بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده سبحانه ونستعين به ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن النظر في سير العلماء الربانيين وأئمة السلف الصالحين – وخاصة في هذا العصر الذي انتشرت فيه الفتن والشبهات – لهو من أنفع الوسائل لمعرفة طريق الحق والسير عليه؛ لأنهم القدوة العملية التي ينظر إليها ويقتدى بها بعد رُسل رب العالمين، وصحابة سيد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
وفي هذه الورقات سوف نتحدث عن إمام من أئمة السلف، بل من أكابر أئمة السلف عليهم رضوان الله تعالى، وهو الإمام جعفر الصادق عليه رحمة الله تعالى ورضوانه.
فهو إمام اجتمعت فيه صفات قل أن تجتمع في شخص؛ فقد اجتمع فيه الشرف الذاتي: العلم والعبادة ومكارم الأخلاق.. والشرف الإضافي بكريم النسب والقرابة الهاشمية، والعترة المحمدية.
كذلك اجتمعت في عصره أسباب كثيرة، تجعل دراستنا لسيرته الكريمة في غاية الأهمية، وسوف أشير في هذه العجالة إلى شيء منها باختصار شديد:
أسباب اختيار هذا البحث:
1- شخصيته الفذة:
فقد اجتمع فيه كريم نسبه عليه رضوان الله تعالى، ووافر علمه، وكثرة عبادته ودينه، وما اتصف به من صفات تستحق أن نقف عندها وأن نطيل الحديث عنها للاستفادة منها.
2- تهافت الطوائف على الانتساب إليه:
فهذا العلَم يتجاذبه الناس، وكما قيل:
وكلٌ يدعي وصلاً بليلى
فكلٌ يدعي الانتساب إليه: فإذا نظرنا إلى أهل السنة نجد أنهم يرون أن هذا الإمام هو إمامهم، وأنهم إليه ينتسبون، فهذا الإمام مالك عليه رحمة الله تعالى يفتخر وينتسب إلى الإمام جعفر الصادق رضوان الله عليه، بل ويذكر – أي الإمام مالك – أنه يحمد الله على أن الإمام جعفر – عليه رضوان الله – يثني عليه.(1/1)
وكذلك نجد أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول عن السَّنَتين اللتين تتلمذ فيهما على يد الإمام الصادق: «لولا السَّنَتان لهلك النعمان» (1) فهو يذكر أنه استفاد من الإمام جعفر الصادق عليه رضوان الله تعالى، وأنه لولا تلك المدة التي تتلمذ فيها عليه ولازمه فيها لهلك.
وإذا نظرنا إلى الشيعة الإثني عشرية نجد أنهم يفتخرون بالانتساب إليه ويحبون ذلك، أي أن يقال عنهم: الجعفرية، ويرون أنه أشرف لقب يُطلق عليهم.
وإذا نظرنا إلى الزيدية نجد أنهم يرونه من أئمة الهدى، بل إن ابن عقدة الزيدي رحمه الله يعتبر من أوسع من كتب عنه، وجمع الدراسات والروايات عنه.
وإذا نظرنا إلي الإسماعيلية الباطنية على عموم فرقهم، فإننا نجدهم ينتسبون إليه؛ فإن الإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل بن جعفر الصادق – وهو أكبر أولاده – وهم يعترفون بالأئمة من إسماعيل فما فوق، أي: يتفق الإثنا عشرية والإسماعيلية في تسلسل الأئمة إلى جعفر، ويختلفون فيمن بعده، حيث إن الإثني عشرية جعلوا الوصاية في ابنه موسى الكاظم، والإسماعيلية جعلوا الوصاية في ابنه إسماعيل، بناء على اعتقادهم أن إسماعيل ذهب وارتفع وأنه سيعود، قائلين بعقيدة العودة والرجعة، وهم يرون أن إمامهم إسماعيل أخذ علمه من أبيه جعفر، فهم ينتسبون إلى جعفر عليه رضوان الله.
ومن أعجب العجب أني وقفتُ على كلام لبعض الملاحدة من الفلاسفة ينتسبون فيه إلى جعفر الصادق عليه رضوان الله تعالى، ويرون أنه إمامهم! سبحانك هذا بهتان عظيم!!.
نعم كان للإمام جعفر آراء في الفلسفة، وأقوال حفظت عنه، وله نظر في كتب الفلاسفة والحكماء، لكنه من أئمة الدين الموحدين، الداعين إلى توحيد رب العالمين على هدي النبي الأمين بلا منازع.
__________
(1) الخلاف للطوسي (1/49)، جامع المقاصد للكركي (1/21).(1/2)
كذلك انتحله آخرون من أصحاب النظر في الكيمياء والعلوم الطبيعية وجعلوه إمامهم، وقد كان له رحمه الله باع في العلوم الطبيعية، لكنه كما أسلفنا من أئمة الهدى - رضي الله عنه - .
3- إمامته وتتلمذ الأئمة على يده:
الأمر الثالث يتعلق بتتلمذ كبار العلماء عليه؛ فإن الناظر في سير العلماء، يجد أن أئمة السنة عاشوا بين العراق والحجاز، وإمامنا الذي نتحدث عنه هو إمام أهل المدينة في زمانه بلا منازع، وكان له زيارات متكررة لمكة، وزار العراق أكثر من مرة، والتقى به العلماء وطلبة العلم، ومن أخصهم أبو حنيفة وغيره من أئمة الهدى، فأخذوا عنه.
ومع ملازمة أئمة السنة له وأخذهم عنه، إلا أنه ادعى طوائف من الناس أنهم هم الذين لازموه، وأنهم هم الذين أخذوا عنه دون غيرهم.
وقد عدَّ بعض أهل العلم من تلقى العلم عن جعفر وأوصلوهم إلى أربعة آلاف طالب، وزاد بعضهم على أكثر من أربعة آلاف طالب أخذوا عنه العلم رحمه الله، وذلك لانقطاعه عن الخوض في الأمور السياسية وانشغاله بالعلم والتعليم كما سيأتي بيانه.
4- البيئة السياسية في عصره:
انقطع جعفر الصادق رحمه الله تعالى ورضي عنه عن الخوض في السياسة، وعن كثير من الفتن والاضطرابات التي حصلت في عصره، وهذا هو السبب الرابع من أسباب الاختيار، وذلك أننا نعيش في عصر فتن، والإمام جعفر – رحمه الله رحمة واسعة – عاش في عصر فتن وعاصرها، فقد كانت مأساة جده الحسين سيد شباب أهل الجنة ماثلة بين عينيه، حيث عاش مرحلة طفولته في كنف جده علي زين العابدين، الذي شهد كربلاء في صغره، فكان يبث لحفيده النجيب بعض أخبارها، كذلك أخذ عنه حفيده علمًا كثيرًا وأحاديث جمة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعن آبائه الكرام: علي الخليفة الراشد، والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة، عليهم رضوان الله تعالى.(1/3)
ولما شب وكبر كانت الفتن تموج، وكان ذلك في عهد هشام بن عبد الملك بعد وفاة الخليفة عمر بن عبد العزيز رحمه الله؛ حيث جاء بعد الإمام العادل عمر هشامُ بن عبد الملك فاختلفت السياسة، ومن ثمَّ أصبحت الدعوة قوية لدى العلويين، ثم حدث ما عرف بمأساة الكوفة، وهي المأساة الكبرى التي حلَّت في البيت العلوي بقيام زيد بن علي - رضي الله عنه - على هشام ابن عبد الملك، وما حصل من فتن وملاحم.
ومن المعلوم أن الإمام زيد بن علي هو عم الإمام جعفر الصادق وصاحبه في الصبا وطلب العلم، وقرينه؛ لذا كان لما حصل للإمام زيد أثرٌ على الإمام جعفر وعامة بني هاشم.
فقد حصل بعد ذلك اجتماعات للبيت الهاشمي – وأقول: للبيت الهاشمي؛ لأن الاجتماعات جمعت بين العباسيين وبين ذرية الإمام علي وذرية جعفر الطيار وغيرهم – وصار البيت الهاشمي يخطط لمناهضة الدولة الأموية، ولم يكن الإمام جعفر في معزل عن هذا، فقد حضر بعض هذه الاجتماعات، ولكنه أبى مبايعة محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية، وإبراهيم أخيه في قصة يطول ذكرها (1) .
ثم كان قيام الدولة العباسية وما حصل من حروب وفتن، وما حصل من قتل وسفك للدماء، ثم قامت الثورات من بني الحسن ضد بني العباس، فكان خروج محمد بن عبد الله النفس الزكية مع إبراهيم أخيه، وما حصل من ملاحم.. كل هذا عاصره الإمام جعفر بن محمد عليه رحمة الله تعالى، وكان ينهى عن هذه الأمور وينقطع إلى العلم والعبادة.
ونحن في هذا العصر الذي تموج فيه الفتن في حاجة ماسة إلى معرفة حياة الأعلام الذين عاشوا في عصور الفتن، حيث تقوم دولة وتسقط أخرى، وتستباح دماء؛ لنعرف موقف هؤلاء الأعلام من هذه الفتن.
__________
(1) انظر: الإمام الصادق لأبي زهرة (ص: 39-40).(1/4)
فما هو موقف الإمام جعفر الصادق عليه رضوان الله؟ وما هو موقف كبار طلابه الذين عاصروا قيام الدولة العباسية والقضاء على الدولة الأموية، وما حصل من ثورات ومن أمور كثيرة في أوائل عهد الدولة العباسية.
5- التحول الفكري في عصره:
الأمر الخامس الذي يجعل دراسة سيرة هذا الإمام في غاية الأهمية، أن هذا العصر تمحورت فيه الأفكار، وبدأت فيه التشعبات والآراء، وبدأ التقعيد للآراء السياسية بمنطلقات شرعية، حيث كانت تحدث مواقف سياسية ثم ينبري لتلك المواقف والتقعيد لها طوائف من أهل العلم، وقد يكون العكس أحيانًا، فيكون التأصيل العلمي أولاً ثم ينبني عليه الموقف السياسي.
فبدأ في تلك الفترة التأصيل العلمي لكثير من القضايا السياسية والفكرية، وبدأ معه الافتراق الفكري والافتراق السياسي الذي أدَّى إلى افتراق الأمة، فمعرفة أصول الافتراق والاختلاف في الأمة عن طريق دراسة رجال تلك المدارس التي تنسب إليها تلك الأقوال.
6- كثرة الرواية عنه:
من الأمور التي تدعو إلى دراسة سيرة هذا العَلَم كثرة الرواية عنه؛ فقد ذكر بعض من كتب عن الإمام جعفر رحمه الله أن أحد طلابه أخذ عنه أكثر من ثلاثين ألف رواية، ويذكر آخر أكثر من خمسة عشر ألف حديث، وآخر كذا وكذا ألف حديث، وإذا نظرت في بعض المصادر التي جمعت الأقوال المنسوبة إلى الإمام، لوجدت فيها آلاف الأحاديث المنسوبة إليه رحمه الله.
بل إن الروايات المنسوبة إليه أكثر من الروايات المنسوبة إلى جميع الأئمة رحمهم الله.
إذًا: كثرة الروايات المنسوبة إلى الإمام جعفر رحمه الله تدعونا إلى الوقوف معها والتأمل فيها.
وعلى كل حال فالأسباب التي تدعو للحديث عن الإمام جعفر كثيرة أكتفي بما ذكر، وسوف أبسط القول في بعضها؛ لأن الحديث لا ينفك بعضه عن بعض.
ذكر بعض من كتب عن الإمام جعفر:(1/5)
أفرد الإمام محمد أبو زهرة رحمه الله هذه الشخصية العظيمة بدراسة مع الأئمة الأربعة، ولقد أجاد وأفاد حين جعله مع عمه زيد عليه رحمة الله من الأئمة المتبوعين، فألف رسالة خاصة عن سيرة الإمام زيد بن علي رحمه الله، وألف أخرى لدراسة سيرة الإمام جعفر الصادق عليه رحمة الله تعالى آرائه وعصره الذي عاش فيه.
وقد أفرد أيضًا بكتابات كثيرة كثير من الشيعة، وكتب عنه أكثر من شخص كتابات مستقلة، منها: كتاب «جعفر بن محمد الصادق» لعبد العزيز سيد الأهل.
أما علماء أهل السنة ممن ترجموا لأئمة المسلمين وعلمائهم ومحدثيهم فلا يكاد يخلو مصنف من مصنفاتهم من ترجمة هذا الإمام العظيم (1) .
كذلك ترجم له محقق كتاب «مناظرة للإمام الحجة جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما» ترجمة ضافية، اشتملت على كثير من المباحث المفيدة (2) .
التعريف بالإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه -
هو كما لا يخفى على الجميع: الإمام المبجل إمام زمانه: جعفر بن محمد المقلب بالصادق، أما والده فهو إمام زمانه في العلم والأدب والدين: الإمام محمد المقلب بالباقر، وهو ابن إمام التابعين في زمانه زين العابدين علي بن الحسين عليه رضوان الله تعالى.
__________
(1) انظر على سبيل المثال لا الحصر:
سير أعلام النبلاء للذهبي (6/255-270)، وفيات الأعيان لابن خلكان (1/327-328)، مشاهير علماء الأمصار لابن حبان (ص: 127)، الكامل في التاريخ لابن الأثير حوادث سنة (145هـ)، شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/20)، صفة الصفوة لابن الجوزي (2/94)، تاريخ الإسلام للذهبي (6/45)، تاريخ ابن كثير – البداية والنهاية (10/108)، تاريخ ابن جرير الطبري في حوادث سنة (145هـ).
(2) مناظرة للإمام جعفر بن محمد الصادق (ص: 15-46).(1/6)
أما والد علي بن الحسين رحمه الله فهو الحسين سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيد شباب أهل الجنة، وشهيد كربلاء الذي قُتل مظلومًا عليه رضوان الله تعالى، أمه فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ووالده ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رابع الخلفاء الراشدين: علي بن أبي طالب عليه رضوان الله تعالى.
وقد عَدَّ الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء الإمام جعفر الصادق (1) على رأس الطبقة الخامسة من التابعين، حيث قرر أن الإمام جعفر ولد سنة ثمانين للهجرة على أقصى حد، وبهذا يكون جعفر قد أدرك الصحابة الذين ماتوا بعد الثمانين، وجزم بعض أهل العلم بأنه رأى أنس بن مالك - رضي الله عنه - مع صغر سنه، فعدوه من التابعين.
نسب جعفر من جهة أمه:
أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فأبوها هو القاسم بن محمد من كبار علماء المدينة في زمانه، ومن فقهاء المدينة السبعة، وأما جدها فهو محمد بن أبي بكر الذي كان ربيبًا لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ؛ فإنه بعد وفاة الصديق - رضي الله عنه - تزوجت أرملته أسماء بنت عميس من علي بن أبي طالب، وكان ابنها محمد بن أبي بكر الصديق في حجرها، فرباه علي - رضي الله عنه - .
أما أم أم فروة فهي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، وهذا يعني أن أخوال أم فروة وأعمامها بكريون، ولذلك لما سئل جعفر رحمه الله عن أبي بكر قال للسائل: «أيسب الرجل جده؟! أبو بكر جدي!» (2) ، وقال: «ولدني أبو بكر الصديق مرتين» (3) وقد تواتر هذا الكلام عنه في مجالس كثيرة مشهورة سطرها أهل العلم عنه رحمه الله.
* * *
حياته العلمية
__________
(1) انظر ترجمته في السير (6/255-270).
(2) سير أعلام النبلاء (6/258).
(3) السير (6/255).(1/7)
نشأ جعفر عليه رضوان الله تعالى في بيت أدب وعلم، وبيت نسب ورفعة، حيث نشأ في بيت أخواله عند جده القاسم كما قرر هذا طائفة من أهل العلم، وقالت طائفة: نشأ في بيت والده محمد الباقر، وفي كلا الحالين نشأ في بيت علم وأدب ورفعة ومنزلة، وتربى ودرج في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، التي كانت تعج بالعلماء من الصحابة وكبار التابعين، فأخذ العلم عن أبيه وعن جده زين العابدين الذي توفي سنة أربعة وتسعين، وكان عُمْرُ جعفر آنذاك أربع عشرة سنة.
كذلك أخذ العلم عن جده القاسم بن محمد؛ لأنه من كبار علماء المدينة وفقهائها، وأكثر عن أبيه محمد الباقر، وأخذ عن جمع من أهل العلم كما ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء. يقول الذهبي رحمه الله: «ولد سنة ثمانين، ورأى بعض الصحابة - رضي الله عنهم - ، أحسبه رأى أنس بن مالك، وسهل بن سعد، وحدث عن أبيه أبي جعفر الباقر، وعبيد الله بن أبي رافع، وعروة بن الزبير، وعطاء بن أبي رباح – وروايته عنه في مسلم – وجده القاسم بن محمد، ونافع العمري، ومحمد بن المنكدر، والزهري، ومسلم بن أبي مريم وغيرهم، وليس هو بالمكثر إلا عن أبيه، وكان من جِلَّة علماء المدينة» (1) .
وقد حدث عنه خلق كثير ذكر عددًا منهم الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقال رحمه الله: «حدث عنه ابنه موسى الكاظم، ويحيى بن سعيد الأنصاري ويزيد بن عبد الله بن الهاد – وهما أكبر منه – وأبو حنيفة، وأبان بن تغلب، وابن جريج، ومعاوية بن عمار الدهني، وابن إسحاق.. في طائفة من أقرانه، وسفيان، وشعبة، ومالك، وإسماعيل بن جعفر، ووهب بن خالد، وحاتم بن إسماعيل، وسليمان بن بلال، وسفيان بن عيينة، والحسن بن صالح...» (2) ، وذكر جملة من كبار العلماء الذين حدثوا عنه رحمه الله.
__________
(1) السير (6/255).
(2) السير (6/256).(1/8)
إذًا: نشأ الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - في مدينة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، في ذلك الجو الإيماني العلمي الذي تشع أنوار العلم وأنوار التقوى في ربوعه، بين بيته وبين مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله وهو يتحدث عن علمه قصة بديعة جميلة، وهي مناظرة حصلت بين الإمام أبي حنيفة وبين شيخه جعفر - رضي الله عنه - ، وكان الخليفة المنصور قد طلب من أبي حنيفة أن يعد مسائل صعابًا لجعفر الصادق يسأله عنها إذا قدم العراق؛ لأن الناس فتنت به.
يقول أبو حنيفة رحمه الله: «بعث إلي – أي الخليفة أبو جعفر المنصور – فقال: يا أبا حنيفة! إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيئ له من مسائلك الصعاب، يقول: فهيأت له أربعين مسألة، ثم أتيت أبا جعفر، وجعفر جالس عن يمينه، فلما بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لا يدخلني لأبي جعفر، فسلمت وأذن لي فجلست، ثم التفت إلى جعفر فقال: يا أبا عبد الله! تعرف هذا؟ قال: نعم. هذا أبو حنيفة.. قد أتانا – لأنه مكث عنده في المدينة؛ فإنه لما طُلِب ليلي القضاء فرَّ من العراق واختبأ في المدينة ولزم جعفرًا الصادق عليه رحمة الله ودرس عليه – ثم قال الخليفة: يا أبا حنيفة! هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله! قال: فابتدأت أسأله، فكان يقول في المسألة: أنتم – يعني: أهل العراق – تقولون فيها كذا وكذا، وأهل المدينة يقولون كذا وكذا، ونحن نقول كذا وكذا - يذكر رأيه – يقول أبو حنيفة: فربما تابعنا وربما تابع أهل المدينة، وربما خالفنا جميعًا (أي: كان اختياره لا يتفق لا مع ما ذكره أهل العراق ولا مع ما ذكره شيوخ أهل المدينة) حتى أتيت على أربعين مسألة، ما أخرم منها مسألة! ثم قال أبو حنيفة: أليس قد روينا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس؟».(1/9)
وقد أورد أبو حنيفة هذه القصة عندما سئل: (من أفقه من رأيت؟ قال: ما رأيت أحدًا أفقه من جعفر بن محمد) (1) فرضي الله عنه وأرضاه.
* * *
عبادته وزهده وورعه - رضي الله عنه -
أما حاله - رضي الله عنه - في العبادة وما يتعلق بها، فهو صاحبها، وإمام عصره فيها؛ وإذا عُدَّ العباد الزهاد فهو مُقدَّم ركبهم، وإذا أحصي الذاكرون المخبتون فهو حامل رايتهم.
وقد روي عن عبادته وإخباته قصص كثيرة، وروايات عديدة، نقلها الأئمة والثقات عنه، فامتلأت بها الكتب والصحائف، ولولا خشية الإطالة وضيق المقام لسردت منها الشيء الكثير، ولكن أكتفي هنا بالإشارة:
يقول مالك بن أنس عليه رحمة الله تعالى: «كنت أدخل على الصادق جعفر بن محمد - رضي الله عنه - فيقدم لي مخدة ويعرف لي قدرًا، ويقول: يا مالك! إني أحبك، فكنت أُسَرُّ بذلك وأحمَد الله عليه.
وكان - رضي الله عنه - لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائمًا وإما قائمًا وإما ذاكرًا، وكان من عظماء العباد وأكابر الزهاد الذين يخشون الله عز وجل، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد، فإذا قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله اخضر مرة واصفرَّ أخرى، حتى ينكره من لا يعرفه! ولقد حججت معه سنة، فلما استوت به راحلته عند الإحرام، كان كلما هم بالتلبية انقطع الصوت في حلقه. يقول: وكاد يخر من راحلته. فقتل له: قل يا ابن رسول الله! فلابد لك من أن تقول، فقال لي: يا ابن أبي عامر كيف أجسر أن أقول: لبيك اللَّهم لبيك؟ وأخشى أن يقول: لا لبيك ولا سعديك» (2) .
وقال مالك أيضًا: «ما رأيت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق: فضلاً وعلمًا وعبادة وورعًا» (3) .
__________
(1) السير (6/258).
(2) الخصال (1/77).
(3) المناقب لابن شهر آشوب (4/248).(1/10)
ويقول رحمه الله أيضًا: «اختلفتُ إليه زمانًا – يشير إلى كثرة ما كان يأتيه – فما كنت أراه إلا على ثلاث خصال: إما مصلٍ وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأيته يُحدِّث إلا على طهارة» (1) .
ويقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله: «دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبة خز دكناء، وكساء خز أيدجاني، فجعلت أنظر إليه تعجبًا فقال: ما لك يا ثوري؟ قلت: يا ابن رسول الله! ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك! فقال: كان ذاك زمانًا مقترًا، وكانوا يعملون على قدر إقتاره وإفقاره، وهذا زمان قد أسبل كل شيء فيه.. قال: ثم حسر عن ردن جبته، فإذا فيها جبة صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل، وقال: لبسنا هذا لله وهذا لكم، فما كان لله أخفيناه وما كان لكم أبديناه» (2) . أي: أننا نقابل الناس فنظهر نعمة الله علينا، وإذا كنا في بيوتنا وكنا مع الله عز وجل في خلواتنا لا يطلع علينا إلا الله – تزهدنا، وهذا الحديث من باب رفع الكلفة بينه وبين سفيان؛ لقوة الصلة بينهما.
وقد قال الإمام مالك رحمه الله: «إن الرجل الصادق لا يصيبه خرف الشيخوخة، ولا يفقد وعيه عند الحشرجة». و «من يكون أصدق قولاً ممن لقبه الخصوم والأولياء والتاريخ كله بالصادق» كما ذكر ذلك تعليقًا على عبارة الإمام مالك هذه محمد أبو زهرة في كتابه «الإمام الصادق» (3) .
أخلاقه وكرمه - رضي الله عنه -
أما كريم أخلاقه وكرمه وتواضعه وحلمه وصدقه وهيبته وثناء العلماء عليه فإن له القدح المعلى فيها، والنصيب الأوفى منها، وما يروى عنه فيها أكثر من أن يذكر، وأشهر من أن ينشر، ولو استقصى المستقصي في هذا لطال عليه المقال وانتشر، فحسبنا هنا بما يكتفي به اللبيب:
__________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر (2/88).
(2) السير للذهبي (4/262).
(3) انظر: الإمام الصادق (ص: 51).(1/11)
يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: «روى أحمد بن أبي بكير عن هياج بن بسطام يقول: كان جعفر بن محمد يُطعم الناس حتى لا يبقى لعياله شيء» (1) .
وهذا عطاء من لا يخشى الفقر؛ يفعل ذلك تأسيًا منه بجده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء (2) عن بعض أصحاب جعفر بن محمد أن الصادق رحمه الله سئل: «لم حرم الله الربا؟ فقال: لئلا يتمانع الناس المعروف»، وهذا يدل على كرمه وسخاء نفسه.
بل وأعظم من ذلك أنه ذكر عنه أنه كان يمنع الخصومة بين الناس بتحمله الخسائر على نفسه وإيثار الصلح بينهم.
ولا غرو أن تكون هذه أخلاق الإمام جعفر الصادق عليه رضوان الله تعالى؛ فهو سليل شجرة مباركة التقى فيها أبناء سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، مع أبناء خليفته وصاحبه الصديق { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [إبراهيم: 25].
من أقواله ووصاياه - رضي الله عنه -
من أقواله رحمه الله: «الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا إلى السلاطين فاتهموهم» (3) .
وكان يومًا عند المنصور – وهو معروف ببطشه – فكان الذباب يقع على أنف المنصور فيطرده فيعوده، فالتفت الخليفة إلى جعفر فقال: «لم خلق الله الذباب؟ فقال: ليذل به الجبابرة» (4) . يشير إلى الخليفة (5) .
__________
(1) السير للذهبي (6/262).
(2) السير (6/262).
(3) السير (6/262).
(4) السير (6/264).
(5) وهذا ينفي ما تدعيه الشيعة من التقية في حق جعفر الصادق - رضي الله عنه - .(1/12)
ويقول في وصية لابنه موسى: «يا بني! من قنع بما قُسم له استغنى، ومن مدَّ عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرًا، ومن لم يرضَ بما قُسم له اتهم اللهَ في قضائه، ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه، ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته، ومن سلَّ سيف البغي قُتل به، ومن احتفر بئرًا لأخيه أوقعه الله فيه، ومن داخل السفهاء حُقِّر، ومن خالط العلماء وُقّر، ومن دخل مداخل السوء اتُّهم.
يا بني! إياك أن تزري بالرجال فيزري بك، وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك.
يا بني! قلِ الحق لك وعليك تُسْتَشْأَنْ (1) من بين أقربائك. كن للقرآن تاليًا، وللإسلام فاشيًا، وللمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، ولمن قطعك واصلاً، ومن سكت عنك مبتدئًا، ولمن سألك معطيًا.
يا بني! وإياك والنميمة؛ فإنها تزرع الشحناء في القلوب، وإياك والتعرض لعيوب الناس، فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف.
إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه، فإن للجود معادن، وللمعادن أصولاً، وللأصول فروعًا، وللفروع ثمرًا، ولا يطيب ثمر إلا بفرع، ولا فرع إلا بأصل، ولا أصل إلا بمعدن طيب. زُرِ الأخيار ولا تزرِ الفجار؛ فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا يظهر عشبها» (2) .
ومن حكمه - رضي الله عنه - قوله: «إياكم والخصومة في الدين؛ فإنها تورث الشحناء والبغضاء».
وأيضًا له: «إياك والجدل في الدين؛ فإنه يورث النفاق».
* * *
وفاته - رضي الله عنه -
استمر الإمام الصادق عليه رحمة الله ورضوانه في مسيرة البذل والعطاء متمسكًا بالوحيين: كتاب الله وسنة جده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، وداعيًا ومعلمًا في سبيل نشرهما.
وقد ناضل في هذا الطريق واستمر عليه طوال حياته؛ فكان شجًى في حلوق أهل البدع، وسندًا وناصرًا لأهل السنة والجماعة.
__________
(1) تُسْتَشْأَنْ: أي يكن لك شأن.
(2) السير (6/263).(1/13)
وبعد هذه الحياة المجيدة والمسيرة المشرقة أتاه أمر الله سبحانه وتعالى الذي كتبه على عباده، فتوفي في شوال من سنة (148هـ).
ودفن إلى جوار قبر أبيه الباقر رحمه الله في البقيع، بعد أن صلى عليه المسلمون في مسجد جده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقد قيل في وفاته العديد من المراثي منها:
أقول وقد راحوا به يحملونه
على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى
ثبيرًا ثوى من رأس علياء شاهق
وقيل أيضًا:
فيا ليتني ثم يا ليتني
شهدت وإن كنت لم أشهد
فآسيت في بثه جعفرًا
وساهمت في لطف العود
ومن قبل نفسك قلت الفداء
وكف المنية بالمرصد
عشية يُدفن فيه الندى
وغرَّة زَهْر بني أحمد
* * *
لماذا يحرص كثير من الفرق على
الانتساب إلى جعفر الصادق؟
في هذا المبحث أشير إشارة سريعة إلى قضية من أكبر القضايا التي ينبغي الوقوف معها؛ فإن الكلام عن حياته وعن عبادته وعن زهده وورعه، وعن صدعه بالحق واستجابة دعائه ولجوئه إلى الله كثير، لكن القضية الأهم في دراستنا لهذه الشخصية، هي قضية انتساب الفرق إليه..
لما كانت شخصية الإمام جعفر الصادق رحمه الله كبيرة، ولها مكانتها في ذاتها، ومكانتها في نسبها، ومكانتها في علمها وفي زهدها، وفي كل ما يتعلق بها.. حرص الناس على أن ينتسبوا إلى تلك الشخصية، ولا غرو أن ينتسب الناس إليها، لكن يبقى الأمر الكبير وهو: من الصادق في هذا الانتساب؟!
ذكرنا في مبحث سابق عن إمام أهل العراق وأهل الرأي أبي حنيفة قوله: «لولا السَّنَتان لهلك النعمان» وهو يشير بقوله هذا على أخذه عن جعفر عليه رضوان الله.(1/14)
كذلك طلابه الذين كونوا مدرسة الفقه الحنفي كمحمد بن الحسن وزفر والقاضي أبي يوسف؛ فإن المطالع في كتبهم (1) يجد أنهم يذكرون مقولات كثيرة عن أبي حنيفة عن جعفر، بل ويذكرون مقولات كثيرة عن جعفر - رضي الله عنه - .
أما بالنسبة لإمام دار الهجرة، فإن الأمر في غاية الوضوح؛ فقد مر بنا كلام الإمام مالك عن جعفر عليهما رحمة الله تعالى (2) ، والذي يبين مدى الصلة الوثيقة بينه وبين جعفر.
وانظر إلى علاقته بالإمام سفيان الثوري عليه رحمة الله تعالى، الذي كان يزوره كثيرًا، حتى ارتفعت الكلفة بينه وبين الإمام الصادق عليهما رحمة الله؛ فتجد الإمام الصادق عليه رضوان الله يُسرُّ إليه بما يخفيه على كثيرين.
فصلة هؤلاء الأئمة بالإمام جعفر في غاية الوضوح، وهذه الصلة لا ينكرها أحد، فهي ظاهرة مشتهرة بين الناس، فقد عاش الإمام عليه رضوان الله في المدينة، والتي كانت تعج بهؤلاء الأعلام وأمثالهم، معلمين ومتعلمين، فأخذ عنهم الصادق رحمه الله وأخذوا عنه، بل كانت لهم جلسات خاصة مع الإمام جعفر رحمه الله، فقد كان الإمام جعفر حاضرًا بينهم، وقد أرسل الإمام جعفر إلى أبي حنيفة – كما وقع في بعض الروايات – لما بلغه أشياء عنه، فدعاه وأخذ يسأله عما أفتى به وعن مقايسته للأمور، وحذّره من التوسع في القياس في مناظرة طويلة بين الإمام أبي حنيفة مع شيخه جعفر، أشار إليها محمد أبو زهرة رحمه الله في كتابه «الإمام الصادق».
وإما إذا نظرنا إلى هذه المحاسبة التي جرت بين الإمام جعفر الصادق وبين أبي حنيفة؛ فإنه يظهر لنا جليًا أن الإمام جعفر ما كان يتردد في الإنكار على العلماء وعلى طلبة العلم، وما كان يتردد في بيان ما أخطئوا فيه، بل ويرد عليهم، ويحاسبهم ويناقشهم في القضايا المختلفة.
__________
(1) وانظر على سبيل المثال: كتاب الآثار للقاضي أبي يوسف وكتاب الآثار لمحمد بن الحسن.
(2) انظر: مبحث عبادته وزهده وورعه - رضي الله عنه - من هذا الكتاب.(1/15)
وهذا يعني أن تلك المدارس لو خرجت عن الهدي النبوي الذي يرتضيه جعفر، لكان له – عليه رحمة الله تعالى – موقف صارم منها، ولشدد في الإنكار عليها، ولبيَّن خللها وأنها مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ولو أن الإمام جعفرًا رأى أن مدرسة الكوفة خرجت عن الهدي النبوي لشدَّد في الإنكار أيضًا حين استدعى بعض الفقهاء من العراق، وفي مقدمتهم الإمام أبو حنيفة، وأخذ يناقشه في القياس: إلى أي مقدار يأخذ به.. فلو كان يرى أن أبا حنيفة اشتد في القياس وخرج عن الشرع، لأنكر عليه، كيف وهو الذي صدع بالحق في وجوه الخلفاء من بني أمية وبني العباس، وخالف بني عمه فلم يبايع، بل ترك الخوض في السياسة لصون الدين، فكيف يفرط فيه؟!
إذًا لم يكن جعفر الصادق رحمه الله ليسكت عن مالك وأبي حنيفة وغيرهم من العلماء إذا كانوا ينشرون علمًا يخالف سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بل كان سينكر عليهم، ولما لم يقع الإنكار علمنا أنه موافق لهم على علمهم هذا وعملهم في نشره، وبهذا نعلم كذب من يجعل التقية دين جعفر وينسبها إليه.
فهذه بعض الأدلة العقلية والنقلية على أن الإمام جعفرًا الصادق إمام من أئمة أهل السنة والجماعة المقتدى بهم.
أما غيرهم: فإنك إذا سألت الإسماعيلية دليلاً على صدق انتسابهم إلى جعفر، فلن تجد جوابًا شافيًا.
وأما الجعفرية الإثنا عشرية، فقد أضفوا عليه العصمة غلوًا، ودونوا عشرات الآلاف من الروايات ونسبوها إليه، ثم جعلوها بمنزلة النص المعصوم، فضلاً عن أن يميزوا صحيحها من سقيمها، وقويها من ضعيفها، وفي هذا يتوجه إليهم سؤال لا محيص لهم من الجواب عنه أو التسليم بالخطأ، وهو أن يقال:(1/16)
نحن نعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كُذب عليه كثيرًُا، فمن باب أولى أن يكذب على غيره، خاصة الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - ، فأين جهود الإثنى عشرية في بيان ما صح عنه وما كذب عليه، كما فعل أهل الحديث فيما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟! فما جوابهم عنه؟
أيها القارئ الكريم:
إن الروايات التي رويت عن جعفر الصادق لها ثلاث حالات:
1- روايات وافقت الكتاب والسنة، فهذه لا جدال في قبولها.
2- روايات لا تعارض الكتاب والسنة سواء وافقت ما رواه عنه علماء السنة – العامة كما تسميهم الشيعة – أو انفرد بها غيرهم فهذه أيضًا مقبولة، فهي تمثل اجتهاده - رضي الله عنه - لعدم معارضتها للكتاب والسنة.
3- روايات فيها معارضة للنصوص الشرعية ولا يقرها عقل، فهذه روايات مكذوبة على الإمام جعفر الصادق، وكذبها بين واضح لمخالفتها للعقل والنقل ونحو ذلك.. فهي مردودة.
وهذه الروايات المكذوبة على الإمام جعفر الصادق وغيره من الأئمة الأعلام هي محور الافتراق بين الفرق، وتحرير هذه المسألة سيؤدي إلى تقارب الفرق وبيان الوجه الحقيقي الصحيح في هذا المضمار، فيبقى الجهد الكبير الذي دعونا وندعو له هو قضية النظر في الروايات عن الأئمة وتصحيحها؛ لكي ننظر بعد ذلك فيما صحَّ من هذه الروايات، وليكون فيها الحوار.
أما أن نأتي لكتاب يجمع ستة عشرة ألف رواية أو إلى كتاب يجمع آلاف الروايات أو إلى كتاب يبلغ أكثر من مائة مجلد، جُلُّها روايات عن جعفر الصادق، ولا تمييز بين صحيح وضعيف منها، فكيف ندرسه أو نناقشه؟
وإذا كان بعض معاصري الشيعة قد شنوا حملة شديدة على الصحابي الجليل أبي هريرة - رضي الله عنه - لأنه روى آلاف الأحاديث فقالوا: وكيف يمكن لأبي هريرة أن يروي هذه الأحاديث؟! فنقول: كيف بمن روى ثلاثين ألف حديث، وبمن روى خمسة عشر ألف حديث... كلها عن الصادق - رضي الله عنه - ؟!(1/17)
فالقضية تحتاج إلى تأمل طويل، ونحن نقول: إننا نحترم الانتساب إلى الإمام جعفر، ونقول: أن الإمام جعفرًا ووالده وولده وآباءه من أئمتنا، ونعتقد اعتقادًا لا مماراة فيه ولا مجادلة بإمامة الإمام علي، وأنه رابع الخلفاء الراشدين، والحسن خامسهم، وهو والحسين سيدا شباب الجنة، ونقدر إمامة وفضل زين العابدين، وكذلك فضل ابنه محمد الباقر وإمامته، وبإمامة وفضل الإمام جعفر الصادق، وابنه موسى الكاظم، وغيرهم.. ففضل الأئمة ومنزلتهم لا إشكال فيها، لكن تبقى هذه الروايات الكثيرة عنهم، فنقول: ميزوا لنا بين صحيحها وسقيمها، ما الذي يُقبل وما الذي لا يقبل؛ حتى نستطيع أن نتحاور ونتناقش في هذه الأمور.
وهذا الطلب والعتب موجه للجميع، بما في ذلك علماء أهل السنة، والصروح العلمية؛ فإنه ينبغي أن تدرس تلك الروايات وأن تعرض على الميزان النقدي العلمي حتى تمحص (1) .
* * *
مناظرة علمية
أيها القارئ الكريم:
أختم هذه الرسالة بحوار لطيف جرى مع أحد طلبة العلم حول هذه المسألة.
قال لي: أبو هريرة أسلم بعد كبار الصحابة، وروى أكثر منهم، وتقبلون مروياته... الخ.
فقلت له: كم عدد الأحاديث التي رواها؟ وما موقف علماء الشيعة القدماء منها؟
قال لي: لا يهمني معرفة عددها، ولا يهمني موقف هؤلاء العلماء... – يا سبحان الله!!
قلت له: عدد أحاديث البخاري غير المكررة – أي كل ما فيه من أحاديث عن أبي هريرة وغيره – لا تصل خمسة آلاف حديث.
فلم يصدق، وقال: عجيب... فقط خمسة آلاف!.
فعرفت بأن الرجل لا يعرف كيف اختار البخاري أحاديث الصحيح، وما هي شروطه؟؟
وكم مكث في جمعه وتحريره؟ وما هي مواهب مؤلفه؟؟
__________
(1) ظهر في الآونة الأخيرة بعض المؤلفات والرسائل الجامعية التي اهتمت بقضية نقد الروايات وتمحيصها، من أهمها: تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة من روايات الطبرى والمحدثين، لمحمد أمحزون؛ فنسأل الله سبحانه أن تكون هذه البادرة نواةً لمشروع أكبر.(1/18)
فقلت له: يكفي أن الإمام البخاري جامع الصحيح جلس أكثر من ست عشرة سنة في جمعه، وقد اشترط رحمه الله في كل راوي في أسانيد الأحاديث أن يكون من الحفاظ، وأن لا يعرف عنه الكذب، وأن يسند الحديث لمن سمعه منه، واشترط كذلك في كل راوي ثبوت التقائه بشيخه وسماعه منه، وأن يكون الحديث خاليًا من الشذوذ والعلل القادحة.
فقال بصراحة: أنا أنتقد وجود بعض الأحاديث فيه، وذكر الحديث المشهور في غمس الذباب.
فسألته: هل له اطلاع على الصحيح وقراءة فيه؟
فأجاب بالنفي، ولكن من خلال سماعه عن الصحيح.
وقال: بأننا معشر الشيعة نهتم بكتب إخواننا أهل السنة، ونقرأ فيها، خاصة المشايخ ولهم عليها ردود... الخ.
فقلت له: مئات الملايين من أهل السنة منذ قيام المصنف بجمع الأحاديث وتصنيفها في كتابه، يدعون له على ما بذل من جهد في خدمة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مر القرون، وقد جعل الله لكتابه هذا القبول، واتفق أهل السنة على صحته، وهذا من نعم الله علينا.
ولكن سؤالي: ما هو الجهد الذي بذلتموه لأجل إخراج أحاديث الرسول - عليه السلام - وتنقيتها من الأحاديث المكذوبة عليه؟!
كذلك عندكم منزلة الأئمة لا تخفى، فهم معصومون، وكلامهم عندكم حجة، فأين جهودكم لتنقية الروايات عنهم؟؟
وأراد الجواب فقلت له: لا تعجل علي... واصبر.. فأنا وأنت وغيرنا من المثقفين ثقافة شرعية، أو غيرنا من حملة الشهادات وسائر المثقفين إذا قرأ في أهم كتاب عندكم في الروايات – وهو كتاب الكافي – كيف تعرف أنت – وأنت حجة الإسلام – الروايات الصحيحة من الضعيف؟؟
لا شك أنه تحتاج إلى بحث وتنقيب ودراسة أسانيد.
فقال: نعم، نقوم بدراستها، فأنا أصولي، ويمكن أن أرد الحديث الذي لا يقبله العقل؛ لأنه لا يوجد لدينا كتاب صحيح، بل كل كتبنا خاضعة للنظر والعقل.
قلت: اصبر عليَّ قليلاً.. هل كل رواية تراجعها في الحال أو تقرأ عشرات الصفحات أو خمس روايات أو أكثر ثم تراجع؟؟ ماذا تصنع؟(1/19)
قال: حسب الحال، وعندنا منهج في التصحيح والتضعيف، وفيه كتاب مؤلفه معاصر في بيان صحيح الكافي للبهبودي، وعندنا اجتهاد، والعلماء لهم ذلك، وكل عالم ينظرها ويجتهد ويحكم بما يراه.
فقلت: على مهلك.. كم تحتاج من الوقت؟ وهل كل طالب حوزة يستطيع ذلك، بل حتى كبار العلماء هل يستطيعون ذلك؟
وبقيت مسألة كبرى: إذا صحت الرواية لديك فكيف تعرف أن الإمام قالها على سبيل التقية، أو قالها على سبيل الحقيقة؟؟
أي: ما هي الضوابط في التفريق بين ما قيل تقية وقيل على الحقيقة؟
هل يعرفها كل عالم؟ وهل هي موجودة مدونة؟ أو كل عالم يجتهد فيها؟؟
فطلب الانصراف ولم يكمل معي الحوار، فقلت له: لا تعجل! فقبل الانصراف أقول لك: ما موقف العلماء والمراجع لديكم من فعل البهبودي؟؟
واسمح لي بهذا المثال: لو أن رجلاً عنده عسل واختلط بعضه بالسم القاتل.. ماذا يصنع؟
هل يمكن أن يستعمل العسل الذي اختلط به السم أو يسعى قبل ذلك لمعرفة العسل الصالح من العسل المسموم؟؟
والحر تكفيه الإشارة.
ثم طلبت منه قبل الانصراف أن يتأمل في سعادة المثقف الشيعي وهو يقرأ في كتاب فيه أقوال الأئمة الذين يعتقد بعضهم أن أقوالهم حجة، وهو يعتقد صحة تلك الأقوال ويطمئن لذلك، هم يجتمعون ويقرءون رسالة كميل كل ليلة جمعة؛ لأجل اعتقادهم صحتها، وهي رسالة لطيفة، واطلعت عليها.
نعم لابد من النظر في هذه القضية بعين العقل، ولا داعي أن نجعل بيننا وبين القرآن العظيم، وكذلك كلام سيد المرسلين، وكلام الأئمة وسائط، بل علينا أن نقرأ كلامهم مباشرة، ومنه نستفيد.
فقاطعني وقال: في المؤسسات الشيعية الضخمة مشاريع علمية كبرى وسترى النور، منها موسوعة الإمام الحسين - عليه السلام - ، وقد تقع في أكثر من خمسمائة مجلد.
وإن شاء الله سوف يكون فيها تحقيق لأقواله وأفعاله، وإخراج الصحيح منها، وسوف تتبعها خطوات مماثلة.
فقلت: إن شاء الله يتحقق المطلوب.
* * *
بشرى(1/20)
أختم كلامي بهذه البشارة، فبفضل من الله تعالى تقدم جمع من الشباب والشابات إلى بعض الجامعات الإسلامية لدراسة شخصية الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - وحياته والمرويات المنسوبة إليه.
فأسأل الله – أن يوفق من أتم لإنجاز رسالته إلى طباعتها أو طباعة ملخصها ليعم النفع بها.
وإليك أخي القارئ الكريم بعض الرسائل التي تمت ولله الحمد:
- كتاب «الإمام جعفر الصادق وآراؤه في الإمامة: دراسة نقدية لما نسبه إليه الشيعة من الأباطيل»، لمحمد محفوظ أبو عكاز، رسالة ماجستير في الشريعة وأصول الدين بجامعة أم القرى بمكة.
-كتاب «الإمام جعفر الصادق ومنهجه في الدعوة إلى الله»، لعزت محمد السروجي، رسالة دكتوراه في أصول الدين بجامعة الأزهر.
- كتاب «الإمام جعفر الصادق ومنهجه ومدرسته وأثره»، لعبد القادر محمود الدسوقي، رسالة ماجستير في الآداب بجامعة الإسكندرية.
- كتاب «مرويات الإمام جعفر الصادق في السنة النبوية وأحوال الرواة عنه ونماذج مما نسب إليه»، للطيفة إبراهيم الهادي، رسالة دكتوراه في الشريعة وأصول الدين بجامعة أم القرى.
- كتاب «مرويات الإمام جعفر الصادق في الكتب التسعة»، لمؤيد أسعد دناوي، رسالة ماجستير بجامعة آل البيت.
ولا يفوتني أن أنبه إلى أنه ينبغي على طلاب الدراسات العليا الاهتمام بتراث سلفنا الصالح بتحقيقه ونشره، وفي مقدمتهم أئمة آل البيت رضوان الله عليهم، كجعفر الصادق، وعمه زيد، وأبيه محمد الباقر، وغيرهم ممن لهم تراث علمي.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *
فهرس المحتويات
المقدمة ... 2
أسباب اختيار هذا البحث: ... 3
1- شخصيته الفذة: ... 3
2- تهافت الطوائف على الانتساب إليه: ... 3
3- إمامته وتتلمذ الأئمة على يده: ... 3
4- البيئة السياسية في عصره: ... 3
5- التحول الفكري في عصره: ... 3
6- كثرة الرواية عنه: ... 3
ذكر بعض من كتب عن الإمام جعفر: ... 3
التعريف بالإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - ... 3
نسب جعفر من جهة أمه: ... 3(1/21)
حياته العلمية ... 3
عبادته وزهده وورعه - رضي الله عنه - ... 3
أخلاقه وكرمه - رضي الله عنه - ... 3
من أقواله ووصاياه - رضي الله عنه - ... 3
وفاته - رضي الله عنه - ... 3
لماذا يحرص كثير من الفرق على الانتساب إلى جعفر الصادق؟ ... 3
مناظرة علمية ... 3
بشرى ... 3
فهرس المحتويات ... 3(1/22)