........................ ... على جدث أمسى بيثرب ثاويا
فدًى لرسول الله أمي وخالتي ... وعمي وخالي ثم نفسي وماليا
فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا ... سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية ... وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسنًا أيتمته وتركته ... يبكي ويدعو جدّه اليوم نائيا
ورثاه أبو سفيان بن الحارث فقال:
أرقت فبت ليلي لا يزول ... وليل أخي المصيبة فيه طول
وأسعدني البكاء وذاك فيما ... أصيب المسلمون به قليل
لقد عظمت مصيبتنا وجلت ... عشية قيل: قد قبض الرسول
وأضحت أرضنا مما عراها ... تكاد بنا جوانبها تميل
فقدنا الوحي والتنزيل فينا ... بروح به ويغدوا جبرئيل
وذاك أحق ما سالت عليه ... نفوس الناس أو كادت تسيل
نبي كان يجلو الشك عنا ... بما يوحي إليه وما يقول
ويهدينا فلا نخشى ضلالًا ... علينا والرسول لنا دليل
__________
جدث" بجيم ودال ومثلثة- لغة تهامة، وبها جاء القرآن: {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} ، ولغة نجد: جدف بالفاء بدل المثلثة، أي: قبر "أمسى بيثرب ثاويًا" مقيمًا, "فدًى" القصير "لرسول الله أمي وخالتي وعمي وخالي ثم نفسي وماليا" بألف الإطلاق "فلو أنَّ رب الناس أبقى نبينا سعدنا، ولكن أمره كان ماضيًا, عليك من الله السلام تحيّة، وأدخلت جنات من العدن راضيًا أرى حسنًا" ابن فاطمة "أيتمته وتركته يبكي" بالتشديد, "ويدعو جده اليوم نائيا" بالنون، أي: حال كونه بعيدًا.
"ورثاه أبو سفيان بن الحارث" بن عبد المطلب "فقال: أرقت" سهرت, "فبت ليلي لا يزول" لا ينقضي, "وليل أخي المصيبة فيه طول" كثير, وأسعدني: أعانني "البكاء" بالمد, "وذاك فيما أصيب المسلمون به" إلى يوم القيامة "قليل، لقد عظمت مصيبتنا وجلّت" على كل مصيبة, "عشية قيل: قد قبض الرسول وأضحت أرضنا ما عراها" أصابها, "تكاد" تقرب "بنا جوانبها تميل, فقدنا الوحي والتنزيل" يحتمل أنه عطف مساوٍ وأنه مغاير يجعل التنزيل القرآن, والوحي ما عداه, "فينا يروح به" يأتي وقت الرواح من الظهر "ويغدو" يأتي وقت الغدوة أول النهار, "جبرئيل, وذاك أحق من سالت" أي: خرجت "عليه نفوس الناس أو كادت تسيل" تحتمل, أو للإضراب والتنويع, "نبي كان يجلو الشك عنا بما يوحى إليه" على لسان الملك, "وما يقول" بالإلهام والمنام ونحوهما, وكله وحي, "ويهدينا فلا نخشى ضلالًا علينا والرسول لنا(12/150)
أفاطم أن جزعت فذاك عذر ... وإن لم تجزعي ذاك السبيل
فقير أبيك سيد كل قبر ... وفيه سيد الناس الرسول
ورثاه الصديق بقوله:
لما رأيت نبينا متجدلًا ... ضاقت عليَّ بعرضهنَّ الدور
فارتاع قلبي عند ذاك لهلكه ... والعظم مني ما حييت كسير
أعتيق ويحك إن حبك قد ثوى ... فالصبر عنك لما بقيت يسير
يا ليتني من قبل مهلك صاحبي ... غيبت في جدث علي صخور
فلتحدثنّ بدائع من بعده ... تعيا بهنّ جوانح وصدور
ورثاه الصديق أيضًا بقوله:
ودعنا الوحي إذ وليت عنَّا ... فودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينًا ... تضمنه القراطيس الكرام
ولقد أحسن حسان بقوله يرثيه:
بطيبة رسم للرسول ومعهد
__________
دليل على الهدى والصراط المستقيم "صراط الله, "أفاطم إن جزعت" بكسر الزاي- يعني: لم تصبري "فذاك عذر" لأنها مصيبة لا تشابهها مصيبة, "وإن لم تجزعي" بفتح الزاي- أي: صبرت "ذاك السبيل" لكل مخلوق, "فقبر أبيك سيد كل قبر" بل سيد جميع الأمكنة, "وفيه سيد الناس الرسول" بل سيد الخلق كلهم.
"ورثاه الصديق بقوله: لما رأيت نبينا متجدلًا" ملقيًا على الجدالة -بفتح الجيم- الأرض, "ضاقت عليّ بعرضهن" أي: سعتهنّ الدور، فارتاع" جواب لما دخلته الفاء على قلة "قلبي عند ذاك لهلكه" بضم الهاء وسكون اللام- موته, "والعظم مني ما حييت" مدة حياتي "كسير, أعتيق" ينادي نفسه؛ لأنه لقبه أو اسمه "ويحك" وقعت في ورطة لا تستحقها, إن حبك -بكسر الحاء- محبوبك "قد توى" بفوقية بزنة حصى، أي: هلك, "فالصبر عنك لما بقيت يسير" أي: قلّ صبرك لموت محبوك, "يا نفسي" ليتني من قبل مهلك" أي: موت "صاحبي غيبت في جدث، قبر علي صخورٍ فلتحدثنّ" بنون التوكيد الثقيلة, "بدائع" جمع بدعة, اسم من الابتداع، كالرفعة من الارتفاع، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة "من بعده تعيا بهنّ جوانح", الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر "وصدور، ورثاه الصديق أيضًا بقوله: ودعنا الوحي؛ إذ وليت عنّا فودعنا" بالتشديد "من الله الكلام سوى ما قد تركت لنا رهينًا، تضمنه القراطيس: جمع قرطاس -بكسر القاف- أشهر من فتحها ما يكتب فيه "الكرام، ولقد أحسن حسان بقوله: يرثيه بطيبة رسم" أثر "للرسول ومعهد" بفتح الهاء- منزل, معهود به الهدى والنور(12/151)
........................... ... مبين وقد تعفوا الرسوم وتهمد
ولا تنمحي الآيات من دار حرمه ... بها منبر الهادي الذي كان يصعد
وأوضح آيات وباقي معالم ... وربع له فيه مصلى ومسجد
بها حجرات كان ينزل وسطها ... من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها ... أتاها البِلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسول الرسول وعهده ... وقبرًا بها واراه في الترب ملحد
أطالت وقوفًا تذرف العين دمعها ... على طلل القبر الذي فيه أحمد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت ... بلاد ثوى فيها الرشيد المسدد
وبورك لحد منك ضمن طيبًا ... عليه بناء من صفيح منضد
تهيل عليه الترب أيد وأعين
__________
"مبين" بَيّن ظاهر لا يمكن إنكاره ما دامت الدنيا, "وقد تعفو" تدرس الرسوم غير رسمه ومعهده, و"تهمد" بهاء قبل الميم- تبلى، قالها: مَدّ البالي من كل شيء, "ولا تنمحي" تذهب الآيات من دار حرمه بفتح فسكون للوزن، وأصله -بفتحتين- "بها منبر الهادي الذي كان يصعد" بفتح العين يرقى عليه" وبها "أوضح آيات وباقي معالم" آثار, "وربع" منزل "له فيه مصلى" مكان صلاة, "ومسجد بها حجرات، كان ينزل وسطها" بالسكون "من الله نور" القرآن والوحي, "يستضاء" به من ظلمات الجهل, "ويوقد" يقتبس منه أنوار الهدى "معارف لم تطمس" أي: لم تمح "على" بعد "العهد آيها" جمع آية، فإن "أتاها البلى" بالكسر والقصر- الفناء, "فالآي منها تجدّد" ما بلي, "عرفت بها رسم الرسول وعهده" آثاره ومنزله, "وقبرًا بها واراه في الترب ملحد" بضم الميم وكسر الحاء- من الحد، أي: جعل اللحد، وبعد هذا عند ابن هشام:
ظللت بها أبكي الرسول فأسعدت ... عيون ومثلاها من الجن تسعد
تذكرن آلاء الرسول وما أرى ... لها محصيًا نفسي فنفسي تبلد
مفجعة قد شقّها فقد أحمد ... فظلت لا آلاء الرسول تعدد
وما بلغت من كل أمر عشيرة ... ولكن لنفسي بعد هذا توجد
وبعد هذا قوله: "أطالت" أي: العيون المذكورة في قوله: فأسعدت عيون, "وقوفها تذرف -بكسر الراء- العين دمعها" الذي في ابن هشام: تذرف الدمع جهدها، وأيما كانت فأخطأ من قال: أحسن من أطلت، لأنَّ أطالت للمطايا ولم تذكر, "على طل القبر الذي فيه أحمد، فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى" أقام فيها حيًّا وميتًا, "الرشيد المسدّد" هما من أسمائه -عليه الصلاة والسلام- كما مَرَّ, "وبورك لحد منك ضمن" بشد الميم "طيبًا من أسمائه "عليه بناء من صفيح" حجارة عريضة منضد بعضه فوق بعض, "تهيل" تصب "عليه الترب" مفعول فاعله "أيد(12/152)
......................... ... تباكت وقد غارت بذلك أسعد
لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة ... عشية عالوه الثري لا يوسد
وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم ... وقد وهنت منهم ظهور وأعضد
يبكون من تبكي السموات موته ... ومن قد بكته الأرض والناس أكمد
فهل عدلت يومًا رزية هالك ... رزية يوم مات فيه محمد
__________
وأعين تباكت، وقد غارت بذلك أسعد" أنجم, جمع سعد، وسعود النجوم عشرة، بينها القاموس: "لقد غيبوا حلمًا وعلمًا ورحمة عشية عالوه" جعلوا عليه "الثرى" التراب, "لا يوسّد" وراحوا بحزن ليس فيهم نبيهم، وقد وهنت" ضعفت "منهم ظهور وأعضد" جمع عضد, "يبكون من تبكي السموات موته, ومن قد بكته الأرض والناس أكمد" أشد كمدًا وهو الحزن المكتوم, "فهل عدلت يومًا رزية هالك" مصيبة ميت, "رزية يوم مات فيه محمد" كذا ثبتت هذه الأبيات في بعض نسخ المصنف، وهي من قصيدة عند ابن هشام, من زيادته على ابن إسحاق، رواها ابن هشام عن أبي زيد الأنصاري وبقيتها عنده:
تقطع فيه منزل الوحي عنهم ... وقد كان ذا نور يغور وينجد
يدل على الرحمان من يقتدي به ... وينقذ من هول الخزايا ويرشد
إمام لهم يهديهم الحق جاهدًا ... معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا
عفوّ عن الزلَّات يقبل عذرهم ... وإن يحسنوا بالله بالخير أجود
وإن ناب أمر لم يقوموا بحمله ... فمن عنده تيسير ما يتشدد
فبينا هموا في نعمة الله بينهم ... دليل به نهج الطريقة يقصد
عزيز عليه أن يجوروا عن الهدى ... حريص على أن يستقيموا ويهتدوا
عطوف عليهم لا يثنى جناحه ... إلى كتف يحنو عليهم ويمهد
فبينا همو في ذلك النور إذ غدا ... إلى نورهم سهم من الموت يقصد
فأصبح محمودًا إلى الله راجعًا ... تبكيه جفن المرسلات ويجمد
وأمست بلاد الحرم وحشًا بقاعها ... لغيبة ما كانت من الوحي تعهد
قفارًا سوى معمورة اللحد ضافها ... فقيد يبكيه بلاط وغرقد
ومسجده كالموحشات لفقده ... خلاء له فيه مقام ومقعد
فيا جمرة الكبرى له ثم أوحشت ... ديار وعرصات وربع ومولد
فبكى رسول الله يا عين جهرة ... ولا أعرفنّك الدهر دمعك يجمد
وما لك لا تبكين ذا النعم التي ... على الناس منها سابغ يتغمد
فجودي عليه بالدموع وأعولي ... لفقد الذي لا مثله الدهر يوجد(12/153)
ورثاه حسان بقوله أيضًا:
كنت السواد لناظري ... فعمي عليك الناظر
من شاء يعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
ولما تحقَّق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- موته -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر، ورجع إلى قوله، قال وهو يبكي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم، فحنَّ الجذع لفراقك، حتى جعلت يدك عليه سكن، فأمتك أولى بالحنين عليك حين فارقتهم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} , بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من
__________
وما فقد الماضون مثل محمد ... ولا مثله حتى القيامة يفقد
أعفّ وأوفى ذمة بعد ذمة ... وأقرب منه نائلًا لا ينكد
وأبذل منه للطريف وتالد ... إذا ضنَّ ذو مال بما كان يتلد
وأكرم بيتًا في البيوت إذا انتمى ... وأكرم جدًّا أبطحيًّا يسود
وامنع ذروات وأثبت في العلا ... دعائم عز شامخات تشيد
وأثبت فرعًا في الفروع ومنبت ... وعودًا كعود المزن فالعود أغيد
رباه وليدًا فاستتم تمامه ... على أكرم الخيرات رب ممجد
تناهت وصاة المسلمين بكفّه ... فلا العلم محبور ولا الرأي يفند
أقول ولا يلقي لقولي عائب ... من الناس إلا عازب العقل مبغد
وليس هواي نازعًا عن ثنائه ... لعلي به في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره ... وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
ورثاه حسان أيضًا بقوله:
كنت السواد لناظري ... فعمي عليك الناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
"لا يرد على هذا كله ما رواه ابن ماجه وصحَّحه الحاكم عن ابن أبي أوفى أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن المراثي؛ لأنَّ المراد مراثي الجاهلية، وهي ندبهم الميت بما ليس فيه نحو: واكهفاه واجبلاه لا مطلقًا، فقد رثى حسان حمزة وجعفرًا وغيرهما في زمنه -صلى الله عليه وسلم- ولم ينهه, "ولما تحقق عمر بن الخطاب موته -صلى الله عليه وسلم- بقول أبي بكر الصديق: ورجع إلى قوله: قال: وهو يبكي بأبي أنت وأمي" أي: لو كان لي إلى الفداء سبيل لفديتك بأبوي, فضلًا عن المال وغيره "يا رسول الله لقد(12/154)
فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد بلغ من فضيلتك عنده، أنَّ أهل النار يودون أن يكونوا أطاعوك وهم بين أطباقها يعذّبون، يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} . الخبر ذكره أبو العباس القصَّار في شرحه لبردة الأبو صيري، ونقله عن الرشاطي في كتابه: "اقتباس الأنوار والتماس الأزهار", وذكره ابن الحاجّ في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في "الشفاء", لكنه ذكره بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء: روي عن عمر بن الخطاب
__________
كان لك جذع تخطب الناس عليه، فلمَّا كثروا اتخذت منبرًا لتسمعهم, فحَنَّ الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه سكن" أي: سكت وترك الحنين "فأمتك أَوْلَى, "أحق بالحنين" التألّم عليك حين فارقتهم"
قال المجد: الحنين الشوق وشدة البكاء والطرب, أو هو صوت الطرب عن حزن أو فرح, "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عند ربك أن جعل طاعتك طاعته، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} مَرَّ شرحه "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن" مخففة من الثقيلة، أي: إنه "بعثك آخر الأنبياء، وذكرك في أولهم" أي: قدَّم ذكرك على ذكرهم فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} [الأحزاب: 7] فبدأ به بقوله: ومنك, "بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار" من أمة الدعوة "يودون" يتمنون "أن يكونوا أطاعوك وهم" أي: والحال أنهم "بين أطباقها" جمع طبق, وهي المنزلة والمرتبة واحدًا بعد واحد, وما تراكم بعضه على بعض, "يعذّبون" بيان لما أورثهم دخولها وذكره لكشف حالهم، ولو حذف تَمَّ المعنى بدونه, "يقولون: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} , وقيل: المراد بأهل النار جميع أهلها على معنى أنهم تمنَّوا أن يكونوا من مطيعيه لرؤيتهم حسن حال أمته الذين أطاعوه، فتمنّوا أنهم أدركوا زمانه وأطاعوه، ففيه فضله على سائر الأنبياء، وإلّا فكل طائفة جهنمية تودّ لو كانت أطاعت رسولها.... "الخبر ذكره أبو العباس القصّار في شرحه لبردة الأبو صيري" صوابه: البوصيري -كما مَرَّ كثيرًا؛ لأنه نسبة إلى بوصير.
"ونقله عن الرشاطي" بضم الراء، "في كتابه: اقتباس الأنوار والتماس الأزهار، وذكره ابن الحاج في المدخل وساقه بتمامه، والقاضي عياض في الشفاء، لكنه ذكر بعضه، ويقع في كثير من نسخ الشفاء".
"روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال في كلام بكى به النبي -صلى الله عليه وسلم- بتشديد الكاف -(12/155)
رضي الله عنه- أنه قال في كلام بكَّى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم -بتشديد الكاف من بَكَى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سمع من عمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- كما تقدم، ونبهت عليه في حاشية الشفاء", والله أعلم. ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد اتبعك في عصر عمرك ما لم يتبع نوحًا في كبر سنة وطول عمره, فلقد آمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل. وأخرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي قال: بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليل،
__________
من بكى، والصواب فيها التخفيف؛ لأن هذا الكلام إنما سُمِعَ من عمر بعد موته -صلى الله عليه وسلم- كما تقدَّم، ونبَّهت عليه في حاشية الشفاء, وأجاب بعض شراحها بأن التشديد يصحّ بحذف المفعول، أي: بكَّى به الناس النبيُّ، أي: صيّرهم باكين عليه، أو بكى نفسه كذلك، وهذا خير من دعوى الخطأ "والله أعلم".
"ويؤيد هذا قوله في الخبر نفسه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, لقد اتبعك في" أي مع "عصر عمرك" مدة النبوة ثلاث وعشرون سنة, آمن فيها أزيد من مائة وعشرين ألفًا, "ما لم يتبع نوحًا في كِبَر سنِّه وطول عمره", فلقد لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وما آمن معه إلا قليل، قيل: ستة رجال ونساؤهم، وقيل: تسعة وسبعون؛ زوجته المسلمة وبنوه حام وسام ويافث ونساؤهم, واثنان وسبعون من غيرهم, نصفهم رجال ونصفهم نساء, ونوح, فجملة من كان في السفينة ثمانون. "وأرج ابن عساكر عن أبي ذؤيب الهذلي" الشاعر المشهور، اسمه: خويلد بن خالد، ويقال: خالد بن خويلد, كان فصيحًا كثير الغريب متمكنًا في الشعر، وعاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام فأسلم، وعامة شعره في إسلامه, وحضر سقيفة بني ساعدة, وسمع خطبة أبي بكر, ورثى النبي -صلى الله عليه وسلم- بقصيدة منها:
كسفت لمصرعه النجوم وبدرها ... وتزعزعت آطام بطن الأبطح
ثم انصرف إلى باديته، فأقام حتى توفي في خلافة عثمان بطريق مكة، قاله ابن منده، وقال غيره: مات بطريق إفريقية وكان غزاها، ورافق ابن الزبير لما توجَّه مبشرًا بالفتح، فدفنه ابن الزبير بيده، وقيل: مات غازيًا بأرض الروم، وقيل: بإفريقية، وقيل: في طريق مصر.
وعند ابن البرقي أن أبا ذؤيب جاء إلى عمر في خلافته، فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، قال: قد فعلت, فأي العمل بعده أفضل؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قال: كان ذلك علي وأنا لا أرجو جنة ولا أخشى نارًا، فتوجَّه من فوره غازيًا هو وابنه وابن أخيه أبو عبيد حتى أدركه الموت في بلاد الروم والجيش سائرون، فقال لابنه: إنكما لا تتركان علي جميعًا فاقترعا، فصارت القرعة لأبي عبيد، فأقام عليه حتى واراه.(12/156)
فأوجس أهل الحي خيفةً على النبي -صلى الله عليه وسلم، وبت بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر نمت, فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح, فعلمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ!! أو هو ميت، فقَدِمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه؟ فقيل: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ومن عجيب ما اتفق ما روي: أنهم لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندري، أنجَرِّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرِّد موتانا, أم نغسله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت، لا يدرون من هو: اغسلوا النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثيابه، فقاموا وغسَّلوه عليه قميصه، يضعون الماء.
__________
"قال: بلغنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليل" مريض, "فأوجس" أضمر "أهل الحي خيفة" خوفًا "على النبي -صلى الله عليه وسلم، وبِتّ بليلة طويلة حتى إذا كان قرب السحر" آخر الليل "نمت، فهتف بي هاتف في منامي وهو يقول"
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبي محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالنسجام
خطب، أي: أمر شديد عظيم, والنِّسجام سيلان الدمع المنسجم القوي, وهو بفتح التاء ككل ما وزنه تفعال إلا التلقاء والتسباب, "فوثبت من نومي فزعًا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلّا سعد الذابح" اسم نجم, فتفاءلت به ذبحًا يقع في العرب كما في الرواية, "فعلمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ، أو هو ميت" أي: قريب الموت, "فقدمت المدينة ولأهلها ضجيج" بضاد معجمة وجيمين- صياح, "بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلّوا للإحرام، فقلت: مه" استفهام, والهاء للسكت، أي: ما هذا؟ "فقيل: قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ومن عجيب ما اتفق ما روي: إنهم لما أرادوا غسل النبي -صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا ندري" ما نفعل "أنجرِّد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من ثيابه كما نجرِّد موتانا, أم نغسِّله وعليه ثيابه، فلمَّا اختلفوا ألقى الله عليهم النوم حتى ما منهم رجل إلّا وذقنه" بفتح الذال والقاف- مجتمع لحييه, جمع القلة أذقان كسبان وأسباب، والكثرة ذقون؛ كأسد وأسود كما في المصباح, "في صدره، ثم كلّمهم مكلم من ناحية" جانب "البيت, لا يدرون من هو: اغسلوا النبي -صلى الله عليه وسلم وعليه- ثيابه، فقاموا" انتبهوا من النوم, "فغسَّلوه وعليه قميصه،(12/157)
فوق القميص ويدلكونه بالقميص. رواه البيهقي في دلائل النبوة.
وروى ابن ماجه بسند جيد عن علي يرفعه: "إذا أنا متُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري بئر غرس". قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة.
وقد روى ابن النجار: إنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "رأيت الليلة أنِّي على بئر من الجنة" فأصبح على بئر غرس فتوضأ منها وبزق فيها.
وغسل -صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القراح، والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور، وغسَّله علي والعباس وابنه الفضل يعينانه، وقثم وأسامة وشقران مولاه -صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة من وراء الستر؛ لحديث علي: "لا يغسلني إلّا أنت فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طُمِسَت عيناه". رواه البزار
__________
يضعون الماء فوق القميص ويدلكونه بالقميص.
رواه البيهقي في دلائل النبوة", وأصله في أبي داود عن عائشة, وابن ماجه عن بريدة "وروى ابن ماجه بسند جيد" أي: مقبول "عن علي يرفعه: "إذا أنا مِتُّ فاغسلوني بسبع قرب من بئري" أضافها إليه؛ لأنه كان يشرب منها وبزق فيها "بئر غرس.
"قال في النهاية: بفتح الغين المعجمة وسكون الراء والسين المهملة", بئر بقباء, "وقد روى ابن النجار أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "رأيت الليلة أني على بئر من الجنة" فأصبح" أي: جاء صبيحة الرؤيا "على بئر غرس، فتوضأ منها وبزق فيها"؛ ليحصل فيها بركته, "وغسل" بالتخفيف وتشدد للمبالغة "-صلى الله عليه وسلم- ثلاث غسلات؛ الأولى: بالماء القَراح" بفتح القاف- خالص لم يخالطه كافور ولا حنوط ولا غير ذلك, والثانية: بالماء والسدر، والثالثة: بالماء والكافور" طيب معروف يكون من شجر ببلاد الهند والصين، يظلّ خلقًا كثيرًا وتألفه النمور, وخشبه أبيض هشّ, ويوجد في أجوافه الكافور، وهو أنواع, ولونه أحمر, وإنما يبيض بالتصعيد، قاله القاموس. "وغسله علي والعباس" مبتدأ, "وابنه الفضل" عطف عليه والخبر "يعينانه" في تقليب جسمه الشريف, "وقثم" بضم القاف ومثلثة مفتوحة ابن العباس, "وأسامة" بن زيد "وشقران" بضم المعجمة "مولاه -صلى الله عليه وسلم- يصبون الماء وأعينهم معصوبة" أي: مربوطة بعصابة, "من وراء الستر" حتى لا ينظرون جسده الشريف وهو يغسل, خِيفَة أن يبدو ما لم يؤذن في النظر إليه، وضمير أعينهم للعبّاس ومن بعده لا لعلي, فإنه لم يعصب عينيه "لحديث علي" أوصاني النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يغسلني إلا أنت، فإنه لا يرى أحد عورتي إلّا طمست عيناه" بفتح الطاء والميم- زال ضوؤها وصورتها, وهو تعليل(12/158)
وأخرج البيهقي عن الشعبي قال: غسل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان يقول وهو يغسله -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا.
أخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته -صلى الله عليه وسلم, فذهبت أنظر ما يكون من الميت فلم أر شيئًا، وكان طيب حيًّا وميتًا.
وفي رواية ابن سعد: وسطعت ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط.
قيل: وجعل علي على يده خرقة وأدخلها تحت القميص, ثم اعتصروا قميصه، وحنطوا مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه, وجمّروه عودًا وندًا.
وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر بن محمد قال: كان الماء يستنقع في جفون النبي -صلى الله عليه وسلم, فكان علي يحسوه، وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله -صلى الله عليه وسلم- امتص
__________
لمقدَّر هو، "فإني أخشى على غيرك أن تحين منه لفتة فتطمس عيناه، وأمَّا أنت يا علي فأعرف تحرزك عن ذلك, فلا أخشى عليك".
وروي أن عليًّا نودي وهو يغسله أن ارفع طرفك نحو السماء خوفًا أن يديم النظر إليه.
"رواه البزار والبيهقي, وأخرج البيهقي عن الشعبي" عامر بن شراحيل التابعي "قال: غسل عليّ النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان يقول وهو يغسله: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا".
"وأخرج أبو داود وصحَّحه الحاكم عن علي قال: غسلته -صلى الله عليه وسلم, فذهبت أنظر ما يكون" يوجد "من الميت" من الفضلات الخارجة بعد الموت وعند التغسيل, "فلم أر شيئًا, وكان طيبًا حيًّا وميتًا".
"وفي رواية ابن سعد: وسطعت" أي: ارتفعت "ريح طيبة لم يجدوا مثلها قط، قيل: وجعل علي على يده خرقة، وأدخلها تحت القميص, ثم اعتصروا قميصه وحنّطوا" أي: جعلوا الحنوط وهو كل طيب يخلط للميت خاصة "مساجده ومفاصله، ووضؤوا منه" صلى الله عليه وسلم "ذراعيه ووجهه وكفيه وقدميه, وجمروه" بالجيم- بخروه "عودًا وندًا" بفتح النون وتكسر- طيب معروف, أو العنبر كما في القاموس.
"وذكر ابن الجوزي أنه روي عن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "قال: كان الماء يستنقع" أي: يجتمع بكسر القاف "في جفون النبي -صلى الله عليه وسلم، فكان علي يحسوه" أي: يشربه بفمه.
"وأمَّا ما روي أن عليًّا لما غسله -عليه الصلاة والسلام- امتص" أي: مص، وفي نسخة:(12/159)
ماء محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح.
وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض سحولية. أخرجه النسائي من رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة. واتفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بزيادة: من كرسف, ليس فيها قميص ولا عمامة. وليس قوله: "من كرسف" عند الترمذي ولا ابن ماجه.
وزاد مسلم: أما الحلة فإنما شُبِّه على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفَّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر فقال: لأحبسنَّها حتى أكَفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله -عز وجل- لنبيه لكفَّنه فيها, فباعها وتصدَّق بثمنها.
__________
اقتلص, أي: أخذ من الاقتلاص "ماء من محاجر عينيه فشربه، وأنه قد ورث بذلك علم الأولين والآخرين، فقال النووي: ليس بصحيح" وأقرَّه السخاوي وغيره.
"وفي حديث عروة عن عائشة قالت: كفِّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب بيض" في طبقات ابن سعد عن الشعبي: إزاء ورداء ولفافة, "سحولية" بالضم والفتح.
"أخرجه النسائي من راية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة" عنها, "واتَّفق عليه الأئمة الستة من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، بزيادة: من كرسف" قطن, "ليس فيها قميص ولا عمامة", هذا نحو قوله تعالى: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} أي: بغير عمد أصلًا أو عمد غير مرئية, وليس قوله: من كرسف عند الترمذي ولا ابن ماجه".
"وزاد مسلم" في روايةٍ من طريق أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: "أمَّا الحلة" بضم المهملة وشد اللام- ضرب من برود اليمن, وهي إزار ورداء, ولا تسمَّى حلة حتى تكون ثوبين, فإنما شُبِّه -بضم المعجمة وكسر الموحدة شديدة- أي: اشتبه "على الناس فيها أنها اشتريت له ليكفّن فيها، فتركت الحلة وكفّن في ثلاثة أثواب بيض" جمع أبيض، وزنه في الأصل بضم الفاء، كأحمر وحمر، فأبدلت الضمة كثرة لسلم الياء من قلبها واو؛ لوقوعها بعد ضمة, "سحولية، فأخذها عبد الله بن أبي بكر" الصديق "فقال: لأحسبنها حتى أكفّن فيها نفسي، ثم قال: لو رضيها الله لنبيه لكفنه فيها، فباعها وتصدق بثمنها" وهذا من عائشة يدل على أنَّ قولها: ثلاثة أثواب عن علم وإيقان لا عن تخمين وحسبان.(12/160)
وفي رواية له: أدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية كانت لعبد الله بن أبي بكر, ثم نزعت عنه، وذكر الحديث.
وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفن في ثوبين وبرد حبرة، فقالت: قد أتى بالبرد ولكنَّهم ردوه ولم يكفنوه فيه, قال الترمذي: حسن صحيح.
وفي رواية البيهقي: في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد.
والسحولية: بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر، وهو رواية الأكثرين، وفي النهاية تبعًا للهروي، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار؛ لأنه يسحلها، أي: يغسلها, أو إلى سحول وهي قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلّا من قطن، وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا.
__________
"وفي رواية له" لمسلم أيضًا من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: "أدرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حلة يمنية" بشد الياء، وهذه رواية العذري لمسلم.
ورواه الصدقي يمانية بالألف وخفة الياء على الأفصح؛ لأن الألف بدل من ياء النسب فلا يجتمعان "كانت لعبد الله بن أبي بكر، ثم نزعت عنه" صلى الله عليه وسلم, "وذكر الحديث" بنحو ما قبله.
"وفي رواية أصحاب السنن الأربعة: فذكر لعائشة قولهم: كفّن في ثوبين وبرد" بضم الموحدة, "حبرة" بكسرة المهملة وفتح الموحدة والراء- ثوب مخطّط يؤتى به من اليمن, روي بإضافة برد وتنوينه, "فقالت: قد أتي بالبرد، ولكنّهم ردوه ولم يكفنوه فيه، وقال الترمذي:" حديث "حسن صحيح، وفي رواية البيهقي:" كفن "في ثلاثة أثواب بيض سحولية جدد" جمع جديد, "والسحولية -بفتح السين وضمها، قال النووي: والفتح أشهر" لغة, "وهو رواية الأكثرين" لهذا الحديث.
ورواه الأقَّلون بالضم, "وفي النهاية تبعًا للهروي" في الغريبين "بالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار" للثياب "لأنه يسحلها" بزنة يمنعها, "أي: يغسلها", وأصل معناه القشر والنحت, "أو إلى سحول" بالفتح "وهي قرية باليمن، وأمَّا الضم فهو جمع سحل وهو الثوب الأبيض النقي" بالنون, ولا يكون إلّا من قطن وفيه شذوذ؛ لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضًا" فيكون نسب إليها, "والكرسف -بضم الكاف وإسكان الراء(12/161)
والكرسف: بضم الكاف وإسكان الراء، وضم السين المهملتين والفاء: القطن.
وقال الترمذي: روي في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة أصح الأحاديث في ذلك، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم.
وقال البيهقي في "الخلافيات": قال أبو عبد الله -يعني الحاكم: تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر، وجابر وعبد الله بن مغفل، في تكفين النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة.
وعن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن ابن الحنفية عن علي: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفّن في سبعة أثواب، وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل أو ممن بعده.
وقد اختلف في معنى قوله: "ليس فيها قميص ولا عمامة".
فالصحيح أن معناه: إنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا.
والثاني: إن معناه أن كفن في ثلاثة أثواب خارج عن القميص والعمامة.
__________
وضم السين المهملتين والفاء- القطن".
"قال الترمذي: روي في كفن النبي -صلى الله عليه وسلم- روايات مختلفة، وحديث عائشة" هذا "أصح الأحاديث في ذلك، والعلم عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم" فله مرجحان, "وقال البيهقي في الخلافيات: قال أبو عبد الله -يعني:" شيخه "الحاكم" محمد بن عبد الله: "تواترت الأخبار عن علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة وابن عمر وجابر وعبد الله بن مغفل" بمعجمة وفاء وزن محمد- في تكفين النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وعن عبد الله بن محمد بن عقيل" بفتح فكسر- ابن أبي طالب, صدوق, في حديثه لين, "عن ابن الحنفية" محمد بن علي بن أبي طالب، اشتهر بأمه، ثقة عالم، من رجال الجميع, "عن علي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كفّن في سبعة أثواب".
"وقد روى هذا الحديث أحمد في مسنده، وذكر ابن حزم أن الوهم فيه من ابن عقيل" عبد الله؛ لأن في حديثه لينًا، ويقال: إنه تغيّر بأخرة, "أو مِمَّن بعده" من الرواة.
"وقد اختلف في معنى قوله: ليس فيها قميص ولا عمامة، فالصحيح" عند جماعة "أنه ليس في الكفن قميص ولا عمامة أصلًا، والثاني: إن معناه أنه كفِّن في ثلاثة أثواب خارج(12/162)
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد. وذكر النووي في شرح مسلم أنَّ الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث، وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كفن في قميص وعمامة. انتهى.
وترتَّب على هذا اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟
فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف، ليس فيها قميص ولا عمامة, واختلفوا في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز غير مستحب، وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء، وهو في حق النساء آكد. قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة، وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة: إزار وقميص ولفافة.
وقد أجمع المسلمون على وجوبه، وهو فرض كفاية, فيجب في ماله، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته.
__________
عن القميص والعمامة", قال المصنف في شرح مسلم ورجَّح كل منهما, "وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: والأول أظهر في المراد، وذكر النووي في شرح مسلم: إن الأول تفسير الشافعي وجمهور العلماء، قال: وهو الصواب الذي يقتضيه ظاهر الحديث.
وقال: إن الثاني ضعيف، فلم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كفن في قميص وعمامة. انتهى", وهو مشترك الإلزام، فلم يثبت أنه لم يكفن فيهما، والحديث يحتمل الوجهين, "وترتب على هذا الخلاف" اختلافهم في أنه: هل يستحب أن يكون في الكفن قميص وعمامة أم لا؟ فقال مالك والشافعي وأحمد: يستحب أن تكون الثلاثة لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة، واختلفوا" بعد هذا "في زيادة القميص والعمامة أو غيرهما على اللفائف الثلاثة لتصير خمسة، فذكر الحنابلة أنه مكروه، وقال الشافعية: إنه جائز" مستوي "غير مستحب" ولا مكروه.
"وقال المالكية: إنه يستحب للرجال والنساء, وهو في حق النساء آكد" أشد في الاستحباب, "قالوا: والزيادة إلى السبعة غير مكروهة, وما زاد عليها سرف، وقال الحنفية: الثلاثة إزار وقيمص ولفافة، وقد أجمع المسلمون على وجوبه" أي: الكفن, "وهو فرض كفاية, فيجب في ماله" أي: الميت, "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته"؛ لأنه من توابع(12/163)
واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال، هل يجب تكفينها من مالها، أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في "الشرح الصغير" والمحرر", والنووي في "المنهاج", وذهب إلى الثاني: الرافعي في "الشرح الكبير", والنووي في "الروضة" و "شرح المهذب", وقال فيه: قيّد الغزالي وجوب التكفين على الزوج بشرط إعسار المرأة، وأنكروه عليه.
ومتى كانت معسرة فتكفينها على زوجها قطعًا، ثم إنّ الواجب ثوب واحد، وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه، بخلاف الثاني والثالث, فإنه حق للميت، تنفذ وصيته بإسقاطهما.
وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه. قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو بقي مع رطوبته لأفسد الأكفان. قال: وأمَّا الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان, وقميصه الذي توفي فيه، فحديث ضعيف، لا يصح الاحتجاج به؛ لأن يزيد بن
__________
الحياة.
"واختلف أصحابنا في المتزوجة إذا كان لها مال, هل يجب تكفينها من مالها, أو هو على زوجها، فذهب إلى الأوّل الرافعي في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي, "والمحرر, والنووي في المنهاج, وذهب إلى الثاني" وهو المعتمد عندهم "الرافعي" في الشرح الكبير" على الوجيز, والنووي في الروضة وشرح المهذّب".
"وقال فيه: قيد الغزالي وجوب الكفن على الزوج بشرط إعسار المرأة, وأنكروه عليه، وذلك لأنها متى كانت معسرة، فتكفينها على زوجها قطعًا", وإنما الخلاف إذا كانت موسرة, "ثم إن الواجب ثوب واحد" يستر جميع بدنه, "وهو حق الله تعالى، لا تنفذ وصية الميت بإسقاطه, بخلاف الثاني والثالث، فإنه حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما، وفي هذا الحديث أيضًا دلالة على أنَّ القميص الذي غسل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نزع عنه عند تكفينه", من قولها: كفّن في ثلاثة أثواب بيض سحولية.
"قال النووي في شرح مسلم: وهذا هو الصواب الذي لا يتجه غيره؛ لأنه لو أُبْقِيَ مع رطوبته" بماء الغسل "لأفسد الأكفان قال: وأما الحديث الذي في سنن أبي داود عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كفن في ثلاثة أثواب: الحلة ثوبان, وقميصه الذي توفي فيه، فحديث(12/164)
زياد، أحد رواته مجمع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات.
وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه -صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء، وضع على سريره في بيته, ثم دخل الناس عليه -صلى الله عليه وسلم- أرسالًا يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان، ولم يؤمّ الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد.
وفي رواية: إنَّ أول من صلى عليه -صلى الله عليه وسلم- الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا.
وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون, فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا, فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} الآية، لبيك اللهم ربنا وسعديك، صلوات الله البر الرحيم، والملائكة المقربين،
__________
ضعيف لا يصلح الاحتجاج به" لضعفه؛ "لأن يزيد بن زياد أحد رواته مجمَع على ضعفه، لا سيما وقد خالف بروايته الثقات", فتكون شاذَّة لو كان ثقة.
"وفي حديث ابن عباس عند ابن ماجه: لما فرغوا من جهازه" بفتح الجيم وكسرها لغة قليلة, "صلى الله عليه وسلم- يوم الثلاثاء, وضع على سريره في بيته، ثم دخل الناس عليه -صلى الله عليه وسلم- أرسالًا" بفتح أوله- أي: جماعات متتابعين, "يصلون عليه، حتى إذا فرغوا دخل النساء، حتى إذا فرغن دخل الصبيان, ولم يؤمّ الناس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحد" فاعل يؤم.
قال ابن كثير: هذا أمر مجمَع عليه، واختُلِف في أنه تعبد لا بعقل معناه، أو ليباشر كل واحد الصلاة عليه منه إليه، وقال السهيلي: قد أخبر الله تعالى أنه وملائكته يصلون عليه، وأمر كل واحد من المؤمنين أن يصلي عليه، فوجب على كل أحد أن يباشر الصلاة عليه منه إليه، والصلاة عليه بعد موته من هذا القبيل، قال: وأيضًا فإن الملائكة لنا في ذلك أئمة, انتهى.
وقال الشافعي في الأم: "وذلك لعظم أمره -صلى الله عليه وسلم, وتنافسهم فيمن يتولَّى الصلاة عليه "وفي رواية: إنَّ أوّل من صلّى عليه الملائكة أفواجًا، ثم أهل بيته، ثم الناس فوجًا فوجًا، ثم نساؤه آخرًا" على ما روي عند الطبراني وغيره بسند واهٍ أنه أخبر بذلك قبل موته وتقدَّم.
"وروي أنه لما صلى أهل بيته لم يدر الناس ما يقولون، فسألوا ابن مسعود، فأمرهم أن يسألوا عليًّا"؛ لأنه أعلم منه بذلك، فسألوه فقال لهم: قولوا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} ..... الآية" لعل حكمة الأمر بها تذكيرهم بالصلاة والسلام عليه في هذا الموطن, "لبيك اللهم ربنا" إجابة لك بعد إجابة فيما أمرتنا به من الصلاة والتسليم عليه, "وسعديك" إسعادًا بعد(12/165)
والنبيين والصدقين والشهداء والصالحين، وما سبح لك من شيء يا رب العالمين، على محمد بن عبد الله خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وإمام المتقين, ورسول رب العالمين، الشاهد البشير, الداعي إليك بإذنك, السراج المنير، وعليه السلام. ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي في كتابه: تحقيق النصرة.
ثم قالوا: أين تدفنونه؟ فقال أبو بكر -رضي الله عنه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم
__________
إسعاد "صلوات الله البر الرحيم, والملائكة المقربين" كالأربعة, والنبيين والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء, "والشهداء والصالحين, وما سبَّح لك من شيء" {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، فهو عبارة عن دوام الصلاة أبدًا, "يا رب العالمين, على محمد بن عبد الله خاتم النبيين, وسيد" أي: أفضل "المرسلين وإمام" قدوة "المتقين, ورسول رب العالمين" إلى الخلق أجمعين, "الشاهد" على أمته, وعلى الأمم بأن أنبياءهم بلغوهم, "البشير" للمؤمنين, "الداعي إليك بإذنك" بإرادتك, "السراج المنير، وعليه السلام, ذكره الشيخ زين الدين بن الحسين المراغي" بفتح الميم وغين معجمة- من مراغة الصعيد, ومن أفاضل جماعة الأسنوي "في كتابه تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, وظاهر هذا أن المراد ما ذهب إليه جماعة أنه لم يصل عليه الصلاة المعتادة، وإنما كان الناس يأتون فيدعون.
قال الباجي: ووجهه أنه -صلى الله عليه وسلم- أفضل من كل شهيد، والشهيد يغنيه فضله عن الصلاة عليه، فهو -صلى الله عليه وسلم- أولى، قال: وإنما فارق الشهيد في الغسل؛ لأن الشهيد حذر من غسله إزالة الدم عنه, وهو مطلوب بقاؤه لطيبه؛ ولأنه عنوان لشهادته في الآخرة، وليس على النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تكره إزالته, فافترقا. انتهى.
لكن قال عياض: الصحيح الذي عليه الجمهور, أنَّ الصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- كانت صلاة حقيقية لا مجرّد الدعاء فقط. انتهى.
وأجيب عمَّا اعتلّ به الأولون بأن المقصود من الصلاة عليه عود التشريف على المسلمين, مع أن الكامل يقبل زيادة التكميل، نعم. لا خلاف أنه لم يؤمّهم أحد عليه كما مَرَّ لقول علي: هو إمامكم حيًّا وميتًا، فلا يقوم عليه أحد..... الحديث.
رواه ابن سعد وأخرج الترمذي، أن الناس قالوا لأبي بكر: أنصلي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قالوا: وكيف نصلي؟ قال: يدخل قوم فيكبِّرون ويصلون ويدعون، ثم يدخل قوم فيصلون فيكبِّرون ويدعون فرادى, "ثم قالوا" بعد الفراغ من الصلاة: "أين تدفنونه؟ " فقال الناس: عند المنبر، وقال آخرون: بالبقيع, كما في الموطأ وغيره, "فقال أبو بكر -رضي الله عنه: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما هلك" أي: مات "نبي قط, إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي:(12/166)
يقول: "ما هلك نبي قط إلا يدفن حيث تقبض روحه"، وقال علي: وأنا أيضًا سمعته. وحفر أبو طلحة لحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضع فراشه حيث قُبِض.
وقد اختلف فيمن أدخله قبره، وأصحّ ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم بن العباس والفضل بن العباس، وكان آخر الناس عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس.
وروي أنه بُنِيَ في قبره تسع لبنات، وفرش تحته قطيفة نجرانية كان يتغطَّى بها، فرشها شقران في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر. وشذَّ
__________
وأنا أيضًا سمعته".
أخرجه ابن ماجه وغيره، ورواه الترمذي، بلفظ: "ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، وفي الموطأ بلفظ: "ما دفن نبي قط إلا في مكانه الذي توفي فيه"، فحفر له فيه, "وحفر أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري لحد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضع فراشه حيث قبض" وروى ابن سعد: اختلفوا في الشق واللحد، فقال المهاجرون: شقوا كأهل مكة، وقالت الأنصار: ألحدوا كما نحفر بأرضنا، فقالوا: بعثوا إلى أبي عبيدة وأبي طلحة، فأيهما جاء قبل الآخر فليعمل عمله، فجاء أبو طلحة فقال: والله إني لأرجو أن يكون الله قد اختار لنبيه أنه كان يرى اللحد فيعجبه، فالحد له.
"وقد اختلف فيمن أدخله قبره", وأصح ما روي أنه نزل في قبره عمَّه العباس وعلي وقثم" بقاف مضمومة ومثلثة مفتوحة "ابن العباس, والفضل بن العباس", ويقال: دخل معهم أوس بن خولي -بفتح المعجمة وسكون الواو، وقيل بفتحها, "وكان آخر الناس عهدًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- قثم بن العباس" أي: إنه تأخَّر في القبر حتى خرجوا قبله.
"وروي أنه بني في قبره تسع لبنات" جمع لبنة, "وفرش تحته قطيفة" بفتح القاف وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- كساء له خمل, "نجرانية" بفتح النون وإسكان الجيم- بلد بين اليمن وهجر, "كان يتغطَّى بها", ويروى: كان يجلس عليها، ولاخلف لجواز أنه فعل الأمرين, "فرشها شقران" بضم الشين وإسكان القاف- مولاه -صلى الله عليه وسلم- في القبر، وقال: والله لا يلبسها أحد بعدك.
قال النووي: وقد نصَّ الشافعي وجميع أصحابه وغيرهم من العلماء على كراهة وضع قطيفة أو مضربة أو مخدة ونحو ذلك تحت الميت في القبر, وشَذَّ" انفرد "البغوي من(12/167)
البغوي من أصحابنا, فقال في كتابه "التهذيب": لا بأس بذلك لهذا الحديث، والصواب كراهية ذلك كما قاله الجمهور، وأجابوا عن هذا الحديث: بأنَّ شقران انفرد بفعل ذلك، ولم يوافقه أحد من الصحابة، ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرناه عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، انتهى.
وفي كتاب "تحقيق النصرة" قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر لما فرغوا من وضع اللبنات التسع. حكاه ابن زبالة.
ولما دفن -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة -رضي الله عنها- فقالت: كيف طابت نفوسكم أن تحثوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب؟ وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها وانشأت تقول:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ... أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا
__________
أصحابنا الشافعية, "فقال في كتابه التهذيب: لا بأس بذلك" أي: يجوز؛ "لهذا الحديث", والصواب كراهة ذلك، كما قاله الجمهور, وأجابوا عن هذا الحديث بأن شقران انفرد بفعل ذلك, ولم يوافقه أحد من الصحابة, ولا علموا بذلك، وإنما فعله شقران لما ذكرنا عنه من كراهته أن يلبسها أحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى" كلام النووي.
"وفي كتاب تحقيق النصرة" للزين المراغي, "قال ابن عبد البر: ثم أخرجت -يعني: القطيفة- من القبر, لما فرغوا من وضع اللبنات التسع، حكاه" محمد بن الحسن "بن زبالة" بفتح الزاي وخفة الموحدة- المخزومي، أبو الحسن المدني، كذَّبوه, ومات قبل المائتين، روى له أبو داود، وفي الألفية:
وفرشت في قبره قطيفة ... وقيل أخرجت وهذا أثبت
"ولما دفن -صلى الله عليه وسلم- جاءت فاطمة -رضي الله عنها- فقالت: كيف طابت", لفظ البخاري من حديث أنس, عقب قولها السابق: إلى جبريل, تتعلّق، فلمَّا دفن قالت فاطمة: أطابت نفوسكم أن تحثوا" بفتح الفوقية وإسكان المهملة وضم المثلثة "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التراب".
قال الحافظ: هذا من رواية أنس عن فاطمة، وأشارت بذلك إلى عتابهم على إقدامهم على ذلك؛ لأنه يدل على خلاف ما عرفته منهم من رِقَّة قلوبهم عليه؛ لشدة محبتهم له، وسكت أنس عن جوابها رعاية لها، ولسان حاله يقول: لم تطب أنفسنا بذلك إلّا أنا قهرنا على فعله امتثالًا لأمره, "وأخذت من تراب القبر الشريف ووضعته على عينيها" هذا زائد على ما في البخاري, "وأنشأت تقول:"
ماذا على من شمَّ تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا(12/168)
صُبَّتْ عليَّ مصائب لو أنها ... صُبَّت على الأيام عدن لياليا
قال رزين: ورشَّ قبره -صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ من قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر، وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء. ورفع قبره عن الأرض قدر شبر.
وفي حديث عائشة عند البخاري قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" , لولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أو خشي أن يتخذ قبره مسجدًا.
كذا في رواية أبي عوانة عن هلال "خَشي أو خُشي" على الشك. فرواية
__________
صبَّت عليَّ مصائب لو أنها ... صبَّت على الأيام عدن لياليا
الغوالي بمعجمة: جمع غالية, أخلاط من الطيب، وروي أنها قالت:
أغبر آفاق السماء وكورت ... شمس النهار وأظلم العصران
والأرض من بعد النبي كئيبة ... أسفًا عليه كثيرة الرجفان
فليبكه شرق البلاد وغربها ... وليبكه مضر وكل يماني
"قال رزين" بن معاوية السرقسطي: "ورشَّ قبره -صلى الله عليه وسلم، رشَّه بلال بن رباح بقربة، بدأ قِبَل رأسه، حكاه ابن عساكر. وجعل عليه من حصباء العرصة حمراء وبيضاء" حال من حصباء، يعني: إنه أخذ من الحصباء الموصوفة بما ذكر شيء ووضع على قبره "ورفع قبره عن الأرض قدر شبر, فهو مسنم.
"وفي حديث عائشة عند البخاري" في موضعين من الجنائز، وفي المغازي, ومسلم في الصلاة "قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم" في مرضه الذي لم يقم منه", وفي رواية: الذي توفي فيه: "لعن الله اليهود والنصارى" يعني: أبعدهم عن رحمته, "اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" بالجمع للكشميهني.
ورواه غيره مسجدًا بالإفراد على إرادة الجنس, وهو في اليهود واضح، أمَّا النصارى، فإنما لهم نبي واحد ولا قبر له، مع أنهم لا يقولون أنه نبي، بل ابن أو إله، أو غير ذلك, على اختلاف مللهم الباطلة، وأجيب بعود الضمير على اليهود فقط, بدليل رواية الاقتصار عليهم، وبأنَّ المراد من أمروا بالإيمان بهم من الأنبياء السابقين، كنوح وإبراهيم, "لولا ذلك لأبرز قبره، غير أن خَشي" صلى الله عليه وسلم "أو خُشي" بالبناء للمفعول, والفاعل الصحابة أو عائشة، "أن يتَّخذ" بضم أوله وفتح ثالثه- قبره مسجدًا، كذا في رواية أبي عوانة" بفتح العين- اسمه: الوضاح بن عبد الله, "عن هلال" بن(12/169)
"الضم" مبهمة, يمكن أن تفسَّر بأنها هي التي منعت من إبرزاه، والهاء ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك. وهذا يقتضي أنهم فعلوه باجتهاد، بخلاف رواية الفتح, فإنها تقتضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمرهم بذلك.
وقوله: "لأبرز قبره" لكشف قبره ولم يتخذ عليه الحائل. أو المراد: لدفن خارج بيته -صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة -رضي الله عنها- قبل أن يوسّع المسجد، ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة، حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة.
وفي البخاري أيضًا من حديث أبي بكر بن عياش عن سفيان التمار: إنه حدثه أنه رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنمًا, أي: مرتفعًا. زاد أبو نعيم في "المستخرج": وقبر أبي بكر وعمر كذلك.
واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور، وهو قول أبي حنيفة ومالك
__________
حميد الجهني، عن عروة عن عائشة عند البخاري في الموضع الثاني, "خَشي أو خُشي على الشك", وعنده في الموضع الأول، عن شيبان، عن هلال: غير أني أخشى أن يتَّخذ مسجدًا بالجزم "فرواية الضم" للخاء "مبهمة، يمكن أن تفسر بأنها" أي: عائشة "هي التي منعت من إبرازه", بدليل رواية غير أني أخشى, "والهاء" في قولها: غير أنه "ضمير الشأن، وكأنها أرادت نفسها ومن وافقها على ذلك، وهذا يقتضي أنهم فعلوا ذلك باجتهاد" منهم, "بخلاف رواية الفتح" للخاء, "فإنها تقضي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمرهم بذلك".
"وقوله: لأبرز قبره، أي: لكشف قبره, ولم يتخذ عليه الحائل، أو المراد: لدُفِنَ خارج بيته -صلى الله عليه وسلم، وهذا قالته عائشة قبل أن يوسّع المسجد" النبوي, "ولهذا لما وسّع المسجد جعلت حجرتها مثلثة الشكل محددة حتى لا يتأتَّى لأحد أن يصلي إلى جهة القبر الكريم مع استقباله القبلة".
"وفي البخاري أيضًا" في الجنائز "من حديث أبي بكر بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن سالم الأسدي، الكوفي، مشهور بكينته، والأصح أنها اسمه, "عن سفيان التمار" بالفوقية- قال الحافظ: هو ابن دينار على الصحيح، وقيل: ابن زياد، والصواب أنه غيره، وكلّ منهما كوفي, وهو من كبار أتباع التابعين، وقد لحق عصر بعض الصحابة, ولم أر له رواية عن صحابي، "أنه حدَّثه أنه رأى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- مسنمًا" بضم الميم وشد النون المفتوحة "أي: مرتفعًا".
"زاد أبو نعيم في المستخرج: وقبر أبي بكر وعمر كذلك" مسنمًا كلّ منهما "واستدلَّ به على أن المستحب تسنيم القبور, وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد والمزني وكثير(12/170)
وأحمد والمزني وكثير من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه. وتعقّب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نَصَّ عليه الشافعي, وبه جزم الماوري وآخرون.
وقول سفيان التمَّار لا حجة فيه، كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره -صلى الله عليه وسلم- في الأوّل لم يكن مسنمًا. فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة، مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء. زاد الحاكم: فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مقدمًا, وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم، وعمر رأسه عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كان في خلافة معاوية. فكأنَّها كانت في الأول مسطَّحة، ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل الوليد بن عبد الملك صيّروها مرتفعة.
__________
من الشافعية، وادَّعى القاضي حسين اتفاق الأصحاب عليه، وتعقب بأن جماعة من قدماء الشافعية استحبوا التسطيح كما نصَّ عليه الشافعي، وبه جزم الماوردي وآخرون"؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سطَّح قبر ابنه إبراهيم, وفِعْله حجة لا فعل غيره، وأجيب بأن الله تعالى لا يختار لنبيه إلا الأفضل، وفعله هو لبيان الجواز, "وقول سفيان التمار لا حجة فيه كما قال البيهقي؛ لاحتمال أن قبره -صلى الله عليه وسلم- في الأوَّل لم يكن مسنمًا" في الأزمنة الماضية قبل رؤية التمار, "فقد روى أبو داود والحاكم من طريق القاسم بن محمد بن أبي بكر" الصديق "قال: دخلت على عائشة" عمته "فقلت: يا أمه, اكشفي لي عن قبر النبي -صلى الله عليه وسلم" وصاحبيه, "فكشفت لي عن ثلاثة قبور لا مشرفة" أي: لا هي مرتفعة كثيرًا "ولا لاطئة" أي: لاصقة بالأرض "مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء" يقال: لطِئ -بكسر الطاء، ولطأ -بفتحها، أي: لصق، وغاية ما يفيده هذا أنها لم تكن غاية في الارتفاع وهو المطلوب، فكيف يتأتَّى احتمال أنه لم يكن مسنمًا.
"زاد الحاكم: فرأيت رسول الله" أي: قبره "صلى الله عليه وسلم, وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي -صلى الله عليه وسلم, وعمر رأسه عند رجلي النبي -صلى الله عليه وسلم", قال أبو اليمين بن عساكر وهذه صفته:
النبي -صلى الله عليه وسلم, عمر -رضي الله تعالى عنه
أبو بكر -رضي الله تعالى عنه.
"وهذا" أي: رؤية القاسم لها "كان في خلافة معاوية، فكأنها كانت في الأول مسطحة" من أين هذا الترجي, "ثم لما بني جدار القبر في إمارة عمر بن عبد العزيز على المدينة من قِبَل" بكسر ففتح "الوليد بن عبد الملك, صيِّروها مرتفعة".(12/171)
وقد روى أبو بكر الآجري في كتاب "صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم", من طريق إسحاق بن عيسى بن بنت داود بن أبي هند، عن عثيم بن نسطاس المدني قال: رأيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمارة عمر بن عبد العزيز، فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه.
ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل، لا في أصل الجواز، ورجَّح المزني التسنيم من حيث المعني، بأن المسطح يشبه ما يصنع للمجوس، بخلاف المسنّم.
ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بستويتها.
__________
وقد روى أبو بكر الآجري" بضم الجيم وتشديد الراء المهملة- نسبة إلى عمل الآجر وبيعه, وإلى درب الآجر كما في اللب الحافظ الإمام، المحدث القدوة، محمد بن الحسين بن عبد الله البغدادي, كان عالمًا عاملًا دينًا صاحب سنة، توفي في محرم سنة ست وثلاثمائة, في كتاب صفة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- من طريق "إسحاق بن عيسى" القشيري البصري، صدوق يخطى، وهو "ابن بنت داود بن أبي هند" البصري "عن عثيم" بمهملة فمثلثة مصغر, "ابن نسطاس" بكسر النون المهملة "المدني", وهوأخو عبيد مولى آل كثير بن الصلت، تابعي مقبول كما في التقريب، ونسخة بسطام تحريف "قال: رأيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في إمارة عمر بن عبد العزيز" على المدينة من جهة ابن عمه الوليد, "فرأيته مرتفعًا نحوًا من أربع أصابع، ورأيت قبر أبي بكر" وراء قبره، ورأيت قبر عمر وراء قبر أبي بكر أسفل منه", ورواه أبو نعيم بزيادة وصورة لنا.
المصطفى
أبو بكر
عمر
"ثم الاختلاف في ذلك في أيهما أفضل لا في أصل الجواز", فإن كلًّا جائز, "ورجَّح لمزني التسنيم من حيث المعنى، بأنَّ المسطح يشبه ما يصنع للمجوس", وفي نسخة: للجولس, والذي في الفتح للمجوس, "بخلاف المسنم", ورجَّحه ابن قدامة، بأنه يشبه أبنية أهل الدنيا, وهو من شعار أهل البدع، فكان التنسيم أولى، هكذا في الفتح قبل قوله: "ويرجّح التسطيح ما رواه مسلم من حديث فضالة" بفتح الفاء "ابن عبيد" بضم العين "أنه أمر بقبر فسوي، ثم قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأمر بتسويتها", وقد ردَّ على من قال: إنه صار شعار الروافض، بأن السنة لا تترك بموافقة أهل البدع عليها.(12/172)
وعن هشام بن عروة عن أبيه: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمان الوليد بن عبد الملك، أخذوا في بنائه، فبدت لهم قدم, ففزعوا وظنّوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك, حتى قال لهم عروة: والله ما هي قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، والله ما هي إلا قدم عمر، رواه البخاري أيضًا.
والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد, فلمَّا هدم بدت قدم ساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز, فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبته, فسري عن عمر بن عبد العزيز.
وروى الآجري: قال رجاء بن حيوة: فكان قبر أبي بكر عند وسط النبي -صلى الله عليه وسلم،
__________
وعن هشام بن عروة عن أبيه، قال: لما سقط عليهم الحائط، يعني: حائط حجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زمان الوليد بن عبد الملك" بن مروان, "أخذوا في بنائه، فبدت" ظهرت "لهم قدم، ففزعوا وظنوا أنها قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، فما وجدوا أحدًا يعلم ذلك, حتى قال لهم عروة". فيه التفات، والأصل: حتى قلت لهم: "والله ما هي قدم النبي -صلى الله عليه وسلم، ما هي إلّا قدم عمر".
"رواه البخاري أيضًا" من طريق علي بن مسهر، عن هشام، عن أبيه, "والسبب في ذلك ما رواه الآجري من طريق شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة، قال: أخبرني أبي قال: كان الناس يصلون إلى القبر الشريف، فأمر به عمر بن عبد العزيز فرُفِعَ حتى لا يصلي إليه أحد، فلمَّا هدم بدت قدم بساق وركبة، ففزع عمر بن عبد العزيز، فأتاه عروة فقال: هذه ساق عمر وركبت، فسري عن عمر بن عبد العزيز" أي: أزيل عنه الفزع.
"وروى الآجري" أيضًا عن رجاء بن حيوة، قال: كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز, وكان اشترى حجر أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم، أن اهدامها ووسع بها المسجد، فقعد ناحية ثم أمر بهدمها، فما رأيت باكيًا أكثر من يومئذ، ثم بناه كما أراد، فلمَّا أن بني البيت على القبر, وقدم البيت الأول ظهرت القبور الثلاثة, وكان الرمل الذي كان عليها قد انهار، ففزع عمر بن عبد العزيز, وأراد أن يقوم فيسويها بنفسه، فقلت له: أصلحك الله، إن قمت قام الناس معك، فلو أمرت رجلًا أن يصلحها, ورجوت أن يأمرني بذلك، فقال: يا مزاحم -يعني: مولاه, قم فأصلحها.
"قال رجاء بن حيوة" بفتح المهملة وسكون التحتية وفتح الواو- الكندي، التابعي الثقة الفقيه، مات سنة ثنتي عشرة ومائة، روى له مسلم والأربعة: "فكان قبر أبي بكر عند وسط(12/173)
وعمر خلف أبي بكر، رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم، فإن أمكن الجمع، وإلا فحديث القاسم أصح.
وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجهٍ آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه, وعمر عن يساره, فسنده ضعيف. انتهى مخلصًا من فتح الباري.
وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدسة على سبع روايات، أوردها ابن عساكر في "تحفة الزائر", ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة الشرقية يدفن فيه عيسى بن مريم -عليهما السلام، ويكون قبره الرابع.
__________
النبي -صلى الله عليه وسلم, وعمر خلف أبي بكر, رأسه عند وسطه، وهذا ظاهره يخالف حديث القاسم المتقدم أنَّ أبا بكر رأسه عند كتفي المصطفى، ورأس عمر عند رجليه, "فإن أمكن الجمع بالتجوّز في الوسط بأن يراد به ما بين الكتفين, والتجوّز أيضًا على بعد في قوله: وعمر...... إلخ.
"وإلّا" يمكن لبعده جدًّا "فحديث القاسم أصحّ, فيقدَّم عليه "وأمَّا ما أخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن عائشة: أبو بكر عن يمينه -صلى الله عليه وسلم, وعمر عن يساره، فسنده ضعيف, انتهى ملخصًا من فتح الباري".
"وقد اختلف أهل السير وغيرهم في صفة القبور المقدّسة على سبع روايات، أوردها أبو اليمن "بن عساكر في" كتابه "تحفة الزائر" خمسة منها ضعيفة، والصحيح منها روايتان.
إحداهما ما تقدَّم عن القاسم, والأخرى: وبها جزم رزين وغيره, وعليها الأكثر، كما قال المصنف في الفصل الثاني، وقال النووي: إنها المشهورة, والسمهودي: إنها أشهر الروايات, أنَّ قبره -صلى الله عليه وسلم- إلى القبلة مقدمًا بجدارها، ثم قبر أبي بكر حذاء منكبي النبي -صلى الله عليه وسلم, وقبر عمر حذاء منكبي أبي بكر, وهذا صفتها
المصطفى
الصديق
الفاروق
ومرت واحدة من الضعيفة ولا حاجة الذكر باقيها, "ونقل أهل السير عن سعيد بن المسيب" أنه "قال: بقي في البيت موضع قبر في السهوة" بفتح المهملة وإسكان الهاء- قال في النهاية: بيت صغير منحدر في الأرض قليلًا شبيه بالمخدع والحزانة، وقيل: هو كالصفة يكون بين البيت، وقيل: شبيه بالرف أو الطاق يوضع فيهما الشيء, "الشرقية، يدفن فيه عيسى بن مريم -عليهما السلام, ويكون قبره الرابع، وفي المنتظم" اسم كتاب "لابن الجوزي(12/174)
وفي "المنتظم" لابن الجوزي, عن ابن عمر، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل عيسى ابن مريم إلى الأرض، فيتزوج ويولد له, ويمكث خمسًا وأربعين سنة, ثم يموت فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى ابن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر" كذا ذكره في "في تحقيق النصرة" والله أعلم.
فإن قلت: تقدَّم أنه -عليه الصلاة والسلام- توفي يوم الإثنين، ودفن يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه؟ وقد قال لأهل بيت أخَّروا دفن ميتهم: "عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه".
فالجواب: لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته، أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن، قال قوم: بالبقيع, وقال آخرون: بالمسجد، وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده، حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت". ذكره ابن ماجه والموطأ كما تقدَّم. وفي رواية الترمذي:
__________
عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ينزل عيسى بن مريم إلى الأرض" آخر الزمان, "فيتزوج ويولد له, ويمكث خمسًا وأربعين سنة".
وعند أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه: أنه "يمكث في الأرض أربعين سنة" وهذا أصح، وما في مسلم أنه يلبث سبع سنين فمئول بقوله فيه: "ليس بين اثنين عداوة" , "ثم يموت, فيدفن معي في قبري، فأقوم أنا وعيسى بن مريم من قبر واحد بين أبي بكر وعمر"، كذا ذكره في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, "والله أعلم" بصحته, والمنكر منه قوله: خمسًا وأربعين.
"فإن قلت: تقدَّم أنه -عليه الصلاة والسلام- توفي في يوم الإثنين ودُفِنَ يوم الأربعاء، فلِمَ أُخِّرَ دفنه، وق قال لأهل بيت آخروا دفن ميتهم: "عجلوا دفن ميتكم ولا تؤخروه"
وفي الصحيح: "أسرعوا بجنائزكم, فإنما هو خير تقدموه إليه....." الحديث, "فالجواب" أخروه "لما ذكر من عدم اتفاقهم على موته" فأخروه حتى تيقنوه, "أو لأنهم كانوا لا يعلمون حيث يدفن, قال قوم: بالبقيع"؛ لأنه دفن فيه من مات بالمدينة في حياته من أصحابه.
"وقال آخرون: بالمسجد"؛ لأنه أفضل المساجد أو من أفضلها, "وقال قوم: يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى يدفن عنده, حتى قال العالم الأكبر صديق الأمة: سمعته يقول: "ما دفن نبي إلا حيث يموت" , أي: في المكان الذي تقبض روحه فيه, "ذكره" أي: رواه "ابن ماجه والموطأ" أي: صاحبه, "كما تقدم" بلا عزو.
وفي رواية الترمذي: "ما قبض الله نبيًّا إلّا في الموضع الذي يجب أن يدفن فيه,(12/175)
"ما قبض الله نبيًّا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه"، ادفنوه في موضع فراشه.
أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة، فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظامها، فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم, وكشف الله به الكربة من أهل الردة، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, فنظروا في دفنه, فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ولما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه الكريمة، لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك.
إذا كان عرش الرحمن قد اهتزَّ لموت بعض أتباعه فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح.
ولما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم فرحًا بقدومه. كما رواه أبو داود من حديث أنس، وفي رواية الدارمي قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا
__________
ادفنوه في موضع فراشه" فحفروا له تحته, "أو لأنهم اشتغلوا في الخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة", فقال الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الأئمة من قريش" , "فنظروا فيها حتى استقرَّ الأمر في الخلافة ونظمها", وأجمعوا "فبايعوا أبا بكر، ثم بايعوه بالغد بيعة أخرى على ملتهم" جماعتهم، وقوله: "وكشف الله به الكربة من أهل الردة" لا محلَّ له هنا؛ لأن قتاله لهم إنما وقع بعد ذلك بمدة، فكيف يصح قوله, "ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فنظروا في دفنه، فغسلوه وكفنوه ودفنوه، ولما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- تزينت الجنان ليوم قدوم روحه المقدسة" زينة, "لا كزينة المدينة يوم قدوم الملك" السلطان, "إذا كان عرش الرحمن قد اهتز" تحرك "لموت بعض أتباعه" سعد بن معاذ "فرحًا واستبشارًا لقدوم روحه، فكيف بقدوم روح الأرواح، ولما قدم -صلى الله عليه وسلم- المدينة لعبت الحبشة بحرابهم" بكسر الحاء- جمع حربة, "فرحًا بقدومه، كما رواه أبو داود من حديث أنس" بن مالك.
"وفي رواية الدارمي: قال أنس: ما رأيت يومًا كان أحسن ولا أضوأ" أشد ضياء وهو فرط النور، "من يوم دخل علينا فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وما رأيت يومًا كان أقبح" أشنع(12/176)
أظلم من يوم مات فيه الله -صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية الترمذي: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة, أضاء منها كل شيء، فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه, أظلم منها كل شيء، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا.
ومن آياته -عليه الصلاة والسلام- ما ذكر من بعد موته، من حزن حماره عليه حتى تردَّى في بئر, وكذا ناقته فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت.
ومن ذلك: ظهور ما أخبر أنه كان بعد موته، مما لا نهاية له ولا عد يحصيه, مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن.
وفي حديث أبي موسى عند مسلم: إنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله إذا أراد بأمِّة خيرًا قبض نبيها قبلها، فجعله فرطًا وسلفًا بين يديها، وإذا أراد هلكة أمَّة عذَّبها ونبيها
__________
"ولا أظلم:" أشد ظلمة "من يوم مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
"وفي رواية الترمذي" في المناقب, وقال: صحيح غريب, عن أنس: "لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة, أضاء منها كل شيء" بحلوله فيها، وفي البخاري عن البراء: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله -صلى الله عليه وسلم, "فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا أيدينا من التراب, وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا".
قال الحافظ: يريد أنهم وجدوها تغيرت عمَّا عهدوه في حياته من الإلفة والصفاء والرقة لفقدان ما كان يمدهم به من التعليم والتأييد, "ومن آياته -عليه الصلاة والسلام- بعد موته ما ذكر من حزن حماره" يعفور عليه, "حتى تردَّى:" ألقى نفسه "في بئر" لأبي الهيثم بن التيهان يوم مات -صلى الله عليه وسلم, فكانت البئر قبرًا للحمار، وقع ذلك في حديث طويل ذكره ابن حبان في الضعفاء، وقال: لا أصل له، وساقه المصنف في المعجزات, "وكذا ناقته، فإنها لم تأكل ولم تشرب حتى ماتت، ومن ذلك ظهور ما أخبر أنه كائن بعد موته مما لا نهاية له ولا عد يحصيه, مما ذكرت بعضه في المقصد الثامن".
وفي حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري "عند مسلم" في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو كما قال القرطبي وغيره: أحد الأحاديث الأربعة عشر الواقعة في مسلم، منقطة؛ لأنه قال في أوله: حدَّثنا عن أبي أسامة، وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعد الجوهري، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حدثني بريد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله إذا أراد بأمة خيرًا" لفظ مسلم: "إن الله إذا أراد رحمة أمة من عباده" "قبض نبيها قبلها،(12/177)
حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقرَّ عينيه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره".
وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد الله بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم, محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات, نسلًا بعد نسل, وعقبًا بعد عقب.
__________
فجعله لها فرطًا" بفتحتين- بمعنى: الفارط المتقدّم على الماء يهيء السقي، قال الطيبي: يريد أنه شفيع يتقدم، قال بعض المحققين: والظاهر منه المرجوّ أن له -صلى الله عليه وسلم- شفاعة ونفعًا غير مأمنة يوم القيامة، فإنها لا تتفاوت بالموت قبل أو بعد، ولأن الفرط يهيء قبل الورود، ويؤيده ما نقل من حضوره عند الموت والميت, "وسلفا بين يديها" قيل: عطف مرادف أو أعمّ، وفائدة التقديم الأنس وقلة كربة الغربة ونحو ذلك, "وإذا أراد هلكة" بفتح الهاء واللام- هلاك "أمة عذَّبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره" كما وقع لأمه نوح وهود وصالح ولوطا, "وإنما كان قبض النبي قبل أمته خيرًا؛ لأنهم إذا قبضوا قبله انقطعت أعمالهم، وإذا أراد بهم خيرًا جعل خيرهم مستمرًّا ببقائهم, محافظين على ما أمروا به من العبادات وحسن المعاملات, نسلًا بعد نسل وعقبًا بعد عقب" تعقبه بعضهم بأنه لا خفاء أن قوله: فجعله..... إلخ، إشارة إلى علة فقوله: إنهم إذا ماتوا انقطع عملهم, والخير في بقائهم نسلًا بعد نسل مستغنى عنه, مع أن فيه ما فيه. انتهى، أي: من تعليله بخلاف ما علل به الحديث.(12/178)
الفصل الثاني: في زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف
اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات، وأرجى الطاعات، والسبيل إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام، وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام.
__________
الفصل الثاني: في بيان حكم زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف
المرتفع الزائد في الشرف على غيره, "اعلم أن زيارة قبره الشريف من أعظم القربات وأرجى الطاعات" عبَّر به تفننًا, "والسبيل" الطريق إلى أعلى الدرجات، ومن اعتقد غير هذا فقد انخلع من ربقة الإسلام" بكسر الراء وإسكان الموحدة وفتح القاف- أي: عقدة، قال في النهاية: الربقة في الأصل عروة من حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، فاستعارها للإسلام, يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى الإسلام، أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه, "وخالف الله ورسوله وجماعة العلماء الأعلام".(12/178)
وقد أطلق بعض المالكية، وهو أبو عمران الفاسي، كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق، أنها واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة.
وقال القاضي عياض: إنها سنة من سنن المسلمين مجمَع عليها، وفضيلة مرغَّب فيها.
وروى الدارقطني من حديث ابن عمر -رضي الله عنه: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قبري وجبت له شفاعتي"، ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى, وسكت عنه, وسكوته عن الحديث فيهما دليل على صحته.
__________
"وقد أطلق بعض المالكية وهو أبو عمران" موسى بن عيسى الفقيه "الفاسي" بالفاء إلى فاس بالمغرب "كما ذكره في المدخل عن تهذيب الطالب لعبد الحق أنها" أي: الزيارة "واجبة، قال: ولعله أراد وجوب السنن المؤكدة", طلبها بحيث أشبهت الواجب، وقد صرَّح الجمال الأفقهسي في شرح الرسالة بأنها سنة مؤكدة.
"وقال القاضي عياض" في الشفاء: "إنها سنة من سنن المسلمين مجمع عليها" أي: على كونها سنة مأثورة "وفضيلة مرغَّب فيها" بصيغة المفعول مشدَّد، أي: رغَّب السلف فيها وحثّوا عليها.
"وروى الدارقطني" وأبو الشيخ وابن أبي الدنيا، كلهم "من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زار قبري وجبت" أي: تحقَّقت وثبتت، فلا بُدَّ منها بالوعد الصادق, وليس بالمراد الوجوب الشرعي.
وروي: حلت "له شفاعتي" أي: أخصه بشفاعة ليست لغيره لا عمومًا ولا خصوصًا تناسب عظيم عمله، إمَّا بزيادة نعيم أو تخفيف هول ذلك اليوم عنه، أو دخول الجنة بلا حساب، أو رفع درجاته بها، أو بزيادة شهود الحق والنظر إليه, أو بغير ذلك، أو المراد أنَّ الزائر يفرد بشفاعة عمَّا يحصل لغيره، ويكون إفراده تشريفًا وتنويهًا بسبب الزيارة، أو المراد ببركة الزيارة يجب دخول الزائر في عموم من تناله الشفاعة، وفائدته البشرى بموته على الإسلام, وإضافة الشفاعة له لإفادة أنها عظيمة؛ إذ هي تعظم بعظم الشافع ولا أعظم منه -عليه الصلاة والسلام, ولا أعظم من شفاعته كما قاله السبكي وغيره.
"ورواه عبد الحق في أحكامه الوسطى، وفي الصغرى، وسكت عنه" أي: التكلّم في سنده بالقدح "وسكوته عن الديث فيهما" أي: الوسطى والصغرى "دليل على صحته", أراد(12/179)
وفي المعجم الكبير للطبراني: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله حاجة إلا زيارتي، كان حقًّا علي أن أكون شفيعًا له يوم القيامة". وصحَّحه ابن السكن.
وروي -عنه صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني". ذكره ابن فرحون في مناسكه، والغزالي في الإحياء، ولم يخرجه العراقي، بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس بلفظ: "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا وليس له عذر".
__________
بها ما قابل الضعف، فيشمل الحسن لغيره؛ كهذا الحديث المنجبر بتعدد طرقه، وإلّا فقد ضعَّفه البيهقي، وقال الذهبي: طرقه كلها لينة، لكن يتقوَّى بعضها ببعض؛ لأن ما في رواتها منهم بكذب، قال: ومن أجودها إسنادًا حديث حاطب: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي"، وقال الحافظ: حديث غريب أخرجه ابن خزيمة في صحيحه.
وقال في القلب من سنده: وأنا أبرأ إلى الله من عهدته, فغفل من زعم أن ابن خزيمة صححه.
وبالجملة: قول ابن تيمية موضع ليس بصواب, وقد عارضه السبكي بقوله: بل حسن أو صحيح, انتهى.
ولعل ذلك لتعدد طرقه وكثرة شواهده التي منها قوله" وفي المعجم الكبير للطبراني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من جاءني زائرًا لا تعمله" بضم التاء، أي: لا تحمله على العمل حاجة "إلا زيارتي" بأن لا يقصد ما لا تعلق له بالزيارة أصلًا، أمَّا ما له تعلق بها؛ كقصد اعتكاف بالمسجد النبوي وشد الرحل إليه وكثرة العبادة فيه وزيارة الصحابة ومسجد قباء, وغير ذلك مما يندب للزائر فعله، فلا يمنع قصده حصوله الشفاعة, كما نبَّه عليه في الجوهر المنظم, "كان حقًّا" أي: ثابتًا لازمًا "علي أن أكون له شفيعًا يوم القيامة، وصحَّحه ابن السَّكَن" وهو من كبار الحافظ النقاد.
"وروي عنه -صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة" بفتح السين أفصح من كسرها, "ولم يفد" بفتح الياء وكسر الفاء- يأت, "إليَّ, فقد جفاني" أي: أعرض عني, "ذكره ابن فرحون" بفتح الفاء؛ لأنه على وزن فعلون كحمدون وشمعون وهو مفتوح، كما قال ابن الصلاح وغيره "في مناسكه والغزالي في الإحياء, ولم يخرجه العراقي" زين الدين بلفظه, "بل أشار إلى ما أخرجه ابن النجار في تاريخ المدينة مما هو في معناه عن أنس" مرفوعًا "بلفظ: "ما من أحد من أمتي له سعة ثم لم يزرني إلّا" بكسر الهمزة، وشد اللام "وليس له عذر" يعتذر به في عدم زيارتي، بمعنى: أنه يلام(12/180)
ولابن عدي في "الكامل", وابن حبان في "الضعفاء", والدارقطني في "العلل", و "غرائب مالك", وآخرين كلهم عن ابن عمر مرفوعًا: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح.
وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله: "فقد جفاني" , فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء أذى، والأذى حرام بالإجماع, فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفاء واجبة، وهي بالزيارة, فالزيارة واجبة حينئذ، وبالجملة فمن تمكَّن من زيارته ولم يزره فقد جفاه، وليس من حقه علينا ذلك.
وعن حاطب أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زارني بعد موتي فكأنما زراني في حياتي، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين" رواه البيهقي عن رجل من آل
__________
على تركها؛ لأنه فوت نفسه ثوابها العظيم بلا عذر.
"ولابن عدي في الكامل, وابن حبان في الضعفاء، والدارقطني في" كتاب العلل, وكتاب "غرائب" الرواة عن "مالك وآخرين، كلهم عن ابن عمر، مرفوعًا: "من حج ولم يزرني فقد جفاني" ولا يصح إسناده, وعلى تقدير ثبوته، فليتأمّل قوله: "فقد جفاني"، فإنه ظاهر في حرمة ترك الزيارة؛ لأن الجفاء بالمد ويقصر نقيض الصلة أذى, والأذى حرام بالإجماع, فتجب الزيارة؛ إذ إزالة الجفا واجبة، وهي" أي: إزالة الجفا بالزيارة, فالزيارة حينئذ واجبة, ولا قائل به إلا الظاهرية، قال شيخنا: وقد يجاب بأنه ليس كل أذى حرامًا؛ لأن الأذى الخفيف يحتمل في دفع الحرمة. نعم هو مكروه. انتهى.
والأَوْلَى أن المراد فعل مثل فعل الجافي لا أنه جفا، أي: أذى حقيقي؛ إذ لا يجوز أذاه -صلى الله عليه وسلم, ولا بالمباح فضلًا عن المكروه "وبالجملة: فمن تمكَّن من زيارته, ولم يزره فقد جفاه" أي: فعل فعل من جفاه كما علم, "وليس من حقه علينا ذلك" الجفا, إنما من حقه زيادة الصلة والحب.
وعن حاطب بن أبي بلتعة البدري "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من زارني بع موتي فكأنما زارني في حياتي"؛ لأنه حي في قبره, يعلم بمن يزوره ويرد سلامه كما مَرَّ, "ومن مات بأحد الحرمين" المكي أو المدني "بعث من الآمنين" , فلا يصد الزائر خوف موته قبل رجوعه إلى بلده؛ لأنه إن مات بعث آمنًا، ففيه بشرى لمن مات في أحدهما بالموت على الإسلام؛ إذ لا يبعث من مات على غير الإسلام آمنًا.
"رواه البيهقي عن رجل من آل حاطب: لم يسمه عن حاطب" صلة رواه "وعن عمر(12/181)
حاطب لم يسمه عن حاطب.
وعن عمر -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من زار قبري" أو قال: "من زارني كنت له شفيعًا وشهيدًا" رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني محتسبًا إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة" رواه البيهقي أيضًا.
قال العلامة زين الدين بن الحسين المراغي: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته -صلى الله عليه وسلم- قربة، للأحاديث الواردة ذلك, ولقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] لأن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته، ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حال
__________
-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من زار قبري" أو" قال شك الراوي: "من زارني كنت له شفيعًا" لبعض الزائرين, "وشهيدًا" لآخرين، أو شفيعًا للعاصين, شهيدًا للطائعين، وهذه خصوصية زائدة على شفاعته العامَّة, وعلى شهادته على جميع الأمم.
"رواه البيهقي وغيره عن رجل من آل عمر لم يسمه عن عمر" بن الخطاب, "وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من زارني" في حياتي أو بعد مماتي حال كونه, "محتسبًا" أي: ناويًا بزيارته وجه الله تعالى طالبًا ثوابه، سمي محتسبًا لاعتداده بعمله، فجعل حال مباشرته الفعل كأنه معتد به "إلى المدينة" صلة زارني، أي: منتهيًا في مجيئه من محله إلى المدينة، ولفظ الشفاء بلا عزو والجامع عازيًا للبيهقي: "من زارني بالمدينة محتسبًا كان في جواري" بكسر الجيم أفصح من ضمها، أي: أماني وعهدي, فلا يناله مكروه أصلًا، أو المراد له: منزلة رفيعة في الآخرة، وبقية الحديث: "وكنت له شهيدًا وشفيعًا يوم القيامة".
"رواه البيهقي" أيضًا تامًّا, "قال العلامة زين الدين" أبو بكر بن الحسين" بن عمر القرشي، العثماني، المصري "المراغي" بغين معجمة- نسبة إلى بلد بصعيد مصر، ثم المدني قاضي طيبة وخطيبها الشافعي, من أفاضل جماعة الإسنوي, وله تحقيق النصرة في تاريخ دار الهجرة, "وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته -صلى الله عليه وسلم- قربة" عظيمة, "للأحاديث الواردة في ذلك"؛ إذ لا تقصر عن درجة الحسن وإن كان في إفرادها مقال "ولقوله تعالى: {لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء: 64] فيه التفات عن الخطاب تفخيمًا لشأنه, "الآية" {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} "لأن تعظيمه -صلى الله عليه وسلم- لا ينقطع بموته, ولا يقال: إن استغفار الرسول لهم إنما هو في حياته, وليست الزيارة كذلك, لما أجاب به بعض الأئمة المحققين".(12/182)
حياته, وليست الزيارة كذلك، لما أجاب به بعض أئمة المحققين: إنَّ الآية دلَّت على تعليق وجدان الله توابًا رحيمًا بثلاثة أمور: المجيء، واستغفارهم، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع, قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.
وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي، وأوجبها الظاهرية، فزيارته -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم والخصوص لما سبق؛ ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- واجب. ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته -صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف، والأشهر في مذهب الشافعي الكراهة.
قال ابن حبيب من المالكية: ولا تدع زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- والصلاة في مسجده،
__________
تعليل لنفي القول لا للقول المنفي, "أن الآية على تعليق وجدان الله تعالى" بإضافة المصدر للمفعول "توابًا" عليهم "رحيمًا" بهم "بثلاثة أمور: المجيء واستغفارهم واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرسول لجميع المؤمنين؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- قد استغفر للجميع، قال الله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] ومعلوم بالضروة أنه يمتثل أمر الله, فإذا وجد مجيئهم واستغفارهم تكمّلت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى" عليهم "ورحمته" لهم.
"وقد أجمع المسلمون على استحباب زيارة القبور، كما حكاه النووي, وأوجبها الظاهرية، فزيارته -صلى الله عليه وسلم- مطلوبة بالعموم" لاستحباب زيارة القبور, "والخصوص لما سبق" من الأحاديث الناصَّة عليها بخصوصها, والاستنباط من الآية المذكورة, "ولأن زيارة القبور تعظيم، وتعظيمه -صلى الله عليه وسلم- واجب", وقد كانت زيارته مشهورة في زمن كبار الصحابة, معروفة بينهم, لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم، ففرح به، وقال: هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبره -صلى الله عليه وسلم, وتتمتع بزيارته، قال: نعم.
"ولهذا قال بعض العلماء: لا فرق في زيارته -صلى الله عليه وسلم- بين الرجال والنساء، وإن كان محل الإجماع على استحباب زيارة القبور للرجال، وفي النساء خلاف, والأشهر" وفي نسخة: الأظهر "في مذهب الشافعي الكراهة" وهو المعتمد عندهم.
"قال ابن حبيب" عبد الملك "من المالكية" أتباع الإمام: واحترز بذلك عن(12/183)
فإن فيه من الرغبة مالا غنى بك ولا بأحد عنه.
وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف، والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو أفضلها عند مالك، وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأن الشرع لم يجئ به, وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها.
وقد صحَّ أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد البريد للسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم.
فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة. ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء وجهًا واحدًا، انتهى. ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال المالكية والحنابلة، لكنه يخرج عنه بالصلاة في المسجد الحرام.
__________
محمد بن حبيب, من المؤرخين المختلف في أنَّ حبيب اسم أبيه أو اسم أمه, "ولا تدع زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم- والصلاة في مسجده، فإن فيه من الرغبة ما لا غنى بك ولا بأحد عنه" بكسر الغين المعجمة والقصر بلا تنوين- على أن لا لنفي الجنس، أي: لا استغناء، ويجوز الفتح مع المد، أي: لا كفاية, وهما متقاربان, "وينبغي لمن نوى الزيارة أن ينوي مع ذلك زيارة مسجده الشريف والصلاة فيه؛ لأنه أحد المساجد الثلاثة التي لا تشد الرحال إلا إليها, وهو أفضلها عند مالك وليس لشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فضل؛ لأنَّ الشرع لم يجئ به" أي: بفضل غير الثلاثة, "وهذا الأمر لا يدخله قياس؛ لأن شرف البقعة إنما يعرف بالنص الصريح عليه، وقد ورد النص في هذه دون غيرها" فلا يقاس عليها لعدم الجامع.
"وقد صح" عند البيهقي في الشعب "أن عمر بن عبد العزيز كان يبرد" بضم أوله وكسر الراء من أبرد وبالفتح وضم الراء من برد، أي: يرسل "البريد", الرسول المستعجل من الشام "للسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم".
زاد في الشفاء: وعن يزيد بن أبي سعيد: قدمت على عمر بن عبد العزيز، فلمَّا ودعته قال لي: إليك حاجة, إذا أتيت المدينة ترى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فأقرئه مني السلام, "فالسفر إليه قربة لعموم الأدلة، ومن نذر الزيارة وجبت عليه، كما جزم به ابن كج" بفتح الكاف وشد الجيم "من أصحابنا، وعبارته: إذا نذر زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لزمه الوفاء وجهًا واحدًا. انتهى".
ولو نذر إتيان المسجد الأقصى للصلاة لزمه ذلك على الأصح عندنا، وبه قال(12/184)
وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة. قال: ونصَّ عليه الشافعي في البويطي. وبه قال الحنفية والحنابلة.
وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع عجيب، يتضمّن منع شد الرحال للزيارة النبوية المحمدية، وأنه ليس من القرب، بل بضد ذلك.
ورد عليه الشيخ تقي الدين السبكي في "شفاء السقام" فشفى صدور المؤمنين.
وحكى الشيخ ولي الدين العراقي أن والده كان معادلًا للشيخ زين الدين
__________
المالكية والحنابلة, لكنه يخرج عنه" أي: النذر "بالصلاة في المسجد الحرام، وصحَّح النووي أيضًا أنه يخرج عنه بالصلاة في مسجد المدينة، قال: ونصَّ عليه الشافعي في" مختصر البويطي، وبه قال الحنفية والحنابلة، وللشيخ تقي الدين بن تيمية هنا كلام شنيع" أي: قبيح, "عجيب, يتضمَّن منع شد الرحال للزيارة النبوية, وأنه ليس من القرب بل بضد ذلك، وردَّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في" كتابه "شفاء السقام" في زيارة خير الأنام, "فشفى صدور المؤمنين" بردّه عليه، لكن نازعه ابن عبد الهادي بأن ابن تيمية لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه, ولم ينه عنها ولم يكرهها، بل استحَبَّها وحضَّ عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبره -صلى الله عليه وسلم, وسائر القبور، وإنما تكلّم على شد الرحال وإعمال المطي إلى مجرّد زيارة القبور، فذكر قولين للعلماء المتقدمين المتأخرين، أحدهما: إباحة ذلك, كما يقوله بعض أصحاب الشافعي وأحمد، والثاني: أنه ينهى عنه كما نص عليه مالك، ولم ينقل عن أحد من الثلاثة خلافه، وإليه ذهب جماعة من أصحاب الشافعي وأحمد, واحتج ابن تيمية للثاني بحديث الصحيحين: "لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد, مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى" , فأي عتب على من حكى الخلاف في مسألة بين العلماء، واحتجَّ لأحد القولين بحديث صحيح، ولكن نعوذ بالله من الحسد والبغي واتباع الهوى.
وفي شرح مسلم للنووي عن الجويني: النهي عن شد الرحال وإعمال المطي إلى غير المساجد الثلاثة كالذاهب إلى قبور الأنبياء والصالحين والمواضع الفاضلة ونحو ذلك. انتهى ملخصًا.
وما نقله عن مالك: لا يعرف عنه ولا حجة له في الحديث؛ لأن المعنى لا تشد الصلاة في مسجد بدليل ذكر مساجد.
"وحكى الشيخ ولي الدين العراقي: أن والده" الحافظ زين الدين عبد الرحيم "كان(12/185)
عبد الرحمن بن رجب الدمشقي في التوجّه إلى بلد الخليل -عليه السلام, فلمَّا دنا من البلد قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل، ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية، فقلت: نويت زيارة قبر الخليل -عليه السلام، ثم قلت: أمَّا أنت فقد خالفت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه قال: "لا تشد الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد" , وقد شددت الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء؟! فبهت.
وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم المدينة الشريفة وما تعرف به، فليردد الصلاة والتسليم، وليسأل الله أن ينفعه بزيارته, ويسعده بها في الدارين.
وليغتسل ويلبس النظيف من ثيابه، وليترجَّل ماشيًا باكيًا.
ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم عن رواحلهم ولم ينيخوها وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه.
__________
معادلًا للشيخ زين الدين عبد الرحمن بن رجب الدمشقي" الحنلي, "في التوجّه إلى بلد الخليل -عليه الصلاة والسلام، فلمَّا دنا" ابن رجب "من البلد، قال: نويت الصلاة في مسجد الخليل ليحترز عن شد الرحال لزيارته على طريقة شيخ الحنابلة ابن تيمية".
"قال" الزين العراقي والد الوالي: "فقلت: نويت زيارة قبر الخليل -عليه الصلاة والسلام، ثم قلت له: أما أنت" يا ابن رجب "فقد خالفت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"، وقد شددت" بفتح تاء الخطاب "الرحل إلى مسجد رابع، وأمَّا أنا فاتبعت النبي -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قال: "زوروا القبور" أفقال: إلا قبور الأنبياء" استفهام توبيخي, "فبهت" بالبناء للمفعول: دهش وتحير.
"وينبغي لمن أراد الزيارة أن يكثر من الصلاة والتسليم عليه في طريقه، فإذا وقع بصره على معالم" جمع معلم, ما يستدل به على "المدينة الشريفة, وما تعرف به" عطف تفسير لمعالم, "فليردد الصلاة عليه والتسليم، ويسأل الله أن ينفعه بزيارته, ويسعده بها في الدارين، وليغتسل وليلبس النظيف من ثيابه "وليترحَّل" يمشي على رجليه، فقوله: "ماشيًا" حال مؤكدة "باكيًا" خضوعًا وخشية وغلبة شوق, أو سرورًا، فإنه قد يحصل منه البكاء, "ولما رأى وفد عبد القيس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألقوا أنفسهم" أي: نزلوا مسرعين "عن رواحلهم، فلم ينيخوها, وسارعوا إليه، فلم ينكر ذلك عليهم -صلوات الله وسلامه عليه", لكنه استحسن فعل(12/186)
وروينا مما ذكره القاضي عياض في "الشفاء" أنَّ أبا الفضل الجوهري لما ورد إلى المدينة زائرًا، وقرب من بيوتها ترجَّل ومشى باكيًا منشدًا.
ولما رأينا رسم من لم يدع لنا ... فؤادًا لعرفان الرسوم ولا لبا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن بان عنه أن نلم به ركبا
وأنبئت بأن العلامة أبا عبد الله بن رشيد قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع
__________
الأشج؛ حيث أناخ راحلته، وأخرج منها ثيابًا لبسها، ثم أتى إليه، فقال: "إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
"وروينا مما ذكره القاضي عياض في الشفاء أنَّ أبا الفضل الجوهري" قال: شارح الشفاء ليس هو عبد الملك بن الحسن البصري, الواعظ بمصر في حدود السبعين وأربعمائة، وكان من العلماء الصالحين, يتبرك به ويقتدى به في السلوك، وإنما هو كما في تاريخ الأندلس: عبد الله بن الحكم الترمذي الأندلسي, ذو الوزارتين، له فضل باهر وحسب وأدب, عالم بالقراءات والحديث, وله شعر رائق ونثر فائق، وارتحل للمشرق فأخذ به عن ابن عساكر, وأكثر الرواية عنه, وله رياسة في عصره، صار بها كالمثل السائر إلى أن ردت الأيام منه ما وهبت، فانقضت أيامه وذهبت، فقُتِل لما خلع سلطانه، فنهبت أمواله وكتبه, ومات شهيدًا -رحمه الله, "لما ورد إلى المدينة زائرًا, وقرب من بيوتها ترجَّل" نزل عن دابته التي كان راكبًا عليها, "ومشى" تأدبًا حال كونه "باكيًا" خضوعًا وشوقًا أو سرورًا, "منشدًا" قول أبي الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة من قصيدة أولها:
فديناك من ربع وإن زدتنا كربًا ... لأنك كنت الشرق للشمس والغربا
إلى أن قال: "ولما رأينا رسم" آثار الديار الدارسة، والمراد هنا آثاره -صلى الله عليه وسلم- في معاهده ومساكنه, "من لم يدع" يترك "لنا فؤادًا" قلبًا، أو داخل القلب أو غشاءه, "لعرفان" بمعنى معرفة "الرسوم" جمع رسم, "ولا لبًّا" عقلًا, "نزلنا عن الأكوار" جمع كور بالضم, وهو الرحل للإبل, بمنزلة السرج للفرس, "نمشي كرامة لمن بان" أي: بعد "عنه" أي: عن الإلمام, فالضمير عائد على متأخّر وهو البدل في قوله: "أن نلمّ" أي: عن أن نلم به من ألَمَّ إذا أتى، أي: نأتي لزيارته, "ركبًا" اسم جمع لراكب الإبل، أو أعمّ، أي: ركبانًا، وحاصل معناه أنه لا يليق بالأدب لمن كان بعيدًا عن محبوبه، ثم قرب منه أن يأتي إليه راكبًا، بل ماشيًا إكرامًا له.
قال بعضهم: والإلمام الإتيان قليلًا, ويكون بمعنى القرب، ومن فسّر بأن بمعنى ظهر لم يصب، ولقد أجاد في تمثّله به ونقله للمحل الأليق به، وهذا نوع من البلاغة قريب من التضمين، وهو أن يورد شعر الغير في مقام يكون أحقّ به من صاحبه، ولم يتعرّض له أصحاب البديع، إلّا أن الإمام محمدًا التوزي أورده في كتاب الغرَّة اللائحة "وأنبئت أن العلامة أبا عبد الله" محمد بن(12/187)
وثمانين وستمائة، كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم، وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة أو نحوها نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا لتلك الآثار، وإعظامًا لمن حلَّ تلك الديار، فأحس بالشفاء, فأنشد لنفسه في وصف الحال:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلامًا أثرن لنا الحبا
وبالتراب منها إذا كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأسًا نخاف ولا كربا
وحين تبدَّى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أذيلت لنا قربا
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ فيها أن نلم به ركبا
نسح سجال الدمع في عرصاته ... ونلثم من حب لواطئه التربا
__________
عمر "بن رشيد" بضمّ الراء وفتح المعجمة- الفهري السبتي، المولود بها سنة سبع وخمسين وستمائة، كان إمامًا حافظًا، فقيهًا عالمًا باللغة والعربية والعروض والقراءات والأصلين، حسن الخلق، كثير التواضع، ريّان من الأدب، ماهرًا في الحديث، أخذ ببلاده عن جماعة، ثم رحل فسمع بمصر والشام والحجاز عن خلائف ضمنهم رحلته التي سماها: ملء العيبة, وهي ست ملجدات، ثم عاد إلى غرناطة, فنشر بها العلم, ومات بفاس في محرَّم سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة, "قال: لما قدمنا المدينة سنة أربع وثمانين وستمائة, كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم بن الحكم, وكان أرمد، فلمَّا دخلنا ذا الحليفة" ميقات المدينة "أو نحوها, نزلنا عن الأكوار" الرحال, "وقوي الشوق لقرب المزار، فنزل" عن راحلته وبادر إلى المشي على قدميه احتسابًا" طالبًا الثواب مخلصًا "لتلك الآثار, وإعظامًا لمن حلّ تلك الديار" حبيب العزيز الغفار, "فأحسَّ بالشفاء" من الرمد, "فأنشد لنفسه في وصف الحال"
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاما أثرن لنا الحبا
ولو قال: بطيبة بدل بيثرب كان الأولى بمزيد الشوق والأدب, "وبالترب:" بضم فسكون- جمع تراب "منها: إذ كحلنا" بالتخفيف "جفوننا, شفينا فلا بأسًا" شدة "نخاف ولا كربًا, وحين تبدى" ظهر "للعيون جمالها, ومن بعدها عنا أذيلت" بضم الهمزة وكسر الذال المعجمة- أي: سهلت "لنا قربًا" أي: من جهة القرب حتى صرنا نراها بأعيننا, "نزلنا عن الأكوار" الرحال "نمشي كرامة لمن حلّ فيها" لعل هذه رواية ثانية, وهي أسلس من قوله في الرواية الأولى السابقة: لمن بان عنه, "أن نلمّ به" نأتي إليه "ركبًا" أي: ركبانًا، وهذا البيت من قصيدة المتنبي, فهو من التضمين، وهو أن يضمّن شعره أو نثره شيئًا من كلام غيره, من غير نسبته إليه, وهو من البديع, "نسح" بضم السين، أي: نسيل, "سجال" بكسر السين وبالجيم- جمع سجل, وهو الدلو العظيمة الدمع في عرصاته" ساحاته, "ونلثم" بفتح المثلثة أفصح من كسرها نقبل "من" أجل حب لواطئه التربا"(12/188)
وإن نفادي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملك الشرق والغربا
فيا عجبًا ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل الكذبا
وزلات مثلي لا تعدد كثرة ... وبعدي عن المختار أعظمها ذنبا
لما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة، ولاح لنا عند الصباح جبل مفرح الأرواح, المبشر بقرب المزار من أشرف الديار، تسابق الزوار إليه، وتعالوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار, فبرقت لوامع الأنوار النبوية، وهبّت عرف نسمات المعارف المحمدية، فطبنا وغبنا؛ إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية:
ألا مع برق يغتدي ويروح ... أم النور من أرض الحجاز يلوح
وريح الصبا هبت بطيب عرفهم ... أم الروض في وجه الصباح يفوح
إذا ريح ذاك الحي هب فإنها ... حاة لمن يغدو لها ويروح
ترفق بنا يا حادي العيس والتفت ... فللنور بين الواديين وضوح
__________
مفعول نلثم "وأن نفادي دونه لخسارة، ولو أن كفِّي تملك" من الملك "الشرق والغربا".
وفي نسخة: تملأ، أي: ولو فرض أن كفّي ملأتهما بإيصال النوال إلى أهلها, "فيا عجبًا ممن يحب بزعمه" مثلث الزاي- القول الحق والباطل, والكذب ضد, وأكثر ما يقال فيما يشك فيه كما في القاموس: "يقيم مع الدعوى" على البعد, "ويستعمل الكذب" في دعوى الحب, "وزلات مثلي لا تعدد" بدالين "كثرة" بالنصب، أي: لأجل كثرتها لا يمكن تعدادها, "وبعدي عن المختار أعظمها ذنبًا", وحدث المصنّف عن نفسه من باب التحديث بالنعم: "ولما كنت سائرًا لقصد الزيارة في ربيع الآخر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة, ولاح ظهر لنا عند الصباح جبل مفرح الأوراح المبشر" الجبل, وهو أحد, يقرب المزار من أشرف الديار" المدينة, تسابق الزوار إليه, وتعالوا: "ارتفعوا بالصعود عليه استعجالًا لمشاهدة تلك الآثار، فبرقت: لمعت لوامع" إضاءات "الأنوار النبوية, وهبت عرف -بفتح المهملة وسكون الراء وبالفاء- ريح "نسمات المعارف المحمدية، فطبنا" في أنفسنا وغبنا" عمَّا يدرك بالحواس في مشاهدة تلك الأنوار المحمدية؛ "إذ شهدنا أعلام ديار أشرف البرية, ألامع برق يغتدي ويروح" يجيء وقت الغدوة والرواح, أم النور من أرض الحجاز يلوح" يظهر, "وريح الصبا هبت بطيب عرفهم" ريحهم أم الروض في وجه الصباح يفوح" أزهاره, "إذا ريح ذاك الحي هبت، فإنها حياة لمن يغدو لها" يأتي وقت الغدوة أول النهار, ويروح يأتي وقت الزوال, ترفق بنا يا حادي العيس" الإبل, والتفت, فللنور بين الواديين وضوح" ظهور "فما هذه إلّا ديار محمد, وذاك سناها يغتدي(12/189)
فما هذه إلا ديار محمد ... وذاك سناها يغتدي ويروح
وإلّا فما للركب هاج اشتياقهم ... فكل من الشوق الشديد يصيح
وأنت مطايا الركب حتى كأنها ... حمام على قضب الأراك تنوح
وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها ... إلى النور من تلك الديار لموح
رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ... ومدمعها في الوجنتين سفوح
إذا العيس باحت بالغرام ولم تطق ... خفاء فما للصب ليس يبوح
ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها، وتدانينا من معاينة رباها الكريمة وآكامها، وانتشقنا عرف لطائف أزهارها، وبت لنواظرنا بوارق أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا، ونزل القوم عن المطايا، فأنشدت متمثلًا:
أتيتك زائرًا وودت أني ... جعلت سواد عيني أمتطيه
ومالي لا أسير على المآقي ... إلى قبر رسول الله فيه
ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح
__________
ويروح فيه إبطاء, "وإلا فما للركب هاج" ثار "اشتياقهم، فكل من الشوق الشديد يصيح" يصون بأقصى طاقته, "وأنَّت" بشد النون- صوَّتت مطايا الركب، حتى كأنها حمام على قضب" بضم القاف وإسكان المعجمة- أغصان الأراك تنوح -بفوقية فنون- تسجع, "وقد مدت الأعناق شوقًا وطرفها" بصرها "إلى النور من تلك الديار لموح" بضم الميم- كثير النظر, "رأت دار من تهوى فزاد اشتياقها ومدمعها" أي: دمعها "في الوجنتين" أي: عليهما, "سفوح" أي: مصبوب, "إذا العيس" بالكسر- الإبل البيض يخالط بياضها شقرة كما في القاموس، والمراد هنا مطلق الإبل, "باحت بالغرام" الولوع بالحب "ولم تطق خفاء" بالمد، أي: إخفاءه وستره, "فما للصب ليس يبوح" بصبابته وهي الشوق، أو رقَّته, أو رقة الهوى, مع أنه عاقل بخلاف العيس "ولما قربنا من ديار المدينة وأعلامها, وتدانينا من معاينة رباها" بضم الراء- جمع ربوة مثلثة- المكان المرتفع, "الكريمة وأكامها" جمع أكم بزنة كتب، ومَرَّ بيانه في الاستسقاء, "وانتشقنا عرف" أي: شممنا ريح "لطائف أزهارها وبدت" ظهرت "لنواظرنا بوارق" لوامع "أنوارها، وترادفت واردات المنح والعطايا" الهبات, "ونزل القوم عن المطايا" جمع مطية, الدابة تمطو، أي: تمد في سيرها, "فأنشدت متمثلًا وهو إنشاد شعر الغير في مقام يناسبه, "أتيتك زائرًا وودت" تمنيت "أني جعلت سواد عيني أمتطيه" أجعله مطية لي "ومالي لا أسير على المآقي" جمع المموق طرف العين مما يلي الأنف إلى قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيه، "ولما وقع بصري على القبر الشريف والمسجد المنيف فاضت من الفرح سوابق العبرات" الدموع "حتى أصابت بعض(12/190)
سوابق العبرات حتى أصابت بعض الثرى والجدرات, وقلت:
أيها المغرم المشوق هنيئًا ... ما أنالوك من لذيذ التلاق
قل لعينيك تهملان سرورًا ... طالما أسعداك يوم الفراق
واجمع الوجد والسرور ابتهاجًا ... وجميع الأشجان والأشواق
ومر العين أن تفيض انهمالًا ... وتوالى بدمعها المهراق
هذه دارهم وأنت محب ... ما بقاء الدموع في الآماق
وقلت:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرًا ولا نسأل عن الخبر
ويستحَبُّ صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة، وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف -صلى الله عليه وسلم, فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية, قال في "تحقيق النصرة" وهو استدراك حسن, قاله بعض شيوخنا.
وفي منسك ابن فرحون, فإن قلت: المسجد إنما تشرَّف بإضافته إليه -صلى الله عليه وسلم, فينبغي البداءة بالوقوف عنده -صلى الله عليه وسلم, قلت: قال ابن حبيب في أوّل كتاب الصلاة:
__________
الثرى" التراب, "والجدرات" جمع جدار, "أيها المغرم المشوق هنيئًا ما أنالوك من لذيذ التلاق, قل لعينيك تهملان سرورًا طالما أسعداك يوم الفراق" تهملان -بضم الميم وكسرها- كما أفاده القاموس: تفيضان, وأسعداك عاوناك, "واجمع الوجد" الغضب في الحب, "والسرور" الفرح, "ابتهاجًا" سرورًا, "وجميع الأشجان" أي: الحاجات, "والأشواق" جمع شوق, نزاع النفس وحركة الهوى، والمعنى: إنه يجمع بين الأمور المتضادة من شدة فرحه بلقاء محبوبه, "ومر بالعين" بضم الميم وخفة الراء مكسورة "أن تفيض انهمالًا" تأكيد لمعنى تفيض, "وتوالى" تتابع, "بدمعها المهراق" المصبوب, "هذه دارهم, وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق" وأنشد أيضًا بيتًا مفردًا:
وكان ما كان مما لست أذكره ... فظن خيرًا ولا تسأل عن الخبر
ويستحب صلاة ركعتين تحية المسجد قبل الزيارة" اتباعًا لأمره بالتحية، فأَوْلَى ما يتبع في مسجده, "قيل: وهذا إذا لم يكن مروره من جهة وجهه الشريف -عليه الصلاة والسلام، فإن كان استحبت الزيارة قبل التحية, قال في تحقيق النصرة" في تاريخ دار الهجرة, "وهو استدراك" أي: تقييد "حسن، قاله بعض شيوخنا، وفي منسك ابن فرحون" بفتح فسكون, "فإن قلت" المسجد إنما شرف بإضافته إليه -صلى الله عليه وسلم, فينبغي البداءة بالوقوف عنده -صلى الله عليه وسلم, قلت: قال ابن حبيب" عبد الملك الأندلسي أبو مران الفقيه المشهور.(12/191)
حدَّثني مطرف عن مالك عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد، فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه"؟ قلت: لا، قال: "فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي".
ورخص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة. قال ابن الحاج: وكل ذلك واسع, ولعل هذا الحديث لم يبلغهم، والله أعلم. انتهى.
وينبغي للزائر أن يستحضر من الخشوع ما أمكنه، وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري: أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال لرجلين من أهل الطائف: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ضربًا، ترفعان أصواتكم في مسجد
__________
قال الحافظ: صدوق، ضعيف الحفظ، كثير الغلط, مات سنة تسع وثلاثين ومائتين, "في أول كتاب الصلاة" من الواضحة, "حدَّثني مطرف" بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء الثقيلة- ابن عبد الله بن مطرف اليساري -بفتح التحتية والمهملة, أبو مصعب المدني, ابن أخت مالك، ثقة, من رجال البخاري والترمذي وابن ماجه, لم يصب ابن عدي في تضعيفه، مات سنة عشرين ومائتين على الصحيح, وله ثلاث وثمانون سنة, "عن مالك، عن يحيى بن سعيد" الأنصاري "عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما، قال: قدمت من سفر، فجئت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلِّم عليه وهو بفناء المسجد" بكسر الفاء والمد- أي: خارجه, "فقال: "أدخلت المسجد فصليت فيه؟ " قلت: لا، قال: "فاذهب فادخل المسجد وصلّ فيه، ثم سلِّم علي" , فإذا أمر بتقديم الصلاة على السلام فيه عليه, مع كونه بفنائه, فأَوْلَى إذا كان داخله, "ورخَّص بعضهم في تقديم الزيارة على الصلاة, وقال ابن الحاج: وكل ذلك واسع، ولعل هذا الحديث لم يبلغهم, والله أعلم ... انتهى" كلام ابن فرحون.
"وينبغي للزائر أن يستحضر ن الخشوع ما أمكنه, وليكن مقتصدًا في سلامه بين الجهر والإسرار، وفي البخاري" في الصلاة "أنَّ عمر -رضي الله عنه- قال لرجلين" قال الحافظ: لم أقف على تسمية هذين الرجلين، لكن في رواية عبد الرزاق أنهما ثقفيان. انتهى.
وهو مفاد قوله: "من أهل الطائف"؛ إذ أهله ثقيف: "لو كنتما من أهل البلد" أي: المدينة, "لأوجعتكما" يدل على أنه كان تقدَّم نهيه عن ذلك, وفيه العذر لأهل الجهل بالحكم إذا كان مما يخفى مثله، وقوله: "ضربًا" ليس في البخاري.
قال الحافظ: قوله: لأوجعتكما، زاد الإسماعيلي جلدًا من هذه الجهة يتبيّن كون الحديث له(12/192)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا. وروي عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تسمع صوت الوتد يوتد, والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم, فترسل إليهم: لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- مصراعيْ داره إلا بالمصانع توقيًا لذلك، نقله ابن زبالة. فيجب الأدب معه كما في حياته.
وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر الشريف من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصحابين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم, ويستدبر القبلة ويقف قبالة وجهه -صلى الله عليه وسلم, بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي
__________
حكم الرفع؛ لأن عمر لا يتوعدهما بالجلد إلّا على مخالفة أمر توقيفي, "ترفعان" جواب سؤال مقدَّر كأنهما قالا: لم توجعنا؟ قال: لأنكما ترفعان، وفي رواية الإسماعيلي: برفعكما "أصواتكما في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وقد روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: لا ينبغي رفع الصوت على نبي حيًّا ولا ميتًا" فوق ما يساور به الإنسان صاحبه، روي "عن عائشة -رضي الله عنها, أنها كانت تسمع صوت الوتد" بالفتح وبالتحريك، وككتف- ما رز في الأرض أو الحائط من خشب، قاله القاموس: يوتد يدق "والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة -بضم الميم وكسر الطاء وسكون الياء وبالفاء- أي: المحيطة "بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم, فترسل إليهم، لا تؤذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بدق الوتد وضرب المسمار, "قالوا: وما عمل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه" أي: ما صنع "مصراعي داره إلّا" خارج المدينة, "بالمصانع" بصاد وعين مهملتين- محل بالمدينة, كان متبرز النساء ليلًا قبل اتخاذ الكنف, وهي ناحية بئر أبي أيوب, وأظنها لمعروفة اليوم ببئر أيوب, شرقي سوق المدينة ببقيع الغرقد، قاله الشريف, "توقيًا لذلك" لئلَّا يتأذَّى بسماع صوت الخشب عند صنعه لو صنعه في بيته أو خارج المسجد بقربه, "نقله ابن زبالة" بفتح الزاي- محمد بن الحسن, "فيجب الأدب معه كما في حياته"؛ إذ هو حي في قبره يصلي فيه بأذان وإقامة, كما مرَّ في الخصائص.
"وينبغي للزائر أن يتقدَّم إلى القبر من جهة القبلة، وإن جاء من جهة رجلي الصاحبين فهو أبلغ في الأدب من الإتيان من جهة رأسه الكريم، ويستدبر القبلة ويقف قباله".(12/193)
في الجدار، ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأن هناك عدة قناديل.
وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر المنصور العباسي: يا أبا عبد الله, أأستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدعو، أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم -عليه السلام- إلى الله -عز وجل- يوم القيامة.
لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: إن هذه الحكاية كذب على مالك, وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه، ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده -صلى الله عليه وسلم- قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك.
__________
بضم القاف تجاه "وجهه -صلى الله عليه وسلم, بأن يقابل المسمار الفضة المضروب في الرخام الذي في الجدار, ولا عبرة بالقنديل الكبير اليوم؛ لأنَّ هناك عدة قناديل", وإن كان معتبرًا في زمن التابعين، ففي الشفاء قال ابن أبي مليكة: من أحَبَّ أن يكون وجاه النبي -صلى الله عليه وسلم- فليجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه.
"وقد روي أن مالكًا لما سأله أبو جعفر" عبد الله بن محمد "المنصور العباسي" ثاني خلفاء بني العباء: "يا أبا عبد الله" كنية مالك, "أأستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأدعو, أم أستقبل القبلة وأدعو؟ فقال له مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك, ووسيلة أبيك أدم -عليه السلام- إلى الله -عز وجل- يوم القيامة، بل استقبله واستشْفِع به فيشفعه الله، هذا بقية المروي عن مالك -كما في الشفاء, "لكن رأيت منسوبًا للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه, أنَّ هذه الحكاية كذب على مال" هذا تهوّر عجيب، فإن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك, بإسنادٍ لا بأس به، وأخرجها القاضي عياض في الشفاء من طريقه, عن شيوخ عدة من ثقات مشايخه، فمن أين أنها كذب, وليس في إسنادها وضَّاع ولا كذَّاب, "وأنَّ الوقوف عند القبر بدعة، قال: ولم يكن أحد من الصحابة يقف عنده ويدعو لنفسه" نفيه مردود عليه من قصوره أو مكابرته، ففي الشفاء قال بعضهم: رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فوقف فرفع يديه, حتى ظننت أنه افتتح الصلاة, فسلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم انصرف, "ولكن كانوا يستقبلون القبلة ويدعون في مسجده -صلى الله عليه وسلم, قال: ومالك من أعظم الأئمة كراهيةً لذلك" كذا قال, وهو خطأ قبيح, فإن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر مستقبلًا له مستدبر القبلة, ومِمَّنْ نَصَّ على ذلك أبو الحسن القابسي, وأبو بكر بن عبد الرحمن, والعلامة خليل في مناسكه، ونقله(12/194)
وينبغي أن يقف عند محاذاة أربعة أذرع, ويلازم الأدب والخشوع والتواضع، غاضّ البصر في مقام الهيبة، كما كان يفعل بين يديه في حياته، ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه, وسماعه لسلامه، كما هو الحال في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته, ومعرفته أحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ لا خفاء به.
فإن قلت: هذه الصفات مختصة بالله تعالى.
فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين يعلم أحوال الأحياء.
__________
في الشفاء عن ابن وهب عن مالك، قال: إذا سلَّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا, يقف وجهه إلى القبر لا إلى القبلة, ويدنو ويسلِّم, ولا يمسَّ القبر بيده. انتهى.
وإلى هذا ذهب الشافعي والجمهور، ونقل عن أبي حنيفة، قال ابن الهمام، وما نُقِلَ عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: من السُّنَّة أن يستقبل القبر المكرَّم, ويجعل ظهره للقبلة, وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة. وقول الكرماني: مذهبه خلافه ليس بشيء؛ لأنه حيّ، ومن يأتي لحيٍّ إنما يتوجَّه إليه. انتهى.
ولكن هذا الرجل ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور، وإنها إنما تزار للترحّم والاعتبار, بشرط ألَّا يشد إليها رحل، فصار كل ما خالفه عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه, انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نُسِبَ إليه مجازفة وعدم نصفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله، ثم إن نقل كلامه من أوّل، لكن رأيت ساقط في أكثر نسخ المصنف وهو أَوْلَى بالصواب، وسيعيد المصنّف قريبًا نقله, والتبري منه بقوله: كذا.
قال: وينبغي أن يقف عند محاذاة أربع أذرع" وقيل: ثلاثة، وهذا باعتبار ما كان في العصر الأوّل، أمَّا اليوم فعليه مقصورة تمنع من دنو الزائر, فيق عند الشباك، قاله بعض, "ويلازم الأدب والخشوع والتواضع, غاضّ البصر في مقام الهيبة, كما كان يفعل بين يديه في حياته"؛ إذ هو حي, "ويستحضر علمه بوقوفه بين يديه, وسماعه لسلامه, كما هو في حال حياته؛ إذ لا فرق بين موته وحياته في مشاهدته لأمته, ومعرفته بأحوالهم ونياتهم وعزائمهم وخواطرهم، وذلك عنده جليّ" ظاهر "لا خفاء به" باطِّلاع الله تعالى على ذلك.
"فإن قلت: هذه الصفات" المذكورة من معرفته إلى هنا "مختصَّة بالله تعالى، فالجواب: إن من انتقل إلى عالم البرزخ من المؤمنين" الكاملين, "يعلم أحوال الأحياء غالبًا" بإعلام الله تعالى لهم، كما في حديث: "تعرض الأعمال كل يوم الخميس والإثنين على الله(12/195)
غالبًا، وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب.
وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن المسيب: ليس من يوم إلّا ويعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- أعمال أمته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم.
ويمثل الزائر وجهه الكريم -عليه الصلاة والسلام- في ذهنه، ويحضر قلبه جلال رتبته وعلوّ منزلته، وعظيم حرمته، وإنَّ أكابر الصحابة ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار، تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه.
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها: أن اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فكشفته, فبكت حتى ماتت.
وحكي عن أبي الفضائل الحموي، أحد خدَّام الحجرة المقدسة، أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ، أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة، فحركوه فإذا هو ميت، وكان ممن شهد جنازته.
__________
تعالى, وتعرض على الأنبياء والآباء والآمهات يوم الجمعة, فيفرحون بحسناتهم, وتزداد وجوههم بياضًا وإشراقًا, فاتقوا الله ولا تؤذوا أمواتكم".
رواه الترمذي الحكيم, "وقد وقع كثير من ذلك كما هو مسطور في مظنَّة ذلك من الكتب، وقد روى ابن المبارك" عبد الله: بذكره تستنزل الرحمة "عن سعيد بن المسيب، قال: ليس من يوم إلّا وتعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- أعمال أمَّته غدوة وعشية، فيعرفهم بسيماهم وأعمالهم، فلذلك يشهد عليهم" يوم القيامة, "ويمثل" يصور "الزائر وجهه -عليه الصلاة والسلام- في ذهنه، ويحضر الزائر قلبه جلال رتبته وعلوَّ منزلته وعظيم حرمته، وإن أكابر الصحب ما كانوا يخاطبونه إلّا كأخي السرار" بكسر السين وراءين بينهما ألف "تعظيمًا لما عظَّم الله من شأنه".
وقد روى ابن النجار أن امرأة سألت عائشة -رضي الله عنها, أن اكشفي لي عن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فكشفته، فبكت حتى ماتت" شوقًا إليه.
"وحكي عن أبي الفضائل الحموي أحد خدَّام الحجرة المقدَّسة أنه شاهد شخصًا من الزوار الشيوخ أتى باب مقصورة الحجرة الشريفة، فطأطأ رأسه نحو العتبة, فحركوه فإذا هو ميت، وكان" أبو الفضائل "ممن شهد جنازته، ثم يقول: الزائر بحضور قلب وغض طرف"(12/196)
ثم يقول الزائر بحضور قلب، وغضّ بصر وصوت، وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر المحجَّلين، السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين، السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر عباد الله الصالحين، جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جازي نبيًّا ورسولًا عن أمته، وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون، وغفل عن ذكرك الغافلون، أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه، وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة, وأدَّيب الأمانة, ونصحت الأمة, وجاهدت في الله حق جهاده.
ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه, فليقل ما تيسّر منه، أو مما يحصل به الغرض.
وفي "التحفة": أنَّ ابن عمر وغيره من السلف كانوا يقتصرون ويوجزون في
__________
بصر "و" خفض "صوت وسكون جوارح وإطراق: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا نبي الله، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا خيرة الله، السلام عليك يا صفوة الله، السلام عليك يا سيد" أفضل "المرسلين وخاتم النبيين، السلام عليك يا قائد الغر" بضم المعجمة وشد الراء "المحجَّلين" هم أمته, وهذه سيماهم ليست لغيرهم, "السلام عليك وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات" صفة لازمة "أمهات المؤمنين", وهل يقال لهنَّ أمهات المؤمنات أيضًا, قولان مرجحان, "السلام عليك وعلى أصحابك أجمعين، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء وسائر" أي: جميع "عباد الله الصالحين" أي: المؤمنين, "جزاك الله يا رسول الله أفضل ما جزى نبيًّا ورسولًا عن أمته, وصلى الله عليك كُلَّما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون" عبارة عن استمرار الصلاة؛ إذ لا ينفك الخلائق بعضهم عن الذكر, وآخرون عن الغفلة, "أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وخيرته من خلقه، وأشهد أنك قد بلَّغت الرسالة, وأدَّيت الأمانة, ونصحت الأمَّة, وجاهدت في الله حقَّ جهاده" بنفسك وبعوثك وسراياك, ما جملته نحو المائة في تسع سنين, "ومن ضاق وقته عن ذلك أو عن حفظه, فليقل ما تيسَّر" له "منه، أو" من غيره, "مما يحصل به الغرض".
"وفي التحفة" أي: كتاب تحفة الزائر لابن عساكر "أن ابن عمر وغيره من السلف(12/197)
هذا جدًّا. فعن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وناهيك به خبرة بهذا الشأن, من رواية ابن وهب عنه، يقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا قَدِم من سفر دخل المسجد، ثم أتى القبر المقدَّس فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.
وينبغي أن يدعو، ولا يتكلّف السجع, فإنه قد يؤدي إلى الإحلال بالخشوع.
وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في "الشامل", الحكاية المشهورة عن العتبي، واسمه: محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي في سنة ثمان وعشرين ومائتين، وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزية في منبر الغرام الساكن عن
__________
كانوا يقتصرون ويوجزون" يأتون بألفاظ قليلة جامعة لمعانٍ كثيرة, "فعن مالك إمام دار الهجرة, وناهيك به خبرة بهذا الشأن, من رواية ابن وهب" عبد الله "عنه يقول" المسلِّم أو الزائر: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته", فهذا لفظ موجز مع صحته عنه -صلى الله عليه وسلم- في التشهد، زاد مالك في المبسوط: ويسلم على أبي بكر وعمر، أي: بعد السلام عليه.
وعن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا قَدِمَ من سفر دخل المسجد" فصلى ركعتين, "ثم أتى القبر المقدَّس، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه", وفي الشفاء عن نافع: كان ابن عمر يسلِّم على القبر، رأيته مائة مرة وأكثر، يأتي فيقول: السلام على النبي، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ثم ينصرف، انتهى.
وظاهر أنَّ هذا كان دأبه وإن لم يسافر؛ لأنه لم يسافر أكثر من مائة مرة، فحدَّث نافع تارة عن حالة إذا قدم من سفر, وتارة عن حاله بدون سفر فلا يحمل عليه، وفيه إشارة إلى أن الأَوْلَى الاختصار، وقيل: يطيل ما شاء من ثناء ودعاء وتوسّل، وقيل: يختلف باختلاف الناس والأحوال, "وينبغي أن يدعو ولا يتكلّف لسجع, فإنه قد يؤدي إلى الإخلال بالخشوع، وقد حكى جماعة منهم الإمام أبو نصر بن الصباغ في الشامل, الحكاية المشهورة عن العتبي" بضم فسكون, "واسمه: محمد بن عبيد الله" بضم العين "ابن عمرو بن معاوية بن عمرو" بفتح العين "ابن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب، وتوفي" محمد المذكور "في سنة ثمان وعشرين ومائتين".
"وذكرها ابن النجار وابن عساكر وابن الجوزي في منبر الغرام الساكن، عن(12/198)
محمد بن حرب الهلالي قال: أتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فزرته, وجلست بحذائه، فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرسل، إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا، قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي مستشفعًا بك إلى ربي, وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبرٍ أنت ساكن ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد، وهذا حبيبك وأنا عبدك، فأعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا, تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت لجميع الخلق, اذهب فقد أعتقناك من النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... في رقهم أعتقوهم عتق أحرار
وأنت يا سيدي أولى بذا كرمًا ... قد شبت في الرق فاعتقني من النار
__________
محمد بن حرب الهلالي، قال: أتيت قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فزرته وجلست بحذائه" بمعجمة ومد بمقابله, "فجاء أعرابي فزاره، ثم قال: يا خيرة الرسل, إن الله أنزل عليك كتابًا صادقًا قال فيه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 64] التفت عن استغفرت لهم تنويهًا بشأنه, {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا} عليهم {رَحِيمًا} بهم, "وقد جئتك مستغفرًا من ذنبي, مستشفعًا بك إلى ربي، وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهنَّ القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
وبقية هذه الحكاية: ثم استغفر وانصرف، فرقدت فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم وهو يقول: الحق الأعرابي وبشِّره بأنَّ الله قد غفر له بشفاعتي، فاستيقظت فخرجت لطلبه فلم أجده, "ووقف أعرابي على قبره الشريف وقال: اللهم إنك أمرت بعتق العبيد وهذا حبيبك وأنا عبدك, فاعتقني من النار على قبر حبيبك، فهتف به هاتف: يا هذا, تسأل العتق لك وحدك، هلّا سألت العتق لجميع الخلق، اذهب فقد أعتقناك من النار", وأنشد المصنف لغيره.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم ... في رقهم أعتقوهم عتق أحرار
وأنت يا سيدي أَوْلى بذا كرمًا ... قد شبت في الرق فاعتقني من النار
وعن الأصمعي: وقف أعرابي مقابل القبر الشريف، فقال: اللهمَّ إن هذا حبيبك وأنا عبدك(12/199)
وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم على قبره -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب، إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا, ما أذنَّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك, فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم.
وقال ابن أبي فديك: سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] وقال: صلى الله عليك يا محمد، حتى يقولها سبعين مرة, ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان, ولم تسقط له حاجة.
قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: الأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله, وإن كانت الرواية: يا محمد، انتهى.
__________
والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك وفاز عبدك وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك ورضي عدوك وهلك عبدك، اللهمَّ إن العرب الكرام إذا مات منهم سيد أعتقوا على قبره, وإن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره.
قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب, إن الله قد غفر لك وأعتقك بحسن هذا السؤال.
"وعن الحسن البصري قال: وقف حاتم الأصم" البلخي, من أجل المشايخ الزهّاد, اعتزل الناس ثلاثين سنة في قبة لا يكلمهم إلّا جوابًا بالضرورة, "على قبره -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رب, إنا زرنا قبر نبيك فلا تردنا خائبين، فنودي: يا هذا, ما أذنّا لك في زيارة قبر حبيبنا إلّا وقد قبلناك، فارجع أنت ومن معك من الزوار مغفورًا لكم. وقال ابن أبي فديك -بضم الفاء وفتح المهملة وتحتية وكاف- محمد بن إسماعيل بن مسلم الديلمي، مولاهم المدني، مات سنة مائتين على الصحيح, وهو من رجال الجميع.
وهذا رواه البيهقي عنه، قال: "سمعت بعض من أدركت" من العلماء والصلحاء "يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, فتلا هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] إلى تسليمًا, "وقال: صلى الله عليك يا محمد, حتى يقولها سبعين مرة, ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان, ولم تسقط له حاجة" أي: لا ترد ولا تخيب، شبَّه عدم قبولها بسقوط شيء يقع من يده، وخصّ السبعين لأنها محلّ الإجابة، كما قال تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّة} [التوبة: 80] .
"قال الشيخ زين الدين المراغي وغيره: والأَوْلَى أن ينادي: يا رسول الله، وإن كانت الرواية: يا محمد. انتهى" للنهي عن ندائه باسمه حيًّا وميتًا، فإن كان هذا مأثورًا عنه صحيحًا.(12/200)
وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب "لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار".
فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلّم على أبي بكر -رضي الله عنه؛ لأنَّ رأسه بحذاء منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر، فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيَّد الله به -يوم الردة- الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنَّا به.
ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع، فيسلِّم على عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيِّد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه، وارض عنا به.
__________
اغتفرا تباعًا للمأثور، ولتقدم تعظيمه بقوله: صلى الله عليك، كما قيل: "وقد نبَّهت على ذلك مع مزيد بيان في كتاب لوامع الأنوار في الأدعية والأذكار، فإن أوصاه أحد بإبلاغ السلام إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" بأن قال الموصي: قل: السلام عليك من فلان، أو سلم لي عليه -صلى الله عليه وسلم، وتحمل ذلك, ورضي به, وجب عليه إبلاغه؛ لأنه أمانة يجب أداؤها, "فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان", وقول بعضهم: إنه سنة لا واجب؛ إذ ليس في تركه سوى عدم اكتساب فضيلة للغير فلا سبب يقتضي التحريم، ردَّ بأن المأمور حيث التزم ذلك, وقبله وجب التبليغ؛ لأنه أمانة التزم أداءها له عليه السلام, "ثم ينتقل" الزائر المسلم "عن يمينه قدر ذراع, فيسلّم على أبي بكر -رضي اله عنه؛ لأن رأسه بحذاء منكب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, على ما جزم به رزين وغيره، وعليه الأكثر", وهو أشهر الروايات السبع وأصحّها فيقول: السلام عليك يا خليفة سيد المرسلين، السلام عليك يا من أيد الله به -يوم الردة- الدِّين" ومَرَّ حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة" جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا, اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به، ثم ينتقل عن يمينه قدر ذراع, فيسلِّم على عمر ابن الخطاب -رضي الله عنه، فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، السلام عليك يا من أيد الله به الدِّين، جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا، اللهمَّ ارض عنه وارض عنا به", وما ذكره من الدعاء لهما بلفظ: السلام، ذكره جماعة من المالكية وغيرهم, وهذا بخلاف الصلاة, فتكره استقلالًا على غير نبي أو ملك، وفي موطأ مالك عن عبد الله بن دينار، قال: رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي -صلى الله عليه وسلم، فيصلي على قبر(12/201)
ثم يرجع إلى موقفه الأوَّل قبالة وجه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده، ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ويكثر من الدعاء والتضرّع، ويجدِّد التوبة في حضرته الكريمة، ويسأل الله بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا، ويكثر من الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويردّ عليه.
وقد روى أبو داود من حديث أبي هريرة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يسلِّم علي إلّا ردَّ الله عليّ روحي حتى أرد عليه السلام".
__________
النبي -صلى الله عليه وسلم, وعلى أبي بكر وعمر.
كذا رواه يحيى بن يحيى الليثي عن مالك، ورواه القعنبي وابن بكير, وسائر رواة الموطَّأ، بلفظ: فيصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم, ويدعو لأبي بكر وعمر، ففرَّقوا بين يصلي ويدعوا، وإن كانت الصلاة قد تكون دعاء؛ لأنه خص بلفظ: الصلاة عليه..... الآية: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] .
وقد أنكر العلماء رواية يحيى ومن وافقه، قاله ابن عبد البر، ولعلَّ إنكارهم من حيث اللفظ الذي خالف فيه الجمهور, فتكون روايته شاذّة، وإلّا فالصلاة على غير النبي تجوز تبعًا كما هنا، وإنما اختلف فيها استقلالًا بالمنع والجواز والكراهة، وصحَّحها الأبي, "ثم يرجع إلى موقفه لأوَّل قبالة" بضم القاف "وجه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد السلام على سيدنا أبي بكر وعمر، فيحمد الله تعالى ويمجده" على هذه النعمة العظيمة من تسهيل الزيارة له, ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم, ويكثر الدعاء والتضرّع, ويجدد التوبة في حضرته الكريمة, ويسأل الله تعالى بجاهه أن يجعلها توبة نصوحًا" خالصة, "ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحضرته الشريفة؛ حيث يسمعه ويرد عليه" بأن يقف بمكان قريب منه ويرفع صوته إلى حد لو كان حيًّا مخاطبًا له لسمعه عادة.
وقد روى أبو داود بإسناد صحيح "من حديث أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم" الذي في أبي داود, وهو الذي قدَّمه المصنف في مبحث الصلاة: ما من أحد. نعم المراد مسلم, "يسلِّم عليّ" في أي محل كان، قال السخاوي: وزيادة عند قبري, لم أقف عليها فيما رأيته من طرق الحديث.
"إلا رَدَّ الله عليّ روحي" قال السيوطي: كذا رواه أبو داود: علي، وللبيهقي، إلي, وهي ألطف وأنسب؛ لأن ردَّ يعدى بعلى في الإهانة، وبإلى في الإكرام، فمن الأوّل: {يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} ، ومن الثاني: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ} انتهى.(12/202)
وعند ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلّى عليَّ نائيًا بلغته".
وعن سليمان بن سحيم، مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم، فقلت: يا رسول الله، هؤلاء الذين يأتونك فيسلمون عليك, أتفقه سلامهم؟ قال: نعم وأرد عليهم.
ولا شكَّ أن حياة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ثابتة معلومة مستمرة، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم، وإذا كان كذلك فينبغي أن تكون حياته -صلى الله عليه وسلم- أكمل وأتمّ من
__________
ولا يطرد هذا بدليل رواية: عليّ, هنا في الإكرام, "حتى" غاية لرد في معنى التعليل، أي: لأجل أن "أرد عليه السلام, عند ابن أبي شيبة", وعبد الرزاق "من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "من صلَّى عليَّ عند قبري سمعته، ومن صلَّى عليَّ نائيًا" بعيدًا, "بلغته" من الملك الموكَّل بقبره, بإبلاغه صلاة أمته عليه، والظاهر أنَّ المراد بالعندية قرب القبر؛ بحيث يصدق عليه عرفًا أنه عنده، وبالبعد ما عداه, وإن كان بالمسجد، قال السخاوي: إذا كان المصلي عند قبره سمعه بلا واسطة, سواء كان ليلة الجمعة أو غيرها، وما يقوله بعض الخطباء ونحوهم أنه يسمع بأذنيه في هذا اليوم من يصلي عليه, فهو مع حمله على القرب لا مفهوم له. انتهى.
وتقدم لذلك مزيد في مقصد المحبة وقبله في الخصائص، وأورد أن ردَّ السلام على المسلِّم لا يختص به -صلى الله عليه وسلم, ولا بالأنبياء، فقد صحَّ مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن, ومن كان يعرفه في الدنيا فيسلِّم عليه, إلا عرفه وردَّ عليه السلام"، وأجيب بأنَّ الرد من الأنبياء رد حقيقي بالروح والجسد بجملته, ولا كذلك الرد من غير الأنبياء والشهداء فليس بحقيقي، وإنما هو بواسطة اتصال الروح بالجسد، لأنَّ بينه وبينها اتصالًا يحصل بواسطة التمكّن من الرد, كون أرواحهم ليست في أجسادهم, وسواء الجمعة وغيرها على الأصح، لكن لا مانع أنَّ الاتصال في الجمعة واليومين المكتنفين به أقوى من الاتصال في غيرها من الأيام. انتهى.
"وعن سليمان بن سحيم" بمهملتين- مصغَّر, المدني, مولى آل العباس، وقيل: مولى آل الحسين، تابعي، ثقة، روى له مسلم, والسنن إلا الترمذي, "مما ذكره القاضي عياض في الشفاء" وأخرجه البيهقي في حياة الأنبياء, وابن أبي الدنيا عن سليمان "قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم", ورؤياه حق "فقلت: يا رسول الله, هؤلاء الذين يأتونك فيسلِّمون عليك, أتفقه" أتفهم "سلامهم، قال: نعم" أفقهه, "وأرُدّ عليهم" عطف على معنى نعم, لا على قول السائل, وإنه من العطف التقليني كما توهم لوجود نعم؛ إذ معناها: أفقه "ولا شكَّ أن حياة الأنبياء -عليهم السلام- ثابتة معلومة مستمرة ثابتة" في الاستمرار, فلا تكرار, ونبينا -صلى الله عليه وسلم- أفضلهم" بالنصوص(12/203)
حياة سائرهم.
فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة, لما كان لرد روحه معنَى كما قال: "إلا ردَّ الله عليَّ روحي".
يجاب عن ذلك من وجوه:
أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا لثبوت رد السلام دائمًا, فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم، واللازم يجب وجوده عند ملزومه, أو ملزوم ملزومه، فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا، وهذا من نفاثات سحر البيان في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة، وأجمل فنون البراعة التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى.
ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ، والتفات روحانيّ يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا، وقوالب الأجساد الترابية، وتنزل إلى دائرة البشرية، حتى يحصل عند ذلك ردّ السلام، وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا، حتى لو كان
__________
والإجماع, "وإذا كان كذلك فينبغي" يجب "أن تكون حياته أكمل وأتم من حياة سائرهم" أي: الأنبياء -عليهم السلام, "فإن قال سقيم الطبع رديء الفهم: لو كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مستمرة ثابتة, لما كان لرد روحه معنًى، كما قال" في الحديث: "إلا ردَّ الله عليَّ روحي" , فإن مقتضاه انفصالها عنه وهو الموت, "يجاب عن ذلك من وجوه، أحدها: إن هذا إعلام بثبوت وصف الحياة دائمًا" لاستحالة خلوّ الوجود كله عن مسلِّم عليه عادة, "فوصف الحياة لازم لرد السلام اللازم" لصفة الحياة, "واللازم يجب وجوده عند ملزومه, أو ملزوم ملزومه" فأطلق الملزوم هنا وهو ردّ الروح، وأراد لازمه وهو صفة الحياة الملزومة لرد السلام، فكأنه قال: إلّا وجدني حيًّا, "فوصف الحياة ثابت دائمًا؛ لأن ملزوم ملزومه ثابت دائمًا, وهذا من نفّاثات" بفتح النون والفاء المشددة ويجوز ضم النون وفتح الفاء مخففة- لكن الأوَّل أنسب بقوله: "حر البيان", والمراد: العبارات البليغة "في إثبات المقصود بأكمل أنواع البلاغة, وأجمل" بالجيم "فنون" جمع في البراعة, التي هي قطرة من بحار بلاغته العظمى" صلى الله عليه وسلم, ومنها: إن ذلك عبارة عن إقبال خاصّ, والتفات روحاني" بضم الراء- لا يكيّف يحصل من الحضرة النبوية إلى عالم الدنيا, وقوال -بكسر اللام- جمع قال -بفتحها؛ لأن فاعل بالفتح جمعه فواعل بالكسر "الأجساد الترابية, وتنزل إلى دائرة البشرية" عَبَّر عنه برد الروح تجوزًا للتقريب للإفهام حتى يحصل عند ذلك رد السلام, وهذا الإقبال يكون عامًّا شاملًا حتى لو كان(12/204)
المسلِّمون في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف, لوسعهم ذلك الإقبال النبوي والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبّر عنه، ولقد أحسن من سُئِلَ: كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّمَ عليه من مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد, فأنشد قول أبي الطيب:
كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا
__________
المسلِّمون" بكسر اللام الثقيلة, "في كل لمحة أكثر من ألف ألف ألف" ثلاثًا؛ "لوسعهم ذلك الإقبال النبوي, والالتفات الروحاني، ولقد رأيت من ذلك ما لا أستطيع أن أعبِّر عنه"؛ لأنه أمر لا يدرك بالعبارة, وإنما يعرفه من شاهده, ولا يقدر على التعبير عنه.
وفي فتح الباري أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، أحدها: إن المراد بقوله: "ردَّ الله إلي روحي" أن رد روحه كانت ساقة عقب دفنه, لا أنها تعاد ثم تنزع ثم تعاد. الثاني: سلمنا, لكن ليس هو نزع موت بل لا مشقة فيه. الثالث: إن المراد بالروح الملك الموكَّل بذلك. الرابع: المراد بالروح النطق، فتجوز فيه من جهة خطابنا بما نفهمه. الخامس: إنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلَّم عليه رجع إليه فهمه؛ ليجيب مَنْ يسلِّم عليه، واستشكل ذلك من جهة أخرى, وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة -عليه والسلام- في سائر أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة، وأجيب بأن أمور الآخرة لا تدرك بالعقل وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. انتهى.
بلفظه: والجوب الأوّل للبيهقي, واعترض بأنه خلاف الظاهر، واعترض الثالث بأن الإضافة في روحي تأباه، وأجيب بأنه لما كان ملازمًا مختصًّا به صحَّت إضافته إليه، بل قيل: إنه أقرب الأجوبة، وقد أطلق الروح على الملك في القرآن والسنَّة، واعترض الرابع بأن استعارة الروح للنطق بعيدة وغير مألوفة, ولا رونق لها يليق بالفصاحة النبوية، ولو سلم كان ركيكًا؛ لأن قوله: حتى أراد يأباه، وتعقّب بأنه لا بعد ولا ركاكة؛ لأنه للتقريب للإفهام كما قال، بل علاقة المجاز كما قال ابن الملقن وغيره: إن النطق من لازمه وجود النطق بالفعل أو بالقوة, وهو في البرزخ مشغول بأحوال الملكوت, مستغرق في مشاهدته، مأخوذ عن النطق بسبب ذلك، ومن الأجوبة أنَّ رد الروح مجاز عن المسرَّة، فإنه يقال لمن سر عادت له روحه، ولضده ذهبت، فهو عبارة عن دوم سروره -صلى الله عليه وسلم- بالسلام عليه؛ لأن الكون لا يخلو عن مسلِّمٍ عليه، بل قد يتعدَّد في آنٍ واحد ما لا يحصى وأن رد الروح عبارة عن حضور الفكر كما قيل في خبر: إنه ليغان على قلبي, "ولقد أحسن من سئل كيف يرد النبي -صلى الله عليه وسلم- على مَنْ سَلَّم عليه في مشارق الأرض ومغاربها في آنٍ واحد، فأنشد قول أبي الطيب" أحمد المتنبي في ممدوحه ناقلًا له إلى من هو اللائق به:
كالشمس في وسط السماء ونورها ... يغشى البلاد مشارقًا ومغاربًا(12/205)
ولا ريب أن حاله -صلى الله عليه وسلم- في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل -عليه السلام- يقبض مائة ألف روح في وقت واحد, ولا يشغله قبض عن قبض، وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى، مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- حي يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه، متلذذًا بسماع خطابه، وقد تقدَّم الجواب عن قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} في أواخر الخصائص من المقصد الرابع.
وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز قال: لما كان أيام الحرة، لم
__________
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نورًا ثاقبًا
ولا ريب أن حاله -صلى الله عليه وسلم- في البرزخ أفضل وأكمل من حال الملائكة، هذا سيدنا عزرائيل" اسم ملك الموت على ما اشتُهر "عليه السلام, يقبض مائة ألف روح" أو أزيد في وقت واحد, ولا يشغله" بفتح أوله وثالثه على الأفصح "قبض عن قبض, وهو مع ذلك مشغول بعبادة الله تعالى, مقبل على التسبيح والتقديس، فنبينا -صلى الله عليه وسلم- حي" في قبره "يصلي ويعبد ربه ويشاهده، لا يزال في حضرة اقترابه" أي: دنوه "متلذذًا بسماع خطابه".
وكذا كان شأنه وعادته في الدنيا, يفيض على أمته من سبحات الوحي الإلهي مما أفاضه الله عليه، ولا يشغله هذا الشأن وهو شأن إفاضة الأنوار القدسية على أمته عن شغله "بالحضرة الإلهية "وقد تقم الجواب عن قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] في أواخر الخصائص من المقصد الرابع" عن السبكي, بما حاصله: إن موته لم يستمر, وأنه أحيي بعد الموت حياة حقيقية, ولا يلزم منه أن يكون البدن معها كما في الدنيا من الحاجة إلى طعام وشراب, وغير لك من صفات الأجسام التي نشاهدها، أي: لأنَّ ذلك عادي لا عقلي, والملائكة أحياء ولا يحتاجون إلى ذلك.
"وقد روى الدارمي عن سعيد بن عبد العزيز، قال: لما كان أيام الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين- أرض بظاهر المدينة ذات حجارة سود كأنها أحرقت بالنار, كانت بها الوقعة المشهورة بين عسكر يزيد بن معاوية وبين أهل المدينة بسبب أنهم خلعوا يزيد, وولوا على المهاجرين عبد الله بن مطيع, وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة, وأخرجوا عامل يزيد عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بينهم، فبعث لهم يزيد جيشًا عدته سبع وعشرون ألف فارس, وخمسة عشر ألف راجل، فظفروا, فأباحوا المدينة ثلاثة أيام قتلًا ونهبًا وزنًا, وغير ذلك, وقتل فيها خلق كثير من الصحابة وغيرهم.(12/206)
يؤذّن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم، ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد، وكان لا يعرف وقت الصلاة إلّا بهمهمة يسمعها من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكر ابن النجار وابن زبالة بلفظ: قال سعيد -يعني: ابن المسيب: فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر، فصليت ركعتين، ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر، ثم مضى ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال، يعني: ليالى أيام الحرة.
وقد روى البيهقي وغيره: من حديث أنس أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" , وفي رواية: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة، ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور".
__________
وفي البخاري عن ابن المسيب، أنها لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا "لم يؤذن في مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم" لعدم تمكّن أحد من دخول المسجد من الخوف, "ولم يبرح سعيد بن المسيب من المسجد, وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمهمة يسمعها من قبر النبي -صلى الله عليه وسلم", "وذكره ابن النجار وابن زبالة" بفتح الزاي "بلفظ" أنَّ الأذان ترك في أيام الحرة ثلاثة أيام, وخرج الناس وسعيد بن المسيب في المسجد.
"قال سعيد -يعني ابن المسيب" فاستوحشت فدنوت من القبر, "فلمَّا حضرت الظهر سمعت الأذان في القبر" الشريف, يحتمل من ملك موكّل بذلك, إكرامًا له -عليه السلام, ويحتمل غير ذلك, فصليت ركعتين" نفلًا "ثم سمعت الإقامة فصليت الظهر" اكتفاءً بذلك؛ لعلمه أنه حق، إلّا أن قوله: فلمَّا حضرت الظهر يقتضي أنه علم دخول الوقت قبل سماع الأذان, وصريح لرواية الأولى أنه لا يعرف الوقت إلا بسماع الهمهمة من القبر.
فإما ن يئول: حضرت الظهر, على معنى بسماع الأذان، وإمَّا أن المراد بالحضر في الوقت غير الظاهر كالظهر, "ثم مضى" أي: استمرَّ "ذلك الأذان والإقامة في القبر المقدَّس لكل صلاة حتى مضت الثلاث ليال -يعني: ليالي أيام الحرة، كرامةً له وتأنيسًا لاستيحاشه بانفراده في المسجد.
"وقد روى البيهقي" في كتاب حياة الأنبياء وصحَّحه, "وغيره" كأبي يعلي والبزار وابن عدي "من حديث أنس, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون" تلذذًا وإكرامًا.
"وفي رواية" للبيهقي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى, أحد فقهاء الكوفة، عن ثابت، عن أنس مرفوعًا: "إن الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة" من موتهم, "ولكنهم يصلون بين يدي الله حتى ينفخ في الصور".(12/207)
وله شواهد في الصحيح, منها: قوله في صحيح مسلم عنه -صلى الله عليه وسلم: "مررت بموسى وهو قائم يصلي في قبره" , وفي حديث أبي ذر في قصة المعراج: أنه لقي الأنبياء
__________
قال الحافظ: ومحمد سيء الحفظ، وذكر الغزالي ثم الرفعي حديثًا مرفوعًا: "أنا أكرم على ربي من أن يتركني في قبري بعد ثلاث ولا أصلّ له" إلا أن أخذ من رواية ابن أبي ليلى هذه, وليس الأخذ بجيد، لأن روايته قابلة للتأويل.
قال البيهقي: إن صحَّ، فالمراد أنهم لا يتركون يصلون إلّا هذا القدر، ثم يكونون مصلين بين يدي الله تعالى. انتهى كلام الحافظ.
وفي جامع الثوري ومصنف عبد الرزاق, عن ابن المسيب, أنه رأى قومًا يسلِّمون على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين يومًا حتى يرفع، ولا يصح هذا عن ابن المسيب، كما قال شيخنا, بأنه لا يتركني على حالتي؛ بحيث لا يقوى تعلق الروح بالجسد على وجه يمنع من ذهاب الروح بعد تعلقها بالجسد؛ حيث شاءت متشكلة بصورة الجسد، وأمَّا الجسد فهو باقٍ إلى يوم القيامة، وقوله: "ما يمكث نبي" يعني: غير المصطفى, فغيره من الأنبياء إنما يقوى تعلق أرواحهم بأجسادهم بعد الأربعين, ومع ذلك هو صادق بأن يكون بعدها بزمن طويل أو يسير، وبهذا الجمع يندفع التعارض. انتهى.
لكن قوله: هو صادق لا يصح؛ لأنه خلاف قول الخبر: "لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة" , وخلاف قول ابن المسيب: ما يمكث نبي في قبره أكثر من أربعين، فإن صريحهما أن حدَّ المكث لا يزيد على الأربعين بقليل فضلًا عن الكثير "وله شواهد" أي: للحديث الأوّل كما في الفتح.
قال البيهقي: وشاهد الحديث الأوّل "في الصحيح منها قوله في صحيح مسلم" عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "مررت بموسى" ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر "وهو قائم يصلي في قبره" هذا لفظ مسلم, فاختصره المصنف كما ترى، قيل: المراد الصلاة اللغوية, أي: يدعو الله ويذكره ويثني عليه, وقيل: الشرعية.
قال القرطبي: ظاهره أنه رآه رؤية حقيقية في اليقظة, وأنه حي في قبره, يصلي الصلاة التي كان يصليها في الحياة وذلك ممكن, وفي الفتح: فإن قيل: هذا خاصّ بموسى, قلنا: له شاهد عند مسلم أيضًا عن أبي هريرة رفعه: "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسرايط". ... الحديث وفيه: وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء إلى أن قال: "فحانت الصلاة فأممتهم".
قال البيهقي: وفي حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أنه لقيهم ببيت المقدس.
"وفي حديث أبي ذر" ومالك بن صعصعة في الصحيحين، في قصة المعراج أنه لقي(12/208)
في السموات، وكلموه وكلمهم. وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة في مقصد معجزاته، وفي مقصد الإسراء والمعراج.
وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء ليس على سبيل التكليف، إنما هو على سبيل التلذذ, ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب عليهم حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف، وبالله التوفيق.
وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] حياة الشهيد، ثبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى، والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقية، وهل ذلك للروح فقط أو للجسد معها؟ بمعنى عدم البلى، قولان.
__________
الأنبياء في السموات وكلموه" وجمع البيهقي بين هذه الروايات بأنه رأى موسى قائمًا في قبره، ثم اجتمع به هو ومن ذكر من الأنبياء في السماوات, فلقيهم النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم اجتمعوا في بيت المقدس، فحضرت الصلاة فأمَّهم.
قال: وصلواتهم في أوقات مختلفة في أماكن مختلفة لا يرده العقل, وقد ثبت به النقل, فدلَّ على حياتهم "وقد ذكرت مزيد بيان لذلك في حجة الوداع من مقصد عباداته، وفي ذكر الخصائص الكريمة من مقصد معجزاته, وفي مقصد الإسراء والمعراج, وهذه الصلوات والحج الصادر من الأنبياء -عليهم السلام- ليس" المذكور على سبيل التكليف؛ لانقطاعه بالموت, "إنما هو على سبيل التلذذ" بها, فهو من النعيم.
وفي مسلم مرفوعًا: "إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس" , ويحتمل أن يكونوا في البرزخ ينسحب" ينجر "عليهم حكم الدنيا"؛ لأنه قبل يوم القيامة, وكل ما قبله يعد من الدنيا في استكثارهم من الأعمال وزيادة الأجور من غير خطاب بتكليف" بل من عند أنفسهم لزيادة الأجر, "وبالله التوفيق، وإذا ثبت بشهادة قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ} هم {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الآية "حياة الشهداء فاعل ثبت "ثبت للنبي -صلى الله عليه وسلم- بطريق الأولى؛ لأنه فوقهم درجات.
قال السيوطي: وقلّ نبي إلّا وقد جمع مع النبوة وصف الشهادة, فيدخلون في عموم الآية "والذي عليه جمهور العلماء أنَّ الشهداء أحياء حقيقة, وهل ذلك للروح فقط, أو الجسد معها, بمعنى عدم البلى" بالكسر مع القصر والفتح مع المد "فيه قولان", وفيما نقله المصنف في(12/209)
وقد صحَّ عن جابر: أن أباه وعمرو بن الجموح, وكانا مَمَّن استُشْهِدا بأحد, ودفنا في قبر واحد، حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا، وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت, فرجعت كما كانت. وكان بين ذلك وبين أحد ست وأربعون سنة.
وروي عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي
__________
الخصائص عن السبكي: عود الروح إلى الجسد ثابت في الصحيح لسائر الموتى, فضلًا عن الشهداء, فضلًا عن الأنبياء, وإنما النظر في استمرارها في البدن، وفي أنَّ البدن يصير حيًّا كحالته في الدنيا أو حيَّا بدونها, وهي حيث شاء الله تعالى، فإنَّ ملازمة الروح للحياة أمر عادي لا عقلي، فهذا مما يجوّزه العقل، فإن صحَّ به سمع أتبع، وقد ذكره جماعة من العلماء, ويشهد له صلاة موسى في قبره، فإن الصلاة تستدعي جسدًا حيًّا.
"وقد صحَّ" عند ابن سعد "عن جابر" وهو في الموطأ من وجه آخر "أنَّ أباه" عبد الله بن عمرو -بفتح العين- ابن حرام بن ثعلبة الخزرجي، العقبي، البدري, "وعمرو" بفتح العين "ابن الجموح" بفتح الجيم وخفة الميم وإسكان الواو ومهملة- ابن زيد بن حرام بن كعب الخزرجي, من سادات الأنصار وأشرافهم وأجوادهم, "وكانا ممن استشهدا بأحدٍ ودفنا في قبر واحد" بأمره -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "اجمعوا بينهما, فإنهما كانا متصادقين في الدنيا" كما عند ابن إسحاق "حتى حفر السيل قبرهما، فوجدا لم يتغيرا" زاد في الموطأ: كأنهما ماتا بالأمس, "وكان أحدهما قد جرح، فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت" نحيت "يده عن جرحه" ثم أرسلت, فرجعت كما كانت, دليل على الحياة, وكان بين ذلك, أي: حفر السيل قبرهما "وبين أحد, ولفظ الموطأ: وكان بين أحد وبين يوم حفر عنهما ست وأربعون سنة".
وفي الصحيح عن جابر: كان أبي أول قتيل, ودفن معه آخر في قبر، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر، فاستخرجته بعد ستة أشهر، فإذا هو كيوم وضعته, فجعلته في قبر على حدة، وظاهره يخالف حديث الموطأ هذا.
وجمع ابن عبد البر بتعدد القصة, ونظر فيه الحافظ بأن الذي في حديث جابر أنه دفن أباه وحده في قبر بعد ستة أشهر، وحديث الموطأ أنهما وجدا في قبر واحد بعد ستة وأربعين سنة، فإمَّا أنَّ المراد بكونهما في قبر واحد قرب المجاورة، أو أنَّ السيل جرف أحد القبرين حتى صارًا واحدًا.
"وروي عنه -عليه السلام- أنه قال في شهداء أحد: "والذي نفسي بيده" إن شاء نزعها،(12/210)
بيده, لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه". رواه البيهقي عن أبي هريرة.
وقد قال ابن شهاب: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الزهراء واليوم الأزهر، فإنهما يؤديان عنكم، وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء" رواه أبو داود وابن ماجه.
ونقل ابن زبالة عن الحسن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كلمه روح القدس لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه".
وقد ثبت أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته, حتى مات منه بشر بن البراء، وصار بقاؤه -صلى الله عليه وسلم- معجزة، فكان به ألم
__________
وإن شاء أبقاها, "لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلّا ردوا عليه" السلام, "رواه البيهقي عن أبي هريرة" رضي الله عنه.
"وقد قال ابن شهاب" محمد بن مسلم الزهري: "بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثروا من الصلاة عليَّ في الليلة الزهراء" , وفي نسخة: الغراء، لكن الذي في الشفاء: الزهراء, وهي المناسبة لقوله: "واليوم الأزهر" يعني: ليلة الجمعة ويومها، والمراد بالزهراء والأزهر الأبيض المستنير؛ لأن الزهر لا يطلق لغةً على غير النور الأبيض, وإن شاع بعد ذلك في مطلقه, ونورهما لبركتهما وما في ذلك اليوم من العبادة التي خُصّ بها, وساعة الإجابة, وغير ذلك, "فإنهما" أي: الليلة واليوم "يؤديان عنكم" بضم التحتية وفتح الهمزة وكسر المهملة المشددة، أي: يوصّلان صلاتكم إلي ويبلغانها لي، وإسناد ذلك للزمان مجاز، أي: تؤدي الملائكة فيهما, وكونهما يخلق لهما النطق بالأداء بعيد, وإن جاز، لكن التصريح بعده يحمل الملك يبعده أو يمنعه, "وإن الأرض لا تأكل أجساد الأنبياء"؛ لأنهم أحياء فلا تبلى أجسادهم, وهذا جواب سؤال مقدَّر، كأنه قبل: كيف يكون لمن مات وأكلته الأرض كما صرح به في حديث آخر، وإن -بكسر الهمزة, والجملة حالية أو بفتحها بتقدير: وبلغنا أن الأرض، وقيل: إنه بيان لخاصة أخرى والأول أَوْلَى.
"رواه أبو داود وابن ماجه" وزاد في الشفاء بعد قوله: "أجساد الأنبياء, وما من مسلم يصلي علي إلا حملها ملك حتى يؤديها ويسميه، حتى إنه يقول: إن فلانًا يقول لك كذا وكذا".
"ونقل ابن زبالة" بفتح الزاي "عن الحسن" البصري: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من كلمه روح القدس" جبريل -عليه السلام, "لم يؤذن للأرض أن تأكل من لحمه" إكرامًا له بالنبوة، وسرى ذلك الإكرام إلى بعض أتباعه كالعالم والشهيد والمؤذّن المحتسب.
وقد ثبت أن نبينا -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا؛ لأكله يوم خيبر من شاة مسمومة سمًّا قاتلًا من ساعته, حتى مات منه بشر" بكسر الموحدة وسكون المعجمة "ابن البراء" بن معرور, "وصار بقاؤه(12/211)
السم يتاعهده إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرَّ: "مازالت أكلة خيبر تعادّني حتى كان الآن قطعت أبهري".
والأبهران: عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، كما ذكره في الصحّاح.
قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوّة والشهادة, انتهى.
وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء, فعند الشافعية أنه قبالة وجهه -كما ذكرته، وقال ابن فرحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء، ففي الشفاء قال مالك -في رواية ابن وهب: إذا سلّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة، وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا
__________
صلى الله عليه وسلم- معجزة، فكان به ألم السمّ يتعاهده أحيانًا إلى أن مات به، ولذا قال في مرض موته -كما مَرّ: "ما زالت أكلة خيبر" بضم الهمزة ولا يصح فتحها؛ لأنها لقمة واحدة, "تعادّني" بشد الدال المهملة- تأتي مرة بعد أخرى, "حتى كان الآن قطعت أبهري" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة, "والأبهران عرقان يخرجان من القلب تتشعّب منهما الشرايين، بمعجمة وتحتيتين- العروق النابضة, واحدها شريان "كما ذكره في الصحاح"
قال العلماء: فجمع الله له بذلك بين النبوة والشهادة. انتهى" ولأحمد والحاكم وغيرهما عن ابن مسعود، قال: لأن أحلف تسعًا أنه -صلى الله عليه وسلم- قتل قتلًا أحبَّ إلي من أن أحلف واحدة أنه لم يقتل، وذلك أن الله اتخذه نبيًّا واتخذه شهيدًا.
"وقد اختلف في محل الوقوف للدعاء، فعند الشافعية أنه قبالة" بضم القاف "وجهه -صلى الله عليه وسلم- كما ذكرته" سابقًا, "وقال ابن رحون من المالكية: اختلف أصحابنا في محل الوقوف للدعاء" لم يذكر خلافًا في ذلك، وإنما ذكر هل يدعو أم لا؟ وإذا دعا يستقبل القبر قطعًا كما ترى, ففي الشفاء" لعياض: "قال مالك في رواية ابن وهب" عبد الله, من أجَلّ أصحابه: "إذا سلم" الزائر على النبي -صلى الله عليه وسلم" ودعا, يقف للدعاء ووجهه إلى القبر الشريف لا إلى القبلة", كما يستحب للداعي في غير هذا الموطن؛ لأن استدباره خلاف الأدب.
وقد سأل الخليفة المنصور مالكًا فقال: يا أبا عبد الله" خاطبه بكنيته تعظيمًا "أستقبل القبلة" أصله أأستقبل بهمزتين, همزة الاستفهام وهمزة المضارع المتكلم، فحذفت الأولى للتخفيف ووجود القرينة، وقد ورد حذفها كثيرًا كقوله:
فوالله ما أدري وإن كنت داريا ... بسبع رمين الجمر أم بثمان(12/212)
فقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك, ووسيلة أبيك آدم -عليه السلام- إلى الله يوم القيامة. وقال مالك في "المبسوط": لا أرى أن يقف عند القبر يدعو، ولكن يسلم ويمضي. قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول، وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به، ويعلم آداب الدعاء بين يديه -صلى الله عليه وسلم، فأمِنَ عليه من سوء الأدب, فأفتاه بذلك، وأفتى العامَّة أن يسلموا وينصرفوا لئلَّا يدعوا تلقاء وجهه الكريم ويتوسَّلوا به
__________
أراد أبسبع, وهو من خصائص الهمزة, "وأدعو أم أستقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أجعل وجهي مقابلًا لجهته, وحينئذ أستدبر القبلة، فلذا أشكل عليه؛ لأن استقبالها في الدعاء مشروع، فإذا عارضه هذا فأيهما يقدَّم, "فقال مالك: ولم تصرف وجهك عنه" أي: عن مقابلته ومواجهته حال الدعاء, وهو وسيلتك ووسيلة أبيك أدم -عليه السلام" الوسيلة: السبب المتوصّل به إلى إجابة الدعاء، وكنَّى بآدم عن جميع الناس، أي: هو الشفيع المشفّع المتوسّل به, "إلى الله يوم القيامة" إشارة إلى حديث الشفاعة العظمى, وإلى ما ورد أن الداعي إذا قال: اللهم إني أستشفع إليك بنبيك, يا نبي الرحمة اشفع لي عند ربك, استجيب له, وبقيته كما في الشفاء: بل استقبله واستشفع به فيشفّعه الله، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء: 64] وإنما أعاد هذا المصنف وإن قدَّمه آنفًا لوقوعه في كلام ابن فرحون نقلًا عن الشفاء، لكن سؤال المنصور أورده في الشفاء بإسناده في الباب الثالث، ثم بعده يطول في حكم زيارة قبره.
أورد رواية ابن وهب والمبسوط دون الحكاية، فجمع بينهما ابن فرحون, ونسبة للشفاء وهو صادق؛ لأنه كله فيه في موضعين، وإنما نبعت على هذا لئلّا يقف ناقص العلم على أحد الموضعين فينكر الآخر.
وقال مالك في المبسوط" اسم كتاب لإسماعيل القاضي: "لا أرى" لا أستحب، وأعده رأيًا "أن يقف عند القبر يدعو" أي: حال كونه داعيًا؛ "لكن يسلِّم" عليه "ويمضي" ينصرف من غير وقوف.
"قال ابن فرحون: ولعلَّ ذلك ليس اختلاف قول" هكذا في النسخ الصحيحة, ليس, وهو الذي يتأتَّى ترجيه؛ إذ كونه اختلافًا صريحًا ظاهرًا لا يترجى, ولهذا ولما بعده أشكل سقوط ليس في بعض النسخ, وتعسّف توجيهها لمنابذتها لقوله: "وإنما أمر المنصور بذلك؛ لأنه يعلم ما يدعو به, ويعلم آداب الدعاء بين يديه -صلى الله عليه وسلم, فأمن عليه من سوء الأدب، فأفتاه بذلك"؛ لأنه كان عالمًا" وأفتى العامة أن يسلِّموا وينصرفوا" بدون دعاء "لئلَّا يدعو تلقاء" بكسر فسكون،(12/213)
في حضرته إلى الله العظيم فيما لا ينفي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم, فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة، وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى.
ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة، ولا يصلي إليها ولا يقبلها، فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة، ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك، والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك, وكذا قال والله أعلم، انتهى.
__________
أي: مقابل "وجهه الكريم, ويتوسَّلوا به في حضرته إلى الله العظيم, فيما لا ينبغي الدعاء به، أو فيما يكره أو يحرم, فمقاصد الناس وسرائرهم مختلفة, وأكثرهم لا يقوم بآداب الدعاء ولا يعرفها، فلذلك أمرهم مالك بالسلام والانصراف. انتهى".
ومقتضى كلام العلامة خليل في مناسكه، أنَّ المعتمد رواية ابن وهب ولو للعامّة، لكن يعلمون وينهون عمَّا لا ينبغي الدعاء به، "ورأيت مما نسب للشيخ تقي الدين بن تيمية في منسكه: ولا يدعو هناك مستقبل الحجرة ولا يصلي إليها ولا يقبلها, فإن هذا كله منهي عنه باتفاق الأئمة" هو مسلِّم في التقبيل والصلاة، وأمَّا الدعاء فإن الجمهور ومنهم الشافعية والمالكية والحنفية على الأصح, عندهم كما قال العلامة الكمال ابن الهمَّام على استحباب استقبال القبر الشريف, واستدبار القبلة لمن أراد الدعاء, "ومالك من أعظم الأئمة كراهية لذلك" يقال له: في أي كتاب نصَّ على كراهته، فإنه نصَّ في رواية ابن وهب عنه وهو من أجلّ أصحابه على أنه يقف للدعاء, وأقل مراتب الطلب الاستحباب.
وجزم به الحافظ أبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن, وغيرهما من أئمة مذهب مالك, وجزم به العلامة خليل بن إسحاق في مناسكه، أفما يستحيي هذا الرجل من تكذيبه بما لم يحط بعلمه, وليس في قوله في المبسوط: لا أرى أن يقف عند القبر للدعاء تصريح بالكراهة، لجواز أنه أراد خلاف الأولى, مع أنا إذا سلكنا الترجيح على طريقة أصحاب الحديث، فرواية ابن وهب مقدَّمة لاتصالها على رواية إسماعيل؛ لأنه لم يدرك مالكًا, فهي منقطعة, "والحكاية المروية عنه أنه أمر المنصور أن يستقبل القبر وقت الدعاء كذب على مالك، كذا قال والله أعلم" تبرأ منه؛ لأن الحكاية رواها أبو الحسن علي بن فهر في كتابه: فضائل مالك, ومن طريقه الحافظ أبو الفضل عياض في الشفاء بإسنادٍ لا بأس به، بل قيل: إنه صحيح، فمن أين أنها كذب, وليس في رواتها كذّاب ولا وضَّاع، ولكنه لما ابتدع له مذهبًا وهو عدم تعظيم القبور ما كانت، وأنها إنما تزار للاعتبار والترحّم, بشرط أن لا يشد إليها رحل، صار كل ما خالف ما ابتدعه بفاسد عقله(12/214)
وأما قول الأبوصيري في بردة المديح:
لا طيب يعدل تربًا ضم أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
فقال شارحها العلامة ابن مرزوق وغيره: كأنَّه إشارة إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله "لمنتشق", وإما بالتضمخ وإليها أشار بـ "ملتثم", قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده -صلى الله عليه وسلم, فليس المراد به تقبيل القبر الشريف, فإنه مكروه.
ونقل الزركشي عن السيرافي: أن "طوبى" الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى من أنواع الطيب.
وهذا مبني على أنَّ المراد أنَّ تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإما باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك, فإن المؤمن لا يعدل بشمّ رائحة تربته -عليه السلام- شيئًا من
__________
عنده كالصائل لا يبالي بما يدفعه، فإذا لم يجد له شبهة واهية يدفعه بها بزعمه, انتقل إلى دعوى أنه كذب على من نسب إليه مباهتة ومجازفة، وقد أنصف من قال فيه: علمه أكبر من عقله, "وأما قول الأبوصيري" صوابه البوصيري كما مَرَّ "في بردة المديح":
لا طيب يعدل تربًا ضمَّ أعظمه ... طوبى لمنتشق منه وملتثم
"فقال شارحها العلامة" محمد بن محمد "بن مرزوق وغيره: كأنه أشار إلى النوعين المستعملين في الطيب؛ لأنه إمَّا أن يستعمل بالشمّ، وإليه أشار بقوله: لمنتشق"؛ لأن الانتشاق الشمّ, "وإما بالتضمخ، وإليه أشار بملتثم، قال: وأقلّ ذلك بتعفير جبهته وأنفه بتربته حال السجود في مسجده -عليه السلام، فليس المراد به" أي: بلمتثم "تقبيل القبر الشريف، فإنه مكروه" إلّا لقصد تبرُّك فلا كراهة كما اعتمده الرملي.
"ونقل الزركشي عن السيرافي:" بكسر السين وبالفاء- نسبة إلى سيراف, بلد بفارس, أبي سعيد الحسن بن عبد الله, صاحب التصانيف، ولد قبل السبعين ومائتين, ومات ببغداد في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة, "أن طوبى الطيب، وكذا قال ابن مرزوق: طوبى فعلى" بضم الفاء "من الطيب" أي: لا الجنة والشجرة؛ إذ لا يقطع بذلك للشام ولا الملتثم, "وهذا مبني على أن المراد أن تربته أفضل أنواع الطيب باعتبار الحقيقة الحسية، وذلك إمَّا لأنه كذلك في نفس الأمر، أدركه من أدركه أم لا، وإمَّا باعتبار اعتقاد المؤمن في ذلك، فإن المؤمن الكامل لا يعدل بشمّ رائحة تربته -عليه السلام- من الطيب" بل هو عنده أجلّ كما قالت فاطمة:(12/215)
الطيب:
فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد.
فالجواب: لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشرائط، وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك، مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف عنه.
ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية، لا جرم لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باقٍ، ومن الدنيا فانٍ، والفاني لا يتمتع بالباقي للتضاد، ولا ريب عند من له أدنى تعلّق بشريعة الإسلام أن قبره -صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة، بل أفضلها، وإذا كان القبر كما ذكرنا وقد حوى جمسه الشريف -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس. ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف حيث يقول في قصيدته التي أولها:
__________
ماذا عليَّ من شم تربة أحمد ... أن لا يشم مدى الزمان غواليا
"فإن قلت: لو كان المراد الحقيقة الحسية لأدرك ذلك كل أحد", والواقع أن أكثر الناس لا يدركون ذلك "فالجواب لا يلزم من قيام المعنى بمحل إدراكه لكل أحد، بل حتى توجد الشروط وتنتفي الموانع، وعدم الإدراك لا يدل على عدم المدرك، وانتفاء الدليل لا يدل على انتفاء المدلول، فالمزكوم لا يدرك رائحة المسك, مع أن الرائحة قائمة بالمسك لم تنتف" أي: لم تزل "عنه", خصَّه لأنه أطيب الطيب, وطيبه ظاهر, "ولما كانت أحوال القبر من الأمور الأخروية ولا جرم" لا خفاء, جواب لما، وفي نسخ: بدون لما, كانت "لا يدركها من الأحياء إلّا من كشف له الغطاء من الأولياء المقرَّبين؛ لأن متاع الآخرة باق ومن في الدنيا فان" هالك, "والفاني لا يتمتَّع بالباقي للتضاد بينهما, "ولا ريب عند من له أدنى تعليق بشريعة الإسلام، أنَّ قبره -صلى الله عليه وسلم- روضة من رياض الجنة" كما صحَّ عنه القبر روضة من رياض الجنة. الحديث, "بل أفضلها" أي: الجنة للإجماع على أن أفضل البقاع, "وإذا كان القبر كما ذكرناه" روضة, "وقد حوى جسمه الشريف -عليه الصلاة والسلام- الذي هو أطيب الطيب، فلا مرية" بكسر الميم، أنه لا طيب يعدل تراب قبره المقدّس، ويرحم الله أبا العباس أحمد بن محمد العريف؛ حيث يقول في قصيدته التي أولها:"(12/216)
إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدي تعبق
ثم قال بعد أبيات:
فما عبق الريحان إلّا وتربها ... أجلّ من الريحان وأعبق
راحت ركائبهم تبدي روائحها ... طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحًا
نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا
ولله در القائل:
فاح الصعيد بجسمه فكأنه ... روض ينمّ بعرفه المتأرج
ما جسمه مما يغيره الثرى ... والروح منه كالصباح الأبلج
__________
إذا ما حدا الحادي بأحمال يثرب ... فليت المطايا فوق خدي تعبق
الأولى بأحمال طيبة للنهي عن تسميتها يثرب، وإنما سميت في القرآن حكاية عن المنافقين، وتعبّق -بضم الفوقية وفتح المهملة وكسر الموحدة مشددة- أي: تظهر رائحة التراب المتعلق بخفافها بأن تمشي على خدي فيصل التراب إليهما، وفي نسخة: تعنق -بضم الفوقية وسكون المهملة وكسر النون- أي: تسير سيرًا فسيحًا سريعًا "ثم قال بعد أبيات", وهو يقوي الضبط الأول:
فما عبق الريحان إلا وتربها ... أجل من الريحان طيبًا وأعبق
وله أيضًا:
راحت ركائبهم تبدي روائحها ... طيبًا فيا طيب ذاك الوفد أشباحا
تبدي -بموحدة- تظهر وتنشر، وفي نسخة: تندي -بفوقية مفتوحة ونون ساكنة- من الندى, وهي ظاهرة.
نسيم قبر النبي المصطفى لهم ... روض إذا نشروا من ذكره فاحا
أي: إذا ذكروا من شمائله ومعجزاته شيئًا فاحت رائحتها, كما تفوح رائحة المسك المستعمل في بدن ونحوه، كذا في الشرح، والظاهر أنَّ ضمير ذكره للقبر، أي: إذا نشروا شيئًا من ذكر القبر, وأنه خير البقاع, وحوى خير الخلائق, وله ولصاحبه عند الله ما تقصر عنه العقول, ونحو ذلك فاح.
ولله در القائل: فاح الصعيد بجسمه، فكأنه روض ينم" بكسر النون وضمها- أي: يظهر ويفوح, "بعرفه" طيبه المتأرج" بالجيم- المتوهج ريحه -كما في القاموس, "ما جسمه مما يغيره الثرى" التراب "والروح منه كالصباح الأبلج" أي: النير.(12/217)
وقال ابن بطال في قوله -صلى الله عليه وسلم: "المدينة يَنْصَع طيبها" , هو مثل ضربه للمؤمن المخلص الساكن فيها، الصابر على لأوائها مع فراق الأهل, والتزام المخافة من العدو، فلمَّا باع نفسه من الله, والتزم هذا الأمر بأن صدقه, ونصع إيمانه وقوي لاغتباطه بسكنى المدينة, وبقربه من رسوله، كما ينصع ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا على سائر البلاد، خصوصية خصَّ الله بها بلدة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهّر، وقد جاء في الحديث: "إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها".
__________
وقال ابن بطال" علي أبو الحسن في شرح البخاري "في قوله -عليه الصلاة والسلام" لما جاءه أعرابي فبايعه، فجاء من الغد محمومًا فقال: أقلني, فأبى ثلاث مرار، فخرج فقال -صلى الله عليه وسلم: "المدينة" كالكبر تنفي خبثها "وينصع طيبها".
قال المصنف: بفتح الطاء وشد التحتية وبالرفع فاعل ينصع بفتح التحتية وسكون النون وصاد مهملة مفتوحة وعين مهملة من النصوع وهو الخلوص، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: وتنصع -بفوقية- طيبها -بكسر الطاء وسكون التحتية- منصوب على المفعولية, والرواية الأولى قال أبو عبد الله الأبي: هي الصحيحة, وهي أقوم معنى، وأي مناسبة بين الكير والطيب. انتهى.
وهذا تشبيه حسن؛ لأن الكير لشدة نفخه ينفي عن النار السخام والرماد والدخان, حتى لا يبقى إلا خالص الجمر، وهذا إن أريد بالكير المنفخ الذي ينفخ به النار, وإن أريد به الموضع، فالمعنى أنَّ ذلك الموضع لشدة حرارته ينزع خبث الحديد والفضة والذهب, ويخرج خلاصة ذلك, والمدينة كذلك تنفي شرار الناس بالحمَّى والوصب وشدة العيش, وضيق الحال التي يخلص النفس من الاسترسال في الشهوات, وتظهر خيارهم وتزكيهم. انتهى.
"هو مثل ضربه" صلى الله عليه وسلم "للمؤمن المخلص الساكن فيها, الصابر على لأوائها" أي: شدتها "مع فراق الأهل, والتزام المخافة من العدو" أي: من بينه وبينه عداوة سابقًا، فإنه إذا لم يكن بين أهله لا يجد في الغالب معاونًا على من يريد به سوءًا، أو المراد الشيطان، فإنه أعدى عدو الإنسان, "فلمَّا باع نفسه من الله والتزم هذا الأمر بان" أي: ظهر "صدقه, ونصع" أي: خلص "إيمانه, وقوي لاغتباطه" بغين معجمة- فرحه, "بسكنى المدينة, وبقربه من رسوله, كما ينصع" يسطع ويظهر ويخلص "ريح الطيب فيها ويزيد عبقًا" بفتحتين- مصدر عبق الطيب كفرح, بالمكان أقام فيه "على سائر البلاد خصوصية، خص الله بها بلدة رسوله -عليه الصلاة والسلام- الذي اختار تربتها المباشرة جسده الطيب المطهر".
"وقد جاء في الحديث: "إن المؤمن يقبر في التربة التي خلق منها، فكانت بهذا".(12/218)
فكانت بهذا تربة المدينة أفضل الترب، كما أنه هو -صلى الله عليه وسلم- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان، انتهى.
وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفّع والتوسّل به -صلى الله عليه وسلم, فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه.
واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ: الاستغاثة أو التوسل أو التشفع أو التجوّه أو التوجّه؛ لأنهما من الجاه والوجاهة ومعناه: علوّ القدر والمنزلة.
وقد يتوسل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه، ثم إن كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفع والتوجه بالنبي صلى الله عليه وسلم -كما ذكره في "تحقيق النصرة", و "مصباح
__________
بسببه "تربة المدينة أفضل الترب" أي: جميعها لا خصوص القبر الشريف، يعني: إنه سرى بسبب كون القبر الكريم فيها, تفضيل باقي تربتها على جميع الترب, وابن بطال مالكي قائل بفضل المدينة على غيرها، فعجيب نقل كلام في أن قبره أفضل بالإجماع, أما أولًا فلأنه ليس المراد القبر؛ إذ لا نزاع فيه، وأما ثانيًا، فلأنه يأتي للمصنف قريبًا مبسوطًا، وأما ثالثًا، فقوله: "كما أنه -عليه الصلاة والسلام- أفضل البشر، فلهذا والله أعلم يتضاعف ريح الطيب فيها على سائر البلدان. انتهى". صريح في أن المراد ما قلته.
"وينبغي للزائر أن يكثر من الدعاء والتضرّع والاستغاثة والتشفُّع والتوسّل به -صلى الله عليه وسلم، فجدير" أي: حقيق "بمن استشفع به أن يشفّعه الله تعالى فيه", ونحو هذا في منسك العلامة خليل، وزاد وليتوسّل به -صلى الله عليه وسلم, ويسأل الله تعالى بجاهه في التوسّل به؛ إذ هو محطّ جبال الأوزار وأثقال الذنوب؛ لأن بركة شفاعته وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، ومن اعتقد خلاف ذلك فهو المحروم الذي طمس الله بصيرته وأضل سريرته، ألم يسمع قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ} انتهى.
ولعل مراده التعريض بابن تيمية, "واعلم أن الاستغاثة هي طلب الغوث" الإعانة والنصر, "فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث منه، فلا فرق بين أن يعبّر بلفظ الاستغاثة أو التوسّل أو التشفع أو التجوّه -بجيم قبل الواو, "أو التوجّه" بتقديم الواو على الجيم؛ لأنهما من الجاه والوجاهة, ومعناه: علو القدر والمنزلة" الرتبة.
"وقد يتوسّل بصاحب الجاه إلى من هو أعلى منه" كالتوسّل بالمصطفى إلى الله, ثم إنَّ كلًّا من الاستغاثة والتوسّل والتشفّع والتوجّه بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كما ذكره في تحقيق النصرة(12/219)
الظلام" واقع في كل حال، قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ، وبعد البعث في عرصات القيامة.
فأمّا الحالة الأولى: فحسبك ما قدمته في المقصد الأول من استشفاع آدم -عليه السلام- به لما أخرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم, لو تشفعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأرض لشفعناك. وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: وإن سألتني بحقّه فقد غفرت لك. ويرحم الله ابن جابر حيث قال:
به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجَّى في بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح
وصحَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم، وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك، رفعت رأسي فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله, فعرفت أنك لا
__________
ومصباح الظلام" في المستغيثين بخير الأنام" "واقع في كل حال قبل خلقه, وبعد خلقه في مدة حياته في الدنيا, وبعد موته في مدة البرزخ, وبعد البعث في عرصات القيامة" جمع عرصة, كل موضع لا بناء فيه "فأمَّا الحالة الأولى" قبل خلقه "فحسبك ما قدمته في المقصد الأوّل من استشفاع آدم به -عليه الصلاة والسلام- لما خرج من الجنة، وقول الله تعالى له: يا آدم, لو تشفَّعت إلينا بمحمد في أهل السماوات والأض لشفعناك" أي: لقبلنا شفاعتك.
وفي حديث عمر بن الخطاب عند الحاكم والبيهقي وغيرهما: "وإن" للتعليل "سألتني بحقه غفرت لك" ما وقع منك "ويرحم الله ابن جابر حيث قال":
به قد أجاب الله آدم إذ دعا ... ونجى في بطن السفينة نوح
وما ضرت النار الخليل لنوره ... ومن أجله نال الفداء ذبيح
"وصحَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب، أسألك بحق محمد لما غفرت لي، قال الله تعالى: يا آدم, وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه، قال: يا رب، إنك لما خلقتني بيدك, ونفخت في من روحك، رفعت رأسي, فرأيت قوائم العرش مكتوبًا عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله, فعرفت أنك لا تضيف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك، فقال الله:(12/220)
تضيف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقّه فقد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقتك". ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك".
وأمَّا التوسل به بعد خلقه في مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به -صلى الله عليه وسلم- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك استغاثة ذوي العاهات به, وحسبك ما رواه النسائي والترمذي عن عثمان بن حنيف، أن رجلًا ضريرًا أتاه -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني، قال: فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء: "اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد, نبي الرحمة، يا محمد, إني أتوجه بك إلى ربك في حاجتي لتقضي، اللهم شفّعه في" وصحَّحه البيهقي،
__________
تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك, ولولا محمد ما خلقك" ذكره الطبري، وزاد فيه: "وهو آخر الأنبياء من ذريتك".
نجي -بضم النون وشد الجيم, "وأمَّا التوسل به بعد خلقه مدة حياته، فمن ذلك الاستغاثة به -عليه الصلاة والسلام- عند القحط وعدم الأمطار، وكذلك الاستغاثة به من الجوع, ونحو ذلك مما ذكرته في مقصد المعجزات ومقصد العبادات في الاستسقاء، ومن ذلك: استغاثة ذوي العاهات به، وحسبك:" كافيك على طريق الإجمال.
"ما رواه النسائي والترمذي" والحاكم وقال على شرطهما, "عن عثمان بن حنيف" بمهملة ونون- مصغَّر, الأنصاري الأوسي، صحابي شهير، استعمله عمر على مساحة أرض الكوفة وعل البصرة, ومات في خلافة معاوية: "أن رجلًا ضريرا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله أن يعافيني" من العمى.... اسقط من الحديث، فقال: "إن شئت أخَّرت وهو خير"، وفي رواية: "إن شئت صبرت فهو خير لك وإن شئت دعوت".
قال: فادعه "قال" عثمان: "فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه" بالإتيان بفرائضه ونوافله, وتجنب مكروهاته, "ويدعو بهذا الدعاء" وهو: "اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك" الباء للتعدية "محمد" صرَّح باسمه تواضعًا؛ لأن التعليم منه "نبي الرحمة" إلي, أرسله الله رحمة للعالمين.
وفي الحديث: "إنها رحمة مهداة" , "يا محمد إني أتوجّه" أي: أستشفع والباء في "بك" للاستعانة "إلى ربك في حاجتي لتقضى" أي: ليقضيها ربك لي بشفاعتك، سأل الله أولًا أن(12/221)
وزاد: فقام وقد أبصر.
وأمَّا التوسل به -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في البرزخ, فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء, وفي كتاب "مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام" للشيخ أبي عبد الله بن النعمان طرف من ذلك.
ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء، وأقمت به سنين، فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادي الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة, بمكة زداها الله شرفًا، ومنَّ عليَّ بالعود في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا جاء رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة, بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي- والله شيئًا مما كنت أجده, وحصل الشفاء ببركة النبي -صلى الله عليه وسلم.
ووقع لي أيضًا في سنة خمس وثمانين وثمانمائة في طريق مكة، بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر، أن صرعت خادمتنا غزال الحبشية، واستمر بها
__________
يأذن لنبيه أن يشفع، لقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} ، ثم أقبل على النبي ملتمسًا شفاعته، ثم كر مقبلًا على ربه أن يقبلها، فقال: "اللهم شفعه فيّ" اقبل شفاعته, "وصحَّحه البيهقي وزاد" في روايته: "فقام وقد أبصر ببركته -صلى الله عليه وسلم.
وكذا رواه البخاري في تاريخه, وأبو نعيم, وللنسائي: فرجع وقد كشف الله عن بصره، وللطبراني: كأن لم يكن به ضر، قيل: لم يدع له بنفسه؛ لأنه لم يختر الصبر مع قوله: فهو خير لك، فجبر خاطره بأمره بالوضوء, وأن يدعو بنفسه متوسلًا به بهذا الدعاء.
"وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- بعد موته في البرزخ, فهو أكثر من أن يحصى أو يدرك باستقصاء، وفي كتاب مصباح الظلام في المستغيثين بخير الأنام للشيخ أبي عبد الله بن النعمن طرف من ذلك, ولقد كان حصل لي داء أعيا دواؤه الأطباء, وأقمت به سنين، فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين وثمانمائة, بمكة زادها الله شرفًا, ومنَّ عليَّ بالعود إليها في عافية بلا محنة، فبينا أنا نائم إذا رجل معه قرطاس يكتب فيه: هذا دواء لداء أحمد بن القسطلاني من الحضرة الشريفة بعد الإذن الشريف النبوي، ثم استيقظت فلم أجد بي والله شيئًا مما كنت أجده, وحصل الشفاء ببركة النبي المصطفى -صلى الله عليه وسلم, هذا وما بعده ذكر المصنف تحدثًا بنعمة الله, "ووقع لي أيضًا في سنة خمسين وثمانين وثمانمائة بطريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة؛ لقصد مصر أن صرعت(12/222)
أيامًا، فاستشفعت به -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي، ومعه الجني الصارع لها, فقال: لقد أرسله لك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاتبته, وحلفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة كأنما نشطت من عقال، ولا زالت في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين.
وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة، فما قام عليه الإجماع, وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة.
فعليك أيها الطالب إدراك السعادة الموصّل لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة, بالتعلق بأذيال عطفه وكرمه، والتطفل على موائد نعمه، والتوسُّل بجاهه الشريف, والتشفُّع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي واقتناص المرام، والمفزع يوم الجزع والهلع لكافة الرسل الكرام، واجعله أمامك فيما نزل بك من النوازل، وإمامك فيما تحاول من القرب والمنازل، فإنك تظفر من المراد بأقصاه،
__________
خادمتنا غزال الحبشية, واستمرَّ بها أيامًا, فاستغثت به -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، فأتاني آتٍ في منامي, ومعه الجني الصارع لها، فقال: لقد أرسله لك النبي -صلى الله عليه وسلم- فعاتبته" لمته, قال الخليل: حقيقة العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة, "وحلَّفته أن لا يعود إليها، ثم استيقظت وليس بها قلبة -بفتح القاف واللام والموحدة- داء وتعب, "كأنما نشطت" بكسر الشين- حلت وأطلقت "من عقال -بالكسر: ما يعقل به الإبل ولا زالت" أي: استمرَّت, "في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة في سنة أربع وتسعين وثمانمائة، والحمد لله رب العالمين".
"وأما التوسّل به -صلى الله عليه وسلم- في عرصات القيامة, فما قام عليه الإجماع، وتواترت به الأخبار في حديث الشفاعة", ويأتي في المصنف: "فعليك أيها الطالب إدراك" بالنصب- مفعول السعادة الموصل" ذلك الإدراك "لحسن الحال في حضرة الغيب والشهادة, بالتعلق بأذيال عطفه" بكسر العين المهملة- جانبه, "وكرمه, والتطفل على موائد نعمه" أي: التضرع بطلب ما يحتاج إليه, ويتقرّب إلى الله به, وإن لم يكن أهلًا لتلك الحضرات الشريفة، وعبَّر عن ذلك تشبيهًا للمقصر في الطاعة إذا طلب ما يليق بالخواص بالداخل وليمة بلا دعوة المسمى بالطفيلي, "والتوسل بجاهه الشريف, والتشفع بقدره المنيف، فهو الوسيلة إلى نيل المعالي, واقتناص" أي: صيد "المرام, والمفزع يوم الجزع" بفتح الجيم والزاي- خلاف الصبر, "والهلع" بفتحتين- الجزع, فالعطف للتفسير, "لكافة الرسل الكرام, واجعله أمامك" بالفتح- أمامك, "فيما نزل بك من النوازل وإمامك" بالكسر- قدوتك فيما تحاول من القرب والمنازل, فإنك تظفر من المراد(12/223)
وتدرك رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه، واجتهد ما دمت بطيبة الطيبة حسب طاقتك في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير الطلبات، وارق في مدارج العبادات، ولج في سرادق المرادات.
تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار
فها أنا قد أبحت لكم عطائي ... وها قد صرت عندي في جواري
فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار
فقد وسعت أبواب التداني ... وقد قرب للزوار داري
فمتّع ناظريك فها جمالي ... تجلى للقلوب بلا استتار
ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرّم, خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة. كما رواه البخاري.
__________
بأقصاه وتدرك" تصل وتنال رضى من أحاط بكل شيء علمًا وأحصاه, واجتهد ما دمت بطيبة الطيبةحسب طاقتك" قدرتك "في تحصيل أنواع القربات، ولازم قرع أبواب السعادات بأظافير" جمع ظفر -بضم فسكون وبضمتين- كما في القاموس "الطلبات" جمع طلبة, وزن كلمة وكلمات, ما تطلبه من غيرك, "وارق" اصعد "في مدارج العبادات, ولج" بكسر اللام وجيم- أمر من ولج يلج، أي: ادخل في جوانب, "سرادق" أي: خيام "المرادات", ولا يخفى ما في هذه الألفاظ من الاستعارات يعلمها من له تعلق بألفاظ العبارات، وأنشد المصنف:
تمتع إن ظفرت بنيل قرب ... وحصل ما استطعت من ادخار
أصله إذ تخار بذال فتاء، قلبت التاء دالًا لوقوعها بعد ذال معجمة، ثم قلبت دالًا وأدغمت في الدال المهملة المبدلة من التاء، ويجوز إبقاء المعجمة على أصلها، فيقال إذ دخار، ويجوز قلب المهملة معجمة، ثم تدغم فيها المعجمة، فيقال اذخار:
فها أنا قد أبحث لكم عطائي ... وها قد صرت عندي في جواري
فخذ ما شئت من كرم وجود ... ونل ما شئت من نعم غزار
فقد وسعت أبواب التداني ... وقد قربت للزوار داري
فمتع ناظريك فها جمالي ... تجلّى للقلوب بلا استشاري
"ولازم الصلوات مكتوبة ونافلة في مسجده المكرَّم, خصوصًا بالروضة التي ثبت أنها روضة من رياض الجنة -كما رواه البخاري" ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم(12/224)
قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة, فتكون روضة من رياض الجنة، قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا، يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة، وكون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة، قال: ولكل وجه منهما دليل يعضّده ويقويه من جهة النظر والقياس.
أما الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة، فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده -صلى الله عليه وسلم- بألف فيما سواه من المساجد، فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع, كما كان للمسجد زيادة على غيره.
وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة، وكون المنبر أيضًا على الحوض، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم, وأن الجذع في الجنة، والجذع في البقعة نفسها، فالعلة التي
__________
قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة, ومنبري على حوضي".
"قال ابن أبي جمرة: معناه: تنقل تلك البقعة", وقدرها ثلاث وخمسون ذراعًا، وقيل: أربع وخمسون وسدس، وقيل: خمسون إلّا ثلثي ذراع, وهو الآن كذلك، فكأنَّه نقص لما أدخل بين الحجرة في الجدار، قاله الحافظ, "بعينها" يوم القيامة, فتجعل "في الجنة فتكون روضة من رياض الجنة".
"قال: والأظهر الجمع بين الوجهين معًا" إذ لا تخالف بينهما "يعني: احتمال كونها تنقل إلى الجنة, واحتمال كون العمل فيها يوجب لصاحبه روضة في الجنة".
قال: ولكل وجه منهما" أي: الاحتمالين، وفي نسخة: منها، أي: الاحتمالين, والجمع بينهما "دليل يعضده ويقويه" عطف تفسير من جهة النظر والقياس.
"أمَّا الدليل على أنَّ العمل فيها يوجب روضة في الجنة, فلأنه إذا كانت الصلاة في مسجده -عليه الصلاة والسلام- بألف فيما سواه من المساجد, فلهذه البقعة زيادة على باقي البقع" بضم ففتح- جمع بقعة "كما كان للمسجد زيادة على غيره", واعترض هذا بأنه لا اختصاص لذلك بتلك البقعة، فالعمل في أي مكان، كذلك وأجيب بأنها سبب قوي يوصّل إليها على وجه أتم من بقية الأسباب، وبأنها سبب لروضة خاصَّة أجلّ من مطلق الدخول والتنعم، فإن أهل الجنة يتفاوتون في منازلها بقدر أعمالهم, "وأما الدليل على كونها بعينها في الجنة, وكون المنبر أيضًا على الحوض, كما أخبر -عليه الصلاة والسلام" في بقية الحديث, "وأن" بالواو كما في نسخ صحيحة, عطف على كونها، أي: وعلى أن "الجذع في الجنة والجذع"(12/225)
أوجبت للجذع الجنة هي في البقعة سواء، على ما أذكره بعد إن شاء الله تعالى.
والذي أخبر بهذا أخبر بهذا فينبغي الحمل على أكمل الوجوه، وهو الجمع بينهما، لأنه قد تقرر من قواعد الشرع أن البقعة المباركة، ما فائدة بركتها لنا، والإخبار بها لنا إلا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر، وكذلك الأيام المباركة أيضًا، فعلى هذا يكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ويعود روضة كما كان في موضعه، ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة، وهو الأظهر لوجهين: أحدهما: لعلوّ منزلته -صلى الله عليه وسلم, ولما خصّ الخليل -عليه السلام- بالحجر من الجنة، خص الحبيب -صلى الله عليه وسلم- بالروضة من الجنة.
__________
مدفون "في البقعة نفسها" وجواب أمَّا قوله: "فالعلة التي أوجبت للجذع الجنة هي" موجودة "في البقعة, سواء على ما أذكره بعد إن شاء الله، والذي أخبر بهذا أخبر بهذا" صلى الله عليه وسلم, "فينبغي الحمل على أكمل الوجوه وهو الجمع بينهما؛ لأنه قد تقرَّر من قواعد الشرع أن البقع المباركة ما فائدة بركتها لنا و" فائدة "الإخبار بها لنا لتعميرها بالطاعات، فإن الثواب فيها أكثر, وكذلك الأيام المباركة أيضًا" كأيام رمضان, "فعلى هذا يكون روضة من رياض الجنة الأن" لم يتقدم من كلامه ما يدل هذا التفريغ، ولكنَّه في أوّل كلام ابن أبي جمرة حيث قال: هذا يحتمل الحقيقة والمجاز, أما الحقيقة فبأن يكون ما أخبر عنه -صلى الله عليه وسلم- بأنَّه من الجنة مقتطعًا منها, كما أنَّ الحجر الأسود منها، وكذلك النيل والفرات من الجنة، وكذلك الثمار الهندبة من الورق التي أهبط بها أدم من الجنة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يكون في هذه الدار من مياه الجنة, ومن ترابها, ومن حجرها, ومن فواكهها, حكمة حكيم جليل، ويحتمل أنَّ معناه: تنقل تلك البقعة بعينها في الجنة, فتكون روضة من رياض الجنة، وأمَّا المجاز فيحتمل أن يكون المراد أنَّ العمل, فذكر ما نقله المصنف عنه, فيصح حينئذ تفريعه بقوله: فعلى هذا، أي: المذكور من الاحتمالات والجمع بينها, بكون الموضع روضة من رياض الجنة الآن، ولم يثبت خبر عن بقعة بخصوصها أنها من الجنة إلّا هذه البقعة على هذا الاحتمال, "ويعود روضة كما كان في موضعه, ويكون للعامل بالعمل فيها روضة في الجنة, وهو الأظهر لوجهين".
"أحدهما: لعلوّ منزلته -عليه الصلاة والسلام"، والثاني: أنه "لما خص الخليل -عليه السلام- بالحجر" الذي كان يقف عليه لما بُنِيَ البيت, أتاه الجبريل به "من الجنة", وهو المقام الذي يصلي خلفه ركعتا الطواف وجواب لما قوله: "خص الحبيب عليه الصلاة والسلام بالروضة من الجنة" ويصح قراءته بكسر اللام وخفة الميم علة لقوله: خص الحبيب مقدمة عليه.(12/226)
وها هنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبد, فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة, فحينئذ يحتاج إلى البحث.
والأظهر أنه لحكمة, وهي أنه قد سبق في العلم الرباني بما ظهر أن الله -عز وجل- فضله على جميع خلقه، وأنَّ كل ما كان منه بنسبة ما من جميع المخلقوات, يكون له تفضيل على جنسه, كما استقرئ في كل أموره، من بدء ظهوره -صلى الله عليه وسلم- إلى حين وفاته، في الجاهلية والإسلام, فمنها ما كان في شأن أمه، وما نالها من بركته مع الجاهلية الجهلاء، حسب ما هو مذكور معلوم, ومثل ذلك حليمة السعدية، وحتى الأتان, وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها، وما هو من ذلك كله معلوم.
كان مشيه -صلى الله عليه وسلم- حيث ما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع -صلى الله عليه وسلم- يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى، كما هو منقول معروف.
ولما شاءت القدرة أنه -صلى الله عليه وسلم- لا بُدَّ له من بيت، ولا بُدَّ له من منبر، وأنه
__________
"وهنا بحث: لم جعلت هذه البقعة من بين سائر البقع روضة من رياض الجنة؟ فإن قلنا: تعبُّد, فلا بحث" لأنه لا يعلم معناه, وإن قلنا: لحكمة, فحينئذ يحتاج" الكلام "إلى البحث" أي: التكلم في الحكمة والأظهر أنها لحكمة، وهي أنه قد سبق في العلم الرباني" أي: علم الله تعالى, "بما" أي: بسبب ما "ظهر" على لسانه ولسان الأنبياء, "أنَّ الله -عز وجل- فضَّله على جميع خلقه, وأنَّ كل ما" عبَّر بما تغليبًا للأكثر, نحو {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
وفي نسخة: من تغليبًا للعقلاء, "كان منه بنسبة ما" بشد الميم "من جميع المخلوقات يكون له تفضيل على جنسه, كما استقرئ في جميع أموره من بدء ظهوره -علي السلام- إلى حين وفاته في الجاهلية" توكيد للأوّل، اشتق له من اسمه ما يؤكّد به، كما يقال: وتد واتد, وهمج هامج, وليلة ليلاء, ويوم يوم، قاله الجوهري "حسبما هو مذكور معلوم, ومثل ذلك حليمة السعدية" مرضعته, "وحتى الأتان" الحمارة "وحتى البقعة التي تجعل أتانه يدها عليها تخضر من حينها" فأشبه ما حصل له مما يدل على شرفه على جنسه ما حصل لأمه وظئره, "وما هو من ذلك كله معلوم، وكان مشيه -عليه السلام- حيثما مشى ظهرت البركات مع ذلك كله، وحيث وضع يده المباركة ظهر في ذلك كله من الخيرات والبركات حسًّا ومعنًى, كما هو منقول معروف, ولما شاءت القدرة" أي: صاحب القدرة, ففيه مسامحة "أنه عليه السلام لا بُدَّ له من بيت(12/227)
بالضرورة يكثر بمشيئة -صلى الله عليه وسلم- بين المنبر والبيت، فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان من مسّه واحدة بمباشرته, أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده -صلى الله عليه وسلم- في البقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره، من وقت هجرته إلى حين وفاته. فلم يبق من الترفيع بالنسبة إلى عالمها أعلى مما وصفناه، وهو أنَّها كانت من الجنة، وتعود إليها، وهي الآن منها. وللعامل فيها مثلها، فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار، لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها.
فإن احتج محتج لا فهم له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يطؤها بقدمه مرارًا.
فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها، من ذلك أنَّ ترابها شفاء كما أخبر -صلى الله عليه وسلم، مع ما شاركت فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام, وأنه -صلى الله عليه وسلم- أوّل ما يشفع لأهلها يوم القيامة، وأنَّ ما كان بها من الوباء والحمَّى رُفِعَ عنها، وأنَّه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة،
__________
ولا بُدَّ له من منبر، وأنه بالضرورة يكثر ترداده عليه السلام بين المنبر والبيت" حذف جواب لما, وهو: وجب أن يكون ذلك البيت والمنبر أفضل البقاع وأشرفها لكثرة تردده إليهما، وعلل هذا الجوب بقوله: "فالحرمة التي أعطي غيرهما إذا كان بمشية" بفتح الميم "واحدة, بمباشرة" بقدميه الكريمتين, "أو بواسطة حيوان أو غيره تظهر البركة والخير، فكيف مع كثرة ترداده -عليه السلام- في ابقعة الواحدة مرارًا في اليوم الواحد طول عمره من وقت هجرته إلى وقت وفاته، فلم يبق لها من الترفيع بالنسبة إلى عالمها" بفتح اللام وكسر الميم- التي هي منه, "أعلى مما وصفناه, وهو أنها كانت من الجنة" كما قدمته عن أول كلام ابن أبي جمرة الذي تركه المصنف, "وتعود إليها, وهي الآن منها, وللعامل فيها مثلها" روضة في الجنة, "فلو كانت مرتبة يمكن أن تكون أرفع من هذه في هذه الدار؛ لكان لهذه أعلى مرتبة مما ذكرناه في جنسها" المعبَّر عنه بعالمها قريبًا, "فإن احتج محتج لا فَهْمَ له بأن يقول: ينبغي أن يكون ذلك للمدينة بكمالها؛ لأنه -عليه السلام- كان يطؤها" يمشي عليها "بقدمه مرارًا".
"فالجواب: إنه قد حصل للمدينة تفضيل لم يحصل لغيرها من ذلك" التفضيل الحاصل لها "أنَّ ترابها شفاء كما أخبر به -عليه السلام, مع ما شاركت" المدينة "فيه البقعة المكرَّمة من منعها من الدجال وتلك الفتن العظام" الواقعة من الدجال, "وأنه -عليه السلام- أول ما يشفع في أهلها يوم القيامة" وأنهم يحشرون معه, "وإن ما كان بها من الوباء" المرض العام(12/228)
فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا، بأنَّ تردده -صلى الله عليه وسلم- في المسجد نفسه أكثر مما في المدينة نفسها، وتردده -صلى الله عليه وسلم- فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة، والقرب من تلك النسمة المرتفعة لا خفاء فيه إلا على ملحد أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع، قضية معلومة، وحجة ظاهرة موجودة. انتهى.
وقال الخطَّابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة، وأنَّ من لازم ذكر الله في مسجدها آل به إلى روضة من رياض الجنة، وسقي يوم القيامة من الحوض, انتهى. وقد تقدَّم في الخصائص من مقصد المعجزات مزيد لذلك ...
__________
بالهمز بمد ويقصر, "والحمَّى" لا ينصرف لألف التأنيث, "رفع عنها, وأنه بورك في طعامها وشرابها وأشياء كثيرة" من ذلك, "فكان التفضيل لها بنسبة ما أشرنا إليه أولًا بأن تردده -عليه السلام- في المسجد نفسه أكثر مما" أي: من تردده "في المدينة نفسها, وتردده فيما بين المنبر والبيت أكثر مما سواه من سائر" أي: باقي "المسجد، فالبحث تأكد بالاعتراض؛ لأنه جاءت البركة مناسبة لتكرار تلك الخطوات المباركة, والقرب من تلك النسمة" بفتح النون والسين "المرتفعة" مبتدأ, خبره "لا خفاء فيه إلا على ملحد" مائل عن الصواب, "أعمى البصيرة، فالمدينة أرفع المدن، والمسجد أرفع المساجد، والبقعة أرفع البقع"، والمراد كون هذه المذكورات كذلك "قضية معلومة" لا تجهل, "وحجة ظاهرة موجودة. انتهى" كلام ابن أبي جمرة.
"وقال الخطابي: المراد من هذا الحديث الترغيب في سكنى المدينة, وأن من لازم ذكر الله في مسجدها آل" أي: رجع "به" أي: يكون سبب لوصوله "إلى روضة الجنة", وقيل: أن تشبيه بليغ، أي: كروضة في تنزل الرحمة وحصول السعادة, "وسُقِيَ يوم القيامة من الحوض" أخذه من قوله: "ومنبري على حوضي" "انتهى".
والأصح أنَّ المراد منبره الذي كان يخطب عليه في الدنيا، ينقل يوم القيامة فينصب على حوضه, ثم تصير قوائمه رواتب في الجنة كما في حديث رواه الطبراني، وقيل: التعبّد عنده يورث الجنة، وقيل: إنه منبر يوضع له هناك، ورد بما روى أحمد برجال الصحيح: "منبري هذا على ترعة من ترع الجنة" قاسم الإشارة ظاهر، أو صريح في أنه منبره الذي كان في الدنيا, والقدرة صالحة.
"وقد تقدم في الخصائص من مقصد المعجزات" وهو الرابع "مزيد لذلك" قليل.(12/229)
وعند مسلم من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام".
وقد اختلف العماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل؟
فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد -في أصح الروايتين عنه, وابن وهب ومطرف وابن حبيب -الثلاثة من المالكية, وحكاه الساجي عن عطاء بن أبي رباح، والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة، وجماهير العلماء، أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تشرف بفضل العبادة فيها على
__________
"وعند مسلم من حديث ابن عمر" عبد الله، ومن حديث ابن عباس عن ميمونة أيضًا، والشيخين معًا من حديث أبي هريرة، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل"
هكذا رواه ابن عمر وميمونة بلفظ: أفضل، وراه أبو هريرة عند الشيخين بلفظ: خير، وفي رواية عنه لمسلم: أفضل، وهما بمعنى, "من ألف صلاة فيما سواه, إلّا المسجد الحرام" بالنصب استثناء، وروي بالجر على أنَّ إلّا بمعنى غير.
قال النووي: ينبغي أن يحرص المصلي على الصلاة في الموضع الذي كان في زمنه -صلى الله عليه وسلم- دون ما يزيد فيه بعده؛ لأن التضعيف إنما ورد في مسجده, وقد أكده بقوله: هذا بخلاف مسجد مكة, فإنه يشمل جميع مكة، بل صحَّحَ النووي أنه يعم جميع الحرم.
كذا في الفتح, "وقد اختلف العلماء في المراد بهذا الاستثناء على حسب اختلافهم في مكة والمدينة أيهما أفضل، فذهب سفيان بن عيينة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه" عند أصحابه, "وابن وهب ومطرف" صاحبًا مالك, "وابن حبيب" تابع أتباعه, "الثلاثة من المالكية" المتقدِّمين, واختاره ممن بعدهم ابن عبد البر وابن رشد وابن عرفة, "وحكاه الساجي" بسين وجيم- الإمام الحافظ زكريا بن يحيى الضبي البصري، مات سنة سبع وثلاثمائة عن نحو تسعين سنة, "عن عطاء بن أبي رباح, والمكيين والكوفيين، وحكاه ابن عبد البر عن عمر" ابن الخطاب, وهو خلاف الآتي في المتن, وهو المروي في الموطأ وغيره عن عمر, تفضيل المدينة, "وعلي وابن مسعود وأبي الدرداء وجابر وابن الزبير وقتادة وجماهير العلماء أن مكة أفضل من المدينة، وأن مسجد مكة أفضل من مسجد المدينة؛ لأن الأمكنة تفضل بفضل العبادة فيها على غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة".(12/230)
غيرها مما تكون العبادة فيها مرجوحة.
وقد حكى ابن عبد البر أنه روي عن مالك ما يدل على أن مكَّة أفضل الأرض كلها، قال: ولكن المشهور عن أصحابه في مذهبه تفضيل المدينة. انتهى.
وقال مالك: المدينة ومسجدها أفضل.
ومما احتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله بن الحمراء, أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت" , قال الترمذي: حسن صحيح. وقال ابن عبد البر: "هذا أصح الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم, قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى.
__________
"وقد حكى ابن عبد البر أنه روى عن مالك ما يدل على أن مكة أفضل الأرض كلها" هي رواية ضعيفة، ولذا قال: ولكن المشهور عند أصحابه في مذهب تفضل المدينة انتهى.
"وقال مالك" وأكثر أهل المدينة وعمر بن الخطاب وجماعة "المدينة" أفضل من مكة ومسجدها أفضل" من مسجد مكة, واختاره كثير من الشافعية, من آخرهم السيوطي، فقال: المختار تفضيل المدينة, والشريف السمهودي والمصنف كما يأتي معتذرًا عن مخالفة مذهبه، بأنَّ هوى كل نفس أين حل حبيبها, "ومما أحتج به أصحابنا لتفضيل مكة حديث عبد الله" بن عدي بالدال "ابن الحمراء" القرشي الزهري، ويقال: إنه ثقفي حالف بني زهرة, وكان ينزل قديدًا وأسلم في الفتح وسكن المدينة.
قال البغوي: لا أعلم له غير هذا الحديث، وهو "أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو واقف على راحلته" كذا في النسخ, والذي في الحديث على الحزورة -بفتح المهملة وإسكان الزاي فواو مفتوحة فراء فهاء تأنيث: سوق كانت بمكة أدخلت في المسجد, وقد قدمه المصنف في الهجرة على الصواب "يقول: "والله إنك لخير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا إني أخرجت منك ما خرجت".
وفي رواية: "ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت منك" أي: تسببوا في إخراجي, "قال الترمذي: حسن صحيح", قال في الإصابة: تفرَّد به الزهري, واختلف عليه فيه، فقال الأكثر: عن الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء, وقال معمر: عنه عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ومرة أرسله، وقال ابن أخي الزهري عنه، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عدي, والمحفوظ الأول, "وقال ابن عبد البر: هذا أصح الآثار عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: وهذا قاطع في محل الخلاف. انتهى".(12/231)
فعند الشافعي والجمهور معناه -أي: الحديث: "إلّا المسجد الحرام" فإنَّ الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي.
وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف.
وعن عبد الله بن الزبير قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد، إلّا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا" رواه أحمد وابن حزيمة وابن حبان في صحيحه وزاد: يعني في مسجد المدينة، والبزار ولفظه: "صلاة في مسجدي هذا
__________
وجوابه أنه إنما يكون قاطعًا لو قاله بعد حصوله فضل المدينة، أما حيث قاله قبل ذلك فليس بقاطع؛ لأن التفضيل إنما يكون بين أمرين يتأتَّى بينهما تفضيل, وفضل المدينة لم يكن حصل حينئذ حتى يكون هذا حجة، وحاصل الجواب أنه قاله قبل أن يعمل بفضل المدينة، وأجيب أيضًا بأنها خير الأرض ما عدا المدينة، كما قالوا بكلٍّ منهما في قوله -صلى الله عليه وسلم- لمن قال له: يا خير البرية, ذاك إبراهيم.
"فعند الشافعي والجمهور معناه، أي: الحديث: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه أفضل من الصلاة في مسجدي" بناءً على قولهم بفضل مسجد مكة على مسجد المدينة.
"وعند مالك وموافقيه: إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة في مسجدي تفضله بدون الألف", ويؤيده أن في بعض طرق حديث أبي هريرة عند مسلم والنسائي: "إلا المسجد الحرام، فإني آخر الأنبياء ومسجدي آخر المساجد".
قال عياض: هذا ظاهر في تفضيل مسجده لهذه العلة، قال القرطبي: لأنَّ ربط الكلام بقاء التعليل يشعر أن مسجده إنما فضل على المساجد كلها؛ لأنه متأخر عنها, ومنسوب إلى نبي متأخر عن الأنبياء كلهم, فتدبره، فإنه واضح. انتهى.
وقال ابن بطال: يجوز في الاستثناء أن يكون المراد: فإنه مساوٍ لمسجد المدينة أو فاضلًا أو مفضولًا، والأوّل أرجح؛ لأنه لو كان فاضلًا أو مفضولًا لم يعلم مقدار ذلك إلّا بدليل, بخلاف المساواة, قيل: "كأنه لم ير دليل كونه فاضلًا, "و" هو ما جاء "عن عبد الله بن الزبير، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد, إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا".
رواه أحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه، وزاد: يعني: في مسجد المدينة" بيان(12/232)
أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلا المسجد الحرام, فإنه يزيد عليه مائة". قال المنذري: وإسناده صحيح أيضًا.
ومما يستدل به المالكية، ما ذكره ابن حبيب في "الواضحة" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه, وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه".
__________
لاسم الإشارة، قال ابن عبد البر: اختلف على ابن الزبير في رفعه ووقفه، ومن رفعه أحفظ وأثبت, ومثله لا يقال بالرأي", ورواه أيضًا "البزار ولفظه: "صلاة في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه, إلا المسجد الحرام، فإنه يزيد عليه مائة" والصلاة فيه بألف، فتكون الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في مسجد المدينة.
"قال المنذري: وإسناده صحيح", وفي ابن ماجه عن جابر مرفوعًا: "صلاة في مسجدي أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام خير من مائة ألف صلاة فيما سواه" وفي بعض نسخه: "من مائة صلاة فيما سواه" , فعلى الأول معناه: إلا مسجد المدينة، وعلى الثاني معناه: من مائة صلاة في مسجد المدينة، وللبزار والطبراني عن أبي الدرداء رفعه: "الصلاة في مسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة".
قال البزار: إسناده حسن، فوضح أن المراد بالاستثناء تفضل الصلاة في المكي على الصلاة في المدني، ولكن كل ذلك لا يقتضي تفضيل المكي عليه؛ لأن أسباب التفضيل لم تنحصر في المضاعفة كما يأتي عن الشريف، ثم التضعيف المذكور يرجع إلى الثواب ولا يتعدى إلى الأجزاء باتفاق العلماء، كما نقله النووي وغيره، فمن عليه صلاتان فصلى في أحد المسجدين صلاة لم تجزه إلا عن واحدة.
"ومما يستدل به المالكية ما ذكره ابن حبيب في الواضحة".
وأخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عمر "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "صلاة في مسجدي كألف صلاة فيما سواه" زاد في رواية البيهقي: إلا المسجد الحرام, "وجمعة في مسجدي كألف جمعة فيما سواه، ورمضان في مسجدي كألف رمضان فيما سواه".
لفظ رواية البيهقي: "وصيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها" وهذه أوسع، إذا قد يصوم بالمدينة ولا يكون بالمسجد؛ لعذر أو لغيره كالنساء، وأخرج الطبراني والضياء المقدسي عن بلال بن الحارث المزني، رفعه: "رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان".(12/233)
ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين -كما قاله القاضي عياض: إن المدينة أفضل، وهو أحد الروايتين عن أحمد.
وأجمعوا على أن الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض، حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي والقاضي عياض، بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي في "فضائل المدينة", عن ابن عقيل الحنبلي: إنها أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات, ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا. ولم أر من تعرض لذلك، والذي أعتقده لو أن ذلك عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه، وقد جاء أن السماوات شرفت
__________
وللبزار عن ابن عمر، رفعه: "رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة" , وللبيهقي عن جابر رفعه: "الصلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام, والجمعة في مسجدي هذا أفضل من ألف جمعة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وشهر رمضان في مسجدي هذا أفضل من ألف شهر فيما سواه إلا المسجد الحرام".
"ومذهب عمر بن الخطاب وبعض الصحابة وأكثر المدنيين" أي: علماء المدينة -كما قال القاضي عياض: إن المدينة أفضل, وهو إحدى الروايتين عن أحمد", والصحيح المشهور عن مالك, والأدلة كثيرة من الجانبين, حتى مال بعضهم إلى تساوي البلدين, "وأجمعوا على أنَّ الموضع الذي ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- أفضل بقاع الأرض حتى موضع الكعبة، كما قاله ابن عساكر والباجي" أبو الوليد سليمان بن لف, الحافظ الفقيه, "والقاضي عياض" معبرًا بقوله: موضع قبره، والظاهر أن المراد جميع القبر لا خصوص ما لاقى الجسد الشريف؛ لأنه يقال عرفًا للقبر ضمّ الأعضاء، ويؤيد ذلك قول القائل في قصيدة أولها:
دار الحبيب أحق أن تهواها
إلى أن قال:
جزم الجميع بأن خير الأرض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكى مأواها
"بل نقل التاج السبكي كما ذكره السيد السمهودي" بفتح السين وسكون الميم, "في فضائل المدينة, عن ابن عقيل الحنبلي أنها" أي: البقعة التي قُبِرَ فيها المصطفي -صلى الله عليه وسلم "أفضل من العرش، وصرَّح الفاكهاني بتفضيلها على السماوات، ولفظه: وأقول أنا: وأفضل من بقاع السماوات أيضًا، ولم أر مَنْ تعرَّض لذلك" بالنص عليه, "والذي أعتقده أن ذلك لو عرض على علماء الأمة لم يختلفوا فيه".(12/234)
بمواطئ قدميه، بل لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى.
وحكاه بعضهم عن الأكثرين لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض، أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة.
وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض، من أنَّ الأماكن والأزمان كلها متساوية، ويفضلان بما يقع فيهما, لا بصفات قائمة بهما. قال: ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل الله العباد فيهما من فضله وكرمه، والتفضيل الذي فيهما أنَّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين فيهما. انتهى ملخصًا.
__________
"وقد جاء أن السماوات شرفت بمواطئ قدميه, بل" إضراب انتقالي, "لو قال قائل: إن جميع بقاع الأرض أفضل من جميع بقاع السماء لشرفها؛ لكونه -صلى الله عليه وسلم- حالًّا فيها لم يبعد، بل هو عندي الظاهر المتعيّن. انتهى" كلام الفاكهاني.
"وحكاه" أي: تفضيل الأرض على السماء, "بعضهم عن الأكثرين" من العلماء, "لخلق الأنبياء منها ودفنهم فيها، لكن قال النووي: والجمهور على تفضيل السماء على الأرض"؛ لأنها لم يعص الله فيها، ومعصية إبليس لم تكن فيها أو كانت فيها، ولكن لندورها, كأنه لم يعص فيها أصلًا، وصحَّحه بعضهم, وبعض آخر صحَّح الأول، فهما قولان مرجحان, ومحل الخلاف فيما عدا القبر الشريف، كما قال "أي: ما عدا ما ضمّ الأعضاء الشريفة" فإنها أفضل إجماعًا، بل قال البرماوي عن شيخه السراج البلقيني: الحق أن مواضع أجساد الأنبياء وأرواحهم أشرف من كل ما سواها من الأرض والسماء, ومحل الخلاف غير ذلك. انتهى.
"وقد استشكل ما ذكره من الإجماع على أفضلية ما ضمّ أعضاءه الشريفة على جميع بقاع الأرض، ويؤيده ما قاله الشيخ عز الدين" الذي قاله غيره: إن المستشك هو العز "بن عبد السلام في تفضيل بعض الأماكن على بعض, من أن الأماكن والأزمان كلها متساوية, ويفضلان بما يقع فيهما" من الأعمال, "لا بصفة قائمة فيهما".
"وقال" العز: "ويرجع تفضيلهما إلى ما ينيل" أي: يعطي, "الله العباد فيهما من فضله وكرمه والتفضيل الذي فيهما" هو "أنّ الله تعالى يجود على عباده بتفضيل أجر العاملين(12/235)
لكن تعقَّبه الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما, وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة والرضوان والملائكة، وله عند الله من المحبَّة, ولساكنه ما تقصر العقول عن إدراكه، وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل؟ وليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا، ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق للنبي -صلى الله عليه وسلم.
وأيضًا فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حي كما تقرره، وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعمالنا نحن.
قال: ومن فهم هذا انشرح صدره, لما قاله القاضي عياض من تفضيل ما ضمّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم- باعتبارين: أحدهما: ما قيل: إنَّ كل أحد يدفن في الموضع
__________
فيهما" قال العز: وموضع القبر الشريف لا يمكن العمل فيه؛ لأن العمل فيه يحرم فيه عقاب شديد.
"انتهى ملخصًا، لكن تعقبه" تلميذه العلامة الشهاب القرافي, بأنَّ التفضيل للمجاورة والحلول كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود، فلا يمسه محدث, ولا يلابس بقذر, لا لكثرة الثواب, وإلا لزمه أن لا يكون جلد المصحف، بل ولا المصحف نفسه أفضل من غيره؛ لتعذر العمل فيه, وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة, وأسباب التفضيل أعمّ من الثواب، فإنها منتهية إلى عشرين قاعدة, وبيِّنَها كلها في كتابه الفروق، ثم قال: إنها أكثر, وأنه لا يقدر على إحصائها خشية الإسهاب. انتهى.
وكذا تعقَّبه "الشيخ تقي الدين السبكي بما حاصله: إن الذي قاله لا ينفي أن يكون التفضيل لأمر آخر فيهما" أي: الأزمنة والأمكنة, "وإن لم يكن عمل؛ لأن قبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه من الرحمة, ولساكنه, ما تقصر العقول عن إدراكه, وليس ذلك لمكان غيره، فكيف لا يكون أفضل، و" والحال أنه, "ليس محل عمل لنا؛ لأنه ليس مسجدًا, ولا له حكم المسجد، بل هو مستحق" أي: حق للنبي -صلى الله عليه وسلم, وأيضًا" وجه آخر "فقد تكون الأعمال مضاعفة فيه باعتبار أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حي -كما تقرّر" وأنه يصلي في قبره بأذان وإقامة, "وأن أعماله مضاعفة فيه أكثر من" مضاعفة عمل, "كل أحد، فلا يختص التضعيف بأعملنا نحن" أيها الأمة.
"قال" السبكي: "ومن فهم هذا انشرح صدره لما قاله القاضي عياض" تبعًا للباجي وابن عساكر, "من تفضيل ما ضمَّ أعضاءه الشريفة -صلى الله عليه وسلم باعتبارين:"
"أحدهما" باعتبار "ما قيل: إن كل أحد يدفن في الموضع الذي خلق منه" ولذا أشكل(12/236)
الذي خلق منه، والثاني: تنزل الملائكة والبركات عليه، وإقبال الله تعالى. ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته, ولكن لأجل من حلَّ فيه -صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وقد روى أبو يعلي عن أبي بكر أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض النبي إلّا في أحبّ الأمكنة إليه" , ولا شكَّ أن أحبها إليها أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحبَّ إلى الله ورسوله كيف لا يكون أفضل؟ وقد قال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن إبراهيم دعاك لمكة, وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك إبراهيم لمكة ومثله معه" , ولا ريب أن دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من دعاء إبراهيم؛ لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي. وقد صحَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
قول ابن عباس: أصل طينته -صلى الله عليه وسلم- من سرة الأرض بمكة, يعني: موضع الكعبة، وأجاب في العوارف بأن الماء، أي: الذي كان عليه العرش لما تموَّج رمي الزيد إلى النواحي، فوقعت طينة النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة, كما بسطه المصنف أول الكتاب.
"والثاني: تنزل الرحمة والبركات عليه وإقبال الله تعالى" قال السمهودي: والرحمات النازلات بذلك المحل يعمّ فيضها الأمة, وهي غير متناهية لدوام ترقياته -صلى الله عليه وسلم, فهو منبع الخيرات. انتهى. "ولا نسلم أن الفضل للمكان لذاته, ولكن لأجل من حلَّ فيه -صلى الله عليه وسلم: انتهى".
"وقد روى أبو يعلى عن أبي بكر" الصديق, "أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يقبض" يموت "ني, إلّا في أحبِّ الأمكنة إليه"، ولا شكَّ أن أحبها إليه أحبها إلى ربه تعالى؛ لأن حبه تابع لحب ربه -جلَّ وعلا، وما كان أحب لله ورسوله فكيف لا يكون أفضل، وقد قال عليه السلام: "اللهم إن إبراهيم" عبدك ونبيك وخليلك, وإني عبدك ونبيك, وإن إبراهيم "قد دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعا إبراهيم لمكة ومثله معه".
أخرجه مسلم والموطأ وغيرهما, عن أبي هريرة في حديث: "ولا ريب أن دعاءه أفضل من دعاء إبراهيم، لأن فضل الدعاء على قدر فضل الداعي" خصوصًا، وقد قال ومثله معه, قال بعض العلماء: قد استجاب الله دعوته للمدينة، فصار يجبى إليها في زمن الخلفاء الراشدين من مشارق الأرض ومغاربها ثمرات كل شيء.
وكذا مكة بدعاء الخليل، وزادت عليها المدينة لقوله: ومثله معه شيئين.
إحداهما: في ابتداء الأمر وهو كنوز كسرى وقيصر وغيرهما وإنفاقها في سبيل الله على أهلها.
وثانيهما: في آخر الأمر، وهو أن الإيمان يأرز إليها من الأقطار. انتهى.(12/237)
"اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" , وفي رواية "بل أشد" وقد أجيبت دعوته, حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها. وروى الحاكم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي, فأسكني في أحب البقاع إليك" أي: فيه موضع تصيره كذلك، فيجتمع فيه الحبان، قيل: وضعَّفه ابن عبد البر، ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة؛ لحديث "إن مكة خير بلاد الله"، وفي رواية "أحب أرض الله إلى الله"، ولزيادة التضعيف بمسجد مكة.
وتعقبه العلامة السيد السمهودي: "بأن ما ذكر لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيّرها الله كذلك. وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة، وإظهار الدِّين، وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها وأنال بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر إجابة دعوته، وصيرورتها أحب مطلقًا بعد، ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم
__________
وصحَّ في البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة في حديث "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد".
"وفي رواية: بل أشد", فأوفى الأولى للإضراب، فاستجاب الله له، فكانت أحب إليه من مكة كما جزم به السيوطي, ونحوه قوله: "وقد أجيبت دعوته حتى كان يحرك دابته إذا رآها من حبها" أي: المدينة، كما رواه البخاري عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا قدم من سفر فنظر إلى جدران المدينة أوضع, وإن كان على دابة حركها من حبها.
"وروى الحاكم" في المستدرك, وأبو سعد في الشرف عن أبي هريرة "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي, فاسكنِّي في أحب البقاع إليك"، أي: في موضع تصيره كذلك فيجتمع فيه الحبان" وتمامه, فأسكنه الله المدينة.
"قيل: وضعَّفه ابن عبد البر" فقال: لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه, "ولو سلمت صحته فالمراد: أحب إليك بعد مكة لحديث "إن مكة خير بلاد الله".
"وفي رواية: "أحب أرض الله إلى الله" ولزيادة التضعيف بمسجد مكة" في الصلوات, "وتعقبه العلامة السيد السمهودي، بأن ما ذكر" من الحديث والتضعيف "لا يقتضي صرفه عن ظاهره؛ إذ القصد به الدعاء لدار هجرته بأن يصيرها الله كذلك، وحديث: "إن مكة خير بلاد الله" محمول على بدء الأمر قبل ثبوت الفضل للمدينة, وإظهار الدِّين, وافتتاح البلاد منها حتى مكة، فقد أنالها" أي: المدينة "وأنال:" أعطى "بها ما لم يكن لغيرها من البلاد، فظهر" بذلك "إجابة دعوته وصيرورتها أحب مطلقًا" أي: من مكة وغيرها "بعد" بالضم، أي: بعد حلوله فيها(12/238)
الإقامة بها، وحثَّ هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل.
قال: وأمَّا مزيد المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك، فالصلوات الخمس بمنى للمتوجه لعرفة أفضل منها بمسجد مكة، وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع ما يربو عليها، ومذهبنا: شمول المضاعفة للنَّفل مع تفضيله بالمنزل، ولهذا قال عمر -رضي الله عنه- بمزيد المضاعفة لمسجد مكة، مع قوله بتفضيل المدينة، ولم يصب من أخذ من قوله بمزيد المضاعفة: تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول مزية ليست للفاضل، مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا, وقد يبارك في العدد القليل فيربو على الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة.
وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة فقط، فالجواب: إن الكلام فيما
__________
ولهذا افترض الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم- الإقامة بها" حيًّا وميتًا, "وحثَّ هو -صلى الله عليه وسلم- على الاقتداء به في سكناها والموت بها، فكيف لا تكون أفضل" من مكة.
"قال" السمهودي: "وأما مزيد" أي: زيادة "المضاعفة، فأسباب التفضيل لا تنحصر في ذلك" أي: مزيد المضاعفة, "فالصلوات الخمس بمنى للمتوجِّه لعرفة أفضل منها" أي: من صلاتها "بمسجد مكة, وإن انتفت عنها المضاعفة؛ إذ في الاتباع" لفعل النبي -صلى الله عليه وسلم؛ حيث صلَّاها بمنى, "ما يربو" يزيد عليها, أي: المضاعفة, "ومذهبنا" أي: الشافعية "شمول المضاعفة للنقل", وبه قال مطرف صاحب مالك, "مع تفضيله بالمنزل" مع أنه لا مضاعة فيه, "ولهذا قال عمر" بن الخطاب "بمزيد المضاعفة لمسجد مكة" على مسجد المدينة, "مع قوله" أي: عمر "بتفضيل المدينة" ومسجدها على مكة ومسجدها؛ لأن التفضيل لم ينحصل في المضاعفة "ولم يصب من أخذ من قوله" أي: عمر "بمزيد المضاعفة" أنه يرى "تفضيل مكة؛ إذ غايته أن للمفضول" مسجد مكة "مزية ليست للفاضل" مسجد المدينة, والمزية لا تقتضي الأفضلية, "مع أن دعاءه -صلى الله عليه وسلم- بمزيد تضعيف البركة بالمدينة على مكة شامل للأمور الدينية أيضًا"؛ إذ لا وجه لتخصيصه بالدنيوية, "و" لا يرد مزيد التضعيف؛ لأنه "قد يبارك في العدد القليل فيربو" يزيد نفعه على العدد "الكثير، ولهذا استدلّ به على تفضيل المدينة"؛ إذ لو لم يكن كذلك ما صحَّ الاستدلال, "وإن أريد من حديث المضاعفة الكعبة" نائب فاعل أريد "فقط".
"فالجواب أنَّ الكلام فيما عداها, فلا يرد شيء مما جاء في فضلها", فإنها تلي القبر(12/239)
عداها، فلا يرد شيء مما جاء في فضلها، ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها، ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش المخزومي: أنت القائل: لمكة خير من المدينة؟ فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه وفيها بيته، فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، ثم كرر عمر قوله الأول، فأعاد عبد الله جوابه، فأعاد له: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا، فأشير إلى عبد الله فانصرف.
وقد عوضت المدينة عن العمرة، ما صحَّ في إتيان مسجد قباء، وعن الحج ما جاء في فضل الزيارة النبوية والمسجد، والإقامة بعد النبوة بالمدينة, وإن كانت أقل من الإقامة مكة على القول به، فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره، ونزول أكثر
__________
الشريف, فهي أفضل من بقية المدينة اتفاقًا كما في كلام السمهودي, "ولا ما بمكة من مواضع النسك لتعلقه بها".
"ولذا قال عمر لعبد الله بن عياش" بتحتية وشين معجمة- ابن أبي ربيعة, القرشي المخزومي, وأبوه قديم الإسلام, وهاجر إلى الحبشة، فولد له عبد الله هذا بها, وأدرك من حياته -صلى الله عليه وسلم- ثمان سنين, وحفظ عنه.
وروى عن عمر وغيره, ومات سنة أربع وستين: "أنت القائل: لمكة" بفتح اللام للتأكيد, "خير" أي: أفضل "من المدينة, فقال عبد الله: هي حرم الله وأمنه, وفيها بيته" الكعبة، وما أضيف لله خير مما أضيف لرسوله, "فقال عمر: لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" يعني: إنه ليس من محلّ الخلاف ولم أسألك عنه، وإنما سألتك عن البلدين, "ثم كرّر عمر: "لينظر هل تغيّر اجتهاده إلى موافقة عمر في تفضيل المدينة, "قوله الأول: أنت" القائل..... إلخ.
"فأعاد عبد الله جوابه": هي حرم الله..... إلخ, فأعاد له عمر" قوله: "لا أقول في حرم الله وبيته شيئًا" وما تغيّر اجتهاد واحد منهما لموافقة الآخر، والقصة رواها مالك في الموطأ مطوَّلة عن أسلم مولى عمر، وفيها أنهم كانوا بطريق مكة, ولكن قال في آخرها: ثم انصرف ولم يقل, "فأشير إلى عبد الله فانصرف، وقد عوضت المدينة عن العمرة ما صحَّ في إتيان مسد قباء والمسجد" النبوي، وفي الحجج المبينة عن أبي أمامة مرفوعًا: "من خرج على طهر لا يريد إلا الصلاة في مسجدي هذا, حتى يصلي فيه, كان بمنزلة حجة". انتهى.
"والإقامة بعد النبوة بالمدينة وإن كانت أقلّ من الإقامة بمكة" بثلاث سنين, "على القول به", وهو الصحيح, "فقد كانت سببًا لإعزاز الدين وإظهاره, ونزول أكثر الفرائض" إذ لم يفرض(12/240)
الفرائض وإكمال الدّين، حتى كثر تردّد جبريل عليه السلام بها، ثم استقرَّ بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة, ولهذا قيل لمالك: أيما أحب إليك المقام هنا -يعني المدينة- أو مكة؟ فقال: هنا، وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة؟
وروى الطبراني حديث "المدينة خير من مكة" , وفي رواية للجندي "أفضل من مكة" , وفيه: محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات, وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة: ليّن، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم: ليس بقوي.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد".
__________
بمكة بعد الإيمان سوى الصلاة على المعروف, "وإكمال الدّين حتى كثر تردّد" مجيء جبريل -عليه السلام- بها، ثم استقرَّ بها -صلى الله عليه وسلم- إلى قيام الساعة" ولا يوازي ذلك شيء, "ولهذا قيل لمالك": "أيما أحب إليك المقام هنا؟ يعني: المدينة أو مكة، فقال: ههنا" أحب إلي, "وكيف لا أختار المدينة وما بها طريق إلّا سلك عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وجبريل ينزل عليه من عند رب العالمين في أقلّ من ساعة" مدة من الزمن، فأيّ فضل يعادل هذا.
"وروى الطبراني" في الكبير, والدارقطني "حديث" رافع بن خديج: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "المدينة خير من مكة"؛ لأنه إذا تأمَّل ذو البصيرة لم يجد فضلًا أعطيته مكة إلا وأعطيت المدينة نظيره، أو أعلى منه, كما في الحجج المبينة، وزادت ببقاء المصطفى فيها إلى يوم القيامة.
"وفي رواية للجندي" بفتح الجيم والنون ودال مهملة- نسبة إلى الجند, بلد باليمن: "أفضل من مكة" وهما بمعنى, لكن أفضل أصرح, "وفيه محمد بن عبد الرحمن الرداد، ذكره ابن حبان في الثقات".
"وقال: كان يخطيء، وقال أبو زرعة" الرازي, الحافظ عبيد الله بن عبد الكريم: "لين، وقال ابن عدي: روايته ليست محفوظة، وقال أبو حاتم" محمد بن إدريس الرازي: "ليس بقوي", وحاصله أنه ضعيف متماسك".
"وفي الصحيحين:" في الحج, والنسائي فيه، وفي التفسير, كلهم من طريق مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أمرت" بالبناء للمفعول "بقرية تأكل القرى, يقولون" أي: بعض المنافقين "يثرب" باسم واحد من العمالقة نزلها(12/241)
أي: أمرني الله بالهجرة إليها، إن كان قاله -صلى الله عليه وسلم- بمكة، أو بسكناها، إن كان قاله بالمدينة.
وقال القاضي عبد الوهاب: لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى وزيادتها على غيرها.
__________
أو يثرب بن فانية, من ولد أرم بن سام بن نوح, وكان اسمًا لموضع منها سميت به كلها, وكرهه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من التثريب الذي هو التوبيخ والملازمة, أو من الثرب وهو الفساد, وكلاهما قبيح، وقد كان يحب الاسم الحسن ويكره القبيح، ولذا أبدله بطيبة وطابة والمدينة كما قال: "وهي المدينة" أي: الكاملة على الإطلاق؛ كالبيت للكعبة, فهو اسمها الحقيق بها؛ لدلالة التركيب على التفخيم كقوله الشاعر:
هم القوم كل القوم يا أم خالد
أي: المستحقة لأن تتخذ دار إقامة, وتسميتها في القرآن يثرب إنما هو حكاية عن المنافقين.
وروى أحمد عن البراء بن عازب رفعه: "من سمَّى المدينة يثرب فليستغفر الله, هي طابة هي طابة" وروى عمر بن شبة عن أبي أيوب أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يقال للمدينة يثرب.
ولهذا قال عيسى بن دينار: من سمَّى المدينة يثرب كتبت عليه خطيئة, وحديث الهجرة في الصحيحين، فإذا هي يثرب، وفي رواية: لا أراها إلا يثرب, كان قبل النهي, "تنفي" المدينة "الناس" أي: الحديث الرديء منهم في زمنه -صلى الله عليه وسلم، أو في زمان الدجال, "كما ينف الكير" بكسر الكاف وسكون التحتية.
قال في القاموس: زق ينفخ فيه الحداد, وأما المنبني من طين فكور, "خبث" بفتح المعجمة والموحدة ومثلثة "الحديد" أي: وسخه الذي تخرجه النار، أي: إنها لا تبقي فيها من في قلبه دغل، بل تميزه عن القلوب الصادقة, وتخرجه كما تميز النار رديء الحديد من جيده, ونسب التمييز للكير؛ لأنه السبب الأكبر في اشتعال النار التي وقع التمييز بها.
وقد خرج من المدينة بعد الوفاة النبوية معاذ وأبو عبيدة وابن مسعود في طائفة، ثم علي وطلحة والزبير وعمّار وآخرون, وهم من أطيب الخلق، دلَّ على أن المراد بالحديث تخصيص ناس دون ناس, ووقت دون ووقت, وقوله: "أمرت بقرية" أي: أمرني الله" تعالى "بالهجرة إليها إن كان قاله -عليه السلام- بمكة" أن يهاجر, "أو بسكناها إن كان قاله بالمدينة".
"وقال القاضي عبد الوهاب" البغدادي، ثم المصري: وبها مات "لا معنى لقوله: "تأكل القرى" إلّا رجوح فضلها عليها، أي: على القرى, وزيادتها على غيرها", ومن جملته مكة.(12/242)
وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا، وهذا أبلغ من تسمية مكة "أم القرى"؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم، لكن يكون لها حق الأمومة، انتهى.
ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهله على القرى، والأقرب: حمله عليهما؛ إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى ما قاله السيد السمهودي.
وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة، وإن كان مذهب إمامنا الشافعي -رحمه الله- تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها.
عليَّ لربع العامرية وقفة ... ليملي على الشوق والدمع كاتب
__________
"وقال" الزين "بن المنير" في حاشية البخاري، "قال السهيلي في التوراة: يقول الله: يا طابة, يا مسكينة, إني سأرفع أجاجيرك على أجاجير القرى. وهو قريب من قوله: "تأكل القرى"؛ لأنها إذا علت عليها علوّ الغلبة أكلتها، و"يحتمل أن يكون المراد بذلك غلبة فضلها على فضل غيرها، أي: إن الفضائل تضمحل" بمعجمة فميم فمهملة فلام- تذهب, "في جنب عظيم فضلها حتى تكون عدمًا" أي: يغلب فضلها الفضائل حتى إذا قيست بفضلها تلاشت بالنسبة إليها، فهو لمراد بأكل, "وهذا أبلغ من تسمية مكة أم القرى؛ لأن الأمومة لا ينمحي معها ما هي له أم, لكن يكون لها حق الأمومة. انتهى" كلام ابن المنير, وبقيته: وما تضمحل له الفضائل أفضل وأعظم مما تبقى معه الفضائل, "ويحتمل أن يكون المراد غلبة أهلها على القرى" يعني: إن أهلها تغلب أهل سائر البلاد فتفتح منها، يقال: أكلنا بني فلان، أي غلبناهم وظهرنا عليهم، فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناء الأكل إياه، وفي موطأ ابن وهب، قلت لمالك: ما تأكل القرى؟ قال: تفتح القرى, "والأقرب حمله عليهما" بالتثنية، أي: على غلبتها على القرى, وغلبة فضلها على فضل غيرها؛ "إذ هو أبلغ في الغرض المسوق له. انتهى".
"ما قاله السيد السمهودي" وهو من النفائس الخلية عن عصبية المذهبية, "وقد أطلت في الاحتجاج لتفضيل المدينة على مكة, وإن كان مذهب إمامنا الشافعي -رحمه الله- تفضيل مكة؛ لأن هوى كل نفس أين حلَّ حبيبها" كما قيل:
وقائلة لي ما وقوفك ههنا ... ببرية يعوي من العصر ذيبها
فقلت لها قلي الملامة واقصري ... هوى كل نفس أين حلّ حبيبها
وأنشد لغيره:
عليَّ لربع العامرية وقفة ... ليملي عليَّ الشوق والدمع كاتب(12/243)
ومن مذهبي حب الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
على أنَّ للقلم في أرجاء تفضيل المدينة مجالًا واسعًا ومقالًا جامعًا، لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه، والرهبة من الإكثار تصرف عن تطويله وإفراطه.
وقد استنبط العارف ابن أبي جمرة من قوله -صلى الله عليه وسلم- المروي في البخاري: "ليس من بلد إلا سيطؤه الدجَّال إلا مكة والمدينة" التساوي بين فضل مكة والمدينة. قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، قال: ويؤكد ذلك
__________
ومن مذهبي حبّ الديار لأهلها ... وللناس فيما يعشقون مذاهب
يملي -بضم الياء وكسر اللام- فاعله الشوق، ومن ذلك المعنى قول الشاعر:
وما حب الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
"على أنَّ للقلم في أرجاء" بفتح الهمزة وسكون الراء وجيم- جمع رجا بالقصر: الناحية، أي: في جهات تفضيل "المدينة مجالًا" مصدر ميمي لجال، أي: طوافًا "واسعًا" في بيان أدلة ذلك, "ومقالًا جامعًا" لما تفرَّق "لكن الرغبة في الاختصار تطوي أطراف بساطه, والرهبة" الخوف من "الإكثار تصرف" تصد "عن تطويله وإفراطه".
"وقد استنبط": استخرج العارف بالله ابن أبي جمرة" بجيم وراء "من قوله -عليه السلام- المروي في البخاري", والنسائي في الحج، ومسلم في الفتن, عن أنس مرفوعًا: "ليس من بلد" من البلدان "إلا سيطؤه" يدخله "الدجال" , قال الحافظ: هو على ظاهره وعمومه عند الجمهور، وشذَّ ابن حزم فقال: المراد لا يدخله بجنوده, وكأنه استبعد إمكان دخول الدجَّال جميع البلاد لقصر مدته، وغفل عمَّا في مسلم، أن بعض أيامه يكون قدر سنة, "إلا مكَّة والمدينة" لا يطؤهما, مستثنى من المستثنى لا من بلد في اللفظ، وإلّا ففي المعنى منه؛ لأن ضمير يطؤه عائد على بلد.
وبقية هذا الحديث: "ليس من نقابهما نقب إلّا عليه الملائكة صافّين يحرسونهما, ثم ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج الله كل كافر ومنافق" , "التساوي" مفعول استنبط, "بين مكة والمدينة"؛ حيث قال: وظاهر هذا الحديث يعطي التسوية بينهما في الفضل؛ لأنَّ جميع الأرض يطؤها الدجال إلّا هذين البلدين، فدلَّ على تسويتهما في الفضل، وليس ذلك بلازم، فإنهما متساويان في أشياء كثيرة, ومع ذلك الخلاف في أيهما أفضل.
"قال: ويؤكد ذلك أيضًا من وجه النظر أنه" أي: الشأن "إن كانت خصت المدينة(12/244)
أيضًا من وجه النظر؛ لأنه إن كانت خُصَّت المدينة بمدفنه -صلى الله عليه وسلم- وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه -صلى الله عليه وسلم- بها, ومبعثه منها، وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته الكريمة المباركة مكة، ومغربها المدينة، وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة, مثل إقامته -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة، عشر سنين في كلّ واحدة منهما. كذا قاله.
وأنت إذا تأمَّلت قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث سعد: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه: هلمَّ إلى الرخاء, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون, والذي نفسي بيده, لا يخرج أحد غربة عنها إلّا أخلف الله فيها خيرًا منه".
__________
بمدفنه -عليه السلام- وإقامته بها ومسجده، فقد خُصَّت مكة بمسقطه" أي: ولادته "عليه السلام- بها, ومبعثه منها, وهي قبلته، فمطلع شمس ذاته المباركة مكة, ومغربها المدينة, وإقامته بعد النبوة على المشهور من الأقاويل بمكة, قدر إقامته بالمدينة, عشر سنين في كل واحدة منهما, كذا قاله" تبرأ منه؛ لأنَّ دلالة ما قاله على التساوي ليست بقوية؛ ولأن ما قال: إنه المشهور خلاف المشهور، أنه أقام بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة، وحمه على أنَّ المراد بعشر مكة العشر التي دعا الناس فيها؛ لأن الثلاثة قبلها لم يكن مأمورًا فيها بدعوة, يمنعه قوله على المشهور من الأقاويل؛ إذ لو حمل على ذلك لم يكن خلاف, "وأنت إذا تأمَّلت قوله -عليه السلام- فيما رواه مسلم من حديث سعد".
كذا في النسخ، والذي في مسلم: إنما هو عن أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه" أي: الرجل "هلمَّ" أي: تعال "إلي الرخاء" الزرع والخصب وغير ذلك, "والمدينة خير لهم" من الرخاء؛ لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل في البركات, "لو كانوا يعلمون" بما فيها من الفضائل؛ كالصلاة في مسجدها, وثواب الإقامة فيها, وغير ذلك من الفوائد الدينية والأخروية التي تحتقر دونها الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها, وجواب لو محذوف، أي: ما خرجوا منها، أو لو للتمنى فلا جواب لها، وعلى التقديرين، ففيه تجهيل من فارقها تقويته على نفسه خيرًا عظيمًا, وللبزار برجال الصحيح عن جابر مرفوعًا: "ليأتينَّ على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الخاء, فيجدون رخاء, ثم يتحملون بأهليهم إلى الرخاء, والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون" والأرياف: جمع ريف -بكسر الراء- وهو ما قارب المياه في أرض العرض، وقيل: هو الأرض التي فيها الزرع والخصب، وقيل غير ذلك, "والذي نفسي بيده, لا يخرج أحد رغبة عنها" أي: كراهة لها, من: رغبت عن الشيء إذا كرهته، قاله المازري, "إلا أخلف الله فيها خيرًا منه" بمولود يولد بها، أو(12/245)
ظهر لك أن فيه إشعارًا بذم الخروج من المدينة, بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عام أبدًا مطلقًا، وقال: إنه ظاهر اللفظ.
وفي الصحيح مسلم من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها أحد من أمتي إلّا كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا".
وفيه عن سعيد -مولى المهري- أنه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة، فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها, فقال: ويحك. لا آمرك بذلك، إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو
__________
قدوم خير منه من غيرها, وهذا فيما استوطنها، أمَّا من كان وطنه غيرها فقدمها للقربة ورجع إلى وطنه, أو استوطنها وسافر لحاجة أو شدة أو فتنة, فليس من ذلك.
قاله الباجي: "ظهر لك أن فيه إشعارًا" قويًّا "بذمِّ الخروج من المدينة" رغبةً عنها, كما قيد به الحديث, فلا يرد أن الصحابة الذين خرجوا منها لم تخلف المدينة بمثلهم, فضلًا عن خير منهم, بل نقل الشيخ محب الدين الطبري عن قوم أنه عامّ أبدًا مطلقًا, أي: في زمنه -صلى الله عليه وسلم- وبعده, "وقال" مختارًا له: "إنه ظاهر اللفظ".
وقد اختلف في ذلك, فقال ابن عبد البر وعياض وغيرهما: أنه خاص بزمنه -صلى الله عليه وسلم, وقال آخرون: هو عام في زمنه وبعده، ورجَّحه النووي, وقال الأبي: إنه الأظهر, والذين خرجوا من الصحابة لم يخرجوا رغبة عنها، بل لمصالح دينية.
"وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يصبر على لأواء المدينة وشدتها" أي: اللأواء, أو المدينة احتمالان للمازري، فعلى الأوّل هو عطف تفسير, "أحد من أمتي, إلّا كانت له شفيعًا يوم القيامة, أو شهيدًا" وفيه عن سعيد" صوابه كما في مسلم عن أبي سعيد مولى المهري -بفتح الميم وسكون الهاء وبالراء- نسبة إلى مهرة, قبيلة من قضاعة.
قال المنذري: لا يعرف له اسم, "أنَّه جاء إلى أبي سعيد الخدري ليالي الحرة" بفتح الحاء والراء المهملتين, "فاستشاره في الجلاء" بفتح الجيم والمد- الخروج "من المدينة, وشكا إليه أسعارها" أي: غلوّها "وكثرة عياله، وأخبره أنه لا صبر له على جهد" مشقة "المدينة ولأوائها" عطف مساو, "فقال له أبو سعيد: ويحك, لا آمرك بذلك"، أي: الجلاء, "إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يصبر أحد على لأوائها إلّا كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة".(12/246)
"شهيدًا يوم القيامة".
و"اللأواء" بالمد: الشدة والجوع.
و"أو" في قوله: "إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" الأظهر أنها ليست للشك؛ لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبو سعيد، وأبو هريرة، وأسماء بنت عميس، وصفية بن أبي عبيد، عنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ، ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشك, وتطابقهم فيه على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله -صلى الله عليه وسلم.
وتكون "أو" للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة, وشفيعًا لباقيهم، إمَّا شفيعًا للعاصين وشهيدًا للمطيعين، وإما شهيدًا لمن مات في حياته، وشفيعًا لمن مات بعده، أو غير ذلك.
وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين, أو للعالمين في القيامة، وعلى
__________
إذا كان مسلمًا، هذا تمام الحديث عند مسلم "واللأواء" بفتح اللام وسكون الهمزة بعدها واو، و "بالمد- الشدة" أي: شدة الكسب, "والجوع".
قال عياض في شرح مسلم: سئلت قديمًا عن هذا الحديث, ولم خصَّ ساكن المدينة بالشفاعة هنا مع عموم شفاعته -صلى الله عليه وسلم, وادخاره إياها.
قال: وأجبت عنه بجواب شافٍ مقنع في أوراق اعترف بصوابه كل واقف عليه، وأذكر منه هنا لمعًا تليق بهذا الموضع وأو "في قوله: "إلا كنت له شفيعًا أو شهيدًا" قال بعض شيوخنا: إنها للشك، "والأظهر أنها ليست للشك", فهذا كله كلام عياض قائلًا؛ "لأن هذا الحديث رواه جابر بن عبد الله" الأنصاري "وسعد بن أبي وقاص" عند مسلم والنسائي في حديث بلفظ: "ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلّا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" , "وابن عمرو وأبو سعيد" الخدري, "وأبو هريرة" الثلاثة عند مسلم, "وأسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر, وصفية بنت أبي عبيد" زوجة ابن عمر, في صحبتها خلاف, السبعة عنه -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللفظ", أي: شهيدًا أو شفيعًا "ويبعد اتفاق جميعهم أو رواتهم على الشكّ وتطابقهم" توافقهم "على صيغة واحدة، بل الأظهر أنه قاله -عليه السلام, وتكون أو للتقسيم، ويكون شهيدًا لبعض أهل المدينة, وشفيعًا لباقيهم" بيان للتقسيم، وأوضحه فقال: "إمَّا شفيعًا للعاصين, وشهيدًا للمطيعين" بطاعاتهم, "وإما شهيدًا لمن مات في حياته" صلى الله عليه وسلم, "وشفيعًا لمن مات بعده, أو غير ذلك" مما الله أعلم به كما في كلام عياض, "وهذه خصوصية زائدة على الشفاعة للمذنبين أو للعالمين.(12/247)
شهادته على جميع الأمم، فيكون لتخصيصهم بهذا كله على علو مرتبة وزيادة وحظوة. وإذا قلنا "أو" للشك، فإن كانت اللفظة الصحيحة "شهيدًا" اندفع الاعتراض؛ لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم، وإن كانت اللفظة الصحيحة "شفيعًا" فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة, أنَّ هذا شفاعة أخرى غير العامّة، وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات، أو تخفيف الحساب، أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات؛ لكونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة, أو غير ذلك من خصوص الكرامات.
كيف لا يتحمّل المشقات من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات، وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات، وإنجاز وعده
__________
في القيامة و" زائدة على شهادته على جميع الأمم" بأن أنبيائهم بلغتهم, وحذف من كلام عياض، وقد قال -صلى الله عليه وسلم- في شهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء" , "فيكون لتخصيصهم بهذا كله علوّ مرتبة" منزلة, "وزيادة منزلة وحظوة" بضم المهملة وكسرها الظاء المعجمة- محبَّة ورفعة قدر، وأسقط من كلام عياض: وقد تكون أو بمعنى الواو، فيكون لأهل المدينة شفيعًا وشهيدًا. انتهى.
وقد رواه البزار بالواو برجال الصحيح عن ابن عمر: "وإذا قلنا أو للشك" كما قال المشايخ، كما عبر عياض وهو يفيد أن قوله أولًا بعض شيوخنا, أراد بالبعض جماعة من شيوخه، قالوا: إنها للشك، "فإن كانت اللفظة الصحيحة شهيدًا اندفع الاعتراض" بأن شفاعته عامة؛ "لأنها زائدة على الشفاعة المدَّخرة لغيرهم, وإن كانت اللفظة الصحيحة" أي: الواردة في نفس الأمر "شفيعًا، فاختصاص أهل المدينة بهذا مع ما جاء من عمومها وادخارها لجميع الأمة, إن هذه شفاعة أخرى غير العامَّة" المدَّخرة, وتكون هذه الشفاعة لأهل المدينة بزيادة الدرجات" في الجنة, أو تخفيف الحساب يوم القيامة, "أو بما شاء الله من ذلك، أو بإكرامهم يوم القيامة بأنواع الكرامات، ككونهم على منابر أو في ظل العرش، أو الإسراع بهم إلى الجنة، أو كونهم في روح أو غير ذلك من خصوص الكرامات" الواردة لبعضهم دون بعض، إلى هنا كلام عياض.
وقد نقله عنه النووي: "كيف لا يتحمَّل المشقَّات" استفهام توبيخي, "من يحب أن يتمتع بسيد أهل الأرض والسماوات, وينال ما وعده به من جزيل المثوبات وجسيم الهبات, و" ينال(12/248)
لشفاعته وشهادته, وبلوغ قصده في المحيا والممات، وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها، وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة وشظف العيش مثلها أو أشق منها، وأهلها مقيمون فيها، وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل، وقوي على الرحلة فلا يرتحل، ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال.
على أنَّ المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان، قد وسَّع الله فيها على بعض السكان، حتى من أصحابنا من غير أهلها, مِمَّن استوطنها وحسن فيها حاله، وتنعَّم بها باله, دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك، وإلّا فالصبر للمؤمن أَوْلَى، فمن وفَّقه الله تعالى صبره في إقامته بها ولو على أحر من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها، ويلقي نزرًا من لأوائها؛ ليوقي بذلك من مصائب الدنيا وبلائها.
وقد روى البخاري من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان
__________
"إنجاز" أي: تعجيل "وعده الصادق بشفاعته وشهادته و" ينال "بلوغ قصده في المحيا والممات, وكم عسى تكون شدة المدينة ولأوائها" بالقصر لتوافق السجعة بعده وإن كان ممدودًا, وإلى متى تستمر مشقتها وبلواها، لو تأمَّلت يا هذا لوجدت في البلاد ما هو في الشدة, وشظف" بفتح الشين والظاء المعجمتين وفاء- شدة "العيش" وضيقه "مثلها، أو أشق منها, وأهلها مقيمون فيها" جملة حالية, "وربما يوجد فيهم من هو قادر على الانتقال فلا ينتقل" يتحوَّل عنها, "وقوي على الرحلة فلا يرتحل, ويؤثر وطنه مع إمكان الارتحال والقدرة على الانتقال"؛ لأن حب الوطن من الإيمان, "على أن المدينة مع شظف العيش بها في غالب الأحيان, قد وسَّع الله فيها على بعض السكان, حتى من أصحابنا من غير أهلها, ممن استوطنها وحسن فيها حاله, وتنعَّم بها باله" أي: قلبه, "دون سائر البلدان، فإن مَنَّ الله على المرء بمثل ذلك هنالك" أي: سعة العيش بالمدينة فظاهر؛ لأنها منة عظيمة يجب عليه شكرها, وإلا فالصبر للمؤمن أَوْلَى" {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} , "فمن وفقه الله تعالى" صيره, "رزقه الصبر "في إقامته بها ولو على أمرِّ من الجمر، فيتجرَّع مرارة غصتها؛ ليجتلي عروس منصتها" بكسر الميم- كرسي تقف عليه العروس في جلائها, "ويلقي" يصيب "نزرًا" شيئًا "قليلًا من لأوائها" شدتها؛ "ليوقى" يصان من مصائب الدنيا وبلائها".
"وقد روى البخاري" وابن ماجه في الحج, ومسلم في الإيمان, من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الإيمان ليأرز" بلام التأكيد وهمزة ساكنة وراء مكسورة، وحكى القابسي(12/249)
ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى حجرها" , أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ، مع أنها أصل في انتشاره، فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان، لحبه في ساكنها -صلى الله عليه وسلم، فأكرم بسكانها, ولو قيل في بعضهم ما قيل، فقد حظوا بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل, فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم، فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمم -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا دون جار، وكل ما احتجَّ به محتج مِن رَمْي بعض عوامّهم السنية بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت ذلك في شخص منهم فلا يترك
__________
فتحها، وحكى غيره ضمها، وصوَّب ابن التين الكسر فزاي معجمة، أي: إنَّ أهل الإيمان لتنضمّ وتجتمع "إلى المدينة ,كما تأرز الحية إلى حجرها" بضم الجيم، أي: كما تنضمّ وتلتجئ إليه إذا خرجت في طلب المعاش ثم رجعت, "أي: تنقبض وتنضم وتلتجئ" تفسير للمشبّه والمشبه به, "مع أنها" أي: المدينة "أصل في انتشاره" أي: الإيمان, "فكل مؤمن له من نفسه سائق إليها في جميع الأزمان؛ لحبه في ساكنها -صلى الله عليه وسلم, قال الحافظ: لأنه في زمنه للتعلم منه، وفي زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم للاقتداء بهديهم, ومن بعد ذلك لزيارة قبره -صلى الله عليه وسلم, والصلاة في مسجده, والتبرك بمشاهدة آثاره وآثار أصحابه.
وقال الداودي: كان هذا في حياته -صلى الله عليه وسلم, والقرن الذي كان منهم, والذين يلونهم, والذين يلونهم خاصّة، وقال القرطبي: فيه تنبيه على صحة مذهب أهل المدينة وسلامتهم من البدع, وأن عملهم حجة.
"فأكرم بسكانها، ولو قيل في بعضهم ما قيل, فقد حظوا -بفتح الحاء المهملة وضم الظاء المعجمة بزنة رضوا لأنَّ فعله لازم، فلا يصح ضم الحاء على البناء للمفعول؛ لأنه لا يبني من لازم إلّا إذا وجد ما يصلح للنيابة عن الفاعل بعد حذفه نحو مَرَّ بزيد؛ ولأنَّ شرط البناء للمفعول أن يحذف الفاعل ويقام المفعول, أو نحوه مقامه, وما هنا ليس كذلك, "بشرف المجاورة لهذا الحبيب الجليل، فقد ثبت لهم حق الجوار وإن عظمت إساءتهم, فلا يسلب عليهم اسم الجار، وقد عمَّم -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "ما زال جبريل يوصيني بالجار" ولم يخص جارًا من جار" فشمل الطائع والعاصي, "وكل ما احتج به محتج من رمي بعض عوامهم السنية" بضم السين- أي عوامهم أهل السنة، لكن رمي بعضهم "بالابتداع وترك الاتباع، فإنه إذا ثبت(12/250)
إكرامه، ولا ينتقص احترامه, فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار، ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى, ويمنح بهذا القرب الصوري قرب المعنى.
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
ولله در ابن جابر حيث قال:
هناؤكمو يا أهل طيبة قد حُقَّ ... فبالقرب من خير الورى زتم السبقا
فلا يتحرك ساكن منكم إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله في كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقَّا
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقًّا
__________
ذلك في شخص" أو أشخاص, "منهم لا يترك إكرامه ولا ينتقص احترامه، فإنه لا يخرج عن حكم الجار ولو جار" اعتدى, "ولا يزول عنه شرف مساكنته في الدار كيفما دار، بل يرجى أن يختم له بالحسنى ويمنح" يعطي "بهذا القرب الصوري قرب المعنى" وأنشد لغيره:
فيا ساكني أكناف طيبة كلكم ... إلى القلب من أجل الحبيب حبيب
"ولله در ابن جابر" العلامة محمد "حيث قال:
هناؤكمو يا أهل طيبة قد حقا ... فبالقرب من خير الورى حزتم السبقا
حق ثبت والسبق بسكون الباء التقدم.
فلا يتحرك ساكن منكمو إلى ... سواها وإن جار الزمان وإن شقا
فكم ملك رام الوصول لمثل ما ... وصلتم فلم يقدر ولو ملك الخلقا
فبشراكم نلتم عناية ربكم ... فها أنتم في بحر نعمته غرقى
ترون رسول الله في كل ساعة ... ومن يره فهو السعيد به حقا
أي: ترون آثاره من مسجده وغيره، فهو كقول الآخر:
إن لم تريه فهذه آثاره
متى جئتم لا يغلق الباب دونكم ... وباب ذوي الإحسان لا يقبل الغلقا
فيسمع شكواكم ويكشف ضركم ... ولا يمنع الإحسان حرًّا ولا رقّا(12/251)
بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلحظم فالدهر يجري لكم وفقا
فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكرًا ونعم الله بالشكر تستبقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذلك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا
حياة وموتا تحت رحماه أنتم ... وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حوز النبي وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغي من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى
__________
بطيبة مثواكم وأكرم مرسل ... يلاحظكم فالدهر يجري لكم وفقا
فكم نعمة لله فيها عليكم ... فشكرًا ونعم الله بالشكر تُسْتَبْقى
أمنتم من الدجال فيها فحولها ... ملائكة يحمون من دونها الطرقا
كذاك من الطاعون أنتم بمأمن ... فوجه الليالي لا يزال لكم طلقا
بكسر الطاء وسكون اللام، أي: خالصًا، أو بفتح الطاء وسكون اللام مخففًا من كسرها، أي: فرحًا مسرورًا, ووصفه بذلك تجوزًا.
فلا تنظروا إلا لوجه حبيبكم ... وإن جاءت الدنيا ومرت فلا فرقا
حياة وموتًا تحت رحماه أنتم ... وحشرًا فستر الجاه فوقكم ملقى
فيا راحلًا عنها لدنيا تريدها ... أتطلب ما يفنى وتترك ما يبقى
أتخرج عن حوز النبي وحرزه ... إلى غيره تسفيه مثلك قد حقا
لئن سرت تبغي من كريم إعانة ... فأكرم من خير البرية ما تلقى
هو الرزق مقسوم فليس بزائد ... ولو سرت حتى كدت تخرق الأفقا
فكم قاعد قد وسع الله رزقه ... ومرتحل قد ضاق بين الورى رزقا
فعش في حمى خير الأنام ومت به ... إذا كنت في الدارين تطلب أتٍ ترقا
إذا قمت فيما بين قبر ومنبر ... بطيبة فاعرف أن منزلك الأرقى(12/252)
لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى
وقد روى الترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها" ورواه الطبراني في الكبير من حديث سبيعة الأسلمية.
وفي البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل
__________
لقد أسعد الرحمن جار محمد ... ومن جار في ترحاله فهو الأشقى
ومعنى الأبيات ظاهر فلا حاجة للتطويل بالتعلق بالألفاظ.
"وقد روى الترمذي" وقال حسن صحيح, "وابن ماجه وابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من استطاع" أي: قدر "منكم أن يموت بالمدينة" أي: يقيم بها حتى يموت بها, "فليمت بها" أي: فليقم بها حتى يموت، فهو حضّ على لزوم الإقامة بها ليتأتَّى له أن يموت بها, إطلاقًا للمسبب على سببه كما في: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} , "فإني أشفع لمن يموت بها" أي: أخصه بشفاعة غير العامَّة زيادة في إكرامه, وأخذ منه ندب الإقامة بها مع رعاية حرمتها وحرمة ساكنها.
وقال ابن الحاج: حثَّه على محاولة ذلك بالاستطاعة التي هي بذل المجهود في ذلك, فيه زيادة اعتناء بها، ففيه دليل على تمييزها على مكة في الفضل؛ لإفراده إياها بالذكر هنا، قال السمهودي: وفيه بشرى للساكن بها بالموت على الإسلام لاختصاص الشفاعة بالمسلمين, وكفى بها مزية، فكل من مات بها مبشَّر بذلك.
"ورواه الطبراني في الكبير من حديث" ابن عمر "عن سبيعة" بنت الحرث "الأسلمية" زوج سعد بن خولة, لها حديث في عدة المتوفَّى عنها زوجها, وكذا أخرجه ابن منده في ترجمتها، وقال العقيلي: هي غيرها.
وقال ابن عبد البر: لا يصح ذلك عندي, وانتصر ابن فتحون للعقيلي، فقال: ذكر الثعالبي أن سبيعة بنت الحرث أوّل امرأة أسلمت بعد صلح الحديبية أثر العقد, وطينة الكتاب لم تجف، فنزلت آية الامتحان فامتحنها النبي -صلى الله عليه وسلم, ورَدَّ على زوجها مهر مثلها، وتزوّجها عمر، قال ابن فتحون: فابن عمر إنما يروي عن امرأة أبيه.
قال: ويؤيد ذلك أن هبة الله في الناسخ والمنسوخ, ذكر أنه -صلى الله عليه وسلم- لما انصرف من الحديبية لحقت به سبيعة بنت الحرث امرأة من قريش، فبان أنها غير الأسلمية، ذكره في الإصابة.
"وفي البخاري من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل" لا نافية(12/253)
المدينة المسيح الدجال ولا الطاعون".
وفيه: عن أبي بكر -رضي الله عنه, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب, على كل باب ملكان".
قال في فتح الباري: وقد استكمل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة، وكيف قرن بالدجال، ومدحت المدينة بعدم دخولهما.
وأجيب: بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أن ذلك يترتب عليه، وينشأ عنه لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدّم في المقصد الثامن من أنه طعن الجن, حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفَّار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله
__________
"المدينة المسيح" بحاء مهملة وإعجامها تصحيف كما قال غير واحد, "الدجال" من الدجل, وهو الكذب والخلط؛ لأنه كذاب خلاط, "ولا الطاعون، وفيه" أي: البخاري في الحج, من أفراده عن أبي بكرة نفيع بن الحرث بن كلدة الثقفي "رضي الله عنه, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل المدينة رعب" بضم الراء- فزع وخوف, "المسيح الدجال" إخبار من الصادق بأمن أهلها منه، ولا يعارض هذا حديث أنس في الصحيحين: "ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات, فيخرِج الله كل كافر ومنافق" كما قدَّمته؛ لأن المراد بالرعب ما يحصل من الفزع من ذكره, والخوف من عتوه وتجبره, لا الرجفة التي تقع بالزلزلة بإخراج من ليس بمخلص, "لها" أي: المدينة "يومئذ" أي: يوم نزوله بعض السباخ التي بالمدينة -كما في حديث أنس عند الشيخين، أي: "ينزل خارج المدينة على أرض سبخة"، وأضيف لها لقربها منها, "سبعة أبواب، على كل باب ملكان" يحرسانها منه -لعنه الله.
"قال في فتح الباري: "وقد استشكل عدم دخول الطاعون المدينة مع كونها شهادة" كما صحَّ في الحديث, "وكيف قرن بالدجال" ولا يقرن الخبيث بالطيب, "ومدحت المدينة بعدم دخولهما" الدجال والطاعون.
"وأجيب بأن كون الطاعون شهادة ليس المراد بوصفه بذلك ذاته، وإنما المراد أنَّ ذلك يترتب عليه وينشأ عنه؛ لكونه سببه، فإذا استحضر ما تقدَّم في المقصد الثامن" معلوم أن هذا ليس في الفتح، ولكن زاده المصنف لإفادة تقدّمه من أنه طعن الجن, حَسُنَ مدح المدينة بعدم دخوله إياها، فإن فيه إشارة إلى أن كفار الجن وشياطينهم ممنوعون من دخول المدينة، ومن اتفق دخوله فيها لا يتمكن من طعن أحد منهم"، أي: أهلها وهذا شرف(12/254)
فيها لا يتمكن من طعن أحد منها.
وقد أجاب القرطبي في المفهم عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيرها، كطاعون عمواس والجارف.
وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة، وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في "المعارف", وتبعه جمع منهم الشيخ محي الدين النووي في الأذكار": بأنَّ الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا، ولا مكة أيضًا، لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة، بخلاف المدينة, لم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا.
وأجاب بعضهم بأنه -صلى الله عليه وسلم- عوَّضهم عن الطاعون بالحمَّى؛ لأن الطاعون يأتي
__________
عظيم وأنت خبير بأن الإشكال إنما هو منع الطاعون منها مع أنه شهادة، وذكر قرن الدجال به تقوية للإشكال, لا أنه من جملته حتى يحتاج للجواب، ويقال: إنه تركه لظهوره أن صونها منه شرف لها لما في دخوله من الفتنة والفساد.
وقد أجاب القرطبي في المفهم" شرح مسلم "عن ذلك فقال: المعنى: لا يدخلها من الطاعون مثل الذي وقع في غيره كطاعون عمواس" بفتح العين والميم- قرية بين الرملة وبيت المقدس، نسب إليها لكونه بدأ فيها, وقيل: لأنه عَمَّ الناس وتواسوا فيه سنة ثمان وستين، سُمِّي بذلك لكثرة من مات فيه، والموت يسمى جارفًا لاجترافه الناس, والسيل جارفًا لاجترافه ما على وجه الأرض وكسح ما عليها, "وهذا الذي قاله يقتضي أنه دخلها في الجملة وليس كذلك، فقد جزم ابن قتيبة في المعارف, وتبعه جمع منهم الشيخ محيى الدين النووي في الأذكار، بأن الطاعون لم يدخل المدينة أصلًا ولا مكة أيضًا".
"لكن نقل جماعة أنه دخل مكة الطاعون في العام الذي كان في سنة تسع وأربعين وسبعمائة", ولا يرد هذا على النووي؛ لأنه أخبر عمَّا سمعه وأدركه بالاستقراء إلى زمنه؛ لأنه مات قبل ذلك بزمن طويل سنة ست وسبعين وستمائة.
لكن في تاريخ مكة لعمر بن شبة برجال الصحيح عن أبي هريرة رفعه: "المدينة ومكة محفوفتان بالملائكة، على كل نقب منهما ملك، فلا يدخلهما الدجال ولا الطاعون"، وحينئذ فالذي نقل أن الطاعون دخل مكة في التاريخ المذكور ليس كما ظن, أو يقال: لا يدخلها مثل ما وقع في غيرها كالجارف "بخلاف المدينة، فلم يذكر أحد أنه وقع الطاعون بها أصلًا".
"وأجاب بعضهم بأنه -عليه الصلاة والسلام- عوَّضهم عن" الثواب الحاصل لهم بسبب(12/255)
مرة بعد مرة، والحمَّى تتكرر في كل حين, فيتعادلان في الأجر، ويتمّ المراد من عدم دخول الطاعون المدينة.
قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر، بعد استحضار الذي أخرجه أحمد من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة، بوزن عظيم- رفعه: "أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون, فأمسكت الحمَّى بالمدينة, وأرسلت الطاعون إلى الشام"، وهو أن الحكمة في ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا ومددًا، وكانت المدينة وبئة، كما في حديث عائشة، ثم خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- في أمرين
__________
"الطاعون بالحمى" وهي شهادة؛ "لأن الطاعون يأتي مرة بعد مرة" ويتخلّل بينهما زمن طويل عادة "والحمَّى تتكرر في كل حين, فيتعادلان في الأجر"؛ لأن كلًّا شهادة.
وقد روى الديلمي عن أنس مرفوعا: "الحمى شهادة" وسنده ضعيف، لكن له شاهد يقويه "ويتم المراد من عدم دخول الطاعون المدينة" لفظاعته, وإن كان شهادة.
"قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي جواب آخر بعد استحضار" الحديث "الذي خرَّجه أحمد" والحارث بن أبي أسامة, والطبراني والحاكم أبو أحمد, وابن سعد "من رواية أبي عسيب -بمهملتين آخره موحدة بوزن عظيم- مولى النبي -صلى الله عليه وسلم, مشهور بكنيته، قيل: اسمه أحمر، وقيل: سفينة مولى أم سلمة، والمرجَّح أنه غيره -كما في الإصابة "رفعه: "أتاني جبريل بالحمَّى والطاعون" بأن صورهما له بهيئة الأجسام المشخَّصة, وأراه إياهما كما جزم به بعضهم, ولا مانع من ذلك؛ لأن الأعراض والمعاني قد يجسَّمان، ويحتمل أن يريد أخبرني بهما, "فأمسكت" أي: حبست "الحمى بالمدينة"؛ لأنها لا تقتل غالبًا, بل قد تنفع كما بينه ابن القيم, وأرسلت الطاعون إلى الشام"؛ لأنها أخصب الأرض، والخصب مظنة الأشر والبطر، وبقية هذا الحديث: "فالطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجز على الكافرين" وهو" أي: الجواب "إن الحكمة في ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- لما دخل المدينة كان في قلة من أصحابه عددًا" أي: بالنسبة للعدد, "ومددًا" لقلة المناصرين لهم, "وكانت المدينة وبئة كما في حديث عائشة، في الصحيح: قدمن المدينة وهي أوبأ أرض الله تعالى، أي: أكثر وباءً وأشدّ من غيرها، والمراد: الحمَّى, بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم: "وانقل حماها إلى الجحفة" وليس المراد الطاعون.
قال المصنف في مقصد الطب الدليل على أنَّ الطاعون يغاير الوباء, أنَّ الطاعون لم يدخل المدينة النبوية قط، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى أرض الوباء, "ثم خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- في أمرين يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل، فاختار الحمَّى حينئذ"(12/256)
يحصل بكلٍّ منهما الأجر الجزيل, فاختار الحمى حينئذ لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون، ثم لما احتاج إلى جهاد الكفَّار، وأذن له في القتال كانت قضية استمرار الحمَّى بالمدينة تضعف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة، فعادت المدينة أصحّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك، ثم كانوا حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون، ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ المؤمن من النار، ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته, وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدَّة المتطاولة، فكان منع دخول الطاعون من خصائصها, ولوازم دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها بالصحة، وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون
__________
أي: حين خُيِّر "لقلة الموت بها غالبًا بخلاف الطاعون" لكثرة الموت غالبًا به, "ثم لما احتاج إلى جهاد الكفار, وأذن له في القتال" بآية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} [الحج: 39] "كانت قضية استمرار" إضافة بيانية، أي: هي استمرار "الحمَّى بالمدينة, تضعيف أجساد الذين يحتاجون إلى التقوية لأجل الجهاد، فدعا بنقل الحمَّى من المدينة إلى الجحفة" بضم الجيم وسكون المهملة؛ لأنها كانت حينئذ دار شرك؛ ليشتغوا بها من إعانة الكفار، فلم تزل من يومئذ أكثر البلاد حمَّى, لا يشرب أحد من مائها إلا حُمَّ, "فعادت المدينة أصحَّ بلاد الله بعد أن كانت بخلاف ذلك" أوبأ أرض الله, "ثم كانوا من حينئذ من فاتته الشهادة بالطاعون" وهذا قد يوهم أنه كان بها الطاعون, وليس بمراد كما علم, "ربما حصلت له بالقتل في سبيل الله، ومن فاته ذلك حصلت له الحمَّى التي هي حظّ" أي: نصيب "المؤمن من النار" كما في الحديث، تقدَّم شرحه في الطب, "ثم استمرَّ ذلك بالمدينة تمييزًا لها عن غيرها؛ لتحقق إجابة دعوته" قال الشريف السمهودي: والموجودة الآن من الحمَّى بالمدينة ليس حمَّى الوباء، بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير.
وفي الحديث: "أصح المدينة ما بين حرة بني قريظة والعريض" وهو يؤذن ببقاء شيء منها بها, وأن الذي نقل عنها أصلًا ورأسًا, وشدتها وباؤها وكثرتها، بحيث لا يعد الباقي بالنسبة إليه شيئًا، قال: ويحتمل أنها رفعت بالكلية، ثم أعيدت خفيفة لئلَّا يفوت ثوابها، كما أشار إليه الحافظ ابن حجر: "وظهور هذه المعجزة العظيمة بتصديق خبره في هذه المدة المتطاولة, وكان منع دخول الطاعون من خصائصها" أي: المدينة, "ولوزام دعائه -صلى الله عليه وسلم- لها(12/257)
عن بلد، بل عن قرية، وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة، انتهى ملخصًا والله أعلم.
ومن خصائص المدينة أن غبارها شفاء من الجذام والبرص, بل من كل داء،
__________
بالصحة" بقوله: "وصححها لنا, وانقل حماها إلى الجحفة" , "وقال بعضهم: هذا من المعجزات المحمدية؛ لأن الأطباء من أولهم إلى آخرهم عجزوا أن يدفعوا الطاعون عن بلد، بل عن قرية" صغيرة, "وقد امتنع الطاعون عن المدينة هذه الدهور الطويلة....أهـ." كلام الفتح "ملخصًا" بمعنى: إنه ترك منه ما لم يتعلّق غرضه به, لا التلخيص العرفي "والله أعلم".
ومن خصائص المدينة، أنَّ غبارها شفاء من الجذام والبرص", وهذا لا يمكن تعليله, ولا يعرف وجهه من جهة العقل ولا الطب، فإن توقف فيه متشرع, قلنا: الله ورسوله أعلم.
ولا ينتفع به من أنكره أو شكَّ فيه أو فعله مجربًا، قال ابن جماعة: لما حج ابن المرحل المقدسي سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، ورجع إلى المدينة سمع شيخًا من المحدثين يقول: كان في جسد بعض الناس بياض، فكان يخرج إلى البقيع عريانًا في السحر ويعود, فبرأ بذلك الغبار، فكأنَّ ابن المرحل حصل في نفسه شيء، فنظر في يده فوجد فيها بياضًا قدر درهم، فأقبل على الله بالتضرّع والدعاء, وخرج إلى البقيع, وأخذ من رمل الروضة، فدلّك به ذلك البياض, فذهب "بل من كل داء" إذا استعمل على وجه التداوي بمقدار خاص وزمن خاص، ونحو ذلك كسائر الأدوية، فلا يرد أن كثير مما بها يمرضون مع أنهم لا يخلون من مسّ غبارها، ويؤيد ذلك ما عند ابن النجار وغيره من طريق ابن زبالة, أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى بني الحارث، فإذا هم مرضى فقال: "ما لكم"، قالوا: أصابتنا الحمَّى, قال: "فأين أنتم من صعيب"، قالوا ما نصنع به؟ قال: "تأخذون من ترابه فتجعلونه في ماء ثم يتفل عليه أحدكم ويقول: بسم الله, تراب أرضنا بريق بعضنا, شفاء لمريضنا بإذن ربنا" ففعلوا فتركتهم الحمَّى، قال بعض رواته: وصعيب وادي بطحان, وفيه حفرة من أخذ الناس، قال ابن النجار: رأيت الحفرة والناس يأخذون منها، وذكروا أنهم جرَّبوه فوجدوه صحيحًا وأخذت منه أيضًا.
قال السمهودي: وهي موجودة الآن, يعرفها الخلف عن السلف, وينقلون ترابها للتداوي، وذكر المجد أن جماعة من العلماء جرَّبوه للحمَّى فوجدوه صحيحًا.
قال: وأنا سقيته غلامًا لي واظبته الحمَّى ستة أشهر, فانقطعت عنه من يومه. وذكر في موضع آخر كالمطرزي أن ترابه يجعل في المال ويغتسل به من الحمَّى، قلت: فينبغي أن يفعل أولًا ما ورد ثم يجمع بين الشرب والغسل أ. هـ.(12/258)
كما رواه رزين العبدري في جامعه من حديث سعد، زاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم، ونقل البغوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} أنها المدينة.
وذكر ابن النجار تعليقًا عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف, وافتتحت المدينة بالقرآن.
وروى الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به, عن أبي هريرة يرفعه: "المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان، وأرض الهجرة، ومثوى الحلال والحرام".
وبالجملة، فكل المدينة: ترابها وطرقها وفجاجها ودورها وما حولها قد
__________
"وذكره رزين" بن معاوية "العبدري في جامعه من حديث سعد" وروى ابن النجار وأبو نعيم والديلمي عن ثابت بن قيس بن شماس مرفوعًا: "غبار المدينة شفاء من الجذام" وروى ابن زبالة عن صيفي ابن عامر، رفعه: "والذي نفسي بيده, إن تربتها لمؤمنة, وإنها شفاء من الجذام"، أي: مؤمنة حقيقة بأن جعل فيها إدراكًا وقوة تصديق، أو مجازًا لانتشار الإيمان منها.
"وزاد في حديث ابن عمر: عجوتها شفاء من السم" العجوة اسم لنوع خاص من تمر المدينة, وتقدَّم في الطب.
ونقل البغوي عن ابن عباس" في تفسير قوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [النحل: 41] أنها المدينة وقد عدَّ ذلك في أسمائها, وهي نحو مائة.
"وذكر ابن النجار تعليقًا" أي: بلا إسناد, عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: كل البلاد افتتحت بالسيف" إمَّا بالفعل أو بالرعب الحاصل لهم, وافتتحت المدينة بالقرآن" من قبل هجرته إليها لما جاءه أصحاب العقبات الثلاث وأسلموا كما مَرَّ مفصلًا.
"وروى الطبراني في الأوسط بإسنادٍ لا بأس به" نحوه قول الحافظ نور الدين الهيثمي, فيه عيسى بن مينا قالون, وحديثه حسن, وبقية رجاله ثقات، لكن قال تلميذه الحافظ في تخريج أحاديث المختصر: فرد به قالون, وهو صدوق, عن عبد الله بن نافع, وفيه لين, عن ابن المثنَّى, واسمه: سليمان بن يزيد الخزاعى، ضعيف, والحديث غريب جدًّا سندًا ومتنًا, "عن أبي هريرة يرفعه: "المدينة قبة الإسلام ودار الإيمان وأرض الهجرة ومتبوأ" وفي نسخة: ومثوى "الحلال والحرام" أي: محل بيانهما, "وبالجملة: فكل المدينة ترابها وطرقها وفجاجها" أي: طرقها الواسعة، فعطفها على ما قبلها خاص على عام, "ودورها" عطف جزء على كل, "وما حولها قد(12/259)
شملته بركته -صلى الله عليه وسلم, فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخوله منازلهم، ويدعونه إليها, وإلى الصلاة في بيوتهم، ولذلك امتنع مالك من ركوب دابّة في المدينة, وقال: لا أطأ بحافر دابّة في عراص كان -صلى الله عليه وسلم- يمشي فيها بقدميه -صلى الله عليه وسلم.
وينبغي أن يأتي قباء للصلاة فيه والزيارة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبًا وماشيًا، رواه مسلم, وفي رواية له: "يأتي" بدل "يزور" فيصلي فيه ركعتين.
__________
شملته بركته -صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا يتبرَّكون بدخولهم منازلهم, ويدعونه إليها" لما شاهدوه من بركته العامّة لكل مكان حلّ فيه، ولكل من نظر إليه نظر رحمة, وإلى الصلاة في بيوتهم؛ كعتبان بن مالك؛ ليتخذ مكان مصلاه مسجدًا, ولذلك, أي: التبرك بما عمَّته بركته, وللتأدب, امتنع مالك -رحمه الله- من ركوب دابَّة في المدينة، وقال: لا أطأ بحافر دابة" للفرس ونحوها، كالخف للبعير, والقدم للإنسان, "في عراص" جمع عرصة, أرض لا بناء فيها، والمراد هنا: مطلق الأرض أو معناها الحقيقي: "كان -صلى الله عليه وسلم- يمشي فيها بقدميه", وفي الشفاء عن مالك: وقال: استحي من الله أن أطأ تربة مشى فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحافر دابة.
وروي عنه أنه وهب للشافعي كراعًا كثيرًا كان عنده، فقال له الشافعي: أمسك منها دابة، فأجابه بمثل هذا الجواب, وينبغي" للزائر أن يأتي مسجد قباء -بضم القاف يمد ويقصر ويذكر ويؤنث ويصرف ويمنع- موضع قرب المدينة, وهو محل بني عمرو بن عوف من الأنصار, نزل إليه -صلى الله عليه وسلم- أوّل ما هاجر, وصلَّى فيه ثلاث ليالٍ بمحل المسجد، ثم وضع أساسه بيده, وتَمَّمَ بناءه بنو عمرو, وهو الذي أسس على التقوى عند الأكثرين.
وفي مسلم أنه المسجد النبوي ولا خلف، فكلّ أسس على التقوى، ومَرَّ بيان ذلك في الهجرة، وللطبراني برجال ثقات عن الشموس بنت النعمان، قالت: نظرت إليه -صلى الله عليه وسلم- حين قدم ونزل وأسس مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره، أي: يميله, وأنظر إلى التراب على بطنه وسرته، فيأتي الرجل فيقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أكفيك، فيقول: "لا خذ مثله" حتى أسسه, "فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يزوره راكبًا" تارةً, وماشيًا آخرى, بحسب ما تيسَّر، والواو بمعنى أو.
"رواه مسلم" والبخاري في مواضع وغيرهما, كلهم عن ابن عمر، وكأنه قصر العزو لمسلم لانفراده بلفظ: يزور؛ لأن الذي في البخاري وغيره: يأتي, لكن لا يكفي هذا في الاعتذار؛ لأن المعنى واحد, ولأنَّه يوهم ناقص العلم أنه من إفراد مسلم".
وفي رواية له يأتي بدل يزور, وهي التي في أكثر الروايات, وقوله: فيصلي فيه ركعتين, زيادة انفرد بها مسلم عن البخاري.(12/260)
وعنده أيضًا: أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت ويقول: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتيه كل سبت.
وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي في حديث أسيد بن ظهير الأنصاري، يرفعه: "صلاة في مسجد قباء كعمرة" , قال الترمذي: حسن غريب. وقال المنذري:
__________
قال ابن عبد البر: اختلف في سبب إتيانه، فقيل: لزيارة الأنصار، وقيل: للتفرّج في بساتينه، وقيل: للصلاة في مسجده, وهو الأشبه، قال: ولا يعارضه حديث: "لا تعمل المطيّ إلا لثلاثة مساجد"؛ لأن معناه عند العلماء للنذر، فإذا نذر أحد الثلاثة لزمه، أمَّا إتيان مسجد قباء أو غيره تطوعًا بلا نذر فيجوز.
وقال الباجي: ليس إتيان مسجد قباء من المدينة من إعمال المطي؛ لأنه من صفات الأسفار البعيدة، ولا يقال لمن خرج من داره إلى المسجد راكبًا أنه أعمل المطي, ولا خلاف في جواز ركوبه إلى مسجد قريب منه في جمعه أو غيرها، ولو أتى أحد إلى قباء من بلد بعيد لارتكب النهي, "وعنده" أي: مسلم "أيضًا" وكذا البخاري " أنَّ ابن عمر كان يأتيه كل سبت" خصَّه لأجل مواصلته لأهل قباء، وتفقده لحال من تأخّره منهم عن حضور الجمعة معه -صلى الله عليه وسلم- في مسجده بالمدينة، قاله الحافظ وغيره.
وقال الزين العراقي: ومن حكمته أنه كان يوم السبت يتفرّغ لنفسه, ويشتغل بقية الجمعة من أوّل الأحد بمصالح الأمة..... أهـ.
ومن حكمته أيضًا إرغام اليهود وإظهار مخالفتهم في ملازمة بيوتهم, "وعند الترمذي وابن ماجه والبيهقي" وشيخه الحاكم "من حديث أسيد" بضم الهمزة وفتح المهملة, "ابن ظهير" بضم الظاء المعجمة المشالة وفتح الهاء- ابن رافع بن عدي بن زيد "الأنصاري" الحارثي, له ولأبيه صحبة.
قال ابن عبد البر: مات في خلافة مروان, "يرفعه: "صلاة" وفي رواية: الصلاة بأل للجنس، فيشمل الفرض والنفل أو للعهد، فيختص بالفرض, "في مسجد قباء كعمرة" في الفضل, قال الحافظ: فيه فضل قباء ومسجدها وفضل الصلاة فيه، كن لم يثبت في ذلك تضعيف بخلاف المساجد الثلاثة.
وروى عمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص، قال: لأن أصلي في مسجد قباء ركعتين أحبّ إلي من أن آتي بيت المقدس مرَّتين، لو يعلمون ما في قباء لضربوا إليه أكباد الإبل "وقال الترمذي: حسن غريب".
قال الحافظ الزين العراقي: رواته كلهم ثقات، وقول ابن العربي: إنه ضعيف غير جيد, "وقال(12/261)
لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا.
ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف بلفظ: "من تطهَّر في بيته, ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة, كان له كأجر عمرة" وصححه الحاكم.
وينبغي أيضًا بعد زيارته -صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات التي بالمدينة الشريفة، والآثار المباركة، والمساجد التي صلّى فيها -صلى الله عليه وسلم- التماسًا لبركته، ويخرج إلى البقيع لزيارة من فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي في المدينة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته مدفون في البقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين.
وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك أمهات المؤمنين سوى خديجة فإنها بمكة، وميمونة فإنها بسرف. وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" رواه
__________
المنذري: لا نعرف لأسيد حديثًا صحيحًا غير هذا" نفى معرفته بذلك، جزم الترمذي فقال: لا يصح لأسيد بن ظهير غيره، قال في الإصابة: أخرج له ابن شاهين حديثًا آخر، لكن فيه اختلاف على راويه.
"ورواه أحمد وابن ماجه من حديث سهل بن حنيف" الأنصاري البدري، مرفوعًا "بلفظ: "من تطهر" توضأ "في بيته" , وفي رواية النسائي: "من توضأ فأحسن الوضوء" , "ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة" ركعتين فأكثر, "كان" الإتيان المشتمل على الصلاة, "له كأجر عمرة".
وفي رواية النسائي: كان له عدل عمرة, "وصحَّحه الحاكم", ورواه الحافظ قاسم بن أصبغ عنه، مرفوعًا بلفظ: "من تطهر في بيته, ثم خرج عامدًا إلى مسجد قباء, لا يخرجه إلا الصلاة فيه, كان بمنزلة عمرة".
"وينبغي أيضًا بعد زيارته -صلى الله عليه وسلم- أن يقصد المزارات" جمع مزار, محل الزيارة، أي: الأماكن التي اشتهرت "بالمدينة الشريفة, والآثار المباركة" التي علم مشيه فيها, "والمساجد التي صلى فيها -عليه الصلاة والسلام- التماسًا لبركته, ويخرج إلى البقيع" بالموحدة "لزيارة مَنْ فيه، فإن أكثر الصحابة ممن توفي بالمدينة في حياته -صلى الله عليه وسلم- وبعد وفاته, مدفون بالبقيع، وكذلك سادات أهل البيت والتابعين".
"وروي عن مالك أنه قال: من مات بالمدينة من الصحابة عشرة آلاف، وكذلك" مات بها "أمهات المؤمنين سوى خديجة، فإنها بمكة" وقبرها معلوم, "وميمونة, فإنها بسرف -بفتح المهملة وكسر الراء وبالفاء- قرب مكة, "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يخرج آخر الليل إلى البقيع" الصغير؛ لأنه المراد عند الإطلاق "فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" بنصب دار على النداء،(12/262)
مسلم.
قال ابن الحاج في "المدخل": وقد فرق علماؤنا بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة، فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له، والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أولى، فمن كان مقيمًا خرج إلى زيارة أهل البقيع, ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته -صلى الله عليه وسلم.
وحكي عن العارف ابن أبي جمرة، أنَّه لما دخل المسجد النبوي لم يجلس إلّا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وكان قد خطر له أن يذهب إلى البقيع فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى.
__________
وقيل: على الاختصاص، قيل: ويجوز جره على البدل من الضمير في عليكم، قال الخطابي: وفيه أن اسم الدار يقع على المقبرة وهو الصحيح.
"رواه مسلم" في الجنائز عن عائشة، قالت: كان -صلى الله عليه وسلم- كلما كان ليلتها منه, يخرج من آخر الليل إلى البقيع، فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" قال المصنف: ظاهره أنَّه كان يأتي البقيع في كل ليلة من التسع التي هي نوبة عائشة، ويحتمل أنه كان يأتي كل ليلة, وإنما أخبرت عمَّا علمت من ليلتها.
وهذا كان في آخر عمره -صلى الله عليه وسلم- بعدما أمره الله تعالى, لا كل ليلة في جميع مدة هجرته إلى المدينة، وفي قوله: آخر الليل تأكدًا لزيارة في هذا الوقت؛ لأنه مظنَّة لقبول الدعاء حسبما دلَّ عليه حديث النزول أهـ.
"قال ابن الحاج في المدخل: وقد فرق علماؤنا" المالكية "بين الآفاقي والمقيم في التنفل بالطواف والصلاة فقالوا: الطواف في حق الآفاقي أفضل له, والتنفل في حق المقيم أفضل، قال: وما نحن بسبيله من باب أَوْلى، فمن كان مقيمًا" بالمدينة المنورة "خرج" استحبابًا "إلى زيارة أهل البقيع، ومن كان مسافرًا فليغتنم مشاهدته -عليه الصلاة والسلام" ولا يخرج.
"وحكى" ابن الحاج "عن العارف ابن أبي جمرة أنه لما دخل المسجد النبوي لم يجس إلا الجلوس في الصلاة، وأنه لم يزل واقفًا بين يديه -صلوات الله وسلامه عليه، وقد كان خطر له أن يذهب إلى البقيع" ثم عَنَّ له الترك, "فقال: إلى أين أذهب، هذا باب الله المفتوح للسائلين والطالبين والمنكسرين. انتهى".(12/263)
وروى ابن النجار مرفوعًا: "مقبرتان مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا: بقيع الغرقد ومقبرة بعسقلان"، وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة, يعني: مقبرة المدينة كقبة محفوفة بالنخيل, موكّل بها ملائكة, كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة.
وأخرج أبو حاتم من حديث ابن عمر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر, ثم عمر، ثم آتي البقيع فيحشرون معي، ثم انتظر أهل مكة حتى نحشر بين الحرمين".
__________
"وروى ابن النجار" الإمام الحافظ البارع الورع محمد بن البغدادي, واسع الرواية، له ثلاثة آلاف شيخ, وتصانيف عديدة، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة, ومات في شعبان سنة ثلاث وأربعين وستمائة "مرفوعًا: "مقبرتان" بضم الباء وفتحها تثنية مقبرة, موضع القبور "مضيئتان لأهل السماء كما تضيء الشمس والقمر لأهل الدنيا" ما تحت السماء, "بقيع" بفتح الموحدة اتفاقًا وقاف, "الغرقد" بغين معجمة- موضع بظاهر المدينة, فيه قبور أهلها, كان به شجر الغرقد، فذهب وبقي اسمه, "ومقبرة عسقلان" بفتح العين والقاف- مدينة من فلسطين, ناحية بالشام.
"وعن كعب الأحبار قال: نجدها في التوراة، يعني: مقبرة المدينة كقبة" محلّ مرتفع "محفوفة بالنخيل" من كل جانب, "موكل بها ملائكة, كلما امتلأت أخذوا فكفؤها في الجنة".
"وأخرج أبو حاتم" محمد بن حبان, "من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" للبعث, فلا يتقدم عليه أحد , "ثم أبو بكر" لكمال صداقته له, "ثم عمر" الفاروق, "ثم آتى" فعل المتكلم "البقيع" , وللترمذي: أهل البقيع, "فيحشرون معي" أي: أجتمع أنا وإياهم.
قال الطيبي: الحشر هنا الجمع كقوله: {وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} , "ثم أنتظر أهل مكة" أي: المسلمين منهم, حتى يأتوا إلي, "حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا "بين الحرمين" ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح كا يأتي.(12/264)
الفصل الثالث: [في أمور الآخرة]
في تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم وعلى
__________
الفصل الثالث: في تفضيله -عليه الصلاة والسلام- في الآخرة
"بفضائل الأوليات" أي: كونه أوّل كذا، وأوّل كذا "الجامعة لمزايا التكريم" جمع مزية(12/264)
الدرجات العاليات, وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود، المغبوط عليه من الأولين والآخرين، وانفراده بالسؤدد في مجمع جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة، وتعاليه يوم المزيد في أعلى معالي الحسنى وزيادة.
اعلم أن الله تعالى كما فضّل نبينا -صلى الله عليه وسلم- في البدء, بأن جعله أول الأنبياء في الخلق، وأوّلهم في الإجابة في عالم الذر، يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فضَّ له, كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع, وأول مشفَّع، وأوّل من يؤذن له بالسجود، وأول من ينظر إلى رب العالمين، والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك، وأوّل الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أوّل الأمم دخولًا إليها.
وزاده من لطائف التحف ونفائس الطرف ما لا يجد ولا يعد:
__________
فعيلة, وهي التمام والفضيلة، يقال: لفلان مزية، أي: فضيلة يمتاز بها عن غيره, "وعلى الدرجات" أي: الفضائل والرتب العلية, "وتحميده" أي: حمد الخلائق له "بالشفاعة" في فصل القضاء, "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه للشفاعة, "المغبوط" بغين معجمة- أي: المستحسن حاله "عليه من الأولين والآخرين, وانفراده بالسؤدد" بضم السين فهمزة ساكنة فدال مضمومة- المجد والشرف, "في مجمع" محل جامع الأنبياء والمرسلين، وترقيه" علوه "في جنة عدن" إقامةً, "أرقى" أعلى, "مدارج السعادة وتعاليه" ارتفاعه, فهو بمعنى ترقيه حسنه اختلاف اللفظ, "يوم المزيد" هو يوم المعة في الجنة كما مَرَّ, "أعلى معالي الحسنى" الجنة "وزيادة النظر" إلى الله.
"اعلم أن الله تعالى كما فَضَّل نبينا -صلى الله عليه وسلم- في البدء" الابتداء "بأن جعله أوّل الأنبياء في الخلق", كما ورد عنه وقد تقدَّم, "وأولهم في الإجابة في عالم الذر" بنعمان, "يوم" عرفة, يوم أشهدهم على أنفسهم "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ" قالوا: بلى، كان أوَّل من قال بلى, نبينا -صلى الله عليه وسلم, "فض" بفاء وضاد معجمة- أي: فتح, "له كما ختم كمال الفضائل في العود، فجعله أوّل من تنشق عنه الأرض" أي: أوّل من تعاد فيه الروح يوم القيامة ويظهر, "وأوّل شافع" فلا يتقدَّم عليه ملك ولا نبي, "وأول مشفَّع" بشدة الفاء مفتوحة- مقبول الشفاعة, "وأوَّل من يؤذن له بالسجود" فيسجد تحت العرش للشفاعة, "وأول من ينظر لرب العالمين, والخلق محجوبون عن رؤيته إذ ذاك" حتى يراه قبلهم, "وأوَّل الأنبياء يقضي بين أمته, وأولهم إجازة" أي: قطعًا "على الصراط بأمته، وأوّل داخل إلى الجنة، وأمته أول الأمم دخولًا إليها" بعد دخول جميع الأنبياء، فالأنبياء لهم دخولان: دخول خاصّ قبل جميع الأمم، ودخول عام مع أممهم, "وزاده" عطف على فضله, "من(12/265)
فمن ذلك أنه يحشر راكبًا، وتخصيصه بالمقام المحمود، ولواء الحمد تحته آدم فمن دونه من الأنبياء، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام العرش، وما يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبله, ولا يفتحه على أحد بعده, زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله له: يا محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعط، واشفع تشفّع، ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى.
ومن ذلك: تكراره في الشفاعة، وسجوده ثانية وثالثة، وتجديد الثناء عليه, والتحميد بما يفتح الله عليه.
ومن ذلك: كلام الله تعالى له في كل سجدة: يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع, واشفع تشفع، فعل المدل على ربه الكريم عليه, الرفيع عنده، المحب ذلك منه تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا.
__________
لطائف التحف:" جمع تحفة، وزان رطبة, وحكى سكون الحاء, ما أتحفت به غيرك, "ونفائس الطرف" بضم الطاء المهملة وفتح الراء- جمع طرفة وهي ما يستطرف، أي: يستملح, "ما لا يجد ولا يعد" لكثرته جدًّا, "فمن ذلك أنه يحشر راكبًا" على البراق كما مَرَّ في الخصائص، ويأتي قريبًا في حديث: وإلا فقد جاء في تفسير: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي: راكبين، ويحتمل أنه يبعث راكبًا من أوّل بخلاف غيره، فيجوز أن ركوبه بعد بعثه وفيه شيء, "وتخصيصه بالمقام المحمود, ولواء الحمد, تحته آدم فمن دونه، واختصاصه أيضًا بالسجود لله تعالى أمام" قدام "العرش, وما" أي: واختصاصه بما "يفتحه الله عليه في سجوده من التحميد والثناء عليه" سبحانه, ما لم يفتحه على أحد قبله, ولا يفتحه على أحد بعده, زيادة في كرامته وقربه، وكلام الله تعالى له" بقوله: "يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع" ما تقول سماع قبول, "وسل تعط" ما سألت, "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك, "ولا كرامة فوق هذا إلا النظر إليه تعالى، ومن ذلك" الذي لا يعد ولا يحد, تكراره في الشفاعة, وسجوده ثانية ومرة "ثالثة, وتجديد الثناء عليه" سبحانه, "بما يفتح الله عليه من ذلك" الثناء, "وكلام الله تعالى له في كل سجدة" بقوله: "يا محمد, ارفع رأسك, وقل تسمع, واشفع تشفع, فعل" بالنصب أو الرفع بتقدير: ذلك فعل "المدل" أي: المقدم "على ربه" المطمئن المسرور بسماع كلامه الكريم عليه, الرفيع عنده, المحب ذلك" الإقدام "منه, تشريفًا له وتكريمًا وتبجيلًا وتعظيمًا".(12/266)
ومن ذلك: قيامه عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره، يغبطه فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلغوهم، وإتيانهم إليه يسئولونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمّهم وعرقهم وطول وقوفهم، وشفاعته في أقوام قد أمر بهم إلى النار.
ومنها: الحوض، الذي ليس في الموقف أكثر أوان منه، وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته.
ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم.
وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين. {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
فأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأولية انشقاق القبر المقدّس عنه، فروى مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أوّل من
__________
فلذا قدم عليه تعالى الكلام, وفعل معه فعل المدل وهو المرشد، فسأله ما لا يقدم غيره على سؤاله, "ومن ذلك قيامه عن يمين العرش" وهو فرق الجنة, وهي فوق السموات كما يأتي, "ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيره, يغبطه" بكسر الباء- يستحسنه, "فيه الأولون والآخرون، وشهادته بين الأنبياء وأممهم بأنهم بلّغوهم, وإتيانهم إليه يسألونه الشفاعة؛ ليريحهم من غمهم وعرقهم" بعين مهمة, "وطول وقوفهم وشفاعته في أقوام قد أُمِرَ بهم إلى النار، ومنها الحوض الذي ليس في الموقف أكثر أوان," جمع إناء, "منه, وأن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته، ومنها: أنه يشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم, وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة, إلى غير ذلك مما يزيده تعالى به جلالة وتعظيمًا وتبجيلًا وتكريمًا على رءوس الأشهاد من الأولين والآخرين والملائكة أجمعين، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
وهذا كله ترجمة على سبيل الإجمال وفصله، فقال: "فأما تفضيله بأولية انشقاق القبر المقدَّس عنه، فروى مسلم" في المناقب, وأبو داود في السنة, "من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة" خصَّه؛ لأنه يوم مجموع له(12/267)
ينشق عنه القبر وأوّل شافع وأوّل مشفّع".
وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي -آدم فمن سواه- إلا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر....." رواه الترمذي.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من تنشق عنه الأرض, ثم أبو
__________
الناس، فتظهر سيادته لكل أحد عيانًا، فلا ينافي أنَّ سيادته ثابتة في الدنيا، فهو نحو قوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] وأطلق في الوصف بذلك لإفادة العموم لأولي العزم وغيرهم، وتخصيص ولد آدم ليس للاحتراز؛ إذ هو أفضل حتى من خواص الملائكة إجماعًا, "وأنا أوّل من ينشق عنه القبر" أي: يعجل إحياءه مبالغةً في إكرامه, وتخصيصًا بجزيل إنعامه, "وأنا أوّل شافع" للخلائق لا يتقدمه شافع, لا بشر ولا ملك في جميع أقسام الشفاعات, "وأول مشفَّع" بشد الفاء المفتوحة- أي: مقبول الشفاعة، ولم يكتف بشافع؛ لأنه قد يشفع ثانٍ فيشفع قبل الأول.
وأما حديث ابن مسعود عند أحمد والنسائي والحاكم: "يشفع نبيكم رابع أربعة: جبريل ثم إبراهيم ثم موسى أو عيسى ثم نبيكم، لا يشفع أحد في أكثر مما يشفع فيه"، فقد ضعَّفه البخاري، فلا يعارض حديث مسلم.
"وفي حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر" أي: أقول ذلك شكرًا لا فخرًا، فهو نحو قول سليمان -عليه السلام: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: لا أقوله تكبرًا وتعاظمًا على الناس, وإن كان فيه فخر الدارين، وقيل: لا أفتخر بذلك، بل فخري بمن أعطاني هذه الفضائل, "وبيدي لواء الحمد" , يأتي بيانه للمصنف "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة, "وما من نبي يومئذ -آدم فمن سواه" أي: دونه, "إلا تحت لوائي" قال الطيبي: آدم فمن سواه, اعتراض بين النفي والاستثناء، أفاد أن آدم بالرفع بدلًا أو بيانًا من محله, ومن فيه موصولة، وسواه صلته، وصحَّ لأنه ظرف, وآثر الفاء التفصيلية في, فمن لترتيب على منوال الأمثل فالأمثل, "وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض".
وفي رواية: من تنشق الأرض عن جمجمتي, "ولا فخر" حال مؤكّدة، أي: أقول هذا ولا فخر، بل شكرًا وتحدثًا بالنعمة, وإعلامًا للأمَّة؛ لأنه مما يجب تبليغ؛ ليعتقدوا فضله على من سواه.
وبقيه هذا الحديث عند رواته: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر"، وكان الأولى للمصنف لمن لا يتركها لإفادة أنه جاء عن صحابي آخر ولزيادة ولا فخر.
"رواه الترمذي" في المناقب: وقال حسن صحيح، وكذا رواه ابن ماجه وأحمد, "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر، ثم عمر، ثم آتي(12/268)
بكر ثم عمر، ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين". قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو حاتم وقال: حتى نحشر. وتقدَّم.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أوّل من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش: فما أدري أكان فيمن صعق". وفي رواية: "فأكون أول من يفيق, فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي, أو كان ممن استثنى الله". رواه البخاري.
والمراد بالصعق: غشي يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه.
__________
بالمد أجيء, "أهل البقيع فيحشرون" , يجتمعون معي لكرامتهم على ربهم, وشرفهم عنده باستغفار نبيهم لهم وقربهم منه, "ثم أنتظر أهل مكة" المسلمين منهم, حتى يقدموا عليّ تشريفًا لهم بجوار بيت الله, "حتى أحشر بين الحرمين" أي: حتَّى يكون لي ولهم اجتماع بينهما, "قال الترمذي: حسن صحيح" وصحَّحه الحاكم.
"ورواه أبو حاتم" ابن حبان, "وقال" في روايته: "حتى نحشر" أي: نجتمع كلنا, "وتقدَّم" قريبًا, "وعن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يصعق" بفتح العين, "الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق" بكسر العين- ترك تمامه استغناء بذكره في قوله: "وفي رواية: "فأكون أول من يفيق" بضم أوله, "فإذا موسى باطش" آخذ بقوة, "بجانب العرش".
وفي رواية: بقائمة من قوائم العرش, "فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله" فلم يكن ممن صعق، أي: فإن كان أفاق قبلي فهي فضيلة ظاهرة، وإن كان ممن استثنى الله في فضيلة أيضًا.
وفي رواية: أفاق قبلي أم جوزي بصعق الطور, ولا منافاة، فإن المعنى: لا أدري أيّ الثلاثة كان الإفاقة أو الاستثناء أو المحاسبة بصعقة الطور.
"رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم, "والمراد بالصعق غشي" بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين فتحتية خفيفة وبكسر الشين وشد الياء "يلحق من سمع صوتًا أو رأى شيئًا يفزع منه" أصل الغشي, مرض معروف يحصل بطول القيام في الحر ونحوه, وهو طرف من الإغماء وهو المراد هنا.
وأمَّا قول الحافظ المراد به هنا الحالة القريبة منه, فأطلقه عليه مجازًا، فإنما قاله في صلاة(12/269)
ولم يبين في هذه الرواية -من الطريقين- محل الإفاقة، من أي الصعقتين, ووقع في رواية الشعبي عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر: إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة.
والمراد بقوله: "ممن استثنى الله" قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] .
__________
الكسوف في قول أسماء بنت أبي بكر: فقمت حتى تجلَّاني الغشي، فنقله هنا من نقل الشيء في غير موضعه، وإنما قال: هنا مثل لفظ المصنف بالحرف.
"ولم يبين في هذه الرواية من الطريقين محل الإفاقة من أيّ الصعقتين" الأولى أم الثانية.
"ووقع في رواية الشعبي" عامر بن شراحيل, "عن أبي هريرة في تفسير سورة الزمر" من البخاري عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني أوَّل من يرفع رأسه بعد النفخة الأخيرة" أي: الثانية، ولفظ البخاري: الآخر، قال المصنف: بمد الهمزة.
وبقية هذه الرواية في البخاري: "فإذا أنا بموسى متعلّق بالعرش، فلا أدري" أكذلك كان أم بعد النفخة، زاد الحافظ: ووقع في حديث أبي سعيد: "فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض"، كذا عند البخاري في كتاب الأشخاص بهذا اللفظ، وله في غيره: "فأكون أول من يفيق"، وجزم المزي بأنه الصواب، وأنَّ تلك وهم من راويها, وكونه أوّل من تنشق عنه الأرض صحيح، لكنه في حديث آخر ليس فيه ذكر موسى، نقله عنه ابن القيم في كتاب الروح، ويمكن الجمع بأن النفخة الأولى يعقبها الصعق من جميع الخلق أحيائهم وأمواتهم وهو الفزع، كما قال تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، ثم تعقب ذلك الفزع للموتى زيادة فيما هم فيه, وللأحياء موتًا، ثم ينفخ الثانية للبعث فيفيقون أجمعون، فمن كان مقبورًا انشقت عنه الأرض فخرج من قبره، ومن ليس مقبورًا ألا يحتاج إلى ذلك، وموسى ممن قبر في الدنيا، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر وهو قائم يصلي في قبره".
أخرجه مسلم عن أنس, عقب حديث أبي هريرة, وأبي سعيد المذكورين، ولعله أشار بذلك إلى ما قررته. انتهى.
"والمراد بقوله: ممن استثنى الله قوله تعالى: {فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] ، وقال الداودي: أي: جعله ثانيًا لي، قال الحافظ: وهو غلط شنيع، وفي البعث لابن أبي الدنيا من مرسل الحسن: "فلا أدري أكان ممن استثنى الله أن(12/270)
وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون، مع أنَّ الموتى لا إحساس لهم؟ فقيل: المراد: إن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي: إلا من سبق له الموت قبل ذلك, فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح القرطبي. ولا يعارضه ما ورد في الحديث: "إن موسى ممن استثنى الله؛ لأن الأنبياء أحياء عند الله".
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد: صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض.
وتعقبه القرطبي: بأنه صرح -صلى الله عليه وسلم- بأنه يخرج من قبره, فيلقي موسى وهو متعلق
__________
لا تصيبه النفخة أو بعث قبلي.
وزعم ابن القيم أن قوله: "أكان ممن استثنى الله" وهمٌ من بعض الرواة، والمحفوظ: أو جوزي بصعقة الطور، قال: لأنَّ الله استثنى قومًا من صعقة النفخ, وموسى داخل فيهم، وهذا لا يلتئم على سياق الحديث، فإن الإفاقة حينئذ هي إفاقة البعث, فلا يحسن التردد فيها، وأمَّا الصعقة العامَّة فتقع إذا جمعهم الله لفصل القضاء، فيصعق الخلق حينئذ جميعًا إلا من شاء الله.
ويدل على ذلك قوله: "أوّل من يفيق"، فإنه دالّ على أنه ممن صعق، وتردّد في موسى هل صعق، فأفاق قبله أم لم يصعق، قال: ولو كان المراد الصعقة الأولى لزم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- جزم بأنه مات، وتردَّد في موسى هل مات أولًا، والواقع أن موسى كان قد مات، فدلّ على أنها صعقة فزع لا صعقة موت. انتهى.
"وقد استشكل كون جميع الخلق يصعقون, مع أن الموتى لا إحساس لهم، فقيل" في الجواب: "المراد أن الذين يصعقون هم الأحياء، وأمَّا الموتى فهم في الاستثناء" داخلون, "في قوله: {إِلَّا مَنْ شَاءَ} ، أي: إلّا من سبق له الموت قبل ذلك، فإنه لا يصعق، وإلى هذا جنح "مال" القرطبي" الشيخ أبو العباس في المفهم, "ولا يعارضه ما ورد في الحديث: "إن موسى ممن استثنى الله، لأن الأنبياء أحياء عند الله" , وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا، وقد ثبت ذلك للشهداء، ولا شكَّ أن الأنبياء أرفع رتبة من الشهداء, وهم ممن استثنى الله.
أخرجه إسحق بن راهويه وأبو يعلى من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، عن أبي هريرة: هكذا في الفتح، ويتلوه قوله: "وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض", وعلى هذا فلا يشكل هذا الحديث: "أنا أول من ينشق عنه القبر".
"وتعقَّبه القرطبي" في المفهم بأنه صرح -صلى الله عليه وسلم- بأن يخرج من قبره، فيلقى موسى وهو(12/271)
بالعرش, وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى.
ووقع في رواية أبي سلمة عند ابن مردويه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, فأقوم فأنقض التراب عن رأسي، فآتي قائمة العرش, فأجد موسى قائمًا عندها، فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله".
واختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال: فقيل: الملائكة، وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث في تجويزه: أن يكون موسى ممن
__________
متعلق بالعرش، وهذا إنما هو عند نفخة البعث. انتهى".
قال الحافظ: ويردّه، أي: احتمال عياض صريحًا قوله في رواية: "إن الناس يصعقون فأصعق معهم، فأكون أول من يفيق"، قال: ويؤيده أنه عبَّر بقوله: أفاق؛ لأنه إنما يقال: أفاق من الغشي: بعث من الموت، ولذا عبَّر عن صعقة الطور بالإفاقة؛ لأنها لم تكن موتًا بلا شك، وإذا تقرَّر ذلك ظهر صحة الحمل على أنها غشية تحصل للناس في الموقف، هذا محصّل كلامه وتعقبه انتهى.
وسبق للمصنف في الخصائص الجواب عن التعارض بقوله: الظاهر أنه -عليه السلام- لم يكن عنده علم ذلك، أي: كونه أوّل من ينشقّ عنه القبر حتى أعلمه الله تعالى فأخبر بذلك. انتهى. فإخباره بذلك يفيد أنه علم بإفاقته قبل موسى، فحينئذ يبقى التردد في أنه ممن استثنى الله أو جوزي بصعقة الطور, "ووقع في رواية أبي سلمة" ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة, "عن ابن مردويه" مرفوعًا: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض يوم القيامة, فأقوم فأنفض التراب عن رأسي, فآتي" بالمد فعل المتكلم، أي: أجيء "قائمة العرش, فأجد موسى قائمًا عندها, فلا أدري أنفض التراب عن رأسه قبلي؟ أو كان ممن استثنى الله".
قال الحافظ: يحتمل أن قوله: "أنفض التراب قبلي" تجويز لسبقه في الخروج من القبر, أو هو كناية عن الخروج منه, وعلى كل ففيه فضيلة لموسى. انتهى.
ومعلوم أنه لا يلزم من فضيلته من هذه الجهة أفضليته مطلقًا, وبه صرَّح في المفهم، فقال: وهذه فضيلة عظيمة في حقه، ولكن لا توجب أفضليته على نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأن الشيء الجزئي لا يوجب أمرًا كليًّا. انتهى.
"وقد اختلف في المستثنى من هو على عشرة أقوال" ذكر منها خمسة "فقيل: الملائكة" كلهم على ظاهر هذا القول, وقيل: الأنبياء، وبه قال البيهقي في تأويل الحديث" المذكور, "في تجويزه بأن يكون موسى ممن استثنى الله", فإذا جوز ذلك في موسى فبقية(12/272)
استثنى الله، قال: وجههه عندي أنهم أحياء كالشهداء, فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلّا في ذهاب الاستشعار.
وقيل الشهداء: واختاره الحليمي, قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] ، وضعَّف غيره من الأقوال.
وقال أبو العباس القرطبي صاحب "المفهم": الصحيح أنه لم يأتي في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل.
وتعقَّبه تلميذه في "التذكرة" فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة بأنهم الشهداء وهو صحيح, وعن أبي هريرة أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل عن هذه
__________
الأنبياء كذلك بجامع النبوة, "قال" البيهقي: "ووجهه عندي أنهم" ردَّت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا فهم "أحياء" عند ربهم؛ "كالشهداء، فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى صعقوا، ثم لا يكون ذلك موتًا في جميع معانيه إلا في ذهاب الاستشعار", فإن كان موسى ممن استثنى الله, فإنه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة, ويحاسب بصعقة يوم الطور، هذا بقية قول البيهقي.
قال السيوطي: وبهذا يتضح ترجيح أن المستثنى في الآية الملائكة الأربعة وحملة العرش الثمانية, بناءً على أن المراد بالصعق فيها الموت, وموسى -عليه السلام- بناءً على أنه الغشية, وكون الأمرين مرادين معًا, وكون الاستثناء على الأمرين، ولا يصح استثناء الشهداء من الغشية؛ لأنه إذا حصلت الغشية للأنبياء حتى سيد المرسلين فالشهداء أَوْلَى, انتهى.
"وقيل: الشهداء واختاره الحليمي، قال: وهو مروي عن ابن عباس، فإن الله تعالى يقول: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وضعَّف الحليمي "غيره من الأقوال" بأن الاستثناء إنما وقع في كان السماوات والأرض، وحملة العرش ليسوا إلى آخر ما يأتي في قول المصنف قريبًا، وتعقَّب بأن.... إلخ.
"وقال أبو العباس" أحمد بن عمر بن إبراهيم, الإمام المحدث العلامة, "صاحب المفهم" في شرح مسلم, مات سنة ست وخمسين وستمائة: "الصحيح أنه لم يأت في تعيينهم خبر صحيح والكل محتمل، وتعقبه تلميذه" أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج, مات سنة إحدى وسبعين وستمائة, "في التذكرة" بأمور الآخرة, "فقال: قد ورد في حديث أبي هريرة مرفوعًا تفسيره بأنهم الشهداء وهو الصحيح" لوروده عن النبي -صلى الله عليه وسلم, "و" أخرج أبو يعلى والحاكم والبيهقيّ "عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سأل جبريل -عليه السلام- عن هذه الآية" نقل(12/273)
الآية: من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا؟ قال: هم شهداء الله. وصححه الحاكم.
وقيل: هم حملة العرش وجبريل وميكائيل وملك الموت، ثم يموتون، وآخرهم "موتًا" ملك الموت، وقيل هم الحور العين والولدان في الجنة.
__________
بالمعنى, ولفظ أبي يعلى: ومن عطف عليه عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سألت جبريل عن هذه الآية: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] الآية "من الذين لم يشأ الله أن يصعقوا, قال" جبريل: "هم شهداء الله", يتقلّدون أسيافهم حول عرشه.
هذا بقية الحديث الذي "صحَّحه الحاكم، وقيل: هم حملة العرش" الثمانية "وجبريل وميكائيل" زاد في رواية: "وإسرافيل, "وملك الموت" قال السيوطي: ولا تنافي بين هذا وبين الشهداء؛ لإمكان الجمع بأنَّ الجميع من المستثنى, "ثم يموتون, وآخرهم" موتًا "ملك الموت" كما أخرجه البيهقي عن أنس رفعه: "كان ممن استثنى الله ثلاثة: جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول الله وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم الدائم, وعبدك جبريل وميكائيل وملك الموت, فيقول: توف نفس ميكائيل, ثم يقول -وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: وجهك الباقي الكريم وعبدك جبريل وملك الموت, فيقول: توف جبريل, ثم يقول وهو أعلم: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي وجهك الباقي الكريم وعبدك ملك الموت, وهو ميت، فيقول: مت, ثم ينادي: أنا بدأت الخلق ثم أعيده, فأين الجبَّارون المتكبون, فلا يجيبه أحد، فيقول: هو الله الواحد القهار". وورد أيضًا آخرهم موتًا جبريل.
أخرج الفريابي عن أنس أنهم قالوا: يا رسول الله, من الذين استثنى الله، قال: "جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل وحملة العرش، فإذا قبض الله أرواح الخلائق قال لملك الموت: من بقي؟ فيقول: سبحانك ربي وتعاليت, يا ذا الجلال والإكرام, بقي جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس إسرافيل، فيقول: يا ملك الموت, من بقي؟ فيقول: بقي جبريل وميكائيل وملك الموت، فيقول: خذ نفس ميكائيل, فيقع كالطود العظيم، فيقول: يا ملك الموت, من بقي، فيقول: بقي وجهك الدائم وجبريل الميت الفاني، قال: لا بد من موته, فيقع ساجدًا يخفق بجناحيه"، قال -صلى الله عليه وسلم: "إن فضل خلقه على ميكائيل كالطود العظيم" ولا يمكن الجمع بينهما، فيترجّح الأول بأن في حديث أبي هريرة عند ابن جرير وأبي الشيخ وغيرهم مرفوعًا في حديث طويل: "إن آخرهم موتًا ملك الموت".
"وقيل: هم الحور العين والولدان في الجنة" وخزنة الجنة والنار وما فيها من الحيات(12/274)
وتعقَّب: بأن حملة العرش ليسوا من سكان السماوات والأرض؛ لأن العرش فوق السماوات كلها، وبأنَّ جبريل وميكائيل وملك الموت من الصافين المسبحين؛ ولأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش، وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء, فلا شَكّ أنها بمعزل عمَّا خلقه الله للفناء. ثم إنه وردت الأخبار بأنّ الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل ثم يحييهم. وأمَّا أهل الجنة فلم يأتي عنهم خبر، والأظهر أنها دار خلود، فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا، مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا.
فإن قلت: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} [القصص: 88] يدل على أن
__________
والعقارب "وتعقَّب" أي: ردَّ هذا الحليمي وضعَّفه "بأن" الاستثناء في الآية وقع من سكان السماوات والأض، أنَّ "حملة العرش ليسوا بسكان السماوات والأرض؛ لأن العرش" وحملته "فوق السماوات كلها", فهذا ينابذ تفسيره بأنهم حملته, "وبأن جبريل وميكائيل" وإسرائيل, "وملك الموت من الصافين أقدامهم في الصلاة وأداء الطاعة ومنازل الخدمة المسبحين المنزهين الله عمَّا لا يليق به، قال اليضاوي: ولعلَّ الأول إشارة إلى درجاتهم في الطاعة, وهذا في المعارف, وعبارة الحليمي: من الصافِّين حول العرش, انتهى.
يعني: فهذا يضعِّف تفسيره بالأربعة وما قبله تضعيف للتفسير بحملة العرش, "وضعَّف القول الخامس لأن الحور العين والولدان في الجنة، وهي فوق السماوات ودون العرش, فلم تدخل في الآية "وهي بانفرادها عالم مخلوق للبقاء، فلا شَكَّ أنها بمعزل" أي: بجانب بعيد عمّا خلقه الله للفناء وعبارة الحليمي والجنة والنار عالمنا بانفرادهما خلقًا للبقاء، فهما بعزل عمَّا خلق للفناء فلم يدخل أهلهما في الآية "ثم وردت الأخبار بأن الله تعالى يميت حملة العرش وملك الموت وميكائيل" وإسرافيل وجبريل, "ثم يحييهم".
"وأمَّا أهل الجنَّة فلم يأت عنهم خبر" بمثل ذلك، فلا يقال أنهم مثل أولئك؛ إذ لا دخل هنا للقياس "والأظهر أنها دار خلود, فالذي يدخلها لا يموت فيها أبدًا" وكذلك النار، كما قال تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} [فاطر: 36] "مع كونه قابلًا للموت، فالذي خلق فيها أَوْلَى أن لا يموت فيها أبدًا.
قال الحليمي: وأيضًا فإنَّ الموت لقهر المكلفين ونقلهم من دار إلى دار, ولا تكليف على أهل الجنة فأعفوا من الموت أيضًا, "فإن قلت: قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ،(12/275)
الجنة نفسها تفنى ثم تعاد ليوم الجزاء، ويموت الحور العين ثم يحيون.
أجيب: بأنَّه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: إنه قابل للهلاك, فيهلك إن أراد الله به ذلك, إلا هو سبحانه فإنه قديم, والقديم لا يمكن أن يفنى, انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي.
ويؤيد القول بعد موت الحور العين قولهنّ: نحن الخالدات فلا نموت، كما في الحديث.
ولا يقال: المراد من قولهن: الخلود الكائن بعد القيامة؛ لأنه لا خصوصية فيه، والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها، والله أعلم.
وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان من طريق وهب بن منبه من قوله: قال: خلق الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة، ثم قال للعرش: خذ
__________
يدل على أن الجنة نفسها تفنى" وكذا النار, "ثم تعاد ليوم الجزاء, ويموت الحور العين ثم يحيون" وبه قال بعضهم توفية بظاهر الآية.
"أجيب بأنه يحتمل أن يكون معنى قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي: قابل للهلاك، فيهلك إن أراد الله به ذلك, إلا هو سبحانه, فإنه قديم, والقديم لا يمكن أن يفنى. انتهى ملخصًا من تذكرة القرطبي"
"ويؤيد القول بعدم موت الحور العين قولهن" فيما يغنين به لأزواجهنّ في الجنة: "نحن الخالدات فلا نموت" أبدًا "كما في الحديث، ولا يقال: المراد من قولهن" ذلك "الخلود الكائن بعد القيامة" فلا ينافي موتهنَّ قبلها؛ لأنه لا خصوصية فيه" لهنّ؛ إذ كل من دخل الجنة كذلك, "والأوصاف المشتركة لا يتباهى بها والله أعلم" لكن يحتمل أن قولهنَّ ذلك من باب التحدث بالنعمة, "وفي كتاب العظمة لأبي الشيخ بن حبان" بفتح المهملة والتحتية الثقيلة, واسمه: عبد الله "من طريق وهب بن منبه" بشد الموحدة المكسورة "من قوله" أي: كلامه الذي لم يروه عن صاحب ولا رفعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فكأنه من الإسرائيليات، ولم يفهم هذا من تعسف، فجعل قول المصنف من قوله بيانًا لما مقدرة في قوله: وفي كتاب، أي: وما في كتاب, وأنه عطف على قوله سابقًا قولهن من قوله، ويؤيد القول بعدم موت الحور، كذا قال مع أنه لا تأييد في هذا أصلًا لذلك؛ إذ لا ذكر فيه للحور، قال وهب: "خلق الله الصور من لؤلؤة بيضاء في صفاء الزجاجة" بزاي وجيمين واحدة- الزجاج -مثلث الزاي- معروف كما في القاموس, وتلك اللؤلؤة(12/276)
الصور فتعلق به، ثم قال: كن فكان إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور فأخذه وبه ثقب بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة، فذكر الحديث وفيه: ثم تجمع الأروح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه فتدخل كل روح في جسدها، وعلى هذا, فالنفخ يقع في الصور أولًا؛ ليصل النفخ بالروح إلى الصور وهي الأجساد،
__________
الموصوفة بشدة البياض على صورة قرن، فلا يخالف ما رواه أبو داود والترمذي، وحسنه وصححه الحاكم وابن حبان عن عمرو, أن أعرابيًّا سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الصور، فقال: قرن ينفخ فيه، وإلى ذلك يشير قول ابن مسعود: الصور كهيئة القرن ينفخ فيه.
أخرجه مسدد بسند صحيح عن موقوفًا: "ثم قال للعرش: خذ الصور فتعلّق به", أي: أخذه, "ثم قال" تعالى: "كن فكان" أي: وجد, أي: خلق, "إسرافيل، فأمره أن يأخذ الصور" من العرش فأخذه, ولأحمد والطبراني بسند جيد عن زيد بن أرقم رفعه، كيف أنعم وصاحب الصور قد التقم القرن وأحنى جبهته وأصغى السمع متى يؤمر، فسمع ذلك الصحابة فشقَّ عليهم فقال -صلى الله عليه وسلم: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل"، وصحَّح الحاكم عن أبي هريرة رفعه: "إن طرف صاحب الصور منذ وكِّل به مستعد ينظر نحو العرش مخافة أن يؤمر قبل أن يرتد إليه طرفه، كأنَّ عينيه كوكبان دريان" , "وبه ثقب" بمثلثة وقاف وموحدة: جمع ثقب وهو الخرق, "بعدد كل روح مخلوقة ونفس منفوسة" أي: مولودة كما في النهاية, فالعطف مغاير، أي: ما من شأنها أن تولد, وإلّا فهناك نفوس تخلق من الطين ومن العفونات, فذكر الحديث.
فقال: لا يخرج روحان من ثقب واحد, وفي وسط الصور كوة كاسدارة السماء والأرض, وإسرافيل واضع فمه على تلك الكوة، ثم قال له الرب تعالى: قد وكَّلتك بالصور، فأنت للنفخة وللصيحة، فدخل إسرافيل في مقدم العرش، فأدخل رجله اليمنى تحت العرش وقدم اليسرى ولم يغض طرفه منذ خلقه الله ينتظر ما يؤمر به، فقال: والبحر المسجور أوَّله في علم الله, وآخره في إرادة الله, فيه ماء ثخين شبه ماء الرجل, تسير الموجة خلف الموجة سبعين عامًا لا تلحقها, يمطر الله منه على الخلق أربعين يومًا بين الراجفة والرادفة, فينبتون نبات الحبة في حميل السيل, ويجمل أرواح المؤمنين من الجنان, وأرواح الكفار من النار, فتجعل في الصور, "وفيه: ثم تجتمع الأرواح كلها في الصور، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ فيه" أي: الصور "فتدخل كل روح في جسدها".
وبقية هذا الأثر: ثم يأمر الله جبريل أن يدخل يده تحت الأرض فيحركها حتى تنشق وينفضهم على الارض فإذا هم قيام ينظرون, وعلى هذا فالنفخ يقع في الصور أولًا ليصل النفخ" أي: أثره, "بالروح أي: الأرواح فتذهب "إلى الصور" بفتح الواو, "وهي الأجساد" جمع(12/277)
فإضافة النفخ إلى الصور الذي هو القرن حقيقة، وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز.
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمر، رفعه: "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا، ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل, فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".
و"الليت" بكسر اللام وبالمثناة التحتية ثم الفوقية: صفحة العنق، وهما ليتان.
وأصغى: أمال.
وأخرج البيهقي بسند قوي، عن ابن مسعود موقوفًا: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه -والصور قرن- فلا يبقى الله خلق في السماوات
__________
صور "فإضافة النفخ إلى الصور" بضم فسكون الذي هو القرن حقيقة, وإلى الصور التي هي الأجساد مجاز".
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاص "رفعه" أي: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرج الدجال في أمتي" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم ينفخ في الصور لا يسمعه أحد إلّا أصغى ليتا" بكسر فسكون، أي: أمال صفحة عنقه, "ورفع ليتا" أي: أنه يميلها ويرفعها، وأسقط بعد هذا في مسلم: فأوّل من يسمعه رجل يلوط حوض إبله فيصعق ويصعق الناس، وقوله: يلوط، أي: يطين ويصلح ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطل" المطر الخفيف, "فينبت منه أجساد الناس, ثم ينفخ فيه أخرى" النفخة الثانية, "فإذا هم" أي: جمع الموتى "قيام ينظرون" ينتظرون ما يفعل بهم, "والليت بكسر اللام وبالمثناة التحتية" الساكنة، ثم "الفوقية صفحة العنق وهما ليتان" من الجانبين, "وأصغى: أمال" صفحة عنقه مجازًا لأن حقيقته الاستماع.
"وأخرج البيهقي" في البعث وشيخه الحاكم وصحَّحه "بسند قوي عن ابن مسعود" في حديث طويل "موقوفًا" عليه, وما في نسخ مرفوعًا خطأ، فقد صرَّح في مجمع الزوائد بأنه موقوف، وأوَّله عند البيهقي وغيره عن ابن مسعود أنه ذكر عنده الدجال، فقال: "تفترق الناس ثلاث فرق" فذكر الحديث إلى أن قال: "ثم يقوم ملك الصور بين السماء والأرض فينفخ فيه" قال القرطبي: قال علماؤنا: الأمم مجمعون على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل، وفي الأحاديث ما يدل على أن معه ملكًا آخر، فلعلَّ له قرنًا آخر ينفخ فيه. انتهى.(12/278)
والأرض إلا مات، إلا من شاء ربك، ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون". وأخرج ابن المبارك في الرقاق من مرسل الحسن: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي، والأخرى يحيى الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس، وهو ضعيف.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا، وأنا
__________
وما ترجاه صرح به عند ابن ماجه والبزار عن أبي سعيد مرفوعا: "إن صاحبي الصور بأيديهما قرنان يلاحظان النظر متى يؤمران" , وفي حديث عائشة عند الطبراني بسند حسن رفعته: "وملك الصور جاث على ركبته وقد نصب الأخرى, فالتقم الصور فحنى ظهره، وقد أمر إذا رأى إسرافيل قد ضمّ جناحيه أن ينفخ في الصور".
قال الحافظ: هذا يدل على أن النافخ غير إسرافيل, فيحمل على أنه ينفخ النفخة الأولى إذا رأى إسرافيل ضم جناحيه، ثم ينفخ إسرافيل النفخة الثانية وهي نفخة البعث, "والصور قرن" من لؤلؤة بيضاء على ما مر "فلا يبقي الله خلق في السماوات والأرض" ممن كان حيًّا حين النفخ, "إلا مات, إلا من شاء ربك, ثم يكون بين النفختين ما شاء الله أن يكون" أبهمه.
وقال الحليمي: اتفقت الروايات على أن بينهما أربعين سنة، وفي جامع ابن وهب: أربعين جمعة, وسنده منقطع.
"وأخرج ابن المبارك في" كتاب "الرقاق" بكسر الراء- جمع رقيق, أي الأمور التي ترقق القلب وتلينه, من مرسل الحسن البصري: بين النفختين أربعون سنة، الأولى يميت الله بها كل حي, والأخرى يحيي الله بها كل ميت، ونحوه عند ابن مردويه من حديث ابن عباس" موقوفًا "وهو ضعيف" أي: إسناده في الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: يا أبا هريرة أربعون يومًا، قال أبيت، قالوا: شهرًا قال: أبيت، قالوا: عامًا، قال: أبيت, قيل: معناه: امتنعت عن بيان ذلك، وعلى ذلك فعنده علم من ذلك سمعه منه -صلى الله عليه وسلم، وقيل: معناه: امتنعت أن أسأله -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك, وعلى هذا لم يكن عنده علم, قال القرطبي: والأول أظهر, وإنما لم يبينه لأنه لا ضرورة إليه، وقد ورد من طريق آخر أن بين النفختين أربعين عامًا. انتهى.
أي: عن ابي هريرة مرفوعًا, في حديث عند أبي داود في كتاب البعث، لكن قال الحافظ: قد ورد من طرق أنَّ أبا هريرة صرَّح بأنه ليس عنده علم بالتعيين, وعند ابن مردويه بسند جيد، أنَّ أبا هريرة لما قال أربعون، قالوا: ماذا؟ قال: هكذا سمعت.
"وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا إذا بعثوا" من قبورهم وهو بمعنى قوله: "أنا أول من تنشق عنه الأرض" وهذا من كمال عناية ربه به؛ حيث منحه هذا السبق(12/279)
قائدهم إذا وفدوا, وأنا خطيبهم إذا أنصتوا, وأنا شفيعهم إذا حبسوا, وأنا مبشرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي، ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف عليّ ألف خادم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الدارمي، وقال الترمذي: حديث غريب.
ولم يقل: وأنا إمامهم؛ لأن دار الآخرة ليست دار تكليف.
__________
وفيه مناسبة لسبقه بالنبوة, "وأنا قائدهم إذا وفدوا" قدموا على ربهم ركبانًا على نجائب من نور من مراكب الآخرة, والوافد الراكب، قاله ابن كثير وغيره، لكنه هنا مجرد عن بعض معناه مستعمل في مطلق القدم؛ لأن الذين يحشرون ركبانًا إنما هم المتقون، فأمَّا العصاة فمشاة كما في أحاديث, وهو -صلى الله عليه وسلم- قائد لجميع المؤمنين الطائعين والعصاة, "وأنا خطيبهم" أي: المتكلم عنهم "إذا انصتوا".
قال بعض شراح الترمذي: هذه خطبة الشفاعة، وقيل: قبلها, "وأنا شفيعهم إذا حبسوا" منعوا عن الجنة, "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربي ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس, وفي رواية: أبلسوا, من الإبلاس وهو الانكسار والحزن, "الكرامة" التي يكرم الله عباده يومئذ, "والمفاتيح يومئذ" أي: يوم القيامة ظرف له وللكرامة, والخبر قوله: كائنان, "بيدي" تصرفي وقدرتي, "ولواء الحمد يومئذ بيدي, وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأوّل؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى, "يطوف عليّ" بشد الياء "ألف خادم كأنهم بيض مكنون" شبههم ببيض النعام المصون من الغبار، ونحوه في الصفاء والبياض المخلوط بأدنى صفرة، فإنه أحسن ألوان الأبدان, "أو لؤلؤ منثور" من سلكه أو من صدفه, وهو أحسن منه في غير ذلك شبههم به لحسنهم وانتشارهم في الخدمة، وهذا قاله تحدثًا بنعمة ربه كما أمره.
قال القرطبي: ولأنه مما أمر بتبليغه لوجوب اعتقاده وأنَّه حق في نفسه, وليرغب في الدخول في دينه, ويتمسك به من دخل فيه، ولتعظم محبته في قلوب متبعيه, فتكثر أعمالهم, وتطيب أحوالهم, فيحصل لهم شرف الدنيا والآخرة؛ لأن شرف المتبوع متعد لشرف التابع، فإن قيل: هذا راجع للاعتقاد, فكيف يحصل القطع به من أخبار الآحاد، قلنا: من سمع شيئًا من هذه الأمور منه -صلى الله عليه وسلم- مشافهةً حصل له العلم به كالصحابة، ومن لم يشافهه حصل له العلم به من طريق التواتر المعنوي لكثرة أخبار الآحاد به.
"رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن الحافظ, "وقال" تلميذه "الترمذي" بعد روايته له مختصرًا: ولذا لم يعزه له المصنف "حديث غريب", وفيه الحسن بن يزيد الكوفي، قال أبو حاتم: ليّن, "ولم يقل: وأنا إمامهم" بدل قوله: وأنا قائدهم؛ "لأن دار الآخرة ليست دار تكليف", وهو إخبار عن حاله فيها.(12/280)
وفي حديث رواه صاحب كتاب "حادي الأرواح". أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال بين يديه ينادي بالأذان.
وفي كتاب "ذخائر العقبى" للطبري، مما عزاه لتخريج الحافظ السلفي, من حديث أبي هريرة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تبعث الأنبياء على الدواب، ويحشر صالح على ناقته، ويحشر ابنا فاطمة على ناقتيَّ العضباء والقصواء، وأحشر أنا على البراق، خطوها عند أقصى طرفها، ويحشر بلال على ناقة من نوق الجنة".
__________
"وفي حديث رواه صاحب كتاب حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح, وهو العلامة ابن القيم, "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة وبلال" بن رباح, أحد السابقين الأولين, "بين يديه ينادي بالأذان" كما كان ينادي به في الدنيا, "وفي كتاب ذخائر العقبى" في مناقب ذوي القربى للطبري, الحافظ محبّ الدين المكي, "مما عزاه" نسبة "لتخريج الحافظ" العلامة الناقد, الديّن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الأصبهاني "السلفي" بكسر المهملة وفتح اللام وبالفاء- نسبة إلى سلفة, لقب لجده أحمد، ومعناه: الغليظ الشفة, له تصانيف.
وروى عنه الحفَّاظ ومات سنة ست وسبعين وخمسمائة, "من حديث أبي هريرة, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تبعث الأنبياء عل الدواب" إبل من الجنة، وعند الحاكم والبيهقي وغيرهما عن على أنه قرأ: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِين} [مريم: 85] فقال: "والله ما يحشر الوفد على أرجلهم ولا يساقون سوقًا، ولكنهم يؤتون بنوق من نوق الجنة, لم تنظر الخلائق إلى مثلها, عليها جلال الذهب, وأزمَّتها الزبرجد، فيركبون عليها حتى يقرعوا باب الجنة" , "ويحشر صالح" في قوة الاستثناء كأنه قال: إلّا صالحًا فيحشر "على ناقته" التي عقرها مكذبوا, "ويحشر إبنا فاطمة" الحسن والحسين "على ناقتيَّ" بشد الياء مثنى, "العضباء" بمهملة فمعجمة فموحدة ومد, "والقصواء" بالمد، وهذا حجة للقول بأنهما ناقتان، ورد للقول بأنهما واحدة، وللقول الآخر أنهما مع الجدعاء أسماء لناقة واحدة، ومَرَّ بسط ذلك في الدواب, "وأحشر أنا على البراق" بضم الموحدة- دابة فوق الحمار ودون البغل كما مَرَّ بيانه في المعراج, المخصوص بنبينا -صلى الله عليه وسلم، ومَرَّ الخلاف: هل ركب البراق غيره من الأنبياء في الدنيا أم لا، فقول المصباح: تركبه الرسل عند المعراج إلى السماء, صوابه الرسول بالإفراد لاختصاص المعراج به اتفاقًا، ثم بعد ذلك كونه عرج على البراق قول ضعيف، والصحيح أنه ربطه ببيت المقدس وعرج على المعراج, "خطوها" بالتأنيث على معنى البراق وهو دابة "عند أقصى طرفها" منتهى بصرها, "ويحشر بلال" المؤذّن "على ناقة من نوق الجنة" المخلوقة من نور.(12/281)
وأخرجه الطبراني والحاكم بلفظ: "يحشر الأنبياء على الدواب، وأبعث على البراق، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة فينادي بالأذان محضًا وبالشهادة حقًّا، حتى إذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين".
وعند ابن زنجويه في "فضائل الأعمال" عن كثير بن مرة الحضرمي، قال:
__________
"وأخرجه" أي حديث أبي هريرة المذكور "الطبراني والحاكم بلفظ: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تحشر الأنبياء" يوم القيامة "على الدواب" ليوافوا المحشر, ويبعث صالح على ناقته، هذا أسقطه المصنف من لفظ عزاه لهما, "وأبعث على البراق" إكرامًا له بركوبه مركوبًا لا يشبهه ما يركبه غيره، وأسقط من لفظ من عزاه لهما, ويبعث إبناي الحسن والحسين على ناقتين من نوق الجنة, وبعده قوله: "ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي بالأذان محضًا" خالصًا من معارضة المنكرين في الدنيا لكشف الغطاء وظهور الحق عيانًا؛ لأنه لا ينكره أحد ذلك اليوم, "وبالشهادة حقًّا" أي: ثابتًا لا يقبل التغيير ولا التبديل، ولا معارضة بين الروايتين فيما يركبه الحسنان؛ لجواز ركوبهما الأمرين العضباء والقصواء، ثم يركبان ناقتين من الجنة أو عكسه, زيادة في إكرامهما وتعظيمهما؛ إذ لو قصر ركوبهما على ناقتيّ جدهما لنقصا عن غيرهما الراكبين من نوق الجنة, "حتى إذا قال" بلال: "أشهد أن محمدًا رسول الله" هكذا الرواية عند الطبراني والحاكم، فلا عبرة بما في نسخ سقيمة من زيادة: أشهد أن لا إله إلا الله, "شهد له المؤمنون من الأولين والآخرين" , "فقبلت ممن قلبت, وردت على من ردت".
هذا بقية الحديث. عند من عزاه لهما فلم يوفّ بقوله بلفظ, بل حذف منه جملًا كما علم.
"وعند ابن زنجويه" بزاي مفتوحة فنون ساكنة فجيم مضمومة فواو ساكنة عند المحدثين؛ لأنهم لا يحبون، وبه وهو لقب لمخلد والد حميد -بضم المهملة- ابن مخلد بن قتيبة بن عبد الله الأزدي, أبي أحمد النسائي الحافظ الثقة الثبت، روى عن أبي عاصم النبيل, وعليّ بن المديني, ومحمد بن يوسف الفريابي, وعنه أبو داود والنسائي وغيرهما، مات سنة ثمان، وقيل: سبع وأربعين ومائتين، وقيل: سنة إحدى وخمسين ومائتين, "في فضائل الأعمال" أحد تصانيفه, "عن كثير بن مرة الحضرمي" نزيل حمص, له إدراك, أرسل حديثًا فذكره عبدان المروزي وابن أبي خيثمة في الصحابة، وذكره غيرهما في التابعين، ووثَّقه ابن سعد والعجلي والنسائي وغيرهم, وأدرك سبعين بدريًّا.
وروى له أصحاب السنن والبخاري في جزء القراء خلف الإمام, وذكره فيمن مات في(12/282)
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود لصالح فيركبها من عند قبره حتى توافي به المحشر، وأنا على البراق, اختصصت به من دون الأنبياء يومئذ، ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة, ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا، فإذا سمعت الأنبياء وأممها: أشهد أن محمدًا رسول الله, قالوا: ونحن نشهد على ذلك".
وذكر الشيخ زين الدين المراغي، مما عزاه لابن النجار في تاريخ المدينة عن كعب الأحبار، والقرطبي في "التذكرة", وابن أبي الدنيا عن كعب, أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها، فذكروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال كعب: ما من فجر يطلع إلا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفون بالقبر، ويضربون بأجنحتهم, ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم, حتى إذا أمسوا عرجوا وهبط سبعون ألف ملك يحفون بالقبر
__________
العشر الثاني من الهجرة, قاله في الإصابة ملخصًا "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "تبعث ناقة ثمود" يوم القيامة "لصالح, فيركبها من عند قبره حتى توافي" أي تأتي "به المحشر, وأنا على البراق اختصصت" بالبناء للمفعول، أي: خصَّني الله به من دون الأنبياء يومئذ, فإنهم يركبون على الدوابّ كما مَرَّ, "ويبعث بلال على ناقة من نوق الجنة ينادي على ظهرها بالأذان حقًّا" ثابتًا, "فإذا سمعت الأنبياء وأممها أشهد أنَّ محمدًا رسول الله، قالوا: ونحن نشهد على ذلك", وجزم الحليمي والغزالي بأن الذين يحشرون ركبانًا يركبون من قبورهم، وقال الإسماعيلي: يمشون من قبورهم إلى الموقف, ويركبون من ثَمَّ جمعًا بينه وبين حديث الصحيحين: "يحشر الناس حفاة مشاة"، قال البيهقي: والأوّل أَوْلَى، ثم لا يعارض هذا ما ورد مرسلًَا أنَّ المؤمن يركب عمله, والكافر يركبه عمله؛ لأن بعضهم يركب الدواب وبعضهم الأعمال أو يركبونها فوق الدواب.
"وذكر الشيخ زين الدين المراغي" بميم مفتوحة وغين معجمة- من مراغة الصيد بمصر, "مما عزاه لابن النجار" محمد بن محمد الحافظ, في تاريخ المدينة" المسمَّى بالدرر الثمينة "عن كعب الأحبار, والقرطبي في التذكرة, وابن أبي الدنيا" وأبو الشيخ ابن المبارك, كلهم "عن كعب" بن مانع, المعروف بكعب الأحبار "أنه دخل على عائشة -رضي الله عنها- فذكروا رسول الله" أي: ما يتعلق به مما خصّ به من الكرامات "صلى الله عليه وسلم، فقال كعب: ما من فجر يطلع إلّا نزل سبعون ألفًا من الملائكة حتى يحفّون" أي: يطوفون. كذا في النسخ بالنون, "بالقبر" النبوي "يضربون بأجنحتهم, ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم", لفظ رواية المذكورين: "يضربون قبر النبي صلى الله عليه وسلم بأجنحتهم ويحفون به ويستعفرون له ويصلون عليه, حتى إذا أمسوا عرجوا, وهبط سبعون ألفًا بالليل, وسبعون ألفًا بالنهار, حتى إذا انشقت عنه الأرض, خرج في سبعين ألفًا(12/283)
يضربون بأجنحتهم ويصلون على النبي -صلى الله عليه وسلم، سبعون ألفًا بالليل وسبعون ألفًا بالنهار، حتى إذا انشقَّت عنه الأرض خرج في سبعين ألفًا من الملائكة يوقرونه -صلى الله عليه وسلم.
وفي "نوادر الأصول" للحكيم الترمذي, من حديث ابن عمر قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبي بكر, وشماله على عمر، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة".
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أول من تنشق عنه الأرض, فأكسى حلة من حلل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري" رواه الترمذي, وفي رواية جامع الأصول عنه: "أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى" , وفي رواية كعب: "حلة خضراء".
__________
من الملائكة يوقرونه" يعظمونه, "صلى الله عليه وسلم" إكرامًا. لم ينقل عن غيره, ولعلَّ كعبًا علم هذا من الكتب القديمة لأنه حبرها.
"وفي نوادر الأصول للحكيم" محمد بن علي "الترمذي" من طبقة البخاري, "من حديث ابن عمر" قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويمينه على أبي بكر, وشماله على عمر، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة" , ولعل ذلك عقب خروجهم من القبر, ركوب المصطفى البراق وركوبهما الناقتين.
وعند ابن أبي عاصم عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد وأبو بكر عن يمينه آخذًا بيده, وعمر عن يساره آخذًا بيده, وهو متكيء عليهما، فقال: "هكذا نبعث يوم القيامة" ولا خلف، فإنه خرج من بيته ودخل المسجد.
وعن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض فأكسى" بالبناء للمفعول "حلة من حلل الجنة" تكرمة له؛ حيث أتى من لباسها قبل دخولها؛ كدأب الملوك مع خواصّها، وشاركه في ذلك إبراهيم مجازاةً على تجرده حين ألقي في النار, "ثم أقوم عن يمين العرش" فوق كرسي يؤتى له به كما يأتي, "ليس أحد من الخلائق" جمع خليقة, فيمشل الثقلين والملائكة, "يقوم ذلك المقام غيري" خصيصة شرَّفني الله بها, وأخذ أعم العام وهذا هو الفضل المطلق، والمراد بالمقام يمين العرش, فلا يعارض ما ورد أن إبراهيم يقوم على يسار العرش.
"رواه الترمذي" وقال: حسن صحيح غريب, "في رواية جامع الأصول، عنه" أي: الترمذي: "أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى" إلى آخر الحديث.
وفي رواية كعب" بن مالك الأنصاري السلمي مرفوعًا في حديث بلفظ: "ويكسوني ربي(12/284)
وفي البخاري، من حديث ابن عباس عنه -صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاة عراة غرلًا، كما بدأنا أول خلق نعيده, وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم".
وأخرجه البيهقي، وزاد: "وأول من يكسى من الجنة إبراهيم، يكسى حلة من الجنة, ويؤتى بكرسي فيطرح عن يمين العرش، ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم لها البشر" , وفيه: أنه يجلس على الكرسي عن يمين العرش.
__________
حلة خضراء" رواه الطبراني فبيّن لونها, "وفي البخاري" في مواضع, ومسلم والترمذي، ويأتي للمصنف قريبًا، عزوه للشيخين "من حديث ابن عباس، عنه -صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "إنكم تحشرون" عند الخروج من القبور حال كونكم "حفاة" بضم الحاء وخفة الفاء- جمع حافٍ، أي: بلا خف ولا نعل, "عراة" لا ثياب عليهم, "غرلًا" بضم الغين المعجمة وإسكان الراء- يعني: غير مختونين, والغرلة ما يقطعه الخاتن وهي القلقة، قال في البدور: ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان, وكذلك يرد إليه كل جزء فارقه في الحياة كالشعر والظفر ليذوق الثواب وأليم العذاب انتهى.
ونحوه قول ابن عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا، ولكل من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه شيء يرد إليه حتى الأقلف، وقال أبو الوفاء بن عقيل: "حشفة الأقلف موقاة بالقلفة, فتكون أرق, فلما زالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من حلاوة فضله، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} , أي: نوجده بعينه بعد إعدامه مرة أخرى, أو تركيب أجزائه بعد تفريقها من غير إعدام, والأول أوجه؛ لأنه تعالى شبّه الإعادة بالابتداء, والابتداء ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة، بل عن الوجود بعد العدم، فوجب أن تكون الإعادة كذلك، وأورد الطيبي أن سياق الآية في إثبات الحشر والنشر؛ لأن المعنى: نوجدكم من العدم كما أوجدناكم أولًا من العدم، فكيف يستشهد بها للمعنى المذكور، أي: من كونهم غرلًا، وأجاب بأن سياق الآية وعبارتها يدل على إثبات الحشر وإشارتها على المعنى المراد من الحديث, فهو من باب الإدماج, انتهى.
"وإن أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم"؛ لأنه جُرِّدَ حين ألقي في النار، أو لأنه أوّل من لبس السراويل.
وأخرجه البيهقي" في البعث "وزاد: "وأول من يكسى من الجنة إبراهيم, يكسى حُلَّة من الجنة" فبيِّن ما يكساه, "ويؤتى بكرسي فيطرح" أي: يجعل "ويوضع عن يمين العرش, ثم يؤتى" بحاء "بي فأكسى حلة من الجنة لا يقوم" أي: لا يصلح "لها البشر" , فاستعمل القيام في لازم معناه اللغوي, وهو الاستقلال بالأمر دون غيره، وذلك اللازم عدم صلاحية غيره لتلك الحلة(12/285)
ولا يلزم من تخصيص إبراهيم -عليه السلام- بأنه أوّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا -صلى الله عليه وسلم، على أنه يحتمل أن يكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره في ثيابه التي مات فيها، والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة، بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسورة بالنسبة لبقية الخلق.
وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا، ثم يكسى نبينا -عليهما الصلاة والسلام- على ظاهر الخبر، لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية.
وفي حديث أبي سعيد عند أبي داود وصححه ابن حبان، أنه لما حضره الموت, دعا بثياب جدد فلبسها وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها".
__________
"وفيه" أي: في بقية حديث البيهقي المذكور "أنه" صلى الله عليه وسلم "يجلس على الكرسي عن يمين العرش" فمعنى قوله في الحديث السابق: "ثم أقوم على يمين العرش"، أي: أثبت جالسًا على الكرسي, بدليل هذه الرواية, "ولا يلزم من تخصيص إبراهيم -عليه السلام- بأنه أوَّل من يكسى أن يكون أفضل من نبينا -صلى الله عليه وسلم"؛ لأن المفضول قد يمتاز بشيء يخص به, ولا يلزم منه الفضيلة المطلقة، وقول صاحب المفهم: يجوز أن يراد بالخلائق ما عدا نبينا -صلى الله عليه وسلم, فلا يدخل في عموم خطابه، تعقّبه تلميذه في التذكرة بحديث علي عند ابن المبارك في الزهد: أوَّل من يكسى يوم القيامة خليل الله قبطيتين، ثم يكسى محمد -صلى الله عليه وسلم- حلة حبرة عن يمين العرش. انتهى.
"على أنَّه يحتمل أن يكون نبينا -صلى الله عليه وسلم- خرج من قبره في ثيابه التي مات" أي: دفن "فيها, والحلة التي يكساها يومئذ حلة الكرامة, بقرينة إجلاسه عند ساق العرش، فتكون أولية إبراهيم في الكسوة بالنسبة لبقية الخلق", وعلى هذا الاحتمال يكون ذلك خصوية أخرى للمصطفى؛ حيث تبلى ثياب الخلائق وثيابه لا تبلى حتى يكسى الحلة.
"وأجاب الحليمي بأنه يكسى إبراهيم أولًا, ثم يكسى نبينا -عليهما السلام, على ظاهر الخبر, لكن حلة نبينا أعلى وأكمل، فيجبر بنفاستها ما فات من الأولية" فكأنه كُسِيَ مع الخليل.
هذا بقية كلام الحليمي, "وفي حديث أبي سعيد الخدري عند أبي داود وصححه ابن حبان "والحاكم "أنه لما حضره الموت" أي: أسبابه, وفي رواية: لما احتضر, دعا بثياب جدد فلبسها, وقال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها".(12/286)
وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع: فإنهم يبعثون في أكفانهم ويتزاورون في أكفانهم.
ويجمع بينه وبين ما في البخاري بأنَّ بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا، أو يحشرون كلهم عراة ثم يكسى الأنبياء، وأوّل من يكسى إبراهيم -عليه السلام، أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها, ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر، فيحشرون عراة, ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم.
وحمل بعضهم حديث أبي سعيد على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء, فحمله على العموم.
__________
"وعند الحارث بن أبي أسامة وأحمد بن منيع" بفتح الميم وكسر النون- ابن عبد الرحمن البغوي, نزيل بغداد, حافظة ثقة, يروي عنه مسلم والأربعة وغيرهم، مات سنة أربع وأربعين ومائتين, وله أربع وثمانون سنة، وكذا عند الخطيب, الثلاثة عن جابر رفعه: "إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه" , "فإنهم يبعثون" من قبورهم "في أكفانهم" التي يكفنون فيها, "ويتزاورون" يزور بعضهم بعضًا في القبور "في أكفانهم" إكرامًا للمؤمنين, بتأنيس بعضهم ببعض, كما كان حالهم في الدنيا, وإن كانت الأحياء لا تشاهد ذلك، فأحوال البرزخ لا يقاس عليها، وحديث جابر هذا إسناده صالح, كما نقله الحافظ في اللسان عن العقيلي.
ورواه هو والخطيب وسموية من حديث أنس مثله, ويجمع كما قال البيهقي وغيره "بينه" أي: ما ذكر من هذه الأحاديث المصرّحة بأنهم يحشرون كاسين, "وبين ما في البخاري" ومسلم: "إنكم تحشرون حفاة عراة" , "بأن بعضهم يحشر عاريًا وبعضهم كاسيًا" بثيابه, "أو يحشرون كلهم عراة ثم تكسى الأنبياء, وأول من يكسى إبراهيم -عليه السلام"؛ لأنه جُرِّدَ لما ألقي في النار، أو لأنَّه أول من لبس السراويل، أو لشدة خوفه من الله, فعجلت له الكسوة أمانًا له ليطمئن قلبه.
واختاره الحليمي, وروى ابن مندة مرفوعًا: "أوَّل من يكسى إبراهيم، فيقول الله: اكسوا خليلي ليعلم الناس فضله عليهم" , "أو يخرجون من القبور بالثياب التي ماتوا فيها، ثم تتناثر" تتساقط عنهم عند ابتداء الحشر, فيحشرون عراة، ثم يكون أوّل من يكسى إبراهيم -عليه السلام, وحمل بعضهم حديث أبي سعيد، أنَّ الميت يبعث في ثيابه التي مات فيها "على الشهداء، فيكون أبو سعيد سمعه في الشهداء" الذين أمر أن يدفنوا بثيابهم التي قتلوا فيها وبها الدم, "فحمله" أبو سعيد "على العموم" في الشهداء وغيرهم، وهذا نقله القرطبي وفيه بعد.(12/287)
وأمَّا ما رواه الطبري في "الرياض النضرة", وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج بن زيد الهذلي, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه أوّل من يدعى به يوم القيامة بي، فأقوم عن يمين العرش في ظله، فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض، فيقومون سماطين عن يمين العرش, ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة، ألا وإنَّ أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أبشر، فأوّل من يدعى بي، فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله تعالى يستظلون بظل لوائي يوم القيامة, وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة، وسنانه ياقوتة حمراء، قبضته فضة بيضاء، زجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور, ذؤابة في المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالث في وسط الدنيا، مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأوّل:
__________
قال البيهقي: وبعضهم حمله على العمل الصالح لقوله: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} "وأمّا ما رواه الطبري" الحافظ محب الدين "في الرياض النضرة" في فضائل العشرة, "وعزاه للإمام أحمد في المناقب عن محدوج" بفتح الميم وإسكان الحاء المهملة فدال مهملة فواو فجيم- ابن زيد الهذلي" ذكره في الإصابة في القسم الأول, وقال: قال أبو نعيم: مختلف في صحبته, "أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "أما علمت يا علي أنَّه" أي: الحال والشأن, "أوَّل من يدعى به يوم القيامة بي" يعني: نفسه -صلى الله عليه وسلم, "فأقوم عن يمين العرش في ظله" , أي: العرش, "فاكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على إثر بعض فيقومون سماطين" بكسر السين بزنة كتابين، أي: جانبين, "عن يمين العرش ويكسون حللًا خضرًا من حلل الجنة" , هذا منابذ لما صحَّ: "لا يقوم ذلك المقام أحد غيري"، يعني: الذي عن يمين العرش, "ألا" بالفتح والتخفيف, "وإنَّ أمتى أوَّل الأمم يحاسبون يوم القيامة ثم أبشر" يا علي -بهمزة قطع- نحو: أبشروا بالجنة, "فأول من يدعى بك" أي: من الأمة, "بعد الأنبياء فيدفع لك لوائي وهو لواء الحمد" بكسر اللام والمد, "فتسير به بين السماطين آدم وجميع ما خلق الله تعالى يستظلون بظلّ لوائي يوم القيامة, وطوله مسيرة ألف سنة وستمائة سنة, وسنانه ياقوتة خضراء" وفي نسخة: حمراء، ولعلّ المراد بالسنان هنا: ما يجعل في رأس اللواء, "قبضته المحل الذي" يقبض منه، أي: يمسك, "فضة بيضاء, زجّه" بضم الزاي وبالجيم, "درة خضراء, له ثلاث ذوائب" بذال معجمة "من نور, ذؤابة في المشرق, وذؤابة في المغرب, والثالثة في وسط الدنيا, مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم, الثاني: الحمد لله رب العالمين, الثالث: لا إله إلا الله(12/288)
بسم الله الرحمن الرحيم, الثاني: الحمد لله رب العالمين، الثالث: لا إله إلا الله الله محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة، فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين إبراهيم -عليه السلام- في ظل العرش، ثم تكسى حلة من الجنة", والسماطان من الناس والنخل: الجانبان".
ورواه ابن سبع في الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته؟ قال: "طوله مسيرة"..... الحديث.
فقال الحافظ قطب الدين الحليمي -كما نقله عنه المحب بن الهائم: إنه موضوع بَيِّن الوضع. قال: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد.
__________
محمد رسول الله، طول كل سطر ألف سنة، وعرضه مسيرة ألف سنة" فنقص كل سطر عن طول ستمائة سنة؛ لأنه قدم أن طوله ألف وستمائة, "فتسير" يا علي "باللواء, والحسن عن يمينك, والحسين عن شمالك, حتى تقف بيني وبين إبراهيم -عليه السلام- في ظل العرش، ثم تكسى" يا علي "حلة من الجنة" والسماطان من الناس والنخل الجانبان".
ورواه ابن سبع -بفتح السين وسكون الموحدة وضمها- أبو الربيع, "في" كتاب "الخصائص بلفظ: قال: سأل عبد الله بن سلام" الصحابي المبشّر بالجنة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن لواء الحمد ما صفته, فقال: "طوله مسيرة" ألف سنة، فذكر الحديث المذكور, فقال الحافظ قطب الدين عبد الكريم بن عبدا لنور الحلبي، ثم المصري، مفيد الديار المصرية وشيخها, وكان حبرًا عالمًا متواضعًا, حسن السمت غزير المعرفة, متقنًا, بلغ شيوخه الألف, ولد في رجب سنة أربع وستين وستمائة, ومات في رجب سنة خمس وثلاثين وسبعمائة, وله تصنيف عديدة, "كما نقله عنه المحب بن الهائم أنه موضوع بَيِّن" أي: ظاهر "الوضع", ولا يقدح ذلك في جلالة من خرَّجه أحمد بن حنبل؛ لأن المحدثين إذا أبرزوا الحديث بسنده برئوا من عهدته, "قال" القطب: والله أعلم بحقيقة لواء الحمد، فيه إيماء إلى أنه حقيقي لا معنوي, وفيه قولان نقلهما الطيبي وغيره, أحدهما: إنه معنوي؛ لأن حقيقة اللواء الراية, والمراد: انفراده بالحمد يوم القيامة, وشهرته على رءوس الخلائق بالحمد, وقيل: حقيقي ورجّح، وعليه التوربشتي؛ حيث قال: لا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع وأعلى من مقام الحمد, ودونه تنتهي جميع المقامات، ولما كان -صلى الله عليه وسلم- أحمد الخلق في الدارين, أعطي لواء الحمد؛ ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، وأضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأنه منصبه في الموقف وهو المقام المحمود المختَصّ به اهـ.(12/289)
وفي حديث أبي سعيد -عند الترمذي بسند حسن- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي, آدم فمن سواه, إلّا تحت لوائي" الحديث.
واللواء: الراية، وفي عرفهم لا يمسكها إلا صاحب الجيش ورئيسه، ويحتمل أن تكون بيد غيره بإذنه, وتكون تابعة له ومتحركة بحركته، تميل معه حيثما مال، لا أن يمسكها بيده؛ إذ هذة الحالة أشرف.
وفي استعمال العرب عند الحروب، إنما يمسكها صاحبها، ولا يمنعه ذلك من القتال بها، بل يقاتل بها ممسكًا لها أشد القتال، ولذا لا يليق بإمساكها كل أحد، بل مثل علي -رضي الله عنه، كما قال: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله".
وإنما أضاف "اللواء" إلى "الحمد" الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن
__________
وفي حديث أبي سعيد" سعد بن مالك الخدري "عند الترمذي بسند حسن" قال الترمذي: حسن صحيح، "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيام ولا فخر, وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه, إلّا تحت لوائي" ... الحديث" قدم المصنف تتمته قريبًا، وهو: "وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، ومَرَّ أن باقيه: "وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع" ولا فخر, "واللواء" بالكسر والمد: الراية، وفي عرفهم" أي: العرب, "لا يمسكها" يحملها "إلّا صاحب الجيش ورئيسه" عظيمه الشريف القدر.
ويحتمل أن تكون مراده, وقد تجعل بيد غيره بإذنه, وتكون تابعة له ومتحركة بحركته, تميل معه حيثما مال, لا أنه يمسكه بيده؛ إذ هذه الحالة أشرف" من كَوْن يمسكها، أي: يحملها بيده, وفي استعمال العرب عند الحروب: إنما يمسكها صاحبها, ولا يمنعه ذلك من القتال بها, بل يقاتل بها" حال كونها ممسكًا لها أشد القتال" معمول يقاتل ولذا لا يليق بإمسكها كل أحد، بل البطل الشجاع الصنديد مثل علي -رضي الله عنه, كما قال -صلى الله عليه وسلم- في غزوة خيبر: "لأعطينَّ الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله, ويحبه الله ورسوله" , أراد وجود حقيقة المحبَّة, وإلّا فكل مسلم يشترك مع علي في مطلق هذه الصفة, وفيه تلميح بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فكأنَّه أشار إلى أن عليًّا تام الاتباع له -صلى الله عليه وسلم- حتى وصفة بصفة محبة الله، ولذا كانت محبته علامة الإيمان, وبغضه علامة النفاق, كما في مسلم وغيره، مرفوعًا: وقدم الجملة الأولى على الثانية إشارةً إلى أن محبَّة الله ورسوله لعلي جزاءً له على محبته لهما, "وإنما أضاف اللواء إلى الحمد الذي هو الثناء على الله بما هو أهله؛ لأن(12/290)
ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء.
وقد اختلف في هيئة حشر الناس.
ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث طرائق، راغبين وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير, وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم
__________
ذلك هو منصبه في ذلك الموقف دون غيره من الأنبياء" والمقام المحمود المخصوص به, واللواء في عرصات القيامة, مقامات لأهل الخير والشر, ينصب في كل مقام, لكلّ متبوع لواء يعرف به قدره، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به عند استه".
رواه أحمد والطيالسي عن أنس بإسناد حسن, وأعلى تلك المقامات مقام الحمد، فأعطي لأحمد الخلائق حمدًا أعظم الألوية, وهو لواء الحمد ليأوي إليه الأولون والآخرون, فهو لواء حقيقي، وعند الله علم حقيقته, ولا وجه لصرفه إلى المجاز, وإن أفتى به السيوطي؛ لأنه لا يعدل عن الحقيقة ما وجد إليها سبيل كما نصّ على ذلك ابن عبد البر وغيره في حديث أكل الشيطان.
"وقد اختلف في هيئة حشر الناس" أتى بلفظ هيئة, إشارةً إلى أنه لا خلاف في الحشر, إنما الخلاف في صفته, ففي البخاري من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس على ثلاث" ولمسلم: "ثلاث طرائق" جمع طريق, يذكر ويؤنث، قال المصنف: أي: فرق, "راغبين راهبين" يغيرا في الفرع كأصله، وقال في الفتح: وراهبين بالواو، وفي مسلم: بغير واو، وعلى الروايتين فهي الطريقة الأولى والفرقة الثانية, "واثنان على بعير, وثلاثة على بعير, وأربعة على بعير, وعشرة" يعتقبون "على بعير".
قال المصنف: بإثبات الواو في الأربعة في فرع اليونينية كهي، وقال الحافظ ابن حجر بالواو في الأول فقط، وفي رواية مسلم والإسماعيلي: بالواو في الجميع, ولم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة إيجازًا واكتفاءً بما ذكر من الأعداء, مع أنَّ الاعتقاب ليس مجزومًا به, ولا مانع أن يجعل الله في البعير ما يقوى به على حمل العشرة، قال: ولم يذكر أن واحدًا على بعير, إشارةً إلى أنه يكون لمن فوقهم كالأنبياء, قال: ويحتمل أن يمشوا وقتًا ثم يركبوا, أو يكونوا ركبانًا، فإذا قاربوا المحشر نزلوا فمشوا، وأما الكفار فإنهم مشاة على وجوههم. انتهى.
وقال البيهقي: قوله: راغبين, إشارة إلى الأبرار, وراهبين: إشارة إلى المخلطين الذين هم بين الرجاء والخوف, والذين تحشرهم النار الكفار، وذكر الحليمي مثله وزاد: إن الأبرار وهم المتقون يؤتون بنجائب من الجنة, وأما البعير الذي يحمل عليه المخلطون فيحتمل أنه من إبل الجنة, وأنه(12/291)
حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا" رواه الشيخان.
وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي، وقيل: إنهم يخرجون من القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم محشورون حفاة عراة غرلًا"، ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} " ثم يفترق حالهم من
__________
من الإبل التي تحيا وتحشر يوم القيامة, وهذا أشبه؛ لأنهم بين الرجاء والخوف, فلم يلق أن يردوا موقف الحساب على نجائب الجنة، قال: ويشبه أيضًا تخصيص هؤلاء بمن تغفر لهم ذنوبهم عند الحساب ولا يعذبون, أمَّا المعذَّبون بذنوبهم فيكونون مشاة على أقدام نقلة في البدور, "وتحشر بقيتهم النار" لعجزهم عن تحصيل ما يركبونه, وهم الفرقة الثالثة، والمراد بالنار هنا: نار الدنيا لا نار الآخرة، فلمسلم في حديث ذكر فيه الآيات الكائنة قبل قيام الساعة كطلوع الشمس من مغربها، ففيه: وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن ترحل الناس، وفي رواية له: تطرد الناس إلى حشرهم، قال المصنف: وقيل: المراد نار الفتنة, وليس المراد نار الآخرة، قال الطيبي: لأنه جعل النار هي الحاشرة, ولو أريد نار الآخرة لقال إلى النار، ولقوله: "تقيل" من القيلولة "معهم حيث قالوا, وتبيت" من البيتوتة "معهم حيث باتوا, وتصبح معهم حيث أصبحوا, وتمسي معهم حيث أمسوا" فإنها جملة مستأنفة بيان للكلام السابق، فإن الضمير في تقيل راجع إلى النار الحاشرة, وهو من الاستعارة، فيدل على أنها ليست النار الحقيقية, بل نار الفتنة كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّه} [المائدة: 64] انتهى. ولا يمتنع إطلاق النار على الحقيقة, وهي التي تخرج من قعر عدن, وعلى المجازية وهي الفتنة؛ إذ لا تنافي بينهما.
"رواه الشيخان" باعتبار أصله, وإن اختلفا في بعض ألفاظه، ولذا نسبه أولًا للبخاري، فلو قال أولًا: فعن أبي هريرة، ثم قال هنا: رواه الشيخان, واللفظ للبخاري لكان أحسن.
"وقد مال الحليمي إلى أنَّ هذا الحشر" المذكور في حديث أبي هريرة, "يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي وقيل" وإليه أشار الخطابي, "أنهم يخرجون في القبور بالوصف المذكور في حديث ابن عباس عند الشيخين" الذي قصر المصنف آنفًا في عزوه للبخاري وحده، "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" وفي رواية عن ابن عباس: قام فينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب، فقال: "إنكم تحشرون" بضم الفوقية- مبني للمفعول، وفي رواية: محشورون -بفتح الميم- اسم مفعول، وفي رواية عن ابن عباس: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب على المنبر، يقول: "إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلًا" بضم المعجمة وإسكان الراء- جمع أغرل، أي: أقلف، زاد في رواية للشيخين: مشاة, "ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} .(12/292)
ثم إلى الموقف، كما في حديث أبي هريرة: "ويحشر الكافر على وجهه"، قال رجل: يا رسول الله، كيف يحشر على وجهه؟ قال: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة" أخرجه الشيخان.
__________
الإعادة والبعث, ونصب وعدًا على المصدر المؤكّد لمضمون الجملة المتقدمة, فناصبه مضمر، أي: وعدناه ذلك وعدًا.
ورواه الشيخان أيضًا عن عائشة بزيادة: فقلت: يا رسول الله, الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، فقال: "يا عائشة, الأمر يومئذ أشد من ذلك"، وللطبراني والبيهقي عن سودة بنت زمعة، قلت: يا رسول الله, واسوأتاه, ينظر بعضنا إلى بعض، قال: "شغل الناس عن ذلك, لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه"، وللطبراني بسند صحيح عن أم سلمة: فقلت: يا رسول الله, واسوأتاه, ينظر بعضنا إلى بعض، فقال: "شغل الناس"، قلت: فما شغلهم؟ قال: "نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل" , "ثم يفترق حالهم من ثَم" , أي: من عند القبور, "إلى الموقف كما" قال "في حديث أبي هريرة" المذكور: "يحشر الناس على ثلاث طرائق"..... إلخ.
فلا خلف بينه وبين حديث ابن عباس: "ويحشر الكافر على وجهه" كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِم} [الإسراء: 97] ، وقال: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّم} [الفرقان: 34] "قال رجل" قال الحافظ: لم أعرف اسمه, "يا رسول الله, كيف يحشر الكافر" ماشيًا "على وجهه" وحكمه ذلك المعاقبة على عدم سجوده لله في الدنيا وكفره، فمشى على وجهه إظهارًا لهوانه في ذلك المحشر العظيم جزاءً وفاقًا, والسؤال للاستفهام عمَّا سمعه السائل في القرآن، فلا حاجة لقول المصنف هذا السؤال مسبوق بمثل قوله: "يحشر بعض الناس يوم القيامة على وجوههم, "قال" صلى الله عليه وسلم: "أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر" بالرفع خبر الذي, واسم ليس ضمير الشأن.
وروي بالنصب خبر ليس, "على أن يمشيه" بضم التحتية وسكون الميم "على وجهه يوم القيامة" ولأحمد عن أبي هريرة أنهم قالوا: "يا رسول الله, كيف يمشون على وجوههم، قال: "إن الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم, أما أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك"، قال الحافظ: ظاهر الحديث أن المشي حقيقة، فلذلك استغربوه حتى سألوا عن كيفيته، وزعم بعض المفسرين أنه مَثَل, وأنه كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] قال مجاهد: هذا مثل المؤمن والكافر، قلت: لا يلزم من تفسير مجاهد لهذه الآية بهذا أن يفسر به الآية الآخرى، فالجواب الصادر من النبي -صلى الله عليه وسلم- ظاهر في تقرير المشي على حقيقته أهـ.
"رواه الشيخان" البخاري في تفسير سورة الفرقان وفي الرفاق، ومسلم في التوبة عن أنس(12/293)
وفي حديث أبي ذر عند النسائي مرفوعًا: "إن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج, فوجًا راكبين طاعمين كاسين، وفوجًا تسحبهم الملائكة على وجوههم، وفوجًا يمشون ويسعون".
__________
"وفي حديث أبي ذر عند النسائي" وأحمد والحاكم والبيهقي "مرفوعا" قال: حدثني الصادق المصدق -صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الناس يحشرون" أسقط من الحديث يوم القيامة "على ثلاثة أفواج, فوجًا" كذا في النسخ بالنصب, والذي في شرحه للبخاري والبدور السافرة فوج بالخفض بدل من ثلاثة المجرور بعلى, وهي ثابتة في الحديث, وفي أصل نسخ المواهب، ولما رآها الجهال فوجًا بالنصب تجاسروا وضربوا على لفظ على, مع أنه لو روي بالنصب لكان بتقدير: أعنى, ولا داعية لشطب على, "راكبين طاعمين كاسين" وهم الأبرار, "وفوجا" بالخفض على الصواب، وإن كان في النسخ "فوجًا", "تسحبهم الملائكة على وجوههم" وهم الكفار "وفوجًا" صوابه وفوج, "يمشون ويسعون" وهم المؤمنون العاصون.
والرواية كما في شرحه للبخاري والبدور بتقديم قوله: وفوج يمشون, على قوله: وفوج تسحبهم..... إلخ.
قال المصنف في بقية الحديث أنهم سألوا عن السبب في مشي المذكورين، فقال -صلى الله عليه وسلم: يلقي الله الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر, حتى إن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ذات الفتب، أي: يشتري الناقة المسنة لأجل كونها تحمله على القتب بالبستان الكريم؛ لهوان العقار الذي عزم على الرحيل عنه, وعزة الظهر الذي وصله إلى مقصوده, وهذا لائق بأحوال الدنيا، لكن استشكل قوله فيه يوم القيامة، وأجيب بأنه مئول على أنَّ المراد به: أنَّ يوم القيامة يعقب ذلك, فيكون من مجاز المجاورة، ويتعيّن ذلك لما وقع فيه أن الظهر يقل.... إلخ.
فإنه ظاهر جدًّا في أنه من أحوال الدنيا لا بعد البعث, ومن أين للذين يبعثون حفاة عراة حدائق يدفعونها في الشوارف، ومال الحليمي وغيره إلى أنَّ هذا الحشر يكون عند الخروج من القبور، وجزم به الغزالي والتوربشتي, وقرره بما يطول ذكره. انتهى كلام المصنف, وعلى ما جزموا به يئول في قوله: "يلقي الله الآفة" , بأن المراد يعدمها يوم القيامة فلا يجدون ظهرًا، وأما قوله: "حتى أن الرجل".......... إلخ.
فمعناه يود لو كانت له حديقة فيعطي.... إلخ على نحو قوله تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} [المعارج: 11] ، وغير ذلك, وليس التجوز في هذا بأبعد من التجوز في صرف يوم القيامة عن ظاهره، فإن بين النفختين أربعين سنة, ولا يذهبون إلى الحشر قبل النفخة الأولى، بل إذا وقعت مات كل حي مكانه، ثم إذا نفخ فيه الثانية قاموا من قبورهم ذاهبين إلى محل الحشر، وأي(12/294)
وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء، كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد" رواه الشيخان.
__________
مجاز يصح في قوله: "وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم"، فإن الملائكة لا تفعل ذلك في الدنيا بالكفار.
"وفي حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "يحشر" بضم التحتية مبنيًّا للمفعول "الناس" أي: يحشرهم الله تعالى, "يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء" بفتح المهملة وإسكان الفاء والمد- ليس بياضها بالناصع، قاله الخطابي، وقال عياض: تضرب إلى حمرة قليلًا, ومنه سمي عفر الأرض وهو وجهها، وقال ابن فارس: عفراء خالصة البياض, والداودي: شديدة البياض، قاله الحافظ, والأوّل المعتَمَد, "كقرصة" أي: خبز النقي -بفتح النون وكسر القاف- أي: الدقيق النقي من القشر والنخال، قاله الخطابي, "ليس فيها علم لأحد" بفتحتين لفظ مسلم، وفي البخاري: معلم بفتح الميم واللام بينهما مهملة ساكنة وهما بمعنى واحد، وهو ما يستدل به على الطريق، وقال عياض: ليس فيها علامة سكنى ولا بناء ولا أثر ولا شيء من العلامات التي يهتَدَى بها في الطرقات؛ كالجبل والصخرة البارزة, وفيه تعريض بأنَّ أرض الدنيا ذهبت وانقطعت العلاقة منها، وقال الداودي: المراد أنَّه لا يجوز أحد منها شيئًا إلّا ما أدرك منها، أي: من المشي عليها والأكل منها كما في الصحيحين عن أبي سعيد مرفوعًا: "تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكؤها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلًا لأهل الجنة" الحديث.
قال الداودي: النزل هنا ما يعجل للضيف قبل الطعام، أي: إنه يأكل منها في الوقف من يصير إلى الجنة لا أنهم يأكلون حين يدخلونها، وكذا قال ابن برجان: يأكل المؤمن من بين رجليه ويشرب من الحوض.
قال الحافظ: يستفاد منه أنَّ المؤمنين لا يعاقبون بالجوع في طول الموقف، بل يقلب الله بقدرته طبع الأرض حتى يأكلوا منها من تحت أقدامهم ما شاء الله بغير علاج ولا كلفة، ويؤيد أن هذا مراد الحديث.
ما أخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير، قال: تكون الأرض خبزة بيضاء, يأكل المؤمن من تحت قدميه، وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير، والبيهقي عن ابن مسعود في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ} [إبراهيم: 48] قال: تبدل الأرض أرضًا كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام, ولم يعمل عليها خطيئة. ورجاله ورجال الصحيح، وهو موقوف، ورواه البيهقي من وجه آخر مرفوعًا وقال: الموقوف أصحّ، ولابن جرير عن أنس مرفوعًا. يبدل الله الأرض بأرض من فضة لم يعمل عليها الخطايا، والحكمة في ذلك، كما قال ابن أبي حمزة: إن(12/295)
وفي حديث عقبة بن عامر -عند الحاكم- رفعه: "تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرق الناس، فمنهم من يبلغ نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه، ومنهم من يبلغ فاه" وأشار بيده ألجمها فاه، "ومنهم من يغطيه عرفه" وضرب بيده على رأسه.
وله شاهد عند مسلم، من حديث المقداد بن الأسود، وليس بتمامه، وفيه: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق".
وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم, ويتفاوتون في حصوله
__________
ذلك اليوم يوم عدل وظهور حق، فاقتضت الحكمة أن يكون المحل الذي يقع فيه ذلك طاهرًا عن عمل المعصية والظلم، وليكون تجليه -سبحانه وتعالى- على عباده المؤمنين على أرض تليق بعظمته؛ ولأنَّ الحكم فيه إنما يكون لله وحده، فناسب أن يكون المحل خالصًا له وحده.
"رواه الشيخان" البخاري في الرقاق, ومسلم في التوبة, "وفي حديث عقبة بن عامر عند الحاكم رفعه: "تدنو" تقرب "الشمس من الأرض يوم القيامة, فيعرق" بفتح الراء, "الناس، فمنهم من يبلغ" عرقه "نصف ساقه، ومنهم من يبلغ ركبتيه، ومنهم من يبلغ فخذه، ومنهم من يبلغ خاصرته، ومنهم من يبلغ منكبيه" بفتح الميم وكسر الكاف- مجتمع رأس العضد والكتف, "ومنهم من يبلغ فاه، وأشار بيده ألجمها فاه" تفسير لما أشار به، أي: إنه جعل يده في فمه كما يجعل اللجام في الفم, إشارةً إلى أن العرق يصل إلى فمه, "ومنهم من يغطيه عرقه" وضرب بيده" أي: جعلها "على رأسه, وله شاهد عند مسلم من حديث المقداد بن الأسود, وليس بتمامه، وفيه" وهو أوّله من طريق سليم بن عامر، قال: حدثني المقداد بن الأسود، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تدنو" أي: تقرب "الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل" قال سليم بن عامر: فوالله, ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض أم الميل الذي تكحَّل به العين، هكذا في مسلم، قال القرطبي: الميل مشترك بينهما، ولهذا أشكل الأمر على سليم, والأولى به هنا مسافة الأرض؛ لأنها إذا كان بينها وبين الرءوس مقدار المرود فهي متصلة بالرءوس لقلة مقدار المرود. انتهى.
قال: "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق" , "فمنهم من يكون إلى كعبيه, ومنهم من يكون إلى ركبتيه, ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا".
قال: وأشار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده إلى فيه، هذا بقية حديث مسلم بلفظه، وبه تعلم ما زاد عليه في حديث عقبة, "وهذا ظاهر في أنهم يستوون في وصول العرق إليهم" كلهم إلا(12/296)
فيهم.
فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] والألف واللام في السماء للجنس، بدليل {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] فما طريق الجمع؟
فالجواب: يجوز أن تقام بنفسها دانية من الناس في المحشر ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه.
وقال ابن أبي جمرة: ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك، ولكن دلّت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر، ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله، فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر ثم من بعدهم.
__________
الأنبياء والشهداء, ومن شاء الله كما يأتي, "ويتفاوتون في حصوله فيهم".
وأورد القرطبي في المفهم أنّ العرق للزحام ودنوّ الشمس وحرّ الأنفاس وحرّ النار التي تحدق بالمحشر, فترشح رطوبة بدن كل أحد, فيلزم أن يسبح الجميع فيه سبحًا واحدًا ولا يتفاضلون في القدر، وأجاب بأنه يزول هذا الاستبعاد بأن يخلق الله تعالى في الأرض التي تحت واحد ارتفاعًا بقدر عمله, فيرتفع العرق بقدر ذلك وجواب ثانٍ, وهو أن يحشر الناس جماعات متفرقة, فيحشر من بلغ كعبية في جهة, ومن بلغ حقويه في جهة, هكذا. انتهى.
"فإن قلت: الشمس محلها السماء، وقد قال الله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ} " اسم ملك "للكتب" صحيفة ابن آدم عند موته, واللام زائدة، أو السجل الصحيفة والكتاب بمعنى المكتوب, واللام بمعنى على, وفي قراءة: للكتب, جمعًا، وقيل: السجّل اسم كاتب للنبي -صلى الله عليه وسلم, "والألف واللام في السماء للجنس" فيشمل السبع, "بدليل: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ} مجموعات, "بيمينه" بقدرته "فما طريق الجمع، فالجواب، يجوز أن تقام" أي: توجد الشمس "بنفسها" بلا سماء تكون فيها, "دانية من الناس في المحشر؛ ليقوى هوله وكربه، عافانا الله من كل مكروه".
"وقال ابن أبي جمرة" بجيم وراء, "ظاهر الحديث يقتضي تعميم الناس بذلك" أي: العرق, "ولكن دلت الأحاديث الأخرى على أنه مخصوص بالبعض وهم الأكثر, ويستثنى الأنبياء والشهداء ومن شاء الله" من غيرهم، كالذين في ظلّ العرش, "فأشدهم الكفار، ثم أصحاب الكبائر، ثم من بعدهم", والمسلمون منهم قليل بالنسبة إلى الكفار، هذا باقي قول ابن أبي جمرة.(12/297)
وأخرج أبو يعلى، وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] قال: "مقداره نصف يوم من خمسين ألف سنة، فيهون على المؤمنين كتدلي الشمس إلى أن تغرب" , وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد.
وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا, أربعين سنة شاخصة أبصارهم إلى السماء، فليجمهم العرق من شدة الكرب".
وفي البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه, عنه -صلى الله عليه وسلم: "يعرف الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا، ويلجمهم العرق حتى يبلغ آذانهم".
__________
وآخرج أبو يعلى وصحَّحه ابن حبان عن أبي هريرة, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ} بدل من محل ليوم عظيم, فناصبه مبعوثون {يَقُومُ النَّاسُ} من قبورهم {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الخلائق؛ لأجل أمره وحسابه وجزائه, "قال: "مقداره" أي: مدته, "قدر نصف يوم من خمسين ألف سنة" حقيقة على ظاهره, أو لشدته على الكفار، أو لكثرة ما فيه من الحالات والمحاسبات, "فيهون على المؤمنين؛ كتدلي الشمس" للغروب, "إلى أن تغرب" كناية عن قصره جدًّا.
"وأخرج أحمد وابن حبان نحوه من حديث أبي سعيد الخدري، وروى البيهقي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5] ، قال: "هذا في الدنيا, تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة" , وقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} ، قال: "هذا يوم القيامة جعله الله على الكافر مقدار خمسين ألف سنة، لو قدرتموه لكان خمسين ألف سنة من أيامكم".
"وللبيهقي في البعث عن أبي هريرة: "يحشر الناس قيامًا أربعين سنة شاخصة" رافعة, "أبصارهم إلى السماء" أي: إلى جهة العلو, "فيلجمهم العرق من شدة الكرب" الذي غشَّاهم.
"وفي البخاري" في الرقاق, ومسلم في صفة النار, "من حديث أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يعرق" بفتح الراء "الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم" يجري سائحًا "في" وجه "الأرض" , ثم يغوص فيها "سبعين ذراعًا" بالذراع المتعارف أو الملكي، وللإسماعيلي: سبعين باعًا, "ويلجمهم" بضم التحتية وسكون اللام وكسر الجيم- من ألجمه الماء إذا بلغ فاه, "العرق حتى يبلغ أذانهم" ظاهره استواؤهم في وصول العرق إلى الآذان, وهو مشكل بالنظر إلى العادة أنَّ الواقفين في ماء على أرض مستوية يتفاوتون في ذلك بالنظر إلى طول بعضهم وقصر بعضهم.(12/298)
وعند البيهقي من حديث ابن مسعود: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء لا يكلمهم، والشمس على رءوسهم حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر".
وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد، أنه يخفف الوقوف عن المؤمن حتى يكون كصلاة "فريضة" مكتوبة, وسنده حسن.
وللطبراني من حديث ابن عمر: "ويكون ذلك اليوم أقصر على المؤمن من ساعة من نهار".
وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر، أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن عنه قال: "يشتد كرب الناس ذلك اليوم
__________
وأجيب بأنه إشارة إلى غاية ما يصل، ولا ينفي أن يصل إلى دون ذلك كما مَرَّ في حديثي عقبة والمقداد, "وعند البيهقي من حديث ابن مسعود: "إذا حشر الناس قاموا أربعين عامًا شاخصة أبصارهم إلى السماء" أي: جهة العلو, "لا يكلمهم" شخوص أبصارهم، بمعنى: لا يتركون الشخوص هذه المدة "والشمس على رءوسهم" , أي: قريبة منها, بدليل الحديث السابق: "تدنو الشمس" , "حتى يلجم العرق كل بر منهم وفاجر" إمَّا أن يحمل هذا على البعض فلا يخالف حديثي عقبة والمقداد، وإمَّا أنه يجوز أن أصل العرق يقع لجميع الناس كرشحه في الدنيا, ولو على ما مَرَّ بحسب الأعمال.
"وفي حديث أبي سعيد عند أحمد أنه يخفف الوقوف" أي: هوله "عن المؤمن حتى يكون كصلاة مكتوبة" ثلاثية أو رباعية أو ثنائية, "وسنده حسن" وهو بشرى عظيمة، ولفظه عند أحمد وأبي يعلى وابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد، قال: سئل -صلى الله عليه وسلم- عن يوم كان مقداره خمسين ألف سنة, ما أطول هذا اليوم؟ فقال: "والذي نفسي بيده, أنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أهون عليه من الصلاة المكتوبة يصليها في الدنيا".
"وللطبراني من حديث ابن عمر" بن الخطاب: "ويكون ذلك اليوم على المؤمن أقصر من ساعة من نهار" , وللحاكم والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعًا وموقوفً: "يوم القيامة على المؤمنين كمقدار ما بين الظهر والعصر" وطريق الجمع بين الأحاديث أن ذلك يختلف باختلاف المؤمنين, "وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص" أنَّ الذي يلجمه العرق الكافر".
"أخرجه البيهقي في البعث بسند حسن، عنه قال" ذكر لفظه بعد أن ساق معناه، فقال: "يشتد كرب الناس ذلك اليوم حتى يلجم" من ألجم "الكافر" بالنصب "العرق"، قيل له: فأين(12/299)
حتى يلجم الكافر العرق"، قيل له: فأين المؤمنون؟ قال: "على كرسي من ذهب ويظلل عليهم الغمام".
وبسند قوي عن أبي موسى قال: "الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة، وأعمالهم تظلهم".
وأخرج ابن المبارك في "الزهد", وابن أبي شيبة في "المصنف" واللفظ له، بسند جيد عن سلمان قال: "تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين، ثم تدنو من جماجم الرأس حتى تكون قاب قوسين، فيعرقون حتى يرشّح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع حتى يغرغر الرجل"، زاد ابن المبارك في روايته، "ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة".
قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان, كما يدل عليه حديث المقداد وغيره: أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم.
وفي رواية عند أبي يعلى، وصححها ابن حبان: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب أرحني ولو إلى النار"
وهو كالصريح في أن ذلك كله في الموقف.
__________
المؤمنون، قال: على كراسي" بشد الياء، وقد تخفف جمع كرسي -بضم الكاف أشهر من كسرها "من ذهب, ويظلل عليهم الغمام" فلا يجدون حرًّا فلا يعرقون, وهذا البعض المؤمنون.
"و" عند البيهقي أيضًا "بسند قوي عن أبي موسى" الأشعري "قال: الشمس فوق رءوس الناس يوم القيامة وأعمالهم تظلهم، وأخرج عبد الله بن المبارك" المروزي "في" كتاب الزهد له, "وابن أبي شيبة في المصنَّف، واللفظ له بسند جيد عن سليمان" الفارسي, "قال: تعطى الشمس يوم القيامة حر عشر سنين وتدنو" تقرب, "من جماجم الناس" بمقدار ميل حتى تكون قاب قوسين, فيعرقون حتى يرشح العرق في الأرض قامة، ثم يرتفع" يعلو "حتى يغرغر الرجل".
"زاد ابن المبارك في روايته: ولا يضر حرها يومئذ مؤمنًا ولا مؤمنة، قال القرطبي: المراد من يكون كامل الإيمان كما يدل عليه حديث المقداد وغيره" كعقبة, "أنهم يتفاوتون في ذلك بحسب أعمالهم".
"وفي رواية عند أبي يعلى وصحَّحها ابن حبان" وغيره: "إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة حتى يقول: يا رب, أرحني ولو إلى النار" من شدة كربه, "وهو كالصريح في أنّ ذلك(12/300)
ومن تأمَّل الحالة المذكورة، عرف عظيم الهول فيها، وذلك أنَّ النار تحفّ بأرض الموقف، وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض، وماذا يرونه من العرق, مع أن كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه.
إن هذا لما يبهر العقول، ويدل على عظيم القدرة، ويقتضي بالإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول.
فتأمل -رحمك الله- شدة هذا الازدحام والانضمام والاتساق والالتصاق، واجتماع الإنس والجان، ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان، وانضغاطهم وتدافعهم واختلاطهم، وقرب الشمس منهم، وما يزاد في حرها، ويضاعف في وهجها، ولا ظلّ إلا ظل عرش ربك بما قدمته، مع ما انضاف إلى ذلك من حر البأس، لتزاحم الناس واحتراق القلوب، لما غشيها من الكروب.
__________
كله في الموقف، ومن تأمَّل الحالة المذكورة عرف عظم الهول" المخافة من الأمر، لا يدري ما هجم عليه منه كما في القاموس, وفي ذلك الشدة الزائدة "فيها، وذلك أنّ الناس تحف" تحيط "بأرض الموقف, وتدنو الشمس من الرءوس قدر ميل، فكيف تكون حرارة تلك الأرض, وماذا يرونه من العرق, مع أنّ كل أحد لا يجد إلا قدر موضع قدميه، فكيف يكون حال هؤلاء في عرقهم مع تنوعهم فيه, إن هذا لما" أي: من الأشياء التي، وفي نسخ لما بفتح اللام وخفة الميم, "يبهر" بفتح الهاء- يغلب "العقول, ويدل على عظيم القدرة ويقتضي الإيمان بأمور الآخرة، وأن ليس للعقل فيه مجال" مدخل, "ولا يعترض على ذلك بعقل ولا قياس" لعدم الجامع, "ولا عادة، وإنما يؤخذ بالقبول، فتأمّل رحمك الله شدة هذا الازدحام" الضيق والانضمام" الاجتماع, "والاتساق" الانتظام, "والالتصاق" بالصاد وبالزاي وبالسين لغات معناها الاجتماع بالجنب, والألفاظ الأربعة متغايرة بالاعتبار أو متساوية, "واجتماع الإنس والجانّ ومن يجمع معهم من سائر أصناف الحيوان وانضغاطهم" بضاد وغير معجمتين، أي: انعصارهم وتدافعهم واختلاطهم, وقرب الشمس منهم, وما يزاد في حرها "ويضاعف" يزاد "في وهجها" توقدها وحرها, "ولا ظل إلا ظل عرش ربك بما قدمته" من عمل تجازى عليه بالظل, "مع ما انضاف" انضمَّ "إلى ذلك من حر البأس" بموحدة الشدة, "لتزاحم الناس واحتراق القلوب لما غشيها من الكروب, ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم وكثرة(12/301)
ولا ريب أن هذا موجب لحصول العطش في ذلك اليوم، وكثرة الالتهاب، والماء ثَمَّ أعز موجود، وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود -صلى الله عليه وسلم, وزاده فضلًا وشرفًا لديه، ولا مشرب لأمته سواه، ولا تبرد أكبادهم إلا به، فالشربة منه كما ورد تروي الظمأ، وتشفي من الصدى، وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها, ولا يسقم بعدها أبدًا.
وفي حديث أنس عند البزار: من شرب منه -أي: من الحوض- شربة لم يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا، وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان، ولم يسود وجهه أبدًا.
وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصحّحه الحاكم: أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين.
__________
الالتهاب والماء، ثم" بالفتح والتشديد هناك "أعز موجود وأعظم مفقود، فلا منهل مورود إلا حوض صاحب المقام المحمود" مقام الشفاعة، ويأتي للمصنف "صلى الله عليه وسلم, وزاده فضلًا وشرفًا لديه, ولا مشرب لأمته سواه, ولا يبرد أكبادهم إلا إياه".
كذا في نسخ، وهي المناسبة للسجع لا نسخة إلا به "فالشربة منه تروي الظمأ" العطش, "وتشفي من الصدى" العطش، فحسنه اختلاف اللفظ, "وتذهب بكل داء فلا يظمأ شاربها ولا يشكو", وفي نسخة: ولا يسقم "بعدها أبدًا" فهي ريّ وشفاء.
"ففي حديث أنس عند البزار", والطبراني في الأوسط قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "حوضي من كذا إلى كذا, فيه من الآنية عدد النجوم, أطيب ريحًا من المسك, وأحلى من العسل, وأبيض من اللبن من شرب منه"، أي: من الحوض "شربة لما يظمأ أبدًا، ومن لم يشرب منه لم يرو أبدًا".
"وزاد في حديث أبي أمامة عند أحمد وابن حبان", والبيهقي عن أبي أمامة الباهلي أن يزيد بن الأخنس، قال: يا رسول الله ما سعة حوضك؟ قال: "ما بين عدن إلى عمَّان, وأن فيه مثعبين من ذهب وفضة"، قال: فماء حوضك؟ قال: "أشد بياضا من اللبن, وأحلى مذاقة من العسل, وأطيب رائحة من المسك، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا, ولم يسوّد وجهه أبدًا" , والمثعب: بفتح الميم والعين المهملة بينهما مثلثة ساكنة وآخره موحدة- مسيل الماء.
"وفي حديث ثوبان عند الترمذي وصححه الحاكم: "أكثر الناس عليه ورودًا فقراء المهاجرين" , وجاء بلفظ: أوّل عند مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان: سمعت(12/302)
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عند الشيخين: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن, ورائحته أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء,
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "حوضي من عدن إلى عمّان, ماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل, وأكاويبه عدد النجوم، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أول الناس ورودًا عليه فقراء المهاجرين" , فقال عمر بن الخطاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "هم الشعث رءوسًا, الدنس ثيابًا، الذين لا ينكحون المتنعمات, ولا تفتح لهم السدد" , يعني: أبواب السلاطين.
ووقع في حديث النواس بن سمعان عند ابن ابي الدنيا: أوّل من يرد عليه من يسقى كل عطشان ولا خلف، فهذا بتقدير من أي، من أوّل من يرد عليه؟ من كان في الدنيا يسقي كل عطشان، أو المراد: الأول بعد فقراء المهاجرين.
"وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الشيخين" قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر, ماؤه أبيض من اللبن" قال المازري: مقتضى كلام النحاة أن يقال: أشد بياضًا ولا يقال أبيض، ومنهم من أجازه في الشعر، ومنهم من أجازه بقلة، ويشهد له هذا الحديث وغيره، قال الحافظ: ويحتمل أه من تصرف الرواة، ففي مسلم عن أبي ذر، وأحمد عن ابن مسعود، وابن أبي عاصم عن أبي أمامة، كلهم بلفظ: "أشد بياضًا من اللبن" انتهى.
وقال المصنف: فيه حجة للكوفيين على إجازة أفعل التفضيل من اللون، وقال البصريون: لا يصاغ منه ولا من الثلاثي، فقيل: لأنَّ اللون الأصل أن أفعاله زائدة على ثلاثة، وقيل: لأنه خلق ثابت في العادة، وإنما يتعجب مما يقبل الزيادة والنقصان، فجرت لذلك مجرى الأجسام الثابتة على حال واحدة، قالوا: وإنما يتوصّل إلى التفضيل, وفيما زاد على الثلاثي بأفعل مصوغًا من فعل, دالّ على مطلق الرجحان والزيادة نحو: أكبر وأزيد وأرجح وأشد، قال الجوهري: تقول: هذا أشد بياضًا من كذا، ولا تقل أبيض منه, وأهل الكوفة يقولونه ويحتجون بقول الراجز:
جارية في درعها الفضفاض ... أبيض من أخت بني أباض
قال المبرد: ليس البيت الشاذ بحجة على الأصل المجمع عليه، وأما قول طرفة:
إذا الرجال شتوا واشتدّ أكلهم ... فأنت أبيضهم سربال طباخ
فيحتمل أن لا يكون بمعنى أفعل الذي تصحبه من للمفاضلة، وإنما هو بمنزلة قولك: هو أحسنهم وجهًا وأكرمهم أبًا, تريد حسنهم وجهًا وكريمهم أبًا، فكأنه قال: فأنت مبيضهم سربالًا، فلمَّا أضافه انتصب ما بعده على التمييز, وجعل ابن مالك قوله: أبيض من الشاذ، وقال النووي: هو لغة قليلة الاستعمال انتهى.
قال الأبي: ليس في الحديث ولا الأبيات صيغة تعجب, وإنما فيها صيغة أفعل, لكنهما(12/303)
من شرب منه شربة لا يظمأ أبدًا".
قال القرطبي في "التذكرة": ذهب صاحب "القوت" وغيره, إلى أنَّ الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، والصحيح أنَّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط، والآخر داخل الجنة، وكل منهما يسمَّى كوثرًا.
وتعقبه شيخ الحفاظ ابن حجر: بأن الكوثر نهر داخل الجنة، وماؤه يصب في الحوض، ويطلق على الحوض كوثرًا لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنّ الحوض يكون قبل الصراط؛ لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض، ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا، فترفع لهم
__________
أخوان، فما جاز بناء أحدهما منه جاز بناء الآخر معه، وما امتنع امتنع, "وريحه أطيب" ريحًا، ً"من المسك، وكيزانه كنجوم" السماء" في الإشراق والكثرة، ففي حديث أنس في الصحيحين: "فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء"، ولأحمد عن أنس: "أكثر من عدد نجوم السماء"، قال عياض: كناية عن الكثرة كما قيل، فيقول: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ، وحديث: "لا يضع العصا عن عاتقه"، ومنه قولهم: كلمته في هذا ألف مرة, وهو من المبالغة المعروفة لغة ولا يعد كذبا، َ لكن شرط إباحته أن يكون المكنَّى عنه بذلك كثيرًا في نفسه لا قليلًا، وتعقبه النووي بأن المختار والصواب حمله على ظاهره، لا سيما وقد أقسم, ولا مانع شرعي ولا عقلي ولا نقلي يمنع منه, وردَّه الأبي بنه يمنع منه أنّ ما يعم نجوم السماء من المساحة أكثر من مساحة الحوض, "من شرب منها" أي: الكيزان، وللكشميهني منه، أي: الحوض, "لم يظمأ أبدًا" فشربه بعد ذلك في الجنة إنما هو تنعم وتلذذ لا للظمأ.
"قال القرطبي في التذكرة: ذهب صاحب القوت" أي: كتاب قوت القلوب, وهو أبو طالب المكي "وغيره, إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، وذهب آخرون إلى العكس، أي: المخالفة, وهو أنه قبل الصراط, والصحيح أنّ للنبي -صلى الله عليه وسلم- حوضين، أحدهما في الموقف قبل الصراط, والآخر داخل الجنة, وكل منهما يسمىّّ كوثرًا, وتعقبه الشيخ ابن حجر" الحافظ أحمد العسقلاني "بأن الكوثر نهر لا حوض" داخل الجنة, وماؤه يصب في الحوض الذي في الموقف, ويطلق على الحوض كوثر" بالرفع نائب فاعل يطلق، وفي نسخة: بالنصب بتضمين يطلق، معنى: يسمَّى كوثرًا؛ "لكونه يمد منه، فغاية ما يؤخذ من كلام القرطبي أنَّ الحوض يكون قبل الصراط" لا أنهما حوضان؛ "لأن الناس يردون من الموقف عطاشًا، فيرد المؤمنون الحوض ويتساقط الكفار في النار بعد أن يقولوا: ربنا عطشنا فترفع لهم جهنم كأنها سراب" شعاع(12/304)
جهنم كأنها سراب, فيقال: ألا تردون، فيظنونها ماء فيتساقطون فيها".
وفي حديث أبي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" , وهو حجة على القرطبي لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم، وهو بين الموقف والجنة, والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض، وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة؛ ليصب فيه الماء من النهر الذي داخلها.
وقال القاضي عياض: ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه لم يظمأ بعدها أبدًا". يدل على أن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لا يظمأ أن لا يعذب بالنار، ولكن يحتمل أن من قدر عليه التعذيب منهم أن لا يعذب فيها بالظمأ بل بغيره.
__________
يرى عند اشتداد الحر نصف النهار يشبه الماء "فيقال: "ألا تردون, فيظنونها ماء فيتساقطون فيها".
"وفي حديث ابي ذر مما رواه مسلم: "إن الحوض يشخب فيه ميزابان من الجنة" وهو حجة على القرطبي" في اختياره الهول بأنه قبل الصراط, "لا له؛ لأن الصراط جسر جهنم, وهو بين الموقف والجنة, والمؤمنون يمرون عليه لدخول الجنة، فلو كان الحوض دونه" أي: قبل الصراط؛ لحات النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر في الحوض" وهذا بناء على العادة, وأحوال القيامة لا تبنى عليها، فلا مانع أن ماء الكوثر يمر على الهواء حتى يصل إلى الحوض, ولا تحول النار بينهما، ونظيره في الدنيا ما قيل: إن بين السماء والأرض بحرًا ومع ذلك فليس بحائل من رؤية السماء ولا نجومها.
"وظاهر الحديث أن الحوض بجانب الجنة لينصب فيها الماء من النهر الذي" هو، أو يكون "داخلها", وهو الكوثر, "وقال القاضي عياض: ظاهر قوله -صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شرب منه" شربة "لم يظمأ بعدها أبدًا" يدل على أنَّ الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار؛ لأن ظاهر حال من لم يظمأ أن لا يعذب بالنار", وظاهر هذا ترجيح أن الحوض بعد الصراط.
وقد قال الحافظ: رجَّحه عياض، قال: وأمَّا ما أورد عليه من حديث أنَّ جماعة يدفعون عن الحوض، فجوابه أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه, ويردون فيدفعون في النار قبل أن يخصلوا من بقية الصراط "ولكن يحتمل" على القول بأنه قبل الصراط "إن من قدر عليه التعذيب ومنهم أن لا يعذب فيها" أي: النار "بالظمأ، بل بغيره" والله على كل شيء قدير "و" جاء(12/305)
وعن أنس قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: "أنا فاعل إن شاء الله" قلت: فأين أطلبك؟ قال: "أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإن لم ألقك على الصراط؟ قال: "فاطلبني عند الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فاطلبني عند الحوض, فإني لا أخطيء هذه الثلاثة مواطن"، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.
وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها, فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد, فيغبطني به الأولون والآخرون" قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث.
وقد بيِّن في حديث ابن عمرو بن العاص، عند البخاري، أن الحوض مسيرة شهر، وزاد في رواية مسلم من هذا الوجه: "زواياه سواء, طوله كعرضه". وهذه الزيادة
__________
"عن أنس" ما يدل على أن الحوض بعد الصراط، فإنه "قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يشفع لي يوم القيامة، فقال: "أنا فاعل" أي: شافع لك, "إن شاء الله"، قلت: فأين أطلبك؟، قال: "أول ما تطلبني على الصراط"، قلت: فإن لم ألقك على الصراط، قال: "فاطلبني عند الميزان"، قلت: فإن لم ألقك عند الميزان، قال: "فاطلبني عند الحوض، فإني لا أخطئ" بضم الهمزة وكسر الطاء، أي: لا أتجاوز, "هذه الثلاث مواطن" إلى غيرها, فظاهر هذا الحديث أن الحوض بعد الصراط, وصنيع البخاري في إيراده لأحاديث الحوض بعد أحاديث الشفاعة بعد نصب الصراط مشعر بذلك.
قال السيوطي: ويحتمل الجمع بأن يقع الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم, ويتأخر بعده لآخرين بحسب ما ليهم من الذنوب, حتى يذهبوا منها على الصراط, ولعل هذا أقوى، قال: ثم رأيت في الزهد، للإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة، قال: كأني أنظر إلينا صادرين عن الحوض للحساب, فيلقى الرجل الرجل، فيقول: أشربت يا فلان؟ فيقول: لا واعطشاه.
"رواه الترمذي وقال: حسن غريب" من جهة تفرّد روايه في جامع الحسن.
"وفي حديث ابن مسعود عند أحمد: "ثم أوتى بكسوتي فألبسها, فأقوم عن يمين العرش مقامًا لا يقومه أحد" غيري, "فيغبطني به الأولون والآخرون" وهذا عند القيام من القبر، وذكره لقوله: "قال: "ويفتح لهم من الكوثر إلى الحوض" الحديث. فإنه دالّ على أن الحوض يمد من الكوثر "وقد بيِّن في حديث" عبد الله بن عمرو بن العاص عند البخاري", ومسلم كما قدمه قريبًا: "إن الحوض مسيرة شهر".(12/306)
كما قاله في فتح الباري: تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: إنّ لي حوضًا ما بين الكعبة وبيت المقدس.
وفي حديث أبي برزة عند الطبراني وابن حبان في صحيحه: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء، مسيرة شهر, عرضه كطوله".
وفي حديث أنس عند الشيخين: "كما بين صنعاء والمدينة".
__________
وزاد مسلم من هذا الوجه "أي: الطريق الذي أخرجه منه البخاري: "وزواياه" أي: أركانه, "سواء" فهو مربع مستدير الأضلاع؛ لأن تساوي الزوايا يدل على تساوي الأضلاع.
قال بعضهم: وفيه دلالة على معرفته -صلى الله عليه وسلم- بسائر العلوم؛ لأن هذا من علم الهندسة والتكسير والحساب، وهو كقوله في الآخر: "طول وعرضه سواء"، قاله عياض: قيل: كون زواياه سواء لا يدل على تساوي الأضلاع, لولا قوله: "طوله كعرضه" , وعلى ذلك: فمسيرة الشهر لكل من طول وعرضه، قال الأبي: "وهذه الزيادة كما قاله في فتح الباري تدفع تأويل من جمع بين مختلف الأحاديث التالية في تقدير مسافة الحوض على اختلاف العرض والطول, فمسافة شهر مثلًا محمولة على طوله وأنقص منه على عرضه.
وفي حديث أبي سعيد عند ابن ماجه رفعه: "إن لي حوضًا" طوله "ما بين الكعبة وبيت المقدس"، وفي حديث أبي برزة" بفتح الموحدة والزاي بينهما راء ساكنة, واسمه: نضلة -بفتح النون وسكون المعجمة- ابن عبيد -بضم العين, "عند الطبراني وابن حبان في صحيحه" والحاكم وصحَّحه والبيهقي، قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين أيلة وصنعاء" بفتح المهملتين بينهما نون ساكنة, ممدود "مسيرة شهر, عرضه كطوله" فصرَّح بتساويهما، فلا يصح ذلك الجمع.
"وفي حديث أنس عند الشيخين" أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن"، هكذا لفظ حديث أنس عند الشيخين: وليس فيهما عنه "كما بين صنعاء والمدينة" وأيلة -بفتح الهمزة واللام بينهما تحتية ساكنة ثم هاء تانيث- مدينة كانت عامرة بطرف بحر القلزم من طرف الشام، وهي الآن خراب يمر بها الحاج من مصر, فتكون من شمالهم, ويمر بها الحاج من غزة وغيرها فتكون أمامهم، وإليها نسبت العقبة المشهورة عند أهل مصر، قال الحافظ: وبين أيلة والمدينة النبوية نحو شهر، يسير الأثقال إن اقتصروا كل يوم على(12/307)
وفي حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن حبان في صحيحه: "كما بين صنعاء إلى بصرى".
وفي حديث أبي عند الطبراني: "ما بين عدن وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم, وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرض من مقامي إلى عمان -هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء، فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع عند البحرين, انتهى.
__________
مرحلةٌ وإلا فدون ذلك.
وفي حديث عتبة" بضم المهملة وإسكان الفوقية "ابن عبد" بلا إضافة, "السلمي -بضم السين- عند ابن حبان في صحيحه, والبيهقي قال: قام أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما حوضك الذي تحدث عنه، فقال: هو كـ "بما بين صنعاء إلى بصرى" بضم الموحدة وسكون المهملة- بلد معروف بطرف الشام من جهة الحجاز.
"وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني" مرفوعًا: كـ "ما بين عدن" بفتح المهملتين ونون- بلد باليمن "وعمان" بضم المهملة وتخفيف الميم" بلد على ساحل البحر من جهة البحرين.
"وقال ابن الأثير في النهاية في حديث الحوض: عرضه من مقامي" محل إقامتي المدينة "إلى عمان، هي بفتح العين وتشديد الميم- مدينة قديمة بالشام من أرض البلقاء" بفتح الموحدة وسكون اللام فقاف وبالمد- بلدة معروفة من فلسطين, يقول فيها القائل:
في وجهه خالان لولاهما ... ما بت مفتونًا بعمان
"فأمَّا بالضم والتخفيف فهو صقع" بضم المهملة وإسكان القاف، أي: ناحية عند البحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع "انتهى".
وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا: "أمامكم حوضي كما بين جربا وأذرح" بفتح الجيم والموحدة بينهما راء ساكنة والقصر.
قال عياض: جاءت في البخاري ممدودة، وقال الشريف اليونيني: رأيته في أصل مقروء من رواية الحافظ أبي ذر والأصيلي بالقصر، وصوَّبه النووي، وقال المد: خطأ، لكن يؤيده قول أبي عبيد البكري تأنيث أجرب وأذرح -بفتح الهمزة وسكون المعجمة وضم الراء وحاء مهملة- عند الجمهور, وللعذري في مسلم بالجيم، قال عياض: وهم قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال، قاله ابن الأثير, وغلطه الصلاح العلائي، بل بينهما غلوة سهم, وهما معروفتان بين القدس.(12/308)
وهذه المسافات كلها متقاربة، وظنَّ بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك، وليس كذلك.
وأجاب النووي عن ذلك، بأنَّه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة، فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح فلا معارضة.
وحاصله يشير إلى أنه أخيرًا أولًا بالمسافة اليسيرة, ثم أعلم بالمسافة الطويلة, فأخبر بما كان الله تفضل عليه باتساعه شيئًا بعد شيء, فيكون الاعتماد على أطوالها مسافة.
فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا -صلى الله عليه وسلم- حوض هناك يقوم عليه
__________
والكرك، ولا يصحّ التقدير بالثلاث لمخالفة الروايات، لا سيما وقد قال الحافظ الضياء المقدسي: إن في سياق لفظها غلطًا لاختصار وقع من بعض الرواة، ثم ساقه بسند حسن عن أبي هريرة مرفوعًا، فقال فيه: "عرضه مثل ما بينكم وبين جربا وأذرح".
قال الضياء: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره: كما بين مقامي وبين جربا وأذرح, فسقط مقامي وبين.
قال العلائي: ثبت المقدر المحذوف عند الدارقطني وغيره بلفظ: ما بين المدينة وجربا وأذرح "وهذه المسافات كلها متقاربة" ترجع إلى شهر أو تزيد عليه قليلًا أو تنقص قليلًا, "وظن بعضهم أنه وقع اضطراب في ذلك, وليس كذلك"؛ إذ ليس ذلك في حديث واحد حتى يكون اضطرابًا، وإنما هو في أحاديث مختلفة عن غير واحد، من الصحابة سمعوه في مواطن، فروى كل واحد منهم ما سمع, واختلاف عبارته -صلى الله عليه وسلم- إنما هو بحسب ما سنح له من العبارة تقريبًا للإفهام، فذكر ما بين كل بلدين من البعد لا على التقدير المحقق لما بينهما بل إعلام وكناية عن السعة، قاله عياض: وهو جواب حسن.
"وأجاب النووي عن ذلك" بجواب آخر, وكلاهما حسن "بأنه ليس في ذكر المسافة القليلة ما يدفع المسافة الكثيرة, فالأكثر ثابت بالحديث الصحيح. فلا معارضة" لأنَّ الأقل داخل في الأكثر, "وحاصله يشير إلى أنه أخبر " بالبناء والمفعول, "أولًا بالمسافة اليسيرة، ثم أعلم" بالبناء للمفعول أيضًا, أي: أخبره وأعلمه الله "بالمسافة الطويلة، فأخبر" صلى الله عليه وسلم "بما كان تفضّل الله عليه باتساعه شيئًا بعد شيء، فيكون الاعتماد على ما يدل على أطولها مسافة".
قال المصنف: ومنهم من حمله على السير المسرع والبطيء، لكن في حمله على أقلها وهو الثلاث نظر؛ إذ هو عسر جدًّا، لا سيما مع ما سبق والله الموفق.
"فإن قلت: هل لكل نبي من الأنبياء غير نبينا -صلى الله عليه وسلم- حوض هناك" في الموقف "يقوم(12/309)
كنبينا؟
فالجواب: إنه اشتهر اختصاص نبينا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض, قال القرطبي في "المفهم" مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به، أنه تعالى قد خصّ نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرّح باسمه وصفته وشرابه في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي؛ إذ روى ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين، منهم في الصحيحين ما ينيف على العشرين، وفي غيرهما بقية ذلك كما صحَّ نقله واشتهرت رواته، ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم ومن بعدهم أضعاف أضعافهم وهلم جرَّا، واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى.
لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" وأشار
__________
عليه كنبينا؟ فالجواب أنه اشتهر اختصاص نبينا -عليه السلام- بالحوض".
"قال القرطبي في المفهم: مما يجب على كل مكلف أن يعلمه ويصدق به, أن الله تعالى قد خص نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالحوض المصرَّح باسمه وصفته وشرابه, في الأحاديث الصحيحة الشهيرة التي يحصل بمجموعها العلم القطعي".
قال الأبي: ظاهره أنَّ الإيمان به من قواعد العقائد التي يجب تقريرها لمن أسلم، ولم يذكر ذلك الموثوق بهم في تقريره ذلك لمن أسلم؛ "إذ روى ذلك عنه -صلى الله عليه وسلم- من الصحابة نيف على الثلاثين, منهم في الصحيحين ما يزيد على العشرين, ففي البخاري تسعة عشر، وفي مسلم: سبعة عشر, لكنهما اتفقا على أكثرها, فلذا كان ما فيهما يزيد على عشرين, "وفي غيرهما بقية ذلك" الزائد على ثلاثين, وقد أوصلهم الحافظ إلى ست وخمسين, والسيوطي في البدور إلى ثمان وخمسين ذاكرًا لفظ كل واحد.
"كما صحَّ نقله, واشتهرت رواته" وأحاديثهم بعضها في مطلق ذكر الحوض, وبعضها في صفته, وبعضها فيمن يرد عليه, وبعضها فيمن يدفع عنه، وبلغني أن بعض المتأخّرين أوصلها إلى ثمانين صحابيًّا، قاله الحائط "ثم رواه عن الصحابة المذكورين من التابعين أمثالهم, ومن بعدهم أضعاف أضعافهم, وهلمَّ جرَّا" إشارة إلى أن تواتره من أوله إلى آخره, "واجتمع على إثباته السلف وأهل السنة من الخلف. انتهى".
لكن أخرج الترمذي من حديث سمرة" بن جندب "رفعه: "إن لكل نبي حوضًا" على قدر رتبته وأمته، والمتبادر أنه حوض حقيقي, وجوز الطيبي حمله على المجاز, ويراد به العلم(12/310)
إلى أنه اختلف في وصله وإرساله، وأنَّ المرسل أصح، والمرسل أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا، وهو قائم على حوضه بيده عصًا, يدعو من عرف من أمته، ألّا وإنهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا".
وأخرجه الطبراني من وجه آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله، وفي سنده لين.
__________
والهدى ونحوه. انتهى وفيه نظر.
وقال الحكيم الترمذي: الحياض يوم القيامة للرسل, لكلٍّ على قدره وقدر تبعه, وهو شيء يلطف الله به عباده، فإنهم تخلصوا من مرارة الموت, وطالت مدتهم في اللحد, ورأوا الهول العظيم, وغوث الله للموحّدين مترادف, أغاثهم يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} فأثبت أسماءهم بالولاية, ونقلهم في الأصلاب حتى آواهم إلى آخر قالب، ثم أنزلهم إلى الدنيا, فرباهم وهداهم وكلأهم, وختم لهم بما ابتلاهم به من الموت المر, وحبسهم مع البلاء الطويل، ثم أنشرهم إلى موقف عظيم، فمن غوثه أن جعل الرسول الذي أجابه فرطًا قد هيأ لهم مشربًا يروي منه فلا يظمأ بعدها أبدًا. انتهى.
وبقية هذا الحديث في الترمذي: "وأنهم يتباهون أيهم أكثر واردة, وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" "وأشار" الترمذي "إلى أنه اختلف" أي: اختلفت رواته "في وصله وإرساله, وأن المرسل" أي: رواية من أرسله "أصح" من رواية من وصله, "والمرسل".
"أخرجه ابن أبي الدنيا بسند صحيح عن الحسن" البصري "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضًا وهو قائم على حوضه" ظاهره حتى صالح، وقال البكري المعروف بابن الواسطي: إلّا صالحًا, فإن حوضه ضرع ناقته.
قال القرطبي: ولم أقف على ما يدل عليه أو يشهد له, "بيده عصا يدعو من عرف من أمته" ظاهره أن المراد بالأنبياء الرسل الذين لهم شرائع وأمم، وبه صرَّح الحكيم كما علم ويحتمل عمومه, وإن لم يكن رسولًا على ظاهر قوله: نبي, ويكون الدعاء والتباهي للرسل, ولا مانع من ذلك, "ألا" بالفتح والتخفيف "وأنَّهم يتباهون أيهم أكثر تبعًا، ألا وإني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع, "أن أكون أكثرهم تبعًا".
وفي رواية الترمذي: واردة كما مَرَّ، أي: أمة واردة على الحوض، ولابن أبي عاصم عن أبي أمامة مرفوعًا: "إن الأنبياء مكاثرون يوم القيامة فلا تخزوني، فإني جالس لكم على الحوض".
"وأخرجه الطبراني من وجه" أي: طريق "آخر عن سمرة موصولًا مرفوعًا مثله, وفي سنده لين" أي: ضعف محتمل "وأخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي سعيد رفعه: "كل نبي(12/311)
وأخرج ابن أبي الدنيا أيضا من حديث أبي سعيد رفعه: "وكل نبي يدعو أمته, ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام، ومنهم من يأتيه العصبة، ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد، وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة"، وفي إسناده لين.
فإن ثبت, فالمختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذي يصبّ من مائه في حوضه, فإنه لم ينقل نظيره لغيره، ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} انتهى ملخصًا من فتح الباري.
و"الفئام" كما في الصحاح، الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، والعامّة تقول "فيام" بلا همز.
وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال: "ترد عليَّ أمتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل عن إبله" قالوا: يا رسول الله، تعرفنا؟ قال: "نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم, تردون عليَّ غرًّا محجَّلين من آثار الوضوء".
__________
يدعو أمته, ولكل نبي حوض، فمنهم من يأتيه الفئام" بكسر الفاء والهمز, "ومنهم من يأتيه العصبة" أي أقاربه, "ومنهم من يأتيه الواحد، ومنهم من يأتيه الاثنان، ومنهم من لا يأتيه أحد, وإني لأكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة" وفي إسناده لين، فإن ثبت" أي: كان حسنًا أو صحيحًا في نفس الأمر, فالمختص بنبينا -صلى الله عليه وسلم- الكوثر الذي يصب من مائه في حوضه، فإنه لم ينقل نظيره لغيره, ووقع الامتنان عليه به في سورة {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر} [الكوثر: 1] انتهى لخصًا من فتح الباري", ويختص أيضًا بأنَّ حوضه أعرض الحياض كما في الخصائص, والفئام بالفاء كما في الصحاح: الجماعة من الناس, لا واحد له من لفظه, والعامة تقول: فيام -بلا همز".
"وفي رواية مسلم من حديث أبي هريرة رفعه، قال: "ترد عليّ أمتي الحوض وأنا أذود" بمعجمة ثم مهملة- أطرد الناس عنه, "كما يذود الرجل عن إبله" وفي رواية: "وإني لأصد الناس عنه كما يصد الرجل إبل الناس عن حوضه" , "قالوا: يا رسول الله, تعرفنا؟ " يومئذ -بتقدير همزة الاستفهام, قال: "نعم, لكم سيما" بكسر فسكون، أي: علامة, "ليست لأحد من الأمم غيركم, تردون الحوض عليّ غرًّا" بضم المعجمة والتشديد جمع أغر, أي: ذي غرة بياض في جبهة الفرس فوق درهم، ثم استعملت في الجمال وطيب الذكر, شبه به نورهم في الآخرة, "محجَّلين" من التحجيل, بياض في قوائم الفرس أو في ثلاث منها أو في غيره، قلَّ أو كثر, بعد ما يجاوز(12/312)
قالوا: والحكمة في الذود المذكور، أنه -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبيّ حوضًا" فيكون هذا من جملة إنصافه -صلى الله عليه وسلم, ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم بالماء، ويحتمل أن يكون بطرد من لا يستحق الشرب من الحوض. والله أعلم.
وفي حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لحوضي أربعة أركان، الأوّل بيد أبي بكر الصديق، والثاني بيد عمر الفاروق، والثالث بيد عثمان ذي النورين، الرابع بيد علي بن أبي طالب, فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بكر، ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي". رواه أبو سعد في "شرف النبوة" والغيلاني, والله أعلم.
__________
الأرساغ, ولا يجاوز الركبتين, من آثار الوضوء, ويجوز فتحها، وظاهره: إن هذه السيما إنما تكون لمن توضأ بالفعل، أمَّا من لم يتوضأ فلا يحصلان له, كما جزم به شيخ الإسلام على البخاري خلافًا للزناتي وتقدَّم الرد عليه في الخصائص, "قالوا: والحكمة في الذود أنه -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يرشد كل أحد إلى حوض نبيه، كما تقدَّم "إن لكل نبي حوضًا" وهذا ظاهر فيمن بلغتهم دعوته وعملوا بشرعه، أما أهل الفترات فعلم حالهم في الشرب عند الله, "فيكون هذا من جملة إنصافه -عليه السلام- ورعاية إخوانه من النبيين، لا أنه يطردهم بخلًا عليهم" بالماء, حاشاه من ذلك, "ويحتمل أن يكون يطرد من لا يستحق الشرب من الحوض, والله أعلم" بحقيقة ذلك.
"وفي حديث أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لحوضي أربعة أركان: الأوَّل بيد أبي بكر الصديق, والثاني بيد عمر الفاروق, والثالث بيد عثمان ذي النورين" بنتي النبي -صلى الله عليه وسلم "والرابع بيد علي بن أبي طالب، فمن كان محبًّا لأبي بكر مبغضًا لعمر لا يسقيه أبو بك" بسبب بغضه لعمر, ولا يلتفت إلى كونه محبًّا له، "ومن كان محبًّا لعلي مبغضًا لعثمان لا يسقيه علي" وكذا عكسه.
"رواه أبو سعد" بسكون العين- النيسابوري" "في" كتاب "شرف النبوة, والغيلاني" بغين معجمة- أبو طالب بن غيلان، ولا يعارض هذا قوله -صلى الله عليه وسلم: "علي بن أبي طالب صاحب حوضي يوم القيامة".
أخرجه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وجابر، وأخرج ابن أبي عاصم في السنة عن الحسن بن علي أنه قال لمعاوية: أنت الساب لعلي, أما والله لتردنّ عليه الحوض, وما أراك ترد(12/313)
وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود, فقد قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} اتفق المفسرون, على أن كلمة "عسى" من الله واجب، قال أهل المعاني: لأنَّ لفظة "عسى" تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا، والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك.
وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال:
أحدها: إنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسِّرون على أنه مقام الشفاعة كما قال -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي".
وقال الإمام ابن الخطيب: اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قوم, فحمدوه على ذلك الإنعام،
__________
فتجده مشمِّر الإزار على ساقٍ يذود عنه, لا يأتي المنافقون, ذود غريبة الإبل, قول الصادق المصدوق، وقد خاب من افترى نقلهما في البدور, "وأمَّا تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالشفاعة والمقام المحمود" عطف مغاير؛ لأنه محل يقوم فيه للشفاعة يحتوي عليها، فلا ينافي المشهور أنه الشفاعة؛ لأن المضاف غير المضاف إليه، فهو يقوم مقامًا محمودًا للشفاعة, "فقد قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [السراء: 79] "اتفق المفسرون على أن كلمة عسى" وسائر صيغ الترجي الواقعة "من الله" تعالى, أمر "واجب" ثابت محقق الوقوع, وأن مدلولها من الترجي ليس مرادًا في حقه تعالى.
"قال أهل المعاني: لأن لفظه عسى تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانًا في شيء ثم أحرمه كان عارًا" عرفًا يلام عليه, "والله تعالى أكرم من أن يطمع أحدًا في شيء ثم لا يعطيه ذلك" كيف وقد قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "الأجود الله" , "وقد اختلف في تفسير المقام المحمود على أقوال: أحدها أنه الشفاعة، قال الواحدي" أبو الحسن علي, تلميذ الثعالبي: "أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة، كما قال -صلى الله عليه وسلم- في تفسير "هذه الآية: "هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي"، وقال الإمام" فخر الدين الرازي "ابن الخطيب:" بالري بلدة كان أبوه خطيبها بها: "اللفظ مشعر بذلك؛ لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام, فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام" وهو الشفاعة(12/314)
وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال. وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل، ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب لا حاجة به إليها؛ لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها.
وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العقاب على ما هو مذهب أهل السنة.
ولما ثبت أنَّ لفظ الآية مشعر بهذا المعنى إشعارًا قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى كما في البخاري من حديث ابن عمر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود فقال: "هو الشفاعة". وفيه أيضًا عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًى, كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا
__________
فيهم, "وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليمهم الشرع؛ لأن ذلك كان حاصلًا في الحال" أي: وقت نزول الآية عليه في الدنيا, "وقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} يدل على أنه يحصل للنبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام حمد بالغ عظيم كامل"؛ لأن مدلولها الوعد بأمر مستقبل, "ومن المعلوم أن حمد الإنسان على سعيه في التخلص عن العقاب أعظم من سعيه في زيادة من الثواب, ولا حاجة به إليها" الواو للحال, وفي نسخة بلا واو, على أنَّ الجملة صفة, والنسختان بمعنًى؛ لأن الحال وصف في المعنى؛ "لأن احتياج الإنسان في دفع الآلام العظيمة عن النفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة إلى تحصيلها، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من قوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} هو الشفاعة في إسقاط العذاب على ما هو مذهب أهل السنة، و" جب أيضًا ذلك "لما" أي: لأجل ما ثبت أن لفظ الآية مشعر بذلك إشعارًا قويًّا" من جهة أنها وعد بشيء يحصل في المستقبل كما قدَّمه, "ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى" أي: إثباته "كما في البخاري من حديث ابن عمر، قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن المقام المحمود، فقال: "هو الشفاعة".
"وفيه" أي: البخاري أيضًا "عنه" أي: ابن عمر "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًى" بضم الجيم وفتح المثلثة المخففة منونًا مقصورًا، قال الحافظ: جمع(12/315)
فلان اشفع لنا, حتى تنتهي الشفاعة إلي, فذلك المقام المحمود".
فإذا ثبت هذا، فيجب حمل اللفظ عليه, قال: ومما يؤكد هذا، الدعاء المشهور: وابعثه مقامًا محمودًا يغبطه فيه الأولون والآخرون.
ونصب قوله "مقامًا" على الظرفية، أي: وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا, أو على أنه مفعول به، وضمَّن معنى "ابعثه" معنى "أقمه", ويجوز أن يكون حالًا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام. قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل، أي: مقامًا محمودًا بكل لسان. وقول النووي: "إن الرواية ثبتت بالتنكير، وأنه كأنه
__________
جثوة, كخطوة وخطى، وحكى ابن الأثير، أنه روي -بكسر المثلثة وشد التحتية- جمع جاثٍ, وهو الذي يجلس على ركبتيه.
وقال ابن الجوزي عن ابن الخشاب: إنما هو جثا -بفتح المثلثة وتشديدها- جمع جاثّ مثل غاز وغزا، أي: جماعات, "كل أمة تتبع نبيها يقولون: يا فلان اشفع لنا".
زاد الحافظ أبو ذر: يا فلان, اشفع لنا, "حتى تنتهي الشفاعة إلي" لفظ البخاري: إلى النبي -صلى الله عليه وسلم, زاد في رواية معلقة عنده في الزكاة: فيشفع ليقضي بين الخلق, "فذلك المقام المحمود"، لفظ البخاري: "فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود" فهذا ثابت من لفظ الحديث، فلا يكون جوابًا لما في قول الرازي ولما ثبت كما زعم، وإنما هي لما بالكسر والتخفيف كما قدمه, "فإذا ثبت هذا وجب حمل اللفظ عليه، قال" ابن الخطيب: ومما يؤكد وفي نسخة: يؤيد ومعناهما واحد "هذا" القول أن المراد الشفاعة "الدعاء المشهور" في الحديث المرفوع: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمدًا الوسيلة والفضيلة, وابعث مقامًا محمودًا الذي وعدته, حلت له شفاعتي يوم القيامة" "يغبطه فيه الأولون والآخرون تقدَّم أن المراد يستحسنه تجريدًا للغبطة عن بعض معناها؛ لأنها تمني مثل ما للغير من غير زواله عنه، وليس أحد يتمنى ذلك يومئذ؛ لعلمهم أنه خاص به.
"ونصب قوله: مقامًا على الظرفية، أي" وهو "وابعثه يوم القيامة فأقمه مقامًا محمودًا، أو على أنه مفعول به، وضمّن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "معنى ابعثه معنى أقمه" والأولى أنه مفعول مطلق "ويجوز أن يكون حالا بعد حال، أي: ابعثه ذا مقام" عظيم.
"قال الطيبي: وإنما نكره لأنه أفخم وأجزل" أي: أعظم كأنه قيل: مقامًا، وأي مقام "أي مقامًا محمودًا بكل لسان" تكل عن أوصافه ألسنة الحامدين, ويشرف على جميع العالمين.
وقول النووي: إن الرواية في الحديث المعبر عنه أولًا بالدعاء المشهور: وابعثه مقامًا(12/316)
حكاية للفظ القرآن" متعقب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي
قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" وادعى الإمام فخر الدين الاتفاق عليه.
القول الثاني: قال حذيفة: يجمع الله الناس في صعيد واحد، فلا تكلم نفس، فأول مدعو محمد -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "لبيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهتدي من هديت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت" قال: فهذا هو المراد من قوله
__________
محمودًا "ثبت بالتنكير، وأنه كانه حكاية للفظ القرآن, متعقّب بأنه جاء في هذه الرواية بعينها بالتعريف عند النسائي" بلفظ: المقام المحمود، فالحديث يروى بالوجهين.
قال ابن الجوزي: الأكثر على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة" العظمى في فصل القضاء, "وادعى الإمام فخر الدين" الرازي "الاتفاق عليه", ولعله أراد اتفاق المفسرين كما تقدَّم عن الواحدي: أجمع عليه المفسرون, "والثاني: قال حذيفة" بن اليمان: "يجمع الله الناس في صعيد واحد فلا تكلم" بحذف إحدى التاءين, والأصل: فلا تتكلم نفس" بما ينفع وينجي من جواب أو شفاعة إلا بإذن الله، كقوله: {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} [النبأ: 38] وهذا في موقف, وقوله تعالى: {يَنْطِقُونَ، وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] ، في موقف آخر, أو المأذونون فيه هي الجوابات الحقة, والممنوع منه هي الأعذار الباطلة.
قاله البيضاوي: "فأوّل مدعوّ محمد -صلى الله عليه وسلم، فيقول: "لبيك" إجابة لك بعد إجابة, "وسعديك" مساعدة بعد مساعدة, وهما من المصادر التي لا تستعمل إلا مضافة مثناة, "والخير في يديك, والشر ليس إليك" أي: لا يضاف إليك مخاطبة ونسبة تأدبًا؛ لأنه وإن كان بقضائه وقدره وخلقه لكن لا يحبه ولا يرضاه, بخلاف الخير فإنه بتقديره وإرادته ورضاه ومحبته جميعًا، فبالنظر إلى جانب المحبة والرضا يضاف إليه الخير، كما قال: بيدك الخير، وبالنظر إلى القدرة والخلق والإرادة يضاف إليه كلاهما كما قال سبحانه {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّه} والمهدي كذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها المهتدي بزيادة تاء والمذكور في الفتح المهدي بلا تاء من هديت, "وعبدك بين يديك".
وفي رواية النسائي: "عبدك وابن عبدك, وبك متمسك, وإليك راجع, ولا ملجأ" باللام, "ولا منجا منك" لأحد "إلا إليك".(12/317)
تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} رواه الطبراني وقال ابن منده: حديث مجمع على صحة إسناده وثقة رجالة.
قال الرازي: والقول الأول أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده, فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول؟ فالجواب: لأنَّ الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط، فإن ورد لفظ "الحمد" في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز.
القول الثالث: مقام تحمد عاقبته، قال الإمام الدين، وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرنا.
القول الرابع، قيل: هو إجلاسه -صلى الله عليه وسلم- على العرش, وقيل: على الكرسى، روي
__________
هكذا الرواية بالجمع بينهما كما في الفتح, فسقطت الثانية من قلم المصنف أو نساخه, "تباركت" تعاظمت, "وتعاليت" عمَّا يتوهمه الأوهام ويتصوره العقول, "سبحانك رب البيت" أي: يا رب البيت, قال حذيفة: فهذا هو المراد من قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] الآية.
"رواه الطبراني", والنسائي بإسناد صحيح، وصحَّحه الحاكم كما في الفتح، فالعزو للنسائي أَوْلَى؛ إذ ليس في رواية الطبراني زيادة عليه سوى قوله: "سبحانك رب البيت"، قال الحافظ: ولا منافاة بينه وبين حديث ابن عمر؛ لأنَّ هذا الكلام كأنَّه مقدمة للشفاعة, "قال ابن منده: حديث مجمع على صحيح إسناده وثقة رجاله, قال الرازي: والقول الأوّل" إنه الشفاعة, "أَوْلَى؛ لأن سعيه في الشفاعة يفيد إقدام الناس على حمده فيصير محمودًا، وأمَّا ما ذكر من الدعاء فلا يفيد إلّا الثواب، أمَّا الحمد فلا" لكن لما كان مقدمة للشفاعة كما ترجاه الحافظ صار كأنه سعى فيها.
"فإن قيل: لم يجوز أن يقال: إنه تعالى يحمده على هذا القول" فيبطل قولك، أمَّا الحمد فلا "فالجواب، أن الحمد في اللغة مختص بالثناء المذكور في مقابلة الإنعام فقط" والله تعالى المنعم, "فإن ورد لفظ الحمد في غير هذا المعنى فعلى سبيل المجاز", وقولي: أمَّا الحمد فلا مبنى على الحقيقة القول الثالث مقام تحمد عاقبته, قال الإمام فخر الدين: وهذا أيضًا ضعيف للوجه الذي ذكرناه, يعني: قوله؛ لأن سعيه في الشفاعة.... إلخ.
"القول الرابع قيل: هو إجلاسه -عليه السلام- على العرش" حملًا للمقام على أنه مصدر(12/318)
عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش.
قال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونصّ الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه وجوه.
الأول: إن البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميت, أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد.
والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش بحيث يجلس عنده محمد -صلى الله عليه وسلم- لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا.
والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مَحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا, والمقام موضع
__________
ميمي لا اسم مكان, "وقيل: على الكرسي" بناءً على أنه غير العرش وهو الصحيح.
"وروي" عند الثعلبي "عن ابن مسعود أنه قال: يقعد" بضم أوله "الله تعالى محمدًا -صلى الله عليه وسلم- على العرش", وهذا له حكم الرفع؛ إذ لا دخل للرأي فيه, وابن مسعود ليس ممن يأخذ عن أهل الكتاب.
"وعن مجاهد أنه قال: يجلسه" الله "معه على العرش", أخرجه عنه عبد بن حميد وغيره, قال الواحدي: وهذا قول رذل" بذال معجمة, أي: رديء موحش منفر فظيع متجاوز الحد في القبح, ونص الكتاب أي: قوله {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} "ينادي بفساد هذا التفسير، ويدل عليه" على فساده "وجوه".
الأول: إنَّ البعث ضد الإجلاس، يقال: بعثت البارك والقاعد فانبعث، ويقال: بعث الله الميّت, أي: أقامه من قبره، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضد بالضد وهو فاسد" على هذا, إن كان مقصورًا على ما زعمه, وإلّا فقد قال الفارابي: بعثه إذا أهبه وبعث به وجهه, وقال الجوهري: بعثه وابتعثه بمعنًى، أي: أرسله، فالمعنى على هذا: عسى أن يرسلك مقامًا تجلس فيه على الكرسي أو العرش على هذا القول.
والثاني: يوجب أنه تعالى لو كان جالسًا على العرش؛ بحيث يجلس عنده محمد -صلى الله عليه وسلم؛ لكان محدودًا متناهيًا، ومن كان كذلك فهو محدث تعالى الله علوًّا كبيرًا" ويأتي رد هذا.
والثالث: إنه تعالى قال: {مَقَامًا مًحْمُودًا} ولم يقل: مقعدًا، والمقام موضع القيام(12/319)
القيام، لا موضع القعود.
الرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قومٍ لإصلاح مهماتهم, ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه، فثبت أن هذا القول ساقط، لا يميل إليه إلا قليل العقل عديم الدين، انتهى.
وتعقّب القول الثاني، بأنه تعالى يجلس على العرش كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة بلا كيف، وليس إقعاد محمد -صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبًا له صفة الربوبية، أو مخرجًا عن صفة العبودية، بل هو رفع لمحله, وتشريف له على خلقه، وأما قوله: "معه" فهو بمنزلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة والدرجة الرفيعة، لا إلى المكان.
وقال شيخ الإسلام أبو الفضل السعقلاني: قول مجاهد "يجلسه معه على
__________
لا موضع القعود" وأجيب بأنه يصح على أنَّ المقام مصدر ميمي لا اسم مكان.
"والرابع: إذا قيل: السلطان بعث فلانًا, فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه", وهذا مردود بأن هذا عادة يجوز تخلفها, على أن أحوال الآخرة لا تقاس على أحوال الدنيا, "فثبت أن هذا القول ساقط لا يميل إليه إلّا قليل" أي: ناقص العقل عديم الدِّين, فاقده أصلًا, وهذا مجازفة في الكلام لا تليق بطالب فضلًا عن عالم, بعد ثبوت القول عن تابعي جليل، ووجد مثله عن صحابيين ابن عباس وابن مسعود كما يأتي.
"انتهى" كلام الواحدي" وتعقّب القول" أي: الوجه الثاني من الأوجه الأربعة التي رَدّ بها القول الرابع بأنه تعالى يلس على العرش, كما أخبر -جل وعلا- عن نفسه المقدَّسة" بقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] بلا كيف, وليس إقعاد محمد -صلى الله عليه وسلم- على العرش موجبًا له صفة الربوبية, بل كإجلاس الملك على سريره من يعظمه, ولا يوجب له صفة الملك أو مخرجًا له عن صفة العبودية, بل هو رفع لمحله, وتشريف له على خلقه، وأمَّا قوله معه فهو بمنزلة قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} أي: الملائكة, وقوله: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] .
فالعندية فيهما للتشريف، فكذلك المعية فيما نحن فيه, "فكل هذا ونحوه عائد على الرتبة والمنزلة والحظوة -بضم الحاء وكسرها, والدرجة الرفيعة لا إلى المكان" حتى يلزم منه التناهي وأنه محدود.
"وقال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: قول مجاهد: يجلسه معه على العرش ليس(12/320)
العرش" ليس بمدفوع لا من جهة النقل ولا من جهة النظر. وقال ابن عطية: هو كذلك إذا حمل على ما يليق به قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول: ونقل النقاش عن أبي داود صاحب السنن أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم, وقد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبيّ، وعن ابن عباس عند أبي الشيخ قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب، فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف، وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره، ويحتمل أن يكون المراد بالمقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس هي المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة. كذا قاله بعضهم، ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة.
__________
بمدفوع لا من جهة النقل"؛ لأنه لم ينفرد به, "ولا من جهة النظر", وأشار للثاني بقوله: "وقال ابن عطية هو كذلك إذا حمل على ما يليق به" من أنها معية تشريف, قال: وبالغ الواحدي في رد هذا القول" بما قدمه المصنّف آنفًا.
وأشار للأوّل بقوله: "ونقل النقاش" المفسر "عن أبي داود صاحب السنن" سليمان بن الأشعث احترازًا على الطيالسي أبي داود, وسليمان بن داود صاحب المسند, "أنه قال: من أنكر هذا القول فهو متهم" بعدم المعرفة؛ حيث أنكر شيئًا ثابتًا بمجرَّد ما قام في عقله, "و" لم ينفرد به مجاهد، فإنه "قد جاء عن ابن مسعود عند الثعلبي" ويقال له أيضًا: الثعالبي, وهو شيخ الواحدي.
"وعن ابن عباس عند أبي الشيخ: قال: إن محمدًا يوم القيامة يجلس على كرسي الرب بين يدي الرب" وهذا له حكم الرفع؛ لأنه جاء عن صحابي, ولا دخل للرأي فيه, فيحتمل أن تكون الإضافة إضافة تشريف, وعلى ذلك يحمل ما جاء عن مجاهد وغيره" كما مَرَّ, ولا فساد فيه ولا قبح, ويحتمل أن يكون المقام المحمود الشفاعة كما هو المشهور، وأن يكون الإجلاس على الكرسي والعرش "هي" أنت؛ لمراعاة الخبر وهو "المنزلة المعبَّر عنها بالوسيلة".
كذا قاله بعضهم: ويحتمل أن يكون الإجلاس علامة الإذن في الشفاعة" وعلى ذلك, فلا ينافي المشهور، وقيل: المقام المحمود أخذه بحلقة باب لجنة، وقيل: إعطاؤه لواء الحمد.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن أبي هلال أنَّه بلغه أنَّ المقام المحمود الذي ذكر الله أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- يكون يوم القيامة بين الجبار وبين جبريل, يغبطه لمقامه ذلك أهل الجمع ورجاله ثقات.
لكنَّه مرسل، وعنده أيضًا عن علي بن الحسين بن علي: أخبرني رجل من أهل العلم أن(12/321)
واختلف في "فاعل" الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} فالأكثر على أن المراد به أهل الموقف، وقيل: النبي -صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجده في الليل، والأوَّل أرجح لما ثبت في حديث ابن عمر بلفظ: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم", ويجوز أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: مقامًا يحمده القائمة فيه وكل من عرفه، وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا أبو حيان، وأيّده بأنه نكرة, فدلَّ على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصًا. انتهى.
فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور: إن المراد بالمقام المحمود الشفاعة، فأيّ شفاعة هي؟
فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث، في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء، والثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار، لكن الذي يتجه: ردّ هذه الأقوال كلها إلى الشفاعة العظمى
__________
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تمد الأرض مد الأديم....." الحديث.
وفيه: "ثم يؤذن لي في الشفاعة فأقول: أي رب, عبادك عبدوك في أطرف الأرض"، قال: فذلك المقام المحمود, رجاله ثقات, وهو صحيح إن كان الرجل صحابيًّا كما في الفتح.
واختلف في فاعل الحمد في قوله تعالى: {مَحْمُودًا} ، فالأكثر أنَّ المراد به أهل المواقف" يحمدون, "وقيل" فاعله النبي -صلى الله عليه وسلم، أي: إنه يحمد عاقبة ذلك المقام بتهجّده في الليل" المأمور به أوّل الأية, والأوّل, أي: أهل الموقف "أرجح, لما ثبت في حديث ابن عمر: مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم" فهذا نص صريح, "ويجوز" مع ذلك أن يحمل على أعمّ من ذلك، أي: يحمده القائم فيه" صلى الله عليه وسلم- يحمد كل من عرفه, وهم أهل الجمع, وهو مطلق في كل ما يجلبه" بجيم وموحدة، أي: يسببه "الحمد من أنواع الكرامات، واستحسن هذا" الحمل على الأعمّ أبو حيان, وأيده بأنه نكرة، فدل على أنه ليس المراد مقامًا مخصوصً.... أهـ.
"فإن قلت: إذا قلنا بالمشهور أنَّ المراد بالمقام المحمود والشفاعة, فأي شفاعة هي؟ " لأنَّ له -صلى الله عليه وسلم- عدة شفاعات تأتي, "فالجواب: إن الشفاعة التي وردت في الأحاديث في المقام المحمود نوعان: النوع الأول: العامَّة في فصل القضاء" بين الخلائق, "و" النوع الثاني: في الشفاعة في إخراج المذنبين من النار, لكن الذي يتَّجه ردّ" أي: ترجع هذا الأقوال".(12/322)
العامة، فإنَّ إعطائه لواء الحمد، وثناءه على ربه, وكلامه بين يديه, وجلوسه على كرسيه, كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق.
وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك, وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين, وتمسَّكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 8] .
وأجاب أهل السنة بأنَّ هذه الآيات في الكفّار، قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا، ووجوبها سمعًا؛ لصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109] وقوله: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] وكقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} المفسّر بها عند الأكثرين، كما قدمنا.
__________
المذكورفي المقام المحمود, "كلها إلى لشفاعة العظمى العامّة" في فصل القضاء, "فإن إعطاءه لواء الحمد وثناءه على ربه, وكلامه بين يديه, وجلوسه على كرسيه" أو عرشه, "كل ذلك صفات للمقام المحمود الذي يشفع فيه ليقضي بين الخلق".
وأما شفاعته في إخراج المذنبين من النار فمن توابع ذلك" فلا تراد استقلالًا, "وقد أنكر بعض المعتزلة والخوارج الشفاعة في إخراج من أدخل النار من المذنبين, فأمَّا الشفاعة في فصل القضاء فلم يكذب بها أحد من المعتزلة ولا غيرهم، قاله الفاكهاني, وتمسكوا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] من الملائكة والأنبياء والصالحين, والمعنى: لا شفاعة لهم, وقوله تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ} الكافرين {مِنْ حَمِيمٍ} محب, {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} الآية" لا مفهوم للوصف؛ إذ لا شفيع لهم أصلًا، فما لنا من شافعين, أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء, أي: لو شفعوا فرضًا لم يقبلوا.
وأجاب أهل السنة بأن هذه الآيات في الكفار"، فلا حجة فيها, "قال القاضي عياض: مذهب أهل السنة جواز الشفاعة عقلًا"؛ إذ ليست بمحال فيها, "ووجوبها" ثبوتها "سمعًا لصريح قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ} أحدًا {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ} أن يشفع له {وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} بأن يقول: لا إله إله الله ووجه صراحته أن الاستثناء من النفي إثبات, وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ} أي: الملائكة, إلا لمن ارتضى الله سبحانه أن يشفعوا له, وكقوله: عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا المفسَّر بها" أي: بالشفاعة العظمى عند(12/323)
وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين, وعن أم حبيبة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: أريت ما تلقى أمتي من بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق لهم من الله ما سبق للأمم قبلهم, فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة ففعل".
وفي حديث أبي هريرة: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها, وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" وفي رواية أنس: "فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي" , وهذا من مزيد شفقته علينا, وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة في أهمّ أوقات حاجاتنا, فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء.
وعن أبي هريرة قلت: يا رسول الله, ماذا ورد عليك في الشفاعة؟ فقال: شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا يصدق لسانه قلبه.
__________
الأكثرين كما قدَّمته" وليس النزاع فيها, إنما هو في الشفاعة للمذنبين، ففي الاستبدال بالآية عنده شيء, "وقد جاءت الأحاديث التي بلغ مجموعها التواتر بصحة", أي: وقوع "الشفاعة في الآخرة لمذنبي المؤمنين", فلا معنى لإنكارها لحصول القطع بها, وأخرج الحاكم والبيهقي وصحَّحاه "عن أم حبيبة" أم المؤمنين "قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أريت" بضم الهمزة وكسر الراء- أي: أراني الله تعالى "ما تلقى أمتي من بعدي" بعد وفاتي, "وسفك بعضهم دماء بعض" أسقط من لفظه: فأحزنني, "وسبق لهم من الله" في علمه "ما سبق".
وفي رواية: وسبق لهم ذلك من الله كما سبق, "للأمم قبلهم، فسألت الله أن يوليني فيهم شفاعة يوم القيامة، ففعل" ذلك.
"وفي حديث أبي هريرة: "لكلّ نبي دعوة مستجابة يدعو بها, وأريد أن أختبئ" أدَّخر "دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" تقدَّم شرحه في آخر المقصد التاسع.
"وفي رواية أنس" عد مسلم: "فجعلت دعوتي شفاعةً لأمتي" , وهذا من مزيد شفقته علينا, وحسن تصرفه؛ حيث جعل دعوته المجابة" على سبيل القطع, "في أهم أوقات حاجاتنا، فجزاه الله عنَّا أفضل الجزاء".
"وعن أبي هريرة: قلت: يا رسول الله, ماذا ورد عليك" من الوحي, ومنه الإلهام من الله, "في" شأن "الشفاعة، قال: "شفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله" أي: ومحمد رسول الله, "مخلصًا يصدق لسانه" بالرفع فاعل, "قلبه" مفعول، أي: يخبر لسانه عن صدق قلبه، فليس كالمنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ويجوز عكسه.(12/324)
وعن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس يوم القيامة، هل تدرون مم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيبصرهم الناظر، ويسمعهم الداعي، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون, فيقول الناس: ألا ترون إلى ما أنتم فيه، إلى ما بلغتم، ألا تنظرون إلى مَنْ يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتونه فيقولون: يا آدم, أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه،
__________
"وعن أبي زرعة" بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي الكوفي، قيل: اسمه هرم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الله، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: جرير, "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد الناس" آدم وجميع ولده، أي: أنا الفائق المفزوع إليه في الشدائد, وخص "يوم القيامة" لارتفاع دعوى السؤدد فيها لغيره، كقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} خص السؤال به لأنه يوم تنقطع فيه الدعاوي، ولأنه يستلزم سيادته ف الدنيا بطريق الأولوية, ونهيه عن التفضيل على طريق التواضع, "هل تدرون ممن ذلك".
وفي رواية: ذلك بألف بدل اللام "يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد" أرض واسعة مستوية, "فيبصرهم الناظر" أي: يحيط بهم بصر الناظر؛ بحيث لا يخفى عليه منهم شيء؛ لاستواء الأرض وعدم الحجاب.
وفي رواية: وينفذهم البصر -بتحتية مفتوحة وذال معجمة- على الأصح، أي: تحيط بهم أبصار الناظرين من الخلق لاستواء الصعيد، وهذا أوجه من قول أبي عبيد: بصر الرحمن؛ لأن الله أحاط بالناس أولًا وآخرًا في الصعيد المستوي وغيره, "ويسمعهم الداعي" بضم الياء من الإسماع، أي: إذا دعاهم سمعوه, "وتدنو الشمس" من جماجم الناس حتى تكون قاب قوسين, ويزاد في حرها عشر سنين كما مَرَّ, "فيبلغ الناس" بالنصب، أي: يصل إليهم, "من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون" فاعل يبلغ, "فيقول الناس: "ألا" بفتح الهمزة وخفة اللام "ترون إلى ما أنتم فيه" من الغم والكرب, "إلى ما بلغكم" بدل من قوله: إلى ما أنتم فيه.
وفي رواية مسلم: "ألا ترون ما قد بلغكم"، أي: وصل إليكم، ويقع في أكثر نسخ المواهب: بلغتم بمثناة بدل الكاف, ولا وجود لها في الصحيحين, ولا في أحدهما, "ألا تنظرون إلى من يشفع لكم إلى ربكم" حتى يريحكم من مكانكم هذا, "فيقول بعض الناس" هم رؤساء الأمم كما في الفتح، وقال ابن برجان: رؤساء أتباع الرسل لبعض: "أبوكم آدم" وفي رواية: ائتوا آدم، وللبخاري: "عليكم بآدم" , "فيأتونه فيقولون: يا آدم, أنت أبو البشر" وشأن الأب الحنان والشفقة, "خلقك الله بيده" بقدرته بغير واسطة, "ونفخ فيك من روحه" بأن أمر الروح أن(12/325)
وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فقال: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا
__________
تدخل في جسدك وتجري مجرى نفسك.
قال الكرماني: الإضافة إلى الله لتعظيم المضاف وتشريفه, "وأمر الملائكة فسجدوا لك" كلهم, "وأسكنك الجنة" , وفي رواية للبخاري: "وأسكنك جنته, وعلمك أسماء كل شيء" وذكروا هذا إشارة إلى أن من حوى هذه الفضائل أهلٌ للشفاعة، ولذا قدموها على قولهم: "ألا" بأداة العرض, "تشفع لنا إلى ربك, ألا ترى ما نحن فيه" من الغمِّ والكرب, "وما بلغنا" بفتح الغين على الصحيح المعروف، ويدل له قوله قبل: "ألا ترون إلى ما قد بلغكم"، ولو كان بإسكان الغين لقال بلغتم، قاله النووي.
وفي رواية للشيخين: "ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما قد بلغنا" , "فقال: إن ربي غضب" بكسر الضاد "اليوم غضبًا لم يغضب" بفتح الضاد فيهما "قبله مثله ولا يغضب".
كذا رواها الحموي والمستملي في البخاري بلفظ لا، ورواه غيرهما فيه، وكذا رواه مسلم بلفظ: "ولن يغضب" بلن "بعده مثله" وكل من لن، ولا يفيد النفي في المستقبل، والمراد من الغضب كما قال الكرماني لازمه, وهو إرادة إيصال العذاب، وقال النووي: المراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما شاهده أهل الجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها, "وأنه" بالواو ودونها روايتان "نهاني عن الشجرة" أي: عن الأكل منها, فعصيته وأكلت منها, "نفسي نفسي نفسي" ذكرها ثلاثًا.
وفي رواية للشيخين أيضًا: مرتين، أي: نفسي هي التي تستحق أن يشفع لها؛ إذ المبتدأ والخبر إذا اتحدا فالمراد بعض لوازمه؛ إذ قوله: نفسي مبتدأ والخبر محذوف، وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور: "إني أخطأت وأنا في الفردوس، فإن يغفر لي اليوم حسبي".
وكذا عنده في بقية الأنبياء بعده، ومن البديهي أن المصنف لم يذكر ذلك؛ لأنه إنما ساق حديث أبي هريرة في الصحيحين, وليس فيه ذلك، لا للإشعار بأنه ليس ذنبًا يستغفر منه، وإنما قالوه تعظيمًا لله, وأنه لا ينبغي أن يوجد من مثلهم خلاف الأولى, فضلًا عن الذنب، فإن هذا وإن كان ظاهرًا في نفسه لكن لو كان كذلك لترك المصنف الحديث بالمرة؛ إذ ليس بأشد من قوله: "نهاني فعصيته".
وفي رواية أنس في الصحيح فيقول: "لست لها"، وفي لفظ: "لست هناكم"، وفي حديث حذيفة: "لست بصاحب ذاك"، فالمعنى: إن هذا المقام ليس لي بل لغيري, "اذهبوا إلى غيري" زاد(12/326)
إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا -عليه السلام- فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل بعث إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة، دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم -عليه السلام- فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرها، نفسي نفسي
__________
في حديث سليمان: فيقولون: "إلى من تأمرنا"، فيقول: "ائتوا عبدًا شاكرًا" , "اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح, أنت أول الرسل بعث إلى" قومه من "أهل الأرض, وقد سماك الله" في كتابه "عبدًا شكورًا" أي: كثير الشكر حامدًا في جميع أحواله, "ألا ترى إلى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا" بفتح الغين, "ألا تشفع لنا إلى ربك" حتى يريحنا من مكاننا, "فيقول" نوح: "إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولا يغضب".
وفي رواية: "ولن يغضب بعده مثله" , أي: إنه ظهر من انتقاه من العصاة وأليم عقابه ما لم يكن قبل, ولا يوجد بعد, "وأنه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي" هي التي أغرق بها أهل الأرض، يعني: إن له دعوة واحدة محققة الإجابة, وقد استوفاها بدعائه على أهل الأرض، فيخشى أن يطلب فلا يجاب.
وفي حديث أنس عند الشيخين: "ويذكر خطيئته التي أصاب بها سؤاله ربه بغير علم" , فجمع بينهما بأنه اعتذر بأمرين، أحدهما: أنه استوفى دعوته المستجابة، وثانيهما: سؤاله ربه بغير علم، حيث قال: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فخشي أن تكون شفاعته لأهل الموقف من ذلك, "نفسي نفسي نفسي" ثلاث مرات، أي: هي التي تستحق أن يشفع لها.
وفي رواية: مرتين, "اذهبوا إلى غيري" زاد في رواية سلمان: فيقولون إلى من تأمرنا، فيقول: "اذهبوا إلى إبراهيم" زاد في حديث أنس: خليل الرحمن, "فيأتون إبراهيم فيقولون" يا إبراهيم "أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض" لا ينفي وصف الخلة الثابت للمصطفى على وجهٍ أعلى من إبراهيم, "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، فيقول لهم: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني كنت كذبت ثلاث كذبات" بفتحات "فذكرها" لفظ البخاري، فذكرهنَّ أبو حيان في الحديث، أي: ذكرهنّ يحيى بن سعيد التيمي, تيم الرباب الراوي عن أبي زرعة، وانتصرهن من بعده في مسلم من طريق عمارة بن(12/327)
نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى -عليه السلام، فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، فضَّلك برسالته وبكلامه على الناس، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى -عليه السلام- فيقولون: يا عيسى: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلَّمت الناس في المهد، ألا
__________
القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة، قال: وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله لآلهتهم: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم.
وفي حديث أبي سعيد قال -صلى الله عليه وسلم: "ما منها كذبة إلّا ما حلَّ بها عن دين الله" وما حلّ -بمهملة- جادل، وذكر أن الثالثة قوله لأمر: إنه حين أتى على الملك أخبريه أني أخوك, "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا.
وفي رواية: مرتين, "اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى" بيان لقوله: غيري, "فيأتون موسى فيقولون: يا موسى, أنت رسول الله, فضلك الله برسالاته" بالجمع عند مسلم، أمَّا البخاري فبالإفراد كما قال المصنف, "وبكلامه على الناس" عام مخصوص بغير المصطفى، فإن كلامه له ثابت على وجه أكمل من موسى كما مَرَّ في المعراج، ولا يلزم منه أن يشتق له من اسمه الكليم كموسى؛ إذ هو وصف غلب على موسى كالمحبَّة للمصطفى, "ألا ترى ما نحن فيه, اشفع لنا إلى ربك".
كذا في النسخ, والذي في الصحيحين: "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه"، زاد مسلم: "ألا ترى ما قد بلغنا, فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر" بضم الهمزة وسكون الواو بقتلها يريد القبطي المذكور في آية القصص، وإنما استعظمه واعتذر به؛ لأنه لم يؤمر بقتل الكفار، أو لأنه كان مؤمنًا فيهم، فلم يكن له اغتياله ولا يقدح في عصمته لكونه خطأ, وعدَّه من عمل الشيطان في الآية، وسمَّاه ظلمًا, واستغفر منه على عادتهم في استعظام محقرات فرطت منهم, وإن لم تكن ذنبًا.
وفي حديث أنس عند سعيد بن منصور: إني قتلت نفسًا بغير نفس, وأن يغفر لي اليوم، حسبي "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، وفي رواية: مرتين "اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى, أنت رسول الله, وكلمته ألقاها إلى مريم" أي: أوصلها إليها وجعلها فيها, "وروح" صدر منه لا يتوسّط ما يجري مجرى الأصل والمادة له, "وكلمت الناس(12/328)
ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى -عليه السلام: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله, وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، ألا ترى إلى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى ربك، فأنطلق فآتي تحت
__________
في المهد" مصدر سُمِّيَ به ما يمهد للصبي من مضجعه, "ألا ترى إلى ما نحن فيه" من الكرب, "اشفع لنا إلى ربك" لفظ الشيخين: "اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه".
زاد مسلم: "ألا ترى ما قد بلغنا" , "فيقول عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله, ولن يغضب بعده مثله, ولم يذكر ذنبًا" وفي حديث ابن عباس: إني اتخذت إلها من دون الله، وفي حديث أنس عند سعيد ابن منصور نحوه.
وزاد: وأن يغفر لي اليوم، حسبي, "نفسي نفسي نفسي" ثلاثًا، ولمسلم مرتين في الكل, "اذهبوا إلى غيري, اذهبوا إلى محمد" , زاد في رواية أنس عند الشيخين: فيقول: "لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر" , "فيأتون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فيقولون: يا محمد, أنت رسول الله وخاتم الأنبياء, وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر" يعني: إنه غير مؤاخذ بذنب لو وقع.
قال الحافظ: يستفاد من قول عيسى في نبينا هذا، ومن قول موسى: إني قتلت نفسًا وأن يغفر لي اليوم، حسبي, مع أن الله قد غفر له بنص القرآن, التفرقة بين من وقع منه شيء ومن لم يقع منه شيء أصلًا، فإن موسى مع وقوع المغفرة له لم يرتفع إشفاقه من المؤاخذة بذلك, ورأى في نفسه تقصير عن مقام الشفاعة مع وجود ما صدر منه بخلاف نبينا -صلى الله عليه وسلم- في ذلك كله، ومن ثَمَّ احتجَّ عيسى بأنه صاحب الشفاعة؛ لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، بمعنى: إن الله أخبر أن لا يؤاخذه بذنب لو وقع منه، قال: وهذا من النفائس التي فتح الله بها في فتح الباري فله الحمد.
وقال القاضي عياض: يحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد -صلى الله عليه وسلم- معينًا, وتكون إحالة كل واحد منهم على الآخر على تدريج الشفاعة في ذلك إليه إظهارًا لشرفه في ذلك المقام العظيم، وإنما خص الخمسة بالمجيء إليهم دون باقي الأنبياء؛ لأنهم مشاهير الرسل وأصحاب شرائع عمل بها مددًا طويلة مع أن آدم والد الجميع, ونوح الأب الثاني, وإبراهيم مجمع على الثناء عليه عند جميع أهل الأديان, وهو أبو الأنبياء, بعده موسى أكثر الأنبياء أتباعًا بعد المصطفى وعيسى؛ لأنه ليس بينه وبينه نبي، ولأنه من أمته -صلى الله عليه وسلم, ولم يلهموا المجيء إليه من أول وهلة لإظهار فضله(12/329)
العرش, فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه, واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما
__________
وشرفه.
قال الحافظ: ولا شكَّ أن في السائلين يومئذ من سمع هذا الحديث في الدنيا, وعرف أن ذلك خاص به, ومع ذلك فلا يستحضره؛ إذ ذاك أحد منهم, وكأنَّ الله أنساهم ذلك للحكمة المذكورة, "ألا ترى إلى ما نحن فيه, اشفع لنا إلى ربك" الذي في الصحيحين تقديم هذه الجملة على التي قبلها، وزاد مسلم: "ألا ترى إلى ما قد بلغنا" , "فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي".
وفي حديث أنس: "فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى استأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجدًا, فيدعني ما شاء الله أن يدعني" والمستأذن له جبريل، ففي رواية أبي بكر الصديق عند أبي عوانة: "فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة، فينطلق به جبريل فيخر ساجدًا قدر جمعة"، وسئل الجلال البلقيني عن حكم سجوده -صلى الله عليه وسلم- من حيث الوضوء، فأجاب بأنه باقٍ على طهارة غسل الميت؛ لأنه حي لا يموت في قبره, ولا ناقض لطهارته، ويحتمل أن يجاب بأن الآخرة ليست دار تكليف، فلا يتوقّف السجود على وضوء. قاله في البدور، ويحتمل أنه توضأ من حوضه, "ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي".
وفي بعض طرق الحديث عند البخاري: "فيلهمني الله محامد لا أقدر عليها الآن, فأحمده بتلك المحامد"، قال المصنّف وغيره: وقد ورد ما لعله يفسر به بعض تلك المحامد لا جميعها، ففي النسائي وغيره من حديث حذيفة رفعة: "يجمع الله الناس في صعيد واحد، فيقال: يا محمد، فأقول: لبيك وسعديك....." الحديث السابق قريبًا " ثم يقال: "يا محمد, ارفع رأسك, سل تعطه" بسكون الهاء للسكت, "واشفع تشفع" بشد الفاء المفتوحة، أي: تقبل شفاعتك, "فأرفع رأسي، فأقول: أمتي يا رب, أمتي يا رب" مرتين، وهذه الشفاعة بعد العامَّة لجميع الأمم في فصل القضاء، ففي السياق حذف كما يأتي إيضاحه، وفي مسند البزار: "فأقول: يا رب, عجّل على الخلق الحساب" , "فيقال: يا محمد, أدخل" بكسر الخاء أمر من الإدخال.
وفي رواية مسلم: "أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة" , وهم سبعون ألفًا, أوَّل من يدخلها, "وهم" أيضًا "شركاء الناس فيما سوى ذلك"(12/330)
سوى ذلك من الأبواب". الحديث رواه البخاري ومسلم.
قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: "أنت أول الرسل من أهل الأرض" فإن آدم نبي مرسل، وكذا شيث وإدريس، وهم قبل نوح.
ومحصل الأجوبة عن ذلك: إن الأوَّلية مقيدة بقوله: "أهل الأرض"؛ لأنَّ آدم ومن ذكر معه لم يرسلوا إلى أهل الأرض، أو أنَّ الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح ابن بطال في حق آدم. وتعقَّبه القاضي عياض ما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر، فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا، وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث وهو من علامات الإرسال. وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه
__________
من الأبواب" يعني: لا يلجئون إلى الدخول من الأيمن، بل إن شاءوا الدخول من غيره دخلوا وإن خصوا بالباب الأيمن دون غيرهم.
قال القرطبي: وهذا يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- شفع فيما طلب من تعجيل حساب أهل الموقف، فإنه لما أمر بإدخال من لا حساب عليه من أمته, شرع في حساب من عليه حساب من أمته وغيرهم.
"الحديث" تمامه، ثم قال: "والذي نفسي بيده, إن بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى".
"رواه البخاري" في مواضع "ومسلم" في الإيمان، وروياه أيضًا من حديث أنس, وفيه تكرار السجود أربع مرات، وجاء من حديث صحابة أخر مطولًا ومختصرًا، ساقها في البدور بألفاظها.
"قال في فتح الباري: وقد استشكل قولهم لنوح: أنت أوّل الرسل من أهل الأرض بأن آدم نبي مرسل، وكذا شيث" ابنه, "وإدريس, وهم قبل نوح", إلّا أنَّ في كون إدريس قبله خلافًا "فمحصّل الأجوبة عن ذلك أنَّ الأولية مقيدة بقوله: أهل الأرض؛ لأن آدم ومن ذكر معه" شيث وإدريس "لم يرسلوا إلى أهل الأرض" وإنما أرسلوا إلى بعض أهلها, ويلزم على ذلك عموم رسالة نوح.
وأجيب بأنه بصدد أن يبعث في زمنه غيره بخلاف نبينا -صلى الله عليه وسلم, وبغير ذلك مما سبق, "أو أن الثلاثة كانوا أنبياء ولم يكونوا رسلًا، وإلى هذا جنح" مال "ابن بطّال في حق آدم, وتعقّبه القاضي عياض بما صحَّحه ابن حبان من حديث أبي ذر, فإنه كالصريح في أنه كان مرسلًا" ولفظه قلت: يا رسول الله, كم الرسل منهم، أي: الأنبياء؟ قال: "ثلاثمائة وثلاثة عشر جم غفير"، قلت: من كان أولهم؟ قال: "آدم" وفيه التصريح بإنزال الصحف على شيث -بكسر المعجمة وإسكان الياء ومثلثة- وذلك من علامات الإرسال".(12/331)
كان من بني إسرائيل.
ومن الأجوبة أنَّ رسالة آدم كانت إلى بنيه، وهم موحِّدون، ليعلمهم شريعته، ونوح رسالته كانت إلى قوم كفَّار يدعوهم إلى التوحيد.
وذكر الغزالي في كتاب "كشف علوم الآخرة" أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم, وإتيانهم نوحًا ألف سنة، وكذا بين كل نبي ونبي، إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها، فلا يغتر بشيء منها.
ووقع في رواية حذيفة: إن الخليل -عليه السلام- قال: "لست بصاحب ذاك,
__________
"وأمَّا إدريس فذهبت طائفة إلى أنه كان من بني إسرائيل" يعقوب, وهو بعد نوح بزمان طويل, "ومن الأجوبة: إن رسالة آدم كانت إلى بنيه وهو موحِّدون؛ ليعلمهم شريعته," فهي كالتربية للأولاد, "ونوح رسالته كانت إلى قوم كفار يدعوهم إلى التوحيد" وينذرهم بالهلاك إن لم يوحدوا, "وذكر الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة أنَّ بين إتيان أهل الموقف آدم وإتيانهم نوحًا ألف سنة".
"وكذا بين كل نبي ونبي إلى نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم، قال الحافظ ابن حجر: ولم أقف لذلك على أصل، قال: ولقد أكثر في هذا الكتاب من إيراد أحاديث لا أصول لها فلا يغتر بشيء منها" وتعقبه العيني بأنَّ جلالة قدر الغزالي تنافي ما ذكره، وعدم وقوفه على أصلٍ لذلك لا يستلزم نفي وقوف غيره لذلك على أصل، فإنه لم يحظ علمًا بكل ما ورد حتى يدَّعي هذه الدعوى، وأجاب الحافظ في انتقاض الاعتراض بأنَّ جلالة الغزالي لا تنافي أنه يحسن الظن ببعض الكتب، فينقل منها, ويكون ذلك المنقول غير ثابت, كما وقع له ذلك في الإحياء في نقله من قوت القلوب، كما نبَّه على ذلك غير واحد من الحفَّاظ، وقد اعترف الغزالي بأن بضاعته في الحديث مزجاة, قال: ولم أدَّع أني أحطت علمًا وإنما نفيت اطلاعي وإطلاقي في الثاني محمول على تقييدي في الأول.
والحديث لا يثبت بالاحتمال، فلو كان المعترض اطَّلع على شيء يخالف قولي لأبرزه وتبجح به. انتهى.
ووقع في رواية حذيفة" وأبي هريرة معًا "أنَّ الخليل -عليه السلام- قال:" ولفظ مسلم عن أبي هريرة وحذيفة، قالا: قال -صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس, فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنة إلّا خطيئة أبيكم(12/332)
إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة, "فيهما" بلا تنوين، ويجوز البناء فيها على الضمِّ للقطع عن الإضافة نحو: {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} واختاره أبو البقاء، قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء وراء -بالضم، وقال:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء
ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي.
ومعناه: لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده: إنَّ الفضل الذي أعطيته كان بسفارة جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله بلا واسطة، وكرر "وراء" إشارة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية والسماع بلا واسطة، فكأنه قال: أنا من وراء موسى، الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد
__________
آدم, لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك, إنما كنت خليلًا من وراء وراء" بفتح الهمزة فيهما بلا تنوين على المشهور, لتضمنهما معنى الحرف، فالتقدير من وراء، من وراء, فركِّبا تركيب خمسة عشر, وأكدا كشذر مذر وبين بين, قاله القرطبي. "يجوز البناء على الضم" فيهما "للقطع عن الإضافة, نحو" قوله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ، واختاره أبو البقاء" قائلًا: لأنَّ تقديره من وراء, أو من وراء شيء آخر, "قال الأخفش: يقال: لقيته من وراء بالضم" فيهما, "وقال" الشاعر:
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن ... لقاؤك إلّا من وراء وراء
"ويجوز فيهما النصب والتنوين جوازًا جيدًا، قاله أبو عبد الله الأبي" في شرح مسلم، قال القرطبي في المفهم: ووجدت في أصل شيخنا أيوب الفهري، وكان في اعتنائه بهذا الكتاب -أي: مسلم- الغاية من وراء وراء بتكرير من وفتح الهمزتين, وليس بمعنى بنائه في الأول لظهور من المضمرة في الأول، وإنما وجهه أن يكون وراء قطعت عن الإضافة إلى معين، فصارت كأنَّها اسم علم وهي مؤنثة، فاجتمع فيها التعريف والتأنيث فمنعت الصرف، قال: ووجدت بخط معتبر، قال الفراء: تقول العرب: فلان يكلمني من وراء وراء -بالنصب على الظرف, "ومعناه" كما قال النووي: "لم أكن في التقريب والإدلال بمنزلة الحبيب، وقيل: مراده" كما نقله النووي عن صاحب التحرير، قال: هذه كلمة تقال على وجه التواضع، وكأنه أشار إلى "أن الفضل الذي أعطيته كان بسفارة" بكسر السين، أي: بواسطة "جبريل، ولكن ائتوا موسى الذي كلَّمه الله بلا واسطة" إشارةً إلى قوله في الحديث: "اعمدوا إلى موسى الذي كلمه الله تكليمًا" , "وكرَّر وراء إشارة إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه حصلت له الرؤية لله سبحانه والسماع " لكلامه تعالى "بلا واسطة", فكأنه قال: أنا من وراء موسى الذي هو من وراء محمد، وسبق مزيد لذلك في الخصائص"(12/333)
لذلك في الخصائص.
وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق أنها إنما كانت من معارض الكلام، لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة، كان أعظم خوفًا.
وأما قوله في عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا" فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي: "إني اتخذت إلهًَا من دون الله".
وفي حديث النضر بن أنس عن أبيه قال: حدثني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لقائم
__________
في أوائلها, "وأمَّا ما ذكره من الكذبات الثلاث، فقال البيضاوي: الحق إنها إنما كانت من معاريض الكلام" التي قال -صلى الله عليه وسلم: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب".
رواه البخاري في الأدب المفرد, وابن عدي وابن السني والبيهقي, جمع معراض كمفتاح, من التعريض وهو خلاف التصريح، وعرَّفه المتقدمون بأنه ذكر لفظ محتمل يفهم منه السامع خلاف ما يريده المتكلم, "لكن لما كانت صورتها صورة الكذب أشفق": خاف منها استقصارًا لنفسه عن الشفاعة؛ لأن من كان أعرف بالله وأقرب إليه منزلة كان أعظم خوفًا" وقال في المفهم: الكلمات الثلاث ليست بكذب حقيقة, ولا في شيء منها ما يوجب عتبًا، لكن هول المقام حمله على الخوف منها، فأمَّا الأولى، فقال المفسرون: كانت في حال الصغر والطفولية، فلما اتضح له الأمر قال: إني وجهت وجهي. الآية, وهذا لا يليق، فالأنبياء معصومون، ولم يحفظ عن نبي أنه تلبَّث بخبائث قومه، ولو كان لغيرهم به أممهم، وقيل: هو استفهام إنكار, والهمزة محذوفة، وقيل: قاله على سبيل الاحتجاج على قومه, والتنبيه لهم على أنَّ ما يتغير لا يصلح للربوبية، وأما الثانية: فإنما قالها توطئة منه للاستدلال على أنها ليست آلة, وقطعًا لدعواهم أنها تضر وتنفع، ولذا عقبه بقوله: فاسألوهم, وأجابوه بقولهم: لقد علمت.... الآية. فقال حينئذ: أتعبدون.............. الآية.
وأما الثالثة: فإنما قالها تعريضًا بأنه سيسقم في المستقبل, واسم الفاعل يكون بمعنى المستقبل، ويحتمل أن يريد أني سقيم الحجة في الخروج معكم، وأما قوله: إنها أختي، فإنما عني أنها أخته في الإسلام، كما نص عليه بقوله: أنت أختي في الإسلام.
وأما قوله عن عيسى: "إنه لم يذكر ذنبًا"، فوقع في حديث ابن عباس عند أحمد والنسائي: "إني اتُّخِذت" بالبناء للمفعول "إلهًا من دون الله" , وفي حديث أنس نحوه، وزاد: "وأن يغفر لي اليوم حسبي"، فسماه ذنبًا وليس بذنب؛ إذ لا صنع له فيه البتة.
"وفي حديث النضر" بضاد معجمة "ابن أنس" بن مالك الأنصاري البصري، ثقة، من رجال(12/334)
انتظر أمتي عند الصراط، إذ جاء عيسى فقال: يا محمد، هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه".
فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وأنَّ هذا الذي وصف من كلام أهل الموقف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا -صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألونه في ذلك.
وفي حديث سلمان عند ابن أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله، أنت فتح الله بك وختم بك، وغفر لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، وجئت في هذا اليوم، وترى ما نحن فيه, فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم، فيجوس الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة".
فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله -صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة.
أجيب: بأنَّ أرض الموقف لما كانت مقام عرض وحساب كانت مقام مخافة وإشفاق, ومقام الشافع يناسب أن يكون في مكان إكرام.
__________
الجميع، مات سنة بضع ومائة "عن أبيه قال: حدَّثني نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لقائم أنتظر أمتي عند الصراط؛ إذ جاء عيسى فقال: يا محمد, هذه الأنبياء قد جاءتك يسألونك لتدعو الله" اللام لام السؤال، وفي نسخ: لتدعو بالواو, فاللام للتعليل, "أن يفرق جمع الأمم إلى حيث شاء لعظم ما هم فيه" من الغم والكرب, "فأفادت هذه الرواية تعيين موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ" وهو عند الصراط, "وأن هذا الذي وصف من كلام أهل الموقوف كله يقع عند نصب الصراط بعد تساقط وقوع الكفار في النار، وأنَّ عيسى هو الذي يخاطب نبينا -صلى الله عليه وسلم، وأنَّ جميع الأنبياء يسألون في ذلك، وفي حديث سلمان" الفارسي عند ان أبي شيبة: "يأتون محمدًا فيقولون: يا نبي الله, أنت فتح الله بك" كل خير, "وختم" بك النبيين "وغفر لك ما تقدَّم وما تأخر, وجئت في هذا اليوم وترى ما نحن فيه" من شدة الهول "فقم فاشفع لنا إلى ربك، فيقول: أنا صاحبكم" المعين للشفاعة.
وفي رواية: "أنا لها أنا لها" , "فيجوس" بالجيم، وقيل: بالحاء, وهما بمعنى, أي: يتخلل "الناس حتى ينتهي إلى باب الجنة" , فإن قلت: ما الحكمة في انتقاله -صلى الله عليه وسلم- من مكانه إلى الجنة, أجيب بأنَّ أرض الموقف لما كانت مكان عرض وحساب, كانت مكان مخافة وإشفاق" عطف مساوٍ, ومقام الشافع يناسب أن يكون في مقام إكرام" لعلو مقامه.(12/335)
وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى رفعه: "فأسجد له سجدة يرضى بها عني، ثم أمتدحه بمدحة يرضى بها عني".
وفي حديث أبي بكر الصديق: "فينطلق إليه جبريل، فيخر ساجدًا قدر جمعة، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك".
وفي رواية النضر بن أنس: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد فقل: ارفع رأسك".
وعلى هذا, فالمعنى: يقول لي على لسان جبريل، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه, ويكون في كل مكان ما يليق به، فإنه ورد في رواية: "فأقوم بين يديه فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها، ثم أخر ساجدًا" , وفي رواية البخاري: "فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني".
وفي رواية أبي هريرة، عند الشيخين: "فآتى تحت العرش فأقع ساجدًا لربي
__________
وفي حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي يعلى" قال: "يعرفني الله نفسه يوم القيامة, فأسجد له سجدة يرضى" يزيد رضاه "بها عني، ثم أمتدحه" أثني عليه "بمدحة" يلهمنيها, "يرضى بها عني" , ثم يؤذن لي بالكلام.... الحديث.
"وفي حديث أبي بكر الصديق" عند أبي عوانة: فيأتي جبريل ربه فيقول: ائذن له وبشره بالجنة, "فينطلق إليه جبريل فيخر ساجدًا" إذ رأى ربه كما في حديث أنس: "قدر جمعة" من جمع الدنيا, "فيقال: يا محمد, ارفع رأسك" , وفي رواية النضر بن أنس عن أبيه: "فأوحى الله إلى جبريل أن اذهب إلى محمد، فقل له: ارفع رأسك" على هذا, فالمعنى: يقول على لسان جبريل، والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- يلهم التحميد قبل سجوده وبعده وفيه" أي: في سجوده, ويكون في كل مكان من الثلاثة ما يليق به، فإنه ورد في رواية" للشيخين عن أنس: "فأوتي فأقول: أنا لها، فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي" , "فأقوم بين يديه" , أي: الله -سبحانه وتعالى, "فيلهمني بمحامد لا أقدر عليها" أي: الآن في الدنيا, لكن لفظ مسلم: "لا أقدر عليها إلّا أن يلهمنيها الله"، ولفظ البخاري: "فيلهمني الله محامد أحمده بها لا تحضرني الآن" , "ثم آخر ساجدًا" فصرَّح بأنه يحمده قبل سجوده.
وفي رواية البخاري من حديث أنس أيضًا: "فأرفع رأسي فأحمد ربي" بتحميد يعلمني "وفي رواية: "يعلمنيه" ولأحمد بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي, ولا يحمده أحد بعدي، فصرَّح في هذه الرواية بأنه يحمد بعد الرفع من السجود.
وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين الماضية قريبًا: "فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا(12/336)
ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد، ارفع رأسك". الحديث.
وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس: "ثم أشفع، فيحد لي حدًّا، ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة".
قال الطيبي: أي يبين لي كل طور من أطوار الشفاعة حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفعتك فيمن أخلَّ بالجماعة، ثم فيمن أخلَّ بالصلاة، ثم فيمن شرب الخمر، ثم فيمن زنا، وهكذا على هذا الأسلوب، والذي يدل عليه سياق الأخبار أنَّ المراد به تفصيل مراتب المخرَجَين في الأعمال الصالحة، كما وقع عند أحمد عن يحيى القطَّان عن سعيد بن أبي عروبة.
__________
لربي، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي" ولا يحمده به أحد بعدي كما رأيت؛ لأنه لا يفتحه عليه فهو من خصائصه, "ثم يقال: يا محمد, إرفع رأسك...." الحديث. فصرَّح بأنه يحمده في السجود، وطريق الجمع ما رأيت أنه يلهمه في المواضع الثلاث.
"وفي رواية البخاري من حديث قتادة عن أنس عقب قوله: "فأحمد ربي بتحميد يعلمني, ثم أشفع فيحِدّ" بفتح التحتية وضم الحاء المهملة، أي: يبين "لي حدًّا, ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة" , "ثم أعود فأقع ساجدًا مثله في الثالثة أو الرابعة حتى أقول: يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن"، هذا بقية الحديث في البخاري.
وأخرجه مسلم أيضًا، وفي رواية لهما من وجه آخر عن أنس: بالجزم بتكرار الشفاعة أربع مرات.
"قال الطيبي:" في معنى يحِدّ "أي: يبين لي كل طور" أي: في كل طور "من أطوار الشفاعة" الأربع, "حدًّا أقف عنده فلا أتعداه، مثل أن يقول: شفَّعتك فيمن أخلّ بالجماعة" في الحد الأول, "ثم فيمن أخلَّ بالصلاة" في الثاني, "ثم فيمن شرب الخمر" في الثالث, "ثم فيمن زنى" في الرابع, "وهكذا على هذا الأسلوب" يعني: أربعة أنواع من المعاصي يعين له في كل طور واحد منها لا يتعدّاه إلى غيره، وهذا أيضًا لقوله: مثل أن يقول, وإشارةً إلى أنه لا يتعين, وإنما هو تقريب للفهم.
ولكن تعقَّبه الحافظ، بأنَّ "الذين يدل عليه سياق الأخبار، أنَّ المراد به تفصيل" بصاد مهملة، أي: تبيين "مراتب المخرجين في الأعمال الصالحة, كما وقع عند أحمد عن" شيخه "يحيى" بن سعيد "القطان، عن سعيد بن أبي عروبة" مهران، عن قتادة في هذا الحديث بعينه.(12/337)
وفي رواية ثابت عند أحمد فأقول: "أي رب، أمتي أمتي، فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة"، وفي حديث سلمان: "فيشفع في كل مَنْ كان في قلبه مثقال حبة من حنطة، ثم شعيرة، ثم حبه خردل، فذلك المقام المحمود".
وفي رواية أبي سعيد عند مسلم: "ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير". قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان، وأمَّا قوله في رواية أنس عند البخاري: "فأخرجهم من النار" فقال الداودي: كأنَّ راوي هذا الحديث ركب شيئًا على غير أصله, وذلك أنه في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط وسقوط من يسقط في تلك الحالة في النار. ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج. وهو إشكال قوي.
وقد أجاب عنه النووي، ومن قبله القاضي عياض: بأنه قد وقع في حديث
__________
"وفي رواية ثابت" عن أنس "عند أحمد: "فأقول: أي رب, أمتي أمتي" مرتين, "فيقول: أخرج مَنْ كان في قلبه مثقال شعيرة" من عمل صالح.
"وفي حديث سلمان" الفارسي: "فيشفع فيمَنْ كان في قلبه حبة" أي: مثال حبة "من حنطة, ثم شعيرة, ثم" حبة من "خردل, فذلك المقام المحمود".
"وفي رواية أبي سعيد" الخدري "عند مسلم" في حديث طويل: "ارجعوا, فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير" فأدخلوه الجنة برحمتي, والأمر للمؤمنين الذين خلصوا من الصراط ناجين, وطلبوا الشفاعة في العصاة, كما في سياق الحديث في مسلم.
"قال القاضي عياض: قيل معنى الخير: اليقين بالإيمان, وأما قوله في رواية أنس عند البخاري" ومسلم: "فأخرجهم من النار" وأدخلهم الجنة.
"فقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "كأنَّ راوي هذا الحديث ركَّب شيئًا على غير أصله" أي: أدخل حديثًا في حديث, "وذلك أن في أول الحديث ذكر الشفاعة في الإراحة من كرب الموقف، وفي آخره ذكر الشفاعة في الإخراج من النار، يعني: وذلك إنما يكون بعد التحول من الموقف والمرور على الصراط, وسقوط من يسقط في تلك الحالة" وهي المرور على الصراط في النار، ثم تقع بعد ذلك الشفاعة في الإخراج" كما ثبت ذلك كله في أحاديث أخر, "وهو إشكال قويّ، وقد أجاب عنه النووي ومن قبله القاضي عياض" كلاهما في شرح مسلم، "بأنه قد وقع في حديث حذيفة وأبي هريرة" معًا عند(12/338)
حذيفة وأبي هريرة: "فيأتون محمدًا فيقوم, فيؤذن له في الشفاعة، وترسل معه الأمانة والرحم, فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا"، أي: يقفان في ناحيتي الصراط. قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام، لأنَّ الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي لإراحة الناس من كرب الموقف، ثم تجيء الشفاعة في الإخراج. انتهى.
والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنها لعظم شأنهما، ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقها، يوقفان للأمين والخائن، وللواصل والقاطع، فيحاجَّان عن المحق، ويشهدان على المبطل.
وقد وقع في حديث أبي هريرة بعد ذكر الجمع في الموقف, الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط والمرور عليه، فكأنَّ الأمر باتباع لكل أمة ما كانت تعبد هو أول
__________
مسلم عقب ما قدمته، فيأتون موسى فيقول: "لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه، فيقول عيسى: لست بصاحب ذلك" , "فيأتون محمدًا" الحبيب, صاحب القرب الأعظم, الخليل لا من وراء وراء, بل مع الكشف والعيان, "فيقوم فيؤذن له في الشفاعة, وترسل معه الأمانة والرحم" يصوَّران بصفة شخصين على الصفة التي يريدها الله تعالى, "فيقومان جنبتي الصراط" بفتح الجيم والنون والموحدة ويجوز سكون النون، وأنكر ابن جني فتحها, "يمينًا وشمالًا".
"قال القاضي عياض: فبهذا ينفصل الكلام" قال الأبي: يعني أنَّ الراوي أسقط ذلك من هذا الطريق؛ "لأن الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها هي الإراحة للناس من كرب الموقف، ثم تجيء" بعدها الشفاعة في الإخراج" من النار "انتهى".
قال الأبي: ويحتمل أن يكون شفع في الأمرين، واكتفى في حديث أنس بشفاعة الإخراج؛ لأنها تستلزم الأخرى؛ لأن الإخراج فرع وقوع الحساب فيه. انتهى.
ويؤيده رواية البزار، فأقول: "يا رب عجّل على الخلق الحساب" , "والمعنى في قيام الأمانة والرحم أنهما لعظم شأنهما ومخافة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يوقفان للأمين والخائن, وللواصل والقاطع, فيحاجان عن المحقِّ, ويشهدان على المبطل".
وفي شرح مسلم للمصنف: ليطالبا من يريد الجواز على الصراط، فمن وفَّى بحقهما عاوناه على الجواز وإلّا تركاه، ثم عاد المصنف لذكر بقية كلام عياض، وهو "وقد وقع في حديث أبي هريرة", وفي الصحيحين مطولًا بعد ذكر الجمع في الموقف الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المنافقين من المؤمنين، ثم حلول الشفاعة بعد وضع الصراط(12/339)
فصل القضاء، والإراحة من كرب الموقف، وبهذا تجتمع متون الأحاديث وتترتَّب معانيها. انتهى.
فظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- أوَّل من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك, وأن العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن, ثم ينادى لتتبع كل أمة ما كان تعبد، فيسقط الكفار في النار, ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود عند كشف الساق، ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه، فيطفأ نور المنافقين، فيسقطون في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط ويوقف بعض من نجا عند القنطرة
__________
والمرور عليه، فكأنَّ" بالتشديد اختصار لقول عياض، فيحتمل أنَّ "الأمر باتباع كل أمة ما كانت تعبد هو أول فصل القضاء, والإراحة من كرب الموقف", والشفاعة الأخرى: هي الشفاعة في المؤمنين على الصراط، وهي له -صلى الله عليه وسلم- لا لغيره، ثم بعدها شفاعة الإخراج, هذا حذفه من كلام عياض, ويتلوه: وبهذا تجتمع متون الأحاديث, وتترتَّب معانيها. انتهى" كلام عياض.
قال الحافظ: فكأنَّ بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، وأمَّا قول الطيبي جوابًا عن ذلك: لعلَّ المؤمنين صاروا فرقتين، فرقة سيق بهم إلى النار من غير توقف، وفرقة حبسوا في المحشر واستشفعوا به -صلى الله عليه وسلم، فخلصهم مما هم فيه وأدخلهم الجنة، ثم شرع في شفاعة الداخلين في النار زمرًا بعد زمر, كما دلَّ عليه قوله: "فيُحِدّ لي حدًّا.... " إلخ.
فاختصر الكلام، أو يراد بالنار لحبس والكربة, وما كانوا فيه من الشدة ودنوّ الشمس إلى رءوسهم, وحرها وسفعها, حتى ألجمهم العرق, وبالخروج الخلاص منها, فهو احتمال بعيد إلّا أن يقال: إنه يقع إخراجان، وقع ذكر أحدهما في حديث الباب على اختلاف طرقه, والمراد به: الخلاص من كرب الموقف, والثاني: بعد تمام الخلاص من الموقف ونصب الصراط والإذن في المرور عليه، ويقع الإخراج الثاني لمن يسقط في النار حال المرور, فيتجه, "فظهر أنه -صلى الله عليه وسلم- أول من يشفع ليُقْضَى بين الخلق، وأنَّ الشفاعة فيمن يخرج من النار ممن سقط تقع بعد ذلك" أي: بعد الشفاعة في فصل القضاء, "وأنَّ العرض والميزان وتطاير الصحف يقع في هذا الموطن، ثم ينادَى لتتبع كل أمة ما كانت تعبد, فيسقط الكفار في النار، ثم يميز بين المؤمنين والمنافقين بالامتحان بالسجود" فلا يستطيعه المنافقون, "عند كشف الساق", هو عبارة عن شدة الأمر يوم القيامة للحساب والجزاء، يقال: كشفت الحرب عن ساق إذا اشتدَّ الأمر فيها، وقيل: غير ذلك, "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليها, فيطفأ نور المنافقين فيسقطون:" يقعون "في النار أيضًا، ويمرّ المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط(12/340)
للمقاصصة بينهم, ثم يدخلون الجنة.
وقد قال النووي ومن قبله القاضي عياض: الشفاعات خمس:
الأولى: في الإراحة من هَوْل الموقف.
الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب.
الثالثة في إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذَّبوا.
الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة.
الخامسة: في رفع الدرجات. انتهى.
فأما الأولى: وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حديث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري، ولفظه: قال صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، حتى يريحنا من مكاننا، فيأتون آدم
__________
الأمر فيها، وقيل غير ذلك, "ثم يؤذن في نصب الصراط والمرور عليه, فيطفأ نور المنافقين فيسقطون" يقعون "في النار أيضًا، ويمر المؤمنون عليه إلى الجنة، فمن العصاة من يسقط, ويوقف بعض من نجا عند القنطرة" التي بعد الجواز على الصراط بين الجنة والنار "للمقاصصة بينهم، ثم يدخلون الجنة" برحمة الله.
"وقد قال النووي ومن قلبه القاضي عياض: الشفاعات خمس: الأولى: في الإراحة من هول الموقف" كربه وشدته, "الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب, الثالثة: في" منع "إدخال قوم حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا" أي: أن لا يدخلوا النار كما عبَّر به عياض والنووي وتبعهما في الأنموذج, "الرابعة: في إخراج من أدخل النار من العصاة" قبل استيفاء ما يستحقه من المكث فيها, "الخامسة: في رفع الدرجات" في الجنة. "انتهى".
قال النووي: والختص به -صلى الله عليه وسلم- الأولى والثانية, وتجوز الثالثة والخامسة، وردَّه بعضهم بما صرَّحوا به أنَّ الخصائص لا تثبت بالاحتمال, "فأمَّا الأولى وهي التي لإراحة الناس من هول الموقف، فيدل عليها حيث أبي هريرة وغيره المتقدم، وحديث أنس عند البخاري" ومسلم, "ولفظه: قال -صلى الله عليه وسلم: "يجمع الله الناس يوم القيامة فيقولون" من الضجر والجزع مما هم فيه, "لو استشفعنا إلى ربنا".
وفي رواية للشيخين: "على ربنا" بعلى بدل إلى، ووجهت بأنه ضمّن على معنى الاستعانة؛ لأن الاستشفاع طلب الشفاعة, وهي انضمام الأدنى إلى الأعلى؛ ليستعين به على ما يرومه, "حتى يريحنا" بحاء مهملة من الإراحة، أي: يخلصنا من مكاننا هذا وأهواله، ولو هي المتضمنة للتمني والطلب, فلا تحتاج إلى جواب, أو جوابها محذوف, نحو: لكان خيرًا مما نحن فيه, "فيأتون(12/341)
فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ, وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ, وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فسجدوا لك, فاشفع لنا عند ربك, فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته، ائتوا نوحًا"، وذكر إتيانهم الأنبياء واحدًا واحدًا، إلى أن قال: "فيأتوني، فأستأذن على ربي، فإذا رأيته وقعت ساجدًا, فيدعني في السجود ما شاء الله, ثم يقال لي: ارفع رأسك، سل تعطه, وقل يسمع, واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمني" الحديث.
وأما الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليهما ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدَّمته, "فأرفع رأسي فأقول: يا رب
__________
آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ" بقدرته, وهو تنبيه على أنَّ خلقه ليس كخلق بنيه من تقلبهم في الأرحام وغير ذلك من الوسائط، وإلّا فكل شيء بقدرته تعالى, "ونفخ فيك من روحه" إضافة خلق وتشريف، زاد في رواية: "وأسكنك جنته, وعلمك أسماء كل شيء" ووضع شيء موضع أشياء، أي: المسميات؛ كقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] أي: أسماء المسميات, "وأمر الملائكة فسجدوا لك" سجود خضوع لا سجود عبادة, "فاشفع لنا عند ربنا" حتى يريحنا من مكاننا هذا "فيقول: "لست هناكم" بضم الهاء وخفة النون، أي: لست في المكانة والمنزلة التي تحسبونني, يريد به مقام الشفاعة, قاله تواضعًا وإكبارًا لما سألوه, أو إشارة إلى أنَّ هذا المقام ليس لي بل لغيري، ويؤيده قوله في حديث حذيفة: "لست بصاحب ذاك, ويذكر خطيئته" التي أصابها اعتذارًا عن التقاعد عن الشفاعة, "ائتوا نوحًا".
"وذكر إتيانهم الأنبياء" الأربعة "واحدًا واحدًا" بنحو ما سبق في حديث أبي هريرة, "إلى أن قال: "فيأتوني" بإشارة عيسى.
زاد في رواية الشيخين: "فأقول: أنا لها أنا لها, فأستأذن على ربي" , زاد في رواية للبخاري وغيره: في داره, فيؤذن, أي: في دخولها, وهي الجنة, أضيفت إلى الله تعالى إضافة تشريف, "فإذا رأيته" تعالى "وقعت" حال كوني "ساجدًا, فيدعني في السجود ما شاء الله" زاد مسلم: أن يدعني، وللطبراني في حديث عبادة: "فإذا رأيته خررت له ساجدًا شكرًا له" , "ثم يقال لي: ارفع رأسك" على لسان جبريل كما مَرَّ, "سل تعطه" بهاء السكت، ويحتمل أنها ضمير، أي: سل ما شئت تعط سؤالك, "وقل يسمع" بتحتية, أي: قولك, "واشفع تشفع" تقبل شفاعتك, "فأرفع رأسي, فأحمد ربي بتحميد يعلمني".
وفي رواية مسلم: يعلمنيه..... "الحديث" ذكر في بقيته: "ثم أشفع, فيُحِدُّ لي" إلى آخر ما مَرَّ, "وأمَّا الثانية: وهي إدخال قوم الجنة بغير حساب، فيدل عليها ما في آخر حديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم الذي قدمته" وهو قوله: "فأرفع رأسي فأقول: يا رب أمتي, يا رب(12/342)
أمتي، يا رب أمتي، فيقال: يا محمد، أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" قال أبو حامد: والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب، لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا، وإنما هي براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان ابن فلان، قد غفر له وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسَرَّ من ذلك المقام.
وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا أن لا يعذبوا، فيدل على ذلك قوله في حديث حذيفة عند مسلم: "ونبيكم على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم". وأما الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة، فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري عن عمران بن حصين مرفوعًا: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم, فيدخلون الجنة ويسمَّون الجهنميين".
__________
أمتي، فيقال: يا محمد أدخِلْ" بكسر الخاء "من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة" وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.
"قال أبو حامد" الغزالي: "والسبعون ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب لا يرفع لهم ميزان ولا يأخذون صحفًا" أي: أوراقًا مكتوبًا فيها أعمالهم, "وإنما هي" أي: صورة الصحف "براءة مكتوبة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذه براءة فلان بن فلان, قد غفر له, وسعد سعادة لا شقاء بعدها أبدًا، فما مَرَّ عليه شيء أسرَّ من ذلك المقام" ويحتاج إلى ثبوت ذلك, "وأما الثالثة: وهي إدخال قوم حوسبوا" واستحقوا العذاب "أن لا يعذبوا" تقدَّم أن لفظ عياض وتابعه: أن لا يدخلون النار, "فيدل على ذلك قوله" صلى الله عليه وسلم- في حديث حذيفة" وأبي هريرة، جميعًا "عند مسلم: "ونبيكم" قائم "على الصراط يقول: رب سلِّم سلِّم" مرتين كما في مسلم، كلفظ قائم، فإسقاطه, وذكر سلّم مرة واحدة مع العزو لمسلم لا يليق، ولعل وجه دلالته أنَّ قوله ذلك على الصراط يستدعي طلب منع تعذيبهم بعد استحقاقهم للعذاب، أي: رب سلمهم من الوقوع في النار.
"وأمَّا الرابعة: وهي في إخراج من أدخل النار من العصاة, فدلائلها كثيرة، وقد روى البخاري" وأبو داود والترمذي وابن ماجه "عن عمران بن حصين مرفوعًا" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج قوم من النار بشفاعة محمد -صلى الله عليه وسلم, فيدخلون الجنة ويسمّون" بفتح الميم المشددة "الجهنميين" , وللبخاري عن أنس مرفوعًا: "يخرج من النار قوم بعدما احترقوا, فيدخلون الجنة فيسميهم أهل الجنة الجهنميين"، زاد في حديث أبي سعيد عند الطبراني: "من أجل سواد في(12/343)
وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي "في الروضة": إنها من خصائصه -صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر لذلك مستندًا, فالله أعلم.
وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة، وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب, لما ثبت في الصحيح أنَّ العباس قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك، فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم، وجدته في غمرات من النار, فأخرجته إلى ضحضاح" , وفي الصحيح أيضًا من طريق أبي سعيد, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة, فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه".
__________
وجوههم، فيقولون: يا ربنا أذهب عنَّا هذا الاسم، فيأمرهم فيغتسلون من نهر في الجنة، فيذهب ذلك الاسم عنهم.
"وأمَّا الخامسة: وهي في رفع الدرجات، فقال النووي في الروضة: إنها من خصائصه -صلى الله عليه وسلم, ولم يذكر لذلك مستندًا" أي: دليلًا, فالله أعلم" بذلك.
"وقد ذكر القاضي عياض شفاعة سادسة, وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب" عنه؛ "لما ثبت في الصحيح" للبخاري ومسلم، "أنَّ العباس قال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم: إن أبا طالب كان يحوطك -بضم الحاء المهملة من الحياطة وهي المراعاة- وفي رواية: يحفظك, "وينصرك" يعينك على ما تريد فعله, "ويغضب لك" أي: لأجلك, إشارةً إلى ما كان يرد به عنه من القول والفعل, "فهل نفعه ذلك؟ قال: "نعم, وجدته في غمرات من النار، فأخرجته إلى ضحضاح" بضادين معجمتين مفتوحتين وحاءين مهملتين أولاهما ساكنة, وأصله الماء الذي يبلغ الكعب، ويقال أيضًا لما قرب من الماء وهو ضد الغمر، والمعنى: إنه خفف عنه العذاب كما في الفح وغيره، وصريح هذا الحديث: إنه خفف عنه عذاب القبر في الدنيا, ويوم القيامة يكون في ضحضاح أيضًا كما في الحديث الآخر، وهو "وفي الصحيح" للبخاري ومسلم "أيضًا من طريق أبي سعيد" الخدري, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال" وذكر عنده عمه أبو طالب "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي" بفتح أوله وسكون المعجمة وكسر اللام "منه دماغه".
وفي رواية أم دماغه، أي: رأسه, من تسمية الشيء بما يقاربه ويجاروه، وصرح العلماء بأن الرجاء من الله ومن نبيه للوقوع، بل قال في النور عن بعض شيوخه، إذا وردت عن الله ورسله وأوليائه معناها التحقيق، ولا يشكل هذا بقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} ؛ لأنه خص(12/344)
وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة، لحديث سعد، رفعه: "لا يثبت أحد على لأوائها إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة".
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن متعلقها لا يخرج عن واحد من الخمس الأول، وبأنه لو عدَّ مثل ذلك لعد حديث عبد الملك بن عباد: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول من أشفع له أهل المدينة, ثم أهل مكة, ثم أهل الطائف". رواه البزار، وأخرى: لمن زار قبره الشريف، وأخرى: لمن أجاب المؤذن ثم صلى عليه -صلى الله عليه وسلم،
__________
من عموم الآية لصحة الحديث.
قاله البيهقي: ولذا عدّ في الخصائص النبوية، أو لأنَّ المنفعة الإخراج من النار، وفي الحديث بالتخفيف قاله القرطبي، وقيل غير ذلك كما مَرَّ في وفاة أبي طالب مع شرح الحديثين مبسوطًا.
"وزاد بعضهم سابعة: وهي الشفاعة لأهل المدينة لحديث سعد" بسكون العين ابن أبي وقاص، وحديث أبي سعيد سعد بن مالك الخدري "رفعه: "لا يثبت" المتقدم- لا يصبر "أحد على لأوائها" شدتها وجوعها, "إلا كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة" تقدَّم مشروحًا في فضل المدينة.
"وتعقَّبه الحافظ ابن حجر بأن متعلقها بفتح اللام المشددة، أي: الشفاعة "لا يخرج عن واحد من الخمس الأُوَل" فليست بزائدة, وبأنه لو عُدَّ مثل ذلك لعُدَّ حديث عبد الملك بن عباد" بن جعفر المخزومي.
ذكره ابن شاهين وغيره في الصحابة، وقال في البخاري في تاريخه: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم, وذكره ابن حبان في التابعين، وقال: من زعم أن له صحبة فقد وهم، قال الحافظ: فماذا يصنع بقوله: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أول م أشفع له أهل المدينة, ثم أهل مكة, ثم أهل الطائف" رواه البزار" في مسنده, وابن شاهين, وأخرجه الزبير بن بكار من طريق أخرى عن محمد بن عباد بن جعفر, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا، فإن كان عبد الملك أخا محمد حكمنا بأن قوله: سمعت وهم من بعض رواته؛ لأن والدهما عبادًا لا صحبة له. انتهى.
وكان هذا من إرخاء العنان لابن حبان، وإلّا فمعلوم تقديم رواية الوصل على الإرسال, وتقديم من أثبت الصحبة، لا سيما البخاري على من نفاها بلا دليل؛ إذ المثبت تمسك بقوله: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم, وأخرى: لمن زار قبره الشريف" للحديث السابق: "من زار قبري وجبت له شفاعتي" , "وأخرى: لمن أجاب المؤذّن ثم صلى عليه -صلى الله عليه وسلم, ثم سأل له الوسيلة، قال: "فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّت عليه الشفاعة" كما في مسلم وغيره، وتقدَّم في مقصد المحبة, وأخرى في(12/345)
وأخرى في التجاوز عن تقصير الصلحاء. لكن قال الحافظ ابن حجر: إنها مندرجة في الخامسة.
وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، [ويدل له ما رواه.....] .
وزاد في فتح الباري أخرى: فيمَنْ استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة، لما أخرجه الطبراني، عن ابن عباس قال: السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد يرحمه الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون بشفاعته -صلى الله عليه وسلم.
وأرجح الأقوال في أصحاب الأعراف أنَّهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم.
__________
التجاوز عن تقصير الصلحاء، لكن قال الحافظ ابن حجر" العسقلاني: "إنها مندرجة" أي: داخلة "في الخامسة" التي هي رفع الدرجات, فليست بزائدة, "وزاد القرطبي: إنه أوَّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس, ويدل عليه ما رواه".
وزاد في فتح الباري أخرى: فيمن استوت حسناته وسيئاته أن يدخل الجنة, لما رواه الطبراني عن ابن عباس" عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" "قال" ابن عباس عقبه، موقوفًا عليه، "السابق بالخيرات", وهو الذي يضمّ إلى العمل بالكتاب التعليم والإرشاد إلى العمل به "يدخل الجنة بغير حساب, والمقتصد" الذي يعمل بالكتاب في غالب الأوقات يرحمه الله, والظالم لنفسه" بالتقصير بالعمل به, "وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعته -صلى الله عليه وسلم, وأرجح الأقوال" الاثنى عشر "في أصحاب الأعراف" سور بين الجنة والنار، وقيل: جبل أحد يوضع هناك كما في التذكرة "أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم".
وأخرج ابن مردويه وأبو الشيخ عن جابر: سئل -صلى الله عليه وسلم- عَمَّن استوت حسناته وسيئاته فقال: "أولئك أصحاب الأعراف, لم يدخلوها وهم يطمعون"، وأخرج البيهقي عن حذيفة رفعه: "يجمع الناس يوم القيامة، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة, ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قاوا: ننتظر أمرك, فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها, وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي"، فهذا نص المصطفى، ولذا رجَّحه القرطبي وقال: القول الثاني: قوم صالحون فقهاء علماء، والثالث: الشهداء, والرابع، فضلاء المؤمنين، والشهداء فرغوا من شغل أنفسهم وتفرَّغوا لمطالعة أحوال الناس، والخامس: قوم خرجوا للجهاد عصاة بغير إذن آبائهم، فتعادل عقوقهم واستشهادهم، وردَّ به حديث السادس:(12/346)
وشفاعة أخرى وهي شفاعته فيمن قال: "لا إله إلا الله" ولم يعمل خيرًا قط، لرواية الحسن عن أنس: "فأقول: يا رب, ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك، ولكن وعزَّتي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ من النار من قال: لا إله
__________
عدول يوم القيامة الذين يشهدون على الناس وهم من كل أمة، السابع: فئة من الأنبياء، الثامن: قوم لهم صغائر لهم تكفَّر عنهم بالآلام, والمصائب في الدنيا, ولا كبائر لهم، فوقفوا لينالهم بالحبس غم يقابل صغائرهم، التاسع: أصحاب الذنوب العظام من أهل القبلة، العاشر: أولاد الزنا, الحادي عشر: ملائكة موكلون بهذا السور يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، الثاني عشر: هم العباس وحمزة وعلي وجعفر. انتهى كلام القرطبي.
قال السيوطي: القول الخامس والثامن يمكن اجتماعهما مع الأوّل، لأنَّ المدار في كل على تساوي الحسنات والسيئات، فتجتمع الأحاديث كلها ويقطع بترجيحه, "وشفاعة أخرى: وهي شفاعته -صلى الله عليه وسلم- فيمن قال: لا إله إلا الله" محمد رسول الله؛ لأنها علم عليهما شرعًا, "ولم يعمل خير قط لحديث الحسن" البصري "عن أنس" بن مالك في الصحيحين: "ثم أرجع إلى ربي في الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر ساجدًا، فيقال: ارفع رأسك, وقل يسمع لك، وسل تعطه, واشفع تشفع, فأقول: يا رب ائذن لي في الشفاعة فيمن قال: لا إله إلا الله".
قال الحميدي: يعني: من قالها من أمته، وقال أبو طالب عقيل بن أبي طالب: يحتمل ذلك, ويحتمل من قالها من كل أمة، ويؤيده طلبه الإذن في الشفاعة؛ لأنه أذن له في الشفاعة في أمته؛ لأنه إنما يقدم عليها بإذنه, قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 55] ، وحالات المشفوع فيه أربع: من عنده مثقال برة، ومن عنده مثقال ذرة، ومن عنده أدنى ذرة، والرابعة: من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله مرة واحدة صدقًا من قلبه، ثم غفل عن استصحابها. قال الحميدي: لأنه إن قالها مرتين، فالثانية خير زائد على الإيمان يرجع إلى أحد المقادير الأول, "قال: ليس ذلك لك" وإنما أفعله تعظيمًا لاسمي, وإجلالًا لتوحيدي، ولا يقال: أطلق تعالى في السؤال ووعده الإعطاء, ووعده تعالى صدق؛ لأنه إنما وعد ما يمكن إعطاؤه, وهذا غير ممكن؛ لأنه مما استأثر الله به، وإنما سأله المصطفى ظنًّا أن إعطاءه ممكن؛ لأنه وإن علمه في الدنيا فيجوز أن ينساه في الآخرة لجواز النسيان عليه، ولا سيما ذلك اليوم، وقد يتعيِّن هذا؛ لأنه لا يجوز أن نبيًّا يسأل ما يعلم أنه لا يمكن، قاله أبو عبد الله الأبي, "ولكن وعزَّتي" غلبتي على الجبارين وقهري لهم, "وكبريائي" عبارة عن كمال يقتضي ترفعًا على الغير، ولذا حرَّم في حق المخلوق ووجب لله؛ لأن له الكمال المطلق, وأصله من كِبَر السن أو كبر الجرم, "وعظمتي" بمعنى الكبرياء، لكنها لا تقضي تعظمًا على الغير كما يقتضيه الكبرياء؛ ولأنها تستعمل(12/347)
إلا الله".
فالوارد على الخمسة أربعة، وما عداها لا يرد، كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين وغير ذلك؛ لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى.
فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها -صلى الله عليه وسلم- لأمته؟ أمَّا الأولى: فلا تختص بهم, بل هي لإراحة الجمع كلهم، وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات, الظاهر أنه يشاركهم فيها بقية الأمم.
فالجواب: إنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمي التي للإراحة من هول الموقف, وهي وإن كانت غير مختصة بهذه الأمَّة, لكن هم الأصل فيها، وغيرهم تبع لهم، ولهذا كان اللفظ المنقول عنه -صلى الله عليه وسلم- فيها أنه قال: "يا رب أمتي أمتي"
__________
فيما لا يستعمل فيه التعاظم، فيقال: كبير السن ولا يقال عظيمه.
زاد في رواية مسلم: "وجبريائي" بكسر الجيم لموازاة كبريائي, كما قالوا: الغدايا والعشايا, والأصل: وجبروتي, وهو العظمة والسلطان والقهر, "لأخرجنَّ" بفضلي بغير شفاعة "من النار من قال: لا إله إلا الله" من كل أمة، والظاهر أنَّه لا يأتي هنا احتمال التخصيص بالمحمدية, "فالوارد" أي: الزائد لا أنه يعترض بها "على الخمسة أربعة" هي الشفاعة في أبي طالب, وزائر القبر الشريف, ومجيب المؤذن, ومن استوت حسناته وسيئاته, ولم يعد زيادة القرطبي أنه أوّل شافع في دخول أمته الجنة قبل الناس، كأنه لأنها ليست بذاتها شفاعة, وإنما خص بأوليتها, "وما عداها لا يرد كما لا ترد الشفاعة في التخفيف عن صاحبي القبرين" اللذين مَرَّ عليهما النبي -صلى الله عليه وسلم, فسمع صوتهما، فقال: "يعذبان وما يعذبان في كبير"، ثم قال: "بلى, كان أحدهما لا يستبرئ من بوله, وكان الآخر يمشي بالنميمة"، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، وقال: "لعله يخفف عنهما ما لم تيبسا" كما في الصحيحين, "وغير ذلك, لكونه من جملة أحوال الدنيا. انتهى" كلام الحافظ.
"فإن قلت: فأي شفاعة ادَّخرها -صلى الله عليه وسلم- لأمته، أمَّا الأولى: فلا تختص بهم، بل هي لإراحة الجمع" أي: جمع الخلق كلهم من هول الموقف, وهي المقام المحمود كما تقدَّم، وكذلك باقي الشفاعات, الظاهر أنه يشاركهم" أي: أمته, "فيها بقية الأمم, فالجواب أنه يحتمل أنَّ المراد الشفاعة العظمى التي للإراحة من هول الموقف، وهي وإن كانت غير مختصَّة بهذه الأمة، لكن هم الأصل فيها وغيرهم تبع لهم" فيها, "ولهذا كان اللفظ المنقول عنه -صلى الله عليه وسلم- فيها" في الشفاعة العامة "أنه قال: "يا رب أمتي أمتي" بناءً على إبقائه على ظاهره،(12/348)
فدعا لهم, فأجيب، وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك، ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية، وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب, هي المختصة بهذه الأمة، فإنَّ الحديث الوارد فيها: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب" الحديث. ولم ينقل ذلك في بقية الأمم، ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس. وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها أو في بعضها, لا ينافي أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أخَّرَ دعوته شفاعة لأمته، فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم, بل يشفع لهم أنبياؤهم, ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى، والله أعلم بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
__________
وأنه لا تقصير فيه من الراوي ولا وهم, "فدعا لهم فأجيب, وكان غيرهم تبعًا لهم في ذلك, وهذا يصلح جوابًا عن إشكال الداودي السابق.
ويحتمل أن تكون الشفاعة الثانية, وهي التي في إدخال قوم الجنة بغير حساب هي المختصة بهذه الأمة, فإن الحديث الصحيح الوارد فيها: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب...." الحديث في الصحيحين عن ابن عباس مطولًا، وللترمذي وحسَّنه عن أبي أمامة رفعه: "وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم وا عذاب, مع كل ألف سبعون ألفًا, وثلاث حثيات من حثيات ربي" , ولأحمد وأبي يعلى عن الصديق رفعه: "فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفًا" , وللطبراني والبيهقي عن عمرو بن حزم الأنصاري رفعه: "فأعطاني مع كل واحد من السبعين ألفًا سبعين ألفًا، قلت: رب وتبلغ أمتي هذا؟ قال: أكمل لك العدد من الأعراب"، ولأحمد والبزار والطبراني عن عبد الرحمن بن أبي بكر رفعه: "إن ربي أعطاني سبعين ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته, فأعطاني ألفًا من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب" فقال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته، فأعطاني مع كل رجل سبعين ألفًا"، قال عمر: فهلّا استزدته؟ قال: "قد استزدته, فأعطاني، هكذا وفرج بين يديه وبسط باعيه وحثا"، وللطبراني بسند جيد رفعه: "إن في أصلاب أصلاب أصلاب رجال من أصحابي رجالًا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب"، وظاهر أن لا تعارض؛ لأنه أخبر سبعين ألفًا قبل الاستزادة, فلمَّا حصلت أخبر بها, ولم ينقل ذلك" أي: مثله "في بقية الأمم" فيقوى احتمال أنها الشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
ويحتمل أن يكون المراد مطلق الشفاعة المشتركة بين الشفاعات الخمس, وكون غير هذه الأمة يشاركونهم فيها" كلها, "أو في بعضها لا ينافي أن يكون -عليه السلام- أخَّر دعوته شفاعةً لأمته, فلعله لا يشفع لغيرهم من الأمم, بل يشفع لهم أنبياؤهم.
ويحتمل أن تكون الشفاعة لغيرهم تبعًا كما تقدَّم مثله في الشفاعة العظمى والله أعلم(12/349)
وعن بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما في الأرض من شجرة ومدرة" رواه أحمد.
وعن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها، فنحن الآخرون الأوّلون" رواه ابن ماجه.
وفي حديث ابن عباس عند أبي داود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ: أين محمد وأمته, فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور" , قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن الآخرون الأوّلون, وأول من يحاسب، وتفرج لنا الأمم عن طريقنا وتقول الأمم: كادت هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" , وقد صحَّ أن أوَّل ما يقضى بين الناس في الدماء. رواه البخاري.
__________
بالشفاعة التي ادَّخرها لأمته.
وعن بريدة -بضم الموحدة مصغر, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إني لأرجو" ورجاؤه محقق الوقوع, "أن أشفع يوم القيامة" شفاعات كثيرة "عدد ما على الأرض" أو التقدير: في جمع عددهم كعدد ما على الأرض, والأول أولى لاقتضائه كثرة الشفاعات.
وفي رواية الطبراني والبيهقي: لأكثر مما على وجه الأرض "من شجرة ومدرة" بفتحتين- التراب المتلبد واحده مدر -بزنة قصب وقصبة, وقد جاء أيضًا بالجمع من شجر ومدر.
"رواه أحمد" والطبراني في الأوسط, والبيهقي, "وعن ابن عباس، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن آخر الأمم" في الوجود في الدنيا, "وأول من يحاسب" يوم القيامة, "يقال: أين الأمة الأمية" نسبة إلى نبيها, فلا ينافي أن كثيرًا من الأمَّة يكتب, "ونبيها، فنحن الآخرون" في الوجود, الأولون في الحساب وغيره.
"رواه ابن ماجه، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي مرفوعًا: "فإذا أراد الله أن يقضي بين خلقه نادى منادٍ" للتشريف: "أين محمد وأمته، فأقوم وتتبعني أمتي غرًّا محجَّلين من أثر الطهور" بضم الطاء وفتحها.
"قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن الآخرون الأولون, وأول من يحاسب وتفرج" بفتح التاء وكسر الراء توسع "لنا الأمم عن طريقنا، وتقول الأمم: كادت" قاربت, "هذه الأمة أن تكون أنبياء كلها" لما لهم من الشمائل الحسنة والنور الظاهر.
"وقد صحَّ أن أول ما يقضى" بضم أوله "بين الناس" يوم القيامة في الدماء التي جرت بينهم في الدنيا تعظيمًا لأمرها، فإن البداءة تكون بالأهم فالأهم, وهي حقيقة بذلك، فإن الذنوب(12/350)
وللنسائي مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء".
وفي البخاري عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: "أنا أول من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة"، يريد قصته في مبارته هو وصاحباه الثلاثة من كفار قريش, قال أبو ذر: وفيهم نزلت {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله
__________
تعظم بحسب عظم المفسدة الواقعة بها، أو بحسب فوات المعصية المتعلقة بعدمها, وهدم البنية الإنسانية من أعظم المفاسد.
قال بعض المحققين: ولا ينبغي أن يكون بعد الكفر أعظم منه "رواه البخاري" في الرقاق والديات, ومسلم في الحدود عن ابن مسعود، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس في الدماء" , ولبعض رواة البخاري: بالدماء -بموحدة بدل في- ولما احتمل اللفظ من حيث هو أنَّ الأولية خاصَّة بما يقع الحكم فيه بين الناس, وأنها أولية مطلقًا، وجاء ما يؤيد الأول، أتبعه به فقال: "وللنسائي" عن ابن مسعود مرفوعًا: "أول ما يحاسب عليه العبد" الإنسان حرًّا أو عبدًا, ذكرًا أو أنثى "الصلاة"؛ لأنها أمَّ العبادات وأول الواجبات بعد الإيمان, "وأول ما يقضى بين الناس في الدماء"؛ لأنها أكبر الكبائر بعد الكفر ولا تناقض؛ لأن هذا في حق الخلق، والصلاة في حق الحق.
قال الحافظ العراقي: وظاهر الأخبار أنَّ لذي يقع أولًا المحاسبة على حق الله, "وفي البخاري عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: أنا أوّل من يجثو يوم القيامة بين يدي الرحمن للخصومة, يريد" على "قصته في مبارزته" بإضافة المصدر للفاعل, "هو وصاحباه حمزة وعبيدة بن الحارث المطلبي, الثلاثة بالنصب مفعول مبارزة من كفار قريش, وهم شيبة بن ربيعة, وأخوه عتبة -بضم المهملة وإسكان الفوقية- وابنه الوليد بن عتبة، ومرت قصتهم في بدر, وتصحف اسم عتبة في عبارة بعتيبة، فحيرت من رآها.
"قال أبو ذر: وفيهم نزلت: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] ومَرَّ أن الثلاثة الكفار قتلوا, وأن عبيدة الصحابي استشهد.
وعن أبي هريرة" الذي في الترمذي, عن أبي برزة الأسلمي "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد" عن الموضع الذي هو واقف فيه, "يوم القيامة, حتى يسأل عن أربع: عن(12/351)
من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه" رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
وفي البخاري من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من نوقش الحساب عذّب".
وروى البزار عن أنس بن مالك عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان فيه العمل الصالح، وديوان فيه ذنوبه، وديوان فيه النعم
__________
عمره فيما أفناه" طاعة أم عصيان, "وعن علمه فيما عمل به" هل أخلص فيه لله تعالى أم لا، كذا في النسخ, والذي في الترمذي: "علمه ما عمل فيه" , وله من رواية ابن مسعود: "وماذا عمل فيما علم" , "وعن ماله من أين اكتسبه" من حلال أو حرام أو شبهة, "وفيما أنفقه" أفي وجوه الطاعات أو ضدها, "وعن جسمه فيما أبلاه" أي: أفناه.
وفي رواية ابن مسعود: "وعن شبابة فيما أبلاه" , "رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح" لكن عن أبي برزة الأسلمي لا عن أبي هريرة.
ورواه أيضًا عن ابن مسعود مرفوعًا بلفظ: "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه, وعن شبابه فيما أبلاه, وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه, وماذا عمل فيما علم"، وعدها تارة أربعًا وأخرى خمسًا بالاعتبار؛ لأن السؤال عن المال كسبًا وإنفاقًا يعد مرة أو مرتين.
وفي البخاري في العلم والرقاق ومسل "من حديث عائشة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: من مبتدأ موصول "نوقش" بضم أوله وكسر القاف صلة الموصول "الحساب" نصب على المفعولية, أي: من ناقشه الله، أي: استقصى حسابه, "عُذِّب" بضم أوله مبني للمفعول خبر المبتدأ, قال عياض: له معنيان، أحدهما: إن نفس مناقشة الحساب وعرض الذنوب والتوقيف على قبيح ما سلف والتوبيخ تعذيب، والثاني: إنه يفضي إلى استحقاق العذاب؛ إذ لا حسنة للعبد إلّا من عند الله لإقداره عليها وتفضيله عليه بها وهدايته لها؛ ولأن الخالص لوجهه قليل، ويؤيد هذا الثاني قوله في الرواية الأخرى: هلك.
وقال النووي: التأويل الثاني هوالصحيح؛ لأن التقصير غالب على الناس، فمن استقصى عليه ولم يسامح هلك,. وبقية الحديث، قالت: أي عائشة، قلت: أليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} ، قال: "ذلك العرض".
"وروى البزار عن أنس بن مالك, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يخرج" أي: يؤتى "لابن آدم يوم القيامة ثلاثة دواوين, ديوان فيه العمل الصالح" الذي عمله في الدنيا, "وديوان فيه ذنوبه،(12/352)
من الله تعالى عليه، فيقول الله تعالى لأصغر نعمة -أحسبه قال: من ديوان النعم: خذي بثمنك من عمله الصالح، فتستوعب عمله الصالح, وتقول: وعزتك ما استوفيت، وتبقى الذنوب والنعم، وقد ذهب العمل الصالح, فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا، قال: يا عبدي، قد ضاعفت لك حسناتك، وتجاوزت عن سيئاتك -أحسبه قال: ووهبت لك نعمي".
وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء يوم القيامة، حتى الشاتان فيما انتطحتا".
وعن أنس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه،
__________
وديوان فيه النعم من الله عليه، فيقول الله لأصغر نعمه -أحسبه" أي: أظنه "قال: من ديوان النعم" يعني أنه تحقق أنه قال لأصغر نعمه دون قوله من ديوان النعم, فلم يتحققه، وإنما ظنّه "خذي بثمنك من عمله الصالح, فتستوعب" تلك النعمة "عمله الصالح" كله, "وتقول: وعزتك ما استوفيت" ثمني, "وتبقى الذنوب والنعم".
"وقد ذهب العمل الصالح" جملة حالية, "فإذا أراد الله أن يرحم عبدًا قال: يا عبدي, قد ضاعفت لك حسناتك" الحسنة بعشرة, إلى أكثر مما شاء الله, "وتجاوزت عن سيئاتك، أحسبه" أظنه "قال: ووهبت لك نعمي" وللطبراني عن واثلة رفعه: "يبعث الله يوم القيامة عبدًا لا ذنب ل، فيقول الله، بأي الأمرين أحبّ إليك, أن أجزيك بعملك أو بنعمتي عليك، قال: رب أنت تعلم أنِّي لم أعصك، قال: خذوا عبدي بنعمة من نعمي، فما تبقى له حسنة إلّا استغرقتها تلك النعمة, فيقول: رب بنعمتك ورحمتك".
"وروى الإمام أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ليختصمنَّ كل شيء" من الأشياء التي وقع فيها ما يوجب الخصومة "يوم القيامة, حتى الشاتان فيما" أي: في أي شيء "انتطحتا" عدلًا من الحكم العدل, ثم تكون البهائم كلها ترابًا، ولأحمد عن أبي هريرة قال: "يحشر الخلق كلهم يوم القيامة: البهائم والدواب والطير, فيبلغ من عدل الله أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كونا ترابًا، فذلك حين يقول الكافر: يا ليتني كنت ترابًا" ولأحمد في الزهد عن أبي عمران الجوني، قال: حدِّثت أنَّ البهائم إذا رأت بني آدم قد تصدعوا من بين يدي الله صنفين, صنفًا إلى الجنة وصنفًا إلى النار, تناديهم البهائم: يا بني آدم، الحمد لله الذي لم يجعلنا اليوم مثلكم, لا جنة نرجوا ولا عقابًا نخاف".
وعن أنس: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس؛ إذ رأيناه ضحك حتى بدت" ظهرت "ثناياه(12/353)
فقال له عمر: ما أضحك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، قال: "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب, خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله: ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء, قال: يا رب, فليتحمل من أوزاري" وفاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء, ثم قال: "إن ذلك ليوم عظيم, يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر، فقال: يا رب, أرى مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ, لأي نبي هذا، أو لأي صديق هذا، أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن يعطي الثمن، فقال: يا رب، ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى، فخذ بيد أخيك وأدخله الجنة"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم, فإن الله يصلح بين المسلمين يوم القيامة " رواه
__________
فقال له عمر" بن الخطاب: "ما أضحكك يا رسول الله" أفديك "بأبي أنت وأمي، قال: "أضحكني رجلان" أي: خبر رجلين "من أمتي, جثيا بين يدي رب العزة، فقال أحدهما: يا رب, خذ لي مظلمتي" بفتح الميم وكسر اللام "من أخي" في الدين, "فقال الله" للطالب "ما تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء، قال: يا رب, فليحمل من أوزاري" وفاضت" سالت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء" شفقة ورأفة ورحمة على المؤمنين, ثم قال: "إن ذلك ليوم عظيم يحتاج الناس" إلى "أن يحمل عنهم من أوزارهم, فقال الله" للطالب "ارفع بصرك" إلى جهة العلوّ, فنظر "فقال: يا رب, أرى" أبصر "مدائن من ذهب وفضة مكلَّلة باللؤلؤ" وفي نسخة: باللآليء -بالجمع, "لأيّ نبي هذا، أو لأيّ صديق هذا، أو لأيّ شهيد هذا، قال: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب, ومن يملك ذلك؟ الثمن قال: أنت تملكه، قال: بماذا؟ " أي بأي شيء أملكه يا رب, "قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب, فإني قد عفوت عنه، قال الله تعالى: فخذ بيد أخيك فأدخله الجنة" معك، فعفا بفضله عنهما جميعًا وأرضى الخصم عن مظلمته, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند ذلك: "اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم" أي: الحال الذي يقع به الاجتماع, يتلاقى خل الشيء, "فإن الله يصلح بين المسلمين" , وفي لفظ: المؤمنين "يوم القيامة" أي: يوفِّق بينهم بإلهام المظلوم العفو عن ظالمه, وتعويضه عن ذلك بأحسن الجزاء.
وللطبراني بسند حسن عن أنس رفعه: "إذا التقى الخلائق يوم القيامة نادى منادٍِ: يا أهل الجمع, تداركوا المظالم بينكم, وثوابكم عليَّ" وله أيضًا عن أم هانيء رفعته: "إن الله يجمع الأولين والآخرين يوم القيامة في صعيد واحد، ثم ينادي منادٍ من تحت العرش: يا أهل التوحيد(12/354)
الحاكم والبيهقي في البعث, كلاهما عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي، عن سعيد بن أنس عنه، وقال الحاكم: صحيح الإسناد. كذا قال.
وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا، وله خصم بنصف دانق, لم يدخل الجنَّة حتى يرْضى خصمه. وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم. ذكره القشيري في التحبير.
ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأنَّ الوزن للجزاء, فينبغي أن يكون بعد المحاسبة, فإن المحاسبة لتقدير الأعمال, والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاء بحسبها.
__________
إن الله -عز وجل- قد عفا عنكم، فيقوم الناس, فيتعلّق بعضهم ببعض في ظلامات، فينادي منادٍ: يا أهل التوحيد, ليعفو بعضكم عن بعض وعليَّ الثواب".
قال الغزالي: هذا محمول على من تاب من الظلم ولم يعد إليه, وهم الأوَّابون في قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 35] .
قال القرطبي: وهذا تأويل حسن، قال: أو يكون فيمن له خبيئة, من عمل صالحًا يغفر الله له به, ويرضي خصماءه, ولو كان عامًّا في جميع الناس ما دخل أحد النار.
"رواه الحاكم والبيهقي في البعث, كلاهما" وكذا رواه أبو يعلى وسعيد بن منصور, كلهم "عن عبَّاد بن أبي شيبة الحبطي" بفتح المهملة والموحَّدة, نسبة إلى الحبطات, بطن من تميم "عن سعيد بن أنس، عنه" أي: عن أبيه أنس بن مالك, "وقال الحاكم: صحيح الإسناد، كذا قال: "تبرأ منه لقول الذهبي: عباد ضعفوه, وشيخه سعيد لا يعرف, فأنى له الصحة. انتهى.
ونزاعه إنما هو في الصحة, وإلّا فله شواهد ترفعه إلى درجة الحسن، منها حديث أنس, وإسناده حسن, وحديث أم هانيء السابقان.
"وقد نقل: لو أنَّ رجلًا له ثواب سبعين نبيًّا, وله خصم بنصف دانق, لم يدخل الجنة حتى يرضى خصمه" هذا إن صحَّ لا يعارض ذلك؛ لأنَّ الله إذا أراد أرضى خصمه عنه وجازاه، فصدق أنه أرضى خصمه, فليس فيه تقوية لتضعيف الحديث، كما أومأ له المصنف, "وقيل: يؤخذ بدانق سبعمائة صلاة مقبولة فتعطى للخصم، ذكره القشيري" أبو القاسم "في التحبير".
وهذا أيضًا لا يعارض؛ لأنها إذا أخذت وقد عفا الله أدخله الجنة برحمته، وقوله: "ثم بعد انقضاء الحساب يكون وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، فإن المحاسبة لتقدير الأعمال, والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها" نقله في(12/355)
وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع، وجاءت السنة بلفظ الإفراد والجمع، فقيل: إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس، جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال، فيكون هناك موازين للعامل الواحد، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله، ذهبت طائفة إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم، وليس المراد حقيقة العدد، وهو نظير قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}
__________
التذكرة عن العلماء، وقال: أفاد بهذا تقديم الحساب على الميزان، وأن المراد بالحساب السؤال، ولهذا لا ميزان لمن يدخل الجنة بغير حساب ولا للكفار، وإنما للميزان للمخلصين من المؤمنين.
قال السيوطي: ومن ثَمَّ بُدِئَ بإلقاء الكفار في النار، قال: ولم يتعرَّض القرطبي للميزان والصراط أيهما قبل، لكن صنيعه وصنيع البيهقي يدلان على أن الميزان قبل؛ لأنهما ذكرا أبواب الميزان قبل الصراط، ووقع في كلام القرطبي نقلًا عن بعضهم استطرادًا ما يقتضي أنَّ الحساب قبل الصراط، وفي أثر أيفع الكلاعي ما يقتضي أنَّ الحساب على قناطر الصراط. انتهى.
"وقد ذكر الله تعالى الميزان في كتابه بلفظ الجمع": {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُه} [المؤمنون: 102] وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَان} ، فالمراد: النهي عن عدم تحرير الوزن في معاملات الدنيا, والأمر بإقامة العدل فيما بينهم, "وجاءت السنة بلفظ الإفراد"؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله كفتي الميزان مثل السماء والأرض".
رواه ابن مردويه, وقوله -صلى الله عليه وسلم: "يوضع الميزان يوم القيامة, فلو وضعت فيه السماوات والأرض لوسعت"....... الحديث.
رواه الحاكم "والجمع" كقوله -صلى الله عليه وسلم: "توضع الموازين"، وكحديث حذيفة: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل، رواه ابن جرير, "فقيل" في وجه الجمع بينهما: "إن صورة الإفراد محمولة على أنَّ المراد الجنس" الصادق بالمتعدد "جمعًا بين الكلامين، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون تعددها بتعدد الأعمال, فيكون هناك موازين للعامل الواحد, يوزن بكل واحد منها صنف من أعماله, كما قال الشاعر:
ملك تقوم الحادثات لأجله ... فلكل حادثة لها ميزان
"وذهبت طائفة" وهم الأكثرون "إلى أنها ميزان واحد يوزن بها للجميع، وإنما ورد في الآية بصيغة الجمع للتفخيم, وليس المراد حقيقة العدد" أي: الجمع الذي أقلّه ثلاثة, "وهو نظير قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] والمراد رسول واحد،" وهو نوح(12/356)
[الشعراء: 105] والمراد رسول واحد، وهذا هو المعتمد، وعليه الأكثرون.
واختلف في كيفية وضع الميزان، والذي جاء في أكثر الأخبار، أنَّ الجنة توضع عن يمين العرش، والنار عن يسار العرش، ثم يؤتى بالميزان، فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة، وكفة السيئات مقابل النار. ذكره الحكيم الترمذي في "نواد الأصول".
واختلف أيضًا في الموزون نفسه, فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها, وهي وإن كانت أعراضًا إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن، وقال بعضهم: الموزون صحائف الأعمال، ويدل له حديث البطاقة المشهرة، وقد رواه الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟
__________
عليه السلام, "وهذا هو المعتمد وعليه الأكثرون" وقيل: الجمع باعتبار العباد وأنواع الموزونات.
"واختلف في كيفية وضع الميزان: والذي جاء في أكثر الأخبار أن الجنة توضع عن يمين العرش, والنار عن يسار العرش، ثم يؤتَى بالميزان" مذكّر, وأصله الواو, لجمعه على موازين "فينصب بين يدي الله تعالى، فتوضع كفة الحسنات مقابل الجنة, وكفة السيئات مقابل النار" بتثليث كاف كفة، كما ذكره صاحب القاموس في كتابه المثلثات.
"ذكره الحكيم الترمذي" محمد بن علي "في نوادر الأصول" اسم كتاب له, "واختلف أيضًا في الموزون نفسه، فقال بعضهم: توزن الأعمال نفسها، وهي وإن كانت أعراضًا" والعرض لا يقوم بنفسه ولا يوصف بخفة ولا ثقل, "إلّا أنها تجسَّم يوم القيامة فتوزن" كما جاء عن ابن عباس, ولا يلزم من ذلك محال لذاته, وإن عجزت عقولنا عن إدراكه, فنكل علمه إلى الله ولا نشتغل بكيفيته, "وقيل: الموزون صحائف الأعمال" وصحَّحه ابن عبد البر والقرطبي, "ويدل له حديث البطاقة المشهور".
"وقد رواه الترمذي" وقال: حسن غريب، وابن ماجه وابن حبان والحاكم.
وصححه البيهقي "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، يرفعه بلفظ: "إن الله يستخلص رجلًا" وفي رواية ابن ماجه: "يصاح برجل من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة, فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا" مائة إلًا واحدًا, "كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا، أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك(12/357)
فيقول: لا، يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات، فقال: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء".
فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا حتى يوضع الإيمان في كفة والكفر في أخرى.
أجاب الترمذي الحكيم: بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان، وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر
__________
عذر" في فعل ذلك؟ "فيقول: لا يارب" لفظ الحديث عند المذكورين، فيقول: "أفلك عذر أو حسنة؟ فيهاب الرجل, فيقول: لا يارب" , "فيقول: بلى. إن لك عندنا حسنة" فهذا جواب لقوله: أو حسنة، الساقط من قلم المصنف أو كتابه، "وأنه لا ظلم عليك اليوم, فيخرج بطاقة" رقعة صغيرة مكتوبًا "فيها: أشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك, فيقول: يا رب, ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم, قال: فتوضع السجلات في كفة, والبطاقة في كفة، فطاشت" خفت "السجلات, وثقلت البطاقة, فلا يثقل مع اسم الله شيء"؛ إذ لا شيء يعدله، وقيل: يوزن العبد مع عمله، ويؤيده حديث أحمد بسند حسن عن ابن عمرو بن العاص، مرفوعًا: "توضع الموزاين يوم القيامة، فيؤتى الرجل فيوضع في كفة, ويوضع ما أحصي عليه, فيتمايل به الميزان, فيبعث به إلى النار، فإذا أدبر به إذا صائح يصيح من عند الرحمن: لا تعجلوا لا تعجلوا، فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها: لا إله إلا الله, فتوضع مع الرجل في كفة حتى يميل به الميزان" "فإن قلت: إن من شأن الميزان أن يوضع في كفته شيء, وفي الأخرى ضده، فتوضع الحسنات في كفة, والسيئات في كفة، والذي يقابل شهادة التوحيد الكفر، ويستحيل أن يأتي عبد واحد بالكفر والإيمان معًا, حتى يوضع الإيمان في كفة، والكفر في كفة" إن الضدان لا يجتمعان, قلت: "أجاب الترمذي الحكيم بأنه ليس المراد وضع شهادة التوحيد في كفة الميزان" حتى يجتمع الضدان "وإنما المراد وضع الحسنة المترتبة على النطق بهذه الكلمة مع سائر الحسنات، ويدل لما قاله قوله: "بلى إن(12/358)
الحسنات، ويدل لما قاله قوله: "بلى إن لك عندنا حسنة" , ولم يقل لك عندنا إيمانًا. وقد سئل -صلى الله عليه وسلم- عن لا إله إلا الله، أمِنَ الحسنات هي؟ فقال: "من أعظم الحسنات" أخرجه البيهقي وغيره. ويجوز -كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا، كما في حديث معاذ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي "التحبير" للقشيري: قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات فرجحت، فحلت الصرة فإذا فيها، كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم.
__________
لك عندنا حسنة" ولم يقل: لك عندنا إيمانًا، وقد سئل -عليه السلام- عن لا إله إلّا الله, أَمِنَ الحسنات هي، فقال: "من أعظم الحسنات".
"أخرجه البيهقي وغيره" قال القرطبي: وتوزن أعمال الجن كما توزن أعمال الإنس, "ويجوز كما قاله القرطبي في التذكرة: أن تكون هذه الكلمة هي آخر كلامه في الدنيا كما في حديث معاذ" بن جبل عند أحمد وأبي داود والحاكم، وصحَّحه قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه" في الدنيا، قال أبو البقاء: آخر بالرفع اسم كان, و "لا إله إلا الله" في موضع نصب خبر, ويجوز عكسه. انتهى.
فإن قيل: أهل الكتاب ينطقون بكلمة التوحيد, فلم لم يذكر قرينتها، أجاب الطيبي بأن قرينتها صدورها عن صدر الرسالة، قال الكشاف في: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} لما علم وشهر أن الإيمان بالله قرينته الإيمان بالرسول لاشتمال كلمة الشهادة عليهما مزدوجين, كأنهما واحد غير منفك, أحدهما عن صاحبه, انطوى تحت ذكر الإيمان بالله الإيمان برسوله, "دخل الجنة" , وذهب حرصه ورغبته وسكنت أخلاقه السيئة وذلَّ وانقاد لربه، فاستوى ظاهره بباطنه، فغفر له بهذه الشهادة لصدقها، وقائلها في الصحة قلبه مشحون بالشهوات والمنى, ونفسه شرهة بطرة ميتة على الدنيا عشقًا وحرصًا، فلا يستوجب المغفرة بها إلّا بعد رياضة نفسه وموت شهواته, وصفاته عن التخليط.
"وفي التحبير للقشيري، قيل لبعضهم في المنام: ما فعل الله بك؟ قال: وزنت حسناتي" وسيئاتي, "فرجحت السيئات على الحسنات، فسقطت صرة في كفة الحسنات, فرجحت" الحسنات, "فحلت الصرة، فإذا فيها كفّ تراب ألقيته في قبر مسلم" بحسن نية(12/359)
وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن, أخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بطاقة كالأنملة, فيلقيها في كفة الميزان التي فيها الحسنات, فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وما أحسن خلقك، فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد، وهذه صلاتك علي, وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره.
وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة، فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسوية، فيقول الله له -رحمة منه: اذهب في الناس فالتمس من
__________
وانكسار, وعلم بأني صائر إلى ذلك, وأن لذات الدنيا التي حصلت لي لا شيء.
"وفي الخبر: إذا خفَّت حسنات المؤمن, أخرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم" من حجزته "بطاقة" بيضاء "كالأنملة, فيليقها في كفة الميزان التي فيها حسناته، فترجح الحسنات, فيقول ذلك العبد" بعد أن يؤمر به إلى الجنة, "للنبي -صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وما أحسن خلقك, فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك محمد, وهذه صلاتك عليّ, وقد وفَّيتك إياها أحوج ما تكون إليها. ذكره القشيري في تفسيره".
وأخرجه ابن أبي الدنيا مطولًا عن عبد الله بن عمر، وقال: إن لآدم من الله -عز وجل- موقفًا في فسح من العرش, عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق, ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة والنار، فبينما آدم على ذلك؛ إذ نظر إلى رجل من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- ينطلق به إلى النار، فينادي آدم: يا أحمد, يا أحمد، فيقول: لبيك يا أبا البشر، فيقول: هذا رجل من أمتك منطلق به إلى النار، فأشد لمئزر وأسرع في أثر الملائكة وأقول: "يا رسل ربي قفوا، فيقولون: نحن الغلاظ الشداد لا نعصي الله ما أمرنا, ونفعل ما نؤمر"، فإذا أيس -صلى الله عليه وسلم- قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه، فيقول: "رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي"، فيأتي النداء من عند العرش: أطيعوا محمدًا وردّوا هذا العبد إلى المقام، "فأخرج من حجزتي بطاقة بيضاء كالأنملة, فألقيها في كفة الميزان اليمنى, وأنا أقول: بسم الله، فترجح الحسنات على السيئات, فينادي: سعد وسعد جده, وثقلت موازينه، انطلقوا به إلى الجنة، فيقول: يا رسل ربي, قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه، فيقول: بأبي أنت وأمي, ما أحسن وجهك, وأحسن خلقك, من أنت؟ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي؟ فأقول: أنا نبيك محمد, وهذه صلاتك التي كنت تصلي عليّ وافتك أحوج ما تكون إليها".
"وذكر الغزالي أنه يؤتى برجل يوم القيامة, فما يجد حسنة ترجح بها ميزانه وقد اعتدلت بالسوية" لتساوي حسناتهه وسيئاته, "فيقول الله تعالى له -رحمة منه: اذهب في الناس(12/360)
يعطيك حسنة أدخلك بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك فييأس، فيقول له رجل: لقد لقيت الله, فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة، وما أظنّها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا، فيقول الله له: ما بالك؟ وهو أعلم, فيقول: يا رب, اتفق لي من أمري كيت وكيت، قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهب له الحسنة فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك، خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة.
وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل، فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان, فيها مكتوب "أفّ" فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق، فيؤمر به إلى النار، قال: فيطلب الرجل أن يُرَدَّ إلى الله تعالى، فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق, لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي، إني سائر إلى النار وكنت عاقًّا لأبي, وهو سائر إلى النار مثلي، فضعّف عليَّ عذابه وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى, ويقول: عققته في الدنيا وبررته في الآخرة، خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة.
__________
فالتمس من يعطيك حسنة أدخلك -بضم اللام- صفة لحسنة "بها الجنة، فما يجد أحدًا يكلمه في ذلك الأمر إلّا قال له: أنا أحوج لذلك منك، فييأس فيقول له رجل: لقد لقيت الله, فما وجدت في صحيفتي إلّا حسنة واحدة, وما أظنها تغني عني شيئًا، خذها هبة مني، فينطلق بها فرحًا مسرورًا, فيقول الله: ما بالك؟ " شأنك وحالك, "وهو أعلم, فيقول: يا رب, اتفق لي من أمري كيت وكيت" أي: كذا وكذا -بفتح التاء الفوقية فيهما وقد تكسر- وهي هاء في الأصل, فصارت تاء في الوصل, "قال: فينادي الله تعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، فيقول له تعالى: كرمي أوسع من كرمك, خذ بيد أخيك وانطلقا إلى الجنة، وكذا تستوي كفتا الميزان لرجل, فيقول الله تعالى له: لست من أهل الجنة ولا من أهل النار، فيأتي الملك بصحيفة فيضعها في كفة الميزان, فيها مكتوب أف, فترجح على الحسنات؛ لأنها كلمة عقوق, فيؤمر به إلى النار".
"قال: فيطلب الرجل أن يردَّ إلى الله تعالى, فيقول الله تعالى: ردوه، فيقول له: أيها العبد العاق, لأي شيء تطلب الرد إليّ؟ فيقول: إلهي, إني سائر إلى النار، وكنت عاقًّا لأبي, وهو سائر إلى النار مثلي, فضعِّف عليَّ عذابه" أي: أبيه.
وفي نسخة: عذابي, "وأنقذه منها، قال: فيضحك الله تعالى" يرضى عنهما جميعًا, "ويقول: عققته في الدنيا وبررته" بكسر الراء الأولى وإسكان الثانية بزنة علمته "في الآخرة،(12/361)
وقد روى حذيفة أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة جبريل -عليه السلام، وهو الدين يزن الأعمال يوم القيامة. رواه ابن جرير في تفسيره.
واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص, فقال بعضهم:
الراجح أنَّ الموزون في الآخرة يصعد، عكس ما في الدنيا، واستشهد في ذلك بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10] الآية. قال الزركشي: وهو غريب مصادم لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 7] .
وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها؟ حكي عن وهب بن منبه أنه قال: يوزن من الأعمال خواتيمها، واستدلَّ بقوله -صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بخواتيمها".
__________
خذ بيد أبيك وانطلقا إلى الجنة" برحمة الله تعالى.
"وقد روى حذيفة بن اليمان أنَّ صاحب الميزان يوم القيامة، أي: الذي يتولَّى أمره "جبريل -عليه السلام, وهو الذي يزن الأعمال يوم القيامة.
"رواه ابن جرير في تفسيره" وكذا ابن أبي حاتم في تفسيره, وهو موقوف له حكم الرفع، وللبيهقي عن أنس رفعه: "ملك الموت موكَّل بالميزان"، وللطبراني الصغير عن أبي هريرة رفعه: "يقول الله: يا آدم, قد جعلتك حكمًا بيني وبين ذريتك، قم عند الميزان, فانظر ما يرفع إليك من أعمالهم، فمن رجح منهم خيره على شره مثقال ذرة فله الجنة, حتَّى تعلم أنِّي لا أدخل منهم النار إلّا ظالمًا".
"واختلف أيضًا في كيفية الرجحان والنقص، فقال بعضهم: الراجح أنَّ من الموزون في الآخرة يصعد" إلى العلوّ "عكس ما في الدنيا, واستشهد بقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} "الآية".
"قال الزركشي: وهو غريب مصادم" مدافع أي: مدفوع لقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} في الجنة، أي: ذات رضًا بأن يرضاها، أي: مرضية له, فإن القرآن وارد بلغة العرب, والتعبير بثقلت, وفي مقابله بخفَّت, إنما يفهم منه أنها كميزان الدنيا، وأمَّا قوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فمعناه يقبله.
"وهل توزن الأعمال كلها أو خواتيمها" حكي عن وهب بن منبه أنه قال: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها", وإذا أراد بعبد خيرًا ختم له بخير عمله، وإذا أراد به شرًّا خُتِمَ له بشر عمله، هذا من جملة المروي عن وهب. واستدلَّ بقوله -عليه السلام: "إنما الأعمال بخواتيمها" وظاهر الأحاديث والآثار أنها(12/362)
وذكر الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قضى لأخيه المؤمن حاجة كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له".
وقال بعض أهل العلم، فيما حكاه القرطبي في "التذكرة": ولن يجوز أحد على الصراط حتى يسأل على سبع قناطر، فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا جاز، ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان، فإن جاء به تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحجِّ والعمرة، فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السادسة عن الغسل والوضوء، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السابعة، وليس في القناطر أصعب منها، فيسأل عن ظلامات الناس.
__________
توزن كلها، ومن أصرحها ما رواه أحمد في الزهد, عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل عليه جبريل وعنده رجل يبكي، فقال: من هذا؟ قال: فلان، قال جبريل: إنا نزن أعمال بني آدم كلها إلّا البكاء, فإن الله يطفيء بالدمعة بحورًا من نيران جهنم، وللبيهقي مرفوعًا: "ما من شيء إلّا له مقدار وميزان إلّا الدمعة، فإنه يطفأ بها بحار من النار".
"وذكر" أي: روى الحافظ أبو نعيم عن نافع عن ابن عمر, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قضى لأخيه" في الدين "المؤمن حاجة" أي حاجة كانت, "كنت واقفًا عند ميزانه، فإن رجحت وإلّا شفعت له" فترجح ميزانه فينجو من النار.
"وقال بعض أهل العلم فيما حكاه القرطبي في التذكرة: ولن يجوز أحد" من هذه الأمة وغيرها "على الصراط, حتى يسأل على سبع قناطر, فأمَّا القنطرة الأولى: فيسأل عن الإيمان بالله, وهي شهادة أن لا إله إلا الله، فإن جاء بها مخلصًا" عن الشك والشرك, "جاز" على الصراط، وإلّا وقع في النار, "ثم يسأل في القنطرة الثانية عن الصلاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الثالثة عن صوم شهر رمضان فإن جاء به تامًّا جاز، ثم يسأل في القنطرة الرابعة عن الزكاة، فإن جاء بها تامَّة جاز، ثم يسأل في القنطرة الخامسة عن الحج والعمرة، فإن جاء بهما تامَّين جاز، ثم يسأل في السادسة.
وفي نسخة: ثم إلى القنطرة السادسة, فيسأل عن الغسل والوضوء, فإن جاء بهما تأمَّين جاز، ثم يسأل في السابعة, وليس في القناطر أصعب منها" لعل المراد بعد الأولى التي هي الإيمان, فيسأله عن ظلامات الناس".(12/363)
وفي حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم: "ويضرب الصراط بين ظهراني جهنم، فأكون أنا وأمتي أوّل من يجوز عليه، ولا يتكلّم يومئذ إلّا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم سلّم سلّم، وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان, غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلّا الله تعالى، فتخطف الناس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله, ومنهم
__________
وفي حديث أبي هريرة" أثناء حديث طويل عنه -صلى الله عليه وسلم: "ويضرب" بضم أوله وفتح ثالثه، أي: يمد "الصراط بين ظهراني جهنم" أي: بين أجزاء ظهرها, كأنها محيطة به.
قال القرطبي: الصراط لغة: الطريق, وعرفًا: جسر يضرب على ظهر جهنم, تمرّ الناس عليه إلى الجنة, فينجو المؤمنون على كيفيات تأتي, ويسقط المنافقون.
وفي رواية للبخاري: "ويضرب جسر جهنم"، أي: الصراط, "فأكون أنا وأمتي أوّل من يجيز" بضم التحتية وكسر الجيم بعدها تحتية فزاي معجمة، أي: من يمضي عليه ويقطعه، يقال: جاز الوادي وأجازه لغتان بمعنى قطعه وخلفه، وقال الأصمعي: جازه: مشى فيه, وأجازه: قطعه، قاله النووي وغيره, وقال القرطبي: يحتمل أنَّ الهمزة للتعددية؛ لأنه لما كان هو وأمته أول من يجوز عليه, لزم تأخير غيرهم حتى يجوزوا، فإذا جازوا كأنه أجاز بقية الناس.
وفي رواية للبخاري: "فأكون أنا أوّل من يجوز بأمته"، وله أيضًا: "أول من يجيزها"، أي: جهنم، أي: يجوز عليها, "ولا يتكلم يومئذ" أي: حين الإجازة "إلا الرسل" لشدة الهول؛ لأن في غيره: {تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ويسأل الناس بعضهم بعضًا ويتلاومون, ويخاصم التابع المتبوعين, "ودعاء الرسل"
وفي رواية: "ولا يتكلم إلَّا الأنبياء, ودعوى الرسل" , "يومئذ: اللهمَّ سلِّم سلِّم" مرتين من كمال شفقتهم, "وفي جهنم كلاليب" جمع كلوب -بفتح الكاف وضم اللام الشديدة- حديدة مقطوفة الرأس. وفي رواية: وبه، أي: الصراط "كلاليب مثل شوك السعدان" بفتح السين والدال بينهما عين ساكنة مهملات جمع سعدانة, نبات ذو شوك يضرب به المثل في طيب مرعاه، قالوا: مرعى ولا كالسعدان, والتشبيه به لسرعة اختطافها, وكثرة الانتشاب فيها مع الحرز والتصوف تمثيلًا بما عرفوه في الدنيا وألفوه بالمباشرة.
زاد في رواية للشيخين: هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله، قال: "فإنها مثل شوك السعدان" "غير أنه" أي: الشأن.
وفي رواية: إنها، أي: الشوكة "لا يعلم قدر" , ولمسلم: "لا يعلم ما قدر"، قال القرطبي: قيدناه عن بعض مشايخنا بضم الراء على أن ما استفهامية، وقدر مبتدأ وبنصبها على أن ما زائدة.(12/364)
من يخردل ثم ينجو" الحديث رواه البخاري.
وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- قائم على الصراط يقول: "رب سلّم سلّم، حتى تعجز أعمال العباد، حتى يأتي الرجل فلا يستطيع
__________
وقدر مفعول يعلم "عظمها" بكسر العين وفتح المعجمة.
وقال ابن التين: ضبطناه بضم العين وسكون الظاء والأول أشبه؛ لأنه لا يعلم قدر كبرها "إلّا الله تعالى" وفي الاستثناء إشارة إلى أنَّ التشبيه لم يقع في مقداره, "فتخطف" بكسر الطاء أفصح من فتحها، كما قاله ثعلب وتبعه النووي وغيره, "الناس بأعمالهم" بسبب أعمالهم القبيحة.
وفي رواية السدي: "وبحافَّتيه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس, فمنهم من يوبق بعمله" وفي رواية: الموبق -وهما بموحدة بمعنى الهلاك، ولبعض رواة مسلم: الموثق -بمثلثة من الوثاق، ولبعض رواة البخاري ومسلم: المؤمن -بكسر الميم بعدها نون- بقي بعمله -بفتح التحتية وكسر القاف من الوقاية، أي: يستره عمله، وصوّب في المطالع: المؤمن، وقال: وفي يقي على هذا الوجه ضبطان بموحدة والثاني بتحتية، ولبعض رواة مسلم: يعني بمهملة ساكنة ونون مكسورة بدل بقي وهو تصحيف، كما قاله الحافظ: "ومنهم من يخردل" بلفظ المضارع.
وفي رواية: المخردل اسم مفعول وهما بخاء معجمة وراء ودال مهملة ولام، أي: يقطع بالكلاليب, فيهوي في النار، ويحتمل أنَّه من الخردل، أي: جعلت أعضاؤه كالخردل، وقيل معناه: إنها تقطعهم عن لحوقهم بمن نجا، وقيل: المخردل المصروع، ورجَّحه ابن التين بأنَّه أنسب بسياق الخبر، ولبعض رواة البخاري: بجيم بدل الخاء, ووهاه عياض, والجردلة -بجيم- الإشراف على السقوط, والدال مهملة للجميع، وحكي إعجمامها، ورجَّح ابن قرقول الخاء المعجمة والدال المهملة، ولمسلم: ومنهم المجازى -بضم الميم وخفة الجيم وزاي مفتوحتين بينهما ألف- من المجازاة، أي: بأعماله, "ثم ينجو".
وفي رواية: ثم ينجَّى -بضم التحتية وفتح النون والجيم المشددة ... "الحديث" بطوله "رواه البخاري" في مواضع, مدارها على الزهري عن سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي، كلاهما عن أبي هريرة.
وكذا رواه مسلم في الإيمان من طرق, لكنه أحال طريق شعيب عن الزهري على رواية ذكرها قبلها, ولذا لم يعزه المصنف لهما؛ لأنه ساقط رواية شعيب ومسلم لم يسق لفظها "وإن ساق إسنادها.
"وفي حديث حذيفة وأبي هريرة عند مسلم: "ونبيكم" صلى الله عليه وسلم "قائم على الصراط يقول: "رب سلِّم سلم" بكسر اللام المشددة فيهما, "حتى تعجز" بكسر الجيم "أعمال العباد, حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفًا" بزاي وجاء مهملة ساكنة ففاء- مشي الرجل الضعيف(12/365)
"السير إلّا زحفًا، قال: وفي حافظتي الصراط كلاليب معلقة مأمورة بأخذ من أمرت به, فمخدوش ناجٍ ومكردَس في النار".
وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث "حفَّت النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار. قاله ابن العربي.
ويؤخذ من قوله: "فمخدوش" إلخ, أنَّ المارِّين على الصراط ثلاثة أصناف: ناج بلا خدش، وهالك من أول وهلة, ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو.
__________
قال: "وفي حافتيّ" بخفة الفاء جانبي "الصراط كلاليب" وهي المسمَّاة في بعض الروايات خطاطيف "معلقة, مأمورة بأخذ من أمرت به, فمخدوش" بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة فدال مهملة فواو ساكنة فشين معجمة، وخدش الجلد قشره بعود ونحوه, "ناجٍ" بنون وجيم من النار, "ومكردس في النار" بضم الميم وفتح الكاف وسكون الراء وفتح الدال المهملة فسين مهملة المكسور الظهر من الكردوس وهو فقار الظهر، ويحتمل أنّه بمعنى المكدوس.
يقال: كردس الرجل، قاله المصنف على مسلم، وفي حديث أبي سعيد في الصحيحين: "فناجٍ مسلم, ومخدوش, ومكدوس في جهنم, حتى يمر أحدهم فيسحب سحبًا"، قال الحافظ: اختلف في ضبط مكدوس، ففي مسلم بمهملة، أي: الراكب بعضه على بعض، وقيل: بمعنى مكردس.
ورواه بعضهم ومعناه: السوق الشديد، والمراد أنه يلقى في قعر جهنم. انتهى.
وبقية حديث مسلم: والذي نفس أبي هريرة بيده, إن قعر جهنم لسبعين خريفًا, "وهذه الكلاليب هي الشهوات المشار إليها في الحديث و" هو "حفت" وفي رواية: حجبت "النار بالشهوات" فالشهوات موضوعة على جوانبها، فمن اقتحم الشهوة سقط في النار"؛ لأنها خطاطيفها, "قاله ابن العربي" أبو بكر "ويؤخذ من قوله: فمخدوش إلى آخره, أنَّ المارين على الصراط ثلاثة أصناف: ناجٍ بلا خدش" هذا لا يؤخذ منه كما هو ظاهر، وإنما يؤخذ من حديث أبي سعيد من قوله: "فناج مسلّم" بشد اللام، أي: لا يصيبه مكروه أصلًا. نعم يؤخذ مما تركه من حديث أبي هريرة وحذيفة وهو: "وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يمينًا وشمالًا، فيمر أولكم كالبرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير, وشد الرحال تجري بهم أعمالهم, ونبيكم قائم على الصراط...." إلخ.
"وهالك من أوله وهلة" من قوله: "ومكردس في النار" , "ومتوسط بينهما مصاب ثم ينجو" يؤخذ من قوله: "مخدوش ناج"، ومن حديث أبي هريرة الذي قبله من قوله: "ومنهم من يخردل، ثم(12/366)
وفي حديث المغيرة عند الترمذي: "شعار المؤمنين على الصراط: ربِّ سلّم سلّم". ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين أن ينطقوا به، بل تنطق به الرسل، يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم.
وفي حديث ابن مسعود: فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم، يسعى بين أيديهم، الحديث، وفيه: فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالسحاب, ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الفرس، ومنهم من يمر كشد الرجل, حتى يمر الرجل الذي يعطى نوره على ظهر
__________
ينجو", على أن هذا كله إنما أخذه ابن أبي جمرة من حديث أبي سعيد، كما ذكره المصنف في شرح البخاري، فقال: ويؤخذ منه كما في بهجة النفوس أنَّ المارّين على الصراط ثلاثة أصناف، فذكرها.
"وفي حديث المغيرة" بن شعبة "عند الترمذي" عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "شعار المؤمنين على الصراط رب سلّم رب سلم" ولا يلزم من كون هذا الكلام شعار المؤمنين" أي: علامتهم التي يعرفون بها "أن ينطقوا به", فلا يخالف قوله: "ولا يتكلم يومئذ إلّا الرسل" , "بل تنطق به الرسل يدعون للمؤمنين بالسلامة، فيسمَّى ذلك شعارًا لهم" باعتبار دعاء الرسل لهم به، وللطبراني عن ابن عمر ورفعه: "شعار أمتي إذا حملوا على الصراط: يا الله, لا إله إلا أنت" ولعلهم يتكلمون به في نفوسهم.
"وفي حديث ابن مسعود" في قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [الحديد: 12] ، قال: "يمرون على الصراط, فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل العظيم يسعى بين أيديهم...." الحديث, ومنهم من نوره مثل النخلة، وأدناهم نورًا من نوره في إبهامه يتَّقد مرة ويطفأ أخرى "وفيه: "فيمرون على قدر نورهم، منهم من يمر كطرفة العين" بسكون الراء، أي: تحريكها, "ومنهم من يمر كالبرق" , وهو ما يلمع من السحاب، قيل: أي: شيء كمَرِّ البرق، قال -صلى الله عليه وسلم: "ألم تروا إلى البرق كيف يمر ويرجع في طرفة عين" كما في مسلم, "ومنهم من يمر كانقضاض الكوكب" سقوطه, "ومنهم من يمر كالريح, ومنهم من يمر كشد الفرس" عدوه وجريه, "ومنهم من يمر كشد الرجل" بالجيم على الصحيح المعروف المشهور، أي: سرعة جريه، ولبعض الرواة بحاء مهملة مفردة مفرد رحال، أي: كشد ذي الرحل.
قال عياض: وهما متقاربان في المعنى, وشدهما عدوهما البالغ وجريهما, "حتى يمر الرجل(12/367)
قدميه، يحبو على وجهه ويديه ورجليه، تجرّ يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص، فإذا خلص وقف عليها وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها". الحديث. رواه ابن أبي الدنيا والطبراني.
وروى مسلم: قال أبو سعيد: بلغني أنَّ الصراط أحدّ من السيف وأرقّ من الشعرة. وفي رواية ابن منده من هذا الوجه, قال سعيد بن أبي هلال, ووصله البيهقي عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مجزومًا به, وفي سنده لين.
__________
الذي يعطى نوره على ظهر قدميه، يحبو" يمشي "على وجهه ويديه ورجليه, تجر يد وتعلق يد, وتجر رجل وتعلق رجل, وتصيب جوانبه النار، فلا يزال كذلك حتى يخلص" من النار "فإذا خلص وقف عليها، وقال: الحمد لله الذي أعطاني ما لم يعط أحدًا؛ إذ نجاني منها بعد أن رأيتها...." الحديث.
"رواه ابن أبي الدنيا والطبراني" موقوفًا لفظًا مرفوعًا حكمًا؛ إذ لا دخل للرأي فيه, وروى مسلم: قال أبو سعيد الخدري: "بلغني أنَّ الصراط" لفظ مسلم: الجسر, فذكره المصنّف بالمعنى, "أحدّ من السيف, وأرقّ" بالراء "من الشعرة" بالإفراد، قاله المصنف, وذكر الحافظ البرهان الحلبي أنَّ الصراط شعرة من شعرة جفون ملك خازن النار، لكنه لم يذكر له مستندًا ولا من خرجه، فالله تعالى أعلم.
"وفي رواية ابن منده من هذا الوجه، قال سعيد بن أبي هلال" الليثي مولاهم المدني، ثم المصري, راوي أصل الحديث عن زيد بن أسلم, عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري: فجعل قائل: "بلغني" سعيد بن أبي هلال أبا سعيد, "ووصله البيهقي عن أنس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مجزومًا به" بلفظ: على جهنم جسر مجسور أرقّ من الشعر وأحدّ من السيف.... الحديث.
ولابن منيع عن أبي هريرة رفعه: "الصراط كحدِّ السيف دحض مزلة ذا حسك وكلاليب"، وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن ابن مسعود، قال: "يوضع الصراط على سواء جهنم مثل حَدِّ السيف المرهف".
"ولابن المبارك" والبيهقي وابن أبي الدنيا "من مرسل عبيد بن عمير" أحد كبار التابعين،(12/368)
ولابن المبارك من مرسل عبيد بن عمير: إن الصراط مثل السيف وبجنبتيه كلاليب، والذي نفسي بيده, إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد أكثر من ربيعة ومضر. وأخرجه ابن أبي الدنيا من هذا الوجه, وفيه: والملائكة على جنبتيه يقولون: رب سلّم سلّم.
وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمس عشرة ألف سنة، خمسة آلاف صعود، وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى، أرق من الشعرة, وأحدّ من السيف, على متن جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله. ذكره ابن عساكر في ترجمته، قال في فتح الباري: وهذا معضل لا يثبت.
قال: وعن سعيد بن أبي هلال: بلغنا أنَّ الصراط أرق من الشعرة على بعض الناس، ولبض الناس مثل الوادي الواسع. أخرجه ابن المبارك، وهو مرسل أو معضل.
__________
عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أن الصراط مثل السيف" نقل بالمعنى, ولفظه: "الصراط على جهنم مثل حرف السيف" , "وبجنبتيه" بفتح الجيم والنون ويجوز سكونها بعدها موحدة تثنية جنبة، أي: ناحيتيه "كلاليب".
زاد في رواية البيهقي وابن أبي الدنيا: وحسك يركبه الناس فيختطفون, "والذي نفسي بيده, إنه ليؤخذ بالكلوب الواحد" بالفتح والتشديد بزنة تنور- حديدة معطوفة الرأس يعلق عليها اللحم ويرسل في التنور, "أكثر من ربيعة ومضر".
وأخرجه ابن أبي الدنيا" والبيهقي "من هذا الوجه وفيه: "والملائكة على جنبتيه" تثنية جنبة "يقولون: رب سلّم سلّم, والملائكة يخطفون بكلاليب"، هذا بقية الحديث.
"وعن الفضيل بن عياض: بلغنا أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف سنة، خمسة آلاف صعود, وخمسة آلاف هبوط، وخمسة آلاف مستوى, أرق من الشعرة, وأحدّ من السيف, على متن" أي: ظهر "جهنم، لا يجوز عليه إلّا ضامر مهزول من خشية الله" تعالى, "ذكره" أي: رواه "ابن عساكر في ترجمته" أي: الفضيل "قال في فتح الباري" وهذا معضل لا يثبت، وعن سعيد" بكسر العين ابن أبي هلال: بلغنا أن الصراط أرقّ من الشعرة على بعض الناس, ولبعض الناس مثل الوادي الواسع".
"أخرجه ابن المبارك" وابن أبي الدنيا" "وهو مرسل أمعضل" سقط منه اثنان فأكثر، ولأبي نعيم عن سهل بن عبد الله التستري، قال: من دقَّ الصراط عليه في الدنيا عرض عليه في(12/369)
وقد ذهب بعضهم إلى أن المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] الجواز على الصراط؛ لأنه ممدود على النار.
وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط.
وقيل الورود: الدخول.
وعن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال
__________
الآخرة، ومن عرض عليه الصراط في الدنيا دقّ عليه في الآخرة، ومعناه: إن من عرف الصراط وأنَّ مآله إليه, وقف عند أوامر الله, جوزي باتساعه له ومروره عليه بلا ضرر, وعكسه بعكسه.
"وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ المراد من قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] "الجواز على الصراط" ورجَّحه النووي؛ "لأنه ممدود على النار".
"وروى ابن عساكر عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار أنهم قالوا: الورود المرور على الصراط، وكذا قال الحسن البصري عند البيهقي بلفظ: الورود المرور عليها من غير أن يدخلها.
وكذا قاله خالد بن معدان وعكرمة عند البيهقي وغيره، وللطبراني وابن عدي عن يعلى بن منبه عن النبي صلى الله عليه وسلم- قال: "تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن, فقد أطفأ نورك لهبي" , وقيل: الورود الدخول" ورجَّحه القرطبي.
وأخرجه الحاكم عن ابن مسعود والبيهقي عن ابن عباس، وقاله جماعة, قال في فتح الباري: وهذان القولان أصحّ ما ورد ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبَّر بالدخول تجوّز به عن المرور؛ لأن المارَّ عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوالهم باختلاف أعمالهم، فأعلاهم من يمر كلح البرق كما بَيِّنَ في حديث الشفاعة، ويؤيده صحة هذا التأويل ما في مسلم, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل النار أحد شهد الحديبية"، فقالت حفصة: "أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] فقال: "أليس الله يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] وفي هذا ضعف القول بأن الورود مختص بالكفار، والقول بأن معناه: الدنو منها، والقول بأنه الإشراف عليها، وقيل: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمَّى, وهذا ليس ببعيد, ولا ينافيه بقية الأحاديث. انتهى.
"وعن أبي سمية" بضم السين- مصغَّر, تابعي مقبول, ذكره في التقريب في الكنى ولم يذكر له اسمًا, "قال: اختلفنا في الورود" في الآية, "فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن" وروي ذلك عند ابن جرير والبيهقي عن ابن عباس، أنه قال: وإن منكم إلّا واردها، فقال: يعني الكفار، وقال: لا يردها(12/370)
بعضنا: ندخلها جميعًا، ثم ينجي الله الذين اتقوا، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له: إنا اختلفنا في الورود، فقال جابر: يردونها جميعًا، فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعًا، فأهوى بأصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا, إن لم أكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود والدخول لا يبقى بَرٌّ ولا فاجر إلّا دخلها, فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار أو قال: لجهنم ضجيجًا من بردهم, ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيًّا" رواه أحمد والبيهقي بإسناد حسن.
وأخرج ابن الجوزي -كما ذكره القرطبي في التذكرة- رفعه: "الزالون عن الصراط كثير، وأكثر من يزل عنه النساء" قال: "وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى ملك من تحت العرش: يا فطرة الملك الجبار جوزوا على الصراط, وليقف كل عاصٍ منكم وظالم". فيا لها من ساعة ما أعظم خوفها، وأشد حرها، يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا، ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا.
__________
مؤمن "وقال بعضنا: ندخلها جميعًا, ثم ينجي الله الذين اتقوا" الشرك والكفر منها, "فلقيت جابر بن عبد الله، فقلت له: إنا اختلفنا في الورود, فقال جابر: يردونها جميعًا" المؤمن والكافر, "فقلت: إنا اختلفنا في ذلك، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: ندخلها جميعًا" أعاد عليه السؤال ليعلم دليله؛ لأنه أجابه أولًا بدون دليل, فلمَّا فهم منه طلب الدليل؛ لأنه القاطع للنزاع، ذكره "فأهوى بإصبعيه إلى أذنيه وقال: صمتًا, إن لم أكن سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الورود الدخول، لا يبقي بر" متق, "ولا فاجر إلّا دخلها, فتكون على المؤمنين بردًا وسلامًا كما كانت على إبراهيم" نار الدنيا "حتى إن للنار، أو قال: لجهنم" شكَّ الراوي "ضجيجا" صياحًا قويًّا "من بردهم" الذي قام بهم وضجيجها حقيقي لا أنه من مجاز الحذف، أي: أهلها؛ لأنهم يودون بردها عليهم، وتقدَّم في الحديث: "تقول النار للمؤمن جز" والأصل الحقيقة, ولا داعية للتأويل، لا سيما المفسد للمعنى كما هنا, "ثم ينجي الله الذين اتقوا" الكفر بالإيمان "ويدر الظالمين" يترك الكافرين "فيها جثيًّا".
"رواه أحمد" والحاكم والبيهقي بإسناد حسن" وصححه الحاكم.
"وأخرج ابن الجوزي كما ذكره القرطبي في التذكرة، رفعه: "الزالون عن الصراط كثير, وأكثر من يزل عنه النساء" قال: "وإذا صار الناس على طرفي الصراط نادى مالك من تحت العرش: يا فطرة" خلقة "الملك" بكسر اللام "الجبار, جوزوا على الصراط, وليقف كل عاصٍ منكم وظالم" كافر، "فيا لها من ساعة ما أعظم" أكبر "خوفها وأشد حرها, يتقدَّم فيها من كان في الدنيا ضعيفًا مهينًا" بفتح فكسر, "ويتأخَّر عنها من كان فيها عظيمًا مكينًا" مرتفع(12/371)
مكينًا، ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- نادوا: وا محمداه وا محمداه، فيبادر -صلى الله عليه وسلم- من شدة إشفاقه عليهم، وجبريل آخذ بحجزته، فينادي -صلى الله عليه وسلم- رافعًا صوته: "رب أمتي أمتي، لا أسألك اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي"، والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلم, وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال، والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال، والزبانية يتلقونهم بالسلاسل والأغلال، وينادونهم: أما نهيتهم عن كسب الأوزار، أما أنذرتم كل الإنذار، أما جاءكم النبي المختار. ذكره ابن الجوزي في كتابه "روضة المشتاق".
وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحسن الصدقة في الدنيا مَرَّ على الصراط" رواه أبو نعيم.
وفي الحديث: "من يكن المسجد بيته, ضَمِنَ الله له بالروح والرحمة والجواز
__________
القدر, "ثم يؤذن لجميعهم بعد ذلك في الجواز على الصراط على قدر أعمالهم، فإذا عصف الصراط" اشتدَّ وصعب أمره, "بأمة محمد -صلى الله عليه وسلم- نادوا: وا محمداه وا محمداه" مرتين, فيبادر -عليه الصلاة والسلام- من شدة إشفاقه" خوفه "عليهم, وجبريل آخذ بحجزته" بضم المهملة وإسكان الجيم- معقد الإزار, فينادي -صلى الله عليه وسلم- رافعًا صوته: "رب أمتي أمتي" مرتين, "لا أسأل اليوم نفسي ولا فاطمة ابنتي" والملائكة قيام عن يمين الصراط ويساره ينادون: رب سلِّم سلِّم" مرتين, "وقد عظمت الأهوال واشتدت الأوجال" جمع وجل -بجيم- الخوف, والعصاة يتساقطون عن اليمين والشمال, والزبانية" سموا بذلك من الزبن وهو الدفع؛ لدفعهم أهل النار فيها يتلقونهم بالسلاسل" ويسحبونهم بها, "والأغلال" في أعناقهم, تشتد فيها السلاسل, وينادونهم للتوبيخ: "اما نهيتم عن كسب الأوزار" الآثام, "أما أنذرتم كل الإنذار" البالغ البيّن, "أما جاءكم النبي المختار".
ذكره ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق" أحد تصانيفه الكثيرة جدًّا "وقد جاء في حديث أبي هريرة عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من أحسن الصدقة" بأن حصلها من حِلٍّ وتصدَّق بها على مستحق في الدنيا, "جاز على الصراط" حال كونه مدلًا كما "رواه أبو نعيم" في الحلية, والأصبهاني في الترغيب، فسقط مدلًا من المصنف أو نساخه، قال الأصبهاني: أي: آمنًا غير خائف, والإدلال الانبساط والوثوق بما يأتي ويفعل.
"وفي الحديث" المرفوع: "من يكن المسجد بيته" بحيث يلزمه ويعظمه، ورفع المسجد ونصب بيته أَوْلَى من عكسه؛ لأن الغرض الحكم عن المسجد بأنه اتخذ بيتًا "ضمن".(12/372)
على الصراط إلى الجنة.
وروى القرطبي عن ابن المبارك عن عبد الله بن سلام: إذا كان يوم القيامة, جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا, وأمَّة أمَّة، ويضرب الجسر على جهنم, وينادى: أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وتتبعه أمته برها وفاجرها, حتى إذا كان على الصراط طمس الله أبصار أعدائه, فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا، ويمضي النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحون معه, فتتلقاهم الملائكة, فيدلونهم على الطريق: على يمينك على شمالك, حتى ينتهي إلى ربه، فيوضع له كرسيٍّ عن يمين العرش، ثم يتبعه عيسى -عليه السلام- على مثل سبيله, وتتبعه أمته برها وفاجرها، حتى إذا كانوا على الصراط طمس الله أبصار
__________
أي: تكفَّل "الله له بالروح" بالفتح- الراحة, "والرحمة, والجواز على الصراط إلى الجنة".
وهذا الحديث رواه سعيد بن منصور والطبراني والبزار وحسَّنه عن أبي الدرداء: "المساجد بيوت المتقين, وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة, والجواز على الصراط إلى رضوان الله...." الحديث.
وللطبراني وابن حبان عن عائشة, وابن عساكر عن ابن عمر، رفعاه: "من كان وصله لأخيه المسلم إلي ذي سلطان في تبليغ بر, أو تيسير عسير, أعانه الله على إجازة الصراط يوم القيامة عند دحض الأقدام" وفي الباب أحاديث وآثار في البدور.
"وروى القرطبي عن ابن المبارك" بسنده "عن عبد الله بن سلام" بالتخفيف- الإسرائيلي المبشر بالجنة، وقد رواه الحاكم وصحَّحه عنه، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأنبياء نبيًّا نبيًّا " جمع الأمم "أمة أمة" ولفظ الحاكم: "يبعث الله الخليفة أمَّة أمَّة ونبيًّا نبيًّا, حتى يكون أحمد وأمته آخر الأمم مركزًا" , "ويضرب" وللحاكم: ثم يضرب "الجسر" بفتح الجيم وتكسر- "على جهنم, وينادى" بالبناء للمفعول، وللحاكم: ثم ينادي مناد: "أين أحمد وأمته، فيقوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتتبعه أمته برها وفاجرها, حتى إذا كان على الصراط طمس الله" بفتح الميم، أي: محا "أبصار" أي: نور أبصار "أعدائه فيتهافتون" يتساقطون(12/373)
أعدائهم فيتهافتون في النار يمينًا وشمالًا. الحديث.
واعلم أنَّ في الآخرة صراطين: أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق من النار، فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر حبسوا على صراط آخر لهم، ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله؛ لأنهم قد عبروا الصراط الأوَّل المضروب على متن جهنم, وقد روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخلص المؤمنون من النار, فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا, حتى إذا هذبوا ونقوا, أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي
__________
في النار يمينًا وشمالًا".
"الحديث" بقيته: وينجو النبي والصالحون, ثم تتبعهم الأنبياء, حتى يكون آخرهم نوح. قال الذهبي: غريب موقوف. انتهى، فيحتمل أن ابن سلام نقله من الكتب القديمة؛ لأنه حبرها، ويحتمل أنه سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم, "واعلم أنَّ في الآخرة صراطين" كما ذكره القرطبي, "أحدهما مجاز لأهل المحشر كلهم" ثقيلهم وخفيفهم "إلّا من دخل الجنة بغير حساب، أو يلتقطه عنق" بضم العين والنون- أي: طائفة, وجانب "من النار, فإذا خلص من خلص من الصراط الأكبر" قال في التذكرة: ولا يخلص منه إلّا المؤمنون الذين علم الله منهم أنَّ القصاص لا يستنفد حسناتهم, "حبسوا على صراط آخر لهم, ولا يرجع إلى النار أحد من هؤلاء إن شاء الله، لأنهم قد عبروا الصراط الأول المضروب على متن جهنم" الذي يسقط فيها من أوبقه ذنبه وأربى على الحساب بالقصاص جرمه -كما في كلام القرطبي.
وقد روى البخاري" في المظالم والرقاق "من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسو الله -صلى الله عليه وسلم- زاد الإسماعيلي في هذه الآية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47] الآية "يخلص" بفتح التحتية وضم اللام، أي: ينجو: "المؤمنون من" السقوط في "النار" بعدما يجوزون الصراط, "فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار" قيل: إنها صراط آخر، وقيل: إنها من تتمة الصراط, وإنها طرفه الذي يلي الجنة, قال الحافظ: لعل أصحاب الأعراف منهم على القول الراجح, "فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا" بضم التحتية وسكون القاف ثم فوقية مفتوحة.
كذا في الفرع بضم التحتية وضبطه الحافظ وتبعه العيني بفتحها، فاللام زائدة, أو الفاعل محذوف وهو الله تعالى, أو من أقامه في ذلك, وللبخاري في المظالم: "فيقتص بعضهم من(12/374)
نفس محمد بيده, لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا".
وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أوَّل من يقرع باب الجنة وأوَّل من يدخلها، ففي صحيح مسلم, من حديث المختار بن فلفل, عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس تبعًا يوم القيامة، وأنا أوّل من يقرع باب الجنة".
__________
بعض"، وفي رواية: فيقص -بضم التحتية وفتح القاف وبدون تاء- مبنيًّا للمفعول، قاله المصنف, "حتى إذا هذبوا" بضم الهاء وكسر المعجمة المشدَّدة فموحدة من التهذيب, "ونقوا" بضم النون والقاف المشددة من التنقية.
قال الجوهري: التهذيب كالتنقية, ورجل مهذَّب أي: مطهر الأخلاق. فعلى هذا قوله: ونقوا, تفسير لهذبوا, والمراد التخليص من التبعات، فإذا خلصوا منها, "أذن" بضم الهمزة وكسر المعجمة "لهم في دخول الجنة" وليس في قلوب بعضهم على بعض غلّ كما في الحديث، أي: حقد كامن في قلوبهم، بل ألقى الله فيها التواد والتحاب, "فوالذي نفس محمد بيده, لأحدهم" فتح اللام للتأكيد, وأحد مبتدأ خبره قوله: "أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله" الذي "كان في الدنيا".
قال الطيبي: هدى لا يتعدَّى بالباء بل باللام وإلى، فالوجه أن يضمَّن معنى اللصوق، أي: ألصق بمنزله هاديًا إليه، وفي معناه قوله: يهديهم ربهم بإيمانهم، أي: يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة, فجعل تجري من تحتهم الأنهار بيانًا له وتفسيرًا؛ لأن التمسُّك بسبب السعادة كالوصول إليها. انتهى، وما سبق عن عبد الله بن سلام، أن الملائكة تدلهم على طريق الجنة يمينًا وشمالًا، فهو محمول على من لم يحبس بالقنطرة, أو على الجميع, وأن الملائكة تقول لهم ذلك قبل دخول الجنة، فمن دخلها عرف منزله؛ لأن منازلهم كانت تعرض عليهم غدوًّا وعشيًّا, والله أعلم.
"وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بأنه أوَّل من يقرع" يدق ويطرق "باب الجنة, وأول من يدخلها، ففي صحيح" أي: فدليله, أو فيدل عليه ما في "مسلم" في كتاب الإيمان, من حديث المختار بن فلفل -بضم الفاءين وإسكان اللام الأولى- مولى عمرو بن حريث، صدوق, له أوهام "عن أنس" هذا هو الصواب، ويقع في نسخ "عن ابن عباس" وهو خطأ, فالذي في مسلم عن أنس بن مالك "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الناس" كذا في النسخ، والذي في مسلم: الأنبياء "تبعًا" بفتح الفوقية والموحدة- جمع تابع, "يوم القيامة" لبقاء شريعته ودوامها إلى يوم القيامة، وخصَّه لأنه يوم ظهور ذلك لأهل الجمع, ويوضحه خبر مسلم أيضًا: "إن من الأنبياء من يأتي يوم القيامة ما معه مصدق غير واحد ولا يعارضه، وأرجو أن أكون أكثرهم تبعًا" إمَّا لأنَّ رجاءه محقق الوقوع(12/375)
وفيه أيضًا من حديث أنس, قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح, فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت، لا أفتح لأحد قبلك". ورواه الطبراني وزاد فيه: قال: "فيقوم الخازن ويقول: لا أفتح لأحد قبلك، ولا أقوم
__________
أو قاله قبل أن يكشف له عن أمته, ويراهم، فلمَّا حقق الله رجاءه ورآهم جزم به, "وأنا أوّل من يقرع باب الجنة" أي: يطرقه للاستفتاح, فيكون أوّل داخل, "وفيه" أي: مسلم في الإيمان أيضًا من حديث ثابت البناني, عن "أنس" بن مالك قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "آتي" بمد الهمزة "باب الجنة يوم القيامة" بعد الحشر والحساب، وعبَّر بآتي دون أجيء؛ للإشارة إلى أنَّ مجيئه على تمهّل وأمان بلا تعب؛ لأن الإتيان كما قال الراغب: مجيء بسهولة, والمجيء أعم, "فأستفتح" بسين الطلب, إيماءً إلى تحقق وقوع مدخولها، أي: أطلب فتحه بالقرع, كما في الأحاديث لا بالصوت، وفاء التعقيب إشارة إلى أنه أذن له من الله بلا واسطة خازن ولا غيره؛ بحيث صار الخازن مأموره منتظرًا قدومه, "فيقول الخازن" الحافظ المؤتَمَن على ما استحفظه, وأل عهدية, والمعهود رضوان، وخص مع كثرة الخزنة لأنَّه أعظمهم، وعظيم الرسل إنما يتلقاه عظيم الخزنة, "من أنت" أجابه بالاستفهام, وأكَّده بالخطاب تلذذًا بمناجاته, وإلّا فأبواب الجنة شفافة كما في خبر, وهو العلم الذي لا يشتبه, والتمييز الذي لا يلتبس، وقد رآه رضوان قبل ذلك وعرفه أتمَّ معرفة، ولذا اكتفى بقوله: "فأقول محمد" وإن كان المسمَّى به كثيرًا، ولا ينافي كون أبواب الجنة شفافة خبر أبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة"، لأن ما في الدنيا لا يشبه ما في الجنة إلّا في مجرد الاسم، كما في حديث، فلا مانع من كونه ذهبًا شفافًا, ولم يقل أنا؛ لإبهامه, مع إشعاره بتعظيم النفس, وهو سيد المتواضعين.
قال ابن الجوزي: أنا لا تخلو عن نوع تكبر، كأنه يقول: أنا لا أحتاج إلى ذكر اسمي, ولا نسي لسمو مقامي، وذهب بعض الصوفية والعلماء إلى كراهة إخبار الرجل عن نفسه بأنا تمسُّكًا بظاهر الخبر حتى قالوا: إنها كلمة لم تزل مشئومة على قائلها، كقول إبليس: {أَنَا خَيْرٌ} ، وفرعون: {أَنَا رَبُّكُمْ} ، قال بعض المحققين: وليس كما قالوا، بل الشؤم لما صحبه من دعوى الخير والربوبية، وقد ناقضهم نصوص كثيرة, {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} , {أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} , {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أنا سيد ولد آدم, أنا أثر الأنبياء تبعًا, وغير ذلك، وقد قال النووي: لا بأس أن يقول: أنا الشيخ فلان, أو القاضي فلان, إذا لم يحصل التمييز إلّا به, وخلا عن الخيلاء والكبر" فيقول: "بك" بسببك متعلق بقوله: "أمرت" بالبناء للمفعول, والفاعل الله, قدمت للتخصيص، ويجوز أن تكون صلة للفعل، وأن قوله: "لا أفتح" بدل من الضمير المجرور، أي: أمرت الفتح, "لأحد قبلك" والرواية في مسلم: لا أفتح بدون أن قبلها -كما ذكره المصنف هنا خلافًا لما وقع له في الخصائص(12/376)
لأحد بعدك".
فقيامه له -صلى الله عليه وسلم- خاصة، فيه إظهار لمزيته ومرتبته, وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته, وهو كالملك عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم.
وروى سهيل بن أبي صالح عن زياد المهري, عن أنس بن مالك قال: قال
__________
والسيوطي في جامعيه من زيادة أن.
وقد تعقَّب بأنَّ الذي في نسخ مسلم الصحيحة المقروءة بدون أن، وأحد في سياق النفي للعموم, فيفيد استغراق جميع الأفراد, أي: لا من الأنبياء ولا من غيرهم، وفيه أنَّ طلب الفتح إنما هو للخازن, وإلّا لما كان هو المجيب, ولم يطلبه منها بلا واسطة, مع أنه جاء عن الحسن وقتادة وغيرهما أنَّ أبوابها يرى ظاهرها من باطنها وعكسه، وأنها تتكلم وتكلم, وتعقل ما يقال لها: انفتحي انغلقي؛ لأن الظاهر كما قال بعضهم: إنها مأمورة بعدم الاستقلال بالفتح والغلق, وأنها لا تستطيع ذلك إلّا بأمر عريفها المالك لأمرها بإذن ربها، وإنما يطالب بما يراد من القوم عرفاؤهم, ولا تعارض بين الحديث وبين قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} , {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] ووجه الرازي وغيره: بأنه يوجب السرور والفرح؛ حيث نظروها مفتَّحة من بعد, وفيه الخلاص من ذل الوقوف للاستفتاح؛ لأن أبوابها تفتح أولًا بعد الاستفتاح من جمع, ويكون مقدمًا بالنسبة إلى البعض, كما يقتضيه خير أنَّ الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، والظاهر أنها لا تغلق بعد فتحها للفقراء, هذا أحسن الأجوبة الستة -كما قال بعض المحققين, ونوقش في باقيها.
"ورواه الطبراني وزاد فيه، قال: "فيقوم الخازن" رضوان "فيقول: لا أفتح لأحد قبلك" كما أمرت، ولا يعارضه خبر الديلمي وأبي نعيم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة فيفتحها الله عز وجل لي"؛ لأنه تعالى هو الفاتح الحقيقي, وتولي رضوان ذلك إنما هو بأمره تعالى وإقداره وتمكينه, "ولا أقوم لأحد بعدك" فقيامه له -صلى الله عليه وسلم- خاصَّةً فيه إظهار لمزيته ومرتبته، وأنه لا يقوم في خدمة أحد بعده، بل خزنة الجنة يقومون في خدمته" أي: رضوان, "وهو كالملك" الحاكم عليهم، وقد أقامه الله تعالى في خدمة عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم" حتى مشي وفتح له الباب, وحكمة اتخاذ الخدمة للجنة مع أنَّها إنما تكون عرفًا لما خيف ضياعه أو تلفه أو نقصه, فيفوت كله أو بعضه أو وصفه على صاحبه, ولا يمكن ذلك في الجنة هي مراعاة الداخلين إكرامًا لهم، فتقدم الخزنة لكل منهم ما أعد له من النعيم "وروى سهيل" بضم السين- مصغر "ابن أبي صالح" ذكوان السمّان أبو يزيد المدني، صدوق تغير حفظه بأخرة.(12/377)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر". وهو في مسند الفردوس, لكن من حديث ابن عباس.
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وما من نبي آدم فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر"، قال: "فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم" فذكر الحديث إلى أن قال: "فيأتوني, فأنطلق معهم"، قال ابن
__________
روى عنه مالك ونحوه قبل التغير، وروى له الستة إلّا أنَّ البخاري إنما روى له حديثًا واحدًا مقرونًا بيحيى بن سعيد, وعلق له في مواضع, مات في خلافة المنصور, "عن زياد المهري" بفتح الميم وإسكان الهاء- نسبة إلى مهرة, قبيلة من قضاعة "عن أنس بن مالك قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول من يأخذ بحلقة باب الجنة ولا فخر" بذلك، بل بمن أعطانيه "وهو في مسند الفردوس" للديلمي, "لكن من حديث ابن عباس" وقد رواه أحمد والترمذي عن أنس رفعه: "أنا أول من يأخذ بحلقة الباب فأقعقعها" ففي هذا كله: "أنا أول من يدخل الجنة" استشكل بالسبعين ألفًا الداخلين بغير حساب, إنهم يدخلون قبله، وبحديث رؤياه -صلى الله عليه وسلم- بلالًا سبقه في دخولها، وحديث المرأة التي تبادره في دخولها، وبقوله -صلى الله عليه وسلم: "أول من يقرع باب الجنة عبد أدَّى حق الله وحق مواليه". رواه البيهقي، وبإدريس: فإنه أدخل الجنة بعد موته, وهو فيها كما ورد، وأجيب بأن دخوله -صلى الله عليه وسلم- يتعدد، فالدخول الأوّل لا يتقدمه ولا يشاركه فيه أحد, ويتخلل بينه وبين ما بعده دخول غيره، وقد روى ابن منده في حديث، أنه كرر الدخول أربع مرات، وأمَّا إدريس فلا يرد؛ لأن المراد الدخول التام يوم القيامة, وإدريس يحضر الموقف للسؤال عن التبليغ، هذا أظهر الأجوبة, ويأتي بعضها.
"وعن أبي سعيد" الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" وفي أولاده من هو أفضل منه, وذلك يستلزم سيادته على آدم يوم القيامة, "ولا فخر" لا عظمة, "وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر, وما من نبي آدم" بالرفع- بدل من محل نبي المجرور لفظًا بمن الزائدة, "فمن سواه إلّا تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشق عنه الأرض ولا فخر" تقدَّم شرح هذا كله, قال: "فيفزع الناس ثلاث فزعات" من زفرات جهنم.
روى أبو نعيم عن كعب، قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فنزلت الملائكة فصاروا صفًّا، فيقول الله لجبريل: أئت بجهنم فيأتي بها تقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها افئدة الخلائق,(12/378)
جدعان: قال أنس: كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد، فيفتحون لي, ويرحبون بي, فيقولون: مرحبًا، فآخِرّ ساجدًا, فيلهمني الله من الثناء والحمد، فيقال: ارفع رأسك". الحديث. رواه الترمذي وقال: حسن.
وفي حديث سلمان: "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب، فيقرع الباب فيقال: من هذا؟ فيقول: محمد، فيفتح".
__________
ثم زفرت زفرة ثانية, فلا يبقى ملك مقرَّب ولا نبي مرسَل إلّا جثا لركبتيه، ثم تزفر الثالثة فتبلغ القلوب الحناجر وتذهب العقول" الحديث, "فيأتون آدم" فذكر الحديث في إتيانهم الأنبياء الخمسة, "إلى أن قال: "فيأتوني فأنطلق معهم".
"قال ابن جدعان" بضم الجيم وسكون الدال وعين مهملتين- عليّ بن زيد بن عبد الله بن زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي، نزل البصرة وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان, ينسب أبوه إلى جده الأعلى، ضعيف, مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقيل: قبلها -كما في التقريب.
"قال أنس" بن مالك: " كأني انظر" حال تحديثي بذلك "إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" إشارة إلى تحقق ما أخبر به, واستحضاره ونفي الشك عنه "قال:" أي قائلًا: "فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقها" أي: أدق عليها فتصوت، إلى هنا ما رواه عن أنس -كما أفاده السيوطي, ثم عاد إلى حديث أبي سعيد "فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد" بالبناء للمفعول فيهما للعلم به, "فيفتحون لي" لا يعارضه ما مر أن الذي يفتح رضوان, الجواز أنه لما يقوم للفتح تبعه جنده؛ لأنهم في خدمته, وهو كالملك عليهم, "ويرحبون بي فيقولون" كلهم "مرحبًا" زيادة في تعظيم المصطفى؛ إذ رحبوا به أجمعون, "فأخِرّ ساجدًا فيلهمني الله من الثناء والحمد" ما لا أقدر عليه الآن, "فيقال: ارفع رأسك...." الحديث" تمامه: "وسل تعط، واشفع تشفع، وقل يسمع لقولك" وهو المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] .
"رواه الترمذي وقال حسن", ورواه ابن خزيمة أيضًا, "وفي حديث سلمان الفارسي: "فيأخذ بحلقة الباب وهي من ذهب" يخالفه ما لأبي يعلى عن أنس، رفعه: "أقرع باب الجنة, فيفتح لي باب من ذهب وحلقة من فضة" ويمكن الجمع بأنَّ كونها من فضة حكم على المجموع، فلا ينافي أن حلقة منها ذهب, أو أنها لمجاورتها للذهب سمَّاها اسمه مجازًا, "فيقرع" يدق -صلى الله عليه وسلم "الباب، فيقال" أي: يقول الخازن "من هذا؟ فيقول" عليه السلام "محمد، فيفتح الباب".(12/379)
وفي حديث الصور: إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول، فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم محمد -صلى الله عليه وسلم, كما فعلوا عند العرصات, عند استشفاعهم إلى الله -عز وجل في فصل القضاء؛ ليظهر شرف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم في المواطن كلها.
وروى أبو هريرة مرفوعًا: "أنا أول من يفتح له باب الجنة، إلّا أن امرأة تبادرني فأقول لها: مالك؟ أو ما أنت؟ فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" رواه أبو
__________
"وفي حديث الصور" إضافةً لأدنى ملابسة لذكره فيه, وهو حديث طويل نحو أربع ورقات, عن أبي هريرة مرفوعًا, وهو أول حديث في البدور وعزاه لجماعة، وقال: اختلف في تصحيحه وتضعيفه، فصحَّحه ابن العربي والقرطبي ومغلطاي, وضعَّفه البيهقي وعبد الحق, وصوبهما الحافظ ابن حجر, "إن المؤمنين إذا انتهوا إلى باب الجنة تشاوروا فيمن يستأذن لهم في الدخول" ولفظه: "فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة قالوا: من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة، فيقولون: من أحق من أبيكم آدم" , "فيقصدون آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى, وكلٌّ يقول: ما أنا بصاحب ذلك وذكر ذنبًا" , "إلّا عيسى فيقول: ما أنا بصاحبكم, ولكن عليكم بمحمد -صلى الله عليه وسلم" , "ثم محمدًا" قال "صلى الله عليه وسلم: "فيأتوني, فأنطلق فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب, ثم استفتح فيفتح لي، فأحيي ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدًا، فيأذن الله لي في حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول: ارفع رأسك, واشفع تشفع, وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله وهو أعلم: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة, فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة, فيقول: قد شفعتك فيهم وأذنت لهم في دخول الجنة" , "كما فعلوا عند العرصات عند استشفاعهم إلى الله -عز وجل- في فصل القضاء" وهي مذكورة قبل ذلك في نفس هذا الحديث بلفظ: "فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه، فيأبى ويقول: ما أنا بصاحب ذلك, فيأتون الأنبياء نبيًّا نبيًّا, كلما جاءوا نبيًّا يأبى عليهم حتى يأتوني, فأنطلق معهم حتى الفحص قدام العرش، فأخِرّ ساجدًا, حتى يبعث الله ملكًا فيأخذ بعضدي، فيقول لي: يا محمد فأقول: نعم يا رب, فيقول: ما شأنك؟ وهو أعلم، فأقول: يا رب, وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك, فاقض بينهم, فيقول: قد شفعتك, آتيكم فأقضي بينكم" , "ليظهر شرف نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر البشر كلهم في المواطن كلها".
وروى أبو هريرة مرفوعًا أي: قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل من يفتح له باب الجنة" أي: لا يتقدم على أحد في فتحه "إلّا أن امرأة تبادرني" تسابقني, "فأقول لها: ما لك؟ أو ما أنت" شكَّ الراوي, وعبَّر بما لأنه سؤال عن الصفة، أي: ما الصفة التي أوجبت لك أن تبادريني.(12/380)
يعلى، ورواته لا بأس بهم, قال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله.
وقوله: "تبادرني" أي: لتدخل معي أو لتدخل في أثري، ويشهد له حديث: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال بأصبعيه السبابة والوسطى. رواه البخاري من حديث سهل بن سعد. قال ابن بطال، حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلي الله عليه وسلم- في الجنة، ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك، انتهى. ويحتمل أن يكون المراد قرب المنزلة حالة دخوله الجنة كما في الحديث قبله.
__________
وفي نسخة: أو من أنت, "فتقول: أنا امرأة قعدت على يتامى" لي، وفي البدور: على أيتامي, لكنه قال: رواه أبو يعلى والأصفهاني، فلعله لفظه, ولفظ أبي يعلى ما للمصنف ولا خلف بينهما كما أشرت إليه.
وفي الفتح عازيًا لأبي يعلى وحده: أنا امرأة تأيمت, "ورواته لا بأس بهم" كما قال الحافظ, "وقال المنذري: إسناده حسن إن شاء الله، وقوله: "تبادرني"، أي: لتدخل معي أو تدخل في أثري، ثم إن كانت امرأة واحدة فلعلّها قامت بأيتامها على صفة لم تتفق لغيرها، فلا يرد أن كثيرًا من النساء كذلك, وإن كان المراد جنس امرأة قعدت على يتاماها وهو مقتضى سياق المنذري في الترغيب لهذا الحديث, وقضية الحديث التالي فلا إشكال, "ويشهد له حديث: "أنا وكافل اليتيم" أي: القيم بأمره ومصالحه هبة من ماله، أو من مال اليتيم.
زاد في رواية الموطأ: له أو لغيره، وللبزار عن أبي هريرة رفعه: "من كفل يتيمًا ذا قرابة أو لا قرابة له في الجنة هكذا" وقال: "أي: أشار بإصبعيه" بالتثنية السبابة والوسطى وفرج بينهما.
"رواه البخاري من حديث سهل بن سعد" أي: فرق بينهما منشورتين مفرجًا بينهما، أي: إن الكافل معه -صلى الله عليه وسلم- في الجنة, إلّا أن درجته لا تبلغ درجته، بل تقاربها, وظاهره أن المشير هو المصطفى، وفي الموطأ رواية يحيى بن بكير, وأشار النبي -صلى الله عليه وسلم- بالسبابة والوسطى وفي أكثر الموطآت: وأشار بإصبعيه بإبهام المشير وفي مسلم: وأشار مالك بالسبابة والوسطى.
"قال ابن بطال: حق على من سمع هذا الحديث أن يعمل به؛ ليكون رفيق النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة, ولا منزلة في الجنة أفضل من ذلك. انتهى".
"ويحتمل أن يكون المراد: قرب المنزلة حاله دخوله الجنة -كما في الحديث قبله" كما قاله الحافظ وزاد: ويحتمل أن المراد مجموع الأمرين سرعة الدخول وعلوّ المنزلة.
وقد روى أبو داود عن عوف بن مالك رفعه: "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين يوم القيامة, امرأة ذات منصب وجمال حَبسَت نفسها على يتاماها حتى ماتوا أو بانوا" فهذا فيه قيد،(12/381)
ووجه التشبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم, فيكون كافلًا لهم ومرشدًا, وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل ولا دنياه, ويعلمه ويحسن أدبه.
وعن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه، قال: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا, إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا، اتخذ الله إبراهيم خليلًا، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى، كلمه تكليمًا, وقال آخر: فعيسى روح الله، وقال آخر: وآدم اصطفاه الله، فخرج عليهم فسلّم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم, إن الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك, وموسى كلمه الله وهو كذلك, وعيسى روح الله وهو كذلك, وآدم اصطفاه الله وهو كذلك, ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا
__________
وللطبراني الصغير عن جابر، قلت: يا رسول الله, مم اضرب منه يتمي؟ قال: "ما كانت ضاربًا منه ولدك غير واقٍ مالك بماله"، وزاد في رواية مالك: "حتى يستغني عنه" فيستفاد منه أن للكفالة المذكورة أمدًا. انتهى.
"ووجه التشبيه" كما نقله الحافظ عن شيخه العراقي في شرح الترمذي, بين النبي والكافل أنَّ النبي من شأنه أن يبعث إلى قوم لا يعقلون أمر دينهم, فيكون كافلًا لهم ومرشدًا لهم ومعلمًا, وكذلك كافل اليتيم يقوم بكفالة من لا يعقل أمر دينه، بل" إضراب انتقالي, "ولا دنياه, ويعلمه ويحسن أدبه" فناسب علوّ منزلته بقرب النبي -صلى الله عليه وسلم.
"وعن ابن عباس قال: جلس" قع "ناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ينتظرونه, قال" ابن عباس: فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم وهم يتذاكرون، فسمع حديثهم, فقال بعضهم: عجبًا إنَّ الله اتخذ من خلقه خليلًا" مع أنه لا نسبة بين الخالق والمخلوق, "اتخذ الله إبراهيم خليلًا", "وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى, كلمه تكليمًا، وقال آخر: فعيسى روح الله, وقال آخر: فآدم اصطفاه الله, فخرج -صلى الله عليه وسلم، فسلَّم وقال: "قد سمعت كلامكم وعجبكم, إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلًا وهو كذلك" فإنه تعالى قال: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 185] "وموسى كليم الله وهو كذلك" قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] "وعيسى روح الله وهو كذلك" في القرآن, "وآدم اصطفاه الله وهو كذلك" {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} , "ألا" بالفتح والتخفيف، أي: تنبهوا لما تعلموه مما حباني به زيادة عليهم(12/382)
حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع ولا فخر، وأنا أول من يحرك حلق الجنة فيفتح الله لي, فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر" رواه الترمذي.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أوّل الناس خروجًا إذا بعثوا, وأنا خطيبهم إذا أنصتوا، وقائدهم إذا وفدوا، وشافعهم إذا حبسوا، وأنا مبشرهم إذا يئسوا, لواء الحمد بيدي، ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد
__________
"وأنا حبيب الله ولا فخر" ولم يقل: وإني خليل الله, مع قوله في حديث آخر: "إن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا"؛ لأنه في مقام بيان ما زاد به عليهم, "وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أول شافع وأوّل مشفَّع" بشد الفاء مفتوحة، أي: مقبول الشفاعة, وذكره لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني قبل الأول، وفيه: أن غيره يشفع ويشفع, وكونه أولًا فيهما بين علوّ منزلته وتقدم هذا, "ولا فخر، وأنا أوّل من يحرك حلق الجنة" بفتح اللام- جمع حلْقة بسكونها لى غير قياس، وفي لغة بفتحها، فالجمع قياسي, "فيفتح الله لي" لا يعارضه ما مَرَّ أنَّ الفاتح رضوان؛ لأن الفاتح الحقيقي هو الله تعالى, وتولّي رضوان ذلك إنما هو بأمره وإقداره وتمكينه، ونظيره: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 39] {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} "فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين" أي: يدخلون عقبه بسرعة فكأنهم دخلوا معه، ولأبي داود عن أبي هريرة رفعه: "إن أبا بكر أوّل من يدخل الجنة" , ولأبي نعيم عن أبي هريرة مرفوعًا: "أنا أول من يدخل الجنة ولا فخر, وأول من يدخل عليَّ الجنة ابنتي فاطمة"، أي: من النساء, وأبو بكر من الرجال, فلا خلف, "ولا فخر" أي: لا أفتخر بذلك، بل بمن أعطانيه، أو أقول ذلك شكرًا لا فخرًا, وهو ادعاء العظمة والمباهاة, "وأنا أكرم الأولين والآخرين ولا فخر".
"وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس خروجًا" من القبر "إذا بعثوا" وهذا بمعنى قوله: "أنا أوّل من تنشق عنه الأرض" , "وأنا خطيبهم" المتكلم عنهم "إذا أنصتوا, وقائدهم إذا وفدوا" على ربهم, "وشافعهم إذا حبسوا" منعوا عن دخول الجنة, "وأنا مبشرهم" بقبول شفاعتي لهم عند ربهم ليريحهم "إذا أيسوا" من الناس, "لواء الحمد بيدي, ومفاتيح الجنة يومئذ بيدي" يعني: أشفع فيمن شئت، فكأنَّ المفاتيح بيدي افتح بها لمن شئت وأدخله, وأمنع من شئت، ويحتمل أنها بيده حقيقة على ظاهره, وإن كانت لا تغلق بعد أن تفتح على ما(12/383)
آدم على ربي ولا فخر، ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم اللؤلؤ المكنون" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أوّل من يدخل الجنة" رواه مسلم.
وعنه أيضًا، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولًا الجنة".
فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض, وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف، وأسبقهم إلى ظل العرش، وأسبقهم إلى فصل القضاء، وأسبقهم إلى الجواز على الصراط, وأسبقهم إلى دخول الجنة, وهي أكثر أهل الجنة.
__________
استظهر زيادة في كرامته في اليوم المشهود, "وأنا أكرم ولد آدم على ربي" ودخل آدم بالأولى؛ لأن في ولده من هو أكرم منه كإبراهيم وموسى, "ولا فخر" لا عظمة ولا مباهاة, "ويطوف عليَّ ألف خادم كأنهم" في الحسن واللطافة "اللؤلؤ المكنون" المصون في الصدف؛ لأنه فيها أحسن منه في غيرها.
وفي رواية الدارمي: "كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور" رواه الترمذي والبيهقي واللفظ له, ورواه الدارمي بنحوه, وقدَّم المصنف لفظه, قال الترمذي: حديث غريب, وهذه الألف من جملة ما أعد له، فقد روى ابن أبي الدنيا عن أنس، رفعه: "إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة من يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم".
وعنده أيضًا عن أبي هريرة قال: "إن أدنى أهل الجنة منزلةً وليس فيهم دنيء لمن يغدو ويروح عليه خمسة عشر ألف خادم, ليس منهم خادم إلّا معه طرفة ليست مع صاحبه".
"وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون" زمانًا "الأولون" أي: السابقون "يوم القيامة" في كل شيء, "ونحن أوّل من يدخل الجنة" قبل الأمم "رواه مسلم، وعنه أيضًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "نحن الآخرون الأوّلون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولًا الجنة" هذا مثل ما قبله, غايته أنه عبَّر بالناس بدل من "فهذه الأمة أسبق الأمم خروجًا من الأرض وأسبقهم إلى أعلى مكان في الموقف"؛ لأنهم يكونون على تل يومئذ كما مَرَّ في الخصائص، وفي لفظ: على كوم عالٍ وهما بمعنى، ويحتمل أن يؤخذ من قول هنا الأولون بمعنى السابقين؛ لأن العلوَّ سبق أيضًا "وأسبقهم إلى ظلّ العرش, وأسبقهم إلى فصل القضاء, وأسبقهم إلى الجواز على الصراط, وأسبقهم إلى دخول الجنة" ولمسلم من حديث حذيفة: "نحن(12/384)
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد من حديث أبي هريرة: لما نزلت الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39-40] قال -صلى الله عليه وسلم: "أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة"، قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك عن الثوري.
وفي حديث بهز بن حكيم، رفعه: "أهل الجنة عشرون ومائة صف، أنتم منها ثمانون".
وعن عمر بن الخطاب، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الجنة حُرِّمَت على
__________
الآخرون من أهل الدنيا, والأولون يوم القيامة, المقضي لهم قبل الخلائق" "وهي" أي: هذه الأمة "أكثر أهل الجنة".
"روى عبد الله ابن الإمام أحمد" بن محمد بن حنبل الشيباني, أبو عبد الرحمن البغدادي الحافظ، ابن الحافظ روى عن أبيه وابن معين وخلق، وعنه النسائي والطبراني وجماعة، قال الخطيب: كان ثقة ثبتًا فهمًا, ولد سنة ثلاث عشرة ومائتين, ومات سنة تسعين ومائتين, من حديث أبي هريرة، قال: لما نزلت هذه الآية: {ثلة} جماعة {مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 39، 40] قيل: الأولى من الأمم الماضية, والثانية من هذه الأمة، لكن ورد بسند حسن عن أبي بكر، رفعه: أنهما جميعًا من هذه الأمة، فالأولى الصحابة, والثانية ممن بعدهم، لكن يؤيد الأول أنه "قال -صلى الله عليه وسلم" مخاطبًا للحاضرين, ومن بعدهم إلى آخر الدنيا من أمة الإجابة: "أنتم ثلث أهل الجنة، أنتم نصف أهل الجنة، أنتم ثلثا أهل الجنة" يحتمل أنَّه فهم أولًا أنهم ثلث نظرًا لكثرة الأولين، ثم عدل عنه إلى النصف نظرًا إلى أن أصل التساوي في مثل هذا لقوله: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ، ثم أوحى إليه في الحال ولو بالإلهام أنهم ثلثان، فأخبر به, هذا ما ظهر لي والله أعلم.
"قال الطبراني: تفرَّد برفعه ابن المبارك" عبد الله "عن الثوري" سفيان بن سعيد "وفي حديث بهز" بفتح الموحدة وإسكان الهاء وزاي منقوطة "ابن حكيم" بفتح فكسر, ابن معاوية القشيري, صدوق, لم يلق أحدًا من الصحابة، مات في بضع وخمسين ومائة "رفعه: "أهل الجنة عشرون ومائة صف, أنتم منها ثمانون" صفًّا، فهم ثلثا أهل الجنة، وهذا رواه أحمد والترمذي وحسنه, وابن ماجه وابن حبان والحاكم وصحَّحه على شرطهما, عن بريدة بن الحصيب، قال: "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أهل الجنة عشرون ومائة صف, ثمانون منها من هذه الأمة, وأربعون من سائر الأمم".
"وروى الطبراني في الأوسط وابن النجار والدارقطني "عن عمر بن الخطاب, أن(12/385)
الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي". قال الدارقطني: غريب عن الزهري.
فإن قلت: فما تقول في الحديث الذي صححه الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فدعا بلالًا فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة، فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك أمامي"، الحديث.
أجاب عنه ابن القيم: بأنَّ تقدم بلال بين يديه -صلى الله عليه وسلم, إنما هو لأنَّه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم, فيتقدَّم دخوله بين يديه كالحاجب والخادم، قال: وقد روي في حديثٍ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث يوم القيامة
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الجنة حُرِّمَت" أي: منعت "على الأنبياء كلهم" المراد بهم ما يشمل المرسلين, "حتى أدخلها، وحُرِّمَت على الأمم حتى تدخلها أمتي" أي: إن المطيع الذي لم يعذب من أمته يدخلها قبل الطائع الذي لم يعذَّب من أمة غيره، وداخل النار من أمته يدخل الجنة قبل داخل النار من أمة غيره، فجملة أمته وتمام دخولها الجنة سابق على دخول أمة غيره، فلا يرد ما قد يتوهم أنه لا يدخل أحد من سابق الأمم الطائعين إلّا بعد خروج العاصين من الأمة المحمدية من النار، ولذا لم يؤكد بكل في الأمم بخلاف الأنبياء، وأخذ من الحديث: إن هذه الأمة يخفَّف عن عصاتها ويخرجون قبل عصاة غيرها.
"قال الدارقطني: غريب عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب, "فإن قلت:" إذا ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- أوَّل داخل على الإطلاق, "فما تقول في الحديث" أي: فما الجمع بينه وبين الحدي "الذي" رواه أحمد و"صححه الترمذي" وابن حبان والحاكم "من حديث بريدة" بموحدة- مصغَّر "ابن الحصيب" بمهملتين- مصغَّر, الأسلمي, "قال: أصبح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدعا بلالًا، فقال: "يا بلال, بم سبقتني إلى الجنة, فما دخلت الجنة قط إلّا سمعت خشخشتك" بخاءين وشينين معجمات، أي: صوتك "أمامي" بالفتح- قدَّامي، "إني دخلت البارحة الجنة, فسمعت خشخشتك أمامي" الحديث بقيته, المقصود منه هنا قوله: "إني دخلت البارحة......" إلخ.
وباقيه رؤيته قصرًا من ذهب لعمر, "أجاب عنه ابن القيم، بأن تقدم بلال بين يديه -صلى الله عليه وسلم- إنما هو لأنه كان يدعو إلى الله أولًا بالأذان، ويتقدَّم أذانه بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم القيامة وبلال بين يديه" ينادي "بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له -صلى الله عليه وسلم(12/386)
وبلال بين يديه "ينادي" بالأذان، فتقدمه بين يديه كرامة له -صلى الله عليه وسلم، وإظهارًا لشرفه وفضيلته لا سبقًا من بلال له.
وروى ابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي"، فقال أبو بكر: يا رسول الله, وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "أما إنك يا أبا بكر أوّل من يدخل الجنة من أمتي".
وقد دلَّ هذا الحديث على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم.
فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي الحكيم أبواب الجنة، كما نقله عنه القرطبي
__________
واظهارًا لشرفه وفضيلته, لا سبقًا من بلال له".
وتعقَّب هذا بأنه لا يلائم السياق؛ إذ لو كان كحاجبه لما قال له: "بم سبقتني"، فقال له بلال: ما أذَّنت قط, إلّا صليت ركعتين, وما أصابني حدث قط إلّا توضأت وصليت ركعتين، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بهذا" كما في رواية في الجامع الكبير، فالأولى في الجواب أنها رؤيا منام, ولا يرد بأن رؤيا الأنبياء حق؛ لأن معناه ليست من الشيطان, فمثل له بلال ماشيًا أمامه, إشارة إلى أنه استوجب الدخول لسبقه إلى الإسلام, وتعذيبه في الله, وأن ذلك صار أمرًا محققًا، وأَوْلَى منه ما سبق أن الدخول النبوي يتعدَّد أربع مرات.
"وروى" الحافظ أبو بكر عبد الله بن محمد "بن أبي شيبة", واسمه: إبراهيم الواسطي الكوفي, صاحب تصانيف، مات سنة خمس وثلاثين ومائتين -كما في التقريب وغيره، وتقدَّم مرارًا "من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل، فأخذ بيدي, فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي" فقا أبو بكر" الصديق: "يا رسول الله, وددت" بكسر الدال الأُولَى "أني كنت معك حتى أنظر إليه، قال -صلى الله عليه وسلم: "أما" بالفتح والتخفيف "إنك" بكسر الهمزة "يا أبا بكر, أوَّل من يدخل الجنة من أمتي" من الرجال, وفاطمة أول من يدخل من النساء -كما ورد أيضًا, فلا خلف، وما ورد من الأولية في غيرهما, فالمراد بعدهما، "فقد دلَّ هذا الحديث" وقد رواه أحمد وصحَّحَه الحاكم "على أنَّ لهذه الأمة بابًا مختصًا يدخلون منه الجنة دون سائر الأمم" تشريفًا لهم.
"فإن قلت: من أي أبواب الجنة يدخل النبي -صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: إنه قد ذكر الترمذي(12/387)
في التذكرة، فذكر باب محمد -صلى الله عليه وسلم- قال: وهو باب الرحمة، وهو باب التوبة. فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟
فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله, هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة, ومن كان من أهل الصيام دعي من باب
__________
الحكيم أبواب الجنة -كما نقله عنه القرطبي في التذكرة، فذكر باب محمد -صلى الله عليه وسلم، قال: وهو باب الرحمة, وهو باب التوبة" مناسب لكونه أرسل رحمة للعالمين, ولكونه يحب توبة أمته -عليه السلام.
فإن قلت: كم عدة أبواب الجنة؟ فاعلم أنَّ في حديث أبي هريرة عند الشيخين مرفوعًا: "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أنفق زوجين" أي: شيئين من نوع واحد من أنواع المال، وقد جاء تفسيره مرفوعًا: بعيرين شاتين حمارين درهمين، وفي رواية: فرسين نعلين، زاد في بعض طرق الحديث من ماله, "في سبيل الله" أي: في طلب ثوابه أعمَّ من الجهاد وغيره من العبادات. وقيل: المراد شيئين ولو اختلف نوعهما؛ كدينار ودرهم, ودرهم وثوب, وخف ولجام، أي: لأنَّ الزوج يطلق على الواحد المقترن بغيره, كما يطلق على الاثنين، وجوَّز التوربشتي أن يزيد الإنفاق مرة بعد أخرى.
قال الطيبي: وهو الوجه: إذا حملت التثنية على التكرير؛ لأن القصد من الإنفاق التثبيت من الأنفس بإنفاق كرائم الأموال, والمواظبة على ذلك -كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [سورة البقرة: 265] أي: ليتثبتوا ببذل المال الذي هو شقيق الروح, وبذله أشق شيء على النفس من سائر العبادات الشاقات, "دعي" وفي رواية: نودي "من أبواب الجنة, يا عبد الله, هذا خير" قال الحافظ: أي: فاضل لا بمعنى أفضل, وإن أوهمه اللفظ، ففائدته: رغبة السامع في طلب الدخول من ذلك الباب.
وفي لفظ للبخاري: "دعاه خزنة الجنة, كل خزنة باب"، أي: خزنة كل باب، أي: "فُلُ هلمَّ" بضم اللام لغة في فلان، وبه ثبتت الرواية، وقيل: ترخيمه, فاللام مفتوحة, "فمن كان من أهل الصلاة" أي: كانت أغلب أعماله وأكثرها, "دعي من باب الصلاة, ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد" , "ومن كان من أهل الصدقة" المكثرين منها "دعي من باب الصدقة". لا يتكرر مع قوله: أولًا: "من أنفق زوجين"؛ لأن الإنفاق ولو قلَّ من الخيرات العظيمة, وذلك حاصل من كل أبواب الجنة, وهذا استدعاء خاص, "ومن كان من أهل الصيام" المكثرين منه "دعي من(12/388)
الريان".
وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء, ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله, إلّا فتحت له من أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" بزيادة "من".
قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية، قال: وانتهى عددها إلى الثلاثة عشر بابًا، كذا قال:
__________
باب الريان" مشتق من الريّ، خُصَّ بذلك لما في الصوم من الصبر على ألم العطش في الهواجر.
قال الحافظ: ومعنى الحديث: إن كل عامل يدعى من باب ذلك العمل، ولأحمد وابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن أبي هريرة: "لكل عامل باب من أبواب الجنة يدعى منه بذلك العمل"، فذكر أربعة أبواب وهي ثمانية, وبقي الحج فله باب بلا شك، وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس، رواه أحمد عن الحسن مرسلًا: "إن لله بابًا في الجنة لا يدخله إلّا من عفا عن مظلمة"، والباب الأيمن الذي يدخل منه من لا حساب عليه ولا عذاب، والثامن لعلَّه باب الذكر، ففي الترمذي ما يوميء إليه, ويحتمل أنه باب العلم، ويحتمل أنَّ الأبواب التي يدعى منها أبواب من داخل أبواب الجنة الثمانية الأصلية؛ لأن الأعمال الصالحة أكثر عددًا من ثمانية، والمراد ما يتطوّع به من الأعمال المذكورة لا واجباتها؛ لكثرة من يجتمع له العمل بالواجبات بخلاف التطوعات، فقلَّ من يجتمع له العمل بجميع أنواعه، وإليه الإشارة بقوله في بقية الحديث، فقال أبو بكر: يا رسول الله, ما على من يدعى من هذه الأبواب من ضرورة, فهل يدعى أحد من هذه الأبواب كلها، قال: "نعم, وأرجو أن تكون منهم"، ولابن حبان، فقال: "أجل, وأنت هو يا أبا بكر".
"وروى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب مرفوعًا: "ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء" بإتيان فرائضه وسننه وآدابه, "ثم قال" في مسلم: ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا عبده ورسوله, إلّا فُتِحَت له من أبواب الجنة الثمانية, يدخل من أيها شاء" بزيادة من في رواية الترمذي وليست في رواية مسلم.
"قال القرطبي: وهو يدل على أنَّ أبواب الجنة أكثر من ثمانية"؛ لأن الثمانية بالرفع نائب فاعل فتحت, وجملة من أبواب الجنة حال، ومن للتبعيض، أي: فتحت له الثمانية حالة كونها بعض أبواب الجنة، فلا يرد عليه منع إفادة من للزيادة؛ لأن غايته إفادة أنه فتحت له بعض الأبواب الموصوفة بأنها ثمانية, وقد يكون هذا أقرب ليوافق رواية مسلم بدون من, وهو حديث واحد، ويحتمل أنَّ مِنْ ليست للتبعيض, بل للبيان لرواية مسلم, "قال: وانتهى عددها إلى ثلاثة عشر بابًا، كذا قال: "تبرأ منه لاحتياجه إلى توقيف؛ ولأن دليله محتمل.(12/389)
فإن قلت: أيُّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم؟
فاعلم -منحني الله وإياك التمتع بذاته القدسية في الحضرة الفردوسية- أنَّ الله تعالى قد اتخذ من الجنان دارًا اصطفاها لنفسه، وخصَّها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة جبريل, ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} .
وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره، فيمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن وهي مسكنه الذي يسكن, لا يكون معه فيها أحد إلّا
__________
فإن قلت: أيّ الجنان يسكنها النبي -صلى الله عليه وسلم, فاعلم -منحني" أعطاني "الله وإياك التمتع بذاته" رؤيته تعالى التي لا نعيم يدانيها "القدسية" الطاهرة عمَّا لا يليق بها من صفات المحدثات, ليس كمثله شيء, وفي إطلاق الذات على الله مقال, "في الحضرة الفردوسية" أعلى الجنة, "أنَّ الله تعالى قد اتّخذ من الجنان دارًا اصطفاها" اختارها "لنفسه" أي: ليسكنها خُلَّص أوليائه, ويتجلَّى لهم فيها؛ إذ هو سبحانه لا يحويه مكان "وخصَّها بالقرب من عرشه, وغرسها بيده" بقدرته من غير واسطة, والإضافة للتشريف، وإلّا فكل شيء بقدرته, "فهي سيدة" أي: أفضل "الجنان, والله يختار من كل نوع أعلاه وأفضله, كما اختار من الملائكة جبريل" بناءً على أنه أفضلهم, على ما روي عن كعب الأحبار، وقال صاحب الحبائك: الأحاديث متعارضة في أنّه الأفضل أو إسرافيل، وحديث أفضل الملائكة جبريل ضعيف "ومن البشر محمدًا -صلى الله عليه وسلم", بل هو أفضل الخلق إجماعًا {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} ما يشاء.
"وفي الطبراني من حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى" هو مصروف عن ظاهره إجماعًا، واختلف: هل يخاض في تأويله أو لا, وهو أسلم بدليل اتفاقهم على أن التأويل المعيّن لا يجب، كما قاله البيهقي: "في آخر ثلاث ساعات يبقين من الليل" أي: في الثلاث الساعات الآخرة, فلا ينافي قوله الآتي: "ثم يهبط آخر ساعة...." إلخ.
ولا قوله: "فينظر في الساعة الأولى منهنَّ في الكتاب الذي لا ينظر فيه غيره, فيمحو الله" منه "ما يشاء ويثبت" بالتخفيف والتشديد- فيه "ما يشاء" من الأحكام وغيرها, على ما يشاء من تغيير الأحوال وتصريف الأسباب, لا بمعنى تغيير حكم استقر بأمر بدا له, "ثم ينظر في الساعة الثانية" من الثلاثة نظر عطف ورحمة وإبداء نعمة "في جنة عدن, وهي مسكنه الذي(12/390)
الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون، وفيها ما لم يره أحد، ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل فيقول: ألا مستغفر يستغفرني فأغفر له، ألا سائل يسألني فأعطيه، ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له، حتى يطلع الفجر".
وفي حديثٍ أنه -صلى الله عليه وسلم- أري جنة عدن, ومنازل المرسلين منها، وأُرِيَ منازله فوق منازلهم.
وروى أبو الشيخ عن شمر بن عطية قال: خلق الله جنة الفردوس بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي.
فتأمّل هذه العناية، كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده،
__________
يسكن" من المتشابه أيضًا.
قال ابن فورك: معناه: إنها دار كرامته ومثوبته, وهي إضافة تشريف وتخصيص، كقولنا: الكعبة بيت الله, لا أنه يسكنها سكون حلول -تعالى عن ذلك، قال: وقوله: "لا يكون معه فيها أحد, إلّا الأنبياء والشهداء والصالحون والصديقون" أي: فإنهم فيها بالحلول والسكنى حقيقة, وهو تعالى معهم بالنصرة والكرامة. انتهى.
"وفيها ما لم يره أحد, ولا خطر على قلب بشر، ثم يهبط آخر ساعة من الليل" إلى السماء الدنيا -كما في بعض طرق هذا الحديث.
"فيقول: ألَا مستغفر يستغفرني فأغفر له" ذنوبه, "ألا سائل يسألني فأعطيه" مسئوله، "ألا داعٍ يدعوني فأستجيب له" دعاءه، أي: أجيبه، فليست السين للطلب, والأفعال الثلاثة بالنصب جواب الطلب, وبالرفع استئناف، وبهما قرئ: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ، واقتصر على الثلاثة؛ لأن المطلوب إمَّا رفع المضار أو جلب السار، وذلك إمَّا ديني أو دنيوي، فالاستغفار إشارة إلى الأوّل، والدعاء إشارة إلى الثاني، والسؤال إشارة إلى الثالث, "حتى يطلع الفجر" وفي بعض الروايات: الشمس, وهي شاذة.
"وفي حديث أنه" صلى الله عليه وسلم "أري جنة عدن ومنازل المرسلين منها، وأري منازله فوق منازلهم" ورفع بعضهم درجات.
"وروى أبو الشيخ عن شمر" بكسر المعجمة وإسكان الميم "ابن عطية" الأسدي الكوفي، صدوق, لم يلق أحدًا من الصحابة "قال: خلق الله جنة الفردوس" أعلى الجنة ووسطها كما في حديث مرفوع "بيده، فهو يفتحها كل يوم خمس مرات" لعلّها عند أوقات الصلوات الخمس, "فيقول: ازدادي طيبًا لأوليائي، ازدادي حسنًا لأوليائي. فتأمّل هذه العناية" بكسر العين- كيف جعل الجنة التي غرسها بيده لمن خلقه بيده, ولأفضل بريته: خليقته.(12/391)
ولأفضل بريته اعتناءً وتشريفًا، وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه، وتمييزه بذلك عن غيره.
وروى الدارمي عن عبد الله بن الحارث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده، خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده, وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي, لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" وفيه أبو معشر نجيح بن عبد الرحمن تُكُلِّمَ فيه.
وروى الدارمي أيضًا، عن عبد الله بن عمر قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم وعدن وآدم -عليه السلام، ثم قال لسائر الخلق: كن فكان".
__________
اعتناءً وتشريفًا وإظهارًا لفضل ما خلقه بيده وشرفه, وتمييزه بذلك عن غيره".
"وروى الدارمي" وابن أبي الدنيا "عن عبد الله" بن عبد الله بن الحارث" بن نوفل -كما في رواية ابن منده, فنسبه إلى جَدِّه, وذكره في التقريب فيمن وافق اسمه اسم أبيه, ونوفل ابن الحارث بن عبد المطلب الهاشمي, تابعي ثقة، مات سنة تسع وتسعين، فالحديث مرسل "قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "خلق الله ثلاثة أشياء بيده" أي: بصفة خاصة وعناية تامة، فإن الإنسان لا يضع يده في أمر إلّا إذا كان له به عناية شديدة، فأطلق اللازم وهو اليد, وأراد الملزوم وهو العناية مجازًا؛ لأن اليد بمعنى الجارحة محال على الله تعالى, "خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده, وغرس الفردوس بيده، ثم قال: وعزَّتي وجلالي, لا يدخلها مدمن خمر ولا الديوث" بفتح المهملة وشد التحتية ومثلثة.
زاد في رواية ابن أبي الدنيا، قالوا: يا رسول الله, وما الديوث؟ قال: "الذي يقر السوء في أهله" وفيه أبو معشر نجيح -بفتح النون وكسر الجيم وسكون التحتية وحاء مهملة- ابن عبد الرحمن" السندي -بكر المهملة وإسكان النون- مولى بني هاشم, مشهور بكنيته "تكلِّمَ فيه" بالضعف, وأنه أسن واختلط، مات سنة سبعين ومائة، لكن له شواهد عن أنس مرفوعًا "إن الله بنى الفردوس بيده, وحظرها على كل مشرك وكل مدمن خمر".
رواه البيهقي, وعنده أيضًا عن كعب: "إن الله خلق الجنة بيده, وكتب التوراة بيده, وخلق آدم بيده" ومن شواهده قوله: "وروى الدارمي أيضًا" وأبو الشيخ في العظمة "عن عبد الله بن عمر، قال: "خلق الله أربعة أشياء بيده: العرش والقلم والعلم وعدن وآدم، ثم قال لسائر الخلق كن فكان" وهذا موقوف له حكم الرفع، والطبراني عن ابن عباس رفعه: "خلق الله جنة عدن بيده, ودلَّى فيها ثمارها, وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال لها: تكلمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون،(12/392)
وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إن الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده.
فجنة عدن أعلى الجنان وسيدتها, وهي قصبة الجنة، وفيها الكثيب الذي تقع فيه الرؤية، وعليه تدور ثمانية أسوار, بين كل سورين جنة، فالتي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس، وأصله البستان، وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها, ثم جنة الخلد، ثم جنة النعيم، ثم جنة المأوى، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة. وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء، ثم دار السلام؛ لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة.
واعلم أن للجنة أسماء عديدة, وكلها باعتبار صفاتها، ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها،
__________
فقال: وعزَّتي وجلالي, لا يجاورني فيك بخيل" , "وعنده أيضًا عن ميسرة قال: إنَّ الله لم يمس شيئًا من خلقه غير ثلاث: خلق آدم بيده, وكتب التوراة بيده, وغرس جنة عدن بيده، فجنة عدن أعلى الجنان" وبذلك سميت في قوله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [الزمر: 71] وسيدتها" أي: أفضلها "وهي قصبة الجنة" أي: وسطها, "وفيها الكثيب" بمثلثة "الذي تقع فيه الرؤية" لله تعالى, "وعليها تدور ثمانية أسوار, بين كل سورين جنة، فـ" الجنة "التي تلي جنة عدن من الجنان جنة الفردوس" {كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] وأصله" لغةً "البستان" يذكَّر ويؤنَّث.
قال ابن الأنباري: فيه كروم، قال الفراء، هو عربي مشتق من الفردسة وهي السعة، وقيل: منقول من الرومية إلى العربية, "وهي أوسط الجنان التي دون جنة عدن وأفضلها" في جزمه، أنَّ جنة عدن أفضل من جنة الفردوس, نظر؛ لأنه خلاف ما في الصحيحين مرفوعًا: "إنَّ في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار الجنة"، والمراد بوسط الجنة: خيارها وأفضلها, "ثم جنة الخلد {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْد} [فصلت: 8] ثم جنة النعيم {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] ثم جنة المأوي {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] ، وهي التي يأوي إليها جبريل وميكائيل والملائكة".
"وعن مقاتل: تأوي إليها أرواح الشهداء, ثم دار السلام" {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الأنعام: 127] لأنها دار السلامة من كل مكروه، ثم دار المقامة" بضم الميم- {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 35] فهذه سبع جنان مذكورة في القرآن كما علم "واعلم أنَّ للجنة أسماء عديدة" منها هذه السبع, ودار الله, ودار(12/393)
فهي مترادفة من هذا الوجه، ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنَّة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين، وهذه اللفظة مشتَقَّة من الستر، ومنه سمي البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا، كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة لما قُتِلَ ببدر، وقد قالت: يا رسول الله, ألا تحدثني عن حارثة، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه، فقال: "يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]
__________
الإقامة, والمقامة الأمين, ومقعد صدق, وقدم صدق, والحيوان, وغير ذلك, "وكلها باعتبار صفاتها ومسمَّاها واحد باعتبار ذاتها، كأسماء الله, وأسماء رسوله -كما في حادي الأرواح, فهي مترادفة من هذا الوجه, ومختلفة باعتبار صفاتها، فاسم الجنة هو الاسم العام المتناول لتلك الذوات، وما اشتملت عليه من أنواع النعيم والسرور وقرة العين" فرحها "وهذه اللفظة" أي: الجنة "مشتَقَّة من الجن، أي: الستر، ومنه سُمِّيَ البستان جنة؛ لأنه يستر داخله بالأشجار، والجنان كثيرة جدًّا كما قال -صلى الله عليه وسلم- لأم حارثة" بن سراقة الأنصاري, واسم أمه: الربيع بنت النضر, عَمَّة أنس بن مالك "لما قتل يوم بدر" رماه ابن العرقة بسهم وهو يشرب من الحوض فقتله.
"وقد قالت: يا رسول الله, ألا تحدثني عن حارثة, فإن كان في الجنة صبرت, وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء عليه" ومقول القول: "يا أم حارثة: إنها جنان" أي: درجات في الجنة, "وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى" وهذا الحديث رواه البخاري في الجهاد, عن أنس بلفظ المصنف, وضمير إنها مبهم يفسره ما بعده، كقولهم: هي العرب تقول ما تشاء، والمراد بذلك التفخيم والتعظيم.
ورواه في المغازي: والرقاق عن أنس بلفظ: أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام, فجاءت أمه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله, قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يكن في الجنة أصبر وأحتسب، وإن يكن الأخرى ترى ما أصنع, فقال: "ويحك, أوهبلت, أوجنة واحدة, إنها جنان كثيرة, وإنه في الفردوس الأعلى" وقال تعالى: {لِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} قيامه بين يديه للحساب بترك معصيته
روى الحافظ أبو الغنائم الترسي في كتابه أنس العاقل وتذكرة الغافل, عن أم سلمة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا وصيفة له فأبطأت عليه، فقال لها: "لولا خوف الله يوم القيامة لأوجعتك بهذا السواك"، وروي فيه أيضًا عن مجاهد في الآية، قال: "هو الذي يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها" "جنتان" جنة للخائف الأنسي, والأخرى للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين، والمعنى: لكل(12/394)
فذكرهما ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] أي: فهذه أربع، وقال -صلى الله عليه وسلم: "جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما, وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري.
وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة.
اختصاص إلهيّ, وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها أهل الفترات، ومن لم تصل إليه دعوة رسول.
__________
خائفين منكما، أو لكلّ واحد جنة لعقيدته، والأخرى لعمله، أو جنة لفعل الطاعات وأخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها, وأخرى يتفضل بها عليه, وروحانية وجسمانية "فذكرهما ثم قال: ومن دونهما" أي: الجنتين الموعودتين للخائفين المقربين "جنتان" لمن دونهم من أصحاب اليمين.
كذا في البيضاوي: "فهذه أربع", وفي كل جنة درجات ومنازل وأبواب, وكلها تتصف بالمأوى والخلد وعدن والسلام، ولذا اختار الحليمي أنَّ الجنان أربع لهذه الآية، والحديث وهو: "وقال -عليه السلام: "جنتان" مبتدأ "من فضة" خبر قوله: "آنيتهما وما فيهما" عطف عليه, وحذف متعلق من فضة، أي: آنيتهما كائنة من فضة, والجملة خبر جنتان, "وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما" بإعراب سابقه.
وللبيهقي عن أبي موسى رفعه: "جنتان من ذهب للسابقين, وجنتان من ورق لأصحاب اليمين"، وله ولأحمد والطيالسي, عن أبي موسى, عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "جنات الفردوس أربع: جنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما, وجنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما" رواه الشيخان من حديث أبي موسى الأشعري: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "جنتان من فضة" فذكره بتقديم الفضة كما سقته، ويقع في كثير من نسخ المصنف بتقديم الذهب, وهو خلاف ما في الصحيحين.
وإن كان رواته في غيرهما، وبقية الحديث عند الشيخين وغيرهما: "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن"، وقوله: "في جنة عدن" ظرف للقوم, أو نصب حالًا منهم.
قال البيهقي: رداء الكبرياء استعارة لصفة الكبرياء والعظماء؛ لأنه بكبريائه لا يراه أحد من خلقه إلّا بإذنه، ويؤيده أنَّ الكبرياء ليس من جنس الثياب المحسوسة, "وقد قسَّم بعضهم الجنان بالنسبة إلى الداخلين فيها ثلاثة: جنة اختصاص إلهيّ" أي: خصَّ الله بها هؤلاء الذين لا عمل لهم, وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، ومن أهلها" أيضًا "أهل الفترات" جمع فترة, بين الرسل, "ومن لم تصل إليه دعوة رسول، والجنة الثانية: جنة ميراث ينالها كل(12/395)
والجنة الثانية: جنة ميراث، ينالها كل من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها.
والجنة الثالثة: جنة الأعمال، وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر, وسواء كان الفاضل دون المفضول أو لم يكن، غير أنَّ فضله في هذا المقام لهذه الحالة، فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة. ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم, قال -صلى الله عليه وسلم: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة" الحديث. فعلم أنها كانت جنة مخصوصة، فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير ولا ترك محرم إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص، يناله من دخلها، وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات, فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك.
فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنات بالأعمال, وأمَّا الدخول فلا يكون إلّا برحمة الله تعالى، كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة، أن
__________
من دخل الجنة من المؤمنين، وهي الأماكن التي كانت معينة لأهل النار لو دخلوها" لو آمنوا وماتوا عليه, "والجنة الثالثة جنة الأعمال وهي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم، فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر, وسواء كان الفضل دون المفضول, أو لم يكن, غير أنَّ فضله في هذا المقام بهذه الحالة, ولا يلزم منه الفضل المطلق, "فما من عمل من الأعمال إلّا وله جنة, ويقع التفاضل فيها بين أصحابها بحسب ما تقتضي أحوالهم".
"قال -صلى الله عليه وسلم: "يا بلال, بم سبقتني إلى الجنة...." الحديث السابق قريبًا, "فعلم أنها" أي: الجنة التي سبقه بلال إليها "كانت جنة مخصوصة", فما من فريضة ولا نافلة ولا فعل خير" زيادة إطناب؛ إذ هو لا ينفك عن أحدهما, "ولا ترك محرم" داخل في الفريضة "إلّا وله جنة مخصوصة ونعيم خاص يناله من دخلها".
"وقد يجمع الواحد من الناس في الزمان الواحد أعمالًا من العبادات, فيؤجر في الزمان الواحد من وجوه كثيرة، فيفضل غيره ممن ليس كذلك" مثاله: معتكف صائم صلى الضحى مثلًا وتصدَّق بدينار أو رغيف ناوله لمن يجنبه، أو أشار إليه بأخذه وهو يصلي.
:فقد تبيِّن أن نيل المنازل والدرجات في الجنان بالأعمال، وأمَّا الدخول فلا يكون(12/396)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يدخل الجنة أحد بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني الله برحمته" أي: يلبسنيها ويسترني بها، مأخوذ من غمد السيف وهو غلافه.
وعند الإمام أحمد بإسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري: "لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني الله برحمته"، وقال: بيده فوق رأسه، يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها, وإن كان سببًا، ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزحرف: 72] ونفى -صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين، لما ذكره سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون: النجاة من النار
__________
إلّا برحمة الله تعالى" التي وسعت كل شيء في الدنيا, وخصّ بها في الآخرة المتقين الكفر بالإيمان.
"كما في البخاري ومسلم من حديث عائشة: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لن يدخل أحد الجنة بعمله" لما كان أجره -صلى الله عليه وسلم- في الطاعة أعظم, وعمله في العبادة أقوم "قالوا: ولا أنت يا رسول الله" لا تدخلها بعملك مع عظم قدرك, "قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني" بغين معجمة "الله برحمته" استثناء منقطع، ويحتمل اتصاله من قبيل قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي: يلبسنيها ويسترني بها" تفسير لتغمدني, "مأخوذ من غمد السيف" بكسر المعجمة وسكون الميم- وهو غلافه -بمعجمة وفاء- قرابه.
وعند الإمام أحمد بإسناد حسن من حديث أبي سعيد" الخدري مرفوعًا: "لن يدخل الجنة أحد إلّا برحمة الله"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله, قال: "ولا أنا, إلّا أن يتغمدني" يسترني "الله برحمته" وقال بيده" أي: وضعها "فوق رأسه" كأنَّه إشارة إلى أنَّه يتغمده ويستره كله، وفيه: إن العامل لا يتَّكِلُ على عمله في طلب النجاة ونيل الدرجات؛ لأنه إنما عمل بتوفيق الله، وإنما ترك المعصية بعصمة الله، فكل ذلك بفضله ورحمته, "يعني: إن الجنة إنما تدخل برحمة الله, وليس عمل العبد سببًا مستقلًّا بدخولها, وإن كان سببًا" في الجملة, "ولهذا أثبت الله دخولها بالأعمال في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] ونفى -صلى الله عليه وسلم- دخولها بالأعمال في قوله: "لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله" ولا تنافي بين الأمرين الإثبات والنفي, "لما ذكر سفيان وغيره، قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله, ودخول الجنة برحمة الله, واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال, وهذا قالوه: {إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}(12/397)
بعفو الله، ودخول الجنة برحمة الله، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال، ويدل له حديث أبي هريرة: "إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم" رواه الترمذي.
قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة بحسب تفاوت الأعمال، ومحل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها, ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال. وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون، وليس المراد بذلك أصل الدخول.
ثم قال: ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر، والتقدير: ادخلوها بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته؛ حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك، ولا يخلو
__________
جمعًا بين الآية والحديث، وأيده في البدور بما رواه هنا، وفي الزهد عن ابن مسعود، قال: تجوزون الصراط بعفو الله, وتدخلون الجنة برحمة الله, وتقتسمون المنازل بأعمالكم.
"ويدل له" أي: لهذا الذي قالوه "حديث أبي هريرة" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة إذا دخلوها" برحمة الله "نزلوا فيها" المنازل "بفضل" أي: زيادة "أعمالهم".
"رواه الترمذي" وابن ماجه في مبدأ حديث طويل, "قال ابن بطال: مجمل الآية على أنَّ الجنة تنال المنازل فيها بالأعمال، فإن درجات الجنة متفاوتة" في العلوِّ "بحسب تفاوت الأعمال, ومحمل الحديث على دخول الجنة والخلود فيها" فلا تعارض بينهما, "ثم أورد على هذا الجواب قوله تعالى" في سورة النحل: يقولون {سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فصرَّح بأن دخول الجنة أيضًا بالأعمال، وأجاب بأنه لفظ مجمل بينه الحديث، والتقدير: ادخلوا منازل الجنة وقصورها بما كنتم تعملون" ففيه تقدير مضاف بدليل الحديث, "وليس المراد بذلك أصل الدخول" فلا تعارض بينهما, "ثم قال" ابن بطال: "ويجوز أن يكون الحديث مفسرًا للآية على وجه آخر"؛ إذ ما قبله تفسير لها أيضًا؛ إذ لولاه ما جاز تقدير المضاف، "والتقدير: ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون مع رحمة الله لكم وتفضله عليكم" على طريقة الاكتفاء أو حذف الصفة؛ لأن اقتسام منازل الجنة برحمة الله، وكذا أصل دخول الجنة برحمته، حيث ألهم العاملين ما نالوا به ذلك" المذكور، ولا يخلو شيء من مجازاته(12/398)
شيء من مجازاته لعباده من رحمته وفضله، وقد تفضَّل الله عليهم ابتداءً بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم.
وأشار إلى نحوه القاضي عياض فقال: وإنَّ من رحمة الله توفيقه للعمل، وهدايته للطاعة، وكل ذلك لم يستحق العامل بعمله، وإنِّما هو بفضل الله ورحمته.
وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن "الباء" التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره، وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله، و"الباء" التي نفت الدخول هي باء المعاوضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر، نحو: اشتريت منه بكذا، فأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد، وأنَّه لولا رحمة الله لعبده لما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده -ولو تناهي- لا يوجب بمجرده دخول الجنة، ولا يكون عوضًا لها؛ لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله، لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي نعمة واحدة, فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها،
__________
لعباده من رحمته وفضله"؛ إذ لولا توفيقه لهم للأعمال وبيانها لهم ما عملوها، كما أفاده بقوله: "وقد تفضل الله عليهم ابتداء بإيجادهم، ثم برزقهم، ثم بتعليمهم" الأحكام الشرعية: واجباتها ومندوباتها المسببة لرفع المنازل.
"وأشار إلى نحوه القاضي عياض، فقال: وإن من رحمة الله توفيقه للعمل وهدايته للطاعة, وكل ذلك لم يستحقه العامل بعمله, وإنما هو بفضل الله ورحمته، وقال غيره: لا تنافي بين ما في الآية والحديث؛ لأن الباء التي أثبتت الدخول هي باء السببية التي تقتضي سببية ما دخلت عليه لغيره, وإن لم يكن مستقلًّا بحصوله" بل مع رحمة الله وتوفيقه للعمل وقبوله, لا بمجرده "والباء التي نفت الدخول هي باء المعارضة التي يكون فيها أحد العوضين مقابلًا للآخر, نحو: اشتريت منه بكذا" تمثيل لباء المعارضة, "فأخبر" صلى الله عليه وسلم "أنَّ دخول الجنة ليس في مقابلة عمل أحد, وأنه لولا رحمة الله بعبده ما أدخله الجنة؛ لأن العمل بمجرده ولو تناهى" بلغ النهاية، أي: الغاية "لا يوجب بمجرده دخول الجنة, ولا يكون عوضًا لها" فكأنه قيل: لن يدخل أحد الجنة عوضًا عن عمله؛ "لأنه لو وقع على الوجه الذي يحبه الله لا يقاوم نعمة الله، بل جميع العمل لا يوازي" لا يقابل "نعمة واحدة" من نعم الله تعالى, "فلو طالبه بحقه لبقيت عليه من الشكر على تلك النعمة بقية لم يقم بها؛ لأن نفس الشكر على النعمة نعمة تستدعي(12/399)
فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم، كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه.
وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة للحكمة, والتعليل القائلين بأنَّ القيام للعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر، من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش ولا معاد، ولا لنجاة المتعقدين أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء والتبريد.
والقدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل, والقائلين بأنَّ العبادات شرعت أثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وإنما هي بمنزلة استيفاء الأجير أجرته، محتجِّين بأن الله تعالى يجعلها عوضًا عن العمل، كما في قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله -صلى الله عليه وسلم- حاكيًا عن ربه تعالى: "يا عبادي،
__________
شكرًا وهكذا إلى غير نهاية, "فلذلك لو عذّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا من أعمالهم كما في حديث أُبَيّ بن كعب عند أبي داود وابن ماجه" وصحَّحه ابن حبان، كلهم عن أُبَيّ وحذيفة وابن مسعود موقوفًا، وزيد بن ثابت مرفوعًا, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيرًا من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهبًا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك, ولو مت على غير هذا لدخلت النار".
ورواه أحمد أيضًا "وهذا فصل الخطاب مع الجبرية النفاة" جمع نافٍ كرام ورماة وقاض وقضاة, "للحكمة والتعليل" وأنَّ العبد المجبور على جميع ما فعل القائلين بأنَّ القيام بالعبادة ليس إلّا لمجرد الأمر" من الله بها من غير أن يكون سببًا للسعادة في معاش" للدنيا, "ولا معاد" للأخرى, "ولا" سببًا "لنجاة المعتقدين" أنَّ النار ليست سببًا للإحراق، وأنَّ الماء ليس سببًا للإرواء" للظمأ "والتبريد" للحر إذا صب على الجسد مثلا بلا شرب "و" فصل النزاع أيضًا "مع القدرية الذين ينفون نوعًا من الحكمة والتعليل, والقائلين بأن العبادات شرعت اثمانًا لما يناله العباد من الثواب والنعيم، وأنهما" أي: الثواب والنعيم.
وفي نسخة: وإنها بالإفراد, أي: العبادات, وفي أخرى: وإنما هي، أي: العبادات "بمنزلة استيفاء الأجير أجرته, محتَجِّين بأنَّ الله تعالى يجعلها عوضًا" عن العمل كما "في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وبقوله -عليه السلام- حاكيًا عن ربه تعالى: "يا(12/400)
إنما هي أعمالكم أحصيها لكم, ثم أوفيكم إياها".
وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشد التقابل، وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل الأعمال ارتباطًا بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك بمحض الأعمال وثمنًا لها, والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر الله عليه عباده، وجاءت به رسله، ونزلت به كتبه، وهو: أنَّ الأعمال أسباب موصلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها، وأنَّ الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته, وصدقته على عبده أن أعانه عليها ووفقه لها، وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها، وحببها إليه وزينها في قلبه، وكرّه إليه أضدادها، ومع هذا فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى إن قبلها سبحانه، ولهذا نفى -صلى الله عليه وسلم- دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأن الجزاء بمحض الأعمال وثمنًا لها، وأثبت -سبحانه وتعالى- دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية
__________
عبادي, إنما هي أعمالكم أحصيها" أضبطها لكم بعلمي وملائكتي؛ ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه، وقد يضم لذلك شهادة الأعضاء زيادة في العدل, {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} "ثم أوفيكم إياها" وهذا قطعة من آخر حديث طويل في مسلم وغيره, "وهؤلاء الطائفتان متقابلتان أشدَّ التقابل, وبينهما أعظم التباين، فالجبرية لم تجعل للأعمال ارتباطًا" تعلقًا "بالجزاء البتة، والقدرية جعلت ذلك كله بمحض الأعمال وثمنًا لها, والطائفتان جائرتان منحرفتان عن الصراط المستقيم الذي فطر" خلق "الله عليه عباده" وطبعهم عليه, "وجاءت به رسله, ونزلت به كتبه، وهو أنَّ الأعمال أسباب موصَّلة إلى الثواب والعقاب، مقتضيات لهما كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها, وأن الأعمال الصالحة من توفيق الله تعالى ومنته, وصدقته علي عبده أن أعانه عليها ووفقه لها, وخلق فيه إرادتها والقدرة عليها, وحببها إليه وزيِّنَها" حسَّنها "في قلبه" كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] وكرَّه إليه أضدادها {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ، فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7] ومع هذا, فليست ثمنًا لجزائه وثوابه، بل غايتها أن تكون شكرًا له تعالى" لأجل "إنْ قَبِلَها سبحانه"؛ إذ لو شاء لم يقبلها, "ولهذا نفى -عليه السلام- دخول الجنة بالعمل ردًّا على القدرية القائلين بأنَّ الجزء بمحض الأعمال وثمنًا لها" بناء على أصلهم الفاسد أنَّ العبد يخلق أفعال نفسه.
قال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله, ولا كما قال النبيون, ولا كما قال أصحاب الجنة, ولا كما قال أصحاب النار, ولا كما قال أخوهم إبليس.(12/401)
الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء, فتبيِّنَ أنه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي والإثبات ليس على معنى واحد، فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال، وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها, ردًّا على القدرية, والمثبت الدخول بسبب العمل ردًّا على الجبرية، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كان كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى، وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه، وعلى هذا: فمعنى قوله {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول، ولا يضر مع هذا أنْ تكون "الباء" للمصاحبة, أو للإلصاق, أو للمقابلة، ولا يلزم من
__________
قال الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} ، وقال أصحاب الجنة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَن هَدَانَا اللَّهُ} ، وقال أصحاب النار: {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ، وقال إبليس: {رب بما أغويتني} .
أخرجه الزبير بن بكار "وأثبت -سبحانه وتعالى- دخول الجنة بالعمل ردًّا على الجبرية الذين لم يجعلوا للأعمال ارتباطًا بالجزاء" على أصلهم الفاسد، أنَّ العبد مجبور على الفعل, لا ينسب إليه منه شيء، فلا يثاب على طاعة, ولا يعاقب على معصية, وهذا هدم للشريعة, وإبطال للآيات والأحاديث الكثيرة، وقد تشبشوا بنحو قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وتقدَّم الرد عليهم في غزوة بدر, "فتبيِّن أنَّه لا تنافي بينهما؛ إذ توارد النفي" في الحديث, والإثبات في الآيتين, ليس على معنى واحد حتى يحصل التنافي, فالمنفي استحقاقها بمجرد الأعمال, وكون الأعمال ثمنًا وعوضًا لها ردًّا على القدرية, والمثبت الدخول بسبب العمل مع رحمة الله وفضله وتوفيقه إليه وقبوله, لا بمجرده ردًّا على الجبرية, والله يهدي من يشاء هدايته إلى صراط مستقيم, دين الإسلام.
وقال الحافظ شيخ الإسلام ابن حجر: يحمل الحديث على أنَّ العمل من حيث هو عمل لا يستفيد به العامل دخول الجنة ما لم يكن مقبولًا، وإذا كانت كذلك فأمر القبول إلى الله تعالى, وإنما يحصل برحمة الله لمن يقبل منه, وعلى هذا فمعنى قوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: تعملونه من العمل المقبول. ولا يضر مع هذا التقدير أن تكون الباء للمصاحبة" أي: مصاحبين لأعمالكم, "أو للإلصاق, أو للمقابلة" أي: المعارضة, ولا يلزم من(12/402)
ذلك أن تكون سببية.
قال: ثم رأيت النووي جزم بأنَّ ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال، والجمع بينها وبين الحديث: أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها, وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل، وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل، وهو من رحمة الله تعالى. انتهى.
وروى الدارقطني عن أبي أمامة، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "نعم الرجل أنا لشرار أمتي"، فقالوا: "فكيف؟ أنت لخيارها، فقال: "أمَّا خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم, وأما شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي" ذكره عبد الحق في العاقبة.
وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة بالكوثر -وهو على وزن فَوْعَل من الكثرة- سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته, وعظيم قدره وخيره.
__________
ذلك أن تكون سببية" فلا يخالف الحديث.
"قال" الحافظ: "ثم رأيت النووي جزم بأن ظاهر الآيات أنَّ دخول الجنة بسبب الأعمال, والجمع بينها وبين الحديث أنَّ التوفيق للأعمال والهداية للإخلاص فيها وقبولها إنما هو برحمة الله وفضله، فيصح أنه لم يدخل بمجرد العمل وهو مراد الحديث، ويصح أنه دخل بسبب العمل" كما في الآية, "وهو من رحمة الله تعالى. انتهى" كلام النووي، وعليه فالباء سببية في الآية والحديث.
"وروى الدارقطني" والطبراني وأبو نعيم "عن أبي أمامة, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم: قال: "نِعْمَ" بكسر فسكون- كلمة مدح, "الرجل أنا لشرار أمتي"، قالوا: فكيف؟ أنت لخيارها، قال: "أما خيارها فيدخلون الجنة بأعمالهم" فظاهره أنَّ الباء للسببية, فيحمل على ما مَرَّ, "وأمَّا شرار أمتي فيدخلون الجنة بشفاعتي"، ذكره عبد الحق" وللترمذي والحاكم والبيهقي عن جابر رفعه: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي".
ورواه البيهقي من حديث أنس بزيادة: "ولأهل العظائم وأهل الدماء"، وأخرجه أيضًا عن كعب بن عجرة, ومن مرسل طاوس بدون الزيادة، وقال: هذا مرسل حسن يشهد لكون هذه اللفظة شائعة فيما بين التابعين، وللطبراني عن ابن عمر مرفوعًا: "إني ادَّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي"، وله عن أم سلمة رفعته: "اعملي ولا تَتَّكِلي, فإن شفاعتي للهالكين من أمتي".
"وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- بالكوثر وهي وزن فَوْعل" مأخوذ "من الكثر" كنوفل من النفل "سُمِّيَ به هذا النهر العظيم لكثرة مائه وآنيته, وعظم قدره وخيره" والعرب تسمي كل كبير(12/403)
فقد نقل المفسرون في تفسير "الكوثر" أقوالًا تزيد على العشرة، ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب، وأَوْلَاها قول ابن عباس: إنه الخير الكثير لعمومه, لكن ثبت تخصيصه بالنهر من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم, فلا معدل عنه.
فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل, وعلى بن مسهر، كلاهما عن المختار بن فلفل, عن أنس -واللفظ لمسلم- قال: بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا في المسجد، إذا أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسمًا، قلنا:
__________
القدر والعظم كوثرًا, "فقد نقل المفسرون في تفسير الكوثر أقوالًا تزيد على العشرة" أي: تفوق بمثلها على العشرة, "ذكرت كثيرًا منها في المقصد السادس من هذا الكتاب" وقال: المشهور المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة, أو أولاده أو الخير الكثير، أو النبوة أو علماء أمته، أو الإسلام، أو كثرة الأتباع أو العلم أو الخلق الحسن, أو جميع نعم الله عليه، هذه العشرة هي التي ذكرها المصنف، ثم ذكرت هناك بقيتها: وهي الحوض الذي في القيامة, أو الشفاعة, أو المعجزات الكثيرة, أو المعرفة، أي: العلوم الخمس التي خُصَّت بها أمته, أو كثرة الأمة, ومغايرته لكثرة الأتباع بحملهم على أصحابه لكثرتهم جدًّا على اتباع غيره من الرسل, فهذه العشرة تمام العشرين، وفي الفتح: وقيل: نور القلب، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: القرآن. انتهى.
فأمَّا نور القلب فهو المعرفة، وأمَّا الفقه في الدين فهو العلم, "وأولادها" لو لم يفسره -صلى الله عليه وسلم- بخلاف قول ابن عباس" عند البخاري وغيره "أنه الخير الكثير لعمومه الشامل" لكل ما قيل, لكن ثبت تخصيصه بالنهر " الذي في الجنة من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم, فلا معدل عنه فقد روى مسلم وأبو داود والنسائي من طريق محمد بن فضيل" مصغَّر- الضبي الكوفي, من رجال الجميع, وعليّ بن مسهر" بضم الميم وسكون المهملة وكسر الهاء- القرشي، الكوفي، من رجال الكل أيضًا "كلاهما عن المختار بن فلفل" بفاءين مضمومتين ولامين أولاهما ساكنة, من رجال مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي, "عن أنس واللفظ لمسلم، قال" أنس: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا" أي: بيننا, وأظهر زائدة, وبين إنما تضاف لمتعدد، فيقدر بين كون أوقاته بيننا "في المسجد؛ إذ أغفى إغفاءة" أي: نام نومة خفيفة، قال الأبي: ويحتمل أن يراد بها إعراضه عمَّا كان فيه من حديث. انتهى.
هكذا في النسخ الصحيحة وهو الذي في مسلم، وفي بعضها: غفا بدون ألف، فيكون قوله: إغفاءة مصدرًا غير مقيس؛ إذ قياسه غفوًا "ثم رفع رأسه متبسمًا, فقلنا: ما أضحكك؟ " زاد(12/404)
ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: "أنزلت عليّ آنفًا سورة"، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} ثم قال: "أتدرون ما الكوثر" , قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "إنه نهر وعدنيه ربي -عز وجل". الحديث.
لكن فيه إطلاق الكوثر على الحوض، وقد جاء صريحًا في حديث عند
__________
في رواية: أضحك الله سنَّك "يا رسول الله".
قال الأبي: عبَّروا بالضحك عن التبسُّم منه؛ لوضوح التبسم منه -صلى الله عليه وسلم, فعبروا عنه بالضحك "قال: أنزلت عليّ آنفًا" بفتح الهمزة ممدودة ومقصورة، وبهما قرئ في السبع, وكسر النون وبالفاء، أي: قريبًا "سورة, فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم".
قال الأبي: لا دلالة فيه على أنها آية منها, ولا من كل سورة, وإنما هو في المعنى؛ كقول الشاطبي: ولا بد منها في ابتداء سورة. انتهى, يعني: أن يستحب ابتداء القراء بها في غير الصلاة اتفاقًا: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ، فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} أكَّد مع ضمير العظمة إشارة إلى عظمة المعطي والمعطى والمعطى له, وتشويقًا إليه, ونفيًا للشبهة فيه، وعبَّر بلفظ الماضي دلالة على أن الإعطاء حصل في الزمان الماضي؛ كقوله -صلى الله عليه وسلم: "كنت نبيًّا وآدم بين الروح والجسد" رواه أحمد وغيره، ولا شكَّ أن من كان في ماضي الزمان عزيزًا, مرعي الجانب, أشرف ممن يصير كذلك {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} أمر بالصلاة مطلقًا, أو التهجد بالليل، وكان الظاهر: فاشكر, فعدل عنه؛ لأن مثل هذه النعمة العظيمة ينبغي أن يكون شكرها العبادة, وأعظمها الصلاة، فأمر بأعظم العبادات بالنفس وبالمال بقوله: {وَانْحَرْ} البدن؛ لأنَّ النحر يختص بها، وفي غيرها يقال: ذبح، وإن جاز نحر البقر, وخص الشكر بالمال بها؛ لأنها كرائم أموال العرب {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغضك {هُوَ الْأَبْتَرُ} منقطع العقب، وقيل: المنقطع عن كل خير، قال في الإتقان: والأشبه أن القرآن كله نزل يقظة، وفهم فاهمون من هذا الحديث أن السورة نزلت في تلك الإغفاءة؛ لأن رؤيا الأنبياء وحي، وأجاب الرافعي بأنه خطر له في النوم سورة الكوثر المنزَّلة في اليقظة، أو عرض عليه الكوثر الذي نزلت فيه السورة، فقرأها عليهم وفسَّره لهم، أو الإغفاءة ليست نومًا، بل هي البرحاء التي كانت تعتريه عند الوحي، قلت: والأخير أصح من الأوّل، أي: وجيهه؛ لأن قوله: "أنزلت عليَّ آنفًا" يدفع كونها أنزلت قبل ذلك, ثم قال: "أتدرون ما الكوثر"، قلنا: الله ورسوله أعلم" فيه حسن أدبهم -رضي الله عنهم, "قال: "إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل...." الحديث تمامه: "في الجنة, عليه خير كثير, وهو حوضي, ترد عليه أمتي يوم القيامة, آنيته عدد النجوم، فيختلع العبد منهم، فأقول: رب إنه من أمتي، فيقال: ما تدري ما أحدث بعدك" , "لكن(12/405)
البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض. وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر إلى الحوض" وعند مسلم: "ويغت فيه" -يعني: الحوض- ميزابان يمدانه من الجنة، أحدهما من ذهب والآخر من ورق".
وقوله: "يغت" بالغين المعجمة، أي: يصب.
وفي البخاري من حديث قتادة عن أنس قال: لما عُرِجَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافَّتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر".
__________
فيه" أي: في قوله في بقية الحديث: "وهو حوضي ... " إلخ.
"إطلاق الكوثر على الحوض" باعتبار أنه ممدود منه، فكأنه قيل: هو مادة حوضي، فلا تنافي بينه وبين قوله: "نهر في الجنة" "و" يؤيد ذلك أنه "قد جاء صريحًا في حديث البخاري أنَّ الكوثر هو النهر الذي يصب في الحوض، وعند أحمد: "ويفتح نهر الكوثر" الذي في الجنة "إلى الحوض" الذي فيه الموقف.
"وعند مسلم" من حديث أبي ذر: "يغت" بمعجمة وفوقية "فيه" يعني: الحوض "ميزابان يمدَّانه" بفتح التحتية وضمها من مَدَّ وأَمَدَّ.
زاد "من الجنة: أحدهما من ذهب, والآخر من ورق" فضة, "وقوله: يغت بالغين" المعجمة مضمومة ومكسورة، كما قال النووي وغيره: "أي: يصب" وفي النهاية: أي: يدفقان فيه الماء دفقًا دائمًا متتابعًا.
وفي البخاري" في التفسير, ورواه مسلم أيضًا، كلاهما "من حديث قتادة عن أنس، قال: لما عُِرجَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء, قال: "أتيت على نهر حافَّتاه" بحاء مهملة وخفة الفاء- جانباه، لأنه ليس أخدودًا، أي: شقًّا مستطيلًا في الأرض يجري فيه الماء حتى يكون له حافتان، ولكنه سائل على وجه أرض الجنة, فما جاوز ما انتهى إليه سيلانه هو جانبه.
روى أبو نعيم وابن مردويه وصحَّحه الضياء عن أنس، رفعه: "لعلكم تظنون أنَّ أنهار الجنة أخدود في الأرض, لا والله, إنها لسائحة على وجه الأرض" , "قباب" بكسر القاف وخفة الموحدة جمع قبة، والترمذي: "حافَّتاه فيهما لؤلؤ مثل القباب"، فالمراد في جانبيه مثل قباب "اللؤلؤ المجوف" بفتح الواو مشددة صفة اللؤلؤ.
قال المصنف: ولأبي ذر: مجوفًا، أي: بالنصب حالًا من اللؤلؤ، وفي رواية للبخاري وغيره: قباب الدر المجوف، وأعربه المصنف وغيره صفة للدر, "فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر" زاد البخاري في الرقاق: "الذي أعطاك ربك، فإذا طينه مسك أذفر" بذال معجمة، أي:(12/406)
ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أُسْرِيَ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مضى به جبريل، فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فذهب يشم ترابه, فإذا هو مسك، قال: يا جبريل، ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي الذي خبَّأ لك ربك.
وروى أحمد عن أنس: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل".
وعن أبي عبيدة عن عائشة قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم في الجنة, شاطئاه عليه در مجوّف، آنيته كعدد النجوم" رواه البخاري.
وقوله: "شاطئاه" أي: حافَّتاه.
__________
شديد الرائحة الطيبة، ولأبي نعيم وغيره عن أنس، قلت: يا رسول الله, ما الأذفر؟ قال: "الذي لا خلط معه, وطينه بنون على المعتمد"، ففي رواية البيهقي: ترابه مسك.
ورواه ابن جرير عن شريك بن أبي نمر" بفتح النون وكسر الميم "قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا قال: لما أسري بالنبي -صلى الله عليه وسلم" أي: لما عُرِجَ به -كما عبَّر في البخاري في التي قبلها- ليلة الإسراء ودخل الجنة, "مضي به جبريل" فيها, "فإذا هو بنهر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد" جوهر معروف، ويقال: هو الزمرد, "فذهب يشم" بكسر الشين وضمها لغة "ترابه، فإذا هو مسك، "قال: يا جبريل ما هذا النهر؟ قال: هذا الكوثر الذي خبَّأ" -بالهمز- "لك ربك" أي ستره وادخره.
"وروى أحمد عن أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله, ما الكوثر؟ قال: "نهر في الجنة أعطانيه ربي" والله "لهو أشدّ بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل" أي: ماؤه كما عبَّر به في الرواية الآتية.
"وعن أبي عبيدة" عامر بن عبد الله بن مسعود "عن عائشة قال" أبو عبيدة: "سألتها" أي: عائشة "عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ، أي: ما المراد بالكوثر "قالت" هو نهر أعطيه نبيكم" صلى الله عليه وسلم "في الجنة, شاطئاه" أي: جانباه, "عليه" أي: على الشاطئ "در مجوف" بفتح الواو مشددة- صفة لدر, خبره الجار والمجرور, والجملة خبر المبتدأ الأول الذي هو شاطئاه، قاله المصنف: "آنيته كعدد النجوم".
"رواه البخاري" في التفسير, والنسائي, "وقوله: شاطئاه، أي: حافَّتاه، وقوله: در مجوف.(12/407)
وقوله: در مجوف" أي: القباب التي على جوانبه.
ورواه النسائي بلفظ قالت: نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها، حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت، ترابه المسك, وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت.
و"بطنان" بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون.
و"وسط" بفتح المهملة، المراد به أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به: أعدلها.
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الكوثر نهر في الجنة, حافَّتاه من الذهب, والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل" رواه أحمد وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال: هو نهر في الجنة، عمقه سبعون ألف فرسخ، ماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل،
__________
أي: القباب التي على جوانبه" بدليل روايته أنس آنفًا: حافَّتاه قباب اللؤلؤ "ورواه النسائي بلفظ: قالت عائشة: هو "نهر في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها, حافَّتاه قصور اللؤلؤ والياقوت, ترابه" المعبَّر عنه في الرواية السابقة: بطينه, "المسك, وحصباؤه" بالمد، أي: حصاه: جمع حصبة بزنة قصبة "اللؤلؤ والياقوت" وبطنان -بضم الموحدة وسكون المهملة بعدها نون فألف فنون "ووسط بفتح المهملة، والمراد به: أعلاها، أي: أرفعها قدرًا، أو المراد به أعدلها" من حيث الفضل بكثرة الخدم والآلات.
"وعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الكوثر" صيغة مبالغة في المفرط كثرة, "نهر في الجنة, حافَّتاه من الذهب" لا يناقض ما قبله: حافتاه اللؤلؤ والياقوت والزبرجد، لجواز أنها مبنية بذهب مرصعة بذلك، ويؤيده قوله: "والماء يجري على اللؤلؤ, وماؤه أشد بياضًا من اللبن, وأحلى من العسل".
"رواه أحمد والترمذي "وابن ماجه، وقال الترمذي بعد أن رواه: "حسن صحيح" الذي في الجامع معزوًّا للثلاثة عن ابن عمر، لفظه: "الكوثر نهر في الجنة, حافَّتاه من ذهب, ومجراه على الدر والياقوت، ترتبه أطيب ريحًا من المسك, وماؤه أحلى من العسل, وأشد بياضًا من الثلج".
"وروى عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ، قال: هو نهر في الجنة" كأنَّه بلغه ذلك عن النبي -صلى الله عليه وسلم, فرجع عن تفسيره بالخير الكثير الثابت في البخاري عنه؛ لأنه قال أولًا بناء على مدلول اللغة، فلمَّا بلغه خبر الصادق المصدوق بتخصيصه بنهر الجنة رجع عنه؛ إذ(12/408)
شاطئاه اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، خصَّ الله به نبيه قبل الأنبياء. رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا.
وعن أنس قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله" -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق البخت، أو أعناق الجزر"، قال عمر: إنها لناعمة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكلتها أنعم منها". رواه الترمذي, وقال: حسن.
و"الجزر" بضم الجيم والزاي، جمع جزور وهو البعير.
قال الحافظ ابن كثير: قد تواترت -يعني: أحاديث الكوثر- من طرقٍ تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث، وكذلك أحاديث الحوض، قال: وهكذا روى
__________
النصَّ مقدَّم على الاستنباط "عمقه سبعون ألف فرسخ" عورض بما رواه ابن أبي الدنيا عنه -أي: ابن عباس- أنَّه سُئِلَ ما أنهار الجنة، أفي أخدود؟ قال: لا, ولكنها تجري على أرضها, لا تفيض ههنا ولا ههنا، وأجيب بأن المراد أنها ليست في أخدود كالجداول ومجاري الأنهار التي الأرض، بل سائحة على وجه أرض الجنة مع عظمها وارتفاعها، فلا ينافي ما ذكر في عمقها, "ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل, شاطئاه" أي: حافَّتاه "اللؤلؤ والزبرجد والياقوت, خص الله به نبيه قبل الأنبياء".
رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا" على ابن عباس, وله حكم الرفع إن صحَّ؛ إذ لا مجال للرأي فيه, "وعن أنس قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم: ما الكوثر؟ قال: "نهر أعطانيه الله"، -يعني: في الجنة- "أشد بياضًا من اللبن" أي: ماؤه, "وأحلى من العسل, فيه طير".
وفي رواية: ترده طير "أعناقها كأعناق البخت" نوع من الإبل, الواحد بختي, مثل روم ورومي, "أو أعناق الجزر" شك الراوي, ويحتمل أنَّ أو للتنويع، أي: بعضها كأعناق البخت وبعضها كأعناق الجزر, "قال عمر بن الخطاب: إنها لناعمة" حيث شبهت أعناقها بذلك, "قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أكلتها" جمع آكل "أنعم منها"، رواه الترمذي وقال: حسن" وصحَّحه الحاكم.
وروى البيهقي عن حذيفة رفعه: أنَّ في الجنة طيرًا أمثال البخاتي، قال: أبو بكر: إنها الناعمة يا رسول الله، قال: "أنعم منها من يأكل منها, وأنت ممن يأكلها يا أبا بكر" , "والجزر: بضم الجيم والزاي جمع جزور وهو البعير" كقوله:
لا يبعدون قومي اللذين هم ... سم العداة وآفة الجزر
"قال الحافظ ابن كثير: قد تواتر -يعني: حديث الكوثر- من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث" الذين لهم الاطلاع على الطرق, "وكذلك أحاديث الحوض، قال:(12/409)
عن أنس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف: إن الكوثر نهر في الجنة.
وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتنم المؤذن فقولوا مثل ما يقول, ثم صلوا عليَّ، فإنَّ مَنْ صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا، ثم سلوا الله لي الوسيلة, فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة".
__________
وهكذا روي عن أنس وأبي العالية" رفيعه بن مهران "ومجاهد, وغير واحد من السلف, أنَّ الكوثر نهر في الجنة", وهو المشهور المستفيض.
وأما تفضيله -صلى الله عليه وسلم- في الجنَّة بالوسيلة والدرجة الرفيعة والفضيلة، فروى مسلم" في الصلاة "من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص" الصحابي بن الصحابي, "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم المؤذِّن فقولوا" قولًا "مثل ما يقول" أي: مثل قوله بدون صفته، فلا يطلب برفع الصوت المطلوب من المؤذن؛ لأن قصده الإعلام, وقصد السامع الذِّكْر، فيكفي السر أو الجهر بلا رفع صوت، نعم, لا يكفي إجراؤه على قلبه بلا لفظ؛ لظاهر الأمر بالقول, ولا يطلب بقيام وغير ذلك مما يطلب من المؤذّن, ويستثنى من مثلية القول الحيعلتان, فيبدلهما بلا حول ولا قوة إلا بالله كما في الصحيحين, "ثم صلوا عليَّ, فإنه مَنْ صلى عليَّ صلاة" واحدة "صلى الله عليه بها عشرًا" أي: عشر صلوات، أي: رحمة, وضاعف أجره بشهادة "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" , وفائدة ذكره وإن كانت كل حسنة كذلك أنَّه تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلّا ذكره، فكذلك جعل ذِكْرَ نبيه ذكر من ذكره, ولم يكتف بذلك، بل زاد كما في حديث أنس عند أحمد، وصحَّحه ابن حبان والحاكم "وحُطَّ عنه عشر خطيئات, ورفع له عشر درجات" قيل: إنما هذا لمن فعل ذلك محبَّة وأداءً لحقه -صلى الله عليه وسلم- من التعظيم والإجلال, لا لمن قصد به الثواب أو قبول دعائه, قال عياض: وفيه نظر.
وقال الحافظ: هو تحكم غير مرضي، ولو أخرج الغافل اللاهي لكان أشبه, "ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة" عظيمة "في الجنة, لا تنبغي" لا تكون "إلّا لعبد" واحد عظيم، فالتنوين والتنكير للتعظيم "من عباد الله" الأشراف المقربين, فالإضافة لاختصاصهم بالشرف والقرب من سيدهم, "وأرجو أن أكون أنا" تأكيد للضمير المستتر في أكون, "هو" خبر وضع بدل إياه, ويحتمل أن لا يكون تأكيدًا، بل مبتدأ وخبر, والجملة خبر أكون، ويجوز أن هو وضع موضع اسم الإشارة، أي: أكون أنا ذلك، قاله الأبي, "فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت عليه الشفاعة" أي: وجبت له شفاعة تناسبه زيادة على شفاعته في جميع أمته، كشفاعته لأهل(12/410)
قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة، وهي منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وداره في الجنة، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقال غيره: الوسيلة "فعيلة" من وسل إليه إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت أي: تقرَّبت، وتطلق على المنزلة العليّة، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة، على أنه يمكن ردَّها إلى الأول، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله، فيكون كالقربة التي يتوسّل بها، ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه، وأعلمهم به، وأشدهم له خشية, وأعظمهم له محبة، كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى، وهي أعلى درجة في الجنة، وأمر أمته أن يسألوها له؛ لينالوا بهذا الدعاء الزلفى وزيادة الإيمان، وأيضًا: فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب, منها: دعاء أمته له بها بما نالوه على يده من الهدى والإيمان.
__________
المدينة، وفي بعض أصول مسلم له بدل عليه، وقيل: معنى حلَّت غشيته ونزلت به, نقله عياض عن المهلّب وقال: الصواب: وحلت من حلَّ يَحِلُّ -بالكسر- إذا وجب، وأما حَلَّ يَحُلُّ -بالضم، فمعناه نزل، زاد الحافظ: ولا يجوز أن يكون حَلَّت من الحِلِّ؛ لأنها لم تكن قبل ذلك محرَّمَة، قال المصنف في مقصد المحبَّة، وذكره بلفظ الرجاء: وإن كان محقق الوقوع أدبًا وإرشادًا وتذكيرًا بالخوف وتفويضًا إلى الله تعالى بحسب مشيئته, وليكون الطالب للشيء بين الخوف والرجاء. انتهى.
وقال القرطبي: هذا الرجاء قبل علمه أنه صاحب المقام المحمود، ومع ذلك فإن الله يزيده بدعاء أمته له رفعة كما يزيدهم بصلاتهم عليه.
"قال الحافظ عماد الدين بن كثير: الوسيلة عَلَمٌ على أعلى" أرفع وأفضل "منزلة في الجنة, وهي منزلة رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وداره في الجنة, وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش".
"وقال غيره: الوسيلة فعيلة من وَسَلَ" من باب وعد, "إليه, إذا تقرَّب، يقال: توسَّلت إذا تقربت, وتطلق" الوسيلة أيضًا "على المنزلة العلية، كما قال في هذا الحديث، فإنها منزلة في الجنة" علية "على أنه يمكن ردها إلى الأوّل، فإن الواصل إلى تلك المنزلة قريب من الله" القرب المعنوي, "فيكون كالقربة التي يتوسّل بها" أي: يتقرب، "ولما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم الخلق عبودية لربه, وأعلمهم به, وأشدهم له خشية, وأعظمهم له محبة, كانت منزلته أقرب المنازل إلى الله تعالى, وهي أعلى درجة في الجنة" ليس فوقها درجة "وأمر" صلى الله عليه وسلم "أمته أن يسألوها له" مع أنها محققة الوقوع له, "لينالوا بهذا الدعاء الزلفى" القرب, "وزيادة الإيمان" بالله ورسوله, "وأيضًا فإن الله تعالى قدَّرها له بأسباب, منها: دعاء أمته له بها بما نالوه(12/411)
وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على سائر الخلق، ويحتمل أن تكون منزلة أخرى، أو تفسيرًا للوسيلة.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة عند الله -عز وجل, ليس فوقها درجة, فسلوا الله لي الوسيلة". رواه أحمد في المسند، وذكره ابن أبي الدنيا، وقال: "الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق".
وروى ابن مردويه عن عليٍّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم الله فسلوا لي
__________
على يده من الهدى والإيمان", فهي من الشكر على ذلك, "وأما الفضيلة فهي المرتبة الزائدة على" مراتب "سائر الخلائق"؛ لأن الفضل الزيادة, "ويحتمل" بعد ذلك "أن تكون منزلة أخرى, "يحتمل أن تكون "تفسيرًا للوسيلة".
روى البخاري وأحمد والأربعة عن جابر مرفوعًا: "من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ رب هذه الدعوة التامة, والصلاة القائمة, آت محمدًا الوسيلة والفضيلة, وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته, حلَّت له شفاعتي يوم القيامة".
قال السخاوي: وزيادة, والدرجة الرفيعة لم أرها في شيء من الروايات, ولا في نسخ الشفاء إلّا في نسخة علم عليهاكاتبها بما يشير إلى الشكِّ فيها, وقد عقد لها في الشفاء فصلًا في مكان آخر, ولم يذكر فيه حديثًا صريحًا, وهو دليل لغلطها, قاله المصنف في مقصد المحبة. فعجيب نقله عن غيره, ولكن آفة العلم النسيان.
وعن أبي سعيد" بكسر العين سعيد بسكونها- ابن مالك ابن سنان "الخدري, "الصحابي ابن الصحابي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الوسيلة درجة" منزلة رفيعة "عند الله -عز وجل, ليس فوقها درجة" بل هي أعلى الدرجات كما يأتي, وهو مفاد النفي عرفًا وإن صدق لغة بالتساوي, "فسلوا الله لي الوسيلة".
"رواه أحمد في المسند، وذكره" أي: رواه "ابن أبي الدنيا، وقال" في سياقه: "الوسيلة درجة ليس في الجنة أعلى منها، فسلوا الله أن يؤتينها على رءوس الخلائق" فصرَّح بأنها أعلى الدرجات، فعلم أنه المراد في قوله: "ليس فوقها درجة" ووجه تخصيص الدعاء له -صلى الله عليه وسلم- بالوسيلة والفضيلة بعد الأذان أنَّه لما كان دعاء إلى الصلاة، وهي مقرَّبة إلى الله تعالى ومعراج المؤمنين، ومما امتنَّ به علينا بإرشاده وهدايته -صلى الله عليه وسلم- ناسب أن يجازى على ذلك بالدعاء له بالتقرب إلى الله ورفعة المنزلة، فإن الجزاء من جنس العمل.
"وروى ابن مردويه" بفتح الميم وقد تكسر "عن عليٍّ، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا سألتم(12/412)
الوسيلة"، قالوا: يا رسول الله، من يسكن معك؟ قال: "علي وفاطمة والحسن والحسين", لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر من هذا الوجه.
وعند ابن أبي حاتم من حديث عليٍّ أيضًا: أنَّه قال على منبر الكوفة: أيها الناس, إنَّ في الجنة لؤلؤتين, إحداهما بيضاء, والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش, والمقام المحمود من الؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة، كل بيت منها ثلاثة أميال، وغرفها وأبوابها وأسِرَّتها وسكانها من عرق واحد، واسمها الوسيلة، هي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته، والصفراء فيها مثل ذلك، هي لإبراهيم -عليه السلام- وأهل بيته. وهي أثر غريب كما نبَّه عليه الحافظ بن كثير أيضًا.
وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
__________
الله فسلوا لي الوسيلة" أعلى منازل الجنة "قالوا: يا رسول الله, من يسكن معك؟ " فيها, على سبيل التبعية لك؛ إذ هي لا تكون إلّا لواحد "قال: عليّ وفاطمة والحسن والحسين، لكن قال الحافظ عماد الدين بن كثير: إنه حديث غريب منكر" أي: ضعيف "من هذا الوجه" الذي أخرجه منه ابن مردويه.
وعند ابن أبي حاتم" الحافظ ابن الحافظ عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي, من حديث عليٍّ أيضًا أنه قال على منبر الكوفة: أيها الناس, إن في الجنة لؤلؤتين، إحداهما بيضاء, والأخرى صفراء، فأمَّا البيضاء فإنها إلى بطنان العرش" بضم الموحدة وإسكان الطاء المهملة ونونين بينهما ألف، أي: إلى جهة أعلاه، أي: إنها أقرب إلى أعلاه من غيرها, "والمقام المحمود " مبتدأ خبره "من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة, كل بيت منها ثلاثة أميال, وغرفها وأبوابها وأسرتها وسكانها من عرق" أي: أصل "واحد, واسمها الوسيلة, هي لمحمد -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته, و" اللؤلؤة قسيم قوله: فأمَّا البيضاء بتقدير، وأمَّا اللؤلؤ "الصفراء" على نحو قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] بعد قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7] في أحد الوجهين "فيها مثل ذلك, هي لإبراهيم -عليه السلام- وأهل بيته" وهذا حكمه الرفع؛ إذ لا يقال إلّا عن توقيف "و" لكن هي أثر غريب كما نبه عليه الحافظ ابن كثير أيضًا".
"وعن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} قال: أعطاه الله تعالى في الجنة ألف قصر" من لؤلؤ أبيض, ترابها المسك, كما في المقصد السادس عن ابن(12/413)
[الضحى: 5] قال: أعطاه في الجنة ألف قصر, وفي كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والدم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريقه، ومثل هذا لا يقال إلّا عن توقيف، فهو في حكم المرفوع.
__________
عباس "وفي كل قصر" من الألف "ما ينبغي" ما يليق "له من الأزواج والخدم".
رواه ابن جرير محمد الطبري "وابن أبي حاتم من طريقه, ومثل هذا" من الإخبار عن الغيب "لا يقال إلّا عن توقيف" من النبي -صلى الله عليه وسلم, فهو في حكم المرفوع" وإن كان موقوفًا لفظًا، وهكذا كل ما جاء عن صحابي إن أمكن كونه رأيًا, فليس له حكم الرفع، وإلّا فله حكمه، وليس المراد حصر ما أعطاه فيما ذكر؛ لأن الآية دلَّت على أنه يعطيه كل ما يرضيه مما لا يعلم حقيقته إلا الله.
وقد روى الديلمي في الفردوس عن عليٍّ قال: لما نزلت قال -صلى الله عليه وسلم: "إذن لا أرضى وواحد من أمتي في النار".
ولأبي نعيم في الحلية عن عليٍّ في الآية قال: ليس في القرآن آية أربى منها, ولا يرضى -صلى الله عليه وسلم- أن يدخل أحد من أمته النار. وقوله: "ولا يرضي" موقوف لفظًا مرفوع حكمًا، ولا يشكل بما صح أن بعض بعض العصاة من أمته يدخل النار، وأنه تعالى يحد له -صلى الله عليه وسلم- حدًّا يشفع فيهم، فلا يدع أحدًا منهم, ولا يزيد على من أذن له في الشفاعة فيه، كما مَرَّ قريبًا, ولا شَكَّ أنه يرضى بما يرضى ربه؛ لأنه لا يبعد أن تعذيب العصاة غير مرضي لله, فلا يرضى به رسوله، فإذا لم يرض به لعدم رضا ربه شفعه فيهم، فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة، أو لا يرضى دخولهم على وجه الخلود، وإنما قال: أن يدخل دون أن يخلد قصد الإرادة نفي الرضا بالخلود عن نهج المبالغة والاستدلال, أو لا يرضى دخولهم النار دخولًا يشدد عليهم العذاب فيه، بل يكون خفيفًا لا تسود وجوهم ولا تزرق أعينهم كما وردت به الأحاديث، فهو تعذيب كتأديب الحشمة، بل قال -صلى الله عليه وسلم: "إنما حر جنهم على أمتي كحر الحمام".
أخرجه الطبراني برجال ثقاتٍ من حديث الصديق، وللدارقطني عن ابن عباس رفعه: "إن حظَّ أمتي من النار طول بلائها تحت التراب" وقيل، غير ذلك في توجيه الحديث.
وإن كان ضعيفًا لتعدد طرقه كما سبق في المقصد السادس، وأنه لا وجه لقول المصنف هناك تبعًا لابن القيم: إنه افتراء لمخالفة حديث الشفاعة؛ لأنه إبطال للروايات بأوهام الشبهات، ولأنَّ تعليل الحديث بالافتراء ودعوى الكذب لا يكون بمخالفة ظاهر القرآن فضلًا عن الحديث، وإنما يكون من جهة الإسناد كما صرَّح به الحافظ ابن ظاهر وغيره، وللبزار والطبراني وأبي نعيم بسند حسن، كما قال المنذري عن على: أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أشفع لأمتي حتى يناديني ربي -تبارك وتعالى: أرضيت يا محمد، فأقول: أي رب رضيت".(12/414)
خاتمة:
عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إنك لأحب إليَّ من نفسي، إنك لأحبك إليَّ من أهلي، وإنك لأحبَّ إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك, وإذا ذكرت موتي
__________
"خاتمة":
ونسأل الله من فضله حسن الخاتمة في عافية بلا محنة، والفوز بالجنة, والنجاة من النار بوجاهة الحبيب المختار, "عن عائشة" رضي الله عنه تعالى عنها "قالت: جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم" هو ثوبان أو عبد الله بن زيد الأنصاري، كما يأتي "فقال: يا رسول الله, إنك" والله "لأحب" فاللام جواب قسم مقدَّر "إليَّ من نفسي, وإنك لأحب إليَّ من أهلي, وإنك لأحب إليَّ من ولدي".
زاد في رواية: ومالي، ولا يلزم من تقديمه على نفسه تقديمه على من بعده؛ لأن الإنسان قد يسمح بموت نفسه عند حصول المشاق دون ولده, حرصًا على بقاء العقب، وهذا هو الإيمان الكامل المشار إليه بحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين" ودخل في عموم الناس نفسه، ونصَّ عليها في حديث آخر.
كما مَرَّ بسط ذلك في مقصد المحبة, وأنَّ لها علامات كثيرة، منها: أنه لو خُيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه وبين رؤيته -عليه السلام، لو أمكنته- لكانت أشد عليه من فقد غرضه، فهو كامل الحب، ومن لا فلا.
قال القرطبي: كل من آمن به -صلى الله عليه وسلم- إيمانًا صحيحًا لا يخلو عن وجدان شيء من تلك المحبَّة الراجحة, ولكنَّهم يتفاوتون فيها تفاوتًا ظاهرًا, فمنهم من أخذ بالحظ الأوفى, ومنهم أخذ بالأدنى؛ لاستغراقه في الشهوات وحجبه بالغفلات، لكن الكثير منهم إذا ذكره -صلى الله عليه وسلم- اشتاق إلى رؤيته؛ بحيث يؤثرها على أهله وماله وولده, ويُلْقِي نفسه في الأمور الصعبة، ومن ذلك من يؤثر زيارة قبره ومواضع آثاره على جميع ما ذكر؛ لما ثبت في قلوبهم من محبته, غير أن ذلك سريع الزوال لتوالي الغفات. انتهى.
"وإني لأكون في البيت" أي: بيتي "فأذكرك" أي: أتذكرك في ذهني وأتصورك, أو أذكر اسمك وصفاتك، فهو من الذََّكر بالكسر أو الضم, "فما أصبر" عن رؤيتك للجزع والقلق الزائدين "حتى آتيك فأنظر إليك" فتطمئنّ نفسي وينشرح صدري، فقوله: "إنك لأحب، أي: أوثر محبتك حبًّا اختيارًا إيثارًا لك على ما يقتضي العقل رجحانه من حبِّك إكرامًا لك, وإن كان حب نفسي وولدي وغيرهما مركوزًا في غريزتي, "وإذا" وفي رواية: "وإني "ذكرت موتي(12/415)
وموتك, عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك. فلم يردّ عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، حتى نزل عليه جبريل -عليه السلام- بهذه الآية {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] رواه أبو نعيم عن عائشة، وقال الحافظ أبو عبد الله المقدسي: لا أعلم بإسناد هذا
__________
وموتك" أي: مكاني ومكانك بعد الموت, "عرفت" تحقَّقت "أنك إذا دخلت الجنة" بعد الموت "رفعت" إلى الدرجات العلا مع النبيين -صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين, "وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك" فيها؛ لأنك في مقام لا يصل إليه غيرك, "فلم يرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- شيئًا حتى نزل جبريل -عليه السلام- بهذة الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [النساء: 69] بامتثال أمه ونهيه, ويلزمه محبته له أيضًا.
ولم تذكر لتحققها الذكر الرجل لها والعلم بخلوصه فيها {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} بنعيم الجنة وعالي مراتبها, ففيه تبشير له بمرافقة أفضل خلق الله وأكرمهم وأرفعهم منزلة, {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} بيان للمنعَم عليهم بما أُخْفِيَ لهم من قرة أعين, {وَحَسُنَ أُولَئِكَ} تعجب، أي: ما أحسنهم {رَفِيقًا} تمييز، ولم يجمع لوقوعه على الواحد وغيره.
قال البيضاوي: قسمهم أربعة أقسام باعتبار منازلهم في العلم والعمل, وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل، المجاوزون حدَّ الكمال إلى درجة التكميل، ثم صديقون صعدت نفوسهم تارةً إلى مراقي النظر في الحجج والآيات، وأخرى إلى معارج القدس بالرياضة والتصفية حتى اطَّلعوا على ما لم يطلع عليه غيرهم، ثم شهداء بذلوا أنفسهم في إعلاء كلمة الله وإظهار الحق، ثم صالحون صرفوا أعمارهم في طاعته وأموالهم في مرضاته، ولك أن تقول: المنعَم عليهم هم العارفون بالله, وهؤلاء إمَّا أن يكونوا بالغين درجة العيان, أو واقفين في مقام الاستدلال والبرهان، والأوَّلون إمَّا أن ينالوا مع العيان القرب؛ بحيث يكونون كمن يرى الشيء قريبًا، وهم الأنبياء أولًا, كمن يرى الشيء من بعد وهم الصديقون، والآخرون إمَّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة, وهم العلماء الراسخون الذين هم شهداء الله في الأرض، وإمَّا أن يكون بإمارات وإقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم, وهم الصالحون. انتهى.
"رواه أبو نعيم" والطبراني في الصغير "عن عائشة" وابن مردويه عن ابن عباس, "وقال الحافظ أبو عبد الله" محمد بن عبد الواحد بن أحمد السعدي الحنبلي ضياء الدين "المقدسي, الدَّيِّن، الزاهد الورع، الحجة الثقة، صاحب التصانيف المشهورة, سمع ابن الجوزي وخلقًا, وُلِدَ سنة تسع وستين وخمسمائة, ومات سنة ثلاث وأربعين وستمائة, "لا أعلم بإسناد هذا(12/416)
الحديث بأسًا. كذا نقله ابن القيم في "حادي الأرواح".
وذكره البغوي في "معالم التنزيل" بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحبِّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه, فأتاه ذات يوم، وقد تغيِّر لونه، يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما غَيِّرَ لونك"؟ فقال: يا رسول الله، ما بي وجع ولا مرض، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة, فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية.
__________
الحديث بأسًا" أي: إن رواته مقبولون لم يجرَّح أحد منهم.
"كذا نقله ابن القيم في حادي الأرواح" إلى ديار الأفراح, "وذكره البغوي" محيي السنة الحسين بن مسعود، أحد الحفاظ, "في معالم التنزيل" اسم تفسيره بلا عزوٍ "بلفظ: نزلت -يعني: الآية- في ثوبان" بفتح المثلثة والموحدة- ابن بجدد -بضم الموحدة وسكون الجيم وضم الدال المهملة الأولى, "مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم", قال في الإصابة: يقال: إنه من العرب, من حكم بن سعد بن حمير، وقيل: من السراة، اشتراه ثم أعتقه, فخدمه إلى أن مات، ثم تحوّل إلى الرملة, ثمَّ إلى حمص، ومات بها سنة أربع وخمسين.
روى ابن السَّكَن عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا لأهله، فقلت: أنا من أهل البيت، فقال في الثالثة: "نعم, ما لم تقم على باب سدة, أو تأت أميرًا فتسأله"، ولأبي داود عن أبي العالية، عن ثوبان, قال -صلى الله عليه وسلم: "من يتكفل إليّ أن لا يسأل الناس أتكفل له بالجنة"، فقال ثوبان: أنا، وكان لا يسأل أحدًا شيئًا، تقدَّم ذكره في الموالي النبوية, "وكان شديد الحب" بضم الحاء- المحبَّة، أما بكسرها فالمحبوب, "لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, قليل الصبر عنه" ولذا لازمه حضرًا وسفرًا, "فأتاه ذات يوم وقد تغيِّر لونه".
وعند الثعلبي: تغيِّر وجهه ونحل جسمه, "يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما غيِّرَ لونك؟ " فقال: يا رسول الله, ما بي وجع" أي: مرض مؤلم, "ولا مرض مطلق علة، ويقع الوجع أيضًا على كل مرض، لكن لا يرد هنا ليحصل التغاير, "غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة" أي: حصل لي انقطاع وبعد قلب وعدم استئناس "حتى ألقاك" فتزول وحشتي, "ثم ذكرت الآخرة" أي: فكَّرت في أمرها, "فأخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع مع النبيين" في أعلى الدرجات, "وإني إن دخلت الجنة" أكون "في منزلة أدنى من منزلتك" فتقل رؤيتي لك؛ بدليل قوله: "وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا. فنزلت هذه الآية".(12/417)
وكذا ذكره ابن ظفر في "ينبوع الحياة", لكن قال: إن الرجل هو عبد الله بن زيد الأنصاري, الذي رأى الأذان.
وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأن هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز، فالمراد كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك، فهذا هو المراد من هذه المعية.
__________
قال الولي العراقي: هكذا ذكره الثعلبي في تفسيره بلا إسنادٍ ولا راوٍ، وحكاه الواحدي في أسباب النزول عن الكلبي.
وروى الطبراني في الصغير عن عائشة، وابن مردويه عن ابن عباس، والبيهقي عن الشعبي، وابن جرير عن سعيد بن جبير، كل منهم يحكي عن رجل، فذكر مثل قصة ثوبان ونزول الآية فيه. انتهى.
"وكذا ذكره ابن ظفر" بفتح الظاء المعجمة والفاء وراء- واسمه: محمد بن محمد بن ظفر الصقلي, أبو عبد الله الأديب الفاضل، له تصانيف، ولد بصقلية, وسكن حماة، وبها مات سنة خمس وستين وخمسمائة, "في ينبوع الحياة" اسم تفسيره وهو كبير, "لكن قال" عن مقاتل بن سليمان، "أنَّ الرجل هو عبد الله بن زيد" بن عبد ربه "الأنصاري" الخزرجي, "الذي رأى الأذان" في منامه، مات سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: استُشْهِدَ بأحد، فإن صحَّ فلعل كلًّا منهما ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية، وقد ورد أن قائل ذلك جمع كثير، فروى ابن أبي حاتم عن مسروق، قال: قال أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله, ما ينبغي لنا أن نفارقك، فإنك لو مت لرفعت فوقنا ولم نرك، فأنزل الله الآية, وهي وإن كان سببها خاصًّا فهي عامَّة لجميع من أطاع الله ورسوله، ولا ينحصر في تسلية المحبين والتخفيف عنهم، بل يشمل ذلك وغيره, وهو الحث على الطاعة والترغيب فيها، فمن فعل ذلك فاز بالدرجا العالية عند الله تعالى, "وليس المراد أن يكون من أطاع الله وأطاع الرسول مع النبيين والصديقين كون الكل في درجة واحدة؛ لأنَّ هذا يقتضي التسوية في الدرجة بين الفاضل والمفضول، وذلك لا يجوز" اعتقاده؛ لأن الأنبياء لا يساويهم غيرهم بالنصوص والإجماع, "فالمراد" بالمعية "كونهم في الجنة؛ بحيث يتمكَّن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بَعُدَ المكان؛ لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضًا، وإذا أرادوا الرؤية والتلاقي قدروا على ذلك"؛ إذ لو عجزوا عنه لتحسَّروا, ولا حسرة في الجنة "فهذا هو المراد من هذه المعية" لا المساواة في المنزلة.(12/418)
وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا قال: يا رسول الله, متى الساعة؟ قال: "وما أعددت لها؟ " قال: لا شيء, إلّا أني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت"، قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر, وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.
__________
"وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس، أن رجلًا" قال الحافظ: هو ذو الخويصرة اليماني, الذي بال في المسجد، وحديثه بذلك مخرَّج عند الدارقطني، ومن زعم أنه أبو موسى أو أبو ذر فقد وَهِمَ، فإنهما وإن اشتركا في معنى الجواب وهو المرء مع مَنْ أحب، فقد اختلف سؤالهما، فإن كلًّا من أبي موسى وأبي ذر إنما سأل عن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم.
هذا. "قال: يا رسول الله, متى الساعة؟ " زاد في رواية: قائمة -بالرفع- خبر الساعة، فمتى ظرف متعلق به, والنصب حال من الضمير المستكن في متى؛ إذ هو على هذا التقدير خبر الساعة, فهو ظرف مستقر.
وفي رواية لمسلم: متى تقوم الساعة؟ ولما احتمل السؤال التعنّت والخوف من الله, امتحنه النبي -صلى الله عليه وسلم؛ حيث "قال: "وما أعددت لها" هكذا في رواية للشيخين.
وفي رواية لهما أيضًا: ويحك, وما أعددت لها؟ قال الطيبي: سلك مع السائل طريق الأسلوب الحكيم؛ لأنه سأله عن وقت الساعة وأيَّان إرساؤها، فقيل له: فيم أنت من ذكراها، وإنما يهمك أن تهتم بأهبتها, وتعتني بما ينفعك عند إرسائها من العقائد الحقَّة والأعمال الصالحة المرضية، فأجاب حيث "قال: لا شيء".
وفي رواية للبخاري، قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة، ولمسلم: ما أعددت لها من كثير عمل أحمد عليه نفسي، وكثير بمثلثة, "إلّا أني أحب الله ورسوله" يحتمل الاتصال والانقطاع، قاله الكرماني.
وفي رواية في الصحيح أيضًا: ولكني أحب الله ورسوله, "قال: "أنت" وفي رواية: إنك "مع من أحببت" أي: ملحق بهم, وداخل في زمرتهم, لما امتحنه وظهر له من جوابه صدق إيمانه ألحقه بمن ذكر, "قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت مع مَنْ أحببت".
وفي رواية في الصحيح أيضًا: فقلنا: ونحن كذلك، قال -صلى الله عليه وسلم: "نعم" ففرحنا يومئذ فرحًا شديدًا، وفي أخرى. فلم أر المسلمين فرحوا فرحًا أشد منه، وفي أخرى: فما فرح المسلمون بشيء بعد الإسلام ما فرحوا به, "قال أنس: فأنا أحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكر وعمر, وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم" والحديث متواتر.(12/419)
وفي الحديث الإلهي الذي رواه حذيفة -كما عند الطبراني بسند غريب- أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه" الحديث. وفيه من الزيادة على حديث البخاري: ويكون
__________
قال في الفتح: جمع أبو نعيم الحافظ طرقه في كتاب المحبين مع المحبوبين، فبلغ عدد الصحابة فيه نحو عشرين، ولفظ أكثرهم: "المرء مع مَنْ أحب"، وفي بعضها بلفظ حديث أنس: "أنت مع من أحببت".
"وفي الحديث الإلهي" المنسوب لله تعالى, مما تلقاه النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة, أو بواسطة, احتمالان في جميع الأحاديث الإلهية, وليس لها حكم القرآن، فيمسها المحدِثُ وتبطل الصلاة بقراءتها فيها، وغير ذلك, "الذي رواه حذيفة" بن اليمان, عن النبي -صلى الله عليه وسلم "كما عند الطبراني بسند غريب" لفظ الفتح حسن غريب مختصر. انتهى.
فأوله قوله "أنه تعالى قال: "ما تقرَّب إليَّ عبدي" بإضافة التشريف "بمثل أداء ما افترضت عليه" أي: تأديته لا المقابل للقضاء فقط، قال الحافظ: ظاهرة الاختصاص بما ابتدأ الله فرضه، وفي دخول ما أوجبه المكلّف على نفسه نظرًا للتقييد بقوله: "افترضت عليه" لا أن أخذ من جهة المعنى الأعمّ، ويستفاد منه أنَّ أداء الفرض أحبَّ الأعمال إلى الله، قال الطوفي: الأمر بالفرائض جازم, ويقع بتركها المعاقبة, بلاف النقل في الأمرين وإن اشترك مع الفرائض في تحصيل الثواب، فكانت الفرائض أحبَّ إلى الله تعالى وأشد تقربًا, "ولا".
هكذا رواية الطبراني عن حذيفة بلفظ: ولا، وللبخاري من حديث أبي هريرة بلفظ: وما "يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل" من صلاة وصيام وغيرهما "حتى أحبه" بضم أوَّله، أي: أرضى عنه, والتقرُّب طلب القرب.
قال أبو القاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولًا بإيمانه ثم بإحسانه، وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه, وفي الآخرة من رضوانه, وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه، وقرب الرب بالعلم والقدرة عامّ للناس, وباللطف والنصرة خاص بالخواص, وبالتأنيس خاص بالأولياء.
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني والبيهقي: "يتحبَّب إليَّ" بدل يتقرَّب، واستشكل كون النوافل تنتج محبة الله؛ لأنه تعالى جعلها مرتبة على كثرتها, ولا تنتجها الفرائض؛ لأنه جعلها أحب الأشياء إليه, ولم يذكر سبب الأحبية، فلم يرتب المحبة على الفرائض.
وأحيب، بأنَّ المراد النوافل إذا كانت مع الفرائض مشتملة عليها, أو مكملة لها لا مطلقًا، فإنما أنتجت المحبة من حيث الاشتمال والتكميل, وبأن الإتيان بالنوافل بمحض المحبَّة لا لخوف عقاب على الترك، فأنتجت محبة الله لكونها لا في مقابلة شيء، بخلاف الفرائض، ففعلها مانع(12/420)
من أوليائي وأصفيائي، ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة".
فلله درها من كرامة بالغة، ونعمة على المحبين سابغة، فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات؛ بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر في أفق السماوات؛ لعلو درجته وقرب منزلته من حبيبه، ومعيته معه، وإن المرء
__________
من العقاب عليها، فهي في مقابلة عوض وإن كانت أفضل.... "الحديث وفيه" أي: حديث حذيفة "من الزيادة على حديث البخاري" عن أبي هريرة الذي قدَّمه المصنف في مقصد المحبَّة مع الكلام عليه بنحو ورقتين، يعني: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته, ولئن استعاذ بي لأعذته" , "ويكون من أوليائي وأصفيائي" في الدنيا والآخرة، والمراد بولي الله: العالم بالله المواظب على طاعته, المخلص في عبادته، ولذا أشكل قوله: صدر حديث أبي هريرة: "من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب" بأنه لا يوجد معادٍِ للولي؛ لأن المعاداة إنما تقع من الجانبين, ومن شأن الولي الحلم والصفح عن كل مَنْ يجهل عليه, وأجيب كما في الفتح عن التعصب: كرافضي في بغضه لأبي بكر, ومبتدع في بغضه للسني، فتقع المعاداة من الجانبين، أما من جانب الولي فلله وفي الله تعالى، وأما من جانب الآخر فلما تقدَّم، وقد تطلق المعاداة ويراد بها الوقوع من أحد الجانبين بالفعل، ومن الآخر بالقوة, "ويكون جاري" بإسكان الياء، ويجوز فتحها "مع النبيين والصديقين والشهداء في الجنة" ولم يقل: والصالحين, إمَّا اكتفاءً أو تقصيرًا من الراوي.
وفي بعض النسخ: والصالحين, "فلله درها" بدال مهملة "من كرامة بالغة" إلى الغاية, "ونعمة على المحبين سابغة" بغين معجمة- عامَّة, "فالمحب يرقى في درجات الجنات على أهل المقامات" المراتب التي نالوها بمعرفتهم لله, وإن اختلفت باختلاف مراتبهم وعرفانهم وأعمالهم، فانتقلوا من معرفة إلى كشف، ومنه إلى مشاهدة، ومنها إلى معاينة، ومنها إلى اتصال، ومنه إلى فناء، ومنه إلى بقاء، إلى غير ذلك من المقامات المعلومة لأهلها؛ "بحيث ينظر إليه كما ينظر إلى الكوكب الغابر" بمعجمة وموحدة- أي: الباقي.
قال الأزهري: الغابر من الأضداد, يطلق على الماضي والباقي، والمعروف الكثير أنَّه بمعنى الباقي، وفي المطالع: الغابر البعيد أو الذاهب الماضي -كما في الرواية الأخرى: الغارب، يعني: بتقديم الراء على الموحدة, "في أفق السماوات؛ لعلوِّ درجته وقرب منزلته من حبيبه" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف فوقهم كما تراءون الكوكب الغابر من الأفق من المشرق والمغرب لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله, تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم,(12/421)
مع مَنْ أحب، ولكلِّ عملٍ جزاء، وجزاء المحبَّةِ المحبّةُ والوصول والقرب من المحبوب.
رؤيت امرأة مسرفة على نفسها بعد موتها فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لها, فقيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وشهوتي النظر إليه، نوديت: من اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه.
وانظر إلى قوله تعالى: {طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] وإن طوبى اسم شجرة في الجنة, غرسها الله بيده، وتنبت الحلي والحلل، وإن أغصانها لترى من وراء
__________
قال -صلى الله عليه وسلم: "بلى. والذي نفسي بيده, رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
رواه الشيخان, "ومعيته معه, وإن المرء مع مَنْ أحب" في الجنة, بحسن نيته من غير زيادة عمل؛ لأن محبته لهم لطاعتهم، والمحبة من أفعال القلوب، فأثيب على ما اعتقده؛ لأن النية الأصل والعمل تابع لها، وليس من لازم المعية استواء الدرجات، قاله المصنف.
وفي البخاري في الأدب, باب علامة الحب لله، ولأبي ذر: الحب في الله؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، قال الكرماني: يحتمل أن يراد في الترجمة محبة الله للعبد, فهو المحب، أو محبة العبد لله فهو المحب، أو المحبة بين العباد في ذات الله؛ بحيث لا يشوبها شيء من الرياء, والآية مساعدة للأوّلين، واتباع الرسول علامة للأولى؛ لأنها مسببة للاتباع، وللثانية؛ لأنها مسببة. انتهى.
"ولكل عمل جزاء" كما دل عليه الكتاب والسنة, "وجزاء المحبَّة" مبتدأ خبره "المحبةُ والوصول والقرب من المحبوب, رؤيت امرأة مسرفة على نفسها" أي: مخالفة للمطلوب منها من فعل الطاعات واجتناب المناهي "بعد موتها" في المنام, "فقيل لها: ما فعل الله بك؟ قالت: غفر لي" إسرافي, "قيل لها: بماذا؟ قالت: بمحبتي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم, وشهوتي النظر إليه، نوديت: مَنْ اشتهى النظر إلى حبيبنا نستحي أن نذله" نحقره "بعتابنا، بل نجمع بينه وبين من يحبه، وانظر" نظر تأمُّل وتدبُّر "قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} [الرعد: 29] مرجع "فإن طوبى" المرادة في الآية عند جماعة من المفسرين: "اسم شجرة في الجنة".
كما رواه ابن جرير عن قرة بن إياس, عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "طوبى شجرة في الجنة, غرسها الله بيده, ونفخ فيها من روحه" كما في حديث قرة المذكور، ومثله في حديث ابن عباس: "تنبت الحلي".(12/422)
سور الجنة، وإن أصلها في دار النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي دار كل مؤمن منها غصن، فما من جنة من الجنات إلّا وفيها من شجرة طوبى؛ ليكون سر كل نعيم، ونصيب كل ولي من سرّه -صلى الله عليه وسلم، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة، فلا ولي يتنعَّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الوليّ ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلا باتباعه لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه, وكذلك إبليس ملأ النار، فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه, ومشارك له فيه.
وفي "البحر" لأبي حيان عند تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] قيل: هي عين في دار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تفجر إلى
__________
وفي رواية: بالحلي، "والحلل" جمع حلة, "وإن أغصانها لترى من وراء سور الجنة لطولها، زاد في ابن عباس عند ابن مردويه: والثمار متدلية على أفواههم، أي: متدلية على أفواه أهلها، وأعاد الضمير من غير سبق ذكرهم للعلم به؛ نحو: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} .
ولابن مردويه عن ابن عمر، وأبي نعيم والديلمي عن ابن مسعود رفعاه: "طوبى شجرة في الجنة, لا يعلم طولها إلّا الله، فيسير الراكب تحت غصنٍ من أغصانها سبعين خريفًا, ورقها الحلل, يقع عليه كأمثال البخت".
وفي الصحيحين مرفوعًا: "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها"، ولأحمد وابن حبان مرفوعًا: "طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام, ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها".
"و" حكى بعضهم "أنَّ أصلها في دار النبي -صلى الله عليه وسلم, وفي دار كل مؤمن منها غصن" سواء كان من أمته أم لا، كما صرَّح به في قوله: "فما من جنة من الجنان إلّا وفيها من شجرة طوبى", ومعلوم أن الجنان ليست مقصورة على هذه الأمة؛ "ليكون سر كل نعيم, ونصيب كل ولي, من سره -عليه السلام، وأنه -صلى الله عليه وسلم- ملأ الجنة, فلا ولي يتنعّم في جنته إلّا والرسول متنعِّم بتنعمه؛ لأن الولي ما وصل إلى ما وصل إليه من النعيم إلّا باتباعه لنبيه -صلى الله عليه وسلم، فلهذا كان سر النبوة قائمًا به في تنعمه", وهذا ظاهر في الأمة المحمدية, وفي مؤمني الأمم السابقة أيضًا؛ لأنه قد أخذ على الأنبياء الميثاق أن يؤمنوا بمحمد -صلى الله عليه وسلم, وأن يأمروا أممهم بالإيمان به، ولذا كان نبي الأنبياء، كما مَرَّ مبسوطًا في المقصد الأول.
"وكذا إبليس -لعنه الله- ملأ النار, فلا عذاب لأحد من أهلها إلّا وإبليس -لعنه الله- سر تعذيبه, ومشارك له فيه، وفي البحر" التفسير الكبير "لأبي حيان, عند تفسير قوله تعالى: {عَيْنًا} بدل من كافورًا {يَشْرَبُ بِهَا} أي: منها {عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} يجرونها إجراء سهلًا.(12/423)
دور الأنبياء والمؤمنين.
وإذا علمت هذا، فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب -تبارك وتعالى، ورسوله -صلى الله عليه وسلم، وقرة العين بالقرب من الله ورسوله, مع الفوز بكرامة الرضوان التي هي أكبر من الجنان وما فيها، كما قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] .
__________
قيل: هي عين في دار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى دور الأنبياء والمؤمنين" كل بحسب مقامه، ثم ذكر المصنف بارقة صوفية لامعه بمعاني أحاديث نبوية، فقال: "وإذا علمت هذا" المذكور الدال على عظم نعيم الجنة, فاعلم أنَّ أعظم نعيم الجنة وأكمله التمتع بالنظر إلى وجه الرب -تبارك وتعالى" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, يقول الله -تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولوا: ألم تبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة, وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم" ثم تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] .
رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن صهيب، قال القرطبي: معنى كشف الحجاب: رفع الموانع عن إدراك أبصارهم حتى يروه على ما هو عليه من نعوت العظمة والجلال، فالحجاب إنما هو الخلق لا للخالق -تقدَّس وتعالى، وجاء مرفوعًا: "الحسنى الجنة, والزيادة النظر إلى وجه لرحمن" من حديث أبي موسى وكعب بن عجرة وابن عمر وأُبَيّ بن كعب وأنس وأبي هريرة, كلهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم, وجاء موقوفًا على الصديق وحذيفة وابن عباس وابن مسعود، وجاء عن جماعة من التابعين كما بسطه في البدور، وقال: قال البيهقي: هذا تفسير قد استفاض واشتهر فيما بين الصحابة والتابعين، ومثله لا يقال إلّا بتوقيف، وقال يحيى بن معين: عندي سبعة عشر حديثًا كلها صحاح، وزاد عليه في البدور اثنين، وساق ألفاظ الجميع عازيًا لمخرجيهم، وقال: إنها بلغت مبلغ التواتر عندنا معاشر أهل الحديث "و" إلى وجه "رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وقرة العين" يردها وسرورها, "بالقرب من الله ورسوله, مع الفوز" الظفر "بكرامة الرضوان, إضافةً بيانية "التي هي أكبر" أجلّ وأعظم "من الجنان وما فيها، كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} ؛ لأنه المبدأ لكل سعادة وكرامة, والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء.
روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة, فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: وما أفضل من ذلك، فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدًا".(12/424)
ولا ريب أنَّ الأمر أجلَّ مما يخطر ببال أو يدور في خيال، ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس بمعية محبوبهم, الذي هو غاية مطلوبهم, فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني تلك المعية ولذاتها، وقرة العين بها، وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أجلَّ ولا أكمل ولا أجمل ولا أجلى ولا أحلى ولا أعلى ولا أغلى من حضرة يجمتع فيها المحبّ بأحبابه في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق -جلَّ جلاله- خلف حجاب واحد في اسمه الجميل اللطيف، فينفقه عليهم نور يسري في ذواتهم, فيبهتون من جمال الله، وتشرق ذواتهم بنور ذلك الجمال الأقدس، بحضرة الرسول الأرأس، ويقول لهم الحق -جل جلاله: سلام عليكم عبادي، ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون، لا خوف عليكم
__________
وللطبراني, وصحَّحه الضياء عن جابر، رفعه: "إذا دخل أهل الجنة قال الله: يا عبادي, هل تسألوني شيئًا فأزيدكم؟ قالوا: يا ربنا, ما خير مما أعطيتنا؟ قال: رضواني أكبر" , "ولا ريب أن الأمر أجلَّ مما يخطر ببالٍ, أو أو يدور في خيال" كما قال -صلى الله عليه وسلم: "قال الله -عز وجل: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر" , ثم قرأ هذه الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
رواه الشيخان, ولا سيما عند فوز المحبين في روضة الأنس وحظيرة القدس" الجنة, "بمعية محبوبهم الي هو غاية مطلوبهم، فأيّ نعيم وأيّ لذة وأيّ قرة عين وأيّ فوز يداني" يقارب "تلك المعية ولذاتها, وقرب العين بها" والاستفهام بمعنى النفي، أي: لا يقاربها شيء, "وهل فوق نعيم قرة العين بمعية الله ورسوله نعيم، فلا شيء والله أكمل ولا أجمل" يجيم:ولا أجلى" بالجيم "ولا أحلى" بالحاء أشدَّ حلاوة ولا أعلى" بعين مهملة أشد علوًّا، أي: رفعة "ولا أغلى" بمعجمة- أزيد مما يقوم بالبال, من غلا السعر إذا زاد وارتفع, " من حضرةٍ يجتمع فيها المحبّ بأحبابه" في مشهد مشاهد الإكرام؛ حيث يتجلَّى" يظهر "لهم حبيبهم ومعبودهم الإله الحق -جل جلاله- خلف حجاب واحد" بالنسبة إليهم, "في اسمه الجميل اللطيف, فينفقه" بفتح أوله وسكون النون وفتح الفاء وكسر الهاء وبالقاف، أي: يتسع ويفيض "عليهم نور يسري في ذواتهم فيبهتون" بفتح الياء وضم الهاء وفتحها مبنيًّا للفاعل، أي: يتحيّرون "من جمال الله, وتشرق ذواتهم بنور ذاك الجمال الأقدس" الأطهر, "بحضرة الرسول الأرأس" أعظم الناس وأشدّهم سيادة, "ويقول لهم الحق -جلَّ جلاله: "سلام عليكم عبادي".
روى ابن ماجه وغيره مرفوعًا: "بينا أهل الجنة في نعيمهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا(12/425)
اليوم ولا أنتم تحزنون, أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي, إني أنا الله الجواد الغني، وهذه داري قد أسكنتموها، وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة ممتدة عليكم، وأنا ربكم أنظر إليكم، لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم, فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم, والرضى عنا, فيقول لهم -جلَّ جلاله: هذا وجهي فانظروا إليه, وأبشروا فإني عنكم راضٍ, ثم يرفع الحجاب ويتجلَّى لهم, فيخرون سجَّدًا, فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم, فليس هذا موضع سجود يا عبادي، ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم, فلا أسخط عليكم أبدًا.
__________
رءوسهم, فإذا بالرب قد أشرف عليهم من فوقهم, فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وذلك قول الله {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم وإشرافه سبحانه" إطلاعه منزهًا عن المكان والحلول, "ومرحبًا بكم أهل ودادي، أنتم المؤمنون الآمنون, لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون" كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] الذين آمنوا وكان يتقون, "أنتم أوليائي وجيراني وأحبابي, إني أنا الله الجوّاد الغني، وهذه داري" بإضافة التشريف "قد أسكنتموها, وجنتي قد أبحتكموها، وهذه يدي مبسوطة" ممتدة "عليكم, وأنا ربكم أنظر إليكم" نظر رحمة ولطف, "لا أصرف نظري عنكم، أنا لكم جليس وأنيس، فارفعوا إليّ حوائجكم، فيقولون: ربنا حاجتنا إليك النظر إلى وجهك الكريم, والرضا عنَّا" أي: دوامه "فيقول لهم -جلَّ جلاله: هذا وجهي انظروا إليه وأبشروا" بهمزة قطع, "فإني عنكم راضٍ، ثم يرفع الحجاب" بالنسبة إليهم, "ويتجلَّى لهم فيخرون سجدًا، فيقول لهم: ارفعوا رءوسكم, فليس هذا موضع سجود".
وعند ابن المبارك والآجرى عن جابر موقوفًا ومرفوعًا: "إذا دخل أهل الجنة الجنة, وأنعم عليهم بالكرامة, جاءتهم خيول من ياقوت أحمر, لا تبول ولا تروث, لها أجنحة، فيقعدون عليها, ثم يأتون الجبّار، فإذا تجلّى لهم خروا سجدًا، فيقول الجبار: يا أهل الجنة, ارفعوا رءوسكم, فقد رضيت عنكم رضًا لا سخط بعده، يا أهل الجنة ارفعوا رءوسكم، فإن هذه ليست بدار عمل, إنما هي دار مقامة ودار نعيم، فيرفعون رءوسهم" , "يا عبادي ما دعوتكم إلّا لتتمتعوا" أي: تنتفعوا وتتلذذوا "بمشاهدتي، يا عبادي قد رضيت عنكم, فلا أسخط عليكم أبدًا".
وفي حديث حذيفة عند البزار، رفعه: "إن الله إذا صيِّرَ أهل الجنَّة إلى الجنة, وليس ثَمَّ ليل(12/426)
فما أحلاها من كلمة، وما ألذَّها من بشرى، فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن, وأحَلَّنا دار المقامة من فضله, لا يمسنا نصب ولا يمسنا فيها لغوب، إنَّ ربنا لغفور شكور،
__________
ولا نهار, قد علم الله مقدار تلك الساعات، فإذا كان يوم الجمعة في وقت الجمعة التي يخرج أهل الجمعة إلى جمعتهم, نادى منادٍ: يا أهل الجمعة, أخرجوا إلى دار المزيد، فيخرجون في كثبان المسك"، قال حذيفة: والله لهو أشد بياضًا من دقيقكم هذا، "فيخرج غلمان الأنبياء بمنابر من نور, وغلمان المؤمنين بكراسي من ياقوت، فإذا قعدوا وأخذوا مجالسهم, بعث الله عليهم ريحًا تثير عليهم المسك الأبيض فتدخله في ثيابهم, وتخرجه من جيوبهم، فيقول الله: أين عبادي الذين أطاعوني بالغيب, وصدقوا رسلي, فهذا يوم المزيد, فيجتمعون على كلمة واحدة، إنا قد رضينا فارض عنَّا، فيقول: لو لم أرض عنكم لم أسكنكم جنتي، فهذا يوم المزيد، فسلوني، فيجتمعون على كلمة واحدة، أرنا وجهك ننظر إليه, فيتجلَّى لهم فيغشاهم من نوره، فلولا أنَّ الله قضى أن لا يموتوا لاحترقوا".
وللبيهقي عن جابر رفعه: "بينا أهل الجنة في منازلهم؛ إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم, فإذا الرب قد أشرف، فقال: يا أهل الجنة سلوني، قالوا: نسألك الرضا عنَّا, قال: رضاي أحلَّكم داري, وأنيلكم كرامتي، هذا أوانها فسلوني، قالوا: نسألك الزيادة، فيؤتون بنجائب من ياقوت، إلى أن قال: حتى ينتهي بهم إلى جنة عدن, وهي قصبة الجنة، فتقول الملائكة: يا ربنا قد جاء القوم، فيقول: مرحبًا بالصادقين، مرحبًا بالطائعين، فيكشف لهم الحجاب, فينظرون إليه، فيتمتعون بنور الرحمن, حتى لا يبصر بعضهم بعضًا، ثم يقول: ارجعوهم إلى القصور بالتحف، فيرجعون وقد أبصر بعضهم بعضًا" قال -صلى الله عليه وسلم: فذلك قول الله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت/ 32] الآية, "فما أحلاها من كلمة وما ألذَّها من بشرى, فعندها يقولون: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
قال ابن عباس: حزن النار، رواه الحاكم وصحَّحه، ولابن أبي حاتم عن ابن عباس: حزن ذنوب سلفت، وله عن الشعبي: طلب الخبز في الدنيا غداء وعشاء، وقيل: الجوع، وقيل: وسوسة إبليس وغيرها, "وأحلَّنَا دار المقامة" أي: الإقامة من فضله, من إنعامه وتفضله؛ إذ لا واجب عليه "لا يمسنا فيها نصب" تعب, "ولا يمسنا فيها لغوب" إعياء من التعب لعدم التكليف فيها، وذكر الثاني التابع للأول للتصريح بنفسه.
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى، قال رجل: يا رسول الله, إن النوم مما يقر الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة نوم؟ قال: "لا، النوم شريك الموت, وليس في(12/427)
وهذا يدل على أن جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد والتسبيح والتهليل، والذي يدل عليه الحديث الصحيح، إنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس، كما في مسلم من حديث جابر، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ويأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخَّطون ولا يبولون, ويكون طعامهم ذلك جشاء ورشحًا
__________
الجنة موت"، قال: فما راحتهم، فأعظم ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة"، فنزل: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} [فاطر: 35] .
وللبزار وللطبراني والبيهقي بسند صحيح عن جابر, قيل: يا رسول الله, أينام أهل الجنة؟ قال: "النوم أخو الموت, وأهل الجنة لا ينامون" , "إن ربَّنَا لغفور" للذنوب, "شكور" للطاعات، والمصنف لم يقصد التلاوة، بل بَيِّنَ ما يقولونه أولًا من النعم التي أفاضها عليهم، ثم ثناءهم عليه تعالى بأنه غفور شكور، ولكنه خلاف ظاهر القرآن, مع أنه أبلغ لجعله الثناء عليه متوسطًا بين تعداد النعم، على أنَّه ورد في خبر وإن كان معضلًا عند ابن أبي الدنيا وأبي نعيم وابن أبي حاتم مرفوعًا, في حديث طويل في ذكر ما أنعم الله به على أهل الجنة بنحو ورقتين، قال في آخره: "فلما تبئوا منازلهم، قال لهم ربه: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا؟ قالوا: نعم, رضينا فارض عنَّا، قال: برضاي عنكم أحللتكم داري, ونظرتم إلى وجهي, وصافحتكم ملائكتي، فهنيئًا هنيئًا، عطاء غير مجذوذ, ليس فيه تنغيص، فعند ذلك قالوا: الحمد لله الذي أذهب عنَّا الحزن، إن ربنا لغفور شكور, الذي أحلَّنا دار المقامة من فضله, لا يمسنا فيها نصب ولا يمسّنا فيها لغوب"، فصرح بأنهم يقولون الآيتين على وجههما, "وهذا يدل على أنَّ جميع العبادات تزول في الجنة إلّا عبادة الشكر والحمد، كما هو لفظ الآية: "والتسبيح والتهليل".
روى الأصبهاني في حديث عن عليّ رفعه: "ثم يحلّ بهم كرامة الله, والنظر إلى وجهه, وهو وعد الله أنجزه لهم، فعند ذلك ينظرون إلى وجه رب العالمين فيقولون: سبحانك, ما عبدناك حق عبادتك" , والذي يدل عليه الحديث الصحيح أنهم يلهمون ذلك كإلهام النفس" بفتحتين، فيحمل ما دلَّ عليه الأول على أن ذلك عبادة بدون تكليف فلا خلف.
"كما في مسلم من حديث جابر" بن عبد الله "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يأكل أهل الجنة فيها ويشربون" ولا يتغوطون كما في مسلم قبل قوله: "ولا يتمخطون ولا يبولون" , قال في المفهم: لأنَّ هذه فضلات مستقذرة, ولا مستقذر في الجنة، ولما كانت أغذية أهل الجنة في غاية اللطافة والاعتدال لم يكن لها فضلة مستقذرة، بل تستطاب وتستلذّ، وعبَّر عنها بالمسك في قوله: "ويكون طعامهم" أي: خروج طعامهم أي: مطعومهم.
ولفظ مسلم: ولكن طعامهم "ذلك جشاء" بضم الجيم ومعجمة ومد- صوت مع ريح(12/428)
كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" يعني: إن تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس، فليس عن تكليف وإلزام، وإنما هو عن تيسير وإلهام، ووجه التشبيه أن تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله، وكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة. وسر ذلك أن قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته، وقد غمرتهم سوابغ نعمته، وامتلأت أفئدتهم بمحبَّته ومخاللته, فألسنتهم ملازمة لذكره، وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] وقوله تعالى:
__________
يحصل من الفم عند حصول الشبع, "ورشحًا" عرفًا "كرشح المسك".
قال القرطبي: وقد جاء في لفظ آخر: "لا يبولون ولا يتغوَّطون, وإنما هو عرق يجري من أعراضهم مثل المسك"، يعني: من أبدانهم, "يلهمون التسبيح والتحميد".
وفي رواية لمسلم: التسبيح والتكبير "كما يلهمون النفس"، يعني: إنَّ تسبيحهم وتحميدهم يجري مع الأنفاس, فليس عن تكليف وإلزام, وإنما هو عن تيسير وإلهام" لأنها ليست دار تكليف, ووجه التشبيه" كما قال القرطبي في المفهم: "إنَّ تنفس الإنسان لا بُدَّ له منه ولا كلفة ولا مشقة في فعله" بل فيه لذة وراحة, "فكذلك يكون ذكر الله تعالى على ألسنة أهل الجنة، وسِرّ ذلك" أي: حكمته ونكتته "أنَّ قلوبهم قد تنوّرت بمعرفته، وأبصارهم قد تمتعت برؤيته, وقد غمرتهم" غطتهم "سوابغ نعمته, وامتلأت أفئدتهم بمحبته ومخاللته، فألسنتهم ملازمة لذكره" ومن أحبّ شيئًا أكثر من ذكره، إلى هنا كلام المفهم، قال الأبي: فهو تسبيح "تنعم وتلذذ, "وقد أخبر الله تعالى عن شأنهم في ذلك بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] بالجنة.
وقال البيضاوي: بالبعث والثواب, {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة, وإيراثها تمليكها, مختلعة من أعمالهم, أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه.
وروى ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلّا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله" , فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} [المؤمنون: 11] {نَتَبَوَّأُ} ننزل {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ؛ لأنها كلها لا يختار فيها مكان على مكان ويهدي الله كل أحد لمنزله, فلا يختار سواه, {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الجنة, وقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما(12/429)
{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10] ، وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
__________
يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم, {وَتَحِيَّتُهُمْ} فيما بينهم {فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ} مفسرة {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 74] الآية.
وفي البيضاوي: تحيتهم: ما يحيي بعضهم بعضًا, أو تحية الملائكة إياهم، ولعلَّ المعنى: إنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظيم الله وكبرياءه, مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، ثم حيَّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات والفوز بأصناف الكرامات، أو الله تعالى، فحمدوه وأثنوا عليه بصفات الإكرام، انتهى.
وفي الحديث المعضل الذي سبقت الإشارة إليه: "بينما هم يومًا في ظلّ شجرة طوبى يتحدثون؛ إذ جاءتهم الملائكة يقودون نجبًا" إلى أن قال: "فأناخوا لهم النجائب"، وقالوا لهم: "إن ربكم يقرئكم السلام, ويريدكم لتنظروا إليه وينظر إليكم, وتكلموه ويكلمم, ويزيدكم من فضله ومن سعته، فيتحوّل كل رجل منكم على راحلته, فينطلقون صفًّا معتدلًا" إلى أن قال: "فلما دفعوا إلى الجبار أسفر لهم عن وجهه الكريم, وتجلَّى لهم في عظمته العظيمة, تحيتهم فيها سلام، قالوا: ربنا أنت السلام ومنك السلام...." الحديث.
"فائدة" وقع في كلام بعض الأئمة أنَّ رؤية الله خاصَّة بمؤمني البشر، وأنَّ الملائكة لا يرونه، واحتج له بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] فإنه عامّ خص بالآية والأحاديث في المؤمنين، فبقي على عمومه في الملائكة, قال في الحبائك: والأرجح أنهم يرونه, قد نصَّ إمام أهل السنة أبو الحسن الأشعري على أنهم يرونه.
وقال في البدور: وكذا نصَّ عليه البيهقي في كتاب الرؤية, وأخرج عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "خلق الله الملائكة لعبادته أصنافًا, وإنَّ منهم ملائكة قيامًا صافِّين من يوم خلقهم إلى يوم القيامة, وملائكة ركوعًا خشوعًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، وملائكة سجودًا من يوم خلقهم إلى يوم القيامة، فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم -تبارك وتعالى، فإذا نظروا إلى وجهه الكريم، قالوا: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك".
ثم أخرجه من وجه آخر بنحوه، عن رجل من الصحابة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي آخره: "فإذا كان يوم القيامة تجلَّى لهم ربهم فينظرون إليه، قالوا: سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك"، قال في الحبائك: وأما دخول الملائكة الجنة فمِمَّا لا خلاف فيه ولا مرية لأحد, خلافًا لمن وَهِمَ فيه. انتهى.(12/430)
قال مؤلفه وجامعه أحمد بن الخطيب القسطلاني -عامله الله بما يليق بكرمه: فهذا آخر ما جرى به قلم المدد، من هذه المواهب اللدنية, وسطرته يد الفيض من المنح المحمدية، وذلك وإن كثر لقليل في جنب شرفه الشامخ، ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ, ولو تتبعنا ما منحه الله به من مواهبه، وشرف به من مناقبه، لما وسعت بعض بعضه الدفاتر، وكانت دون مرماه الأقلام
__________
"قال جامعه ومؤلفه" وفي نسخ: مؤلفه وجامعه, "أحمد بن" محمد "الخطيب" بن أبي بكر محمد "القسطلاني" بفتح القائف وشد اللام على ما اشتُهِرَ، وُلِدَ كما ذكره شيخه السخاوي في الضوء اللامع بمصر, ثاني عشر ذي القعدة, سنة إحدى وخمسين وثمانمائة, وحفظ عدة كتب، وأخذ عن الشهاب العبادي, والبرهان العجلوني, والفخر المقسي, والشيخ خالد الأزهري النحوي, والسخاوي, وغيرهم، وقرأ البخاري على الشهاوي في خمسة مجالس، وحج مرارًا, وجاور بمكة مرتين.
وروى بها عن جمع جمّ، منهم: النجم بن فهد, وكان يعظ بجامع الغمري وغيره، ولم يكن له في الوعظ نظير. انتهى.
وله تصانيف كشرح البخاري، ثم اختصره في آخر: سماء الإسعاد مختصر الإرشاد, لم يكمل، وشرح صحيح مسلم إلى أثناء الحج, والشاطبية والبردة, وله مسالك الحنفا في الصلاة على المصطفى, ولطائف الإشارات في القرءات الأربع عشرة, وهذه المواهب اللدنية، وقدمت إسنادي إليه بها في أول هذا الشرح، وأعلاه شيخنا دراية.
ورواية عن أحمد بن خليل السبكي, عن إجازة الشريف يوسف الأرميوني، عن المؤلف وشيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي, إجازة عن النور الزيادي، عن أبي الحسن البكري، عن المصنف, ومات يوم الخميس مستهلّ محرم سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة بمنزله بالعينية، وتعذّر الخروج به إلى الصحراء؛ لأنه اليوم الذي دخل فيه السلطان سليم مصر، وكانت وفاته بشيء أصابه من البندق, ودفن على الإمام العيني، وقوله: وجامعه بعد قوله: مؤلفه, إشارة إلى أنه ليس له في تصنيفه إلّا مجرد الجمع من كلامهم، ولا ينافيه قوله: بعد أنه بفيض الله وإنعامه؛ لأن المعنى: أنعم الله عليه بهدايته لأخذه من كلامهم وإطلاعه عليه, "عامله الله بما يليق بكرمه، فهذا آخر ما جرى به قلم المدد من هذه المواهب" جمع موهبة -بكسر الهاء- وهي العطية على جهة التمليك بلا عوض, "اللدنية, وسطرته يد الفيض من المنح" بكسر ففتح- العطايا "المحمدية, وذلك وإن كثر" الواو للحال, "لقليل في جنب شرفه الشامخ" الرفيع, "ويسير مما أكرمه الله به من فضله الراسخ" الثابت, "ولو تتبعنا ما منحه" أعطاه, وخصَّه الله به من مواهبه وشرفه به من(12/431)
وجفت المحابر، وضاقت عن جمعة الكتب، وعجزت عن حمله النجب.
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
وإلى الله أضرع أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم, مخلصًا من شوائب الرياء ودواعي التعظيم، وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات, في المحيا وبعد الممات، سائلًا من وقف عليه من فاضل أنار الله بصيرته، وجبل على الإنصاف سريرته، أن يصلح بحلمه عثاري وزللي، ويسد بسداد فضله خطئي.
__________
بعض بعضه الدفاتر" الكراريس, جمع دفتر, "وكانت دون مرماه الأقلام, وجفت المحابر" جمع محبرة "وضاقت عن جمعه الكتب, وعجزت عن حمله النجب" بنون وجيم وموحدة- كرام الإبل, وأنشد المصنّف قول العارف ابن الفارض:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه ... يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
"وإلى الله تعالى" لا إلى غيره, "أضرع" أخضع وأذل, "أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم, مخلصًا" بضم الميم وسكون وسكون الخاء وفتح اللام، أي: مبعدًا, "من شوائب الرياء ودواعي التعظيم" جمع شائبة، والمراد بها هنا: الأسباب التي يحصل بها الرياء, "وأن ينفعني به والمسلمين والمسلمات في المحيا والممات" بالثواب؛ لأنَّ تأليف الكتب من العمل الباقي بعد الموت، كما قيل في قوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاث" فذكر منها: "أو علم ينتفع به"، وقد قال بعضهم: الأقسام السبعة التي التي لا يؤلف عالم عاقل إلّا فيها, هي: إما شيء لم يسبق إليه يخترعه, أو شيء ناقض يتممه, أو شيء مغلق يشرحه, أو شيء طويل يختصره دون أن يخلّ بشيء من معانيه, أو شيء مفرَّق يجمعه، أو شيء مختلط يرتبه، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه. انتهى.
وكل ذلك داخل في قوله: "أو علم ينتفع به" بشرط كون العلم شرعيًّا, "سائلًا من وقف عليه من فاضلٍ أنار الله بصيرته" هي قوة القلب المنور بنور القدس، يرى حقائق الأشياء وبواطنها بمثابة البصر للعين, يرى به صور الأشياء وظاهرها، قاله ابن الكمال, وقال الراغب: البصر الجارحة كلمح البصر والقوة التي فيها، ويقال: لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر, ولا يكاد يقال للجارحة بصيرة, "وجبل" بفتح الجيم والباء- طبع, "على الإنصاف سريرته, أن يصلح بحلمه عثاري" بعين مكسورة ومثلثة مصدر عثر, إذا انعقل في ثوبه مثلًا, فسقطت رجله عن الاستقامة، والمراد هنا: الزلة، فقوله: "وزلّي" عطف تفسير, "ويسد بسداد" بكسر السين وفتحها "فضله".
قال في المصباح: السداد -بالكسر: ما يسد به القارورة وغيرها، واختلف في سداد من عيش وسداد من عوز لما يرمق به العيش وتسد به الخلة، فقال ابن السكيت والفارابي، وتبعه(12/432)
وخللي، فالكريم يقيل العثار، ويقبل الاعتذار، خصوصًا عذر مثلي، مع قصر باعه في هذه الصناعة، وكساد سوقه بما لديه من مزجاة البضاعة، وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية، والعوارض البدنية، وتحمّله من الأثقال التي لو حملها رضوى لتضعضع, أو أنزلت على ثبير لخشع وتصدّع، لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق،
__________
الجوهري -بالفتح والكسر، واقتصر الأكثر على الكسر، منهم: ابن قتيبة وثعلب والأزهري؛ لأنه مستعار من سداد القارورة "خطئي وخللي".
قال العلامة ناصر الدين اللقاني: والمرتضى عندهم في إصلاح ما يقف عليه الناظر في كلام غيره التنبيه على ذلك بالكتابة في حاشية أو غيرها، لا المحو والإثبات من الأصل؛ إذ لعلَّ الصواب ما في الأصل والتخطئة خطأ. انتهى.
ولذا قال شيخنا: ليس المراد أنَّه يغير ما يراه من الخلل، بل المراد أنه إذا رآه وأمكن الجواب عنه أجاب، وإلّا بَيِّنَ فساده, واعتذر بأنَّ الإنسان محلّ السهو والغفلة. انتهى.
وقد قيل بذلك, ولو كان لحنًا أو خطًأ محضًا في الحديث النبوي، لكن الأكثر من العلماء والمحدثين أنه يصلح ويقرأ الصواب، لا سيما في لحنٍ لا يختلف المعنى به وهو الأرجح؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقله، ومنهم من صوب إبقاءه مع التضبيب عليه, "فالكريم يقيل" من الإقالة, "العثار" بكسر المهملة "ويقبل" من القبول "الاعتذار, خصوصًا عذر مثلي, مع قصر باعه في هذه الصناعة" الحديثية, "وكساد سوقه" عدم نفاقه ورواجه "بما لديه" أي: بسبب ما عنده "من مزجاة البضاعة" من إضافة الصفة للموصوف، أي: بضاعة مزجاة.
قال البيضاوي: ردية أو قليلة ترد وتدفع رغبةً عنها, من أزجيته إذا دفعته، وفي المصباح: البضاعة -بالكسر- قطعة من المال تعد للتجارة، ففيه استعارة, شبَّه العلم الذي حصله بمال قليل معَدّ للتجارة فيه وطلب الربح منه, والقليل في يد التاجر بعد حصول الربح منه، فلا اعتراض من كان بصفته, وتعرض للتأليف بأن في عبارته سقطًا أو غيره، قال هذا المصنف تواضعًا واعترافًا بالعجز؛ إذ له اليد الطولى في علوم عديدة ومصنفات كثيرة مستعملة مرغوب فيها, من أجَلِّها المواهب, "وما ابتلي به من شواغل الدنيا الدنية, والعوارض البدنية" من الأمرض, وذلك عذر كبير في حصول الخلل, "وتحمله من الأثقال التي لو حملها رضوى" بفتح الراء وإسكان المعجمة بوزن سكرى- جبل بالمدينة "لتضعضع" خضع وذلَّ وافتقر -كما في القاموس, "أو أنزلت على ثبير" جبل بمكة قرب المزدلفة, "لخشع وتصدَّع" أي: تشقَّقَ، والقصد بهذا التمثيل لشدة ما أصابه, حتى أنه لو حلَّ بهذين الجبلين مع غلظهما وصلابتهما ما أطاقاه.
قال ذلك مبالغة في شدة البلايا التي أصابته, "لكنني أخذت غفلة الظلام الغاسق" أي: الشديد السواد، أي: الغفلة الحاصلة للناس في شدة الظلام المانعة عن سعيهم في مصالحهم(12/433)
والليل الواسق، فسرقته من أيدي العوائق، والليل يعين السارق، واستفتحت مغالق المعاني بمفاتيح فتح الباري، واستخرجت من مطالب كنوز العلوم نفائس الدراري، حامدًا الله تعالى على ما أنعم وألهم وعلّم ما لم أكن أعلم, مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف أنبيائه، وأفضل مبلغ لأنبائه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه
__________
فاشتغلت فيها بتصنيف هذا الكتاب, وخصها لقلة المتاعب والأسباب المعوقة عن المطلوب غالبًا, "والليل الواسق" الجامع للدواب وغيرها، كاللصوص الذين تخشاهم الناس فيهابون الخروج فيه ويلزمون بيوتهم, "فسرقته من أيدي العوائق" التي تعوقه عمَّا يريده من الاشتغال به وجمعه, "والليل يعين السارق" يمنع رؤية الناس له بظلامه, حتى يتمكَّن من السرقة، ولذا فضل العشاق الليل على النهار، وقال الشاعر:
وكم لظلام الليل عندي من يد ... تخبر أن المانوية تكذب
"واستفتحت مغالق المعاني" أي: طلبت إزالة ما يمنع من إدراك الوصول إلى المعاني، بأن تعلقت بما يزيل اللبس والإشكال عنها, حتى ظهرت له وانكشفت، فعبرت عنها بألفاظ سهلة قريبة المأخذ, واضحة الدلالات، وفي تسمية تلك الإشكالات المغطية للمعاين بالمغالق -جمع مغلاق بالكسر- استعارة تحقيقة, شبَّه الإشكالات المانعة من إدراك ما وراءها بما هو محفوظ فيها, واستعار لها اسمها, "بمفاتيح فتح الباري" أي: بالبحث واتفتيش عمَّا استعمل هذا اللفظ الذي هو عَلَمٌ لهذا الكتاب, وأراد به فتح الباري -جلا وعلا- بإفاضة النعم عليه, واستخراج المعاني الدقيقة من مواضعها, ووضع ما يدل عليها في كتابه.
كذا قال شيخنا، أي: فالمراد: مفاتيح فتح الباري -سبحانه وتعالى, على طريق الاستعارة, وفيه التورية بذكر اسم الكتاب؛ لأن الأخذ منه من جملة نعم الله تعالى, "واستخرجت من مطالب كنوز العلوم" أي: الكتب المشتملة على العلوم؛ كاشتمال المطالب على الأموال المكنوزة فيها, "نفائس الدراري" أي: المسائل النفيسة المشبهة للدرر النفيسة المكنوزة, "حامدًا الله تعالى على ما أنعم" أي: على إنعامه، ولم يتعرض للمنعم به إيهامًا لقصور العبارة عن الإحاطة به, ولئلَّا يتوهم اختصاصه بشيء دون شيء, "وألهم وعلم" يتعدَّى لمفعولين نحو: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} أولهما محذوف للقرينة، أي: علمني "ما لم أكن أعلم, مصليًا مسلمًا على رسوله محمد أشرف" أفضل أنبيائه "وأفضل مبلغ لأنبائه" بالهمزة المفتوحة- لأخباره تعالى التي أمره بتبليغها، وليس الضمير للمصطفى كما هو بين؛ إذ المعنى: إن الرسل كلهم بلغوا ما أمرهم الله بتبليغه وهو أفضلهم, "وعلى آله وأصحابه وأحبابه وخلفائه" يحتمل أنه خاص على عام، ويحتمل المغايرة(12/434)
وخلفائه صلاةً لا ينقطع مددها، ولا يفنى أمدها.
والله أسأل أن ينفع به جيلًا بعد جيل، وحسبنا الله ونعم الوكيل, وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي، وما أنعم به عليَّ ربي، وهذا الكتاب، وأن
__________
يجعل أحبابه من غير آله وصحبه لجريهم على سننهم, وخلفائه القائمين بنشر أحاديثه وتبليغها للناس كما ورد: الأئمة المقسطين من غير الصحابة, "صلاة لا ينقطع مددها, ولا يفني أمدها" غايتها.
قال مؤلفه -رحمه الله تعالى ورفع درجاته في الجنان: وقد انتهت كتابة هذا النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى, المنقولة من المسوَّدة المرجوع عن كثير منها, مع زيادات جَمَّة مَنَّ الله تعالى بها في خامس عشر شعبان المكرم, سنة تسع وتسعين وثمانمائة، وتَمَّت المسودة في الثاني من شوال سنة ثمان وتسعين وثمانمائة, وكان الابتداء في المسودة المذكورة ثاني يوم من قدومي من مكة المشرَّفة صحبة الحاج في شهر محرم, سنة ثمان وتسعين وثمانمائة", وفي هذا همة علية جدًّا من المصنف -رحمه الله، يبدأ عقب السفر غير مبالٍ بالتعب، ثم يتمّ جزئين في نحو تسعة أشهر، فذكره لهذا من باب التحدث بالنعمة, "واللهَ" بالنصب قدّم على عامله, وهو "أسأل" لإفادة التخصيص عند البيانين، والحصر عند النحويين -كما قاله الزمخشري: في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} ، {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي} , {لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} خلافًا لابن الحاجب في أنه للاهتمام, قال: ولا دليل على كونه للحصر، قال بعضهم: دليله الذوق وفهم أئمة التفسير, مع حصوله الاهتمام أيضًا؛ إذ لا ينافي الاختصاص "أن ينفع به جيلًا" بكسر الجيم وسكون التحتية- أمة "بعد جيل" ويجمع على أجيال، وفيه محض الإخلاص بتأليفه, وأنه لم يترقّب عليه منفعة من مخلوق, ولا قصد به التوسل إلى القرب منهم؛ كعادة كثير من المؤلفين، وسلك سنن الأئمة في الدعاء بالانتفاع بتأليفه؛ لتحصل الثمرة به عاجلًا بالانتفاع به في الدنيا, وآجلًا بالثواب الجزيل بفضل الله في الأخرى؛ لئلّا يذهب عناؤه باطلًا، بجميل صنع الله تعالى قبول دعوته, فإن الله تعالى قد نشر ذكره في الآفاق, وجبل قلوب كثير من الخلق على محبته, والاشتغال به, وهي من علامات القبول, وتعجيل بشرى المؤمن, وإلا فكم من تأليف حسن طوى ذكره, ولم يشتغل به، والرجاء منه تعالى أن يتمّ الإنعام بالإحسان الأخروي, "وحسبنا الله" كافينا "ونعم الوكيل" المفوّض إليه الأمر، وأتى بها استعانةً لوقوف في أمر عظيم, هل يقبل تأليفه وينتفع به، وقد دلّت الآية على استحباب هذه الكلمة عند الغم والأمور العظيمة.
وروى ابن مردويه من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل" قاله في الإكليل, "وأستودع الله تعالى نفسي وديني وخواتيم عملي وما(12/435)
ينفعني به والمسلمين، وأن يردني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة، وأن يطيل عمري في طاعته، ويلبسني أثواب عافيته، ويجمع لي وللمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة، ويصرف عني سوءهما، ويجعل وفاتي ببلد رسوله، ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه
__________
أنعم به عليَّ ربي" أي: أَكِلُ ذلك كله إلى الله, وأتبرأ من حفظه, وأتخلى من حرسه, وأتوكل عليه، فإنه تعالى الوافي الحفيظ, إذا استودع شيئًا حفظه، وفيه إلماح إلى أنه مسافر من الدنيا، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يقول للمسافر: "استودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك".
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه، وصحَّحه الحاكم على شرطهما, "بهذا" التأليف، "وأن ينفعني به والمسلمين" ذكر السؤال بالنفع ثلاث مرات؛ لأن الله يحب الملحين في الدعاء، وأقلّ الإلحاح ثلاث مرات، "وأن يردَّني وأحبابي إلى الحرمين الشريفين على أحسن وجه وأتمه، وأن يرزقني الإقامة بهما في عافية بلا محنة" بلية واختيار, "وأن يطيل عمري في طاعته"؛ لأنها خير الزاد, موجبة للسعادة الأبدية.
روى الحاكم عن جابر، قال -صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخياركم"، قالوا: بلى، قال: "خياركم أطولكم أعمارًا وأحسنكم أعمالًا".
وروى أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح, والحاكم، وقال: على شرطهما, عن أبي بكرة رفعه: "خير الناس من طال عمره وحَسُنَ عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله" , "ويلبسني أثواب عافيته" لأقوى بها على طاعته.
روى أحمد والترمذي عن العباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "يا عباس, يا عم رسول الله, سل الله العافية في الدنيا والآخرة".
ولأحمد والترمذي عن الصديق: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام أوّل على المنبر، فقال: "سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين خيرًا من العافية".
وللنسائي وابن ماجه عن أنس رفعه: "سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فإذا أعطيت المعافاة في الدنيا وأعطيتها في الآخرة فقد أفلحت" , "ويجمع لي والمسلمين بين خيري الدنيا والآخرة, ويصرف عني سوءهما" وعن المسلمين, ففيه اكتفاء, "ويجعل وفاتي ببلد رسوله" ولم يقع ذلك، بل مات بمصر كما مَرَّ, ولكن الرجاء من كرم الله وجوده أن يعوضه عن هذه الدعوة.
وقد روى أحمد وصحَّحه الحاكم عن أبي سعيد، رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يعجل له دعوته, وإمَّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها".(12/436)
عباده الصالحين مع رضوانه، ويمتِّعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم, من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه، والحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
وللحاكم عن جابر مرفوعًا في حديث طويل: "فلا يدعو المؤمن بدعوة إلّا استجيب له، إمَّا أن تعجل له في الدنيا, وإما أن تدخر له في الآخرة" , فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجّل له شيء من دعائه، وتعجيلها في الدنيا شامل لعين المسئول، ولبدله بدليل قوله في الحديث قبله: "وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها".
ولذا قال الحافظ: إن الإجابة تتنوّع، فتارة بعين المطلوب فورًا، وتارة يتأخّر لحكمة فيه، وتارة يغير عين المطلوب؛ حيث لا مصلحة فيه، وفي الواقع مصلحة ناجزة, أو أصلح منها, "ويمنحنا من المدد المحمدي بما منحه" أعطاه "عباده الصالحين, مع رضوانه, ويمتعنا بلذة النظر إلى وجهه الكريم من غير عذاب يسبق، فإنه سبحانه إذا استودع شيئًا حفظه".
روى أحمد عن ابن عمر، رفعه: "إن لقمان الحكيم قال: إن الله إذا استودع شيئًا حفظه" والحمد لله وحده, وصلى الله على سيدنا محمد, وآله وصحبه وسلم" هذا, وقد مَنَّ الله سبحانه وتفضَّل على عبده مع عجزه وضعفه بإتمام هذا الشرح المبارك -إن شاء الله تعالى- في مدة طويلة جدًّا, آخرها يوم الاثنين المبارك بين الظهر والعصر, ثالث عشر جمادى الثانية سنة سبع عشرة بعد مائة وألف من الهجرة النبوية, على صاحبها أفضل صلاة وتحية، والله أسأل من فضله متوسلًا إليه بأشرف رسله أن يجعله لوجهه خالصًا, وأن يظلني في ظل عرشه؛ إذ الظل أضحى في القيامة قالصًا، وأن ينفع به إلى المعاد, وأن يثيبني والمسلمين به في يوم التناد، وأن ينفع به نفعًا جمًّا, ويفتح به قلوبًا غلفًا, وأعينًا وآذانًا صمًّا، وأعوذ بالله من حاسدٍ يدفع بالصدر، فهذا لله لا لزيد ولا لعمرو قد سار بنعمة الله قبل كمال نصفه سير الشمس في المشارق والمغارب، وتقطَّعت أوراقه قبل إكماله بكثرة من له كتاب, وكتب منه نسخ لا تحصى من خطى, ومن فروعه, فرحم الله تعالى من نظر إليه بعين الإنصاف, والتمس مخرجًا لما يراه من زلل وإتلاف، فإني لجدير بأن أنشد قول القائل:
حمدت الله حين هدى فؤادي ... لما أبديت مع عجزي وضعفي
فمن لي بالخطأ فأرد عنه ... ومن لي بالقبول ولو بحرف
وأعوذ برب الفلق من شر ما خلق, إلى تمام السورتين، فما أجدني بإنشاد قول من قال من أهل الكمال:
إني لأرحم حاسدي لفرط ما ... ضاقت صدورهم من الأوعار(12/437)
قال مؤلفه -رحمه الله: وقد انتهت كتابة النسخة المنقول منها النسخة المباركة النافعة -إن شاء الله تعالى- في خامس عشر شعبان المكرم, سنة تسع وتسعين وثمانمائة, وكان الابتداء في المسوّدة المذكورة ثاني يوم قدومي من مكة المشرفة،
__________
نظروا صنيع الله بي فعيونهم ... في جنة وقلوبهم في نار
لا ذنب لي قد رمت كتم فضائلي ... فكأنما علقتها بمنار
لكن من يكن الله تعالى هو المعين له, وتوكله عليه, لا يضره حسد الحاسدين, ولا كيد المبغضين، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك, لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، أسألك أن تجعله لك خالصًا، ومن أسباب الفوز والرضا لك ولرسولك، وأن تريني وجهك ووجه حبيبك في القيامة، وأن ترزقني العافية في الدّارين, والمعافاة والسلامة ما شاء الله, لا قوة إلّا بالله, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأميّ, وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمن, آمين. تم.
الحمد لمنزل القرآن الكريم, وأفضل الصلاة وأتمَّ التسليم على ذي الخلق العظيم, ومن هو بالمؤمنين رءوف رحيم, وبعد: حمدًا لله على آلائه, والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه, فقد تَمَّ بعون منزل السبع المثاني, طبع الشرح الرقيق المباني, المحرر الأساليب والمعاني، المنسوب للإمام المسدد والهمام الجهبذي الممجد، صاحب التآليف الرائقة, والتصانيف الفائقة، المشهور فضله عند القاصي والداني, شمس الملة والدين, سيدي محمد الزرقاني, على المواهب اللدنية للإمام القسطلاني -قدس الله روحهما ونوّر بالرضوان ضريحهما.
وهذا الكتاب البديع الرائق السهل المنيع الفائق، قد جمع من تاريخ المصطفى وسيرته, ونسبه الشريف وسنته, وأخلاقه وأسمائه وهديه, وطريقته وطبه, وخصائصه وبلاغته وفصاحته, وبعوثه وسراياه وغزواته, وعباداته وإرهاصاته ومعجزاته, وسائر أحواله الشريفة, وما يتعلق بحضرته السنية المنيفة, ما لا يكاد يحويه بهذا النمط مؤلف, ولا يستوعبه على هذا الوجه مصنّف، فيا له من كتاب حلت بتكرير الطبع مشاربه, وبزغت في سماء الفضل شموسه وكواكبه، وقد حليت طرره, ووشيت غرره بالكتاب المسمَّى زاد المعاد في هدي خير العباد, للإمام الحافظ النقاد, الذي حظي من مواهب العرفان ما له في العالم استيعاد, العلامة الهمام, شيخ الإسلام: شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية, وكان طبعه الباهر الجليل, وإفراغه في هذا القالب الجميل, بالمطبعة العامرة الأزهرية, الكائن محلها بجوار الرياض الأزهرية, إدارة حضرة مصطفى بك شاكر وأخيه" لا زالت الأيام مضيئة بشموس علاهم, والليالي منيرة ببدور حلاهم، وذلك في شهر صفر الخير سنة 1329 على صحابها أفضل الصلاة وأزكى التحية. أمين.(12/438)
صحبة الحاج في شهر محرم سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، والحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم. آمين.
بعونه تعالى تَمَّ الكتاب.(12/439)
الفهرس:
* النوع السابع من عبادتاته -عليه الصلاة والسلام- في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته 3
* المقصد العاشر: الفصل الأول في إتمامه تعالى نعمته عليه 70
* الفصل الثاني: في زيارة قبره الشريف ومسجده المنيف 177
* الفصل الثالث: في أمور الآخرة 264
* خاتمة 415(12/440)