اشتهر بالشجاعة والإقدام وفاز على أقرانه
بمزايا التعليم التام وحسن الانتظام ثم سافر من ( مودون ) بحراً قاصداً ( ناوارين )
فلما رأى العدوّ هذه القوة قادمة عليه حصل له من الرعب ما حصل واستعد
للدفاع وحصّن الجزيرة وعزّز حاميتها بنخبة الشباّن وكان من ضمن المدافعين
عن هذه الجزيرة الكونت ( سانتاروزا ) أحد بلغاء الطليانيين الذي وقف نفسه
وحياته لمساعدة اليونان على الإستقلال ابتغاء مرضاة الحرية والأميرال اليوناني
( تسومادوس ) الذي نزل إلى البر مع مائتين من عسكره لتعزيز حامية الجزيرة
وتقويتها .
وبمجرد وصول السفن المصرية على مقربة من قلاع العدوّ ، ابتدر بإطلاق
المدافع عليها من سائر القلاع لكن لم تزعزع هذه النار القوية قلوب المصريين
ولم تثنهم عن عزمهم بل جاوبت مدافعهم مدافع العدوَ ونزلت العساكر البرية
في الزوارق تحت نيرانه .
فلما كان ظهر ذلك اليوم تمكن سليمان بيك ومن معه من النزول إلى البر
وبعد تبادل إطلاق البنادق قليلاً من الطرفين ، هجم المصريون وفي مقدمتهم
سليمان بيك على استحكامات العدوّ هجوم الأسود ودخلوها عنوة واستمر
القتال إذ ذاك بالسلاح الأبيض ودافع اليونانيون دفاع الأبطال لكن لم تفدهم
شجاعتهم شيئاً ، بل تغلب المصريون عليهم بحسن انتظامهم وبديع صنعهم وبعد
قليل كانت لهم الغلبة ورفعوا العلم المصري على هذه الإستحكامات التي كان
يظن العارفون أن أخذها بعيد جداً لحصانة الموقع من أصله ولزيادة حفظه(1/121)
"""""" صفحة رقم 122 """"""
بالقلاع المسلحة بالمدافع الضخمة من جهة ، ولقرب نيران قلاع البلد إليه من
جهة أخرى ، فكان المهاجم له تحت نيران قلاع الجزيرة وقلاع البر المتبادلة
وبعد هذه الواقعة اشتهر صيت المصريين في جميع أنحاء اليونان وانتقل بسرعة
عظيمة إلى بلاد أوربا فاضطربت لذلك جمعيات محبي اليونان وأيقنوا أن كل ما
بذلوه من مال ورجال قد ذهب سدى أمام صفوف العساكر المصرية ، وأنهم أن
لم يستميلوا لهم الرأي العام الأوربي وتجتمع الدول الأورباوية على مساعدة
اليونان مساعدة مادية لا أدبية فقط أفل نجم اليونان ووقعوا تحت سلطة المسلمين
كما كانوا مدّعين أنه لا يليق بل لا يجوز أن تكون أمة مسيحية تحت وطأة
المسلمين . ولعمري أن ذلك لمناف لمبادئ التمدن والحرية التي من دعائمها عدم
النظر إلى دين زيد أو اعتقاد عمرو بل النظر إلى أعمال كل منهما بقطع النظر
عن المعتقد فكم شاهدنا في التواريخ القديمة والحديثة أن المسلمين أحسنوا معاملة
رعاياهم من المسيحيين وغيرهم وقد رأينا أن الحروب قد استمرت أجيالاً بين
الكاثوليك والبروتستانت ولم تزل قائمة في الروسيا بين الأرثودكس ومن عداهم
من الطوائف المسيحية وغيرها . ومع كل فليس الغرض من هذا الكتاب الخوض
في هذا الموضوع الذي لو أردنا فتح بابه لملأنا مجلدات ضخمة فالتاريخ مشحون
بما ارتكبه مسيحي أسبانيا ( الأندلس ) ضدّ المسلمين في عصر الملكة ( ازابلا ) .
هذا ولقد قتل في هذه الواقعة كثير من الفريقين وكان من قتلى اليونان
الأميرال ( تسومادس ) الذي آثر الموت على النجاة هرباً كي لا يرى وقوع
بلاده في يد المصريين والكونت ( سانتاروزا ) الإيطالي وغيرهما من أبطال اليونان
والتجأ إثنان منهم وهما ( استارفوس ) و ( ساهنيس ) مع كثير من العساكر إلى
كنيسة هناك وجمعا فيها كمية عظيمة من البارود ثم أحرقاه فسقط البناء عليهم
وهلكوا عن آخرهم وجرح من الجيش المصري أمير الاى المشاة السادس وهو
سليمان بيك ولزم الفراش مكرها ولم يمكنه بذلك استمرار القتال .(1/122)
"""""" صفحة رقم 123 """"""
وكانت نتيجة هذه الواقعة الشهيرة حصر مدينة ( ناوارين ) براً وبحراً وأما
سفن العدوّ التي كانت في المينا فإنها تمكنت من الهرب إلا اثنتين وقعتا في يد
المصريين مع من فيهما من جرحى العدوّ وأما اليونانيون فلم يزالوا على قوتهم في
القتال براً وبحراً ( موليس ) القائد البحري في يوم 17 مايو سنة 1825
مع حراقاته ( سفن صغيرة ) من الدنو من ميناء ( مودون ) وأشعل النار في السفن
الراسية خارج المدينة وفرّ هارباً فامتدت النار إلى باقي الدونانمة ولشدّة الهواء
استحكمت حتى تعسر اطفاؤها ولم ينج من كان فيها إلا بجهد عظيم وعناء
شديد ومما زاد في الطين بلة أن الهواء حمل الشرر إلى داخل المدينة حتى أحرق
جزءاً منها والتهبت مخازن البارود ( الجبخانة ) فأدى ذلك إلى هدم كل ما
جاورها من المساكن وهلك فيها .
ومع كل فإن هذه الحادثة الهائلة لم تؤثر شيئاً في عزيمة إبراهيم باشا شجاع
مصر وفخرها بل كان مشدّداً للحصار على مدينة ( ناوارين ) وصدّ هجمات
العدوّ ، وهزم كل من جاء لمساعدتهم سواء كان على طريق البر أو البحر وفي
أحدى المناوشات العديدة أسر مطران ( مودون ) الذي كان يحض الأهالي على
مقاومته ومحاربته وأسر غيره من دعاة الثورة ، لكنه أحسن معاملتهم وأكرم
وفادتهم ، ولما أيقنت حامية البلد أن لا مناص لها من الموت أو التسليم لعسر مجيء
المدد لهم من الخارج بل لعدم إمكانه بالكلية لتشديد الحصار وتيقظ المصريين
دائماً ، طلبت من إبراهيم باشا أن تسلم إليه المدينة مع قلاعها وما فيها من المؤن
والذخائر والأسلحة بشرط أن يضمن لهم حياتهم فأذعن لمطالبهم وانقاد لمرغوبهم
ودخل المدينة في السادس عشر من شهر مايو سنة 1825 وقد كان لهذه الوقعة
تأثير مهم في قلوب اليونان ، إذ أيقنوا بالفشل والخيبة لكنهم آلوا على أنفسهم
أن يدافعوا في سبيل الحصول على الحرية والإستقلال السياسي ولو يموتون عن
آخرهم فداء الوطن وشهداء الحرية .(1/123)
"""""" صفحة رقم 124 """"""
فتح مدينة كلاماتا
وبعد سقوط ( ناوارين ) جمع ( بيتروبك ) خمسة آلاف مقاتل من سكان الجبال
المشهورين بالشجاعة والبأس وتحصن في مدينة تدعى ( كلاماتا ) وسوّرها بأسوار
منيعة وحصنها بالتحصينات المحكمة فذهب إبراهيم باشا لمحاربته واحتل في
مسيرة مدينة ( أركاديا ) المشهورة بخصب أرضها واعتدال هوائها وسائر البلاد
الواقعة على البحر واحتل أيضاً كل الطرق المارة بين الجبال لتوصيل الأودية
بعضها ببعض وقبل أن يصل إلى ( كلاماتا ) لحقة سليمان بيك وكان قد تماثلت
جروحه ولم ينتظر تمام شفائه بل خرج من الإسبتالية وقصد الجيش ليشهد وقعة
( كلاماتا ) فوصل الجيش إلى هذه البلدة ودخلها بعد قتال شديد دافع فيه
اليونانيون دفاع الأبطال ، لكنهم لم يقووا على الثبات أمام هجمات المصريين بل
ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار بعد أن خضبوا الأرض بدمائهم وأفعموا الأدوية
بجثثهم التي ذهبت فريسة للوحوش والطيور .
وبعد ذلك دخل إبراهيم باشا جميع القلاع الصغيرة والبلدان والقرى المحصّنة
وهدم أغلبها وقتل أو أسر حامياتها فلم يقم لليونانيين بعد هذه الوقائع قائمة ولم
يجسروا على مواجهة المصريين في الحروب المنتظمة بل التجؤا إلى جبالهم
وعمدوا إلى حرب التمادي معتمدين على شموخ جبالهم وعدم تمكن الجيوش
المنتظمة من صعودها والوصول إليهم .
فتح تريبولتسا :
ولما لم يجد إبراهيم باشا ما يعوقه عن السير إلى الأمام شرع في اجتياز جبل
( تايجيت ) الفاصل بينه وبينه وادي ( لكونيا ) الذي به مدينة ( تريبولتسا ) مقرّ
الحكومة الثوروية لعلمه أنه لو دخلت هذه المدينة في قبضته كان ذلك من أكبر
دواعي تقويض أركان الثورة اليونانية ولم يبق بعد ذلك ملجأ للثائرين إلا
الجبال .(1/124)
"""""" صفحة رقم 125 """"""
ولأجل تتميم هذا المشروع المهم واجتياز مضايق هذه الجبال الوعرة السلوك
الصعبة الصعود قسم إبراهيم باشا الجيش إلى طابورين جعل أحدهما تحت قيادة
نفسه ووجّه أولهما على طريق ( أركاديا ) والثاني على طريق ( ليوناردي ) فصادف
طابوراً إبراهيم باشا في مسيره عند مضيق ( كورشيكورا ) الثائرين الشهيرين
( كولوكتروني ) و ( بتراكو ) ومعهما عدد عظيم من سكان هذه الجهات قصد
اعتراضه في طريقة وإرجاعه القهقري فقهرهم وقتل منهم نيفا وخمسمائة مقاتل
ورئيسهم ( بتركوا ) ثم دخل مع جيشه مدينة ( تريبولتسا ) في 23 يونيو سنة
1825 فوجدها خالية من السكان إذ أخلاها ساكنوها وحاميتها وأضرموا النار
فيها قبل خروجهم وآووا إلى الجبال لعلها تعصمهم من نيران المصريين ، حيث لا
عاصم اليوم لهم منها إلا الطاعة والإذعان والرجوع عن مخالفة الدولة العلية
التي لولا سعاية أولى الأغراض الفساد لما أمكنهم الخروج عن طاعتها .
وبعد أن حصن البلد داخلاً وخارجاً ووضع فيها حامية كافية لصدّ هجمات
الأعداء ليكون آمناً عليها من غوائل الزمان وطوارق الحدثان خرج منها ببعض
جيشه في 25 يونيو سنة 1825 قاصداً وادي ( ارجوس ) فهزم طليعة من
الأعداء يبلغ عددها ثلاثمائة مقاتل تحت أمرة ( ابسيلانتي ) وبعد ذلك أمر بحصد
الغلال المزدرعة في هذا الوادي الخصيب ونقل سائر المحصولات إلى ( تريبولتسا )
ثم في يوم 7 يوليو سنة 1825 وصل إلى وادي ( لاكونيا ) وكان معه سليمان
بيك وألايه ونفر قليل من السواري فاعترضه في طريقه فرقة من الأعداء يبلغ
عددها ثمانية آلاف متحصنين في بعض المعاقل فرتب إبراهيم باشا عسكره على
هيئة قول ( طابور ) وهجم على حصون الأعداء بالسلاح الأبيض فهزمهم
وأخرجهم من استحكاماتهم وكانت نتيجة هذه الواقعة أن صار كل إقليم
( موره ) في قبضة إبراهيم باشا إلى مدينة ( نوبلي ) وبينما هو يستعدّ لحصارها إذ
ورد إليه خطاب من رشيد باشا قائد الجيوش العثمانية الذي كان إذ ذاك محاصراً
مدينة ( ميسولونجي ) منذ عدّة أسابيع بلا فائدة ولا عائدة لوقوع هذه البلدة على
خليج ( لبيانته ) ودوام ورود المدد لها بحراً وعدم تمكن الدونانمة العثمانية من(1/125)
"""""" صفحة رقم 126 """"""
حصرها لوجود ( ميوليس ) القائد اليوناني البحري وحراقاته التي كثيراً ما سببت
خسائر فادحة لسفن الدولة يطلب منه المساعدة على فتح هذه البلدة التي أعياه
أمرها فأرسل لوالده بمصر يخبره بهذا الأمر ويطلب منه إرسال المدد فأرسل له
الألاي السابع والثامن من الجيش المنتظم وبعض فرق من الأرنؤد من حامية
كريد .
فتح مدينة ميسولونجي :
وفي أثناء هذه المدّة ورد إلى إبراهيم باشا أمر بمساعدة رشيد باشا وفرمان
مؤذن بتعيينه وزيراً لولاية ( موره ) فقام من ساعته مع عشرة آلاف من المشاة
وخمسمائة من الفرسان ولم يترك في ( موره ) ومينائها إلا ما يكفي لحمايتها ثم
سافر بحراً قاصداً مدينة ( ميسولونجي ) فلما وصل إليها هاجمها متبعاً مشورة رشيد
باشا ، فلم ينجح ورجع منهزماً فاتبع بعد ذلك في حصار هذه البلدة الخطة التي
سلكها في حصار ( ناوارين ) بأن شدّد الحصار عليها براً واستولى على الجزائر
الواقعة في فم المينا وبنى فيها قلاعاً حصينة ، فأغلق بذلك المينا وأتّم الحصار براً
وبحراً حتى لم يعد من الممكن وصول المدد إليها بأي صفة كانت ، ثم أرسل إلى
حامية المدينة يطلب منها أن تستسلم بدون حرب ولا قتال لتحققه أن امتناعهم
لا يجديهم نفعاً ، فلم يقبلوا ذلك منه وصمموا على عدم التسليم ولو ماتوا عن
آخرهم .
ثم أرسل أهل المدينة إلى القائد ( كرايسكا كي ) وكان على مقربة من المدينة
يعلمونه بأنهم عزموا على الخروج في ليلة 22 إبريل سنة 1826 بجميع سكان
البلد من رجال ونساء وأطفال وطلبوا منه أن يهاجم المصريين في وقت معلوم
ولكن لسوء حظهم لم يقو ( كرايسكا كي ) على مهاجمتهم لما كان به من المرض
الشديد ، ولم يشعرهم بذلك فظنوا أنه قد أجاب طلبهم وخرجوا في الوقت
المعلوم من اليوم المعهود وهم في غاية السكون مستترين تحت جناح الليل ، فلما
أحس بهم إبراهيم باشا وعسكره قابلهم بنيران البنادق وأوقع بينهم الفشل(1/126)
"""""" صفحة رقم 127 """"""
فرجعوا إلى المدينة بدون انتظام واتبع المصريون أثرهم حتى دخلوا المدينة
وأعلموا في أهلها السيوف والبنادق وأبلوا في قتالهم بلاء حسناً . ولقد جمع أحد
رؤساء اليونان ما ينيف عن ألفين ما بين شيوخ وأطفال ونساء في إحدى
الكنائس حتى إذا وصل المصريون هدم الكنيسة بلغم من البارود كان قد صنعه
وأعدّه لهذه الغاية فهلك هو ومن معه عن آخرهم .
هذا ولقد تمكن بعض حامية المدينة من اختراق صفوف المصريين والأتراك
بعد قتال عنيف وآووا إلى أحد الجبال المجاورة بعد أن قتل أو جرح ثلاثة
أرباعهم ولما علم هؤلاء الشجعان أنه قد استولى اليأس على قلوب رؤس الثورة
بعد سقوط مدينة ( ميسولنجي ) كتبوا إليهم في 7 مايو سنة 1826 أن لا يخافوا
ولا يحزنوا ولا يقنطوا من مساعدة الله فإن يد الله مع محبي الحرية والذابين عنها
وأنهم لم يزالوا ولن يزالوا مستعدّين للدفاع عن استقلالهم إلى آخر رمق من
حياتهم .
ولقد حدث في أثناء هذه المدّة أمران مهمان أحدهما موت اسكندر الأول
إمبراطور الروسيا فجأة ، وتولية الأمبراطور نقولا خلفاً عنه . وثانيهما قتل
السلطان محمود العثماني لجيش الإنكشارية في 16 يونيو سنة 1826 اقتداء بما
فعله محمد علي باشا بمصر مع المماليك ، ليتخلص من شرهم ويبرأ من كيدهم
ويطهر مملكته من هذه الفئة الباغية التي اشتهرت في سائر أنحاء المملكة العثمانية
بعدم الإنتظام وارتكاب أنواع المنكرات فضلاً عن الرذائل بدون أن يجسر أحد
على معارضتهم أو يقوى على مقاومتهم ، وكثيراً ما عصوا السلاطين العثمانيين
وخلعوهم من مناصبهم بل وقتلوهم وغير ذلك مما لا دخل له في موضوع هذا
الكتاب .
ثم أعقب سقوط مدينة ( ميسولونجي ) سقوط باقي مدن موره ويقال أن ما
قابله إبراهيم باشا من الصعوبات أمام ( ميسولونحي ) أحدث تغييراً مهما في
طباعه ، فبعد أن كان يعامل اليونانيين بالرفق واللين ويمنع الإيذاء عن أسرهم(1/127)
"""""" صفحة رقم 128 """"""
ويكرم مثواهم صار يعاملهم بالقسوة والشدّة ويأمر بقتل الأسرى أوّلاً فأولاً
ونهب كل ما يمرّ عليه من البلدان قبل حرقها وغير ذلك مما لا يسلمه العقل ،
ولعل هذه أمور أشاعها بعض أصحاب الغاية لمقاصد وأغراض يريدون التوصل
إليها والحصول عليها بإلقاء الفتن ودس الدسائس في داخلية البلاد للتداخل في
أمورها مما لا يخفى على رجال الدولة العلية الذين حنكتهم التجارب ، ولنرجع
إلى ما نحن بصدده فنقول :
فتح العثمانيين مدينة أثينا :
أنه بعد سقوط مدينة ( ميسولونجي ) انفصل الجيش المصري عن الجيش
العثماني فعاد الأول إلى ولاية ( موره ) وقد نسب إليه البعض من ارتكاب الفظائع
مالا يمكننا ذكره لعدم ثبوته ، وأما الثاني فقصد مدينة اثينا وحاصرها ولم يكن
فيها إذ ذاك ما يصد هجمات العثمانيين فأسرع ( كرايسكاكي ) والكولونل
( فابغيه ) الفرنساوي إلى هذه المدينة المهددة ومعهما سبعة آلاف عسكري يوناني
وتمكنا من الوصول إليها قبل أن يشدّد رشيد باشا الحصار عليها وبعد مناوشتين
خفيفتين وقعتا بالقرب من المدينة في 10 وفي 20 أغسطس سنة 1826 إلتزم
رشيد باشا بإخلاء بيرا وما جاورها أما ( فابغيه ) فاخترق صفوف المحاصرين
ودخل المدينة بألف وخمسمائة مقاتل واحتل قلعة ( اكروبول ) التي تعهد بالدفاع
عنها وكان اللورد ( كشران ) قومنداناً للسفن الحربية اليونانية والجنرال
( شرش ) رئيساً للجيوش البرية وهما انكليزيا الجنس وكان السبب في تقليدهما
هذه الوظائف الرئيسية مع وجود شجعان اليونان الذين اشتهروا في هذه
الحروب من أولها ، هو عدم اتفاق رؤس الثورة ووجود الغيرة والحسد بينهم
وهو الأمر الذي أفضى إلى تقليد رئاسة الجمهورية اليونانية إلى الكونت
( كابودي استريا ) .(1/128)
"""""" صفحة رقم 129 """"""
وفي يوم 4 يونيو سنة 1826 هاجم اليونانيون عساكر العثمانيين ولولا
موت ( كرايسكاكي ) لفاز اليونانيون بالغلبة ثم في 6 منه اتفق رأى رؤس جيش
اليونانيين على معاودة الهجوم على صفوف العثمانيين لكنهم لم يتحدوا في
العمل ولم يساعد بعضهم بعضاً ومتى تفرقت الكلمة تفرقت القلوب ولذلك لم
ينجحوا فيما عزموا عليه ولم يتمكن اللورد ( كشران ) والجنرال ( شرش ) من
الإلتجاء إلى سفنهم إلا بكل صعوبة أما الجند فهلكوا إلا قليلاً منهم وبعد ذلك
اتفق الجنرال ( شرش ) مع رشيد باشا على تسليم المدينة ، وأمر الكولونيل
( فابغيه ) بإخلاء قلعة الأكربول وتسليمها إلى العثمانيين لكن اضطره نفاد المؤن
وتذمر العساكر لإخلاء القلعة وتم بذلك استيلاء العثمانيين على مدينة أثينا تخت
حكومة اليونان الآن .
ولم يبق بعد ذلك اليونان في أنحاء بلاد موره إلا ثلاث قلاع أما المال المتحصل
من القرض الذي أبرم في مدينة لوندرة ومن تبرعات محبي الحرية فقد نفد أغلبه
في الشقاقات الداخلية وما ترتب عليها من الحروب وسفك الدماء .
تداخل الدول :
بينما إبراهيم باشا يستعدّ لفتح ما بقي في يد اليونان من القلاع إذ تداخلت
أوربا لا سيما فرنسا إنكلترا والروسيا بين الفريقين وطلبت من اليونان والباب
العالي توقيف الحركات العدوانية حتى يتم الإتفاق على أمر مرضى مختار لدى
الطرفين ، فأبى الباب العالي ذلك وأمر قوّاده بإستمرار القتال على ما كانوا عليه
ولقد انتهزت الروسيا هذه الفرصة واستعانت بدولتي فرنسا وانكلترا على إلجاء
الباب العالي إلى اتباع المعاهدات فتهدّدوه وتوعدوه بالقتال ، إن لم يقبل مطالب
الروسيا فبعد محاولات ومناقشات طويلة أمضى الباب العالي في 26 ديسمبر
سنة 1826 على اتفاق ( إكرمان ) الذي من شروطه أن يؤيد كل ما جاء في(1/129)
"""""" صفحة رقم 130 """"""
معاهدة بوخارست ويبيح لسفن الروسيا المرور من بوغاز البوسفور إلى البحر
المتوسط في أي وقت شاءت ومنها استقلال إمارتي الإفلاق والبغدان ( رومانيا )
واستقلال الصرب مع حفظ الحق للباب العالي في وضع حامية عسكرية في
مدينة ( بلغراد ) وثلاث قلاع أخر ولم يذكر في هذه المعاهدة شيء في شأن اليونان
واستقلالهم لإيجاد سبيل للتداخل في مسئلتهم وحسمها طبق مرغوبهم .
هذا ولنأت على ذكر هذه المسألة تفصيلاً فنقول أن ( دوك ولنجتون ) وزير
خارجية انكلترا إذ ذاك وهو القاهر لنابليون كما سبق ، وكونت ( نسلرود )
وزير خارجية الروسيا كانا قد اتفقا عقب اجتماعهما في شأن بطرسبورج على
التداخل بين الدولة العلية واليونان وإنالة الأخيرة استقلالها طوعاً أو كرهاً
فحررا بلاغاً للباب العالي في 26 مارث سنة 1826 بالنيابة عن دولتيهما
وبتعضيد فرنسا ، وقدّموه بالإشتراك إلى السدة السلطانية طالبين به استقلال
اليونان استقلالاً إدارياً لا سياسياً ، بحيث يكون تعيين الحكام والمستخدمين فيها
بمعرفة أهلها تحت ملاحظة الباب العالي وأن يدفع اليونانيون خراجاً معيناً للدولة
العلية ، وأن المسلمين المقيمين في بلاد اليونان يهاجرون منها ويعطون عوضاً عما
يكون لهم بها من المال والعقار . فرأى الباب العالي هذه المطالب فادحة ورفضها
رفضاً كلياً ، فعند ذلك اتفق كل من فرنسا وانكلترا والروسيا بمقتضى معاهدة
أمضيت في مدينة ( لندن ) في أوائل يوليو سنة 1827 على إلجاء الباب العالي إلى(1/130)
"""""" صفحة رقم 131 """"""
قبول تداخلهم في مسألة اليونان ، فأصر الباب العالي على عدم قبول تداخلهم
فأرسلت الدول الثلاث المتحدة سفنها الحربية إلى مياه اليونان .
واقعة ناوارين البحرية :
لما علم محمد علي باشا بتداخل الدول الأجنبية أرسل إلى ولده بموره
الدونانمة المصرية حاملة أربعة آلاف عسكري وكانت السفن المصرية والعثمانية
حاملة ألفين ومائتي مدفع وتسعة عشر ألف شخص واصطفت داخل مينا
ناوارين على هيئة نصف دائرة يرتكز أحد طرفيها على قلعة البلد والآخر على
قلعة جزيرة ( سفا كتيري ) الواقعة عند مدخل الميناء التي كابد إبراهيم باشا
وسليمان بيك العناء الشديد والتعب المديد في الإستيلاء عليها كما ذكر ذلك
في محله . أما الدونانمة المتحدة فكانت أضعف من الدونانمة الإسلامية من حيث
عدد المدافع لكنها كانت أقوى منها بكثير بالنسبة إلى المتانة وانتظام الجند
وسرعة الحركات وكانت السفن الفرنساوية تحت إمرة الأميرال ( ريني )
والإنكليزية تحت قيادة الأميرال ( كودرنجتون ) وكان قائد سفن الروسيا الأميرال
( هيدن ) لكن كانت السفن المتحدة تحت إمرة الأميرال الإنكليزي لتوحيد
الرياسة وعدم تفرقة الكلمة ، واختير هو دون غيره لكونه الأقدم في الدرجة .
ثم دخلت الدونانمة المتحدة إلى الميناء واصطفت للقتال دون أن يجسر أحد
الطرفين على تحمل المسئولية بالإبتداء بالعداوة ومع ذلك لم يمض نصف ساعة
حتى انتشب القتال بينهما بدون إعلان حرب كما هي عادة الأمم المتمدنة ، ولا
سبب يوجب العدوان بين الطرفين إلا إغراء الروسيا للدولتين الأخيرتين على
تدمير الدونانمة التركية المصرية ، وكان يقصد الفرنساويون بذلك الفخر
والشرف بعد ما ألمّ بهم سنة 1815 ولم يرغب الإنكليز أن تنفرد فرنسا بهذا
العمل خوفاً من زيادة نفوذها في هذه الجهات فكان الرابح في هذه الحروب
البرية الروسيا فقط كما سيجيء .(1/131)
"""""" صفحة رقم 132 """"""
والسبب في اشتعال نيران القتال كما نشره ثقات المؤرخين هو أن أحد
الحراقات التركية اقتربت في أثناء المناورات الإبتدائية من إحدى البوارج
الإنكليزية فأرسلت هذه لها ضابطاً في زورق يطلب منها البعد عنها فانطلق إليها
وتهدد أحدى عساكرها بغدّارة كانت في يده ، فأطلق العسكري التركي على
الضابط الإنكليزي بندقيته فقتله فانتشب حينئذ القتال بالبنادق بين هاتين
السفينتين ثم أطلقت أحدى البوارج التركية مدفعاً أصابت طلقته مقدّم السفينة
الفرنساوية ( سيرين ) ولم تصب أحداً فعند ذلك أطلقت هذه السفينة مدافعها
على السفن التركية فانتشب القتال بين الطرفين بحال هائلة ، حتى لقد عدّت
هذه الواقعة التي كانت نتيجتها تخريب أغلب الدونانمة التركية والمصرية من
أكبر الوقائع البحرية وأهمها وكان ذلك في 20 أكتوبر سنة 1827 ويدّعى
الأوروباويون أنه لم يكن قصدهم حصول الحرب والقتال بل كان قصدهم
الوحيد إلزام الدولة العلية بمنح اليونان الإستقلال وإيقاف القتال بأي وجه كان
ولو أدى ذلك إلى الحرب .
أما إبراهيم باشا فكان في داخل بلاد ( موره ) لإتمام نشر الأمن والسكينة بها
فحين بلغه خبر تخريب سفنه في واقعة ( ناوارين ) عاد إلى هذه البلدة وأبرق
وأرعد لكن لم يجده ذلك نفعاً ولذا اختار خطة الدفاع عن خطة الهجوم وتحصن
في مينائي ( كورون ) و ( مودون ) وما جاورهما وأمر سليمان بيك بالبقاء في
( تربيولتسا ) وكان قد عين حاكماً لها ريثما تأتيه أوامر جديدة . ولما وصل خبر
هذه الواقعة إلى دار الخلافة أرسل الباب العالي إلى الدول الثلاث المتحدة بلاغاً
يطلب به عدم التداخل بينه وبين رعاياه اليونانيين وأن يدفعوا له عوضاً عن
السفن التي فقدت في الوقعة المذكورة ويعتذروا له عما وقع منهم ، فعند ذلك
أعلنت الروسيا بحرب الدولة العلية وبارزتها عدة وقائع كان الحرب فيها سجالاً
بين الطرفين ، ثم كانت الغلبة للروسيا وانتهت الحرب بالتوقيع على معاهدة
( أدرنة ) وسنأتي على ذكرها في محلها وفي هذه الأثناء تمكن اليونانيون بمساعدة(1/132)
"""""" صفحة رقم 133 """"""
الدول الأدبية ، ومساعدة فرنسا المادية ، إذ أرسلت لمساعدتها جيشاً عظيماً تحت
إمرة الجنرال ( ميزون ) ، من استرجاع أهم مواقعهم الحربية .
ثم في 3 أغسطس سنة 1828 اتفق محمد علي باشا والي مصر مع الدول
المتحدة على إخلاء ( موره ) بشروط وهي : أوّلاً أن والي مصر يتعهد بإعادة من
أسر من اليونان وغيرهم في واقعة ( ناوارين ) وبتحرير من بيع منهم للأهالي ، ثانياً
أن الأميرال الإنكليزي يتعهد بإرجاع من أسر من المصريين وكذلك السفن التي
أخذت أثناء الحرب ، ثالثاً أن الجيوش المصرية تخلي ( موره ) في أسرع وقت
وينقلهم أمير مصر إلى الإسكندرية على سفنه ، رابعاً أن السفن المصرية في حالتي
ذهابها وإيابها تكون مخفورة بسفن فرنساوية وإنكليزية ، خامساً أن اليونانيين
المقيمين بمصر بإختيارهم لا يجبرون على تركها ماداموا غير مكرهين على البقاء
فيها وكذلك من يريد أن يعود مع المصريين بدون إكراه ولا إجبار ، سادساً يجوز
لإبراهيم باشا أن يترك في ( موره ) عدداً من العساكر لا يزيد على ألف ومائتين
للمحافظة على ( مودون ) و ( كورون ) و ( ناوارين ) و ( بتراس ) و ( كستل تورنيز ) أما
باقي النقط الأخر فلا بد من الجلاء عنها بدون إمهال .
رجوع إبراهيم باشا إلى مصر وانتهاء حرب اليونان :
فلما عرض هذا الوفاق على إبراهيم باشا أخذ الغيظ منه كل مأخذ لما رأى
من أن تعبه لم يعد عليه بأقل نفع ولم يمكنه الإمتناع لتهديد سفن الدول له بحراً
وجيش فرنساً براً ، فأصدر أوامره لسائر الفرق التي في داخل بلاد اليونان
بالسير إلى الثغور للرجوع إلى مصر ولسليمان بيك وكان مقيماً بالأيه في مدينة
( تريبولتسا ) بترك المدينة بعد هدم قلاعها وأسوارها ، فأخلى المصريون سائر
البلاد تدريجياً ودخلها الفرنساويون بدون معارضة ولا ممانعة إلا ( بتراس ) فدخلها
الجنرال ( ميزون ) عنوة بعد مقاومة خفيفة .(1/133)
"""""" صفحة رقم 134 """"""
هذا ولنذكر تتميماً للفائدة ما فعلته الدول الأورباوية لتحرير اليونان بعد
رجوع إبراهيم باشا إلى مصر فنقول أن الدول الثلاث المتحدة وهي فرنسا
والروسيا وانكلترا عقدت مؤتمراً في مدينة ( لندن ) في 16 نوفمبر سنة 1828 ،
ودعت الدولة العلية لإرسال مندوب ينوب عنها ويقوم مقامها فيه فلم يقبل
الباب العالي إرسال مندوب خوفاً من اعتبار ذلك إقراراً على ما أتته هذه الدول
من مساعدة اليونان . أما مندبو الدول الثلاث فاجتمعوا بلوندرة في اليوم المعين
وقرروا استقلال ( موره ) وجزائر ( سيكلاده ) وتشكيلها على هيئة حكومة
مستقلة تحت أمير مسيحي تنتخبه الدول وتكون تحت حماية وضمانة الدول
الثلاث ، وتدفع للباب العالي مبلغ خمسمائة ألف قرش في كل سنة .
لكن لم يعترف الباب العالي صاحب السيادة بهذه المعاهدة واستمرّ القتال في
بلاد اليونان لإرجاعها إليه ، فأعلنت الروسيا الحرب عليه وبعد قتال شديد فاز
الروس بالنصر والتزم الباب العالي بالتوقيع على معاهدة ( أدرنة ) في 14 سبتمبر
سنة 1829 التي كان منها إباحة الملاحة للروسيا من البحر الأسود إلى البحر
الأبيض المتوسط والاعتراف باستقلال اليونان .(1/134)
"""""" صفحة رقم 135 """"""
7 - حرب الشام
عادت بقايا الجيش والدونانمة المصرية إلى ثغر الإسكندرية متوّجه بالنصر
المبين والفوز العظيم لا عار عليها إذ ألزم إبراهيم باشا بإخلاء بلاد اليونان بعد
أن فتحها ونشر لواء الأمن في جميع أنحائها والعودة إلى مصر بعد أن فني معظم
رجاله في هذه الحروب والمناوشات ، وكيف يتسنى لولاية هي بالنسبة إلى الدول
الأورباوية كل شيء أن تقاوم حكومتي فرنسا وانجلترا فضلاً عن مساعدة
الحكومة الروسية لهما ؟ أيلحق مصر والدولة العلية عار إن هزمتا في واقعة
( ناوارين ) البحرية التي سبق لنا شرحها والدونانمة التركية لم تكن لتقاوم دونانمتي
أعظم الدول الأورباوية بحراً وبراً ؟ وكيف يمكن الجيوش المصرية أن تقاوم قوّة لم
تقو الدولة العلية مع مالها من القوّة العالية والعظمة السامية على صدّ هجماتها ؟
لعمري إن مجرد وقوف قوّة مصرية محصنة أمام إحدى هاته الدول العظام
ليكسبها فخراً جليلاً ونبلاً جزيلاً وشرفاً أثيلاً ، ولوخرجت من هذا الموقف
الحرج مكسورة ، لا سيما وأن المصريين لم يتعوّدوا منذ استيلاء العائلات الأجنبية
على بلادهم ، أعني منذ نحو أربعة آلاف سنة أن يبذلوا أرواحهم بل ولا أموالهم
للمدافعة عن استقلال وطنهم فما بالك لو دعوا لبذل الأرواح في نيل الشرف
والسمعة كما كان سبب الحرب في بلاد اليونان ، تالله أن تغلب المصريين على
اليونانيين المشهورين بالبسالة والشجاعة في مواقع شتى وفتحهم بلادهم لمن أكبر
البراهين على ما للمصريين من قوّة البأس وثبات الجأش في الحروب ، سيما لو
علموا أن ذلك يعود على وطنهم بأقل فائدة وأيسر عائدة . وبالجملة فلا يمكننا
أن نقول أن حرب اليونان لم تفد مصر شيئاً فإنها ولو لم تعد عليها بفائدة مادية
فقد أفادتها فائدة أدبية ألا وهي تدّرب عسكرها وبحريتها على أبواب القتال
وفنون الحرب لأن اقتحام الأخطار وبذل الأرواح يغرسان في الجنديّ برياً كان
أو بحرياً ، حب الشرف والمخاطرة بالروح في سبيل نيله لا سيما إذا رأى من
رؤسه وضباطه سيرة حسنة في الشجاعة والنظام العسكري فإنه وأن توفي أو(1/135)
"""""" صفحة رقم 136 """"""
استشهد كثير من العساكر المصرية واغتنم أو أحرق أكثر سفنها الحربية في
واقعة ( ناوارين ) فإن من بقي فيه كفاية لتدريب من يضم إليه من الشبان لما
اكتسبه في مواقع القتال من التجربة واتقان هذا الفن الذي عليه المعوّل ومدار
حماية الوطن وحفظ أهله ، فلذلك لم تفتر همة محمد علي باشا بل ازدادت عزيمته
بعد حرب اليونان فأخذ في تتميم نظام جيشه واستعداد دونانمته ليعيد ما فقد في
هذه الحروب الهائلة .
ولما انشرح صدره مما سمعه من نجله إبراهيم باشا من حسن نظام الجيش
الفرنساوي والدونمات الأورباوية أمر بإنشاء ألايات من السواري الذين
يحملون المزاريق ويلبسون الزرد والدروع على هيئة جيش فرنسا ، واستدعى من
يسمى المسيو ( دي سريزى ) لتنظيم الدونانمة والموسيو ( بوسون ) لتعليم العساكر
البحرية وأعطى كلا منهما رتبة بيك وكان الطبيب ( كلوت بيك ) في ذاك
الوقت باذلاً جهده في إيجاد الإسبتالايات وتحسينها للزومها عند الضرورة .
وأما سليمان بيك فكان في هذه الأثناء بينه وبين إبراهيم باشا بعض حزازة
ربما كان سببها حسد الحاسدين ووشى الواشين ، لأنه كيف يظن أن إبراهيم باشا
ينكر ما لسليمان بيك من الأعمال المشكورة فضلاً عن أياديه في تنظيم الجيوش
المصرية على نظام حسن لأنها لم تكن مؤلفة قبل إلا من أوباش الأرنؤد وأخلاط
الترك الذين كانوا لا بغية لهم إلا السلب والنهب ونشر الفساد بين العباد بما
كانوا يقترفونه من المحرّمات على رؤس الأشهاد كنهب الأموال وسبي الفتيات
والنساء زيادة عن خطف الولدان لإرضاء شهواتهم البهيجة بدون رادع يردعهم
أو قامع بقمعهم عن ارتكاب الآثام إلى غير ذلك مما يأبى القلم تسطيره .
أما جيوش سليمان بيك فكانت مؤلفة من أبناء البلاد الذين يعود عليهم
نعيمها وشقاؤها ويلزمهم الدفاع بمالهم وأرواحهم عنها لأنها وطنهم ولا يخفى أن
حب الوطن من الإيمان وكل إنسان يحب عليه حب اتساع وطنه لأنه كلما
ازداد ازدادت الخيرات ونمت البركات . وكان سليمان بيك هو ناظم عقدهم(1/136)
"""""" صفحة رقم 137 """"""
وموشى بردهم ولم يكتف بتنظيمهم وتعليمهم بل بث فيهم روح الإنتظام وحب
الشرف لكن أبى الحاسدون إلا إيقاع النفرة بينه وبين نجل سيده الكريم إبراهيم
باشا حتى هجره مدة من الزمان ولم يسلمه قيادة الجيش التي كان هو أحق بها
من غيره واستمر هذا النفور إلى أواسط سنة 1829 ، حتى تداخل بينهما محمد
علي باشا وأزال ما كمن في صدر ولده من البغضاء من جهة سليمان بيك
مؤكداً له أنه هو أول معضد للجيش ولا يمكن الإستغناء عنه ، فلذلك صفح
إبراهيم باشا عنده وقلده وظيفته في الجيش فعادت المياه إلى مجاريها .
هذا ويسوؤنا أن نقول أن مصر مع كونها قد تقدمت في زمن المغفور له محمد
علي باشا عمّا كانت عليه في زمن المماليك مالياً وعسكرياً ، لكن لم يصب
الفلاح من هذا التحسين إلا كثرة الضرائب وأعمال السخرة لإتمام الأعمال
العمومية التي لم تعد بالفائدة على فلاحي ذلك الوقت بل على من أتى بعده
فكأنه غرس ليجني غيره ، ولكثرة الضرائب هاجر بعض فلاحي الوجه البحري
إلى جهة الشام والأقطار السورية انقياداً لإغراء بعض أمراء هذه الجهات ووهما
منهم أن من يلتجئ إلى هؤلاء الأمراء تكرم وفادته وتحسن مقابلته لكن لسوء
حظهم لم ينالوا ما كانوا يسعون وراءه من طلب المنافع الزائدة والخيرات الوافدة
ومهاجرة هؤلاء كانت هي السبب في إضرام النار واشتعال الحرب بين والي
مصر وعبد الله باشا الجزّار وإلى سورية ثم بين مصر والباب العالي .
وبيان ذلك أن محمد علي باشا طلب من عبد الله الجزار أن يردّ إلى مصر كل
من هاجر منها خوفاً من ازدياد عدد المهاجرين لو وجدوا سورية بلداً آمناً
يمكنهم الإقامة فيه مع عدم دفع الضرائب الثقيلة مثل ما يدفعونه في مصر لجمع
الأموال اللازمة لأعمال الترع وإقامة الجسور وسائر الأعمال العمومية
الأخرى ، فأما عبد الله الجزار فأبى ذلك ولم يرض به ، فاغتاظ لذلك محمد علي
باشا وعزم على إرجاعهم بالقوّة ومما زاد في غيظه أن له الأيادي البيضاء والنعم(1/137)
"""""" صفحة رقم 138 """"""
الجزيلة على الجزار فإنه توسط بينه وبين الباب العالي في سنة 1822 لإرضاء
السلطان عنه حين أراد الجزار إدخال مدينة دمشق في دائرة ولايته رغم أنف
الدولة العلية وآل ذلك إلى أن قهرته العساكر الشاهانية حتى ردّته على عقبه ،
بعد ما قتلت وأسرت غالب جيشه ولم يرض عنه الباب العالي إلا بتوسط محمد
علي باشا وبشرط أن يدفع ستين ألف كيسة غرامة فدفع عنه والي مصر جلّها
إن لم يكن كلها .
وفي سنة 1831 ورد كتاب الجزار إلى محمد علي باشا بعدم إجابته إلى ما
طلبه فأخذ في زيادة عدد الجيش وجمع المؤن والذخائر والخيل اللازمة لنقلها
ونقل العساكر المشاة بين مصر والشام ، وبينما هو مشتغل بجمع رجاله إذ دهمت
مصر داهية دهماء وهو تطرق الوباء إليها نعوذ بالله منه وانتشر بسرعة غريبة بين
الأهالي وأنفار العسكر .
ولما لم يكن إذ اك ما لدينا الآن من الوسائط الصحية المانعة لإنتشاره وكثرة
أذاه فتك بالعباد فتكاً ذريعاً حتى قيل أن عدد من توفي من المصريين في شهري
أغسطس وسبتمبر ينيف على مائة وخمسين ألف وكان عدد سكان القطر حينئذ
لا يزيد عن ثلاثة ملايين ، ولما اضمحلت وطأة الكوليرة رجع محمد علي باشا
إلى الإستعداد لأجل محاربة الجزار فلم يكن إلا قليل حتى سافر من مصر إلى
العريش الواقعة على الحدود الشامية ست ألايات مشاة وأربعة خيالة ومعهم
أربعون مدفعاً صغيراً وعدة من مدافع الحصار الضخمة مع ما يلزم من المؤن
والذخائر وكان معهم المياه لعدم وجود ما يطفئ لهيب العطش في هذه الرملة
المحرقة الفاصلة بين مصر والشام فقد قاسى الفرنساويون في اجتيازها أنواع آلام
العطش وقت سفرهم لمحاربة البلاد الشامية سنة 1799 .(1/138)
"""""" صفحة رقم 139 """"""
حصار عكّا :
وفي هذا الوقت سافر إبراهيم باشا قائد الحملة مع حاشيته بحراً ، تحفزه
الدونانمة المصرية في أكمل نظام وأحسن ترتيب وأبدع شكل وأغرب وضع
حتى وصل مدينة ( حَيْفَا ) وكانت قد احتلتها العساكر المصرية قبل قدومه بعد أن
فتحوا في طريقهم ( غَزَّةَ ) و ( يافا ) و ( بيت المقدس ) و ( نابلس ) ثم جعل مقرّه ( حَيْفا )
وجمع فيها الميرة والذخيرة وابتدأ في محاصرة مدينة ( عكّا ) براً وبحراً فكان
يحصرها من جهة البحر عدّة من البوارج الحربية المسلحة بالمدافع الكبيرة ومن
جهة البر ثلاثون ألفاً من العساكر المنتظمة وابتدئت أعمال الحصار في ست
وعشرين خلون من شهر نوفمبر سنة 1831 وأما عبد الله الجزّار فلم يعبأ بهذه
الإستعدادات لوثوقه بمنعه المدينة لقوة أسوارها وقلاعها المحيطة بها من كل جهة ،
لا سيما وأنه لم يمكن ( بونابرت ) فتحها فدخل في نفسه الغرور بذلك ولإعتقاده
أن الباب العالي لا يتركه بدون مساعدة ، وكان كذلك ، فإن الباب العالي أرسل
لوالي مصر مندوبين يأمرانه أن يكف عن محاصرة عكا وأن يخلي البلاد الشامية ،
ويهددانه بتدخل الباب العالي لو لم يكف عن عداونه ، لكن لم يصغ محمد علي
باشا إلى تهديداتهم لعلمه أن الباب العالي لا يمكنه تحقيق هذا الأمر لإشتغاله إذ
ذاك بمحاربة الروسيا ألد أعدائه ، لكنه أظهر لهما الإمتثال وكتب سراً إلى ولده
إبراهيم باشا بمضايقة المدينة وتشديد الحصار ليضطر أهلها إلى التسليم قبل
وصول العساكر السلطانية إليهم لو أرسلت الدولة العلية جيوشها إليهم لإلزامه
القهقري .
وأما مدينة عكّا فلم تكن من المنعة بالمكان العظيم الذي كان يظنه الجزّار
لأن عدم نجاح ( بونابرت ) أمامها إنما كان لمعاكسة الدونانمة الإنكليزية له وقطعها
الموصلات بين الشام ومصر من جهة ، وأخذها مدافع الحصار التي أرسلها قائد
الفرنساويين على طريق البحر من جهة أخرى ، لتعذر إرسالها براً لوجود صحراء
العريش وعدم استيفاء لوازم النقل وكذلك تأخر إبراهيم باشا عن دخولها لم(1/139)
"""""" صفحة رقم 140 """"""
يكن ناشئاً عن منعتها بل لعدم وجود مهندسين محنكين بالجيش لإرشاد المدفعيين
إلى الجهة التي يلزم توجيه نيران المدافع إليها لأن الشجاعة في مثل هذه الأحوال
لا تكفي على حدتها بل للعلم فيها مدخل لا ينكر . ومما كان يزيد في ارتباك
الجيوش المصرية وعدم تفرغهم لمحاصرة المدينة معاكسة سكان لُبنان لهم
ومهاجمتهم إياهم في مناوشات صغيرة متعددة وقد زادت قَحُتُهْم حين وصلهم
خبر قدوم العساكر الشاهانية لمحاربة الجيوش المصرية وإلزامهم بالعودة إلى مصر .
انتصار المصريين بقرب حمص :
كان الباب العالي قد تمكن في هذه الأثناء من جمع عشرين ألف مقاتل
وأرسلها لمحاربة واليب مصر تحت قيادة عثمان باشا وإلى حلب فزحف بالفعل هذا
الجيش الجرّار قاصداً ( عكّا ) ومستصحباً في طريقه كل ما لاقاه من عساكر
وأعراب ودروز ، سواء كانت منتظمة أو غير منتظمة ولما بلغ هذا الخبر قائد
الجيوش المصرية جمع مجلساً عسكرياً من نخبة ضباطه الوطنيين والأجانب للتروّي
في أحسن الطرق لرد هجمات العثمانيين فقرّ رأي هذا الجمع على رفع الحصار
مؤقتاً وإرسال الجيوش إلا قليلاً لحفظ خط الرجعة إلى ( عكا ) لمهاجمة الجيش
العثماني في طريقه والإنقضاض عليه بغتة وتفريق شمله قبل أن يأتيه المدد فقبل
إبراهيم باشا هذا المشروع وجعل نفسه رئيساً عاماً على الجيش ووكل أمر
الترتيبات اللازمة لسليمان بيك فلما عهد إليه هذا الأمر جمع ستة الآف من
نخبة عسكره وعدداً كثيراً من المدافع القوية وتقدّم على طريق دمَشق لمحاربة
الأتراك وفي هذه الأثناء لما علم عبد الله باشا الجزار بتضعضع قوّة المصريين
عقب سفر نخبته ونخبة قوّاده إلى دمَشق خرج من المدينة وهاجم المحاصرين فظهر
عليهم وأخذ الكثير من مدافعهم وقاتَلهم بها ، لكن إبراهيم باشا لم يعبأ بهذه
الغلبة بل جدّ في طريقه لمقاتلة العثمانيين حتى إذا عاد بالنصر شدّد الحصار على
( عكّا ) وفتحها عنوة .(1/140)
"""""" صفحة رقم 141 """"""
ثم وصل إلى مدينة ( حِمْص ) حيث التقى في ضواحيها مع جيش عثمان باشا
وكان هذا الجيش مؤلفاً من فرسان العرب والأكراد فأحاطت بالعساكر المصرية
إحاطة الهالة بالقمر حتى كان يخيل للناظر أن الجيش المصري لا يلبث أن يتفرّق
أيدي سبا ، ولكن قام حسن نظامه ومهارة ضباطه وشجاعة عساكره مقام كثرة
العدد وأغنت عن وفرة العدد وذلك أن سليمان بيك رتب العسكر على هيئة
صفوف منتظمة ووضع وراءها بطاريات المدافع حتى لا يراها المهاجم فانخدع
القائد التركي بهذه الحيلة وهجم بكل قوّته على الصفوف المصرية فلم تردّ
هجومهم بل ثبتت مكانها إلى أن صارت العساكر التركية على مسافة قليلة ،
فتقهقر المصريون خلف المدافع وأطلقت هذه قنابلها فكسحت كل من بالسهل
من مشاة وركبان ، وبعد ذلك اقتفى أثرهم المشاة المصريون عدو وأبلوا فيهم
بلاء حسناً وأعملوا فيها السيف والرمح إلى أن أوصلوهم إلى نهر العاصي حيث
غرق كثير من الأتراك أما عثمان باشا وباقي الضباط فاحتموا في مدينة ( حَماه )
وكانت هذه الواقعة فاتحة الفتوحات الشامية وباكورة النصر على الجيوش
التركية كما سيجيء مفصلاً إن شاء الله تعالى .
فتح مدينة عكّا :
ثم صار إبراهيم باشا حتى احتل بَعلَبَكّ بجيشه بعد أن أبقى في جميع الطرق من
العسكر ما يلزم لحفظ خط الرجعة ومكث هناك مدة خوفاً من رجوع العثمانيين
إلى الكرة ، ولما علم أن عثمان باشا أرسل إلى الباب العالي يطلب المدد وأنه لا
يأتيه إلا بعد شهرين أو أكثر إذا أسرع في إرساله ولم يعقه عائق يوجب البطء
رجع إلى مدينة ( عكّا ) وجدّد الحصار عليها بكل شدّة براً وبحراً بمساعدة العرب
والدروز والمارونية الذين أتوه بأنفسهم طوعاً بعد أن ظهر على الأتراك ،
وكذلك الأمير بشيراً أكبر أمراء لُبنان وأعظمهم شأناً ، أتى إلى معسكر إبراهيم
باشا وطلب الدخول تحت حمايته .(1/141)
"""""" صفحة رقم 142 """"""
وأخذ الحصار حينئذ وجهة أخرى واستمر إطلاق المدافع القوية بغاية الدقة
والإتقان والإحكام ولم يزل الإطلاق مستمراً حتى تهشم السور وفتحت فيه
فتحتان متسعتان وفتحة ثالثة صغيرة وحينئذ لم يتردّد إبراهيم باشا في مهاجمة
المدينة وأخذ في وضع الاستعدادات اللازمة وعين يوماً للهجوم وكان يوم 27
مايو سنة 1832 وعند الصباح انقضت الجيوش المصرية على الفتحات الثلاث
فاستولت على اثنتين منه وترددت قليلاً أمام الثالثة فبادر إبراهيم باشا وتقدّم
بجزء من جيشه الإحتياطي لمساعدة هذا القول ، فدبت فيهم الحميّة العسكرية
وساروا عدواً حتى وصلوا إلى الفتحة المذكورة وصعدوا إلى السور واستمر
القتال هناك بالسلاح الأبيض بينهم وبين ما بقي من الحامية إلى المساء ، فاستسلم
الباقون وألقوا سلاحهم وأخذ في هذه الوقعة عبد الله الجزّار أسيراً وأرسل توًّا
إلى مصر فأكرم محمد علي باشا مثواه وأحسن لقياه .
ولما انتشر بمصر خبر فتح ( عكّا ) لا سيما وقد أعيت ( بونابرت ) الحيل في أخذها ،
زينت المدينة عدة أيام متواليات وكان البشر إذ ذاك يتلألأ على وجوه المصريين
ويعلن بما ملأ قلوبهم من الفرح والسرور ، إذ لم يعهد من ابتداء تولي العائلات
الأجنبية على مصر أنها انتصرت مثل هذا الإنتصار الذي توسم المصريون به
التقدم والنجاح تحت ظل العائلة المحمدية العلوية وطفقوا يدعون الله أن يديم لهم
محي مجد مصر ويطلبون منه سبحانه أن يحفظ الذي أحياها من موتها حتى يتم
مشروعاته وينيلها استقلالها الإداري تحت رعاية الدولة العلية الإسلامية .
انتصار المصريين بقرب حلب :
كان لسقوط مدينة ( عكّا ) في أيدي المصريين موقع عظيم في قلوب العثمانيين
فاضطرب الباب العالي وخشى من تعاظم الخطب وازدياد مطامع المصريين فأراد
تلافي الأمر قبل اتساع الخرق على الراقع ، فأمر بحشد الجيوش والكتائب وجمع
بكل عناء وتعب ستين ألف مقاتل وأرسلهم لمحاربة إبراهيم باشا تحت قيادة
حسين باشا مبدّد الإنكشارية ولقبه بلقب ( سردار أكرم ) ووهب له ولاية مصر(1/142)
"""""" صفحة رقم 143 """"""
وولاية ( كريت ) لكن سوء حظه لم يساعده على دخول مصر لحسن حظها كما
سترى .
فتقدم حسين باشا المذكور بجيشه مع البطء والتواني حتى إنه لم يصل إلى
مضايق جبال ( طوروس ) إلا في أوائل شهر يوليو وكان لم يرد البعد عن مدينة
( أَنْطاكِيَة ) خشية من ملاقاة إبراهيم باشا ومن معه من أسود مصر ، بل أرسل
محمد باشا والي حلب مع مقدمة الجيش وأمره أن يتحصن في مدينة حمص . هذا
ولم يخف على إبراهيم باشا أن انفصال معظم الجيش العثماني عن مقدمته وكونه
على مسافة بحيث يتعذر عليه الإسراع في مدّ يد المساعدة إليها إذا مست الحاجة
لذلك ، من أكبر الغلطات العسكرية وأعظم الهفوات الحربية بل تنبه لذلك وأراد
انتهاز الفرصة وضرب المقدمة أولاً ثم محاربة حسين باشا وجيشه ثانياً ، فتوجه
بسرعة نحو دِمَشق ودخلها بدون عناء وترك فيها حامية قليلة ثم أخذ يجدّ ويجتهد
في السير نحو مدينة حمص حتى وصل أمام معسكر محمد باشا والي حلب بثلاثين
ألف مقاتل قبل أن يشعر به أحداً واستعد للترال فلم ير قائد الجيوش التركية
مندوحة عن القتال وأخذ في الاستعداد والتأهب له .
وأما إبراهيم باشا فإنه سلم قيادة الجند إلى سليمان بيك لما شاهد منه الحنكة
والدراية فقسم الجيش إلى ثلاثة صفوف متوازية وجعل يمينه مرتكزاً على
صحراء وشماله على بحيرة صغيرة ووضع جنوده الخيالة في الجناحين وثلاث
بطاريات طوبجية في الأمام وأربعاً خلف الجيش لتتقدم عند الضرورة وبعد ما أتم
هذه الترتيبات ابتدأ بإطلاق النيران من البطاريات الأمامية .
أما محمد باشا والي حلب قائد الجيوش التركية فلم يرتب جيشه إلا على
صفين فقط ولا يخفي ما ينشأ عن ذلك من ضعف نار المشاة ولم يحسن ترتيب
الطوبجية لأنه فرقها ووضع بين كل أورطة من المشاة مدفعاً واحداً فكان عدم
الإحتياط في ترتيبها سبباً في إضاعة قوتها ثم ارتكب غلطة أخرى أعظم من
الأولتين ، وهي وضع جناحه الأيمن في نقطة بحيث يتعذر عليه الخروج منها(1/143)
"""""" صفحة رقم 144 """"""
بسرعة لمساعدة الجناح الآخر أو القلب وهذه النقطة كانت محاطة بترعة وبركة
وطريق عام فلما رأى سليمان بيك هذه الترتيبات وعلم أن جناح الترك الأيمن
في حيز العدم وجه كل قوّته نحو الجناح الأيسر والقلب فصوّب إليهما مدافع
بطارياته الأمامية وفي أثناء إطلاق القنابل ذهب ببطارياته الإحتياطية وبعض من
الخيالة وساروا بميل حتى وصلوا إلى طرف الجيش من جهة اليسار وهناك هجم
بمدافعه وخيله فشتت شمل الجناح الأيسر والقلب وفرقهم أيدي سباحين ، كان
الجناح الأيمن لا يقوى على التحرك من مكانه فانهزم الجيش التركي ورجع محمد
باشا وما بقي من جيشه إلى مدينة حلب ، ووجد بالقرب منها حسين باشا مع
بقية الجيش .
وكانت هذه الواقعة في 9 يوليو سنة 1832 وبلغ عدد القتلى من الترك
ألفين والأسرى ثلاثة آلاف وكانت الغنيمة فيها للمصريين اثنى عشر
مدفعاً وكثيراً من الذخائر والخيام فتقهقر محمد باشا إلى حلب حيث التقى بحسين
باشا وجيشه ولما أراد حسين باشا الدخول في مدينة حلب ليتحصن فيها منعه
سكانها خوفاً من انتقام إبراهيم باشا منهم فاضطرّ حسين باشا أن يتقهقر ليبحث
عن مكان حصين يمكنه فيه أن يوقف سير المصريين ويصدّهم عن بلاد الأناضول
واستمرّ في رجوعه حتى وصل جبال ( طوروس ) الفاصلة بين الشام والأناضول
وتحصن في مضيق هناك بقرب من مدينة تدعى ( بَيْلان ) حيث جمع شتيت قواه
مع الاحتياطي من جيشه . وهذا المضيق هو الطريق الوحيد بين بلاد الشام
والأناضول وهو مشهور في التاريخ لمرور الإسكندر المقدوني منه في الجيل الرابع
قبل المسيح حين زحف بجيشه لفتح بلاد الشام ومصر لمرور الإفرنج حين أتوا
على طريق قسطنطينية في زمن الحروب الصليبية لفتح بيت المقدس .
واقعة بيلان :
في أثناء هذه المدة تقدم الجيش المصري بغاية السرعة حتى وصل مدينة حلب
فدخلها في يوم 17 يوليو سنة 1832 بدون أن يجد أدنى مقاومة من الأهالي(1/144)
"""""" صفحة رقم 145 """"""
وترك بها جزأ من المهمات العسكرية وخفراً قليلاً من الجند ولم يزل مجدًّا في
طلب العدد ومرسلاً في أثره طلائع الجيش حتى عثر على حسين باشا مع جيشه
متحصنين في جبال ( طوروس ) حيث أقيمت القلاع الحصينة على قمم الجبال
حتى صار الممّر صعباً فوصل إبراهيم باشا مع جيشه يوم 29 يوليو من هذه
السنة إلى معسكر الجيش التركي فاندهش من مناعة الممرّ لكن لم يلبث أن جمع
مجلساً حربياً مركباً من كبار ضباط الجيش وتداولوا الرأي في الطريق التي يمكن
بها الإستيلاء على هذا المضيق بدون أن يعرّض جيشه إلى مدافع العدوّ المركبة
على قمم الجبال فبعد أن استكشفوا مواقع العدوّ والنقط التي نزل بها وتحققوا
أنه يوجد قمم أعلى من هذه القمم استقر رأي هذا المجلس على الإسراع في
احتلال هذه القمم العليا بدون تأخير حتى يتمكن الجيش المصري من إطلاق
بنادقه ومدافعه على الجيش التركي الذي يكون إذ ذاك في موضع حرج
فصدرت الأوامر إلى العساكر المصرية بالصعود واحتلال القمم المذكورة بدون
أن تستريح من التعب وما ذاقوه من النصب ورفعت المدافع الضخمة مع العناء
والمشقة إلى هذه القمم الشامخة .
وبمجرد ما تمت هذه التجهيزات الإبتدائية صوّب المصريون نيرانهم على
العدوّ من أعلى إلى أسفل فوقع الفشل في الجيش التركي ولم يدر كيف يقاوم
عدواً تصله مقذوفاته ولا يمكنه أن يجاوبه بمثلها ، ولم يمض كثير من الزمن حتى
تقهقر الأتراك وتركوا المعاقل والحصون وأرادوا النزول إلى الوادي فقابلتهم
سواري المصريين بالسيوف وأخذوا في ضربهم حتى تفرق شملهم واغتنم
المصريون في هذه الواقعة خمسة وعشرين مدفعاً وألفين من الأسرى وكثيراً من
الذخائر والتجأ كثير من الترك إلى ضواحي مدينة اسكندرونة للهرب على
الدونانمة لكن لسوء حظهم كانت الدونانمة قد سافرت فلما علم المصريون
بذلك اقتفوا أثرهم وتبعوهم إلى اسكندرونة حيث لحقوهم في اليوم التالي
وطردوهم من المدينة وغنموا منهم أربعة عشر مدفعاً وجماً غفيراً من الأسرى .(1/145)
"""""" صفحة رقم 146 """"""
وكانت هذه الواقعة هي الطامة الكبرى والخيبة العظمى لحسين باشا وجيشه
ويقال أن حسين باشا ترك جيشه ليلاً واختفى حتى لم يوقف له على أثر خوفاً مما
يلحقه من العار بسبب انخذاله أمام جيوش أحد أتباع الدولة العلية وفراراً مما
يحكم عليه به من العقاب والقتل بسبب ذلك واختلف الناس في كيفية فراره
على أوجه شتى فقال فريق أنه فر على مركب يونانية بعد أن اتخذ كل ما كان
معه من ماله الخاص ومال حكومته لكن غدر به ربان السفينة واغتال ماله وألقاه
ومن معه على جزيرة صغيرة من جزائر الأرخبيل حتى أهلكهم الجوع فيها وقال
فريق أنه اختفى في إحدى قرى الأناضول وأمضى فيها ما بقي من عمره في
عيشة بسيطة كأحد أفراد الرعية ولم يرد الظهور بعد ذلك ، وكل هذا رجم
بالغيب أما الحقيقة الحقة فلا يعلمها إلا موجد الكائنات وبارئ النسمات
سبحانه جل جلاله وعظم سلطانه .
واقعة قُوِنَية :
ثم إن إبراهيم باشا اجتاز بعد ذلك جبال ( طوروس ) وجاوز حدود بلاد
سوريا ودخل ولاية ( أطنه ) ولكن لم يبغ التقدم إلى الأمام بل بذل جهده في
تنظيم ما فتحه من الولايات بعد أن أدخل في دائرة فتوحاته مدائن انطاكية
وطرسوس وأطنه وأقام مع جيشه في هذه المدينة إلى 13 أكتوبر سنة 1832 ثم
انتقل بخيله ورجله إلى الأمام لمقابلة الجيش التركي الجديد الذي أرسله السلطان
لمحاربته لأنه لم يكن من عاداته أن يدع العدوّ يهاجمه بل كان هو يقابله في سيره
ويهجم عليه من حيث لا يشعر فضلاً عن أن يوقع في صفوفه الفشل وكان هذا
الجيش مؤلفاً من جميع الشعوب المكونة للدولة العلية ولا رابطة بينها من
الروابط التي يتحرك بها الجيش حركة واحدة كرجل واحد لأن الدولة العلية لم
تتمكن من التأليف بين قلوب رعاياها حتى تكون منهم أمة واحدة عثمانية بل لم
يزل كل شعب محافظاً على تقاليده وعوائده ولا تجمعه مع باقي الشعوب إلا
جامعة الخضوع لسلطان واحد ذي بأس وبطش .(1/146)
"""""" صفحة رقم 147 """"""
ومن المعلوم أن تباين الشعوب واختلاف أهوائهم ومشاربهم لا تزيله قوة
السلطة ولا تهدمه من أصل وأن كانت تخمد ناره وتكسر أواره . ألا ترى أن
السلطة التي تجمع هذه الأضداد وتؤلف بينهم بحسن إيالتها وتلم شعث ما بينهم
من تنافر الجنسية واختلاف المشارب إذا أحسوا منها وهناً أو قصوراً في القوة
والثروة طمحت أبصارهم وتشوفت نفوسهم إلى مبارزتها بالعداوة وأسرع كل
شعب إلى بني جلدته وأهل مشربه ، وحسبك دليلاً على ذلك معاهدة برلين وما
اشتملت عليه من استقلال بعض الشعوب وانضمامها إلى أحدى الدول
الأوربية . ولتقتصر على ذلك خوفاً من الخروج عما نحن بصدده ونرجع إلى ما
كنا فيه فنقول :
كان هذا الجيش تحت قيادة رشيد باشا الذي اشترك قليلاً مع إبراهيم باشا
في محاربه ( موره ) وخصوصاً أمام مدينة ( ميسولونجي ) وامتاز بعد ذلك في محاربة
من يدعى مصطفى باشا والي ( اشقودره ) ببلاد الأرنؤد ولما اجتمع هذا الجيش
العرمرم بمدينة ( استانبول ) استعرضه السلطان بنفسه وضم إليه ست ألايات من
المشاة المنتظمة مع إضافة عدد وافر من المدافع حتى بلغ عدده ستين ألف مقاتل
ثم تقدم رشيد باشا إلى بلاد الأناضول لصدّ هجمات إبراهيم باشا عن مدينة
القسطنطينية عاصمة الدولة العلية . وكان إبراهيم باشا قد تقدم حتى وصل
مدينة ( قونية ) وجعلها مقراً لأعماله الحربية ومركزاً للذخائر والمؤن وبث طلائع
جيشه إلى سائر ضواحي البلد وتفقد بنفسه كل النقط المهمة واستعرض جيشه
فوجد من حسن نظامه ما انشرح منه صدراً وقرّ به عيناً وأمل الظفر علي رشيد
باشا كما انتصر علي حسين باشا ، وما النصر إلا من عند الله .
وفي 18 ديسمبر من سنة 1832 وصلت مقدمة الجيش التركي تحت قيادة
رؤف باشا إلى شمال مدينة ( قونية ) وكانت هذه المقدمة مؤلفاً أغلبها من الجيوش
غير المنتظمة ، فناوشهم إبراهيم باشا ليتحقق قوة انتظامهم ودرجة ثباتهم ولما
آنس منهم الضعف أراد أن يظفر بهم ويفرق شملهم ويشتت جمعهم قبل وصول(1/147)
"""""" صفحة رقم 148 """"""
الجيش فلم يقبل رؤف باشا الحرب لتحققه من عدم الثبات أمام الأسود المصرية
فانقضى يوماً 18 و 19 في مناوشات خفيفة كانت نتيجتها أخذ بعض مدافع
وبعض أسرى من الأتراك . ثم في صبيحة يوم 20 من الشهر انتشر خبر وصول
رشيد باشا وجيشه إلى مقربة من ( قونية ) وحينئذ تحقق الكل أن هذه الواقعة
ستكون خاتمة الحرب وأنه لو انهزمت العساكر التركية ، خيف على الدولة العلية
من تقدم المصريين نحو القسطنطينية وبمجرد وصول رشيد باشا أخذ يتأهب
للقتال فرتب جيشه المركب من ستين ألف مقاتل على أربعة صفوف وجعل
الخيالة لوقاية الخلف والأجنحة ، لكنه ارتكب الخطأ الذي كان سبباً في انخذال
حسين باشا أمام حلب ، وهو تفريق المدافع بين كل أورطة وأخرى وتشتيت
قواها وتفريقها حتى لا يعود لنيرانها تأثير ومن البديهي أن نفس الأسباب تنشأ
عنها نفس المسببات .
وأما إبراهيم باشا فلم يكن معه إذ ذاك إلا ثلاثون ألف مقاتل مدربون على
فنون القتال وحضروا كل الوقائع الحربية التي حصلت بين الترك والمصريين من
ابتداء الحرب ، مع أن الجيوش التركية كانت مؤلفة من أحداث مختلطي الأجناس
مختلفي الملل ومع ذلك لم يسبق لأغلبهم اقتحام نيران الحرب ومشاهدة أهوالها ،
ومما قوى في قلوب المصريين الأمل في الفوز والإنتصار ثقتهم برؤسهم وتعدد
النصر لهم المرة بعد المرة في سائر الوقائع التي شهدوها ، ' وكم من فئة قليلة
غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ' .
وبعد أن انتظم كل من الجيشين تقدم الجيش التركي إلى الأمام ، أما المصري
فمكث في مكانه لا يبدي حراكاً وكان الضباب الكثيف الكثير الموجود في بر
الأناضول خصوصاً في مثل هذا الشهر سادلاً أستاره على الجيشين ومخفياً كلا
منهما عن أعين الآخر ولذلك لم يبدأ إبراهيم باشا بالضرب كي لا يعرف العدوّ
مكانه ، أما رشيد باشا فبمجرد وصوله على مسافة خمسمائة متر ابتدأ بإطلاق
البنادق والمدافع فعلم إبراهيم باشا وسليمان بيك ترتيب جيش العثمانيين(1/148)
"""""" صفحة رقم 149 """"""
وتفريق مدافعهم ، ثم شاهد سليمان بك المشاة التركية انفصلت بسبب الضباب
عن الخيالة فأمر في الحال المشاة من المصريين بالدخول بين الفريقين ليستحيل
إجتماعهما ورجوعهما إلى ما كانا عليه من الإلتئام والإنضمام ولقد أوقعت هذه
الحركة العسكرية الرعب والفزع في قلوب الأتراك فوقفوا مبهوتين يقدّمون
رجلاً ويؤخرون أخرى إلى أن فاجأت الخيالة المصرية الخيالة التركية وأعملت
فيها السيف حتى بدّدتها ووجهت المدفعية المصرية قنابلها على المشاة التركية
فأهلكتها ودمرتها .
ولما رأى رشيد باشا أن لا مناص من الانهزام أراد أن يستقتل في الحرب فنزل
بنفسه في وسط المعركة يقاتل كجندي ولكن لم يفز ببغيته بل وقع أسيراً في أيدي
المصريين فجاؤا به إلى إبراهيم باشا فأحسن وفادته ، ولما انتشر خبر أسره وقع
الفشل في صفوف الأتراك فولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وفاز المصريين بفوز
لم يسبق له مثيل في تاريخهم واغتنموا من هذه الوقعة نيفاً ومائة مدفع وكثيراً من
الذخائر وأسروا عشرة آلاف عسكري كان من ضمنهم كثير من القوّاد العظام
والضباط الكرام .
وكان لهذه الوقعة تأثير مهم في قلوب سكان الأناضول وصار المصريّ أو من
يتبعه مهيباً معظماً أينما حل ومما يؤيد ذلك ما روى أن شخصاً يدعى محمد أغا
دخل مدينة أزمير ومعه أربعة رجال واستولى عليها باسم إبراهيم باشا وطرد
حكامها واستبدّ فيها بأمره ولم يقدر أحد من السكان ولا من غيرهم على
إخراجه ، لكنه ما لبث أن اضطرته العساكر الشاهانية إلى الهرب وإخلاء المدينة
أما إبراهيم باشا فلم يرد أن يزيد شواغله باحتلال ( أزمير ) لما يترتب عليه من
سلخ جزء من جيشه وإرساله إليها فأنكر معرفة محمد أغا المذكور وبذلك زالت
هذه المسألة الغريبة التي ليس لها أدنى أهمية حربية ولكن أوردناها اثباتاً لما وقع في
قلوب الأتراك من بأس المصريين ومهابتهم .(1/149)
"""""" صفحة رقم 150 """"""
تداخل الدول :
ولقد اضطربت لذلك الدولة العلية فخشيت من تقدم إبراهيم باشا مع
جيشه وأوجست خيفة من سوء العاقبة ولما لم يبق لها من الجيوش المنتظمة ما
تعترضه به في طريقه استعانت بالسياسة الأورباوية فتداخلت الدول العظام في
المسألة لتسويتها بحل مرضى للطرفين خشية من دخول إبراهيم باشا اسلامبول
واستفحال أمره وأما الروسية فانتهزت هذه الفرصة للتداخل بالفعل بين الدولة
العلية ورعاياها المصريين فأرسلت سفنها إلى شواطئ الأناضول الشمالية لمنع
تقدم إبراهيم باشا نحو القسطنطينية وأنزلت إلى البر برضا الباب العالي نيفاً
وخمسة عشر ألف نفس من جيشها لمحاربة إبراهيم باشا إذا اقتضى الحال . وكان
ذلك منها لما خشيت من أنه لو استولى محمد علي باشا على تخت الدولة العلية لم
يتيسر لها حينئذ تنفيذ وصية بطرس الكبير فتداخلت فرنسا وانكلترا وعارضتا
الروسيا في نزول عساكرها في أرض الدولة العلية وبعد مخابرات طويلة التزم
الروسيون بسحب عساكرهم إلى الحدود ، وتوصلتا أيضاً إلى إبرام الصلح بين
السلطان محمود ومحمد علي باشا بأن يعطي ولاية مصر مدة حياته ويقلد ولايات
كريد والشام وقسم أطنه .
وسميت هذه المعاهدة بمعاهدة ( كوتاهية ) نسبة إلى البلد التي كان إبراهيم باشا
بها وقت الإتفاق ولم يتجاوزها إتباعاً لأوامر الدولة وصدرت إرادة السلطان
الشاهانية بذلك في مايو سنة 1833 وبعد ذلك أخلى إبراهيم باشا بلاد
الأناضول وإجتاز جبا ل ( طوروس ) عائداً إلى الشام حيث أخذ في تنظيم البلاد
ونشر أسباب الراحة والأمن بين العباد .
أما الباب العالي فأجاب إلى هذه المطالب إتباعاً لمشورات الدول الأورباوية
عموماً ، وفرنسا وانكلترا خصوصاً ، فإنهما بذلتا جهدهما في إقناع الباب العالي
بمصالحة تابعه ، بدون تداخل الروسيا دخولاً حربياً فإنه أمر لا يؤمن أن يعود
على تركيا بما لا ترضاه فقفل الباب العالي ذلك ظاهراً وأخذ في الاستعداد سراً(1/150)
"""""" صفحة رقم 151 """"""
في تدريب الجيوش وتجهيز العدد والعدد لردّ ما سلب من أملاكه كما سيجيء
ذلك مفصلاً .
هذا أما الروسيا فتمكنت في مدة نزول عساكرها بأرض الدولة من إبرام
معاهدة مع الباب العالي تدعى معاهدة ( أنكاراسكله سي ) كان من أهم شروطها
أن كلا من المتعاقدين يتعهد بالذب والمدافعة عن الطرف الآخر عند حصول
خطر داخلي أو خارجي له ومنها غير ذلك من الشروط التي لا تخلو من الإذلال
والإحجاف ولكن بمساعدة المقادير لم تنفذ شروط هذه المعاهدة مطلقاً لإحتجاج
الدول الأورباوية عليها ولتنبه الباب العالي إلى مضارّها .
وأما إبراهيم باشا وسليمان بك فأخذا ينظمان البلاد الشامية تنظيماً إدارياً
وسياسياً وحربياً وعسكرياُ حتى ساد الأمن في ربوعها وانتشرت السكينة في
أنحائها وأمن على النفس والمال من أن تعبث بها أيدي الظلم والإعتساف ،
وراجت التجارة واتسع نطاقها وكثرت المعاملات بين الشام والبلاد الأورباوية
وازدادت الصادرات والواردات ضعفي ما كانت عليه قبل ضمها إلى مصر
ونمت المحصولات . وصار كل إنسان واثقاً بأنه يحصد ما يزرع بدون أن يشاركه
العرب أو تقاسمه فيه الحكام ، كما كان حاصلاً قبل حلول إبراهيم باشا بها ثم أمر
إبراهيم باشا بزرع كثير من شجر التوت اللازم لإزدياد محصول الحرير ، فغرس
نحو مائة ألف شجرة ، وغرس في ضواحي مدينة أنطاكية أشجار الزيتون وتغطت
جبال سوريا وهضباتها بكروم العنب لتصدير الخمر ، فزهت البلاد الشامية
وأينعت وعادت إلى بعض ما كانت عليه في أعصر الفنيقيين والرومانيين وتحقق
الثقات أنها لو استمرت تابعة لمصر لصارت من أخصب بقاع الدنيا وأكثرها
زراعة وتجارة . وفي هذه الأثناء أنعم العزيز محمد علي باشا علي سليمان بك
الفرنساوي بلقب باشا مكافأة له على خدمته الصادقة أثناء هذه الحروب ، لكن
لم يستمر أمر البلاد الشامية في قبضة محمد علي باشا إذ لم يأل الباب العالي
جهداً في استرجاعها إليه فأخذ يستعد براً وبحراً ويتروّى مع الدول في الطريق(1/151)
"""""" صفحة رقم 152 """"""
المؤدية إلى إرجاع الشام إليه ، خصوصاً قسم أطنة الواقع خلف جبال ( طوروس )
لأن المصريين باحتلال مضايق هذه الجبال يمكنهم الإغارة على بلاد الأناضول في
أي وقت شاءوا .
عصيان أهل الشام أول مرة :
استمرت الشام على هذا التقدم إلى أوائل سنة 1834 فأصدر محمد علي
باشا أوامره المشدّدة إلى نجله إبراهيم باشا بإحتكار جميع أصناف الحرير لجانب
الحكومة وبضرب جزية جريدة على كل الأهالي بدون تمييز بين الجنسية أو
الديانة وبتجهيز عدة ألايات من سكان البلاد الشامية ، ومما زاد أهل الشام
انحرافاً عن محمد علي باشا أمره بنزع السلاح من جميع الأهالي لأنهم من شعوب
غير مؤتلفة وديانات مختلفة وعادات ليست بمتفقة ولذلك لا ينقطع الشقاق من
بينهم ، الأمر الذي يقضي غالباً على استعمال السلاح لا سيما وأن البلاد
الشامية تحفها من جهة الشرق صحاري رملية يسكنها بعض قبائل العرب
الرحل الذين لا طريق لتكسبهم ولا سبيل لتعيشهم إلا السلب والنهب
والتعدّي على القرى الواقعة على حدود الصحراوات ، وربما توغلوا في داخلية
البلاد لهذه الغاية المشؤمة والسجية المذمومة ، فلذلك صارت الأسلحة النارية
وغيرها من ضروريات السكان ولوازمهم للدفاع عن أنفسهم والذود عن
أولادهم والذب عن أموالهم ، فإلزامهم بعدم حمل السلاح بمثابة جعلهم هدفاً لسهام
تعدّي الغير عليهم وهم عزل ولم يدر بخلدهم أنه بحسن إدارة إبراهيم
باشا وسهره على راحة الأهالي صار لم يخش من هؤلاء العرب على تكدير
كأس الراحة العمومية وأن إبراهيم باشا لما عرف به من الشجاعة وحسن
السياسة كان كفؤاً اللذود والدفاع عنهم وإذا تكرر ذلك فقد صار حمل السلاح
مضراً بالهيئة لعدم الإحتياج إليه للدفاع عن المال والنفس واستعماله حينئذ لا
يكون إلا في المخاصمات الخصوصية بين أفراد الطوائف المختلفة ، ولما كان لواء
الأمن منشوراً والعدل منثوراً صار أمر نزع السلاح ضرورياً لإستتباب الأمن
وتوطيد أركانه بين هذه الأمم مختلفي الديانات والمذاهب والأجناس والعقائد ،(1/152)
"""""" صفحة رقم 153 """"""
لكن اتخذ المفسدون هذا الأمر ذريعة لإلقاء المفاسد بين الأهالي وتوغير صدورهم
من الإدارة المصرية التي لم يروا في باقي الولايات مثلها في الإنتظام والعدل بين
الرعية وأفهموهم أن محمد علي باشا لم يأمر بهذا الأمر إلا ليستعبدهم ويغتصب
أملاكهم وأموالهم بعد تجريدهم من السلاح .
فلما وصلت هذه الأوامر إلى إبراهيم باشا وكان إذ ذاك في مدينة ( يافا ) لم
يتردّد في نشرها بين القبائل وفي سائر البلاد مشدّداً في تنفيذها بدون إمهال ولا
توان ، متوعداً من يبدي أدنى معارضة بصارم العقاب وشديد الجزاء فتأثر لذلك
كل الأهالي ما بين صغير وكبير وشريف وحقير وأخذوا في التعصب ولما لم يجدوا
ثمرة لتعصبهم ورأوا أنه لا بد من نزع السلاح من أيديهم طوعاً أو كرهاً عزموا
على الإمتناع وشق عصا الطاعة وساعدهم على ذلك أرباب الغايات
وأطمعوهم في المساعدة مادّياً وأدبياً إذا اقتضاها الحال فصغوا لوسوسة هؤلاء
الشياطين وغواية الغاوين .
وابتدأت الثورة بجوار البحر الميت ( بحيرة لوط ) وعلى شواطئ بحر الأردن
بجوار مدينة أُوْرِيشَلِمَ ( بيت المقدس ) وأعلن قبائل هذه الجهات أنهم لم يذعنوا
ولم يمتثلوا قط لأوامر الباب العالي فكيف يتبعون أوامر والي مصر الذي هو تابع
له ، وأنهم يريدون المحافظة على استقلالهم ولو كان في ذلك هلاكهم عن آخرهم
وكان ذلك في شهر إبريل سنة 1834 .
فلما وصل إلى إبراهيم باشا خبر عصيانهم قام لوقته مستصحباً معه فرقة من
جيشه وسار قاصداً وادي الأردن لمعاقبة العاصين وجدّ في سيره حتى وصل
مدينة أوريشَلم قبل أن يبلغهم خبر قيامه من ( يافا ) فاستدعى إليه أعيان القوم
وأكابرهم فمثلوا بين يديه وسألهم عن سبب توقفهم في الإمتثال لأوامر الوالي
وهل هم مصروّن على التمادي في العصيان فأجابوه بأنهم غير معارضين في(1/153)
"""""" صفحة رقم 154 """"""
احتكار الحرير لكنهم معارضون كل المعارضة في أخذ شبانهم إلى العسكرية
وأنهم مستعدّون لدفع الضريبة ولو ضعفين ولإرسال بعض أولاد المشايخ بصفة
رهينة تأميناً على طاعتهم بشرط إعفاء شبانهم من العسكرية أما نزع السلاح
فلم يذعنوا له مطلقاً .
فلم يقبل ذلك منهم إبراهيم باشا ، بل أخبرهم أنه لا بدّ من تنفيذ أوامر
والده بدون تغيير أو تبديل ، فلما رأوا أن لا مناص استأذنوا في العود إلى المدينة
وعرض ما تم بينه وبينهم من الحديث على الأهالي ، وأوروه أنهم في حدّ ذاتهم
مذعنون لأوامره وسيبذلون جهدهم في إقناع القوم بالامتثال لكنهم يرجون منه
لو خاب مسعاهم ولم يقبل الأهالي هذه الطلبات أن لا يؤاخذهم ولا ينسب
ذلك إلى سوء نيتهم وفساد طويتهم ، فأذن لهم بالذهاب مظهراً اعتقاده بحسن
نيتهم ، وكان يريد بإظهار البشاشة لهم وعدم الشدّة عليهم التخلص من الحرب
فراراً من عدوّ هو أنكى وأشدّ بطشاً من عصيان الأهالي ، ألا وهو الهواء الأصفر
الجالب للموت الأحمر ، الذي أتى مع الحجاج عند عودتهم من تأديه الفريضة
وفشا بأوريشلم وفتك بأهلها فتكاً ذريعاً حتى خيف امتداده وتعدّيه إلى خارجها
فقفل إبراهيم باشا راجعاً إلى ( يافا ) ومكث ينتظر جواب أهالي المدينة ، ولم يظهر
الوباء في مدينة ( يافا ) ذلك الوقت .
ولقد كان لمجيء إبراهيم باشا أمام مدينة القدس تأثير حسن ، فألقى الرعب في
قلوب القبائل المجاورة وهدأ الأهل وعادت السكينة كما كانت لكن هذا الهدوء
لم يكن إلا ظاهراً لأن إدخال شبان البلاد في الخدمة العسكرية وزيادة الضرائب
مما أوغر صدور السكان على الإدارة المصرية فلم يكن سكونهم إلا انتظاراً
لفرصة مناسبة يشقون فيها عصا الطاعة .
ولقد ساعدهم الحظ فلم يمض عليهم طويل زمن حتى سنحت لهم تلك
الفرصة المنتظرة وذلك أنه شاع أن الدولة العلية تجمع الجيوش وتؤلف الكتائب
في بلاد آسيا الصغرى وأن رشيد باشا الذي كان قائداً للجيوش التركية في(1/154)
"""""" صفحة رقم 155 """"""
واقعة ( قونية ) وأسر فيها ، كما سبق لنا ذكره في محله ، ولي قيادة هذا الجيش
الجديد ليعوّض ما فقده من شهرته في تلك الواقعة فلما شاع ذلك الخبر وعلم به
العرب النازلون على ضفاف البحر الميت نزعوا إلى العصيان وامتدّت تلك
الثورة بسرعة عجيبة إلى جبال يهوذا حتى تفاقم الخطب وتعسر الخلاص لولا ما
اتصف به إبراهيم باشا وقائده سليمان باشا من العزم في الخطوب والحزم في
الكروب .
عصيان الشيخ قاسم وأبي غوش :
وكان من المحرّضين على هذه الثورة الشيخ قاسم حاكم مدينة ( نابُلُس ) وهو
من عائلة شريفة شهيرة بقدمها وعراقتها في النسب ، ومن مآثر المرحوم إبراهيم
باشا أنه بذل له ولأولاده جزيل نعمه وولي أكبرهم مدينة ( حبرون ) ليستميل إليه
هذه العائلة المسموعة الكلمة في سائر أكناف المدينة وضواحيها ، لكن هذا
الشيخ أنكر الجميل وكان أوّل مناد بالعصيان وأوّل محرّض على الثورة فلبي
نداءه سكان الجبال المجاورة الذين لا يودّون أن يكونوا تابعين لأي حاكم ولو
كان أعدل الحكام وكذلك عائلة من يسمى ( أباغوش ) النازلة في الأودية الواقعة
بين أُوْرِيْشَلَم ويافا فإنها رفعت راية العصيان وقطعت الطريق بين المدينتين
بإحتلالها كل مسالك الجبال ومضايقها ، لكن ربما يلتمس لهذه العائلة عذر لأنها
لم تجد ما وجده الشيخ قاسم وأولاده من إبراهيم باشا من حسن المعاملة
وإسدال النعم والعطايا الجمة فضلاً عن الحجر على رئيسها بمدينة عكا لما اقترفه
من سوء معاملة الحجاج وعدم السماح لهم بالمرور من أرضه ما لم يعطوه جعلاً
معلوماً مع تنبيه إبراهيم باشا عليه بإبطال هذه العادة فهاجمت عائلة ( أبي غوش )
وأعوانها النقط المصرية المعينة لحفظ الطريق من قطاع الطرق . ولما كانت حامية
هذه النقط غير كافية لمنع تعدي مثل هؤلاء الطغاة قفلت راجعة إلى مدينة يافا
بعد أن دافعت دفاع الأبطال وقامت مقاومة الأسود في الجبال وكذلك حامية
أُوْرِيَشلم ما لم تستطع إيقاف حركة العصيان ولا إطفاء لهبها المستعر تركت خطة
الهجوم وتحصنت في قلعة المدينة حتى يأتيها المدد .(1/155)
"""""" صفحة رقم 156 """"""
فلما بلغ إبراهيم باشا هذه الأخبار المكدّرة للبال المهيجة للبلبال المزعجة
لأبطال الرجال أرسل في الحال ألايا من الفرسان لكج جماح الثائرين لكنه لم
يقدر على مقاومة قبيلة ( أبي غوش ) المحتلة للطريق الموصلة بين ( يافا )
و ( أُوْرِيْشَلَم ) فبعد أن قتل في القتال قائد هذه الفرقة والسواد الأعظم من رجالها
عاد الباقون إلى يافا في حالة لو شاهدها العدوّ لرثى لها
فلما رأى ذلك إبراهيم باشا هم في الحال وتوجه بنفسه ومعه العدد الكافي
من الجند لمنع تجمع الثائرين في مدينة ( نابلس ) حيث استدعاهم الشيخ قاسم
للإجتماع للمفاوضة في تدبير ما يلزم لنجاح مشروعهم وأرسل أيضاً إلى مشايخ
القبائل يخبرهم بأن الشيخ قاسم لم يقصد التخلص من الإدارة المصرية العادلة إلا
ليستعبدهم وبسومهم سوء العذاب .
فلما عرف حاله لبعض القبائل المصافية له ، نفروا منه وتضعضت بذلك
شوكته وزالت سطوته وانهدمت قوته وأمكن لإبراهيم باشا وسليمان باشا اتخاذ
خطة الهجوم فقاما من يافا في 4 يوليو سنة 1834 ومعهما ستة آلاف جندي
واقتربا من الجبال فرأياها مغطاة بالعرب ثم وصلا إلى قرية تدعى قرية ( أبي
عنب ) حيث كانت عائلة ( أبي غوش ) متحصنة تحصناً عظيماً كاد يتعذر معه
أخذها بل يستحيل ولكن لم يعباً إبراهيم باشا بهذه التحصينات بل هاجمها
بعسكره بكل شدّة وثبات واستمر القتال ثلاثة أيام متوالية دافع من خلالها
الثائرون دفاع الأبطال ولولا ما اشتهر به إبراهيم باشا من الحزم والعزم والثبات
في مواقع القتال لفاز الثائرون بالغلبة . وفي اليوم الثالث دخل المصريون القرية
واجتازوا جبال يهوذا واحتلوا كل الطرق ووصلوا إلى مدينة أوريشلم بدون
أن يتعرّض لهم أحد في طريقهم لتبدد شمل الثائرين بعد سقوط قرية ( أبي عنب )
التي كانت قلعتهم الوحيدة ومانعتهم الحصينة .(1/156)
"""""" صفحة رقم 157 """"""
وحين وصل المصريون إلى أبواب المدينة وقع الرعب في قلوب سكانها
الأتراك لأنهم كانوا يساعدون الثائرين على محاربة المصريين لما انتشر خبر تجمع
العساكر العثمانيين في جهات الأناضول ولعلمهم بأنه لا بد من انتقام إبراهيم
باشا منهم لمحاربته لهم ليكونوا عبرة لغيرهم ولكي لا يعودوا إلى الثورة مطلقاً
سراً أو جهراً ، التجأ كثير منهم إلى الفرار هرباً مما سينزل بإخوانهم من العذاب
الشديد نعم إبراهيم باشا كان يسعى بجهده في استعمال الطرق السليمة
ويعفو عن كثير ممن كان يقاومه ، لكنه ليس في مثل هذه الحالة فإن استعمال
الحلم في هذه الأحوال مما يجرّئ المفسدين على نشر فسادهم ويعين الطغاة على
طغيانهم .
ولقد تحقق ما كان يخشاه أتراك ( أُوْرِيْشَلم ) فقتل إبراهيم باشا كثيراً من
زعمائهم هذا ولم يكن لاستيلاء إبراهيم باشا على مدينة ( أُوْرِيْشَلم ) فائدة تذكر
لموت كثير من عساكره من كثرة المناوشات التي كانت دائمة بينه وبين العرب ،
ولعدم وجود العدد الكافي من الجند في هذه البلاد حتى كان يستمد منهم ما
يلزم لتعزيز حامية المدينة وحفظ خط الرجعة إلى يافا ومضايق الجبال والطرق
الموصلة بين المدينة وغيرها فأخذ في التحصن بالمدينة كي لا يهلك كثير من
جيشه في المناوشات ، وأرسل إلى مصر يطلب منها المدد حتى إذا وصله تمكن من
مهاجمة العدوّ وتبديدهم في واقعة مهمة لا يقوم لهم بعدها قائمة .
وفي خلال ذلك لم يأل جهداً في إيقاع النفرة بين رؤس الثورة وتحريض
بعضهم على بعض كي يتوصل إلى مرغوبه ويتحصل على مأموله إذا وقع بينهم
الفشل فنجح في مشروعه هذا كل النجاح ، حتى إن الشيخ قاسم حاكم
( نابُلُس ) لما رأى أن أغلب مشايخ القبائل أوشكت تنسلخ عنه أراد التقرب من
إبراهيم باشا وأرسل إليه يخبره أن النابلسيين يرغبون في الرجوع إلى طاعة
المصريين لو وعدوهم بمعافاتهم من الخدمة العسكرية فقبل إبراهيم باشا المخابرة
في هذا الموضوع لو حضر الشيخ بنفسه إلى معسكره فحضر الشيخ طائعاً(1/157)
"""""" صفحة رقم 158 """"""
مختاراً ، لكن لسوء حظه لم ينجح في هذه المخابرات لأن سليمان باشا كان في
أثنائها قد تمكن من إبرام وفاق مع أولاد الشيخ ( أبي غوش ) بأن يسلموا إليه
معاقل جبال يهوذا في مقابل إطلاق سراح أبيهم والعفو عما حصل منه ومن
قبيلته ومكافأتهم مادياً على المساعدات التي قدموها إلى المصريين فقبلوا ذلك
وصار الطريق آمناً بين يافا وأُوْرِيْشَلم .
سفر محمد علي باشا إلى الشام :
ولما علم إبراهيم باشا بسفر أبيه أغلق باب المخابرات بعدم قبوله إعفاء
سكان نابلس من الخدمة العسكرية وعاد إلى يافا في أواخر يوليو سنة 1834
لملاقاة والده محمد علي باشا الذي كان توجه إلى الشام مع المدد اللازم لإخماد
الثورة قبل انتشارها .
فلما يئس الشيخ قاسم من الإتفاق مع المصريين عاد إلى نابلس وأخذ في
تحصين المدينة وبناء الأسوار والقلاع حولها وعاهد نفسه أن لا يسالم المصريين ما
دام حياً بل يحاربهم حتى يقضي الله أمراً ، فاستعد محمد علي باشا بنفسه لمحاربته
وأرسل إلى الأمير بشير أمير الدروز أن يحضر إلى ( يافا ) ويرسل جيوشه لمحاربة
الشيخ قاسم فخاف الأمير بشير ولم يتوجه بنفسه إلى ( يافا ) بل أرسل أحد
أولاده ليخبر محمد علي باشا بأن الدروز سيسافرون عن قريب لمهاجمة نابلس
فاكتفى محمد علي باشا بهذا الجواب وأمره بإخضاع مدينة ( صفد ) التي أخذ
سكانها في ارتكاب الفظائع وقطع الطرق اعتماداً على مناعة مدينتهم فامتثل
الأمير بشير وتوجه لساعته قاصداً ( صفد ) وحاصرها ، لكن لم يحتج الحال
لأخذها عنوة فإنه قبل أن يهاجمها أرسل إلى سكانها يتهددهم بإحراق مدينتهم
وقتلهم عن آخرهم إن لم يسلموا له سلاحهم ويأتوا إليه خاضعين ، ولتأكدهم
من أن الدروز لا يتأخرون عن إنقاذ ما يتوعدونهم به ، سلموا المدينة للأمير بشير
وأعطوه سلاحهم فدخل المدينة واستلم زمامها وأخذ رؤس الثورة وأرسلهم إلى
سجن ( عكا ) وبعد أن وطد الأمن في ضواحي ( صفد ) زحف برجله إلى مدينة(1/158)
"""""" صفحة رقم 159 """"""
نابلس من جهة الشمال حين كان المصريون يتقدمون من جهة الجنوب فهال
النابلسيين مرأى هذين الجيشين ، ولكن الشيخ قاسم مع تحققه عجزه عن مقاومة
المصريين ، آلي على نفسه أن يقاتلهم إلى آخر رمق من حياته ومما زاد في غيظه أن
إبراهيم باشا ووالده محمد علي باشا أجزلا النعم على عائلة أبي غوش وأمر الباشا بإخراج رئيسها من سجن عكا وأهدى إليه هدايا فاخرة وأرجع ولده
الأكبر إلى منصبه واعترف له بالرياسة على قبيلته وولي ولاية ( أُوْرِيْشَلم ) أحد
أولاده الأخر بشرط أن يتكفل بمؤنه حامية المدينة وما تحتاج إليه من مأكل
ومشرب وملبس .
ولشدّة حنق الشيخ قاسم على المصريين لم يستطع صبراُ حتى يأتي إليه
عساكر الدروز بل خرج للقائهم خارجاً عن أسواره وحصونه وكان ذلك سبباً
في ضعف قوته ، إذ لا طاقة للمحاربين غير المنتظمين على مقاومة المنتظمين فمن
المعلوم ومما أيدته التجارب أن العسكري المنتظم يعد بعشرة من غير المنتظمين
فكيف إذا كان القائدون لهم رجالاً مثل إبراهيم باشا وسليمان باشا لكن الشيخ
قاسم لم يتدبر هذه الحقيقة فعاد عليه وخيم عواقبها .
وذلك أنه التقى بجيش المصريين في موقع يبعد عن ( نابلس ) بضع ساعات
وبعد قليل لم يستطع الوقوف أمام نيران المدافع وتقهقر بعد ما قتل من رجاله
نيف ومائة رجل إلى أحد التلول المجاورة للمدينة ، فتبعه المصريون ودخلوا المدينة
عنوة أما هو فهرب مع من بقي من رجاله وكان مثخناً بالجراح هو وأحد أولاده
فالتجأوا إلى مدينة ( حبرون ) حيث عزم على أن يقاتل ويدافع عن نفسه حتى
يموت فاقتفى أثره إبراهيم باشا مع جيشه ولم يلبث أن وصل ( حبرون ) وأمر
بمهاجمتها بدون أن يترك للعدوّ أدنى وقت لتحصينها وكان ذلك في 14
أغسطس سنة 1834 فانقض المصريون عليها كالليوث الضارية بقوّة لا يقوى
على مقاومتها إنس ولا جان ، ودخلوها بعد قتال عنيف كانت الدائرة فيه على
الشيخ قاسم ورجاله مع كونهم دافعوا دفا ع الأبطال ، وساعدتهم على ذلك(1/159)
"""""" صفحة رقم 160 """"""
الأشجار المغروسة بالبساتين المحيطة بالمدينة من كل طرف مما عاق المصريين في
هجومهم وكان سبباً لموت كثير منهم بين أنفار وضباط إذ كان الضباط في
مقدمة الجند يشجعونهم على القتال .
اقتفاء إبراهيم باشا أثر الشيخ قاسم :
ولما دخل إبراهيم باشا المدينة عفا عن سكانها وأمّنهم على أموالهم وأعراضهم
لكنه أقسم باستئصال عائلة الشيخ قاسم من أولها إلى آخرها ، فلما رأى الشيخ
المذكور ذلك فرّ هارباً من المدينة عند دخول المصريين ولم يتمكن إبراهيم باشا
من القبض عليه مع ما بذله من العناية في ذلك فخرج الباشا من المدينة لاقتفاء
أثره ، بعد أن ترك بها حامية قوية تحت قيادة سليمان باشا خوفاً مما عساه يحصل
من الفتن فيها وبث الجواسيس في سائر أنحاء فلسطين ليقف على المحل الذي
احتمى فيه الشيخ المذكور ورجاله وبعد قليل عاد بعض الجواسيس إليه وأخبروه
بأنه في قرية يقال لها ( الكرك ) واقعة في جنوب بحيرة لوط ( البحر الميت ) وهي
مدينة حصينة وبها قلعة منيعة مبنية على قمة شاهقة يتعذر الوصول إليها لوعورة
الطرق الموصلة إليها وبذلك يمكن لحامية قليلة أن تصد عنها كل مهاجم وتردّ
كل عدوّ بعدده وعدده ، فلما علم إبراهيم باشا بذلك آلى على نفسه أن يأخذ
الشيخ المذكور أسيراً ولو حمله ذلك على إهلاك معظم جيوشه ، لأنه إن لم يفعل
ذلك ظن أهل الشام أنه غير قادر على اخضاعه وربما جرّهم ذلك إلى العصيان
فكان قصد إبراهيم باشا بمحاربة الشيخ قاسم وقتله هو أن يكون ذلك مثالاً
وعبرة لسكان الشام كي يعلموا علم اليقين أن كل من عادى إبراهيم باشا لا
بدّ أن ينال جزاءه عاجلاً لا آجلاً .
فلما تيقن إبراهيم باشا وجوده في مدينة الكَرَك قام لوقته وجدّ في السير
واصلاً لليل بالنهار في قطع الصحراء المحرقة من شدة الحرارة حتى مات جملة من
عسكره في أثناء السير من شدة العطش لقلة المياه في الطرق ، ويقال أنهم لما
وصلوا إلى البحر الميت ألقوا أنفسهم فيه لشدّة ما كان بهم من الظمأ المحرق مع(1/160)
"""""" صفحة رقم 161 """"""
شدة ملوحة مائة ، ومن الثابت أن ماء هذا البحر لكثرة ملحه يزيد ثقله النوعيّ
حتى يحمل الإنسان بدون سباحة ولقد قال بعض السياحين أن المسافر بعد أن
يتحمل مالا يوصف من المشاق والأوصاب وآلام الجوع والعطش وينظر من
بعد لون مائه يخيّل له الظمأ أنه عذب فرات لكن لا يلبث أن يشم رائحته
الكريهة الناشئة عن كثرة ما فيه من الأملاح والكبريت فيزول عنه هذا التخيل .
ولما وصل إبراهيم باشا إلى مدينة ( الكَرَك ) لم ينتظر قدوم مدافعه بل أمر
بالهجوم على القلعة بعد أن أراح عساكره مدة يومين ولم يتمكن الجند من أخذ
القلعة عنوة لتعذر الوصول إليها فعاد المصريون بلا طائل والتزم إبراهيم باشا أن
ينتظر المدفعيين ، فلما وصلت المدافع ابتدأت بإطلاق القنابل على أسوار القلعة
حتى تهدمت ، ودخلت العساكر القلعة فلما دخلوها لم يجدوا فيها أحداً من
النابلسيين ولا رؤسهم وسبب ذلك أن الشيخ قاسم مع كونه ظهر على
المصريين في الواقعة الأولى لم يخف عليه أن فوزه لم يكن إلا لعدم وجود المدافع
وأنه لا يمكنه مقاومتها فهرب في غلس الليل ومن معه من بقايا تابعيه والتجأوا
إلى الصحراء فتبعهم إبراهيم باشا بعسكره حتى أدركوهم وأحاطوا بهم فلما
رأى النابلسيون ذلك ، وعلموا أن لا مناص لهم من الموت ألقوا سلاحهم
وسلموا أنفسهم إلى إبراهيم باشا .
أما الشيخ قاسم وأولاده وبقية زعماء الثورة فتمكنوا من الهرب ثانية
واختلفوا عند عرب ( عنز ) النازلين بين مصر والشام ولعلم هذه القبيلة بأنها لو
أخفت الشيخ المذكور وعلم بذلك إبراهيم باشا لأوقع بهم أشد العذاب وصارم
العقاب بل ربما كان ذلك سبباً في هلاك أغلب أفرادها إن لم نقل الكل فتقرّبوا
من إبراهيم باشا بأن قبضوا على الشيخ المذكور ورفقائه وسلموهم إليه .
وبعد أن طيف بهم في أنحاء فلَسطين ليكونوا عبرة لمن يعتبر أمر بقطع رؤسهم
وكانوا ستة فقتل ثلاثة منهم ومن ضمنهم الشيخ قاسم في مدينة أوريشَلم التي
كان مبدأ الثورة منها ، واثنان في ( عكَّا ) والسادس في دمشق وانتهت بذلك(1/161)
"""""" صفحة رقم 162 """"""
الفتنة الشامية الأولى وثبت قدم المصريين في البلاد الشامية ولم تزل ملتحقة بمصر
تابعة لها حتى تداخلت الدول الأورباوية عقب وقعة ( نصيبين ) التي انتصر فيها
المصريون نصراً مبيناً وألزمت محمد علي باشا بردّ الشام إلى الدولة العثمانية ،
كما كانت وسيجيء مفصلاً إن شاء الله .
ولقد لام بعض المؤرخين الأمير إبراهيم باشا على تعريض نخبة جيشه للموت
من الجوع والعطش والحرارة في اقتفاء أثر الشيخ قاسم ، وفاتهم أنه لو تركه
وشأنه لعثا في الأرض فساداً وحمل ذلك الشاميون على عجز منه وتجرؤا على
اقتراف المنكرات بل ربما كان ذلك سبباً لحصول عصيان عمومي يؤدي إلى
سفك دماء المصريين أكثر مما يسفك في قطع دابر مثل هذا الشيخ .
وبعد أن استتب الأمن في ربوع البلاد الشامية أخذ إبراهيم باشا في تنفيذ
أوامر والده التي كانت سبباً في هذه الثورة الجزئية فأمر أولاً بنزع السلاح من
السكان كلهم بدون استثناء أو تمييز بالنسبة للجنسية أو للدين فأطاع
الشاميون ولو مع التذمر خشية أن يحل بهم ما حل بالشيخ قاسم من البلايا
وينزل بهم ما نزل به من الرزايا وبعد ذلك أمر بتحصيل الضريبة التي ضربت
على الشاميين بدون تمييز بين صغارهم وكبارهم وأمرائهم وصعاليكهم فتذمر
من ذلك الفقراء والرعاة الذين كانت الدول العلية لا تطالبهم بشيء ما ،
خصوصاً المسلمين منهم ، فإن الضرائب كانت تضرب على النصارى واليهود لا
غير ، ولما كانت تلك الضريبة لا تفي بحاجات الحكومة كانت تصادر الولاة
والصناجق فتسلب منهم ما جمعوه في مدّة ولايتهم من النهب والإغتصاب ،
وبذلك كان المسلمون من السكان راضين بهذه الحالة وكرهوا الضريبة المصرية
لمساواتها بين السكان بدون نظر إلى معتقدهم نعم إنه ربما كان الأولى بالحكومة
المصرية وقتئذ أن تراعي عوائد البلاد وطباع أهلها ثم تصلح كيفية ضرب
الأموال وتوزيعها على الأهالي شيئاً فشيئاً ، لكنه لا يجوز من جهة أخرى أن(1/162)
"""""" صفحة رقم 163 """"""
الأمة المصرية تقوم بكافة مصاريف الجيش والإدارة مع ما هي عليه من الفاقة
والفقر المدقع الناشئ من تسلط المماليك عليها أحقاباً متوالية بل من العدل أن
كلاً من الأمتين الشامية والمصرية يشترك في مصاريف ما يلزم للحكومة كما
أنهما يشتركان في التمتع بخيراتها والاستظلال بظلال الأمن الشامل للولايتين .
وعلى كل حال لم تصادف الإدارة المصرية في تحصيل هذه الضريبة من
الصعوبات ما لاقته في إدخال الشاميين في الخدمة العسكرية فإنه أدخل منهم في
الجيش المصري ثمانية عشر ألفاً ما بين دروز وموارنه ومسلمين وغيرهم من كل
الشعوب والأجناس وهو الأمر الذي ازدادت به كراهة الشاميين للإدارة
المصرية ، وذلك لأن الدولة العثمانية ما كانت تدخلهم في العسكرية كرهاً بل
كانت تكتفي بمن يدخل بإختياره من سكان جبل لُبنان وكان يندرج منهم سنوياً
في الخدمة العسكرية ألف لا غير ، ومما كان سبباً في زيادة كراهة الشاميين للأمة
المصرية عدم الإنتظام في أخذ الشبان كما هو جار الآن في مصر وسائر الدول
المتمدنة بأن يخدم الشاب مدة معينة ثم يعود إلى أوطانه ، ويكون أخذه بطريق
القرعة مع المساواة بين كل الأفراد ، بل كانت الطريقة المتبعة في أخذهم أن
يدخل الضابط المعين لذلك في القرى ويختطف الشبان بالقوة وربما لم يتم له ذلك
إلا بعد مقاومة عنيفة يكون من ورائها أحياناً قتل بعض من الفريقين ولقد ذكر
أحد من كانوا في معية البرنس ( دي جوانفيل ) نجل ' لويس فيليب ' ملك فرنسا
حين كان سائحاً في البلاد الشامية أثناء احتلال المصريين لها أن الحرس الذي
كان معيناً لحراسته أثناء جولانه في جبال لُبنان كان كلما يرى في طريقة شابا
قوّي البنية صالحاً للخدمة العسكرية ضبطه وأرسله مع بعض الجند إلى أقرب
ألاي ليلحقه به دون أن يعلم أقاربه بذلك ، ولا غرابة في مثل هذا فإن هذه
الطريقة كانت متبعة في مصرنا أيام محمد علي باشا ومن بعده ولم تبطل إلا من
عهد قريب .(1/163)
"""""" صفحة رقم 164 """"""
ولقوّة المصريين إذ ذاك وعدم تهاونهم في المجازاة على أقل عصيان بأشد
العقاب ، لم يجسر الشاميون على شق عصا الطاعة بل سلموا أسلحتهم وصار
يرد إلى ( بيروت ) و ( صيدا ) وغيرهما عدد عظيم من الأسلحة النارية والبيضاء
بل ومن المدافع التي كان يحتمي تحت ظلها سكان جبال لُبنان وكان من أهم
المساعدين للمصريين في تنفيذ هذا الأمر في لُبنان الأمير بشير ، فإنه بذل ما في
وسعه لإرضائهم خوفاً من أن يحل به ما حل بالشيخ قاسم المتقدم وأعوانه مع
علمه بأن ذلك يوغر عليه صدور اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم من
مسيحيين ودروز لكنه آثر إرضاء المصريين على إرضاء مواطنيه وبقي على
ولائهم حتى تقلص ظل إدارتهم وسلبت منهم البلاد الشامية بواسطة تداخل
الدول الأجنبية عموماً والدولة الإنكليزية خصوصاً .
ولقد بذل الأمير بشير جهده في تنفيذ أوامر إبراهيم باشا وإخماد الفتن الجزئية
التي تظهر في القرى لكن لم يجد اهتمامه نفعاً بل ازداد الهياج شيئاً فشئياً ، وانتهز
الأتراك هذه الفرصة لبث رسلهم في سائر الأنحاء وتحريض الجبليين على القتال
وخلع طاعة المصريين ، الذين تمتعوا في مدة حكمهم بالراحة والطمأنينة مما لم يروا
ولن يروا مثله ومما قوّى نفورهم من الإدارة المصرية وعد رسل الدولة إياهم
بمعافاتهم من الضرائب والخدمة العسكرية ومنحهم الإستقلال الإداري فاغتروا
بهذا ونزعوا إلى العصيان ، ومن الغريب أنهم لما هموا بالعصيان ظهر أنهم لم
يسلموا من سلاحهم إلا القديم العادم النفع وأخفوا الصالح الجيد ليستعملوه
ضدّ المصريين الذين لا ذنب لهم سوى أنهم منعوهم عن قطع الطرق ونهب أموال
ساكني الأودية والسهول ، الذين لا قدرة لهم على الدفاع واقتفاء أثرهم
لإلتجائهم إلى جبالهم الشامخة الصعب الوصول إليها لعدم وجود الطرق ، ولقد
تنبه إلى هذا الأمر إبراهيم باشا وعلم أنه لا يمكنه إدخال هؤلاء الجبليين في
طاعته إلا إذا فتح الطرق السهلة لمرور الخيالة والمدافع ولذلك أمر المهندسين
بإنشاء ما يلزم من الطرق المنتظمة على حسب الأصول الهندسية مع(1/164)
"""""" صفحة رقم 165 """"""
مراعاة تخفيف الميل كي يسهل جرّ المدافع الضخمة عليها وتوجيهها إلى حيث
يلتجئ العدوّ .
ولكي لا تصل الأسلحة والبارود الذي كان يرسل إلى الثائرين مدداً لهم ، أمر
إبراهيم باشا أيضاً بمنع دخول السفن التركية إلى ميناء الشام وعدم ورود
القوافل من جهات الأناضول فساء ذلك الأتراك وسبب ضرراً عظيماً للتجارة
لكن إبراهيم باشا رأى المصلحة في ذلك وآثر أخف الضررين وأهون الكربين .
ثم استدعى سليمان باشا من ( حبرون ) وكلفه بتمرين من يرد من مصر من
العساكر وبإرسال الشاميين الذين أدخلوا في العسكرية إلى مصر إذ كان محمد
علي باشا يرسلهم إلى مصر العليا أو إلى السودان بصفة محافظين خوفاً من أن
يحصل منهم ما يضر بإخماد الثورة لو بقوا في بلادهم ولا يخفي ما في ذلك من
الحكمة والتبصر في عواقب الأمور .
هذا ولما رأى محمد علي باشا أن المدارس التي أنفق عليها المال الكثير لحسن
ترتيبها وليتعلم فيها جيل جديد من المصريين يشب على الأفكار الحديثة
ويكونوا عوناً له ولخلفائه من بعده في بث التمدن في القطر المصري قد أخذت
في الإنحلال بسبب سفر أغلب الأساتذة الأورباويين ، طاعة لطلب الساعين في
عدم تقدم مصر الذين لا يريدون إلا أن تكون ملقاة في بحار الجهل ظناً منهم أن
لا يقوم أحد من المصريين مقامهم في ذلك ، استدعى سليمان باشا من الديار
الشامية وكلفه بملاحظة شئون المدارس وكل ما يكون سبباً في ترقيها إلى أوج
التقدم حتى تأتي بالغاية المقصودة فلبي دعوته وعاد إلى مصر وأخذ في ترتيب
المدارس على أحسن نظام خصوصاً المدارس الحربية والبحرية ولم يعقه في طريقه
معارضة الجهلة من حاشية الوالي لمساعدة الوالي نفسه له .
وحين كان يشتغل سليمان باشا في القاهرة بمثل هذه الأشغال السليمة كان
رشيد باشا القائد العثماني الذي أخذ أسيراً في واقعة ( قونية ) كما تقدم مشتغلاً(1/165)
"""""" صفحة رقم 166 """"""
بجمع الجيوش والكتائب في بلدة ( سيواس ) بارمينيَة ليحارب المصريين ويقهرهم
كي ينمحي ما لحقه من العار والخزى والبوار في واقعة ( قونية ) ثم تقدم بتلك
الجيوش إلى مضايق جبال ( طوروس ) منتظراً للفرصة المناسبة للإنقضاض على
البلاد الشامية واختطافها من قبضة الحكومة المصرية ولا يخفي ما للموقع الذي
نزل به من الأهمية العسكرية والحربية لأنها نقطة ملتقى الطريق للآخذ من جبال
( طوروس ) إلى وادي الدجلة والفُرات ، فضلاً عن نقاوة وصفاء هواء هذه الجهة
المرتفعة وكثرة وجود الماء العذب بها مما يكون الجيش بسببه آمناً من الأمراض
المعدية التي كثيراً ما تنشاً في الجيوش المجتمعة لما يتخلف عنهم من الأقدار
والوخامة ولم يكن القصد من جمع هذا الجيش الجرّار إلا تشجيع أهل الشام على
العصيان للتخلص من عدل الحكومة المصرية والعود إلى الإستبداد .
ولما فطن الشاميون إلى هذه الغاية ازدادوا عتواً وكادوا ينشرون لواء
العصيان جهاراً فلما علم إبراهيم باشا بذلك أخذ الإحتياطات اللازمة لصدّهم
لو أرادوا الهجوم عليه ولمهاجمتهم إذا اقتضى الحال ذلك ، فأرسل حامية قوية إلى
مدينة الرقة الواقعة على شاطئ الفرات لمنع مرور العثمانيين لو أرادوا عبوره
وكذلك أرسل العدد الكافي من الجند إلى جهات ( أورفه ) و ( حلب ) و ( أنطاكية )
وفرّق ما بقي من جيشه بهيئة سيارات صغيرة تطوف في كل أنحاء البلاد لمجازاة
القرى التي تتأخر في تأدية الخراج ، أو تعارض الحكومة في إجراءاتها وبذلك
خمدت الثورات الداخلية الصغيرة وعلم الكل أن ما هم فيه من شق العصا
والإنحراف عن الحكومة المصرية غرور وأن الأوفق موالاتها ما لم تسع الدولة
العلية بالفعل في مساعدتهم مادّياً وجعل إبراهيم باشا مركزه وأركان حربه في
مدينة أنطاكية مفضلاً لها عن مدينة حلب لرداءة هوائها وقلة مياهها وتعرضها
دائماً إلى الأوبئة والأمراض المعدية .(1/166)
"""""" صفحة رقم 167 """"""
ولتمهيد ما سيأتي ذكره من الحوادث السياسية التي أوجبت تداخل
الأوروباويين المسألة المصرية ضد محمد علي باشا منعا لوقوع أهم الولايات
العثمانية في قبضته وبالتالي من عدم تمكنهم منها في المستقبل نقول :
إن حكومة فرنسا كانت في ذلك العهد حكومة ملكية مقيدة تقييداً كلياً
وكان يكفلها إذ ذاك ( لويس فيلبس ) الذي ارتقى على أريكة الملك عقب هياج
الأمة على ( شارل ) العاشر وعزلها له وطردها إياه في أواخر شهر يوليو سنة
1830 لأنه كان شديد الميل كثير الرغبة إلى الاستبداد والحكم بدون مشورة
الأمة أي الرجوع إلى ما كانت عليه فرنسا قبل الثورة العظمى وضياع كل ما
حصل عليه الفرنساويون من الحرية بعد سفك دمائهم في محاربة سائر ملوك
أوربا ، ولما ولى ( لويس فيلبس ) أجاب إلى كل ما طلبته منه الأمة من كونه يكون
ملكاً مالكاً لا حاكماً وأما الأحكام فتكون بيد الوزراء وأعضاء مجالس النوّاب
ولما لم يكن لمعظم الفرنساويين ما يلزم لمثل هذه المهمة من الحنكة والتجارب ولو
أنه كان منهم في ذلك رجال سياسيون محنكون مثل ( تيرس ) وجيزو
وغيرهما إلا أنهم كانوا ملزمين بإتباع ما يقرّره أعضاء مجالس النوّاب حتى في
الأمور السياسية التي يلزم كتمانها ، ولذلك كانت فرنسا حينئذ بمعزل عن جميع
الدول الأوروباوية ما عدا انكلترا ، فإنها كانت تظهر لها التودد لمصالحها
التجارية فضلاً عن ميل الفرنساويين لمساعدة كل أمة تسعى للحصول على
الحرية والإستقلال وهذه الحاسيات لا تذم على كل حال بل تمدح في حد
ذاتها .(1/167)
"""""" صفحة رقم 168 """"""
ولم يكن لمحمد علي باشا مساعد من الدول الأورباوية إلا فرنسا التي تبذل
جهدها دائماً مع كل أمة تحارب وتناضل للحصول على الإستقلال فلولا
مساعدتها لما كانت مملكة اليونان كما سبق لنا بيان ذلك ، ولم تكن مملكة
البلجيك ولا إيطاليا المعدودة الآن من الدول العظمى وهي التي ساعدت
الولايات المتحدة الأمريكية على التخلص من ربقة الحكومة الإنكليزية إلى غير
ذلك مما لا يحصى من مساعدة الشعوب المضطهدة التي حاربت لأجل استقلالها
ولم تنجح
ولما رأى محمد علي باشا أنه لا يمكنها مساعدته ما دامت الدول الأخرى
معارضة لها لا سيما وأن القابضين والمستولين على أزمة الأحكام في هذه الدول
هم أشهر رجال هذا العصر فكان اللورد ( بالمرستون ) وزير خارجية انكلترا
والكونت ( دي نسلرود ) وزيراً للروسية والمسيو دي مترنيخ الشهير وزيراً
للنمسا على حين كانت وزارات فرنسا تتابع وتسقط دون أن يكون لها خطة
سياسية تجرى عليها فاتح وكلاء الدول بمصر في شأن مشروعه لكنه أظهره
بطريقة أخرى مآلها إبرام تحالف على منع من يريد من الدول التعدي والطمع
فيما بيد غيره وأن يقدّم جيوشه وبحريته إذا اقتضى الحال لنجاح هذا التحالف
ويطلب في مقابلة ذلك أن يستقل بمصر والشام وبلاد العرب وأن تكون هذه
الأقطار له ولورثته مؤبدة .(1/168)
"""""" صفحة رقم 169 """"""
فأدهش هذا المشروع وكلاء الدول ولم يردّوا جواباً بل استمهلوه حتى
يخاطبوا الدول التي هم تابعون لها وبعد قليل أجابوه بنهيه عن التعلق بأهداب
هذا المشروع .
هذا ولما علم الباب العالي بما جرى بين والي مصر والدول وكيف قابلت
الدول مشروعه وتحقق أنها لا تعارضه في إرجاع مصر تحت سلطته كما كانت
بل ربما ساعدته على ذلك ، أخذ في توجيه أفكاره نحو جبل لبنان ليتسنى له
الدخول في مسألتهم وأرسل عدداً عظيماً من الجند إلى معسكر ( سيواس ) لكن
لم ترد فرنسا ذلك طلبت من الباب العالي أن يرسل إلى مصر أحد من يعتمد
عليهم للمخابرة مع وإليها في طريقه رضا الطرفين ، وذلك أولى من
استعمال القوّة لأول وهلة فإنه أمر لا يكون وراءه إلا اثارة نار الحرب وسفك
دماء العباد بدون فائدة ولا عائدة ، فرضى الباب العالي بذلك وأرسل أحد
مستخدمي خارجيته المدعو ( ساريم بيك ) إلى والي مصر لهذه الغاية فقابله بكل
بشاشة وإيناس وأظهر له خضوعه إلى الدولة العثمانية وأخبره بأنه لم يكن في
عزمه الإتيان بأي أمر يكون بسببه تغيير الحالة الحاضرة ، فسرّ من ذلك مندوب
الدولة العلية ورغب منه أن يتوجه معه إلى دار الخلافة ليتفق بنفسه مع جلالة
السلطان محمود خان على ما يكون عليه السير في المستقبل فلم يقبل منه
ذلك البتة لعلمه أن في سفره إلى اسلامبول ما يكره ، فعرض عليه حينئذ ( ساريم
بيك ) أن يعطي ولايتي مصر والعرب وتكونا له ولذريته إلى ما شاء الله وبلاد
الشام أيضاً إلى جبال طوروس مدة حياته وأن يدفع للدولة خراجاً سنوياً(1/169)
"""""" صفحة رقم 170 """"""
يكون للسلطان حق تقديره ، فقبل ذلك منه وكان ذلك في أوائل سنة 1837
وتم الاتفاق بينهما على ذلك وعاد المندوب إلى الدولة بهذا الوفاق .
ولكن لم يقبل الباب العالي هذه الشروط كلها بل تراءى له أن لا يعطيه في
الشام إلا ولايتي ( صيدا وطرابُلُس ) إلى مفاوز جبال ( طوروس ) وتكون تلك
الجبال تابعة للدولة حتى يمكنها بذلك ، متى سنحت لها الفرصة ، أن ترسل
جيوشها إلى مصر بدون أن يكون لها في الطريق معارض ولا منازع فلما وصل
هذا الخبر إلى محمد علي باشا علم أن لا سبيل إلى الاتفاق بالطرق السليمة ، وأنه
لا بد من الحرب عاجلاً أو آجلاً فأعلن لقناصل الدول أنه لا يقبل هذه الشروط
وأنه عازم على المحافظة على كل ما فتحه بكل ما في وسعه وأن لا يسلم شبراً
من الأرض التي احتلها إلى الدولة العلية طائعاً وأنه لا يترك مملكته عرضة
لإغارات العساكر العثمانية بتسليمهم مضايق جبال ( طوروس ) ، التي لم يستول
عليها إلا بشق الأنفس وبذل الأرواح وإضاعة الأموال وأنه لو تنازل عن ذلك
لعدّ نذلاً جباناً لا يصلح أن يكون حاكماً .
ثم أخذ في الإستعداد للقتال وأرسل كمية عظيمة من الأسلحة والمدافع إلى
جهات الشام ليظهر للباب العالي عزمه على المدافعة عن جميع ما فتحه من البلاد
وأنه لا يروعه تهديد ولا وعيد وأعلن لقناصل الدول أنه سينادي باستقلاله هو
وورثته بالبلاد التي احتلها الآن ، وأنه على أي حال لن يدفع للدولة العلية شيئاً
قط من الخراج فارتجت لهذا الخبر وزارات أوربا على الخصوص الوزارة
الإنكليزية وأيقنوا أنه لا بد من فتح باب المسألة الشرقية إن لم يُتدارك هذا الأمر
قبل تفاقمه وأن الأولى تلافي تلك المسألة التي ربما تكون نتيجتها إثارة نار الوغى
بين دول أوربا أجمع لإختلافهم في هذه حل المسألة وتباين مشاربهم فيها ،
فأرسلت الحكومة الإنكليزية إلى محمد علي باشا بلاغاً تخبره به أنه لو صمّم
وأصرّ تنفيذ مشروعه ونشأت عن ذلك حرب بينه وبين الباب العالي(1/170)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
فتكون حكومة الملكة مضطرة لاستعمال القوة ضده ، وتصدّه عن الباب
العالي لو اقتضى الحال وأنه لا يغترّ بعدم اتفاق الدول في المسألة الشرقية فإن
ذلك لا يكون مانعاً لإدخاله في طاعة دولته ، لو رغب الخروج عنها وأيد هذا
الكلام ما ورد إليه من باقي الدول من التهديدات .
سفر محمد علي باشا إلى بلاد السودان :
لكن محمد علي باشا لم يعبأ بكل ما ورد إليه من هذا القبيل وبينما وزراء
الدول ينتظرون ما يأتي به جوابه إذ ورد عليهم نبأ سفره إلى جهات السودان
للبحث عن معدن الذهب وترك حكومته كأنها لم يكن بها شيء من التهديدات ،
ويحكي عنه أنه قال لو وجدت الذهب فزت بالأرب ونلت المراد بدون تداخل
الدول لكن هذه العبارة تحتاج إلى إثبات .
عصيان أهل الشام ثاني مرة :
لا يخفي ما في هذه الرحلة من الأخطار على حكومته المصرية من انتهاز
الشاميين فرصة غيابه للإذعان إلى الثورة وشق عصا الطاعة لا سيما وأن
أعداءه من الخارج كانوا يترقبون الفرص لبث الفتنة والفساد في بلاد الشام
وكان الأمر كذلك ، فإن محمد علي باشا لم يجتز بلاد ( دنقلة ) حتى ورد إلى
( باغوص بك ) الذي كان قد فوّض إليه إدارة البلاد في أثناء تغيب ولي نعمته
خبر عصيان سكان جبل لبنان وما به وبجواره من الأمم المختلفة بين دروز
ونصيريه ومارونية وتقدم العساكر الشاهانية إلى التخوم بعلة أنهم يريدون معاقبة
بعض أعضاء العائلات الشريفة في الجبل كانت محافظة على الولاء للحكومة المصرية
ولم يقبل منهم أن يكون رئيساً لهذه الثورة التي لم تكن ناشئة عن تذمر(1/171)
"""""" صفحة رقم 172 """"""
الأهالي من جور أو ظلم بل سببها الوحيد إلقاء الدسائس بينهم من الخارج قصد
إرجاع محمد علي باشا إلى حدود مصر أو اغتياله ، وأنى لهم ذلك وهو شهم
متيقظ لما يراد منه قابض على زمام الأحكام بمهمته المشهورة وعزيمته المشكورة
وبطشه الشديد ورأيه السديد . ولما بلغ إبراهيم باشا ، وكان لم يزل مقيماً بالبلاد
الشامية بصفة حاكم أعلى ، خبر هذه الثورة أصدر أوامره المشدّدة باقتفاء أثر
الثائرين وبمجازاة من يؤخذ منهم أسيراً بأشد العذاب وأصرم العقاب ، لكنه لم
يلبث أن طلب المدد من مصر لشدة بأس الثائرين في هذه المرة وتسلحهم
بالسلاح المتقن فطلب من باغوص بيك أن يرسل إليه سليمان باشا مع ما يرسله
إليه من العدد والعدد ، فبذل باغوص بيك جهده في كل ما أمكنه جمعه من
العساكر المدرّبة وأرسلهم إليه ليتمكن من إخماد الثورة قبل تفاقم الخطب .
فبمجرد وصول سليمان باشا ومعه المدد إلى الشام أمكن إبراهيم باشا تحصين
البلاد الواقعة على التخوم كأنطاكية وحلب وأورفه ، وبعد أن وثق بمناعة تلك
البلاد وعدم تمكن الأتراك من مهاجمتها بغتة عاد إلى جهة الجنوب حيث اجتمع
مع سليمان باشا لإخماد الثورة التي كانت قد أخذت في الإزدياد لما سمع الثائرون
أن الدولة العلية عازمة على إرسال عساكرها لمهاجمة المصريين .
فكانت جبال لُبنان كشعلة نار ولم يبق فيها أحد محافظ على ولاء الحكومة
المصرية فوجه إبراهيم باشا وسليمان باشا اهتمامهما إلى هذه الجبال الشامخة
الوعرة المسلك الكثيرة القمم والأودية حتى قيل فيها أن كل نقطة منها تصلح
أن تكون قلعة ، وذلك مما جعل وصول العساكر إليها صعباً لا سيما الخيالة
والمدفعيين ، نعم إن إبراهيم باشا فتح عدة طرق تصلح لسير المدافع لكنها لم تكن
بكافية للغاية المقصودة ومع ذلك دخل بجيشه في بطن الجبل واقتفى أثر الثائرين
إلى أعالي القمم وكانوا يفرون أمامه ليجرّوه على التوغل في جبالهم ، حتى إذا
تركوا الطرق السهلة وتوغلوا في المسالك الصعبة الوعرة انقضوا على المصريين
من أعالي الجبل ورموهم بالرصاص من أعلى إلى أسفل فكانت تصيب المصريين(1/172)
"""""" صفحة رقم 173 """"""
مقذوفاتهم ولا تصيبهم مقذوفات المصريين ولقد نجحت هذه الحيلة مع سكان
جبل لبنان كما نجحت مع غيرهم من الجبلين فانقضوا على المصريين من كل فج
ورموهم بالرصاص والحجارة حتى ألجؤهم إلى القهقرى وكانت هذه أول مرة
تقهقر فيها المصريون أمام أعدائهم وهم تحت قيادة إبراهيم باشا وسليمان باشا .
ولما تيقن الرئيسان من عدم الجدوى في الوقوف أمام عدوّ لا يمكنهم صدّه
بل ولا رؤيته ، وقتل وجرح أغلب من كان معهما من الجند واستشهد نخبة
الضباط وهلكت خيول المدافع ، أصدر إبراهيم باشا أمره بالرجوع لإنقاذ من
بقي ، أولى من تعريضهم للموت على غير طائل وقال لو مكثنا على هذه الحالة
المجهولة الطريق لكنَّا قد ألقينا بأنفسنا إلى التهلكة وهذا أمر منهي عنه فسار
إبراهيم باشا في مقدمة الجيش وكلّف رفيقه وصديقه سليمان باشا بالسير في
المؤخرة لصدّ هجمات الجبليين عنهم ومعاكستهم في حال رجوعهم فقام بهذه
المهمة خير قيام وأمكن العساكر المصرية بعد العناء الشديد الخروج من هذه
الجبال الشامخة حتى وصلوا إلى السهل وأخذوا في حصر الموتى ومداواة الجرحى
وترتيب الباقي وتنظيمهم وتحصَنوا حتى يصل إليهم المدد .
وبعد أن تمت هذه الإجراءات عقد إبراهيم باشا مجلساً حربياً دعى له
سليمان باشا وكافة رؤس الجيش للمداولة في أي الطرق 7 يتخذ لتفريق شمل
الجبليين وإدخالهم تحت الراية المصرية ، فبعد مداولات طويلة قر قرارهم على
استعمال الطريقة التي نجحت في أول ثورة ضدّ الشيخ قاسم المتقدم وأبنائه وهي
إلقاء الشقاق بين الثائرين ، وحيث أن هذه الثورة لم يكن سببها إلا أخذ الشبان
إلى العسكرية وتجريد الأهالي من السلاح وأن بعض الجبليين ، وهم المارونية ،
ميالون إلى فرنسا ، وهي مساعدة للحكومة المصرية فيعرض عليهم سليمان باشا
الفرنساوي الأصل أن ترد إليهم أسلحتهم وأولادهم ويفهمهم أن فرنسا راضية(1/173)
"""""" صفحة رقم 174 """"""
عن أعمال المصريين في الشام ولا بد بعد ذلك من انفصالهم عن باقي الجبليين
من دروز ونُصيرية لما بينهم من الضغائن القديمة التي لم يتناسوها إلا لمحاربة
المصريين مع بقائها في صدورهم كامنة .
وعند سماع المارونية بتساهل المصريين معهم في هذين الأمرين الأصليين
عادوا إلى السكينة وفرق عليهم إبراهيم باشا كثيراً من الأسلحة والرصاص
فاتخذوا معه وأتى فريق منهم إلى معسكره ليرشدوه إلى الطرق الجبلية المؤدية إلى
مكامن الدروز والتي لا يعقلها إلا العالمون بها من سكان الجبال ، وسلموه أهمّ
النقط التي كانت بأيديهم وتمكن المصريون بهذه الكيفية من الوصول إلى تلك
المكامن فهاجموا الدروز في معاقلهم وحصونهم وكان المارونية يحاربونهم مع
المصريين بعد أن كانوا ضدّهم قبل ذلك بقليل ، وذلك مشاهد الحصول في كل
جهة لم تربط أهلها وحدة الجنسية إن لم تربطهم الوحدة الدينية فيتمكن الأجنبي
من دخول بلادهم بدون كثير عناء فما لا ينال بالسلاح ينال بالخداع ' والحرب
خدعة ' وقد تمكن المصريون بعد عدة مناوشات ، كان الفوز فيها دائما لهم ، من
إخضاع الدروز وإلزامهم بالطاعة وإدخالهم تحت رايتهم لكن لم يحصل المصريون
على هذا الفوز العظيم إلا بعد أن قتل من جنودهم عدد عظيم وتحمّلوا ما لا
يوصف من المصاعب ولا يطاق من المتاعب ، فضلاً عن مكابدة أنواع المشاق في
التسلق على هذه الجبال الوعرة التي لولا مساعدة المارونية لهم لما أمكنهم
الوصول إلى معرفة مفاوزها .
واقعة نصيبين :
وفي أثناء هذه المدة توفي بمعسكر ( سيواس ) القائد التركي رشيد باشا الذي
هزمه المصريون في واقعة ( قونية ) قبل أن يأخذ بثأره ويمحو ما لحقه بسبب ذلك
من العار ، وعهدت قيادة هذا الجيش إلى حافظ باشا أحد قوّاد الدولة العلية
الذين امتازوا في الحروب بالثبات والرزانة والأمانة والتبصر في عواقب الأمور .(1/174)
"""""" صفحة رقم 175 """"""
ولما انتشر في أروبا خبر فشل الدروز وانتصار المصريين عليهم اضطربت
الدول وأرسلت إلى الباب العالي تسنتهض همته لمحاربة المصريين والمبادرة إلى
استخلاص البلاد الشامية من أيديهم خوفاً من تقدمهم إلى بلاد الأناضول إذا
استتب الأمن في بلاد الشام وهدأت الدروز وأبانت له الدول أيضاً مضار
استفحال أمر محمد علي باشا وأنه يخشى من أن يناديّ باستقلاله لو لم يسرع
الباب العالي في جعل مصر مثل الولايات الشاهانية ، فأصغى الباب العالي إلى
هذه الآراء التي ربما كانت مبنية على غايات شخصية ، ومال مع الدول وأوعز
إلى حافظ باشا أن يتقدم إلى تخوم الشام من الجهة التي يسهل عليه الدخول منها
فأسرع حافظ باشا بالتقدم إلى الأمام معللاً نفسه بالنصر على المصريين وردّ ما
فقدته الدولة العلية في واقعة قونية وما قبلها .
ولما كانت مضايق ( طوروس ) قد حصنها المصريون بالقلاع والمدافع الضخمة
على أحسن أسلوب وأتم نظام بهمة من استخدمهم عزيزهم من المهندسين
الأجانب ، وصار يتعذر بل يستحيل على أي جيش المرور منها ، اقترب حافظ
باشا من جهة ديار بكر وأورفه ، حيث يمكن للمهاجم الدخول إلى البلاد التابعة
للحكومة المصرية بسهولة لإتساع السهول في تلك الجهة وعدم وجود جبال
يمكن تحصين مسالكها كجبال ( طوروس ) ولما علم إبراهيم باشا بذلك جمع معظم
جنوده ومدافعه حول مدينة حلب كي يتيسر له صد المهاجم من اي جهة أتى
وأما حافظ باشا فارتكب خطأ عظيما ظن أن فيه النصر ، مع أنه كان سبب
انكساره كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله ، وهو تجزئة جيشه إلى عدة فرق ليغير
على بلاد الشام ويتعدى حدودها من جملة نقط في آن واحد ولما ذاع خبر تقدم
الجيشين أمام بعضهما واستعدادهما للقتال طمحت أبصار دول أوربا إلى ما
يكون وراء هذه المعركة من النتائج المهمة التي ربما انقلب بسببها التوازن
الشرقي ، وصارت السلطة في يد محمد علي باشا وانتقل مركز الخلافة من
القسطنطينية إلى القاهرة .(1/175)
"""""" صفحة رقم 176 """"""
هذا ولقد عاد محمد علي باشا عند ذلك من بلاد السودان بدون أن ينال
الغاية المقصودة من اكتشاف معدن الذهب الذي كان يعود عليه بأرباح وافرة
نعم أنه عثر على عدة معادن لكنه رأى أنها تحتاج إلى مصاريف باهظة ربما زادت
عما يستخرجه منها من الذهب ولذلك عدل عن استعمالها وصرف وجهه إلى
تنظيم إدارة السودان واثقاً بأنه لو اعتنى بإدارتها وتنمية ثروة أهلها ربما عادت
على الحكومة المصرية بأضعاف ما تربحه من معادن الذهب .
وبمجرد عودته أحدقت به قناصل الدول لمعرفة أفكاره من حيث تقدم
الأتراك وما هو عازم على فعله لو هاجمته الجيوش العثمانية ، فكان يجاوبهم
بأجوبة مرضية لهم ومطمنة لخاطرهم وما زال يؤكد لهم أن جل بغيته حفظ
السلم ليتمكن من نشر أسباب التمدن في بلاده ، ولكن كان في أثناء إعطائه لهم
هذه التأكيدات يرسل الجند والذخائر إلى ولده إبرهيم باشا وأوامره المشددّة
بأن يكون دائماً مستيقظاً ومستعدًّا لصدّ هجمات من يتعدى عليه وبأنه لا يردّ
القوة بالقوة إلا إذا تعدّت العساكر الشاهانية إلى تخوم الحكومتين ، وبأنه لا يبدأ
أصلاً بالهجوم بل يتربص في معسكره ينتظر ما يطراً عليه من الحوادث حتى لا
يكون هناك وجه لأوربا تنسبه به إلى التعدي والطمع وحب الاتساع ولا يكون
لها وجه أيضاً في مساعدة الباب العالي عليه وكان ذلك في أوائل سنة 1839 .
لكن لم يغتر الباب العالي بهذه التأكيدات السليمة بل أوعز إلى حافظ باشا أن
يعبر الفرات ويستعد لمحاربة المصريين عند أوّل إشارة ترسل إليه ، فأمر حافظ
باشا من يدعي إسماعيل باشا أحد القواد التابعين له وكان معسكراً في بلدة واقعة
على الشاطئ الأيسر للفرات يسميها الأتراك ( بلا جيك ) باجتياز الفرات
والانتقال إلى الشاطئ الأيمن فلما وصل هذا الخبر إلى إبراهيم باشا يوم 23
إبريل سنة 1839 ، أرسل الرسل إلى والده بمصر يستفهم منه عما يفعله لو
هاجمته الأتراك كما هو المظنون ، وفي هذه الأثناء كان يرسل أوامره متتابعه إلى(1/176)
"""""" صفحة رقم 177 """"""
الجنود يدعوهم للاجتماع حول مدينة ( حلب ) خوفاً من مهاجمة الترك لهم على
حين غفلة ، وجمع إليه أعيان المدينة ومشاهيرها وأعلمهم بتقدم العساكر العثمانية
نحو مدينتهم وطلب منهم أن يساعدوه ، أو بالأقل أن لا يخونوه بتسهيل السبل
للأتراك فأجابوه بلا تردد أنهم يحافظون على ولائه ويدافعون معه عن مدينتهم
إلى آخر رمق من حياتهم فاطمأن خاطره واستراح باله وعلم أنهم معه لا عليه ،
ولأجل أن يتحقق من موقع العدوّ أرسل فرقة مؤلفة من خمسمائة من العرب
الذين يعتمد على صداقتهم وإخلاصهم له ، وكلفهم بأن يخبروه بحركات الجيوش
التركية حتى يكون على يقين من أمرهم وما هم عليه .
هذا ولما وصل خبر تقدم الأتراك إلى محمد علي باشا أمر بجمع العساكر
والذخيرة وأرسل إلى وزير حربيته المدعو أحمد المنكلي باشا لما كان يعهده فيه
من الشجاعة والبسالة بأن يلحق إبراهيم باشا بالديار الشامية ليكون له عوناً
وظهيراً في الحوادث المنتظرة ، فلما علم قناصل الدول بكل هذه الإستعدادات
خافوا من سوء العاقبة واشتعال نار الحرب بين مصر والدولة العلية لوثوقهم
بانتصار المصريين على الأتراك فتوجه قنصل فرنسا إلى محمد علي باشا وطلب
منه بإلحاح زائد أن يوقف سفر أحمد باشا النكلي خوفاً من أن تعتبر الدول سفره
هذا بمثابة رغبة في القتال وربما أدى ذلك إلى معاكستها له ومساعدة الباب
العالي عليه ، وفي آخر المحادثة قال له القنصل أن مسئولية الحرب تقع على عاتقه
لو أرسل أحمد باشا المذكور لأن الباب العالي لا يودّ إلا السلم الذي هو رغبة
فرنسا ، فأجابه محمد مع جيشه بأنه مستعد لا لعدم إرسال أحمد باشا فقط بل
إستدعاء إبراهيم باشا مع جيشه أيضاً إذا ضمنت له فرنسا أن الترك لا
يتقدمون نحو تخوم الشام ، ففرح بذلك قنصل فرنسا وأبرز له رسالة صادرة من
الأميرال ( روسّان ) سفير فرنسا لدى الباب العالي يخبره فيها أن الباب العالي
وعند فرنسا وعداً صريحاً بعدم الإبتداء بالحرب فنظر حينئذ محمد علي باشا إلى
قنصل النمسا وكان حاضراً هذه المحادثة وقال له أيمكنك أن تضمن لي السلم
باسم دولتك كما فعل قرينك ؟ فأجابه قنصل النمسا بالنفي ، فحينئذ قال محمد(1/177)
"""""" صفحة رقم 178 """"""
علي باشا أن الواجب عليّ الآن أن أستعد للحرب لأني متحقق من نوايا الباب
العالي .
وفي اليوم التالي سافر أحمد باشا إلى حلب وكان وصوله بعد تسعة أيام وعلم
القاصي والداني بذلك وأنه لا بد من الحرب قريباً وصار الكل في انتظار ما
يترتب على هذه الحروب من النتائج ، وما تفعل أوربا لو انتصر المصريون على
الأتراك وأما الأتراك فإنهم جمعوا جيوشهم حول قرية صغيرة تدعى ( نصيبين ) ،
وهي نقطة مشهورة في التاريخ بحسن موقعها الحربي ، حتى أنها كانت دائماً ملتقى
الجيوش التي تنازعت ملك بلاد الشام من الأعصر الخالية إلى وقتنا هذا وهذه
النقطة مهمة جداً لوقوعها على تلال مرتفعة يحفها من أسفلها نهر صغير يجري
من الشمال إلى الجنوب ، صعب العبور لشدة جريان مائه وزيادة عمقه وهو نهر
( قرسيم ) وكذلك يحيط بها من جهة أخرى نهر آخر يجري من الغرب إلى الشرق
ويصب في نهر قرسيم فيجتمعان ويجريان إلى نهر الفُرات .
ولو هاجم إبراهيم باشا الجيش التركي في أثناء عبوره لنهر الفرات حين كان
منقسماً على الشاطئين لأمكنه أن ينتصر عليه بكل سهولة لولا أن حالت بينه
وبين بغيته هذه أوامر والده المشدّدة عليه بعدم الابتداء بالهجوم . وكانت في أثناء
هذه المدة قناصل الدول تكثر من التردد على سراي محمد علي باشا بشيراً
لتبليغه كل ما يرد عليهم من دولهم فكانت الدول تارة تهدده بتداخلها لو ابتدأ
بالحرب ، وتارة تعده بأن تتوسط له عند الباب العالي ليعطي له ولايتي مصر
والشام وتكونا له ولأولاده من بعده ولكثرة إلحاح القناصل عليه سافر إلى
الوجه البحري بقصد التفسح ولتسكين خاطر القناصل ، وكتب إلى باغوص
بيك ناظر خارجيته بالقاهرة جواباً من شبين بتاريخ 16 صفر سنة 1255
الموافق ( 2 إبريل سنة 1839 ) يخبره به أنه قد ورد إليه كتاب من ولده إبراهيم
باشا من جهة الشام يقول فيه أن العساكر الشاهانية اجتازت الفُرات عند قرية
( بلاجيك ) ويظهر أن وجهتها مدينة حلب ، وأنه كتب إلى ولده أن لا يهاجم(1/178)
"""""" صفحة رقم 179 """"""
الجيش التركي بل يتربص في مكانه حتى يهاجموه فيدافع عن نفسه بقدر
الطاقة .
لكن لم يهدأ بال القناصل بل توجه الموسيو ( دي ميدم ) قنصل جنرال
الروسية إلى دمياط ومعه رسالة وردت إليه بخط الموسيو ( نسلرود ) وزير
الروسية الأول يهدّد فيها محمد علي باشا بالتداخل الحربي إن لم يصدر أمره حالاً
برجوع العساكر المصرية من الشام ويعترف بتبعيته للباب العالي ويقبل كل ما
تقرّره الدولة بشأنه ، فاغتاظ لذلك محمد علي باشا لكنه كظم غيظه ووعد برد
الجواب ثم في يوم 16 مايو سنة 1839 أرسل إلى قناصل الدول عموماً
منشوراً يخبرهم فيه بأنه لو رجعت العساكر السلطانية إلى الشاطئ الأيسر من
الفُرات ، فهو أيضاً يأمر برجوع عساكره ورجوع إبراهيم باشا أيضاً إلى
( دمشق ) ولو عادت عساكر الدولة إلى ما وراء ( ملطْيَة ) فهو يستدعي إبراهيم
باشا إلى مصر فضلاً عن كونه مستعداً لإرجاع جزء عظيم من جيشه إلى مصر
لو تعهدت الدول الأربع العظمى وقبل الباب بأن تكون مصر والشام له
ولورثته إلى ما شاء الله . ولكن لم تقبل الدولة العلية ذلك بل عزمت على أن لا
تسلم إلا للقوة وأرسلت إلى حافظ باشا أن يستعدّ لمقاتلة المصريين ومكافحتهم
فأمر حافظ باشا بقطع العلاقات التجارية بين ولايات الدولة والشام وأوقف
أيضاً سير القوافل فأمر بمثل ذلك إبراهيم باشا وأرسل سليمان باشا ، وكان
مكلفاً بالمخاطبات السياسية ، منشوراً إلى قناصل الدول بحلب يخبرهم فيه أن
إبراهيم باشا أمر بعدم سير القوافل إلى ولايات الدولة العلية لإبتداء حافظ باشا
بمثل ذلك ، وأن هذا التحريج لا يرتفع إلا إذا عادت المواصلات بأمر القائد
التركي .
فاغتاظ لذلك حافظ باشا وابتدأ في أخذ كل ما تصل إليه يده من خيول
وبغال وحمير وأغنام 0 مما يكون للجيش المصري ثم احتل قرى عديدة حول مدينة(1/179)
"""""" صفحة رقم 180 """"""
( عَيْن تاب ) بدون إشهار للحرب كما هي عادة الأمم المتمدنة ، ثم هجم على
هذه المدينة نفسها ودخلها عنوة بعد أن طرد الحامية المصرية فكتب إبراهيم باشا
لوالده يعلمه بأن الأتراك تعدّوا الحدود ودخلوا البلاد التابعة للحكومة المصرية
بمقتضى معاهدة ( كوتاهيه ) ولما لم يرد له رد الخطاب بسرعة واستبطأه قام من
حلب مع جزء من جيشه وأمر سليمان باشا بأن يكون على أهبة السير
لمساعدته لو دعت الضرورة للقتال . وبينما هو سائر إذ ورد عليه خبر استيلاء
الترك على مدينة واقعة على الشاطئ الأيمن للفرات تدعى ( تلَ باشر ) بعد أن
قتلوا وأسروا فريقاً من حاميتها التي كانت مؤلفة من خمسمائة من عرب
الهنادي .
فلما طرق هذا الخبر أذنه جدّ في السير وأرسل إلى سليمان باشا يستدعيه
للقيام بدون تأخير مع بقية الجيش ليلجئ الأتراك إلى الرجوع إلى ما وراء
الحدود ويستردّ منهم ما سلبوه خيانة وغدراً ولكن بمجرد وصول العساكر
المصرية إلى تل باشر أخلاها العثمانيون بدون قتال لما علموا وتيقنوا من ضعفهم
عن مقاومة المصريين فلم يقتف إبراهيم باشا أثرهم بل اكتفى بعودهم إلى
الحدود منتظراً ما يأمره به والده وكان ذلك 3 يونيو سنة 1839 وفي 15 منه
ورد إليه جواب والده مؤرخاً 28 ربيع الأول سنة 1255 الموافق ( 6 يونيو
سنة 1839 ) يقول له فيه حيث أن الأتراك اعتدوا عليه ولم يراعوا العهود ولا
المواثيق ، فلا يكتفي بإرجاعهم إلى الحدود بل يلزمه محاربتهم وإهلاك جيشهم
كي لا يعودوا إلى اعتدائهم .
فلما وصل إليه هذا الجواب ورأى فيه الأمر الذي كان يرغبه ، أصدر أوامره
إلى سليمان باشا وسائر القوّاد بالسير إلى الأمام لمهاجمة الأتراك في معسكرهم
بنصيبين .(1/180)
"""""" صفحة رقم 181 """"""
وفي يوم 20 يونيو سنة 1839 تحرّك الجيش بأجمعه واحتل بدون عناء كثير
النقط الأمامية وأخذ قليلاً من الأسرى .
وفي اليوم التالي أراد إبراهيم باشا أن يهاجم الأتراك على حين غفله ، لكنه
عدل عن هذا الرأي اتباعاً لمشورة سليمان باشا وقرَّ رأيهما على استكشاف
مواقع العدوّ قبل الهجوم عليه وكان الأتراك قد حصنوا نقطة نصيبين حتى
جعلوها أمنع المواقع الحربية في الدول العلية وذلك بإرشاد من استخدموهم من
ضباط الأمان وكان من ضمنهم البارون ( دي مولتك ) الذي ينسب إليه انتصار
الألمانيين على الفرنساويين في سنة 1870 فكان إذ ذاك في خدمة الباب العالي
منوطاً بأن يكون مرافقاً لحافظ باشا بصفة أركان حرب أعني مرشداً ، فلما
استحسن إبراهيم باشا مشورة سليمان باشا الذي رافقه في هذا الاستكشاف
أتبعها وأخذ ألف وخمسمائة من العربان وأربعة ألايات من السواري وبطريتين
من المدافع وسار بهذه القوة القليلة حتى قرب من مدافع الأتراك فأرسلوا إليهم
لردّهم عدداً عظيماً من العساكر غير المنتظمين ( باشبوزق ) وقليلاً من السواري
النظامية فناوشهم المصريون مناوشة خفيفة حتى ألجؤهم إلى الرجوع والعود إلى
استحكاماتهم وتمكن سليمان باشا وإبراهيم باشا في خلال ذلك من استكشاف
التحصينات المهمة التي أقيمت أمام نصيبين وتبين لهما أنه يتعذران لم يكن
مستحيلاً مهاجمتها من هذه الجهة مهما كانت شجاعة المصريين ، ولذلك عاد
الجميع إلى معسكرهم بقرب نهر مزار لينظروا أي طريق أنجح للإستيلاء على
هذه النقطة المهمة التي لو وقعت في قبضة المصريين وتشتت الجيش العثماني
المتحصن فيها ، لم يقم بعد للترك قائمة إلا إذا تداركتهم العناية بمساعدة الدول
الأروباوية لهم .
ولما انتشر خبر رجوع المصريين شمل السرور الجيش التركي وظنوا أن
المصريين لا يجسرون على مهاجمتهم ، بل لا بد أن يتركوا معسكرهم ويعودوا إلى
حيث أتوا ، ثم زاد سرورهم لما أخلى المصريون معسكرهم في اليوم التالي وأخذوا(1/181)
"""""" صفحة رقم 182 """"""
في الإنسحاب والرجوع ، فلما رأى الأتراك ذلك ظنوا أنهم ولوا الأدبار لكن لم
تلبث أفراحهم أن تبدّلت أتراحاً لما علموا أن المصريين لم يعودوا بل أخذوا في
الدوران حول نصيبين ليهاجموها من الجهة الأخرى التي لم يحصنها الأتراك لعدم
توهمهم أن المصريين يأتونهم منها .
فجمع حافظ باشا مجلساً عسكرياً لتقرير ما يجب اتخاذه ضدّ هذه المناورة
العسكرية التي لم تخطر ببالهم فأراد البارون ( دي مولتك ) ومن معه من ضباط
الألمان أن يهاجموا المصريين في أثناء سيرهم وعدم استعدادهم للنزال وتأهبهم
للقتال ، لكن اعترض عليه في هذا الرأي الصائب القائد التركي وسائر الضباط
الأتراك قائلين كيف نترك نقطة صرفنا نفيس الوقت ومعظمه في تحصينها
وتعرّض أنفسنا وأرواحنا إلى القتل في واد سهل لا يوجد به أدنى استحكام
طبيعي أو صناعي للإحتماء به ، فردّ عليهم الألمانيون بأن الجيش التركي يبلغ
عدده ستين ألف مقاتل والجيش المصري لا يزيد عن أربعين ألفاً فيمكن للترك
بكل سهولة أن يتغلبوا على المصريين مع أنهم لو تربصوا في معاقلهم وهاجمهم
المصريون في الجهة القليلة التحصن لربما كان الفوز والنصر لهم .
فلم يقبل حافظ باشا نصيحتهم بل اعتمد على رأيه من البقاء في الحصون
حتى يقضى الله أمراً كان مفعولاً فاغتاظ لذلك الألمانيون وأرادوا أن يقدموا
استعفاءهم لولا خوفهم مما يلحقهم من العار والملامة لو تأخروا أمام عدوّ
مهاجم .
وفي أثناء هذه المداولة تقدم إبراهيم باشا وفريق من الخيالة المنتظمة والعرب
نحو القنطرة المبنية على نهر قرسيم بعد اتحاده بنهر مزار ، قصد إصلاحها لمرور
الجيش لتوهمه أن الأتراك لا بد أن يكونوا قد خربوها لمنع وصول المصريين
إليهم ، لكنه وجدها على حالها فأسرع للاستيلاء عليها قبل وصول الخيالة الذين
أرسلهم حافظ باشا لصدّ المصريين عنها لكن لما وصلت السواري العثمانيون
كان قد سبق السيف العذل واجتازها إبراهيم باشا وعسكره ، ولم يمكن بهذه(1/182)
"""""" صفحة رقم 183 """"""
الكيفية للعثمانيين استرجاعها بل بقيت في قبضة المصريين وقد وصل إليها باقي
الجيش في مساء 22 من شهر يونيو تحت قيادة سليمان باشا وعسكر الجيش
كله على ضفة نهر ( قرسيم ) المواجهة للجيش التركي واتخذ المصريون
الاستعدادات اللازمة لصدّ الأتراك لو هاجموهم ليلاً ، هذا ولم يضيع حافظ باشا
وقته سدى بل غير وجهة جيشه وأخذ في إقامة بعض استحكامات لمقاومة
المصريين من هذه الجهة وحصنها بالمدافع التي كانت في الحصون الأول فأوجب
هذا التغيير ارتباك الجند لأن الجناح الأيمن صار أيسر والأيسر صار أيمن ، نعم أن
مثل هذا التغيير لا يترتب عليه أدنى إرتباك لو كان الجيش مدرّباً على مثل هذه
المناورات لكن الجيش التركي الذي كان محصناً في نصيبين لم يكن من الإنتظام
على جانب عظيم لأنه حشد بعد تشتت الجيش القديم في واقعة ( قونية ) ولذلك
وقع فيه خلل كبير بسبب هذه المناورة التي لم يراها قبل هذه المرة فضلاً عن
أن الإستحكامات التي أقيمت على عجل لم تكن كافية لمقاومة المصريين ومعلوم
أن المهاجم يكون دائماً أشدّ من المدافع خصوصاً لو كان المهاجم أكثر انتظاماً
من مقاومه .
كل هذه أمور أوقعت الضباط الألمانيين في حيرة عظيمة لتخويفهم ، إن لم نقل
لتحققهم من فوز المصريين ، وفي يوم 23 يونيو في سنة 1839 توفيت الخاتون
الإنكليزية ( ليدي ستانهوب ) التي كانت من ألد أعداء الحكومة المصرية في(1/183)
"""""" صفحة رقم 184 """"""
بلاد الشام وكثيراً ما ألقت الدسائس وفرقت المال والسلاح على سكان الجبل
لمحاربة المصريين ، اختطفتها أيدي المنون قبل أن تشاهد انتصار المصريين في واقعة
نصيبين وعلى أي حال لو تمت في تلك الليلة لماتت في اليوم التالي مما كان
يصيبها من الحزن والكدر لعدم نوالها بغيتها القلبية وهي انخذال المصريين في
ساحة الوغى الأمر الذي صرفت لأجله ما لها وحياتها ، فأتت غير مأسوف عليها
من المصريين ونصرائهم هذا ومما زاد في تخوف الضباط الألمان ما كان للجيش
المصري على العثماني من المميزات منها أن الجيش المصري لم يكن مؤلفاً إلا من
جنس واحد وهو الجنس المصري وجميعهم مدربون على الأعمال الحربية وعلى
النظام الأوربي ما عدا بعضاً من العرب الهنادي وكان جميع ضباطه حائزين رتبهم
بالاستحقاق والأهلية والكل واثقون برئيسهم إبراهيم باشا لما نالوه من النصر
أكثر من مرة تحت قيادته .
تلك صفات كانت معدومة من الجيش التركي لأنه كان مؤلفاً من ترك
وأكراد وغيرهم من الأمم المكونة للدولة العثمانية وليس بينهم وحدة جنسية
تربط بعضهم ببعض وأغلبهم غير منتظم والمنتظم منهم لم يكن مستعداً للقتال
استعداداً كافياً لمقاومة جيش منتظم كالجيش المصري وأما ضباطه فأكثرهم إن لم(1/184)
"""""" صفحة رقم 185 """"""
يكن كلهم لم ينالوا وظائفهم بالاستحقاق والأهلية فضلاً عما لحقهم من الإنهزام
أمام الجيوش المصرية في واقعة ( قونية ) كما سبق ذلك في بابه . وفي ليلة 24
يوينه سنة 1839 أراد حافظ باشا أن يهاجم المصريين تحت جناح الظلام طمعاً
في أن يوقع الفشل بينهم لكنه لم يتم له مقصوده لأنه بعد أن ألقى بين خيام
المصريين قليلاً من القلل ، انتبهوا من رقادهم فلم يكن إلا قليل حتى صدّوا
مهاجمة الترك وألزموهم بالرجوع إلى معسكرهم فعادوا منهزمين بعد أن خضبوا
الأرض بدمائهم وملأوا الأودية بأجسامهم ولم يقتل من المصريين إلا النزر اليسير
وكان المجروح منهم قليلاً ، وحدث في هذه الوقعة أن بعض الشاميين هربوا من
الجيش المصري وألتجؤا إلى العسكر العثماني وحاربوا معهم في صفوفهم
وكذلك أورطتان من ألاي الحرس الثالث أرادتا الإنضمام للترك فلحقهما
إبراهيم باشا في سيرهما وأعادهما إلى مركزهما ولم يرغب مجازاتهما مجازاة شديدة
خوفاً من تذمر باقي الشاميين في هذا الوقت الذي يلزم فيه أن يكون الجيش كله
قلباً واحداً فقبل اعتذارهم بأنهم ضلوا عن السبيل في أثناء الحرب ، واكتفى
بتغيير ضباطهم بآخرين ممن يثق بهم واستمر الجيش بقية ليلة يتأهب للقتال
لتصميم إبراهيم باشا على مهاجمة الأتراك في يوم 24 يونيه .
وفي صبيحة هذا اليوم المشهود طلع إبراهيم باشا وقليل من الهنادي
لإستكشاف مواقع الترك ليهاجمهم في موقع الضعف فتحقق له أنه لا يمكنه
مهاجمتهم من الجناح الأيمن لإرتكازه على أخوار عميقة لا يمكنه إجتيازها تحت
نيرانهم ولا من الوسط أيضاً لما أقامه الترك من المعاقل عند تغيير وجهتهم وموقع
الضعف هو الجناح الأيسر لعدم وجود موانع طبيعية أو صناعية تمنع تقدمهم إلا
بعض أشجار من الزيتون متباعدة عن بعضها بحيث يتيسر المرور من بينها ولما
كان إبراهيم باشا معسكراً بين الجيش التركي والفرات أي أمام جناحه الأيمن ،
فلمهاجمة الجناح الأيسر لزمه أن يمرّ بكل جيشه أمام جيش الترك إلى أن يصل
إلى الجناح الأيسر ولا يخفى ما في مثل هذه الحركة من الخطر لأنه لو هاجمه
الأتراك في أثناء مروره لوقع الفشل في صفوف المصريين وكان الفوز للعثمانيين(1/185)
"""""" صفحة رقم 186 """"""
لكن أهمل حافظ باشا أن يأخذ بالرأي السديد وهو مهاجمته للمصريين أثناء
سيرهم أمامه فلم يبد حراكاً بل اتبع رأى من كان معه من الضباط الأتراك
المخالفين لرأى أركان الحرب الألمانيين .
ولما اقترب الجيش المصري من الجناح الأيسر لمح إبراهيم باشا هضبة مرتفعة
مشرفة على مواقع الترك ولم يحتلوها فأمر في الحال سليمان باشا باحتلالها
فركض سليمان باشا بجواره وتبعه السواري والطوبجية الراكبة وسار الكل
مسرعين نحو هذه الهضبة التي كان احتلالها من أكبر دواعي انتصار المصريين ،
وعند ذلك انتبه الأتراك من غفلتهم واستيقظوا من نومتهم لما رأوا اتجاه
المصريين نحوها وأدركوا أهميتها فأرسلوا عدة ألايات من سواريهم قصد احتلالها
وإبعاد المصريين عنها ولكن لحسن حظ المصريين كان سليمان باشا قد احتلها
مع عسكره قبل وصول الأتراك ، فلما وصلوا إليه أرسل عليهم نيرانه وألزمهم
العودة منهزمين .
ولما وصل الجيش المصري بتمامه إلى الجناح الأيسر لم ينتظر إبراهيم باشا
تجمع العسكر المعينين للهجوم ، بل هجم مع قليل من الجند على الجيش التركي
ليكون أول من دخل معاقلهم واحتل حصونهم ولكن لما كان المصريون المهاجمون
قليلين والجيش التركي كثيراً وناره قوية وقع الرعب في قلوب المهاجمين وامتنعوا
عن التقدم ومازال إبراهيم باشا يهددهم ويحثهم على الإقدام فلم يقبلوا بل
قفلوا عائدين . وكانت هذه أول مرة تقهقر فيها المصريون أمام الأتراك ولا لوم
عليهم في ذلك بل على قائدهم حيث لم يتأن وخاطر بحياته وجنده حباً في نوال
الشرف ، ولما رأى سليمان باشا تقهقر الجند صوّب عليهم نيران مدافعه حتى
ألزمهم التقدم إلى الأمام مفضّلين الموت مع الشرف على الحياة مع الخزى
والتلف خصوصاً إذا كان الموت محقّقا في كلتا الحالتين ، وبذلك تمكن إبراهيم
باشا من أن يحارب ويناضل إلى أن وصل الجيش بأجمعه واشترك مع المقدمة في
الهجوم ولما اشتدّت نار الوغى تزعزع الجناح الأيسر العثماني وأخذ في القهقري(1/186)
"""""" صفحة رقم 187 """"""
وابتدأ الأكراد بالهرب ، ولم يلبث باقي الجيش أن حذا حذوهم وولى الكل
الأدبار والتجؤا إلى الفرار وقتل في هذه المعركة خالد باشا أحد قوّاد الدولة
العلية المشهورين وأركان حربه المدعو إبراهيم بك الذي تخرّج في مدارس فرنسا
الحربية لأنهما لم يتركا مكانهما حتى قتلاً .
وأما الضباط الألمانيون وحافظ باشا ومن معهم من بقية الجيش فتقهقروا على
غير نظام مسرعين بالفرار إلى مدينة مرعش ، فعند ذلك اقتفى المصريون أثرهم
وأبلوا فيهم بلاءً حسناً ثم عادوا إلى المعسكر التركي فوجدوه على حالته حتى
أن بعض الضباط الألمانيين ومنهمم البارون ( دي مولتك ) تركوا ملابسهم
وأوراقهم وغنم المصريون كل ما في المعسكر من خيم ومؤن وذخائر ومن
المدافع 166 ومن البنادق 20 ألف وقتل في هذه الواقعة 4000 عثماني ومن
المصريين كذلك تقريباً ، لكن قتل المصريون من الأتراك في حال تتبعهم لهم ما
يبلغ خمسة أسداسهم فقد قال البارون ( دي مولتك ) في كتابه على الشرق أن
فرقة بكير باشا التي كان يبلغ عددها 5500 لم يبق منها إلا 350 نفساً وأن
فرقة محمود باشا لم يبق منها إلا 75 نفسا وأما السواري فلم يقتل منهم إلا
القليل لأنهم بادروا بالهرب ابتداء ، فأرسل إبرهيم باشا لوالده يبشره بهذا الفوز
العظيم الذي خلص مصر وأنقذها من التهديدات التي كانت تتوارد عليها ومما
زادها شرفاً أنها قاومت رجال الدولة العلية .
ولا يخفى ما ترتب على هذا النصر من الفوائد الجمة كتوطيد ملك محمد
على باشا في بلاد الشام وبلاد الجزيرة وإيقاع الرعب في قلوب سكان تلك
الجهات الذين كفوا عن أثارة الخواطر وبث الدسائس لتحققهم عدم قيام الدولة
العلية بمساعدتهم ، وكان عقب هذه الواقعة موت السلطان محمود خان الثاني
فتوفي في يوم 19 ربيع الآخر سنة 1255 الموافق أول يوليو سنة 1839 .
ولما مات وحضر الأطباء لتشخيص مرضه الذي كان سبباً لموته اختلفت
آراؤهم فيه فمنهم من قال أنه توفي بداء السل الرئوي ومنهم من قال أن موته(1/187)
"""""" صفحة رقم 188 """"""
مسبب عن اضطراب عصبي ومنهم من قال غير ذلك ، وكان له من العمر أربع
وخمسون سنة ومكثت خلافته إحدى وثلاثين سنة ، وخلفه على الملك بعده ولده
السلطان عبد المجيد خان الأول وكان عمره إذ ذاك 17 سنة . هذا وبعد أن
أتاح الله النصر لإبراهيم باشا توجه بنفسه للاستيلاء على المعسكر المحصن الذي
كان قد أقامه الأتراك في ( بلا جيك ) على ضفة الفرات اليمنى ووجه قوّاده
لاحتلال ملّطْيه وقونية ثم سافر في 27 الشهر ليحتل مدينة ( عيْن تاب ) التي
فتحت أبوابها للأتراك ، فوصلها وبعد أن احتلها بدون مقاومة وعفا عن مشايخها
سافر إلى مدينة قَيصّرية ليريح عساكره ويتقدم لفتح بلاد الأناضول .
وفي 29 منه وصل إليه الموسيو ( كابي ) وكان قد أرسله المارشال ( سولت )
وزير فرنسا الأول إلى محمد علي باشا ونجله إبراهيم باشا ليخبرهما بأن أوربا
جميعها حتى فرنسا عازمة على منع القتال بينه وبين الباب العالي وحسم الخلاف
الواقع بينهما بالطرق الحبية السلمية وكان سفره من باريس في 28 مايو سنة
1839 ووصوله إلى الإسكندرية في 13 يونيو فقابل محمد علي باشا وأخبره
بالمأمورية التي كُلَف بها وطلب منه أمراً لولده إبراهيم باشا بعدم الإبتداء
بالحرب وبعدم اجتياز جبل ( طوروس ) لو حصل الحرب قهراً عنه وانتصر هو
فيه ، فأجاب إلى ذلك محمد علي باشا ظاناً أن فرنسا كما أنها تلزمه بعدم الحرب
لابدّ أن تساعده لو تعدّى الباب العالي عليه وأعطى الموسيو ( كابي ) الجواب
المطلوب فسافر إلى اسكندرونة ومنها إلى حلب مستبشراً بنجاح مأموريته ولكن
لسوء حظه لما وصل حلب بلغه خبر انتصار إبراهيم باشا في ( نصيبين ) فسافر
لوقته إلى هذه الجهة ليمنعه عن اجتياز جبل ( طوروس ) فلم يجده فيها فاستفهم
عنه فقيل له أنه قام لتتميم انتصاره باحتلال مضايق الجبل وأنه وجه قواده
للإستيلاء على مدينتي ( قونية ) و ( مَلطْيَة ) الواقعتين فيما وراء الجبل .
فحار الموسيو ( كابي ) في أمره وأيقن بتداخل الدول وخصوصاً الروسيا
وانكلترا والنمسا لصد إبراهيم باشا عن أملاك الدولة العلية لو قصد التقدم إلى(1/188)
"""""" صفحة رقم 189 """"""
مركز الخلافة العظمى ، فطار بجناح السرعة إلى ( قَيصَرية ) فقابل إبراهيم باشا
أمامها وفاتحه بما أرسل لأجله من إيقاف سير العساكر المصرية نحو الأناضول
فاستشاط الباشا غيظاً وقال إن هذا الأمر مستحيل وكيف يجوز لقائد حائز على
النصر والغلبة أن يقف بطريقة ولا يتمم انتصاره لكن تيسر للموسيو ( كابي ) أن
يصدّ إبراهيم باشا عن مشروعه ويقنعه بعدم استمرار القتال ويمنعه من التقدم
إلى بلاد الأناضول فوعده بعدم احتلال مدينة ( قونية ) ولم ينثن عن احتلال
( ملطية ) وما جاورها من البلاد قائلاً أن احتلال هذه المدينة ضروري لحفظ بلاد
الشام من هجمات الأعداء .
فلم يقبل الموسيو ( كابي ) ذلك بل أظهر لإبراهيم باشا ضرورة عدم الخروج
عن حدود الشام خوفاً من أن تعتبر الدول الأروباوية ذلك تعدياً على أملاك
الباب العالي وتتداخل بينهما وربما أجبرته بالقوة على الرجوع وأن الجواب
المرسل إليه من والده يمنعه عن اجتياز جبال ( طوروس ) فلم يذعن إبراهيم باشا
لذلك بل عزم في نفسه على احتلال ملطية وأمر جيشه بالتأهب للسفر ، ولكن
لم يلبث الموسيو ( كابي ) أن عاود الكرة وألح عليه بالتنازل عن هذا المشروع لما
يترتب عليه من الضرر وبعد اللتيا والتي قبل إبراهيم باشا ذلك وأصدر
أوامره إلى قوّاده بذلك واكتفى باحتلال مدينتي مرعش وأورفه .
تسليم قبطان باشا الدونانمة التركية إلى محمد علي باشا :
وقد حدثت في خلال ذلك مسألة هيجت الخواطر في أوربا وهي أن أحمد باشا
قبودان الدونانمة التركية سافر إلى الإسكندرية وسلم الدونانمة المذكورة برجالها
ومدافعها إلى محمد علي باشا وذلك أنه في أثناء شهر يوليو سنة 1839 صدرت
الأوامر من قبل إلى هذه الدونانمة قبيل واقعة ( نصيبين ) بالخروج من بوغاز
الدردانيل قصد محاربة الدونانمة المصرية ، لكن كانت كل من فرنسا وانكلترا(1/189)
"""""" صفحة رقم 190 """"""
أرسلت دونانمة من طرفها لمنع انتشاب الحرب بين الدونانمتين التركية والمصرية
ولذلك لم يحصل بينهما قتال .
ولما تولى السلطان عبد المجيد أراد أن يحسم الخلاف بينه وبين محمد علي باشا
بالطرق السليمة لما تراءى له من أن ذلك أولى من استمرار القتال وسفك دم
العباد فعّين من يدعي عاكف أفندي للسفر إلى مصر للإتفاق على هدنة معينة
يمكن في خلالها إجراء المخابرات والإتفاق على طريقة مرضية للطرفين ، وكلف
عاكف أفندي المذكور ، أن يأمر أحمد باشا قبودان بالرجوع إلى القسطنطينية
فلما انتهى هذا الخبر إلى أحمد باشا وكان قد علم بموت السلطان محمود وتعيين
خسرو باشا صدراً أعظم ظن أن استدعاءه إلى إسلامبول لم يكن إلا لعزله أو
لقتله لما بينه وبين خسرو باشا من الضغائن ولعدم وجود من يدافع عنه ، لموت
السلطان محمود حيث كان محبه وصديقه الوحيد ، فصغا إلى ما وسوس له به
وكيله المدعوّ عثمان باشا الإلتجاء إلى محمد علي باشا وتسليمه الدونانمة .
وفي يوم 14 يوليو سنة 1839 أقلع بمراكبه وخرج من الدردانيل قاصداً
ثغر الإسكندرية فشاهده الأميرال ( لالاند ) إذ كان بمراكبه موجوداً بالقرب من
البوغاز المذكور ولكن لما كانت أوامره لا تبيح له التعرض لها في سيرها بل منع
القتال فقط ، اكتفى الأميرال الفرنساوي باتباعها ومراقبتها حتى إذا أرادت
القتال منعها طوعاً أو كرهاً وفي أثناء السير اقتربت منه بارجة عثمانية تقل عثمان
باشا وأشارت إليه بالإشارات البحرية أنه يريد الإجتماع بالأميرال فنزل
الأميرال بنفسه إلى البارحة ووجد عثمان باشا في انتظاره وبعد أن تحادثا ملّياً عن
موت السلطان محمود قال له عثمان باشا إن موته لم يكن عادياً بل هو ناشئ عن
دسائس خسرو باشا وخليل باشا صهر السلطان ، ولذلك قدم عزم هو وأحمد
باشا قبودان على السفر إلى جزيرة ( كريد ) للمخابرة مع حافظ باشا قائد
الجيوش البرية في الأناضول ومع محمد علي باشا والي مصر لإبرام تحالف بينهم
على طرد الصدر الأعظم خسرو باشا وشيعته وتولية مهامّ الدولة إلى من يوثق(1/190)
"""""" صفحة رقم 191 """"""
به من الرجال ، فحصل للأميرال ( لالاند ) من هذا الكلام دهشة وتوجس خيفة
من سوء عاقبة هذا المشروع ونتائجه الوخيمة فبذل جهده في إرجاعه عنه .
ولما لم يجد منه أذناً صاغية وكانت الأوامر المرسلة إليه من حكومته لا تبيح له
منعه نصحه بأن يسافر إلى جزيرة ( رودس ) التابعة للدولة العلية لأن جزيرة
( كريد ) كانت إذ ذاك تابعة لمصر ولا يجوز له أن يذهب لها فوعده عثمان باشا
بذلك وأقلع إلى جهة الجنوب فظن الأميرال ( لالاند ) أنه مسافر إلى ( رودس )
ولذلك كف عن مراقبته وأرسل سفينة واحدة لمرافقته . وفي الحال أيضاً أرسل
أحد ضباطه إلى إسلامبول لتبليغ سفير فرنسا ما حصل فوصل هذا الضابط في
7 يونيو وأخبر السفير بسفر الدونانمة إلى جزيرة ( رودس ) كما كان يظن
الأميرال ( لالاند ) فأخبر السفير في الحال الباب العالي لأخذ الاحتياطات اللازمة
وكذلك أخبر باقي السفراء ثم بعد هذا بقليل وصلهم خبر وصول الدونانمة
المذكورة إلى الإسكندرية فكان له تأثير مكدر بين رؤساء الدولة وسفراء الدول
ذات الشأن لأن الدولة العلية بهذه الكيفية لا تثق بأحد من قوّادها فكأنها لا
جيش ولا دونانمة لها .
فأرسلت الدول إلى قناصلها بالإسكندرية لتطلب من محمد علي باشا إرجاع
المراكب للدولة منعا لما عساه يحصل من إكراه الدول له على ذلك وألح عليه
قنصل فرنسا كثيراً فلم يصغ لنصائحهم بل عزم على أن لايردّها للدولة ما لم
تمنحه ولاية مصر وولايات الشام وآسيا الصغرى ، التي احتلها بعساكره وتكون
له ولذريته من بعده ، وتضمن له الدولة ذلك وتعزل خسرو باشا من منصب
الصدارة ، وفي يوم 24 يوليو عاد إلى القسطنطينية عاكف أفندي الذي كان قد
أرسل لمصر لإيقاف تقدم الجيوش المصرية ومعه رسالة من محمد علي باشا
يقول فيها أنه كتب لولده إبراهيم باشا بأن يقف بالنقط التي هو بها إلى أن تصدر له
أوامر جديدة وأنه لم يزل مصراً على عدم قبول الصلح والطاعة للباب العالي إلى
إذا منحه وذريته من بعده الولايات التي احتلها ، وكيف يقبل خلاف ذلك(1/191)
"""""" صفحة رقم 192 """"""
وساريم أفندي المندوب للباب العالي كان عرض عليه ملك مصر
وولايتي صَيدا وطرابُلُس ؟
تداخل الدول :
في يوم 27 من يوليو اجتمع وزراء الدول ليتداولوا فيما يلزم إتباعه في
المسألة المصرية منعاً لإبراهيم باشا من الزحف على القسطنطينية ، ولتداخل
الروسيا ، لا سيما وأنه جيش للدولة لا براً ولا بحراً فقر رأيهم على إعطاء
محمد علي باشا مصر والشام ما عدا قسم ( أطنه ) وبلاد العرب بشرط أن يكون
للباب العالي حق الاحتلال وإدارة كل من دمَشق و ( أوريشَلم ) ومكة والمدينة
وأن يدفع والي مصر خراجاً سنوياً قدره ثلاثون مليوناً قرشاً تركياً ( تساوي
ثلثمائة ألف جنيه مصري تقريباً ) وقرروا أيضاً أن يرسل إليه مندوبون لتبليغه
هذا القرار لكن قبل سفر هؤلاء المندوبين أرسل سفراء الدول إلى الباب العالي
لائحة مشتركة بتاريخ 28 يوليه ممضاة من سفراء فرنسا وانكلترا والنمسا
والروسيا وبروسيا يطلبون منه أن لا يقرر شيئاً في أمر المسألة المصرية إلا
بإطلاعهم واتحادهم وأنهم مستعدّون للتوسط بينه وبين محمد علي باشا لحل هذه
المسألة المهمة فأضطرّ الباب العالي أن يقبل هذا التداخل وأرسل إلى السفراء
يخبرهم أنه أوقف سفر المندوبين .
وكان الراغب أوّلاً في هذه اللائحة المسيو ( دي مترنيخ ) وزير النمسا الأول
أكبر ساسة عصره ليضع الدولة العلية تحت حماية الدول العظام أجمع ، فعرض ما
بداله على وزارات باقي الدول فوقع لديهم موقع الإستحسان والقبول حتى
الروسيا نفسها ، خوفاً من اتفاق باقي الدول ضدّها وحماية الدولة العلية بالقوة
كما حصل في حرب القرم سنة 1853 .
فاجتمع سفراء الدول أوّل اجتماع عند الصدر الأعظم في 30 يوليو سنة
1839 وتداولوا فيما يجب إعطاؤه لمحمد علي باشا فأبدى سفيراً انكلترا(1/192)
"""""" صفحة رقم 193 """"""
والنمسا ضرورة إرجاع الشام للدولة العلية وعارضهم في هذا الرأي سفيراً
فرنسا والروسيا وطلبا أن يمنح محمد علي باشا ملك مصر و ولايات الشام
الأربع لكن انحاز سفير البروسيا إلى الرأي الأول فتقرّر بالأغلبية ، ثم طلب
الموسيو ( دي مترنيخ ) أن يعقد مؤتمر دولي في مدينة ( فيينا ) أو ( لوندرة ) لإتمام
المداولات بشأن المسألة المصرية فلم يقبل منه ذلك عند الكل سيما فرنسا
وانكلترا فلم يقبلا ذلك ولم يميلا لهذا الطلب لعدم ثقتهم بالمسيو ( دي مترنيخ ) ،
وكذلك الروسيا لم تقبل تخويل مؤتمر دولي تحديد علاقاتها مع الباب العالي بل
أعلنت أنها مصّرة على التمسك بنصوص معاهدة ( انكارا سكله سي ) وهي حماية
الدولة بعساكرها ومراكبها ، وبالتالي احتلال معظم أملاكها بدون حرب لو
تعدى إبراهيم باشا حدود الشام .
فعند ذلك طلبت كل من فرنسا وانكلترا من الباب العالي التصريح لمراكبها
بالمرور من بوغاز الدردنيل لحمايته عند الضرورة من الروسيا ومن العساكر
المصرية وجاء الأميرال ( ستوبفورد ) بنفسه إلى القسطنطينية للحصول على هذا
التصريح ولما علم باقي السفراء بهذا الطلب اضطربوا وخشوا حصول شقاق
بين الدول المتوسطة وأعلن سفير الروسية بأنه إذا دخلت المراكب الفرنساوية
والإنكليزية البوغاز يقطع علاقاته السياسية مع الباب العالي ويسافر في الحال
وكانت حكومته أرسلت له مركباً حربياً ليسافر عليها إذا اقتضى الحال ذلك ،
وكتبت النمسا إلى وزارتي ( لوندرة ) و ( باريس ) بأن طلبها هذا مخل بسلم أوربا
وأنهما لو أصّرا عليه تخرج من التحالف وتحفظ لنفسها حرية العمل . فلما علم
الباب العالي بذلك خاف من تفاقم الخطب ورفض طلب حكومتي فرنسا
وانكلترا وطلب منهما إبعاد مراكبهما عن مدخل البوغاز .
فلهذه الأسباب وعدم الإتفاق بين وزراء الدول توقفت المخابرات إلى أوائل
شهر سبتمبر سنة 1839 حتى عرض اللورد ( بونسونبي ) سفير انكلترا لدى
الباب العالي أن دولته مستعدة لإكراه محمد علي باشا على رد الدونانمة التركية(1/193)
"""""" صفحة رقم 194 """"""
بشرط أن يكون لها حق إدخال مراكبها إلى خليج إسلامبول لصد الروسيا عندد
الضرورة ، فلما علمت بذلك حكومة فرنسا أرسلت إلى الإميرال ( لالاند ) قائد
أسطولها في مياه تركيا أمراً بتاريخ 18 سبتمبر سنة 1839 أنه لا يشترك مع
مراكب انكلترا في حركة عدوانية ضد حكومة محمد علي باشا فعلم الكل
أنه لابد من حصول خلاف بين فرنسا وانكلترا بخصوص المسألة المصرية
وأخذت الدول حذرها مما عساه يحصل من الأمور التي تنشأ بسبب هذا
الخلاف ، فأعلنت النمسا بأنها لا ترغب التداخل لعدم نجاح طلبها المختص
بانعقاد مؤتمر دولي في فيينا أو برلين وأعلنت بروسيا بأنهما يقبلان كل
ما تقرره الدول في هذا الشأن بشرط أن يكون موافقاً لرغبة الباب العالي وأن
يكون قبوله لهذا القرار صادراً عن كمال الحرية التامة فكأن الدول قبلت ما
تتفق عليه فرنسا وانكلترا بالإتحاد مع الباب العاي ، ولكن لم يتم الإتفاق بين
هاتين الدولتين لسعي انكلترا في إرجاع المصريين إلى حدودهم الأصلية وعدم
قبول فرنسا ذلك رغبة في مساعدة محمد علي باشا .
وذلك أن فرنسا كانت تود أن تكون ولايتا مصر والشام له ولذريته وإقليما
أطنة وطرسوس له مدة حياته ، وأما انكلترا فكانت لا تريد أن يعطي إلا ولاية
مصر لكن رغبة في إرضاء فرنسا قبلت أن يعطي مدة حياته نصف بلاد الشام
الجنوبي بشرط أن لا تكون مدينة عكا من هذا النصف ، فرفضت فرنسا هذا
الإقتراح وقالت كيف نجرده من كل فتوحاته خصوصاً بعد أن قهر الجيوش
العثمانية في واقعة ( نصيبين ) وأننا لو جردناه منها لتركنا له باباً للحرب مرة
أخرى وهو أمر لا تكون عاقبته حسنة لأن هذا شيء يوجب تداخل حكومة
الروسيا في أمر الدولة العلية بمقتضى العهودات ، ولا تكون نتيجة ذلك إلا حرباً
عامة فالأولى منعاً لسفك دماء العباد أن تعطي لمحمد علي باشا البلاد التي
فتحها ، لأنه أقوم بإدارتها وأحق بها لما تكبده من المشاق الصعبة والمصاريف
الزائدة و بذل الأرواح ، ولما علمت الدول بوقوع الخلاف بين فرنسا وانكلترا(1/194)
"""""" صفحة رقم 195 """"""
أعلنت النمسا وبروسيا رسمياً أنهما ينحازان إلى إحدى الدولتين التي لا تحرم
الدولة من أملاكها ، وبعبارة أخرى إلى انكلترا .
وأما الروسيا فأرادت أن تنتهز فرصة عدم اتحاد الدولتين لتقرير نفوذها في
الشرق وحق حمايتها للدولة العلية دون غيرها وأرسلت إلى لوندره البارون ( دي
برونو ) بصفة سفير فوق العادة فوصلها في أواخر سبتمبر سنة 39 وعرض على
حكومته بالنيابة عن قيصره أن الروسيا مستعدة لأن تترك لانكلترا حرية العمل
في مصر وتساعدها على إذلال محمد علي باشا بشرط أن تسمح لها بإنزال
جيش بالقرب من إسلامبول في مدينة ( سينوب ) الواقعة على شاطئ البحر
الأسود ببر الأناضول لكي يتيسر لها إسعاف الباب العالي لو أراد إبراهيم باشا
الزحف على القسطنطينية ، فصغا اللورد ( بالمرستون ) إلى كلام سفير الروسيا
ومال إلى هذا الرأي ميلاً شديداً ولولا استقباح الرأي العام له لقبله كل القبول
وسلمه كل التسليم ، لكنه لما رأى عدم موافقة الرأي العام لهذا المشروع اقترح
على الروسيا أن تعلن أولاً بتنازلها عما تخوله لها معاهدة ( أنكارا سكله سي ) من
حق حماية الدولة العلية فرفضت الروسيا ذلك وأجّلت المخابرات بشأن تسوية
المسألة المصرية إلى شهر يوليو سنة 1840 لعدم اتفاق الدول على حالة مرضية
للكل وافية بغرض الجميع ولتباينهم في الغايات والمقاصد
وفي خلال هذه المدة أرسلت الروسيا المسيو ( برونو ) ثانية إلى ( لوندرة )
ليطلب تعديل المشروع الأول ، بأن يخوّل لكل من انكلترا وفرنسا الحق في
إرسال ثلاث سفن حربية في بحر ( مَرمَره ) للإشتراك مع الجيش الروسي في حماية
إسلامبول لو هاجمها إبراهيم باشا فلم تفز الروسيا بمرامها في هذه المرة أيضاً ،
هذا ولما علم محمد علي باشا بهذه المخابرات وتحقق أن الدول الأوروباوية
عموماً وانكلترا خصوصاً ساعون في إرجاع جيوشه إلى مصر وجبره على ردّ
كل ما فتحه من البلاد ، وأن فرنسا لا يمكنها مساعدته ، فضلاً عن تعصب باقي
أوربا ومضادتها بأجمعها له أخذ في الاستعداد لصدّ القوة بالقوة بحيث لا يسلم(1/195)
"""""" صفحة رقم 196 """"""
شبراً من الأرض التي صرف ماله ورجاله في فتحها إلا مضطرًّا وكلف سليمان
باشا بتفقد سواحل الشام وتحصينها بقدر الإمكان سيما مدينتي ( عكّا )
و ( بيروت ) وأمر بتعليم كافة الأهالي جميع الحركات العسكرية وحمل السلاح ،
لكي يسهل له حفظ الأمن الداخلي بواسطتهم وصد المهاجمين بواسطة الجيش
المتدرب على الحرب ، ولزيادة جيشه استدعى من الأقطار الحجازية والنجدية
الجيوش المصرية المحتلة لها وأخذ أيضاً في توفير الأموال من بعض وجوه
مصاريفها وأطلق سراح محمد ابن عون شريف مكة الذي كان قد ألزمه الإقامة
بمصر من مدة . وبالجملة تخلى عن بلاد العرب وتركها هملاً كما كانت لإحتياجه
إلى المال والرجال لأنها كانت تكلفه سنوياً مبلغاً وقدره 700000 جنيه
مصري تقريباً بلا فائدة ، ثم أرسل جزءاً عظيماً من العساكر الواردة من بلاد
العرب إلى الشام للإستعداد لكل طارئ يطرأ وأرسل إلى ولده إبراهيم باشا
الأوامر المشدّدة بأن يجتهد في إطفاء كل ثورة جزئية يبديها سكان الجبل من
أي طائفة خوفاً من اشتداد الخطب في الداخل حين الإحتياج للإنتباه لما يأتي من
الخارج .
ثم في أوائل سنة 1840 عاودت النمسا الكرة وطلبت من الدول اجتماع
مؤتمر في مدينة فيينا لتسوية هذه المسألة التي أقلقت بال الجميع فقبلت الدول
عقده في مدينة لوندره ، لا فيينا ، وطلبت فرنسا أن يكون للباب العالي مندوب
خصوصي في هذا المؤتمر مراعاة له لكونه له السيادة العظمى على البلاد المتنازع
بخصوصها .
فلما اجتمع هذا المؤتمر طلبت فرنسا إبقاء الشام كلها تحت يد محمد علي
باشا ، فعارضتها الحكومة الإنكليزية في ذلك وأصرت على ما طلبته أولاً وهو
أنه لا يعطي له إلا النصف الجنوبي منها لكنها قبلت أخيراً بناء على إلحاح فرنسا
إدخال عكّا ضمن هذا القسم بشرط أن تكون مدة حياته فقط ولا تنتقل إلى
ورثته بعد موته بل تعود إلى الدولة العلية ، وقبلت الروسيا والنمسا والبروسيا(1/196)
"""""" صفحة رقم 197 """"""
ذلك ، لكن لم تقبله فرنسا بحجة أن حرمان ورثة محمد علي باشا من بلاد صرف
السنين الطوال عليها في فتحها ليتركها لهم بعد موته مما يزيد في حنقه على دول
أوربا وربما لم يقبل هذا القرار المجحف بحقوقه فتلتزم الدول بإكراهه وسفك دماء
العباد ظلماً ، الأمر الذي لم تجر هذه المخابرات إلا لمنعه فشدّدت انكلترا
وخصوصاً اللورد بالمرستون وزيرها الأول ، وأبت إلا رجوع ما يعطي لمحمد علي
باشا من البلاد الشامية إلى الدولة العلية بعد موته ، فمن عدم الإتفاق وتشتت
الآراء وبعُد الوفاق لم ينجح هذا المؤتمر وبقيت الحالة على ما هي عليه ثم لما تولى
الموسيو ( تيرس ) رياسة الوزارة الفرنساوية في أول مارث سنة 1840 لم يتبع
خطة سلفائه في إنهاء المسألة المصرية بالإتحاد مع انكلترا بل أراد أن يضع لها حداً
باتفاقه رأساً مع الباب العالي ومحمد علي باشا بأن يلزم الباب العالي أن يترك
لمحمد علي باشا ، ولايات مصر والشام له ولذريته ، ويهدده بمساعدة فرنسا لوالي
مصر إن لم يذعن الباب العالي لهذه المطالب .
فأرسل لمحمد علي باشا يخبره بأن لا يقبل مطالب انكلترا ، بل يقوّى مركزه
في الشام ويتأهب للكفاح وأن فرنسا مستعدة لنجدته لو عارضته انكلترا .(1/197)
"""""" صفحة رقم 198 """"""
صفحة فارغة(1/198)
"""""" صفحة رقم 199 """"""
8 - معاهدة 15 يوليو سنة 1840
فلما علم اللورد بالمرستون بهذه المخابرات حنق على الحكومة الفرنساوية
وبذل جهده في الإتفاق مع الروسيا وبروسيا والنمسا لإرجاع محمد علي باشا
إلى حدود مصر وإلزامه بالقوة إن لم يطع ، ولقد نجح بالمرستون في مسعاه
وأمضى بتاريخ 15 يوليو سنة 1840 مع من ذكر من الدول معاهدة صدق
عليها مندوب الدولة العلية مقتضاها ( أوّلاً ) أن يلزم محمد علي بإرجاع ما
فتحه للدولة العلية ويحفظ لنفسه الجزء الجنوبي من الشام مع عدم دخول مدينة
( عكّا ) في هذا القسم ( ثانياً ) أن يكون لإنكلترا الحق بالإتفاق مع النمسا في
محاصرة فُرض الشام ومساعدة كل من أراد من سكان بلاد الشام خلع طاعة
المصريين والرجوع إلى الدولة العلية وبعبارة أخرى تحريضهم على العصيان
لإشتغال الجيوش المصرية في الداخل كي لا تقوى على مقاومة المركب
النمساوية والإنكليزية ( ثالثاً ) أن يكون لمراكب الروسيا والنمسا وانكلترا معاً
حق الدخول في البوسفور لوقاية القسطنطينية لو تقدمت الجيوش المصرية نحوها .
( رابعاً ) أن لا يكون لأحد الحق في الدخول في مياه البوسفور ما دامت
القسطنطينية غير مهدّدة . ( خامساً ) يجب على الدول الموقع مندوبوهم على هذا
الإتفاق أن تصدق عليه في مدة لا تزيد عن شهرين بحيث يكون التصديق في
مدينة لوندرة .
وشفعت هذه المعاهدة بملحق مصدّق عليه من مندوب الدولة العلية مبين فيه
الحقوق والإمتيازات التي يمكن منحها لمحمد علي باشا ، وقبل إمضاء هذه
المعاهدة ابتدأت انكلترا في تحريض سكان لُبنان من دروز ومارونية ونصيرية
على شق عصا الطاعة وأرسل اللورد ( بونسونبي ) سفيرها لدى الباب العالي
ترجمانه المستر وود إلى الشام لهذه الغاية وأعلم بذلك اللورد ( بالمرستون ) برسالة
تاريخها 29 يونيو سنة 1840 محفوظة في سجلات المملكة . وبمجرد وصول
المستر وود إلى محل مأموريته أخذ في نشر ذلك بين الأهالي ولقد نجح في(1/199)
"""""" صفحة رقم 200 """"""
مأموريته وأشهر الجبليون العصيان وتجمعوا متسلحين وامتنعوا عن تأدية الخراج
والمؤن العسكرية ، لكن لم تتسع هذه الثورة الإبتدائية لتداركها في أوّلها فأرسل
المدد من مصر ، واهتم كل من إبراهيم باشا وسليمان باشا وعباس باشا في
إخمادها فأطفئت قبل أن يتعاظم أمرها وعادت السكينة في كافة الأنحاء .
ومن ثم أخذ سليمان باشا في تحصين مدينة بيروت لعلمه أنها أول مينا معرضة
لمراكب الانكليز وكذلك بنى القلاع لحماية كل الثغور ووضع بها المدافع
الضخمة ولكن لسوء الحظ لم تُجد هذه الإستحكامات نفعاً أمام مراكب
الإنكليز والنمسا كما سيجيء .
ولما علمت الحكومة الإنكليزية أن المرحوم محمد علي باشا مهتم في إرسال
العساكر والذخائر على طريق البحر إلى الشام أرادت أن تعارضه وتعاكسه ، أما
بأخذ دونانمته أو تشتيتها وتفريقها ليتعذر إرسال المدد برًّا لوجود الصحراء
الرملية الفاصلة بين مصر والشام من طريق العريش فأرسلت أوامرها في أوائل
شهر يوليو سنة 1840 إلى الكومودور ( نابير ) بأن يتوجه بمراكبه إلى مياه الشام
ومصر لإستخلاص الدونانمة التركية لو خرجت من ميناء الإسكندرية وأسرأو
إحراق الدونانمة المصرية لو قابلها فلما علمت فرنسا بهذا الخبر أرسلت إحدى
بوارجها البخارية إلى بيروت لتبليغ قائد الجيوش المصرية هذا الخبر المشؤم
فرجعت في الحال المركب المصرية إلى الإسكندرية حتى إذا وصل الكومودور
نابير لم يجدها فاغتاظ لذلك ويقال أنه قبل أن يبارح مياه بيروت أرسل إلى
سليمان باشا كتابا بتاريخ 14 يوليو يظهر له فيه تكدره من إجراءات القواد
المصريين في الشام ومعاملتهم الثائرين بالقوة وأنهم أن لم يكفوا عن أعمالهم
البربرية اضطر للتداخل وإنزال عساكره إلى بيروت فأجابه سليمان باشا بأنه لا(1/200)
"""""" صفحة رقم 201 """"""
يقبل ملحوظاته ويعلمه بأنه لا يخاطبه من الآن فصاعداً ، وإذا كان عنده
ملحوظات مثل هذه فليبدها لمحمد علي باشا .
ولم يبتدئ شهر أغسطس سنة 1840 إلا وقد ورد خبر معاهدة 15 يوليو
إلى مصر والشام ووردت الأوامر إلى الدونانمة الإنكليزية بمحاصرة سواحل
الشام وأسر المراكب المصرية ، حربية كانت أو تجارية ، فعاد نابير إلى بيروت بعد
أن أخذ في طريقة كل ما قابله من المراكب فوصلها في 14 أغسطس ، وأعلن
العساكر المصرية بإخلاء بيروت وعكّا في أقرب وقت ونشر في أنحاء الشام
منشورات لإعلام الأهالي بما قررته الدول من إرجاع الشام لمصر ما عدا عكّا
وتحريضهم على العصيان على الحكومة المصرية وإظهار ولائهم للدولة العلية
العثمانية .
وفي يوم 14 أغسطس بلغ خبر هذه المعاهدة رسمياً إلى محمد علي باشا وأتت
إليه بعد ذلك قناصل الدول الأربع المتحدة وعرضوا عليه باسم دولهم أن تكون
ولاية مصر له ولورثته وولاية ( عكّا ) له مدة حياته وأمهلوه 10 أيام لإعطاء
جوابه ، فطلب منهم كتابة بذلك فلّبوا طلبه ، ثم في اليوم التالي أفهموه أن فرنسا
لإعطاء لا يمكنها مساعدته قط لتصميم الدول على تنفيذ ما اتفقت عليه ولو أدّى ذلك
إلى حرب أوربي لكنه أصر على عدم القبول والدفاع عن حقه إلى آخر رمق من
حياته . وفي يوم 26 أغسطس الذي هو غاية الميعاد المعطى له حضر إليه القناصل
ومعهم مندوب الدولة وأخبروه أنه لا حق له الآن في ولاية ( عكّا ) ، وأن الدول
لا تسمح له إلا بولاية مصر فقط له ولذريته فاحتدّ عليهم غضباً وطردهم من
عنده قائلاً لهم كيف يجوز أن أسمح لكم بالمقام في بلادي وأنتم وكلاء أعدائي في
هذه الديار ، فانصرفوا وأعطوه عشرة أيام أخر لإبداء جوابه بحيث أن لم يجاوب
تكون الدول غير مسئولة عما يحصل له من الضرر وبعد انقضاء هذه المدة بدون
أن يصل إليهم جوابه كتب القناصل بذلك إلى سفراء الدول بإسلامبول(1/201)
"""""" صفحة رقم 202 """"""
فاجتمعوا عند الصدر الأعظم وقرّروا بإتحادهم أخذ مصر والشام من محمد علي
باشا .
وفي أثناء هذه المدة كانت فرنسا ، إتباعاً لرأي المسيو تيرس ، تستعد للقتال
مساعدة لمحمد علي باشا ولكن لسوء حظ الأمة المصرية كانت هذه
الإستعدادات غير كافية ولا تتم إلا بعد ستة أشهر لعدم وجود السلاح
والذخائر الكافية للحرب ، لا سيما وأن فرنسا تكون في هذه الحالة مقاومة
لأكبر دول أوربا ولما تحقق أهالي فرنسا أن حكومتهم لا تقوى على مساعدة
محمد علي باشا فعلاً بعد أن جرّأته على المقاومة ووعدته بالمساعدة هاج الرأي
العام على الموسيو تيرس المعضد لهذه السياسة ، التي عادت على مصر بالضرر
العظيم ، حتى التزم بالإستعفاء في يوم 29 أكتوبر سنة 1840 لكن لم يجد
استعفاؤه لمصر نفعاً لوقوعها بمفردها أمام أربع دول من أعظم الدول شأناً
وأعلاهم مكانة وأكثرهم قوة إذ أرسلت فرنسا أوامرها لدونانمتها أوّلاً
بالإنسحاب إلى مياه اليونان ثم بالعودة إلى فرنسا وترك مصر والشام لمراكب
انكلترا تحرق موانيها بمقذوفاتها الجهنمية وكان رجوع الدونانمة الفرنساوية
في 9 أكتوبر سنة 1840 أي قبل استعفاء المسيو تيرس بعشرين يوماً .
إطلاق المدافع على موانئ الشام :
هذا ولم تشترك الدول الأربع في محاربة محمد علي باشا بل قامت انكلترا
وحدها بهذا العمل وساعدتها النمسا والدولة العلية ببعض من مراكبها
وعساكرها البرية للنزول إلى البر إذا أقتضى الحال ذلك ، وأما دولة البروسيا فلم
يكن لها مراكب إذ ذاك والروسيا لم ترد الابتعاد عن القسطنطينية ولما وصل إلى
سليمان باشا بلاغ الكومودور نابير وعلم بمنشوراته للأهالي أعلن في الحال بجعل
البلاد تحت الأحكام العسكرية وذلك خوفاً من قيام الجبليين إتباعاً للإنكليز ،
وأدخل في مدينة بيروت العدد الكافي من الجند وأرسل لإبراهيم باشا أن يحضر(1/202)
"""""" صفحة رقم 203 """"""
إليه بجيشه الذي كان معسكراً بقرب مدينة ( بعلبك ) ليشتركا في المدافعة عن
موانئ الشام فوصل إبراهيم باشا إلى بيروت وعسكر في ضواحيها وفي أوائل
شهر سبتمبر سنة 1840 وصل الأميرال ( ستوبفورد ) الذي كان يجول بمراكبه
أمام الإسكندرية إلى مياه بيروت ليشترك مع ( الكومودور نابير ) في إطلاق
المدافع على موانئ الشام وفي 10 منه وصلهما العساكر البرية وكانت مؤلفة
من ألف وخمسمائة من البيادة الإنكليزية وثمانية آلاف بين أتراك وأرنؤد .
وفي يوم 11 منه أنزلت هذه العساكر إلى البر في نقطة تبعد نحو ستة أميال في
شمال بيروت ولم يتمكن إبراهيم باشا من منعهم لوجود هذه النقطة تحت حماية
المدافع الإنكليزية وفي ظهر ذلك اليوم وبعد نزول هذه العساكر إلى البر أرسل
إلى سليمان باشا بلاغ من الأميرالين الإنكليزي والنمساوي بأن يخلى مدينة
بيروت حالاً فطلب منهم مسافة أربع وعشرين ساعة كي يتداول مع إبراهيم
باشا في هذا الأمر الجلل ، فلم يقبل طلبه وابتدئ في إطلاق المدافع على المدينة
واستمر الإطلاق حتى المساء وابتدئ أيضاً في اليوم التالي قبل الفجر ولم ينقطع
إلا بعد هدم أو حرق أغلب المدينة وأُحرقت كذلك كل الموانئ الشامية قصد
استخلاصها من محمد علي باشا وإرجاعها إلى الدولة العلية كما كانت ، مع أن
محمد علي باشا لم يأت بأمر يدل على رغبته في الخروج من تحت ظل الراية
العثمانية بل لم يزل مؤكداً إخلاصه وولاءه للدولة ولم يطلب إلا بقاء هذه
الولايات له ولذريته مع تبعيتهم للباب العالي ودفعهم الخراج له اعترافاً ببقاء
تلك التبعية ولولا تقلب الأحوال بينه وبين السلطان لتم بينهما الإتفاق على
أحسن وفاق وحقنت دماء العباد ويدل على رغبة الطرفين في ذلك إرسال
الباب العالي ساريم بك أولاً وعاكف أفندي ثانياً إلى محمد علي باشا لحلّ هذه
المسألة .
ولا يخفى أن محمد علي باشا هو الذي خلص مصر من فئة المماليك الباغية
ونشر بجميع جوانبها لواء الأمن وتسبب في ازدياد الزراعة ونموّ التجارة حتى(1/203)
"""""" صفحة رقم 204 """"""
توفرت لمصر أسباب التمدن وتيسر بهذه الكيفية لقوافل التجارة الأورباوية
المرور بين الإسكندرية والسويس بدون خوف من تعدي أحد عليها ، وله الفضل
أيضاً في استئصال شأفة الوهابيين من بلاد العرب وإعادة الأمن إلى طريق
الحجاج واستخلص منهم مدينتي مكة والمدينة بعد أن استحال إذلالهم على
أيدي العساكر الشاهانية ، فضلاً عن أنه هو الذي فتح بلاد الروم ، ولولا ما
حصل لأعادها إلى الدولة العلية بعد ما يئست من رجوعها إليها وهو الذي أعاد
الأمن إلى ربوع الشام بعد احتلاله لها ومنع تعدّي البدو على الحضر كما أنه
أبطل القتال المستمر الذي كان لا ينقطع دائماً بين الدروز والمارونية الأمر الذي
لم يحصل قبل احتلاله ولا بعده وقد انحرف الأمير الكبير بشير عن موافقة
إبراهيم باشا بعد أن حافظ على ولائه مدّة ، رغبة في أن يعطى له من لدن الباب
العالي اسم أمير الجبل وينادي له بذلك على رؤس الأشهاد ، فانعكس عليه أمره
وعاد عليه شؤم خيانته فعُزل عن إمارة الجبل وألزم بمفارقة الشام فانتبه من
غفلته وندم على ما كان منه من الزلل حيث لا ينفعه الندم ثم أوصلته إحدى
السفن الإنكليزية إلى بيروت فقابله هناك الأميرال ستوبفورد وبعد أن عنفه على
تذبذبه الذي حصل منه ونفاقه الذي أداه إلى أن يتبع الأقوى شوكة ، وعدم
حفظه للعهود ، أمر بإرساله وتابعيه مع قليل من عائلته إلى جزيرة مالطة ولم يجبه
إلى ما طلبه من إرساله إلى إيطاليا أو فرنسا فوصل هذه الجزيرة في أول نوفمبر
سنة 1840 وكان عمره إذا ذاك خمساً وثمانين سنة وأمضى ما بقي من عمره
مفكراً في سرعة زوال النعمة وسوء عاقبة التذبذب وأن الأحوط للإنسان
والأجدر به أن يحافظ على عهوده لأنه لو مات مع المحافظة عليها لمات بشرف
والمجد ولو عاش مع الخيانة والتلون لعاش مع الفضيحة والعار وتوفي في سنة
1850 في قسطنطينية .(1/204)
"""""" صفحة رقم 205 """"""
إخلاء المصريين بلاد الشام :
هذا ولنقل بالإختصار ، إن المراكب الإنكليزية والعساكر المختلطة التي
أنزلت إلى البر في عدة مواضع تمكنت من أخذ جميع المدن الواقعة على البحر
وإخراج المصريين منها حتى لم يكن لمحمد علي باشا بدّ من الإذعان إلى مطالب
أوربا ، وأنه من العبث المحض مقاومة الدول المتحدة فأصدر أوامره إلى ولده
إبراهيم باشا بعدم تعريض عساكره للقتال والموت بلا فائدة وباستدعاء الجنود
المعسكرة في حدود الشام والإنجلاء عنها مع إتخاذ أنواع الإحتراس الكلي من
العرب وسكان الجبل ، فبلغ إبراهيم باشا هذه الأوامر إلى القواد جميعهم وأخذ
الجنود في الرجوع من كل فج وصاروا يتجمعون حول قائدهم الأعظم الذي
قادهم غير مرة إلى النصر والظفر وبعد ذلك قسم الجيش عدة فرق كل منها
تحت إمرة أحد ممن اشتهر من القواد بالبسالة والتبصر في عواقب الأمور وصار
الكل راجعين إلى مصر تاركين البلاد التي سفكوا فيها دمائهم وسيتركون فيها
قبور إخوانهم .
وكان إبتداء الجيش في الرجوع إلى مصر في أواسط شهر ديسمبر سنة
1840 ووصل الكل إلى القاهرة بعد أن ذاقوا مرارة النصب وتحملوا أنواع
الذل والتعب وقاسوا شديد الوصب ، مما تكل عن وصفه الأقلام ولا تحيط بنعته
الأوهام ويكدر الأذهان فضلاً عن موت كثير منهم في الطريق بسبب مناوشات
العرب الذين زادت همتهم وجراءتهم لما تحققوا من عدم تمكن المصريين من
العودة ورائهم واقتفاء آثارهم ومع ذلك فتمكن سليمان باشا من إرجاع مائة
وخمسين مدفعاً بخيولها إلى مصر ، وكثير من خيول السوارى التي هلك قسم
عظيم منها بسبب العطش وشدة التعب .
وأما إبراهيم باشا وفرقته فلم يمكنهم العودة إلى القاهرة من طريق صحراء
العريش لشدة ما لاقوه أثناء مرورهم في فلسطين من معارضة العرب لهم الذين
سدوا عليهم الطريق واحتلوا جميع القناطر المبنية على الأنهر حتى اضطر لمحاربتهم(1/205)
"""""" صفحة رقم 206 """"""
في كل يوم بل وفي كل ساعة ، وأخيراً وصل مدينة غزة بعد أن استشهد في
الطريق ثلاثة أرباع من معه وكثير من المستخدمين الملكيين الذين أرادوا الرجوع
إلى وطنهم مع عائلاتهم ، فلما وصل غزة كتب لوالده إشعاراً بقدومه وطلب منه
إرسال ما يلزم من المراكب لنقل فرقته إلى الإسكندرية وما يلزم لمؤنتهم
وملبسهم .
وفي أثناء هذه المدة عرض الكومودور نابير على محمد علي باشا أن الحكومة
الإنكليزية تسعى لدى الباب العالي في إعطاء مصر له ولورثته ، لو تنازل عن
الشام وردّ الدونانمة التركية إلى الدولة العلية فامتثل لهذا الأمر وقبل هذه
الشروط لحفظ مصر لذريته وتم بينهما الإتفاق في 27 نوفمبر سنة 1840 . ولم
يقبل الباب العالي هذا الإتفاق إلا بعد تردد وإحجام وتداول عدة مخاطبات بينه
وبين وكلاء الدول الأربع المتحدة المجتمعين بمدينة لوندرة بصفة مؤتمر وصدر
بذلك فرمان همايوني في تاريخ 21 ذي الحجة سنة 1256 ( 13 فبراير سنة
1841 ) هذا مؤداه .
أولاً : أن الولاية تكون لمن يختاره الباب العالي من أولاد محمد علي باشا الذكور
ثم لأولاد أولاده الذكور وهلم جرا بحيث لا يكون لأولاد البنات الحق في الحكم
مطلقاً .
ثانياً : يجب على من يعينه السلطان والياً على مصر أن يسافر بنفسه إلى
القسطنطينية لإستلام فرمان التولية بيده .
ثالثاً : أن الذي ينتخب والياً لمصر يعتبر كأحد وزراء الدولة في مخاطباته مع
الباب العالي المراسلات السلطانية بحيث لا يكون له أدنى امتياز عنهم من هذه
الحيثية مطلقاً .(1/206)
"""""" صفحة رقم 207 """"""
رابعاً : أن والي مصر يكون ملزماً بإتباع أحكام فرمان التنظيمات الذي
أصدره السلطان عبد المجيد عند توليته ، وكل ما صدر أو يصدره الباب العالي
من القوانين واللوائح ويكون الوالي ملزماً أيضاً بالسير في ولايته طبق المعاهدات
المبرمة أو التي تبرم بين الباب العالي والدول الأجنبية أيا كانت بدون تغيير ولا
تبديل ، بما أن الحكومة المصرية لم تخرج من كونها ولاية عثمانية كباقي الولايات
خامساً : أن سائر الضرائب على اختلاف أنواعها يكون تحصيلها باسم الجناب
السلطاني ويكون تحصيلها وتوزيعها بحسب القواعد المتبعة في باقي ولايات
الدولة العلية .
سادساً : أن ربع المتحصل من الضرائب يدفع إلى الخزينة الشاهانية والثلاثة
أرباع الباقية يصرف منها ما يلزم لمصاريف الإدارة وجباية الأموال وما يلزم
أيضاً للوالي وعائلته وثمن البُر الذي يرسل سنوياً إلى مدينتي مكة والمدينة
المنورة .
سابعاً : أن هذه الضريبة يصير دفعها مدة خمس سنين تبدأ من سنة 1257
هجرية وبعد انقضاء هذه المدة يمكن تعديلها إما بزيادة أو نقصان حسب ما
تستدعيه ثروة الحكومة والأهالي .
ثامناً : أنه لضبط المتحصل من الضرائب ومعرفة ما يخص الدولة بالتحقيق يلزم
أن تعين لجنة من الدولة تقيم في مصر لهذه الغاية وينظر في تعيينها بعد ، كما
تقتضيه الإدارة الشاهانية .
تاسعاً : يكون لمصر الحق في ضرب العملة من فضية وذهبية ونحاسية بشرط أن
يكون ذلك باسم السلطان المعظم وأن لا تختلف العملة المصرية عن العملة
العثمانية لا في الشكل ولا في الهيئة ولا في العيار .(1/207)
"""""" صفحة رقم 208 """"""
عاشراً : عدد الجيش المصري يجب أن لا يتجاوز ثمانية عشر ألفاً مدة السلم أما
في حالة الحرب فيزداد هذا المقدار إلى الحد الذي تقرره الدولة بما أن العساكر
المصرية ملزمة إذ ذاك بالإشتراك والمساعدة في القتال مع باقي الجنود الشاهانية .
حادي عشر : أن مدة الخدمة العسكرية يجب أن لا تتجاوز خمس سنين ويكون
جمع العسكر بطريق القرعة كما هو المتبع في الدولة ، وحيث أن الجيش المصري
كان يبلغ في ذاك الوقت زهاء ثمانين ألفاً فيؤخذ منهم عشرون ألفاً ويصير
إرجاع الباقي إلى بلادهم ويرسل أيضاً من هذا القدر ألفان إلى دار السعادة كي
لا يبقى في مصر إلى الثمانية عشر ألفاً المقررة .
ثاني عشر : حيث أن مدة الخدمة العسكرية خمس سنين فيؤخذ سنوياً من أنفار
القرعة أربعة آلاف شاب يرسل منهم إلى دار الخلافة أربعمائة ويبقى الباقون في
مصر .
ثالث عشر : أن من أَدَّى مدة الخدمة المطلوبة من الجند يعود إلى بلده ولا يجوز
إدخاله في الجيش مرة أخرى .
رابع عشر : أن ملابس العساكر المصرية وعلامات رتبهم تكون متشابهة لجنس
ولون ملابس العساكر الشاهانية .
خامس عشر : كذلك ملابس البحار وضباط البحرية وبيارق المراكب تكون
مماثلة لما هو متبع في بحرية الدولة العلية .
سادس عشر : لا يكون لوالي مصر الحق في منح الرتب العسكرية للضباط
البحرية والبرية إلا لغاية رتبة صاغ قول أغاسي بدخول الغاية في المغيا .
سابع عشر : لا يكون لوالي مصر الحق في إنشاء سفن حربية إلا بعد الحصول
على إذن صريح من الدولة العلية .
ثامن عشر : حيث أن حق الوراثة على ولاية مصر لم يمنح لمحمد علي باشا
وعائلته إلا بهذه الشروط فلو أخلوا بإحدها ، سقط حقهم وصار لجلالة السلطان
الحق في تولية من يشاء .(1/208)
"""""" صفحة رقم 209 """"""
ولقد منحه الباب العالي أيضاً ولايات النوبة ودارفور وكردفان وسنار مدة
حياته بدون أن تنتقل إلى ورثته كمصر ، بمقتضى فرمان شاهاني أصدر في اليوم
الذي أصدر فيه الفرمان الأول أعني في 13 فبراير سنة 1841 وكُلِّف أن يقدم
حساباً عن هذه الولايات سنوياً إلى دار الخلافة العظمى ، وأن يمنع ما كان متبعاً
في السودان من إغارة الجند على قرى الأهالي وخطف بناتهم وصبيانهم ليبيعوها
ويستولوا على ثمنها خصماً من ماهياتهم ومرتباتهم ، وأن تمنع كلية عادة خصى
بعض هؤلاء التعيسي الحظ لإستخدامهم في السرايات بصفة حرس على الحريم
( أغاوات ) ، وأن يحفظ للضباط الموجودين رتبهم ويرسل إلى الباب العالي قائمة
بأسمائهم من الرتبة التالية لصاغ قول أغاسي فما فوق ليصدر أمره بتثبيتهم في
وظائفهم .
فقبل محمد علي باشا كل هذه الشروط ولو عن غير رضا ثم طلب من الدول
أن تساعده في تخفيف بعضها وتغيير البعض الآخر فقبلت ذلك وأرسلت إلى
الباب العالي لائحة بتاريخ 13 مارث سنة 1841 طلبت منه بها أن يعامله على
حسب ما هو مدوّن بملحق معاهدة 15 يوليو سنة 1840 وبلائحة 30 يناير
سنة 1841 فتنازلت الحضرة السلطانية بمقتضى فرمان تاريخه 19 إبريل سنة
1841 بتحوير فرمانها الصادر في 13 فبراير سنة 1841 وهاك أهم ما فيه من
الشروط :
أولاً : أن حق الوراثة يكون للأكبر سناً بين أولاده وأولاد أولاده الذكور مع
بقاء الشرط الملزم لمن يستحق الولاية بهذه الكيفية بالسفر إلى مقرّ دار الخلافة
العظمى لإستلامه الفرمان بيده .
ثانياً : أن ما تدفعه الحكومة المصرية للدولة العلية صاحبة السيادة بصفة خراج
لا يكون ربع إيراد الحكومة قبل خصم مصاريف الجباية والإدارة بل يصير
تقديره فيما بعد مع مراعاة حالة الحكومة المصرية .(1/209)
"""""" صفحة رقم 210 """"""
ثالثاً : أن يكون للوالي حق في منح الرتب لغاية رتبة أمير ألاي بدخول الغاية في
المغيا ، أمّا ما فوق ذلك فلا يكون إلى بإذن من الباب العالي .
ولما أقرت الدول على هذا التحوير بمقتضى لائحة تاريخها 10 مايو سنة
1841 أصدرت الحضرة الشاهانية فرماناً آخر في 11 ربيع آخر سنة 1257
الموافق أول يونيو سنة 1841 مؤيد لما في الفرمان السابق وفي غرة جمادى
الأولى سنة 1257 ( 20 يوليو سنة 1841 ) صدر فرمان آخر يجعل مقدار ما
تدفعه الحكومة المصرية إلى الدولة العلية سنوياً ثمانية آلاف كيسة .
وبذا انتهت المسألة المصرية ونال الباب العالي مرغوبه من إرجاع الحكومة
المصرية إلى حدودها ، ورجوع الشام إلى الحكومة العثمانية فعاد هذا القطر إلى ما
كان عليه من الفوضى وعدم الإتفاق بين الشعوب العديدة النازلة به المختلفة
المذاهب والعقائد والعوائد حتى لا تمر سنة إلا ويحصل به ما يخل بالراحة
العمومية بين الدروز والنصارى الأمر الذي كان امتنع كلية في المدة التي كانت
البلاد فيها تابعة للحكومة المصرية أي من سنة 1831 إلى أواخر سنة 1840
وما كان ذلك إلا لحسن إدارة الحكومة المصرية وشدّة بطش إبراهيم باشا
ومن تحت أمره ومعاملتهم الأهالي بالعدل والقسطاس بدون نظر إلى دياناتهم
وجنسيتهم ولو استمرت تبعيتها لمصر مدة نصف قرن فقط لزال ما بين الأهالي
من العداوة والبغضاء وساروا باتحاد تام في طريق التقدم .
هذا ولما وصل محمد علي باشا كتاب ولده إبراهيم باشا بطلب ما تقدم
أرسل إليه كل ما يلزم لإرجاع الجند ومن معهم من المستخدمين الملكيين(1/210)
"""""" صفحة رقم 211 """"""
وعائلاتهم لما أخذ العساكر في النزول إلى المراكب أرسل إليه الكومودور نابير
بأن يترك في مدينة غزة كل من بجيشه من السوريين ليرجعوا إلى بلادهم وجبالهم
لما أن الشام قد انسلخت عن مصر وأعيدت إلى الحكومة العثمانية فالتزم
بتركهم وكان لذلك تأثير محزن في قلوب المصريين لما علموا أن كل أتعابهم وما
سفكوه من دمائهم وما فقدوه من إخوانهم في ميادين القتال لم يعد على وطنهم
بشيء بل ذهب أدراج الرياح ولكنهم تسلوا عن ذلك بما نالوه من الشرف
وأكسب وطنهم فخراً مخلداً ومجداً مؤبداً .
ومن غريب المصادفة وأعجبها أن رجوع إبراهيم باشا مع جيشه إلى
الإسكندرية وافق يوم خروج الدونانمة التركية من مينا الإسكندرية في 23 يناير
سنة 1841 بعد أن مكثت بها ستة أشهر تقريباً والتزم محمد علي باشا بردها
إلى الدولة العلية بمقتضى الوفاق الذي أبرم بينه وبين الكومودور نابير في 27
نوفمبر سنة 1840 ، فكان لهذا التصادف وقع محزن في قلب محمد علي باشا
لضياع أتعابه هدراً وهباء منثوراً ، لكنه علم أنه يلزمه ومن الواجب عليه أن
يفرغ جهده ، ويبذل همته في ترقية مصر وإصلاح شؤنها فإنها لو اعتنى بأمرها
لدرت أضعافاً مما ينتج منها وهي على هذه الحالة .
ولم يظهر محمد علي باشا ألما مما أصابه من ضياع ولايتي الشام وكريد اللتين
صرف فيهما الأرواح العزيزة والأموال النفيسة بل أظهر أن قصده الوحيد هو
ترقية مصر وإدخالها في سلك الأمم المتمدّنة ، وأن الأحوال اضطرته إلى فتح
البلاد الشامية لا عن سبق إصرار ولتبليغ ذلك إلى الدول أمر باغوص بيك ناظر
خارجيته أن يرسل لها منشوراً يقول فيه أن الله قد منّ على مصر بانتهاء الحرب
طبق إرادته سبحانه وتعالى إذ لا يحصل في العالم شيء إلا كما قررته إرادته في
الأزل وأبرزته قدرته إلى الوجود وأن جلالة السلطان المعظم قد منحته ولاية
مصر له ولذريته إلى ما شاء الله وأنه يشكر الدول العظام على مساعدتهم إياه
على نوال هذه الغاية ، التي لولاها لما حصل عليها ، وأنه سيفرغ ما في وسعه(1/211)
"""""" صفحة رقم 212 """"""
لتخفيف أثقال الأهالي وتحسين المالية التي نضبت إيراداتها لما استلزمه الحرب من
المصاريف الباهظة التي جاءت بغير جدوى وإصلاح الإدارة وتتميم ما ابتدئ به
من الأشغال النافعة للري الذي هو قوام الزراعة وفتح الخلجان لتسهيل الملاحة
والتجارة ونشر العلم بين أفراد الأمة ليكون منها رجال أكفاء يقومون بخدمة
وطنهم حق القيام .
وفي أوائل شهر أغسطس سنة 1841 صرف الجيش المصري ، ولم يبق منه
إلا القدر المعين في الفرمان الذي سبقت الإشارة إليه وبذا اقتنعت الدول
بخضوعه لأوامر الدولة العلية وأمرت قناصلها بالرجوع إلى الإسكندرية فرفع
قنصل النمسا العلم وفي 15 أغسطس وفي 23 منه رفعت بقية الدول أعلامها
ورجعت المياه إلى مجاريها وأهدي محمد علي باشا إلى قنصل انكلترا الموسيو
( برنت ) حصاناً مطهماً وسيفاً مرصعاً .
وفي أوائل شهر أكتوبر من هذه السنة أرسل السلطان إلى مصر أحد ياورانه
ليظهر لواليها سروره من رجوعه عن المحاربة ودخوله تحت حماية الدولة العثمانية
ويقدّم له سيفاً هدية من الحضرة السلطانية مع أفخر نياشين الدولة وكتاباً من
جلالة السلطان ، ولما علم محمد علي باشا بذلك أرسل ولده سعيد باشا لملاقاه
الياور السلطاني عند نزوله إلى الإسكندرية فتوجه إليه وقابله هناك ثم وصلا إلى
سراي شبرا من طريق البحر في 10 أكتوبر وفي يوم 11 منه صعد الياوران
السلطاني إلى قلعة مصر في موكب حافل يتقدمه آلاي من المشاة وألايان من
السوارى مع موسيقاتهم وكان الإزدحام شديد المشاهدة هذا المندوب السامي
الذي لم يحضر إلى مصر مثله منذ مدة . وقابله محمد علي باشا في ديوانه بغاية
الأبهة والجلال تحفه يميناً وشمالاً أكابر حكومته مع كافة الضباط والقوّاد الذين(1/212)
"""""" صفحة رقم 213 """"""
امتازوا في واقعة ( نصيبين ) وما قبلها وكان سليمان باشا من الحاضرين وواقفاً في
أقرب موضع من سموّ الوالي فاندهش الياوران السامي من هذا الجمع العظيم
والجيش الذي اشتهر بالمهارة والشجاعة ، وقدم وقتئذ الهدية لمحمد علي باشا
وانصرف بعد أن قبلها منه بكل أبهة وجلال ثم بعد ذلك أخذ في تتميم
الإصلاحات التي عزم عليها الإيجاد التوازن في المالية المصرية ، فأصدر أمره بنزع
المدافع من المراكب الحربية واستعمالها في التجارة كي يظهر لأوربا أنه اكتفى
واقتنع بولاية مصر الخصبة التربة المعتدلة الهواء الغزيرة المياه وقد تم ذلك في
أوائل سنة 1842 ولم يبق من هذه المراكب العظيمة إلا العدد الكافي للحكومة
والأمة .
وفي أثناء هذه السنة زار الخديوي اقليم الفيوم وأبطل احتكار الجلد
والصوف ولما عاد إلى المحروسة أبطل احتكار سائر الأصناف التجارية ما عدا
القطن خوفاً من نضوب الخزينة ، إذ ربح بيع القطن من أهم مواردها وكان
عازماً أيضاً على التنازل عن احتكاره وجعل تجارته حرة لو سمحت خزينة
الحكومة بذلك .
وفي 9 يناير سنة 1844 توفى باغوص بيك وزير خارجيته وكان لموته تأثير
محزن عند محمد علي باشا لما كان له عنده من المكانة العظمى لأنه كان يعتمد
عليه في الأعمال المهمة والمخابرات المدلهمة وخلفه في منصبه أرتين أفندي .
ثم في أوائل شهر أغسطس من هذه السنة خطر بباله أن يرسل لأوربا بإثنين
من أعضاء عائلته الكريمة ليكونا قدوة لمن أرسل قبلهم ولمن يرافقهم من شبان
المصريين وسبباً لمراعاة الحكومة الفرنساوية للإرسالية المصرية ، وبعد أن بحث
سموه في هذا المشروع وتأمل فيه وتفكر في نتائجه الحسنة وبعد المباحثة في ذلك
مع سليمان باشا قبل أن يرسل إلى مدينة باريس حسين بيك ثالث أولاده(1/213)
"""""" صفحة رقم 214 """"""
والأمير أحمد بيك نجل ولده إبراهيم باشا ، وبأن يرسل معهما أربعاً وثلاثين شاباً
مصرياً وكلف سليمان باشا بإنتخاب البعض من المدارس الحربية والمدارس
الهندسية ( مهندسخانة ) فانتخب أحد عشر تلميذاً من مدرسة الطوبجية وستة
عشر من مدرسة السوارى وسبعة من المهندسخانة وأرسل الجميع إلى مدارس
باريس الحربية .
وفي 25 من شهر أغسطس سنة 1844 وصل فريق منهم إلى مدينة ليون
وفي 28 منه وصلها الأميران حسين بيك وأحمد بيك فقوبلا بكل تبجيل وتكريم
وتفخيم وتعظيم ونزلا بلوكاندة ( أوربا ) وزارهما فيها حاكم المدينة وأعضاء
مجالسها وقضاتها وسائر مأمورى الحكومة وقضيا بهذه المدينة يومين زارا في
خلالهما آثارها ومحلاتها العمومية وضواحيها اللطيفة وتنزها في نهري السون
والرون اللذين يجتمعان في وسطها وكان يرافقهما في جولاتهما إثنان من ياوران
الملك لويس فيليب ، كان عينهما الملك لملاقاتهما عند نزولهما في مدينة
مرسيليا ومرافقتهما إلى مدينة باريس الزاهرة وكانت مقابلة الأهالي لهما في
جميع البلاد التي مرّا بها تظهر محبة الفرنساويين لهما ولعائلتهما ، ولما وصلا إلى
مدينة باريس قوبلا بأحسن مما قوبلا به في مدينة ( ليون ) وقابلهما الملك وأحسن
وفادتهما حق الإحسان وتمتعا منه بالإمتنان .
زيارة الدوك دي مونبانسيه لمصر :
ولإظهار ما حصل له من السرور لإختيار محمد علي باشا مدينة باريس
لتهذيب أخلاق أولاده وثمرة فؤاده وتوسيع عقولهم وزيادة علومهم ، أرسل
ولده الدوك ( دي مونبانسيه ) إلى مصر ليتمم دراسة فن التاريخ بزيارة آثار مصر(1/214)
"""""" صفحة رقم 215 """"""
القديمة منبع العلوم والمعارف ومهد الفنون واللطائف فواصل الأمير الفرنساوي
إلى ثغر الإسكندرية في صباح 30 يونيه سنة 1845 وكان في انتظاره بالثغر
الأمير سعيد باشا ابن سمو الوالي فلما علم بقدوم السفينة المقلة للدوك توجه
إليها ليهنئه بسلامة الوصول وكان ممن صحبه أيضاً في هذه الزيارة جاليس باشا
المهندس الفرنساوي الذي أرسلته الحكومة الفرنساوية لمصر سنة 1840
لتحصين الثغر الأسكندري من طوارئ الزمان ونوائب الحدثان .
وبعد ظهر ذلك اليوم بثلاث ساعات جاء سعيد باشا وأخبره أن والده محمد
علي باشا قد جعل سراى القباري تحت أمره ويدعوه إلى النزول بها كي يحظى
بزيارة جنابه العالي ، فقبل الدوك منه ذلك وشكره على عظيم التفاته وحسن
اعتنائه ثم نزلا من السفينة الفرنساوية التي حيتهما بإطلاقها واحداً وعشرين
مدفعاً وجاوبتها السفن المصرية بمثل ذلك .
فوصل إلى سراية القبارى ومكث فيها برهة شرب في خلالها القهوة
والمرطبات ثم وفد على السراي محمد علي باشا في عربة تجرها ستة من أحسن
الخيول العربية وتحف بها كوكبة من فرسان المماليك لابسين ثياباً فاخرة
مزركشة بالذهب والحجارة الكريمة على أحسن نوع وأتم وضع ، فقابل الدوك
بأحسن مقابلة وشكره على تشريفه الديار المصرية ثم عاد بمثل ما جاء به من
الإجلال والتعظيم .
وفي صبيحة اليوم التالي ردّ الدوك إلى الوالي الزيارة في سراي رأس التين
العامرة فقابله الوالي وسائر ضباطه البرية والبحرية بدون أن ينقص منهم أحد إلا
سليمان باشا فإنه كان مريضاً بالقاهرة مما كابده من الأتعاب أثناء عودته من
الشام وفي مساء هذه الليلة صنع له سمّو الوالي مأدبة فاخرة دعى إليها سراة
القوم وأكابرهم وأعيانهم وسائر الموظفين من الفرنساويين وقدم لجناب الدوك
الدكتور ( كلوت بيك ) مؤسس مدرسة الطب و ( لنبيربيك ) مؤسس مدرسة
المهندسخانة وغيرهما من الفرنساويين الذين لهم الفضل الأعظم في تأسيس(1/215)
"""""" صفحة رقم 216 """"""
المدارس وبناء القناطر وكذلك كافة ما حصلت عليه مصر من التقدم في زمن
المغفور له محمد علي باشا ، ولقد صرف الدوك أسبوعاً كاملاً في مدينة
الإسكندرية قضاه في زيارة الإستحكامات والإسبتاليات والسفن الحربية وسرّ
كثيراً من السفينة المسماة ( بني سويف ) أكبر سفن المصريين فكان فيها مائة مدفع
وألف ومائة جندي وكان قائدها سعيد باشا .
ثم ركب النيل ومعه سعيد باشا وعباس باشا فوصلوا إلى مصر ونزلوا بسراي
شبرا في يوم 8 يوليو وكان بانتظارهم هناك إبراهيم باشا وبعد ان استراح
الدوك قليلاً ركب في عربة مع إبراهيم باشا وسارا إلى القلعة حيث كانت معدة
لإقامة محمد علي باشا فوصلاها في الساعة 10 مساء وكان مرورهما بين
صفوف الأهالي والعساكر يتقدمهم جم غفير من حاملي المشاعل وفي يوم 9 منه
طاف الدوك في أنحاء القاهرة للتفرج على ما بها من الآثار العربية ، فشاهد كافة
المساجد القديمة وقبور الخلفاء ، وعند الأصيل توجه إلى مصر القديمة وعاد
سليمان باشا وكان طريح الفراش فسرّ كثيراً من تنازل نجل ملك فرنسا إلى
زيارته ثم شارف مقياس النيل بجزيرة الروضة ( المنيل ) وفي يوم 10 منه أقيمت
صلاة احتفالية في الكنيسة الفرنساوية تذكاراً لعيد جلالة ملكة فرنسا ( ماري
آميلي ) والدة الدوك فحضرها مع كل ضباط الدونانمة التي رافقته إلى
الإسكندرية .
وفي مساء ذلك اليوم زار الأمير عباس باشا وتوجها معا على طريق البر إلى
مدينة السويس واستراحا أثناء السير في السراي التي بناها عباس باشا في
الصحراء وبعد أن شارفا المدينة والمينا ذهب الدوك إلى جبل طود سينا لزيارة
الأماكن المقدسة هناك وعادا إلى القاهرة . وأظهر الدوك رغبته في السفر على
طريق النيل إلى مصر العليا وزيارة آثار مدينة طيبة فقيل له أن السفر إلى هذه
الجهات لا يستحسن إلا في زمن الشتاء لما أن النيل يبتدئ في الزيارة في شهر
يوليو وأن الأولى العودة إلى مصر في أواخر الشتاء حين تكون مياه النيل قد(1/216)
"""""" صفحة رقم 217 """"""
تناقصت فقال الدوك أنه لا يمكن ذلك لأنه ربما تشب نار الحرب في بلاد
الجزائر في أوائل الربيع وأنه لا بد أن يحضرها ، فسلم عباس باشا ما طلبه الدوك
وأصدر أوامره المشدّدة بتجهيز ثلاثة بواخر نيلية فجهزت في أسرع وقت وعزم
الدوك على السفر في 14 يوليه سنة 1845 . ففي صبيحة ذلك اليوم توجه
الدوك إلى السراي بشبرا لوداع الأمير إبراهيم باشا فوجد عنده سليمان باشا
الفرنساوي ، وكان قد نقه من مرضه قليلاً وجاء لتأدية واجبات العبودية لإبن
ملكه وخالف تشديدات الأطباء عليه بعدم الخروج خوفاً من عود المرض إليه
فقابله الدوك أحسن مقابلة وأظهر له سرور الملك وسرور الأمة الفرنساوية
كلها مما أتاحه الله للمصريين من النصر في بلاد الشام بحسن ترتيباته العسكرية
وتنظيماته الحربية ، وأن فرنسا تودّ وجود أحد أبنائها الأعزة في مثل هذا المنصب
لأن هذا مما يعلي كلمتها ويحقق رغبتها في تقدم مصر التي كانت ولم تزل في
مقدمة البلاد الشرقية .
ثم عاد الكل إلى فرضة بولاق حيث تنتظرهم البواخر المعدّة لسفر الدوك
فنزل في الأولى مع بعض معيته وكان يخفق عليها العلم الملوكي الفرنساوي ونزل
في الثانية الأمير سعيد باشا وحاشيته وفي الثالثة بقية معية الأميرين الفرنساوي
والمصري وكان العلم المصري المنصور الذي تبعه المصريون في ساحة القتال غير
مرة يرفرف فوق الباخرتين الأخريين .
وبعد أن ودعه الأمير إبراهيم باشا وسليمان باشا ومن كان معهما من
الأمراء وأكابر الأعيان أقلعت البواخر في الساعة 10 صباحاً وكان الجوّ صحوا
والريح رخوا فسارت تشق عباب البحر ، ولم تزل الأبصار شاخصة إليها حتى
بعدت عن الأنظار ثم انصرف الجميع وعاد كل إلى محله مسروراً مما رآه من
لطف الدوك وحاشيته ولم يلبث الدوك في سياحته طويلاً بل عاد بعد أن شارف
المنيا وأسيوط ودندرة وآثار مدينة طيبة ثم سافر توّا إلى فرنسا .(1/217)
"""""" صفحة رقم 218 """"""
ولقد سرّ والده ( لويس فيليب ) لما بلغه ما لقيه ولده في الديار المصرية من
حسن الملاقاة وكرم الوفادة فأهدى لسمو محمد علي باشا الجران كوردون من
نيشان الليجيون دونور ، وكان إرساله مع أحد مستخدمي نظارة خارجيته المسيو
( دي منترو ) فوصل المرسل إلى مصر في 2 نوفمبر سنة 1845 واستقبله سمو
الوالي بقاعة الإستقبال بسراي القلعة العامرة وكان الإحتفال جامعاً لكافة أمراء
مصر وقوادها البرية والبحرية الذين اشتهروا وحازوا قصب السبق في حروب
الشام الأخيرة ، ولم يشهد هذا الاحتفال سليمان باشا الفرنساوي لأنه كان
مرافقاً لإبراهيم باشا في بلاد إيطاليا وكان قد ذهب إليها طلباً للشفاء من مرضٍ
باطني ألّمَ به منذ مدة وكان الأطباء أشاروا عليه بالتوجه إليها لمداواته
بالإستحمام بالمياه المعدنية .(1/218)
"""""" صفحة رقم 219 """"""
9 - رحلة إبراهيم باشا إلى أوربا
سفر إبراهيم باشا إلى أوربا :
وأما محمد علي باشا فلم يكن سروره بهذه الهدية صافياً ، بل كان يشوبه
الكدر مما ألم بأكبر أولاده الأمير إبراهيم باشا من المرض الداخلي الذي أنهك
قواه حتى تحيرت الأطباء في علاجه وفي آخر الأمر أشار عليه الدكتور ( لالمان )
طبيبه الخاص به بأن يسافر في أوائل شهر سبتمبر سنة 1845 إلى حمامات ( سان
جيتانو ) بالقرب من مدينة بيز بإيطاليا ، فسافر إليها وبعد أن استمر وداوم
على الإستحمام في مياهها المعدنية مدة بدون فائدة ، أشار عليه الأطباء مرة ثانية
بالتوجه إلى مياه فرنيه الواقعة على جبال البيرنية الشامخة الفاصلة بين فرنسا
وإسبانيا فكتب إبراهيم باشا لوالده بذلك وطلب منه إخبار حكومة فرنسا
بحضوره إليها فانشرح ( لويز فيليب ) ملك فرنسا لمجيء شجاع مصر وفاتح مورة
والشام الذي عم ذكره جميع الأقطار إلى بلاده ، ولقد أمر والد الأمير سليمان
باشا بمرافقته لولده الأعز في هذه السياحة كي يكون له دليلاً ومرشداً في هذه
البلاد التي لم يسبق له توجه إليها ، فسر بذلك لما أنه يودّ أن يرى وطنه العزيز
بعد أن غاب عنده مدة 25 سنة فسافر إلى ( بيزا ) ومنها إلى ( فلورنسا ) مع
إبراهيم باشا وحاشيته ومنها إلى ( ليفورن ) فجنوة وقابله شارل البربت
ملك سردينيا فرحب به وأضافه أربعة أيام متوالية .(1/219)
"""""" صفحة رقم 220 """"""
وفي أثناء إقامة إبراهيم باشا في مدينة جنوه سافر سليمان باشا إلى مدينة
طولون من أعمال فرنسا ، لإجراء الترتيبات اللازمة لإقامة أميره حين قدومه
إلى أرض فرنسا فوصلها في 20 نوفمبر سنة 1845 وكان في انتظاره هناك
مأمور الحكومة وجم غفير من الأهالي أتوا من كل فج لمقابلة هذا الشجاع
الفرنساوي الذي تجرع غصص الفاقة في فرنسا وخرج منها فقيراً وإن لم يكن
حقيراً ، وعاد إليها بعد خمس وعشرين سنة مكللاً بالنصر والظفر ومتحصلاً على
رضا سمو أميره وافتخار كافة ضباط الجيش المصري به حيث قام بجميع ما يلزم
للوطن العزيز بالذمة الصادقة والهمة العالية .
فبعد أن أجر المحلات اللازمة لإقامة أميره وحاشيته قضى مدة انتظاره في
التفرج على استحكامات المدينة من جهتي البر والبحر وعلى ما بها من
الترسانات والسفن الحربية وجميع الأعمال الفنية ، وبينما جميع الأهالي منتظرون
سمو الأمير المصري المنصور متشوقون لرؤيته إذ وصل إليها من طريق البحر في
صبح يوم 2 نوفمبر ، تنقله احدى سفن مصر الحربية ، وأدت التحية لهذا الأمير
بارجة الأميرال بطلقها أحداً وعشرين مدفعاً ورفعها العلم المصري على أعلى
صواريها وكذلك كافة السفن الفرنساوية رفعت العلم المصري ثم أطلق من
إحدى الطوابي البرية واحد وعشرون مدفعاً وأرسلت الأخبار توّاً إلى باريس
بالتلغراف لإخبار الملك بقدوم سموّ ضيفه فأرسل الملك تلغرافاً يهنئه بسلامة
وصوله وقد حيته أيضاً بإطلاق المدافع السفينة النابلتانية المسماة بأوزانيا التي
كانت راسية بطولون ، وأما سفن الدول الأخرى فاكتفت برفع أعلامها مع(1/220)
"""""" صفحة رقم 221 """"""
العلم المصري على جميع صواريها وكان دخول السفينة المقلة لسموه المينا في
الساعة 8 صباحاً وعند دخولها ذهب لتهنئته على السفينة حاكم المدينة البحري
ليتلقى من سموه الأوامر ، وبعد أن مكث في الوابور ثلاث ساعات للإستراحة من
مشاق البحر نزل إلى البر في الساعة الحادية عشرة وكان في انتظاره على
الرصيف الماركيز دي لافاليت مندوباً من قبل جلالة الملك والحاكم البحري
وكثير من الضباط البرية والبحرية ، وكان الألاي الثالث من المشاة البحرية
مصطفاً على جهتي طريق الترسانة والألاي التاسع عشر من المشاة البرية مصطفاً
أيضًا من باب الترسانة إلى سراي الحكومة المعدة لإقامة سموه ، وكان في مقدمة
المواكب فرقة من الجندرمة يتبعها ضباط البر والبحر ثم سموّ الأمير إبراهيم باشا
وعن يساره سليمان باشا وهما لابسان أفخر الملابس الشرقية المزركشة
بالذهب ، وخلفهما عدد كثير من الخدم السودانيين حاملين الشبكات المحلاة
بالحرير والتراكيب المنمنمة ومر سموه بهذه الهيئة بين صفوف العساكر والأهالي
والكل يقابلونه بالتهليل والتفخيم والتكريم والتعظيم .
ثم في اليوم التالي سافر سليمان باشا إلى مدينة مرسيليا فبورفاندر ، فبربنيان ،
ففرنيه لإستعداد المحلات اللازمة لإقامة الأمير وتابعيه وبعد تأدية هذه المأمورية
عاد الباشا إلى مدينة بربنيان وكان قد دعاه الجنرال الكونت دي كاستيلان قائد
الفرقة الفرنساوية المعسكرة في هذه الجهة ليشهد المناورات التي عزم الكونت
على عملها إكراماً له ثم بعد أن حضر هذه المناورات عاد إلى مدينة بورفاندر
لإنتظار أميره .
وفي يوم 29 نوفمبر سنة 1845 بارح سموه مدينة طولون قاصداً مدينة
مارسيليا فوصلها عند ظهر ذلك اليوم ، ولما وصل حيَّته القلاع بإطلاق مدافعها
وعند نزول سموه إلى البر قابله الجنرال ( كونت دوبول ) قائد الحامية وسائر
مأموري الحكومة وكان نزول سموه في منزل أحد التجار المشهورين الذين لهم
علاقات دائمة مع البلاد المصرية وهو منزل ( اخوان باستري ) وهناك زاره أكابر(1/221)
"""""" صفحة رقم 222 """"""
البلد من تجار وأعيان ثم دعا سموه مأموري الحكومة إلى مأدبة أعدّها لهم ، وبعد
الفراغ من تناول الطعام ذهب إلى التياترو وقابله هناك جميع المتفرجين بالتهليل
والتصفيق كما هي عادة الإفرنج عند إظهار استحسانهم أو سرورهم من أمر
وبعد انتهاء التشخيص عاد سموه باليمن والإقبال إلى منزل باستري إخوان
فقضى ليلته فيه إلى الصباح .
وفي اليوم التالي الموافق ( 30 نوفمبر ) زار المدينة ومرّ في أهمّ شوارعها فعند
مروره من شارع بائعات الأزهار قدمن لسموه باقة من الزهور الجميلة فتعطف
سموه بقبولها منهن .
وفي مساء الساعة التاسعة توجه ( إلى البالو ) الذي أعدّه الجنرال ( كنت
دوبول ) إكراماً لسموه فمرَّ في جميع غرف الرقص وصار يلاطف السيدات
والمدموازلات برقيق لفظه وسليمان باشا يترجم لهن عباراته حتى انشرحن من
ملاطفته وأعجبهن حسن التفاته إليهن وتعطفه السني جهتهن وعليهن .
وفي صبيحة أوّل دسمبر سنة 1845 زار سموه ما حوته المدينة من ورش
وفايريقات وجميع الأماكن الصناعية وكان رحمه الله يتأمل بغاية الدقة إلى آلاتها
اللطيفة الغريبة ويعجب من حسن صنعتها العجيبة ، ومما أدهش مهندسي هذه
الفربريقات حدة ذكاء الأمير وقوة فكره وفهمه هذه التركيبات الميكانيكية حتى
أنه أبدى لهم بعض ملحوظات لتحسين بعض الآلات مع عدم تعلم سموه العلوم
الهندسية بل ولا غيرها من العلوم مطلقاً .
وفي يوم 2 منه أولم وليمة فاخرة لأعيان تجار هذه المدينة وأصحاب
الفابريقات وفي يوم 3 منه في الساعة الرابعة مساء أقلع من مارسيليا قاصداً
بورفاندر بعد أن وزع الهدايا الثمينة على كل من احتفل بلقائه وأعطى ألفاً
وخمسمائة فرنك إلى حاكم المدينة بقصد توزيعها على الفقراء ، ووصل سموه إلى
فرضة بورفاندر في 4 منه وقضى يوم 5 في سفينته وفي اليوم السادس تناول(1/222)
"""""" صفحة رقم 223 """"""
طعام الظهر في وليمة أعدّها لسموه تجار المدينة وبعد انتهاء الوليمة سافر سموه
إلى مدينة بربنيان وكان وصوله إليها قبيل وقت الأصيل فقابله هناك الجنرال
كونت دي كستيلان مقابلة عسكرية واستعرض أمامه الجيوش المعسكرة في هذه
المدينة وضواحيها ثم تناول سموه طعام المساء عند الكونت في وليمة فاخرة
عظيمة باهرة كان أعدّها لسموه ودعا إليها كل أعيان المدينة وضباط الحامية
وفي يوم 7 منه تناول طعام العشاء عند مدير الإقليم المدعو بالمسيو ( فابس ) . وفي
صبيحة يوم 8 منه تناول سافر سموه في عربة إلى فرنية ورافقه في طريقه الجنرال
( كونت دي كستيلان ) ولم يزل راكباً جواده حتى أمضى مسافة 2 كيلو متر
خارجاً عن المدينة ثم عاد بعد أن ودع سموه وداع إخلاص وولاء وكان الجنرال
أرسل أوامره إلى مدينة فرنية باستقبال الأمير إبراهيم باشا بكل ما يليق بمقامه
الرفيع من الإحترام والتبجيل فسار سموه طول نهاره فيما بين جبال البرينية
الشامخة مع جزء من ليله ، وقبل أن يصل المدينة بمسافة فرسخين وجد عساكر
الجند رمة مصطفة على جانبي الطريق وأهالي الجبال مجتمعون في الأودية وعلى
قمم الجبال ينتظرون قدوم الأمير المصري متزينين بأفخر لباسهم حاملين
أسلحتهم كما هي العادة المعتادة عند سكان الجبال .
وبمجرد ما أطلقت المدافع من قلعة ( فيل فرانش ) إيذاناً بقدوم سموه أطلق
الأهالي بنادقهم في الهواء تعظيماً لمقام زائرهم الأفخم وبعد قليل أحاط بعربته
جم غفير من الأهالي حاملين مشاعل متقدة ولم يزالوا مرافقين له ومتابعيه حتى
وصل إلى المدينة فتابعوا إطلاق البنادق مهللين بأصوات الفرح والبشر ، وكان
بانتظاره عند تشريفه المدينة شيخ البلد وقسيسها فقابلاه وخطب كل منهما
خطبة وجيزة هنأ بها سموه على سلامة الوصول وأظهر في خلالها ما نال بلادهم
من الشرف بتشريف جنابه الأكرم وختم كل منهما عبارته بطلب البقاء له من
بادئ النسمات ومبدع الكائنات وشافي العلل والآفات ، ثم مرت عربته من تحت(1/223)
"""""" صفحة رقم 224 """"""
قنطرة نصر أقيمت في أول شارع احتفالاً وتزييناً لجنابه وكان مكتوباً عليها هذه
الكلمات إلى المنصور في قونية ونصيبين ، وعند باب الحمام أقيم له قنطرة
أخرى عليها هذه الجمل الأربع إلى نجل محمد علي باشا الأكبر إلى
ممدن الشرق إلى صديق فرانسا إلى الشجاع المصري .
ولما وصل سموه إلى الحمام توجه بلا توان إلى المحل الذي كان معدّاً لجنابه
الرفيع في لوكاندة الحمام وأخذ الجمع في الإنصراف رويداً وقضى سموه في مياه
قرنية أربعة أشهر طلباً للشفاء فكانت صحته تتحسن يوماً عن يوم حيث أن
الهواء وافقه سيما بملاحظة همة الدكتور لالمان طبيبه الخاص ولكنه سئم الإقامة
في هذه الجهة المنعزلة وفضّل مبارحتها عن الإقامة بها لولا تشديد طبيبه عليه ،
نعم كان يزوره أحياناً الجنرال كونت دي كستلان قائد أوردي بربنيان وبعض
من موظفي الحكومة في هذا الإقليم وما كانت هذه الزيارات القليلة تكفي
لتسليته ففي أوائل شهر فبراير أذن له الدكتور لالمان بالتوجه إلى بربنيان لو أراد
بشرط أن يكون انتقاله في عربة تسير الهوينى فرضى سموه بهذا الشرط .
وسافر إلى المدينة في 5 فبراير سنة 1846 حتى وصلها في الساعة الحادية
عشر بعد الظهر بدون أن يعلم الجنرال كونت ( دي كستيلان ) وكان بمعيته
طبيبه الذي كان لا يفارقه أصلاً وبعد أن قضى سموه يومين عاد إلى الحمامات
وفي 4 مارث زار هذه المدينة مرة أخرى فقابله فيها الجنرال ورافقه عند عودته
إلى خارج المدينة وكان هناك فرقة من جنوده وأركان الحرب تشتغل بوضع
قنطرة من السفن على نهر يمر بالقرب من المدينة لمرور العساكر قصد التمرين
فتم وضعه في أقل من القليل ولم يحتج إلى مضي وقت من الزمن ومر عليه الجيش
بحضور سموه فسر من مهارتهم وسرعة حركاتهم وإتقان عملهم ثم عاد إلى فرنية
مصحوباً باليمن والإقبال ولما تم الشفاء لسموه في أوائل ابريل عزم على السفر
إلى مدينتي باريس ولوندرة وأخبر والده بذلك فكتب سمو الوالي رحمه الله إلى
حكومتي فرنسا وانكلترا يخبرهما بقدوم ولده إليها بقصد السياحة .(1/224)
"""""" صفحة رقم 225 """"""
فلما علم إبراهيم باشا بأن والده كتب إليهما وتحقق من ذلك بادر السفر
مع حاشيته من فرنيه في النصف الثاني من شهر إبريل سنة 1846 من طريق
بوردو ، فمدينة تور حيث كان في انتظار سموه قطار حديدي خاص به فوصل إلى
باريس الزاهرة في الساعة الأولى بعد ظهر بوم 25 منه ولا حاجة إلى ذكر ما
لقيه سموه أثناء الطريق في المدن العظيمة التي مر عليها من الإحتفالات بل نكتفى
بأن نقول أنه قوبل أحسن مقابلة واحتفل بمروره بنوع لم يسبق في تاريخ الشرق
من قبله .
وكان في انتظار سموه على رصيف المحطة الكولونيل ( تييري ) أحد ياوران
الدوك ( دي مونبانسيه ) من طرف جلالة الملك لملاقاته ومرافقته أثناء إقامته في
عاصمة المملكة الفرنساوية وكانت المحطة جامعة من الداخل والخارج لجماهير
الأهالي بين نساء ورجال ، ولم يتأخر أحد من التلامذة المصريين الموجودين هناك
بل أتى الكل للتشرف بمقابلة نجل مليكهم وولي عهد حكومتهم فنزل سموه من
القطار وتبعته حاشيته والتلامذة المصريون وهنأه الكولونل ( تييري ) بسلامة
الوصول نائباً عن جلالة الملك وكافة أعضاء العائلة الملوكية ، وأخبره بأن الملك
يدعو سموه للاقامة في سراي الإليزيه بوربون فقبل سموه ذلك وشكر الملك
على ما كان منه من حسن القبول . وما ظهر من باقي حكومته من سروره
بمقابلتهم في سائر الجهات التي مر بها ، ثم ركب سموه مع حاشيته العربات
الملوكية التي أعدت لإنتظارهم وساروا توّا إلى السراي بين صفوف الأهالي
وكان كلما يمرّ على جماعة يصرخون بقولهم فلتحى مصر فليعش إبراهيم باشا
ليحفظ الله سمو واليها ولم يزالوا على هذه الحالة حتى وصل إلى السراي وكان
المحل الذي أعدّ لإقامة سموه من هذه السراى القديمة العهد هو الذي أقام فيه(1/225)
"""""" صفحة رقم 226 """"""
الإمبراطور نابليون بعد عودته من جزيرة البه والسرير الذي أعدّ لنوم سموه هو
الذي كان معداً لنوم الإمبراطور .
ولقد قضى سموّ إبراهيم باشا يومي 25 و 26 قبل أن يقابله الملك مقابلة
رسمية وكان سموه يطلع على مباني المدينة متخفياً ثم في يوم 27 احتفل الملك
وأولاده وزوجاتهم بمقابلته بحضور الملكة والبرنسيس اديلاييد في سراي
اللتويلري في قاعة المقابلات الإحتفالية وكان جلالة الملك متحلياً بكسوة
رئيس الجيوش وكذلك نجله الدوك دي نيمور وأما البرنس دي جوانفيل فكان
لابساً ملابس فيس أميرال بحري والدوك دي مونباسيه كسوة أميرالاي طوبحى .
وكان حاضراً عند الإستقبال كل من المارشال سولت الملقب بدوك دلماسيا
ورئيس النظار والمسيو جيزو ناظر الخارجية وقبل مجيء إبراهيم باشا ببرهة حضر
إلى السراي الملوكية سفير الباب العالي المدعو سليمان باشا وكان حضوره في
الساعة الأولى بعد ظهر ذلك اليوم وعند قدومه أقبلت العربة الملوكية المقلة
لسمو الأمير إبراهيم باشا يتقدمها خياله من خيالي اسطبلات الملك ويتبعها
ثلاث عربات أخر ملوكية . وكان مع سموه الكونيل تييري المعين لمرافقته وفي
العربات الأخر سليمان باشا الفرنساوي وغيره من حاشية الأمير ، ولما وصل
سموه إلى قاعة الاستقبال قدمه سفير الباب العالي إلى جلالة الملك فصافحه
وشكره على ما لقيه نجله الدوك ( دي مونبانسيه ) من الإكرام وحسن المقابلة
أثناء سياحته في القطر المصري وقد روى أن الملك قال أثناء مقابله سليمان باشا
الفرنساوي أجدّك المركيز دي سيف ؟ فقال له الباشا لا بل إن والدي كان أحد
طحاني مدينة ليون ، فردّ عليه الملك بقوله أن ذلك مما يزيدك شرفاً ونبلاً وبعد أن
تكلم الملك قليلاً مع إبراهيم باشا والحاضرين من حاشيته عاد سمو الأمير إلى
السراية بنفس الإحتفال الذي جاء به .(1/226)
"""""" صفحة رقم 227 """"""
وفي مساء ذلك اليوم عاد سموه إلى سراي الملك لتناول طعام المساء على
مائدة جلالة الملك ولما حضر الأمير والمدعوّون قام الملك في الساعة السادسة
والنصف إلى قاعة الطعام وجلس إبراهيم باشا عن يمين جلالة الملكة أمام زوجها
الأفخم وكان المدعوّون من أكبر رجال المملكة بين أمراء وقوّاد ووزراء ثم
تجاذب الملك والحاضرون أطراف الحديث أثناء الأكل وكانت جلالة الملكة
تلاطف ضيفها برقيق ألفاظها وتسأله عن حالات عمومية في الشرق إلى أن
انقضى الطعام في نحو الساعة ثمانية ونصف مساء وعاد سمّو الأمير إبراهيم باشا
إلى مقرّه بسراي الإليزيه بصحبة الكولونل تييري ومن كان معه من حاشتيه .
وفي صبيحة يوم 28 منه توجه سموه إلى سراي الإنفاليد لزيارة قبر
الإمبراطور نابليون الأول وصحبه في هذه الزيارة الدوك دي مونبانسيه
والكولونل تييري وسليمان باشا ، فقابل سموه على باب السراي الدوك دي
ريجيو حاكمها والضباط من كهول الجيش الفرنساوي حاملين السلاح تعظيماً
لجنابه العالي فزار سموه السراي بجميع أركانها وأثنى على الحكومة الفرنساوية
التي خصصت هذا البناء الشاهق لمن يعجز عن الكسب من شجعانها إما لتقدمه
في السن أو لإصابته بفقد أحد أعضائه في الدفاع عنها وعن شرفها ، ثم نزل
بموكبه الحافل إلى القاعة المبنية تحت السراي وبها محفوظة جثة الإمبراطور التي
احتفل بإرجاعها من جزيرة سانت هيلان ( وقد دفن بها ) في 15 ديسمبر
1840 وبعد برهة خرج منها إبراهيم باشا وتوجه لزيارة المدرسة الحربية وبعد
ذلك منتزه قليلاً في متنزه غابة بولونيا ثم قصد سراي الدوك دي مونبانسيه
لتناول العشاء في مأدبة خصوصية أعدها الدوك إكراماً لزائره وقياماً ببعض
واجبه .(1/227)
"""""" صفحة رقم 228 """"""
وفي يوم الخميس الموافق 30 إبريل سنة 1846 ذهب سموه في الساعة 3
بعد الظهر إلى سراي لوكسنبورج للتفرج في دار التحف فسر مما رآه فيها من
الصور الجميلة خصوصاً اللوحة المشهورة التي رسم فيها المسيو هوراس فيرنيه
مقتل المماليك بقلعة مصر المحروسة .
وفي يوم الجمعة أول مايو توجه صباحاً لمقابلة الملك الذي كان يستقبل أكابر
الدولة المناسبة عيد دولته الفخيمة فأهدى الملك إليه بعد المقابلة نيشان ( اللجيون
دونور ) من درجة جران كوردون فشكره سمو الأمير على هذه الهدية التي دلت
على مابين مصر وفرنسا من المحبة والوفاق الخالصين من كل شائبة ، ثم دخل
سموه مع جلالة الملك إلى قاعة الإستقبال العمومية وشهد مرور وفود المهنئين مع
اختلاف ملابسهم بين ملكية وحربية على اختلاف أجناسهم وأشكالهم وكان
بجانب سموه الدوك دي مونبانسيه فكان يعرّفه اسم كل من مرّ من أمامهما ولما
وقع نظره على المسيو تيرس ، الذي كان وزيراً لفرنسا في سنة 1840 ولم يقدر
على مساعدة الحكومة المصرية على المقاومة وعدم قبول الشروط التي عرضتها
عليه الدول ، كما مر ذلك في بابه ، تغير وجه سموه واستشاط غضباً وود أنه لم
يوجد في هذا الإحتفال حتى لا يرى وجه هذا الرجل الذي بسوء سياسته
أوجب الويل للأمة المصرية .
وبعد انقضاء رسوم التشريفات الملوكية عاد سموه إلى سرايته وفي المساء
توجه سموه لتناول الطعام في مأدبة أعدّها له المارشال سولت وزير فرنسا الأول
وبعد انتهاء الوليمة توجه سموه مع جناب الوزير وسائر المدعوين إلى السراية
الملوكية لسماع نغمة طقم الموسيقى ، الذي أعدته بلدية باريس احتفالاً بعيد
جلالة ملكهم وعند منتصف الليل شاهد سموه بحضور الملك وسائر أعضاء
العائلة الملوكية السواريخ وحرائق البارود التي أحرقت على شاطئ نهر السين
كما هي العادة في المواسم والأعياد فسر سمو الأمير من هذا المنظر البهيج الذي
لم يسبق لسموه رؤيته في الديار المصرية .(1/228)
"""""" صفحة رقم 229 """"""
وفي يوم السبت الموافق 2 منه زار سموه سراي محكمة الإستئناف العليا
وحضر إحدى جلساتها وكان مترجمه الخاص يترجم له ملخص أقوال الأبوكاتية
ويعبر لسموه عما تصدره القضاة من الأحكام ويشرح له كيفية ترتيب المحاكم
في فرنسا وكيفية سير الأحكام بها ، فشهد سموه بصلاحية هذا الترتيب للأمم
المتقدمة في الحضارة ووعد من معه بإدخاله في الديار المصرية حينما ينتشر
التعليم ولو قليلاً بين أبنائها ليعلم كل ماله من حقوق وما عليه من الواجبات
وبعد أن استراح سموه يومي الأحد والإثنين توجه في يوم الثلاث 5 مايو سنة
1846 إلى قلعة ( فنسين ) ليحضر المناورات العسكرية التي أمر الملك
بإجرائها احتفالاً بسمو زائره وكان في انتظاره هناك الدوك ( دي نيمور )
والدوك ( دي مونبانسيه ) أنجال الملك وأيضاً خمسة عشر ألف جندي لإجراء
مناورة تمثل واقعة نصيبين ولما وصل سموه صدحت الموسيقات العسكرية بأنغامها
الحربية وتحركت العساكر بغاية الإنتظام كأنهم شخص واحد وكان سموه متحلياً
في هذه الحفلة بنيشان ( الليجون دونور ) وراكباً جواداً عربياً فتوجه مع أنجال
الملك وكل القواد المدعوين إلى هضبة عالية كانت تشخص مركز العثمانيين
ليشاهد هجوم الفرقة المعينة للإستيلاء على هذه الهضبة وبعد أن هجمت هذه
الفرقة مرتين تمكنت بمساعدة الطوبجية من احتلالها كما حصل في واقعة نصيبين .
فسر سموه من نظام العساكر الفرنساوية وتدربهم على الحركات العسكرية
وشهد بأن هؤلاء الجند لو وجدوا من يحسن قيادتهم لا يهزمون أمام أي عدّو
كان لأنهم مستوفون عدة وعدة ، ولما انتهت المناورة في نحو الساعة الرابعة بعد(1/229)
"""""" صفحة رقم 230 """"""
الظهر زار سموه قشلاقات العسكر وفي الساعة السادسة تناول الطعام في مأدبة
أعدّها لسموه ضباط الجند وكانت قاعة الطعام مزينة بالسيوف والبنادق
يتخللها قليل من الأزهار ولم يعد سموه إلى باريس إلا عند الساعة العاشرة يرافقه
في عربته الملوكية سليمان باشا الفرنساوي والكولونيل ( تييري ) ياورانه وفي
اليوم السادس منه زار سموه المجمع العلمي ( انستيتيوت ) الكتبخانة الملوكية وفي
السابع شارف محل الضربخانة وفي الثامن زار الإسبتالية العسكرية وخصص اليوم
التاسع منه للإطلاع على ما تحتويه الكتبخانة من الكتب العربية فلما أطلع عليها
اندهش مما وجده فيها من الكتب النفسية التي ربما لا يوجد لبعضها نسخ أخرى
في غيرها من الدول سواء كان في الشرق أو في الغرب وتعجب من اهتمام
الدول الأجنبية باللغة العربية أكثر من اهتمام أهلها بها .
وفي اليوم الحادي عشر منه حضر سموه الإحتفال بتوزيع الجوائز على
التلامذة المصريين الموجودين إذ ذاك بباريز وكان بمعية سموه المارشال ( سولت )
رئيس الوزراء والدوك ( دي مونبانسيه ) فسر جنابه من تقدم التلامذة خصوصاً
نجله أحمد بيك لأنه كان ماهراً وفي المعارف وافراً وفي يوم أربعة عشر زار جناب
الأمير مدرسة الصنائع والفنون وتفقد كل ما بها من الآلات الميكانيكية وأبدى
لأساتذتها بعض ملحوظات استدلوا بها على ما لسموه من توقد الفكر وشدة
الذكاء الطبيعي ثم في اليوم التالي شرف سموه مجلس الأعيان ( سناتو ) بهيئة
احتفالية يتقدمه جمع من الفرسان وحضر الجلسة بتمامها واستحسن نظام
الحكومة الشورية التي منها تستمد القوة الحاكمة آراء الأمة بواسطة مندوبين
ينتخبون بالإنتخاب العمومي لينوبوا عن الأمة في إبداء آرائها واقتراح ما تريده
من الإصلاحات أو التغييرات ، فلما رأى ذلك ودّ أن يكون بمصر مجلس ينوب
عن أهلها لإنارة حاكمها وإرشاده لما يلزم للأمة من الإصلاحات لولا أنه حال
دون ذلك عدم تقدم الأمة في معارج التمدن والتهذيب السياسي .(1/230)
"""""" صفحة رقم 231 """"""
وفي أحد وعشرين مايو سنة 1846 شرف سموه محل الخواجات ( كريستوفل )
المشهورين بإتقان صناعة البلور وكذلك شرف غيره من المحلات الصناعية مما
دل على شغف جنابه بالإطلاع على الموادّ الصناعية والبحث عن أسباب تقدمها
بين الأمم الأجنبية وانحطاطها في الشرق ، مع أنه لما كانت الدولة العربية في أوج
تقدمها في سائر فروع الصناعة وامتيازها بانتشار العلوم بين أهليها ، كانت تلك
الأمم الغربية التي تدهشنا الآن باستيفائها الأشياء العلمية واختراعاتها الصناعية
في حالة التوحش والخشونة البربرية .
وفي يوم 25 منه حضر سموه استعراض حامية مدينة باريس في ميدان ( شان
دي مارس ) وكانت مؤلفة من خمسة وعشرين ألفاً من المشاة وستة آلاف من
الخيالة والألاي الخامس من الطوبجية ، وصحبه في هذا الاحتفال العسكري
الدوك ( دي نيمور ) وسليمان باشا وغيره من الضباط المصريين الذين رافقوه
ولازموه في هذه السياحة .
سفر إبراهيم باشا إلى إنكلترا :
وبعد هذه الإحتفالات والمقابلات عزم سموه على السفر إلى بلاد الإنكليز
قبل عودته إلى الديار المصرية فأعدت له الحكومة الفرنساوية قطاراً خاصاً
لركوبه إلى مدينة ( دييب ) الواقعة على شاطئ بحر المانش الفاصل بين فرنسا
وانكلترا وباخرة حربية لنقله إلى البر الإنكليزي وفي أول يونيو ودع سموه جلالة
الملك وجميع أعضاء عائلاته .
وفي صبيحة اليوم الثالث منه عزم سموه على مبارحة باريز فركب مع من معه
العربات الملوكية وتوجه إلى محطة ( سان لازار ) في موكب حافل بين صفوف
الأهالي وصفوف المودّعين ، حتى وصل المحطة باليمن والإقبال وكان هناك في
انتظاره فرقة من الجند مع الموسيقى لتأدية مراسم الوداع وودّع سموه من قبل
جلالة الملك أكبر ياورانه ، وبعد قليل سار القطار قاصداً مدينة ( دييب ) على(1/231)
"""""" صفحة رقم 232 """"""
طريق روان ولم تستوقفه هذه المدينة مع مالها من الشهرة التاريخية والآثار
القديمة بل سار توّا إلى مينا ( دييب ) فلم يجد الباخرة التي كانت بانتظاره لعدم
تمكنها من الدخول إلى المينا بسبب جزر البحر بل كانت في فرضة صغيرة
بالقرب من مينا دييب تدعى ( ترييور ) فتوجه إليها سموه وفي الساعة السادسة
من يوم 4 يونيو أطلق الربان البحار للسفينة فشقت عباب البحر بسرعة عجيبة
ووصلت مينا ( بورت سماوث ) في الساعة التاسعة من صباح اليوم التالي وقد
احتفل الإنكليز بإبراهيم باشا عند نزوله إلى البر احتفالاً باهراً وكان في انتظاره
على المينا الأميرال ( تشارلس أوجل ) حكمدار المينا وجميع ضباط الحامية ورئيس
البلدية وقد عين الماجور ( كولنوود ديكسن ) من الطوبجية لمرافقته أثناء إقامته في
بلاد الانكليز وإنما انتخب لتضلعه في اللغة العربية وليستغني سمو الأمير به عن
ترجمانه ثم توجه بصحبه الأميرال إلى ديوان البحرية ( أدميرالتي ) وبعد أن استراح
برهة ركب سموه إلى المنزل الذي أعدّ لإقامته وحاشيته .
ولما وصل سموه حضر رئيس وأعضاء البلدية بملابسهم الرسمية والتمسوا
مقابلته فأذن لهم بذلك ولما استقر بهم الجلوس قام الرئيس وخطب خطبة هنأ بها
جنابه بسلامة الوصول ، وشكر فيها والده على تسهيل التجارة بين انكلترا
ومستعمراتها الهندية حتى في أثناء الحرب بينها وبين مصر فتشكر له سموه بعبارة
وجيزة عن هذه الزيارة وما قاله من المدح في حق والده .
وبعد أن أقام سموه يوماً في ( بورت سماوث ) سافر قاصداً مدينة ( لندن )
عاصمة بريطانيا العظمى فوصلها في يوم 8 يونيو سنة 1846 قبل الظهر وتوجه
توّاً إلى ( أوتيل ميفار ) الذي كان استأجره سموه لإقامته مع حاشيته وفي الساعة(1/232)
"""""" صفحة رقم 233 """"""
الثانية بعد الظهر حضر اللورد ( ابردين ) وزير الخارجية وقابله مقابلة سرية
استمرت مدة طويلة لم يعلم ما قيل في خلالها ثم زار سموه الكولونيل ( كامبيل )
الذي كان قنصلاً في مصر ثم حضر السير ( روبرت بيل ) الوزير الأول والدوك
( دي ولنجتون ) قاهر ( نابليون الأول ) في واقعة ( وترلو ) والبرنس ( جورج دي
كامبردج ) وأخيراً الكومودور ( سير تشارلس نابير ) الذي اشتهر بضربه سواحل
الشام كما مر ، وقيّد الكل أسماءهم في دفتر المقابلات لأن سمّو الأمير إبراهيم
باشا لم يمكنه مقابلتهم نظراً لما تحمله من مشاق الأسفار .
وفي اليوم التالي الموافق 9 منه ذهب سموه وضباطه إلى سراي ( باكنجهام )
لمقابلة البرنس ألبرت زوج جلاله الملكة فيكتوريا ، وجريا على ما هو متبع في
المقابلات الانجليزية لم يؤذن بالدخول مع إبراهيم باشا لمقابلة البرنس ألبرت
لأحد من الضباط المصريين ، لكن بطريق الإستثناء أذن لسليمان باشا بذلك
فقابلهما البرنس بكل بشاشة وترحاب وهنأ سموّ الأمير إبراهيم باشا على وصوله
وتمنى استمرار علائق المحبة والمودة بين الحكومتين الإنكليزية والمصرية وبعد
انتهاء المقابلة ذهب الأميران معا إلى ميدان ( سانت جمس بارك ) لحضوره
استعراض الجند ، فوجدا بالباب الدوك ( ولنجتون ) وأركان حربه فقدمهم
البرنس ألبرت إلى إبراهيم باشا وسليمان باشا ثم توجه الجميع بين صفوف
الأهالي إلى محل الإستعراض وكان الأمير إبراهيم باشا يستجلب أنظار الحاضرين
بكسوته الإرجوانية المزركشة بالذهب ونيشان ( اللجيون دونور ) وبعد انتهاء
الإستعراض عاد الأميران إلى سراي ( بوكنهام ) والمتفرجون يصفقون سروراً
واحتفالاً إلى أن وصلا إلى السراي فعاد إبراهيم باشا إلى الفندق .(1/233)
"""""" صفحة رقم 234 """"""
وفي اليوم 11 منه توجه سموه لحضور الإحتفال المعدّ لتوزيع الجوائز على
كل من حاز قصب السبق في ميدان الفنون اللطيفة وبعد عودته قدم له سليمان
باشا المسيو ( أو كوِنَل ) زعيم الارلانديين وبعد أن زارا كثيراً من اللوردات
ووزراء الدولة الإنكليزية سافر من لندن في الساعة الخامسة من ظهر ذلك اليوم
قاصداً ( برمنجهام ) و ( منشستر ) وغيرهما من المدن الصناعية أو التجارية للبحث
عن أسباب ثروة الأمة الإنكليزية وإدخال بعض هذه الصنائع لمصر خصوصاً ما
توجد فيها مادته الأصلية مثل القطن والحرير وغيرهما .
ولا حاجة لنا بذكر تطواف سموه بالتطويل خوفاً من الإطالة ، ويكفينا أن
نقول أنه ساح كافة بلاد بريطانيا واسكوتلاندا وارلاندا الشهيرة ثم عاد إلى
لوندرة في اليوم الخامس من شهر يوليو سنة 1846 وبعد أن قضى يومه وليلته
في الإستراحة ، خرج مع بعض حاشيته وطاف خفية في أهم شوارع المدينة ثم
الحارات التي يسكنها الفقراء وتعجب من وجود كثير من الفقراء في ضنك
شديد بين أفراد هذه الأمة التي بلغت أعلى الثروة وأغلى الغنى ، يسكنون أماكن
لا تليق بسكنى البهائم مع وجود القصور الباذخة بجوارها مما يزيد في إظهار
حقارة هذه المساكن الرثة ، وعند عودته وجد العربات الملوكية في انتظاره
ليتوجه إلى سراى باكنجهام لمقابلة جلاله الملكة فكتوريا فذهب توّا إلى السراى
وقابل الملكة مقابلة خصوصية استمرت ساعتين من الزمن ثم عاد ثانياً إلى
السراى في نحو الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم ( 6 يوليو سنة 46 ) لتناول
العشاء على المائدة الملوكية فكانت الملكة تلاطفه في أثناء الطعام وتسأله عن
صحة والده وعن حالة بلاده وتشكره على مساعدة حكومته للتجارة
الإنكليزية وتمنت دوام المحبة بين حكومتها والحكومة المصرية .(1/234)
"""""" صفحة رقم 235 """"""
وفي صبيحة اليوم السابع سافر من طريق نهر التيمس الذي يمر بمدينة لوندن
إلى مدينة ( جرينويتش ) حيث زار المستشفى البحري المقام هناك لإقامة من
يصاب من البحارة الإنكليزية بعاهات تمنعه عن الإكتساب وكان تأسيس هذا
المستشفى في سنة 1696 ، وهو أشبه شيء بسراى الأنفاليد بفرنسا التي مرت
الإشارة إليها .
وفي مساء ذلك اليوم أعدّت له شركة الهند الشرقية مأدبة فاخرة قام في
ختامها أحد أعضائها وشكر الحكومة المصرية على مساعدة هذه الشركة في
جميع أعمالها وفي يوم 11 يوليو صنع حاكم مدينة لندن ( اللورد مايور ) مأدبة
عظيمة لإبراهيم باشا في دار الحكومة ( مانسن هوس ) ودعا إليها نخبة رجال
الحكومة وكان من جملتهم اللورد جون رَسَل فألقى في ختام المأدبة خطاباً مطولاً
أبان فيه ما يعود على مصر من مصافاة انكلترا واتخاذها خليلة .
وفي يوم 13 أولم لسموه اللورد بالمرستون ، وكان المدعوون قليلين وقابل
اللورد سموه من الباب كما قابله اللورد مايور وفي انتهاء الوليمة قال اللورد
بالمرستون مقالة أنيقة لم يخرج فيها عن الموضوع خطاب اللورد جون رَسَل .
عودة إبراهيم باشا إلى مصر :
وكانت هذه الوليمة خاتمة الإحتفالات التي أقيمت في بلاد الإنكليز إكراماً
للأمير إبراهيم باشا وحاشيته ففي الساعة السابعة ونصف من صباح يوم 14
منه قصد سموه محطة السكة الحديدية بين صفوف المودعين وبعد أن قام له
بواجب الوداع كل من حضر ، وخصوصاً القائم بأشغال الدولة العلية المدعو(1/235)
"""""" صفحة رقم 236 """"""
أديب أفندي ، سافر سموه على القطار البخاري إلى فرضة ( جبرت ) فوصلها في
نحو الساعة الحادية عشرة من مساء ذلك اليوم ثم ركب الباخرة الإنكليزية
( افنجز ) وسافر توّاً إلى بوغاز جبل طالر قاصداً العودة إلى وطنه بحراً وكان معه
كثير من العمال الإنكليز الماهرين في صناعة الأقمشة القطنية لإستخدامهم في
الفابريقات التي أنشأها والده في مصر ومقدار عظيم من الآلات الميكانيكية ،
وعدد وافر من الطيور الداجنة كان اشتراها من جمعية لندن الحيوانية
لإستكثارها في القطر المصري .
ولما وصل سموه أمام مدينة لسبون ( لشبونة ) عاصمة البرتغال أراد أن ينزل
إلى البر لمشاهدة المدينة وزيارة ملكها وكان ذلك في 23 يوليو سنة 1846
لكن لمناسبة وضع الملكة غلاماً وإقامة صلاة احتفالية في كنيسة لسبون
الكاتدرائية لم يتيسر للأمير إبراهيم باشا مقابلته في سرايته ، لأنه كان توجه إلى
الكنيسة لحضور الإحتفال فتوجه الأمير إليه هناك للتفرج ثم ركب البحر وسار
إلى جبل طارق ورسا قليلاً بمينا كادكس ( قادس ) بإسبانيا والبوغاز ، ثم استمر في
سيره إلى أن وصل جزيرة مالطة فحيته الحامية الإنكليزية بإطلاق مدافعها من
قلاعها ومن سائر السفن الراسية في الميناء . وفي الساعة التاسعة من صبح اليوم
الخامس من شهر أغسطس سنة 1846 رست السفينة المقلة لجنابه في مينا
الإسكندرية فقابله أخوه سعيد باشا الذي كان وقتئذ حاكم المدينة وجميع
القناصل ومأمور والحكومة وزينت المدينة إجلالاً لجنابه السامي ثم في اليوم التالي
سافر إلى القاهرة على طريق النيل فوصلها متمتعاً بالصحة التامة متفكراً فيما
رآه في سياحته من عجائب الأمور وفيما يمكن إدخاله في مصر من الصنائع
والفنون لإستغنائها عن واردات أوربا وزيادة رفاهية سكانها .(1/236)
"""""" صفحة رقم 237 """"""
هذا ولم يكن والده محمد علي باشا بمصر حين عودته بل كان قد توجه إلى
القسطنطينية في شهر يوليو من هذه السنة ليقوم بواجب العبودية إلى سدة
الخلافة العظمى ، وليظهر لأوربا أنه ما زال محافظاً على الولاء لجلاله السلطان
الأعظم أمير المؤمنين وخليفة رب العالمين وليزيل ما كمن في صدور أكابر الدولة
ووزرائها من الكراهة والبغض له .
ثم عاد منها بالتحية والإقبال في صبح 14 أغسطس سنة 1846 إلى
الإسكندرية وأطلق من قلاعها مائة مدفع وواحد ايذاناً بوصول سموّ أمير البلاد
وممدّن العباد .
ولما عاد إبراهيم باشا إلى مصر عاد له المرض واشتد عليه وهو مرض
الإسهال ( الدوسنتاريا ) فأمره الأطباء بالسفر إلى جزيرة مالطة ومنها إلى شواطئ
إيطاليا الشهيرة بجودة الهواء فسافر في شهر أكتوبر سنة 1847 وبارح
الإسكندرية في 9 منه .
وفاة إبراهيم باشا ووالده :
وفي أثناء هذه المدة ظهرت على محمد علي باشا علامات الهرم وضعفت قواه
الجسمية والعقلية ، فأشارت عليه الأطباء أيضاً بالسفر خارج القطر لترويح
النفس ولإستراحته من أتعاب الإدارة وأوصاب الحكومة فأذعن لمشورتهم
وسافر من الإسكندرية في أوائل فبراير سنة 1848 قاصداً جزيرة مالطة
فأحسن الحاكم الإنكليزي مقابلته وأكرم وفادته وسافر منها قاصداً مدينة نابولي
حيث كان هناك ولده إبراهيم باشا ، وفيها وصل إليه خبر ثورة أهالي فرنسا على
ملكهم لويز فيليب وعزلهم إياه ومناداتهم بالجمهورية ، فحزن لذلك محمد علي
باشا لما كان بينهما من علائق المودة والمحبة وثقل عليه المرض وازدادت قواه
العقلية ضعفاً حتى التزم الأطباء المرافقون له بإرجاعه إلى الإسكندرية فوصلها في(1/237)
"""""" صفحة رقم 238 """"""
أواخر شهر مارث سنة 1848 وتبعه ولده إبراهيم باشا فأقام والده بسراي
رأس التين ومعه أحذق الأطباء .
وعاد هو إلى مصر وعقد ديواناً تحت رياسته لإدارة أحوال الحكومة مدة
مرض والده وأرسل بذلك إلى دار الخلافة فورد في منتصف شهر يوليو سنة
1848 مندوب يدعى مظلوم بيك من قبل الخليفة الأعظم ومعه أمر بتولية
إبراهيم باشا مكان والده إلى أن يشفى فلم يحتفل احتفالاً كلياً بهذا المندوب
لمرض أبيه وانتشار الوباء في أنحاء القطر . وفي أواخر شهر يوليو سنة 1848
سافر إبراهيم باشا مع هذا المندوب إلى القسطنطينية للمثول بين يدي الحضرة
السلطانية واستلام فرمان التولية من يدها الشريفة وكان سفر سموه إلى جزيرة
رودس على إحدى الدوارع المصرية تخفره الدونانمة المصرية بتمامها ومنها ركب
سفينة عثمانية كانت في انتظاره فوصل إلى إسلامبول في 25 أغسطس وتشرف
بالمثول لدى السدة العلية ونال منها كل رعاية والتفات ، لكنه لم يلبث أن
عاوده المرض فأسرع بالرجوع إلى مصر إتباعاً لمشورة الأطباء فسافر من
القسطنطينية في 3 سبتمبر سنة 1848 على إحدى السفن العثمانية فأوصلته
إلى جزيرة رودس ، وكان في انتظاره السفينة المصرية ( بني سويف ) فركبها
ووصل ثغر الإسكندرية في 9 سبتمر سنة 1848 وكانت قد خفت وطأة
الوباء بعد أن أهلك عدداً عظيماً من الأهالي ، وبعد أن زار والده في سراى رأس
التين عاد إلى القاهرة وجمع بالقلعة ديواناً عظيماً من علماء البلد وأعيانها
وقناصل الدول وتلا الفرمان العلي الشأن المؤذن بتوليته على أريكة الحكومة
المصرية وأطلقت المدافع ايذاناً بذلك واستبشاراً بما هنالك ، واستمر سموه قابضاً
على أزمة الحكومة والأحكام إلى أن اخترمته المنون في ليلة 10 نوفمبر سنة
1848 وكانت ولادته في مدينة قوله سنة 1789 فتولى بعده عباس باشا ابن
أخيه طوسون باشا .(1/238)
"""""" صفحة رقم 239 """"""
وكانت وفاة محمد علي باشا في يوم 2 أغسطس سنة 1849 عن ثمانين سنة
قضاها في تحسين القطر المصري وتخليصه من أعدائه المماليك وفتح الكثير من
البلاد وإجراء الإصلاحات مثل فتح المدارس وإنشاء الترع والجسور وتأسيس
الورش والفابريقات ، فمات رحمه الله مأسوفاً عليه من كل مصري حرّ الترعة
وسنأتي في الباب التالي على بيان ما فعله من الإصلاحات ، بدون اختصار مخل
ولا تطويل ممل ، ليحظى القرّاء بما لهذا الشهم العظيم من الأيادي البيضاء على
وطننا العزيز الذي كان مضغة في أفواه المماليك يستترفون ثروته ويضعفون
قوته بفعلهم ما لا خير فيه ، مما أتينا في صدر هذا الكتاب على بعضه لأن
استقصاء ما ارتكبوه في مصر من المظالم والمحرّمات يستلزم المجلدات
الضخمة بل يتعسر حصره فعلى من يريد الوقوف على أعمالهم أن يطالع الكتب
المطولة في فن التاريخ فإنها كثيرة لا تحصى وأسماؤهم لا تستقصى .(1/239)
"""""" صفحة رقم 240 """"""
صفحة فارغة(1/240)
"""""" صفحة رقم 241 """"""
- خاتمة
فيما فعله محمد علي باشا من الاصلاحات والتأسيسات
أن أوّل ما شرع فيه محمد علي باشا رحمه الله ممدّن مصر من الإصلاحات
ليعيد إليها مجدها الأثيل تأسيس المدراس لبث العلوم والمعارف بين المصريين
الذين هجر وطنهم العلم ، فأخذ العزيز في إحياء المدارس بعد أن كانت فيها
دوارس وأعاد العلوم إلى وطنها ومرباها ليستضاء بمسراها ، فأسس مدرسة
الطب بأبي زعبل بناء على طلب الدكتور كلوت بيك الفرنساوي سنة 1242
هجرية ( 1826 م ) وأتى له بالأساتذة من البلاد الأورباوية وذلم أن كلوت
بيك أظهر لمحمد علي باشا احتياج البلاد لتأسيس هذه المدرسة لتستغنى عن
الأطباء الأجانب ، وليوجد بمصر أطباء كافية للجيوش البرية والبحرية وقدّم له
بذلك تقريراً إضافياً قال في آخره يجب أن يكون بمصر مدرسة طبية تكون
تلامذتها من الوطنيين المخلصين الذين يغارون على بلادهم ويحبون تقدم وطنهم
وارتقائه في سلم التمدّن والعمران ، ويتوصل لذلك بإنشاء استباليه عمومية يتعلم
فيها مائة وخمسون شاباً ممن لهم إلمام بمعرفة اللغة العربية قراءة وكتابة ومبادئ
الحساب ويلزم أن تدرس لهم اللغة الفرنساوية وأنواع الطب بفروعه سيما
الجراحة وتكون مدة الدراسة أربع سنوات يختبر التلامذة في آخر كل سنة منها ،
فسر الباشا من هذا المشروع وأصدر أوامره بتأسيسها وجعلها تحت رياسة
كلوت بيك .
وجعل أيضاً مدرسة للطب البيطري وولى رياستها للموسيو هامون
الفرنساوي ، ومدرسة المهندسخانة ورئيسها ( لامبربيك ) الفرنساوي ، ومدرسة
للموسيقى ، وأخرى لتعليم الصنائع والفنون ، وهذا كله غير المدارس الإبتدائية
والتجهيزية التي أنشئت في أنحاء القطر المصري ومدرسة الألسن بناء على طلب(1/241)
"""""" صفحة رقم 242 """"""
العالم الفاضل رفاعة بيك فقد جاء في الخطط المصرية لعلي باشا مبارك في ترجمة
البيك المذكور ما نصه .
عرض رفاعة بيك للجناب العالي أنه في إمكانه أن يؤسس مدرسة لتعلم
اللغات الأورباوية ويمكن أن ينتفع بها الوطن ويستغني عن الدخيل فأجابه إلى
ذلك ووجه به إلى مكاتب الأقاليم لينتخب منها من التلامذة ما يتم به المشروع
فأسس المدرسة وفي المدة المعينة امتحنت التلامذة في اللغة الفرنساوية وغيرها من
العلوم المدرسية ، فظهرت نجابة التلامذة ، ثم شكل بها قلم ترجمة ترجم فيه كثير
من الكتب . وكان بهذه المدرسة قسم تجهيزي خاص وهو أيضاً تحت رياسته
وكان معلموها من تلامذه مدرسة الألسن فنبغ منها رجال بارعون في
الإنشاءات العربية نظما ونثراً وفي العلوم العربية كذلك . ثم ألغيت هذه المدرسة
مع غيرها من المدارس في مدة المرحوم عباس باشا .
وأنشأ أيضاً مدرسة لتعليم الزراعة العلمية والعملية ببلدة قديمة تدعى ( نبرُوه )
من مديرية الغربية ، وأتى لها من البلاد الأوروباوية بالمعلمين وآلات الفلاحة
المستعملة في بلادهم وجعل فيها من شبان المصريين 40 تلميذاً لدراسة فن
الزراعة الذي عليه مدار الثروة في سائر البلاد وإتقان هذا الفن النفيس علماً
وعملاً ، وكذا صناعة استخراج السمن والجبن من اللبن واعتنى العزيز بتلك
المدرسة وذهب إليها بنفسه وكان يودّ نجاحها ، لكن الأهالي والحكام كانوا لا
يرغبون في هذه الإصلاحات وينسبون إليها عدم الفائدة وأنها لا تساوي ما
يصرف عليها ومع ذلك لم يحصل لهمته فتور حتى كثر اللغط بزيادة مصاريفها
وعدم ظهور نتيجة منها ولما رأى ناظرها المسيو ( جران جان ) عدم رضا الأهالي
عنها ، استقال من وظيفته وخلفه فيها شخص أرمني تربى في فرنسا فتبع أهواء
الأهالي وعوائد المزارعين فاضمحلت المدرسة بالكلية وكان ذلك داعياً إلى نقلها
لشبرا الخيمة لتكون تحت نظر الموسيو ( هامون ) ناظر المدرسة البيطرية ، فأجتهد
في ترتيبها وإتقان التعليم فيها على أسلوب المدارس الفرنساوية ، لكن لم يمتنع(1/242)
"""""" صفحة رقم 243 """"""
المعارضون عن معارضته ولم ينتظروا حسن النتيجة فاضمحل حالها ودرس أمرها
ولم تأت بالثمرة المطلوبة .
وأسس أيضاً المدارس الحربية منها مدرسة المشاة ( بيادة ) وكانت بمدينة دمياط
ومدرسة الخيالة بسراي مراد بيك الكبير ورئيسها المسيو ( فاران ) من ضباط
الجيش الفرنساوي ومدرسة الطوبجية بمدينة ( طره ) بالقرب من القاهرة
ومؤسسها الكلونيل ( سيجيرا ) الإسبانيولي .
ولم يكتف العزيز بإنشاء المدارس في كافة أنحاء القطر المصري وتأسيس
المدارس العليا بالعاصمة ، لعلمه أنه يكون بهذه الطريقة دائماً محتاجاً لمعلمين من
الأجانب ما دام لم يكن لديه من المصريين من يقوم مقامهم في المستقبل فتكون
مصر بسبب ذلك ملزمة باستخدام الأجانب في حكومتها ، اضطر إلى إرسال
عدد عظيم من شبان المصريين إلى أوربا عموماً وباريس خصوصاً لتلقى العلوم
بها لما اشتهرت به مدارسها من اتساع المعارف ودقة التعليم ، ولا يخفى ما كان
في ذلك من مخالفة عوائد الأهالي الذين لم يفقهوا ولم يعلموا ما ينجم عن هذا
المشروع من تقدّم وطنهم بالنفع العميم فأخذوا يندبون حظ أولادهم الذين
ساعدهم الحظ الأوفر بدخولهم في جملة من اختير للسفر وصاروا يستعملون كل
الوسائط لحرمان أولادهم من ثمرة التعلم والتعليم لكن لم يفد بكاؤهم ولا
انتخابهم شيئاً ، بل صمم العزيز على إخراج مشروعه من حيز الفكر إلى حيز
العمل مراعياً في ذلك منفعة البلاد والعباد متيقناً أنهم يكونون عوناً له ولمن
يسمو أريكة الولاية من بعده على الإصلاح والتقدم في سبل الفلاح بقلب ثابت
وعزم شديد .
فأرسل في أوائل سنة 1826 أربعين تلميذاً وفتحت لهم مدرسة خصوصية
عهدت إدارتها إلى المعلم الشهير الموسيو ( جومار ) فقام بما عهد إليه خير قيام ،
ورتبها ونظم دروسها وعين لها مهرة الأساتذة وخص كل واحد من التلامذة
بفنّ معلوم لشدّة إتقانه ، فقد جاء في كتاب الموسيو ( هامون ) نقلاً عن تقرير(1/243)
"""""" صفحة رقم 244 """"""
تقدّم من الموسيو ( جومار ) إلى محمد علي باشا سنة 1828 أنه خصص من
التلامذة اثنين للعلوم السياسية ، وكان يدرس لهم قانون حقوق الملل والإقتصاد
السياسي وأكثر اللغات الأوروباوية المستعملة في السياسة ، ويسوحون بلاد
أوروبا للوقوف على عوائد أهلها ونظامهاتها الداخلية والخارجية وحالتها
الإقتصادية وأربعة للإدارة العسكرية وثلاثة للبحرية يدرسون العلوم الهندسية
للدخول في إحدى المدارس الحربية أو البحرية ، وثلاثة أيضاً للعلوم الميكانيكية
يتعلمون الهندسة العملية ويتدربون في المعامل والفابريقات ويتعودون على بعض
الأشغال اليدوية ، وكذلك فرقة لفن الطوبجية والإستحكامات وخص منهم عدداً
عظيماً لدراسة الكيمياء الصناعية لا سيما ما يتعلق بالصباغة وعمل الزجاج
والقيشاني وصناعة السكر ، ليكونوا مدربين على المعامل التي أنشئت بمصر كما
سيجيء ، وفريقاً لصناعة الطبع والرسم والحفر في الحجر والخشب لأعمال الخرط
الجغرافية والرسومات اللازمة للكتب العلمية وبعضهم للزراعة العملية التي هي
من أهم العلوم والفنون بالنسبة لمصر واتساع أرضها وخصوبتها .
وكانوا يبحثون عما يمكن إدخاله في القطر المصري من الأشياء التي توافق
تربتها من أنواع الثمار ويشتغلون أيضاً بالتاريخ الطبيعي وقليل من علم
البيطرة ، ومنهم من تخصص لدرس المعادن وكيفية استخراجها وذلك للبحث
عما عساه يوجد بمصر من المعادن وخصوصاً الفحم الحجري والحديد حيث
كان محمد علي باشا باذلاً جهده في استكشافهما في مصر ، لعلمه أنهما روح
الصناعة والتجارة والملاحة وبهما تقدّمت الأمة الإنكليزية عن غيرها من الأمم
وصارت ملكة البحار .
ثم في سنة 1832 أرسل أيضاً إلى باريس 12 تلميذاً من مدرسة الطب لإتمام
دروسهم وأرسل غيرهم إلى أن بلغ عدد من أرسل من المصريين إلى سنة 1842
مائة تلميذ .(1/244)
"""""" صفحة رقم 245 """"""
ثم أنشأ العزيز للوازم الخيالة وتحسين نوع الخيل في القطر المصري اصطبلات
لتربية الخيول واستنتاجها وقد قال الموسيو ( هامون ) الذي كان ناظراً على
مدرسة البيطرة والإصطبلات في زمن المغفور له محمد علي باشا في كتابه الذي
ألفه على مصر أنه لما تولى العزيز على مصر ، لم يكن بها من الخيل إلا القليل غير
الكافي بحاجات الزراعة والجند لكن لما اجتهد رحمه الله في شأن إنماء الزراعة
وتوسيع نطاقها والأخذ في تجنيد القدر العظيم من العساكر الخيالة جمع سموّه عدّة
من جياد الخيل ذكوراً وإناثاً وأنشأ لها اصطبلات بقرب القاهرة ثم نقلها بجوار
سراية شبرا ، فلم تحصل الثمرة المقصودة بل كان نتاجها يموت أو يتعب من
كثرة الأمراض ، ولما كان المسيو ( هامون ) المذكور ناظراً على مدرسة البيطرة
بأبي زعبل أمره العزيز بالتوجه إلى اصطبلات شبرا وتفقدها وتحرير تقرير عما
يراه لازماً لها من الإصلاحات حتى تأتي بالنتيجة التي أنشئت لأجلها ، فتفقدها
وقدم للعزيز تقريراً بما رآه لازماً لها من التحسينات فكلفه الباشا بإجراء كل ما
يجده موجباً لنجاحها فتولى إدارتها وبنى لها محلات جديدة مستكملة للشروط
الصحية ورتب لها كافة ما يلزم لها من المآكل والمشارب ، فنتجت وكثر عدد
خيولها وأنشأ اصطبلاً آخر بقرب ( نبروه ) .
ثم لما رأى الأعيان والأمراء وأعضاء عائلة الباشا رغبته في تكثير الخيل
واعتنائه بأمرها رغبوا فيها وأكثروا من اقتنائها وتنافسوا في تخيرها ، فسموّ
إبراهيم باشا السر عسكر كان له اصطبلات بجوار قصر النيل وفيها أربعمائة
فرس تقريباً جميعها من الصافنات الجياد ، وكذا كان لعباس باشا اصطبلات
بالقرب من المطرية أغلبها من كرائم خيل العرب وكذا كان عند كثير من
الأمراء والأعيان اصطبلات وفيها خيول جيدة ، فكان لأحمد باشا يكن اصطبل
فيه نحو ثلاثين فرساً وأيضاً لما كان إبراهيم باشا ببلاد الشام أرسل إلى مصر
العدد الكثير من إناث الخيل الشامية ففرّقت في البلاد المصرية .(1/245)
"""""" صفحة رقم 246 """"""
وكذلك أنشأ للوزام الجيش عموماً معامل لصناعة البارود والبنادق وسبك
آلات المدافع وعمل الأحذية والملابس الضرورية للجيش حتى أصبح جميع لوازم
الجندي من سلاح ولباس يصنع بالقطر المصري على نفقة الحكومة تحت ملاحظة
الأوروباويين الذين استخدموا لهذه الغاية الجليلة .
ولم يكن اهتمام العزيز محمد علي باشا بالبحرية أقل من اهتمامه بالعساكر
البرية فأنشأ بمينا الإسكندرية ترسانات لصناعة السفن التجارية والحربية ، وكان
الرئيس عليها رجلاً وطنياً يقال له الحاج عمر وكان من الحذاقة والنباهة على
جانب عظيم لكن لما دمرت أغلب السفن المصرية في واقعة ناوارين الحربية
وشرع العزيز في عمل دونانمة أخرى استحضر من فرنسا المهندس الحاذق الماهر
الموسيو سريزي بيك لتعميق الترسانة ليكون بها من المياه ما يكفي لحمل السفن
الكبيرة المزمع على إنشائها ثم أخذ في تأسيس ورش مخصوصة لفتل الحبال
وصناعة الحديد وعمل الصواري والقلوع وكافة ما يلزم للسفن وفي أثناء هذه
الأعمال جمع من جهات الأرياف العدد الكافي من شبان الأهالي لتعلم هذه
الصنائع تحت مراقبة معلمين من البلاد الأجنبية فاختص كل فريق بفرع من
فروع مصالح السفن حتى أتقنها .
وكانت نتيجة ذلك إتمام عدة سفن في أقرب وقت بين حربية وتجارية مع
الإتقان ، بحيث أنها عادلت أحسن السفن الأوروباوية واستغنت الحكومة بذلك
عن شراء سفن من الخارج ، نعم كانت الحكومة تشتري كافة ما يلزم لها من
حديد وأخشاب من البلاد الأجنبية بأثمان فاحشة لعدم وجودها في بلاد مصر
وشدّة الإحتياج إليها .
ولم يكن ذلك داعياً لفتور همة محمد علي باشا بل استمر على إنشاء السفن
بمصر ولم يصغ لكلام التجار الذين كانوا دائماً يثبطونه عن إنشائها ويبدون له
مالا مزيد عليه من الصعوبات وكثرة المصاريف ، ويدخلون عليه بكل حيلة
لينثنى عزمه عن هذه الوجهة الشريفة المبدأ والغاية ، وصارت بذلك الدونانمة(1/246)
"""""" صفحة رقم 247 """"""
المصرية تعادل أو تفوق دونانمة الدولة العلية وأحسن السفن الحربية المصرية
السفينة المسماة بالمحلة الكبرى والمنصورة والإسكندرية ، وكل منها يحمل مائة
مدفع ، وأما مصر وعكّا فإنهما يحملان 98 مدفعاً هذا سوى السفن الصغيرة
التي تقل حمولتها عن هذا المقدار وكان عدد من بها من الجند والبحرية نيفاً
وخمسة عشر ألفاً بخلاف الصانعين بالترسانة وكان عددهم لا ينقص عن
4000 . وبالجملة فقد بلغت مصر في مدته درجة لم تبلغها قط منذ ولاية
الرومانيين عليها فكانت قوّتها البرية والبحرية على ما جاء في كتاب كلوت بيك
تزيد عن 276 ألف جندي منها 130 ألفاً من الجنود المنتظمة و 41 ألفاً من
الباشبوزق و 19 ألفأ وخمسمائة من البحرية والباقي من عساكر الرديف
وتلامذة المدراس الحربية .
وغير ذلك كان له اعتناء كلي بإنشاء الإستحكامات اللازمة لحفظ سواحل
مصر من إغارة الأجانب عليها كما حصل في سنة 1807 فأحضر لذلك
المهندسين الحربيين من الأجانب ، وكلفهم باختيار المواقع المهمة من جميع
السواحل المصرية اللازمة لإنشاء استحكامات بها فأسست طبق رغبته العلية
وأحضر لها المدافع اللازمة وعين لحفظها العساكر الكافية ، فتحصنت بذلك
مصر وازدادت قوتها أضعافاً حتى قاومت الدولة العلية وبذلك انتصرت مراراً
على غيرها ، كما سبق ذكر ذلك في محله ، وزيادة على ذلك مال كثير من قوّاد
الدولة العلية للإنحياز إلى مصر لما شاهدوا في عزيزها من الكفاءة والقدرة على
أجل الأعمال وأنفعها وسلم أحمد باشا فوزي قبودان الدونانمة الشاهانية دونانمته
إليه بما فيها من الجند وكانت مركبة من 9 سفن كبيرة وستة عشرة سفينة صغيرة
تحمل ستة عشر ألفا من الجند البحريين و 5 آلاف جندي بريء ، فبذلك يظهر
جلياً أن الديار المصرية اكتسبت بحسن تدبير عزيزها قوة يمكنها بها أن تقاوم
أكثر من دولة حتى اضطرت الدول ليأمنوا على أنفسهم من صولة الديار
المصرية أن يتعاهد بعضها مع بعض بإرجاع مصر إلى حدودها الأصلية ، كما(1/247)
"""""" صفحة رقم 248 """"""
رأيت في هذا الكتاب ، وفي ذلك أكبر شاهد على قوة فكر العزيز وسعة عقله
وعلوّ همته ومكانة شهامته وحسن تدبيره .
ومن إنشاءات محمد علي أيضاً فابريقات الغزل ونسيج القطن والحرير
والكتان والصوف فكان للقطن خاصة 18 فابريقة وكانت في أهم مدن القطر ،
كالمنصورة ودمياط ورشيد ، إذ كان ينسج فيها قلوع السفن والمحلة الكبرى
وشبين الكوم وقليوب وزفتى وميت غمر في هذا الوجه البحري وبنى سويف
وأسيوط ، وبهما أكبر فابريقات الصعيد ثم في المنيا وفرشوط وطهطا وجرجا وقنا
بالوجه القبلي ، وأكبر الفوريقات فوريقة بولاق مصر التي كانت تسمى بفوريقة
مالطة لكثرة وجود المالطية بها وكان رئيسها المسيو ( جوميل ) الفرنساوي الذي
اجتهد في نشر زراعة القطن في القطر المصري ، وأقدمها الخورنفش بمصر التي
أنشئت سنة 1816 وأنشأ العزيز عدّة فوريقات أخر لغزل الكتان وأنشأ أيضاً
المبيضة بين بولاق وشبرا لتبييض مقاطع الكتان وبصم أقشة الشيت وكان يبصم
بها أيضاً المناديل فترغبها النساء كثيراً وفيها أيضاً أنوال النسيج الحرير وقد جعل
بها 200 نولا لنسيج المقصب وغيره وأحضر لها صناعاً من إسلامبول فأتقنت
صنعته وصار ما ينسج بمصر يضاهي في الرقة وحسن الصنعة ما يصنع في بلاد
الهند ونحوها .
وأنشأ بالقاهرة فوريقة لفتل حبال المراكب وغيرها من التيل وقد كان هذا
النبات مفقوداً من مصر فأوجده بها وأنشأ في بولاق فوريقة الجوخ أحضر لها في
مبدأ الأمر رجالاً فرنساويين أداروها مدة وتربى تحت أيديهم جماعة من شبان
المصريين ، ولم يكتف محمد علي باشا بذلك بل أرسل جملة من الشبان إلى
فوريقات سيدان وليون من أعمال فرنسا المشهورة بصناعة الجوخ فتعلموا تلك
الصنعة وأتقنوها ثم عادوا إلى مصر واستخدموا بفوريقة بولاق فحسن الجوخ
وصار يستعمل في ملبوس العساكر ، وكان ينسج بها أيضاً أحرمة وسجاجيد
للزوم العسكر ثم أنشئت فوريقة بمدينة فوّه لعمل الطربوش تحت إدارة رجل(1/248)
"""""" صفحة رقم 249 """"""
مغربي وجلبت لها الشغالة من تونس فنجحت حتى صار المتحصل يومياً ستين
دوزينة .
ومن إنشاءاته فوريقات السكر بالصعيد فأنشأ واحدة في الزيرمون وأخرى
بساقية موسى وأخرى بالروضة ، ومن ذلك إدخال زراعة النيلة بالقطر المصري
فجلب لها عدداً من مزارعي بلاد الهند لتعليم الأهالي وانتشرت زراعتها بالبلاد
وكان أغلب محصولها يستعمل في المصابغ التي أنشأها بشبرا وغيرها من بلاد
الوجه البحري والقبلي وأنشأ أيضاً معاصر الزيت فكان منها في الوجه البحري
مائة وعشرون معصرة لعصر زيت الكتان والسمسم وفي القاهرة أربعون لزيت
القرطم وعدد عظيم في الوجه القبلي لاستخراج زيت الخس خصوصاُ في مديرية
إسنا وأخرى لزيت السلجم في أخميم وما جاورها .
ولشدة اعتنائه رحمه الله بإصلاح أحوال مصر ورفاهية أهلها لم يكتف بإنشاء
المعامل والفوريقات بل وجه اهتمامه لإيجاد الموادّ الأصلية لهذه الصنائع بالبلاد
المصرية ، فأمر بالإكثار من زراعة القطن والتيل والنيلة وكافة النباتات التي لها
دخل في الصناعة ، ثم عنّ له أن يدخل تربية دود القز إلى الديار المصرية حتى
تستغني به البلاد عما يأتي لها من الشام وغيرها فأمر بإنشاء عدة سواقي
وتوابيت بالمحل المعروف برأس الوادي ( شرقية ) وأن يزرع شجر التوت اللازم
لتغذية الدود وذهب بنفسه إلى هذا الإقليم للإسراع بإنشاء السواقي وإقامة
الأبنية اللازمة لسكن المعينين من الفلاحين لتعهد الأشجار بالسقي والخدمة ، فلم
يمض إلا قليل من الزمن حتى كان بها ألف ساقية وغرست أشجار التوت لتربية
دود القز والحرير كما هو حاصل في بلاد الشام وجبل الدروز ثم استحضر
العزيز من هذه الجهات كثيراً ممن لهم إلمام ودراية بتربية دود القز وصناعة الحرير
وجمع لهم عدداً وافراً من أهالي الشرقية الخالين عن العقار ، لتعليمهم وسكنوا في
كفور بنيت لهم وزين هذا الوادي بالسواقي والأشجار حتى صار أهلاً للسكنى
بعد أن كان قفراً وعراً وفضاء متسعاً .(1/249)
"""""" صفحة رقم 250 """"""
وقال كلوت بيك في كتابه على مصر أن جميع ما غرس من شجر التوت
بجهة الوادي يبلغ ثلاثة ملايين شجرة في جهات متعددة تبلغ مساحتها عشرة
آلاف فدان وكان مقدار الحرير المتحصل سنة 1833 تسعة آلاف وتسعمائة
وخمسة وسبعين أوقة ، وكان لذلك أماكن وخدم أتى بهم العزيز من الخارج
وتعلم منهم الأهالي وبلغت دواليب الحرير مائتي دولاب ثم اضمحل ذلك بعده
حتى كأن لم يكن ولا يستعمله الآن إلا القليل من الأهالي . اه .
ثم أحضر رحمه الله من بلاد أوربا عدداً وافراً من أغنام أوربا المعروفة
بالمرينوس وذلك لتحسين جنس الأغنام المصرية وتحسين صوفها فإن صوف
الغنم المصرية على ما جاء في كتاب هامون الفرنساوي بسبب طوله وخشونته
وصلابته كان غير جيد لعمل الجوخ والطرابيش والثياب الرفيعة فكان العزيز
يشتري سنوياُ من صوف غنم أوربا بقيمة ثمانمائة ألف فرنك .
ووزعت الأغنام الأوربية في مديرية البحيرة وجعل لها مدير خاص بها وعين
لها رعاة من العرب ولكن لقلة المرعى بهذه المديرية ووجود أغلبها على حافات
الترع وفي مواطئ الأرض الرطبة تولدت فيها الأمراض ، ومع ذلك لم يكن لها ما
يقيها حرّ الصيف وبرد الشتاء حتى مات منها كثير ، ثم ذهبوا بها إلى الصحراء
لكثرة مرعاها عن غيرها فكان يتعلق الرمل بأصوافها وجلودها فيضر بصحتها
وجودة صوفها فلذلك لم تحصل منها الثمرة المقصودة ، ثم كلف العزيز الموسيو
هامون بالنظر في أحوالها وترتيب ما يوجب صحتها وتحسين صوفها وإكثار
نتاجها وأمره بتوزيعها في المديريات البحرية بحيث لم يبق في مديرية البحيرة إلا
ألف وخمسمائة رأس منها وصدرت أوامر أيضاً ببناء مراحات بسبرباي ومحلة
روح والمنصورة وغيرها ، فنظر الموسيو هامون في أمرها وسنّ لها لائحة تتبع في
كل جهة وأهم ما بها أن عدد المراح الواحد لا يزيد على ألف ويكون له ناظر
أوروباوي وكاتب ليقيد ما يموت وما يولد وجنس الذكر والأنثى وأن يميز(1/250)
"""""" صفحة رقم 251 """"""
البطون بعضها عن بعض بعلامات تعرف بها كنتاج أوّل بطن يعلم بخرقة في
الأذن اليمنى ونتاج البطن الثانية في اليسرى إلى غير ذلك من العلامات .
ولرغبته في تحسين الأغنام في كافة أنحاء القطر من تلك الأغنام اشترى من
العرب أربعة آلاف رأس وقدرها من الأهالي ووزع في الجهات جملة من ذكور
الأغنام المرينوس واستمر الحال على هذا المنوال ، وقد قال الموسيو هامون في
كتابه أنه وجد منها في القطر المصري سنة 1837 ميلادية سنة 1253 هجرية
7548 رأساً ، ومع بذل الإجتهاد والإهتمام لم يتم غرض العزيز من تلك
المصلحة لعدم قيام المستخدمين بما عينوا له على الوجه المطلوب ، فإنه لم يحصل
من صوفها بعد عشر سنين من تجزئتها إلا نحو ستمائة أوقة مع كثرتها وكثرة
مصاريفها ولم يستغن عن شراء الصوف من البلاد الخارجية ثم لم يزل حال
الأغنام في الإضمحلال حتى لم يكن منها الآن إلا آثار قليلة في بعض جهات
الوجة البحري . اه .
وأما اهتمام محمد علي باشا بأمور الري الذي عليه مدار الزراعة في القطر
المصري فإنه كان عظيماً جداً ولا شك أنه أدرك بقريحته الوقادة وفطنته النقادة
أن مدار سعادة مصر بالأصالة هي الزراعة ولا يسوغ لها أن تتوقع ثروة إلا إذا
كان محصولها الزراعي وأن حياتها متعلقة بنيلها ، إلا أن أرض مصر أقرب
للتلف من غيرها اذهى تابعة للنيل وجوداً وعدماً فإذا أغمض النيل عنها عينه
سنة من السنين أو حجب عنها فيضانه الممزوج بالطمي المخصب الذي هو
بالنسبة لأرض مصر بمثابة السماد كانت السنة سنة جدب كما أنه إذا أغرقها
بمائة الزائد عن الحاجة كان الضرر أعم والخطب أدهى وأهم ، وحسبك في ذلك
ما جاء في القرآن الشريف في سورة يوسف عليه السلام من ذكر سبع بقرات
سمان يأكلهنّ سبع عجاف ، فالآية قد جاءت في وصف مصر على وجه التحقيق
وقوله تعالى ) فما حصدتم فذروه في سنبله ( يرشد إلى الإحتياط والإحتراس
ولذلك كان حكماء ملوك مصر يحتاطون في سنى الخصب فلا يخرجون الزائد(1/251)
"""""" صفحة رقم 252 """"""
عنهم لغيرها من البلاد ، ويعتنون كل الإعتناء بحفظ مجرى النيل وتنظيم القناطر
والجسور والترع والخلجان واستمر الحال كذلك حتى وقعت مصر في قبضة
المماليك فكانوا لا ينظرون لعمارتها بل يأخذون كل ما طاب لهم وراج في كل
عام حتى صارت مصر خراباً وأهمل أمر النيل وترعه حتى كانت الأراضي تفسد
في كل عام في كثير من الأقاليم ، إلى أن هجمت جيوش رمال البراري على
وادي النيل ولو بقي حكم إبراهيم بيك ومراد بيك عشرين سنة لفسدت جميع
أرض مصر الزراعية ومن فيها ، ولما قيض الله لمصر المرحوم محمد علي باشا أدرك
أهمية النيل بالنسبة لمصر وأخذ في إحياء مواتها فوجه اهتمامه أوّلاً إلى إيصال الماء
إلى مدينة الإسكندرية لرى ما بينها وبين فرع رشيد من الأراضي .
وصدرت أوامره السنية سنة 1233 هجرية الموافقة سنة 1819 ميلادية
بحفر ترعة المحمودية وأن تعمق حتى تجري صيفاً وشتاء وأن توسع بحيث يسهل
لجميع سفن النيل منها الوصول إلى المدينة بأنواع المحصولات في زمن قريب بلا
كبير مصرف ولا مشقة مع حصول تمام النفع للأهالي وحيواناتهم ومزروعاتهم .
وكانت قبل ذلك تجارات القطر لا تصل إلى الإسكندرية إلا من ثغر رشيد أو
دمياط وذلك مستوجب لكثرة المصرف وزيادة المشقة جداً فإن سفر البحر المالح
لا يخلو عن الخطر وكانت لا تخلو سنة عن غرق بعض السفن والبضائع
والآدميين . ولأهميتها جمع لها عدد عظيم من الأهالي من جميع مديريات القطر
حتى تمت في أقرب وقت مع الأبنية اللازمة لها وقد بلغ ما صرف عليها إلى
تمامها 300 ألف جنيه ، على ما نقله كلوت بيك ، وهذا بالنسبة لما ترتب عليها
من المنافع شيء يسير كما هو مشاهد وجعل فيها فمها عند ناحية العطف وكان
ذلك سبباً في اتساع عمارة تلك الناحية وكثرة خيراتها ، إذ كانت مرسى للسفن
التجارية وجعل مصبها بالقرب من الإسكندرية وقد حصل منها منافع جمة
وفوائد عديدة ، كأحياء غالب الأراضي التي بجوانبها من العطف إلى الثغر ، بعد
أن كانت ميتة غير صالحة للزراعة ولما اتسع نطاق الزراعة بسببها اتضح عدم
كفاية مياه المحمودية بجميعها واحتيج إلى تركيب وابورات العطف ، ثم إنه عند(1/252)
"""""" صفحة رقم 253 """"""
تمام حفرها جعل في فمها وفي مصبها قناطر كانت مانعة لسفن النيل والسفن
الآتية من الخارج من الدخول فيها فكانت التجارة تنقل مرتين عند فمها وعند
مصبها وبالعكس .
ولما علم العزيز بأن وجود القناطر ينشأ عنه المصاريف الباهظة التي توجب
تأخير تجارة القطر المصري فضلاً عن المشقة وكان غرضه درء المضار وتذليل
الصعوبات ، أمر جنابه العالي بإزالة تلك القناطر وصنع هويسات على فمها
ومصبها وذلك في سنة 1842 الموافقة سنة 1258 هجرية ، وسميت هذه
الترعة بالمحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني سلطان القسطنطينية .
وقد شرع العزيز محمد علي باشا في إنشاء كثير من الترع والجسور والقناطر
لتعميم الري وأتم أغلبها ، ومن أكثر هذه الأعمال فائدة وأكبرها عائدة إقامة
القناطر على فرعي النيل المفترقين عند شلقان وذلك أن هذين الفرعين يتكون
منهما مثلث وهو الجزيرة المسماة بالدلتا ومنهما تروى عدّة مديريات وهي
القيلوبية والشرقية والدقهلية والمنوفية والغربية والبحيرة إلا أن انتفاع تلك
المديريات منهما لا تكون تاماً إلا في زمن فيضان النيل ، أما في زمن التحاريق
فميا ههما تنصب في البحر المالح ولا تعود منهما على الزراعة أدنى فائدة ولذلك
استصوب المرحوم محمد علي باشا إقامة قنطرتين عليهما من أمام شلقان إلى بر
المناشئ إحداهما على البحر الشرقي والثانية على البحر الغربي ، وأن تكون
القنطرتان على استقامة واحدة من البرّين وأن يبنى رصيف على رأس الجزيرة
يكون ابتداؤه من الشاطئ الغربي من فرع دمياط وانتهاؤه إلى الشاطئ الشرقي
من فرع رشيد وأن يكون هذا الرصيف عالياً جداً بحيث لا يرتفع إليه الماء في
زمن الفيضان ، وأن يعمل لهذه القناطر عيون بأبواب محكمة تقفل وتفتح بحسب
الإقتضاء لحبس الماء وإرساله عند اللزوم ، وأن يعمل أيضاً لمساعدة القناطر
ثلاث ترع ( رياحات ) كبيرة تكون فوهاتها من فوق تلك القناطر وإحدى هذه
الترع تكون معدة لري القليوبية والشرقية والدقهلية بغاية الراحة وفوهتها من(1/253)
"""""" صفحة رقم 254 """"""
الشاطئ الشرقي قبلي شلقان ، والترعة الثانية تكون فوهتها من وسط رأس
الجزيرة أعنى من منتصف الرصيف وتكون معدة لري المنوفية والغربية ، والترعة
الثالثة يكون مأخذها من فوق القناطر الخيرية ببر المناشي وتكون معدة لري
مديرية البحيرة ، وأن يعمل لهذه الترع الثلاثة قناطر وعيون بحسب ميزانية
الأرض وأن يعمل لها أبواب تقفل وتفتح عند اللزوم فإذا فتحت القناطر الخيرية
والرياحات على هذه الكيفية ترتب منه أنه في وقت فيضان النيل تفتح القناطر
الخيرية وقناطر الترع الثلاث لتصريف ما زاد من مياه النيل عن لزوم الري وفي
أيام التحاريق تقفل الأبواب المذكورة قفلاً محكماً فترتفع المياه أمام القناطر
المذكورة فتنصب في الرياحات وبذلك تزيد فيها المياه أيام التحاريق ويتسع
بذلك نطاق الزراعة الصيفية .
ولذلك أمر محمد علي باشا ببناء هذه القناطر ، وعند أوّل حجر من
أساسها احتفل احتفالاً رسمياً وكان ذلك على ما جاء في كتاب موسيو
( وانترينيه ) في يوم 9 إبريل سنة 1847 بحضور جنتمكان وقناصل الدول وجم
غفير من أعيان الأهالي والتجار الوطنيين والأجانب ، وعندما تنازل رحمة الله
بوضع الطين على الحجر الأول بيده الطاهرة أطلقت المدافع إيذاناً بالإبتداء بهذا
الفعل العظيم الذي يعود على مصر بما لا يقدر قدره من الفوائد وانتشر البشر
والسرور في أنحاء القطر بين الأهالي واستبشروا بالسعادة والرفاهية بسبب هذا
البناء ، الذي لو لم يكن لمحمد علي باشا إلا هو بكفاه فخراً جميلاً ونبلاً جليلاً
واستحق من المصريين الثناء عليه والإخلاص له ولعائلته الكريمة وحاشيته
العظيمة .
ومن منشآته رحمه الله تلغرافات الإشارات ، رتبه الموسيو ( ابرو ) بمساعدة
الموسيو ( كوست ) بين مصر والإسكندرية في سنة 1821 ميلادية بناء على
أوامر عزيز مصر ، وذلك لتصل إليه أخبار جيوشه المشتغلة بقتال اليونان في
أقرب وقت وقد جعل لهذا التلغراف ثماني عشرة محطة بنيت فيها الأبراج العالية(1/254)
"""""" صفحة رقم 255 """"""
وأتى لها بالنظارات والآلات من بلاد أوربا ، وقد تم هذا المشروع حتى وردت
الأخبار من الإسكندرية إلى القاهرة وبالعكس في مسافة لا تزيد عن أربعين
دقيقة .
وبالجملة أصبحت مصر ذات بهجة ونضارة وزهرة وغضارة بل أضحت
مدينة السلام ودارة الاستسلام ومناراً للعلم وعلماً للحق ، فاتسق النظام
واستتب المرام والتأمت الحال بعد أن استحال وأخصب القطر وأثرى ، فزالت
فاقته وانتشرت إفاقته واستوفر أسباب التقدّم بعد أن أوشكت أركان التمدن أن
تتهدم ، حيث العزيز ( برّد الله مضجعه ) برّد الغليل وشق الغُلة وآسى القطر
بحكمته وأزال العلة فأسرع لمصر الصفاء وتزلف لها غبَّ غيبة وجفاء ، وفني في
فنائها الروع وأحييت بها السكينة فأسكنت الربوع وأبيد الظلم والميْل ونُشر
لواء العدل الظليل وسُوّى بين الحقير والجليل ، والوضيع والأثيل والدخيل
والأصيل ، وأحُكْمت بين مختلف الأقوام عرى التآلف وثت روح الإخاء
والتحالف ، ومنُحت المنح وأُجزْلت الجوائز وحفظ العزيز العُرف لذويه وأغضب
قلوب أهل الإلحاد وموازريه وكان جميل صنعه وجليل مصُطنعه سُلماً ، إلى
ملتمسه وبلاغاً لمبتغاه ، فهادنته صروف الزّمان وتخطته حوادث الحدثان ولوت
عنه عوادي الملوان وغفر للدّهر هفواته وعفى عنه من زلاّته بعد أن انتهى لجنابه
حلّ الأمور وعقدُها وفتقها ورتقها ، وعانى المشقات بعوالي الهمم وحمي وطيس
الحروب واحتدم ، وطهرُت البلاد من العاثين ووطد أركان الأمن باستئصال
جراثيم المفسدين وملّك المقسطين أزمة الأحكام وقدّ هامات الظالمين بصمصام
الإنتقام حيث كانت لهم سطوات وصولات ووقعات وبطشات فكانوا أحكموا
أسباب الوقاحة وقطّعوا أوصال السماحة ومدُّوا أطناب المظالم وأطنبوا في بث
المحارم ، وعمدوا إلى استعباد المصري فكان عميداً وأثقلوا كاهله بالبلايا حتى
صار سيره وئيداً ، ولّجوا في غلوائهم واستمروا في جهالاتهم وتهافتوا في ضلالاتهم
وجمعوا في غواياتهم فكان تاريخهم نوادر مساءات وبوادر سوآت ولكن أبى الله(1/255)
"""""" صفحة رقم 256 """"""
إلا أن مّرضت أهواؤهم وتصرّمت علاقاتهم وانبتت أواخيهُم ورثّ عهد
شوكتهم ووهن زمان صولتهم بمصاليت الجُند وصناديد العزيز في ذلك العهد إذ
أعملوا عوامل الفتك ، وشحذوا أسنة البتك وإن شئت فقل كانوا حُماة
الإنسانية وذادّتها ورُعاة المروءة وكتيبتها ، كل ذلك بتدبير واشارات العزيز
كوكب عصره وفريد دهره والأقوام ، ومنبعث العدالة والنظام ممدن مصرنا
وعزيزها الأول وقد خلفه خلف أضاعوا بقية الفظائع وآثروا الحقائق فأودوا
الشبهات بحججهم القواطع ، فأصبح الناس يحمدون غب السرى ويتناقلون
صحف اليمن والأمان بلاا مترا ، حتى تبوأ أريكة الملك خير مملك على
التحقيق ، ألا وهو خديوينا الداوري الأكرم ( محمد باشا توفيق ) فأتم للنظام
مُعدّاته وشيد للعلم مناراته وأكمل للعدل منصّاته وأسبغ للإرتقاء لُباناته ، حتى
أجمعت القلوب على محبته وولائه بما أفعمها سروراً من عواطفه السنية وآلائه
وأنعشها بإبادة غواشي الدهر وبأسائه ، فقد بلغ بمصر من المنزلة غاية ليس
وراءها مُطلّع لناظر حتى ساوت سواها من الأمم المُعجبة بالمدينّة في ميدان
الرفاهة والتفاخر ، سيما في عصر الوزارة الوطنية المحضة الرياضية أبيات النفوس
العصاميّة حيث صرفت في بلوغ القطر امنيته عنايتها وبذلك في تقدمه جهدها
المستطاع ورعايتها ، وحفظت لأبنائه حقوقاً طالما ماطلها فيها الدّهر وانتقت
للهيئة الحاكمة رجالاً ازدهي بمآثرهم تاريخ هذا العصر غُذوا بلبان الحكمة
فآخاهم الإخاء وعُنوا بالعدالة فصافاهم الصّفاء فمتع اللّهم مصرنا بشموس علا
التوفيق وأنجاله الفخام وأمتعه بدوام وزارتها الحالية وأيدّ مناصب رجالها البررة
الكرام ، وأفض على قطرنا من قطرات فيوضاتك الإلهية وأمنحنا جميعاً من
لحظات عنايتك الصمدانية ما يعضد آمالنا وينجح أعمالنا لنحظى بمرضاتك في
الحال ولنفوز بتنزل رُحماك في المآل .
وإلى هنا أمسكت عنان اليراع واقتصرت من الجُلّ على القُلّ بل على البعض
من الكُل وجعلت هذه العُجالة سهلة المأخذ لمن رام الإطلاع على مناقب جمعتُ(1/256)
"""""" صفحة رقم 257 """"""
شتاتها من مفرقات الرقاع ما بين غربية وشرقية ، وعربيّة وأعجميّة ، وتحاشيت
فيها عمّا غرب مبناه وعزب مغزاه ، وليس قصدي أن يقال فلان ألفّ ، وصار له
في كتيبة الكتب مؤلف ، وإنما هذه خدمة لوطني الأعز الأغرّ ، حملني على القيام
بها حُبّيه الصادق الأبرّ ، ومع ذلك أرجو إقالة عثارى عند العثور فيها على
السقط ، وادّكر أيها المطّلع ( من ذا الذي ما ساء قطّ ) ، أحسن الله لنا خواتيم
الأمور ، بجاه خاتم المرسلين وصلّى وسلم عليه وعلى إخوانه النبيين وآله
وصحابته الأكرمين والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين ما جمع كاتب بين حرفين ،
وبلغ الكمال المطهّر من التشيّع والمين . . آمين .(1/257)