القسم الرابع: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف
عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة، تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة، فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، قال: فهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه، فأقيمت الصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا، وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات، وللقوم ركعتان. رواه البخاري
__________
"القسم الرابع: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف"
أي: صلاة الفرض فيه "عن جابر" بن عبد الله" قال: أقبلنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى إذا كنا" بالموضع الذي سميت غزوتنا إليه "بذات الرقاع" جمع رقعة، سميت الغزوة بذلك؛ لأنهم عصبوا أرجلهم بالخرق لما رقت وقطعت الأرض جلودها من الحفاء أو لغير ذلك، وهي غزوة بني محارب وبني ثعلبة وأنمار، فليس المراد أن ذات الرقاع اسم موضع كما قد يتوهم، وقد مر ذلك موضحا في المغازي "فإذا أتينا" إذا ظرفية لا شرطية، أي: في وقت إتياننا "على شجرة ظليلة" ذا ظل "تركناها للنبي -صلى الله عليه وسلم" لينزل تحتها فيستظل بها.
وفي رواية للبخاري عن جابر أنه غزا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد فلما قفل قفل معه، فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاء، فنزل -صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بظل الشجر، ونزل -صلى الله عليه وسلم- تحت سمرة فنمنا نومة "فجاء رجل من المشركين" اسمه غورث، بمعجمة أوله ومثلثة آخره وزن جعفر، وحكي غويرث بالتصغير "وسيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معلق بالشجرة فاخترطه" بخاء معجمة ساكنة وطاء مهملة، يعني سله من غمده "فقال: تخافني، فقال: "لا"، فقال: من يمنعك مني؟ " زاد في رواية للبخاري ثلاث مرات، وهو استفهام إنكاري، أي: لا يمنعك مني أحد؟ "قال: "الله" يمنعني منك "قال: فهدده أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، فغمد السيف وعلقه" بالشجرة.
قال الحافظ: ظاهره يشعر أنهم حضروا القصة، وأنه إنما رجع عما كان عزم عليه بالتهديد وليس كذلك، ففي رواية البخاري في الجهاد بعد قوله: قلت: "الله" فشام السيف بفاء ومعجمة، أي: أغمده وهي من الأضداد شامه استله وأغمده، وكان الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبينه وتحقق صدقه وعلم أنه لا يصل إليه شام السيف، وأمكن من نفسه "فأقيمت الصلاة فصلى بطائفة ركعتين" لفظ البخاري ولفظ مسلم: فصلى بالطائفة، أي: الأولى ركعتين "ثم تأخروا وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- أربع ركعات(11/174)
ومسلم.
ولمسلم: فصففنا صفين خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وكبرنا جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه -الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى -فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود والصف الذي يليه، انحدر الصف المؤخر
__________
وللقوم ركعتان"، قال النووي: أي: صلى بالطائفة الأولى ركعتين وسلم وسلموا والثانية كذلك، فكان متنفلا وهم مفترضون. انتهى".
وتعقب بأنه لم يسلم من الفرض في حديث جابر المذكور في الصحيح، فالأظهر أن معنى: وللقوم ركعتان، أي: في الجماعة والركعتان أتموهما لأنفسهم، ويكون فعل ذلك لبيان جواز الإتمام في السفر "رواه البخاري" في الجهاد وفي المغازي "ومسلم" في الصلاة "ولمسلم" هنا عن جابر، قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الخوف "فصفنا" بشد الفاء، وفي رواية: "فصففنا"، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم "صفين" صف "خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: وصف مؤخر عنه "والعدو بيننا وبين القبلة، فكبر النبي -لى الله عليه وسلم- وكبرنا" عقبه "جميعا، ثم ركع وركعنا جميعا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا" معه "جميعا" رؤوسنا، وجميعا هنا للتأكيد "ثم انحدر بالسجود" الانحدار يقتضي السرعة في الهوي، وبالسجود يتعلق بانحدار والباء للمصاحبة، أي: ملتبسا بالسجود، أو بمعنى اللام وتسمى لام التعليل "و" كذا "الصف الذي يليه" معه وهو الأقرب "وقام الصف المؤخر في نحر العدو" أي: قبل وجوههم وصدورهم من النحر الذي هو موضع القلادة من الصدر "فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- السجود" أي: انفصل منه، والمراد الجنس فيعم السجدتين "وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا، ثم تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم ركع النبي -صلى الله عليه وسلم- وركعنا جميعا" هذا يقتضي أن الحراسة إنما كانت في السجود لا غير، وأن العدو كان في جهة القبلة "ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرا في الركعة الأولى" صفة أخرى للصف، أو للذي، أو بدل منها "فقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى النبي -صلى الله عليه وسلم السجود والصف" بالرفع "الذي يليه" موضعه رفع صفة الصف "انحدر الصف(11/175)
بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعًا.
ولمسلم والبخاري أيضا من حديث يزيد بن رومان عن صالح بن خوات عمن صلى معه -صلى الله عليه وسلم- يوم ذات الرقاع صلاة الخوف: أن طائفة صفت معه، وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم.
قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف.
__________
المؤخر بالسجود، فسجدوا ثم سلم النبي -صلى الله عليه وسلم- وسلمنا جميعا" عقبه، وهذه صفة غير السابقة، صلاها مقصورة وصلوا جميعا معه، وكان العصر كما في رواية تلي هذه عند مسلم.
"ولمسلم" هنا "والبخاري أيضا" في المغازي، كلاهما "من حديث" مالك عن "يزيد بن رومان" بضم الراء المدني مولى آل الزبير، مات سنة ثلاثين ومائة "عن صالح بن خوات" بفتح الخاء المعجمة والواو المشددة فألف ففوقية ابن جبير بن النعمان الأنصاري المدني، تابعي، ثقة وأبوه صحابي أول مشاهده أحد، وقيل: شهد بدر "عمن صلى معه -صلى الله عليه وسلم" قيل: هو سهل بن أبي حثمة.
قال الحافظ: والراجح أنه أبوه كما جزم به النووي في تهذيبه تبعا للغزالي، وذلك لأن أبا أويس رواه عن يزيد شيخ مالك، فقال عن صالح، عن أبيه: ويحتمل أن صالحا سمعه من أبيه ومن سهل فأبهمه تارة، وعينه أخرى، لكن قوله: "يوم ذات الرقاع" يعين أن المبهم أبوه، إذ ليس في روايته عن سهل أنه صلاها معه -صلى الله عليه وسلم، ويؤيده أن سهلا لم يكن في سن من يخرج في الغزاة لصغره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- مات وهو ابن ثمان سنين، كما جزم به الطبري وابن حبان وابن السكن وغيرهم، لكن لا يلزم أن لا يرويها، فروايته لها مرسل صحابي، فقوي تفسير المبهم بخوات "صلاة الخوف، أن طائفة صفت" هكذا في أكثر الأصول، وفي بعضها: صلت.
قال النووي: وهما صحيحتان "معه" صلى الله عليه وسلم "و" صفت "طائفة" بالرفع، أي: اصطفوا، يقال: صف القوم إذا صاروا صفا "وجاه" بكسر الواو وضمها، أي: مقابل "العدو، فصلى بالتي معه ركعة، ثم ثبت" حال كونه "قائما وأتموا" أي: الذين صلوا معه الركعة "لأنفسهم" ركعة أخرى "ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفة الأخرى" التي كانت وجاء العدو "فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا" لم يخرج من صلاته "وأتموا لأنفسهم" الركعة الأخرى "ثم سلم بهم، قال مالك: وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف، وما ذهب إليه(11/176)
وما ذهب إليه مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد علي ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة، ولكونها أحوط لأمر الحرب.
وعن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل نجد، فوازينا العدو، فصاففنا لهم، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بنا، فقامت طائفة معه، وأقبلت طائفة على العدو، وركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، وسجد سجدتين،
__________
مالك من ترجيح هذه الكيفية وافقه الشافعي وأحمد على ترجيحها لسلامتها من كثرة المخالفة ولكونها أحوط لأمر الحرب" إلا أن مالكا رجع عن إتمامهم لأنفسهم، ثم سلام الإمام بهم إلى ما رواه هو وغيره عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة: أن الطائفة الأولى إذا قام الإمام يتمون لأنفسهم، ثم يسلمون وينصرفون، ثم تأتي الأخرى فيصلي بهم الركعة ويسجد بهم، ثم يسلم فيقومون فيركعون الركعة ثم يسلمون.
قال ابن عبد البر: وإنما اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن الإمام لا ينتظر المأموم، وأن المأموم إنما يقضي بعد سلام الإمام.
"و" في الصحيحين واللفظ للبخاري من طريق الزهري "عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: غزوت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل" بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة "نجد" وفي غزوة ذات الرقاع ونجد كل ما ارتفع من بلاد العرب من تهامة إلى العراق "فوازينا" بالزاي قابلنا "العدو" قال الجوهري: يقال: آزيت، يعني بهمزة ممدودة لا بالواو، والذي يظهر أن أصلها الهمز، فقلبت واوا قاله الحافظ: "فصاففنا لهم" باللام، كذا رواه المستملي والسرخسي، ولغيرهما: فصاففناهم "فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي لنا" أي: لأجلنا أو بنا "فقامت طائفة معه" زاد في رواية تصلي "وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه وسجد سجدتين" زاد عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري: مثل نصف صلاة الصبح، وفيه إشارة إلى أنها كانت غيرها فهي رباعية، ويأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت العصر، قاله الحافظ: "ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل" فقاموا في مكانهم في وجه العدو "فجاؤوا" أي: الطائفة الأخرى التي كانت تحرس "فركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين".
قال الحافظ: لم تختلف الطرق عن ابن عمر في هذا، فظاهره أنهم أتموا في حالة واحدة، ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى، وإلا فيستلزم ضياع الحراسة المطلوبة وإفراد الإمام وحده، ويرجحه رواية أبي داود عن ابن مسعود، بلفظ: ثم سلم فقام هؤلاء،(11/177)
ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل، فجاؤوا فركع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم، فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين.
وفي حديث جابر: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة.
وعنه: أنه -صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان وعسفان، فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فتميلوا عليهم ميلة واحدة، وإن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطريه، فيصلي بهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة
__________
أي: الطائفة الثانية، فقضوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا ثم ذهبوا، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا أنفسهم ركعة ثم سلموا، قال: ورجح ابن عبد البر هذه الكيفية الواردة في حديث ابن عمر على غيرها لقوة الإسناد ولموافقة الأصول في أن المأموم لا يتم صلاته قبل سلام إمامه، وقد جوزها الشافعي وأحمد وغيرهما، وظاهر كلام المالكية امتناعها، ونقل عن الشافعي أنها منسوخة ولم يثبت عنه.
"وفي حديث جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل:" محل بين مكة والمدينة "فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم، رواه البغوي في شرح السنة" وكذا البيهقي في المعرفة بسند فيه ضعف وانقطاع، ورواه الدارقطني بنحوه من وجه آخر فيه عنبسة بن سعيد ضعفه غير واحد.
"وعنه" أي: جابر أيضا "أنه -صلى الله عليه وسلم- نزل بين ضجنان" بفتح الضاد المعجمة وسكون الجيم ونونين بينهما ألف بزنة فعلان غير منصرف، قال في الفائق: جبل بينه وبين مكة خمسة وعشرون ميلا "وعسفان" زاد في رواية مسلم عن جابر: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوما من جهينة، فقاتلونا قتالا شديدا، فلما صلينا الظهر قال المشركون: لو ملنا عليهم ميلة لاقتطعناهم، فأخبر جبريل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فذكر ذلك لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: "فقال المشركون: لهؤلاء صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم وأمهاتهم" زاد الدارقطني: ومن أنفسهم "وهي العصر، فاجمعوا أمركم:" اعزموا على أمر تفعلونه "فتميلوا عليهم ميلة واحدة" بأن تحملوا عليهم فتأخذوهم "وأن جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأمره أن يقسم أصحابه شطرين" أي: طائفتين "فيصلي بهم وتقوم طائفة أخرى وراءهم" يحرسون حتى تصلي الطائفة الأولى "وليأخذوا(11/178)
ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان. رواه الترمذي والنسائي.
قال ابن حزم: وقد صح فيها -يعني صلاة الخوف- أربعة عشر وجها. وبينها في جزء مفرد.
وقال ابن العربي في "القبس": جاء فيها روايات كثيرة، أصحها ست عشرة رواية مختلفة، ولم يبينها. وقال النووي نحوه في شرح مسلم ولم يبينها أيضًا.
وقد بينها الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي وزاد وجها آخر، فصارت سبعة عشر وجها، لكن يمكن أن تتداخل.
وقال صاحب "الهدي": أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله -صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى.
وهذا هو المعتمد، وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها.
وقد حكى ابن القصار المالكي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: أربعا وعشرين، وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام
__________
حذرهم وأسلحتهم" معهم إلى أن يصلوا "فتكون لهم ركعة" مع الجماعة والأخرى أتموها لأنفسهم "ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ركعتان" كلاهما مع الجماعة "رواه الترمذي والنسائي" وأصله في مسلم.
"قال ابن حزم: وقد صح فيها، يعني: صلاة الخوف أربعة عشر وجها وبينها في جزء مفرد، وقال ابن العربي في القبس" على موطأ مالك بن أنس "جاء فيها" أي: في صفتها "روايات كثيرة أصحها ست عشرة رواية مختلفة ولم يبينها".
"وقال النووي نحوه في شرح مسلم: ولم يبينها أيضا، وقد بينها الحافظ زين الدين" عبد الرحيم "العراقي في شرح الترمذي، وزاد وجها آخر: فصارت سبعة عشر وجها، لكن" قال: "يمكن أن تتداخل، وقال صاحب الهدي: أصولها ست صفات وبلغها بعضهم أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك وجها من فعله -صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من اختلاف الرواة. انتهى، وهذا هو المعتمد وأشار إليه الحافظ العراقي بقوله: يمكن تداخلها، وقد حكى ابن القصار" أبو الحسن علي "المالكي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي:" صلاها "أربعًا وعشرين" مرة.
"وقال الخطابي: صلاها عليه الصلاة والسلام في أيام مختلفة بأشكال متباينة يتحرى(11/179)
مختلفة بأشكال متباينة، يتحرى فيها ما هو الأحوط للصلاة، والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى.
وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة، وفروع يطول ذكرها. حكاها في فتح الباري.
__________
فيها ما هو الأحوط للصلاة والأبلغ للحراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. انتهى".
وفي كتب الفقه تفاصيل لها كثيرة وفروع يطول ذكرها، حكاها في فتح الباري.
وقال السهيلي: اختلف الفقهاء في الترجيح، فقالت طائفة: يعمل منها بما هو أشبه بظاهر القرآن، وقالت طائفة: يجتهد في طلب أخيرها، فإنه الناسخ لما قبله، وطائفة: يؤخذ بأصحها نقلا وأعلاها رواة، وطائفة: يؤخذ بجميعها على حسب اختلاف أحوال الخوف، فإذا اشتد أخذ بأيسرها. انتهى.(11/180)
القسم الخامس: في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة
وفيه فروع أربعة:
الفرع الأول: في عدد التكبيرات
عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه. وخرج بهم إلى المصلى فصفهم وكبر عليه أربع تكبيرات. رواه البخاري ومسلم.
__________
"القسم الخامس: في ذكر" صفة "صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة" بفتح الجيم وكسرها وهو أفصح، وقيل: بالكسر للنعش، وبالفتح للميت، ولا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت "وفيه فروع أربعة:
الأول: في عدد التكبيرات: عن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي" بفتح النون على المشهور، وحكي كسرها وخفة الجيم، وخطئ من شددها وتشديد الياء وحكي تخفيفها، ورجحه الصغاني وهو لقب لكل من ملك الجبشة، أي: أخبر بموته "في اليوم الذي مات فيه" في رجب سنة تسع، ففيه الإعلام ليجتمع الناس للصلاة والنعي المنهي عنه هو ما يكون معه صياح "وخرج بهم إلى المصلى" مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع، أي: بقيع بطحان، أو المراد بالمصلى موضع معد للجنائز ببقيع الفرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، قاله الحافظ: "فصفهم" قال جابر: كنت في الصف الثاني، رواه النسائي،(11/180)
وعند الترمذي من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة فرفع يديه مع أول تكبيرة، ووضع يده اليمنى على يده اليسرى.
__________
ففيه أن للصفوف تأثيرا ولو كثر الجمع؛ لأن الظاهر أنه خرج معه كثير والمصلى فضاء لا يضيق بهم لو صفوا صفا واحدا، ومع ذلك صفهم، وهذا ما فهمه مالك بن هبيرة الصحابي، فكان يصف من يحضر صلاة الجنازة ثلاثة صفوف سواء قلوا أو كثروا "وكبر عليه أربع تكبيرات" ففيه أن تكبير صلاة الجنازة أربع، واعترض بأن هذا صلاة على غائب لا على جنازة، وأجيب بأن ذلك يفهم بطريق الأولى "رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق مالك وغيره عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
"وعند الترمذي من حديث أبي هريرة؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- كبر على جنازة" زاد ابن أبي داود في روايته لهذا الحديث: فكبر أربعا، "فرفع يديه مع أول تكبيرة ووضع يده اليمنى على يده اليسرى".
قال ابن أبي داود: لم أر في شيء من الأحاديث الصحيحة أنه كبر على جنازة أربعا إلا في هذا الحديث، وإنما ثبت أنه كبر على النجاشي أربعا وعلى قبر أربعا، وأما على الجنازة هكذا فلا إلا هذا الحديث.(11/181)
الفرع الثاني: في القراءة والدعاء
نقل ابن المنذر عن ابن مسعود، والحسن بن علي، وابن الزبير، والمسور بن مخرمة، مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق.
ونقل عن أبي هريرة وابن عمر: ليس فيها قراءة، وهو قول مالك والكوفيين.
وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف
__________
"الفرع الثاني: في القراءة والدعاء نقل ابن المنذر عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور"، بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الواو "ابن مخرمة" بخاء معجمة "مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق" بن راهويه.
"ونقل" ابن المنذر "عن أبي هريرة وابن عمر ليس فيها قراءة وهو قول مالك والكوفيين" ومنهم أبو حنيفة.
"وروى عبد الرزاق والنسائي بإسناد صحيح عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف" بضم(11/181)
قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت ولا يقرأ إلا في الأولى.
وفي البخاري عن سعد عن طلحة قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وقال: لتعلموا أنها سنة، وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي.
وعن ابن عباس قال: صلى الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب. رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا. والصحيح عن ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين. ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال.
__________
المهملة "قال: السنة" أي: العادة "في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت" أي: لا يشرك غيره معه في الدعاء له "ولا يقرأ إلا في الأولى" أي: عقب التكبيرة الأولى.
"وفي البخاري" من إفراده عن مسلم "عن سعد" بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف "عن طلحة" بن عبد الله بن عوف "قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا" روي بفوقية على الخطاب، وتحتية على الغيبة "أنها سنة" وهذا من الصحابي له حكم الرفع عند الأكثر "وليس فيه بيان محل قراءة الفاتحة، وقد وقع التصريح بذلك في حديث جابر عند الشافعي، بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، كما ذكره الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي" قائلا: إن سنده ضعيف كما نقله عنه تلميذه الحافظ في الفتح، وبه قال أكثر الشافعية، لكن المعتمد عندهم ما جزم به في المنهاج أنها لا تعيين عقب الأولى.
"وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، رواه الترمذي وقال: لا يصح هذا" الحديث "والصحيح ع ابن عباس قوله: "السنة" وهذا مصير منه إلى الفرق بين الصيغتين" ولا شك في الفرق بينهما، إذ الأولى صريحة في الرفع باتفاق لو صحت بخلاف السنة فيدخلها الخلاف، هل لها حكم الرفع وهو قول الأكثر أو لا لاحتمال أنه أراد سنة غيره -صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه بقوله: "ولعله أراد الفرق بالنسبة إلى الصراحة والاحتمال" أي: احتمال أنه أراد سنة الخلفاء، أو سنة الصلاة على الجنائز.(11/182)
وعن عوف بن مالك: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة فحفظت من دعائه: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار". قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم. رواه مسلم.
وعن واثلة بن الأسقع قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان في ذمتك، وحل جوارك، فقه من فتنة القبر
__________
"وعن عوف" بالفاء "ابن مالك" الأشجعي من مسلمة الفتح وسكن دمشق، مات سنة ثلاث وسبعين: "صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على جنازة، فحفظت من دعائه" من للتبعيض، فظاهره أنه دعا زيادة على هذا: "اللهم اغفر له وارحمه وعافه": سلمه من العذاب "واعف عنه وأكرم نزله" بضم النون والزاي وقد تسكن وهو ما يعد للنازل وهو الضيافة، أي: أحسن نصيبه من الجنة "ووسع مدخله" أي: قبره ومنزله في الجنة "واغسله بالماء والثلج والبرد".
قال الطيبي: يمكن أن ذكرهما بعد الماء لشمول أنواع الرحمة بعد المغرفة لإطفاء عذاب النار التي هي في غاية الحرارة؛ لأن عذاب النار تقابله الرحمة، فالتركيب من باب قوله: متلقلدا سيفا ورمحا، أي: اغسل خطاياه بالماء، أي: اغفرها وزد على الغفران شمول الرحمة، ثم طلب ما عسى أن يبقى من آثار الخطايا بالتنقية، فقال: "ونقه من الخطايا كما ينقى" بضم أوله مبني للمفعول نائب الفاعل، ويروى كما نقيت "الثوب الأبيض من الدنس" وخصه؛ لأنه أشد في النقاء من غيره "وأبدله": عوضه، وروى وأبدل له هما في مسلم، فما في نسخ وأنزله تصحيف "دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله" خدما وخولا، ولا تدخل الزوجة؛ لأنه خصها بالذكر، فقال: "وزوجا خيرا من زوجه" ومفهومه أن نساء الجنة أفضل من الآدميات وإن دخلن الجنة وفيه خلاف "وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر".
وفي رواية لمسلم أيضا: وقه فتنة القبر، أي: التحير في الجواب عند السؤال "ومن عذاب النار، قال عوف: حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت لدعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم" لأحصل ثمرة دعائه، فلا يعارضه حديث لا يتمنين أحدكم الموت؛ لأنه كما في بعض طرقه لضر نزل به وهذا عكسه "رواه مسلم" من أفراده.
"وعن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "قال: صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رجل من المسلمين فسمعته يقول: "اللهم إن فلان بن فلان" نسي الراوي اسمه، فعبر عنه بهذا "في(11/183)
"وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم". رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده". رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وعنه: سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت ربها وأنت خلقتها، هديتها إلى الإسلام، قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها". رواه أبو داود.
__________
"ذمتك وحل" أي: نزل "جوارك" أي فيه "فقه من فتنة القبر" أي: تحيره في الجواب عند سؤال الملكين "وعذاب النار وأنت أهل الوفاء" بالوعد، وقد قلت: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} ، أي: في القبر لما يسألهم الملكان عن دينهم وربهم ونبيهم، فيجيبون بالصواب كما في حديث الشيخين "والحق" القول الصدق الواقع لا محالة: "اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم، رواه أبو داود".
"وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا صلى على الجنازة قال: "اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا" حاضرنا "وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" لعله غاير تفننا؛ لأن ما صدقهما واحد، وإذ لا يوجد شرعا مسلم إلا وهو مؤمن، وكذا عكسه، ويحتمل وهو أظهر أنه غاير؛ لأن الأعمال بالخواتيم كما قال في حديث آخر، فالنافع عند الوفاة إنما هو التصديق القلبي بخلاف حال الحياة فينفع فيه الانقياد الظاهر.
"اللهم لا تحرمنا أجره" أي: أجر الصلاة عليه وشهود جنازته أو أجر المصيبة بموته، فإن المؤمن مصاب بأخيه المؤمن "ولا تفتنا" بما يشغلنا عنك "بعده" فإن كل شاغل عن الله فتنة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وعنه" يعني أبا هريرة، قال: "سمعته -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم أنت ربها" أي: هذه الذات أو النسمة، ويحتمل أنها كانت امرأة "وأنت خلقتها: هديتها إلى الإسلام قبضت روحها وأنت أعلم بسرها وعلانيتها، جئناك شفعاء فاغفر لها"، رواه أبو داود" فحاصل الأحاديث أنه لا يتعين دعاء مخصوص في صلاة الجنازة، والله تعالى أعلم.(11/184)
الفرع الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر:
عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كان تقم المسجد، ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها فقالوا: ماتت، قال: "أفلا آذنتموني"؟ قال: فكأنهم صغروا أمرهم، فقال: "دلوني على قبرها"، فدلوه فصلى عليها. رواه البخاري ومسلم.
زاد ابن حبان فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت: "إن هذه القبور
__________
"الفرع الثالث: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر":
وقال بمشروعيته الأكثر، ومنعه النخعي ومالك وأبو حنيفة، وعنهم: أن دفن بلا صلاة شرع وإلا فلا.
"عن أبي هريرة: أن امرأة سوداء" لفظ البخاري: أن رجلا أسود، أو امرأة سوداء، وفي رواية له: أن أسود رجلا أو امرأة، وفي أخرى له: إن امرأة أو رجلا قال: ولا أراه إلا امرأة، ولفظ مسلم: أن امرأة سوداء أو شابا.
قال الحافظ: الشك فيه من ثابت؛ لأنه رواه عنه جماعة هكذا، أو من أبي رافع لقوله: ولا أراه إلا امرأة، ورواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عن أبي هريرة: امرأة سوداء ولم يشك، وللبيهقي بإسناد حسن عن بريدة أنها أم محجن. وذكر ابن منده في الصحابة: خرقاء امرأة سوداء كانت تقم المسجد، وقع ذكرها في حديث حماد بن زيد عن ثابت عن أنس، فإن كان محفوظا فهذا اسمها وكنيتها أم محجن "كانت تقم المسجد" بضم القاف، أي: تكنسه، أي: تجمع القمامة وهي الكناسة فتخرجها منه "ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسأل عنها، فقالوا: مات" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري في الجنائز، فمات، فلم يعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته، فذكره ذات يوم فقال: ما فعل بذلك الإنسان، قالوا: مات، وله في أحكام المساجد: فمات، فسأل النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه، قالوا: مات، وعند البيهقي عن بريدة أن الذي أجابه عن سؤاله عنها أبو بكر الصديق "قال: "أفلا آذنتموني" بالمد أعلمتموني "قال" أبو هريرة: "فكأنهم صغروا أمرها" أي: حقروه، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: فقالوا: إنه كان كذا وكذا قصته، قال: فحقروا شأنه.
قال المصنف: قصته بالنصب بتقدير نحو ذكروا قصته، ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف "فقال: "دلوني على قبرها، فدلوه" عليه "فصلى عليها، رواه البخاري ومسلم" كلاهما من طريق حماد بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة.
"زاد ابن حبان، فقال في رواية حماد بن سلمة عن ثابت" أي: عن أبي رافع عن أبي هريرة: كذا وقع في فتح الباري مع أن هذه الزيادة عند مسلم بلفظها عقب قوله: على قبرها بلفظ: ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم".(11/185)
"مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم". وأشار إلى أن بعض المخالفين احتج بهذه الزيادة، على أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم. ثم ساق من طريق خارجة بن زيد عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليه أربعا. قال ابن حبان: في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة.
وعن عقبة بن عامر: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف، وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين كالمودع للأحياء والأموات. رواه أبو داود والنسائي.
__________
قال الطيبي: هذا كالأسلوب الحكيم، يعني ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي منزلة الشفاعة له لينور قبره ويخفف من عذابه.
"وأشار" ابن حبان "إلى أن بعض المخالفين" الذين لا يرون الصلاة على القبر "احتج بهذه الزيادة على أن ذلك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم؛" لأن تنوير القبور لا يتحقق بصلاة غيره "ثم ساق من طريق خارجة بن زيد" الأنصاري أحد الفقهاء، مات سنة مائة، وقيل: قبلها "عن عمه يزيد بن ثابت نحو هذه القصة، وفيه: ثم أتى القبر فصففنا خلفه وكبر عليها أربعا".
"قال ابن حبان" ردا على من قال خصوصية: "في ترك إنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه، وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينهض دليلا للأصالة" فلا يتم استدلاله، زاد الحافظ: واستدل بخبر الباب على رد القول بالتفصيل بين من صلى عليه فلا يصلى عليه، بأن القصة وردت فيمن صلى عليه، وأجيب بأن الخصوصية تنسحب على ذلك.
"وعن عقبة" بقاف وموحدة "ابن عامر" الجهني "أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يوما فصلى على أهل أحد" الذين استشهدوا فيها "صلاته" بالنصب، أي: مثل صلاته "على الميت، ثم انصرف" فصعد المنبر.
"وفي رواية: صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" تجوزا على طريق جبر الكسر، وإلا فهي سبع سنين ودون النصف؛ لأن أحدا كانت في شوال سنة ثلاث، ومات -صلى الله عليه وسلم- في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، قاله الحافظ وغيره، ولعله سقط من ناسخ المصنف، ثم صعد المنبر ليلا، ثم قوله: "كالمودع للأحياء والأموات" عائد لصلاته على قتلى أحد، وللأحياء لصعوده المنبر بعد صلاته، وإنما كان كذلك؛ لأنه في آخر عمره "رواه أبو داود والنسائي" في الجنائز(11/186)
ورواه الشيخان أيضا بلفظ: خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال: "إني فرط لكم". الحديث.
وفيه: الصلاة على الشهداء في حرب الكفار. وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور: إلى أن لا يصلى عليهم.
وذهب أبو حنيفة إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني، وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال.
وحجة الجمهور: أنه عليه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد -كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر- وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة.
__________
"ورواه الشيخان أيضا" البخاري في الجنائز وعلامات النبوة والمغازي، ومسلم في فضائل النبي -صلى الله عليه وسلم، كلاهما عن عقبة بن عامر "بلفظ" أن النبي -صلى الله عليه وسلم "خرج يوما فصلى على أهل أحد كصلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر" لفظ البخاري هنا، وله في المغازي كمسلم: ثم صعد المنبر أسقط من حديث الشيخين ما لفظه كالمودع للأحياء والأموات، أي: أن صعوده المنبر كالمودع للأحياء، وخروجه وصلاته على أهل أحد كالمودع للأموات "فقال: "إني فرط" " بفتح الفاء والراء "لكم" أي: سابقكم "الحديث" بقيته عند الشيخين: "وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها"، والضمير لخزائن الأرض أو للدنيا المصرح بها عند مسلم والبخاري في المغازي، بلفظ: "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها "وفيه الصلاة على الشهداء في حرب الكفار"".
"وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور إلى أنه لا يصلى عليهم، وذهب أبو حنيفة" والكوفيون "إلى الصلاة عليهم كغيرهم، وبه قال المزني وهو رواية عن أحمد اختارها الخلال" بالخاء المعجمة "وحجة الجمهور أنه عيه الصلاة والسلام لم يصل على قتلى أحد كما رواه البخاري في صحيحه عن جابر" بن عبد الله "وأما هذه الصلاة فالمراد بها الدعاء، وليس المراد بها صلاة الجنازة المعهودة".
قال الشافعي في الأم: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم(11/187)
قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وأن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأرض.
ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه، وهو الصحيح عندهم. وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليه، لكن تجوز.
وذكر ابن قدامة: أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها يصلى عليهم: يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة.
قال ابن القاسم صاحب مالك: إنه لا يصلى على الشهيد فيما إذا كان المسلمون هم الذين غزوا الكفار، فإن كان الكفار هم الذين غزوا المسلمين فيصلى عليهم.
__________
يصلي على قتلى أحد، وما روي أنه صلى عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحيي على نفسه، قال: وأما حديث عقبة بن عامر فقد وقع في بعض طرقه أن ذلك كان بعد ثمان سنين، فكأنه دعا لهم واستغفر حين علم قرب أجله مودعا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت. انتهى.
"قال النووي: أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، أن هذه الصلاة مخصوصة بشهداء أحد، فإنه لم يصل عليهم قبل دفنهم كما هو المعهود من صلاة الجنازة، وإنما صلى عليهم في القبور بعد ثمان سنين، والحنفية يمنعون الصلاة على القبر مطلقا، ولو كانت الصلاة عليهم واجبة لما تركها في الأول" أي: في أول أمرهم وهو وقت موتهم "ثم إن الشافعية اختلفوا في معنى قولهم: لا يصلى على الشهيد، فقال أكثرهم: معناه: تحرم الصلاة عليه وهو الصحيح عندهم، وقال آخرون: معناه: لا تجب الصلاة عليهم، لكن تجوز وذكر ابن قدامة أن كلام أحمد في الرواية التي قال فيها: يصلى عليه يشير إلى أنها مستحبة غير واجبة" زيادة إيضاح فإن قيل: حديث جابر لا يحتج به؛ لأنه نفي وشهادة النفي مردودة مع ما عارضها من خبر الإثبات، أجيب بأن شهادة النفي إنما ترد إذا لم يحط بها علم الشاهد، ولم تكن محصورة، وإلا فتقبل باتفاق وهي قضية معينة أحاط بها جابر وغيره علما، وأما خبر الإثبات فيحتمل وجوها منها أن يكون من خصائصه، ومنها أن يكون المعنى الدعاء كما تقدم وغير ذلك، ثم هي واقعة عين لا عموم فيها، فكيف ينهض الاحتجاج بها لدفع حكم قد تقرر، والله أعلم.(11/188)
الفرع الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب:
عن جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه"، قال: فصففنا فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه. رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات. رواه الشيخان أيضا.
وعند البخاري من طريق ابن عيينة عن ابن جريج: "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة".
وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد، وهو قول الحنفية والمالكية، لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس.
__________
"الفرع الرابع: في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب:
عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش" بفتح الحاء المهملة والموحدة بعدها معجمة "فهلم" بفتح الميم، أي: تعالوا "فصلوا عليه".
"قال" جابر: "فصففنا" بفاءين "فصلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن وراءه" وللمستملي: ونحن صفوف "رواه البخاري" واللفظ له من طريق هشام بن يوسف عن ابن جريج عن عطاء، عن جابر "ومسلم" بلفظ: "مات اليوم عبد الله صالح أصحمة"، فقام فأمنا وصلى عليه، أخرجه من طريق يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن عطاء، عن جابر.
"وعن أبي هريرة؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- نعى النجاشي" للناس "في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات، رواه الشيخان أيضا" ومر في الفرع الأول.
"وعند البخاري" في هجرة الحبشة "من طريق ابن عيينة" سفيان "عن ابن جريج" عطاء، عن ابر قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي: "مات اليوم رجل صالح "فقوموا فصلوا على أخيكم أصحمة"" بوزن أربعة والحاء مهملة، وقيل: معجمة، وقيل: بموحدة بدل الميم، وقيل: صحمة بلا ألف، وقيل: ذلك، لكن بتقديم الميم على الصاد، وقيل: بميم أوله بدل الألف، فتحصل من هذا الخلاف في اسمه ستة ألفاظ لم أرها مجموعة، ومعناه بالعربية عطية، قاله في الإصابة.
"وبهذا الحديث استدل من منع الصلاة على الميت في المسجد" من حيث كونه خرج إلى المصلى "وهو قول الحنفية والمالكية" لكن المنع عندهم كراهة تنزيه "لكن قال أبو يوسف: إن أعد مسجد للصلاة على الموتى لم يكن في الصلاة فيه عليهم بأس".(11/189)
قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتنع عند الحنفية إدخال الميت المسجد، لا مجرد الصلاة عليه، حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله.
وقال ابن بزيزة وغيره: استدل به بعض المالكية، وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الإفراد، والبزار، كلاهما عن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة؟ فنزلت {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ
__________
"قال النووي: ولا حجة فيه؛ لأن الممتع عند الحنفية إدخال الميت المسجد لا مجرد الصلاة عليه" فيه "حتى لو كان الميت خارج المسجد جازت الصلاة عليه لمن هو داخله".
"وقال ابن بزيزة" بزاي مكررة "وغيره، استدل به بعض المالكية وهو باطل؛ لأنه ليس فيه صيغة نهي، وهي لاحتمال أن يكون خرج بهم المصلى لأمر غير المذكور، وقد ثبت" في مسلم وغيره عن عائشة "أنه عليه السلام صلى على سهيل" بضم السين مصغر "ابن بيضاء" هي أمه واسمها دعد بيضاء وصف لها وأبوه وهب بن ربيعة القرشي الفهري، مات سنة تسع، اختلف في شهوده بدرا "في المسجد".
وعند مسلم على ابني بيضاء سهيل وأخيه، وعند ابن منده وأخيه سهل بالتكبير، وبه جزم في "الاستيعاب" وزعم الواقدي أن سهلا المكبر مات بعد النبي -صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو نعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلا، كذا قال: ولم يزد مالك في روايته على ذكر سهيل المصغر، قاله في الإصابة باختصار "فكيف يترك هذا التصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلى لقصد تكثير الجمع الذي يصلون عليه ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر كونه أسلم، فقد روى ابن أبي حاتم في التفسير" زاد الحافظ من طريق ثابت "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "والبزار" زاد الحافظ من طريق حميد "كلاهما" أي: ثابت وحميد "عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما صلى على النجاشي قال بعض أصحابه: صلى على علج من الحبشة،(11/190)
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] الآية، وله شاهد من حديث أبي سعد عند الطبراني في معجمه الكبير، وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا.
وقد قال البخاري: "باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد" وروى حديثا عن ابن عمر أن اليهود جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل مهم وامرأة زنيا فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد.
وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى. فإن ثبت ما قال وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم.
ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض، أو لبيان الجواز، واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في
__________
فنزلت: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [آل عمران: 199] ، "وله شاهد من حديث أبي سعيد عند الطبراني في معجمه الكبير" لفظ الفتح: وله شاهد في معجم الطبراني الكبير من حديث وحشي وآخر عنده في الأوسط من حديث أبي سعيد "وزاد فيه: إن الذي طعن بذلك كان منافقا" فقوله في الأول بعض أصحابه بالنظر إلى الظاهر "وقد قال البخاري: باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، وروى حديثا" عن نافع "عن ابن عمر: أن اليهود" من أهل خيبر "جاؤوا إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- برجل منهم" لم يسم "وامرأة زنيا" قال ابن العربي: اسمها بسرة "فأمر بهما فرجما قريبا من موضع الجنائز عند المسجد" هكذا رواه مختصرا.
"وحكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقا بالمسجد النبوي من ناحية المشرق. انتهى، فإن ثبت ما قال" ابن حبيب فظاهر "وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلى المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان مهيأ للرجم" لفظ الفتح: يتهيأ فيه الرجم "ودل حديث ابن عمر المذكور على أنه كان للجنائز مكان معد للصلاة عليها، فقد يستفاد منه أن ما وقع من الصلاة على بعض الجنائز في المسجد كان لأمر عارض أو لبيان الجواز. واستدل به على مشروعية الصلاة على الجنائز في المسجد" كيف الدلالة مع قوله لبيان الجواز "ويقويه حديث عائشة" أنها(11/191)
المسجد، ويقويه حديث عائشة: "ما صلى -صلى الله عليه وسلم- على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد" أخرج مسلم، وبه قال الجمهور.
ويحمل المانعون الصلاة على سهيل: بأنه كان خارج المسجد، والمصلون داخله، وذلك جائز اتفاقا.
وفيه نظر: لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد على حجرتها لتصلي عليه. وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل على أنها حفظت ما نسوه.
وقد روى ابن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيبا صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك.
__________
أمرت أن يمر عليها بجنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد فتصلي عليه، فأنكر الناس ذلك عليها، فقالت: ما أسرع الناس "ما صلى" رسول الله "صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في المسجد، أخرجه مسلم" وله أيضًا: إلا في جوف المسجد "وبه قال الجمهور".
وقال مالك: لا يعجبني، وكرهه ابن أبي ذئب وأبو حنيفة وكل من قال بنجاسة الميت، وأما من قال بطهارته منهم فلخشية التلويث.
"ويحمل المانعون الصلاة على سهيل بأنه كان خارج المسجد والمصلون داخله وذلك جائز اتفاقا، وفيه نظر؛ لأن عائشة استدلت بذلك لما أنكروا عليها أمرها بالمرور بجنازة سعد" بن أبي وقاص "على حجرتها لتصلي عليه وقد سلم لها الصحابة ذلك، فدل" تسليمهم لها "على أنها حفظت ما نسوه" لكن في نسبة النسيان إليهم ما فيه وإن جاز لما علم من شدة حرصهم على حفظ ما فعله وقاله -صلى الله عليه وسلم، فاللائق أنهم حملوه على بيان الجواز وسلموا لها أدبا معها لكونها أم المؤمنين؛ ولأنها مسألة ذات خلاف، والمختلف فيه لا يجب إنكاره.
"وقد روى ابن أبي شيبة وغيره؛ أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد وأن صهيبا" بضم الصاد المهلمة وفتح الهاء وإسكان التحتية وموحدة هو ابن سنان الرومي، وفي نسخة سقيمة: وأن عليا وهي خطأ، فالذي في الفتح صهيبا "صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية: ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر، وهذا يقتضي الإجماع على جواز ذلك" وهو صادق بالكراهة.
وقد روى أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعا: "من صلى على جنازة في المسجد(11/192)
وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف، حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه.
وعن الحنفية والمالكية لا يشرع ذلك.
وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت أو ما قرب، لا ما إذا ما طالت المدة، حكاه ابن عبد البر.
وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم يجز. قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره.
وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور.
منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد، فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه، واستحسنه الروياني من الشافعية.
__________
فلا شيء له" وفي سنده صالح مولى التوأمة وفيه مقال، لكن تقوى بإنكار الصحابة على عائشة، إذ لم ينكروا إلا لعلمهم أنه لا ينبغي وأنها لم تعلم ذلك، وأما جعل اللام في "فلا شيء له" بمعنى "على" كقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، فخلاف الأصل والمتبادر وإن جعلت في الآية بمعنى على لاستحالة أن الإنان يسيء لنفسه ولا استحالة هنا.
"وقد استدل أيضا بحديث قصة النجاشي على مشروعية الصلاة على الميت الغائب عن البلد، وبذلك قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم: لم يأت عن أحد من الصحابة منعه، وعن الحنفية والمالكية: لا يشرع ذلك" ونسبه ابن عبد البر لأكثر العلماء.
"وعن بعض أهل العلم: إنما يجوز ذلك في اليوم الذي يموت فيه الميت، أو ما قرب لا ما إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، وقال ابن حبان: إنما يجوز ذلك لمن في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلا لم تجز" الصلاة عليه.
"قال المحب الطبري: لم أر ذلك لغيره" أي: ابن حبان، زاد الحافظ: وحجته وحجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي "وقد اعتذر من لم يقل بالصلاة على الغائب عن قصة النجاشي بأمور، منها: أنه كان بأرض لم يصل عليه بها أحد فتعينت الصلاة عليه لذلك، ومن ثم قال الخطابي: لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته بأرض ليس بها من يصلي عليه واستحسنه" أي: قال إنه حسن "الروياني من الشافعية".(11/193)
ومنها: قول بعضهم: إنه كشف له -صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في "الشفاء" بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلي عليه، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم، ولا خلاف في جوازها.
قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال.
وتعقبه بعض الحنفية: بأن الاحتمال كاف في مثل هذا، وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه أي أسباب النزول بغير إسناد عن ابن عباس: كشف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه. ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه.
ومن الاعتذارات أيضا: أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره. قاله المهلب، وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي.
__________
زاد الحافظ: وبه ترجم أبو داود في السنن الصلاة على المسلم يليه أهل الشرك في بلد آخر، وهذا محتمل إلا أني لم أقف في شيء من الأخبار على أنه لم يصل عليه في بلده أحد. انتهى وهو مشترك الإلزام، فلم يرو في الأخبار أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبو داود ومحله في اتساع الحفظ معلوم.
"ومنها قول بعضهم: إنه كشف له -صلى الله عليه وسلم- عنه حتى رآه، وعبر عنه القاضي عياض في الشفاء بقوله: ورفع له النجاشي حتى يصلى عليه، فتكون صلاته عليه كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأموم ولا خلاف في جوازها".
"قال ابن دقيق العيد: وهذا يحتاج إلى نقل ولا يثبت بالاحتمال، وتعقبه بعض الحنفية، بأن الاحتمال كاف في مثل هذا" من جهة المانع؛ لأنه لا يطلب بدليل، إذ مادة الجواب يكفي فيها الاحتمال "وكأن مستند هذا القائل ما ذكره الواحدي في أسبابه" أي: كتابه أسباب نزول القرآن "بغير إسناد عن ابن عباس، قال: كشف للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا ظنون، إلا أن جنازته بين يديه" زاد في الفتح، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا "ومن الاعتذارات أيضا أن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه لم يثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى على ميت غائب غيره، قاله المهلب وكأنه لم يثبت عنده قصة معاوية بن معاوية الليثي".
وقد ذكرت في ترجمته في الصحابة أن خبره قوي بالنظر إلى مجموع طرقه، كذا في(11/194)
واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته.
قال النووي: لو فتح هذا الباب لانسد كثير من ظواهر الشرع، مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله.
وقال ابن العربي: قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد. قلنا: وما عمل به محمد -صلى لله عليه وسلم- تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض، وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا لقادر، وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم، ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى إتلاف ما ليس له تلاف.
وقال الكرماني: قولهم: "يرفع الحجاب عنه" ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا
__________
الفتح، وأجيب بما ورد أنه -صلى الله عليه وسلم- رفعت له الحجب حتى شهد جنازته "واستند من قال بتخصيص النجاشي بذلك إلى ما تقدم من إشاعة أنه مات مسلما، أو استئلاف قلوب الملوك الذين أسلموا في حياته".
"قال النووي: لو فتح هذا الباب" لفظه باب هذا الخصوص "لا نسد كثير من ظواهر الشرع مع أنه لو كان شيء مما ذكروه لتوفرت الدواعي على نقله" فيه نظر، إذ مثل هذا لا يلزم توفر الدواعي على نقله، والذين جوزوا التخصيص وغيره؛ لأنها قضية عين يتطرق إليها احتمالات كثيرة، إذ لم يصح أنه صلى على غائب سواه ولا ثبت عن الخلفاء الراشدين فعل ذلك بعده.
"وقال ابن العربي:" أحد شيوخ المالكية من حفاظ الحديث "قال المالكية: ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد -صلى الله عليه وسلم- تعمل به أمته، يعني لأن الأصل عدم الخصوصية" وما أقبح هذا التركيب من مثله بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- مرتين باسمه بدون صلاة كآحاد الناس حمله عليه العجلة في إبداء اعتراضه الواهي الذي تخيل أنه أبطل به مذهب إمامه "قاوا: طويت له الأرض وأحضرت له الجنازة بين يديه، قلنا: إن ربنا عليه لقادر وإن نبينا لأهل لذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم ولا تخترعوا حديثا من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف فإنها سبيل إلى تلاقي" أي: تناول "ما ليس له تلاف" أي: ما لا ينبغي تناوله، وجواب هذا الهذيان ما مر أن الاحتمال يكفي في مثل هذا من جهة المانع، لا سيما وقد جاء ما يؤيده بإسنادين صحيحين عن عمران عند أبي عوانة وابن حبان فما حدثنا إلا بالثابتات.
"وقال الكرماني قولهم: يرفع الحجاب عنه ممنوع، ولئن سلمنا فكان غائبا عن(11/195)
عن الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فائدة. انتهى ملخصا من فتح الباري.
النوع الثالث: في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة
وهي لغة: النماء والتطهير.
والمال ينمي بها من حيث لا يرى، وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي أجرها عند الله تعالى. وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها. وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه، وهي قيد النعمة، وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه.
__________
الصحابة الذين صلوا عليه مع النبي -صلى الله عليه وسلم" جوابه ما مر أنه يصير كالميت الذي يراه الإمام المصلي عليه ودون المأمون وهذا جائز باتفاق.
وفي الفتح عقب كلام الكرماني، قلت: وسبقه إلى ذلك أبو حامد، ويؤيده حديث مجمع بن جارية بجيم وتحتانية في قصة الصلاة على النجاشي، قال: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئا أخرجه الطبراني وأصله ابن ماجه، لكن أجاب بعض الحنفية بما تقدم أنه يصير كالميت الذي يصلي عليه الإمام وهو يراه ولا يراه المأمون فإنه جائز اتفاقا.
"فائدة" أجمع كل من أجاز الصلاة على الغائب أن ذلك يسقط فرض الكفاية إلا ما حكي عن ابن القطان أحد أصحاب الوجوه من الشافعية أنه قال: يجوز ولا يسقط الفرض. انتهى.
قال الزركشي: ووجه أن فيه إزراء وتهاونا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول الغرض، وظاهر أن محله إذا علم الحاضرين. "انتهى ملخصا من فتح الباري" في مواضع من كتاب الجنائز.
"النوع الثالث: في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة"
من بيان مقدارها ووجوبها وما تجب فيه وهل تجب عليه "وهي لغة النماء" بفتح النون والمد الزيادة "والتطهير والمال ينمي" بكسر الميم: يكثر "بها من حيث لا يرى" لأن المرئي حسا نقصه "وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل: ينمي" بفتح أوله وكسر ثالثه من باب رمي، وفي لغة من باب قعد، أي: يزيد ويكثر "أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها" وهو الزيادة والتطهير "وقيل: لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه" بما وعد من الثواب عليها في الآخرة "وهي قيد النعمة" أي: مقيدة لها ومانعة من زوالها "وسميت الصدقة صدقة؛ لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه، وقد فهم من شرعه -صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت(11/196)
وقد فهم من شرعه -صلى الله عليه وسلم- أن الزكاة وجبت للمواساة، وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال، وهو النصاب.
ثم جعلها -صلى الله عليه وسلم- في الأموال النامية، وهي أربعة أصناف:
الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم.
والثاني: الزرع والثمار.
والثالث: بهيمة الأنعام: الإبل والبقر والغنم.
والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها.
وحدد -صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف بما يحتمل المواساة:
فنصاب الفضة خمس أواق، وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالًا، وأما الزرع فخمسة أوسق، وأما الغنم فأربعون شاة،
__________
للمواساة" أي: الرفق بالغير على وجه الشفقة والإمرام بحيث يجعله كأنه مساو له "وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال" وقع وشأن "وهو النصاب" أي: القدر المعتبر للوجوب "ثم جعلها -صلى الله عليه وسلم- في الأموال النامية وهي أربعة أصناف: الذهب والفضة اللذان بهما قوام العالم" بفتح القاف وكسرها، أي: عماده الذي يقوم به وينتظم "والثاني: الزرع والثمار، والثالث: بهيمة الأنعام" من إضافة الأعم إلى الأخص كشجر أراك "الإبل والبقر والغنم؛" لأن البهيمة كل ذات أربع من ذوات البر والبحر وكل حيوان لا يميز "والرابع: أموال التجارة على اختلاف أنواعها وحدد -صلى الله عليه وسلم- نصاب كل صنف" من هذه الأربعة "بما يحتمل المواساة" وإذا أردت بيان ذلك "فنصاب الفضة" فالفاء فصيحة في جواب الشرط المقدر "خمس أواق" جمع أوقية، بضم -الهمزة وشد الياء على الأشهر- "وهي مائتا درهم بنص الحديث" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، رواه الشيخان.
وقال -صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة عن كل أربعين درهما درهم وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمس دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك".... الحديث رواه أحمد وأبو داود عن علي، ونقل الترمذي عن البخاري أنه صحيح "والإجماع" على ذلك.
"وأما الذهب فعشرون مثقالا" وهو درهم وثلاثة أسباع درهم، ولم يختلف فيه في جاهلية ولا إسلام وهو اثنتان وسبعون حبة وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من طرفيها ما دق وطال كما في شرح الروض.(11/197)
والبقر ثلاثون بقرة، والإبل خمس.
ورتب -صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال:
فأعلاها وأقلها تعبا الركاز، وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ولم يعتبر حولا بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به.
ويليه الزروع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر، وإلا فنصفه.
ويليه الذهب والفضة والتجارة، وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه جمع السنة.
ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة.
ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا، فصار هو الواجب. ثم إنه
__________
قال ابن عبد البر: لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في نصاب الذهب شيء إلا ما روى الحسن بن عمارة عن علي رفعه: "هاتوا زكاة الذهب من كل عشرين دينارا نصف دينار"، وابن عمارة: وأجمعوا على ترك حديثه لسوء حفظه وكثر خطئه، لكن عليه جمهور العلماء.
"وأما الزرع والثمار فخمسة أوسق" لحديث الصحيحين: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، ولمسلم أيضا: "ليس يما دون خمسة أوسق من تمر ولا حب صدقة".
"وأما الغنم" وهي الضأن والمعز "فأربعون شاة والبقر" حمر وجاموس "ثلاثون بقرة" والتاء فيها، وفي شاة للوحدة ذكورا كانت أو إناثا أو مجمعة منهما "والإبل خمس" بختها وعرابها، ذكورها وإناثها "ورتب -صلى الله عليه وسلم- مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها" قدرا "وأقلها تعبا الركاز" بكسر الراء وخفة الكاف وآخره زاي منقوطة "وفيه الخمس لعدم التعب فيه" كثيرا "ولم يعتبر له حولا، بل أوجب فيه الخمس متى ظفر به، ويليه الزرع والثمار، فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر" مما يخرج منه إذا بلغ النصاب "وإلا" بأن سقي بآلة "فنصفه" أي: العشر "ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر؛ لأنه يحتاج إلى العمل فيه" أي: مال التجارة "جميع السنة ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص:" جمع وقص بفتحتين وقد تسكن القاف ما بين الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه "بخلاف الأنواع السابقة" فلا وقص فيها، بل ما زاد فبحسابه "ولما كان نصاب الإبل لا يحتمل المواساة من جنسه أوجب فيها" أي الإبل "شاة، فإذا صارت الخمسة خمسا وعشرين احتمل نصابها واحدا" من جنسها "فصار هو الواجب، ثم إنه قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان(11/198)
قدر سن هذا الواجب في الزيادة والنقصان بحسب كثرة الإبل وقلتها.
وفي كتابه -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه في الصدقة، ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض: في خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم
__________
بحسب كثرة الإبل وقلتها، وفي كتابه -صلى الله عليه وسلم- الذي كتبه في الصدقة ولم يخرجه إلى عماله حتى قبض" لئلا يستغنوا بأخذ الأحكام منه عن مشافهته والأخذ من لفظه الذي هو أعلى من الكتاب، وأما بعده فالرجوع إلى ما في الكتاب أولى من سؤال بعضهم لبعض.
ولفظ الرواية: وقرنه بسيفه حتى قبض فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، والمتبادر أنه لم يزل مقرونا بسيفه حتى قبض فأخذه أبو بكر بعده، ويحتمل كما قال ابن رسلان حتى شارف أن يقبض، كقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] ، أي: أشرفن على انقضاء العدة وقربن منها، فكان فيه "في خمس من الإبل شاة وفي عشر شاتان وفي خمس" بفتح السين "عشرة" بالفتح أيضا؛ لأن الاسمين يتركبان تركيب بناء قال ابن رسلان "ثلاث شياه وفي عشرين أربع شياه" إلى أربع وعشرين بدليل قوله: "وفي خمس وعشرين بنت مخاض" بمعجمتين أتى عليها حول ودخلت في الثاني والمخاض الحامل، أي: دخل وقت حمل أمها إن لم تحمل "إلى خمس وثلاثين، فإن زادت واحدة" بالرفع، قاله ابن رسلان، أي: على العدد المذكور، فإن كان الرواية تعين وإلا فيجوز نصبه على معنى زادت الإبل واحدة "ففيها ابنة لبون إلى خمس وأربعين" الغاية فيه، وفي نظائره داخلة في المغيا، فلا يتغير الواجب إلا بما زاد عليها كما قال "فإذا زادت واحدة" بالرفع قاله ابن رسلان، أما رواية: أو جريا على قول إن زاد لازم وثانيها متعد لواحد وثالثها لاثنين، فإيمانا في قوله: زادتهم إيمانا حال على الثاني ومفعول ثان على الثالث "ففيها حقه" بكسر المهملة وشد القاف، وهي التي دخلت في السنة الرابعة "إلى ستين، فإن زادت واحدة ففيها جذعة" بفتح الجيم والمعجمة وهي الداخلة في الخامسة "إلى خمس وسبعين، فإن زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإن زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون، وفي الغنم" لم يقيدها بالسائمة إشارة إلى أن ذكرها في(11/199)
في كل أربعين شاة شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة، ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة. رواه أبو داود والترمذي من حديث سالم بن عبد الله بن عمر.
وفرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج
__________
حديث آخر جرى على الغالب فلا مفهوم له؛ ولأنه مفهوم صفة "في كل أربعين شاة" تمييز "شاة" مبتدأ خبره في الغنم "إلى عشرين ومائة، فإذا زادت ففيها ثلاث شياه إلى ثلثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك" بمائة رابعة "ففي كل مائة شاة" بالجر "شاة" بالرفع "ثم ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة" ففي خمسمائة خمس، وهكذا "رواه أبو داود والترمذي من حديث" سفيان بن حسين عن الزهري، عن "سالم بن عبد الله بن عمر" عن أبيه قال: كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله، وقرنه بسيفه حتى قبض، فذكره بزيادة سبقت في الكتب النبوية.
قال الترمذي: حديث حسن ورواه يونس وغير واحد عن الزهري عن سالم ولم يرفعه، وإنما رفعه سفيان بن حسين. انتهى، ومراده بالرفع الوصل.
قال الحافظ: وسفيان ضعيف في الزهري، وقد خالفه من هو أحفظ منه في الزهري فأرسله، أخرجه الحاكم من طريق يونس عن الزهري، وقال: إن فيه تقوية لرواية سفيان بن حسين؛ لأنه قال عن الزهري: أقرأنيها سالم بن عبد الله فوعيتها على وجهها، فذكر الحديث، ولم يقل أن ابن عمر حدثه به، ولهذه العلة لم يجزم به البخاري، بل قال: ويذكر عن سالم عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم. انتهى، فتحسين الترمذي له باعتبار شاهده وهو حديث أنس عن أبي بكر الصديق بمعناه عند البخاري، وأبي داود والنسائي وابن ماجه.
"وفرض" ألزم وأوجب عند الجمهور "صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر" وما أوجبه، فبأمر الله وما ينطق عن الهوى "صاعا من تمر أو صاعا من شعير على العبد" أخذ بظاهره داود وحده، فأوجبها على العبد وأنه يجب على سيده أن يمكنه من الاكتساب لها كما يجب عليه تمكينه من الصلاة، وخالفه أصحابه والناس لحديث ليس على المسلم في عبده صدقة إلا صدقة الفطر "والحر والذكر والأنثى" ظاهره وجوبه عليها ولو ذات زوج، وقال أبو حنيفة والثوري وقال الجمهور: والثلاثة على زوجها إلحاقا بالنفقة لحديث ممن تمونون "والصغير والكبير من المسلمين" دون الكفار؛ لأنها طهرة وليسوا من أهلها، فلا تجب على كافر عن نفسه، ولا عن مستولدته المسلمة،(11/200)
الناس إلى الصلاة، رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر.
وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس، فرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين.
وقال -صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء. رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي. وهذه الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس:
أحدهما: من يأخذ لحاجته، فيأخذ بحسب شدة الحاجة وضعفها، وكثرتها وقلتها، وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل.
__________
ولا على المسلم إخراجها عن عبده الكفار "وأمر بها" ندبا "أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة" أي: صلاة العيد؛ لأن القصد إغناء الفقراء عن الطلب وجاز تأخيرها إلى تمام يوم العيد، وحرم تأخيرها عنه إلا لعذر كغيبة ماله أو المستحقين "رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر" من طرق.
"وفي رواية أبي داود من حديث ابن عباس: فرض -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر" أضيفت له لوجوبها بالفطر من رمضان، لكن هل المراد غروب شمسه؛ لأنه وقت الفطر منه فتجب به أو طلوع فجر العيد؛ لأن الليل ليس محلا للصوم وإنما يظهر الفطر الحقيقي بالأكل بعد الفجر فتجب به خلاف "طهرة" بضم الطاء "للصائم من اللغو والرفث وطعمة" بضم الطاء، أي: أكلة أو رزقا "للمساكين، وقال -صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره" من ملك مقرب أو جهبذ مجتهد "في" قسم "الصدقات" على مستحقيها "حتى حكم" هو تعالى "فيها فجزأها ثمانية أجزاء" في آية: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] ، "رواه أبو داود من حديث زياد بن الحارث الصدائي" بضم الصاد ودال مهملتين نسبة إلى صداء قبيلة من مذحج له صحبة ووفادة، قال: قال رجل: يا رسول الله أعطني من هذه الصدقة، فذكره ثم قال: "فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك".
وروى ابن سعد عن زياد المذكور مرفوعا: "إن الله لم يكل قسمها إلى ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى جزأها على ثمانية أجزاء، فإن كنت جزءا منها أعطيتك، وإن كنت غنيا عنها فإنما هي صداع في الرأس وداء في البطن" "وهذا الثمانية الأجزاء يجمعها صنفان من الناس أحدهما من يأخذ لحاجته فيأخذ بحسب شدة الحاجة، وضعفها وكثرتها وقلتها وهم الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل، والثاني: من يأخذ لمنفعته وهم العاملون عليها" من(11/201)
والثاني: من يأخذ لمنفعته، وهم العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمون أو لإصلاح ذات البين، والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا، ولا فيه منفعة للمسلمين فلا سهم له في الزكاة.
واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم؛ لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله، ويمنعونه في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] ، والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس، لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة، والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف، وذلك بعد البلوغ. وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء
__________
جاب وقاسم وكاتب وحاشر "والمؤلفة قلوبهم" ليسلموا أو يثبت إسلامهم، أو يسلم نظراؤهم أو يذبوا عن المسلمين أقوال "والغارمون" أهل الدين إن استدانوا لغير معصية أو تابوا وليس لهم وفاء "أو لإصلاح ذات البين" ولو أغنياء عندهم "والغزاة في سبيل الله، فإن لم يكن الآخذ محتاجا ولا فيه منفعة للمسلمين، فلا سهم له في الزكاة، واعلم أن الأنبياء لا تجب الزكاة عليهم" لا يرد عليه قوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] ؛ لأن المراد بها على هذا التطهير من الرذائل؛ "لأنهم لا ملك لهم مع الله حتى تجب عليهم الزكاة فيه، وإنما يجب عليك زكاة ما أنت له مالك، إنما كانوا يشهدون ما في أيديهم من ودائع الله لهم يبذلونه في أوان بذله ويمنعونه" من صرفه "في غير محله؛ ولأن الزكاة إنما هي طهرة لما" أي: لإنسان، فاستعمل ما للعاقل على القليل.
وفي نسخ: لمن "عساه أن يكون ممن وجبت عليه لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} من الذنوب "والأنبياء عليهم السلام مبرؤون من الدنس لوجوب العصمة لهم، ولهذا لم يوجب أبو حنيفة على الصبيان زكاة لعدم دنس المخالفة" الموجب للتطهير "والمخالفة لا تكون إلا بعد جريان التكليف وذلك بعد البلوغ"، والعقل "وإذا كان أهل المعرفة بالله والمشاهدون لأحديته لا يشهدون لهم مع الله ملكا كما هو مشهور من حكاياتهم، فما ظنك بالأنبياء والرسل وأهل التوحيد" بالرفع مبتدأ "والمعرفة" عطف على(11/202)
والرسل، وأهل التوحيد والمعرفة إنما غرفوا من بحارهم واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب "التنوير" للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي، أذاقنا الله حلاوة مشربه.
تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي، فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه في هذا الزمن، فقال الشافعي: لا تفعل، فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أربع ركعات؟ فقال: يا أحمد، هذا قلب غافل عن الله تعالى، يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك. قال: فخر أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة، ما زكاتها؟ فقال: على مذهبنا أو على مذهبكم؟ فقال: أوهما مذهبان؟ قال: نعم، أما على مذهبكم ففي الأربعين شاة
__________
التوحيد "إنما غرفوا من بحارهم" خبر المبتدأ "واقتبسوا من أنوارهم. انتهى ملخصا من كتاب التنوير" في إسقاط التدبير "للعارف الكبير أبي الفضل بن عطاء الله الشاذلي أذاقنا الله حلاوة مشربه".
وفي الأنموذج ذكر مالك من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان لا يملك الأموال إنما كان له التصرف والأخذ بقدر كفايته.
وعند الشافعي وغيره: يملك، ثم نقل بعد قليل كلام ابن عطاء الله هذا، فقال شارحه هذا كما ترى بناه ابن عطاء الله على مذهب إمامه أن الأنبياء لا يملكون ومذهب الشافعي خلافه.
"تنبيه: ما حكي أن الشافعي وأحمد بن حنبل كانا جالسين، إذ أقبل شيبان الراعي" من أكابر العارفين والزهاد العابدين الأمي، وكان إذا سئل عن شيء من القرآن أو الفقه أجاب بجواب متين، وإذا حضرت الجمعة خط على غنمه خطا فلا تتحرك ولا يعرض لها شيء حتى يعود.
"فقال أحمد بن حنبل للشافعي: أريد أن أسأل هذا المشار إليه" بالولاية "في هذا الزمن" لأعلم ما عنده "فقال الشافعي: لا تفعل" خشي أن يجيبه بخلاف ظاهر الشرع فيسوء اعتقاده فيه "فقال: لا بد من ذلك، فقال: يا شيبان ما تقول فيمن نسي أربع سجدات من أرب ركعات، فقال: يا أحمد هذا قلب غافل عن الله تعالى يجب أن يؤدب حتى لا يعود إلى مثل ذلك" فأجابه بخلاف ظاهر الشرع، لكن حصل منه اعتبار لأحمد "قال: فخري أحمد مغشيا عليه، ثم أفاق فقال له: ما تقول فيمن له أربعون شاة ما زكاتها؟، فقال: على مذهبنا" معاشر الصوفية "أو على مذهبكم" أيها الفقهاء؟ "فقال: أوهما مذهبان؟، قال: نعم، أما على مذهبكم ففي(11/203)
شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا.
فقد نقل شيخنا في "المقاصد الحسنة" عن ابن تيمية أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي والله أعلم. انتهى.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة قال: "اللهم صل على آل فلان"، فأتاه أبو أوفى بصدقته فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". وراه البخاري ومسلم.
واختلف في أول وقت فرض الزكاة. فذهب الأكثرون إلى أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة.
وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك كان في التاسعة، وفيه نظر: لما في حديث ضمام بن ثعلبة، وحديث وفد عبد القيس، ومخاطبة أبي سفيان مع هرقل وكان في أول السابعة، وقال فيها: يأمرنا بالزكاة.
__________
الأربعين شاة شاة، وأما على مذهبنا فالعبد لا يملك مع سيده شيئا. فقد نقل شيخنا في المقاصد الحسنة عن ابن تيمية" الحافظ أحمد "أن ذلك باطل باتفاق أهل المعرفة؛ لأن الشافعي وأحمد لم يدركا شيبان الراعي، والله أعلم. انتهى".
"وقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه قوم بصدقة" أي: الزكاة "قال: "اللهم صل على آل فلان" ولأبي ذر على فلان بدون آل كما في الفتح: "فأتاه" بالقصر "أبو أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة اسمه علقمة بن خالد بن الحارث الأسلمي شهد هو وابنه عبد الله بيعة الرضوان تحت الشجرة "بصدقته، فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" يريد أبا أوفى نفسه؛ لأن الآل يطلق على ذات الشيء، كقوله في قصة أبي موسى: "لقد أوتي مزمارًا من مزامير آل داود"، وقيل: لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر "رواه البخاري" في الزكاة وغيرها "ومسلم" عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين.
"واختلف في أول وقت فرض الزكاة، فذهب الأكثرون إل أنه وقع بعد الهجرة، فقيل: كان في السنة الثانية قبل فرض رمضان، أشار إليه النووي في باب السير من الروضة، وجزم ابن الأثير في التاريخ بأن ذلك" أي: فرضها "كان في التاسعة وفيه نظر لما في حديث ضمام" بكسر المعجمة مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة.
"وفي حديث وفد عبد القيس" أسقط من الفتح وفي عدة أحاديث ذكر الزكاة "ومخاطبة أبي سفيان" صخر بن حرب "مع هرقل وكان في أول السابعة وقال فيها: يأمرنا(11/204)
وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عاملا: فقال: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية، والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله.
وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرضها كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث أم سلمة في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها: أن جعفر بن أبي طالب قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل: الذي يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.
وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد، ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها ما ذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا فقال: يأمرنا، بمعنى يأمر أمته، وهو بعيد جدا. وأولى ما
__________
بالزكاة" أسقط من الفتح، لكن يمكن تأويل كل ذلك كما سيأتي في آخر الكلام "وقوى بعضهم ما ذهب إليه ابن الأثير بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها: لما أنزلت آية الصدقة بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عاملا" يجبي الصدقات، فمر بثعلبة وسأله الصدقة وأقرأه الكتاب الذي فيه الفرائض "فقال" ثعلبة: "ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية" أي: شبيهتها "والجزية إنما وجبت في التاسعة، فتكون الزكاة في التاسعة" وهو استدلال قوي لو صح الحديث، "لكنه حديث ضعيف لا يحتج بمثله" إذ لا حجة في ضعيف "وادعى ابن خزيمة في صحيحه أن فرض كان قبل الهجرة، واحتج بما أخرجه من حديث" سلمة بن الفضل عن ابن إسحاق بسنده إلى "أم سلمة" هند "في قصة هجرتهم إلى الحبشة، وفيها أن جعفر بن أبي طالب" الهاشمي "قال للنجاشي في جملة ما أخبره به عن الرجل الذي يأمرنا" لفظ الحافظ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ويأمرنا "بالصلاة والزكاة والصيام. انتهى.
"وفي الاستدلال بذلك نظر؛ لأن الصلوات الخمس لم تكن فرضت بعد" أي: في ذلك الوقت "ولا صيام رمضان، فيحتمل أن تكون مراجعة جعفر لم تكن في أول ما قدم على النجاشي، وإنما أخبره بذلك بعد مدة قد وقع فيها اذكر من فريضة الصلاة والصيام، وبلغ ذلك جعفرا، فقال: يأمرنا بمعنى يأمر أمته وهو بعيد جدا" إذ الأصل عدم التقدير "وأولى(11/205)
حمل عليه حديث أم سلمة هذا -إن سلم من قدح في إسناده- أن المراد بقول جعفر: "يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام" أي في الجملة، ولا يلزم ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس ولا بالصيام صيام شهر رمضان، ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول.
ومما يدل على أن فرض الزكاة كان قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام بن ثعلبة وقوله: "أنشدك الله، آلله أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟ " وكان قدوم ضمام سنة خمس، وإنما الذي وقع في التاسعة بعث العمال لأخذ الصدقات، وذلك يستدعي تقدم فريضة الزكاة قبل ذلك.
ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحكام من حديث قيس بن سعد بن عبادة قال: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة، ثم نزلت
__________
ما حمل عليه حديث أم سلمة هذا إن سلم من قدح في إسناده؛" لأن سلمة بن الفضل فيه مقال، وفي التقريب أنه صدوق كثير الخطأ. انتهى.
وقد رواه يونس بن بكير عن ابن إسحاق فلم يذكر الزكاة "أن المراد بقول جعفر يأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، أي: في الجملة، ولا يلزم من ذلك أن يكون المراد بالصلاة الصلوات الخمس" بل مطلق صلاة "ولا بالصيام شهر رمضان" بل مطلق صيام "ولا بالزكاة هذه الزكاة المخصوصة ذات النصاب والحول" بل أراد مطلق صدقة أو التطهير من الرذائل والله أعلم.
"ومما يدل على أن فرض الزكاة كل قبل التاسعة حديث أنس في قصة ضمام" بالكسر مخففا "ابن ثعلبة" بمثلثة "وقوله: أنشدك الله آلله" بالمد "أمرك أن تأخذ هذه الصدقة من أغنيائنا فتقسمها على فقرائنا؟، وكان قدوم ضمام سنة خمس" من الهجرة "وإنما الذي وقع في" السنة "التاسعة بعث العمال": جمع عامل "لأخذ الصدقات وذلك يستدعي تقديم فريضة الزكاة قبل ذلك، ومما يدل على أن فرض الزكاة وقع بعد الهجرة اتفاقهم على أن صيام رمضان، إنما فرض بعد الهجرة؛ لأن الآية الدالة على فرضيته" وهي {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] "مدنية بلا خلاف، وثبت عند أحمد وابن خزيمة والنسائي وابن ماجه والحاكم من حديث قيس بن سعد بن عبادة" الخزرجي الصحابي ابن الصحابي "قال: أمرنا(11/206)
فرضية الزكاة، فلم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، إلا أبا عمار، الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين. وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان. قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية ويثيب عليها. رواه البخاري من حديث عائشة.
وإذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟، فإن قيل: صدقة قال لأصحابه:
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصدقة الفطر قبل أن تنزل الزكاة ثم نزلت فرضية الزكاة" للأموال "فلم يأمرنا" بصدقة الفطر "ولم ينهنا" عنها "ونحن نفعله" وبهذا احتج لإبراهيم بن علية وأبي بكر الأصم لقولهما: إن صدقة الفطر منسوخة، والكافة على أن وجوبها لم ينسخ، وأجابوا بأن نزول فرض لا يوجب سقوط فرض آخر لاحتمال الاكتفاء بالأمر الأول "إسناده صحيح ورجاله رجال الصحيح إلا أبا عمار" الكوفي اسمه عريب بفتح المهملة ابن حميد كما في الفتح "الراوي عن قيس بن سعد، وقد وثقه أحمد وابن معين وهو دال على أن فرض صدقة الفطر كان قبل فرض الزكاة، فيقتضي وقوعها بعد فرض رمضان".
زاد في الفتح وذلك بعد الهجرة وهو المطلوب "قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر" وزاد: ووقع في تاريخ الإسلام في السنة الأولى فرضية الزكاة، وقد أخرج البيهقي في الدلائل حديث أم سلمة المذكور من طريق المغازي لابن إسحاق من رواية يونس بن بكير عنه وليس فيه ذكر الزكاة، وابن خزيمة أخرجه من طريق ابن إسحاق، لكن من طريق سلمة بن الفضل عنه، وفي سلمة مقال.
"وكان -صلى الله عليه وسلم- يقبل الهدية" إلا لعذر كما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي، وقال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم "ويثيب" أي: يجازي، وأصل الإثابة تكون في الخير والشر، لكن العرف خصها بالخير "عليها" بأن يعطي بدلها فيندب التأسي به، وظاهره أنه كان يقبلها من المؤمن والكافر، وقد جاء أنه قبل هدية القوقس وغيره من أهل الكتاب "رواه البخاري" في الهبة "من حديث عائشة" وكذا رواه أحمد وأبو داود في البيوع، وزاد فيه الغزالي: ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب.
قال الحافظ العراقي: وفي الصحيحين ما هو بمعناه "و" كان "إذا أتي بطعام" زاد في رواية أحمد: من غير أهله "سأله عنه" من أتى به؟ "أهدية؟ " بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أهذا، وبالنصب بتقدير أجئتم به هدية "أم صدقة؟ " بالرفع والنصب "فإن قيل:" هو "صدقة" أو جئنا(11/207)
"كلوا" ولم يأكل، وإن قيل: هدية ضرب بيده فأكل معهم. رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة.
وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة: "هل عندكم شيء"؟. فقالت: لا، إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة من الشاة التي بعثت بها إليها من الصدقة، قال: "إنها بلغت محلها". رواه البخاري ومسلم.
وقوله: "محلها" بكسر الحاء، أي زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا.
وأتى بلحم قد تصدق به على بريرة فقال: "هو عليها صدقة، ولنا هدية"، رواه البخاري مسلم وأبو داود والنسائي.
__________
به صدقة "قال لأصحابه: كلوا ولم يأكل" هو معهم لحرمتها عليه "وإن قيل: هدية ضرب بيده" أي: مدها "فأكل معهم" دون تحاش عنه تشبيها للمد بالذهاب سريعا في الأرض فعداه بالياء، وذلك لأن الصدقة منحة لثواب الآخرة، ففيها نوه ذلك بخلاف الهدية فهي تمليك للغير إكراما، فلذا حلت له دون الصدقة "رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة" وكذا رواه النسائي.
"وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة:" لفظ الحديث عن أم عطية الأنصاري، قالت: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- على عائشة: فقال: "هل عندكم شيء"؟ من الطعام "فقالت: لا" شيء منه عندنا "إلا شيء بعثت به إلينا نسيبة" بنون وسين مهملة وموحدة مصغرة اسم أم عطية "من الشاة التي بعثت" بفتح التاء، أي: أنت "بها إليها".
ففي رواية لمسلم عن أم عطية، قالت: بعث إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- بشاة من الصدقة، فبعثت إلى عائشة منها بشيء "من الصدقة، قال: "إنها بلغت محلها"، رواه البخاري" في الزكاة في موضعين، وفي الهبة "ومسلم" في الزكاة "وقوله: "محلها" بكسر الحاء، أي: زال عنها حكم الصدقة وصارت حلا لنا" كذا جزم بالكسر هنا، وفي شرحه للبخاري مع أن الحافظ قال: أي: أنها لما تصرفت فيها بالهدية لصحة ملكها لها انتقلت عن حكم الصدقة، فحلت محل الهدية، وكانت تحل له -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الصدقة، وهذا تقرير ابن بطال بعد أن ضبطها محلها بفتح الحاء، وضبطها بعضهم بكسرها من الحلول، أي: بلغت مستقرها والأول أولى، وعليه عول البخاري في الترجمة يعني بقوله باب إذا تحولت الصدقة. انتهى.
"وأتي" بضم الهمزة النبي -صلى الله عليه وسلم- "بلحم" في رواية مسلم: بلحم بقر "تصدق" بضم أوله "به على بريرة" بفتح الموحدة وكسرها الراء الأولى "فقال: "هو" أي: اللحم "عليها صدقة ولنا هدية" قدم لفظ عليها على المبتدأ لإفادة الاختصاص، أي: لا علينا الزوال وصف الصدقة وحكمها؛ لأنها صارت ملكا لبريرة ثم صارت هدية، فالتحريم ليس لذات اللحم "رواه البخاري(11/208)
وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل -صلى الله عليه وسلم- وعلى النار برمة تقور، فدعا بالغداء، فأتي بخبز وأدم من أدم البيت، فقال: "ألم أر برمة على النار تفور"؟ قالوا: بلى يا رسول الله، لكنه لحم تصدق به على بريرة، وأهدت إلينا منه، وأنت لا تأكل الصدقة، فقال: "هو صدقة عليها، وهدية لنا".
النوع الرابع: في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المقصود من الصيام إمساك النفس عن حبس عاداتها، وحبسها عن
__________
ومسلم وأبو داود والنسائي" مختصرًا هكذا عن أنس.
"وفي حديث عائشة عند البخاري ومسلم: دخل -صلى الله عليه وسلم" حجرة عائشة "وعلى النار برمة" بضم الموحدة وإسكان الراء.
قال ابن الأثير: هي القدر مطلقا وجمعها برم، وهي في الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز "تفور" بالفاء "فدعا بالغداء فأتي بخبز وأدم من أدم البيت" بضم الهمزة وإسكان المهملة: جمع أدام وهو ما يؤكل مع الخبز، أي: شيء كان، والإضافة للتخصيص "فال: "ألم أر برمة" بهمزة الاستفهام التقريري "على النار تفور؟ " زاد في رواية: فيها لحم "قالوا: بلى يا رسول الله لكنه لحم تصدق به" بالبناء للمفعول "على بريرة وأهدت إلينا منه وأنت لا تأكل الصدقة" لحرمتها عليك، فلذا لم نأتك به "فقال: "هو صدقة عليها وهدية لنا" منها؛ لأنه يسوغ للفقير التصرف في الصدقة بالإهداء والبيع وغير ذلك، كتصرف المالك في ملكه، فيجوز للغني ولو هاشميا أكلها وشراؤها؛ لأن التحريم إنما هو على الصفة لا على العين، فإذا تغيرت صفة الصدقة تغير حكمها.
قال الأبي: لا يقال: كونها أوساخ الناس ومطهرة للمال هو وصف لا تزيله الهدية بها؛ لأنا نقول: ليس وصفا ذاتيا حتى يقال: إنه لا يزول، وإنما هو وصف حكمي جعل بالشرع، وهو قد حكم بزواله. انتهى.
واستدل به على جواز صدقة التطوع لأزواجه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فرقوا بينه وبين أنفسهم ولم ينكره عليهم، بل أخبرهم أن تلك الهدية بعينها خرجت عن كونها صدقة بتصرف المتصدق عليه.
"النوع الرابع: في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم
اعلم أن المقصود من الصيام إمساك" أي: منع "النفس عن حبس" أي: دنيء "عاداتها" من إضافة الصفة للموصوف، أي: عاداتها الخسيسة،(11/209)
شهواتها، وفطامها عن مألوفاتها، فهو لجام المتقين، وجنة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العاملين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به". فأضافه تعالى له إضافي تشريف وتكريم، كما قال تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 3] مع أن العالم كله له سبحانه.
وقيل: لأنه لم يعبد غيره به، فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما.
__________
ففيه أن عادات النفس التي تألفها كلها خسيسة، فعلى الصائم المحافظة على مخالفتها بفعل المأمورات، واجتناب المنهيات والاشتغال بالذكر والقرآن وأنواع القربات "وحبسها" أي: كفها "عن شهواتها" ولو مباحة "وفطامها" أي: منعها "عن مألوفاتها" من مستلذاتها "فهو لجام المتقين" المانع لهم تشبيها بلجام الدابة "وجنة" بضم الجيم مشددا وقاية "المحاربين"، لأنفسهم والشياطين "ورياضة الأبرار والمقربين وهو لرب العالمين من بين سائر أعمال العالمين، كما قال الله تعالى في الحديث الإلهي الذي رواه مسلم:" لا وجه لقصر عزوه له فقد رواه البخاري، كلاهما في الصوم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى: "كل عمل ابن آدم له"" أي: له فيه حظ ومدخل لاطلاع الناس عليه فهو يتعجل به ثوابا من الناس، ويجوز به حظا من الدنيا.
وفي رواية: كل عمل ابن آدم مضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف "إلا الصيام فهو" خالص "لي" لا يعلم ثوابه غيري "وأنا أجزي" بفتح الهمزة "به" صاحبه بلا عدد ولا حساب، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] الآية، والصابرون الصائمون في قول الأكثر؛ لأنهم يصبرون أنفسهم عن الشهوات وعند سمويه إلا الصوم فإن لا يدري أحد ما فيه.
وقد اختلف في معناه مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، فقيل في معناه عشرة أوجه ذكر بعضها بقوله: "فأضافه الله تعالى له إضافة تشريف وتكريم، كما قل تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ} وأن المساجد لله "مع أن العالم كله له سبحانه".
قال الزين بن المنير: التخصيص في موضع التعميم في مثل هذا السياق لا يفهم منه إلا التشريف والتعظيم.
"وقيل:" وجه ذلك؛ "لأنه لم يعبد غيره" تعالى "به" بالصوم "فلم يعظم الكفار في عصر من الأعصار معبودا لهم بالصيام، وإن كانوا يعظمونه بصورة الصلاة والسجود وغيرهما"(11/210)
قال في شرح تقريب الأسانيد: واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات فإنهم يتعبدون لها بالصيام.
وأجيب: بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها.
وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه، بخلاف الصلاة والحج والغزو، وغير ذلك من العبادات الظاهرات، قال في فتح الباري. معنى النفي في قولهم: "لا رياء فيه" أنه لا يدخله الرياء بفعله، وإن كان قد يدخله الرياء بالقول، كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار، بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها. انتهى.
__________
كالطواف والصدقة والذبح.
"قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي: "واعترض بما يقع من عباد النجوم وأصحاب الهياكل والاستخدامات، فإنهم يتعبدون لها بالصيام، وأجيب بأنهم لا يعتقدون أنها فعالة بأنفسها" الذي في الفتح بأنهم لا يعتقدون إلهية الكواكب، وإنما يعتقدون أنها فعالة بنفسها وليس هذا الجواب بطائل؛ لأنهم طائفتان إحداهما تعتقد إليهة الكواكب وهم من كان قبل ظهور الإسلام وبقي ممنهم من بقي على كفره، والأخرى من دخل في الإسلام، وبقي على تعظيم الكواكب وهم الذين أشير إليهم. انتهى.
"وقيل: لأن الصوم بعيد من الرياء لخفائه بخلاف الصلاة والحج والغزو وغير ذلك من العبادات الظاهرات" حكاه المازري ونقله عياض عن أبي عبيد، ويؤيده حديث الصيام لا رياء فيه، قال الله عز وجل: "هو لي وأنا أجزي به"، رواه البيهقي عن أبي هريرة بإسناد ضعيف ولو صح لرفع النزاع.
"قال في فتح الباري: معنى النفي في قولهم: لا رياء فيه أنه لا يدخله الرياء بفعله وإن كان قد يدخله الرياء بالقول كمن يصوم ويخبر بأنه صائم فقد يدخله الرياء من هذه الحيثية، فدخول الرياء في الصوم إنما يقع من جهة الإخبار" به رياء "بخلاف بقية الأعمال، فإن الرياء يدخلها بمجرد فعلها" على وجه الرياء. "انتهى" كلام الفتح وزاد فيه: وقد حول بعض الأئمة إلحاق شيء من العبادات البدنية بالصوم، فقال: إن الذكر بلا إله إلا الله يمكن أن لا يدخله الرياء؛ لأنه بحركة اللسان خاصة دون غيرها من أعضاء الفم، فمكن أن الذاكر يقولها بحضرة الناس ولا يشعرون منه بذلك.(11/211)
وعن شداد أوس مرفوعا: "من صام يرائي فقد أشرك". رواه البيهقي.
وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه منه حظ.
وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه، قال القرطبي معناه: أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم، إلا الصيام فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بأمر هو متعلق بصفة من صفاتي. أو لكون ذلك من صفات الملائكة، أو لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها،
__________
"وعن شداد بن أوس مرفوعًا: "من صام يرائي" بأن أظهره لمن يراه من الناس وذلك إنما يكون بإخباره لهم كما علم "فقد أشرك" أي: جعل لله شريكا "رواه البيهقي" والمراد به وما شابهه أنه فعل كفعل من أشرك.
"وقيل: لأنه ليس للصائم ونفسه" أي: مع نفسه "منه حظ" نصيب، قاله الخطابي وعياض وغيرهما، فإن أراد بالحظ الثناء عليه بالعبادة رجع لمعنى ما قبله، وبه أفصح ابن الجوزي فقال: لاحظ فيه للصائم بخلاف غيره، فله فيه حظ لثناء الناس عليه قاله الحافظ، أي: وإن أريد عدم انبساط نفسه به أصلا غالبا بخلاف غيره من العبادات فيوجد للنفس فيها حظ، كالغسل فله حظ التبرد أو التدفي، وكالحج فله حظ التنقل والتفرج على الأمكنة، وهكذا فلا يرجع إليه، بل يكون غيره وهذا هو الظاهر.
"وقيل: لأن الاستغناء عن الطعام وغيره من الشهوات من صفات الرب تعالى، فلما تقرب الصائم إليه بما يوافق صفاته أضافه إليه" وإن كانت صفات الله تعالى لا يشبهها شيء.
"قال القرطبي: معناه" أي: هذا القول "أن أعمال العباد مناسبة لأحوالهم إلا الصيام، فإنه مناسب لصفة من صفات الحق، كأنه تعالى يقول: إن الصائم يتقرب إلي بمر هو يتعلق بصفة من صفاتي" فلذا توليت جزاءه "أو" يعني: وقيل: "لكون ذلك" صفة "من صفات الملائكة؛" لأنهم لا يأكلون ولا يشربون ولا يشتهون "أو" يعني: وقيل في معناه؛ "لأنه تعالى هو المنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته بخلاف غيره من العبادات، فقد أظهر سبحانه بعض مخلوقاته على مقدار ثوابها" وهذا تعقبه القرطبي بأن صوم اليوم بعشرة، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كما في الأحاديث، وهي نصوص في إظهار التضعيف، فضعف هذا الوجه، بل بطل، ورد بأنه يكتب كذلك، وأما قدر ثوابه فلا يعلمه إلا الله.(11/212)
ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به" وقد علم أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء، وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك
__________
"ولذا قال في بقية الحديث: "وأنا أجزي به"، وقد علم" عادة "أن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى ذلك سعة العطاء" ولا أكرم من الله سبحانه، وقول البيضاوي: الاستثناء في قوله: "إلا الصيام" من كلام غير محكي دل عليه ما قبله، والمعنى أن الحسنات يضاعف جزاؤها من عشرة أمثالها إلى سبعمائة إلا الصيام فلا يضاعف إلى هذا القدر، بل ثوابه لا يقدر قدره ولا يحصيه إلا الله، ولذا تولى جزاءه بنفسه ولم يكله إلى غيره تعقبه الطيبي بأنه مستثنى من كل عمل ابن آدم له وهو مروي عن الله تعالى يدل عليه قوله: قال الله. انتهى.
فهذه سبعة أقوال حكاها الصنف في معناه.
والثامن: أن معناه أحب العبادات إلي والمقدم عندي، ولذا قال أبو عمر: كفى به فضلا للصيام على سائر العبادات.
وروى النسائي: عليك بالصوم فإنه لا مثل له، لكن يعكر عليه الحديث الصحيح: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة".
والتاسع: أن جميع العبادات يوفى منها مظالم العباد إلا الصيام.
قال سفيان بن عيينة: إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم، فيحتمل الله ما بقي من المظالم ويدخله بالصوم الجنة، أسنده البيهقي عنه، ورده القرطبي بأن ظاهر حديث المقاصد أنه يؤخذ كبقية الأعمال، ففيه "المفلس: من يأتي يوم القيامة بصلاة وصدقة وصيام ويأتي وقد شتم هذا، وضب هذا وأخذ مال هذا فيؤخذ لهذا من حسناته ولهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقتضي ما عليه طرحت عليه سيئاتهم ثم طرح في النار".
قال الحافظ: إن ثبت قول ابن عيينة أمكن تخصيص الصيام من ذلك، ويدل له حديث أحمد عن أبي هريرة رفعه: "كل العمل كفارة إلا الصوم، الصوم لي وأنا أجزي به"، ورواه أبو داود بلفظ: "قال ربكم: كل العمل كفارة إلا الصوم"، لكن يعارضه حديث حذيفة في الصحيحين: "فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والصيام والصدقة"، ويجاب بحمل الإثبات على كفارة شيء مخصوص والنفي على كفارة شيء آخر، فإنه مقيد بفتنة المال وما ذكر معها، لكن حمله البخاري على تكفير مطلق الخطيئة، فيكون المعنى إلا الصيام فإنه كفارة وزيادة ثواب على الكفارة بشرط خلوصه من الرياء والشوائب.
العاشر: أن الصوم لا يظهر فتكتبه الحفظة كما لا تكتب سائر أعمال القلوب، استند قائله(11/213)
شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده.
والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب، ويحتمل أن يكون من العام بعد الخاص، لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة: "يدع لذته من أجلي، ويدع زوجته من أجلي"، وأصرح منه ما روي " من الطعام والشراب والجماع من أجلي".
وللصيام تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة، وقوى الجوارح الباطنة، وحميتها عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة المانعة له
__________
إلى حديث واه جدا، أورده ابن العربي في المسلسلات، ولفظه: "قال الله تعالى: الإخلاص سر من أسراري استودعته قلب من أحب لا يطلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده"، ويكفي في رده الحديث الصحيح في كتابة الحسنة لمن هم بها ولم يعملها، فهذا ما وقفت عليه من الأجوبة، وأقربها إلى الصواب أنه لا رياء فيه وأنه المنفرد بعلم قدر ثوابه، ويقرب منهما أنه لم يعبد به غير الله وأنه لا يؤخذ في المظالم. انتهى ملخصًا.
"وإنما جوزي الصائم هذا الجزاء؛ لأنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده" كما قال في الحديث الصحيح في الموطأ: إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.
"والمراد بالشهوة في الحديث شهوة الجماع لعطفها على الطعام والشراب" في رواية البخاري بلفظ: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل الصيام لي" فيكون عطف مغاير "ويحتمل أن يكون من" عطف "العام بعد الخاص" إن جعلت الشهوة عامة "لكن وقع في رواية عند ابن خزيمة: "يدع لذته" بالطعام والشراب "من أجلي ويدع زوجته من أجلي"، فهذا صريح في الأولى "وأصرح منه ما روي" عند الحافظ سموية: "يترك شهو ته "من الطعام والشراب والجماع من أجلي"" امتثالا لشرعي ذلك.
قال الحافظ: قد يفهم الحصر التنبيه على الجهة التي يستحق بها الصائم ذلك وهو الإخلاص الخاص به حتى لو صام لغرض آخر كتخمة لا يحصل له ذلك الفضل، لكن المدار في هذه الأشياء على الداعي القوي الذي يدور معه الفعل وجودا وعدما، ولا شك أن من لم يعرض له في خاطره شهوة شيء طول نهاره ليس في الفضل، لكن عرض له ذلك فجاهد نفسه في تركه "وللصيام" هكذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وللصائم، أي: ولصوم الصائم أو للصوم من حيث صومه "تأثير عجيب في حفظ الأعضاء الظاهرة "وقوى الجوارح الباطنة وحميتها" بكسر الحاء منعها "عن التخليط الجالب للمواد الفاسدة، واستفراغ المواد الرديئة(11/214)
من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] وقال عليه الصلاة والسلام -كما في البخاري: "الصوم جنة" هي بضم الجيم، الوقاية والستر، أي: ستر من النار. وبه جزم ابن عبد البر، وفي النهاية: أي يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات، وقال القاضي عياض: من الآثام. وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا.
__________
المانعة له من صحتها، فهو من أكبر العون على التقوى، كما أشار إليه تعالى بقوله:" يا أيها الذين آمنو {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يعني: الأنبياء والأمم من لدن آدم وفيه توكيد للحكم وترغيب للفعل وتطبيق للنفس {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] الآية" المعاصي، فإن الصوم يكثر الشهوة التي هي مبدؤها، كما قال -صلى الله عليه وسلم: "فعليه بالصوم فإنه له وجاء".
"وقال عليه السلام كما في البخاري" ومسلم، كلاهما من حديث أبي هريرة: "الصوم جنة وهي، بضم الجيم" وشد النون "الوقاية" بكسر الواو "والستر، أي: ستر من النار، وبه جزم ابن عبد البر؛" لأنه إمساك عن الشهوات والنار محفوفة بها، وقد رواه الترمذي بلفظ: "جنة من النار"، وأحمد بلفظ: جنة وحصن حصين من النار.
"وفي النهاية" لابن الأثير جنة "أي: يقي صاحبه مما يؤذيه من الشهوات؛" لأنه يكسرها ويضعفها.
"وقال القاضي عياض": جنة "من الآثام" أو من النار، أو من جميع ذلك، هذا بقية كلام القاضي، وبالأخير جزم النووي، والتفسيران متلزمان؛ لأنه إذا كف عن المعاصي كان سترا له من النار "وقد اتفقوا على أن المراد بالصيام هنا" في قوله: "إلا الصيام فهو لي وأنا أجزي به" "صيام من سلم صاحبه من المعاصي قولا وفعلا".
ونقل ابن العربي عن بعض الزهاد تخصيصه بصوم خواص الخواص، فإنه أربعة أنواع: صيام العوام وهو الصوم عن المفطرات وصيام خواص العوام وهو مع اجتناب المحرمات قولا وفعلا، وصيام الخواص وهو الصوم عن غير ذكر الله وعبادته، وصيام خواص الخواص وهو الصوم من غير الله فلا فطر له إلى يوم لقائه.
قال الحافظ: وهذا مقام عال، لكن في حصر المراد من الحديث في هذا النوع نظر لا يخفى. انتهى.(11/215)
واختلف: هل الصوم أفضل أم الصلاة؟ فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية، لحديث النسائي عن أبي أمامة قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: يا رسول الله، مرني بأمر آخذه عنك قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل له"، والمشهور تفضيل الصلاة، وهو مذهب الشافعي وغيره، لقوله عليه الصلاة والسلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" رواه داود وغيره.
ثم إن الكلام في صيامه -صلى الله عليه وسلم- على قسمين:
القسم الأول: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان
وفيه فصول: الأول
فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يخص به رمضان من العبادات وتضاعف جوده عليه الصلاة والسلام فيه:
اعلم أن "رمضان" مشتق من الرمض، وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا
__________
"واختلف هل الصوم أفضل أم الصلاة، فقيل: الصوم أفضل الأعمال البدنية" وإليه أومأ أبو عمر "لحديث النسائي" بإسناد صحيح "عن أبي أمامة، قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله مرني" بالنون في النسخ الصحيحة وهو الذي في النسائي، فما في نسخ: مر لي بلام بدل النون تحريف "بأمر آخذه عنك، قال: "عليك بالصوم فإنه لا عدل" بكسر العين، أي: لا مثل "له" في الأعمال.
وفي رواية للنسائي أيضا: "فإنه لا مثل له".
"والمشهور" عند الجمهور "تفضيل الصلاة" على الصيام وغيره "وهو مذهب الشافعي وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، رواه أبو داود وغيره" وصححاه وهو نص صريح لا يقبل التأويل بخلاف خبر أبي أمامة "ثم إن الكلام في صيامه -صلى الله عليه وسلم- على قسمين:
"القسم الأول: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان وفيه فصول
الأول: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يخص به رمضان من العبادات، وتضاعف" زيادة "جوده عليه الصلاة والسلام فيه اعلم أن" لفظ ""رمضان" مشتق من الرمض" بفتح الميم، قال المصباح: يقال(11/216)
أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك، كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع، أو لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها، وهو ضعيف لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع.
ورمضان أفضل الأشهر، كما حكاه الأسنوي، عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح، وإن كان قد جاء فيه أثر ضعيف، وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح. انتهى.
وقد اختلف السلف: هل فرض صيام قبل صيام رمضان أم لا؟ فالجمهور -وهو المشهور عند الشافعية- أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه -وهو قول الحنفية- أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ. وسيأتي أدلة الفريقين
__________
رمض يومنا يرمض رمضا من باب تعب "وهو شدة الحر؛ لأن العرب لما أرادوا أن يضعوا أسماء الشهور وافق أن الشهر المذكور شديد الحر فسموه بذلك" لموافقة الوضع الأزمنة، فقالوا: رمضان ثم كثر حتى استعملوها في الأهلة وإن لم توافق ذلك الزمن "كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع" وذلك حين أربعت الأرض، "أو لأنه يرمض" بفتح الميم "الذنوب، أي: يحرقها وهو ضعيف؛ لأن التسمية به ثابتة قبل الشرع" الذي عرف منه أنه يرمض الذنوب "ورمضان أفضل الأشهر كما حكاه الأسنوي عن قواعد الشيخ عز الدين بن عبد السلام".
"قال النووي: وقولهم: إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح وإن كان قد جاء فيه أثر" أي: حديث مرفوع "ضعيف" وهو: لا تقولوا: رمضان، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان. أخرجه ابن عدي وضعفه.
"وأسماء الله تعالى توقيفية لا تثبت إلا بدليل صحيح" زاد بعضهم: أو حسن. "انتهى" كلام النووي، وزاد: ولو ثبت أنه اسم لم يلزم كراهة، والصواب ما ذهب إليه المحققون أنه لا كراهة في إطلاق رمضان بقرينة وبلا قرينة. انتهى، وسبقه إلى نحو ذلك الباجي، فقال: إنه الصواب لقد جاء ذلك في أحاديث صحيحة، كقوله -صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء ... " الحديث.
"وقد اختلف السلف هل فرض صيام قبل صيام رمضان أو لا، فالجمهور وهو المشهور عند الشافعية أنه لم يجب صوم قط قبل رمضان، وفيه وجه" أي: قول لبعض الشافعية "وهو قول الحنفية: أول ما فرض عاشوراء، فلما نزل رمضان نسخ" وجوبه وبقي ندبه "وسيأتي(11/217)
في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى.
وقد كان فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة -كما تقدم- فتوفي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسعة رمضانات.
ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع الجود والبركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزيد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات، من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غير من الشهور، وكان جوده -صلى الله عليه وسلم- يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة.
وفي حديث ابن عباس عند الشيخين قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس،
__________
أدلة الفريقين في الكلام على صوم عاشوراء إن شاء الله تعالى، وقد كان فرض رمضان" لليلتين خلتا من شعبان "في السنة الثانية من الهجرة كما تقدم، فتوفي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد صام تسعة رمضانات".
قال ابن مسعود: صمنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين. رواه أبو داود والترمذي ومثله عن عائشة عند أحمد بإسناد جيد.
قال في التحفة: وثوابهما واحد، ومحله في الفضل المرتب على رمضان من غير نظر لأيامه، أما ما يترتب على يوم الثلاثين من ثواب واجبه ومندوبه عند سحوره وفطره فهو زيادة يفوق بها الناقص، وكان حكمه أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكمل له رمضان إلا سنة واحدة، والبقية ناقصة زيادة تطمين نفوسهم على مساواة الناقص للكامل فيما قدمناه. انتهى.
"ولما كان شهر رمضان موسم الخيرات ومنبع" بفتح الميم والباء "الجود" أي: المحل الذي يخرج منه بكثرة تشبيها بمنبع الماء، أي: مخرجه "و" منبع "البركات؛ لأن نعم الله تعالى فيه تزد على غيره من الشهور، وكان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يكثر فيه من العبادات وأنواع القربات الجامعة لوجوه السعادات من الصدقة والإحسان والصلاة والذكر والاعتكاف، ويخص به من العبادات ما لا يخص به غيره من الشهور، وكان جوده -صلى الله عليه وسلم- يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه تعالى يتضاعف فيه أيضا، فإن الله تعالى جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة".
"وفي حديث ابن عباس عند الشيخين" البخاري في بدء الوحي والصوم والصفة النبوية(11/218)
وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة.
فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت وهو شهر رمضان، والمنزل وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل، والمذاكرة وهي مدارسة القرآن، حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود.
__________
وبدء الخلق وفضائل القرآن، ومسلم في الفضائل "قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أجود الناس:" أسخاهم على الإطلاق وهو من الصفات الحميدة.
وفي الترمذي مرفوعا: "إن الله جواد يحب الجود"، وقدم هذه الجملة على ما بعدها وإن كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها "وأجود" بدون كان رواية البخاري في الصوم وهي ترجح الرفع في روايته في بدء الوحي، بلفظ: وكان أجود "ما يكون" ما مصدرية، أي: أجود أكوانه يكون "في رمضان حين يلقاه جبريل" أفضل الملائكة وأكرمهم، كذا جزم به المصنف، زاد في رواية: وكان يلقاه كل ليلة من رمضان، يعني: منذ أنزل عليه، أو من فترة الوحي إلى آخر رمضان الذي توفي بعده "فيدارسه القرآن" بعضه أو معظمه.
وفي الصحيحين من وجه آخر عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أتاه جبريل استمع، فإذا نطق جبريل قرأه النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قرأ "فلرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة" أي المطلقة شبه المعنوي بالمحسوس تقريبا لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ منها؛ لأنها قد تسكن، واستعمل أفعل التفضيل في الإسناد الحقيقي والمجازي؛ لأن الجود منه -صلى الله عليه وسلم- حقيقي، ومن الريح مجازي وكأنه استعار للريح جودا باعتبار مجيئها بالخير فأنزلها منزلة من جاد، وفي تقديم معمول أجود على المفضل عليه نكتة لطيفة هي أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة، وهذا وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلا أنه تفوت به المبالغة؛ لأن المراد وصفه بزيادة الأجودية على الريح مطلقا.
"فبمجموع ما ذكر في هذا الحديث من الوقت، وهو شهر رمضان والمنزل وهو القرآن والنازل به وهو جيريل والمذاكرة، وهي مدارسة القرآن حصل له عليه الصلاة والسلام المزيد في الجود" وهو الكرم، وفي شرح البخاري للمصنف يحتمل أن زيادة الجود بمجرد لقاء جبريل ومجالسته، ويحتمل أنها بمدارسته إياه القرآن وهو يحث على مكارم الأخلاق، وقد كان القرآن له -صلى الله عليه وسلم- خلقا يرضى لرضاه ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه، فلذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل(11/219)
والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة، إلى عموم النفع بجوده -صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه.
ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث لا يسأل شيئا إلا أعطاه. وتقدم في ذكر سخائه -صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك.
وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة، كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس فكان جبريل عليه الصلاة والسلام يتعاهده -صلى الله عليه وسلم- في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين، كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها.
__________
وكثرة مدارسته القرآن، ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالط، لكن إضافة ذلك إلى القرآن كما قال ابن المنير: آكد من إضافتها إلى جبريل عليه السلام بل جبريل، إنما تميز بنزوله بالوحي، فالإضافة إلى الحق أولى من الإضافة إلى الخلق لا سيما النبي -صلى الله عليه وسلم- على المذهب الحق أفضل من جبريل، فما جالس الأفضل إلا المفضول فلا يقاس على مجالسة الآحاد للعلماء. انتهى.
"والمرسلة: المطلقة، يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح، وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفع بجوده -صلى الله عليه وسلم، كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه" وعبر بأفعال؛ لأن الريح قد تسكن "ووقع عند الإمام أحمد في آخر هذا الحديث: "لا يسأل شيئا إلا أعطاه" وليست هذه الزيادة في الصحيح، وفيه عن جابر: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا فقال: لا، قاله الحافظ.
وقد روى ابن سعد عن عائشة والبزار والبيهقي عن ابن عباس قالا: كان -صلى الل عليه وسلم- إذا دخل رمضان أطلق كل أسير وأعطى كل سائل.
"وتقدم في ذكر سخائه -صلى الله عليه وسلم- مزيد لذلك "من المقصد الثالث "وقد كان ابتداء نزول القرآن في شهر رمضان، وكذا نزوله إلى سماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عباس، فكان جبريل عليه السلام يتعاهده -صلى الله عليه وسلم- في كل سنة، فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه -صلى الله عليه وسلم- عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها".
قال الحافظ: وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في بدء الوحي.(11/220)
قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما: تعاهده، والأخرى: تبقية ما لم ينسخ منه ورفع ما نسخ، فكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضا وإحكاما.
وفي المسند، عن واثلة بن الأسقع، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".
وقد دل الحديث على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه.
__________
"قال في فتح الباري: وفي معارضة جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن في شهر رمضان حكمتان، إحداهما تعاهده والأخرى تبقية ما لم ينسخ منه، ورفع ما نسخ، لكان رمضان ظرفا لإنزاله جملة وتفصيلا وعرضًا وإحكاما، وفي المسند" للإمام أحمد "عن واثلة" بمثلثة "ابن الأسقع" بالقاف "عن النبي -صلى الله عليه وسلم، قال: "أنزلت صحف إبراهيم" بضمتين: جمع صحيفة، وأصلها كما قال الزمخشري قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه، وفي الصحاح الصحيفة الكتاب "في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان" أسقط من حديث المسند وأنزل الزبور لثمان عشرة خلت من رمضان "وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
قال في فتح الباري: هذا الحديث مطابق لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] ، ولقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] ، فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين، أي: صبيحتها إلى الأرض أول اقرأ بسم ربك، قال في الإتقان: لكن يشكل على هذا الحديث ما لابن أبي شيبة عن أبي قلابة، قال: أنزلت الكتب كاملة ليلة أربع وعشرين من رمضان. انتهى ولا إشكال؛ لأن المقطوع لا يعارض المرفوع إذ أبو قلابة تابعي، وما قاله التابعي ولم يرفع يقال له: مقطوع وهو من أقسام الضعيف.
"وقد دل الحديث" أي: حديث ابن عباس "على استحباب مدارسة القرآن في رمضان والاجتماع عليه، وعرض القرآن على من هو أحفظ منه" لعل معناه من حيث إن جبريل علم المنسوخ منه من غيره، فكان أحفظ حتى بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم.(11/221)
وفي حديث ابن عباس أن المدارسة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان، كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة ولفظه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير الكثير".
__________
"وفي حديث ابن عباس" في قوله في بعض طرقه، وكان، أي: جبريل يلقاه كل ليلة "أن المدارسة بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين جبريل كانت ليلًا، وهو يدل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان ليلا؛ لأن الليل تنقطع فيه الشواغل وتجتمع فيه الهمم ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبر" وفيه أن القرآن أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعله، فإن قيل: القصد تجويدا لحفظ قلنا: الحفظ كان حاصلا، والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان" إذاعة لفضله وحثا عليه "كما أخرجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة، ولفظه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه بقدوم رمضان يقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك كتب": فرض "الله عليكم صيامه تفتح فيه أبواب السماء" الذي في الفتح عن أحمد والنسائي أبواب الجنة وهو المناسب لقوله: "وتغلق فيه أبواب الجحيم": النار حقيقة فيهما، ففتح الجنة لمن مات فيه أو عمل عملا لا يفسد عليه، وذلك علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، وكذلك غلق أبواب الجحيم "وتغل فيه" أي: تربط "الشياطين" بالأغلال التي تربط بها اليدان والرجلان وتربط في العنق، وهو حقيقة أيضا منعا لهم من أذى المؤمنين ولا يشكل بوقوع المعاصي في رمضان كغيره؛ لأنها إنما تغل عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه وهو المغلول بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم كما في الترمذي: صفدت الشياطين مردة الجن والقصد تقليل الشر فيه، وهو أمر محسوس، فإن وقوعه فيه أقل من غيره بكثير أو لا يلزم من غل الشياطين أن لا يقع شر ولا معصية؛ لأن لذلك أسبابا غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية وقيل غير ذلك.
"فيه ليلة خير من ألف شهر" ليس فيها ليلة قدر "من حرمها" أي: العمل الصالح فيها "فقد حرم الخير الكثير".(11/222)
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان.
وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان". رواه الطبراني وغيره من
__________
قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضا بشهر رمضان" قال القمولي في الجواهر: لم أر لأحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس، لكن نقل الحافظ المنذري عن الحافظ أبي الحسن المقدسي: أن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه أنه مباح لا سنة ولا بدعة. انتهى.
وأجاب الحافظ بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة، فقد عقد البيهقي بذلك بابا، فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في يوم العيد تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكره من أخبار وآثار ضعيفة، لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك، ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة، أو يندفع من نقمة بما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته عن تخلفه عن غزوة تبوك، قال: فانطلقت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة ويقولون: تهنيك توبة الله عليك حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، فكان كعب لا ينساها لطلحة، قال كعب: فلما سلمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال وهو يشرق وجهه من البشر: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك"، وللحافظ السيوطي وريقات سماها وصول الأمان بأصول التهاني، قال في أولها: طال السؤال عما اعتاده الناس من التهنئة بالعيد والعام والشهور والولايات ونحو ذلك هل له أصل في السنة، فجمعت هذا الجزء في ذلك.
"وروي أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب وشعبان قال: "اللهم بارك لنا في رجب".
قال المصباح: رجب من الشهور مصروف، وفي حواشي الكشاف للتفتازاني: أن رجبا وصفرا إذا أريدا من سنة بعينها منعا الصرف، أي: للعلمية والعدل عن الرجب والصفر وإلا فهما مصروفان، والظاهر من قوله: "بارك لنا رجب"، أن المراد به الشهر الذي هو فيه "وشعبان" ويستحب صومهما "وبلغنا رمضان".
قال ابن رجب: فيه ندب الدعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة لإدراك الأعمال الصالحة فيها، فإن المؤمن لا يزيد عمره إلا خيرا "رواه الطبراني وغيره" كأبي نعيم والبيهقي وابن عساكر "من(11/223)
حديث أنس.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال رشد وخير، هلال رشد وخير، آمنت بالذي خلقك"، رواه النسائي من حديث أنس.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان، وسلم رمضان لي، وسلمه مني". أي: سلمني منه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره. وسلمه لي: حتى لا يغم هلاله علي في أوله وآخره، فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني: أن تعصمني من المعاصي فيه. وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته.
الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال
عن عائشة كان -صلى الله عليه وسلم- يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم
__________
حديث أنس" وضعفه البيهقي وغيره، وخطئ من قال: لم يصح في فضل رجب غيره.
"وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى هلال رمضان قال: "هلال" بالنصب بتقدير اللهم اجعله هلال "رشد" أي: هاد إلى القيام بعبادة الحق يحدث عن ميقات الصوت والحج وغيرهما {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} "وخير" أي: بركة "هلال رشد وخير" بالتكرار "آمنت بالذي خلقك"؛ لأن أهل الجاهلية كان فيهم من يعبد القمر، فنبه بهذا على أنه مخلوق مسخر لأهل الأرض لا تصح عبادته "رواه النسائي من حديث أنس".
وفي حديث أبي سعيد عن ابن السني أنه كان يقول ذلك لا يفيد هلال رمضان، ولفظه: كان إذا رأى الهلال قال: "هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك" ثلاثا، ثم يقول: "الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا".
"وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا دخل شهر رمضان: "اللهم سلمني من رمضان وسلم رمضان لي وسلمه مني"، أي: سلمني مه حتى لا يصيبني فيه ما يحول بيني وبين صومه من مرض أو غيره" تفسير للجملة الأولى "وسلمه لي حتى لا يغم" بالبناء للمفعول، أي: لا يحجب "هلاله علي" بغيم ولا غيره "في أوله وآخره فيلتبس علي الصوم والفطر، وسلمه مني بأن تعصمني من المعاصي فيه، وهذا منه -صلى الله عليه وسلم- تشريع لأمته" إذ هو معصوم أبدا.
"الفصل الثاني: في صيامه عليه السلام برؤية الهلال، عن عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يتحفظ(11/224)
لرؤية رمضان، فإذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام. رواه أبو داود.
وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له". رواه مسلم.
وقوله: "فإن غم عليكم" أي: حال بينكم وبينه غيم.
"فاقدروا له" من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة: "فإن غم عليه -صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين" وهو مفسر لـ "اقدروا له" ولهذا لم يجتمعا في رواية. ويؤيده رواية "فاقدروا له ثلاثين".
قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا" له على أن
__________
من شعبان" أي: يجتهد في الوصول إلى العلم بهلاله خشية عدم العلم برؤيته فيؤدي إلى الشك في هلال رمضان، ومن للتعليل والمعنى يتكلف من أجل هلال شعبان "ما لا يتحفظ من غيره لم يصوم لرؤية رمضان، فإذا غم" بضم الغين وشد الميم، أي: ستر "عليه" بسحاب أو غيره "عد ثلاثين يوما" من رؤية هلال شعبان "ثم صام، رواه أبو دود وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتموه" أي: الهلال ليلة الثلاثين من شعبان "فصوموا" أي: انووا الصيام، أو صوموا إذا دخل وقته وهو من فجر الغد، فالتعقيب في كل شيء بحسبه "وإذا رأيتموه" ليلة الثلاثين من رمضان "فأفطروا" من الغد وليس المراد إباحة الإفطار ليلا؛ لأنه لا يتوقف على رؤية الهلال "فإن غم عليكم" في الليلتين، أي: غطي بغيم أو غيره من غممت الشيء غطيته، وفيه ضمير الهلال، ويجوز أن يسند إلى الجار والمجرور، يعني: إن كنتم مغموما عليكم وترك ذكر الهلال للاستغناء عنه "فاقدروا له" بضم الدال وكسرها كما في المطالع وغيرها، وأنكر المطرزي الضم وليست حقيقة الرؤية شرطا لازما للاتفاق على أن المحبوس في مطمورة إذا علم كمال العدة، أو بالاجتهاد بالأمارات أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه، قاله ابن دقيق العيد: "رواه مسلم" من حديث ابن عمر بهذا اللفظ من جملة ألفاظ وهو فيه، وفي البخاري بنحوه.
"وقوله: "فإن غم عليكم، أي: حال بينكم وبينه غيم" أو غيره من غممت الشيء إذا غطيته "فاقدروا له من التقدير، أي: قدروا له تمام العدة ثلاثين يوما، ويؤيده قوله في الرواية السابقة، فإن غم عليه -صلى الله عليه وسلم- عد ثلاثين" يوما، وكذا جاء في بعض طرق حديث ابن عمر نفسه عند البخاري، بلفظ في: "كملوا العدة ثلاثين" "وهو مفسر لـ "اقدروا له"؛ لأن أولى ما فسر الحديث بالحديث "ولهذا" أي: كونه تفسيرا له "لم يجتمعا في رواية" واحدة "ويؤيده رواية" لمسلم عن ابن عمر نفسه: "فاقدروا له ثلاثين" أي: أكملوا له ثلاثين يوما.
"قال المازري" في شرح مسلم: "حمل جمهور الفقهاء قوله عليه السلام: "اقدروا له(11/225)
المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر، قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى.
وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة، وجمهور السلف والخلف. وفيه دليل: أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل في طائف: أي اقدروا له تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه.
وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل.
__________
على أن المراد إكمال العدة ثلاثين، كما فسره في حديث آخر" كحديث عائشة المذكور وبعض طرق حديث ابن عمر كما رأيت، وحديث أبي هريرة: "فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما".
وفي رواية: "فعدوا ثلاثين"، رواهما مسلم، وله وللبخاري عن أبي هريرة: "فأكملوا عدة شعبان ثلاثين".
"قالوا": ليس المراد التبري، بل أراد أن هذا التوجيه للجمهور، أي: أنهم قالوا في بيان وجه ما حملوا عليه الحديث "ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين؛ لأن الناس لو كلفوا به لضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم. انتهى" كلام المازري، وزاد: ولا حجة لهم في قوله: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ؛ لأنها محمولة عند الجمهور على الاهتداء في السير في البر والبحر "وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة وجمهور السلف والخلف، وفيه دليل أنه لا يجوز صوم يوم الشك" هو ما يتحدث الناس أنه من رمضان ولم ير أو شهد به من لا تقبل شهادته "ولا يوم الثلاثين" وإن لم يقع شك بالمعنى المذكور "من شعبان عن رمضان إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم؛" لأنها من شعبان بنص الحديث، لذا عيب على من فسر الشك بذلك، ويصام يوم الشك عادة وتطوعا ولنذر وقضاء وكفارة.
"وقال الإمام أحمد بن حنبل في" أي: مع "طائفة أي: اقدروا له" أي افرضوه موجودا "تحت السحاب، فيجوزون صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان، بل قال أحمد بوجوبه، وقال" أبو العباس "بن سريج" من الشافعية "وجماعة منهم مطرف بن عبد الله" من التابعين "وابن قتيبة" من المحدثين "وآخرون معناه: قدروه بحساب المنازل" لكن المصنف في عهدة قوله:(11/226)
الفصل الثالث: في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد
عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه. رواه أبو داود وصححه ابن حبان.
وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدا
__________
وآخرون، وقوله قبله وجماعة منهم، فإن الحافظ بعدما عزاه لهؤلاء الثلاثة فقط، قال: قال ابن عبد البر: لا يصح عن مطرف، وأما ابن قتيبة فليس هو ممن يعرج عليه في مثل هذا. انتهى، فهو ظاهر في قصر التفسير بذلك على الثلاثة المذكورين، ولذا نقله الباجي عن الداودي، قال: لا يعلم أحد قاله إلا بعض الشافعية، يعني ابن سريج، قال: والإجماع حجة عليه، وسبقه إلى حكاية الإجماع ابن المنذر، فقال: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، ونقل ابن العربي عن ابن سريج؛ أن قوله: فاقدروا له، خطاب لمن خصه الله تعالى بهذا العلم، وأن قوله: فأكملوا العدة، خطاب للعامة.
قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحسب العدد، وهذا بعيد عن النبلاء، انتهى، بل هو تحكم محجوج بالإجماع.
وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هو معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم وهذا هو الذي أراده ابن سريج وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه. انتهى، ونقل ابن الروياني عنه أنه لم يقل بوجوبه بل بجوازه. الله تعالى أعلم.
"الفصل الثالث: في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد"
أي: عدل الشهادة، إذ هو المراد عند الإطلاق، فلا يكفي عبد ولا امرأة ونحوهما.
"عن ابن عمر، قال: تراءى الناس الهلال" أي: نظروا إليه فلم يروه ورأيته أنا "فأخبرت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان".
قال المصنف: والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط في الصوم، وهذا أصح قولي الشافعي.
قال البغوي وغيره: ويجب الصوم أيضا على من أخبره موثوق بالرؤية، وإن لم يذكر عند القاضي "وعن ابن عباس قال: جاء أعرابي إلى رسول الله، فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله"، قال: نعم، قال: "أتشهد أن محمدا رسول الله"،(11/227)
"رسول الله"، قال: نعم، قال: "يا بلال، أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا. وهذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء، إلا أبا ثور فجوزه بعدل.
قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره، فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان، ولا يحل به الدين المؤجل، لا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة. وصورته: فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق فإن الطلاق والعتق يقعان. كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج وقال الرافعي: في الباب
__________
قال: نعم، قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا"، رواه أبو داود والترمذي والنسائي" وجواب من لم يقل بعدل واحد عن هذين الحديثين؛ أنه يحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- علم ذلك فحكم بعلمه وهو من خصائصه، فسقط بها الاستدلال ورجع إلى المعلوم أن الشهادة إنما تكون بعدلين.
"والمراد في قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: "إذا رأيتموه" رؤية بعض المسلمين ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدل على الأصح في مذهبنا" ورؤية عدلين عند غيرهم "وهذا" الخلاف محله "في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور" بمثلثة "فيجوز" أي: يثبت "بعدل عنده".
"قال الأسنوي: إذا قلنا بالعدل الواحد في الصوم فلا خلاف أنه لا يتعدى إلى غيره" أي: الصيام لغير الرائي، أما هو فيثبت في حقه جميع الأحكام "فلا يقع به الطلاق والعتق المعلقين بدخول رمضان ولا يحل به الدين المؤجل ولا يتم به حول الزكاة، كذا أطلقه الرافعي هنا نقلا عن البغوي، وأقره وتبعه عليه في الروضة، وصورته فيما إذا سبق التعليق على الشهادة، فإن وقعت الشهادة أولا، وحكم الحاكم بدخول رمضان ثم جرى التعليق، فإن الطلاق والعتق يقعان، كذا نقله القاضي حسين في تعليقه عن ابن سريج، وقال الرافعي في الباب الثاني من كتاب الشهادات أنه القياس. ا. هـ".(11/228)
الثاني من كتاب الشهادات: إنه القياس. انتهى.
الفصل الرابع: فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم
عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم. رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي.
واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا.
وعن علي وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور: يفطر الحاجم والمحجوم، وأوجبوا عليهما القضاء.
وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا.
وقال بقول أحمد، ومن الشافعية: ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان.
ونقل الترمذي عن الزعفراني: أن الشافعي علق القول به على صحة
__________
"الفصل الرابع: فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم"
من أمور قد يتوهم خدشها للصوم، كالحجامة والقبلة والإصباح بجنابة والسواك.
"عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم" وذلك في حجة الوداع، كما في بعض طرقه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي" بطرق متعددة.
"واعلم أن الجمهور على عدم الفطر بالحجامة مطلقا"، أي: للحاجم والمحجوم؛ لأنها إخراج، وقد قال ابن عباس: الفطر مما دخل وليس مما خرج وحمل على الغالب؛ لأنه تعمد إخراج المني يفطر.
"وعن علي" أمير المؤمنين "وعطاء" بن أبي رباح "والأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو "وأحمد" بن حنبل "وإسحاق" بن راهويه "وأبي ثور" إبراهيم بن خالد الفقيه: "يفطر الحاجم والمحجوم وأوجبوا عليهما القضاء وشذ عطاء فأوجب الكفارة أيضا، وقال بقول أحمد ومن وافقه من الشافعية ابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان".
"ونقل الترمذي عن الزعفراني" نسبة إلى قرية الزعفرانية بقرب بغداد الحسين بن علي بن يزيد البغدادي الفقيه الإمام في اللغة قال في التقريب: صدوق فاضل تكلم فيه أحمد لمسألة اللفظ، مات سنة خمس أو ثمان وأربعين ومائتين. ا. هـ، وفي التهذيب: مات في رمضان، وفي(11/229)
الحديث. قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد، وأما بمصر فمال إلى الرخصة. انتهى.
وقال الشافعي في "اختلاف الحديث" بعد أن أخرج حديث شداد "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان. فقال -وهو آخذ بيدي: "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم ثم قال: وحديث ابن عباس أمثلهما إسنادا، فإن توقى أحد الحجامة كان أحب إلي احتياطا، والقياس مع حديث ابن عباس. والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. انتهى.
وأول بعضهم حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما
__________
الوفيات في شعبان سنة ستين، وقال ابن السمعاني: سنة تسع وأربعين ومائتين.
"أن الشافعي علق القول به على صحة الحديث، قال الترمذي: وكان الشافعي يقول ذلك ببغداد" وهو ما نقله عنه الزعفراني أثبت رواة القديم "وأما بمصر فمال إلى الرخصة" أي: جواز الاحتجام للصائم وأنه لا يفطر. "انتهى. وقال الشافعي في" كتاب "اختلاف الحديث: بعد أن أخرج حديث شداد" بن أوس، قال: "كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في زمان الفتح" لمكة "فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة" بفتح النون بدون ياء، أما معها فبإسكان الياء وفتحها "خلت من "رمضان، فقال" صلى الله عليه وسلم: "وهو آخذ بيدي" أي: بيدي شداد "أفطر الحاجم والمحجوم" ثم ساق" الشافعي "حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- احتجم وهو صائم، ثم قال" الشافعي: "وحديث ابن عباس أمثلهما" أي: أصحهما "إسنادا؛" لأنه متفق عليه بخلاف حديث شداد ففيه كلام طويل "فإن توقى أحد" لم يقع في الفتح لفظ أحد "الحجامة: كان أحب إلي احتياطا" لئلا تضعفه فيلجأ إلى الفطر.
"والقياس مع حديث ابن عباس" أي: موافق؛ ولأنها إخراج وللإجماع على أن رجلا لو أطعم رجلا طائعا أو مكرها لم يفطر الفاعل "والذي أحفظ عن الصحابة والتابعين وعامة أهل العلم أنه لا يفطر أحد بالحجامة. ا. هـ" فإن احتجم وسلم فلا إثم ولا قضاء عليه.
وفي البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟، قال: لا إلا من أجل الضعف، وفيه أن ابن عمر كان يحتجم وهو صائم، ثم تركه وكان يحتجم بالليل، أي: لما أسن خيفة الضعف وكان كثير الاحتياط، وجزم ابن عبد البر بأن حديث أفطر الحاجم والمحجوم منسوخ؛ لأنه في فتح مكة بحديث ابن عباس؛ لأنه في حجة الوداع ولم يدرك بعد ذلك رمضان معه -صلى الله عليه وسلم- لوفاته في ربيع الأول، وسبقه لذلك الشافعي، كما رواه عنه البيهقي "وأول بعضهم(11/230)
سيفطران، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف: 36] ، أي ما يؤول إليه. ولا يخفى بعد هذا التأويل. وقال البغوي في "شرح السنة" معناه: أي تعرضا للإفطار، أما الحاجم فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر. وقيل: معنى أفطرا: فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة.
وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" بلا ريب، لكن وجدنا من حديث أبي سعيد "أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجامة للصائم" وإسناده صحيح، فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة، فدل على نسخ
__________
حديث: "أفطر الحاجم والمحجوم" على أن المراد به أنهما سيفطران، كقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} أي ما يؤول إليه ولا يخفى بعد هذا التأويل". لأنه لا يلزم وصول الدم ولا ضعف القوة أبدًا.
"وقال البغوي في شرح السنة معناه، أي: تعرضا للإفطار، أما الحاجم؛ فلأنه لا يأمن من وصول شيء من الدم إلى جوفه عند مصه، وأما المحجوم؛ فلأنه لا يأمن من ضعف قوته بخروج الدم، فيؤول أمره إلى أن يفطر" والفارق بين هذا وسابقه أنه قطع بأن مآل أمرهما الفطر والبغوي لم يقطع، بل قال: تعرضا ولا يلزم من التعرض الوقوع.
"وقيل: معنى أفطرا فعلا فعلا مكروها وهو الحجامة، فصارا كأنهما غير متلبسين بالعبادة" أي: الصيام.
وقال ابن عبد البر: معناه ذهب أجرهما لما علمه -صلى الله عليه وسلم- من ذكر كخير من لغا يوم الجمعة فلا صلاة له، أي: ذهب أجر جمعته، وقد قيل: إنهما كانا مغتابين أو قاذفين فبطل أجرهما لا حكم صومهما. ا. هـ.
"وقال ابن حزم: صح حديث: "أفطر الحاجم والحجوم" بلا ريب" فقد رواه النسائي والبيهقي بطرق عن الحسن عن أبي هريرة، وثوبان ومعقل بن يسار وعلي وأسامة والترمذي عن رافع بن خديج، وأبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون عن شداد بن أوس وثوبان، قال أحمد: والبخاري عن ثوبان أصح وصححه ابن راهويه عن شداد وصححهما معا ابن المديني، وفي بعض أسانيدهم مقال لكن باجتماع طرقه وتعدد مخارجه يرتقي إلى الصحة.
"لكن وجدنا من حديث أبي سعيد أرخص النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحجامة للصائم وإسناده صحيح فوجب الأخذ به؛ لأن الرخصة إنما تكون بعد العزيمة" غالبا ليخرج المسلم فإنه أبيح(11/231)
الفطر بالحجامة، سواء كان حاجما أو محجوما. انتهى.
والحديث المذكور أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني، ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه، وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني ولفظه: "أول ما كرهت الحجامة للصائم أن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أفطر هذان"، ثم أرخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد في الحجامة للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم". ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قتل قبل ذلك.
ومن أحسن ما ورد في ذلك، ما رواه عبد الرزاق وأبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم، وعن المواصلة، ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه.
__________
بدون تحريم سابق "فدل على نسخ الفطر بالحجامة سواء كان حاجما أو محجوما. ا. هـ" وسبقه إلى القول بالنسخ شيخه ابن عبد البر وسبقهما الشافعي كما مر.
"والحديث المذكور" أي: حديث أبي سعيد "أخرجه النسائي وابن خزيمة والدارقطني ورجاله ثقات، ولكن اختلف في رفعه ووقفه وله شاهد من حديث أنس عند الدارقطني، ولفظه: أول ما كرهت الحجامة للصائم" بالبناء للمفعول لرواية البخاري: أن ثابتا سأل أنسا: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ "إن جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم، فمر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "أفطر هذان" جعفر والذي حجمه "ثم أرخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد" بضم الدال "في الحجامة للصائم وكان أنس يحتجم وهو صائم، ورواته كلهم من رجال البخاري إلا أن في المتن ما ينكر؛ لأن فيه أن ذلك كان في الفتح" لمكة "وجعفر كان قتل" شهيدا "قبل ذلك" في غزوة مؤتة، وقد تدفع النكارة بأنه لم يصرح في حديث أنس هذا بأنه كان في الفتح، فيحمل على أنه رآه قبله فقال ذل، وقاله أيضا بعده في الفتح كا سبق في حديث شداد.
"ومن أحسن ما ورد في ذلك ما رواه عبد الرزاق وأبو داود" من طريق عبد الرحمن بن عابس "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري المدني، ثم الكوفي "عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وعن المواصلة" للصائم "ولم يحرمهما إبقاء على أصحابه" مفعول لأجله متعلق بنهي، أي: خوفا عليهم متعلق بلم يحرمهما(11/232)
وإسناده صحيح، والجهالة بالصحابي لا تضر، ورواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الثوري بلفظ: عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- قالوا: إنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي لئلا يضعف. انتهى ملخصا من فتح الباري. والله أعلم.
وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود. قالت: وكان أملككم لإربه أي لحاجته، نعني أنه كان غالبا هواه.
قال ابن الأثير: أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمز والراء، يعنون به الحاجة، وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء، وله تأويلان: أحدهما أن الحاجة يقال فيها؛ الأرب، والإرب، والإربة والمأربة، والثاني: أرادت به العضو، وعنت به من
__________
"وإسناده صحيح والجهالة بالصحابي لا تضر؛" لأنهم كلهم عدول "ورواه ابن أبي شيبة عن" شيخه "وكيع" بن الجراح "عن الثوري" سفيان بن سعيد، أي: عن ابن عابس عن ابن أبي ليلى "بلفظ: عن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم" أنهم "قالوا: إنما نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الحجامة للصائم وكرهها للضعف، أي: لئلا يضعف" لا لذاتها. "ا. هـ. ملخصا من فتح الباري. والله أعلم".
"وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- يقبل بعض أزواجه" عائشة نفسها كما في مسلم عنها: كان يقبلني وهو صائم، أو حفصة كما في مسلم أيضا، أو أم سلمة كما في البخاري، لكن الظاهر أن كلا منهن إنما أخبرت عن فعله معها "وهو صائم" جملة حالية "ثم ضحكت" تنبيها على أنها صاحبة القصة أو لغير ذلك كما يأتي "رواه البخاري" من طريق مالك ويحيى القطان "ومسلم" من طريق سفيان "ومالك" في الموطأ "وأبو داود" من طريق مالك وهو والقطان، وسفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، و"قالت" كما في الصحيحين وغيرهما أيضا من طرق عنها أنها كانت إذا ذكرت أنه -صلى الله عليه وسلم- يقبل هو صائم تقول: "وكان أملككم لإربه، أي: لحاجته، نعني" عائشة "أنه كان غالبا هواه" فيملك نفسه، ويأمن من الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة وهيجان نفس بخلافكم فلا تأمنون ذلك، فاللائق لكم الاحتراز عن القبلة والمباشرة.
"قال ابن الأثير" في النهاية: "أكثر المحدثين يرويه بفتح الهمزة والراء، يعنون به الحاجة" وقدمه الحافظ وقال: إنه الأشهر، وإلى ترجيحه أشار البخاري "وبعضهم يرويه بكسر الهمزة وسكون الراء" وعزاه الخطابي وعياض لرواية الأكثر، قال النووي: وهو الأشهر.
"وله تأويلان: أحدهما أنه الحاجة" فهما بمعنى "يقال فيها الأرب" بفتحتين "والإرب"(11/233)
الأعضاء الذكر خاصة. انتهى.
ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب: أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته، لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا.
وقوله: "فضحكت" قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا، وقيل: تعجبت من نفسها، أن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتها الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك، وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك، أو تنبيها على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو سرورا بمكانتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته لها.
__________
بكسر فسكون "والإربة والمأربة" كل ذلك بمعنى، وفسر الترمذي أربه بنفسه لرواية الموطأ: وأيكم أملك لنفسه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ العراقي: وهو أولى بالصواب؛ لأن أولى ما فسر به الغريب ما ورد في بعض طرق الحديث، "والثاني: أردت به العضو وعنت به من الأعضاء الذكر خاصة. ا. هـ".
قال التوربشتي: لكن حمل الحديث عليه غير سديد لا يغتر به إلا جاهل بوجوه حسن الخطاب مائل عن سنن الأدب ونهج الصواب، ورده الطيبي بأنها ذكرت أنواع الشهوة مرتقية من الأدنى إلى الأعلى، فبدأت بمقدمتها التي هي القبلة ثم ثنت بالمباشرة من نحو المداعبة والمعانقة، وأرادت أن تعبر عن المجامعة فسكنت عنها بالأرب، وأي عبارة أحسن من هذا.
"ومذهب الشافعي رحمه الله والأصحاب أن القبلة ليست محرمة على من لم تحرك شهوته" بانتصاب الذكر مع أمن الإنزال "لكن الأولى تركها، وأما من حركت شهوته" بأن خاف الإنزال "فهي حرام في حقه على الأصح عند أصحابنا" وكذا عند غيرهم.
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا رخص فيها إلا وهو يشترط السلامة مما تولد منها، ومن علم أنه يتولد منها ما يفسد صومه وجب عليه اجتنابها. ا. هـ.
"وقوله: فضحكت" المتقدم، والرواية: ثم ضحكت "قيل: يحتمل ضحكها التعجب ممن خالفها في هذا" مع أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله "وقيل: تعجبت من نفسها إن حدثت بمثل هذا مما يستحيا من ذكر النساء مثله للرجال، ولكنها ألجأتا الضرورة في تبليغ العلم إلى ذكر ذلك" حذرا من كتمه "وقد يكون خجلا لإخبارها عن نفسها بذلك"، والخجل غير التعجب "أو" ضحكت "تنبيها" للسامع "على أنها صاحبة القصة ليكون ذلك أبلغ في الثقة بها، أو"(11/234)
وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي.
وروى النسائي عنها قالت: أهوى إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم" فقبلني.
وقد روى أبو داود عن عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها، يعني وهو صائم. إسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها.
وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد وهو صائم. رواه البيهقي من رواية محمد بن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده. ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي، ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه.
وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا
__________
ضحكت "سرورا بمكانتها من النبي -صلى الله عليه وسلم- ومحبته لهها" وملاطفته لها.
"وروى ابن أبي شيبة عن شريك عن هشام عن" أبيه "عروة في هذا الحديث: فضحكت فظننا أنها هي" قائل ذلك عروة راوي الحديث عنها.
وروى النسائي عنها، قالت: أهوى إلي النبي -صلى الله عليه وسلم- ليقبلني فقلت: إني صائمة، فقال: "وأنا صائم"، فقبلني" وقد أخذ الظاهر به بظواهر هذه الأحاديث فجعلوا القبلة للصائم سنة، وقربة اقتداء بفعله -صلى الله عليه وسلم، ورد بأنه كان يملك نفسه فليس غيره مثله.
"وقد روى أبو داود عن عائشة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبلها ويمص لسانها" بضم الميم وفتحها "يعني وهو صائم وإسناده ضعيف، ولو صح فهو محمول على أنه لم يبلع ريقه الذي خالط ريقها" لئلا يفطر، "وكان عليه الصلاة والسلام يكتحل بالإثمد" بكسر الهمزة والميم بينهما مثلثة ساكنة "وهو صائم"، ولذا جوزه الشافعي، ولو وجد طعم الكمل في حلقه ومنعه مالك وأحمد لضعف الحديث. "رواه البيهقي" والطبراني، كلاهما "من رواية" حبان بن علي عن أبيه "محمد بن عبد اله بن أبي رافع، عن أبيه" عبد الله "عن جده" أبي رافع "ثم قال البيهقي: إن محمدا هذا ليس بالقوي" وكذا ابنه حبان، قاله الذهبي "ووثقه الحاكم وأخرج له في مستدركه" من تساهله المعلوم، فقد قال البخاري وأبو حاتم: محمد منكر الحديث.
وقال ابن معين: ليس محمد بشيء ولا ابنه، ونقل في الميزان تضعيف هذا الحديث عن جمع، وقال في الفتح في سنده مقال، وفي تخريج الهداية سنده ضعيف، وقال أبو حاتم: حديث منكر.
"وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- يصبح جنبا من جماع لا حلم" بضم الحاء وسكون اللام.(11/235)
يقضي. رواه البخاري ومسلم.
قال القرطبي: في هذا الحديث فائدتان، إحداهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز، الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وقال غيره في قولها: "من غير الاحتلام" إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان لاستثنائه معنى.
ورد: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه، وأجيب: بأن الاحتلام يقع على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام. وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدا يفطر. انتهى.
وقال عامر بن ربيعة: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يستاك وهو صائم ما لا أعد ولا أحصي. رواه
__________
لامتناعه منه، زاد في رواية: في رمضان، أي: وأولى في غيره "ثم لا يفطر" ذلك اليوم الذي يصبح فيه جنبا بل يغتسل ويصومه "ولا يقضي، رواه البخاري ومسلم" واللفظ له، وروياه من طرق عن أم سلمة وعائشة معا بنحوه وفيه قصة.
"قال القرطبي" في المفهم: "في هذا الحديث فائدتان":
"إحدهما: أنه كان يجامع في رمضان ويؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر بيانا للجواز" وإن كان الأفضل الاغتسال قبل الفجر.
"الثانية: أن ذلك كان من جماع لا من احتلام؛ لأنه كان لا يحتلم، إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه" وهذا هو الأشهر "وقال غيره في قولها" في الرواية التي لم يسق المصنف لفظها: "من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان لاستثنائه معنى؛" لأنه لو لم يدخل فيما قبله ما صح إخراجه، وأجيب عن هذا بأنها صفة لازمة، والمعنى يصبح جنبا من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه، ويدل عليه رواية لا حلم وهو قرب من قوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: 61] ، ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق.
"ورد" على قائل أن فيه دليلا على جواز ذلك "بأن الاحتلام من" تلاعب "الشيطان وهو معصوم منه، وأجيب بن الاحتلام يقع على الإنزال وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام" بل بكثرة امتلاء الجسد بالماء ونحو ذلك.
"وأرادت بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا يفطر. ا. هـ" وهو أبو هريرة، ثم رجع لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة.
"وقال عامر بن ربيعة" بن كعب بن مالك العنزي بسكون النون حليف آل الخطاب، أسلم(11/236)
أبو داود والترمذي.
الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام
عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في شهر رمضان، فلما غابت الشمس قال: "يا بلال انزل فاجدح لنا" قال: يا رسول الله، إن
__________
قديما وهاجر وشهد بدرا، مات ليالي قتل عثمان: "رأيته -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم يستاك ما لا أعد ولا أحصي، رواه أبو داود والترمذي" وبه وبنحوه كحديث: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، ولم يخص صائما من غيره. احتج من قال: بجواز السواك للصائم بعد الزوال، ورجحه النووي في شرح المهذب خلافا لمن كرهه تعلقا بحديث: لخلوف فم الصائم، وأجيب بأن الخلوف لا ينقطع ما دامت المعدة خالية، غايته أنه يخف بالسواك.
قال ابن دقيق العيد: يحتاج إلى دليل خاص بهذا الوقت يخص به عموم عند كل صلاة، وفي رواية: عند كل وضوء، وحديث الخلوف لا يخصصه. انتهى.
"الفصل الخامس: في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام، عن عبد الله بن أبي أوفى" بفتح الهمزة والفاء بينهما واو ساكنة واسمه علقمة ولهما صحبة "قال: كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سفر في شهر رمضان" لفتح مكة؛ لأنه إنما سافر في رمضان فيه وفي غزوة بدر، وابن أبي أوفى لم يشهد بدرًا، فتعين أنه سفر، الفتح قاله الحافظ: "فلما غابت الشمس" وفي رواية للشيخين: فلما غربت وهي تفيد معنى أزيد من معنى غابت، قاله الحافظ، أي: لأن غابت يحتمل أن غيبتها بسبب غيم يمنع رؤيتها "قال: "يا بلال" كذا في النسخ والذي في الصيحين: "يا فلان".
قال الحافظ: لم يسم المأمور بذلك، وقد أخرجه أبو داود عن مسدد شيخ البخاري فيه فسماه، ولفظه: فقال: "يا بلال"، وأخرجه الإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عن عبد الواحد بن زياد شيخ مسدد فيه، فاتفقت رواياتهم على قوله: "يا فلان"، فلعلها تصحيف، ولعل هذا سر حذف البخاري لها.
وفي حديث عمر عند ابن خزيمة قال: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أقبل الليل ... " إلخ، فيحتمل أن المخاطب بذلك عمر، فإن الحديث واحد، فلما كان عمر هو المقول له "إذا أقبل الليل" احتمل أنه المقول له، لكن يؤيد أنه بلال رواية أحمد، فدعا صاحب شرابه، فإن بلالا هو المعروف بخدمته -صلى الله عليه وسلم. انتهى.
واعتذر شيخنا عن المصنف، فقال: لعل حكمة جزمه بقوله قال: "يا بلال"، التعويل على قوله: فدعا صاحب شرابه. انتهى، وهو اعتذار بارد؛ لأنه عزاه للشيخين وليس عندهما ولا عند(11/237)
عليك نهارا، قال: "انزل فاجدح لنا"، قال: فنزل فجدح فأتى به فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم قال بيده: "إذا غابت الشمس من ههنا، وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم" رواه البخاري ومسلم.
والجدح -بجيم ثم حاء مهملة- خلط الشيء بغيره. والمراد: خلط السويق
__________
أحدهما "يا بلال" "انزل فاجدح لنا" بهمزة وصل وسكون الجيم وفتح الدال وبحاء مهملتين، أي: اخلط السويق بالماء أو اللبن بالماء لنفطر عليه، هكذا ضبطه الحافظ وغيره، فهو الرواية وإن جاز لغة فتح الهمزة وكسر الدال من أجدح.
"قال: يا رسول الله إن عليك نهارًا" وفي رواية: الشمس، أي: باقية، أو انظر الشمس، وفي رواية أخرى: لو أمسيت "قال: "انزل فاجدح لنا" زاد في رواية للشيخين: قال: "لو أمسيت"، وفي أخرى: "الشمس".
قال الحافظ: يحتمل أنه رأى كثرة الضوء من شدة الصحو، فظن أن الشمس لم تغرب وأنه غطاها شيء من جبل ونحوه، أو كان هناك غيم فلم يتحقق غروبها.
قال الزين ابن المنير: يؤخذ منه جواز الاستفسار عن الظواهر لاحتمال أن لا يكون المراد ظاهرها، وكأنه أخذ ذلك من تقريره -صلى الله عليه وسلم- الصحابي على ترك المبادرة إلى الامتثال، وفيه تذكير العالم بما يخشى أنه نسيه وترك المراجعة له بعد ثلاث، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فأكثرها أنها وقعت ثلاثًا، وفي بعضها مرتين، وفي بعضها مرة واحدة، وهو محمول على أن بعض الرواة اختصر القصة، ومن ذكر الثلاث حافظ فزيادته مقبولة.
"قال" ابن أبي أوفى: "فنزل" فلان "فجدح فأتى" في رواية فأتاه "به" أي: بما جدحه "فشرب النبي -صلى الله عليه وسلم" منه "ثم قال:" أي: أشار "بيده" قائلا: "إذا غابت الشمس من ههنا" من جهة المغرب "وجاء الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق، والمراد به وجود الظلمة الحسية وغيبوبة الشمس ومجيء الليل متلازمان وجمع بينهما؛ لأنهما قد يكونان في الظاهر غير متلازمين لاحتمال أنها لم تغب، بل استترت بشيء "فقد أفطر الصائم" أي: دخل وقت فطره أو صار مفطرا حكما؛ لأن الليل ليس ظرفا للصوم الشرعي، وفي رواية: فقد حصل الإفطار وهي تؤيد التفسير الأول، ورجحه ابن خزيمة وعلله بأن قوله: "فقد أفطر الصائم" خبر ومعناه الإنشاء، أي: فليفطر الصائم، قال: ولو كان المراد فقد صار مفطرا كان فطر جميع الصوام واحدا، ولم يكن للترغيب في تعجيل الإفطار معنى "رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، إلا أن لفظ في شهر رمضان إنما وقع في رواية لمسلم، وباقي الروايات عنده كالبخاري ليس فيه ذلك.
"والجدح بجيم" أوله "ثم حاء مهملة" آخره "خلط الشيء بغيره، والمراد خلط(11/238)
بالماء وتحريكه حتى يستوي.
ومعنى الحديث: أنه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما، فلما غربت الشمس أمره -صلى الله عليه وسلم- بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرهما، فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا، لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى: "لو أمسيت" وتكريره المراجعة لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار يحرم الأكل فيه، مع تجويزه أنه عليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء قاله النووي. والله أعلم.
الفصل السادس: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه
عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يجد رطبات
__________
السويق" القمح، أو الشعير المقلو المطحون "بالماء وتحريكه حتى يستوي" زاد في شرحه للبخاري أو اللبن بالماء، وقول الداودي: معناه أحلب رده عياض.
"ومعنى الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا صياما فلا غربت الشمس أمره عليه السلام بالجدح ليفطروا، فرأى المخاطب آثار الضياء والحمرة التي تبقى معه بعد غروب الشمس، وظن أن الفطر لا يحصل إلا بعد ذهاب ذلك، واحتمل عنده أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يرهما" أي: الضياء والحمرة "فأراد تذكيره وإعلامه بذلك، ويؤيد هذا قوله: إن عليك نهارا لتوهمه أن ذلك الضوء من النهار الذي يجب صومه، وهو معنى قوله في الرواية الأخرى" عند الشيخين "لو أمسيت" أي: لو أخرت إلى وقت المساء لكنت متمما للصوم، فحذف جواب لو الشرطية، أو هي للتمني فلا جواب لها "وتكريره المراجعة" ثلاث مرات "لغلبة اعتقاده على أن ذلك نهار" وفي نسخ على أنه كان نهارا "يحرم الأكل فيه مع تجويزه أنه ليه السلام لم ينظر إلى ذلك الضوء نظرا تاما، فقصد زيادة الإعلام ببقاء الضوء، قاله النووي" في شرح مسلم، زاد غيره: أو كان هناك غيم فلم يتحقق الغروب، إذ لو تحققه ما توقف؛ لأنه حينئذ يكون معاندا، وإنما توقفه احتياطا واستكشافا عن حكم المسألة. "والله أعلم".
"الفصل السادس: فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه، عن أنس: كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر" إذا كان صائما "قبل أن يصلي" المغرب "على رطبات، فإن لم يجد رطبات فتمرات" أي: فعلى تمرات "فإن(11/239)
فتمرات، فإن لم يجد تمرات حسا حسوات من ماء. رواه أبو داود.
وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع القوى به، لا سيما قوة البصر. وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظمآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده. قاله ابن القيم.
الفصل السابع: فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار
عن معاذ بن زهرة: بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر قال: "اللهم لك
__________
لم يجد تمرات حسا حسوات" بحاء وسين مهملتين: جمع حسوة بالفتح المرة من الشرب "من ماء" ولو قراحا، وقد ترجم البخاري باب يفطر بما تيسر له من الماء وغيره، ولبعض رواته بالماء، وأورد فيه حديث الجدح لاشتماله على الماء وغيره، فإن لم يكن غلا الماء أفطر عليه، ففي الترمذي وغيره صحيحا مرفوعا: إذا كان أحدكم صائما فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور والأمر للندب عند الكاف، وشد ابن حزم فحمله على الوجوب "رواه أبو داود" والترمذي وحسنه والنسائي وصححه الحاكم، وصريحه تقديم الرطب على التمر وهو على الماء، والقصد بذلك كما قال المحب الطبري أن لا يدخل جوفه أولا ما مسته نار، ويحتمل أن يريد هذا مع قليل الحلاوة تناولا "وإنما خص عليه السلام الفطر بما ذكر؛ لأن إعطاء الطبيعة الشيء الحلو مع خلو المعدة أدعى إلى قبوله وانتفاع الوقى به لاسيما قوة البصر؛" لأن الصوم يخلي المعدة من الغذاء فلا يجد الكبد فيها ما يجذبه ويرسله إلى القوى والأعضاء فتضعف، والحلو أسرع شيء وصولا إلى الكبد وأحبه إليها سيما الرطب، فيشتد قبولها فتنتفع به هي والقوى، فإن لم يكن فالتمر لحلاوته وتغذيته "وأما الماء فإن الكبد يحصل لها بالصوم نوع يبس، فإذا رطبت بالماء كمل انتفاعها بالغذاء بعده، ولهذا كان الأولى بالظآن الجائع أن يبدأ بشرب قليل من الماء ثم يأكل بعده، قاله ابن القيم؛" لأن الماء يطفئ لهيب المعدة وحرارة الصوم فتتنبه بعده للطعام وتتلقاه بشهوة.
"الفصل السابع: فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار: عن معاذ بن زهرة" ويقال فيه: معاذ أبو زهرة، قال: "بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا أفطر" من صومه "قال" عند فطره: "اللهم(11/240)
"صمت، وعلى رزقك أفطرت". وهو حديث مرسل، ومعاذ هذا ذكره البخاري في التابعين لكن قال: معاذ أبو زهرة -وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان- في الثقات. وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة، وغلطه جعفر المستغفري.
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث موصولا، ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا. قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر أورده في المراسيل.
وخرج ابن السني والطبراني في المعجم الكبير، بسند واه جدا عن ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت، فتقبل مني إنك أنت السميع العليم".
__________
لك صمت وعلى رزقك أفطرت".
قال الطيبي: قدم الجار والمجرور فيهما على العامل دلالة على الاختصاص وإظهارا للاختصاص في الافتتاح وإبداء الشكر المختص به في الاختتام "وهو حديث مرسل ومعاذ، هذا ذكره البخاري في التابعين" ناقلا عن يحيى بن معين أن حديثه مرسل "لكن قال معاذ أبو زهرة" وهو هو "وتبعه ابن أبي حاتم وابن حبان في الثقات" فذكراه في التابعين "وذكره يحيى بن يونس الشيرازي في الصحابة وغلطه جعفر المستغفري" في تأليفه في الصحابة، وقد ذكره البغوي فيهم، لكنه قال: لا أدري له صحبة أو لا.
"قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون الحديث" المذكور "موصولا ولو كان معاذ تابعيا، لاحتمال أن يكون الذي بلغه له صحابيا، قال: وبهذا الاعتبار أورده أبو داود في السنن، وبالاعتبار الآخر" وهو أنه تابعي مع احتمال أن الذي بلغه ليس بصاحبي "أورده" أبو داود "في" كتاب "المراسيل" وقد ذكره في الإصابة فيمن ذكر في الصحابة غلطا وجزم بأنه تابعي، وكذا جزم في تقريبه وقال: إنه مقبول من الثالثة، أي: أواسط التابعين.
"وخرج ابن السني" بضم المهملة وشد النون "والطبراني في المعجم الكبير" والدارقطني، كلهم "بسند واه" الأكثر فيه حذف الياء ومع ذلك يقرأ بالتنوين ويحذف الياء لفظا لالتقاء الساكنين "جدا" أي: شديد الضعف من وهي الحائط إذا مال للسقوط.
"عن ابن عباس" قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "اللهم لك" لا لغيرك "صمت وعلى رزقك أفطرت فتقبل مني" في رواية الدارقطني: "أفطرنا فتقبل منا" "إنك أنت السميع" لدعائي "العليم" بإخلاصي، قبل: لعله كان يفرد إذا أفطر وحده ويجمع إذا أفطر مع غيره، وهذا لو صح(11/241)
وعن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "ذهب الطمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله". رواه أبو داود. وزاد رزين: "الحمد لله" في أول الحديث.
وفي كتاب ابن السني، عن معاذ بن زهرة قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت".
الفصل الثامن: في وصاله -صلى الله عليه وسلم
عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل، قال: "إني
__________
كان شاهدا لحديث ابن زهرة الذي قبله.
"وعن ابن عمر" بن الخطاب قال: "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "ذهب الظمأ" مهموز الآخر مقصور العطش، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ} [التوبة: 120] ، وإنما ذكرته وإن كان ظاهرا؛ لأني رأيت من اشتبه علي فتوهمه ممدودا، قاله في الأذكار "وابتلت العروق" لم يقل: وذهب الجوع، أيضا لأن الحجاز حار فكانوا يصبرون على قلة الطعام لا العطش، وكانوا يتمدحون بقلة الأكل لا بقلة الشرب "وثبت الأجر" تحريض على العبادة، يعني: زال التعب وبقي الأجر "إن شاء الله" ثبوته بأن يقبل الصوم ويتولى جزاءه بنفسه كما وعد أنه لا يخلف الميعاد.
وقال الطيبي: قوله: "ثبت الأجر" بعد قوله: "ذهب الظمأ"، استبشار منه؛ لأن من فاز ببغيته ونال مطلوبه بعد التعب والنصب، وأراد اللذة بما أدركه ذكر تلك المشقة ومن ثم كان حمد أهل الجنة في الجنة الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن "رواه أبو داود" والنسائي وصححه الحاكم "وزاد رزين" السرقسطي" الحمد الله في أول الحديث" وعهدتها عليه، وينبغي للصائم قول ذلك سواء أفطر على رطب أو تمر أو لحم أو غيرها، إذ لم يقيده في الحديث بما إذا فطر على الماء كذا قيل.
"وفي كتاب السني" وكذا شعب البيهقي "عن معاذ بن زهرة" السابق آنفا "قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أفطر قال: "الحمد لله الذي أعانني فصمت ورزقني فأفطرت" فيندب قول ذلك، قال الحافظ: وهذا محقق الإرسال، يعني: أن معاذا تابعي جزم برفعه ولم يقل: بلغني كالسابق.
"الفصل الثامن: في وصاله -صلى الله عليه وسلم:
عن ابن عمر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل" لم يسم القائلون، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: فقال رجل من المسلمين، وفي(11/242)
"لست كهيئتكم، إني أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم.
وللبخاري: أنه -صلى الله عليه وسلم- واصل، فواصل الناس فشق عليهم، فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم، إني أظل أطعم وأسقى".
وفي رواية أنس: واصل -صلى الله عليه وسلم- في آخر شهر رمضان، فواصل ناس من المسلمين فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم، إنكم لستم مثلي -أو قال: لست مثلكم- إني أظل يطعمني ربي ويسقيني".
وفي رواية: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كأحد منكم، إني
__________
لفظ فقال: رجال بالجمع، وكأن القائل واحد، ونسب إلى الجمع لرضاهم به، وفيه استواء المكلفين في الأحكام وأن كل حكم ثبت له -صلى الله عليه وسلم- ثبت في حق أمته إلا ما استثنى فطلبوا الجمع بين نهيه وبين فعله الدال على الإباحة، فأجابهم باختصاصه به، حيث "قال: "إني لست كهيئتكم" أي: ليس حالي كحالكم، أو لفظ هيئة، زاد: و"المراد لست كأحدكم"، وفي رواية للبخاري: "لست مثلكم"، ولمسلم عن أبي هريرة: "لستم في ذلك مثلي"، أي: لستم على صفتي ومنزلتي من ربي "إني أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما "رواه البخاري ومسلم" من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر "وللبخاري" من طريق جويرية عن نافع عن ابن عمر "أنه -صلى الله عليه وسلم- واصل" الصوم من غير فطر بالليل، زاد عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عند مسلم في رمضان "فواصل الناس" أي: جنس الناس، هكذا الرواية في البخاري، وكذا في مسلم من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، فنسخة ناس تحريف "فشق عليهم" الوصال لمشقة الجوع والعطش "فنهاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يواصلوا، قالوا: إنك تواصل، قال: "لست كهيئتكم إني أظل" بفتح الهمزة والظاء المعجمة المشالة "أطعم وأسقى" بضم الهمزة فيهما مبنيا للمفعول.
"وفي رواية أنس" بن مالك قال: "واصل -صلى الله عليه وسلم- في آخر شهر رمضان" على الصواب الموافق لبقية الحديث وهو الذي في البخاري، ووقع في أكثر نسخ مسلم في أول ما يمكن تصحيحها بأنه واصل في أوله يومين وثلاثا وفي آخره كذلك، فحكى الراوي وصاله في أوله وهو لا يدل على أن ناسا تبعوه، لاحتمال أنهم انتظروا وصله ثانيا "فواصل ناس من المسلمين، فبلغه ذلك فقال: "لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم" لعجزهم عن ذلك "إنكم لستم مثلي"، أو قال" إني "لست مثلكم" شك الراوي: "إني أظل يطعمني" بضم الياء "ربي ويسقيني" بفتح الياء من سقى وضمها من أسقى.
"وفي رواية" عن أنس؛ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا"، قالوا: إنك تواصل" لم يسم(11/243)
"أطعم وأسقى". رواه البخاري ومسلم.
والمتعمقون: هم المتشددون في الأمر، المجاوزون الحد في قول أو فعل.
وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني".
وعن عائشة قالت: نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال، رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. فقال: "إني لست كهيئتكم، إني يطعمني ربي ويسقيني". رواه البخاري ومسلم إلا أن البخاري قال: "نهى" ولم يقل: نهاهم.
وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: "لو تأخر
__________
القائلون "قال: "لست كأحد منكم" ولبعض رواة البخاري: كأحدكم "إني أطعم وأسقى"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" الأولى في التمني والثانية في الصيام "ومسلم" في الصيام الأولى بلفظها، والثانية بنحوها.
"والمتعمقون" هم "المتشددون في الأمر المجاوزون الحد في قول أو فعل" وهو المراد هنا، أي: المواصلون.
"وفي رواية سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من مرسل الحسن" البصري: "إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" فعبر بلفظ: أبيت.
"وعن عائشة قالت: نهاهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال رحمة لهم" نصب على التعليل، أي: لأجل الرحمة، "فقالوا: إنك تواصل، فقال: "إني لست كهيئتكم إني يطعمني" بضم أوله "ربي ويسقيني" بفتح أوله وبالياء، كقراءة يعقوب الحضرمي في الآية حالة الوصل والوقف مراعاة للأصل، وللحسن البصري في الوصل فقط مراعاة للأصل والرسم بحذف الياء كالمصحف العثماني في الشعراء، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم" في الصوم "إلا أن البخاري قال: نهى" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "ولم يقل: نهاهم" وهو لفظ مسلم والمعنى واحد.
"وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال في الصوم" فرضا ونفلا، أسقط من الحديث في الصحيحين، فقال له رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله، فقال: "وأيكم مثلي إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" "فلما أبوا" امتنعوا "أن ينتهوا عن الوصال" لظنهم أن النهي للشفقة عليهم لا أنه نهي حقيقي "واصل بهم يومًا ثم يومًا" أي: يومين "ثم رأوا الهلال" لشوَّال "فقال: لو تأخر" الشهر "لزدتكم" في الوصال إلى أن تعجزوا فتسألوا التخفيف(11/244)
"لزدتكم. كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا"، رواه البخاري.
والوصال: هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا من غير أكل وشرب بينهما.
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله "يطعمني ربي ويسقيني".
فقيل: هو على حقيقته، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه.
وتعقب: بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وبأن قوله: "أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما.
وأجيب: بأن الراجح من الروايات لفظ "أبيت" دون "أظل" وعلى تقدير
__________
منه بالترك "كالتنكيل" أي: المعاقبة "لهم".
وللبخاري في التمني كالمنكل لهم بضم الميم وفتح النون وكسر الكاف مشددة ولام، أي: المعاقب لهم، ولبعض رواته هناك كالمنكر بالراء وسكون النون من الإنكار، ولآخر كالمنكي بتحتية ساكنة قبلها كاف مكسورة خفيفة من النكاية.
قال الحافظ: والأول هو الذي تظافرت به الروايات خارج هذا الكتاب.
"حين أبوا:" امتنعوا "أن ينتهوا" عنه "رواه البخاري" في الصوم والتعزي والتمني من طرق عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورواه مسلم في الصوم.
"والوصال هو عبارة عن صوم يومين فصاعدا" فرضا أو نفلا "من غير أكل وشرب بينهما" ولا تناول بالليل مطعوما عمدا بلا عذر قاله في المجموع، وقضيته أن الجماع وغيره من المفطرات لا يخرجه عن الوصال، لكن قال الروياني: هو أن يستديم جميع أوصاف الصائمين.
"قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: وقد اختلف في معنى قوله: "يطعمني ربي ويسقيني"، فقيل: هو على حقيقته، وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يؤتى بطعام وشراب من عند الله كرامة له في ليالي صيامه، وتعقب بأنه لو كان كذلك لم يكن مواصلا" إذ الوصال عبارة عن عدم الأكل بالليل "وبأن قوله: "أظل" يدل على وقوع ذلك بالنهار، فلو كان الأكل والشرب حقيقة لم يكن صائما"؛ لأن أظل لا يكون إلا بالنهار، والأكل فيه ممنوع.
"وأجيب بأن الراجح من الروايات لفظ: "أبيت" دون أظل، وعلى تقدير ثبوتها" أي: لفظة(11/245)
ثبوتها فهي محمولة على مطلق الكون لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو "أبيت" فكأن بعض الرواة عبر عنها بـ"أظل" نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون. يقولون كثيرا: أضحى فلان كذا، ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} [النحل: 58] فإن المراد بذلك مطلق الوقت، ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل، وليس حمل الطعام والشراب على المجاز بأولى من حمل لفظ "أظل" على المجاز، وعلى التنزل فلا يضر شيء من ذلك؛ لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه، كما غسل صدره الشريف من طست الذهب، مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة.
وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعًا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة.
__________
أظل "فهي محمولة على مطلق الكون" أي: أكون عند ربي ليلا أو نهارا "لا على حقيقة اللفظ؛ لأن المحدث عنه هو الإمساك ليلا لا نهارا، وأكثر الروايات إنما هو أبيت، فكأن بعض الرواة عبر عنها بأظل نظرا إلى اشتراكهما في مطلق الكون يقولون كثيرا: أضحى فلان، كذا ولا يريدون تخصيص ذلك بوقت الضحى، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ} أي: صار {وَجْهُهُ} وقت البشارة {مُسْوَدًّا} ليلا، كانت البشارة أو نهارا كما قل.
"فإن المراد بذلك مطلق الوقت ولا اختصاص لذلك بنهار دون ليل وليس حمل الطعام والشراب على المجاز" الذي ذهب إليه الجمهور "بأولى من حمل أظل على المجاز" إذ ليس أحد المجازين بأولى من الآخر، أو أن المجاز في أظل أقرب "وعلى التنزل" أنه لا مجاز في أظل وأنه لا يكون إلا نهارا "فلا يضر شيء من ذلك" أي: حمل الأكل على حقيقته وأنه بالنهار؛ "لأن ما يؤتى به الرسول على سبيل الكرامة من طعام الجنة وشرابها لا تجري عليه أحكام المكلفين فيه" فتناوله غير مفطر ولو نهارا "كما غسل صدره الشريف من طست الذهب" ليلة المعراج وهو بعد البعثة باتفاق "مع أن استعمال أواني الذهب الدنيوية محرمة" كذا في النسخ، ولفظ الحافظ حرام وهو المناسب؛ لأنه خبر استعمال، وأبعد شيخنا النجعة فحمل غسله بطست الذهب على الواقع له قبل البعثة، فاحتاج إلى الجواب بأن أفعاله قبل البعثة تنبعث، فلم يوجد منها ما يخالف شرعة. انتهى.
نعم، قيل: إن الذهب لم يكن حرم ليلة المعراج.
"وقال ابن المنير: الذي يفطر شرعا إنما هو الطعام المعتاد، وأما الخارق للعادة(11/246)
كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى، وليس تعاطيه من جنس الأعمال، وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة.
وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، وأكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: إني لست في ذلك كهيئتكم، أي على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى.
وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب، ويفيض على ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي على أنواع الطاعة من غير ضعف في القوة.
أو المعنى: أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب، لا يحس بجوع ولا عطش.
__________
كالمحضر من الجنة فعلى غير هذا المعنى وليس تعاطيه من جنس الأعمال" حتى يجري عليه أحكامها "وإنما هو من جنس الثواب كأكل أهل الجنة في الجنة، والكرامة لا تبطل العبادة" إذ لو أبطلتها لم تكن كرامة، فلا يبطل بذلك صومه ولا ينقطع وصاله ولا ينقص أجره.
"وقال غيره: لا مانع من حمل الطعام والشراب على حقيقتهما، واكله وشربه في الليل لا يقطع وصاله خصوصية له بذلك، فكأنه لما قيل له: إنك تواصل، قال: "إني لست في ذلك كهيئتكم"، أي: على صفتكم في أن من أكل منكم أو شرب انقطع وصاله، بل إنما يطعمني ربي ويسقيني ولا ينقطع بذلك مواصلتي، فطعامي وشرابي على غير طعامكم وشرابكم صورة ومعنى" وهذا قريب من كلام ابن المنير، غايته أن هذا خصه بالليل وابن المنير عمم على ظاهره.
"وقال الجمهور: هو مجاز عن لازم الطعام والشراب وهو القوة، فكأنه قال: يعطيني قوة الآكل والشارب ويفيض علي ما يسد مسد الطعام والشراب، ويقوي:" يعين "على أنواع الطاعة" أي: العبادة "من غير ضعف في القوة" وحاصله أنه يغطي أزيد من الطاعم الشارب ولا أكل ولا شرب "أو المعنى؛ أن الله يخلق فيه من الشبع والري ما يغنيه عن الطعام والشراب فلا يحس" بضم أوله وكسر الحاء من أحس على الأشهر، وبفتح الياء وضم الحاء "بجوع ولا عطش، والفرق بينه وبين الأول" أي: الذي قبله "أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا(11/247)
والفرق بينه وبين الأول: أنه على الأول يعطي القوة من غير شبع ولا ري، بل مع الجوع والظمأ، وعلى الثاني: يعطي القوة مع الشبع والري. ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم الوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها. قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع ويربط على بطنه الحجر. انتهى.
ويحتمل -كما قاله ابن القيم في "الهدي" وابن رجب في اللطائف- أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه، وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه، ونعيمه بحبه والشوق إليه، وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين، وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
__________
ري، بل مع الجوع والظمأ": العطش "وعلى الثاني يعطي القوة مع الشبع والري، ورجح الأول بأن الثاني ينافي حال الصائم ويفوت المقصود من الصوم والوصال؛ لأن الجوع هو روح هذه العبادة بخصوصها" التي هي الصيام.
"قال القرطبي: ويبعده أيضا النظر إلى حاله عليه السلام، فإنه كان يجوع أكثر مما يشبع، ويربط" بكسر الباء وضمها "على بطنه الحجر" واحدة الحجارة. "انتهى" كلام الحافظ وفيه بعده: وأنكر ابن حبان ربط الحجر، قال: لأن الله تعالى كان يطعم رسوله ويسقيه إذا واصل فكيف يتركه جائعا حتى يحتاج إلى شد الحجر على بطنه، ثم قال: وماذا يغني الحجر من الجوع، ثم ادعى أن ذلك تصحيف ممن رواه وإنما هو الحجز بالزاي: جمع حجزة، وقد أكثر الناس من الرد عليه في جميع ذلك، ومر ذلك مبسوطا في كلام المصنف.
"ويحتمل كما قاله ابن القيم في الهدي وابن رجب في اللطائف أن يكون المراد به ما يغذيه الله به من معارفه وما يفيض على قلبه من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه" المعنوي "ونعيمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين" بردها وسرورها "وبهجة النفوس، فللروح والقلب بها أعظم غذاء وأجله وأنفعه، وقد يغني هذا الغذاء عن غذاء الأجسام مدة من الزمان كما قيل" في وصف النياق:
"لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد(11/248)
إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... روح القدوم فتحيا عند ميعاد
ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب الروح عن كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه، وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف محبوبه ... مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب، فكيف بالحبيب الذي لا شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكمل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه بطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى.
وحكى النووي في شرح المهذب، كما قاله في شرح تقريب الأسانيد: أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى.
__________
"إذا اشتكت من كلال السير أو عدها ... "روح القدوم فتحيا عند ميعاد"
لها، أي: للنياق وكلال تعب وروح بضم الراء والنصب مفعول، أي: أوعدها كلال السير روح القدوم فيحصل لها مزيد قوة على السير حتى كأنها حييت بعد الموت.
"ومن له أدنى تجربة وشوق يعلم استغناء الجسم بغذاء القلب والروح من كثير من الغذاء الحيواني، ولا سيما الفرحان الظافر بمطلوبه الذي قد قرت عينه بمحبوبه وتنعم بقربه والرضا عنه، وألطاف" بالخفض، أي: وبألطاف "محبوبه" وهو "مكرم له غاية الإكرام مع الحب التام، أفليس هذا من أعظم غذاء لهذا المحب" استفهام تعجبي "فكيف بالحبيب الذي ل شيء أعظم منه ولا أجل ولا أجمل ولا أكل ولا أعظم إحسانا، أفليس هذا المحب عند حبيبه يطعمه ويسقيه ليلا ونهارا، ولهذا قال: "إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني". انتهى".
"وحكى النووي في شرح المهذب كما قاله في شرح تقريب الأسانيد أن معناه أن محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب، قال: والحب البالغ يشغل عنهما. انتهى" وهو قريب من حاصل ما بسطه ابنا القيم ورجب، لكن الفارق بينهما أن ملحظ هذا أن الشاغل حبه البالغ -صلى الله عليه وسلم- لله تعالى، وملحظ ذاك أن الشاغل ما يفيض الله عليه به وإن رجع حاصل معناهما إلى معنى واحد، لكن الفرق بينهما بالاعتبار كما علم، وقد حكى الأبي عن أبي بزيزة أن بعض الصوفية واصل ستين يوما، قال: وواصل غيره أكثر، ومثل هذا كثير يذكر في كتب القوم. انتهى.(11/249)
فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي" دون أن يقول: يطعمني الله؟
أجيب: بأن التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأن تجلي عظمة لا طاقة للبشر بها، وتجلي الربوبية تجلي رحمة وشفقة.
وقد اختلف الناس في الوصال لنا، هل هو جائز أو محرم أو مكروه؟
فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه، وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا أخت أبي سعيد، ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر، وعامر بن عبد الله بن الزبير، وإبراهيم بن يزيد التيمي، وأبا الجوزاء، كما نقله أبو نعيم في الحلية.
ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فلو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف.
__________
"فإن قلت: لم آثر اسم الرب دون اسم الذات المقدسة في قوله: "يطعمني ربي دون أن يقول: يطعمني الله"، أجيب" عنه "بأن" آثر الرب؛ لأن "التجلي باسم الربوبية أقرب إلى العباد من الإلهية؛ لأنه تجلي عظمة لا طاقة" قدرة "للبشر بها. وتجلي الربوبية تجلى رحمة وشفقة" وهي أليق بهذا المقام.
"وقد اختلف الناس في الوصال لنا هل هو جائز" لنا "أو محرم أو مكروه؟، فقالت طائفة: إنه جائز إن قدر عليه" بلا كراهة "وهذا يروى عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف، وكان ابن الزبير يواصل الأيام، وروى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح" عنه" أنه كان يواصل خمسة عشر يوما، وذكر معه من الصحابة أيضا" في أصل الوصال وإن لم يعلم مقدار ما واصلوا "أخت أبي سعيد" الخدري واسمها الفريعة بضم الفاء مصغر، ويقال لها الفارعة بنت مالك بن سنان صحابية لها حديث قضى به عثمان.
"ومن التابعين عبد الرحمن بن أبي يعمر وعامر بن عبد الله بن الزبير" ثقة عابد "وإبراهيم بن يزيد التيمي" العابد الثقة "وأبا الجوزاء" بجيم وزاي أوس بن عبد لله الربعي "كما نقله أبو نعيم في الحلية، ومن حجتهم أنه عليه الصلاة والسلام واصل بأصحابه بعد النهي، فو كان النهي للتحريم لما أقرهم على فعله، فعلم أنه أراد بالنهي الرحمة لهم والتخفيف(11/250)
عنهم، كما صرحت به عائشة في حديثها، فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر. ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال.
ومن أدلة الجواز أيضا: إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم، وإلا لما قدموا عليه.
وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة، ونص الشافعي وأصحابه على كراهته، ولهم في هذه الكراهة وجهان أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني: أنها كراهة تنزيه.
واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق جواز الوصال إلى السحر، لحديث أبي سعيد عند البخاري: عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تواصلوا" فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر"، وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عائشه، إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة،
__________
عنهم كما صرحت به عائشة في حديثها" السابق "فمن لم يشق عليه ولم يقصد موافقة أهل الكتاب في تأخيرهم الفطر ولا رغب عن السنة في تعجيل الفطر لم يمنع من الوصال" عند هؤلاء.
"ومن أدلة الجواز أيضا إقدام الصحابة عليه بعد النهي، فدل على أنهم فهموا أن النهي للتنزيه لا للتحريم وإلا لما قدموه عليه" إذ لا يليق بهم الإقدام مع فهم التحريم.
"وقال الأكثرون: لا يجوز الوصال، وبه قال مالك وأبو حنيفة ونص الشافعي، وأصحابه على كراهته ولهم في هذه الكراهة وجهان، أصحهما أنها كراهة تحريم، والثاني أنها كراهة تنزيه" وهو المشهور عند المالكية.
"واختار ابن وهب وأحمد بن حنبل وإسحاق" بن راهويه "جواز الوصال إلى السحر" قبيل الصبح "لحديث أبي سعيد" الخدري "عند البخاري" من إفراده عن مسلم، ووهم من عزاه له "عنه -صلى الله عليه وسلم، قال: "لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر" لفظ البخاري حتى السحر.
قال المصنف: بالجر بحتى التي بمعنى إلى، وبقية هذا الحديث عند البخاري قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله، قال: "إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقين" "وهذا الوصال لا يترتب عليه شيء مما يترتب على غيره؛ لأنه في الحقيقة بمنزلة عشائه(11/251)
فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم، وإلا فلا يكون قربة.
وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني لست كهيئتكم". وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم". قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر، وذلك يحيل الوصال شرعا.
__________
إلا أنه يؤخره؛ لأن الصائم له في اليوم والليلة أكلة، فإذا أكلها في السحر كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخف لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أن محل ذلك ما لم يشق على الصائم وإلا فلا يكون قربة".
"وقد صرح في الحديث بأن الوصال من خصائصه -صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني لست كهيئتكم"، فلا معنى للوصال إلى السحر لحديث: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر"، وقالت عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- أعجل الناس فطرا، قاله أبو عمر.
"وفي الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب" قال: "قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا" أي: من جهة المشرق "وأدبر النهار" أي: ضوؤه "من ههنا" أي: من جهة المغرب وهما متلازمان ذكرهما؛ لأن أحدهما قد يكون أظهر للعين في بعض الأماكن كما لو كان في جهة المغرب، فانحجب البصر عن إدراك الغروب وكان المشرق ظاهرا بارزا، فيستدل بطلوع الليل على الغروب.
قال الطيبي: وإنما قال: "وغربت الشمس" مع الاستغناء عنه لبيان كمال الغروب لئلا يظن أنه إذا غرب بعضها جاز الإفطار.
وقال المصنف: قيد بالغروب إشارة إلى اشتراط تحقق الإقبال والإدبار وأنهما بواسطة الغروب لا بسبب آخر، فالأمور الثلاثة وإن كانت متلازمة في الأصل لكنها قد تكون في الظاهر غير متلازمة، فقد يظن إقبال الليل من جهة المشرق ولا يكون إقباله حقيقة بل لوجود شيء يغطي الشمس، وكذلك إدبار النهار، فلذا قيد بالغروب.
"فقد أفطر الصائم، قالوا: فجعله مفطرا حكما بدخول وقت الفطر وإن لم يفطر" بالفعل "وذلك يحيل" يمنع "الوصال شرعا" فلا ينتفع المواصل بوصاله؛ لأن الليل ليس موضعا للصوم.
قال الطيبي: ويمكن أن تحمل الأخبار على الإنشاء إظهارا للحرص على وقوع المأمور به، أي: إذا أقبل الليل فليفطر الصائم، وذلك أن الخيرية منوطة بتعجيل الإفطار، فكأنه قد وقع(11/252)
واحتج الجمهور للتحريم: بعموم النهي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله: "رحمة" بأن لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم، وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم، وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال، وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين، من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها، وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله.
وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم". إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه.
وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن الله قد قبل وصالك، ولا يحل لأحد بعدك. ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه.
__________
وحصل وهو يخبر عنه.
"واحتج الجمهور للتحريم بعموم النهي في قوله -صلى الله عليه وسلم: "لا تواصلوا"، وأجابوا عن قوله" أي: الشخص الراوي وهو عائشة نهي -صلى الله عليه وسلم- عن الوصال "رحمة" لهم؛ "بأنه لا يمنع ذلك كونه منهيا عنه للتحريم" فمن رحمته أن حرمه "وسبب تحريمه الشفقة عليهم لئلا يتكلفوا ما يشق عليهم" وهذا يأتي حتى على القول بالكراهة؛ لأن المكروه لا ثواب في فعله.
"وأما الوصال بهم يوما، فاحتمل للمصلحة في تأكيد زجرهم وبيان الحكمة في نهيهم والمفسدة المترتبة على الوصال وهي الملل من العبادة، والتعرض للتقصير في بعض وظائف الدين من إتمام الصلاة بخشوعها وأذكارها وسائر الأذكار المشروعة في نهاره وليله" لكن هذا كله لا ينتج التحريم؛ لأنه الح تعليلا للكراهة أيضا المستفادة من صاله بهم بعد النهي واحتمال فعل الحرام لمصلحة الزجر مما لا ينبغي أن يقال "وأجابوا أيضا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم إذ لم يجعل الليل محلا لسوى الفطر، فالصوم فيه مخالف لوضعه" وهذا قدمه بمعناه قريبا.
"وروى الطبراني في الأوسط من حديث أبي ذر أن جبريل قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد قبل وصالك ولا يحل لأحد بعدك"، ولكن إسناده ليس بصحيح ولا حجة فيه" وتغني عنه الأحاديث الصحيحة الدالة على الخصوصية.
وقد روى الترمذي وغيره عن أبي سعيد مرفوعا: "إن الله لم يكتب الصيام بالليل، فمن(11/253)
الفصل التاسع: في سحوره -صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: "إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوه". رواه النسائي.
وعن العرباض بن سارية قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور في رمضان
__________
صام فقد تعنى ولا أجر له"، قال الترمذي: سألت عنه البخاري فقال: ما أرى عبادة سمع من أبي سعيد، وقال ابن منده: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. والله أعلم.
"الفصل التاسع: في سحوره" بفتح السين، أي: ما يؤكل وضمها، أي: نفس الفعل -صلى الله عليه وسلم- أي: في الأمر به وفعله ووقته وفائدته.
"عن أبي هريرة عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يتسحر فقال: "إنها" أي: هذه الحالة التي نفعلها وهي التسحر، أو أنث مراعاة للخبر وهو "بركة"، أي: نمو وزيادة "أعطاكم الله إياها فلا تدعوه" أي: التسحر "رواه النسائي" وفيه صحابي عن صحابي، وفي معنى كونه بركة وجوه أن يبارك في القليل منه بحيث يحصل به الإعانة على الصوم، ولابن عدي عن علي مرفوعا: "تسحروا ولو بشربة من ماء"، وللطبراني عن أبي أمامة رفعه: ولو بتمرة ولو بحبات زبيب الحديث، ويكون ذلك بالخاصية كما بورك في الثريد والاجتماع على الطعام، أو المراد بالبركة نفي التبعة.
وفي الفردوس من حديث أبي هريرة: "ثلاثة لا يحاسب عليها العبد: أكلة السحور وما أفطر عليه، وما أكل مع الإخوان"، أو المراد بها التقوي على الصيام وغيره من أعمال النهار.
ولابن ماجه والحاكم ن جابر مرفوعا: "استعينوا بطعام السحر على صيام النهار وبالقيلولة على قيام الليل"، ويحصل به النشاط ومدافعة سوء الخلق الذي يثيره الجوع، أو المراد بها الأمور الأخروية، فإن إقامة السنة توجب الأجر وزيادة.
قال عياض: قد تكون هذه البركة ما يتفق للمتسحر من ذكر أو صلاة أو استغفار وغير ذلك من زيادات الأعمال التي لولا القيام للسحور لكان الإنسان نائما عنها وتاركا، وتجديد النية للصوم ليخرج من خلاف من أوجب تجديدها إذا نام بعدها.
قال ابن دقيق العيد: ومما يعلل به استحباب السحور المخالفة لأهل الكتاب؛ لأنه ممتنع عندهم، وهذا أحد الوجوه المقتضية للزيادة في الأجور الأخروية.
"وعن العرباض" بكسر العين "ابن سارية، قال: دعاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى السحور في(11/254)
قال: "هلم إلى الغداء المبارك". رواه أبو داود والنسائي.
وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وذلك عند السحور: "يا أنس إني أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء، وذلك بعد ما أذن بلال، قال: "يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه، ثم قام فصلى ركعتين ثم خرج إلى الصلاة. رواه النسائي.
وعن زر بن حبيش قال: قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. رواه النسائي أيضا.
__________
رمضان، قال: "هلم" قال الرضي: جاء متعديا ولازما بمعنى أقبل فيتعدى بإلى، وبمعنى أحضر في نحو قوله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} [الأنعام: 150] ، وهو عند الخليل هاء التنبيه ركب معها لم أمر من قولك: لم الله شعثه، أي: اجمع نفسك إلينا، فلما غير معناه عند التركيب؛ لأنه صار بمعنى أقبل أو احضر بعدما كان بمعنى أجمع صار كجميع أسماء الأفعال المنقولة عن أصلها.
"إلى الغذاء المبارك" في الدارين على ما رأيت "رواه أبو داود والنسائي".
"وعن أنس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك عند السحور: "يا أنس، إني" بشد النون بعد همزة مكسورة في نسخ صحيحة كثيرة، وفي بعضها إلي بلام بدل النون، فإن صحت فالتقدير ادن إلي، فدنا منه فقال: "أريد الصيام فأطعمني شيئا"، فأتيته بتمر وإناء فيه ماء وذلك بعد ما أذن بلال؛" لأنه كان يؤذن بالليل.
"قال: "يا أنس انظر رجلا يأكل معي"، فدعوت زيد بن ثابت، فجاء فقال: إني أريد شربة سويق وأنا أريد الصيام، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وأنا أريد الصيام"، فتسحر معه ثم قام فصلى ركعتين" الفجر "ثم خرج إلى الصلاة" أي: الصبح "رواه النسائي".
"وعن زر" بكسر الزاي وشد الراء "ابن حبيش" بضم المهملة وفتح الموحدة وسكون التحتية وشين معجمة ابن حباشة بمهملة مضمومة فموحدة ثم معجمة الأسدي الكوفي، ثقة جليل مخضرم، مات سنة إحدى أو اثنتين أو ثلاث وثمانين، وهو ابن مائة وسبع وعشرين سنة كما في التقريب.
"قال: قلنا لحذيفة" ابن اليمان "أي ساعة تسحرت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع" سماه نهارا مجازا لقربه منه جدا بحيث طلع الفجر عقب الفراغ منه "رواه النسائي أيضا".(11/255)
وعن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس بن مالك: قلت: كما كان قدر ما بينهما؟ قال: قدر خمسين آية. رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي.
والمراد آية متوسطة، لا طويلة ولا قصيرة لا سريعة ولا بطيئة.
قال ابن أبي جمرة: كان -صلى الله عليه وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ لأنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك الصبح، أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر.
وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر،
__________
"وعن زيد بن ثابت: قال تسحرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: أكلنا السحور بالفتح ما يؤكل وقت السحر، أما بالضم فهو اسم لنفس الفعل "ثم قمنا إلى الصلاة" أي: صلاة الصبح.
"قال أنس بن مال: قلت" لزيد: "كم كان قدر ما بينهما؟، قال:" هو "قدر خمسين آية" برفع قدر خبر المبتدأ، ويجوز النصب خبر كان المقدرة في جواب زيد لا في سؤال أنس لئلا يصير كان واسمها من قائل والخبر من آخر.
قال المهلب وغيره: فيه تقدير الأوقات بأعمال البدن، وكانت العرب تقدر الأوقات بالأعمال، كقولهم: قدر حلب شاة وقدر نحر جزور، فعد زيد بن ثابت عن ذلك إلى التقدير بالقراءة إشارة إلى أن ذلك الوقت كان وقت العبادة بالتلاوة ولو كانوا يقدرون بغير العمل لقال مثلا قدر درجة أو ثلث أو خمس ساعة، قاله الحافظ "رواه البخاري" في الصلاة والصيام "ومسلم والترمذي والنسائي" وابن ماجه كلهم في الصيام.
"والمراد آية متوسطة لا طويلة ولا قصيرة، لا سريعة ولا بطيئة" في قراءتها بل هي متوسطة بينهما.
"قال ابن أبي جمرة" بجيم وراء في بيان حكمة تأخير السحور: "كان -صلى الله علي وسلم- ينظر ما هو الأرفق بأمته فيفعله؛ أنه لو لم يتسحر لاتبعوه فشق على بعضهم، ولو تسحر في جوف الليل لشق أيضا على بعضهم ممن يغلب عليه النوم، فقد يفضي إلى ترك صلاة الصبح" في وقتها "أو يحتاج إلى المجاهدة بالسهر" وهو مشقة عظيمة.
"وقال القرطبي: فيه دلالة على أن الفراغ من السحور كان قبل طلوع الفجر فهو(11/256)
فهو معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى.
وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة، بل يحمل على اختلاف الحال، فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة.
الفصل العاشر: في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه
عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان. فصام حتى بلغ كراع الغميم، وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك
__________
معارض لقول حذيفة: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. انتهى".
"وأجاب في فتح الباري: بأن لا معارضة بل يحمل على اختلاف الحال" فتارة لا يصله بالنهار بل يكون بينهما قدر قراءة خمسين آية وهو ما أخبر عنه زيد، وتارة يصله به بأنه يطلع الفجر عقب انتهائه وهو ما أخبر به حذيفة وسماه نهارا مجازا، وأفاد قوله: إلا أن الشمس لم تطلع أن النهار لم يطلع حقيقة "فليس في رواية واحد منهما ما يشعر بالمواظبة" حتى تأتي المعارضة.
"الفصل العاشر: في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه"
"عن جابر" بن عبد الله "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج عام الفتح إلى مكة" يوم الأربعاء بعد العصر "في رمضان" سنة ثمان "فصام حتى بلغ كراع" بضم الكاف وفتح الراي مخففة فألف فعين مهملة "الغميم" بفتح الغين المعجمة وكسر الميم الأولى بعدها تحتية ساكنة: واد أمام عسفان بثمانية أميال يضاف إليه هذا الكراع جبل أسود متصل به، والكراع كل أنف سال من جبل أو حرة تشبيها بالكراع وهو ما دون الكربة من الساق "وصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه"؛ بأن وضعه على راحته وهو على راحلته "حتى نظر الناس" إليه "ثم شرب" ليقتدى به "فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام، فقال: "أولئك العصاة، أولئك العصاة" مرتين.
قال عياض: وصفهم بذلك؛ لأنه أمرهم بالفطر لمصلحة التقوي على الفعل فلم يفعلوا حتى عزم عليهم بعد.
قال النووي: أو يحمل على من تضرر بالصوم، قال غيرهما: أو عبر به مبالغة في حثهم على الفطر رفقا بهم.
وقال الطيبي: التعريف في العصاة للجنس، أي: أولئك الكاملون في العصيان المتجاوزون(11/257)
"العصاة". زاد في رواية: فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام، وإنما ينتظرون فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر. رواه مسلم.
وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بإناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس، وافطر حتى قدم مكة. وكان
__________
حده؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إنما بالغ في الإفطار حتى رفع قدح الماء بحيث يراه كل الناس لكي يتبعوه ويقبلوا رخصة الله، فمن أبى فقد بالغ في العصيان، كذا قال: ولا ينبغي هذا في حق الصحابة وقد أمكن غيره.
"زاد في رواية" بعد قوله: فصام الناس "فقيل له: إن الناس قد شق عليهم الصيام وإنما ينتظرون" أي: يتأملون، كذا في النسخ من الانتظار والذي في مسلم، وإنما ينظرون بدون مثناة "فيما فعلت، فدعا بقدح من ماء" لم يختلف في حديث جابر أنه من ماء وهو الصحيح في حديث ابن عباس، وشك بعض رواته فقال: من ماء أو لبن "بعد العصر" فشرب "رواه" أي: حديث جابر بالزيادة "مسلم" من طريقين.
"وعن ابن عباس قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان" في غزوة فتح مكة فهو من مرسلات الصحابة؛ لأن ابن عباس لم يكن معه في الفتح وإنما أخذه من غره كما قاله أبو الحسن القابسي، فما يوجد في بعض نسخ المواهب: سافرنا مع رسول الله خطأ صراح مخالف لما في الصحيحين "فصام حتى بلغ عسفان" بضم العين وإسكان السين وفاء: قرية جامعة على أربعة برد من مكة.
وفي رواية للشيخين عن ابن عباس أيضا حتى بلغ الكديد بفتح الكاف وكسر الدال المهملة الأولى فتحتية فمهملة، فسر في نفس الحديث عند البخاري في المغازي بلفظ: الكديد الماء الذي بين قديد وعسفان. ومر عن جابر: حتى بلغ كراع الغميم، وهذه أماكن مختلفة، والقصة واحدة، وجمع عياض بأنها أماكن متقاربة وعسفان يصدق عليها؛ لأن الجميع من عملها؛ وبأنه أخبر بحال الناس ومشقتهم بعسفان وكان فطره بالكديد، وجمعه الثاني إنما يستقيم على المشهور المعروف أن عسفان على ثمانية وأربعين ميلا من مكة، والكديد على اثنين وأربعين ميلا منها لا على نقله هو أن عسفان على ستة وثلاثين ميلا من مكة، والأول معناه: أنها لتقاربها لا يضر اختلاف الرواة في تسميتها، لجواز أن كلا من الرواة سمى الموضع الذي أفطر فيه باسم، إما موضوع له حقيقة أو سماه به مجازا لقربه مما سماه به غيره "ثم دعا بإناء من ماء" زاد في رواية للشيخين: فرفعه إلى يديه، وفي أبي داود: إلى فيه، وللبخاري من وجه آخر عن ابن عباس بإناء من لبن أو ماء فوضعه على راحته أو راحلته بالشك فيهما فيقدم عليه رواية من جزم بالماء،(11/258)
ابن عباس يقول: صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر، فمن شاء صام ومن شاء أفطر، رواه البخاري ومسلم.
ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب على من صام ولا على من أفطر، فقط صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر.
قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر:
فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر، وإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه، لظاهر الآية ولحديث: "ليس من البر الصيام في السفر"، وفي الحديث الآخر: "أولئك العصاة".
__________
لأن القصة واحدة ولا دليل على التعدد كما زعم الداودي قاله الحافظ.
"فشرب نهارا ليراه الناس" فيعلموا جواز الفطر "وأفطر حتى قدم" وفي رواية: دخل "مكة" واحتج به مطرف، ومن وافقه من المحدثين وهو أحد قولي الشافعي أن من بيت الصوم في رمضان في السفر له أن يفطر، ومنعه الجمهور؛ لأنه كان مخيرا في الصوم والفطر، فلما اختار الصوم وبيته لزمه وحملوا الحديث على أنه أفطر للتقوي على العدو والمشقة الحاصلة له ولهم.
"وكان ابن عباس يقول: صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر" فيه "فمن شاء صام" فيه "ومن شاء أفطر" لكن الصوم أفضل "رواه البخاري" في الصوم وغيره "ومسلم" في الصوم.
"ولمسلم: أن ابن عباس كان لا يعيب" لفظ مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: لا تعب.
قال المصنف: بفتح الفوقية وكسر المهملة "على من صام ولا على من أفطر، فقد صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السفر وأفطر" وهذا الحديث لم يحضره ابن عباس؛ لأنه كان مع المستضعفين بمكة. انتهى، أي: أنه مرسل صحابي.
"قال النووي رحمه الله: اختلف العلماء في صوم رمضان في السفر، فقال بعض أهل الظاهر: لا يصح صوم رمضان في السفر وإن صامه لم ينعقد" وعزاه ابن عبد البر لعمرو ابنه وأبي هريرة وعبد الرحمن بن عوف "ويجب قضاؤه لظاهر الآية:" {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فجعل عليه عدة.
"ولحديث" الصحيحين عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، وفي الترمذي في غزوة الفتح: رأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: "ما هذا"؟، قالوا: صائم، فقال: "ليس من البر الصيام في السفر" لفظ البخاري، ولفظ مسلم: "ليس البر أن تصوموا في السفر"، وزاد بعض الرواة: "عليكم برخصة الله التي رخص لكم" قالوا: ما لم يكن من البر فهو من الإثم "و" يؤيده "في(11/259)
وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر، وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء؟
فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل، واحتجوا بصومه -صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال.
وقال سعيد بن المسيب الأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا، وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي، وهو غريب، واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر، وبقوله -صلى الله عليه وسلم: "هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن صوم فلا جناح عليه" وظاهره ترجيح الفطر.
__________
الحديث الآخر: "أولئك العصاة".
قال ابن عبد البر: ولا حجة فيه؛ لأنه عام خرج على سبب، فإن قصر عليه لم تقم به حجة وإلا حمل على من بلغ حاله مثل حال الرجل، أي: ليس له أن يبلغ هذا بنفسه ولو كان إثما لكان عليه السلام أبعد الناس عنه، ويحتمل أن يريد ليس البر أو ليس هو البر، إذ قد يكون الفطر أبر منه في حج أو غزوة ليتقوى عليه وتكون "من" زائدة، كما يقال: ما جاءني من أحد، وما جاءني أحد.
"وقال جماهير العلماء وجميع أهل الفتوى: يجوز صومه في السفر وينعقد ويجزيه، واختلفوا في أن الصوم أفضل أم الفطر أم هما سواء" لوقوع الأمرين منه -صلى الله عليه وسلم.
"فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي والأكثرون: الصوم أفضل لمن أطاقه بلا مشقة ظاهرة ولا ضرر، فإن تضرر به فالفطر أفضل" حيث قل الضرر وإلا وجب الفطر ولو للحاضر "واحتجوا بصومه -صلى الله عليه وسلم-؛ ولأنه تحصل به براءة الذمة في الحال".
"وقال سعيد بن المسيب والأوزاعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: الفطر أفضل مطلقا" حصل ضرر أم لا؟.
"وحكاه بعض أصحابنا قولا للشافعي وهو غريب" عنه، والمعروف عنه ما سبق.
"واحتجوا بما سبق لأهل الظاهر" من الآية والحديثين.
"وبقوله -صلى الله عليه وسلم" كما رواه مسلم عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هي" أنث باعتبار الخبر وهو "رخصة من الله، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح" أي: لا إثم "عليه" وظاهره ترجيح الفطر"؛ لأنه وصفه بالحسن على الفطر؛ لأنه إنما نفى عنه الجناح.(11/260)
وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا، أو يجد مشقة، كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري قال: "كنا نغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا فأفطر فإن ذلك حسن. وهذا صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة.
وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث.
والصحيح: قول الأكثرين. والله أعلم.
__________
وأجاب عياض بأن قوله: "لا جناح" إنما هو جواب لقوله: فهل علي جناح، فلا يدل على أن الصوم ليس بحسن وقد وصفهما معا بالحسن في الحديث الآخر.
وقال الأبي: إنما لم يدل على أن الصوم ليس بحسن؛ لأن نفي الجناح أعم من الوجوب والندب والكراهة والإباحة.
"وأجاب الأكثرون: بأن هذا كله فيمن يخاف ضررا أو يجد مشقة كما هو صريح في الأحاديث، واعتمدوا حديث أبي سعيد الخدري" عند مسلم "قال: كنا نغزوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد" بفتح الياء وكسر الجيم، أي: لا يعترض ولا يعيب من وجد عليه غضب "الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، يرون أن من وجد قوة فصام فإن ذلك حسن، ويرون أن من وجد ضعفا" كذا في نسخ صحيحة وهو الذي في مسلم "فأفطر فإن ذلك حسن" فوصفهما جميعا بالحسن "وهذا" التفصيل هو المعتمد وهو "صريح في ترجيح مذهب الأكثرين، وهو تفضيل الصوم لمن أطاقه بلا ضرر ولا مشقة ظاهرة؛" لأنه نص رافع للنزاع.
"وقال بعض العلماء: الفطر والصوم سواء لتعادل الأحاديث" من الجانبين "والصحيح قول الأكثرين" بالتفصيل "والله أعلم" أيهما أفضل حقيقة. انتهى.(11/261)
القسم الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان
وفيه فصول:
الأول في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر، وفطره أياما
عن أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسرد الصوم فيقال: لا يفطر، ويفطر فيقال: لا يصوم. رواه النسائي.
وعن أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته، ولا نائما إلا رأيته. وفي رواية: ما كنت أحب أن أراه من الشهر.
__________
"القسم الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان": كذا في نسخة وهي ظاهرة، وفي نسخة القسم الثاني من صومه صومه غير ... إلخ، فصومه بالرفع خبر القسم، وقوله من صومه، أي: من قسمي صومه الأعم من رمضان وغيره، فالأول رمضان كما مر وهذا الثاني. "وفيه فصول:" الفصل "الأول: في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر وفطره أياما عن أبي أمامة" صدي بن عجلان الباهلي، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسرد" أي: يتابع "الصوم، فيقال: لا يفطر" فيما بقي من الشهر "ويفطر، فيقال: لا يصوم" ما بقي من الشهر "رواه النسائي".
"وعن أنس: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفطر من الشهر حتى نظن" بنون الجمع وبتحتية على البناء للمجهول، ويجوز بالمثناة على المخاطبة ويؤيده قوله بعد ذلك: إلا رأيته، فإنه روي بالفتح والضم معا قاله الحافظ، ويجوز نصب نظن بأن مضمرة بعد حتى ورفعه على حكاية حال ماضية، وقرئ بهما قوله تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [البقرة: 214] ، "آن لا يصوم منه" بفتح الهمزة أن ونصب يصوم ورفعه؛ لأن إما ناصبة ولا نافية، وإما مفسرة ولا ناهية، قاله المصنف، وقال شيخنا: النصب على أن "أن" مصدرية والرفع على أنها مخففة من الثقيلة، أي: أنه لا يصوم منه شيئا، وأن على الوجهين بما في حيزها ساد مسد مفعولي نظن.
"ثم يصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئا وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليا إلا رأيته" مصليا "ولا" تشاء أن تراه "نائما إلا رأيته" نائما، يعني أنه كان تارة يقوم أو الليل، وتارة وسطه، وتارة آخره كما كان يصوم، كذلك فمن أراد أن يراه في وقت من الليل قائما، أو وقت(11/262)
صائما إلا رأيته ولا مفطرا إلا رأيته، ولا من الليل قائما إلا رأيته ولا نائما إلا رأيته، رواه البخاري.
ولمسلم: كان يصوم حتى يقال: قد صام صام، ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر.
وعن ابن عباس: قال ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا غير رمضان، وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم. رواه البخاري ومسلم والنسائي وزادا: ما صام شهرا متتابعا غير رمضان منذ
__________
من الشهر صائما فراقبه مرة بعد مرة، فلا بد أن يصادفه قام أو صام على وفق ما أراد أن يراه، وليس المراد أنه كان يسرد الصوم، ولا أنه يستوعب الليل قائما، ولا يشكل عليه قول عائشة: كان إذا صلى صلاة داوم عليها، ولا قولها: كان عمله ديمة؛ لأن المراد ما اتخذه راتبا لا مطلق النافلة، هذا وجه الجمع بينهما، وإلا فظاهرهما التعارض قاله الحافظ.
"وفي رواية" عن حميد قال: سألت أنسا عن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "ما كنت أحب أن أراه" أي: رؤيته "من الشهر" حال كونه "صائما إلا رأيته" صائما "ولا" كنت أحب أن أراه من الشهر "مفطرا إلا رأيته" مفطرا "ولا" كنت أحب أن أراه "من الليل قائما إلا رأيته" قائما يصلي "ولا نائما إلا رأيته" نائما "رواه البخاري" يعني: المذكور من الروايتين من طريقين، وبقية الثانية عنده: ولا مسست خزة ولا حريرة ألين من كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكا ولا عبيرة أطيب رائحة من ريح رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وترك المصنف هذا؛ لأنه ليس من غرضه هنا، وقد قدمه في شمائله.
"ولمسلم" عن ثابت عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان يصوم حتى يقال: قد صام صام" مرتين، وبقد في الأولى، وفي رواية بإثبات قد فيهما "ويفطر حتى يقال: قد أفطر أفطر" بقد في الأولى لا الانية، وبإثباتهما فيهما.
"وعن ابن عباس قال: ما صام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شهرا كاملا" وفي رواية لمسلم: شهرا متتابعا "غير رمضان" وهو موافق لقول عائشة: لم يستكمل صيام شهرا إلا رمضان، ويعارضه قولها أيضا: كان يصوم شعبان كله، فإما أن يحمل على الأكثرية، أو على أنه لم يره يستكل إلا رمضان، فأخبر على حسب اعتقاد، ويأتي بسطه في صومه شعبان.
"وكان يصوم حتى يقول القائل: لا والله لا يفطر" وللطيالسي: حتى يقولوا: ما يريد أن يفطر "ويفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم، رواه البخاري ومسلم والنسائي" وابن ماجه، كلهم في الصوم "وزادا" بالتثنية، أي: مسلم والنسائي: "ما صام شهرًا متتابعا غير رمضان منذ"(11/263)
قدم المدينة.
ففي هذا: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله، ولا قام الليل كله، وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة، وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر عليه، لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر، وقام ونام.
الفصل الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء
وهو بالمد على المشهور، واختلف في تعيينه: فعن الحكم بن الأعرج قال: انتهيت إلى ابن عباس -وهو متوسد رداءه في زمزم- فقلت له: أخبرني عن صوم عاشواء، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما، قلت: هكذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يصومه؟ قال: نعم. رواه مسلم.
__________
بالنون، ويروى بدونها "قدم المدينة" وقراءة زاد بالإفراد تعطي أنها ليست في مسلم مع أنها فيه بلفظها "ففي هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يصم الدهر كله ولا قام الليل كله وكأنه ترك ذلك لئلا يقتدى به فيشق على الأمة" وهو بهم رؤوف رحيم "وإن كان قد أعطي من القوة ما لو التزم ذلك لاقتدر" أي: قدر "عليه لكنه سلك من العبادة الطريقة الوسطى، فصام وأفطر وقام ونام" فطوبى لمن اقتدى به في بعض ذلك.
"الفصل الثاني: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء، وهو بالمد على المشهور" وحكي قصره، وزعم ابن دريد أنه اسم إسلامي لا يعرف في الجاهلية، ورده ابن دحية بقول عائشة: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية.
قال الحافظ: ولا دلالة فيه، أي: لجواز أنها قالته بعد اشتهاره في الإسلام بهذا الاسم، وذكر أبو منصور الجواليقي أنه لم يسمع فاعولاء إلا عاشوراء وضاروراء وساروراء ودالولاء من الضار والسار والدال، وزاد ابن دحية عن ابن الأعرابي: خابوراء.
"واختلف في تعيينه" هل هو العاشر أو التاسع "فعن الحكم" بفتحتين "ابن الأعرج" واسمه عبد الله البصري "قال: انتهت إلى ابن عباس وهو متوسد رداءه في زمزم، فقلت له: أخبرني عن صوم عاشوراء؟، فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح" بهمزة قطع وكسر الموحدة "يوم التاسع صائما" قال الحكم: "قلت" له: "هكذا كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يصومه؟، قال: نعم، رواه مسلم" من أفراده.
قال القرطبي: يعني لو عاش لصامه، كذلك لوعده الذي وعد به لا أن صام التاسع بدل(11/264)
قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم، ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل، فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا، وكذا باقي الأيام على هذه النسبة، فيكون التاسع عاشرا. انتهى.
لكن قال ابن المنير: قوله: "إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة، وهي الليلة العاشرة. انتهى.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، وممن قال ذلك: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، ومالك وأحمد وإسحاق، وخلائق. وهذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى اللفظ، وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد، ثم إن حديث ابن عباس يرد عليه معنى قوله: أنه -صلى الله عليه وسلم- صام يوم
__________
العاشر، إذ لم يسمع ذلك عنه ولا روي قط. انتهى، ونقله عنه السيوطي وأقره.
"قال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ويتأوله على أنه مأخوذ من أظماء الإبل؛" لأنهم يحسبون في الأظماء يوم الورود "فإن العرب تسمي اليوم الثالث من أيام الورود ربعا" نظرا لكونه صبيحة الليلة الرابعة وهم يؤرخون بالليالي، فإذا أقامت في الرعي يومين ثم وردت في الثالث قالوا: وردت بعلوان رعت ثلاثا، وفي الثالث وردت قالوا: وردت خمسا "وكذا باقي الأيام على هذه النسبة" فإذا رعت ثمانية أيام، وفي التاسع وردت، قالوا: وردت عشرا بكسر العين؛ لأنهم يحسبون في كل هذا بقية اليوم الذي وردت فيه وأول اليوم الذي ترد فيه بعده "فيكون التاسع عاشرا. انتهى".
"لكن قال ابن المنير قوله: إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما" لم يتقدم بهذا اللفظ ولا هو به في مسلم، فلعله حمل عليه اللفظ الوارد وهو: وأصبح يوم التاسع صائما "يشعر بأنه أراد العاشر؛ لأنه لا يصبح صائما بعد أن أصبح صائما تاسعه إلا إذا نوى الصوم من الليلة المقبلة وهي اللية العاشرة. انتهى".
"وذهب جماهر العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من محرم، ومن قال ذلك سعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق وخلائق، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ" من التسمية والاشتقاق.
"وأما تقدير أخذه من الإظماء فبعيد؛" لأنه خلاف المتبادر "ثم إن حديث ابن عباس"(11/265)
عاشوراء فقالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال -صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع، فتعين كونه العاشر. قاله النووي.
وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم، وهو في الأصل صفة لليلة العاشر؛ لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم العقد، واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة. وعلى هذا فيوم عاشوراء هو العاشر، وهذا قول الخليل وغيره.
قال ابن المنير: والأكثر على أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله
__________
نفسه "يرد عليه معنى قوله" في مسلم "أنه -صلى الله عليه وسلم- صام يوم عاشواء" وأمر بصيامه كما في مسلم "فقالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع".
وفي رواية لمسلم: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر، قاله النووي" لأن التاسع لم يبلغه، ولعله لو بلغه صامه مع العاشر كما في حديث: "فصوموا التاسع والعاشر".
قال العلماء: السبب في ذلك أن لا نتشبه باليهود في إفراد العاشرة.
قال القرطبي: ظاهره أنه عزم على صوم التاسع بدل العاشر، وهذا هو الذي فهمه ابن عباس حتى قال لسائله عن يوم عاشوراء: إذا رأت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم الاسع صائما، وبهذا تمسك من رآه التاسع. انتهى.
"وقال القرطبي: عاشوراء معدول عن عاشر للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة لليلة العاشرة؛ لأنه مأخوذ من العشر" بفتح العين "الذي هو اسم العقد واليوم يضاف إليها، فإذا قيل: يوم عاشوراء، فكأنه قيل: يوم الليلة العاشرة، إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الإسمية، فاستغنوا عن الموصوف فحذفوا الليلة، وعلى هذا فيوم عاشوراء هو اليوم العاشر وهذا قول الخليل وغيره" من أئمة اللغة، وقيل: هو تاسع المحرم، هذا بقية كلام القرطبي.
"قال ابن المنير:" فعلى الأول اليوم مضاف لليلة الماضية، وعلى الثاني ضاف لليلة(11/266)
المحرم، وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.
وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال وسعة علم ابن عباس، فإنه لم لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع بل قال للسائل: صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه، وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك، فإما أن يكون فعل ذلك وهو الأولى، وأما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل، وهو الذي روى "أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيام يوم عاشوراء يوم العاشر" وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى فليتأمل.
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: قالت كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة.
__________
الآتية، قال: "والأكثر على يوم عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم وهو مقتضى الاشتقاق" من العشر الذي هو العقد على ما هو المتبادر "والتسمية" بعاشوراء يعني وأخذه من إظماء الإبل بعيد.
"وقال ابن القيم: فمن تأمل مجموع روايات ابن عباس تبين له زوال الإشكال" في قوله: وأصبح يوم التاسع صائما "وسعة علم ابن عباس، فإنه لم يجعل يوم عاشوراء اليوم التاسع، بل قال للسائل" عن صيام عاشوراء: "صم اليوم التاسع، فاكتفى بمعرفة السائل أن يوم عاشوراء هو اليوم العاشر الذي بعده" يسميه "الناس يوم عاشوراء، فأرشد السائل إلى صيام التاسع معه" ويؤيده أن السائل لم يقل ما يوم عاشوراء، أو أي يوم هو، وإنما سأله عن صيامه "وأخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كذلك" أي: تاسوعاء وعاشوراء "فإما أن يكون" صلى الله عليه وسلم "فعل ذلك" أي: صامما "وهو الأولى" لظاهر حديث ابن عباس على هذا الحمل "وإما أن يكون حمل فعله على الأمر به وعزمه عليه في المستقبل" فأطلق عليه أنه صامه تجوزا، ولعل هذا الأولى مما قبله، وإن قال: إنه الأولى لاحتياجه إلى نقل "وهو" أي: ابن عباس "الذي روى أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصوم يوم عاشوراء يوم العاشر" بالجر بدل "وكل هذه الآثار عنه يصدق بعضها بعضا. انتهى" كلام ابن القيم "فليتأمل" إذ مع كونه خلاف المتبادر لا مساعد لحمله على هذا.
"وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصومه في الجاهلية" موافقة لهم كالحج، أو أذن الله تعالى(11/267)
صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي.
واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء، وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه الصلاة والسلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم يوم عاشوراء إلا في سنة واحدة، ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة.
وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق، ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، وقد روي عن عكرمة أنه سئل عن ذلك فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية، فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب. قاله في فتح الباري.
__________
له "فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه" بفتحتين وبضم الهمزة وكسر الميم، روايتان اقتصر عياض على الثانية.
وقال النووي: الأولى أظهر "فلما فرض رمضان" أي: صيامه في السنة الثانية في شعبان "ترك عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه؛" لأنه ليس حتما "رواه البخاري" من طريق مالك "ومسلم" من طرق "ومالك" في الموطأ "وأبو داود والترمذي" من طريق مالك وغيره "واستفيد من هذه الرواية تعيين الوقت الذي وقع الأمر فيه بصيام عاشوراء وهو أول قدومه المدينة، ولا شك أن قدومه عليه السلام كان في ربيع الأول، فحينئذ كان الأمر بذلك في أول السنة الثانية قبل فرض شهر رمضان؛" لأنه فرض في شعبان منها "فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة" هي الثاني كما علم "ثم فوض الأمر في صيامه إلى رأي المتطوع، فعلى تقدير صحة قول من يدعي أنه كان قد فرض فقد نسخ فرضه بهذه الأحاديث الصحيحة".
وفي نسخ الاستحباب: إذا نسخ الوجوب خلاف مشهور وعلى أنه كان للاستحباب فهو باق على استحبابه "وأما صيام قريش لعاشوراء فلعلهم تلقوه من الشرع السابق" كشرع إبراهيم "ولذا كانوا يعظمونه بكسوة الكعبة فيه، و" لكن "قد روي" عند الباغندي "عن عكرمة أنه سئل عن ذلك، فقال: أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم، فقيل لهم: صوموا عاشوراء يكفر ذلك الذنب، قاله في فتح الباري".(11/268)
وعن ابن عمر: أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن عاشوراء يوم من أيام الله فمن شاء صامه. رواه البخاري ومسلم وأبو داود، وفي رواية: وكان عبد الله لا يصومه إلا أن يوافق صومه.
وعن سلمة بن الأكوع: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا من أسلم يوم عاشوراء، فأمره أن يؤذن في الناس: من كان لم يصم فليصم، ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل رواه مسلم.
قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان:
فقال أبو حنيفة: كان واجبا.
واختلف أصحاب الشافعي فيه على وجهين: أشهرهما عندهم أنه لم يزل
__________
"وعن ابن عمر" بن الخطاب: "أن أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية مسلم صامه والمسلمون قبل أن يفترض رمضان، فلما افترض "قال" رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه" ومن شاء تركه "رواه البخاري ومسلم وأبو داود".
"وفي رواية" لمسلم: "وكان عبد الله" بن عمر "لا يصومه إلا أن يوافق صومه؛" لأنه كان يكره قصد صيامه بالتعيين لحديث جاء في ذلك، قاله عياض.
"وعن سلمة بن الأكوع" قال: "بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلا" هو هند بن أسماء بن حارثة الأسلمي، كما عند أحمد وغيره: "ومن أسلم" بزنة أحمر قبيلة من العرب معروفة، قال فيها -صلى الله عليه وسلم: "أسلم سالمها الله" "يوم عاشوراء فأمره أن يؤذن".
وفي رواية للبخاري: ينادى "في الناس من كان لم يصم فليصم" أي: يمسك، إذ الصوم الحفيقي هو الإمساك من أول النهار إلى آخره "ومن كان أكل فليتم صيامه إلى الليل" حرمة لليوم.
وفي رواية البخاري: من كان أكل فليتم بقية يومه ومن لم يكن أكل فليصم، وفي لفظ له ومن لم يأكل فلا يأكل "رواه مسلم" في الصيام رباعيا وفيه تقصير، فقد رواه البخاري ثلاثيا في محلين من الصوم وفي خبر واحد.
"قال النووي: اختلفوا في حكم صوم عاشوراء في أول الإسلام حين شرع صومه قبل صوم رمضان، فقال أبو حنيفة: كان واجبا" لظاهر الأحاديث "واختلف أصحاب الشافعي" أي:(11/269)
سنة من حين شرع، ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة، ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان صار مستحبا دون ذلك الاستحباب، والثاني: كان واجبا كقول أبي حنيفة.
وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها، ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار، ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه. وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: "أمر بصيامه" والأمر للوجوب، وبقوله: "فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه". ويحتج الشافعية بقوله: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه"، والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة: "فأمره أن يؤذن في الناس من كان لم يصم فليصم إلخ". أي من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن كان لم ينو الصوم ولم
__________
أهل مذهبه "فيه على وجهين، أشهرهما عندهم؛ أنه لم يزل سنة من حين شرع ولم يكن واجبا قط في هذه الأمة ولكنه كان متأكد الاستحباب، فلما نزل صوم رمضان" في القرآن "صار مستحبا دون ذلك الاستحباب" أي: غير متأكد.
"والثاني كان واجبا كقول أبي حنيفة وتظهر فائدة الخلاف في اشتراط نية الصوم الواجب من الليل، فأبو حنيفة لا يشترطها ويقول: كان الناس مفطرين أول يوم عاشوراء ثم أمروا بصيامه بنية من النهار ولم يؤمروا بقضائه بعد صومه" ورد بأن في أبي داود أنهم أتموا بقية اليوم وقضوه "وأصحاب الشافعي يقولون: كان مستحبا فصح بنية من النهار، ويتمسك أبو حنيفة بقوله: أمر بصيامه والأمر للوجوب" لكنه إنما يقتضيه إذا كان بصيغة أفعل، أما أمر فإنما يدل على الطلب، وهو يحتمل الوجوب والندب ويأتي رد هذا "وبقوله: فلما فرض شهر رمضان قال: من شاء صامه ومن شاء تركه" فمقتضاه أنه قبل ذلك كان فرضا.
"ويحتج الشافعية بقوله" -صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه" فإن ظاهره أنه لم يفرض قط وأجيب بأن معاوية راويه من مسلمة الفتح، فإن كان سمعه بعد إسلامه فإنما سمعه سنة تسع أو عشر، وذلك بعد نسخه برمضان، فمعنى: لم يكتب لم يفرض بعد إيجاب رمضان، وإن كان سمعه قبل إسلامه جاز أنه قبل افتراضه ونسخه برمضان "والشافعية أيضا يقولون: معنى قوله في حديث سلمة" بن الأكوع "فأمره أن يؤذن في الناس: "من كان لم يصم فليصم إلى آخره". أي: من كان نوى الصوم فليتم صومه، ومن(11/270)
يأكل أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم. واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب بنية في النهار ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم. وأجاب الجمهور عن هذا الحديث: بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا: أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها مفسد للصوم من أكل وغير. انتهى.
وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه، ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم: "لما فرض رمضان ترك عاشوراء" مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق، فدل على أن المتروك
__________
"كان لم ينو الصوم ولم يأكل، أو أكل فليمسك بقية يومه لحرمة اليوم"، واحتج أبو حنيفة بهذا الحديث لمذهبه: أن صوم الفرض يجب" أي: يتحقق ويوجد "نية في النهار" من وجب الشيء وجوبا ثبت "ولا يشترط تبييتها، قال: لأنهم نووا في النهار وأجزأهم" وكان عاشوراء فرضا.
"وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأن المراد إمساك بقية النهار لا حقيقة الصوم، والدليل على هذا أنهم أكلوا ثم أمروا بالإتمام، وقد وافق أبو حنيفة وغيره على أن شرط إجزاء النية في النهار في الفرض والنقل أن لا يتقدمها" فعل "مفسد للصوم من أكل وغيره. انتهى" كلام النووي.
"وقال الحافظ شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه" وكونه مشتركا بين الطلب الشامل للندب، والإيجاب ممنوع ولو سلم، فقولها: فلما فرض رمضان إلى آخره دليل على أن الأمر كان للوجو للقطع بأن التخيير ليس باعتبار الندب؛ لأنه مندوب الآن "ثم تأكيد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العام، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال" كما روى الطبراني وأبو يعلى: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يعظم عاشوراء حتى يدعو برضعائه فيتفل في أفواههم ويقول لأمهاتهم: لا ترضعوهم إلى الليل وكان ريقه يجزيهم "وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم" عن علقمة قال: دخل الأشعث بن قيس على ابن مسعود وهو يأكل يوم عاشوراء، فقال: إن اليوم عاشوراء، فقال: قد كان يصام قبل أن ينزل رمضان "ولما فرض رمضان ترك عاشوراء(11/271)
وجوبه، وأما قول بعضهم: "المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه" فلا يخفى ضعفه، بل تأكد استحبابه باق ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر"، ولترغيبه في صومه وأنه يكفر السنة، فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى.
وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: "ما هذا"؟ قالوا: هذا يوم صالح نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، فصامه فقال: "أنا أحق بموسى منكم"، فصامه وأمر بصيامه. وفي رواية: فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟ قالوا: هذا يوم عظيم نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن
__________
مع العلم أنه ما ترك استحبابه، بل هو باق" إلى الآن "فدل على أن المتروك وجوبه" ويدل عليه قول ابن مسعود للأشعث، فإن كنت مفطرا فأطعم، إذ لم يبق استحبابه لقال: فأطعم بدون شرط.
"وأما قول بعضهم المتروك تأكد استحبابه، والباقي مطلق استحبابه فلا يخفى ضعفه" إذ هو دعوى بلا دليل "بل تأكد استحبابه باق، ولا سيما مع استمرار الاهتمام به حتى في عام وفاته -صلى الله عليه وسلم، حيث قال: لئن عشت" وفي رواية: لئن بقيت، ومعناها عشت "إلى قابل لأصومن التاسع" وقوله: "والعاشر" لم يقع في رواية مسلم ولا ابن ماجه "ولترغيبه في صومه وأنه يكفر اسنة" الماضية "فإن تأكيد أبلغ من هذا. انتهى" كلام الحافظ.
"وعن ابن عباس قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة" فأقام إلى يوم عاشوراء من السنة الثانية، "فرأى اليهود تصوم عاشوراء، فقال" لهم: "ما هذا"؟ الصوم "قالوا: هذا يوم صالح" ولابن عساكر: هذا يوم صالح مرتين "نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل".
وفي رواية لمسلم: موسى وقومه "من عدوهم" فرعون، زاد مسلم: وغرق فرعون وقومه "فصامه" موسى، زاد مسلم: شكرا لله تعالى فنحن نصومه "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق بموسى منكم" للاشتراك في الرسالة والأخوة في الدين والقرابة الظاهرة دونهم؛ ولأنه أطوع وأتبع للحق منهم "فصامه وأمر بصيامه" الناس.
"وفي رواية" عن ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء "فقال لهم: "ما هذا اليوم الذي تصومونه"؟، قالوا: هذا يوم عظيم" فضله "نجى الله فيه موسى وقومه وأغرق" ولبعض الرواة وغرق بلا ألف وشد الراء "فرعون وقومه، فصامه موسى(11/272)
أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه، وفي أخرى: فنحن نصومه تعظيما له، رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
وقد أجاب صاحب "زاد المعاد" وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث -وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول فكيف يقول ابن عباس إنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء؟ بأنه ليس في الحديث أن يوم قدومه وجدهم يصومونه، فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول، ثاني عشرة، ولكن أول علمه بذلك ووقوع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة.
وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع فأقام إلى يوم عاشوراء، فوجد اليهود فيه صيامًا. ويحتمل أن
__________
شكرا" لله تعالى على نجاته وقومه وإغراق عدوهم.
زاد أحمد من حديث أبي هريرة: وهو اليوم الذي استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا "فنحن نصومه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم"، فصامه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمر بصيامه" بالوحي أو تواتر النقل عنده لا تقليدا لليهود؛ لأن خبرهم لا يقبل، ويأتي بسطه في المتن.
"وفي" رواية "أخرى" عن ابن عباس: فقالوا، أي اليهود: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون "فنحن نصومه تعظيما له" أي: ليوم عاشوراء "رواه البخاري" في مواضع "ومسلم وأبو داود" والنسائي في الصوم.
"وقد أجاب صاحب زاد المعاد" في هدي خير العباد "وغيره عما استشكله بعضهم في هذا الحديث وقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما قدم المدينة في شهر ربيع الأول، فكيف يقول ابن عباس أنه قدم المدينة فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء" وذلك لا يمكن إذ عاشوراء عاشر المحرم؛ "بأنه ليس في الحديث أنه يوم قدومه وجدهم يصومونه" والتعقيب في كل شيء بحسبه تزوج فولد له "فإنه إنما قدم يوم الاثنين في ربيع الأول ثني عشرة، ولكن أول علمه بذلك، ووقع القصة في اليوم الذي كان بعد قدومه المدينة لم يكن وهو بمكة. وقال في الفتح: غايته أن في الكلام حذفا" دل عليه المقام "تقديره: قدم عليه الصلاة والسلام المدينة في ربيع، فأقام إلى يوم عاشوراء فوجد اليهود فيه صياما" والحذف المدلول عليه كالملفوظ به فلا إشكال.(11/273)
يكون أولئك اليهود كانوا يحسبوه يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه -صلى الله عليه وسلم- المدنية. وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى، لإضلالهم اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول. انتهى.
وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود، وهو غير مقبول.
وأجاب المازري: بأنه يحتمل بأنه -صلى الله عليه وسلم- أوحي إليه بصدقهم فيما قالواه، أو تواتر عنده بذلك حتى حصل له العلم بذلك.
قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم أن قريشا كانت تصومه، فلما قدم المدينة صامه، فلم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه، وإنما هي صفة حال، وجواب سؤال، فقوله: "صامه" ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ، ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره، قال: وقد قال بعضهم يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة ثم ترك
__________
"ويحتمل أن يكون أولئك اليهود كانوا يحسبون" بضم السين يعدون "يوم عاشوراء بحساب السنين الشمسية، فصادف يوم عاشوراء بحسابهم اليوم الذي قدم فيه -صلى الله عليه وسلم- المدينة، وهذا التأويل مما يترجح به أولوية المسلمين وأحقيتهم بموسى لإضلالهم" أي: اليهود "اليوم المذكور وهداية المسلمين له، ولكن سياق الحديث يدفع هذا التأويل، والاعتماد على التأويل الأول" أن في الكلام حذفا. "انتهى" كلام الفتح.
"وقد استشكل أيضا رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى خبر اليهود وهو غير مقبول؛" لأنهم كفار.
"وأجاب المازري بأنه يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- أوحى إليه بصدقهم فيما قالوه، أو تواتر عنده النقل بذلك حتى حصل له العلم بذلك" لا بمجرد إخبار اليهود.
"قال القاضي عياض ردا على المازري: وقد روى مسلم" والبخاري "أن قريشا كانت تصومه" وأنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه "فلما قدم المدينة صامه" وأمر بصيامه "لم يحصل له بقول اليهود حكم يحتاج إلى الكلام عليه؛" لأنه كان يصومه بمكة "وإنما هي صفة حال وجواب سؤال، فقوله: صامه ليس فيه أن ابتداء صومه كان حينئذ" أي: حين قدومه المدينة "ولو كان فيه لحملناه على أنه أخبره به من أسلم من علمائهم كابن سلام وغيره".(11/274)
صيامه حتى علم ما عند الله الكتاب منه فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.
قال النووي: المختار قول المازري، ومختصر ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش في مكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد، لا بمجرد إخبار أحادهم. انتهى.
وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إليه شرع من مضى كإبراهيم، وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم، كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير، فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه أمر بصيامه احتمل أن يكون ذلك استئلافا للهيود كما استألفهم باستقبال قبلتهم، ويحتمل غير ذلك. وعلى كل حال فلم يصمه اقتداء بهم، فإنه كان يصومه قبل ذلك، وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما
__________
قال عياض: "وقد قال بعضهم: يحتمل أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه بمكة، ثم ترك صيامه حتى علم ما عند أهل الكتاب منه" أي: من فضل صيامه "فصامه، قال: وما ذكرناه أولى بلفظ الحديث.
"قال النووي: المختار قول المازري" أنه يوحي أو تواتر "ومختصر ذلك أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصومه كما تصومه قريش بمكة، ثم قدم المدينة فوجد اليهود يصومونه، فصامه أيضا بوحي أو تواتر أو اجتهاد لا بمجرد إخبار آحادهم" أي: اليهود. "انتهى".
"وقال القرطبي: لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم" لكن مر عن عكرمة خلاف هذا "وصوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحتمل أن يكون بحكم الموافقة لهم كما في الحج، أو أذن الله له في صيامه على أنه فعل خير" فلا يحتاج إلى ذلك "فلما هاجر ووجد اليهود يصومونه وسألهم وصامه وأمر بصيامه، احتمل أن يكون ذلك استئلافا لليهود" ليسلموا "كما استألفهم باستقبال قبلتهم" مدة، واستئلافهم بذلك لا يمنع أنه بوحي.
وقد روي أنه أمر بالاستقبال استئلافا لليهود "ويحتمل غير ذلك، على كل حال فلم يصمه اقتداء بهم؛ فإنه كان يصومه قبل ذلك" بمكة "وكان ذلك في الوقت الذي يجب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه؛" لأنه أقرب إلى الحق "ولا سيما إذا كان فيه ما يخالف أهل الأوثان، فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا" إظهارا(11/275)
فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب أيضا كما في حديث ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صام عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع"، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع". رواه مسلم.
وهذا دليل الشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع.
قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث إشارة إلى هذا، وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى. انتهى.
وفي رواية البزار من حديث ابن عباس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال -يوم عاشوراء: "صوموه وخالفوا فيه اليهود، وصوموا قبله يوما وبعده يوما". ولأحمد
__________
لعدم اعتبار ما هم عليه "كما في حديث ابن عباس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين صام عاشوراء وأمر" الناس "بصيامه قالوا" أي: الصحابة: "يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى" فكيف تعظمه أنت؟ "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم".
"وفي رواية" عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن بقيت" أي: عشت "إلى قابل لأصومن التاسع"، رواه" أي: المذكور من الروايتين "مسلم" في الصوم من إفراده "وهذا دليل الشافعي وأصحابه" ومالك "وأحمد وإسحاق القائلين باستحباب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- صام العاشر ونوى صوم التاسع" فصار مندوبا، وإن لم يصمه؛ لأنه عزم على صومه.
"قال النووي: قال بعض العلماء: ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر أن لا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وفي الحديث" المذكور "إشارة إلى هذا" لأنه جعله جوابا لقولهم: تعظمه اليهود "وقيل: للاحتياط في تحصيل عاشوراء، والأول أولى ... انتهى" لإشارة الحديث إليه؛ ولأن الخلاف في أنه العاشر أو التاسع إنما حدث بعده.
"وفي رواية البزار من حديث ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يوم عاشوراء"، بنصب يوم بفعل يفسره قوله: "وصوموه" ويجوز رفعه "وخالفوا فيه اليهود: وصوموا قبله يوما وبعده يوما، لأحمد نحوه" وهو يؤيد أنه كي لا يشتبه باليهود "فمراتب صومه ثلاثة أدناها أن يصام(11/276)
نحوه. فمراتب صومه ثلاثة: أدناها أن يصام وحده، وأكملها أن يصام يوما قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين، إما بنقل العاشر إلى التاسع، وإما بصيامهما معا. والله أعلم.
وفي البخاري من حديث أن أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم".
وهذا ظاهره أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود، حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام، وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث عليه صيامه موافقته على السبب وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى. لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم بأنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم يصومونه، وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم كان أهل
__________
وحده وأكملها أن يصام يوما" كذا في جميع النسخ بنصب يومان ويوجه بأن نائب فاعل يصام ضمير يعود إلى يوم عاشوراء، ونصب يوما على الحال بتقدير ضاما إليه يوما "قبله ويوما بعده، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث".
"وقال بعضهم: قد ظهر أن القصد مخالفة أهل الكتاب في هذه العبادة، وذلك يحصل بأحد أمرين: إما بنقل العاشر إلى التاسع" على ظاهر حديث: "لأصومن التاسع" "وإما بصيامهما معا" وهو المرجح. "والله أعلم".
"وفي البخاري" ومسلم، كلاهما "من حديث" قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب، عن "أبي موسى قال: كان يوم عاشوراء تعده اليهود عيدا" تعظيما له، وهذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: تعظمه اليهود تتخذه عيدا "قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "صوموه أنتم" مخالفة لهم "وهذا ظاهره أن الباعث" الحامل "على الأمر بصومه مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه؛ لأن يوم العيد لا يصام".
"وحديث ابن عباس يدل على أن الباعث على صيامه موافقتهم على السبب" في صيامه "وهو شكر الله تعالى على نجاة موسى" وقومه "لكن لا يلزم من تعظيمهم له واعتقادهم أنه عيد أنهم كانوا لا يصومونه، فلعله كان من جملة تعظيمهم في شرعهم أنهم(11/277)
خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم، وهو بالشين المعجمة، أي هيئتهم الحسنة.
ومحصل ما ورد في صيامه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال:
إحداها: أنه كان يصومه بمكة، ولا يأمر الناس بصيامه كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... الحديث.
الثانية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، وتعظيمهم له، وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه وأمر الناس بصيامه، وأكد الأمر بصيامه والحث عليه، حتى كانوا يصومونه أطفالهم، كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما.
__________
يصومونه" وبه جزم صاحب الأنموذج فقال: كان اليهود يصومون يوم عيدهم "وقد ورد ذلك صريحا في حديث مسلم" من وجه آخر عن قيس عن طارق عن أبي موسى، قال: "كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا ويلبسون" بضم التحتية "نساءهم فيه حليهم وشارتهم" فقال -صلى الله عليه وسلم: "فصوموه أنتم"، هذا باقيه "وهو بالشين المعجمة" فألف فراء ففوقية أي: "هيئتهم"، وفي شرحه لمسلم: أي: ثيابهم "الحسنة، ومحصل ما ورد في صيامه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء أربعة أحوال، إحداها: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بصيامه، كما تقدم في حديث عائشة عند الشيخين وغيرهما: كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فلما قدم المدينة صامه ... الحديث" من بقيته، وأمر بصيامه، فظاهره أنه لم يأمر بصيامه بمكة.
"الثانية: أنه -صلى الله عليه وسلم- لما قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له وكان يحب موافقتهم فيما لم يؤمر به" ولم ينه عنه "صامه، وأمر الناس بصيامه وأكد الأمر بصيامه والحث عليه" فامتثلوا ذلك "حتى كانوا يصومونه" بضم الياء وفتح الصاد وشد الواو المكسورة، أي: يمنعون "أطفالهم" تناول المفطر "كما تقدم في حديث ابن عباس عند الشيخين وغيرهما"؛ أنه صامه وأمر بصيامه، وأما تصويم الأطفال فلم يتقدم ولا هو من حديث ابن عباس، وإنما رواه مسلم عن الربيع بنت معوذ، قالت: أرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، قالت: فكنا بعد نصومه ونصومه صبياننا ونذهب إلى المسجد، ونصنع لهم اللعبة من العهن ونذهب بها معنا، فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم.(11/278)
الثالثة: أنه لما فرض صوم شهر رمضان ترك -صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: "إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه" ويشهد له حديث عائشة السابق.
الحالة الرابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر، مخالفة لأهل الكتاب في صيامه، كما قدمناه.
وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة مرفوعا: "إن صوم عاشوراء يكفر سنة وإن صوم يوم عرفة يكفر سنتين". وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء. وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يوم عاشوراء منسوب إلى موسى ويوم عرفة منسوب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل. والله أعلم.
__________
"الثالثة: أنه لما فرض صيام شهر رمضان ترك -صلى الله عليه وسلم- صيامه وقال: إن عاشوراء يوم من أيام الله" الفاضلة "فمن شاء صامه ومن شاء تركه" لأنه مستحب فقط "ويشهد له حديث عائشة السابق".
"الحالة الرابعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- عزم في آخر عمره أن لا يصومه مفردا، بل يضم إليه يوما آخر" هو التاسع "مخالفة لأهل الكتاب في صيامه" وحده "كما قدمناه".
"وقد روى مسلم من حديث أبي قتادة" الحرث أو عمرو أو النعمان الأنصاري "مرفوعا" أثناء حديث "أن صوم عاشوراء يكفر سنة وأن صوم عرفة يكفر سنتين" نقل بالمعنى، ولفظ مسلم عن أبي قتادة: فذكر حديثا فيه وقال -صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله".
"وظاهره أن صيام يوم عرفة أفضل من صيام عاشوراء، وقد قيل: الحكمة في ذلك أن يصوم عاشوراء منسوب إلى موسى" عليه الصلاة والسلام "ويوم عرفة منسوب إل النبي -صلى الله عليه وسلم، فلذلك كان أفضل".
وقال العلامة زروق: ذلك لأن يوم عرفة يجمع فضيلة العشر إلى فضيلة اليوم، ويشتركان في كونهما بشهر حرام، "والله أعلم" بحقيقة الحكمة في ذلك، قال في النهاية: الاحتساب في الأعمال الصالحات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بأنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم منها طلبا للثواب فيها.
وقال الطيبي: كان الأصل أن يقال: أرجو من الله أن يكفر، فوضع موضعه أحتسب وعداه بعلي الذي للوجوب على سبيل الوعد مبالغة لحصول الثواب، وأما تكفير السنة التي بعده، فقيل: إنه تعالى يحفظه عن أن يذنب فيها، وقيل: يعطي من الرحمة والثواب ما يكون كفارة السنة الآتية إن اتفق فيها ذنب، والمراد من الذنوب الصغائر، فإن لم يكن صغائر رجى التخفيف من الكبائر،(11/279)
وأما ما روي: من وسع على عياله في يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها، فرواه الطبراني والبيهقي في "الشعب" وفي "فضائل الأوقات"، وأبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان فقط عن أبي سعيد، والثاني فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال: إن أسانيده كلها ضعيفة، ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه: لحديث أبي هريرة طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ.
وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه، وقال: سليمان مجهول. وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه.
__________
فإن لم يكن رفعت الدرجات.
"وأما ما روي" مرفوعا: "من وسع على عياله" وهم من في نفقته "في يوم عاشوراء" وفي رواية بإسقاط في "وسع الله عليه السنة" وفي رواية: في سنته كلها" دعاء أو خبر، وذلك أن الله سبحانه أغرق الدنيا بالطوفان فلم يبق إلا سفينة نوح بمن فيها، فرد عليهم دنياهم يوم عاشوراء وأمروا بالهبوط للتأهب للعيال في أمر معاشهم بسلام وبركات عليهم وعلى من في أصلابهم، فكان ذلك يوم التوسعة والزيادة في وظائف المعاش، فيسن زيادة ذلك في كل عام ذكره الحكيم الترمذي، وذلك مجرب للبركة والتوسعة.
قال جابر الصحابي: جربناه فوجدناه صحيحا.
وقال سفيان بن عيينة: جربناه خمسين أو ستين سنة "فرواه الطبراني" في الأوسط "والبيهقي في الشعب وفي فضائل الأوقات، و" رواه "أبو الشيخ عن ابن مسعود، والأولان" الطبراني والبيهقي "فقط عن أبي سعيد" الخدري.
"والثاني" البيهقي "فقط في الشعب عن جابر وأبي هريرة، وقال" البيهقي: "إن أسانيده كلها ضعيفة ولكن إذا ضم بعضها إلى بعض أفاد قوة، بل قال العراقي في أماليه لحديث أبي هريرة" خبر مبتدؤه "طرق صحح بعضها ابن ناصر الحافظ" محمد السلامي البغدادي.
"وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق سليمان بن أبي عبد الله عنه" أي: أبي هريرة "وقال: سليمان مجهول" ورده عليه الحافظ وجزم في تقريبه بأن سليمان مقبول من الثالثة، أي: الطبقة الوسطى من التابعين "وسليمان ذكره ابن حبان في الثقات، فالحديث حسن على رأيه" في توثيق من لم يجرح.(11/280)
قال: وله طريق عن جابر على شرط مسلم أخرجها ابن عبد البر في "الاستذكار" من رواية أبي الزبير عنه، وهي أصح طرقه.
ورواه هو والدارقطني في "الإفراد" بسند جيد عن عمر موقوفا عليه، والبيهقي في "الشعب" من جهة محمد بن المنتشر، قال: كان يقال.... وذكره.
__________
"قال" العراقي: "وله طريق عن جابر على شرط مسلم، أخرجها ابن عبد البر في الاستذكار" اسم شرحه الصغير على الموطأ "من رواية أبي الزبير" محمد بن مسلم المكي "عنه" أي: جابر "وهي أصح طرقه، ورواه هو" أي: ابن عبد البر "والدارقطني في الإفراد" بفتح الهمزة "بسند جيد" أي: مقبول "عن عمر" بن الخطاب "موقوفا عليه و" رواه "البيهقي في الشعب" للإيمان "من جهة" أي: طريق "محمد بن المنتشر" الهمداني الكوفي "قال: كان يقال وذكره" وهذه كلها عبارة شيخه في المقاصد الحسنة بالحرف، ولعبد الملك بن حبيب في الواضحة:
لا تنس لا ينسك الرحمن عاشورا ... واذكره لا زلت في الأخيار مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشته في الحول محبورا
فارغب فديتك فيما فيه رغبنا ... خير الورى كلهم حيا ومقبورا
قال الحافظ السيوطي: هذا من هذا الإمام الجليل يدل على أن للحديث أصلا، وما يذكر من فضيلة الاغتسال فيه والخطاب والإدهان والاكتحال ونحو ذلك، فبدعة ابتدعها قتلة السين كما صرح به غير واحد، ونظم بعضهم ذلك فقال:
في يوم عاشوراء عشر تتصل ... بها اثنتان ولها فضل نقل
صم صل زرعا لما عد واكتحل ... رأس اليتيم امسح تصدق واغتسل
ومع على العيال قلم ظفرا ... وسورة الإخلاص قل ألفا تصل
وذيله شيخ شيوخنا النور الأجهوري بقوله:
ولم يرد من ذا سوى الصوم كذا ... توسعة وغير هذا نبذا
وكذا لا أصل للحبوب في يومه ويعزي للحافظ:
في يوم عاشوراء سبع تهترس ... بر وأرز ثم ماش وعلس
وحمص واللوبيا والفول ... هذا هو الصحيح والمنقول(11/281)
الفصل الثالث: في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان
عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان. رواه البخاري ومسلم، وفي أخرى لهما: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان فإنه كان يصومه كله.
وفي رواية الترمذي: كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله.
وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه
__________
"الفصل الثالث: في" ذكر أحاديث "صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان" الدالة على فضله واستحباب صيامه، وتقدير هل وجد أم لا؟، وأنه أولى من قول الحافظ في قول البخاري باب صوم شعبان، أي: استحبابه، ومن تقدير المصنف فصل فتعسف؛ لأن موضوع المقصد في عباداته -صلى الله عليه وسلم، ومن جملتها صيامه في شعبان الذي تظاهرت به الأحاديث لا السؤال عن وجوده وعدمه وأولويته على تقدير الشارحين لا تظهر.
"عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر قط" لئلا يظن وجوبه "إلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر" بالنصب ثاني مفعول رأيت "صياما" بالنصب لأكثر الرواة وروي بالخفض.
قال السهيلي: وهو وهم، لعل بعضهم كتب صيام بلا ألف على رأي من يقف على المنصوب بلا ألف فتوهم مخفوضا، أو أن بعض الرواة ظن أنه مضاف؛ لأن صيغة أفعل تضاف كثيرا فتوهمها مضافة وذلك لا يصح هنا قطعا "منه" أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي رواية مسلم: منه صياما بتقديم منه "في شعبان" يتعلق بصياما، والمعنى: كان يصوم في شعبان تطوعا أكثر من صيامه فيما سواه "رواه البخاري ومسلم" وأبو داود والنسائي.
"وفي" رواية "أخرى لهما" عن عائشة قالت: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم شهرا أكثر من شعبان، فإنه كان يصومه كله" زاد في رواية مسلم متصلا بقوله: كله: كان يصوم شعبان إلا قليلا.
"وفي رواية الترمذي" عن عائشة: "كان يصومه إلا قليلا، بل كان يصومه كله" ببل التي للإضراب.
"وفي رواية أبي داود: كان أحب الشهور إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يصومه" بدل من(11/282)
شعبان، ثم يصله برمضان.
وللنسائي: كان يصوم شعبان، أو عامة شعبان. وفي أخرى له: كان يصوم شعبان إلا قليلا. وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله.
قال الحافظ ابن حجر: أي يصوم معظمه.
ونقل الترمذي عن ابن المبارك أنه قال: جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول: صام الشهر كله. ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره. قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك، وحاصله: أن الرواية الأولى مفسرة للثانية ومخصصة لها، وأن المراد بـ "الكل" الأكثر، وهو مجاز قليل الاستعمال.
واستبعده الطيبي وقال: يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى، لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان.
__________
الشهور، ويجوز رفع أحب ونصب "شعبان" خبر كان ويجوز عكسه "ثم يصله برمضان" فهذا أيضا ظاهر في صومه كله "وللنسائي" عنها: "كان يصوم شعبان أو عامة شعبان" تحتمل أو الشك والإضراب "وفي أخرى له" للنسائي، عنها: "كان يصوم شعبان إلا قليلا، وفي أخرى له أيضا: كان يصوم شعبان كله".
"قال الحافظ ابن حجر" جمعا بين الروايتين "أي: يصوم معظمه، ونقل الترمذي عن" عبد الله "بن المبارك؛ أنه قال: جائز في كلام العرب" أي: لغتهم "غذا صام أكثر الشهر أن يقول" القائل في شأنه: "صام الشهر كله، ويقال: قام فلان ليلته أجمع، ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره" غير القيام.
"قال الترمذي: كأن ابن المبارك جمع بين الحديثين بذلك" الذي نقله عن العرب "وحاصله؛ أن الرواية الأولى" وهي قوله: إلا قليلا "مفسرة للثانية:" كان يصوم شعبان كله "ومخصصة لها، وأن المراد بالكل الأكثر وهو مجاز قليل الاستعمال، واستبعده الطيبي" فقال: كل تأكيد لإرادة الشمول ودفع التحوز من احتمال البعض، فتفسيره بالبعض مناف له. انتهى، لكن الاستبعاد لا يمنع الوقوع؛ لأن الحديث يفسر بعضه بعضا لا سيما والمخرج متحد وهو عائشة وهي من الفصحاء، وقد نقله ابن المبارك عن العرب: ومن حفظ حجة.
"وقال" الطيبي: جمعا بينهما "يحمل على أنه كان يصوم شعبان كله تارة ويصوم معظمه أخرى لئلا يتوهم أنه واجب كله كرمضان" وتعقب بأن قولها: كان يصومه كله يقتضي تكرار(11/283)
وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة على المبالغة، والمراد الأكثر، وإما أن يجمع بأن قولها الثاني متأخر عن قولها الأول، فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى.
ولا يخفى تكلفه، والأول هو الصواب.
واختلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فتجتمع فيقضيها في شعبان. أشار إلى ذلك ابن بطال، وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عائشة. قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك حتى يجتمع عليه صوم السنة فيصوم
__________
الفعل، وأن ذلك عادة له على المعروف من هذه العبارة، وجزم ابن دقيق العيد بأنها تقتضيه عرفًا، لكن صحيح الرازي والنووي أنها لا تقتضيه لا لغة ولا عرفا، فجوابه مستقيم على هذا القول.
"وقال الزين بن المنير: إما أن يحمل قول عائشة" كله "على المبالغة، والمراد الأكثر" بدليل قولها: إلا قليلا "وإما أن يجمع بأن قولها الثاني:" كان يصوم شعبان كله "متأخر عن قولها الأول:" كان يصومه إلا قليلا "فأخبرت عن أوائل أمره أنه كان يصوم أكثر شعبان، وأخبرت ثانيا عن آخر أمره أنه كان يصومه كله. انتهى، ولا يخفى تكلفه" لتوقفه على معرفة الأول والثاني ولا تكلف فيه، إذ هو طريق آخر في الجواب بالاحتمال.
"والأول" أي: حمله على المبالغة "هو الصواب" زاد الحافظ، ويؤيده قول عائشة في مسلم والنسائي: ولا صام شهرا كاملا قط منذ قدم المدينة غير رمضان وهو مثل حديث ابن عباس في الصحيحين "واختلف في الحكمة في إكثاره -صلى الله عليه وسلم- من صيام شعبان، فقيل: كان يشتغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فيجتمع فيقضيها في شعبان".
"وأشار لى ذلك ابن بطال" في شرح البخاري "وفيه حديث ضعيف أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق" محمد بن عبد الرحمن "بن أبي ليلى" فنسبه إلى جده بدليل قوله: "عن أخيه عيسى" بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي ثقة كما في التقريب، روى له أصحاب السنن الأربعة "عن أبيه" عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري المدني، ثم الكوفي ثقة من كبار التابعين ورجال الجميع "عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فربما أخر ذلك" لعارض يمنعه من صيامها كسفر "حتى يجتمع عليه صوم السنة،(11/284)
شعبان. وابن أبي ليلى ضعيف، وقيل: كان يضع الحديث.
وقيل: كان يصنع ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى عن ثابت عن أنس قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان لتعظيم رمضان". قال الترمذي: حديث غريب، وصدقة عندهم ليس القوي.
لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصيام بعد رمضان صوم المحرم". والأولى في ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم من شهر الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر
__________
فيصوم شعبان، و" محمد "بن أبي ليلى ضعيف".
"وقيل: كان يضع الحديث" واقتصر في التقريب على أنه صدوق سيئ الحفظ جدا.
"وقيل:" في حكمة إكثاره: "كان" صلى الله عليه وسلم "يصنع" أي: يفعل "ذلك لتعظيم رمضان، وورد فيه حديث أخرجه الترمذي من طريق صدقة بن موسى" البصري، صدوق له أوهام "عن ثابت" البناني "عن أنس قال: سئل النبي -صلى الله عليه وسلم: أي الصوم أفضل بعد رمضان؟، قال: "شعبان لتعظيم رمضان".
"قال الترمذي: حديث غريب وصدقة عندهم" أي: المحدثين "ليس بالقوي" لأوهامه "لكن يعارضه ما روى مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصوم بعد رمضان صوم المحرم" لفظ سلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".
وفي رواية له: "صيام شهر الله المحرم"، زاد الحافظ: وقيل: حكمة ذلك أن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان، وهذا عكس ما مر في حكمة كونهن يؤخرن قضاء رمضان إلى شعبان؛ لأنه ورد فيه أن ذلك لاشتغالهن به عن الصوم، وقيل: حكمة ذلك أنه يعقبه رمضان وهو فرض، فأكثر في شعبان قدر ما يصوم في شهرين غيره لا يفوته، أي: فلا يفوته من التطوع بذلك في أيام رمضان.
"والأولى في" حكمة "ذلك ما في حديث أصح مما مضى، أخرجه النسائي وأحمد وأبو داود، وصححه ابن خزيمة عن أسامة بن زيد أنه قال: قلت: يا رسول الله لم أرك تصوم من شهر".
وفي نسخة: شهرا بنصبه بنزع الخافض "الشهور ما تصوم من شعبان؟، قال: "ذاك شهر(11/285)
"يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم". فبين -صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام، اشتغل الناس بهما، فصار مغفولا عنه، وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام وليس كذلك.
وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها أن تكون أخفى، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سر بين العبد وربه، ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم.
وقد روي في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال،
__________
يغفل" بضم الفاء "الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين" رفعا خاصا غير الرفع العام بكرة وعشيا "فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" لكونه من أفضل الأعمال، ووعد الله أنه الذي يجزي به "فبين -صلى الله عليه وسلم- وجه صيامه لشعبان دون غيره من الشهور بقوله: "إنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه" أحاط به "شهران عظيمان: الشهر الحرام" رجب "وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولا عنه" مع رفع الأعمال فيه إلى الله "وكثيرا من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه" أي: شعبان "لأنه" أي: رجب "شهر حرام وليس كذلك".
فقد روى ابن وهب بسنده عن عائشة قالت: ذكر للنبي -صلى اله عليه وسلم- ناس يصومون شهر رجب، فقال: "فأين هم من شعبان" "وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد، منها: أن تكون" أي: الطاعة "أخفى، وإخفاء النوافل وأسرارها" عطف تفسير "أفضل لا سيما الصيام، فإنه سر بين العبد وربه ومنها: أنه أشق على النفوس؛ لأن النفوس تتأسى بما تشاهد من أحوال بني الجنس، فإذا كثرت يقظة الناس وطاعتهم سهلت الطاعات، وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسى" اقتدى "بهم عموم الناس فيشق على نفوس المستيقظين طاعاتهم لقلة من يقتدى بهم" وأفضل العمل أشقه، ومنها: أن المنفرد بالطاعة بين الغافلين قد يرفع به البلاء عن الناس.
"وقد روي في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان معنى آخر، وهو أنه تنسخ فيه الآجال" أي: تنقل(11/286)
فروي -بإسناد فيه ضعف- عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان؟ قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض، فأنا أحب أن لا ينسخ اسمي إلا وأنا صائم. وقد روي مرسلا، وقيل: إنه أصح.
وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط.
واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان الثاني، فإن الجمع بينهما
__________
وتفرد أسماء من يموت في تلك الليلة إلى مثلها من العام القابل، عن أسماء: من لم يمت من أم الكتاب فيكتب في صحيفة ويسلم إلى ملك الموت.
"فروي" عند أبي يعلى والخطيب وغيرهما "بإسناد فيه ضعف، عن عائشة قالت: كان أكثر صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- في شعبان، فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان" وفي رواية: أرى أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان "قال: إن هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت أسماء من يقبض" بالبناء للمفعول، ويجوز للفاعل، أي: ملك الموت روحه من شعبان إلى شعبان "فأحب أن لا ينسخ:" يكتب "اسمي إلا وأنا صائم".
وفي رواية أبي يعلى: إن الله يكتب كل نفس ميتة تلك السنة، فأحب أن يأتيني أجلي وأنا صائم، أي يأتيني كتابة أجلي، وفيه: أن كتابته في زمن عبادة يرجى لصاحبها الموت على خير، وإن من أولى تلك العبادة الصوم؛ لأنه يروض النفوس وينور الباطن ويفرغ القلب للحضور مع الله.
"وفي روي مرسلا" عن التابعي بدون ذكر عائشة "وقيل: إنه أصح" من وصله بذكرها "وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتمرين:" التعويد "على صيام رمضان لئلا يدخل في صيامه على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن الصوم واعاده" عطف تفسير "ووجد بصيام شعبان قبل رمضان حلاوة الصوم ولذته" تفسير لحلاوة "فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط، واعلم أنه لا تعارض بين هذا وبين النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين" كما في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة مرفوعا: "لا يقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يوم صومه فليتم ذلك اليوم".
"وكذا ما جاء في النهي عن صوم نصف شعبان، الثاني" في أبي داود وغيره مرفوعًا:(11/287)
ظاهر، بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صيام اعتاده.
وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم، مع قوله: "إن أفضل الصيام ما يقع فيه" بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم، أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم.
وأما شهر رجب بخصوصه -وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره- فلم يعلم أنه صح أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس، مما صحح وقفه، أنه نهى عن صيامه. ذكره ابن ماجه لكن في سنن أبي داود: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم، ورجب أحدها. وفي حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له: "صم من الأشهر
__________
إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان" "فإن الجمع بينهما ظاهر بأن يحمل النهي على من لم تدخل تلك الأيام في صوم اعتاده" كما نص عليه بقوله: إلا رجل.. إلخ.
"وأجاب النووي عن كونه عليه السلام لم يكثر الصوم في المحرم مع قوله" ما معناه: "أن أفضل الصيام ما يقع فيه" وسبق لفظه قريبا "بأنه يحتمل أن يكون ما علم ذلك إلا في آخر عمره، فلم يتمكن من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصيام "أو اتفق له فيه من الأعذار كالسفر ما منعه من كثرة الصوم في المحرم" لا من أصل الصوم فيه، فإنه كان يصوم.
"وأما شهر رجب بخصوصه، وقد قال بعض الشافعية: إنه أفضل من سائر الشهور، وضعفه النووي وغيره،" جملة معترضة بين أما وجوابها وهو: "فلم يعلم أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، بل روي عنه من حديث ابن عباس مما صحح وقفه" على ابن عباس "أنه نهى عن صيامه ذكره" أي: رواه "ابن ماجه" عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن صيام رجب كله.
قال الذهبي وغيره: حديث لا يصح فيه راو ضعيف متروك، وقد أخذ به الحنابلة، فقالوا: يكره إفراده بالصوم وهل هو صوم كله، أو أن لا يقرن به شهر آخر وجهان عندهم.
"لكن في سنن أبي داود أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها" فيندب صومه "و" ذلك عنده، أعني أبا داود "في حديث مجيبة" بضم الميم وكسر الجيم بعدها تحتانية ثم موحدة امرأة من الصحابة، ويقال: هو اسم رجل كما في التقريب فيما يوجد في نسخة من المتن جحيفة من تصحيف الكتاب لا عبرة بها "الباهلية" بكسر الهاء(11/288)
"الحرم واترك"، قالها ثلاثا. وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم الأنصاري قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب -ونحن يومئذ في رجل- فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم. والظاهر: أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور.
وفي "اللطائف": روي عن الكتاني أخبرنا تمام الرازي حدثنا القاضي يوسف
__________
نسبة إلى باهلة، قبيلة "عن أبيها أو عمها" شك الراوي "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال له" أي: لأبيها أو عمها: "صم من الأشهر الحرم" بضمتين جمع حرام "واترك"، قالها" أي: هذه الجملة "ثلاثا" من المرات للتأكيد.
ولفظ أبي داود عن أبي السليل عن مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها؛ أنه أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئته، فقال: يا رسول الله أما تعرفني؟، قال: "من أنت"؟، قال الباهلي الذي جئتك عام الأول، قال: "فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة"؟، قال: ما أكلت طعاما منذ فارقتك إلا بليل، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لم عذبت نفسك"؟، ثم قال: "صم شهر الصبر رمضان ويوما من كل شهر"، قال: زدني فإن بي قوة، قال: "صم يومين"، قال: زدني، قال: "صم ثلاثا"، قال: زدني، قال: "صم من الحرم واترك"، صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك،" وقال: بأصابعه الثلاثة فضمها ثم أرسلها.
"وفي رواية مسلم عن عثمان بن حكيم:" بفتح الحاء وكسر الكاف ابن عبادة بن حنيف بمهملة ونون وفاء مصغر "الأنصاري" الأوسي، المدني ثم الكوفي "قال: سألت سعيد بن جبير عن صوم رجب ونحن يومئذ في رجب، فقال: سمعت ابن عباس يقول: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى" ينتهي صومه إلى غاية "نقول: لا يفطر ويفطر حتى" ينتهي حاله إلى غاية "نقول: لا يصوم، والظاهر أن مراد سعيد بهذا الاستدلال على أنه لا نهي عنه ولا ندب فيه بعينه، بل له حكم باقي الشهور" إذ لم يثبت في صومه نهي ولا ندب بعينه، وإن كان أصل الصوم مندوبًا إليه، نعم حديث الباهلي قبله: قد يقتضي ندب الصوم منه.
"وفي اللطائف" لابن رجب الحنبلي: "روي عن الكتاني" بفتح الكاف وشد الفوقية نسبة إلى الكتان عبد العزيز بن أحمد التميمي، الدمشقي، الصوفي، الإمام المحدث المتقن، سمع الكثير وألف وجمع "أنا" اختصار في الكتابة، لقوله: أخبرنا "تمام" بن محمد بن عبد الله بن جعفر "الرازي" الأصل ثم الدمشقي، ولد بها وسمع أباه وخلقا، وعنه جماعة: كان حافظا عالما بالحديث والرجال خيرا، قال تلميذه الكتاني: كان ثقة لم أر أحفظ منه في حديث الشاميين "أنا(11/289)
حدثنا محمد بن إسحاق السراج حدثنا يوسف بن موسى السراج حدثنا حجاج بن منهال حدثنا حماد بن سلمة أخبرنا حبيب المعلم عن عطاء أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في رجب؟ قال: نعم ويشرفه، قالها ثلاثا، أخرجه أبو داود وغيره.
وعن أبي قلابة قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب. قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين لا يقوله إلا عن بلاغ.
الفصل الرابع: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة
والمراد بها الأيام التسعة من أول ذي الحجة.
__________
القاضي يوسف" بن يعقوب إسماعيل بن حماد بن زيد البصري ثم البغدادي الإمام الحافظ الثقة الصالح، العفيف المهاب، الشديد على الحكام، ولي قضاء البصرة وواسط "حدثنا" اختصار لحدثنا في الكتابة "محمد بن إسحاق السراج" بشدة الراء الحافظ، قال: "حدثنا يوسف بن موسى السراج، حدثنا حجاج بن منهال" بكسر الميم السلمي مولاهم البصري من رجال الجميع، قال: "حدثنا حماد بن سلمة" بن دينار من رجال مسلم "حدثنا حبيب المعلم" البصري مولى معقل بن يسار، قيل: اسم أبيه زائدة، وقيل: زيد "عن عطاء" بن أبي رباح "أن عروة" بن الزبير "قال لعبد الله بن عمر" بن الخطاب: "هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم في رجل؟، قال: نعم ويشرفه" أي: يذكر أن فيه فضلا "قالها ثلاثا" أي: ثلاث مرات "أخرجه أبو داود وغيره" من طريق حجاج بن منهال به "وعن أبي قلابة" بكسر القاف وخفة اللام وموحدة عبد الله بن زيد الجرمي بفتح الجيم وإسكان الراء البصري "قال: إن في الجنة قصرا لصوام رجب، قال البيهقي: أبو قلابة هذا من كبار التابعين، لا يقوله إلا عن بلاغ".
قال ابن رجب: وهذا أصح ما ورد فيه، وهذا كما قال غيره لا يقتضي صحته؛ لأنهم يعبرون بمثل ذلك في الضعيف كما يقولون أمثل ما في الباب، وهذا وإن صح عن أبي قلابة فهو مقطوع، إذ المقطوع قول التابعي وفعله.
وعند البيهقي عن أنس مرفوعا: "إن في الجنة نهرا يقال له رجل أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل، من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر"، ضعفه ابن الجوزي وغيره، وصرح الحافظ وغيره بأنه لم يثبت في صومه حديث صحيح.
"الفصل الرابع: في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة، والمراد بها الأيام التسعة من أول(11/290)
عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة. رواه أبو داود.
وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما في العشر قط. رواه مسلم والترمذي.
وهذا يوهم كراهة صوم العشر، وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد ثبت في صحيح البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه" يعني العشر الأول من ذي الحجة، واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لا ندراج الصوم في
__________
ذي الحجة؛" لأن العاشر العيد وصومه حرام "عن هنيدة" بهاء ونون مصغر "ابن خالد" الخزاعي، ويقال: النخعي ربيب عمر مذكور في الصحابة، وقيل: تابعي كبير، وذكره ابن حبان في الموضعين "عن امرأته:" لم أقف على اسمها وهي صحابية "عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم" هي حفصة، قاله الحافظ.
وقال المنذري: اختلف فيه على هنيدة، فمرة قال هكذا، ومرة عن حفصة ومرة عن أم سلمة "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة" ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى، هذا بقية ذا الحديث الذي "رواه أبو داود" والنسائي وأحمد وحسنه بعض الحفاظ، وقال الزيلعي: حديث ضعيف.
"وعن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائما في العشر قط" أي: عشر ذي الحجة، والمراد به التسع كما مر "رواه مسلم والترمذي وهذا يوهم كراهة صوم العشر" أي: التسع "وليس فيها كراهة، بل هي مستحبة استحبابا شديدا" فقد روى الترمذي وابن ماجه بسند فيه مقال عن أبي هريرة مرفوعا: "ما من أيام أحب إلى الله تعالى أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر" "لا سيما يوم التاسع منها وهو يوم عرفة" ولما صح أنه يكفر سنتين "فقد ثبت في صحيح البخاري" في كتاب العيد عن ابن عباس "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه، يعني العشر الأول من ذي الحجة" كذا ساقه المصنف، والذي في البخاري ما العمل في أيام أفضل منها في هذه.
قال الحافظ: كذا الأكثر الرواة بإبهام أيام، وفي رواية كريمة عن الكشميهني: ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه، وروايتها شاذة مخالفة لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ عن(11/291)
العمل.
واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد؟ وأجيب: بأنه محمول على الغالب.
ويتأول قولها -يعني عائشة: "لم يصم العشر" على أنه لم يصمه لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر، ويدل عليه حديث هيندة بن خالد الذي ذكرته.
قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في رواية القاسم بن أبي أيوب: ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى. وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي
__________
الكشميهني شيخ كريمة، بلفظ: "ما العمل في أيام أفضل منها في هذه العشر"، وكذا أخرجه أحمد وغيره ورواه الطيالسي في مسنده، والدارمي بلفظ: "ما العمل في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة"، ورواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما بلفظ: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر"، ولفظ الترمذي: "من هذه الأيام العشر" بدون يعني، وظن بعضهم أن قوله يعني تفسير من بعض رواته، لكن ما ذكرناه من رواية الطيالسي وغيره ظاهر في أنه من نفس الخبر. انتهى فلم يعز اللفظ الذي ساقه المصنف إلا لغير البخاري.
"واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة لاندراج الصوم في العمل" لشموله له وللصلاة والذكر والصدقة وغير ذلك "واستشكل بتحريم الصوم يوم العيد وأجيب بأنه محمول على الغالب" أي: الأكثر من الأيام العشرة "ويتأول" أي: يحمل "قولها، يعني عائشة: لم يصم العشر على أنه لم يصمه" حينا "لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما، أو أنها لم تره صائما فيه، ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر؛" لأنها إنما نفت رؤيتها.
"ويدل عليه حديث هنيدة بن خالد الذي ذكرته" أولا: كان يصوم تسع ذي الحجة والمثبت متقدم على النافي، وقد يقسم لتسع فلم يصمها عند عائشة وصام عند غيرها، ورد بأنه يبعد كل البعد أن يلازم عدة سنين على عدم صومه في نوبتها دون غيرها، فالجواب الأول أسد.
"قال الحافظ بن حجر: وقد وقع" عند الدارمي وأبي عوانة "في رواية القاسم بن أبي أيوب" عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله" العامل "في عشر الأضحى".
"وفي حديث جابر" بن عبد الله المروي "في صحيحي" بالتثنية "أبي عوانة وابن حبان" مرفوعا: "ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة، فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر(11/292)
الحجة" فقد ثبتت الفضيلة لأيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك: فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة، جمعا بين الحديث السابق وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة" رواه مسلم. أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه، وقال الداودي: لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه، وتعقب: بأن المراد: كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه، والذي يظهر أن السبب في امتياز
__________
ذي الحجة على غيرها من أيام السنة" وظهر بذلك أيضا أن المراد بالأيام في حديث ابن عباس: أيام عشر ذي الحجة، لكنه يشكل على ترجمة البخاري عليه باب فضل العلم في أيام التشريق، وأجيب بأن الشيء يشرف بمجاورة الشريف وأيام التشريق تلو أيام العشر الثابت لها الفضيلة بهذا الحديث فثبتت لأيام التشريق، وبأن شرف العشر إنما هو لوقوع أعمال الحج فيه، وباقي أعماله تقع في أيام التشريق، كرمي وطواف وغيرهما من تتماته فاشتركت معها في أصل الفضل، وبأن ختام العشر مفتتح أيام التشريق، فمهما ثبت للعشر من الفضل شاركتها فيه؛ لأنه يوم العيد بعضها، بل هو رأس كل منهما وشريفه وهو يوم الحج الأكبر.
"وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة؛ لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعا بين الحديث السابق، وبين حديث أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة"، رواه مسلم" ومر شرحه "أشار إلى ذلك كله النووي في شرحه" على مسلم.
"وقال الداودي" أحمد بن نصر في شرح البخاري: "لم يرد عليه السلام أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة؛ لأنه قد" للتحقيق "يكون منها يوم الجمعة، يعني: فيلزم تفضيل الشيء على نفسه" وهو باطل "وتعقب بأن المراد كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة سواء كان يوم الجمعة أم لا ويوم الجمعة فيه" أي: في العشر "أفضل من يوم الجمعة في غيره لاجتماع الفضيلتين فيه" أي: كونه من أيام العشر وكونه يوم الجمعة "والذي يظهر(11/293)
عشر ذي الحجة إمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها. وعلى هذا: يخص الفضل بالحاج أو يعم المقيم؟ فيه احتمال. انتهى.
وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل، عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان؟ فالجواب: أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر ولا أغيظ ولا أحقر منه فيه، وهو يوم عرفة، ولكون صيامه يكفر سنتين، ولاشتمالها على أعظم الأيام عند الله حرمة وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر، وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل في قوله: "ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله: "ما من أيام" دون
__________
أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة" بالفضل على غيره "إمكان اجتماع أمهات" أي: أصول "العبادة فيه وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيرها، وعلى هذا هل يخص الفضل بالحاج" لأنه الذي تميزت به "أو يعم المقيم فيه احتمال" والثاني ظاهر الحديث لاسيما على رواية: "ما من عمل أزكى عند الله ولا أعظم أجرا من خير يعمله في عشر الأضحى"، فإن المتبادر منه تفضيل عمل، أي: عامل وإن لم يكن حاجا. "انتهى" كلام الحافظ.
"وقال أبو أمامة ابن النقاش: فإن قلت: أيما أفضل عشر ذي الحجة أو العشر الأواخر من رمضان، فالجواب أن أيام عشر ذي الحجة أفضل لاشتمالها على اليوم الذي ما رئي" بالبناء للمفعول "الشيطان في يوم غير يوم بدر أدحر" بفتح الهمزة وإسكان الدال وفتح الحاء وراء مهملات، أي: أبعد من الخير.
قال تعالى: {مَدْحُورًا} [الأعراف: 18] ، أي: مبعدا من رحمة الله تعالى "ولا أغيظ" أشد غيظا محيطا بكبده وهو أشد الحنق "ولا أحقر" أذل وأهون عند نفسه؛ لأنه عند الناس حقر أبدا "منه فيه وهو يوم عرفة" قال -صلى الله عليه وسلم: "وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام"، خرجه مالك "ولكون صيامه يكفر سنتين" الماضية والآتية "ولاشتمالها" أي: العشر "على أعظم الأيام حرمة عند الله وهو يوم النحر الذي سماه الله تعالى يوم الحج الأكبر وليالي عشر رمضان الأخير أفضل لاشتمالها على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومن تأمل هذا الجواب وجده كافيا شافيا، أشار إليه الفاضل المفضل" صلى الله عليه وسلم "في قوله: "ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة" الحديث، فتأمل قوله: "ما(11/294)
أن يقول: ما من عشر ونحوه. ومن أجاب بغير هذا التفضيل لم يدل بحجة صحيحة صريحا.
الفصل الخامس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع
عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام يوم الاثنين والخميس. رواه الترمذي والنسائي.
__________
من أيام دون أن يقول ما من عشر ونحوه" يرد عليه رواية في عشر الأضحى السابقة قريبا، وليس فيها لفظ أيام "ومن أجاب بغير هذا التفضيل. لم يدل" أي: لم يبين ما ذهب إليه "بحجة صحيحة" وهذا قد تعقب بأن الأيام إذا أطلقت دخل فيها الليالي تبعا.
وفي البزار وغيره عن جابر مرفوعا: "أفضل أيام الدنيا أيام العشر"، وقد أقسم الله بها في قوله: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1] ، ولو صح حديث أبي هريرة عند الترمذي قيام ليلة منها بقيام ليلة القدر لكان "صريحًا" في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإن عشر رمضان فضل بليلة واحدة، وهذا جميع لياليه متساوية، والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخرين أن مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها. انتهى، على أن كون ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان غير محقق، إذ في تعيينها أقوال كثيرة مرت قبل هذا الموضع.
"الفصل الخامس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع" أي: ذكر الأحاديث في أيام صومه عليه السلام من الأسبوع.
"عن عائشة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يتحرى صيام الاثنين والخميس" أي: يتعمد صيامهما أو يجتهد في إيقاع الصوم فيهما؛ لأن الأعمال تعرض فيهما كما يأتي؛ ولأنه تعالى يغفر فيهما لكل مسلم إلا المتهاجرين كما رواه أحمد، ولا يشكل استعمال الاثنين بالنون مع تصريحهم بأن المثنى والملحق به يلزم الألف إذا جعل علما ويعرب بالحركات؛ لأن عائشة من أهل اللسان، فدل على أنه لغة "رواه الترمذي والنسائي" وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب، وأعله ابن القطان برواية عن عائشة: وهو ربيعة الجرشى وهو مجهول.
قال الحافظ: وأخطأ فيه فهو صحابي، وتعقب بأن إطلاقه التخطئة غير صواب، فإنه قال في تقريبه: مختلف في صحبته، وسبقه إلى ذلك شيخه الزين العراقي، فقال في شرح الترمذي: إنه مختلف في صحبته، وذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى في الصحابة، وفي الصغرى في(11/295)
وعن أبي قتادة قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي". رواه مسلم.
وعن أبي هريرة أن -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال على الله تعالى يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه الترمذي.
وعن أسامة بن زيد: قلت: يا رسول الله، إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر، وتفطر حتى لا تكاد تصوم، إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما، قال:
__________
التابعين: وكذا ذكره ابن حبان في الصحابة، وفي التابعين، وقال الواقدي: سمع النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حاتم: لا صحبة له، وذكره أبو زرعة الرازي في الطبقة الثالثة من التابعين.
"وعن أبي قتادة" الحارث أو عمرو، أو النعمان الأنصاري "قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن صوم الاثنين، فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل علي" {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} إلى قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1-5] ".
قال الطيبي: أي فيه وجود نبيكم ونزول كتابكم وثبوت نبوته، فأي يوم أفضل وأولى للصائم منه فاقتصر على العلة، أي: سلوا عن فضيلته؛ لأنه لا مقال في صيامه فهو من أسلوب الحكيم. انتهى.
والمتبادر أن السؤال عن فضيلته فالجواب طبق السؤال، إذ لا يليق سؤال الصحابي عن جواز صيامه، لا سيما إن رأى أو علم أنه -صلى الله عليه وسلم- صامه، وحاصل التنزل أنه لا بد من تقدير مضاف وهو إما فضل وإما جواز، إذ لا معنى للسؤال عن نفس الصوم، فدل الجواب على أن التقدير فضل "رواه مسلم" هكذا مختصرًا، ورواه قبله في حديث طويل عن أبي قتادة بلفظ: وسئل عن صوم الاثنين، فقال: "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت، أو أنزل علي فيه".
قال المصنف في شرحه: يحتمل أن يريد بقوله: بعثت: أنزل القرآن عليه، فإنه ما بعثت حتى أنزل عليه اقرأ، فمعناه ومعنى أنزل علي واحد، والشك من الراوي.
ويحتمل أن يراد بقوله: أنزل علي سورة المدثر؛ لأنها نزلت بعد فترة الوحي. انتهى، لكن إنما يتأتى هذا لو كان، وأنزل علي بالواو، وأما وهو بأو فالمتبادر أنها شك.
"وعن أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعرض الأعمال" أي: يعرضها ملك موكل بجمعها "على الله يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض عملي" على الله تعالى "وأنا صائم" لما فيه من الثواب الذي لا يعلمه غيره "رواه الترمذي".
"وعن أسامة بن زيد" الحب ابن الحب "قلت: يا رسول الله إنك تصوم حتى لا تكاد" تقارب "تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين، إن دخلا في صيامك" صمتهما "وإلا"(11/296)
"أي يومين"؟ قلت: يوم الاثنين والخميس، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". رواه النسائي.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] قال: يكتب كل ما تكلم به من خير وشر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، وهذا
__________
يدخله فيه، بل في فطرك "صمتهما؟، قال: "أي يومين"؟، قلت: "يوم الاثنين والخميس"، قال: "ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم"، رواه النسائي".
"وروى علي بن أبي طلحة" سالم مولى بني العباس صدوق وقد يخطئ، أرسل عن ابن عباس ولم يره، قاله في التقريب.
"عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} مراقب {عَتِيدٌ} ، حاضر "قال: يكتب" المتلقيان المذكوران في قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] .
قال ابن عطية: وهما الملكان الموكلان بكل إنسان، ملك اليمين كاتب الحسنات، وملك الشمال كاتب السيئات، فيكتب كاتب الحسنات "كل ما تكلم به" متكلم "من خير و" يكتب كاتب السيئات كل ما تكلم به من "شر، حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت وذهبت وجئت ورأيت" أي أن كاتب السيئات يكتب حتى المباحات كالمذكورات "حتى إذا كان" وجد "يوم الخميس عرض قوله وعمله" على الله تعالى "فأقر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقى سائره" وهو المباح، وهذا نقل نحوه ابن عطية عن الحسن البصري وقتادة وغيرهما، ونقل عن عكرمة أنهما يكتبان الخير والشر، وما خرج عنهما لا يكتب، قال: والأول هو الصواب وهو ظاهر هذه الآية.
وروي أن رجلا قال لجمله: حل، فقال ملك اليمين: لا أكتبها، وقال ملك الشمال: لا أكتبها، فأوحى الله إلى ملك الشمال أن اكتب ما ترك صاحب اليمين، قال: وهذه اللفظة إذا اعتبرت فهي بحسب مشيه بيعيره، فإن كان في طاعة فحل حسنة، وإن كان في معصية فهي سيئة، والمتوسط بين هذين عسير الوجود، فلا بد أن يقترن بكل أحوال المرء قرائن تخلصها للخير أو لخلافه. انتهى.(11/297)
عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص دائم بكرة وعشيا. ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات فقال: "إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل" الحديث.
__________
"وهذا عرض خاص في هذين الوقتين غير العرض العام كل يوم، فإن ذلك عرض خاص" بكل يوم فتغايرا، وفي نسخة عرض عام وهي ظاهرة "دائم بكرة وعشيا" وفي جميع ذلك حكم: خفية وإلا فلا يخفى عليه شيء.
"ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم" في الإيمان "عن أبي موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري، قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخمس كلمات" أي: جمل "فقال: إن الله تعالى لا ينام" أي لا يقع منه نوم "ولا ينبغي" لا يصح "له أن ينام" لأنه موت وهو الحي الدائم الباقي؛ ولأنه هواه ينزل من أعلى الدماغ يفقد معه الحس تعالى الله عن ذلك، فتعلق نفي الأول الوقوع، والثاني الصحة، فالعطف تأسيس إذ لا يلزم من نفي الوقوع نفي الصحة "يخفض القسط" بكسر القاف "ويرفعه" قيل: هو الميزان لحديث أبي هريرة عند الشيخين، وبيده الميزان يخفض ويرفع، وقيل: هو نصيب كل مخلوق من الرزق وخفضه ورفعه كنايتان عن التقليل والتكثير، وقيل: هو الشريعة يرفعها، أي يظهرها بوجود الأنبياء والعلماء ويخفضها بدرس الحق والرجوع عن اتباعه "يرفع" إلى المحل المضاف "إليه" تعظيما له الذي يقبض فيه أعمال العباد والعله سدرة المنتهى، أو إلى الملائكة الموكلين بقبض ذلك كما يقال: رفع المال إلى الملك، أي إلى زانته، أو إلى من أقامه لقبضه؛ لأنه تعالى لا يجوز تخصيصه بجهة ولا مكان "عمل الليل قبل" الأخذ في عمل "النهار" أي في آخر النهار "وعمل النهار قبل" الأخذ في عمل "الليل" أي في آخره قبل فراغه، فلا خلاف بين هذا وبين الرواية الثانية لمسلم يرفع إليه عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار.
هكذا قرره القرطبي فجعله من مجاز الحذف بدليل الرواية الثانية ويشهد له حديث: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر"، فإنه يقتضي أن عمل النهار يرفع بالنهار وعمل الليل بالليل، إذا جعل ما بعد الفجر من الليل، وجمع النووي بأن عمل الليل يرفع بأول النهار الذي يليه، وعمل النهار بأول الليل الذي يليه؛ لأن الملائكة إنما تصعد بعمل الليل قبل انقضائه في أول النهار وتصعد بعمل النهار بعد انقضائه في أول الليل. انتهى، وهو أيضا مجاز وكلاهما حسن "الحديث" تمامه حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات(11/298)
وعن أم سلمة كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام: الاثنين والخميس من هذه الجمعة، والاثنين من المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه. رواه النسائي.
وعن عائشة: كان يصوم من الشهر: السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي.
وعن كريب، مولى ابن عباس، قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟ قالت: السبت والأحد، ويقول: "إنهما عيدا المشركين، وأنا أحب أن أخالفهما". رواه أحمد والنسائي، وفيه محمد بن عمر، ولا يعرف حاله، ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا.
__________
وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
"وعن أم سلمة" هند أم المؤمنين قالت: "كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم في كل شهر ثلاثة أيام الاثنين والخميس من هذه الجمعة" الأولى من الشهر، فيصوم أول اثنين منه وخميس "والاثنين من" الجمعة "المقبلة، وفي أول اثنين من الشهر، ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة المقبلة، أي أنه كان تارة يفعل هذا، وأخرى هذا، والبداءة بالاثنين فيهما "رواه النسائي".
"وعن عائشة: كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس" فبين أن صيام الثلاثة يكون في جميع الأسبوع ولم يوال الستة لئلا يشق على أمته ولم يذكر الجمعة في هذا الحديث، وذكره في حديث ابن مسعود، بلفظ: فلما كان يفطر يوم الجمعة "رواه الترمذي" وقال: حسن.
"وعن كريب" بضم الكاف مصغر "مولى ابن عباس قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى أم سلمة أسألها: أي الأيام كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أكثرها صياما؟، قالت: السبت والأحد، ويقول:" يبانا لذلك "إنهما عيدا" بالتثنية "المشركين" اليهود والنصارى "وأنا أحب أن أخالفهما"، رواه أحمد والنسائي وفيه محمد بن عمر" بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي "ولا يعرف حاله" أي أنه مجهول "ويرويه عنه ابنه عبد الله بن محمد ولا يعرف حاله أيضا" لكونه مجهولا، كذا جزم المصنف بأنهما مجهولان، وهو خلاف قول الحافظ في التقريب أن محمدا صدوق، وعبد الله ابنه مقبول بموحدة، أي: في روايته.(11/299)
وعن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي.
قال بعضهم: لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة، فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد. قالوا: ونظير هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن
__________
"وعن عبد الله بن بسر" بضم الموحدة وإسكان المهملة الصحابي "عن أخته الصماء" بنت بسر المازنية يقال: اسمها بهيمة، لها صحبة، وحديث: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم" أي لا تقصدوا صومه إلا في فرض كمن أسلم، أو أفاق من جنون أو مرض أو بلغ، ولم يبق من الشهر إلا السبت فيصومه "فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء" بكسر وحاء مهملة والمد والقصر قشر "عنبة أو عود شجرة فليمضغه" في رواية: فليمصه، وفي أخرى: فليفطر عليه.
قال الحافظ العراقي: هذا مبالغة في النهي عنه؛ لأن قشر شجر العنب جاف لا رطوبة فيه البتة، بخلاف قشر غيره من الأشجار والنهي للتنزيه، وعليه الشافعية وبعض الحنفية، وذهب الجمهور ومالك وأحمد إلى أنه لا كراهة "رواه أحمد وأبو داود والترمذي" وقال: حسن "وابن ماجه والدارمي" والنسائي والحاكم وصححه، وأعل بأن له معارضا بسند صحيح، ويقول مالك: هذا الخبر كذب، ويقول النسائي: ضطرب، فقيل: هكذا عن ابن بسر عن أخته، وقيل: عن ابن بسر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة، وقيل: عنه عن أبيه، وقيل: عن أخته عن أبيه عن عائشة.
قل الحافظ: وبالجملة فهذا التلون، أي الاضطراب في حديث واحد بسند واحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه ويضعف ضبطه إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع الطرق وهنا ليس كذلك. انتهى.
وقال أبو داود: إنه منسوخ، ورجح واعترض.
وقال الإمام أحمد: هذا الحديث على ما فيه يعارضه حديث أم سلمة، يعني الذي قبله، وحديث: نهي عن صوم الجمعة إلا بيوم قبله أو يوم بعده، فالذي بعده السبت وأمر بصوم المحرم وفيه السبت.
"قال بعضهم:" جوابا عن هذا "لا تعارض بينه وبين حديث أم سلمة" السابق "فإن النهي عن صومه إنما هو عن إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود، فقال: باب النهي أن يخص يوم السبت بالصوم، وحديث: صيامه إنما هو مع يوم الأحد" ورد ذلك الأثر بأن الاستثناء هنا دليل(11/300)
إفراد يوم الجمعة بالصوم إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده.
قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: "لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن، فقد رأيت بعض أهل العلم يصومه، وأراه كان يتحراه فهذا الذي قاله هو الذي رآه، وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو، والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة فتعين القول به، ومالك معذور فإنه لم يبلغه. قال الداودي من أصحاب مالك: ولم يبلغ مالكًا هذا الحديث ولو بلغه لم يخالفه.
قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة، وأدائها بنشاط وانشراح لها، والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة.
__________
التناول وهو يقتضي أنه عم صومه على كل وجه، وإلا لما دخل المفترض حتى يستثنى، فإنه لا إفراد فيه "قالوا: ونظير هذا أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما بعده" كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا يصومن أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو بعده".
"قال النووي: وأما قول مالك في الموطأ: لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه" الاجتهاد "ومن يقتدى به ينهى عن صيام يوم الجمعة وصيامه حسن" أي مستحب لحديث ابن مسعود: كان -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقلما رأيته يفطر يوم الجمعة، ورواه الترمذي وحسنه وصححه أبو عمر "وقد رأيت بعض أهل العلم" قيل: إنه محمد بن المنكدر، وقيل: صفوان بن سليم "يصومه وأراه" بضم الهمزة أظنه "كان يتحراه" يقصده.
قال الباجي: أراد به الإخبار لا الاختيار لرواية ابن القاسم عنه كراهة صوم يوم موقت أو شهر "فهذا الذي قاله هو الذي رآه وقد رأى غيره خلاف ما رأى هو والسنة مقدمة على ما رآه هو وغيره، وقد ثبت النهي عن صوم يوم الجمعة" وهو للتنزيه "فتعين القول به ومالك معذور فإنه لم يبلغه".
"قال الداودي من أصحاب مالك" أي: أهل مذهبه "ولم يبلغ مالكا الحديث، ولو بلغه لم يخالفه، قالوا: واستحباب الفطر يوم الجمعة ليكون أعون له على وظائف العبادات المشروعة في الجمعة وأدائها بنشاط، وانشراح لها والتلذذ بها من غير ملل ولا سآمة كالحاج بعرفة" ولا يشكل عليه أن كراهة صوم يوم للحاج لا تزول بصوم يوم قبله؛ لأن(11/301)
فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصوم يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، فالجواب: أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه. والله أعلم.
الفصل السادس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض
وهي التي يكون فيها القمر من أول الليل إلى آخره، وهي: ثلاث عشرة، وأربع عشرة وخمس عشرة، وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض فصح قول من قال: الأيام البيض، على الوصف، واليوم الكامل هو النهار بليلته. وفيه رد لقول الجاليقي: من قال الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم.
__________
في اليوم الذي قبله اشتغالا بالتروية، والإحرام بالحج لمن لم يكن أحرم ففيه شيء من معنى يوم عرفة.
"فإن قلت: لو كان كذلك لم يزل النهي والكراهة بصيام يوم قبله أو بعده لبقاء المعنى، والجواب أنه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده، ما يجبر ما قد يحصل له من فتور أو تقصير في وظائف الجمعة بسبب صومه، والله أعلم" وهو جواب لين، والأولى التعليل بالاتباع.
وفي المستدرك مرفوعًا: "يوم الجمعة عيد فلا تجعلوا يوم عيدكم يوم صيامكم، إلا أن تصوموا قبله أو بعده"، فقيل: علة النهي كونه عيدا لهذا الحديث.
"الفصل السادس: في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض، وهي التي كون فيها القمر" أي يوجد أو موجودا "من أول الليل إلى آخره" فسميت بيضا لابيضاضها ليلا بالقمر ونهارا بالشمس، وقيل: لأن الله تاب فيها على آدم وبيض صحيفته "وهي" كما قال البخاري "ثلاث عشرة" أي: اليوم المتمم لها "وأربع عشرة وخمس عشرة" وللكشميهني ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر، وهذا باعتبار الأيام والأول باعتبار الليالي "وليس في الشهر يوم أبيض كله" بليلته "إلا هذه الأيام؛ لأن ليلها أبيض ونهارها أبيض، فصح قول من قال: الأيام البيض على الوصف واليوم الكامل هو النهار بليلته، وفيه رد على الجواليقي:" بفتح الجيم نسبة إلى الجواليق جمع جوالق بضم الجيم وكسر اللام وبالقاف "من قال: الأيام البيض فجعل البيض صفة الأيام فقد أخطأ. والله أعلم".(11/302)
عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر. رواه النسائي.
وعن حفصة: أربع لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد.
وعن معاذة العدوية: أنها سألت عائشة: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقالت لها: من أي أيام الشهر كان يصوم؟ قالت: ما
__________
هكذا قاله في فتح الباري وتعقبه العيني بأنه لا يصح قوله: اليوم الكامل هو النهار بليلته؛ لأن اليوم الكامل لغة من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعا من طلوع الفجر الصادق ولا دخل لليلة في حد النهار، وقوله: ونهارها أبيض يقتضي أن بياض نهار أيام البيض من بياض الليلة، وليس كذلك؛ لأن بياض الأيام كلها بالذات وأيام الشهر كلها بيض، فسقط قوله: وليس في الشهر يوم أبيض كله إلا هذه الأيام.
قال المصنف: وما قاله في الفتح سبقه إليه ابن المنير، فقال: أنكر بعض اللغويين أن يقال: الأيام البيض، وقال: إنما هي الليالي البيض، وإلا فالأيام كلها بيض وهذا وهم منه، والحديث يرد عليه، أي ما ذكره ابن بطال عن شعبة عن أنس بن سيرين عن عبد الملك بن النهال عن أبيه، قال: أمرني النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأيام البيض وقال: "هو صوم الدهر"، قال: واليوم اسم يدخل فيه الليل والنهار وما كل يوم أبيض بجملته إلا هذه الأيام، فإن نهارها أبيض وليلها أبيض، فصارت كلها بيضا، قال: وأظنه سبق إلى وهمه أن اليوم هو النهار خاصة. انتهى.
قال في المصابيح: الظاهر أن مثل هذا ليس يوهم، فإن اليوم وإن كان عبارة عن الليل والنهار جميعا لكنه بالنسبة إلى الصوم إنما هو النهار خاصة، وعليه فكل يوم يصام هو أبيض لعموم الضوء فيه من طلوع الفر إلى غروب الشمس. انتهى.
"عن ابن عباس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يفطر أيام" الليالي "البيض في حضر ولا سفر، رواه النسائي".
"وعن حفصة" أم المؤمنين: "أربع لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعهن" أي: لم يترك شيئا منهن، فالنفي لعموم السلب لا لسلب العموم" صيام عاشوراء والعشر" من ذي الحجة، أي: التسع كا عبرت به حفصة فيما مر قريبا: كان يصوم تسع ذي الحجة "وأيام البيض من كل شهر، وركعتا الفجر، رواه أحمد" بن حنبل.
"وعن معاذة" بنت عبد الله "العدوية" أم الصهباء البصرية ثقة، روى لها الجميع؛ "أنها سألت عائشة: أكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟، قالت: نعم" كان يصومها،(11/303)
كان يبالي من أي أيام الشهر يصوم. رواه مسلم.
قال بعضهم: لعله -صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها.
قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر.
وقد تحصل أن صيامه -صلى الله عليه وسلم- في الشهر على أوجه:
الأول: أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر، ثم الخميس ثم الخميس الذي يليه، رواه النسائي.
الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء والأربعاء والخميس. رواه الترمذي.
__________
لأن صومها يعدل صيام الدهر "فقالت لها: من أي شهر كان يصوم؟، قالت: لم يكن يبالي من أي أيام الشهر يصوم، رواه مسلم" وبه جمع البيهقي بين أحاديث غير عائشة المعينة المختلفة التعيين، فقال: كل من رآه فعل نوعا ذكره، ورأت عائشة جميع ذلك فأطلقت: ونحوه قول المصنف.
"قال بعضهم: لعله -صلى الله عليه وسلم- لم يواظب على ثلاثة معينة لئلا يظن تعيينها، قال: وقد جعل الله تعالى صيام هذه الثلاثة أيام من الشهر بمنزلة صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها" وأصله قوله -صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان، فذلك صيام الدهر"، رواه مسلم.
وفي الصحيحين قوله -صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو: "وصم من الشهر ثلاثة أيام، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، وذلك مثل صام الدهر".
"وقد روى أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة من حديث ابن مسعود، قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصوم ثلاثة أيام من غرة كل شهر" بضم المعجمة وشد الراء، أي: أوله "وقد تحصل" مما سبق "أن صيامه -صلى الله عليه وسلم- في الشهر على أوجه:".
"الأول أنه كان يصوم أول اثنين من الشهر ثم الخميس" التالي له "ثم الخميس الذي يليه" من الجمعة الثانية "رواه النسائي" عن أم سلمة.
"الثاني: أنه كان يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس، رواه الترمذي" عن عائشة: "الثالث أيام البيض ثالث عشر ورابع عشر(11/304)
الثالث: أيام البيض، ثالث عشر، ورابع عشر، وخامس عشر.
الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم.
الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر، واختاره جماعة منهم: الحسن وهو ما رواه أصحاب السنن عن حديث ابن مسعود.
قال القاضي عياض: واختار النخعي صوم ثلاث أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون: أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس. وقال ابن شعبان من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر، والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء، وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمر "وصم من كل عشرة أيام يوما" وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود وهي السابع والعشرون
__________
وخامس عشر" كما جاء تعيينها بهذه في النسائي بسند صحيح عن جرير، رفعه: صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر وأيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، وفي رواية: أيام البيض بلا واو.
"الرابع: أنه كان يصوم ثلاثة غير معينة كما روته معاذة عن عائشة عند مسلم" واعتمده مالك، فاستحب ثلاثة من كل شهر بلا تعيين.
"الخامس: أنه كان يصوم ثلاثة من أول الشهر واختاره جماعة منهم الحسن، وهو ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن مسعود" مبادرة بالعبادة؛ ولأن الإنسان لا يدري ما يعرض له.
"قال القاضي عياض: واختار النخعي" إبراهيم من التابعين: "ثلاثة أيام من آخر الشهر لتكون كفارة لما مضى، واختار آخرون أول يوم من الشهر والعاشر والعشرين، وقيل: إنه صيام مالك بن أنس، وقال ابن شعبان" محمد "من المالكية: أول يوم من الشهر والحادي عشر والحادي والعشرون، ونقل ذلك عن أبي الدرداء" عويمر "وهو موافق لما رواه النسائي من حديث عبد الله بن عمرو" بن العاصي: "وصم من كل عشرة أيام يومًا" وإنما يوافق أن أريد به اليوم الأول من كل عشر، ولا دلالة في الحديث على ذلك؛ لأنه صادق بصيام يوم من الأول إلى آخر العشر.
"وحكى الأسنوي عن الماوردي أنه يستحب أيضا صوم الأيام السود، وهي السابع(11/305)
واليومان بعده.
وتترجح البيض بكونها وسط الشهر، ووسط الشيء أدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة، بخلاف من لم يصمها فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها.
ورجح بعضهم صيام الثلاثة في أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع. والله أعلم.
النوع الخامس: في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر:
اعلم أن الاعتكاف في اللغة: الحبس والمكث واللزوم.
__________
والعشرون واليومان بعده" الذي في شرح المصنف للبخاري.
قال الماوردي: ويسن صوم أيام السود الثامن والعشرين وتالييه، وينبغي أن يصام معها السابع والعشرون احتياطا، وخصت أيام البيض وأيام السود بذلك لتعميم ليالي الأولى بالنور، وليالي الثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكرًا والثانية لطلب كشف السواد؛ ولأن الشهر ضيف قد أشرف على الرحيل فناسب تزويده بذلك.
"وتترجح البيض بكونها وسط الشهر ووسط الشيء أعدله؛ ولأن الكسوف غالبا يقع فيها، وقد ورد الأمر بمزيد العبادة إذا وقع، فإذا اتفق الكسوف صادف الذي يعتاد صيام البيض صائما، فيتهيأ له أن يجمع بين أنواع العبادات من الصيام والصلاة والصدقة بخلاف من لم يصمها، فإنه لا يتهيأ له استدراك صيامها" ولا عند من يجوز صيام التطوع بغير نية من الليل، إلا أن صادف الكسوف من أول النهار، قاله الحافظ.
"ورجح بعضهم صيام الثلاثة من أول الشهر؛ لأن المرء لا يدري ما يعرض له من الموانع" كمرض وسفر "والله أعلم" بالحق من ذلك.
"النوع الخامس:" من الأنواع السبعة "في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه" أي قصده "ليلة القدر" أي بذل وسعه في تحصيلها "اعلم أن الاعتكاف في اللغة الحبس والمكث واللزوم" على الشيء خيرا كان أو شرا، قال تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، وقال سبحانه: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ(11/306)
وفي الشرع: المكث في المسجد من شخص مخصوص بصفة مخصوصة.
ومقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى، وجمعيته عليه، والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب منه، فيصير أنسه بالله بدلال عن أنسه بالخلق، ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له.
وليس بواجب إجماعا، إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم.
واحتلف في اشتراط الصوم له:
ومذهب الشافعي: أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر.
وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم، فلا يصح اعتكاف المفطر.
واحتج الشافعي باعتكافه -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأول من شوال. رواه البخاري ومسلم، وبحديث عمر: أنه قال: يا رسول الله، إني قد نذرت أن أعتكف ليلة في
__________
يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، "وفي الشرع المكث في المسجد" للعبادة "من شخص مخصوص بنية بصفة مخصوصة ومقصوده وروحه" أي الأمر الذي به قوامه، بحيث إذا فقد كان اعتكافه كعدمه، كما أن الروح إذا فارق الحيوان عدم "عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه والفكر في تحصيل مراضيه وما يقرب" بالتثقيل "منه" التقريب المعنوي "فيصير أنسه بالله بدلا عن أنسه بالخلق ليكون ذلك أنسه يوم الوحشة في القبر حين لا أنيس له" سوى الأعمال الصالحة "وليس بواجب إجماعا إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدا عند قوم" كالمالكية.
"واختلف في اشتراط الصوم له ومذهب الشافعي أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف، بل يصح اعتكاف المفطر، وقال مالك وأبو حنيفة والأكثرون: يشترط الصوم فلا يصح اعتكاف المفطر" ويكفي الصوم ولو نفلا "واحتج الشافعي باعتكافه -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأول من شوال، رواه البخاري ومسلم" في آخر حديث عن عائشة، وأجيب بأن المعنى كان ابتداؤه في العشر الأول، وهو صادق بما إذا ابتدأ باليوم الثاني فلا دليل فيه.
"وبحديث عمر" بن الخطاب "أنه قال: يا رسول الله إني قد نذرت أن أعتكف ليلة(11/307)
الجاهلية، فقال: "أوف بنذرك". رواه البخاري ومسلم، والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بشرط لصحة الاعتكاف.
واتفق العلماء على مشروطية المسجد للاعتكاف، إلا محمد بن عمر بن لبابة المالكي فأجازه في كل مكان. وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها وهو المكان المعد للصلاة فيه. وفيه قول قديم للشافعي.
وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات.
وخصه أبو يوسف بالواجب منه، وأما النفل ففي كل مسجد.
وقال الجمهور: بعمومه في كل مسجد إلا لمن تلزمه الجمعة، فاستحبه له
__________
في الجاهلية" فيه أن الاعتكاف من الشرائع القديمة "فقال" صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك"، رواه البخاري ومسلم والليل ليس محلا للصوم، فدل على أنه ليس بصحة الاعتكاف" وأجيب بأن في رواية لمسلم يوما بدل ليلة، وجمع ابن حبان وغيره بينهما؛ بأنه نذر اعتكاف يوم وليلة، فمن قال: ليلة أراد بيومها، ومن قال: يوما أراد بليلته، وقد جاء أمره بالصوم عند أبي داود والنسائي، بلفظ: قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اعتكف وصم"، وهو وإن كان في سنده مقال، لكنه انجبر برواية يوما ودعوى أنها شاذة لا تسمع، فمن شرط الشذوذ تعذر الجمع وقد أمكن.
"واتفق العلماء على مشروطية المسجد" أي: كونه شرط صحة "للاعتكاف" لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، والمراد تجامعوهن إجماعًا، حكاه ابن المنذر، فلو صح في غيره لم يختص تحريم المباشر به؛ لأن الجماع مناف للاعتكاف بإجماع، فعلم من ذكر المساجد أن الاعتكاف لا يكون إلا فيها.
وقد روى ابن جرير وغيره عن قتادة في سبب نزولها: كانوا إذا اعتكفوا فخرج رجل لحاجته فلقي امرأته جامها إن شاء ثم رجع إلى المسجد، فنهوا عن ذلك "إلا محمد بن عمر بن لبابه" بضم اللام وخفة الموحدتين "المالكي" من قدمائهم "فأجازه في كل مكان" وهو ضعيف "وأجاز الحنفية للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وهو المكان المعد للصلاة فيه، وهو قول قديم للشافعي" وله وجه في النظر؛ لأن المرأة عورة ومسجد بيتها ساتر لها فلا تحرم فضيلة الاعتكاف.
"وذهب أبو حنيفة وأحمد إلى اختصاصه بالمساجد التي تقام فيها الصلوات" الخمس لا المجهورة التي لا تقام فيها "وخصه أبو يوسف بالواجب منه" أي من الاعتكاف النذر "وأما النفل ففي كل مسجد، وقال الجمهور بعمومه في كل مسجد" لإطلاق الآية، إذ(11/308)
الشافعي في الجامع. وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة، ويجب الاعتكاف بالشروع عند مالك.
وخصه طائفة من السلف، كالزهري بالجامع مطلقا، وأومأ إليه الشافعي في القديم.
وخصه حذيفة بن اليمان بالمساجد الثلاثة، وعطاء بمسجدي مكة والمدينة. وابن المسيب بمسجد المدينة.
واتفقوا على أنه لا حد لأكثره، واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم. حكاه ابن قدامة. وعن مالك: يشترط عشرة أيام، وعنه: يوم أو يومان.
ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث، ولا يشترط القعود.
واتفقوا على فساده بالجماع.
وقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان. رواه
__________
لم تخص مسجدا "إلا لمن تلزمه الجمعة" بأن يجيء زمن اعتكافه "فاستحبه له الشافعي في الجامع وشرطه مالك؛ لأن الاعتكاف عنده ينقطع بالجمعة" فيجب عليه أن يخرج لها ويبطل اعتكافه على المشهور، فإن لم يخرج لها حرم عليه وفي بطلان اعتكافه قولان "ويجب الاعتكاف بالشروع" فيه "عند مالك، وخصه طائفة من السلف كالزهري بالجامع مطلقًا" أقيمت فيه الجمعة أم لا، فالمسجد غير الجامع لا يصح الاعتكاف فيه عنده.
"وأومأ إليه الشافعي في القديم وخصه حذيفة بن اليمان" الصحابي ابن الصحابي، مرت ترجمته غير ما مرة "بالمساجد الثلاثة وعطاء بمسجدي مكة والمدينة وابن المسيب بمسجد المدينة، واتفقوا على أنه لا حد لأكثره واختلفوا في أقله، فمن شرط فيه الصيام قال: أقله يوم، ومنهم من قال: يصح مع شرط الصيام في دون اليوم" بأن يعتكف بعض يوم هو صائم فيه؛ لأن الصيام لا يتبعض "حكاه ابن قدامة" بضم القاف.
"وعن مالك: يشترط عشرة أيام وعنه يوم أو يومان، ومن لم يشترط الصوم قالوا: أقله ما ينطبق عليه اسم لبث" بضم اللام إقامة في المسجد وهو ما زاد على قدر الطمأنينة في الصلاة "ولا يشترط القعود، واتفقوا على فساده بالجماع، وقد كان سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم(11/309)
البخاري ومسلم من حديث عائشة.
وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه. رواه البخاري.
وعن أبي سعيد الخدري أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط في قبة تركية، ثم أطلع رأسه فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس هذه الليلة -يعني ليلة القدر- ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت
__________
يعتكف العشر الأواخر من رمضان" كلها "رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة" كلاهما من طريق عروة ومسلم من طريق القاسم، كلاهما عنها مختصرا هكذا، وزاد في رواية لهما: حتى توفاه الله، وأخرجاه أيضا من طريق عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة مطولا وفيه قصة فلم يصب من أومأ للاعتراض على المتن به الموهم أن ما ذكره ليس في الصحيحين مختصرا مع أنه فيهما.
"وعن أبي هريرة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف كل عام عشرا" لفظ البخاري: يعتكف في كل رمضان عشرة أيام.
وعند النسائي عن أبي هريرة: كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان "فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه" لفظ البخاري: فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما، وسقط لأبي ذر لفظ: يوما، أي: لأنه علم بانقضاء أجله فاستكثر من الأعمال الصالحة تشريعا لأمته أن يجتهدوا في العمل إذا بلغوا أقصى العمر ليلقوا الله على خير أعمالهم؛ ولأنه -صلى الله عليه وسلم- اعتاد من جبريل أن يعارضه بالقرآن كل عام مرة واحدة، فلما عارضه في العام الأخير مرتين اعتكف فيه مثل ما كان يعتكف، والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية والأخير منها، فدخل العشر الأوسط فيها "رواه البخاري" من أفراده عن مسلم.
"وعن أبي سعيد الخدري أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتكف العشر الأول" بفتح الهمزة وشد الواو، وفي رواية: الأول بض الهمة وخفة الواو "من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط" قال النووي: هكذا هو في جميع النسخ، والمشهور في الاستعمال تأنيث العشر كما في أكثر الأحاديث العشر الأواخر وتذكيره أيضا لغة صحيحة باعتبار الأيام، أو باعتبار الوقت أو الزمان، ويكفي في صحبتها ثبوتها في هذا الحديث. "في قبة:" في خيمة "تركية" صغيرة من لبود "ثم أطلع رأسه" بفتح الهمزة وسكون الطاء، زاد في مسلم: فكلم الناس فدنوا منه "فقال: "إني اعتكفت العشر الأول ألتمس": أطلب "هذه الليلة، يعني ليلة القدر، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أتيت" بضم(11/310)
"فقيل لي: إنها في العشر الأواخر فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر منه"، قال: فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف
__________
الهمزة "فقيل لي:" وعند البخاري: أن جبريل أتاه في المرتين، فقال: إن الذي تطلب أمامك بفتح الهمزة والميم، أي: قدامك "إنها في العشر الأواخر" وصفها بالجمع؛ لأنه تصور في كل ليلة من ليالي العشر الأخير ليلة القدر ولا كذلك في الأول والأوسط، فلذا وصفهما بالمفرد "فمن اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر".
وفي رواية للشيخين: فمن كان اعتكف معي فليثبت في معتكفه، وإنما أمرهم بذلك لئلا يضيع سعيهم في الاعتكاف والتحري.
وفي مسلم: "من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف" فاعتكف الناس معه "فقد رأيت" بضم الهمزة وكسر الراء مبني للمفعول، أي: أعلمت "هذه الليلة" نصب مفعولا به لا ظرفا، أي: أريت ليلة القدر، وجوز الباجي، أن الرؤية بمعنى البصر، أي أنه رأى علامتها التي أعلمت له بها وهي السجود في الماء والطين "ثم أنسيتها" بضم الهمزة، قال القفال: ليس معناه أنه رأى الملائكة والأنوار عيانا، ثم نسي في أول ليلة رأى ذلك؛ لأن مثل هذا قل أن ينسى، وإنما معناه أنه قيل له ليلة القدر ليلة كذا وكذا، فنسي كيف قيل له ثم هو هكذا بالجزم عند الشيخين، وفي رواية للبخاري: أنسيتها أو نسيتها.
قال الحافظ: شك من الراوي هل أنساه غيره إياها أو نسيها هو بلا واسطة، ومنهم من ضبط نسيتها بضم أوله والتشديد فهو بمعنى أنسيتها، والمراد أنه أنسي علم تعيينها في تلك السنة.
"وقد رأيتني" بضم التاء وفيه عمل الفعل في ضميري الفاعل والمفعول وهو المتكلم، وذلك من خصائص أفعال القلوب، أي رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها" من بمعنى في قوله تعالى: من يوم الجمعة أو لابتداء الغاية الزمانية "فالتمسوها في العشر الأواخر" من رمضان "والتمسوها في كل وتر منه"، أي: أوتار لياليه وأولها ليلة الحادي والعشرين إلى آخر ليلة التاسع والعشرين.
"قال" أبو سعيد: "فمطرت" بفتح الميم والطاء "السماء تلك الليلة" يقال: في اللية الماضية الليلة إلى الزوال، فيقال: البارحة، وفي راية للشيخين: وما نرى في السماء فزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد "وكان المسجد على عريش" أي: مثل العريش وإلا فالعريش هو نفس السقف، أي: أنه كان مظللا بالجريد والخوص، ولم يكن محكم البناء بحيث يكن من المطر.(11/311)
المسجد، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين. رواه الشيخان.
وفي حديث عبادة بن الصامت: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت، "وعسى أن يكون خيرا لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة"، رواه البخاري.
__________
وفي رواية: وكان السقف من جريد النخل "فوكف المسجد" أي: سال ماء المطر من سقفه فهو من ذكر المحل وإرادة الحال "فبصرت" بفتح الموحدة وضم المهملة "عيناي" ذكرهما بعد البصر للتأكيد، كقول القائل: أخذت بيدي وإنما يقال ذلك في أمر مستغرب إظهارا للتعجب من حصوله "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة" ليلة "إحدى وعشرين".
وفي رواية: فنظرت إليه وقد انصرف من صلاة الصبح ووجهه، وأنفه فيهما الماء والطين تصديق رؤياه "رواه الشيخان" البخاري في الصلاة والاعتكاف ومسلم في الاعتكاف.
"وفي حديث عبادة بن الصامت أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج" من بيته "يخبر" استئناف أو حال مقدرة؛ لأن الخبر بعد الخروج على حد فادخولها خالدين، أي مقدرين الخلود "بليلة القدر" أي: بتعيينها "فتلاحى" بفتح الحاء المهملة من التلاحي بكسر، أي: تنازل "فلان وفلان" قيل: هما عبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك، كان له على عبد الله دين فطلبه وارتفع صوتهما في المسجد، ذكره ابن دحية.
قال الحافظ: ولم يذكر له مستندًا "فرفعت" أي: رفع بيانها أو علم تعيينها من قلبي فنسيتها أو رفعت بركتها تلك السنة، وقيل: المراد رفعت الملائكة لا الليلة.
قال الباجي: قد يذنب البعض فتتعدى عقوبته إلى غيره فيجزى به من لا سبب له فيه في الدنيا، أما الآخرة فلا تزر وازرة وزر أخرى "وعسى أن يكون" رفعها "خيرا لكم؛" لأن إخفاءها يستدعي قيام جميع الشهر بخلاف ما لو علمت بعينها فيقتصر عليها فيقل العلم، وهل أعلم بها بعد هذا النسيان.
قال الحافظ: فيه احتمال.
وقال ابن عبد البر: الأظهر أنه رفع علم تلك الليلة عنه فأنسيها بعد العلم بسبب التلاحي، وقد قيل: المراء والملاحاة شؤم، ومن شؤمها حرموا ليلة القدر تلك الليلة ولم يحرموها بقية الشهر، لقوله: "فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة" قيل: المراد تاسعة تبقى فتكون ليلة إحدى وعشرين، وسابعة تبقى فتكون ليلة ثلاث وعشرين، وخامسة تبقى فتكون ليلة خمس(11/312)
ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني في صبيحتها أسجد في ماء وطين"، قال: فمطرت ليلة ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن أثر الماء والطين في جبهته وأنفه.
__________
وعشرين على الأغلب أن الشهر ثلاثون، وقيل: تاسعة تمضي فتكون ليلة تسع وسبع وخمس وعشرين.
وجزم الباجي بالأول وهو قول مالك في المدونة؛ لأن في حديث عبادة نفسه عند أبي داود تاسعة تبقى سابعة تبقى خامسة تبقى، ورجح الحافظ الأول لرواية البخاري في الإيمان حديث عبادة، بلفظ: "التمسوها في التسع والسبع والخمس"، أي: تسع وعشرين وسبع وعشرين وخمس وعشرين.
وفي رواية لأحمد: في تاسعة تبقى، كذا قال: ورواية البخاري محتملة، ورواية أحمد نص في الأول، وقد قال أبو عمر: كلا القولين محتمل إلا أن قوله: تاسعة تبقى.. إلخ، يقتضي الأول.
وقد روى أبو داود، أي ومسلم عن أبي نضرة أنه قال لأبي سعيد الخدري: إنكم أعلم بالعدد منا، قال: أجل، قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة، قال: إذا مضت إحدى وعشرون فالتي تليها التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمس وعشرون فالتي تليها الخامسة. انتهى "رواه البخاري" في الإيمان والصوم والأدب.
"ولمسلم من حديث عبد الله بن أنيس" بالتصغير الجهني، حليف الأنصار: شهد العقبة وأحدا ومات بالشام سنة أربع وخمسين، ووهم من قال: سنة ثمانين؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أريت" بضم الهمزة "ليلة القدر ثم أنسيتها" بضم الهمزة "وأراني" بفتح الهمزة "في صبيحتها" بفتح الصاد وكسر الموحدة ثم تحتية فحاء ففوقية.
وفي رواية: صبحها " أسجد في ماء وطين"، قال" ابن أنيس: "فمطرت" وفي نسخ: فمطرنا "ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أسقط من مسلم فانصرف، أي: من الصلاة "وإن أثر الماء والطين في" لفظ مسلم على "جبهته وأنفه".
قال أبو عمر: روى ابن جريج هذا الحديث وقال في آخره: فكان الجهني يمسي تلك الليلة، يعني: ليلة ثلاث وعشرين في المسجد فلا يخرج منه حتى يصبح ولا يشهد شيئا من رمضان قبلها ولا بعدها ولا يوم الفطر.
وفي الموطأ وأبي داود أن ابن أنيس قال: يا رسول الله إني أكون في باديتي وأنا بحمد الله أصلي بها فمرني بليلة من هذا الشهر أنزلها بهذا المسجد أصليها فيه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "انزل ليلة ثلاث وعشرين من رمضان فصلها فيه".(11/313)
وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها ليلة سبع عشرة".
وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوا ليلة القدر في ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين".
وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا، وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا، كساعة الجمعة.
ومذهب الشافعي: انحصارها في العشر الأخير، كما نص عليه الشافعي، فيما حكاه عنه الأسنوي.
وعن المحاملي في "التجريد": إنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق في "التنبيه" فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان. ثم الغزالي في كتبه.
وتردد صاحب "التقريب" في جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه
__________
"وفي سنن أبي داود عن ابن مسعود مرفوعا: "اطلبوها" بهمزة وصل مضمومة، أي: ليلة القدر "ليلة سبع وعشرة" من رمضان "وأخرج الطبراني مرفوعا من حديث أبي هريرة: "التمسوها" أي: اطلبوا، فاستعير الالتماس للطلب "ليلة القدر في ليلة سبع عشرة أو تسع عشرة" بموحدة بعد السين في الأول وبفوقية قبلها في الثاني "أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين" من رمضان.
"وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافا كثيرا وأفردها بعضهم بالتأليف، وقد جمع الحافظ أبو الفضل بن حجر" في فتح الباري "من كلام العلماء في ذلك أكثر من أربعين قولا" سردها واحدا واحدا وقال: هذا ما وقفت عليه من الأقوال، وبعضها يمكن رده إلى بعض وإن كان ظاهرها التغاير "كساعة الجمعة" فيها اثنان وأربعون قولا سردها في الفتح.
"ومذهب الشافعي انحصارها في العشر الأخير" من رمضان "كما نص عليه الشافعي فيما حكاه عنه الأسنوي وعن المحاملي" زاد في نسخة في التجريد: وتوقف فيها شيخنا في الدرس بأنه لا يعرف له كتابا يسمى "التجريد"، لا ذكره الإسنوي في الطبقات "أنها تلتمس في جميع الشهر، وتبعه عليه الشيخ أبو إسحاق" الشيرازي "في التنبيه، فقال: وتطلب ليلة القدر في جميع شهر رمضان، ثم الغزالي في كتبه" تبعه أيضا "وتردد صاحب التقريب في(11/314)
الإمام وضعفه. وحكاه ابن الملقن في "شرح العمدة".
وفي المفهم للقرطبي حكاية قول: إنها ليلة النصف من شعبان.
ودليل الأول: حديث أبي سعيد الذي قدمناه، قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي والعشرون فلقوله -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي سعيد: "فقد أريت هذه الليلة، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا. وجزم جماعة من الشافعية: بأنها ليلة الحادي والعشرين، لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر، أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير. وعن ابن خزيمة -من أصحابنا- أنها تنتقل
__________
جواز كونها في النصف الأخير، كذا نقله عنه الإمام وضعفه" أي: ضعف تردد ذلك في مذهبه وإلا فهو من جملة الأقوال.
"وحكاه ابن الملقن في شرح العمدة" في الفتح، وحكى ابن الملقن أنها ليلة النصف من رمضان "و" الذي "في المفهم للقرطبي" على مسلم "حكاية قول إنها ليلة النصف من شعبان" وكذا حكاه غيره.
"قال الحافظ: فإن ثبتا فهما قولان "ودليل الأول" أي: انحصارها في العشر الأخير "حديث أبي سعيد الذي قدمناه" أي: قوله فيه: "التمسوها في العشر الأواخر".
"قال النووي: وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين، أما الحادي العشرون فلقوله عليه السلام في حديث أبي سعيد" المتقدم "فقد أريت هذه الليلة وقد رأيتني" أي: رأيت نفسي "أسجد في ماء وطين من صبيحتها"، فبصرت عيناي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين، وأما الثالث والعشرون فلحديث عبد الله بن أنيس المتقدم أيضا" قريبا.
"وجزم جماعة من الشافعية بأنها ليلة الحادي والعشرين" لصحة الحديث "لكن قال السبكي: إنه ليس مجزوما به عندهم" في نفس الأمر "لاتفاقهم على عدم حنث من علق يوم العشرين عتق عبده بليلة القدر أنه لا يعتق تلك الليلة، بل بانقضاء الشهر على الصحيح بناء على أنها في العشر الأخير" في ليلة لا بعينها.(11/315)
في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر الأخير.
وحاصله: قولان، ووجه، واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة.
وجزم ابن حبيب من المالكية، ونقله الجمهور، وحكاه صاحب "العدة" من الشافعية ورجحه: أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة، ولم تكن في الأمم قبلهم.
وهو معترض: بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال: "بل هي باقية".
وعمدتهم قول مالك في "الموطأ": بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية فأعطاه الله تعالى ليلة القدر. وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح من حديث أبي ذر كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن
__________
"وعن ابن خزيمة من أصحابنا أنها تنتقل في كل سنة إلى ليلة من ليالي العشر" الأواخر "وحاصله قولان" للشافعي الحادي أو الثالث والعشرون "ووجه" لابن خزيمة "واختار النووي في الفتاوى وشرح المهذب رأي ابن خزيمة" المذكور وأرجاها عند الجمهور ليلة سبع وعشرين، وبه جزم أبي بن كعب وحلف عليه كما في مسلم، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا: "ليلة القدر ليلة سبع وعشرين".
"وجزم ابن حبيب" محمد "من المالكية" الأئمة المتقدمين "ونقله الجمهور وحكاه صاحب العدة من الشافعية ورجحه؛ أن ليلة القدر خاصة بهذه الأمة ولم تكن في الأمم قبلهم" وكذا جزم به ابن عبد البر، وقال النووي: إنه الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء "وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول الله أتكون مع الأنبياء، فإذا ماتوا رفعت؟، قال: "بل هي باقية" كذا في نسخ بالإضراب عن السؤال.
وفي نسخ: بلى على أنه رد لمجموع النفي، أي: بلى تكون مع الأنبياء ولا ترفع بموتهم، والذي نقله الحافظ والسيوطي عن النسائي عن أبي ذر: أم هي إلى يوم القيامة، قال: بل هي إلى يوم القيامة "وعمدتهم" أي: الجمهور "قول مالك في الموطأ: بلغني أنه -صلى الله عليه وسلم- تقاصر أعمار أمته عن أعمار الأمم الماضية" لفظ الموطأ: أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر "فأعطاه الله ليلة القدر، وهذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر، كما قاله الحافظان ابن كثير في تفسيره وابن حجر في فتح الباري" وتعقب ذلك الحافظ(11/316)
حجر في "فتح الباري".
قال: وقد ظهر لليلة القدر علامات؛ منها: ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها، ولابن خزيمة من حديث ابن عباس مرفوعا: "ليلة القدر لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة"، ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية، كأن فيها قمرا ساطعة، ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد ولا يحل لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ".
__________
السيوطي؛ بأن حديث أبي ذر يقبل التأويل أيضا، وهو أن مراده السؤال هل تختص بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ترفع بعده بقرينة مقابلته ذلك بقوله: أم هي إلى يوم القيامة فلا يكون فيه معارضة لأثر الموطأ، وقد ورد ما يعضده، ففي فوائد أبي طالب المزكي من حديث أنس: "إن الله وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلهم". انتهى.
"قال" أي: صاحب الفتح: "وقد ظهر لليلة القدر علامات" أكثرها لا تقع إلا بعد أن تمضي "منها ما في صحيح مسلم عن أبي بن كعب" مرفوعا؛ "أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها" يوجد، ولأحمد عنه مثل الطشت بضم الشين الذي يرى كأنه جبال مقبلة على الناظر إليها، أو الذي ينتثر من ضوئها، أو الذي يرى ممتدا كالرماح بعيد الطلوع وما أشبهه كما في القاموس.
"ولابن خزيمة من حديث ابن عباس، مرفوعا: "ليلة القدر" طلقة كما في الفتح، وللطيالسي: سمحة طلقة "لا حارة ولا باردة" أي: معتدلة، يقال: يوم طلق وليلة طلقة إذا لم يكن فيها حر ولا برد يؤذيان، قاله ابن الأثير: "تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة" أي: ضعيفة الضوء.
"ولأحمد من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: "إنها صافية كأن فيها قمرا ساطعة ساكنة لا حر فيها ولا برد ولا يحل" أي: لا يتفق "لكوكب يرمى به فيها، وإن من أماراتها أن الشمس في صبيحتها تخرج" أي: تطلع "مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" أي: لا يمكن من ذلك أسقط من الفتح، ولابن أبي شيبة عن ابن مسعود أن الشمس تطلع كل يوم بين قرني الشيطان إلا صبيحة ليلة القدر، وله عن جابر بن سمرة مرفوعا: "ليلة القدر ليلة مطر وريح"، ولابن خزيمة عن جابر مرفوعا: "ليلة القدر طلقة بلجة لا حارة ولا بادرة، تضيء كواكبها ولا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها"، وله عن(11/317)
وروى البيهقي في "فضائل الأوقات" أن المياه المالحة تعذب في تلك الليلة.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد في غيره. رواه مسلم من حديث عائشة.
وفي البخاري عنها: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
وجزم عبد الرزاق بأن "شد مئزره" هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري، وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد في العبادة، كما يقال: شددت لهذا الأمر
__________
أبي هريرة مرفوعا: "إن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى"، ولابن أبي حاتم عن مجاهد: لا يرسل فيها شيطان ولا يحدث فيها داء، وعن الضحاك: يقبل الله التوبة فيها من كل تائب وهي من غروب الشمس إلى طلوعها، وذكر الطبري عن قوم: أن الأشجار في تلك الليلة تسقط إلى الأرض ثم تعود إلى منابتها، وإن كل شيء يسجد فيها.
"وروى البيهقي في فضائل الأوقات" عن أبي لبابة؛ "أن المياه المالحة تعذب في تلك الله" زاد الفتح: ولابن عبد البر عن زهرة بن معبد نحوه "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر الأخير من رمضان" بأنواع العبادات "ما لا يجتهد في غيره" أي: اجتهادا زائدا عن اجتهاده في غيره "رواه مسلم" من إفراده والترمذي وابن ماجه وأحمد "من حديث عائشة" لكن بلفظ: العشر الأواخر بدون قوله: من رمضان وإن كان هو المراد، فلو قال المصنف: يعني.
"وفي البخاري" ومسلم أيضا: فما هذا الإيهام من المصنف وابن ماجه الثلاثة في الصوم، وأبي داود والنسائي في الصلاة، كلهم "عنها" أي: عائشة، قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر" زاد ابن أبي شيبة من حديث علي: الأواخر من رمضان "شد مئزره" بكسر الميم وسكون الهمزة، أي: إزاره "وأحيا ليله وأيقظ أهله" للعبادة.
"وجزم عبد الرزاق بأن شد مئزره هو اعتزاله النساء، وحكاه عن الثوري" سفيان واستشهد بقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... عن النساء ولو باتت بأطهار
وبه فسره السلف والأئمة المتقدمون وهو الصحيح.
"وقال الخطابي: يحتمل أن يراد به الجد" بكسر الجيم "في العبادة" زيادة على عادته "كما يقال: شددت لهذا الأمر مئزري، أي: تشمرت له" وتفرغت "ويحتمل أن يراد به التشمير(11/318)
مئزري، أي: تشمرت له، ويحتمل أن يراد به التشمير والاعتزال معا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز، فيكون المراد: شد مئزره حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة.
وقوله: "وأحيا ليله" أي: سره فأحياه بالطاعة، وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت، وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور.
فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر: فمنها: إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله، ويشهد له حديث عائشة من وجه ضعيف "وأحيا الليل كله" وفي المسند عنها أيضًا، قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر شمر وشد المئزر، وفي
__________
والاعتزال معًا، ويحتمل أن يراد به الحقيقة والمجاز" بناء على استعمالها في لفظ واحد ومن عموم المجاز "فيكون المراد شد مئزره" ربطه "حقيقة فلم يحله واعتزل النساء وتشمر للعبادة" وربما يؤيده رواية مسلم: وجد وشد المئزر.
قال الطيبي: قد تقرر عند علماء البيان أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة كما إذا قلت: فلان طويل النجاد، وأردت طول نجاده مع طول قامته، كذلك لا يستبعد أنه -صلى الله عليه وسلم- شد مئزره ظاهرًا، أي: حقيقة، وتفرغ للعبادة واشتغل بها عن غيرها، أي: عن النساء.
"وقوله: وأحيا ليله، أي: سهره فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه؛ لأن النوم أخو الموت" فهو استعارة شبه القيام فيه بالحياة في حصول الانتفاع التام "وأضافه إلى الليل اتساعا؛ لأن النائم إذا حيي باليقظة حيي ليله بحياته، وهو نحو قوله: "لا تجعلوا بيوتكم قبورا"، أي: لا تناموا فتكونوا كالأموات فتكون بيوتكم كالقبور" وإلا فالليل لا يوصف بوت ولا حياة، كما أن البيوت ليست قبورا حقيقة.
"فقد كان عليه السلام يخص العشر الأخير بأعمال لا يعملها في بقية الشهر، فمنها إحياء الليل، فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله ويشهد له حديث عائشة من وجه" أي: طريق "ضعيف وأحيا الليل كله" وكراهة قيام جميعه محمول على الدوام عليه طول العام، أما قيام كالعشر فلا.
"وفي المسند" لأحمد "عنها" أي: عائشة أنها "قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخلط العشرين" الأول والثاني من رمضان "بصلاة ونوم، فإذا كان العشر" الأخير "شمر" اجتهد في(11/319)
حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضًا. ويحتمل أن تريد بإحياء الليل غالبه، وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ منها. وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر". رواه أبو الشيخ.
__________
العبادة "وشد المئزر" حقيقة ومجازا.
"وفي حديث ضعيف عن أنس عند أبي نعيم: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل شهر رمضان قام ونام. فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا" بضم الغين وسكون الميم وضاد معجمتين، أي: نوما.
"ويحتمل أن تريد" عائشة "بإحياء الليل إحياء غالبه" فلا ينافي قولها في الصحيح ما علمته: قام ليلة حتى الصباح.
"وقد قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح في جماعة ليلة القدر فقد أخذ بحظ" أي: نصيب عظيم "منها" لقوله -صلى الله عليه وسلم: "من صلى ليلة القدر العشاء والفجر في جماعة فقد أخذ من ليلة القدر بالنصيب الوافر"، رواه الخطيب عن أنس.
"وروي في حديث مرفوع عن أبي هريرة: "من صلى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان فقد أدرك ليلة القدر" أي: ثوابها "رواه أبو الشيخ" وكذا البيهقي ورواه الطبراني عن أبي أمامة، رفعه: وخص العشاء؛ لأنها من الليل دون الصبح فليس منه.
وفي مسلم موفوعًا: "من يقم ليلة القدر فيوافقها غفر له ما تقدم من ذنبه"، ولأحمد عن عباة مرفوعا: "فمن قامها إيمانا واحتسابا ثم وقفت له غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
قال في شرح التقريب: معنى توفيقها له أو موافقته لها أن يكون الواقع أن تلك الليلة التي قام فيها بقصد ليلة القدر هي ليلة القدر في نفس الأمر وإن لم يعلم هو ذك، وقول النووي: معنى الموافقة أن يعلم أنها ليلة القدر مردود، وليس في اللفظ ما يقتضيه ولا المعنى يساعده.
وقال الحافظ: يترجح في نظري ما قاله النووي: ولا أنكر حصول الثواب الجزيل لمن قام لابتغائها وإن لم يعلم بها ولم توفق له، وإنما الكلام على حصول الثواب المعين الموعود به، وقد اختلف هل لها علامة تظهر لمن وفقت له أم لا؟، فقيل: يرى كل شيء ساجدا، وقيل: يرى الأنوار ساطعة في كل مكان حتى الظلمة، قيل: يسمع كلاما أو خطابا من الملائكة، وقيل: علامتها استجابة دعاء من وفقت له.
واختار الطبري أن ذلك كله غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه،(11/320)
ومنها: أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي.
ومنها: تأخير الفطور إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا، ولفظ حديث عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا، أخرجه ابن أبي عاصم. ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحورا. وإسناد
__________
واختلف أيضا في حصول الثواب المرتب عليها لمن قامها، وإن لم يظهر له شيء، وقاله الطبري والمهلب وابن العربي وغيرهم: أو يتوفق على كشفها له، وإليه ذهب الأكثر، وفرعوا على اشتراط العلم أنه يختص بها شخص دون آخر وإن كانا في بيت واحد.
قال الزين بن المنير: يجوز أنها كرامة لمن شاء الله، فيختص بها قوم دون قوم النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يحضر العلامة ولم ينف الكرامة، وكان في السنة التي حكاها أبو سعيد نزول المطر ونحن نرى كثيرا من السنين ينقضي رمضان بلا مطر مع اعتقادنا أنه لا يخلو رمضان من ليلة القدر، ولا نعتقد أنه لا يراها إلا من رأى الخوارق، بل فضل الله واسع ورب قائم لم يحصل منها إلا على العبادة دون رؤية خارق، وآخر رأى الخوارق بلا عبادة والعابد أفضل، والعبرة إنما هي بالاستقامة لاستحالة أن تكون إلا كرامة بخلاف الخارق، فقد يقع كرامة وقد يقع فتنة. انتهى.
"ومنها أنه كان يوقظ أهله للصلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي" قال الأبي: الأظهر في إحيائه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان في البيت، لقوله: وأيقظ أهله، ولحديث: "صلاة أحدكم في بيته أفضل إلا المكتوبة"، وحمله ابن عبد السلام على أنه كان في المسجد.
"ومنها: تأخير الفطور" أي: العشاء "إلى السحور، ففي حديث أنس وعائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر" الأواخر من رمضان "يجعل عشاءه سحورا".
"ولفظ حديث عائشة: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا كان" أي: وجد "رمضان قام" تهجد "ونام، فإذا دخل العشر" الأواخر "شد المئزر" حقيقة "واجتنب النساء" فلم يقربهن "واغتسل بن الأذانين" ليلة الحادي والعشرين ليتلقى العشر تام التهيؤ للعبادة لا ليلة عشرين؛ لأنه منابذ لقولها: إذا دخل العشر "وجعل العشاء سحورا" مع فطره برطب أو تمر أو ماء عند الغروب "أخرجه ابن أبي عاصم".
"ولفظ حديث أنس: كان إذا دخل العشر الأخير من رمضان طوى فراشه" الذي ينام عليه "واعتزل النساء" لم يقربهن "وجعل عشاءه سحورا" أي: أخره إلى وقت السحور؛ لأنه أنشط للعبادة "وإسناد الأول مقارب، والثاني" وأخرجه الطبراني "فيه حفص بن غياث" بمعجمة(11/321)
الأول مقارب، والثاني فيه حفص بن غياث، وقال فيه ابن عدي: إنه من أنكر ما لقيت له. لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته.
ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين: المغرب والعشاء، روي من حديث علي، وفي إسناده ضعف.
النوع السادس: في ذكر حجه وعمره -صلى الله عليه وسلم:
اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود، ووقوف بساحة الجود، ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني، وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون بتلك الأماكن شرف وعلو، وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو، فإن
__________
مكسورة فتحتية فألف فمثلثة النخعي الكوفي، ثقة، فقيه من رجال الجميع، لكن تغير حفظه قليلا في الآخر.
"وقال فيه ابن عدي: أنه" أي: هذا الحديث: "من أنكره ما لقيت له، لكن يشهد له حديث الوصال المخرج في الصحيح كما قدمته" فيه نظر، إذ الشاهد أن يكون الحديث الشاهد بمعنى الحديث المشهود له وهذا ليس بمعناه، إذ الوصال عبارة عن ترك الأكل يومين فأكثر، وهذا قال: إنه تعشى وقت السحور. نعم يشهد له ويعضده حديث عائشة الذي قبله.
"ومنها: اغتساله عليه السلام بين العشاءين المغرب والعشاء" بالخفض بدل.
"روي من حديث علي وفي إسناده ضعف" لكن يقويه حديث عائشة الذي قال: إسناده مقارب.
"النوع السادس: في ذكر حجه وعمره" بضم ففتح جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم".
"اعلم أن الحج حلول بحضرة المعبود" أي: القصد منه التقرب إليه تعالى، فإذا أخلص فيه وعمل بحديث: "أن تعبد الله كأنك تراه" كان بمنزلة من حل في حضرته؛ لأنه حيث صور نفسه كالرائي له اتصف بتلك الصفة "ووقوف بساحة الجود" أي: كرمه سبحانه شبهه بمال كثير بفضاء واسع، من دخله تمكن من أخذ ما شاء منه، والقصد أن المخلص به، فكان حجه مبرورا يصل إلى مراده من شمول الرحمة العامة المقتضية لغفران ذنوبه فضلا منه سبحانه "ومشاهدة لذلك المشهد العلي الرحماني وإلمام بمعهد العهد الرباني، ولا يخفى أن نفس الكون" الوجود والحلول "بتلك الأماكن شرف وعلو" للحال فيها "وأن التردد في تلك المواطن فخار وسمو" ارتفاع، فهو بمعنى علو حسنه اختلاف اللفظ "فإن المحال المحترمة لم تزل تفرغ"(11/322)
المحال المحترمة لم تزل تفرغ على الحال فيها من سجال وصفها بفيض غامر، وحسبك في هذا ما يحكي في أبيات عن مجنون بني عامر حيث قال:
رأى المجنون في البيداء كلبا ... فحر عليه للإحسان ذيلا
فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لم منحت الكلب نيلا
فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى
فينبغي للعبد أن يهتم بأمر الحج ويبادر إليه، وينهض فاتر عزمه إنهاضا يحثه عليه، ولا يتوانى في غسل أدران سيئات العمر بصابون المغفرة، ولا يتكاسل عن البدار، فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة.
__________
أي: تصب بضم أوله من أفرغ "على الحال فيها من سجال" بجيم، أي: إدلاء مملوءة "وصفها بفيض غامر" بغين معجمة وحسبك في هذا ما يحكى في أبيات عن مجنون بني عامر" قيس بن معاذ أو مهدي بن الملوح العامري، شغف بحب ليلى العامرية ومنع أهلها أن يتزوجها ومنع السلطان مروان بن الحكم أن ينزل بمحل تحله ليلى، ونسب إلى الجنون لجعله الحب سبب الجنون في قوله:
جننا على ليلى وجنت بغيرنا ... وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وهو من الشراء المبرزين وإمام المتيمين، ومن الغريب ما نقله ابن القيم في روضة العاشق عن الجنيد؛ أن مجنون بني عامر كان من أحباء الله تعالى، ستر شأنه بجنونه بليلى "حيث قال:
"رأى المجنون في البيداء كلبا ... "فحر عليه للإحسان ذيلا
فلاموه على ما كان منه ... وقالوا: لم منحت الكلب نيلا
فقال: دعوا الملام فإن عيني ... رأته مرة في حي ليلى"
البيداء المفازة وللإحسان، أي: لأجله "فينبغي للعبد أن يهتم بالحج ويبادر إليه، وينهض" يحرك "فاتر عزمه" أي: عزمه الفاتر "إنهاضا يحثه عليه" بالاجتهاد في أسبابه والسعي إليه وإن بعدت المسافة وناله مشقة "ولا يتوانى" يتكاسل "في غسل أدران" أوساخ "سيئات العمر بصابون المغفرة" بالحج المبرور الذي يغسلها فيزيل أثرها كما يزيل الصابون أثر الأوساخ الحسية "ولا يتكاسل عن البدار فيعرضه للفوات بركوب عمياء المخاطرة" أي: المجازفة من إضافة الصفة للموصوف، أي: بركوب المخاطرة التي هي كالنافة العمياء في أن من تلبس بها وقع في الهلاك، كما أن الراكب للناقة العمياء يقع بواسطة سيرها كيف اتفق في الطرق الصعبة المؤدية إلى هلاكه.(11/323)
وروى ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد الحج فليتعجل". رواه أبو داود.
وفي حديث علي بن أبي طالب، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام، فلا يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". الحديث رواه الترمذي.
وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا". رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة.
__________
"وروى ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أراد الحج" أي: قدر على أدائه؛ لأن الإرادة مبدأ الفعل وهو مسبوق بالقدرة، فأطلق أحد سببي الفعل وأراد الآخر والعلاقة الملابسة؛ لأن معنى قوله: "فليتعجل:" فليغتنم الفرصة إذا وجد الاستطاعة قبل عروض مانع، والأمر للاستحباب على القول بالتراخي.
قال الكشاف: التفعل بمعنى الاستقبال غير عزيز منه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار "رواه أبو داود" وأحمد والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح، وأبو صفوان مهران راوية عن ابن عباس لم يجرح، لكن قال ابن بطال: إنه مجهول، وتبعه الذهبي في المهذب والحافظ في التقريب.
"وفي حديث علي بن أبي طالب؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من ملك راحلة وزادا يبلغه إلى بيت الله الحرام فلا يحج فلا" يبعد "عليه" أي: عنه لتهاونه في الدين مع قدرته أن تسوء خاتمته فيؤديه إلى "أن يموت يهوديا أو نصرانيا" والعياذ بالله "الحديث" بقيته: وذلك أن الله يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] "رواه الترمذي" وفي إسناده ضعف لكن له شواهد.
وقال الأدبي: وهو محمول عند أهل السنة من جحد وجوبه؛ لأن تركه لغير عذر إنما هو معصية، ونحن لا نكفر بالذبن، وكان ابن عرفة يقول: أشد شيء فيه قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، من حيث إنه في مقابلة: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ، ولكنه محمول على ما تقدم. انتهى.
"وخطب عليه السلام فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج" في القرآن "فحجوا"، رواه مسلم والنسائي من حديث أبي هريرة" وبقيته عندهما، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟، فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال: صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".(11/324)
وفي رواية النسائي، من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله كتب عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام يا رسول الله؟ فقال: "لو قلت نعم لوجبت" الحديث.
فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة، وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر إلا لعارض كالنذر.
__________
"وفي رواية النسائي من حديث ابن عباس مرفوعا: "إن الله كتب" فرض "عليكم الحج"، فقال الأقرع بن حابس التميمي: كل عام؟ " بتقدير همز الاستفهام، أي: أكل عام يجب حجة على المستطيع "فقال: "لو قلت نعم لوجبت" حجة كل عام.
قال القاضي عياض: فيه ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم- من الرأفة بالأمة، وفيه أن له أن يحكم باجتهاده.
قال النووي: ويجب المانع بأنه لعله كان بوحي ... "الحديث" تتمته: "ثم إذا لا تسمعون ولا تطيعون ولكنها حجة واحدة".
وفي حديث أنس عند ابن ماجه: "لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لم تقوموا بها ولو لم تقوموا بها عذبتم".
قال المازري: قيل: الأمر يقتضي التكرار، وقيل: لا يقتضيه، وقيل: بالوقف، فيما زاد على المرة الواحدة؛ لأن السائل تردد في فهم قوله: فحجوا، بين التكرار والمرة الواحدة، ولذا سأل: ولو كان عنده لأحدهما لم يسأل، ولقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: لا حاجة للسؤال عن هذا، بل أيد سؤاله وبين له، ويحتمل أن التكرار عند السائل من وجه آخر؛ لأن الحج لغة قصد فيه تكرار.
قال النووي: وقد يجيب الآخر بأنه إنما سأل استظهارا أو احتياطا.
قال الأبي: الخلاف المذكور في اقتضاء الأمر التكرار إنما هو في صيغة الأمر في غير الحج، أما قوله: فحجوا فلا خلاف أنه ليس للتكرار، وللإجماع على أن وجوبه مرة في العمر، والقول بالوقف فيما زاد على الواحدة مذهب الباقلاني.
وفي الاحتجاج له بالحديث نظر، والقول بالتكرار إنما هو مع إمكان الفعل، وإلا لزم أن يفعل الفعل دائما. انتهى.
"فوجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة" فيكفر جاحده "وقد أجمعوا على أنه لا يتكرر" وجوبه "إلا لعارض كالنذر".
قال ابن العربي: وشذ بعض فأوجبه كل عام لحديث: على كل مسلم في كل سنة أن يأتي بيت الله الحرام وروايته حرام، يعني أنه موضوع، وبعض: فأوجبه كل خمسة أعوام لخبر ابن(11/325)
واختلفوا: هل هو على الفور، أو التراخي؟ فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي، إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها. وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور.
واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته.
فالجمهور على أنها سنة ست؛ لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 169] ، وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا" رواه الطبري بأسانيد صحيحة عنهم.
وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك. وقد وقع في قصة ضمام ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل -إن ثبت- على تقدمه على سنة خمس، أو
__________
أبي شيبة وابن حبان مرفوعا: "إن الله تعالى يقول: إن عبدا صححت له جسمه ووسعت عليه في التأكيد في مثل هذه المدة".
"واختلفوا هل هو على الفور" فيجب بأول عام الاستطاعة "أو التراخي، فقال الشافعي وأبو يوسف وطائفة: هو على التراخي إلى أن ينتهي إلى حال يظن فواته لو أخره عنها" فيجب فورًا.
"وقال مالك وأبو حنيفة وآخرون: هو على الفور، واختلفوا أيضا في وقت ابتداء وجوبه، فقيل: قبل الهجرة وهو شاذ، وقيل: بعدها، ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست" من الهجرة "لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، "وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض" فمعنى {وَأَتِمُّوا} ائتوا تاما ولو بقي على ظاهره لم يدل على وجوب الشروع فيه، إذ يكون معناه: إذا شرعتم في الحج وأحرمتم به فأتموه، والآية إنما سيقت للدلالة على وجوبه بأن يشرع فيه ويتمه.
"ويؤيده قراءة علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي بلفظ: "وأقيموا"، رواه الطبري" محمد بن جرير، ونسخه الطبراني تصحيف "بأسانيد صحيحة عنهم، وقيل: المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع، وهذا يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك، وقد وقع في قصة ضمام" بكسر الضاد مخففًا "ذكر الأمر بالحج وقد كان قدومه على ما ذكره الواقدي سنة خمس، وهذا يدل إن(11/326)
وقوعه فيها.
وقالت طائفة: إنه تأخر نزل فرضه إلى التاسعة والعاشرة. واحتجوا: بأن صدر سورة آل عمران نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في أنفسهم بما فاتهم من التجارة مع المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} الآية [التوبة: 28] فأعاضهم الله من ذلك بالجزية، ونزول هذه الآية والمناداة بها إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في موسم الحج، وإردافه بعلي.
وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء
__________
ثبت على تقدمه على سنة خمس أو وقوعه فيها" قبل قدوم ضمام.
"وقالت طائفة: إنه تأخر نزول فرضه إلى التاسعة" عند قوم "والعاشرة" عند آخرين فهو إشارة إلى قولين.
"واحتجوا بأن صدر" أي: أول "سورة آل عمران نزل عام الوفود" وذلك في السنة التاسعة "وفيه قدم وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصالحهم على أداء الجزية، والجزية نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران وناظر أهل الكتاب" أي: أهل نجران "ودعاهم إلى التوحيد".
"ويدل عليه أن أهل مكة" الذين أسلموا "وجدوا في أنفسهم" حرجا ومشقة "بما فاتهم من التجارة مع المشركين" بالامتناع من معاملتهم "لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} ، الآية فأعاضهم" بفتح الهمزة وعين مهملة، أي: أعطاهم "الله من ذلك" أي: بدل ما فاتهم من الربح الذي كان يحصل لهم بمبايعة المشركين ومعاملتهم "بالجزية" المأخوذة من الكفار وإن لم يكونوا مشركين "ونزول هذه الآية والمناداة بها" بمكة "إنما كان في سنة تسع، وبعث الصديق يؤذن بذلك في موسم الحج وإردافه بعلي" بن أبي طالب أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
"وفي الترمذي من حديث جابر: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فساق" معه من المدينة "ثلاثا وستين بدنة، ثم جاء علي من اليمن ببقيتها"، أي المائة كما يأتي للمصنف، وفي الصحيحين عن علي أنه -صلى الله عليه وسلم- أهدى مائة بدنة، وفي مسلم وغيره عن جابر: ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر فنحر ثلاثا وستين بيده ثم أعطى(11/327)
علي من اليمن ببقيتها، فيها جمل في أنفه برة من فضه فنحرها، الحديث.
وعن ابن عباس: حج -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج. أخرجه الحاكم وابن ماجه. وهو مبني على عدد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج، وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك.
وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا.
وقال ابن الجوزي: حج حججا لا يعلم عددها، وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر.
وقال جابر في حديثه الطويل -كما في رواية مسلم: مكث -صلى الله عليه وسلم- تسع
__________
عليا فنحر ما غير "فيها جمل في أنفه برة" بضم الموحدة وفتح الراب الخفيفة وهاء حلقة "من فضة فنحرها، الحديث" وفيه إهداء الذكر.
وحكي عن ابن عمر كراهته في الإبل.
"وعن ابن عباس: حج -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يهاجر ثلاث حجج، أخرجه ابن ماجه والحاكم، وهو مبني على عد وفود الأنصار إلى العقبة بمنى بعد الحج".
زاد الحافظ: فإنهم قدموا أولا فتواعدوا، ثم ثانيا فبايعوا البيعة الأولى، ثم ثالثا فبايعوا البيعة الثانية "وهذا لا يقتضي نفي الحج قبل ذلك" فهذا بعد النبوة وقبلها لا يعلمه إلا الله.
"وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثوري" سفيان بن سعيد؛ "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج قبل أن يهاجر حججا:" جمع حجة.
"وقال ابن الجوزي: حج حججًا لا يعلم عددها".
"وقال ابن الأثير: كان عليه السلام يحج كل سنة قبل أن يهاجر".
قال الحافظ: الذي لا ارتياب فيه أنه لم يترك الحج وهو بمكة قط؛ لأن قريشا في الجاهلية لم يكونوا يتركون الحج، وإنما يتأخر منهم من لم يكن بمكة أو عاقه ضعف، وإذا كانوا وهم على غير دين يحرصون على إقامة الحج ويرونه من مفاخرهم التي امتازوا بها على غيرهم من العرب، فكيف يظن أنه -صلى الله عليه وسلم- يتركه، وقد ثبت أن جبير بن مطعم رآه -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية واقفا بعرفة، وأنه من توفيق الله له وثبت دعاؤه قبائل العرب إلى الإسلام بمنى ثلاث سنين متوالية. انتهى.
"وقال جابر" بن عبد الله "في حديثه الطويل" الذي ساق فيه حجة الوداع تامة سياقا(11/328)
سنين لم يحج ثم أذن في الناس في العاشرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج. فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي"، فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، ثم ركب القصواء حتى إذا استوت به ناقته على
__________
حسنا "كما في رواية مسلم" وأبي داود: "مكث -صلى الله عليه وسلم" بالمدينة بعد الهجرة "تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة" بضم الهمزة وكسر الذال المشددة، أي: أعلموا بذلك ويجوز أن يكون بفتح الهمزة مبنيا للفاعل، أي: النبي -صلى الله عليه وسلم، باعتبار أنه الآمر بالتأذين؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاج" يجوز فيه فتح الهمزة وكسرها "فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم:" يقتدي "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويعمل مثل عمله".
قال عياض: هذا يدل على أنهم كلهم أحرموا بالحج؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم به وهم لا يخالفونه، ولذا قال جابر: وما عمل به من شيء عملنا به، ومثله توقفهم عن التحلل بالعمرة ما لم يتحلل حتى أغضبوه واعتذر إيهم، ومثله تعليق علي وأبي موسى إحرامهما على إحرامه -صلى الله عليه وسلم.
"فخرجنا معه فأتينا ذا الحليفة" ميقات أهل المدينة على ستة أميال منها، وقيل: سبعة، حكاهما في المشارق "فولدت أسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر الصحابية الفاضلة "محمد بن أبي بكر" الصديق "فأرسلت" أسماء "إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ " الظاهر أنها أرسلت زوجها الصديق، ويدل له رواية الموطأ؛ أن أسماء ولدت محمد بن أبي بكر، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله -صلى الله عليه وسلم "قال: "اغتسلي واستثفري" بمثلثة بعد الفوقية، أي: احتجزي "بثوب" تشده على موضع الدم ليمنع السيلان، هكذا الرواية في مسلم وأبي داود المثلثة، ولبعض رواة أبي داود بالذال المعجمة بدل المثلثة، أي: استعملي طيبا لإزالة هذا الشيء عنك، أي: رائحة الدم مأخوذ من الدفر بالتحريك، وهو كل ريح ذكية من طيب أو نتن.
قال المنذري: والمشهور بالمثلثة "وأحرمي" وفيه صحة إحرام النفساء والحائض وهو مجمع عليه، وصحة اغتسالهما للإحرام وإن كان الدم جاريا.
قال الخطابي: وإنما أمرها بذلك وإن كان اغتسالها لا يصح للتشبه بالطاهرات، كما أمر من أكل يوم عاشوراء بإمساك بقية النهار، وقال غيره للتنبيه على أن الغسل من سنن الإحرام: "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المسجد" أي: مسجد ذي الحليفة ركعتين سنة الإحرام عند جميع العلماء إلا أن الحسن البصري استحب كون الإحرام بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، نقله عياض وغيره.(11/329)
البيداء، نظرت مد بصري بين يديه من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل من شيء عملنا به.
__________
قال النووي: والصواب قول الجمهور، وهو ظاهر الحديث، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: هما سنة لو تركها فاتته الفضيلة ولا إثم عليه، فلو أحرم بوقت نهى لم يركعهما على المشهور، وفي وجه: يركعهما فيه، لأن سببهما إرادة الإحرام وقد وجد "ثم ركب" ناقته "القصواء" بفتح القاف والمد، وللعذري في مسلم بالضم والقصر، وهو خطأ قاله عياض.
وقال ابن بري: يقال: بالفتح والمد، ويقال: بالفتح والقصر، ولا يقال في صفة الناقة: بالضم والقصر، وإنما يقال في تأنيث الأقصى، ومر الخلاف في أن القصواء غير الجدعاء والعضباء أو الكل أسماء لناقة واحدة، لقوله هنا: ركب القصواء، وقوله في آخر الحديث: خطب على العضباء.
وفي غير مسلم: خطب على ناقته الجدعاء، وفي حديث آخر: على ناقة خرماء، وفي آخر: مخضرمة، فهذا يدل على أنها ناقة واحدة "حتى إذا استوت به ناقته على البيداء" بالمد، أي: المكان العالي قدام ذي الحليفة بقربها إلى جهة مكة، سميت بيداء؛ لأنها لا بناء بها ولا أثر "نظرت مد بصري" هكذا في جميع الروايات في مسلم وأبي داود مد، أي: منتهى، وذكر بعض اللغويين أن الصواب مدى.
قال النووي: وليس كذلك، بل هما لغتان مدى أشهر.
"بين يديه من راكب وماش" فيه جواز الحج، كذلك وهو إجماع، وإنما الخلاف في الأفضل، فقال الجمهور: الركوب للاقتداء به -صلى الله عليه وسلم؛ ولأنه أعون على القيام بالمناسك؛ ولأنه أكثر نفقة، وبه قال مالك في المشهور: وهو الأصح عند الشافعية، ورجح طائفة من المذهبين المشي.
"و" نظرت "عن يمينه مثل ذلك و" نظرت "عن ياسره مثل ذلك و" نظرت "من خلفه مثل ذلك" فهو بنصب مثل في الثلاث.
قال الولي: ضبطناه بالنصب في الثلاث، ويجوز الرفع على الاستئناف، والمراد أنه حضر معه خلق كثير، وقد قيل: إنهم أربعون ألفا "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن" بضم أوله كما ضبطناه، ومعناه: الحث على التمسك بما يخبرهم به من فعله في تلك الحجة. انتهى.
"وهو يعرف تأويله" على الحقيقة "وما عمل من شيء عملنا به" زيادة في الحث على التمسك بما يخبرهم به.(11/330)
وفي رواية عند النسائي: قال جابر: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه، حتى أتى ذا الحليفة الحديث.
وكان خروجه عليه السلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة، فصلى بها العصر ركعتين، ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه كلهن معه، فطاف عليهن كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه، غير غسل الجماع الأول.
وفي الترمذي، عن خارجة بن زيد عن أبيه: تجرد -صلى الله عليه وسلم- لإهلاله واغتسل.
وفي الصحيحين: أن عائشة طيبته بذريرة، وفي رواية قالت: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقة عليه السلام وهو محرم، وفي رواية قالت: طيبته عند
__________
"وفي رواية عند النسائي، قال جابر: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لخمس بقين من ذي القعدة وخرجنا معه حتى أتى الحليفة ... الحديث" فزاد في هذه الرواية: تاريخ الخروج "وكان خروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة بين الظهر والعصر، فنزل بذي الحليفة فصلى با العصر ركعتين" قصرًا "ثم بات بها، وصلى بها المغرب والعشاء والصبح والظهر، وكان نساؤه" التسع "كلهن معه، فطاف عليهن" أي: جامعهن "كلهن تلك الليلة ثم اغتسل غسلا ثانيا لإحرامه" الذي هو سنة فيه "غير غسل الجماع الأول" أي: جنسه فيشمل الاغتسالات التسع، لما ورد أنه كان من عادته -صلى الله عليه وسلم- أن يغتسل عند كل واحدة.
"وفي الترمذي عن خارجة بن زيد" الأنصاري المدني الفقيه الثقة "عن أبيه" زيد بن ثابت الصحابي الشهير، قال: "تجرد -صلى الله عليه وسلم" من مخيط الثياب "لإهلاله" أي: إحرامه "واغتسل" للإحرام.
"وفي الصحيحين" البخاري في اللباس، ومسلم في الحج "أن عائشة طيبته" صلى الله عليه وسلم "بذريرة" بذل معجمة وراءين بينهما تحتية ساكنة نوع من الطيب مركب يجعل فيه مسك، وقيل: هو فئات طيب يجاء به من الهند وهو مما يذهبه الغسل قاله المصنف على مسلم.
ولفظ الصحيحين عن عائشة، قالت: طيبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي بذريرة في حجة الوداع للحل والإحرام.
"وفي رواية" للشيخين أيضا "قالت" عائشة: "كأني أنظر إلى وبيص" بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها تحتية ساكنة فصاد مهملة، أي: بريق أثر "الطيب" وزعم الإسماعيلي أن الوبيص زيادة على البريق، وأن المراد به التلؤلؤ، قال: وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط، وأشارت بقولها: كأني إلى قوة تحققها لذلك بحيث إنها لكثرة استحضارها له كأنها ناظرة إليه "في مفارقة عليه الصلاة والسلام:" جمع مفرق بفتح الميم وكسر الراء وفتحها كما جزم به(11/331)
إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما، زاد في رواية: ينضخ طيبا. وفي رواية: طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء له.
وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام، وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام، ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن
__________
الجوهري، وفي المشارق يقال: بفتح الراء والميم وكسرهما.
قال الولي العراقي: فإن كان كل من فتح الميم وكسرها، يقال مع كل من فتح الراء وكسرها ففيه أربع لغات.
قال الجوهري: هو وسط الرأس الذي يفرق فيه الشعر، وفي المشارق هو مكان فرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس، قيل: ذكرته بصيغة الجمع تعميما لجوانب الرأس التي يفرق فيها الشعر، لكن في رواية لمسلم في الحج، والبخاري في الغسل مفرق بالإفراد "وهو محرم" الواو للحال، وفي رواية لمسلم: بدله وذلك طيب إحرامه.
"وفي رواية" لهما أيضًا "قالت: طيبته عند إحرامه" أي عند إرادته.
"وفي رواية" للشيخين أيضًا "قالت: طيبته عند" إرادة "إحرامه، ثم طاف في نسائه" أي: جامعهن في ليلة واحدة "ثم أصبح محرما، زاد في رواية" لهما أيضا "ينضخ" بالخاء المعجمة أو المهملة روايتان "طيبا" نصب على التمييز، أي: من جهة الطيب، أي: يفور منه الطيب على رواية الإعجام ومنه عينان نضاختان، أي: تعم رائحته وتدرك إدراكا كثيرا، ورواية الإهمال معناها تقارب ذلك، وقيل: بالمعجمة أقل من المهملة، وقيل: بعكسه.
"وفي رواية" للنسائي عن عائشة "طيبته طيبا لا يشبه طيبكم، تعني لا بقاء لا" كما قاله بعض رواته عند النسائي، ورده الحافظ بما لأبي داود عن عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب قبل أن نحرم فنعرق، فيسيل على وجوهنا ونحن مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينهانا، فهذا صريح في بقاء عين الطيب، ولمسلم: بطيب فيه مسك، وله أيضا: كأني أنظر إلى وبيص المسك، وللشيخين: بأطيب ما أجد، وللطحاوي بالغالية الجيدة، فهذا يدل على أن قولها لا يشبه طيبكم، أي: أطيب منه لا كما فهمه القائل. انتهى.
لكن ولو دل على ذلك لا حجة فيه؛ لأنه أذهب الغسل عينه "وهذا يدل على استحباب التطيب عند إرادة الإحرام وأنه لا بأس باستدامته بعد الإحرام ولا يضر بقاء لونه ورائحته، وإنما يحرم في الإحرام ابتداؤه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأبي يوسف" يعقوب "وأحمد بن حنبل، وحكاه الخطابي عن أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء(11/332)
أكثر الصحابة، وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف.
وذهب مالك: إلى منع التطيب قبل الإحرام بما تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل فقد أساء ولا فدية عليه.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي وأشنان، رواه الدارقطني.
وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل.
__________
من السلف والخلف" أجمع من هذا كله قول الحافظ، وهو قول الجمهور "وذهب مالك" والزهري وجماعة من الصحابة والتابعين "إلى منع التطيب قبل الإحرام بما" أي: بطيب "تبقى رائحته بعده، لكنه قال: إن فعل أساء ولا فدية عليه".
وفي رواية عنه: تجب، وأجابوا عن الحديث بأجوبة، منها: أنه أذهبه الغسل لرواية مسلم طيبته عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرمًا، فقد ظهرت علة تطيبه أنه لمباشرة النساء وغسله بعده لجماعهن ثم للإحرام أذهبه، فإنه كان يتطهر من كل واحدة قبل معاودته للأخرى، وأي طيب يبقى بعد اغتسالات كثيرة، ويكون قولها: ثم أصبح محرما ينضخ طيبا فيه تقديم وتأخير، أي: طاف على نسائه ينضخ طيبا، ثم أصبح بنية الإحرام.
وفي الصحيحين: أن الذي طيبته به ذريرة وهي مما يذهبها الغسل ولا تبقى عينها بعده، وقولها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارقه وهو محرم، المراد أثره لا جرمه، قال عياض بمعناه، ورده النووي بأنه تأويل مخالف للظاهر بلا دليل وهو عجيب، فإن عياضا ذكر دليله كما ترى، ومنها: أن الطيب للإحرام من خصائصه -صلى الله عليه وسلم- للقاء الملائكة؛ ولأن المحرم إنما منع منه؛ لأنه من دواعي النكاح وكان هو أملك اناس لإربه ففعله، والدليل على الخصوصية مخالفة فعله لنهيه عن الطيب، وأما قول عائشة: كنا نضمخ وجوهنا بالمسك المطيب الحديث السابق فلا صراحة فيه ببقاء عينه؛ لأنهن اغتسلن والغسل يذهبه.
"وعن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بخطمي" بكسر الخاء المعجمة أكثر من فتحها والياء مشددة "وأشنان" بضم الهمزة والكسر لغة معرب، ويقال له بالعربية الحرض بضمتين "رواه الدارقطني".
"وفي حديث أنس عند أبي داود والترمذي: أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر" بذي الحليفة "ثم ركب راحلته:" ناقته "فلما علا" ارتفع "على جبل البيداء" بالمد فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، قاله أبو عبيد الكبري وغيره.(11/333)
وفي رواية ابن عمر، عند البخاري ومسلم وغيرهما: ما أهل إلا من عند المسجد، يعني مسجد ذي الحليفة.
وفي رواية: ما أهل إلا من عند الشجرة حين قام به بعيره.
وفي رواية: حين وضع رجله في الغرز، واستوت به راحلته قائما، أهل من عند مسجد ذي الحليفة.
__________
قال الولي العراقي: ضبطناه قبل في أصلنا من أبي داود بفتح المهملة وسكون الموحدة، وهو المستطيل من الرمل، وقيل: الضخم منه والذي في محفوظنا جبل بفتح الجيم والباء وهو معروف "أهل" أي: أحرم، ويعارضه حديث الصحيحين وأبي داود والترمذي والنسائي عن أنس: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر بالمدينة أربعًا وصلى العصر في ذي الحليفة ركعتين، ثم بات بذي الحليفة حتى أصبح، فلما ركب راحلته واستوت به أهل، وجمع بينهما بأنه أهل عند ركوب دابته الإهلال المقترن بالإحرام، ثم أهل ثانيا حين وصل إلى البيداء، ثم لا تخالف بين تصريحه في الرواية التي في المصنف بأن ركوبه بعدما صلى الظهر، وبين ظاهر رواية الجماعة، إذ ليس فيها أنه ارتحل بعد الصبح، وإنما قال: فلما ركب ولم يبين الوقت الذي وقع فيه ركوبه، وقد بينه في الرواية الأخرى فلا تعارض.
"وفي رواية ابن عمر" عبد الله "عند البخاري ومسلم وغيرهما" كأبي داود والترمذي والنسائي، كلهم من طريق مالك وغيره عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها: "ما أهل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلا من عند المسجد، يعني: مسجد ذي الحليفة".
"وفي رواية" لمسلم من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى عن سالم، قال: كان ابن عمر إذا قيل له: الإحرام من البيداء التي تكذبون فيها على رسول الله "ما أهل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم "إلا من عند الشجرة" ولا خلف، فالشجرة سمرة عند المسجد "حين قام به بعيره" أي: ناقته.
"وفي رواية" عند مسلم وابن ماجه وأبي عوانة من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر: "حين وضع" -صلى الله عليه وسلم "رجله في الغرز" بفتح المعجمة وإسكان الراء وزاي منقوطة الركاب للإبل "واستوت به راحلته" أي: استقرت.
قال الجوهري: استوى على ظهر دابته، أي: استقر "قائما" أي: مستويا على ناقته، أو وصفه بالقيام لقيام ناقته.
وفي الصحيحين من طريق صالح بن كيسان عن نافع، عن ابن عمر: أهل حين استوت به راحلته قائمة "أهل من عند مسجد ذي الحليفة".(11/334)
وفي رواية جابر -عند أبي داود والترمذي- أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم.
وفي حديث ابن جبير -عند أبي داود- قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب!؟ فقال: إني لأعلم الناس بذلك، إنها إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا. خرج -صلى الله عليه وسلم- حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم
__________
"وفي رواية جابر عند أبي داود والترمذي أنه -صلى الله عليه وسلم- لما أراد الحج أذن" بالبناء للمفعول أو الفاعل "في الناس فاجتمعوا له، فلما أتى البيداء أحرم" وقد كان ابن عمر ينكر على ابن عباس قوله في البخاري: ركب راحلته حتى استوت به على البيداء أهل، قاله الحافظ.
قال: "و" قد أزال الإشكال ما "في حديث" سعيد "بن جبير عند أبي داود" من طريق ابن إسحاق: حدثني خصيف بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير "قال: قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في" محل "إهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين أوجب" أي: ألزم نفسه ما أحرم به، ومنه قول عمر؛ أنه أوجب بختيا، أي: أهداه في حج أو عمرة، كأنه ألزم نفسه به "فقال: إني لأعلم الناس بذلك أنها إنما كانت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجة واحدة" أي: بعد الهجرة وإلا فقد حج قبلها مرات، ويحتمل أن يريد أن المتنازع فيه حجة واحدة، فهو تقرير لسؤال سعيد بن جبير وتقوية لإشكاله، قاله الشيخ ولي الدين العراقي: "فمن هناك اختلفوا" وبين وجه اختلافهم، وأنه ليس بخلاف حقيقي، بقوله: "خرج -صلى الله عليه وسلم- حاجا فلما صلى بمسجده في ذي الحليفة ركعتيه" سنة الإحرام "أوجبه" أي: الإحرام "في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتين فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته" أي: حملته.
قال ابن الأثير: يقال: استقل الشيء يستقله إذا رفعه وحمله.
قال الولي: فعليه الباء في به زائدة؛ لأنه متعد بنفسه "أهل" أي: رفع صوته بالتلبية "وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون إليه أرسالا" بفتح الهمزة جمع رسل بفتحتين وأصله من الغنم والإبل عن عشرين إلى خمس وعشرين كما في النهاية، والمراد هنا أفواجا وفرقا منقطعة يتبع بعضهم بعضا "فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل" فظنوا أنه مبدأ إحرامه "فقالوا:(11/335)
حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء.
قال سعيد بن جبير: فمنأخذ بقول عبد الله بن عباس أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه، وهو مذهب أبي حنيفة، والصحيح من مذهب الشافعي أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته.
قال ابن القيم: ولم ينقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى.
قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم كان يركع بذي الحليفة
__________
إنما أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين استقلت به راحلته، ثم مضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما علا" ارتفع "على شرف البيداء:" موضع يقرب ذي الحليفة وهي اسم لكل مفازة لا شيء بها لكنها صارت علما بالغلبة على هذا الموضع والشرف المكان العالي، وفي المشارق: البيداء هي الشرف الذي أمام ذي الحليفة.
قال الولي: فعلى هذا تكون إضافة الشرف للبيداء من إضافة الشيء إلى نفسه "أهل وأدرك ذلك منه أقوام، فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء" ظنا أنه ابتداء إحرامه "وأيم الله لقد أوجب في مصلاه" على نفسه الحج "وأهل" أي: لبى رافعا صوته "حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء".
"قال سعيد بن جبير: فمن أخذ بقول عبد الله بن عباس" وجواب من قوله: "أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه" هذا تمام الحديث في أبي داود "وهو مذهب أبي حنيفة" وهو قول ضعيف للشافعي "والصحيح من مذهب الشافعي" ومالك والجمهور؛ "أن الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته" وأجابوا عن حديث ابن عباس هذا بأنه ضعيف، كما قال النووي والمنذري: وإن سكت عليه أبو داود؛ لأن فيه خصيف بن عبد الرحمن، ضعفه الجمهور ووثقه ابن معين وأبو زرعة، وعلى تسليم توثيقه فقد عارضه حديث ابن عمر وأنس في الصحيحين وغيرهما؛ أنه إنما أهل حين استوت به ناقته قائمة، وقد اتفق فهاء الأمصار على جواز جميع ذلك، وإنما الخلاف في الأفضل.
"قال ابن القيم: ولم ينقل عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى للإحرام ركعتين غير فرض الظهر. انتهى، قلت: ثبت في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يركع بذي الحليفة ركعتين"(11/336)
ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل.
قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام، ويصليهما قبل الإحرام، ويكونان نافلة. هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة، إلا ما حكاه القاضي وغيره عن الحسن البصري أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانتا صلاة الصبح، والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث.
وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، وهل كان مفردا أو قارنا أو متمتعا؟ وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما. واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال:
أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه.
__________
سنة الإحرام "ثم إذا استوت به الناقة قائمة" قال التوربشتي: أي: رفعته مستويا على ظهرها، وتعقبه الطيبي بأن استوى إنما يعدي بعلى لا بالباء، فقوله: به حال، وكذا قوله قائمة، أي: استوت ناقته قائمة متلبسة به -صلى الله عليه وسلم "عند مسجد ذي الحليفة أهل" أي: رفع صوته بالتلبية عند الدخول في الإحرام، والمتبادر أن الركعتين للإحرام لا الظهر المقصورة.
ولذا "قال النووي: فيه استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام ويصليهما قبل الإحرام يكونان نافلة، هذا مذهبنا ومذهب كافة العلماء إلا ما حكاه القاضي" عياض "وغيره عن الحسن البصري؛ أنه يستحب كونهما بعد صلاة فرض، قال: لأنه روي أن هاتين الركعتين كانت صلاة الصبح" وتعقب بأن هذا لم يثبت "والصواب ما قاله الجمهور وهو ظاهر الحديث" فلا يعدل عنه.
"وقد اختلفت روايات الصحابة في حجه -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع وهل" الواو الزائدة، وفي نسخ: إسقاطها "كان مفردا أو قارنا أو متمتعا، وروي كل منها في البخاري ومسلم وغيرهما" فالشيخان عن ابن عمر، وجابر ومسلم عن عائشة وابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج، والبخاري من عمر، والشيخان عن أنس، ومسلم عن عمران بن حصين، وأبو داود عن البراء، والنسائي عن علي، وأحمد عن أبي طلحة أنه كان قارنا، والشيخان عن ابن عمر، وعائشة وأبي موسى وابن عباس ومسلم عن ابن عباس أنه كان متمتعا، وثم روايات أخر: لا أطيل بها.
"واختلف الناس في ذلك على ستة أقوال:
أحدها: أنه حج مفردا لم يعتمر معه" أي: الحج، أي: أنه استمر مفردا حتى حل منه(11/337)
الثاني: حج متمتعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كما قاله القاضي أبو يعلى وغيره.
الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن قارنًا.
الرابع: أنه حج قارنا قرانا طاف له طوافين وسعى له سعيين.
الخامس: أنه حج حجا مفردا، اعتمر بعده من التنعيم.
السادس: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى منهما جميعا، وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحدا وساق الهدي.
واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال:
أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها، واستمر عليها.
__________
بمنى ولم يعتمر تلك السنة، قال الحافظ: وهو مقتضى من رجح أنه كان مفردا.
"الثاني: حج متمعا تمتعا حل منه ثم أحرم بعده بالحج، كا قال القاضي أبو يعلى وغيره".
"الثالث: أنه حج متمتعا تمتعا لم يحل فيه لأجل سوق الهدي ولم يكن" ابتداء "قارنا" بمعنى أنه لم يحرم بالحج والعمرة معا، إنما أحرم بالعمرة واستمر عليها لأجل الهدي إلى أن أدخل عليها بالحج يوم التروية، كما قاله الطحاوي وابن حبان وغيرهما.
"الرابع: أنه حج قارنا قرانا، طاف له طوافين وسعى له سعيين" وبه استدل الحنفية على أن ذلك يلزم القارن، وأجاب من اكتفى لهما بواحد بأنه لحصول الأفضل إن سلم أنه كان قارنا وسلم أنه طاف طوافين وسعيين، وإنما جاء ذلك في أحاديث ضعيفة جدا لا يقوم بشيء منها حجة والثابت في الموطأ والصحيحين والسنن عن عائشة، وأما الذين كانوا أهلوا بالحج أو جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا.
"الخامس: أنه حج حجا مفردا اعتمر بعده" أي: بعدما حل منه "من التنعيم" أو غيره، وزعم ابن تيمية أن هذا غلط كما يجيء.
"السادس: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج قارنا بالحج والعمرة ولم يحل حتى حل منهما جميعا وطاف لهما طوافا واحدا وسعيا واحد وساق الهدي".
"واختلفوا أيضا في إحرامه على ستة أقوال" مغايرة، هذا لسابقه أنهه في صفة ما فعله إلى التحلل وما هنا في صفة الإحرام وحده.
"أحدها: أنه لبى بالعمرة وحدها واستمر عليها" حتى فرغ منها ثم جج فهو متمتع.(11/338)
الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه.
الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة.
الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج.
الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا، ثم عينه بعد إحرامه.
السادس: أنه لبى بالحج والعمرة معا.
وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك، فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة كما ذكره عنه جماعة من العلماء، وبينه ابن حزم في حجة الوداع بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، واشار إليه القاضي عياض والنووي في شرحيهما لمسلم، ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثير من مباحثه استيفاء كافيا.
__________
"الثاني: أنه لبى بالحج وحده واستمر عليه" حتى فرغ منه.
"الثالث: أنه لبى بالحج مفردا ثم أدخل عليه العمرة" ويأتي الخلاف هل ذلك خاص به وبأصحابه في تلك السنة فقط أو عام.
"الرابع: أنه لبى بالعمرة وحدها ثم أدخل عليها الحج" فصار قارنا.
"الخامس: أنه أحرم إحراما مطلقا لم يعين فيه نسكا" ينتظر ما يؤمر به "ثم عينه بعد إحرامه" لما نزل عليه الحكم بذلك وهو على الصفا، كذا في الفتح، لكن قال القاضي عياض وأقره النووي: لا يصح قول من قال: أحرم إحراما مطلقا مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره من الصحابة في الأحاديث الصحيحة مصرحة بخلافه.
"السادس: أنه لبى" ابتداء "بالحج والعمرة معا" فهو قارن من أول إحرامه "وقد أطنب أبو جعفر الطحاوي الحنفي في الكلام على ذلك؛ فإنه تكلم عليه في زيادة على ألف ورقة، كما ذكره عنه جماعة من العلماء" منهم عياض، وزاد وتكلم معه في ذلك أيضا أبو جعفر الطبري، ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة، ثم أخوه المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط وأبو الحسن بن القصار البغدادي، وابن عبد البر وغيرهم.
"وبينه ابن حزم في حجة الوداع" من كتاب المحلى "بيانا شافيا، ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا، وأشار إليه القاضي عياض والنووي" ناقلا كلام عياض "في شرحيهما لمسلم" جوابا لسؤال: كيف اختلف الصحابة في صفة حجته وهي واحدة، وكل يخبر عن مشاهدة في قضية واحدة "ونقحه الحافظ ابن حجر مستوفيا لكثر من مباحثه استيفاء كافيا"(11/339)
والذي ذهب إليه الشافعي في جماعة: أنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجا مفردا لم يعتمر معه، واحتج بما في الصحيحين أن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج". فهذا التقسيم والتوزيع صريح في إهلاله بالحج وحده.
وفي رواية لمسلم عنها: أنه -صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده.
ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج.
ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج. رواه البخاري.
قالوا: وهؤلاء لهم قرب في حجة الوداع على غيرهم: فأما جابر، فهو أحسن الصحابة سياقًا لرواية حديث حجة الوداع، فإنه ذكرها من حين خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غير وأما ابن عمر، فصح عنه أنه كان آخذا بخطام ناقته -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس على قوله
__________
ويأتي قريبا للمصنف ذكر غالبه "والذي ذهب إليه الشافعي في" أي: مع "جماعة" كمالك؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- حج حجا مفردا" يعني: حجة الوداع "لم يعتمر معه.
"واحتج" من رجح أنه كان مفردا "بما في الصحيحين" والسنن من طريق الموطأ "أن عائشة قالت: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع" لأنه ودع الناس فيها "فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج وعمرة، ومنا من أهل بالحج وحده، وأهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج"، فهذا التقسيم والتنويع صريح في إهلاله بالحج وحده، و" به صرح "في رواية لمسلم عنها" أي: عائشة؛ "أنه -صلى الله عليه وسلم- أهل بالحج وحده، ولمسلم أيضا عن ابن عباس: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج" وحده على المتبادر.
"ولابن ماجه عن جابر: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، وعن ابن عمر: أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد بالحج، رواه البخاري، قالوا" أي: الأئمة الذين رجحوا أنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردا "وهؤلاء" أي: الصحابة الأربع عائشة وابن عباس وجابر وابن عمر "لهم قرب" من المصطفى، وفي خط الولي العراقي عن النووي لهم مزية "في حجة الوداع على غيرهم" وفصل القرب أو المزية بقوله: "فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقا لحديث: حجة الوداع، فإنه ذكرها" أي: أفعالها مفصلة "من حين خروجه -صلى الله عليه وسلم- من المدينة إلى آخرها، فهو أضبط لها من غيره" وحديثه في مسلم وأبي داود مطولًا.
"وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذًا بخطام" بكسر الخاء المعجمة "ناقته -صلى الله عليه وسلم- في حجة(11/340)
وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس وإني كنت تحت ناقته -صلى الله عليه وسلم- يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج، وأما عائشة فقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره وظاهره، وفعله في خلوته وعلانيته، مع كثرة فهمها وعظم فطنتها. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين والفهم الثاقب معروف، مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يحفظها غيره، وأخذه إياها من كبار الصحابة.
واحتجوا أيضًا: بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على "الإفراد" مع أنهم الأئمة الأعلام، وقادة الإسلام، والمقتدى بهم، فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل. وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهة التمتع والجمع بينهما، حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز. وبأن الإفراد لا يجب فيه دم بالإجماع بخلاف التمتع والقرآن.
__________
الوداع، وأنكر على من رجح قول أنس"؛ أنه كان قارنا "على قوله" نفسه أنه جج مفردا "وقال: كان أنس يدخل على النساء وهن مكشفات الرؤوس" إشارة إلى صغر سنه فلم يضبط "وأني كنت تحت ناقته -صلى الله عليه وسلم- يمسني لعابها، أسمعه يلبي بالحج" وحده، فلو كان قارنا لسمعته وقتا ما يلبي بهما لملازمتي له.
"وأما عائشة فقربها من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معروف، وكذا اطلاعها على باطن أمره، وظاهره وفعله في خلوته وعلانيته مع كثرة فهمها وعظيم فطنتها" فكيف لا يرجح قولها.
"وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه في الدين، والفهم الثاقب معروف مع كثرة بحثه وتحفظه أحوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي لم يحفظها غيره" أي: مبالغته في حفظها وتحرزه في ضبطها بحيث لا يفوته شيء منها "وأخذه إياها من كبار الصحابة" بعد الوفاة النبوية.
"واحتجوا أيضا بأن الخلفاء الراشدين واظبوا على الإفراد" بعد النبي -صلى الله عليه وسلم، فأفرد كل من العمرين وعثمان مدة خلافتهم "مع أنهم الأئمة الأعلام وقادة الإسلام" أي: أزمته والحافظون له كحفظ السلطان لجيشه وحمله على ما هو الأصلح له "والمقتدى بهم" في عصرهم وبعدهم "فكيف يظن بهم المواظبة على ترك الأفضل" الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- والاستفهام للاستبعاد، أي: لا يليق أن يظن بهم ذلك "وبأنه لم ينقل عن واحد منهم كراهة الإفراد، وقد نقل عنهم كراهية التمتع و" كراهية "الجمع بينها" أي: القرآن "حتى فعله علي رضي الله عنه لبيان الجواز" خوف اعتقاد أحد منعه؛ "وبأن الإفراد لا يجب فيه دم الإجماع" لكماله "بخلاف التمتع والقرآن"(11/341)
وذهب النووي إلى أن الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القرآن أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سنته عندنا، ولم يقل أحد: إن الحج وحده أفضل من القرآن. انتهى.
وقد صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد، ولو لم يعتمر في تلك السنة.
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القرآن بأمور.
منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع.
وبأن من روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روي عنه
__________
فيجب لفوات الميقات وغيره، فكان ما لا يحتاج إلى جبر أفضل.
قال الحافظ: وهذا ينبني على أن دم القران دم جبران، وقد منعه من رجح القران بأنه دم فضل وثواب كالأضحية، ولو كان دم نقص لما قام الصيام مقامه؛ ولأنه يؤكل منه، ودم النقص لا يؤكل منه كدم الجزاء، قاله الطحاوي.
"وذهب النووي إلى أن الصواب أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ويؤيده أنه لم يعتمر في تلك السنة بعد الحج، قال: ولا شك أن القران أفضل من الإفراد والذي لا يعتمر في سننه عندنا، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران" وما مر أنه اعتمر بعد حجه من التنعيم غلط كما يأتي عن ابن تيمية. "انتهى" كلام النووي.
"وقد" تعقبه الحافظ بن الخلاف ثابت قديما وحديثا، أما قديما فثبت عن عمر أنه قال: إن أتم لحجكم ولعمرتكم أن تنشؤوا لكل منهما سفرا، وعن ابن مسعود نحوه أخرجه ابن أبي شيبة، وأما حديثا فقد "صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة" وهو مقتضى مذهب مالك، زاد الحافظ.
وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخلاف بيننا وبين الشافعي مبني على أن القارن يطوف طوافا واحدا وسعيا واحدا، فلذا قال: الإفراد أفضل، وعندنا أن القارن يطوف طوافين وسعيين، فهو أفضل؛ لأنه أكثر عملا.
"قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: وتترجح رواية من روى القران بأمور، منها: أن معه زيادة علم على من روى الإفراد والتمتع" لأنه حفظ ما لم يحفظه غيره "وبأن روى الإفراد والتمتع اختلف عليه في ذلك، وأشهر من روى عنه الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها؛ أنه -صلى الله عليه وسلم(11/342)
الإفراد عائشة، وقد ثبت عنها أنه اعتمر مع حجته. وابن عمر، وقد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج. وجابر، وقد روى عنه أنه اعتمر مع حجته أيضا.
وبأن القران رواه عنه -صلى الله عليه - جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه.
وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: أفردت، ولا تمتعت، بل صح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت".
وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف، بخلاف من روى الإفراد فإنه محمول على أول الحال وبه ينتفي التعارض، ويؤيده: أن من
__________
اعتمر مع حجته" لكن في ترجيحه بهذا وتعبيره بأنه ثبت درك كثير على مثل الحافظ، فإنه نفسه نقل قبل هذا بقليل جدا أن البيهقي أعل حديث أبي إسحاق عن مجاهد عن عائشة: لقد علم ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد اعتمر ثلاثًا سوى التي قرنها في حجته، أخرجه أبو داود بأن أبا إسحاق تفرد عن مجاهد بهذا، وقد رواه منصور عن مجاهد بلفظ: فقالت: ما اعتمر في رجب قط وهو المحفوظ على أنه اختلف فيه على أبي إسحاق، فرواه زهير بن معاوية عنه هكذا.
وقال زكريا عن أبي إسحاق عن البراء انتهى، فكيف يعارض ما في أصح الصحيح عنها بحديث معلول.
"وابن عمر: وقد ثبت عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالعمرة ثم أهل بالحج" ويأتي قريبا للمصنف ما يفيد أن هذه رواية شاذة، وأن المصرح به في الأحاديث الكثيرة عكسه.
"وجابر: وقد روي عنه أنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر مع حجته أيضا" ولم يذكر أنه اختلف على ابن عباس.
وفي مسلم وأبي داود والنسائي، عنه: أهل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمرة وأهل أصحابه بحج "وبأن القرآن رواه عنه -صلى الله عليه وسلم- جماعة من الصحابة لم يختلف عليهم فيه" جعله ثالثًا في الترجيح مع أن الحافظ الذي هو ناقل عنه إنما جعله من بقية الجواب الثاني فلم يقل، وبأن إنما قال: والقرآن ... إلخ، وهذا هو الواضح.
"وبأنه لم يقع في شيء من الروايات النقل عنه من لفظه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، بل صح عنه أنه قال: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وأيضا: فإن من روى عنه القران لا يحتمل حديثه التأويل إلا بتعسف" أخذ على غير الطريق؛ بأنه نسب إليه اتساعا؛ لأنه أمر به "بخلاف من روى الإفراد، فإنه محمول على أول الحال و" لا تعسف في ذلك، إذ "به(11/343)
جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران، ومن روى عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين، ويؤيده: أن من جاء عنه التمتع لما وصفه، وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم عمل جميع الحج، وهذه إحدى صور القران.
وأيضًا: فإن رواية القرن جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى.
وعدهم ابن القيم سبعة عشر: عائشة أم المؤمنين، وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان بإقراره لعلي، وعمران بن الحصين، والبراء بن عازب، وحفصة أم المؤمنين، وأبو قتادة، وابن أبي أوفى، وأبو طلحة، والهرماس بن زياد، وأم سلمة، وأنس بن مالك، وسعد بن أبي وقاص، وجابر، وابن عمر، قال: فهؤلاء سبعة عشر صحابيا، منهم من فعله، ومنهم من
__________
ينتفي التعارض ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه الإفراد جاء عنه صورة القران.
"ومن روي عنه التمتع فإنه محمول على سفر واحد للنسكين" الحج والعمرة "ويؤيده" أي: حمله على ذلك "أن من جاء عنه التمتع لما وصفه وصفه بصورة القران؛ لأنهم اتفقوا على أنه لم يحل من عمرته حتى أتم جميع عمل الحج، وهذه إحدى صور القران:" جمع صورة "وأيضا: فإن رواية القران جاءت عن بضعة عشر صحابيا. انتهى" كلام الحافظ.
وزاد بأسانيد جياد "وعدهم ابن القيم سبعة عشر" ففيه بيان البضع "عائشة أم المؤمنين" عند أبي داود "وعبد الله بن عباس" عند مسلم "وعمر بن الخطاب" عند البخاري: أتاني جبريل وقال: صل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة "وعلي بن أبي طالب" عند النسائي "وعثمان بن عفان بإقرار لعلي" والقصة في الصحيحين "وعمران بن الحصين" في مسلم، وأنه أنكر على عمر كراهته "والبراء بن عازب" عند أبي داود والنسائي "وحفصة أم المؤمنين" عند الشيخين "وأبو قتادة" الأنصاري عند الدارقطني "وابن أبي أوفى" عند البزار، وهو بفتح الهمزة والفاء عبد الله "وأبو طلحة" عند أحمد "والهرماس" بكسر الهاء وإسكان الراء وآخره معملة "ابن زياد" الباهلي "وأم سلمة" هند أم المؤمنين "وأنس بن مالك" عند الشيخين "وسعد بن أبي وقاص" عند مالك وغيره "وجابر" عند البيهقي "وابن عمر" عند البخاري: أن بدا بالعمرة ثم أهل بالحج، "قال" الحافظ: هي رواية مرجوحة مخالفة لأكثر الأحاديث.
"فهؤلاء سبعة عشر صحابيًّا" وبقي عليه حديث سراقة أنه -صلى الله عليه وسلم- قرن في حجة الوداع، رواه أحمد ومثله عن أبي سعيد عند الدارقطني.(11/344)
روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه، ومنهم من روى أمره به.
فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة، وابن عباس؟ وعائشة تقول: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم. وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري، وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم. وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه.
قيل: إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت، فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب أن أحاديث من ذكرت ثم لا حجة فيها على القران ولا على الإفراد، فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا، ولا تعارض بينها. انتهى.
__________
"منهم من فعله، ومنهم من روى لفظ إحرامه، ومنهم من روى خبره عن نفسه" هذا ينابذه قول الحافظ السابق قريبا؛ أنه لم يرو عنه أنه قال: "أفردت ولا تمتعت"، وقوله: "لولا أني سقت الهدي لأحللت" لا صراحة فيه أنه قارن، لكن سيأتي رواية: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى" ... إلخ، ويأتي الكلام عليها.
"ومنهم من روى أمره به، فإن قيل: كيف يجعلون منهم ابن عمر وجابر، أو عائشة وابن عباس وعائشة تقول: أهل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج، وفي لفظ: أفرد الحج، والأول في الصحيحين، والثاني في مسلم، وهذا ابن عمر يقول: لبى بالحج وحده، ذكره البخاري" أي: رواه.
"وهذا ابن عباس يقول: أهل بالحج، رواه مسلم وهذا جابر يقول: أفرد الحج، رواه ابن ماجه، قيل" في الجواب: "إن كانت الأحاديث عن هؤلاء تعارضت وتساقطت" لأجل تعارضها "فإن أحاديث الباقين لم تتعارض، فهب" أي: إفراض "أن أحاديث من ذكرت، ثم" أي: هناك يعني هؤلاء الأربعة "لا حجة فيها على القران، ولا على الإفراد" لتساقطها بالتعارض "فما الموجب للعدول عن أحاديث الباقين مع صراحتها وصحتها، فكيف وأحاديثهم يصدق بعضها بعضا ولا تعارض بينها. انتهى" كلام ابن القيم وكل ذلك لا يدفع رجحانية الإفراد؛ لأن القاعدة أنه إذا تعارضت الأحاديث ينظر لما عمل به خلفاؤه الراشدون، فيترجح به كما قال الإمام مالك: إذا جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- حديثان مختلفان، وعمل أبو بكر وعمر بأحدهما دل على أن الحق ما عملا به وقال غيره نحوه، فهذا هو الموجب للعدول هذا على فرض تسليم أنه عليه السلام(11/345)
وهذا يقتضي رفع الشك عنها والمصير إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع، وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني وابن المنذر، وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل، مستندا إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج لكونهم كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور، وتعقب: بأن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة، وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها، وعمرة القضية، وعمرة الجعرانة، ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط -مع أن الأفضل خلافه- لاكتفي في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى.
__________
قال: قرنت وإلا فقد أعلها البيهقي، وأما غيرها فمحمولة على أمره لغيره كما قاله الشافعي وغيره.
"وهذا" كما قال الحافظ عقب قوله: جاءت عن بضعة عشر صحابيا بأسانيد جياد، بخلاف روايتي الإفراد والتمتع "يقتضي رفع الشك عنها" لكثرتها "و" يقتضي "المصير إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنًا، ومقتضى ذلك أن يكون القران أفضل من الإفراد والتمتع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه واختاره من الشافعية المزني" إسماعيل تلميذ الإمام "وابن المنذر" بناء على أنه شافعي، وقد قيل: إنه مجتهد مطلق "وأبو إسحاق المروزي، ومن المتأخرين الشيخ تقي الدين" علي بن عبد الكافي "السبكي، وبحث مع النووي في اختياره بقوله:" الصواب الذي نعتقده "أنه -صلى الله عليه وسلم- كان قارنا، وأن الإفراد مع ذلك أفضل مستندًا إلى أنه -صلى الله عليه وسلم- اختار الإفراد أولا" فأحرم به "ثم أدخل عليه العمرة لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، لكونهم" أي: العرب "كانوا يعتقدونه من أفجر الفجور" أي: من أعظم الذنوب والفجور الانبعاث في المعاصي.
قال الحافظ: وهذا ما تحكماتهم الباطلة المأخوذة من غير أصل "وتعقب" لفظ الفتح، وملخص ما تعقب أي: السبكي به كلامه، أي: النووي؛ "بأن البيان قد سبق منه -صلى الله عليه وسلم- في عمره الثلاث، فإنه أحرم بكل منها في ذي القعدة وهي عمرة الحديبية التي صد عن البيت فيها وعمرة القضية" وتسمى أيضا عمرة القضاء؛ لأنه تقاضى مع قريش عليها "وعمرة الجعرانة" سنة الفتح "ولو كان أراد باعتماره مع حجته بيان الجواز فقط، مع أن الأفضل خلافه لاكتفى في ذلك بأمره أصحابه أن يفسخوا حجهم إلى العمرة. انتهى".(11/346)
ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها: الإفراد، ثم التمتع، ثم القران.
فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا، فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عن ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج،
__________
وللنووي أن يرد هذا بأنه لم يكتف بالبيان في العمر الثلاث؛ لأنه حضر معه في حجة الوداع خلق كثير لم يحضروا في واحدة من الثلاثة، ولم يكتف بأمره أصحابه؛ لأن نفوسهم لا تطيب إلا بفعله، لا سيما وأكثرهم حديث عهد بجاهلية، ويؤيده حديث ابن عباس في الصحيحين أنه لما أمرهم أن يجعلوها، أي: الحجة عمرة كبر ذلك عندهم.
قال المصنف وغيره: لما كانوا يعتقدوه أولا أن العمرة فيها من أفجر الفجور. انتهى، فكأنه لما عظم عليه أردف العمرة على الحج تطييبا لخواطرهم بأنه اعتمر في أشهر الحج ولم يتحلل لسوقه الهدي.
"ومذهب الشافعي ومالك وكثيرين أن أفضلها" أي: أوجه الإحرام الثلاثة "الإفراد" وهو الإهلال بالحج وحده في أشهره عند الجميع، وفي غير أشهره أيضا عند من يجيزه، والاعتمار بعد الفراغ من أعمال الحج لمن شاء "ثم التمتع" المعروف أنه الاعتمار في أشهر الحج، ثم التحلل من تلك العمرة والإهلال بالحج في تلك السنة، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، ويطلق التمتع في عرف السلف على القران أيضا.
قال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن المراد بالتمتع في الآية الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، قا: ومن التمتع أيضا القران؛ لأنه تمتع بسقوط سفر للنسك الآخر من بلده، ومن التمتع أيضا فسخ الحج إلى العمرة. انتهى "ثم القران" وهو الإهلال بالحج والعمرة معا، ولا خلاف في جوازه أو الإهلال بالعمرة، ثم يدخل عليها الحج أو عكسه، وهذا مختلف فيه، ثم المعتمد من مذهب مالك أن القران أفضل من التمتع وما ذكره المؤلف قول أشهب واختاره عبد الوهاب واللخمي.
"فإن قلت: إذا كان الراجح أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنا فلم رجح الشافعية والمالكية الإفراد على القران؟ فقد أجاب عند ذلك النووي في شرح المهذب: بأن ترجيح الإفراد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره أولا، فأهل بالحج وحده، وإنما أدخل عليه العمرة لمصلحة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج" ولم يزد هذا على ما فوقه الذي تعقبه السبكي شيئا إلا(11/347)
وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور كما ذكرته.
وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: إلى أن التمتع أفضل، وهو مذهب أحمد، لكونه -صلى الله عليه وسلم- تمناه، فقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت" ولا يتمنى إلا الأفضل.
وأجيب: بأنه إنما تمناه تطييبًا لقلوب أصحابه لحزنهم على فوات موافقته، وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واستمر عليه -صلى الله عليه وسلم.
وأما القائلون بأنه -صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها، فحجتهم حديث ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى.
__________
نسبته لشرح المهذب، وإلا بيان المعتقدين بقوله: "وكانت العرب تعتقده من أفجر الفجور" من باب جد جده وشعر شاعر، أي: الانبعاث في المعاصي "كما ذكرته".
روى الشيخان عن ابن عباس، قال: كانوا يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، قال الحافظ: بفتح أوله، أي: يعتقدون، والمراد أهل الجاهلية، ولابن حبان من طريق آخر عن ابن عباس، قال: والله ما أعمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش، ومن دان دينهم كانوا يقولون، فذكر نحوه فعرف بهذا تعيين القائلين. انتهى.
"وقد ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى أن التمتع أفضل" من الإفراد، ثم القران "وهو مذهب أحمد" في المشهور عنه "لكونه -صلى الله عليه وسلم- تمناه فقال: "لولا أني سقت الهدي لأحللت، ولا يتمنى إلا الأفضل، وأجيب بأنه إنما تمناه تطييبا لقلوب أصحابه" الذين لم يكن معهم هدي حيث أمرهم بجعل الحج عمرة يحلون منها، ثم يحرمون بعد بالحج "لحزنهم على فوات موافقته" فتمنوا أن يكون معهم هدي ليوافقوه في البقاء على الإحرام "وإلا فالأفضل ما اختاره الله له، واتمر عليه -صلى الله عليه وسلم" لأن التمتع دائما أفضل.
قال القاضي حسين: ولأن ظاهر هذا الحديث غير مراد بإجماع؛ لأن ظاهره أن سوق الهدي منع انعاقد العمرة، وقد انعقد الإجماع على خلافه في حجة الوداع.
"وأما القائلون بأنه -صلى الله عليه وسلم- لبى بالعمرة واستمر عليها فحجتهم حديث" الصحيحين وأبي داود والنسائي عن "ابن شهاب، عن سالم، عن" أبيه "ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى" وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل(11/348)
وقال ابن شهاب عن عروة: إن عائشة أخبرته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر.
وقال ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها.
وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه.
وأجيب: بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة، فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك، فلما رأى علي ذلك أهل بها جميعا.
__________
بالعمرة ثم أهل بالحج الحديث، ففيه أنه أراد التمتع اللغوي؛ لأن هذا قران لا تمتع نبه عليه عياض وغيره.
قال الحافظ: لكن جزمه بأنه بدأ بالعمرة مخالف لما عليه أكثر الأحاديث فهو مرجوح.
"وقال ابن شهاب عن عروة" بن الزبير "أن عائشة أخبرته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في تمتعه بالعمرة إلى الحج، فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر" المذكور قبله.
"وقال ابن عباس: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: هذه عمرة استمتعنا بها" فمن لم يكن عنده هدي فليحل الحل كله، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، هذا بقية الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
قال الأبي: لا يقال فيه أنه أحرم متمتعا؛ لأن الإشارة بهذه إلى عمرة الفسخ، ومعنى استمتعنا استمتعتم، أو يكون أدخل نفسه معهم، ولكن أقام لمانع وهو كون الهدي معه وهو قوي في تأييد جواز الفسخ. انتهى.
"وقال سعد بن أبي وقاص في المتعة: صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصنعناها معه" أخرجه مالك في الموطأ والترمذي وصححه والنسائي، كلاهما م طريق مالك "وأجيب بأن التمتع عندهم يشمل القران، ويدل عليه ما في الصحيحين عن سعيد بن المسيب، قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان" هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: اختلف علي وعثمان وهما بعسفان "فكان عثمان ينهى عن المتعة" أي: القران لتمتعه بترك التعب بالسفر مرتين "فقال علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تنهى عنه" لفظ مسلم.
أما البخاري فلفظه: ما تريد لي أن تنهى عن أمر فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم "فقال عثمان: دعنا منك، فقال: إني لا أستطيع أن أدعك" لئلا يظن الناس امتناعه "فلما رأى ذلك علي أهل بهما" أي: العمرة والحج "جميعا" وعند النسائي والإسماعيلي، فقال عثمان: تراني أنهى الناس(11/349)
فهذا يبين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم، وأن هذا هو الذي فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم. ووافقه عثمان على أنه -صلى الله عليه وسلم- فعله، لكن النزاع بينهما: هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟
فقد اتفق علي وعثمان على أنه -صلى الله عليه وسلم- تمتع وأن المراد بالتمتع عندهم القران.
وأيضًا: فإنه -صلى الله عليه وسلم- قد تمتع قران باعتبار ترفهه بترك أحد السفرين. انتهى.
وفي فتح الباري عن أحمد: أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه.
__________
وأنت تفعله، فقال: ما كنت أدع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لقول أحد "فهذا بين أن من جمع بينهما كان متمتعا عندهم" تمتعا لغويا "وأن هذا هو الذي فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ووافقه عثمان على أنه فعله، لكن النزاع بينهما هل ذلك الأفضل في حقنا أم لا؟ " وقد سبق أن فعل علي لبيان الجواز لا ينافي أن الإفراد أفضل.
"فقد اتفق علي وعثمان على أنه عليه الصلاة والسلام تمتع، وأن المراد بالتمتع عندهم القران" إذ الإحرام بهما جميعا قران "وأيضا؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قد تمتع تمتع قران باعتبار ترفهه" أي: عدم تعبه "بترك أحد السفرين. انتهى".
لكن في رواية البخاري عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان وعليا وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى ذلك علي أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة.
قال الحافظ: قوله: وأن يجمع بينهما يحتمل أن الواو عاطفة فيكون قد نهى عن التمتع والقران معا، ويحتمل أنه عطف تفسير؛ لأنهم يطلقون على القران تمتعا، فيكون المراد أن يجمع بينهما قرانا أو إيقاعا لهما في سنة واحدة، بتقديم العمرة على الحج.
وقد رواه النسائي عن ابن المسيب: نهى عن التمتع فلبى علي وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان، فقال علي: ألم تسمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تمتع؟، قال: بلى وفيه إشاعة العالم ما عنده من العلم وإظهاره ومناظرة ولاة الأمور في تحقيقه لمن قوي على ذلك لقصد نصح المسلمين والبيان بالفعل مع القول، وجواز الاستنباط من النص؛ لأن عثمان لم يخف عليه جواز التمتع والقران، وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر، لكن خشي علي أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع ذلك، فكل منهما مجتهد مأجور.
"وفي فتح الباري عن أحمد أن من ساق الهدي فالقران له أفضل ليوافق فعل النبي -صلى الله عليه وسلم، ومن لم يسق الهدي فالتمتع له أفضل ليوافق ما تمناه وأمر به أصحابه" والمشهور عن أحمد: فضل التمتع مطلقا، إلى هنا ما نقله من الفتح.(11/350)
وأما من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردا ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره فهو غلط، لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين، ولا الأئمة والأربعة، ولا أحد من أهل الحديث. قال ابن تيمية.
وأما من قال: إنه حج متمتعا، حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية بالحج مع سوق الهدي فحجته حديث معاوية أنه قصر عن رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة، وحديثه في الصحيحين، ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يكن زمن الفتح محرمًا، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة لوجهين: أحدهما، أنه في بعض ألفاظ الصحيح "وذلك في حجته"، الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح: "وذلك في أيام العشر" وهذا إنما كان في حجته، ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية
__________
"وأما من قال: إنه -صلى الله عليه وسلم- حج مفردًا، ثم اعتمر عقبه من التنعيم أو غيره، فهو غلط لم يقله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة الأربعة ولا أحد من أهل الحديث، قاله ابن تيمية" الحافظ أحمد أبو العباس المشهور.
"وأما من قال: إنه حج متمتعًا حل فيه من إحرامه، ثم أحرم يوم التروية" ثامن الحجة "بالحج مع سوق الهدي، فحجته حديث معاوية" بن أبي سفيان "أنه" أي: معاوية "قصر عن رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص" بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح القاف فمهملة، قال الجوهري وابن دريد: نصل طويل عريض، وقال عياض: نصل السهم الطويل غير العريض، وكذا قال النووي وابن الأثير "على المروة" بمكة.
"وحديثه في الصحيحين" وأبي داود والنسائي عن ابن عباس أن معاوية بن أبي سفيان أخبره، قال: قصرت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بمشقص على المروة، أو رأيته يقصر عنه على المروة بمشقص، وفي رواية عن ابن عباس: أن معاوية قال له: أما علمت أني قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أعرابي على المروة لحجته، أي: لعمرته، سميت حجا؛ لأن معناها القصد "ولا يمكن أن يكون هذا في غير حجة الوداع؛ لأن معاوية أسلم بعد الفتح" لمكة "والنبي -صلى الله عليه وسلم- زمن الفتح لم يكن محرما، ولا يمكن أن يكون في عمرة الجعرانة" كما ادعاه النووي "لوجهين:"
"أحدهما: أنه في بعض ألفاظ الصحيح وذلك في حجته" وعمرة الجعرانة كانت سنة ثمان بعد انصرافه من قسم غنائم حنين.
"الثاني: أن في رواية النسائي بإسناد صحيح، وذلك في أيام العشر، وهذا إنما كان في(11/351)
وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه اعتمر في رجب كما سيأتي، وسائر الأحاديث الصحيحة كلها تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر، وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت" وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر"، وهذا خبر عنه لا يدخله الوهم ولا الغلط، بخلاف خبر غيره عنه. قاله في زاد المعاد.
وأما اختلاف الروايات عنه -صلى الله عليه وسلم- في إهلاله، هل هو بالحج أو بالعمرة أو القران، والجمع بينهما، فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته.
قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب "اختلاف الأحاديث" كلاما موجزة: "أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع، وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه، ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، ويجوز في لغة الغرب إضافة الفعل إلى الآمر به، كما يجوز إضافته إلى
__________
حجته" إذ المراد عشر ذي الحجة "ولكن هذا مما أنكره الناس على معاوية وغلطوه فيه، وأصابه فيه ما أصاب ابن عمر في قوله: إنه" صلى الله عليه وسلم "اعتمر في رجب، كما سيأتي" أن عائشة غلطته "وسائر الأحاديث الصحيحة كلها" مبتدأ خبره "تدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يحل من إحرامه إلى يوم النحر" سواء قيل: إنه أفرد أو قرن أو تمتع "وبذلك أخبر عن نفسه بقوله: "لولا أن معي الهدي لأحللت"، وقوله: "إني سقت الهدي وقرنت فلا أحل حتى أنحر" كذا رواه أبو داود والنسائي من حديث البراء وأعله البيهقي بأنه ساقه في قصة علي، وقد رواها أنس في البخاري وجابر في مسلم وليس فيهما لفظ: وقرنت "وهذا خبر عن نفسه لا يدخله الوهم ولا الغلط بخلاف خبر غيره عنه، قاله في زاد المعاد" في هدى خير العباد لابن القيم، وأوله قوله: وأما من قال: إنه حج مفردا ثم اعتمر.
"وأما اختلاف الروايات عنه -صلى الله عليه وسلم- في إهلاله هل هو بالحج" وحده "أو بالعمرة أو القران والجمع بينهما" عطف على اختلاف "فكل تأول بما يناسب مذهبه الذي قدمته" من الخلاف في أي الأوجه الثلاثة أفضل من الإجماع على جواز كل كما قال غير واحد.
"قال البغوي: والذي ذكره الشافعي في كتاب اختلاف الأحاديث كلاما موجزه" أي: ملخصه "أن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان منهم المفرد والقارن والمتمتع" كما قالت عائشة وغيرها: "وكل كان يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه، فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر بها" أي: بالأوجه الثلاثة "وأذن فيها" ليدل على جواز جميعها، إذ لو أمر بواحد لظن أن(11/352)
الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد أنه أمر ببنائه، وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه، ثم احتج بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه.
قال النووي: كان -صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك، وأدخلها على الحج، فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد أن ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق، فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة، وهو الاقتصار على فعل واحد.
__________
غيره لا يجزى "ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الآمر به" اسم فاعل "كما يجوز إضافته" أي: نسبته "إلى الفاعل له، كما يقال: بنى فلان دارا، ويريد" القائل "أنه" أي: القائل "أمر ببنائه" وضرب الأمير فلانًا إذا أمر بضربه.
"وكما روي أنه عليه السلام رجم ماعزا، وإنما أمر برجمه" وقطع سارق رداء صفوان، وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام كما في كلام الشافعي "ثم احتج" لترجيح الإفراد ولهذا الجمع الحسن "بأنه عليه السلام كان أفرد الحج. انتهى، وقال الخطابي نحوه" نقلا عن ملخص الكتاب المذكور للشافعي، ورجح أنه أفرد الحج.
قال الحافظ: وهذا هو المشهور عند المالكية والشافعية، وقد بسط الشافعي القول فيه في اختلاف الحديث وغيره، ورجح أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم إحراما مطلقا ينتظر ما يؤمر به، فنزل الحكم بذلك عليه وهو على الصفا. انتهى، وهذا خلاف ما نقله البغي والخطابي وعياض والنووي وغيرهم عن الشافعي؛ أنه رجح أنه -صلى الله عليه وسلم- أفرد الحج.
وقال عياض: به تظاهرت الروايات الصحيحة، ومن قال: أحرم إحراما مطلقا لا يصح قوله؛ لأن جابر وغيره من الصحابة مصرحة بخلافه. انتهى.
"وقال النووي" فيما نقله عن عياض: "كان -صلى الله عليه وسلم- أولا مفردا، ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج" وذلك خاص به وبأصحابه في تلك الحجة فقط عند الجمهور، وقال أحمد: بل عام لكل المسلمين في كل عام.
"فمن روى الإفراد فهو الأصل، يعني حمله على ما أهل به أول الحال، ومن روى القران أراد ما استقر عليه أمره، ومن روى التمتع أراد به التمتع اللغوي والارتفاق" عطف تفسير "فقد ارتفق بالقران كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد" في الطواف والسعي.(11/353)
وقال غيره: أراد بالتمتع ما أمر به غيره.
قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض.
وقالت طائفة: إنما أحرم -صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء بالعمرة والحج، واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا" ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إهلاله بحج وعمرة معا.
__________
"وقال غيره" كعياض: "أراد بالتمتع ما أمر به غيره" لأنه صرح بقوله: "ولولا أن معي الهدي لأحللت"، فصح أنه لم يتحلل. انتهى كلام عياض.
"قالوا: وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث كلها ويزول عنها الاضطراب والتناقض" قال الحافظ: هو المعتمد، وقد سبق قديما ابن المنذر وبينه ابن حزم بيانا شافيا ومهده المحب الطبري تمهيدا بالغا. انتهى.
والأولى الجمع الأول الذي للشافعي، ومن وافقه من أن إضافة القران والتمتع اتساعا لكونه أمر بهما، وأن الراجح أنه كان مفردا، فإن ظاهر هذا ترجيح أنه بقي على إفراده.
"وقالت طائفة: إنما أحرم -صلى الله عليه وسلم- قارنا ابتداء بالعمرة والحج" معا "واحتجوا بأحاديث صحيحة تزيد على العشرين، منها حديث أنس في صحيح مسلم: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهل بهما: "لبيك عمرة وحجا"، ورواه عن أنس ستة عشر نفسا من الثقات، كلهم متفقون عن أنس بلفظ: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إهلاله بحج وعمرة معها" لكن في الصحيحين أن ابن عمر أنكر ذلك على أنس.
قال الحافظ: يمكن أن محل إنكاره كونه نقل أنه أهل بهما معا، والمعروف عنده أنه أدخل أحد النسكين على الآخر.
وقال البيهقي: إنه اختلف فيه على أنس، فروي عنه هكذا، وروي أنه سمعهم يصرخون بهما جميعا، قال: فلعله سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يعلم غيره كيف يهل بالقران، فظن أنه عن نفسه، ومن العلماء من جمع بين الأحاديث على نمط آخر مع موافقته على أنه كان قارنا، كالطحاوي وابن حبان وغيرهما، فقالوا: أهل أولا بعمرة، ثم لم يتحلل منها حتى أدخل عليها الحج يوم التروية، لكن الجزم بأنه بدأ بالعمرة مرجوح، ثم قال: والذي يظهر لي أن من أنكر القران من الصحابة نفى أن يكون أهل بهما جميعا أولا، ولا ينفي أنه أهل بالحج مفردا، ثم أدخل عليه العمرة، فيجتمع القولان كما تقدم. انتهى، وهو مبني على مختاره من ترجيح الجمع الثاني.(11/354)
وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري من حديث ابن عمر قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج.
وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج ثم أدخل عليه العمرة، وهذا عكسه.
والمشكل في هذا الحديث قوله: بدأ فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج.
وأجيب عنه: بأن المراد به صورة الإهلال، أي لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما فقال: "لبيك بعمرة وحج معا".
ومذهب الشافعي: أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح، وصار قارنا، ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة؛ لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي. والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى.
__________
"وأما من قال: إنه عليه الصلاة والسلام أهل بالعمرة وأدخل عليها الحج، فحجته ما في البخاري" ومسلم وأبي داود والنسائي "من حديث ابن عمر، قال: تمتع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" تمتعا لغويا وهو القران "وأهدى وساق معه الهدي من ذي الحليفة" والدليل على أن المراد اللغوي قوله: "وبدأ -صلى الله عليه وسلم- فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج" وتمتع الناس معه بالعمرة إلى الحج ... الحديث.
"وقد تقدم في الأحاديث الكثيرة الصريحة أنه -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالإهلال بالحج، ثم أدخل عليه العمرة وهذا عكسه" قال الحافظ: فهو مرجوح "والمشكل في هذا الحديث قوله: فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج، وأجيب عنه بأن المراد به صورة الإهلال، أي: لما أدخل العمرة على الحج لبى بهما، فقال: "لبيك بعمرة وحج معا" لأن القارن إذا سمى قدم العمرة.
قال الشيخ ولي الدين: وهذا الجواب بعيد من لفظ الحديث.
"ومذهب الشافعي أنه لو أدخل الحج على العمرة قبل الطواف صح وصار قارنا" زاد المالكية صحته: ولو أردفه بطوافها "ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة، ففيه قولان للشافعي، أصحهما: لا يصح إحرامه بالعمرة" وهو مذهب مالك "لأن الحج أقوى منها لاختصاصه بالوقوف والرمي، والضعيف لا يدخل على القوي. انتهى".(11/355)
وعن ابن عباس قال: صلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر بذي الحليفة، ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين. رواه مسلم وأبو داود.
وفي رواية الترمذي: قلد نعلين، وأشعر الهدي في الشق الأيمن، بذي الحليفة، وأماط عنه الدم.
وفي رواية لأبي داود بمعناه، وقال: ثم سلت الدم بيده، وفي أخرى بأصبعه.
وعند النسائي: أشعر بدنه من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها وقلدها نعلين.
__________
وأجابوا عن أحاديث إدخالها عليه، وفسخ الحج إلى العمرة؛ بأنه كان خاصا بهم في تلك السنة لضرورة بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، كما صح عن بعض الصحابة التصريح بالاختصاص خلافا لأحمد ومن وافقه وقد أجاب البيهقي عن جميع الأحاديث التي فيها أنه كان قارنا أو متمتعا واحدا واحدا، وادعى في الفتح أنه لا يخفى ما في أجوبته من التعسف.
"وعن ابن عباس قال: صلى" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الظهر بذي الحليفة:" ميقات المدينة "ثم دعى بناقته" أي: أمر بإحضارها، وفي رواية أبي داود: ببدنته، وفي نسخة منه: ببدنة بلا إضافة "فأشعرها" شق "في صفحة" أي: جانب "سنامها" شقا بالشفرة وهي السكين العريض "الأيمن" صفة صفحة، فذكره لمجاورته لسنام وهو مذكر أو على تأويل صفحة بجانب، وبه جزم النووي، فقال: وصف لمعنى صفحة لا للفظها "وسلت" ولأبي داود: ثم سلت "الدم عنها" أي: مسحه وأزاله، واصل السلت القطع "وقلدها نعلين" من النعال التي تلبس في الإحرام، أي: علقها في عنقهما، فجعلهما كالقلادة لها ليعلم أنها هدي، وفي رواية أبي داود: بنعلين وحده "رواه مسلم" واللفظ له "وأبو داود" بلفظ: بدنة وثم سلت وقال بنعلين كما علم.
"وفي رواية الترمذي" لحديث ابن عباس المذكور، وقال: حسن صحيح "قلد نعلين وأشعر الهدي" مفعول قلد وأشعر "في الشق الأيمن بذي الحليفة وأماط:" أزال "عنه الدم".
"وفي رواية لأبي داود بمعناه: وقال: ثم سلت الدم بيده" فزاد لفظ بيده "وفي أخرى" لأبي داود: "بأصبعه" يحتمل بحائل وبدونه، والنهي عن التضمخ بالنجاسة إذا كان عبثا وهذا لحاجة.
"وعند النسائي: أشعر بدنه" جمع بدنة فإفرادها في السابقة على إرادة الجنس "من الجانب الأيمن وسلت الدم عنها" إكراما لها؛ لأن إذا لم يمسح بقي حرمه عليها فيكره منظره وقد يؤذيها "وقلدها نعلين" أي: قلد كلا منها نعلين.(11/356)
وفي أخرى: أمر ببدنه فأشعر في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين.
وكان حجه -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث يساوي أربعة دراهم. رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس، والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس.
__________
"وفي أخرى: أمر ببدنة" أي: بإحضارها "فأشعر" -صلى الله عليه وسلم "في سنامها من الشق الأيمن ثم سلت عنها الدم وقلدها نعلين" وفيه أن الإشعار سنة، وبه قال العلماء: إلا أبا حنيفة فقال مثله وخالفه صاحباه ووافقا الكافة.
وحكي عن إبراهيم النخعي مثل قول أبي حنيفة وقد بالغوا في الإنكار عليه وقالوا: كيف يقال مثلة في شيء فعله النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد نهيه عن المثلة بزمان، فإنما المثلة قطع عضو من البهيمة للتعذيب أو للأكل، كما كانوا يجبون أسنمة الإبل وأليات الغنم والبهيمة حية فتعذب بذلك، وإنما الإشعار كالكي والوشم، فكما جاز ذلك ليعلم أنه ملك صاحبه جاز الإشعار ليعلم أنها هدي، فتتميز عن غيرها وتصان فلان يتعرض لها حتى تبلغ المحل، وفيه أنه في الصفحة اليمنى، وبه قال الشافعي والجمهور.
وقال ابن عمر ومالك: تشعر في الأيسر وجاء عن أحمد كالمذهبين.
قال الأبي، قيل: كان الإشعار والتقليد من عادة الجاهلية ليعلم أنه هدي خارج عن ملك المهدي فلا يتعرض له السراق وأصحاب الغارات، فلما جاء الإسلام رأى في ذلك معنى صحيحا فأقره.
"وكان حجه -صلى الله عليه وسلم" راكبا "على رحل" بفتح الراء وسكون المهملة للبعير، كالسرج للفرس "رث" بفتح الراء ومثلثة، أي: بال خلق "يساوي أربعة دراهم" فضة؛ لأنه في أعظم مواطن التواضع، إذ الحج حاله تجرد وإقلاع وخروج من المواطن سفرا إلى الله تعالى، ألا ترى إلى ما فيه من الإحرام، ومعناه إحرام النفس من الملابس تشبيها بالفارين إلى الله والتذكر بموقف القيامة، فكان التواضع في هذا المقام من أعظم المحاسن، هذا مع أنه عليه السلام أهدى مائة بدنة.
"رواه الترمذي في الشمائل وابن ماجه من حديث أنس" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حج على رحل رث وقطيفة كنا نرى ثمنها أربعة دراهم، فلما استوت به راحلته، قال: "لبيك بحجة لا سمعة فيها ولا رياء"، هذا لفظ الشمائل ورواه قبل ذلك عن أنس، حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث، وعليه قطيفة لا تساوي أربعة دراهم، فقال: "اللهم اجعله حجا لا رياء فيه ولا سمعة".
ولفظ ابن ماجه عن أنس قال: حج النبي -صلى الله عليه وسلم- على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، وقال: "اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة"، فإنما الكلام في القطيفة التي على(11/357)
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجاجا حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وجلست إلى جنب أبي بكر، وكانت زمالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبي بكر واحدة، مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ قال: أضللته البارحة. قال أبو بكر: بعير واحد تضله؟ فطفق يضربه ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم ويقول: "انظروا إلى هذا المحرم ما
__________
الرحل لا الرحل نفسه كما أوهمه المصنف، فهو من الاختصار المخل، والرواية الثانية في الشمائل لا تساوي بحرف النفي.
قال المصنف على الشمائل، فرواية: كنا نرى ثمنها أربعة دراهم تسامع والتحقيق ما سبق أنها لا تساويها، وزعم تعدد القصة ممنوع؛ لأنه لم يحج إلا مرة واحدة، ثم حديث أنس هذا في إسناده ضعف "و" لكن له شاهد رواه "الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس" بإسناد ضعيف أيضا، لكن باجتماعهما تحصل القوة.
"وعن أسماء بنت أبي بكر" الصديق "قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حجاجا" في حجة الوداع "حتى إذا كنا بالعرج" بفتح العين وإسكان الراء المهملتين وجيم قرية جامعة علي أيام من المدينة، قاله ابن الأثير وغيره: "نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزلنا، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجلست" أنا "إلى جنب أبي بكر" فيه أنه لا بأس بجلوس المرأة إلى جنب زوجها بحضور أبيها "وكانت زمالة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزمالة أبي بكر واحدة" بكسر الزاي، أي: مركوبهما وأداتهما وما كان معهما في السفر، قاله في النهاية.
قال الولي العراقي: وهو مضبوط في أصلنا من سنن أبي داود بضم الزاي، ولم يذكر الجوهري هذه اللفظة أصلا، بل ذكر هو وغيره أن الزاملة بعير يستظهر به الرجل يحمل متاعه وطعامه عليه "مع غلام لأبي بكر، فجلس أبو بكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع عليه وليس معه بعيره، فقال له أبو بكر: أين بعيرك؟ " إضافة إليه؛ لأنه القائد له الموكل على حفظه "قال: أضللته" أي أضعته، يقال: ضلل الشيء إذا ضاع وأضله، أي: أضاعه "البارحة" أي: أقرب ليلة مضت من برح إذا زال.
"قال أبو بكر: بعير واحد تضله" تضيعه "فطفق" بكسر الفاء مضارعة بفتحها، أي: شرع "يضربه" تأديبا له، ففيه جواز ضرب السيد عبده للتأديب، والظاهر أن أبا بكر إنما ضربه لأجل تضييعه حوائج النبي -صلى الله عليه وسلم- فكان في ذلك منتقما لغيره، قاله الولي "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبتسم" دون الضحك وهو أوله "ويقول: انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع وما يزيد على ذلك ويبتسم"(11/358)
يصنع"، وما يزيد على ذلك ويبتسم. رواه أبو داود.
وخرج معه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج -كما قالت عائشة- فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج فقال: "من أحب أن يهل بعمرة فليهل، ومن أحب أن يهل بحج فليهل". رواه البخاري.
ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة".
ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- الأبواء أو ودان، أهدى له الصعب بن جثامة حمارا وحشيا
__________
ليخفض أبا بكر ويذهب غيظه "رواه أبو داود" وابن ماجه وفيه ابن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وجاء أن آل فضالة الأسلمي لما بلغهم أن زاملته -صلى الله عليه وسلم- ضلت حملوا له حقة من حيس، فوضعوها بين يديه، فجعل يقول: هلم يا أبا بكر فقد جاء الله بغداء طيب، وجعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال عليه السلام: "هون عليك فإن الأمر ليس لك ولا إلينا معك".
وروي أن سعدا وأبا قيس جاءا ومعهما زاملة تحمل زادا، فقال سعد: يا رسول الله بلغنا أن زاملتك ضلت، فقال: قد جاء الله بزاملتنا فارجعا بزاملتكما بارك الله فيكما.
"وخرج معه -صلى الله عليه وسلم- أصحابه لا يعرفون إلا الحج" على ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج "كما قالت عائشة" في الصحيح، وعنها أيضًا: لا نرى إلا أنه الحج "فبين لهم عليه السلام وجوه الإحرام" الثلاثة "وجوز لهم الاعتمار في أشهر الحج، فقال: "من أحب" منكم "أن يهل بعمرة" وحدها "فليهل، ومن أحب أن يهل بحج" وحده "فليهل"، رواه البخاري" ولمسلم: ومن أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل.
"ولأحمد: "من شاء فليهل بعمرة" ومن شاء فليهل بحج "ولما بلغ" أي: وصل "صلى الله عليه وسلم الأبواء:" بفتح الهمزة وسكون الموحدة والمد جبل بينه وبين الجحفة مما يلي المدينة ثلاثة وعشرون ميلا، سمي بذلك لتبوئ السيول فيه لا لما فيه من الوباء، إذ لو كان كذلك لقيل: الأوباء أو هو مقلوب منه "أو ودان:" بفتح الواو وشد المهملة فألف فنون موضع قرب الجحفة أو قرية جامعة أقرب إلى الجحفة من الأبواء بينهما ثمانية أميال والشك من الراوي، وجزم بعض الرواة بالأبواء وبعضهم بودان "أهدى له الصعب من جثامة" بفتح الجيم والمثلثة الثقيلة ابن قيس بن ربيعة الليثي حليف قريش، وله أحاديث وآخى -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين عوف بن مالك، مات في خلافة عثمان على الأصح، وقيل: في آخر خلافة عمر، وقيل: الصديق، وغلط بأن الصعب شهد فتح إصطخر في خلافه عمر كما رواه ابن السكن وجاء في أربع من أهل العراق يشكون الوليد بن عقبة لعثمان في خلافته، كما رواه ابن إسحاق "حمارا وحشيا" باتفاق الرواة عن مالك وتابعه عليه(11/359)
فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". رواه البخاري ومسلم. وله في رواية: حمار وحش، وفي أخرى: من لحم حمار وحش، وفي رواية: عجز حمار وحشي يقطر دما، وفي رواية: شق حمار وحش، وفي رواية: عضو من لحم صيد.
__________
تسعة من حفاظ أصحاب ابن شهاب "فرده" أي: الحمار "عليه" أي: الصعب "فلما رأى ما في وجهه" من الكراهة والتغير من الكسر الحاصل له برد هديته.
"قال" صلى الله عليه وسلم تطييبا لقلبه: "إنا" بكسر الهمزة بوقوعها في الابتداء "لم نرده" بفتح الدال، رواه المحدثون وقال محققو النحاة: إنه غلط، والصواب ضم الدال كآخر المضاعف من كل مضاعف مجزوم اتصل به ضمير المذكر مراعاة للواو التي توجبها ضمة الهاء بعدها لخفاء الهاء، فكأن ما قبلها ولي الواو ولا يكون ما قبل الواو إلا مضموما هذا في المذكر، أما في المؤنث مثل ردها فبفتح الدال مراعاة للألف، قاله عياض وغيره: "عليك" لعلة من العلل "إلا" لأجل "أنا" بالفتح "حرم" بضم الحاء والراء جمع حرام والحرام المحرم، أي: محرمون "رواه البخاري" عن عبد الله بن يوسف "ومسلم" عن يحيى النيسابوري، كلاهما عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن الصعب "وله" أي: مسلم من طريق الليث ومعمر وصالح عن الزهري: أهديت له "حمار وحش" كما قال مالك: غايته أنه بالإضافة.
"و" له "في أخرى" عن ابن عيينة عن الزهري: أهديت له "من لحم حمار وحش".
"وفي رواية" لمسلم أيضا عن شعبة، عن الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أهدى الصعب بن جثامة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم "عجز حمار وحشي يقطر دما" كأنه صيد في ذلك الوقت.
"وفي رواية" لمسلم عن شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد، عن ابن عباس: أهدى "شق حمار وحش".
"وفي رواية" لمسلم أيضا عن طاوس، عن ابن عباس قال: قدم زيد بن أرقم، فقال له ابن عباس ليستذكره: كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو حرام، فقال: أهدي له -صلى الله عليه وسلم- "عضو من لحم الصيد" فرده فقال: "إنا لا نأكله، إنا حرم"، وله أيضا في رواية منصور عن الحكم: رجل حمار، فهذه الروايات صريحة في أنه عقير وأنه إنما أهدي بعضه لا كله، ولا معارضة بين رجل وعجز، وشق لحمله على أنه أهدي رجلا معها الفخذ وبعض جانب الذبيحة وعضو مبهم يرد لما بين، فمنهم من رجح رواية مالك وموافقيه.
قال الشافعي في الأم حديث مالك: إن الصعب أهدى حمارا أثبت من حديث من روى أنه(11/360)
ورواه أبو داود وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم، هل علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم ... فذكره.
واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه، إلا ما رواه ابن وهب والبيهقي من طريقه بإسناد حسن من طريق عمرو بن أمية: أن الصعب أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش، وهو بالحجفة، فأكل منه وأكل القوم، قال البيهقي: إن كان هذا محفوظا فلعله رد الحي وقبل اللحم.
قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله، ورد اللحم تارة لذلك، وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله. وقد قال الشافعي في "الأم": إن كان الصعب أهدى حمارا حيا
__________
لحم حمار.
وقال الترمذي: روى بعض أصحاب الزهري لحم حمار وحش وهو غير محفوظ ونحوه للبيهقي وزاد، وقد قال ابن جريج: قلت لابن شهاب الحمار عقير، قال: لا أدري، ومنهم من جمع بحمل أهدى حمارا على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع عكسه؛ لأن إطلاق الرجل على الحيوان له لا يعهد، إذ لا يطلق على زيد أصبع ونحوه، إذ شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم، كالرقبة على الإنسان والرأس، فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وبغير ذلك كما يأتي للمصنف "ورواه أبو داود" والنسائي "وابن حبان من طريق عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا زيد بن أرقم هل علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أهدي إليه عضو صيد فلم يقبله، وقال: "أنا حرم"، قال: نعم، فقوله: "فذكره" أي: بنحو رواية مسلم.
"واتفقت الروايات كلها على أنه رده عليه إلا ما رواه ابن وهب" عبد الله في جامعه "والبيهقي من طريقه" أي: ابن وهب "بإسناد حسن من طريق" أي: حديث "عمرو" بفتح العين "ابن أمية" الضمري الصحيح "أن الصعب أهدى للنبي -صلى الله عليه وسلم- عجز حمار وحش وهو بالجحفة، فأكل منه وأكل القوم" منه.
"قال البيهقي: إن كان هذا" الحديث "محفوظا، فلعله رد الحي وقبل اللحم قال في فتح الباري: وفي هذا الجمع نظر، فإن كانت الطرق كلها محفوظة فلعله رد حيا لكونه صيد لأجله ورد اللحم تارة لذلك" وهو ما في الطرق المتقدمة.
"وقبله تارة أخرى حيث علم أنه لم يصده لأجله" وهو ما في حديث عمرو بن أمية.
"وقد قال الشافعي في الأم: إن كان الصعب أهدى حمارا حيا فليس للمحرم أن(11/361)
فليس للمحرم أن يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده: أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة، وهو في غيرها من الروايات: بالأبواء أو بودان. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا لا حيا ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدى حمارا أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي -صلى الله عليه وسلم، قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارا، أطلق وأراد بعضه مجازا، قال: ويحتمل أنه أحفره له حيا فلما رده عليه ذكاه، وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه أن حكم الجزء حكم الكل. قال: والجمع مهما
__________
يذبح حمار وحش، وإن كان أهدى له لحما، فقد يحتمل أن يكون علم أنه صيد له فرده عليه" لأنه لا يجوز للمحرم لحم ما صيد له.
"ونقل الترمذي عن الشافعي أنه رده لظنه أنه صيد من أجله فتركه على وجه التنزه، ويحتمل أن يحمل القبول" بموحدة بعد القاف "المذكور في حديث عمرو بن أمية على وقت آخر، وهو حال رجوعه -صلى الله عليه وسلم- من مكة، ويؤيده أنه جزم بوقوع ذلك في الجحفة وهو في غيرها من الروايات، قال: بالأبواء أو بودان" فكأنه لما رده؛ لأنه محرم أهدي له بعدما حل فقبله وهذا جمع حسن.
"وقال القرطبي: يحتمل" في طريق الجمع بين الروايات السابقة "أن يكون الصعب أحضر الحمار مذبوحا" بتمامه "لا حيا، ثم قطع منه عضوا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- فقدمه له، فمن قال: أهدي حمارا، أراد بتمامه مذبوحا لا حيا، ومن قال: لحم حمار أراد ما قدمه للنبي -صلى الله عليه وسلم" وهذا جمع متجه، إذ ليس في رواية حمار تصريح بأنه حي إنما هو ظاهر فقط.
"قال: ويحتمل أن يكون من أراد حمارًا أطلق" اسم الكل "وأراد بعضه مجازًا" من إطلاق الكل على البعض وهو سائغ ويمتنع عكسه كما مر "قال: ويحتمل أنه أحضره له حيا، فلما رد عليه ذكاه وأتاه بعضو منه ظنا أنه إنما رده عليه لمعنى يختص بجملته، فأعلمه بامتناعه" من قبوله "أن حكم الجزء حكم الكل" في أنه لا يحل للمحرم، وهذا الجمع قريب وفيه إبقاء اللفظ على المتبادر منه الذي ترجم عليه البخاري إذا أهدي للمحرم حمارا وحشيا حيا(11/362)
أمكن أولى من توهيم بعض الرواة.
وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد بالبيع والهبة ونحوهما، وفي ملكه إياه بالإرث خلاف، وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام، سواء صيد له بأذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه لم يحرم عليه، هذا مذهبنا، وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه، وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا، سواء صاده أو صاده غيره له، قصده أو لم يقصده، فيحرم مطلقا. حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، قالوا: والمراد بالصيد المصيد، ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- رده وعلل رده عليه بأنه محرم، ولم يقل: بأنك صدته لنا.
__________
لم يقبل مع أنه لم يقل في الحديث حيا، فكأنه فهمه من قوله: حمارًا "قال: والجمع مهما أمكن أولى من توهيم بعض الرواة" كما هو القاعدة عند المحدثين.
"وقال النووي: قال الشافعي وآخرون: ويحرم تملك الصيد" سواء كان ملكا لغير المحرم وأخذه منه "بالبيع" أي: الشراء "والهدية ونحوهما" كالعارية والصدقة، أو كان مباحا أخذه من البادية "وفي ملكه إياه بالإرث خلاف" أرجحه عندهم أنه يملكه ولا يمؤمر بإزالة ملكه عنه؛ لأنه لم يملكه اختيارا ولا قصر بعدم إرساله قبل الإحرام.
"وأما لحم الصيد فإن صاده المحرم أو صيد له فهو حرام سواء صيد له بإذنه أو بغير إذنه، وإن صاده حلال لنفسه ولم يقصد به المحرم، ثم أهدى من لحمه للمحرم أو باعه" أو تصدق به عليه "لم يحرم" أكله على المحرم "هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود، وقال أبو حنيفة: لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه" لظاهر حديث أبي قتادة: أنه صاده لأجلهم، ورد بأنه يحاج إلى تصريح بذلك.
"وقالت طائفة: لا يحل له لحم الصيد أصلا سواء صاده أو صاده غيره له قصده أو لم يقصده فيحرم مطلقا، حكاه القاضي عياض عن علي وابن عمر وابن عباس، لقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] "قالوا: والمراد بالصيد المصيد فلا فرق بين أن يصيده محرم أو حلال.
"ولظاهر حديث الصعب بن جثامة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- رده، وعلل رده عليه بأنه محرم ولم يقل(11/363)
واحتج الشافعي وموافقوه: بحديث أبي قتادة المذكور في صحيح مسلم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة وهو حلال، قال للمحرمين: "هو حلال فكلوه". وفي الرواية الأخرى قال: "فهل معكم منه شيء"؟ قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلها.
ولما مر -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان قال: "يا أبا بكر، أي وادي هذا"؟ قال: وادي عسفان قال: "لقد مر به هود وصالح على بكرين أحمرين خطامهما الليف،
__________
بأنك صدته لنا" وأجيب بأن تعليله بذلك لا يمنع كونه صيد له؛ لأن الصعب كان عالما بأنه -صلى الله عليه وسلم- يمر به فحمله على أنه صاده لأجله؛ ولأنه بين الشرط المحرم للصيد على الإنسان إذا صيد له وهو الإحرام، وقبل -صلى الله عليه وسلم- حمار البهري وفرقه على الرفاق كما في الموطأ؛ لأنه كان يتكسب بالصيد فحمله على عادته في أنه لم يصد لأجله، وعن الآية الكريمة بحملها على الاصطياد وعلى لحم ما صيد لمحرم للأحاديث المبينة للمراد بها كحديث أبي قتادة، وحديث جابر. رفعه: صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، وسكت عليه أبو داود وصححه الحاكم والرواية يصاد بالألف على لغة: ألم يأتيك والأنباء تنمي.
"واحتج الشافعي وموافقوه بحديث أبي قتادة" الحارث بن ربعي "المذكور في صحيح مسلم، فإنه -صلى الله عليه وسلم- قال في الصيد الذي صاده أبو قتادة" وهو حمار وحش "وهو حلال قال:" أعادها الطول الفصل "للمحرمين هو حلال فكلوه" لأنه لم يصده لكم بل لنفسه، ولأحمد الطيالسي وأبي عوانة، فقال: "كلوا وأطعموني".
"وفي الرواية الأخرى" في الصحيحين وغيرهما "قال" صلى الله عليه وسلم: "فهل معكم منه شيء" من لحمه "قالوا: معنا رجله، فأخذها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأكلها".
وللبخاري: فناولته العضد فأكلها حتى تعرفها.
وفي رواية: فدفعنا له الذراع فأكل منها، وجمع بأنه أكل من الأمرين.
"ولما مر -صلى الله عليه وسلم- بوادي عسفان" بضم العين وإسكان السين المهملتين قرية جامعة قرب مكة "قال: "يا أبا بكر أي واد هذا"؟، قال: وادي عسفان" ظاهر الاستفهام أنه لا يعلم أنه وادي عسفان، ويحتمل أنه استنطاق، ولا يرد أن عادتهم أن يقولون في الاستنطاق: الله ورسوله أعلم؛ لأن ذلك في الأمور العلمية وهذا خبر عن محسوس، ولا يرد أنهم قالوا ذلك حين قال: "أي بلد هذا؟ أي شهر هذا"؟ وهما محسوسان؛ لأن ذلك استجلاب لما عسى أن يخبرهم بما لا يعلمون، أشار إليه الأبي وغيره.
"قال: "لقد مر به هود وصالح" عليهما الصلاة والسلام "على بكرين أحمرين" أي: أن(11/364)
"وأزرهما العباء وأرديتهما النمار يلبون يحجون البيت العتيق". رواه أحمد.
وفي رواية مسلم من حديث ابن عباس، لما مر بوادي الأزرق قال: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية واضعا أصبعيه في أذنيه مارا بهذا الوادي، وله جؤار إلى الله بالتلبية".
ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم والجيم- قرية ذات مزارع، بينه وبين مكة ميل واحد.
ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه: "أما موسى كأني انظر إليه إذ انحدر من الوادي يلبي".
__________
كل واحد منهما مر في زمن مروره على بكر أحمر، إذ هو متقدم على صالح بزمان "خطامهما" بكسر المعجمة وفتح المهملة حبلهما المشدود على خطمهما، وهو مقادم أنفهما وفمهما "الليف" تواضعا لله تعالى جبلة جبل عليها الأنبياء، ونسخة خطمهما تحريف "وأزرهما العباء" بمهملة "وأرديتهما النمار": جمع نمرة بردة من صوف تلبسهما الأعراب "يلبون يحجون البيت العتيق" الكعبة "رواه أحمد" في مسنده.
"وفي رواية مسلم" في أواخر كتاب الإيمان "من حديث ابن عباس: لما مر" صلى الله عليه وسلم "بوادي الأزرق" في حجة الوداع، ففي رواية لمسلم أيضا عن ابن عباس قال: سرنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين مكة والمدينة، فمررنا بواد فقال: أي واد هذا؟، قالوا: وادي الأزرق الحديث، إذ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسر لمكة بعد فتحها إلا لحجة الوداع، وابن عباس قبل فتحها كان مع أبويه بمكة "قال: "كأني أنظر إلى موسى هابطا من الثنية" الطريق في الجبل "واضعا أصبعيه في أذنيه" بالتثنية فيهما "مارا هذا الوادي وله جؤار" بضم الجيم وهمزة مفتوحة ممدودة فراء، أي: صوت مرتفع، قال تعالى: {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} ، أي: ترفعون أصواتكم، قال أبو نعيم: الجؤار صوت فيه استغاثة "إلى الله بالتلبية" ووادي الأزرق خلف أمج -بفتح الهمزة والميم وبالجيم- قرية ذات مزارع بينه" أي: أمج "وبين مكة ميل واحد ولم يعين في رواية البخاري الوادي، ولفظه: " أما موسى كأني أنظر إليه" جواب أما، والأصل: فكأني، فحذف الفاء وهو حجة على من قال من النحاة: لا يجوز حذفها لا أن يقال: حذفها من الراوي، وقد جوز ابن مالك حذفها في السعة وخصه بعضهم بالضرورة "إذ انحدر" بدون ألف، ولبعض الرواة بإثباتها وأنكرها بعضهم وغلط راويها.
قال عياض: وهو غلط منه، إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا؛ لأنه وصفه حالة انحداره فيما(11/365)
قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي، وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلن ابن مريم بفج الروحاء". انتهى.
وهو تغليط للثقات بمجرد التوهم، وقد ذكر البخاري الحديث في اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاده؟ وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس، أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط فزاد يونس؟
وتعقب أيضًا: بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؟ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل.
__________
مضى "من الوادي" وادي الأزرق كما علم من رواية مسلم "يلبي" بصوت عال.
"قال المهلب: هذا وهم من بعض رواته؛ لأنه لم يأت في أثر ولا خبر أن موسى حي وأنه سيحج، وإنما أتى ذلك عن عيسى فاشتبه على الراوي، ويدل عليه قوله في الحديث الآخر: "ليهلن ابن مريم بفج" بفاء وجيم، أي: طريق "الروحاء" بالمد. "انتهى، وهو" كما قال الحافظ "تغليط للثقات بمجرد التوهم.
"وقد ذكر البخاري الحديث في" كتاب "اللباس من صحيحه بزيادة ذكر إبراهيم فيه" ولفظه عن مجاهد، قال: كنا عند ابن عباس فذكروا الدجال أنه قال: مكتوب بين عينيه كافر، فقال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل مخطوط بخلبة بضم الخاء المعجمة ولام ساكنة وموحدة، أي: ليف كأني أنظر ... إلخ، وكذا رواه مسلم من هذا الوجه بلفظه "أفيقال: إن الراوي قد غلط فزاده" بهمزة الاستفهام الإنكار.
"وفي رواية مسلم المتقدمة ذكر يونس" ولفظه: ثم أتى على ثنية هرشاء، فقال: أي ثنية هذه؟، قالوا: ثنية هرشاء، قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى على ناقة حمراء جعداء عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة وهو يلبي "أفيقال: إن الراوي الآخر قد غلط، فزاد يونس" لأنه إذا قيل ذلك ارتفع الوثوق بالروايات الصحيحة بلا مستند بل مجرد التوهم.
"وتعقب أيضا" والمتعقب الزين بن المنير في الحاشية كما في الفتح "بأن توهيم المهلب للراوي وهم منه وإلا فأي فرق بين موسى وعيسى؛ لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع إلى السماء نزل إلى الأرض، وإنما ثبت أنه سينزل، وأجيب:" والمجيب الحافظ "بأن(11/366)
وأجيب: بأن المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: "كأني أنظر إليه" ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج".
وقد اختلف في معنى قوله: "كأني أنظر إليه".
فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك، ورؤيا الأنبياء وحي.
وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون. فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة، كما في صحيح مسلم عن أنس: أنه رأى موسى قائما في قبره يصلي.
قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دوعي أنفسهم لا بما يلزمون به، كما يلهم أهل الجنة الذكر. ويؤيده أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس: 10] الآية.
__________
المهلب أراد أن عيسى لما ثبت أنه سينزل كان كالمحقق، فقال: كأني أنظر إليه، ولهذا استدل المهلب بحديث أبي هريرة الذي فيه: "ليهلن ابن مريم بالحج" يعني: وإن كان هذا الذي أراده ليس بشيء؛ لأنه مجرد توهم.
"وقد اختلف في معنى قوله: كأني أنظر إليه، فقيل: إن ذلك رؤيا منام تقدمت له، فأخبر عنها لما حج عندما تذكر ذلك ورؤيا الأنبياء وحي" قال الحافظ: وهذا هو المعتمد عندي لما سيأتي في أحاديث الأنبياء من التصريح بنحو ذلك في أحاديث أخر، وكون ذلك كان في المنام والذي قبله ليس ببعيد.
"وقيل: هو على الحقيقة؛ لأن الأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون" بالأولى من الشهداء "فلا مانع أن يحجوا في هذه الحالة كما في صحيح مسلم" في المناقب "عن أنس أنه" صلى الله عليه وسلم "رأى موسى قائما في قبره يصلي".
"قال القرطبي: حببت إليهم العبادة، فهم يتعبدون بما يجدونه من دواعي أنفسهم لا بما يلزمون به" بلام وزاي، فالموت إنما يرفع التكليف لا العمل "كما يلهم أهل الجنة الذكر، ويؤيده؛ أن عمل الآخرة ذكر ودعاء لقوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا} أي: طلبهم لما يشتهونه في الجنة أن يقولوا: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} أي: يا الله، فإذا ما طلبوه بين أيديهم "الآية، لكن تمام(11/367)
لكن تمام هذا التوجيه أن يقول: المنظور إليه هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت له ليلة الإسراء، وأما أجسادهم فهي في القبور.
قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا، ويرى في اليقظة كما يرى في النوم.
وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا، كيف تعبدوا؟، وكيف حجوا؟، وكيف لبوا؟، ولهذا قال: "كأني"..
وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك، فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه". انتهى.
وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي والله الموفق.
ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بسرف خرج إلى أصحابه فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا".
__________
هذا التوجيه أن يقول المنظور إليه: هي أرواحهم، فلعلها مثلت له في الدنيا كما مثلت:" صورت بصورة أجسادهم "له ليلة الإسراء" في أحد الوجوه "وأما أجسادهم فهي في القبور".
"قال ابن المنير وغيره: يجعل الله لروحه مثالا ويرى في اليقظة كما يرى في النوم، وقيل: كأنه مثلت له أحوالهم التي كانت في الحياة الدنيا كيف تعبدوا؟ وكيف حجوا؟ وكيف لبوا؟، ولهذا قال: "كأني" والإتيان بالتشبيه يفيد ذلك "وقيل: كأنه أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة قطعه به قال: "كأني أنظر إليه" فأخبر عنهم كالمشاهد، قال الأبي: ويؤيد هذا وما قبله قوله: "وعليه جبة صوف"، إذ لا يلبس الصوف في الآخرة. "انتهى".
"وقد ذكرت في مقصد الإسراء من ذلك ما يكفي، والله الموفق" لا غيره "ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بسرف" بفتح المهملة وكسر الراء وفاء لا ينصرف للعلمية والتأنيث موضع على عشرة أميال، وقيل: أكثر، وقيل: أقل من مكة "خرج إلى أصحابه، فقال: "من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها" أي: حجته "عمرة فليفعل" العمرة "ومن كان معه الهدي فلا" يفعل، أي: لا يجعلها عمرة، فحذف الفعل المجزوم بلا الناهية خيرهم أولا بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسا بالعمرة في أشهر الحج، ثم حتم عليهم الفسخ بعد ذلك وأمرهم به أمر عزيمة وكره ترددهم في قبوله ثم قبلوه.
ففي مسلم عن عائشة: فدخل علي وهو غضبان، فقلت: من أغضبك أدخله الله النار؟، قال: "أوما شعرت أني أمرت الناس بأمر، فإذا هم يترددون"؟.(11/368)
وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي، فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"؟ قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة، قال: "وما شأنك"؟ قالت: لا أصلي، قال: "فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب الله عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجتك، فعسى الله أن يرزقكيها". رواه البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي.
وفي رواية قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف، فطمثت، فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك"؟ فقلت: والله لوددت أني لم أكن خرجت العام، فقال: "ما لك، لعلك
__________
وفي البخاري عن جابر، فقال لهم: "أحلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة"، قالوا: وقد سمينا الحج، فقال: "افعلوا ما أقول لكم".
"وحاضت عائشة بسرف فدخل عليها -صلى الله عليه وسلم- وهي تبكي فقال: "ما يبكيك يا هنتاه"؟ بفتح الهاء وقد تسكن ففوقية فألف فهاء ساكنة كناية عن شيء لا يذكر باسمه "قالت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة" أي: إعمالها من طواف وسعي "قال: "وما شأنك"؟، قالت: لا أصلي" كنت عن الحيض بالحكم الخاص به، وهو امتناع الصلاة أدبا منها لما في التصريح به من الإخلال بالأدب، وقد ظهر أثر ذلك في بناتها المؤمنات، فكلهن يكنين عن الحيض بحرمان الصلاة، أي تحريمها أو غير ذلك "قال: "لا يضرك" بكسر الضاد وخفة التحتية من الضير، وفي رواية: يضرك بضم الضاد وشد الراء من الضرر "إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن" سلاها بهذا وخفف همها، أي: أنك لست مختصة بذلك بل كل بنات آدم يكون ذلك منهن "فكوني في حجتك" أي: اثبتي وداومي عليها "فعسى الله أن يرزقكيها" مفردة بياء متولدة من إشباع كسرة الكاف وهي في لسان المصريين شائعة، قاله في المصابيح، وفي الكرماني: يرزقكها بغير ياء، وفي بعضها: بإشباع كسرة الكاف ياء والضمير للعمرة، قاله المصنف "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي".
"وفي رواية" لهؤلاء الأربعة أيضا "قالت عائشة: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا نذكر إلا الحج" لفظ مسلم، ولهما: لا نرى إلا أنه الحج، وفي رواية: مهلين بالحج، ولمسلم أيضا: لبينا بالحج "حتى جئنا سرف فطمثت" بمثلثة، أي: حضت "فدخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا أبكي، فقال: "ما يبكيك"؟، فقلت: والله لوددت" تمنيت "أني لم أكن خرجت" وفي رواية: حججت "العام، فقال: "ما لك لعلك نفست" بفتح النون وقد تضم وكسر الفاء، أي: حضت(11/369)
"نفست"؟ قلت: نعم، قال: "هذا شيء كتبه الله علي بنات آدم، افعلي ما يفعل الحاج، غير أن تطوفي بالبيت حتى تطهري". الحديث.
وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة، أولا كما اختلف: هل كانت متمتعة أم مفردة؟ وإذا كانت متمتعة فقيل: إنها كانت أحرمت أولًا بالحج، وهو ظاهر هذا الحديث.
وفي حجة الوداع من المغازي عند البخاري، من طريق هشام ابن عروة عن أبيه قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة. وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري: ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود عنها قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة.
__________
"قلت: نعم" نفست، وأفادت الروايتان أنها قالت: نعم لا أصلي "قال: "هذا شيء كتبه الله على بنات آدم" وأنت واحد منهن، أي: امتحنهن وتعبدهن بالصبر عليه "افعلي ما يفعل الحاج" من المناسك "غير أن لا تطوفي بالبيت" لا زائدة، إذ غير عدم الطواف هو نفس الطواف أو تطوفي مجزوم بلا: لا تطوفي ما دمت حائضا بدليل قوله: "حتى تطهري"، وأن على هذا الوجه الثاني مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن ... "الحديث".
"وقد اختلف فيما أحرمت به عائشة أولا كما اختلف هل كانت" أي: صارت "متمتعة أو مفردة؟ وإذا كانت متمتعة، فقيل: إنها كانت أحرمت أولا" بالحج "وهو ظاهر هذا الحديث".
"وفي حجة الوداع من" كتاب "المغازي عند البخاري" وفي أبواب العمرة أيضا "من طريق هشام بن عروة عن أبيه" عنها "قالت: وكنت فيمن أهل بعمرة، وزاد أحمد من وجه آخر عن الزهري" عن عروة عنها "ولم أسق هديا، وفي رواية الأسود" بن يزيد النخعي "عنها قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نلبي لا نذكر حجا ولا عمرة" أي: بالنطق، بل بالنية فقط أو إحراما مبهما لما روي أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مبهما حتى أوحى إليه بالتعيين، والأول أظه لتصريحها أنها أهلت بعمرة، فيبعد فيبعد احتمال الإبهام، قاله المازري.
وقال عياض: هو الذي لا يتأول غيره؛ لأنها صرحت في غير حديث أنهم أهلوا بالحج، ولا يصح أنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم مبهما؛ لأن رواية جابر وغيره تخالفه. انتهى.
زاد الحافظ: فادعى إسماعيل القاضي وغيره: أن هذا، يعني المروي، أنها أحرمت بعمرة غلط من عروة والصواب رواية القاسم والأسود وعروة، عنها: أنها أهلت بالحج مفردا، وتعقب بأن قول عروة عنها: أهلت بعمرة صريح، وقول الأسود وغيره عنها: لا نرى إلا الحج ليس صريحا(11/370)
ويحتمل في الجمع أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردة، كما صنع غيرها من الصحابة، ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا، فصارت متمتعة، ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج.
وقال القاضي عياض: واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا.
قال ابن عبد البر: يريد ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا، بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة. واختلف في جوازه من بعدهم، لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك احتمال أن يكون معنى قوله: "ارفضي عمرتك" أي اتركي التحلل منها وأدخلي عليها بالحج، فتصير قارنة، ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة" أي عن أعمالها.
__________
في إهلالها بحج مفرد، فالجمع بينهما أنها ذكرت ما عهدوه من ترك الاعتمار في أشهر الحج، فبين لهم وجوه الإحرام فأحرمت بعمرة كما رواه عروة، وهو أعلم الناس بحديثها، ووافقه جابر عند مسلم، وكذا رواه طاوس ومجاهد عنها، قال: "ويحتمل في الجمع" أيضا "أن يقال: أهلت عائشة بالحج مفردا كما صنع غيرها من الصحابة" وعلى هذا ينزل حديث الأسود ومن وافقه "ثم أمر النبي -صلى الله عليه وسلم" أصحابه "أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ففعلت عائشة ما صنعوا فصارت متمتعة" وعلى هذا ينزل حديث عروة: "ثم لما دخلت مكة وهي حائض ولم تقدر على الطواف لأجل الحيض أمرها أن تحرم بالحج" فصارت قارنة.
"وقال القاضي عياض" في شرح قوله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة: "انقضي رأسك وامتشطي وأهلي بالحج ودعي العمرة"، وفي رواية: "ارفضي عمرتك" كما في الصحيحين وغيرهما.
"واختلف في الكلام على حديث عائشة، فقال مالك: ليس العمل على حديث عروة عن عائشة عندنا قديما ولا حديثا".
"قال ابن عبد البر: يريد" مالك: "ليس العمل به في رفض العمرة وجعلها حجا بخلاف جعل الحج عمرة، فإنه وقع للصحابة" بأمره -صلى الله عليه وسلم "واختلف في جوازه من بعدهم" ويأتي للمصنف بسطه "لكن أجاب جماعة من العلماء عن ذلك باحتمال أن يكون معنى قوله: "ارفضي عمرتك"، أي: اتركي التحلل منها وادخلي عليها الحج فتصير قارنة".
"ويؤيده قوله في رواية لمسلم: "وأمسكي عن العمرة"، أي: عن أعمالها" والإمساك(11/371)
وإنما قالت عائشة: "وأرجع بحج" لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل، كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين.
واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء عنها: "وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة" أخرجه أحمد.
وهذا يقوي قول الكوفيين: إن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك قوله لها: "دعي عمرتك"، وفي رواية: "اقضي عمرتك" ونحو ذلك.
واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة.
لكن في رواية عطاء عنها ضعف، والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلت بعمرة، حتى إذا كان بسرف حاضت فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج" حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت، فقال: "قد حللت من حجتك وعمرتك"، فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: فأعمرها من التنعيم.
__________
ليس برفض "وإنما قالت عائشة:" يرجع الناس بحج وعمرة "وأرجع بحج لاعتقادها أن إفراد العمرة بالعمل أفضل كما وقع لغيرها من أمهات المؤمنين".
"واستبعد هذا التأويل لقولها في رواية عطاء" بن أبي رباح "عنها: وأرجع أنا بحجة ليس معها عمرة، أخرجه أحمد؛" فإنه ظاهر في أنها حجة مفردة "وهذا يقوي قول الكوفيين" الحنفية ومن وافقهم؛ "أن عائشة تركت العمرة وحجت مفردة، وتمسكوا في ذلك بقوله" صلى الله عليه وسلم "لها: "دعي عمرتك"، وفي رواية: "ارفضي عمرتك"، ونحو ذلك" كقوله: "انقضي رأسك وامتشطي".
"واستدلوا به على أن للمرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة" أي: وحدها "فحاضت قبل أن تطوف أن تترك العمرة وتهل بالحج مفردا كما صنعت عائشة، لكن في رواية عطاء عنها ضعف" فلا ينهض الاستدلال "والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث ابر: أن عائشة أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم" يوم التروية حين دخل وهي تبكي: "أهلي بالحج حتى إذا طهرت" بفتح الهاء وضمها والتاء ساكنة، فلفظ جابر: ففعلت، ووقفت المواقف حتى إذا طهرت "طافت بالكعبة وسعت، فقال" صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجتك وعمرتك" جميعا كما في الرواية، فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل ولم تخرج منها "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت"(11/372)
ولمسلم من طريق طاوس عنها: فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "طوفك يسعك لحجك وعمرتك" فهذا صريح في أنها كانت قارنة لقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك"، وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة، وقد وقع في رواية لمسلم: وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا إذا هويت الشيء تابعها عليه.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا".
وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج، وفي منتهى سفرهم ودنوهم من مكة بسرف، كما جاء في رواية عائشة، أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في
__________
فأتيت بطواف واحد، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن" كما في مسلم "فأعمرها" بهمزة قطع والجزم أمرا "من التنعيم، ولمسلم من طريق طاوس، عنها: فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "طوافك يسعك لحجك وعمرتك" أي يكفيك بمعنى يجزئك لهما.
وفي رواية مجاهد عنها عند مسلم: فقال لها -صلى الله عليه وسلم: "يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك".
"فهذا صريح في أنها كانت قارنة" ولم ترفض العمرة، وإنما تركت إتمام عملها "لقوله: قد حللت من حجك وعمرتك" ولقوله: "طوافك يسعك" إلى آخره "وإنما أعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها لكونها لم تطف بالبيت لما دخلت معتمرة" كما قالت: إني أجد في نفسي ... إلخ.
"وقد وقع في رواية لمسلم" في حديث جابر الإشارة إلى ذلك، حيث قال: "وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا" خلقه كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى ُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، "إذا هويت" بفتح الهاء وكسر الواو وفتح التحتية أحبت "الشيء" ولا نقص فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة، إذ هو أولى من امتثل وعاشروهن بالمعروف "ثم قال" كما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة، قالت: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فأهللنا بعمرة، ثم قال "صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "من كان معه هدي" بإسكان الدال على الأفصح اسم لما يهدى إلى الحرم من النعم "فليهل بالحج مع العمرة" أي: يضيفه إليها فيصير قارنا "ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا" بضم التحتية وفتحها وكسر الحاء؛ لأن القارن يعمل عملا واحدا "وإنما قال لهم هذا القول بعد إحرامهم بالحج في منتهى سفرهم ودنوهم" أي: قربهم "من مكة بسرف كما جاء في رواية عائشة أو بعد طوافه بالبيت كما جاء في رواية جابر" عند(11/373)
رواية جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك في الموضعين. وإن العزيمة كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.
وفي رواية قالت عائشة: فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، حتى قدمنا مكة فقال -صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج فليتم حجه".
وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما، في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر.
ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء أكان ساق هديا أم لا. واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي، وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء، كما لو تحلل المحرم بالحج.
__________
مسلم "ويحتمل" كما قال عياض في الجمع بينهما "تكرار الأمر بذلك في الموضوعين، وأن العزيمة" التصميم عليهم بذلك "كانت آخرا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة" ففعلوا.
"وفي رواية" لمسلم وغيره "قالت عائشة:" خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع "فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج" فقولها في الرواية السابقة: فأهللنا بعمرة ليس إخبارا عن فعل جميع الناس، بل عن حالها وحال من كان مثلها في الإحرام بعمرة "حتى قدمنا مكة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أحرم بعمرة ولم يهد" بضم الياء، أي: لم يسق هديا إلى الحرم من الأنعام "فليحلل" بسكون اللام الأولى وكسر الثانية وفتح التحتية وضمها "ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه، ومن أحرم بحج" وحده "فليتم حجه، وهذا الحديث ظاهر في الدلالة لأبي حنيفة وأحمد وموافقيهما في أن المعتمر المتمتع إذا كان معه الهدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر".
"ومذهب مالك والشافعي وموافقيهما؛ أنه إذا طاف وسعى وحلق حل من عمرته وحل له كل شيء في الحال، سواء كان ساق هديا أم لا؟، واحتجوا بالقياس على من لم يسق الهدي" فإنه يحل باتفاق، والجامع بينهما أن كلا منهما صار حلال بالفراغ من أعمالها؛ "وبأنه تحلل من نسكه فوجب أن يحل له كل شيء كما لو تحلل المحرم بالحج" وحده، فإنه يحل له كل شيء وهي احتجاجات قوية.(11/374)
وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها مسلم عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع، فأهللنا بعمرة، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل بالحج مع العمرة، ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا" فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر. والله أعلم.
ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- ذا طوى -بضم الطاء وفتحها، وقيدها الأصيلي بالكسر- عند آبار الزاهر، بات بها بي الثنيتين، فلما أصبح صلى الغداة ثم اغتسل. رواه البخاري.
وللنسائي كان -صلى الله عليه وسلم- ينزل بذي طوى، يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح
__________
"وأجابوا عن هذه الرواية بأنها مختصرة من الرواية التي ذكرها" أي: رواها "مسلم" والبخاري وأبو داود والنسائي، كلهم من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة "عن عائشة قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة" إخبار عن حالها ومن شابهها لا عن جميع الناس، فلا ينافي حديثها الآخر أنهم تنوعوا إلى الأوجه الثلاثة.
"ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان معه هدي فليهل" بلام واحدة في الصحيحين وغيرهما "بالحج مع العمرة، ثم لا يحل" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء "حتى يحل منهما جميعا، فهذه الرواية مفسرة للمحذوف من الرواية التي احتج بها أبو حنيفة" ومن وافقه "وتقديرها: ومن أحرم بعمرة فليهل بالحج" يدخله عيها "ولا يحل حتى ينحر هديه" لأنه صار قارنًا "ولا بد من هذا التأويل؛ لأن القصة واحدة، والراوي واحد" وهو عائشة "فتعين الجمع بين الروايتين بما ذكر، والله أعلم" بالحق في ذلك "ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- ذا طوى بضم الطاء وفتحها وقيدها الأصيلي بالكسر" فهي مثلة وبه صرح المجد.
وقال الكرماني: الفتح أفصح واد معروف "عند آبار الزاهر" الذي في الفتح يعرف اليوم ببئر الزاهر وهو مقصور منون وقد لا ينون، ونقل الكرماني؛ أن في بعض الروايات حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة بغير همز وفتح الذال، قال: والأول هو الصحيح؛ لأن اسم الموضع ذو طوى لا طوى فقط "بات بها بين الثنيتين" ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة "فلما أصبح صلى الغداة" أي: الصبح "ثم اغتسل" لدخول مكة ثم دخل مكة "رواه البخاري" وكذا مسلم من حديث ابن عمر.
"وللنسائي" عنه: "كان -صلى الله عليه وسلم- ينزل بذي طوى يبيت به حتى يصلي صلاة الصبح حين(11/375)
حين يقدم إلى مكة.
ومصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، على أكمة خشنة غليظة، ليس في المسجد الذي بنى ثم، ولكن من أسفل ذلك على أكمة خشنة غليظة.
وفي الصحيحين: أنه -صلى الله عليه وسلم- دخلها من أعلاها. وفي حديث ابن عمر في الصحيح: كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة من الثنية العليا، يعني أعلى مكة من كداء -بفتح الكاف والمد، قال أبو عبيد: لا يصرف- وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة -مقبرة أهل مكة- وهي التي يقال لها: الحجون -بفتح الحاء المهملة وضم الجيم ...
ولم يقع أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا في عمرة الجعرانة، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم من
__________
يقدم إلى مكة" ظرف لقوله: ينزل "ومصلى" بضم الميم، أي: مكان صلاة كما في مسلم والنسائي، فحرف من جعلها: فصلى "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك على أكمة" بفتحات تل أو ما دون الجبل أو موضع أشد ارتفاعا مما حوله "خشنة غليظة" قيد بها؛ لأنها تكون غليظة وغير غليظة "ليس في المسجد الذي بنى، ثم" أي: هناك "ولكن أسفل من ذلك على أكمة خشنة" ضد ناعمة "غليظة" ضد رقيقة، وهذا رواه مسلم بلفظه من حديث ابن عمر: إلا أنه لم يقل خشنة إنما قال: على أكمة غليظة أولا وثانيا، فلعل هذا عذر المصنف في قصر عزوه للنسائي.
"وفي الصحيحين" عن عائشة "أنه -صلى الله عليه وسلم" لما جاء إلى مكة "دخلها من أعلاها" وخرج من أسفلها.
"وفي حديث ابن عمر في الصحيح" للبخاري ومسلم: "كان -صلى الله عليه وسلم- يدخل مكة من الثنية العليا" بضم العين تأنيث الأعلى، زاد في رواية التي بالبطحاء "يعني: أعلى مكة من كداء بفتح الكاف والمد" وإهمال الدال والتنوين و"قال أبو عبيد: لا يصرف" للعلمية والتأنيث على إرادة البقعة "وهذه الثنية هي التي ينزل منها إلى المعلاة مقبرة أهل مكة، وهي التي يقال لها: الحجون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم".
قال الحافظ: وكانت صعبة المرتقى، فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره الأزرقي، ثم سهل في عصرنا هذا سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع منها، ثم سهلت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة وكل عقبة في جبل أو طريق تسمى ثنية.
وبقية الحديث: وخرج من الثنية السفلى "ولم يقع أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا إلا في(11/376)
الجعرانة، ودخل مكة ليلا، فقضى أمر العمرة ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت كما رواه أصحاب السنن الثلاثة، من حديث محرش الكعبي.
وعن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا، إنكم لستم كرسول الله -صلى الله عليه وسلم، إنه كان إماما، فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس. رواه النسائي.
ثم دخل -صلى الله عليه وسلم- مكة لأربع خلون من ذي الحجة.
ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف، وهو باب بني شيبة، والمعنى فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب، والبيوت تؤتى من أبوابها، وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع، كما قال ابن عبد السلام في "القواعد".
وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا". رواه الثوري عن أبي سعيد الشامي عن مكحول.
__________
عمرة الجعرانة" بعد انصرافه من قسم غنائم حنين؛ "فإنه -صلى الله عليه وسلم- أحرم من الجعرانة ودخل مكة ليلا فقضى" أي: فعل "أمر العمرة" الطواف والسعي والحق "ثم رجع ليلا فأصبح بالجعرانة كبائت" أي: كأنه بات بها "كما رواه أصحاب السنن الثلاثة" أبو داود والترمذي والنسائي "من حديث محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء فشين معجمة "الكعبي" الخزاعي الصحابي نزيل مكة، وبه تمسك من قال: إن دخولها نهارا وليلا سواء في الفضل، وأجاب القائل بفضل النهار، بأنه دخلها في تلك المرة ليلا لبيان الجواز.
"وعن عطاء" بن أبي رباح أنه "قال: إن شئتم فادخلوا مكة ليلا إنكم لستم كرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنه كان إماما" قدوة للناس "فأحب أن يدخلها نهارا ليراه الناس، رواه النسائي".
قال الحافظ: قضيته أن من كان إمامًا يقتدى به استحب له أن يدخلها نهارًا "ثم دخل عليه الصلاة والسلام مكة لأربع خلون من ذي الحجة" كما في حديث: "ودخل المسجد الحرام ضحى من باب بني عبد مناف وهو باب بني شيبة، والمعنى" أي: السر والحكمة "فيه أن باب الكعبة في جهة ذلك الباب والبيوت تؤتى من أبابها" كما في التنزيل "وأيضا: فلأن جهة باب الكعبة أشرف الجهات الأربع كما قاله" العز "بن عبد السلام في القواعد" وهما حكمتان لطيفتان "وكان عليه الصلاة والسلام إذا رأى البيت، قال: "اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما ومهابة وبرا" رواه الثوري" سفيان بن سعيد "عن أبي سعيد الشامي"(11/377)
وروى الطبراني عن حذيفة بن أسيد قال: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما، وتشريفا وبرا ومهابة".
ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد، إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت كما صرح به كثير من أصحابنا، وليس بتحية المسجد.
ثم استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود، وفي رواية جابر عند البخاري: "استلم الركن"، والاستلام افتعال من السلام، أي التحية، قاله الأزهري، وقيل: من السلام
__________
مجهول من السابعة كما في التقرير "عن مكحول" الشامي ثقة، فقيه، تابعي، كثير الإرسال.
"وروى الطبراني" في الكبير "عن حذيفة بن أسيد" بفتح الهمزة الغفاري، من أصحاب الشجرة، مات سنة اثنتين وأربعين "قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا نظر إلى البيت قال: "اللهم زد بيتك هذا" أضافه إليه لمزيد التشريف، وأتى باسم الإشارة للتفخيم "تشريفا وتعظيما وتكريما وبرا ومهابة:" إجلالا وعظمة "وزد من شرفه وعظمه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا وبرا ومهابة".
قال الطبراني: تفرد به عمرو بن يحيى.
قال الحافظ: وفيه مقال وشيخه عاصم بن سليمان وهو الكوزي متهم بالكذب، ونسب للوضع ووهم من ظنه عاصما الأحول. انتهى.
"ولم يركع عليه الصلاة والسلام تحية المسجد إنما بدأ بالطواف؛ لأنه تحية البيت، كما صرح به كثير من أصحابنا" وغيرهم "وليس بتحية المسجد".
وفي المقاصد حديث: تحية البيت الطواف لم أره بهذا اللفظ، وفي الصحيح عن عائشة: أول شيء بدأ به النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة أنه توضأ ثم طاف.. الحديث، وفيه قول عروة الراوي عنها؛ أنه حج مع أبيه الزبير، فأول شيء بدأ به الطواف، ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه "ثم استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر الأسود" أي: مسح يده عليه كما رواه الشيخان عن ابن عمر، قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف يضب ثلاثة أطواف من السبع.
"وي رواية جابر عند البخاري: استلم الركن" أي: الحجر الأسود "والاستلام افتعال من السلام" بالفتح "أي: التحية قاله الأزهري" أبو منصور.
"وقيل: من السلام بالكسر" للسين "أي: الحجارة، والمعنى أنه يومئ بعصاه إلى(11/378)
-بالكسر- أي الحجارة، والمعنى: أنه يومئ بعصاه إلى الركن حتى يصيبه، وكانت عصاه محنية الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث بـ"المحجن".
واعلم أن للبيت أربعة أركان: الأول له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه، وكونه على قواعد إبراهيم، وللثاني: الثانية فقط، وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول، ويستلم الثاني فقط، ولا يقبل الآخران ولا يستلمان.
وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر، فاستلمه ثم وضع شفتيه عليه طويلا. وكان إذا استلم الركن قال: "بسم الله والله أكبر"، وكلما أتى الحجر قال: "الله أكبر" رواه الطبراني.
__________
الركن حتى يصيبه وكانت عصاه محنية" معوجة "الرأس، وهي المراد بقوله في الحديث: بالمحجن" بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم ونون والحجن الاعوجاج وبذلك سمي الحجون.
"واعلم أن للبيت أربعة أركان:
الأول: له فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه على قواعد إبراهيم" أي: أساس بنائه.
"وللثاني:" وهو الركن اليماني "الثانية فقط وليس للآخرين شيء منها، فلذلك يقبل الأول" كما في الصحيحين عن ابن عمر؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- قبل الحجر الأسود.
وفي البخاري عن ابن عمر: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمه ويقبله "ويستلم الثاني فقط" لما في الصحيح عن ابن عمر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني "ولا يقبل الآخران ولا يستلمان" اتباعًا للفعل النبوي؛ لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم هذا على قول الجمهور.
واستحب بعضهم تقبيل اليماني أيضا، وأجاب الشافعي عن قول من قال: كمعاوية، وقد قبل الأربعة ليس شيء من البيت مجهورا، فرد عليه ابن عباس، فقال: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به، لكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به.
"وروى الشافعي عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر" الأسود "فاستلمه" أي: مسح يده عليه "ثم وضع شفتيه عليه طويلًا" يقبله، ومفاده استحباب الجمع بينهما "وكان إذا استلم الركن، قال: "بسم الله، الله أكبر"، وكلما أتى الحجر، قال: "الله أكبر"، رواه(11/379)
وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه؟
ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على بعيره.
وفيه عن أبي الطفيل: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره.
__________
الطبراني" واستحب الشافعي والحنابلة وابن حبيب من المالكية أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله، والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك، واتبعا لسنة محمد -صلى الله عليه وسلم.
وروى الشافعي عن ابن أبي نجيح، قال: أخبرت أن بعض الصحابة قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا، قال: قولوا: "بسم الله، والله أكبر، إيمانا بالله وتصديقا لإجابة محمد -صلى الله عليه وسلم"، ولم يثبت ذلك كما قاله ابن جماعة وصح في أبي داود والنسائي وابن سعد والحاكم وابن حبان عن عبد الله بن السائب، قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بين الركنين اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار".
قال ابن المنذر: لا نعلم خبرا ثابتا عنه -صلى الله عليه وسلم- يقال في الطواف غير هذا.
وقال غيره: لم يدع -صلى الله عليه وسلم- عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرا معينا لا يفعله ولا بتعليمه، ولذا ذهب مالك إلى أنه يسن الدعاء بلا حد، وأنكر قول الناس: "اللهم إيمانا بك" ... إلخ.
وروي أنه ليس عليه العمل كما في المدونة، أي: ولم يثبت به حديث كما علم.
"وهل كان عليه الصلاة والسلام طائفا على بعيره أم على قدميه، ففي مسلم عن عائشة: طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع" حول الكعبة "على بعيره" يستلم الركن كراهية أن يضرب عنه الناس، هذا لفظ مسلم بتمامه.
وفي الصحيحين عن ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن.
"وفيه" أي: مسلم "عن أبي الطفيل" عامر بن واثلة: "رأيته -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على بعيره" لم يقع ذلك في مسلم عن أبي الطفيل، ولفظه: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن، وإنما فيه ذلك من حديث عائشة كما مر من حديث جابر، قال: طاف -صلى الله عليه وسلم- بالبيت في حجة الوداع على راحلته يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس وليشرف ويسألوه، فإن الناس غشوه. نعم في أبي داود عن أبي الطفيل: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت على راحلته.(11/380)
وقد اختلف في علة ذلك: فروى أبو داود من حديث ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته، وفي حديث جابر عند مسلم: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه. فيحتمل أنه فعل ذلك للأمرين.
قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن بولها لا ينجسه بخلاف غيرها من الدواب.
وتعقب: بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة، بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول، وقد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي مدربة معلمة، فيؤمن معها ما يحذر من التلويث.
__________
"وقد اختلف في علة ذلك" أي: سببه، فإن الطواف راكبا لا يجوز بلا عذر، فمنعه مالك وكرهه الشافعي، وطواف المصطفى راكبا إنما كان لعذر اختلف فيه.
"فروى أبو داود من حديث" يزيد بن أبي زياد عن عكرمة، عن "ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- قدم مكة" في حجة الوداع "وهو يشتكي" أي: به مرض "فطاف على راحلته".
"وفي حديث جابر عند مسلم: أنه -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه" نقل بالمعنى وإلا فلفظ مسلم: ما قد رأيت آنفا، وله في راية تلو السابقة عن جابر: طاف -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس ويشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه بفتح الشين ازدحموا عليه.
"فيحتمل أن يكون فعل ذلك للأمرين" المرض ومشاهدة الناس له فيسألوه عن أمر دينهم ويأخذوا عنه مناسكهم فلا خلف بين الخبرين.
قال الولي العراقي: لكن لم يصح ذلك عن ابن عباس، فإن يزيد بن أبي زياد لا يحتج به.
قال البيهقي: وقد تفرد بزيادة قوله: وهو يشتكي فلم يوافق عليها.
"قال ابن بطال: فيه جواز دخول الدواب التي يؤكل لحمها المسجد" بقياس بقية ما يأكل على البعير "إذا احتيج إلى ذلك؛ لأن أبوالها لا تنجسه" ولا أرواثها ولا يؤمن ذلك من البعير، فلو كانت نجسه لما عرض المسجد له "بخلاف غيرها م الدواب" التي لا تؤكل.
"وتعقب بأنه ليس في الحديث دلالة على عدم الجواز مع الحاجة" إذ الفعل إنما دل الجواز للحاجة "بل ذلك دائر مع التلويث وعدمه، فحيث يخشى التلويث يمتنع الدخول" وحيث لا يخشى يجوز "و" لا يراد أن ذلك لا يؤمن من الناقة؛ لأنه "قد قيل: إن ناقته عليه السلام كانت منوقة، أي: مدربة" مذللة "معلمة" مروضة "فيؤمن معها ما يحذر من التلويث" وهي(11/381)
قال بعضهم: وهذا كان -والله أعلم- في طواف الإفاضة، لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأول، وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي بنفسه. وقال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى.
ولما استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه، فرمل ثلاثا ومشى أربعًا.
وكان ابتداء الرمل في عمرة القضية، لما قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدًا قوم قد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا
__________
سائرة، وتعقب بأن ذلك لم يثبت إنما أبداه الحافظ احتمالا، وللصحيحين أن أم سلمة طافت على البعير لمرضها بأمره -صلى الله عليه وسلم- فترجى بعض أنه كان منوقا أيضا وليس بشيء.
"قال بعضهم: وهذا" أي: طوافه راكبًا "كان والله أعلم في طواف الإفاضة لا في طواف القدوم، فإن جابرا حكى عنه الرمل في الثلاثة الأولى" فقال في سياق حجة الوداع عند مسلم: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا، يعني بلا إسراع.
وللشيخين عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشى أربعا.
قال المصنف وغيره: الطواف الأول الذي يعقبه السعي لا طواف الوداع.
"وذلك لا يكون إلا مع المشي، ولم يقل أحد: رملت به راحلته، وإنما قالوا: رمل، أي: بنفسه" على المتبادر "و" لذا قال الشافعي: أما سعيه الذي طاف لقدومه فعلى قدميه. انتهى، ولما استلم -صلى الله عليه وسلم- الحجر مضى على يمينه" أي: يمين نفسه فيكون البيت عن يساره "فرمل:" أسرع في مشيه بدون جري "ثلاثًا ومشى أربعًا" كما في مسلم عن جابر: "وكان ابتداء الرمل" بفتح الراء والميم هو الإسراع.
وقال ابن دريد: هو شبيه بالهرولة، واصله أن يحرك الماشي منكبيه في مشيته "في عمرة القضية" سنة سبع "لما قدم -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة وقد وهنتهم" بفوقية بعد النون يستعل لازما، كقوله تعالى: {وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي} [مريم: 4] ، ومتعديا كما في الحديث، أي: أضعفتهم "حمى يثرب" بمثلثة ممنوع الصرف علم للمدينة النبوية في الجاهلية والموضوع رفع على الفاعلية "فقال المشركون" من قريش: "إنه يقدم" بفتح الدال مضارع قدم بكسرها، أي: يرد "عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى ولقوا منها شدة فجلسوا" أي: قريش "مما يلي الحجر" بكسر فسكون "وأمرهم" أي: الصحابة "النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا" بضم الميم "ثلاثة أشواط" جمع شوط، أي:(11/382)
ثلاثة أشواط، ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم، هؤلاء أجلد من كذا وكذا. رواه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس.
ولما كان في حجة الوداع رمل -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فكان سنة مستقلة.
قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج، إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل، بل لهيئة مخصوصة، فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته لم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها، فلا عليه. انتهى.
قلو ترك الرمل في الثلاث لم يقضه في الأربع؛ لأن هيئتها السكينة فلا تغير، والله أعلم.
__________
الطوفة حول الكعبة "ويمشوا" في كل واحد من الثلاثة "ما بين الركنين" اليمانيين حيث لا يراهم المشركون "ليرى المشركون" بفتح الياء والراء، وفي رواية: ليرى المشركين بضم الياء وكسر الراء "جلدهم" بفتح الجيم واللام قوتهم لهذا الفعل؛ لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم.
"فقال المشركون" بعضهم لبعض: "هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم:" أضعفتهم "هؤلاء أجلد من كذا وكذا، رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس" واللفظ لمسلم "ولما كان في حجة الوداع رمل -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه" كما جاء في أحاديث صحيحة "فكان سنة مستقلة" وإن زال سببه، ولذا هم عمر بتركه ورجع وفعله اتباعا للفعل النبوي، فقال: إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكهم الله، ثم قال شيء صنعه النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا نحب أن نتركه كما في الصحيحين، فرجع عما هم به لاحتمال أن له حكمة لم نطلع عليها، ومن جهة المعنى أن الرامل إذا رمل تذكر السبب فيذكر نعمة الله على إعزاز الإسلام وأهله.
"قال الطبري: فقد ثبت أنه عليه السلام رمل ولا مشرك يومئذ بمكة، يعني في حجة الوداع، فعلم أنه من مناسك الحج إلا أن تاركه ليس تاركا لعمل" بالإضافة "بل" تاركا "لهيئة" صفة "مخصوصة فكان كرفع الصوت بالتلبية، فمن لبى خافضا صوته ولم يكن تاركا للتلبية بل لصفتها فلا شيء عليه. انتهى" كلام الطبري.
"فلو ترك الرمل في الثلاث" الأول "لم يقضه في الأربع" الباقية "لأن هيئتها السكينة في تغير، والله أعلم" بالحكم، وحقيقة الحكمة فيه "ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من طوافه" في "المقام"(11/383)
ولما فرغ -صلى الله عليه وسلم- من طوافه أتى المقام، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم رجع إلى الركن الذي فيه الحجر فاستلمه.
ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] ، أبدأ بما بدأ الله به"، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز
__________
كما رواه مسلم وأبو داود في الحديث الطويل عن جابر، بلفظ: ثم تقدم إلى مقام إبراهيم "فقرأ واتخذوا" بكسر الخاء أيها الناس، وقرأ نافع وابن عامر: بفتح الخاء، خبر "من مقام إبراهيم" الحجر الذي قام عليه عن بناء البيت "مصلى" مكان صلاة بأن يصلوا خلفه ركعتي الطواف "فصلى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، فقرأ فيهما" بعد الفاتحة "بقل يا أيها الكافرون" في الأولى "وقل هو الله أحد" في الثانية "ثم رجع" بعد الصلاة "إلى الركن الذي فيه الحجر" الأسود "فاستلمه ثم خرج من الباب" المقابل للصفا أثر الركعتين "إلى الصفا، فلما دنا": قرب "من الصفا قرأ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} جبلان مبكة {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أعلام دينه: جمع شعيرة "أبدأ" بصيغة الخبر على الرواية المشهورة "بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا" اعتبارا بتقدم المبدوء به في التلاوة، الظاهر في أن حكمه مقدم على ما بعده، فلو بدأ الساعي بالمروة لم يعتد به عند الجمهور ومالك والشافعي، وأصرح منه رواية النسائي: "ابدؤوا بما بدأ الله به" بصيغة الأمر للجمع، واحتج به من قال: إن الواو لا ترتب، إذ لو رتبت لم يحتج إلى هذا التوجيه، ومن قال: ترتب لامتثاله -صلى الله عليه وسلم- ذلك "فرقي" بكسر القاف ويجوز فتحها وهي لغة، أي: صعد "عليه حتى رأى البيت واستقبل القبلة فوحد الله وكبره" أي: قال: الله أكبر، وقوله: "وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد" زاد في رواية أبي يحيى: "يحيي ويميت" "وهو على كل شيء قدير".
قال الطيبي: يحتمل أنه قول آخر غير التوحيد والتكبير وأن يكون كالتفسير له والبيان والتكبير وإن لم يكن ملفوظا به، لكن معناه مستفاد من هذا القول، أي: لأن معنى التكبير التعظيم، قال: ووحده حال مؤكدة من الله، كقوله تعالى: {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [فاطر: 31] ، وقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] ، في أحد الوجهين، ويجوز أن تكون مفعولا مطلقا، ولا شريك له كذلك حال أو مصدر. ا. هـ.(11/384)
"وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده،" ثم دعا بين ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي رمل، حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة.
وفي حديث أبي الطفيل عند مسلم وأبي داود، قال: قلت لابن عباس، أخبرني عن الطواف بين الصفا والمروة راكبا، أسنة هو؟ فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا؟ قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثر
__________
"لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده" محمدا -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه "وهزم الأحزاب" الذين تحزبوا عليه يوم الخندق "وحده" من غير قتال من المسلمين ولا سبب من جهتهم "ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات" سقط لفظ مثل في نسخ وهي ثابتة في مسلم وأبي داود.
قال الطيبي: ثم تقتضي التراخي وأن يكون الدعاء بعد الذكر وبين تقتضي التعدد والتوسط بين الذكر بأن يدعو بعد قوله: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 255] ، الدعاء فتمحل من قال لما فرغ من قوله: "وهزم الأحزاب وحده"، دعا بما شاء ثم قال مرة أخرى هذا الذكر، ثم دعا حتى فعل ذلك ثلاثًا، فهذا إنما يستقيم على التقديم والتأخير بأن يذكر قوله: ثم دعا بين ذلك بعد قوله: قال مثل هذا ثلاث مرات، وتكون ثم للتراخي في الإخبار لا تأخر زمان الدعاء عن الذكر، ويلزم أن يكون الدعاء مرتين. ا. هـ.
"ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت" بشدة الموحدة، قال عياض: الرواية الواصلة علينا من جميع نسخ مسلم بإثبات لفظة إذا وهكذا في جميع أصول شيوخنا، واانصباب مجاز من قولهم: صب الماء فانصب، أي: انحدرت "قدماه في بطن الوادي رمل" بفتحتين وفي الموطأ سعى، أي: مشى بقوة، أي: أسرع في المشي "حتى إذا صعدنا" بكسر العين، أي: ارتفعت قدماه من بطن المسيل إلى المكان العالي "مشى" المشي المعتاد "حتى أتى المروة" ففعل على المروة كما فعل على الصفا كما في مسلم وأبي داود، أي: من الاستقبال والتوجه والتكبير والدعاء.
"وفي حديث أبي الطفيل" عامر بن واثلة بمثلثة الكناني الليثي آخر الصحابة موتًا "عند مسلم وأبي داود، قال" أبو الطفيل: "قلت لابن عباس: أخبرني عن الطواف" أي: السعي "بين الصفا والمروة راكبًا أسنة" بهمزة الاستفهام "هو" أم لا؟ "فإن قومك يزعمون:" يقولون على غير يقين وتحقيق كما في المشارق "أنه" أي: السعي راكبا "سنة، قال: صدقوا" في أنه -صلى الله عليه وسلم- سعى راكبا "وكذبوا" في أن الركوب سنة "قلت: وما قولك: صدقوا وكذبوا" فإنه تناقض(11/385)
عليه الناس، يقولون: هذا محمد، هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت. قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه، فلما كثر عليه ركب، والمشي السعي أفضل. هذا لفظ رواية. وفي أوله ذكر الرمل في طواف البيت.
وعند أبي داود أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا محمدا وأصحابه حتى يموتوا موت النغف، فلما صالحوه على أن يجيئوا من العام المقبل، فيقيموا ثلاثة
__________
بحسب الظاهر "قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس" في السعي بين الصفا والمروة "يقولون: هذا محمد هذا محمد" بالتكرار مرتين "حتى خرج العواتق من البيوت:" جمع عاتق، وهي البكر البالغ أو المقاربة للبلوغ، أو التي لم تتزوج، سميت بذلك؛ لأنها عتقت من استخدام أبويها فيما تستخدم فيه الصغيرة من الدخول والخروج والتصرف "قال: وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب" بالبناء للمفعول نائبه "الناس بين يديه، فلما كثر عليه" الناس "ركب" للعذر المذكور "والمشي والسعي أفضل" من الركوب "هذا لفظ رواية".
فأما رواية أبي داود فيأتي لفظها: ويستفاد من هذا أنه مشى في ابتداء السعي وركب في بقيته، وهو أحسن ما جمع به بين الأحاديث المختلفة في ذلك.
"وفي أوله" عند مسلم: "ذكر الرمل في طاف البيت" ولفظه عن أبي الطفيل: قلت لابن عباس: أرأيت هذا الرمل بالبيت ثلاثة أطواف ومشى أربعة أطواف أسنة هو؟، فإن قومك يزعمون أنه سنة، قال: فقال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما قولك: صدقوا وكذبوا؟، قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قدم مكة، فقال المشركون: إن محمدا وأصحابه لا يستطيعون أن يطوفوا بالبيت من الهزال وكانوا يحسدونه، فأمرهم -صلى الله عليه وسلم- أن يرملوا ثلاثا ويمشوا أربعا.
"و" لفظه "عند أبي داود" قلت لابن عباس: يزعم قومك أنه -صلى الله عليه وسلم- قد رمل بالبيت وأن ذلك سنة، قال: صدقوا وكذبوا، قلت: وما صدقوا وكذبوا؟، قال: صدقوا قد رمل وكذبوا ليس بسنة "أن قريشا قالت زمن الحديبية: دعوا" اتركوا "محمد وأصحابه حتى يموتوا موت النغف:" بفتح النون والغين المعجمة وبالفاء دود في أنوف الإبل والغنم واحده نغفة.
قال أبو عبيد: وهو أيضا دود أبيض يكون في النوى إذا أنقع وما سوى ذلك من الدود فليس بنغف، قاله الجوهري.
"فلما صالحوه على أن يجيئوا" هو -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه للعمرة، وفي نسخة من أبي داود: أن يحجوا.
قال الولي العراقي: والأولى أوجه؛ لأنهم لم يحجوا تلك المرة، وإنما اعتمروا إلا أن يراد بالحج مدلوله اللغوي وهو القصد.(11/386)
أيام، فقدم -صلى الله عليه وسلم- فقال لأصحابه: "أرملوا بالبيت"، وفيه: طاف -صلى الله عليه وسلم- بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا لا يدفعون ولا يصرفون عنه، فطاف على بعير ليسمعوا كلامه، وليروا مكانه، وتناله أيديهم الحديث.
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقى عليها، واستقبل البيت وكبر الله ووحده، وفعل كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها عمرة"، فقالم سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله،
__________
"من العام المقبل فيقيموا" بمكة "ثلاثة أيام، فقدم -صلى الله عليه وسلم" والمشركون من قبل قعيقعان "فقال لأصحابه: "ارملوا" بضم الميم أمر من رمل بزنة اطلبوا، أي أسرعوا في المشي مع تقارب الخطا "بالبيت" ثلاثا وليس بسنة، كذا في الرواية من قول ابن عباس على مذهبه، وخالفه غيره؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- رمل في حجة الوداع وقال: "خذوا عني مناسككم".
"وفيه" أي: أبي داود في بقية هذا الحديث عقب قوله: وليس بسنة، قلت: يزعم قومك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف بين الصفا والمروة على بعير، وإن ذلك سنة، ال: صدقوا وكذبوا، قلت: ما صدقوا وما كذبوا، قال: صدقوا قد "طاف" رسول الله "صلى الله عليه وسلم" أي: سعى "بين الصفا والمروة على بعير؛ لأن الناس كانوا" لفظه في أبي داود وكذبوا ليس بسنة، كان الناس "لا يدفعون" بالبناء للمفعول "عنه -صلى الله عليه وسلم- ولا يصرفون عنه" بصاد وفاء كما رأيته في أبي داود بخط الولي من الصرف وهو ما في النسخ الصحيحة، فقراءته بضاد معجمة وموحدة تصحيف "فطاف على بعير ليسمعوا كلامه وليروا مكانه وتناله أيديهم ... الحديث".
كذا في نسخة: مع أنه لم يبق شيء منه، واعلم أن المصنف لو قال عقب قوله: أولا هذا لفظ رواية مسلم، ولفظ أبي داود: فذكره بلفظه لكان أفيد من هذا التقطيع وما كان يزيد به الكتاب "وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا وصل إلى المروة رقي" بكسر القاف وتفتح "عليها واستقبل البيت وكبر الله ووحده وفعل كما فعل على الصفا" كما أفاده قول جابر في حديثه الطويل: حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، وعقب ذلك بقوله: "حتى إذا كان آخر طوافه على المروة" كان تامة، وجوابه إذا: قوله "قال: "لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة" أي: لو عن لي هذا الرأي الذي رأيته آخرا وأمرتكم به في أول أمري لما سقت الهدي، أي: لما جعلت علي هديا وأشعرته وقلدته وسقته بين يدي، فإن من ساقه لا يحل حتى ينحره، وإنما ينحره يوم النحر فلا يصح له فسخ الحج بعمرة ومن لا هدي معه يجوز له فسخه، وهذا صريح في أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متمتعا.(11/387)
ألعامنا هذا، أم لأبد؟ فشبك -صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة في الأخرى وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا" -مرتين، "لا بل لأبد أبد".
وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة.
قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ، هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة، أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة؟
فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا، بل هو باق إلى يوم القيامة فيجوز لكل من أحرم بالحج، وليس معه هدي أن يقلب إحرامه ويتحلل بأعمالها.
__________
قال الخطابي: إنما قال هذا استطابة لنفوس أصحابه لئلا يجدوا في أنفسهم أنه أمرهم بخلاف ما يفعله في نفسه، وفيه استعمال لو في القرب وتطيب النفوس "فمن" جواب شرط محذوف، أي: إذا تقرر ما ذكرت من أني أفردت الحج وسقت الهدي فلم أتمكن من الإحلال إلا بعد النحر، فمن "كان منكم ليس معه هدي فليحل وليجعلها" أي: الحجة "عمرة"، فقام سراقة" بضم السين وراء خفيفة وقاف ابن مالك "بن جعشم" بضم الجيم وسكون المهملة وضم المعجمة وفتحها، لغة حكاها الجوهري وغيره الكناني المدلجي، تقدم مرارا وهو الذي ساخت قوائم فرسه في قصة الهجرة وأسلم في الفتح.
"فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم لأبد؟، فشبك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أصابعه واحدة" نصب بعامل مضمر، أي: جاعلا واحدة منها "في الأخرى" والحال مؤكدة "وقال: "دخلت العمرة في الحج هكذا" مرتين" هذا لفظ مسلم وأبي داود في الحديث الطويل عن جابر في الحجة النبوية، وإدخال الأصابع بعضها في بعض وتكريرها مرتين إما بالقول أو بالفعل يستدعي إدخال أحد النسكين في الآخر، ويؤيده حديث ابن عباس فإن العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة، وقوله: "لا" أي: ليس لعامنا هذا "بل لأبد أبد" أي لآخر والأبد الدهر، وفي رواية: بل لا أبد الأبد "وهذا معنى فسخ الحج إلى العمرة" عند أحمد، والظاهر به.
وقال الجمهور: معنى الحديث جواز فعل العمرة في أشهر الحج إلى يوم القيامة، وأن القصد إبطال زعم الجاهلية منع ذلك.
"قال النووي: وقد اختلف في هذا الفسخ هل هو خاص بالصحابة تلك السنة خاصة" ممنوع حتى للصحابة بعدها "أم باق لهم ولغيرهم إلى يوم القيامة، فقال أحمد وطائفة من أهل الظاهر: ليس خاصا بل هو باق إلى يوم القيامة، فيجوز لكل من أحرم بالحج وليس معه هدي أن يقلب إحرامه عمرة ويتحلل بأعمالها" فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر، حتى بالغ(11/388)
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة لا يجوز بعدها، وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج.
ومما يستدل به الجماهير، حديث أبي ذر في مسلم: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- خاصة. يعني فسخ الحج إلى العمرة. وفي النسائي عن الحارث بن بلال عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل لنا خاصة".
__________
بعض الحنابلة فقال: نحن نشهد الله لو أحرمنا بحج لزمنا فرضا فسخه إلى عمرة تفاديا من غضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ففي السنن عن البراء بن عازب أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج وأصحابه فأحرمنا بالحج، فلما قدمنا مكة، قال: اجعلوها عمرة، فقالوا: قد أحرمنا بالحج فكيف نجعلها عمرة، قال: "انظروا ما آمركم به فافعلوا"، فرددوا القول عليه فغضب ... الحديث.
"وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: هو مختص بهم في تلك السنة، لا يجوز بعدها وإنما أمروا به تلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج" وأنها من أفجر الفجور، فكسر سورة ما استحبكم في نفوسهم من الجاهلية من إنكاره بحملهم على أنفسهم.
"ومما يستدل به الجماهير حديث أبي ذر في مسلم" قال: "كانت المتعة في الحج" أي: فسخ الحج إلى العمرة "لأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم" في تلك السنة "خاصة" وهي حجة الوداع، فلا يجوز بعد ذلك لهم ولا لغيرهم. وعند أبي داود: أن أبا ذر كان يقول فيمن حج ثم فسخها بعمرة لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال الولي العراقي: وأبو ذر لا يقول هذا إلا عن توقيف.
"وفي النسائي" وأبي داود وابن ماجه من طريق عبد العزيز الدراوردي عن ربيعة "عن الحارث بن بلال" المزني المدني، قال: قال في التقريب: مقبول.
وقال الولي العراقي: لا نعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد أنه روى عن أبيه، وروى عنه ربيعة وليس له إلا هذا الحديث في الكتب الثلاثة، ولا نعلم أحدا وثقه فهو مجهول عينا وحالا.
وقال المنذري: شبيه المجهول "عن أبيه" بلال بن الحارث المزني أبي عبد الرحمن المدني، صحابي، مات سنة ستين وله ثمانون سنة.
"قال: قلت: يا رسول الله أرأيت" أي: أخبرني" فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "بل لنا خاصة" وأجاب الحنابلة عن هذا بقول أحمد:(11/389)
قال: وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد؟ فقال: "لا، بل لأبد أبد" فمعناه: جواز الاعتمار في أشهر الحج، والقران كما سبق تفسيره.
فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث: أن العمرة في أشهر الحج جائزة إلى يوم القيامة، وكذلك القران، وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة، والله أعلم. انتهى.
__________
حديث لا يثبت، وقال أيضا: لا أقول به ولا يعرف هذا الرجل، يعني الحارث بن بلال ولم يروه غير الدراوردي، وأما الفسخ فرواه أحد وعشرون صحابيا وأين يقع بلال بن الحارث منهم، وتعقب بأنه لا معارضة بينه وبينهم حتى يرجح؛ لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة وبلال بن الحارث موافقهم، وزاد زيادة لا تخالفهم، وأما تعليله بتفرد الدراوردي به عن ربيعة، وتفرد ربيعة بن الحارث فهذا غير قادح، فإنهما ثقتان وتفرد الثقة لا يضر، ولذا سكت عليه أبو داود فهو عنده صالح، فلم يبق إلا تفرد الحارث به عن أبيه ولم يعلم توثيقه، لكن ينجبر ذلك بحديث أبي ذر، فإنه وإن لم يصرح برفعه لكنه له حكم الرفع، إذ لا يقوله إلا عن توقيف على أن ابن حبان يرى أن من لم يوثق ولم يجرح ثقة.
وقد قال الحافظ في تقريبه: إنه مقبول، أي: في الرواية وهي من ألفاظ التعديل، ولذا لم يتجرأ الحافظ المنذري على أن يقول: مجهول عينا وحالا، بل قال: شبيه المجهول ولو سلم أنه لا يصلح للحجية، فحديث ابن عباس المتفق عليه: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض.. الحديث صريح في أن سبب الأمر بالفسخ هو قصد ما استقر في نفوسهم في الجاهلية بتقرير الشرع بخلافه.
وقد قال الخطابي: اتفق عوام أهل العلم على أنه إذا أفسد حجه مضى فيه مع الفساد ... ا. هـ، يعني: فإذا لم يجز فسخ الحج الفاسد، فالصحيح أولى بعدم تجويزه.
"قال" النووي: "وأما الذي في حديث سراقة: ألعامنا هذا أم لأبد، فقال: لا بل لأبد أبد، فمعناه جواز الاعتمار في أشهر الحج والقران" أي: وجواز القران "كما سبق تفسيره" في كلام النووي، وأن تفسيره بفسخ الحج إلى العمرة ضعيف، لكن تعقب بأن سياق السؤال يقوي تفسيره بذلك فإنه الظاهر منه.
"فالحاصل من مجموع طرق الأحاديث؛ أن فعل العمرة في أشهر الحج جائزا إلى يوم القيامة وكذلك القران" باتفاق فيهما "وأن فسخ الحج إلى العمرة مختص بتلك السنة" عند الجمهور، وقيل: وأجمع عليه الصحابة إلا ابن عباس ولم يعلم له موافق من الصحابة "والله أعلم. انتهى" كلام النووي.(11/390)
وفي رواية للنسائي أيضا: لا تصح المتعتان إلا لنا خاصة، يعني متعة النسائي ومتعة الحج، يعني فسخ الحج إلى العمرة، ومتعة النساء: هي نكاح المرأة إلى أجل، كان ذلك مباحًا، ثم نسخ يوم خيبر، ثم أبيح يوم فتح مكة ثم نسخ في أيام الفتح، واستمر تحريمه إلى يوم القيامة. وقد كان فيه خلاف في العصر الأول، ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه.
وكان -صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزله الذي نزل فيه المسلمين بظاهر مكة، يقصر الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع، وخرج في الثامن، فصلى بها إحدى وعشرين صلاة، من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن، ومن يوم دخوله -صلى الله عليه وسلم- مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح عشرة أيام سواء.
__________
"وفي رواية للنسائي أيضًا" ومسلم، كلاهما عن أبي ذر، قال: "لا تصح المتعتان إلا لنا" معشر الصحابة في حجة الوداع "خاصة يعني متعة النساء ومتعة الحج، يعني: فسخ الحج إلى العمرة" والتفسير بقوله: يعني إلى آخره وقع في سياق الحديث عن مسلم والنسائي "ومتعة النساء هي نكاح المرأة إلى أجل كان ذلك مباحا ثم نسخ يوم خيبر".
قال عياض: تحريمها يوم خيبر صحيح لا شك فيه، وقد قال بعضهم: إنها مما تناوله الإباحة والتحريم والفسخ مرتين كالقبلة "ثم أبيح يوم فتح مكة" لطول غيبتهم عن النساء "ثم نسخ في أيام الفتح" لمكة "واستمر تحريمه إلى يوم القيامة، وقد كان فيه خلاف في العصر الأول" قبل آخر خلافة عمر "ثم ارتفع وأجمعوا على تحريمه" في أواخر خلافة عمر.
وفي رواية لأبي داود: أنه نهى عن متعة النساء في حجة الوداع.
قال القاضي عياض: الصحيح أن الواقع فيها إنما هو تجديد النهي لاجتماع الناس، وليبلغ الشاهد الغائب ولإتمام الدين والشريعة كما قرر غير شيء يومئذ ... ا. هـ.
"وكان -صلى الله عليه وسلم- مدة مقامه بمنزلة الذي نزل فيه بالمسلمين بظاهر مكة يقصر" بضم الصاد "الصلاة فيه، وكانت مدة إقامته بمكة" أي: بظاهرها "قبل الخروج إلى منى أربعة أيام ملفقة؛ لأنه قدم في الرابع" وهو يوم الأحد من ذي الحجة "وخرج في الثامن" يوم الخميس "فصلى بها إحدى وعشرين صلاة من أول ظهر الرابع إلى آخر ظهر الثامن" يعارضه ما يأتي أنه صلى ظهر الثامن بمنى وهو الصحيح "ومن يوم" ابتداء "دخوله عليه الصلاة والسلام مكة وخروجه يوم النفر الثاني من منى إلى الأبطح:" بألف فموحدة فطاء فحاء مهملتين مسيل واسع فيه دقاق(11/391)
وقدم علي من اليمن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "بما أهللت"؟ فقال: بما أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لولا أن معي الهدي لأحللت". رواه الشيخان من حديث أنس.
وفي حديث البراء عند الترمذي والنسائي: دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت البيت بنضوح فغضب. فقالت: ما لك؟ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: فأتيته فقال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت"؟ وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين، أو ستا وستين، وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين، وأمسك من كل بدنة منها بضعة".
وفي رواية جابر عن مسلم: فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثوبا صبيغًا
__________
الحصى "عشرة أيام سواء، وقدم علي" مكة "من اليمن" لأنه كان بعث إليها "على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال له: "بما أهللت"؟ أي: أحرمت، وإثبات ألف ما الاستفهامية مع دخول الجار عليها قليل، ورواه أبو ذر بحذفها على الكثير السائغ نحو: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [عم يتساءلون: 43] "فقال: بما" أي: الذي "أهل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فقال: "لولا أن معي الهدي لأحللت" من الإحرام وتمتعت؛ لأن صاحب الهدي لا يتحل حتى يبلغ الهدي محله وهو يوم النحر "رواه الشيخان" والترمذي "من حديث أنس" بن مالك.
"وفي حديث البراء" بن عازب "عند الترمذي والنسائي" وأبي داود "دخل علي على فاطمة رضي الله عنهما فوجدها قد نضحت" بفتح النون والضاد المعجمة، أي: رشت "البيت بنضوح" بفتح النون وضاد معجمة وحاء مهملة ضرب من الطيب تفوح رائحته، قاله الولي العراقي "فغضب" لظنه أنها باقية على الإحرام "فقالت: ما لك فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أمر أصحابه" أي: "كثيرا منهم "فأحلوا، قال: قلت لها: إني أهللت بإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم" أي: بما أهل به "قال: فأتيته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف صنعت" في الإهلال، فأخبره بأنه أهل بما أهل به "وقال له: "انحر من البدن سبعا وستين أو ستا وستين" شك الراوي: "وأمسك لنفسك ثلاثا وثلاثين أو أربعا وثلاثين" شك "وأمسك" لي، كما زاده في رواية أبي داود "من كل بدنة منها بضعة": بفتح الموحدة وتكسر وتضم وسكون المعجمة قطعة لنأكل منها.
"وفي رواية جابر عند مسلم" وأبي داود عقب قوله المتقدم: "لا بل لأبد أبد" وقدم علي من اليمن ببدن النبي -صلى الله عليه وسلم "فوجدنا فاطمة ممن حل" وظاهر هذا أن البدن للمصطفى، وفي(11/392)
واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، فقال: صدقت صدقت مرتين، ماذا قلت حين فرضت الحج؟ قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسولك، قال: فإن معي الهدي فلا تحل. قال جابر: فكان جماعة الهدي الذي قدم به علي من اليمن، والذي أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم- مائة. فحل: الناس كلهم وقصروا إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي.
__________
النسائي: قدم علي من اليمن بهدي وساق -صلى الله عليه وسلم- من المدينة هديًا، فظاهره أن الهدي كان لعلي، فيحتمل أن عليا قدم من اليمن بهدي لنفسه وهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم، فذكر كل راو واحدا منهما "ولبست" بكسر الموحدة "ثيابا صبيغا" أي: مصبوغة غير بيض، فعيل بمعنى: مفعول يستوي فيه المذكر والمؤث "واكتحلت، فأنكر ذلك عليها" لظنه أنها تابعة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في إحرامه، ورأى أنه باق على إحرامه.
زاد في رواية أبي داود: وقال: من أمرك بهذا؟ "قالت: أبي أمرني بهذا" أي: بالإحلال الذي نشأ عنه اللبس والاكتحال لا بهما، إذ هما من المباح وهو غبر مأمور به، أو أريد بالأمر الإباحة لا طلب الفعل، وحذف المصنف من الحديث في مسلم وأبي داود، قال: فكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محرشًا على فاطمة للذي صنعت مستفتيا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها "فقال: "صدقت" فاطمة "صدق" "مرتين" ففاعل قال النبي -صلى الله عليه وسلم: وصدقت بسكون التاء خلاف ما يوهمه اختصار المصنف أنه بكسرها وفاعل قال علي ولم يقنع علي بقولها: أبي أمرني، وخبر الواحدة مقبول لجواز أنه فهم أنه أمرها بالإحلال ولا يلزم منه لبس الصبيغ والاكتحال لقرب زمن الإحرام الماضي والذي تنشه، أو جوز أن أمره لعموم الصحابة وأن لها أمرا يخصها؛ لأنها بضعة منه فلا تفعل إلا ما يفعله، أو فهم أنها ليست ممن لم يسق الهدي؛ لأن أباها وزوجها ساقاه هي في حكم من ساقه، وفيه جواز قول الشخص أبي ولو كان معظما وأنه ليس تنقيصا له فيؤخذ منه جواز قول الشريف جدي: يريد النبي -صلى الله عليه وسلم، قاله الولي العراقي ملخصًا ثم قال -صلى الله عليه وسلم- لعلي: "ماذا قلت حين فرضت الحج"؟ " أي: ألزمت نفسك بالإحرام "قال: قلت: "اللهم إني أهل بما أهل به رسولك" ففيه جواز الإحرام بما أحرم به غيره "قال: "فإن معي الهدي لا تحل".
"قال جابر: فكان جماعة" أي: جملة "الهدي الذي قدم به علي من اليمن والذي أتى به النبي -صلى الله عليه وسلم" من المدينة "مائة" من البدن "فحل الناس كلهم" أي: أكثرهم ومعظمهم، فهو عام أريد به الخصوص؛ لأن عائشة لم تحل ولم تكن ممن ساق الهدي "وقصروا كلهم" مع أن الحلق أفضل لأجل أن تبقى لهم بقية تحلق في الحج "إلا النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن كان معه هدي" فلم(11/393)
فلما كان يوم التروية، وكان يوم الخميس ضحى، ركب -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم، وصلى -صلى الله عليه وسلم- بمنى: الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، وأمر بقبة من شعر فضربت له بنمرة، فسار على طريق ضب، ولا يشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، وكانت "الحمس" وهم قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ويقولون: نحن قطين الله، أي
__________
يحلوا "فلما كان يوم التروية" ثامن الحجة، وقوله: "وكان يوم الخميس ضحى ركب -صلى الله عليه وسلم- وتوجه بالمسلمين إلى منى، وقد أحرم بالحج من كان أحل منهم" لم يقع ذلك في مسلم.
ولأبي داود ولفظهما: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج فركب رسول الله "فصلى -صلى الله عليه وسلم- بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر" أي: الصبح كل صلاة لوقتها، وفيه ندب التوجه إلى منى يوم التروية، وكره مالك التقدم إليها قبله.
وقال الشافعي: إنه خلاف السنة "ثم مكث قليلا" بمنى "حتى طلعت الشمس وأمر بقبة:" خيمة "من شعر فضربت له بنمرة:" بفتح النون وكسر الميم جبل عن يمين الخارج من مأزمي عرفة، وقوله: فضربت بالفاء والبناء للمفعول، هكذا رواه مسلم وأبو داود، وفي رواية لمسلم: تضرب.
قال المصنف في شرحه صفة لقبة أو حال والتقدير أمر بضرب قبة بنمرة قبل قدومه إليها، فحذف المضاف وجعل الصفة دليلا عليه "فسار على طريق ضب" بفتح الضاد المعجمة وشد الموحدة قرية على يمين الناس اليوم، وليس في مسلم ولا في أبي داود على طريق ضب إنما فيهما: فسار رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ولا يشك قريش، إلا أنه واقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة كما كانت قريش تصنع في الجاهلية" ظاهره أنه ليس لقريش شك في شيء إلا في وقوفه عند المشعر، فإنهم يشكون فيه وليس المراد ذلك بل عكسه، وهو أنهم لا يشكون في أنه -صلى الله عليه وسلم- سيقف عند المشهر الحرام على ما كانت عادتهم من وقوفهم به ويقف سائر الناس بعرفة، فقال الأبي: الأظهر في إلا أنها زائدة وأن في موضع نصب على إسقاط الجار، أي: ولا يشك قريش في أنه واقف عند المشهر، ثم انفصل المصنف عن حديث جابر دون بيان إلى حديث آخر، فقال: "وكانت الحمس" بضم الحاء المهملة وسكون الميم وسين مهملة "وهم قريش ومن ودان دينها" أي: اتبعهم في دينهم ووافقهم عليه واتخذ له دينا وعبادة.
روى إبراهيم الحربي عن مجاهد، قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها من القبائل، كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وعدوان وبني عامر بن صعصعة، وبني كنانة إلا بني بكر(11/394)
جيران بيته فلا نخرج من حرمه، وكان الناس كلهم يبلغون عرفات، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] .
__________
والأحمس لغة: الشديد في دينه لما شددوا على أنفسهم، كانوا إذا أهلوا بالحج لا يأكلون لحما ولا يضربون بيتا من وبر ولا شعر، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم.
وعند الحربي أيضا عن عبد العزيز بن عمران المدني، قال: سموا حمسا؛ لأنهم حمسا بالكعبة؛ لأن حجرها أبيض يضرب إلى سواد.
قال الحافظ: والأول أشهر وأكثر، وذكر الحربي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب، اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس ثقيف وخزاعة وغيرهم، فعلم منه أن المراد من أمهاته قرشية لا جميع القبائل "يقفون بالمزدلة ويقولون: نحن قطين الله:" بقاف وطاء جمع قاطن "أي: جيران بيته فلا نخرج من حرمه".
قال سفيان بن عيينة: وكان الشيطان قد استهواهم، فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم، فكانوا لا يخرجون منه، رواه الحميدي في مسنده "وكان الناس كلهم يبلغون عرفات" يقفون بها "وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، رواه بهذا السياق الإسماعيلي عن سفيان بن عيينة من قوله، وظاهره أن المرد الإفاضة من عرفة، وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة؛ لأنها ذكرت بثم بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام، وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عنده بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر تنبيها على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كانت الحمس يفيضون، أو التقدير: فإذا أفضتم من عرفان إلى المشعر الحرام فذاكروا الله عنده ولتكن من المكان الذي يفيض فيه الناس، ذكره الحافظ وأصل الحديث في الصحيحين، واللفظ لمسلم عن عائشة: كانت قريش ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي عرفات فيقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، ولهما أيضًا عن عائشة: الحمس هم الذي أنزل الله فيهم: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} ... الحديث.
قال الحافظ: عرف برواية عائشة أن المخاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- والمراد بالناس هنا إبراهيم الخليل، وعنه المراد به الإمام وعن غيره آدم وقرئ شاذا الناسي بكسر السين بوزن العاصي، أي: أن الإفاضة من عرفات كانت في شريعتهما، قال: والأول أصح.
نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره عن يزيد بن شيبان، قال:(11/395)
وعن جبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية، فوجدته بعرفة، فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت عرفت أن الله وفقه لذلك.
وفي رواية: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له، ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا.
__________
كنا وقوفا بعرفة أتانا ابن مربع، فقال: إني رسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إليكم، يقول لكم: "كونوا على مشاعركم فإنكم من إرث إبراهيم" ... الحديث، ولا يلزم من ذلك أن المراد خاصة، بل ما هو أعم من ذلك وسببه ما حكته عائشة، وأما ثم في الآية فقيل بمعنى الواو، واختاره الطحاوي، وقيل: لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى: إذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم اجعلوا إفاضتكم التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون.
قال الزمخشري: وموقع ثم هنا موقعها من قولك: أحسن إلى الناس، ثم لا تحسن إلى غير كريم فتأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة، فقال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإفاضتين، وإن إحداهما صواب والآخر خطأ.
قال الخطابي: تضمنت الآية الأمر بالوقوف بعرفة؛ لأن الإفاضة إنما تكون عن اجتماع قبلها، وكذا قال ابن بطال وزاد: وبين الشارع مبدأ الوقوف ومنتهاه ... ا. هـ.
"وعن جبير بن مطعم" القرشي النوفلي الصحابي العالم بالأنساب "قال: أضللت حمارًا لي" أي: أضعته، أو ذهب هو، وفي الصحيحين، عنه: بعيرا لي، فيحتمل التعدد "في الجاهلية" قبل إسلامه، فتطلبته "فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت" يوم الفتح "عرفت أن الله وفقه" صلى الله عليه وسلم "لذلك" أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ إسحاق بن راهويه في مسنده.
"وفي رواية" له أيضا ولابن خزيمة عن جبير: "كان رسول الله" لفظه: رأيت رسول الله "صلى الله عليه وسلم- في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له" زاد محمد بن إسحاق في مغازيه: قبل أن ينزل عليه الوحي "ثم يصبح مع قومه" قريش "بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا" زاد ابن إسحاق توفيقا له من الله.
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم، قال: أضللت بعيرا لي فذهبت أطلبه يوم عرفة، فرأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- واقفا بعرفة، فقلت: هذا والله من الحمس، فما شأنه ههنا، وعلم من الروايتين اللتين ساقهما المصنف أن هذا كان قبل إسلام جبير، فلذا أنكر عليه مخالفته لقومه لا كما ظن(11/396)
ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- وجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بـ"القصواء" فرحلت له، فركب فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء
__________
السهيلي أن رؤية جبير لذلك كانت في حجة الوداع فاستشكله، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال: "ولما بلغ -صلى الله عليه وسلم- عرفة" أي: قربها لقوله: "وجد القبة" ولفظه عقب قوله: كما كانت تصنع قريش في الجاهلية، فأجاز، أي: جاوز رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: المزدلفة حتى أتى عرفة فوجد القبة "قد ضربت له بنمرة" وليست من عرفة "فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس" بغين معجمة مالت للزوال "أمر" صلى الله عليه وسلم "بالقصواء" بفتح القاف والمد تقدم الكلام فيها غير مرة "فرحلت" بضم الراء وكسر المهملة مخففة "له" أي: شد الرحل على ظهرها "فركب فأتى بطن الوادي" وهو عرنة بضم العين وفتح الراء المهملتين بعدها نون "فخطب الناس" ففيه أنه يستحب للإمام أن يخطب يوم عرفة في هذا الموضع، وبه قال الجمهور والمدنيون والمغاربة من المالكية وهو المشهور، فقول النووي: خالف فيها المالكية فيه نظر، إنما هو قول العراقيين منهم والمشهور خلافه، واتفق الشافعية أيضا على استحبابها خلافا لما توهمه عياض والقرطبي.
"وقال: "إن دماءكم وأموالكم" زاد في بعض طرق هذا الحديث: وأعراضكم "حرام عليكم" معناه: أن دماء بعضكم على بعض حرام وأموال بعضكم على بعض حرام، وإن كان ظاهر اللفظ أن دم كل واحد حرام عليه نفسه ومال كل واحد حرام عليه نفسه، فليس بمراد؛ لأن الخطاب للمجموع، والمعنى: فيه مفهوم ولا تبعد إرادة المعنى الثاني، أما الدم فواضح، وأما المال فمعنى تحريمه عليه تحريم تصرفه فيه على غير الوجه المأذون فيه شرعًا، قاله الولي العراقي.
قال عياض: فيه أن تحريم الدماء والأموال على حد واحد ونهاية من التحريم، وفيه ضرب الأمثال وقياس ما لم يعلم على ما علم لقوله: "كحرمة يومكم هذا" يوم عرفة "في شهركم هذا" ذي الحجة "في بلدكم هذا" مكة لاتفاقهم على تحريم ذلك وتعظيمه ... ا. هـ.
وفي تقديم اليوم على الشهر وهو على البلد الترقي، فالشهر أقوى من اليوم وهو ظاهر في الشهر لاشتماله على اليوم فاحترامه أقوى من احترام جزئه، وأما زيادة حرمة البلد؛ فلأنه محرم في جميع الشهور لا في هذا الشهر وحده، فحرمته لا تختص به فهو أقوى منه.
قال التوربشتي: أراد أموال بعضكم على بعض، وإنما ذكره مختصرا اكتفاء بعلم المخاطبين حيث جعل أموالكم قرينة دمائكم، وإنما شبه تحريم ذلك باليوم والشهر والبلد؛ لأنهم يعتقدون أنها(11/397)
الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا،
__________
محرمة أشد التحريم لا يستباح منها شيء، وفيه مع بيان حرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال.
وقال الطيبي: هذا من تشبيه ما لم تجر به العادة بما جرت به؛ لأنهم عالمون بحرمة الثلاث، كما في قوله: وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنه ظلة كانوا يستبيحون دماءهم وأموالهم في الجاهلية في غير الأشهر الحرم ويحرمونها فيها، كأنه قيل: إن دماءكم وأموالكم محرمة عليكم أبدا كحرمة الثلاث، ثم أتبعه بما يؤكده، فقال: "ألا" بالفتح والتخفيف "إن كل شيء من أمر الجاهلية" الذي أحدثوه والشرائع التي شرعوها في الحج وغيره، قاله في المفهم: "تحت قدمي" بشد الياء مثنى "موضوع" أي: مردود وباطل حتى صار كالشيء الموضوع تحت القدمين "ودماء" بكسر الدال وبالهمز والمد "الجاهلية موضوعة".
قال الولي: يمكن أنه عطف خاص على عام لاندراج دمائها في أمورها، ويمكن أنه لا يندرج لحمل أمورها على ما ابتدعوه وشرعوه، وإيجاب القصاص على القاتل ليس مما ابتدعوه، وإنما أريد قطع النزاع بإبطال ذلك؛ لأن منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل، وما يثبت وما لا يثبت "فإن أول دم أضع من دمائنا" أهل الإسلام، أي: أبدأ في وضع الدماء التي يستحق المسلمون ولايتها بأهل بيتي "دم ابن ربيعة بن الحارث" بن عبد المطلب واسم هذا الابن إياس، قاله الجمهور والمحققون، وقيل: حارثة، وقيل: تمام، وقيل: آدم.
قال الدارقطني: وهو تصحيف، ولبعض رواة مسلم وأبي داود دم ربيعة، وهو وهم؛ لأن ربيعة عاش حتى توفي زمن عمر سنة ثلاث وعشرين، وتأوله أبو عبيد بأنه نسبه إليه؛ لأنه ولي دم ابنه وهو حسن ظاهر به تتفق الروايتان.
"كان" هذا الابن طفلا "مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل" بهاء مضمومة معجمة مفتوحة، قال الولي العراقي: ظاهره أنها تعمدت قتله، وذكر الزبير بن بكار أنه كان صغيرا يحبو بين البيوت فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد، وبين ليث بن بكر، كذا ذكره عياض والنووي وغيرهما ساكتين عليه وهو مناف لقوله: فقتلته هذيل؛ لأنهم غير بني ليث، إذ هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة كما بينه أبو عبيد القاسم بن سلام في أنسابه. انتهى.
"وربا الجاهلية موضوع" أي: الزائد على رأس المال، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] وهذا إيضاح، إذ المقصود مفهوم من لفظ ربا، فإذا وضع الربا(11/398)
ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة من الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن
__________
فمعناه وضع الزيادة، قاله النووي.
قال الولي: ولا شك أن عطف هذا على أمر الجاهلية من الخاص على العام؛ لأنه من إحداثاتهم وشرعهم الفاسد "وأول ربا أضع" مبتدأ خبره "ربانا ربا العباس" بدل منه، أو خبر محذوف، أي: هو ربا العباس "بن عبد المطلب" وهكذا الرواية في مسلم وأبي داود، فما في نسخة: أضع من ربانا بزيادة من تحريف لم يوجد في الأصول "فإنه موضوع كله" يحتمل عود ضمير أنه لربا العباس تأكيدًا لوضعه، ويحتمل لجميع الربا، أي: ربا العباس موضوع؛ لأن الربا موضوع كله، قاله الولي: وإنما بدأ في وضع دماء الجاهلية ورباها من أهل الإسلام بأهل بيته ليكون أمكن في قلوب السامعين وأسد لأبواب الطمع في الترخيص "فاتفقوا الله في النساء".
قال الطيبي: هو عطف من حيث المعنى على دماءكم وأموالكم، أي: فاتقوا الله في استباحة الدماء ونهب الأموال، وفي النساء: وهو من عطف الطلب على الخبر بالتأويل، كما عطف {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [البقرة: 179] ، على قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [يس: 55] .
وقال الولي العراقي: يحتمل أن الفاء زائدة؛ لأن في رواية بدونها وأنها للسببية؛ لأنه لما قرر إبطال أمر الجاهلية وكان من جملتها منع النساء من حقوقهن وترك إنصافهن أمرهم بمتابعة الشرع في إنصافهن، فكأنه قيل: فبسبب إبطال أمر الجاهلية اتقوا الله في النساء وأنصفوهن، فإذا تركه من أمر الجاهلية، قال: وفي تحتمل السببية نحو فذلكن الذي لمتنني فيه والظرفية مجازا نحو {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ، أي: أن النساء ظرف للتقوى المأمور بها "فإنكم أخذتموهن بأمانة الله" أي: بأن الله ائتمنكم عليهن، فيجب حفظ الأمانة وصيانتها بمراعاة حقوقها والقيام بمصالحها الدينية والدنيوية، قاله في المفهم.
وفي كثير من أصول مسلم بأمان الله بلا هاء، كما قال النووي وهو يقوي أن في قوله: أخذتموهن دلالة على أنها كالأسيرة المحبوسة تحت زوجها وله التصرف فيها والسلطنة عليها، ويوافقه قوله في رواية أخرى: فإنهن عوان عندكم: جمع عانية وهي الأسيرة، لكنها ليست أسيرة خائفة كغيرها من الأسراء، بل هي أسيرة آمنة "واستحللتم فروجهن بكلمة من الله" أي: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] .
قال الخطابي: هذا أحسن الوجوه.
قال المازري: ويحتمل بإباحة الله المنزلة في كتابه.(11/399)
فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده إن اعتصمتم
__________
قال عياض: قيل: هي التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله، إذ لا يحل لغير مسلم أن يتزوج مسلمة، وقيل: كلمة النكاح التي يستحل بها الفروج. انتهى، أي: الصيغ التي تنعقد بها من إيجاب وقبول، ورجح هذا في المفهوم، قال: فإن حكم الله كلامه المتوجه للمحكوم عليه على جهة الاتقضاء أو التخيير.
وكذا النووي: فقال: المراد بإباحة الله والكلمة: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ، وهذا هو الصحيح. انتهى، ولما ذكر استحلال الزوج بكلمة الله وعلم منه تأكيد الصحبة بين الزوجين انتقل إلى بيان ما على كل واحد منهما من الحقوق، وبدأ بحق الأزواج؛ لأنهم المخاطبون، فقال: "ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه" أي: تكرهون دخوله في بيوتكم سواء كرهتم ذاته أم لا، وعبر بفرش؛ لأن الداخل يطأ فراش المنزل الذي يدخل فيه، أي: أنه ليس للزوجة أن تمكن أحدا ولو امرأة أو محرما من دخول بين زوجها إلا إذا علمت عدم كراهية زوجها لذلك.
هكذا حمله القرطبي والنووي على العموم "فإن فعلن ذلك" دون رضاكم بلفظ صريح أو بقرائن، فلو شككن أنهم يكرهونه لم تمكن؛ لأن الأصل المنع "فاضربوهن ضربا غير" بالنصب "مبرح" بضم الميم وفتح الموحدة وكسر الراء المشددة وحاء مهملة، أي: غير شديد شاق من البرح وهو المشقة.
وقال الخطابي: معنى الحديث أن لا يأذن لأحد من الرجال يدخل فيتحدث إليهن، وكان الحديث من الرجال إلى النساء من عادات العرب ولا يعدونه عيبا ولا يعدونه ريبة، فلما نزلت آية الحجاب وصار النساء مقصورات نهى عن محادثتهن والقعود إليهن، وليس المراد بوطء الفرش هنا نفس الزنا؛ لأنه محرم على الوجوه كلها، فلا معنى لاشتراط الكراهية فيه، ولو أريد الزنا لكان الضرب الواجب فيه هو المبرح الشديد والعقوبة المؤلمة من الرجم دون الضرب الذي ليس بمبرح، وذكر المازري وعياض نحوه، وقال الطيبي: ظاهر قوله: أن لا يوطئن فرشكم أحدا مشعر بالكناية عن الجماع فعبر به عن عدم الإذن مطلقا. انتهى.
"ولهن عليكم" وجوبًا "رزقهن وكسوتهن" بكسر الكاف وضمها لغتان مشهورتان "بالمعروف" على قدر كفايتهن دون سرف ولا تقتير "وقد تركت فيكم ما إن لا تضلوا بعده" يحتمل أن إن زائدة وأنها شرطية حذف شرطها، أي: إن تمسكتم به لا تضلوا، لكن هذا تصحيف من المصنف أو نساخه، فالرواية في مسلم وأبي داود، ولفظها: "ما لن تضلوا بعده" "إن اعتصمتم به" أي: بعد التمسك به والعمل بما فيه، وفي هذا التركيب إبهام وتوضيح وذلك لبيان أن هذا(11/400)
به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فما أنتم قائلون"؟.
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس ويقول: "اللهم
__________
الشيء الذي تركه فيهم شيئًا جليلًا عظيما فيه جميع المنافع الدينية والدنيوية، ثم لما حصل من هذا التشوق التام للسامع وتوجه إلى استماع ما يرد بعده واشتاقت نفسه إلى معرفته، بينه بقوله: "كتاب الله" بالنصب بدل من مفعول تركت جزم به الولي، فإن كان الرواية وإلا فيجوز رفعه خبر محذوف، أي وهو: ولم يذكر السنة مع أن بعض الأحكام يستفاد منها لاندراجها تحته، فإن الكاب هو المبين للكل بعضها بلا واسطة وبعضها بواسطة، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وقال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية "وأنتم تسألون عني".
قال الطيبي: عطف على مقدر، أي: قد بلغت ما أرسلت به إليكم جميعا غير تارك لشيء مما بعثت به وأنتم تسألون عني يوم القيامة هل بلغت بأي شيء تجيبون، ودل على هذا المحذوف الفاء في قوله: "فما أنتم قائلون"؟ أي: إذا كان الأمر على هذا، فبأي شيء تجيبونه، ومن ثم طابق جوابهم السؤال فأتوا بالألفاظ الجامعة، حيث "قالوا: نشهد أنك قد بلغت" الرسالة "وأديت" الأمانة "ونصحت" الأمة.
وقال الولي: تسألون عني في القيامة أو البرزخ فما أنتم قائلون حين سؤالكم على الأظهر أو الآن في جوابي، ويترتب عليهما قولهم نشهد، أي: في القيامة على الأظهر أو الآن، قال: وحذف المعمول في الثلاثة يدل على تبليغ جميع ما أمر به ونصحه لجميع الناس الموجودين والذين سيوجدون "فقال:" أي أشار -صلى الله عليه وسلم "بأصبعه السبابة" حال كونه "يرفعها إلى السماء" أي: رافعًا إياها، فالحال من فاعل قال: أو مرفوعة، فالحال من السبابة.
قال القرطبي: هذه الإشارة إما إلى السماء؛ لأنها قبلة لدعاء، وإما لعلو الله تعالى المعنوي؛ لأن الله تعالى لا يحويه مكان ولا يختص بجهة، وقد بين ذلك قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] "وينكتها إلى الناس" بفتح التحتية وسكون النون وضم الكاف بعدها فوقية.
قال عياض: كذا الرواية في مسلم وهو بعيد المعنى، قيل: صوابه ينكبها بموحدة، وكذا رويناه عن شيخنا أبي الوليد هشام بن أحمد في مسلم، ومن طريق ابن الأعرابي عن أبي داود في سنته بموحدة، ومن طريق أبي بكر التمار عنه بفوقية، ومعناه: يرددها ويقبلها إلى الناس مشيرا لهم وهو من نكب كنانته إذا قلبها، هذا كلامه في الإكمال.
وقال القرطبي: روايتي في هذ اللفظية وتقييدي على من اعتمده من الأئمة المقتدين بضم(11/401)
"اشهد"، ثلاث مرات.
ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا.
وهذا الجمع المذكور يختص بالمسافرين عند الجمهور، وعند مالك والأوزاعي، وهو وجه عند الشافعية: أن الجمع بعرفة وجمع للنسك، فيجوز لكل أحد. قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف.
__________
الياء وفتح النون وكسر الكاف مشددة وضم الباء بواحدة، أي: يعدلها إلى الناس وروي ينكبها مخففة الباء والنون وضم الكاف، ومعناه يقلبها وهو قريب من الأول، وروي ينكتها بفوقية وهي أبعدها. انتهى.
وفي البارع قال الأصمعي: ضربه فنكته، أي: بالفوقية، أي: ألقاه على رأسه ووقع متنكتا، وذكره الفارابي في باب قتل: فيحتمل أن يكون الحديث من هذا، والمعنى ينكسها "ويقول: "اللهم اشهد" قالها "ثلاث مرات" كذا رواه مسلم، وفي أبي داود كررها باللفظ ثلاثا ولم يقل: ثلاث مرات وبما رأيته يعلم ما يوجد في بعض نسخ المصنف ينكسها بالسين بعد الكاف تصحيف لم يجئ في رواية، وإنما هو معنى رواية ينكتها بفوقية بعد الكاف، فإن قيل: ليس في هذه الخطبة شيء من المناسك فيرد ذلك على قول الفقهاء يعلمهم الخطيب ما يحتاجون إليه إلى الخطبة الأخرى، أجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- اكتفى بفعله للمناسك عن بيانه بالقول؛ لأنه أوضح واعتنى بما أهمه في الخطبة التي قالها والخطباء بعده ليست أفعالهم قدوة، ولا الناس يعتنون بمشاهدتها ونقلها، فاستحب لهم البيان بالقول وفيه حجة للمالكية وغيرهم وأن خطبة عرفة فردة، إذ ليس فيه أنه خطب خطبتين، وما روي في بعض الطرق أنه خطب خطبتين فضعيف، كما قاله البيهقي وغيره.
"ثم أذن بلال" بعد فراغ الخطبة "ثم أقام" بلال "فصلى" النبي -صلى الله عليه وسلم "الظهر ثم أقام" بلال "فصلى" النبي -صلى الله عليه وسلم "العصر ولم يصل بينهما" الظهر والعصر "شيئا" فلا يتنفل بينهما، وبه قال الجمهور ومالك والشافعي "وهذا الجمع المذكور" بين الظهرين "يختص المسافرين عند الجمهور" لأن سببه عندهم السفر.
"وعند مالك والأوزاعي وهو وجه عند الشافعية أن الجمع بعرفة وجمع" بفتح الجيم وسكون الميم، أي: مزدلفة "للنسك فيجوز لكل أحد، قال الأسنوي: فلا يجوز إلا للمسافر بلا خلاف" تفريع على قول الجمهور، أو على قول الكل، والمعنى: لا يجوز حالة كون الجواز بلا خلاف، أي: متفقا عليه إلا للمسافر، أما للنسك ففيه الخلاف.(11/402)
وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج يوم التروية، ونووا الذهاب، إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر من حين خروجهم.
ولما فرغ من صلاته -صلى الله عليه وسلم- ركب حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، وكان أكثر
__________
"وقال الشافعي والأصحاب: إذا خرج الحاج" أي: جنسه إذ هو مفرد حجاج وحجيج "يوم التروية ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر" للرباعية "من حين خروجهم، ولما فرغ من صلاته" لفظ جابر: ثم "ركب -صلى الله عليه وسلم- حتى أتى الموقف" عرفة "فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات" المفترشات في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي بوسط أرض عرفات، وقدر الطيبي منتهيا وتعقبه الأبي، فقال: إن كان الوقوف على الصخرات صح تقديره، والأظهر أنه تجوز بالبطن عن الوجه والتقدير وجعل وجه ناقته، وهذا إن كانت الصخرات في قبلته؛ لأنه إنما وقف مستقبل القبلة.
وقال القرطبي: يعني أنه علا على الصخرات ناحية منها حتى كانت الصخرات تحاذي بطن ناقته.
قال الولي العراقي: لا حاجة إلى هذا؛ لأن من وقف بحذاء صخرة على ناقة صار بطنها بحذائها، أي: إلى جانبها وليس يشترط في محاذاة بطن الناقة لها أن يكون عاليا عليها.
"وجعل حبل" بفتح المهملة وسكون الموحدة ولام ما طال من الرمل، وقيل: الضخم منه، أو المراد جعل صف "المشاة:" جمع ماش، ومجتمعهم "بين يديه" وقيل: أراد طريقهم الذي يسلكونه في الرمل والأول أشبه بالحديث، قاله عياض، ومثلا لابن الأثير، لكنه صدر بالقول الثاني وحكى الأول بقيل.
وقال النووي: روي حبل بمهملة وموحدة ساكنة وروي بجيم وفتح الباء.
قال عياض: الأول أشبه بالحديث، وحبل المشاة، أي: مجتمعهم وحبل الرمل ما طال منه وضخم، وأما بالجيم فمعناه طريقهم وحيث يسلك الرجالة، وتعقبه الولي العراقي بأن ما ذكره من رواية هذ اللفظة بوجهين وترتيب ذين المعنيين على هذين الوجهين، لم أره في كلام القاضي لا في الإكمال ولا في المشارق ولا في كلام غيره أيضا. ا. هـ، وفيه استحباب الوقوف عند الصخرات.
قال النووي: وما اشتهر بين العوام من الاعتناء بصعود الجبل، وتوهمهم أنه لا يصح الوقوف إلا فيه فغلط، بل الصواب جواز الوقوف في كل جزء من أرض عرفات، وأن الفضيلة في موقفه -صلى الله عليه وسلم- عند الصخرات، فإن عجز عنه فليقرب منه بحسب الإمكان "واستقبل القبلة"(11/403)
دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في الموقف: "اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيرا مما نقول، اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، ولك رب تراثي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ووسوسة الصدر، وشتات الأمر، اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" رواه الترمذي من حديث علي.
وفي رواية ذكرها رزين: كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له: اللهم لك الحمد كالذي نقول، اللهم لك
__________
فيستحب استقبالها في الوقوف بعرفة للاتباع، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل ويأتي له بقية، فقال: "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة في الموقف" عشية عرفة "اللهم لك الحمد كالذي نقول" بالنون، أي: كالذي نحمدك به من المحامد "وخيرًا مما نقول" بالنون وهو ما حمدت به نفسك؛ لأنا لا نقدر على الثناء عليك فهو نحو قوله: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "اللهم لك صلاتي ونسكي" الذبح في الحج والعمرة أو نفس الحج، أو عبادتي كلها "ومحياي ومماتي" حياتي وموتي، يعني: جميع طاعتي في حياتي، وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح خالص لك "وإليك" لا إلى غيرك "مآبي" بميم فهمزة مفتوحة فألف فموحدة وبالمد مرجعي "ولك رب تراثي" بفوقية مضمومة ومثلثة، أي: ما أخلفه، فبين بهذا أنه لا يورث كحديث: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة" وأن ما يخلفه غيره لورثته من بعده "اللهم إني أعوذ بك من عذاب" أي: عقوبة "القبر" أضيف إليه لوقوعه فيه "ووسوسة الصدر" أي: حديث النفس بما لا ينبغي من أمور الدنيا، فإن قلب ابن آدم بكل واد شعبة "وشتات الأمر" أي: افتراقه "اللهم إني أسألك من خير ما تجيء به الرياح" جمع: ريح "وأعوذ بك من شر ما تجيء به الريح" سأل الله خير المجموعة؛ لأنها للرحمة، وتعوذ من شر المفردة؛ لأنها للعذاب على ما جاء في أسلوب الكتاب، نحو: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} ، ونحو الريح العقيم {رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ} ، وقد ترد للطيبة إذا وصفت بها، نحو: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} ، زاد في رواية: ومن شر ما يلج في الليل، وشر ما يلج في النهار، وشر بوائق الدهر "رواه الترمذي من حديث علي" أمير المؤمنين، وقال: ليس إسناده بقوي.
"وفي رواية ذكرها رزين" ابن معاوية السرقسطي الأندلسي في جامعه: "كان أكثر دعائه عليه الصلاة والسلام يوم عرفة بعد قوله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وبهذه الزيادة علم أنه لا مخالفة بين هذا الحديث وبين حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: كان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة: "لا إلا إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء(11/404)
"صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي، وإليك مآبي، وعليك يا رب ثوابي، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر، ومن شتات الأمر، ومن شر كل ذي شر".
وفي الترمذي: "أفضل الدعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وله الحمد وهو على كل شيء قدير".
وكان من دعائه في عرفة أيضا -كما في الطبراني الصغير- من حديث ابن عباس: "اللهم إنك تسمع كلامي، وترى مكاني، وتعلم سري وعلانيتي، لا يخفى
__________
قدير".
أخرجه أحمد برجال ثقات: "اللهم لك الحمد كالذي نقول": لم يقل هنا وخيرا مما تقول تقصيرا من بعض رواته "اللهم لك صلاتي ونسكي" عام بعد خاص إن أريد به العبادات كلها ومغاير إن أريد الذبح في الحج والعمرة "ومحياي ومماتي وإليك مآبي وعليك يا رب ثوابي" فضلا منك بوعدك إثابة الطائع وأنت لا تخلف الميعاد "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن وسوسة الصدر" قال ذلك اعترافا بالعبودية وخوصا للألوهية أو تعليما لأمته وإلا فهو عالم بأنه لا يعذب في قبره ولا يوسوس في صدره "ومن شتات الأمر" افتراقه "ومن شر كل ذي شر" من إنس وجن وغيرهما، كالدواب والهوام.
"وفي الترمذي: "أفضل الدعاء" مبتدأ خبره "يوم عرفة".
وفي الموطأ: أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، أي: أعظمه ثوابا وأقربه إجابة، ويحتمل أن يريد به اليوم وأن يريد به الحاج خاصة، قاله الباجي.
"وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي" وفي حديث علي عند ابن أبي شيبة: أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد" زاد في حديث أبي هريرة عند البيهقي: يحيي ويميت بيده الخير "وهو على كل شيء قدير".
قال ابن عبد البر: يريد أنه أكثر ثوابا، ويحتمل أفضل ما دعا به والأول أظهر؛ لأنه أورده في تفضيل الأذكار بعضها على بعض والنبيون يدعون بأفضل الدعاء.
"وكان من دعائه في عرفة أيضا كما في" معجم "الطبراني الصغير" وكذا الكبير بإسناد ضعيف، كما قال الحافظ الزين العراقي وغيره "من حديث ابن عباس" قال: كان من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع عشية عرفة: "اللهم إنك تسمع كلامي" أي: لا يعزب عنك مسموع وإن خفي بغير جارحة "وترى مكاني" سواء كنت في ملأ أو خلاء، وفيه أن سمعه متعلق بالمسموعات وبصره بالمبصرات، وعليه أهل السنة "وتعلم سري": ما أخفي "وعلانيتي":(11/405)
عليك شيء من أمري، أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنوبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبته، وفاضت لك عبرته وذل
__________
ما أظهر "لا يخفى عليك شيء من أمري" تأكيد لما قبله لدفع توهم المجاز أو التخصيص وفيه دلالة لقول أهل السنة؛ أن علمه يتعلق بالجزئيات والكليات "أنا البائس" بموحدة فهمزة فمهملة اسم فاعل، أي: الذي اشتدت ضرورته "الفقير" المحتاج إليك في جميع أحواله وأموره "المستغيث" المستعين، المستنصر بك فاكشف كربتي وأزل شدتي "المستجير": بالجيم الطالب منك الأمان من عذابك "الوجل" بفتح الواو وكسر الجيم، أي: الخائف "المشفق" أي: الحذر، يقال: أشفق من كذا بالألف حذر كما في المصباح.
وقال الزمخشري: أنا مشفق من هذا، أي: خائف منه خوفا يرق القلب ويبلغ منه مبلغا "المقر المعترف بذنوبه" عطف بيان.
قال الجوهري وغيره: أقر بالحق اعترف.
وقال الزمخشري: أقر على نفسه بالذنب اعترف.
"أسألك مسألة المسكين" أي: الخاضع الضعيف، سمي بذلك لسكونه للناس بكسر الميم عند جميع العرب إلا بني أسد فبفتحها، قال بعضهم: نصب مسألة بنزع الخافض أبلغ في قيام الوصف به لإثبات المسألة لنفسه في الخير، أي: أسألك وأنا كذلك، أفاد نظيره البيضاوي أو مفعول به مضاف إلى المسكين لما فيه من الذل والخضوع الموجب كل العطف عليه، وحذف الفاء من أسألك للمبادرة للمطلوب مع الاشتغال عنه بأسلوب آخر من التذلل وهو النوع الثالث، فإنه بدأ بالرب وما له على الانفراد وثنى بالعبد كذلك صريحا، وثلث بما للرب والعبد على وجه الصراحة والكناية في العبد كنظيره في قوله: "وأبتهل إليك ابتهال المذنب" أي: أتضرع إليك تضرع من أخجلته مقارفة الذنوب.
قال الجوهري وغيره: الابتهال: التضرع.
وقال الزمخشري: أبتهل إلى الله: تضرع واجتهد في الدعاء اجتهاد المبتهلين "الذليل" أي: الضعيف المستهان به "وأدعوك دعاء الخائف الضرير" أي: القائم به الضر.
وفي رواية: المضطر وهما بمعنى: قال بعض: هو من الضرر أو من الوصف الخاص، كالعمى لمن لا يهتدي إلى خلاص وإن اهتدى لا يمكن له ذلك، بين بهذا أن العبد وإن علت منزلته فهو دائم الاضطرار؛ لأن حقيقة العبد تعطي الاضطرار، إذ هو ممكن وكل ممكن مضطر إلى ممد يمده، وكما أن الله هو الغني أبدًا، فالعبد مضطر إليه أبدا ولا يزايله هذا الاضطرار في الدنيا والآخرة حتى لو دخل الجنة، فهو محتاج إليه فيها غير أنه غمس اضطراره في المنة التي(11/406)
جسده، ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا، وكن بي رؤوفا رحيما، يا خير المسؤولين ويا خير المعطين".
وأتاه -صلى الله عليه وسلم- ناس من أهل نجد -وهو بعرفة- فسألوه كيف الحج؟ فأمر مناديا ينادي: "الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج، أيام
__________
أفرغت عليه ملابسها، وهذا هو حكم الحقائق، إذ لا يختلف حكمها لا في العيب ولا في الشهادة ولا في الدنيا ولا في الآخرة، ومن اتسعت أنواره لم يتوقف اضطراره، وقد عتب الله قوما اضطروا إليه عند وجود أسباب ألجأتهم إلى الاضطرار، فلما زالت زال اضطرارهم ولما لم تقبل عقول العامة إلى تغطية حقيقة وجودهم سلط الحق عليهم الأسباب المثيرة للاضطرار ليعرفوا قهر ربوبيته وعظمة إلهيته "من خضعت لك رقبته" أي: نكس رأسه رضا بالتذلل إليك، وقال بعض الشراح: نعت آخر يجوز عوده لجهتي السؤال والدعاء وللثانية أقرب، وأسنده إلى الرقبة لظهور اختصاصه بها وإن كان الرأس الأصل، إذ لا حياة بدونها "وفاضت": سالت "لك عبرته" بفتح العين، أي: سال لك من الخوف دموعه، قيل: الفيض سيلان لا اختيار فيه "وذل" أي: انقاد لك "جسمه" بجميع أركانه الظاهرة والباطنة "ورغم لك أنفة " بكسر الغين المعجمة، أي: لصق بالرغام بالفتح وهو التراب ذلا وهوانا.
وقال ابن الأعربي: رغم بفتح الغين ذل، قاله المنذري.
وفي المصباح: رغم من باب قتل، وفي لغة من باب تعب كناية عن الذل كأنه لصق بالرغام هو أنا.
"اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا" أي: تعبا خائبا في ذلك ولا في غيره.
قال الزمخشري: من المجاز أشقى من رائض، أي: أتعب منه، ولم يزل في شقاء من أمره في تعب والباء للسببية، أو بمعنى مع والمصدر مضاف إلى مفعوله، أي: بدعائي إياك "وكن بي رؤوفا رحيما" أي: عطوفا شفوقا، أي: أوقع الوصفين بي، أي: اجعلهما ملابسين لي "يا خير المسؤولين" أي: من طلب منه "ويا خير المعطين" أي: من أعطى "وأتاه -صلى الله عليه وسلم- ناس".
وعند أبي داود: ناس أو نفر.
قال الولي: فيحتمل أنه شك من الراوي في اللفظ الذي قاله الصحابي، ويحتمل أنه تردد في أنهم ناس كثير، أو نفر يسير من ثلاثة إلى عشرة "من أهل نجد وهو بعرفة فسألوه" وعند أبي داود: فأمر رجلا فنادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كيف الحج فأمر مناديا ينادي" وعند أبي داود: رجلا فنادى "الحج عرفة" مبتدأ وخبر على تقدير مضاف من الجانبين، أي: معظمه، أو ملاكه الوقوف بها لفوات الحج به، قاله البيضاوي.(11/407)
منى ثلاثة أيام، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، رواه الترمذي.
وفي رواية جابر عند أبي داود قال -صلى الله عليه وسلم- بعرفة: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف وههنا أنزل علي {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} " [المائدة: 3] الآية كما
__________
قال الطيبي: تعريفه للجنس وخبره معرفة، فيفيد الحصر نحو ذلك الكتاب. انتهى.
وعند أبي داود: "الحج الحج يوم عرفة"، وفي رواية له: "الحج يوم عرفة".
قال الولي: أي: الحج هو الحج الكائن يوم عرفة وهو الوقوف بها، فأطلق اسم الحج على أحد أركانه؛ لأنه معظمها أو لإبطال اعتقاد قريش، ومن دان بدينها أن ليس من أركان الحج؛ لأنهم كانوا يقفون بالمزدلفة كما مر، فيوم عرفة منصوب على أنه مفعول الحج الثاني، وعلى الرواية التي لم يكرر فيها لفظ الحج الظاهر؛ أن يوم عرفة مرفوع "من جاء ليلة جمع" بفتح فسكون، أي: المزدلفة وهي ليلة العيد، أي: من أدرك الوقوف ليلة النحر " قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج" ومفهومه: أن من لم يدرك ذلك فاته الحج فهو حجة لمالك، ومن وافقه أن الوقوف يوم عرفة ليس الركن، فإذا وقف به دون جزء من ليلة جمع فاته الحج، لكن في السنن وصححه الحاكم مرفوعا: "من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه"، ولذا قال الأكثر: مبدأ الوقوف من زوال يوم عرفة ومنتهاه طلوع فجر العيد، فأي جزء وقف فيه أدرك الحج "أيام مني ثلاثة أيام" بعد يوم النحر "فمن تعجل" النفر "في يومين فلا إثم عليه" في تعجيله، وسقط عنه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث "ومن تأخر" عن النفر في الثاني حتى نفر في الثالث "فلا إثم عليه" في تأخيره بل هو أفضل، فالتخيير وقع هنا بين الفاضل والأفضل، فإن قيل: الآثم المتعجل فما بال المتأخر، أجيب بأن المتعجل لا إثم عليه في استعمال الرخصة ومن تأخر وترك الرخصة فلا إثم عليه في ترك استعمالها "رواه الترمذي" وأبو داود والنسائي وابن ماجه، كلهم عن عبد الرحمن بن يعمر بفتح التحتية والميم الديلي بكسر المهملة وإسكان التحتية صحابي نزل الكوفة.
"وفي رواية جابر عند أبي داود" ومسلم، كلاهما مختصر بعد ذكر حديث جابر بطوله في حجة الوداع عن جابر "قال -صلى الله عليه وسلم" قد نحرت ههنا ومنى كلها منحر وموقف "بعرفة" فقال: "وقفت ههنا وعرفة كلها موقف" ووقفت هنا وجمع كلها موقف، وفي هذا بيان شفقته -صلى الله عليه وسلم- بأمته ورفقه بهم وتنبيه لهم على مصالح دينهم ودنياهم، فذكر لهم الأكمل وهو موضع وقوفه ونحره، والجائز وهو جزء من أجزاء منى وعرفة والمزدلفة "وههنا" أي: وهو واقف بعرفة "أنزل علي" بشد ياء المتكلم -صلى الله عليه وسلم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] بالنصر(11/408)
في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهناك سقط رجل من المسلمين عن راحلته -وهو محرم- فمات، فأمر رسول الله -صلى الله وعليه وسلم- أن يكفن في ثوبيه ولا ميس بطيب، وأن يغسل بماء وسدر، ولا يغطي رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي. رواه البخاري ومسلم. أي يبعث على هيئته التي مات عليها.
واستدل بذلك على بقاء إحرامه، خلافًا للمالكية والحنفية، قال النووي:
__________
والإظهار على الأديان كلها، أو بالنص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد "الآية كما في الصحيحين" البخاري في أربعة مواضع، ومسلم في موضعين.
"عن عمر بن الخطاب:" أن رجلا من اليهود قال له: آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: أية آية؟، قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، فقال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
وعند الطبراني وغيره عن كعب الأحبار أنه قال لعمر فذكر الحديث، وفيه فقال عمر: نزلت يوم جمعة يوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
"وهناك سقط رجل من المسلمين" لم يعرف اسمه "عن راحلته" أي: ناقته التي صلحت للرحل "وهو محرم" بالحج، وفي رواية للشيخين: فوقصته ناقته وهو محرم "فمات" وهو بالقاف والصاد المهملة، أي: كسرت رقبته "فأمر -صلى الله عليه وسلم- أن يكفن في ثوبيه" زاد في رواية النسائي: الذين أحرم فيهما، ومعلوم أنهما لا يحيطان بالبدن، فلعلهما كانا إزارا ورداء "ولا يمس بطيب وأن يغسل بماء وسدر" ولفظ الصحيحين: فقال -صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب" " ولا يغطى رأسه ولا وجهه، وأخبر أن الله يبعثه يوم القيامة يلبي" أي قائلا: لبيك اللهم لبيك "رواه البخاري ومسلم" مستوعبا طرقه، واختلاف ألفاظها كلاهما من حديث ابن عباس "أي: يبعث على هيئته التي مات عليها" من الإحرام.
"واستدل بذلك على بقا إحرامه خلافا للمالكية والحنفية" أنه إذا مات فقد انقضى العمل، فيجوز تطييبه وتغطية رأسه ووجهه، وأجابوا عن هذا الحديث بأنها واقعة عين لا عموم فيها؛ لأنه علل ذلك بأنه يبعث يلبي وهذا الأمر لا يتحقق وجوده في غيره فهو خاص بذلك الرجل، ولو أريد تعميمه في كل محرم لقال: فإن المحرم كما قال: إن الشهيد يبعث وجرحه يثعب دما، فالتخصيص ظاهر من التعليل، والعدول سلمنا عدم ظهوره، فوقائع الأحوال لا عموم فيها، وذلك كاف في إبطال الاستدلال.(11/409)
يتأول هذا الحديث على أن النهي عن تعطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه، بل هو صيانة للرأس، فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع المحرم المذكور عند الصخرات من عرفة.
ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا، حين غاب القرص، أفاض -صلى الله عليه وسلم- من عرفة وأردف أسامة خلفه، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ويقول بيده اليمنى: "أيها الناس السكينة السكينة"، وكلما أتى حبلا
__________
"قال النووي: يتأول هذا الحديث" لمخالفته مذب الشافعي أن المحرم يجوز له تغطية وجهه "على أن النهي عن تغطية وجهه ليس لكون المحرم لا يجوز له تغطية وجهه" أي: "يحرم كما قال مالك وموافقوه "بل هو صيانة للرأس" المجمع على حرمة تغطيته "فإنهم لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه. انتهى" كلام النووي، وتعقبه الأبي؛ بأن هذا التعليل لا يجري على أصل الشافعي؛ لأنه لا يقول بسد الذرائع.
"قال الحافظ ابن حجر: وكان وقوع" الرجل "المذكور عند الصخرات من عرفة" وبوب عليه البخاري المحرم يموت بعرفة، ثم عاد المصنف إلى حديث جابر، فقال: "ولما غربت الشمس بحيث ذهبت الصفرة قليلا حين غاب القرص أفاض:" دفع "صلى الله عليه وسلم من يوم عرفة" ولفظ مسلم عقب قوله سابقا: واستقبل القبلة فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، كذا فيه بلفظ: حتى بفوقية فتحتية غاية، ولأبي داود حين بتحتية فنون، وقيل: إنه الصواب وهو مفهوم الكلام ولحتى وجه قاله عياض.
قال النووي: باحتمال أنه على ظاهره وتكون الغاية بيانًا لقوله: غربت الشمس وذهبت الصفرة؛ لأن غيابها يطلق مجازا على مغيب معظم القرص، فأزال ذلك الاحتمال بقوله: حتى غاب القرص.
"وأردف أسامة" بن زيد "خلفه" ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا لفظ الحديث.
قال ابن الأثير: أي ابتدأ السير ودفع نفسه ونحاها، أو دفع ناقته وحملها على الير وحذفه المصنف استغناء عنه بذكر معناه بقوله: أفاض من عرفة "وقد شنق" بفتح الشين المعجمة والنون الخفيفة فقاف "للقصواء الزمام" أي: ضمه وضيقه عليها وكفها به، والزمام والخطام ما يشد به رؤوس الإبل من حبل أو سير أو نحوه لتقاد وتساق به، قاله عياض في المشارق، ثم فسر ذلك بقوله: "حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله" بفتح الميم وسكون الواو وكسر الراء فكاف:(11/410)
من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد. وأفاض من طريق المأزمين.
وفي رواية ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع"، يعني بالإسراع.
وفي رواية أبي داود: أفاض من عرفة، وعليه السكينة، ورديفه أسامة، فقال:
__________
قطعة من جلد محشوة شبه المخدة تجعل في مقدم الرحل يضع الراكب رجليه عليها متوركا ليستريح من وضعهما في الركاب، فأراد بذلك أنه بالغ في جذب رأسها إليه ليكفها عن السير ورحله بفتح الراء وحاء مهملة، قال المصنف، وفي نسخة من مسلم: رجله بكسر الراء بعدها جيم.
"ويقول" أي: يشير "بيده اليمنى: "أيها الناس" الزموا "السكينة" الزموا "السكينة" مرتين، الرفق والوقار والطمأنينة وعدم الزحمة بالنصب على الإغراء "وكلما أتى حبلا من الحبال" بحاء مهملة مكسورة: جمع حبل التل اللطيف من الرمل الضخم "أرخى لها" للقصواء الزمام "قليلا حتى تصعد" روي بضم الفوقية رباعيا وفتحها ثلاثيا كما قال عياض، والنووي: وفي أمره بالسكينة الرفق بالناس والدواب والأمن من الإذابة خلاف العجلة، كما أن في إرخائه للقصواء الرفق بالدواب لئلا يجتمع عليها مشقة الصعود، ومشقة الشنق صلوات الله وسلامه عليه ما أرأفه وأرحمه، ثم فصل المصنف حديث جابر بجمل، فقال: "وأفاض من طريق المأزمين" بفتح الميم وإسكان الهمزة وكسر الزاي فميم فتحتية فنون تثنية مأزم: موضع معروف بين عرفة والمشعر وهو في الأصل المضيق في الجبال حيث يلتقي بعضها ببعض ويتسع ما وراءه والميم زائدة، وكأنه من الأزم وهو القوة والشدة.
"وفي رواية" البخاري من أفراده عن "ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام سمع" لفظ البخاري: دفع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم عرفة، فسمع -صلى الله عليه وسلم- "وراءه زجرا" بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي: صياحا "شديدا" لحث الإبل "وضربا للإبل، فاشار بسوطه" إليهم "وقال: "أيها الناس عليكم بالسكينة" في السير برفق وعدم المزاحمة "فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بالإيضاع" بكسر الهمزة وسكون التحتية المنقلبة عن الواو، وبالضاد المعجمة وآخره عين مهملة "يعني بالإسراع"، أي: السير السريع، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله: لما خطب بعرفة ليس السابق من سبق بعيره وفرسه ولكن السابق من غفر له.
قال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة.
"وفي رواية أبي داود" عن ابن عباس، قال: "أفاض" صلى الله عليه وسلم "من عرفة وعليه السكينة"(11/411)
"أيها الناس، عليكم بالسكينة فإن البر ليس بإيجاف الخيل والإبل"، فما رأيتها رافعة يديها عادية حتى أتى جمعا.
وفي رواية أسامة بن زيد عند الشيخين: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص. قال هشام: والنص فوق العنق.
__________
الوقار والطمأنينة "ورديفه أسامة" بن زيد "فقال" -صلى الله عليه وسلم- حين سمع الزجر وضرب الإبل: "أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر" أي: ما يتقرب به "ليس بإيجاف" إتعاب "الخيل والإبل" بضربها والسير السريع "فما رأيتها رافعة" بالراء، وفي رواية: بالدال وهما في أبي داود "يديها بالتثنية "عادية" بمهملتين من العدو، أي: ماشية بسرعة "حتى أتى جمعا" أي: المزدلفة، ومن قرأ غادية بإعجام الغين وقال: هذا بناء على استعماله في مطلق الذهاب وإلا فأصله الذهاب بعد الصبح وقبل الشم فقد صحفه وتعسف توجيهه، فإنما هو في أبي داود بالمهملة، وبه ضبطه شارحه ومعناه صحيح بلا تكلف، وقد حمله ابن خزيمة على حال الزحام دون غيره.
"و" استدل لذلك بقوله "في رواية أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "عند الشيخين" وأبي داود والنسائي وابن ماجه من طريق مالك وغيره عن هشام عن أبيه عروة، قال: سئل أسامة وأنا جالس: كيف كان -صلى الله عليه وسلم- يسير في حجة الوداع حين دفع؟، قال: "كان يسير العنق" بتفح المهملة والنون سير بين الإبطاء والإسراع.
قال في المشارق: هو سير سهل في سرعة، وقال القزاز: سير سريع، وقيل: المشي الذي يتحرك به عنق الدابة وانتصب العنق على المصدر المؤكد من معنى الفعل "فإذا وجد فجوة" بفتح الفاء وسكون الجيم وفتح الواو، أي: مكانا واسعا، هكذا رواه ابن القاسم وابن وهب والقعنبي والتنيسي وطائفة عن مالك، ورواه يحيى الأندلسي وأبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهم عن مالك، فجوة بضم الفاء وفتحها وسكون الواو وجيم.
قال ابن عبد البر وغيره: هو بمعنى فجوة.
"نص" بفتح النون والصاد المهملة الثقيلة، أي: أسرع.
قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها وأصله غاية الشيء، يقال: نصصت الشيء رفعته، قال الشاعر:
ونص الحديث إلى أهله ... فإن الوثيقة في نصه
أي: ارفعه إليهم وانسبه، ثم استعمل في ضرب سريع من السير.
"قال هشام" بن عروة: "والنص فوق العنق" أي: ارفع منه في السرعة.
قال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى المزدلفة وهو مما(11/412)
وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله عن أبيه: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول:
"إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالف دين النصاري دينها"
قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله.
والقلق: الانزعاج.
والوضين: بالضاد المعجمة، حزام الرحل.
ولما كان -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الطريق نزل فبال وتوضأ وضوءا خفيفا، فقال له أسامة: الصلاة يا رسول الله؟ قال: "الصلاة أمامك".
__________
يلزم إثمة الحاج، فمن دونهم فعله لأجله الاستعجال للصلاة؛ لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين الوقار والسكينة عند الزحمة وبين الإسراع عند عدمها لأجل الصلاة.
"وأخرج الطبراني في المعجم عن سالم بن عبد الله" بن عمر أحد الفقهاء "عن أبيه؛ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أفاض من عرفات وهو يقول:"
"إليك تعدو قلقا وضينها ... مخالف دين النصارى دينها"
تعدو بالعين والدال المهملتين، قال في المصباح: عدا في مشيه عدوا من باب قال: قارب الهرولة وهو دون الجري، وله عدوة شديدة وقلقا بفتح القاف وكسر اللام فقاف.
"قال في النهاية: والحديث مشهور بابن عمر من قوله: القلق والانزعاج والوضين" بفتح الواو و"بالضاد المعجمة" المكسورة وتحتية ساكنة ونون بمعنى الموضون كقتيل بمعنى مقتول، قاله أبو عبيدة "حزام الرحل" وقال الجوهري: الوضين للهودج بنزلة البطان للقتب والتصدير للرحل والحزام للسرج، وهما كالتسع إلا أنهما من السيور إذا نسج نساجه بعضه على بعض مضاعفا "ولما كان -صلى الله عليه وسلم- في أثناء الطريق" وهو الشعب الذي دون المزدلفة كما في رواية للشيخين وهو شعب الأذخر بهمزة فمعجمة مفتوحتين فألف فمعجمة مكسورة فراء موضع بين المأزمين على يسار الطريق "نزل" رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "فبال وتوضأ" بماء زمزم، كما رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه عن علي بإسناد حسن "وضوءا خفيفا" قيل: معناه توضأ مرة مرة، وقيل: خفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وفي رواية: فتوضأ وضوء ليس بالبالغ، وفي أخرى: فلم يسبغ الوضوء "فقال له أسامة: الصلاة" بالنصب على الإغراء أو بتقدير أتذكر، أو تريد.
ويؤيده رواية للشيخين: أتصلي "يا رسول الله" ويجوز الرفع بتقدير حضرت الصلاة مثلا(11/413)
فركب حتى أتى مزدلفة، وهي المسماة بـ"جمع" بفتح الجيم وسكون الميم، وسميت جمعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي دنى منها، وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين، وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها ويزدلفون إلى الله تعالى، أي يتقربون إليه بالوقوف بها.
فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء، كل واحدة منهما بإقامة، ولا صلى أثر كل واحدة منهما.
وفي رواية: فأقام المغرب، ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام
__________
"فقال: "الصلاة" مبتدأ خبره "أمامك" بفتح الهمزة والنصب ظرف، أي: موضع هذه الصلاة قدامك، وهو المزدلفة فهو من ذكر الحال وإرادة المحل، أو التقدير وقت الصلاة قدامك، فحذف المضاف، إذ الصلاة نفسها لا توجد قبل إيجادها، وإذا وجدت لا تكون أمامه، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها وفيه تذكير التابع ما تركه متبوعه ليفعله، أو يتعذر عنه أو يبين له وجه صوابه "فركب" القصواء "حتى أتى مزدلفة" موضع بين عرفة ومنى وكلها من الحرم "وهي المسماة بجمع بفتح الجيم وسكون الميم" وعين مهملة "وسميت جميعا؛ لأن آدم اجتمع فيها مع حواء فازدلف إليها، أي: دنا" قرب "منها".
"وعن قتادة: إنما سميت جمعا؛ لأنه يجمع فيها بين صلاتين" المغرب والعشاء "وقيل: لأن الناس يجتمعون فيها" فسميت جمعا "ويزدلفون إلى الله تعالى، أي: يتقربون إليه بالوقوف بها" فسميت مزدلفة "فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بها المغرب والعشاء كل واحدة منهما بإقامة" كما في حديث أسامة في الصحيحين، زاد في نسخ: "ولا صلى أثر كل واحدة منهما"، وظاهره أنه لم يؤذن لهما لاقتصاره على الإقامة، وبه قال الشافعي في الجديد وأحمد في رواية.
وفي حديث جابر عند مسلم: بأذان واحد وإقامتين.
وبه قال الشافعي في القديم وابن الماجشون واختاره الطحاوي.
وعند البخاري والنسائي عن ابن مسعود: بأذانين وإقامتين.
وروى الطحاوي بإسناد صحيح؛ أن عمر كان يفعل ذلك، وبه أخذ مالك واختاره البخاري وقواه ابن عبد البر من جهة النظر؛ بأنه -صلى الله عليه وسلم- جعل الوقت لهما جميعا، وكل صلاة صليت في وقتها يسن الأذان لها، إذ ليست واحدة منهما فائتة تقضي.
"وفي رواية" لمسلم: فركب حتى جئنا المزدلفة "فأقام المغرب ثم أناخ الناس" رواحلهم "في منازلهم ولم يحلوا" بفتح الياء وضمها وكسر الحاء رحالهم من على رواحلهم(11/414)
العشاء الآخرة فصلى ثم حلوا.
وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة، ونام حتى أصبح، لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب، واجتهاده عليه السلام في الدعاء، وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرا، ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة، ولما هو بصدده يوم النحر بيده الشريف المبارك ثلاثا وستين بدنة، وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى. كما نبه عليه في شرح تقريب الأسانيد.
وعن عباس بن مرداس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة، فأجيب: "إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه"، قال: "أي رب إن شئت أعطيت المظلوم من الجنة وغفرت للظالم"، فلم يجب عشيته، فلما
__________
"حتى أقام العشاء الآخرة فصلى" بالناس "ثم حلوا" رحالهم عن رواحلهم "وترك عليه السلام قيام الليل تلك الليلة ونام حتى أصبح لما تقدم له من الأعمال بعرفة من الوقوف من الزوال إلى بعد الغروب واجتهاده عليه السلام في الدعاء وسيره بعد الغروب إلى المزدلفة، واقتصر فيها على صلاة المغرب والعشاء قصرًا" لها وجمعا لهما جمع تأخير "ورقد بقية ليلته مع كونه عليه السلام كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه، ولكنه أراح نفسه الشريفة لما تقدم في عرفة" من التعب، وقد قال: "إن لجسدك عليك حقا" "ولما هو بصدده يوم النحر من كونه نحر بيده الشريفة المباركة ثلاثا وستين بدنة" وباقي المائة نحره علي "وذهب إلى مكة لطواف الإفاضة، ورجع إلى منى كما نبه عليه" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد" للنووي.
"وعن عباس بن مرداس" بكسر الميم وسكون الراء ودال وسين مهملتين السلمي، أسلم بعد يوم الأحزاب، وسكن البصرة بعد ذلك؛ "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا لأمته عشية عرفة بالمغفرة" زاد في رواية ابن أحمد: والرحمة فأكثر الدعاء "فأجيب" في رواية ابن أحمد: فأجابه الله عز وجل "إني قد غفرت لهم ما خلا الظالم، فإني آخذ للمظلوم منه" وفي رواية ابن أحمد: فأجابه الله "أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضا".
زاد الطبراني: "فأما ما بيني وبينهم فقد غفرتها" "قال: "أي رب" عبر به لاقتضاء المقام لذلك لمزيد الاستعطاف، كما عبر بأي نداء للقريب؛ لأنه سبحانه قريب، كما قال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] "إن شئت أعطيت المظلوم(11/415)
أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال: فضحك -صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي، إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها، فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟، قال: "إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور، فأضحكني ما رأيت من جزعه". رواه ابن ماجه.
__________
"من" بعض "الجنة وغفرت للظالم" فلم يجب عشيته".
وفي رواية عبد الله بن أحمد: فقال: "يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيرا من مظلمته"، فلم يكن تلك العشية إلا ذا "فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب إلى ما سأل".
روى ابن جرير عن ابن عمر: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة، فقال: "أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم وأعطى لمحسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله"، فلما كان غداة جمع، قال: "يا أيها الناس قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم والتبعات بينكم عوضها من عنده، أفيضوا على اسم الله تعالى"، فقال أصحابه: يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا، فقال -صلى الله عليه ولم: "إني سألت ربي بالأمس شيئا فلم يجد لي به، سألته التبعة فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل، فقال: إن ربك يقرئك السلام ويقول: ضمنت التبعات وضمنتها من عندي "قال: فضحك -صلى الله عليه وسلم، أو قال: تبسم" بالشك من الراوي.
وفي رواية ابن أحمد والطبراني: فتبسم بالجزم، وفي أبي داود: ضحك بالجزم، والظاهر أنه زاد على التبسم قليلا، فتارة غلب الراوي قربه من التبسم فأطلقه عليه، وتارة قربه من الضحك فسماه به، وتارة تردد لكونه ليس تبسما صرفا ولا ضكا.
"فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها" أي: في مثلها "فما الذي أضحكك، أضحك الله سنك؟ " دعاء له بالفرح والسرور "قال: "إن عدو الله إبليس لما" حين "علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي" ولابن أحمد: قد استجاب لي في أمتي وغفر للظالم "أخذ التراب فجعل يحثوه" بمثلثة: يلقي "على رأسه" غيظا "ويدعو بالويل" حلول الشر به "والثبور" الهلاك "فأضحكني ما رأيت من جزعه".
وفي رواية ابن أحمد: "فتبسمت لما يصنع من جزعه"، وفي أخرى: "فضحكت لما رأيت من جزعه" "رواه ابن ماجه ورواه أبو داود من الوجه" أي الطريق "الذي رواه به ابن ماجه ولم(11/416)
ورواه أبو داود من الوجه الذي رواه به ابن ماجه ولم يضعفه.
وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما يبين أن المراد من "الأمة" من وقف بعرفة.
__________
يضعفه"أي: سكت عليه، فهو عنده صالح للحجة، وقد أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق.
وقد صنف الحافظ ابن حجر فيه كراسا سماه قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج، قال في أوله: إنه سئل عن حال هذا الحديث هل هو صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو منكر، أو موضوع، قال: فأجبت بأنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مرداس، فإنه مخرج في مسند أحمد.
وأخرج أبو داود طرقا منه وسكت عليه على رأي ابن الصلاح ومن تبعه حسن، وعلى رأي الجمهور كذلك، لكن باعتبار انضمام الطرق الأخرى إليه.
ثم قال الحافظ أثناء كلامه حديث العباس بمفرده يدخل في حد الحسن على رأي الترمذي، ولا سيما بالنظر إلى مجموع هذه الطرق لطرق ذكرها، قال: وأورده ابن الجوزي في الموضوعات من حديث ابن مرداس، وقال فيه كنانة: منكر الحديث جدا، ولا أدري التخليط منه أو من ولده، وهذا لا ينهض دليلا على أنه موضوع، فقد اختلف قوله ابن حبان في كنانة، فذكره في الثقات وفي الضعفاء.
وذكر ابن منده: أنه قيل: إن له رؤية منه -صلى الله عليه وسلم، وأما ولده عبد الله بن كنانة ففيه كلام ابن حبان أيضا، وكل ذلك لا يقتضي وضعه، بل غايته أن يكون ضعيفا ويعتضد بكثرة طرقه، وأورد حديث ابن عمر في الموضوعات أيضًا وقال فيه عبد العزيز بن أبي رواد، تفرد به عن نافع عن ابن عمر.
قال ابن حبان: كان يحدث على التوهم والحسبان وهو مردود، فإنه لا يقتضي أنه موضوع مع أنه لم ينفرد به، بل له متابع عند ابن حبان في كتاب الضعفاء، هذا كلام الحافظ ملخصًا، وهو كلام متقن إمام في الفن، فلا عليك ممن أطلق عليه اسم الضعيف الذي لا يحتج به.
"وقد جاء في بعض الروايات عن غير العباس بن مرداس: ما بين أن المراد من الأمة من وقف بعرفة" إلى آخر الدهر لا خوص الواقفين معه -صلى الله عليه وسلم.
أخرج ابن منيع عن أنس: وقف -صلى الله عليه وسلم، فقال: "معاشر الناس أتاني جبريل آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال: إن الله قد غفر لأهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات"، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله هذا لنا خاصة؟، قال: "هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى(11/417)
وقال الطبري: إنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها.
وقد رواه البيهقي بنحو رواية ابن ماجه ثم قال: وله شواهد كثيرة، فإن صح بشواهده ففيه الحجة، وإن لم يصح فقد قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى.
وقال الترمذي في الحديث الصحيح: "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج
__________
يوم القيامة"، فقال عمر: كثر خير الله وطاب.
قال الحافظ: إن صح سنده إلى ابن المبارك فهو على شرط الصحيح، وقد أخرجه مسدد بن مسرهد في مسنده من وجه مرسل رجاله ثقات لكن ليس بتمامه.
"وقال الطبري" محمد بن جرير بعد روايته حديث ابن عمر. "أنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها" مع العزم على أنه يوفي إذا قدر ما يمكن توفيته "وقد رواه" أي: حديث العباس بن مرداس "البيهقي" في السنن الكبرى "بنحو رواية ابن ماجه" السابقة، وكذا الطبراني في الكبير وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند لأبيه وابن عدي، وصححه الضياء كما مر وقد قالوا: إن تصحيحه أعلى من تصحيح الحاكم "ثم قال" البيهقي: "وله شواهد كثيرة" فأخرجه عبد الرزاق والطبراني من حديث عبادة بن الصامت وأبو يعلى وابن منيع من حديث أنس وابن جرير، وأبو نعيم وابن حبان من حديث ابن عمر، والدارقطني وابن حبان من حديث أبي هريرة، وابن منده من حديث عبد الله بن زيد، ذكر رواياتهم الحافظ في مؤلفه بنحو حديث عباس بن مرداس.
"فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح" فنحن في غنية عن تصحيحه" فقد قال الله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وظلم بعضهم بعضا دون الشرك" فيدخل في الآية. "انتهى" وهو حسن.
"وقال الترمذي في الحديث الصحيح" الذي رواه هو والباري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من حج" زاد في رواية: "لله"، وفي أخرى: "من حج هذا البيت"، وهما في البخاري، ولمسلم: "من أتى هذا البيت" وهو يشمل الحج والعمرة، وللدارقطني بإسناد فيه مقال: "من حج أو اعتمر" "فلم يرفث" بثليث الفاء في المضارع والماضي، لكن الأفصح فيه الفتح، وفي المضارع الضم، والرفث والجماع ويطلق على التعريض به وعلى الفحش في القول.
وقال الأزهري: اسم جامع لكل ما يريده الرجل من المرأة، وخصه ابن عاس بما خوطب به(11/418)
من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد، ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.
__________
النساء.
وقال عياض: هذا من قول الله تعالى: {فَلَا رَفَثَ} [البقرة: 197] والجمهور على أن المراد به في الآية الجماع.
قال الحافظ: والظاهر أن المراد به في الحديث ما هو أعم من ذلك، وإليه نحا القرطبي وهو المراد بقوله: "فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث" "ولم يفسق" أي: لم يأت بسيئة ولا معصية "رجع كيوم ولدته أمه" أي: صار بلا ذنب، وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري، قاله في فتح الباري "وهو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله تعالى خاصة دون العباد".
قال شيخنا المعتمد: لا فرق بينهما في سقوط الإثم دون الحق "ولا تسقط الحقوق أنفسها، فمن كان عليه صلاة" أو صيام أو زكاة "أو كفارة" ليمين وغيرها "ونحوها:" كنذر "من حقوق الله لا تسقط عنه؛ لأنها حقوق لا ذنوب، إنما الذنب تأخيرها، فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي نفسها، فلو أخره بعده" أي: الحج "تجدد إثم آخر، فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق".
قال ابن خالويه: المبرور: المقبول.
وقال غيره: الذي لا يخالطه شيء من الإثم، ورجحه النووي.
وقال القرطبي: الأقوال في تفسيره متقاربة، وهي أنه الحج الذي وفيت أحكامه ووقع موقعًا لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل وتظهر علامته بآخره، فإن رجع خيرًا مما كان علم أنه مبرور.
ولأحمد والحاكم عن جابر، قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام".
قال الحافظ: في إسناده ضعف، فلو ثبت لكان هو المتعين دون غيره.(11/419)
وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق كالصلاة يستتاب وإلا قتل، ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعًا. والله أعلم.
واستأذنت سودة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع، وكانت ثقيلة ثبطة فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنته سودة.
وفي رواية: فاستأذنته سودة أن تدفع قبل حطمة الناس، وكانت امرأة بطيئة، فأذن لها أن تدفع قبل حطمة الناس، قالت عائشة: فلأن أكون استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة أحب إلي من مفروح به. رواه البخاري.
__________
"وقال ابن تيمية: من اعتقد أن الحج يسقط ما وجب عليه من الحقوق" لله "كالصلاة" أو لخلقه "يستتاب" فإن تاب "وإلا قتل" فجعله مرتدا بهذا الاعتقاد "ولا يسقط حق الآدمي بالحج إجماعا، والله أعلم" بالحكم هل تسقط التبعات أم لا؟
"و" عن عائشة قالت: "استأذنت سودة" أم المؤمنين "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليلة جمع" أي: المزدلفة عند السحر "وكانت ثقيلة" أي: من عظم جسمها "ثبطة" بفتح المثلثة وكسر الموحدة وطاء مهملة خفيفة، أي: بطيئة الحركة كأنها تثبط الأرض، أي: تثبت "فأذن لها، فقالت عائشة: فليتني كنت استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة" أي: كاستئذانها، فما مصدرية، ولم يذكر في هذه الرواية بيان ما استأذنته فيه، ولذا عقبها بقوله.
"وفي رواية" عن عائشة: نزلنا المزدلفة "فاستأذنته" صلى الله عليه وسلم "سودة أن تدفع" أي: تتقدم إلى منى "قبل حطمة الناس" بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين، أي: زحمتهم؛ لأن بعضهم يحطم بعضا من الزحام "وكانت امرأة بطيئة، فأذن" صلى الله عليه وسلم "لها أن تدفع".
لفظ الباري: فدفعت "قبل حطمة الناس" زحمتهم، وحذف من هذه الرواية وأقمنا حتى أصبحنا نحن، ثم دفعنا بدفعه -صلى الله عليه وسلم "قالت عائشة: فلأن" بفتح اللام مبتدأ "أكون استأذنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما استأذنت سودة" جملة معترضة بين المبتدأ وبين خبره وهو "أحب إلي من مفروح به" أي: ما يفرح به من كل شيء.
قال القرطبي: هو كل شيء معجب له بال بحيث يفرح به كما في الحديث الآخر: أحب إلي من حمر النعم.
وقال الأبي: الشائع من كلام الفخر والأصوليين أن ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يشعر بكونه علة فيه، وقول عائشة هذا لا يشعر بأنه علة، إذ لو أشعرته لم ترد ذلك لاختصاص سودة بذلك الوصف إلا أن يقال: إن عائشة لمحت المناط ورأت أن العلة إنما هي لرد الضعف، وهو أعم من كونه لثقل جسم أو غيره، كما قال: أذن لضعفة أهله، ويحتمل أنها قالت ذلك؛ لأنها(11/420)
وفي رواية أبي داود والنسائي: أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. فكان ذلك اليوم اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم، تعني عندها.
وعند مسلم: بعث أم حبيبة من جمع بليل.
وفي رواية البخاري ومسلم والنسائي عن ابن عباس قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ضعفة أهله فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة.
__________
شركتها في الوصف لما روي أنها قالت: سابقته -صلى الله عليه وسلم- فسبقته، فلما ربيت اللحم سبقني "رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري" ومسلم وغيرهما.
"وفي رواية أبي داود والنسائي" مخالف لقول الولي العراقي: انفرد به أبو داود من بين الأئمة الستة، وأخرجه الحاكم وقال: على شرطهما ولم يخرجاه عن عائشة أنها قالت: "أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم سلمة" بحذف المفعول، أي: ناسا بأم سلمة، أي: أنها ذهبت مع غيرها، أو الباء زائدة، أي: أرسل أم سلمة، قاله الولي العراقي "ليلة النحر فرمت الجمرة" أي: جمرة العقبة "قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت:" طافت طواف الإفاضة "فكان ذلك اليوم" اسم كان، وخبرها "اليوم الذي يكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تعني: عندها" كأن عائشة حذفت ذكر الخبر اعتمادا على العلم به، فاستعان بعض الرواة في إثباته بتعني، ويحتمل أنها ذكرته فسقط من أصله أو خفي عليه لبعده، أو نحو ذلك، قاله الولي.
وفي رواية للبيهقي: كان يومها فأحب أن توافقه أو توافيه، واحتج به الشافعي ومن وافقه على دخول وقت الرمي بنصف الليل؛ لأن في رواية أمرها أن توافي صلاة الصبح بمكة، ولا يمكن ذلك إلا إذا وقع الرمي في أوائل النصف الثاني.
وقال غيره: لا يدخل إلا بطلوع الفجر، وإنما هذا رخصة لأم سلمة خاصة، فلا يجوز لغيرها أن يرمي قبل الفجر، قاله الخطابي، ويؤيده كون ذلك اليوم يوم نوبتها منه -صلى الله عليه وسلم، وله: أن يخص من شاء بما شاء.
"وعند مسلم: بعث أم حبيبة" رملة أم المؤمنين، ولفظ مسلم عن شوال: أنه دخل على أم حبيبة، فأخبرته أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بها "من جمع" مزدلفة "بليل" ولمسلم أيضا عنها: كنا نغلس من جمع إلى منى.
"وفي رواية البخاري ومسلم" بمعناه "والنسائي" واللفظ له "عن ابن عباس، قال: أرسلني رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية لمسلم: بسحر "مع ضعفة" جمع ضعيف "أهله" أي:(11/421)
وفي الموطأ والصحيحين والنسائي عن أسماء أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي ساعة ثم قالت: يا بني هل غاب القمر؟ قلت: لا، ثم صلت ساعة ثم قالت: هل غاب القمر؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن والظعن -بالضم: النساء في الهوادج.
وقد اختلف السلف في ترك المبيت بالمزدلفة؛ فقال علقمة والنخعي والشعبي: من تركه فاته الحج، وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون
__________
النساء والصبيان "فصلينا الصبح بمنى ورمينا الجمرة".
وعند الطحاوي عن ابن عباس، قال صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: "اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى ويرموا جمرة العقبة قبل أن يصيبهم دفعة الناس".
"وفي الموطأ" بمعناه "والصحيحين والنسائي" عن عبد الله مولى أسماء "عن أسماء" بنت أبي بكر الصديق "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة" في حجة حجتها بعد النبي -صلى الله عليه وسلم "فقامت تصلي" فصلت "ساعة" من الليل "ثم قالت: يا بني" تصغير تحبيب لمولاها عبد الله بن كيسان راوي الحديث "هل غاب القمر؟ " قال الأبي: الظاهر أن سؤالها عن مغيبه لطلب الستر؛ لأنه وإن لم يدفع الناس فقد يحضر الموسم من ليس بحاج، ويحتمل أنه لتعلم ما بقي من الليل لتدفع في آخره "قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: هل غاب القمر؟، قلت: نعم" غاب "قالت: فارتحلوا" بكسر الحاء أمر من الارتحال.
وفي رواية مسلم: قالت: ارحل بي، وأسقط من الحديث: فارتحلنا ومضينا حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: يا هنتاه ما أرانا إلا قد غلسنا، قالت: يا بني "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أذن للظعن" كذا رواه البخاري بالظن في قوله: أرانا بضم الهمزة، أي: أظننا، ورواه مسلم: لقد غلسنا بالجزم.
وفي رواية مالك: لقد جئنا منى بغلس، فقالت: قد كنا نصنع ذلك مع من هو خير منك "والظعن بالضم" للظاء المعجمة والعين المهملة وقد تسكن: جمع ظعينة "النساء في الهوادج" ثم أطلق على المرأة مطلقا قاله الحافظ.
وفي شرح المصنف لمسلم: أصل الظعينة الهودج تكون فيه المرأة على البعير، سميت المرأة به مجازا واشتهر هذا المجاز حتى غلب وخفيت الحقيقة وظعينة الرجل امرأته، وفيه دلالة على أنه لا يجب البيات بالمزدلفة، إذ لو وجب لم يسقط بالعذر كوقوف عرفة.
"وقد اختلف السلف في ترك المبيت بها، فقال علقمة والنخعي" إبراهيم "والشعبي" عامر، والثلاثة من التابعين: "من تركه فاته الحج" قالوا: ويجعل إحرامه عمرة كما في الفتح.(11/422)
وإسحاق: عليه دم، ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف.
وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. انتهى.
ولما طلع الفجر صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر حين تبين الصبح بأذان وإقامة.
وفي سنن البيهقي والنسائي صحيح على شرط مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن العباس غداة يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل
__________
"وقال عطاء والزهري وقتادة" التابعيون "والشافعي والكوفيون وإسحاق" بن راهويه: "عليه دم ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل" مضي "النصف" الأول من الليل.
"وقال مالك:" البيات بها مستحب، و"إن مر بها فلم ينزل فعليه دم: وإن نزل" ولو بقدر حط الرحل "فلا دم عليه متى دفع. انتهى"، وحجت حديث أسماء كما علم.
"ولما طلع الفجر" صبيحة المزدلفة "صلى النبي -صلى الله عليه وسلم- الفجر" أي: الصبح "حين تبين" أي: ظهر "الصبح" كما في مسلم في حديث جابر، ولفظه: وصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما، ثم اضطجع -صلى الله عليه وسلم- حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح "بأذان وإقامة" وما في الصحيحين وأبي داود والنسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة إلا لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
فقال العلماء: معناه قبل وقتها المعتاد في كل يوم مبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل ما يستقبل من المناسك؛ لأنه كان يؤخرها في غير هذا اليوم حتى يأتيه بلالا، وليس المراد أنه صلاها قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز بإجماع، ويدل على ذلك رواية للبخاري عقب هذه عن ابن مسعود نفسه، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر.
وله وللنسائي: حين بزغ الفجر، وكذا قوله: إلا بجمع أراد الوقت المعتاد؛ فإنه لما أخر المغرب فصلاها مع العشاء كان وقت العشاء وقتا لها، فلم يصلها إلا بوقتها إلا أنه غير الوقت المعتاد، وقوله: إلا بجمع.
قال الولي: وكذا بعرفات أيضا في الظهرين كما عند النسائي عن ابن مسعود: ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى صلاة إلا لوقتها إلا بجمع وعرفات، فلم يحفظ راوي هذه الرواية ذكر عرفات وحفظه غيره، والحافظ حجة على الناس. انتهى.
"وفي سنن البيهقي والنسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم" ولذا أخرجه الحاكم في المستدرك، كلهم عن عبد الله بن عباس "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال للفضل بن عباس" أكبر ولده، وبه(11/423)
حصى الخذف. -وهو بالمعجمتين- ولم يكسرها كما يفعل من لا علم عنده.
وفي رواية للنسائي قال -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس، غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته: "هات إلقط لي"، فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعهن في يده قال: "بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".
قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي؛ قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح، ونص عليه الشافعي في
__________
كان يكنى "غداة" ظرف لقال، أي: قال له أول "يوم النحر: التقط لي حصى، فالتقط له حصيات مثل حصى الخذف وهو بالمعجمتين" الأولى وهي الخاء مفتوحة والثانية ساكنة وآخره فاء، وروي بحاء مهملة وهو الرمي بالحصى بالأصابع، كانت العرب ترمي بها في الصغر لعبا تجعلها بين السبابة والإبهام من اليد اليسرى ثم تقذف بسبابة اليمنى.
وقيل: تجعلها بين السبابتين وفي أن قدرها فولة أو نواة أو دون الأنملة طولا وعرضا خلاف "ولم يكسرها" من الجبل "كما يفعل من لا علم عنده" بالسنة "من لقطها".
"وفي رواية النسائي" عن عبد الله بن عباس: "قال عليه السلام لابن عباس" أي: الفضل: "غداة النحر وهو عليه السلام على راحلته" ناقته القصواء "هات" بكسر التاء، أي: أعطني هذا أصله، لكن المراد هنا "ألقط" بضم الهمزة والقاف من باب نصر وناولني ما تلقطه "فلقط حصيات مثل حصى الخذف، فلما وضعت في يده" صلى الله عليه وسلم "قال: "بأمثال هؤلاء" فارموا "وإياكم والغلو" بمعجمة مضمومة "في الدين" أي: بالتشديد فيه، ومجاوزة الحد والعبث عن غوامض الأشياء والكشف عن عللها وغوامض متعبداتها "فإنما هلك من كان قبلكم" من الأمم "بالغلو في الدين" والسعيد من اتعظ بغيره، وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو مجاوزة الحد بأن يزاد في مدح الشيء، أو ذمه على ما يستحقه، ونحو ذلك، والنصارى أكثر غلوا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف وإياهم نهى الله بقوله: {لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وسبب هذا النهي رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه بلغ من الصغار، ثم عله بما يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا، وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه الهلاك، قاله بعض العلماء.
"قال العلماء: وفي هذا الحديث دليل على استحباب أخذ الحصيات بالنهار، وهو رأي البغوي قال: ويكون ذلك بعد صلاة الصبح" عملا بظاهر هذا الحديث.(11/424)
"الأم" و"الإملاء" لكن الجمهور كما قال الرافعي: على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه، وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمي به في الحج، وبه جزم في "التنبيه" وأقره عليه النووي في تصحيحه. لكن الأكثرون كما قال الرافعي، على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح "المهذب". والاحتياط أن يزيد فربما سقط منه شيء. انتهى.
ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس.
__________
"ونص عليه الشافعي في الأم والإملاء، لكن الجمهور كما قال الرافعي على استحباب الأخذ بالليل لفراغهم فيه" أي: عدم شغلهم بشيء "وهل يستحب أن يلتقط جميع ما يرمى به في الحج، وبه جزم في التنبيه وأقره النووي في تصحيحه" هو من تتمة السؤال، فحاصله هل هو الراجح أو غيره.
وفي نسخة: به جزم لا واو فهي جواب السؤال "لكن الأكثرون كما قال الرافعي على استحباب الأخذ ليوم النحر خاصة، ونص عليه الشافعي أيضا، قال في شرح المهذب: والاحتياط أن يزيد" على ما يأخذ ليوم النحر "فربما سقط منه شيء. انتهى".
ثم عاد المصنف لحديث مسلم عن جابر فقال عقب قوله سابقا: حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة. "ثم ركب النبي -صلى الله عليه وسلم- القصواء" لا يخالف بين هذا وبين قوله سابقا، وهو على راحلته هات؛ لأن ركوبه كان بعد الصبح، فلما ركب قال للفضل: هات ... إلخ، فلم يذكره جابر، كما أن ابن عباس لم يذكر وقت ركوبه فذكر كل واحد منهما ما لم يذكر الآخر "حتى أتى المشعر الحرام" بفتح الميم والعين كما في القرآن، وحكى الجوهري كسر الميم، وقيل: إنه لغة جميع العرب، وقال ابن قرقول: كسرها لغة لا رواية قبل لم يقرأ بها شاذا، وقيل: قرئ سمي المشعر؛ لأنه معلم للعبادة والحرام؛ لأنه من الحرم أو لحرمته وهو جبل من جبال المزدلفة "فرقى عليه فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله ووحده" فهو أحق من يعمل بقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] "فلم يزل واقفا حتى أسفر" الفجر "جدا" حال، أي: مبالغا، أو صفة مصدر محذوف، أي: إسفارا بليغا "فدفع قبل أن تطلع الشمس".
"وفي رواية غير جابر" وهو عمر بن الخطاب: كما رواه ابن جرير الطبري عن عمرو بن(11/425)
وفي رواية غير جابر: وكان المشركون لا ينفرون حتى يطلع الشمس، وإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك، فنفر قبل طلوع الشمس.
وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح -صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح وأردف الفضل ثم قال: "هذا الموقف وكل المزدلفة موقف"، حتى إذا أسفر دفع.
وفي رواية جابر: وأردف -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، قال: وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما، فلما دفع -صلى الله عليه وسلم- مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن،
__________
ميمون، قال: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم قال: "وكان المشركون لا ينفرون حتى تطلع الشمس، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره ذلك فنفر قبل طلوع الشمس".
ولابن جرير أيضًا: فدفع بعد صلاة القوم المغلسين بصلاة الغداة، والحديث في البخاري عن عمرو بن ممون: شهدت عمر صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- خالفهم، ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس، وعدل عنه المصنف للفظ الذي ذكره لصراحته، فإن قوله: ثم أفاض يحتمل عمر ويحتمل النبي عطفا على خالفهم، وهو المعتمد بدليل روايتي ابن جرير: وأشرق بفتح فسكون أمر من الإشراق وثبير منادى اسم جبل.
"وفي حديث علي عند الطبري: لما أصبح -صلى الله عليه وسلم- بالمزدلفة غدا فوقف على قزح" بضم القاف وفتح الزاي وحاء مهملة جبل صغير بالمزدلفة لا ينصرف للعدل والعلمية كعمر، صرح به في النهاية وهو المشعر الحرام "وأردف الفضل" بن عباس "ثم قال: هذا الموقف" الأفضل الذي وقفت فيه "وكل المزدلفة موقف حتى إذا أسرف دفع" من قزح إلى منى، فهذا أيضا صريح في أنه دفع قبل طلوع الشمس، وبهذه الأخبار أخذ الجمهور باستحباب الوقوف إلى الإسفار واستحبه مالك قبله، واحتج له بعض أصحابه بأنه -صلى اله عليه وسلم- لم يعجل الصلاة إلا ليدفع قبل الشمس، فكل من بعد دفعه من طلوعها كان أولى.
"وفي رواية جابر" في حديثه الطويل في الحجة النبوية عند مسلم وغيرها، تلو قوله آنفا: قبل أن تطلع الشمس "وأردف -صلى الله عليه وسلم- الفضل بن العباس، وكان رجلا" هكذا ثبت لفظ رجلا في مسلم وأبي داود "حسن الشعر أبيض وسيما" بفتح الواو وكسر المهملة حسنا وضيئا، فوصفه بوصف من يفتن به "فلما دفع -صلى الله عليه وسلم" من المزدلفة "مرت ظعن" بضمتين نساء "يجرين" قال المصنف: بفتح الياء وضمها وسكون الجيم "فطفق:" شرع "الفضل ينظر إليهن، فوضع(11/426)
فوضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر، فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر.
وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: "نعم". وذلك في حجة الوداع، رواه الشيخان وغيرهما.
__________
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده على وجه الفضل" ليمنعه من النظر إليهن وخوفا عليه وعليهن من الفتنة "فحول الفضل وجهه إلى الشق" بكسر المعجمة "الآخر ينظر" إليهن "فحول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يده من الشق الآخر على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق الآخر ينظر" من غلبة الطبع.
"وفي رواية: كان الفضل رديف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية للبخاري: على عجز راحلته "فجاءته امرأة" قال الحافظ: لم تسم "من خثعم" بفتح المعجمة وسكون المثلثة وفتح المهملة غير مصروف للعلمية والتأنيث باعتبار القبيلة "تستفتيه فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر" المرأة "إليه".
قال القرطبي: هذا النظر بمقتضى الطباع فإنها مجبولة على النظر إلى الصورة الحسنة.
"فجعل -صلى الله عليه وسلم- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر" الذي ليس فيه المرأة منعا له عن مقتضى الطبع وردا إلى مقتضى الشرع.
قال الأبي: الأظهر أن صرفه ليس للوقوع في المحرم كما يعطيه كلام عياض والنووي، وإنما هو لخوف الوقوع كما يعطيه كلام القرطبي وبين استفتاءها، بقوله: "إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي" لم يسم أيضا "شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة" صفة بعد صفة أو من الأحوال المتداخلة أو شيخا بدل؛ لأنه موصوف، أي: وج عليه الحج وحصل له المال في هذه الحال والأول أوجه، قاله الطيبي: "أفأحج" أي أيصح أن أنوب فأحج "عنه؟، قال: نعم" حجي عنه "وذلك في حجة الوداع".
وفي رواية للبخاري: يوم النحر.
وفي الترمذي وأحمد ما يدل على أن السؤال وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي "رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والنسائي من طرق كلها عن الزهري عن سليمان بن يسار عن(11/427)
وقد روي أيضا من حديث عبد الله بن عباس، لكن رجح البخاري رواية الفضل؛ لأنه كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن الفضل حدث أخاه بما شاهد في تلك الحالة، ويحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، فنقله تارة عن أخيه لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده، ويؤيده ما في الترمذي: أن السؤال المذكور وقع عند المنحر، بعد الفراغ من الرمي، وأن العباس كان شاهدا.
وفيه: أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله، لويت عنق ابن عمك، قال: "رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما من الشيطان".
__________
عبد الله بن يسار، ثم اختلف أصحاب الزهري، فقال شعيب عنه، عن سليمان، عن ابن عباس، عن الفضل: أن امرأة.... فذكره، أخرجه الشيخان فجعله شعيب من مسند الفضل تابعه معمر عن الزهري.
"وقد روي" لعله رويا بالتثنية عائدة على الشيخين، وإلا بالتعبير بروي يوهم ضعفه وأنهما لم يروياه لقوله: قبل رواه الشيخان مع أنهما روياه "أيضا" في الصحيحين "من حديث" مالك وابن عيينة وأكثر أصحاب ابن شهاب عنه عن سليمان عن "عبد الله بن عباس" قال: كان الفضل ... فذكره فجعلوه من مسند عبد الله.
"لكن رجح البخاري" فيما نقله عنه الترمذي "رواية الفضل" أي: أنه من مسنده "لأنه" ظاهره أن التعليل من الترمذي وليس كذلك، فقد قال الحافظ: وكأنه رجح هذا؛ لأنه "كان رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- حينئذ، وكان" أخوه "عبد الله بن عباس تقدم إلى منى مع الضعفة، فكأن" بالتشديد "الفضل حدث أخاه بما شاهده في تلك الحالة" ومن المعلوم أن هذا اختلاف لا يضر، ولذا أخرجه الشيخان من الوجهين، إذ محصله أنه أسنده تارة وأرسله أخرى، ومرسل الصحابي له حكم الوصل.
"و" لكن ليس هذا بمتعين، فإنه "يحتمل أن يكون سؤال الخثعمية وقع بعد رمي جمرة العقبة، فحضره عبد الله بن عباس، نقله تارة عن أخيه" الفضل لكونه صاحب القصة، وتارة عما شاهده" وهذا أوجه.
"ويؤيده ما في الترمذي" من حديث جابر "أن السؤال المذكور" من الخثعمية "وقع عند المنحر بعد الفراغ من الرمي" لجمرة العقبة "وأن العباس" والدهما "كان شاهدًا" حاضرا "وفيه؛ أنه عليه السلام لوى عنق الفضل، فقال العباس: يا رسول الله لويت عنق ابن عمك" أي: لم، فهو استفهام حقيقي عن حكمة ذلك "قال: "رأيت شابا وشابة فلم آمن عليهما(11/428)
وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه.
وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا مالك في ذلك، ولمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر، ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنه لا يجوز أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي. وعن أحمد روايتان. انتهى.
وفي رواية ابن عباس: أن أسامة قال: كنت ردف النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرفة إلى
__________
الشيطان".
قال النووي: هذا يدل على أن وضع يده الشريفة على وجه الفضل كان لدفع الفتنة عنه وعنها. انتهى.
وبه رد الولي قول النووي نفسه في حديث مسلم السابق وحرمة النظر إلى الأجنبية وتغيير المنكر باليد لمن قدر عليه، فقال: إن أراد عند خوف الفتنة فهو محل وفاق، وإن أراد الأعم من خوفها وأمنها، ففي حالة أمنها خلاف مشهور للعلماء ولا يصح الاستدلال بالحديث على التحريم لاحتماله لكل منهما.
"وظاهر هذا أن العباس كان حاضرا لذلك، فلا مانع أن يكون ابنه عبد الله أيضا كان معه" فحدث عن مشاهدة لا أنه أرسل الحديث.
"وفي هذا الحديث دلالة على جواز النيابة في الحج عمن لا يستطيع من الأحياء، خلافا لمالك في" كراهة "ذلك".
قال عياض: ولا حجة فيه على الوجوب؛ لأن قولها: إن فريضة الله لا توجب دخول أبيها في ذلك الفرض إنما ظاهر الحديث أنها أخبرت أن فرض الحج مع الاستطاعة نزل وأبوها غير مستطيع، فسألت: هل لها أن تحج عنه ويكون له في ذلك أجر؟، ولا يخالفه قوله: نعم، وفي رواية: فحجي عنه؛ لأنه ندب وإرشاد ورخصة لها أن تفعل لما رأى من حرصها على تحصيل الخير لأبيها "و" خلافا "لمن قال: لا يحج عن أحد مطلقا كابن عمر" عبد الله.
"ونقل ابن المنذر وغيره: الإجماع على أنه لا يجوز" أي: يحرم "أن يستنيب من يقدر على الحج بنفسه في الحج الواجب، وأما النفل فيجوز عند أبي حنيفة خلافا للشافعي، وعن أحمد روايتان" كالمذهبين.
"وفي رواية ابن عباس" عبد الله "أن أسامة" ابن زيد "قال: كنت ردف" بكسر الراء(11/429)
المزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبي حتى رمى جمرة العقبة. رواه الشيخان وغيرهما.
وفي رواية جابر: فلما أتى -صلى الله عليه وسلم- بطن محسر حرك ناقته وأسرع السير قليلا.
قال الأسنوي: سببه أن النصارى كانت تقف فيه، كما قاله الرافعي، أو العرب، كما قاله في الوسيط، فأمرنا بمخالفتهم. قال: وظهر لي فيه معنى آخر، وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت، فاستحب فيه
__________
وسكون الدال "النبي -صلى الله عليه وسلم" على عجز ناقته "من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف" النبي -صلى الله عليه وسلم- "الفضل" بن عباس "من المزدلفة إلى منى، فكلاهما" أي: أسامة والفضل "قال: لم يزل" أي: استمر "النبي -صلى الله عليه وسلم- يلبي حتى رمى جمرة العقبة" أي: أتم رميها، لما رواه ابن خزيمة عن الفضل: أفضت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- من عرفات، فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة، ثم قطع التلبية مع آخر حصاة.
قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم في الرواية الأخرى، وأن المراد بقوله: حتى رمى جمرة العقبة، أي: أتم رميها.
وقال أبو حنيفة والشافعي: والأكثر يقطعها عند رمي أول حصاة.
وعن أحمد: روايتان.
وقال مالك: يقطعها إذا راح إلى مصلى عرفة.
قال ابن القاسم: وذلك بعد الرواح، وراح يريد الصلاة، وإليه ذهب علي وعائشة وسعد بن أبي وقاص، رواه عنهم ابن المنذر وسعيد بن منصور بأسانيد صحيحة وقاله الأوزاعي والليث.
قال الحافظ في ذكر أسامة: إشكال لما في مسلم عنه، وانطلقت أنا في سباق قريش على رحلي، فإن مقتضاه أن أسامة سبق إلى رمي الجمرة فيكون إخباره بالتلبية مرسلًا، لكن لا مانع أنه يرجع مع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الجمرة أو يقيم بها حتى يأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- وأيد ذلك بحديث أم الحصين الآتي "رواه الشيخان وغيرهما".
"وفي رواي جابر" في حديثه الطويل: "فلما" لفظه حتى "أتى بطن محسر" بضم الميم وفتح الحاء وكسر السين المشددة المهملتين موضع بين مزدلفة ومنى "حرك ناقته وأسرع السير قليلا".
"قال الإسنوي: سببه" أي: الإسراع "أن النصارى كانت تقف فيه كما قاله كما قاله الرافعي، أو العرب كما قاله في الوسيط فأمرنا بمخالفتهم، قال: وظهر ليس فيه معنى آخر" في حكمته "وهو أنه مكان نزل فيه العذاب على أصحاب الفيل القاصدين هدم البيت" في قول الأصح(11/430)
الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك. وقال غيره: وهذه كانت عادته -صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله بأعدائه، وسمي وادي محسر؛ لأن الفيل حسر فيه، أي أعيى وانقطع عن الذهاب. انتهى.
ثم سلك -صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة. رمى من بطن الوادي، وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة، وكان رميه -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم، والترمذي، وأبي داود، والنسائي.
__________
خلافه وأنهم لم يدخلوا الحرم، وإنما أهلكوا قرب أوله وأن رجلا اصطاد، ثم فنزلت نار فأحرقته، ولذا تسميه أهل مكة وادي النار، قاله في التحفة: "فاستحب فيه الإسراع لما ثبت في الصحيح أمره المار على ديار ثمود ونحوهم بذلك، قال غيره: وهذه كانت عادته -صلى الله عليه وسلم- في المواضع التي نزل فيها بأس الله" تعالى: عذابه ونقمت "بأعدائه" الكافرين "وسمي وادي محسر؛ لأنه الفيل حسر فيه، أي: أعيا" وكل وتعب "وانقطع عن الذهاب. انتهى".
"ثم سلك -صلى الله عليه وسلم- الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى:" جمرة العقبة، وهذا معنى قول الأصحاب: يذهب إلى عرفات في طريق ضب ويرجع في طريق الملزمين ليخالف الطريق تفاؤلا بتغيير الحال، قاله المصنف: "حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة" هذا يدل على أنه كان هناك شجرة كما في الفتح "فرماها بسبع حصيات:" بسين فموحدة "يكبر مع كل حصاة" أسقط من مسلم منها حصي الخذف.
قال المصنف: كذا في معظم الروايات، ونقله عياض عن أكثر الأصول، لكنه قال: صوابه مثل حصي الخذف، بإثبات لفظة مثل، وكذا رواه غير مسلم وهو الذي في أصل ابن عيسى.
وأجاب النووي بأن حصي الخذف متصل بحصيات، أي: رماا بسبع حصيات حصي الخذف، واعترض بينهما بقوله: يكبر مع كل حصاة منها.
قال الأبي: يريد النووي. إن حصى الخذف بدل من حصيات، والإضافة في حصى الخذف للبيان بمعنى من مثلها في خاتم حديد، وتعقبه الهروي بأن حصى الخذف وقع مشبها به، أي: كحصى أو مثل حصى، وحذف أداة التشبيه سائغ ولم يقل أحد أنه خطأ، أو أنه يحصل منه لبس، بل قال أهل البيان: إنه أبلغ "رمى من بطن الوادي وجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه، واستقبل الجمرة" حين رماها "وكان رميه -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر ضحى، كما قاله جابر في رواية مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي".(11/431)
وفي رواية أم الحصين، عند أبي داود: رأيت أسامة وبلالا أحدهما آخذ بخطام ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة.
وفي رواية النسائي: ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وذكر قولا كثيرا.
وعن أم جندب: رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي، وهو راكب، يكبر مع كل حصاة، ورجل من خلفه يستره، فسألت عن الرجل فقالوا: الفضل بن العباس. وازدحم الناس فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، لا يقتل بعضكم بعضا، وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف".
__________
"وفي رواية أم الحصين:" بمهملتين مصغر الأحمسية الصحابية لم تسم، وسمى بعض الرواة أباها إسحاق، قال أبو عمر: لم أر لغيره "عند أبي داود" ومسلم، فالعزو له أولى، فإنه رواه من طريق يحيى بن الحصين عن أم الحصين جدته، قالت: حججت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حجة الوداع، فـ"رأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ" بالمد اسم فاعل "بخطام" بكسر المعجمة: "ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والآخر رافع ثوبه يستره" صلى الله عليه وسلم "من الحر".
وفي رواية لمسلم: من الشمس "حتى رمى جمرة العقبة".
"وفي رواية النسائي" عنها: "ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه وذكر قولا كثيرا" كأنها لم تحفظه أو لم ترد التحديث به، وهو في مسلم أيضا قبل هذه بلفظ: قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قولا كثيرا، ثم سمعته يقول: إن أمر عليكم عبد مجدع، حسبتها قالت: أسود يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا.
"وعن أم جندب" الأزدية: لم تسم وهي أم سليمان بن عمرو بن الأحوص.
روى أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم عنها أنها قالت: "رأيته عليه الصلاة والسلام يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب" ناقته "يكبر مع كل حصاة ورجل:" مبتدأ للوصف بقوله: "من خلفه يستره" خبر، أي: من الحر.
قال الولي: أو من حصاة تقع عليه، أو ممن يزاحمه وهو لا يعرفه لكثرة الناس.
"فسألت عن الرجل، فقالوا: الفضل بن العباس" ووقع في رواي لابن سعد: العباس بن عبد المطلب، والصواب الأول كما في الإصابة.
ولابن سعد عن بعض الصحابة: أن الذي كان يظلله بلال، وجمع باحتمال أنهما كانا يتناوبان.
"وازدحم الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس لا يقتل بعضكم بعضا" بالازدحام، ولم(11/432)
وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحل ونحوه، وقد مر أنه -صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة من شعر بنمرة.
وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود قال: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر، وهو يقول: "خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه".
وفي رواية قدامة عند الترمذي رأيته يرمي الجمار على ناقة له صهباء، ليس
__________
يقصد حقيقة القتل، إذ لم يكونوا ليفعلوه، إنما أراد أذى بعضهم لبعض بالمزاحمة، فسماه قتلا مجازا بقرينة قول الراوي أولا، وازحم الناس، لكن قوله: "وإذا رميتم الجمرة فارموا بمثل حصى الخذف" قد يدل على النهي عن القتل الحقيقي، بأن يرموا بحجارة كبار إذا أصابت شخصا قتلته، ولعل المراد الأمر؛ أن بناء على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، قاله الولي وأمرهم مع رميه بمثلها؛ لأنهم كلهم لم يروا رميه لكثرتهم.
"وفي هذا دليل على جواز استظلال المحرم بالمحمل ونحوه، وقد مر أنه -صلى الله عليه وسلم- ضربت له قبة:" خيمة "من شعر بنمرة" بفتح النون وكسر الميم الاستظلال بالخيمة والسقف مجمع على جوازه كاستظلاله بيده، إنما الخلاف في تظليله بنحو الثوب على رأسه بلا مماساة فأجازه الشافعي راكبا أو ماشيا.
وقال مالك وأحمد: لا يجوز، وأجابوا عن حديث أم الحصين ونحوه: بأنه استظلال خفيف لا يكاد يدوم.
"وفي رواية جابر عند مسلم وأبي داود، قال: رأيته -صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر" ففيه استحباب رميها حين وصوله على الحالة التي وصلها عليها، إن راكبا فراكب، وإن ماشيا فماش، وقاله مالك والشافعي "وهو يقول: "خذوا عني منسككم".
وفي رواية: "لتأخذوا" بلام مكسورة بعدها فوقية، قال النووي: هذه لام الأمر ومعناها: خذوا، وتقديره هذه الأمور التي أتيت بها في حجتي من الأقوال والأفعال والهيئات هي أمور الحج وهي مناسككم، فخذوها عني واقبلوها واحفظوها واعملوا بها وعلموها الناس، فإني "لا أدري" ما يفعل بي "لعلي" مستأنف، أي: أظن أني "لا أحج بعد حجتي هذه" ويحتمل أن لعل للتحقيق كما يقع في كلام الله تعالى كثيرا.
وقال النووي: فيه إشارة إلى توديعهم وإعلامهم بقرب وفاته وحثهم على الاعتناء بالأخذ عنه وانتهاز الفرصة من ملازمته، وتعلم أمور الدين، وبهذا سميت حجة الوداع.
"وفي رواية قدامة" بضم القاف والتخفيف ابن عبد الله بن عمار العامري الكلابي صحابي قليل الحديث، قال البغوي: سكن مكة، وقال ابن السكن: أسلم قديما، ولم يهاجر،(11/433)
ضرب ولا طرد ولا إليك إليك.
ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر
__________
وكان يسكن نجدا وشهد حجة الوداع.
"عند الترمذي" قال: "رأيته -صلى الله عليه وسلم "يرمي الجمار على ناقة له صهباء" بفتح المهملة وإسكان الهاء فموحدة فألف وبالمد حمراء يعلوها سواد، ولعل هذا لون القصواء التي كان عليها "ليس ضرب" للناس عنده "ولا طرد" للناس ليتنحوا عنه "ولا" قول "إليك إليك" كما يفعل عند المتكبرين "ثم انصرف -صلى الله عليه وسلم- إلى المنحر" موضع معروف بمنى وكلها منحر كما في الحديث.
قال ابن التين: منحر النبي -صلى الله عليه وسلم- عند الجمرة الاولى التي تلي المسجد، فللنحر فيه فضيلة على غيره لقوله: هذا المنحر وكل منى منحر.
"فنحر ثلاثا وستين بدنة" واحدة بدن، كذا رواه ابن ماهان في مسلم، ورواه غيره بيده.
قال عياض: وكل صواب وبيده أصوب.
وقال النووي: كل جرى فنحر ثلاثا وستين بدنة بيده الشريفة "ثم أعطى عليا فنحر ما غبر" بفتح المعجمة والموحدة والراء، أي: ما بقي من البدن وكانت مائة.
وفي أبي داود عن علي: لما نحر -صلى الله عليه وسلم- بدنة نحر ثلاثين بيده وأمرني فنحرت سائرها، وفيه أيضا عن غرفة بن الحارث الكندي: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأتى البدن، فقال: "ادعوا لي أبا حسن"، فدعي له علي، فقال: "خذ بأسفل الحربة"، وأخذ -صلى الله عليه وسلم- بأعلاها، ثم طعنا بها البدن، فلما فرغ ركب وأردف عليا، وجمع الحافظ ولي الدين باحتمال أنه -صلى الله عليه وسلم- انفرد بنحر ثلاثين بدنة، وهي التي ذكرت في ديث علي، واشترك هو وعلي في نحر ثلاث وثلاثين بدنة وهي المذكورة في حديث غرفة بغين معجمة مفتوحة، وقيل: مهملة، وقول جابر: نحو ثلاثا وستين، مراده: كل ما له دخل في نحره إما منفردا به أو مع مشاركة علي، وجمع الحافظ بين حديثي علي وجابر بأنه -صلى الله عليه وسلم- نحر ثلاثين ثم أمر عليا أن ينحر فنحر سبعا وثلاثين، ثم نحر -صلى الله عليه وسلم- ثلاثا وثلاثين، قال: فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح، أي: مع مشاركة على ليتئم مع حديث غرفة وإن لم يذكره.
وذكر بعضهم أن حكمة نحره ثلاث وستين بدنة بيده أنه قصد بها سني عمره، وهي ثلاث وستون عن كل سنة بدنة، نقله عياض ثم قال: والظاهر أنه -صلى الله عليه وسلم- نحر البدن التي جاءت معه من المدينة وكانت ثلاثا وستين كما رواه الترمذي، وأعطى عليا البدن التي جاءت معه من اليمن وهي تمام المائة. انتهى.
وما في الصحيحين عن أنس: نحر النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده سبعة بدن، فلعلها التي اطلع هو عليها،(11/434)
ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.
وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة.
وقالت عائشة: نحر -صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة. رواه أبو داود.
__________
ووجهت أيضا بأنه أراد سبعة أبعرة، ولذا ألحق بها الهاء، وهذا خبر من احتمال أنه ما نحر بيده إلا سبعا؛ لأن أحاديث جابر وعلي وغرفة مصرحة بخلاف.
"وأشركه" أي: عليا "في هديه" في نفس الهدي، ويحتمل في نحره: "ثم أمر من كل بدنة" من المائة "ببضعة" بفتح الموحدة وتضم وتكسر بقطعة من لحمها "فجعلت في قدر فطبخت فأكلا" أي: النبي وعلي "من لحمها وشربا من مرقها".
قال المظهري: الضمير المؤنث يعود إلى القدر؛ لأنها مؤنث سماعي.
قال الطيبي: ويحتمل عوده إلى الهدايا.
قال النووي: قالوا: لما كان الأكل من كل واحدة سنة، وفي الأكل من جميعها كلفة ومشقة، جعلت في قدر ليكون تناوله من المرق كالأكل من جميعها، واتفقوا على أن الأكل من الهدي والضحية ليس بواجب. انتهى.
ونحرها قائمة، كما يدل عليه ما في الصحيحين عن زياد بن جبير: رأيت ابن عمر أتى على رجل قد أناخ بدنته ينحرها، قال: ابعثها قياما مقيدة سنة محمد -صلى الله عليه وسلم، وهذا مرفوع لقوله: سنة.
"وفي رواية جابر عند مسلم: نحر عليه السلام عن نسائه بقرة" أي: جنس بقرة لا بعير ولا غنم، فلا يخالف ما رواه النسائي عن عائشة، قالت: ذبح عنا -صلى الله عليه وسلم- يوم حجنا بقرة بقرة.
"وقالت عائشة: نحر -صلى الله عليه وسلم- عن آل محمد في حجة الوداع بقرة واحدة، رواه أبو داود" من طريق يونس عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة، وأعلها إسماعيل القاضي بأن يونس تفرد بقوله واحدة، وخالفه غيره، وتعقبه الحافظ بأن يونس ثقة حافظ وتابعه معمر عند النسائي، بلفظ: ما ذبح عن آل محمد في حجة الوداع إلا بقرة.
وما روي عن النسائي عن عمار الدهني عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، عن عائشة: ذبح عنا -صلى الله عليه وسلم- يوم حجنا بقرة بقرة، فشاذ مخالف لما تقدم. انتهى.
ولا شذوذ فيه، فإن عمار الدهني بضم المهملة وإسكان الهاء ونون ثقة من رجال مسلم(11/435)
ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منزله بمنى، ثم قال للحلاق: "خذ"، وأشار بيده إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس. وفي رواية: أنه قال لحلاق: "ها"، وأشار بيده إلى الجانب الأيمن، فقسم شعره بين من يليه، ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه أم سليم. وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن فوزعه
__________
والأربعة فزيادته مقبولة، فإنه قد حفظ ما لم يحفظ غيره وزيادته ليست مخالفة لغيره، فإن رواية معمر: ما ذبح إلا بقرة أريد بها الجنس، أي: لا بعير ولا غنم حتى لا تخالف الرواية الصريحة أن عن كل واحدة بقرة، فمن شرط الشذوذ أن يتعذر الجمع، وقد أمكن فلا تأييد فيها لرواية يونس التي حكم القاضي بشذوذها؛ لأنه انفرد بقوله واحدة، وإسماعيل من الحفاظ لا يجهل أن يونس ثقة حافظ، وإنما حكم بشذوذ روايتيه ومخالفة غيره له على القاعدة؛ أن الشاذ ما خالف الثقة فيه الملأ، بل اكتفى الحاكم بالتفرد وإن لم يخالف كما في متن الألفية.
وقد رواه البخاري في الأضاحي ومسلم من طريق ابن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة: ضحى -صلى الله عليه وسلم- عن نسائه بالبقرة، ورواه مسلم أيضا عن عبد العزيز الماجشون عن عبد الرحمن بسنده، بلفظ: أهدى.
قال الحافظ: والظاهر أن التصرف من الرواة؛ لأنه ثبت في الحديث ذكر النحو فحمله بعضهم على الأضحية، لكن رواية أبي هريرة صريحة في أنه كان عمن اعتمر من نسائه، فقويت رواية من رواه بلفظ: أهدى، وبان أنه للتمتع، فلا حجة فيه على قول: مالك لا ضحايا على أهل منى.
"ثم أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بعد رمي الجمرة إلى "منزله" الذي نزل فيه "بمنى" ونحر، كما في هذه الرواية: "ثم قال للحلاق: "خذ" وأشار بيده إلى جانبه الأيمن" لأن الحلق هنا عبادة والتيامن فيها مستحب "ثم الأيسر".
وعن أبي حنيفة: يقدم الأيسر، وأن اليمين هنا يمين الحلاق؛ لأنه من باب النزع فيبدأ فيه بالأيسر.
قال الأبي: ولا يخفى عليك أنه ليس من باب النزع بل هو عبادة، وفي بعض الطرق: أضاف اليمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- كما هو ظاهر أحاديث الباب.
"ثم جعل" صلى الله عليه وسلم "يعطيه" أي: شعره "الناس" للتبرك به واستشفاعًا إلى الله بما هو منه وتقربا بذلك إليه.
"وفي رواة: أنه" عليه السلام "قال للحلاق: "ها" بألف بلا همز "وأشار بيده" الكريمة "إلى الجانب الأيمن" فيه حذف تقديره احلق فحلق "فقسم شعره بين من يليه" من الصحابة "ثم أشار إلى الحلاق إلى الجانب الأيسر فحلقه وأعطاه" أي: شعره "أم سليم" بنت ملحان(11/436)
الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال بالأيسر، فصنع مثل ذلك، م قال: "ها هنا أبو طلحة"؟ فدفعه إليه. وفي أخرى: رمى جمرة العقبة ثم انصرف إلى البدن فنحرها والحجام جالس، وقال بيده عن رأسه، فحلق الشق الأيمن فقسمه بين من يليه، ثم قال: "احلق الشق الآخر "، فقال: "أين أبو طلحة"؟ فأعطاه إياه. رواه الشيخان.
وعند الإمام أحمد: أنه استدعى الحلاق فقال له وهو قائم على رأسه
__________
والدة أنس.
"وفي أخرى: فبدأ بالشق الأيمن" فحلقه "فوزعه الشعرة والشعرتين بين الناس، ثم قال: بالأيسر، فصنع مثل ذلك، ثم قال: "ههنا" بتقدير همزة الاستفهام "أبو طلحة" زيد بن سهل الأنصاري "فدفعه" أي: الشعر "إليه".
"وفي أخرى:" أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم "رمى جمرة العقبة، ثم انصرف إلى البدن" بضم فسكون "فنحرها والحجام جالس، وقال" أي: أشار "بيده عن رأسه" احلق "فحلق شقه الأيمن، فقسمه بين من يليه" من الناس "ثم قال: احلق الشق الآخر" الأيسر، فحلقه "فقال: "أين أبو طلحة؟ فأعطاه إياه" أي: المحلوق من الشق الأيسر "رواه" أي: المذكور من هذه الروايات "الشيخان" من طرق مدارها على محمد بن سيرين، عن أنس.
وفي مسلم أيضا: تلو هذه الروايات عن أنس، قال: لما رمى -صلى الله عليه وسلم- الجمرة ونحر نسكه وحلق، ناول الحالق شقه الأيمن، فحلق ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه، ثم ناوله الشق الأيسر، فقال: "احلق" فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال: "اقسمه بين الناس"، قال أبو عبد الله الأبي: إعطاؤه لأبي طلحة ليس بمخالف لقوله: "اقسمه بين الناس"، لاحتمال أن يكون أعطاه له ليفرقه ويبقى النظر في اختلاف الروايات في الجانب الأيسر، ففي الأولى؛ أنه فرقه كالأيمن، وفي الثاني؛ أنه أعطاه أم سليم، وفي الثالثة؛ أنه أعطاه أبا طلحة، وفي الرابعة؛ أنه أعطى شعر الشقين لأبي طلحة، فيحتمل أنه أعطاه أم سليم لتعطيه لزوجها أبي طلحة ليفرقه.
ويحتمل أنه أعطى الشعر لأبي طلحة على أن يعطيه أبو طلحة لأم سليم لتفرقه على النساء، وذكر الشعر والشعرتين يدل على كثرة الحاضرين، وفيه التبرك بآثار الصالحين. انتهى.
وليس في جمعه المذكور شفاء وإنما قسم شعره في أصحابه ليكون بركة باقية بينهم وتذكرة لهم، وكأنه أشار بذلك إلى اقتراب الأجل، وخص أبا طلحة بالقسمة التفاتا إلى هذا المعنى؛ لأنه هو الذي حفر قبره ولحد له وبنى فيه اللبن، وفيه تخصيص الإمام الكبير بما يفرقه عليهم من عطاء وهدية ونحوهما.
"وعند الإمام أحمد أنه" صلى الله عليه وسلم "استدعى الحلاق، فقال له وهو قائم على رأسه(11/437)
بالموسى، ونظر في وجهه، وقال: "يا معمر، أمكنك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفي يدك الموسى"، قال: فقلت له: أما والله يا رسول الله، إن ذلك لمن نعم الله علي ومنه؟، قال: "أجل".
وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي -صلى الله عليه وسلم- معمر بن عبد الله بن نضلة بن عوف. انتهى. وهو عند ابن خزيمة في صحيحه.
وعند الإمام أحمد: وقلم -صلى الله عليه وسلم- أظفاره وقسمها بين الناس.
وعنده أيضا: من حديث محمد بن زد، أن أباه حدثه، أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو يقسم أضاحي، فلم يصبه شيء ولا صاحبه،
__________
بالموسى ونظر في وجهه" ولفظ أحمد عن معمر: كنت أرجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع ... الحديث، وفيه فلما نحر -صلى الله عليه وسلم- هديه بمنى أمرني أن أحلقه، فأخذت الموسى فقمت على رأسه فنظر -صلى الله عليه وسلم- في وجهي "وقال: "يا معمر أمكنك رسول الله صلى الله عليه وسلم- من شحمة أذنه وفي يدك الموسى" عبر بالاسم الظاهر تشريفا له بالرسالة والاستفهام تعجبي.
"قال" معمر: "فقلت له" عليه السلام: "أما" بالفتح والتخفيف "والله يا رسول الله إن ذلك لمن نعم الله علي، ومنه؟ قال: "أجل" أي: نعم، وبقية خبر أحمد، قال -صلى الله عليه وسلم: "إذا أقر لك"، قال: ثم حلقت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأقر بقاف وشد الراء، أي: أثبت لك حتى تحلق.
"وقال البخاري: وزعموا أن الذي حلق للنبي -صلى الله عليه وسلم" وفي نسخة: النبي، أي: شعر رأس النبي، فحذف المضاف وأقم المضاف إليه مقامه "معمر بن عبد الله" بن مالك "بن نضلة" بفتح النون وإسكان المعجمة "ابن عوف" العدوي، صحابي كبير من مهاجرة الحبشة. "انتهى".
"وهو عند ابن خزيمة في صحيحه" وأحمد من حديث معمر كما علم، ورواه الطبراني عن أم سلمة، قالت: حلق رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر معمر بن عبد الله العدوي، وقيل: الذي حلقه خراش بن أمية بن ربيعة الخزاعي، ثم الكلبي بموحدة مصغر نسبة إلى جد له اسمه كليب، والمشهور الأول، فقد قال ابن السكن الخراش بن أمية: حديث واحد، وهو قوله: أنا حلقت رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند المروة في عمرة القضية، وقال ابن الكلبي: حلقه فيها أو في الحديبية.
"وعند الإمام أحمد: وقلم -صلى الله عليه وسلم- أظفاره" بعدما حل "وقسمها بين الناس" للتبرك.
"وعنده أيضا من حديث محمد بن زيد: أن أباه حدثه أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المنحر ورجل من قريش وهو" -صلى الله عليه وسلم "يقسم أضاحي، فلم يصبه" أي: زيدا "شيء" من(11/438)
فحلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه في ثوبه فأعطاه شعره، فقسم منه على رجال وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه، وكان يخضب بالحناء والكتم.
وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله، وللمقصرين؟ قال: "وللمقصرين"، رواه الشيخان.
وليس فيه تعيين: هل قاله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية أو في حجة الوداع؟
قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه التصريح بسماعه لذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية.
__________
الأضاحي "ولا صاحبه" القرشي لم يصبه شيء "فحلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأسه" وجعل شعره "في ثوبه، فأعطاه" أي: زيدا "شعره" أي: بعضه "فقسم منه على رجال" وبحمله على بعضه لا يخالف الأحاديث قبله، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح "وقلم أظفاره وأعطاه صاحبه" القرشي "وكان يخضب" بكسر الضاد "بالحناء" بالمد "والكتم" بفتحتين نبت فيه حمرة يخلط بالوسمة ويخضب به للسواد، والوسمة بفتح الواو وكسر السين المهملة أفصح من سكونها، نبت يخض بورقه كما في المصباح.
"وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا" أي: اصحابة، قال الحافظ: لم أقف في شيء من الطرق على الذي تولى السؤال في ذلك بعد البحث الشديد "يا رسول الله" قل "و" اغفر "للمقصرين" فالعطف على محذوف يسمى العطف التلقيني، كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: 124] ، قال: ومن ذريتي؟ "قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال: "اللهم اغفر للمحلقين"، قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟، قال:" بعد الثالثة" "وللمقصرين"؟ فيه إعطاء المعطوف حكم المعطوف عليه، ولو تخلل بينهما السكوت بلا عذر "رواه الشيخان" وروياه أيضا من حديث ابن عمر بطرق، إلا أن لفظه: "اللهم ارحم المحلقين" بدل اغفر، والمعنى واحد "وليس فيه تعيين هل قاله -صلى الله عليه وسلم- في الحديبية" كما قاله ابن عبد البر "أو في حجة الوداع، قالوا: ولم يقع في شيء من طرقه" أي: حديث أبي هريرة "التصريح" بالموضوع ولا التصريح "بسماعه ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم، ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع؛ لأنه شهدها، ولم يشهد الحديبية" لأنه إنما جاء بعدها "وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة" بضم القاف وشد(11/439)
وقد وقع تعيين الحديبية من حديث جابر عند أبي قرة في "السنن" ومن طريقه الطبراني في الأوسط، ومن حديث المسور بن مخرمة عند ابن إسحاق في المغازي.
وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم السلولي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم الحصين عند مسلم، ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة عند الحارث.
فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا، وأصح إسنادا، ولهذ قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه أحاديث تدل
__________
الراء "في" كتاب "السنن" له.
"ومن طريقه الطبراني في" معجمه "الأوسط، ومن حديث المسور" بكسر فسكون "ابن مخرمة" بفتح فسكون.
"عند ابن إسحاق" محمد "في المغازي" ومن حديث أبي سعيد عند أحمد وابن أبي شيبة والطيالسي والطحاوي وابن عبد البر، بلفظ: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستغفر لأهل الحديبية للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة، ومن حديث ابن عباس عند أحمد وابن ماجه وغيرهما.
"وورد تعيين حجة الوداع من حديث أبي مريم" مالك بن ربيعة "السلولي" بفتح المهملة وضم اللام الخفيفة، صحابي دعا له النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ولدا، رواه ابن منده.
"عند أحمد وابن أبي شيبة: ومن حديث أم الحصين" السلولية "عند مسلم" أنها سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع: دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة واحدة.
"ومن حديث قارب بن الأسود الثقفي عند أحمد وابن أبي شيبة، ومن حديث أم عمارة" بضم العين الأنصارية "عند الحارث" بن أبي أسامة.
ومن حديث ابن عمر، قال: حلق -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم فقال: $"اللهم ارحم المحلقين"، الحديث رواه البخاري هكذا في المغازي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر.
"فالأحاديث التي فيها تعيين حجة الوداع أكثر عددا" لأنهم خمسة من الذين عينوا الحديبية؛ لأنهم أربعة "وأصح إسنادا" لأن بعضها في الصحيحين بخلاف الحديبية، فليس شيء منها في واحد منهما.
"ولهذا قال النووي عقب أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وأم الحصين: هذه الأحاديث(11/440)
على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع: قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى.
وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب.
قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين، إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف من الصحابة عن الإحلال، لما دخل عليهم من الحزن، لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك، فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال توقفوا، فأشارت أم سلمة أن يحل هو -صلى الله عليه وسلم- قبلهم ففعل، فتبعوه فحلق بعض وقصر بعض،
__________
تدل على أن هذه الواقعة كانت في حجة الوداع" لكن الذي يدل منها إنما هو حديث أم الحصين.
أما حديث ابن عمر وأبي هريرة عند مسلم فليس فيهما تصريح بموضع، وقد صرح في فتح الباري؛ بأنه ليس في رواية أبي هريرة تعيين الموضوع، وعين في بعض طرق حديث ابن عمر عند البخاري ولم يذكر هذه الطريق مسلم.
"قال: وهو الصحيح المشهور، وقيل: كانت في الحديبية، وجزم إمام الحرمين في النهاية" وكذا ابن عبد البر "أن ذلك كان في الحديبية، ثم قال النووي: ولا يبعد أن يكون ذلك وقع في الموضعين. انتهى".
وقال عياض: كان في الموضعين، هكذا في الفتح قبل قوله.
"وكذا قال ابن دقيق العيد: إنه الأقرب، قال في فتح الباري: بل هو المتعين لتظافر الروايات بذلك في الموضعين" وكلها صحيحة وإن كان بعضها أصح وأكثر، فلا يقتضي طرح غيره مع إمكان الجمع بالتعدد "إلا أن السبب في الموضعين مختلف، فالذي في الحديبية كان بسبب توقف من توقف الصحابة عن الإحلال لما دخل عليهم من الحزن لكونهم منعوا من الوصول إلى البيت مع اقتدارهم في أنفسهم على ذلك" أي: الوصول إليه بالقتال "فخالفهم النبي -صلى الله عليه وسلم، وصالح قريشا على أن يرجع من العام المقبل، فلما أمرهم بالإحلال" من العمرة "توقفوا، فأشارت أم سلمة" لما دخل عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرها بتوقفهم وخوفه عليهم من التوقف "أن يحل هو -صلى الله عليه وسلم- قبلهم" فقالت: اخرج ولا تكلم أحدا منهم وادع الحلاق يحلق(11/441)
فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر، ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: "لأنهم لم يشكوا".
وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع، فقال ابن الأثير في "النهاية": كان أكثر من حج معه -صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة ثم يتحللوا منها، ويحلقوا رؤوسهم، شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة كان التقصير في أنفسهم أخف من الحلق، ففعله أكثرهم، فرجع -صلى الله عليه وسلم- فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: وفيما قاله نظر، وإن تابعه عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا، وقد كان ذلك في حقهم كذلك، والأولى ما قاله الخطابي
__________
لك فإنهم يفعلون "ففعل فتبعوه" وحلوا "فحلق بعض وقصر بعض".
في رواية الطيالسي وابن سعد لحديث أبي سعيد: إن الصحابة حلقوا يوم الحديبية إلا عثمان وأبا قتادة فقصرا ولم يحلقا.
قال الجلال البلقيني: فيحتمل أنهما اللذان قالا: والمقصرين "فكان من بادر إلى الحلق أسرع إلى امتثال الأمر ممن اقتصر على التقصير، وقد وقع التصريح بهذا السبب في حديث ابن عباس، فإن في آخره عند ابن ماجه وغيره أنهم قالوا: يا رسول الله ما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم" أي: ذكرته ثلاث مرات "قال: "لأنهم لم يشكوا" في أن ما فعلته أحسن مما قام في أنفسهم.
"وأما السبب في تكرير الدعاء للمحلقين في حجة الوداع فقال ابن الأثير في النهاية: كان أكثر من حج معه -صلى الله عليه وسلم- لم يسق الهدي، فلما أمرهم أن يفسخوا الحج إلى العمرة، ثم يتحللوا منها ويحلقوا رؤوسهم شق عليهم، ثم لما لم يكن لهم بد من الطاعة" لأمره "كان التقصير في أنفسهم أخف من الحق ففعله أكثرهم، فرجح -صلى الله عليه سلم- فعل من لكونه أبين في امتثال الأمر. انتهى".
"قال الحافظ ابن حجر وفيما قاله نظر وإن تاعه" وافقه "عليه غير واحد؛ لأن المتمتع يستحب في حقه أن يقصر في العمرة ويحلق في الحج إذا كان ما بين النسكين متقاربا"(11/442)
وغيره: إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من الشهرة ومن فعل الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى.
وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي: وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر؟ فقال: "اذبح ولا حرج"، ثم جاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم اشعر فنحرت قبل أن أرمي؟ فقال: "ارم ولا حرج". قال: فما سئل عن شيء قدم أو أخر
__________
ليبقى له شعر يحلقه في الحج "وقد كان ذلك في حقهم كذلك" فكان الأولى التقصير "والأولى ما قاله الخطابي وغيره؛ إن عادة العرب أنها كانت تحب توفير الشعور والتزين بها، وكان الحلق فيهم قليلا، وربما كانوا يرونه من اشهرة ومن فعل" وفي نسخة: زي "الأعاجم، فلذلك كرهوا الحلق واقتصروا على التقصير. انتهى" كلام الحافظ.
"وفي رواية عبد الله بن عمرو بن العاصي" أنه قال: "وقف رسول الله -صلى الله عليه وسلم" على ناقته كما في رواية للبخاري، ولمسلم: على راحلته "في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه" وأما رواية: من روى جلس في حجة الوداع فقام رجل، فمحمولة على أنه ركب ناقته وجلس عليها فلا تخالف "فجاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على اسمه بعد البحث الشديد ولا على اسم أحد ممن سأل في هذه القصة، وكانوا جماعة، لكن في حديث أسامة بن شريك عند الطحاوي وغيره: كان الأعراب يسألونه، فكان هذا هو السبب في عدم ضبط أسمائهم "فقال: يا رسول الله لم أشعر" بضم العين، أي: أفطن، يقال: شعرت بالشيء شعورا إذا فطنت له، وقيل: الشعور العلم، ولم يفصح في هذه الرواية بمتعلق اشعور، وصرح به في رواية لمسلم، بلفظ: لم أشعر أن الرمي قبل الحلق "فحلقت" شعر رأسي "قبل أن أنحر" والفاء سببية، جعل الحلق مسببا عن عدم الشعور كأنه يعتذر لتقصير "فقال" صلى الله عليه وسلم: "اذبح" وفي رواية: انحر "ولا حرج" أي: لا إثم عليك.
قال عياض: ليس أمرا بالإعادة وإنما هو إباحة لما فعل؛ لأنه سأل عن أمر فرغ منه، فالمعنى افعل ذلك متى شئت، قال: ونفى الحرج بين في نفي الفدية عن العامد والساهي، وفي رفع الإثم عن الساهي، وأما العامد بالأصل أن تارك السنة عمدا لا يأثم إلا أن يتهاون فيأثم للتهاون لا للترك.
"ثم جاء رجل آخر، فقال: يا رسول الله لم أشعر" زاد في رواية لمسلم: أن الرمي قبل النحر "فنحرت" الهدي "قبل أن أرمي" الجمرة "قال: "ارم ولا حرج"، قال" عبد الله بن عمرو:(11/443)
إلا قال: "فعل ولا حرج". رواه مسلم.
وفي رواية: حلقت قبل أن أرمي، وفي رواية: وقف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر، فنحرت قبل الرمي فقال -صلى الله عليه وسلم: "فارم ولا حرج"، قال: فما سمعته يسأل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها
__________
"فما سئل" صلى الله عليه وسلم "عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج" لا ضيق عليك "رواه مسلم" عن يحيى بن يحيى، والبخاري في العلم عن إسماعيل.
وفي الحج عن عبد الله بن يوسف، الثلاثة عن مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر، وبهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم أيضا من وجوه عن ابن شهاب بنحوه، فما هذا الإيهام من المصنف أن البخاري لم يروه مع أنه رواه في مواضع.
"وفي رواية" عند مسلم من طريق محمد بن أبي حفصة عن الزهري بإسناده: "حلقت قبل أن أرمي" وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي.
وقال مالك في الأول: الفدية لإلقاء التفث قبل شيء من التحلل، وفي تقديم الإفاضة على الرمي الدم؛ لأنه خلاف الواقع منه -صلى الله عليه وسلم، وقد قال: "خذوا عني مناسككم"، فخص هاتين الصورتين من عموم قول الصحابي: فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: "افعل ولا حرج"، ولم يثبت عنده زيادتهما في الحديث، فلا يلزم بزيادة غيره لا سيما وهو أثبت الناس في ابن شهاب ومحل قبول زيادة الثقة ما لم يكن من لم يزدها أوثق كما تقرر في علوم الحديث وابن أبي حفصة الذي زادهما وإن كان صدوقا، وروى له الشيخان لكنه يخطئ، بل ضعفه النسائي.
واختلف قول ابن معين في تضعيفه وتكلم فيه يحيى القطان فبطل، تعجب الطبري من مالك في حمل الحرج على نفي الإثم فقط، ثم يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن وجب الترتيب ففي الجميع وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج، كذا قال وقد علم وجهه.
"وفي رواية" لمسلم من طريق يونس عن ابن شهاب عن عيسى؛ أنه سمع عبد الله بن عمرو يقول: "وقف -صلى الله عليه وسلم- على راحلته فطفق" بكسر الفاء وفتحها شرع "ناس يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر" فذكر متعلق الشعور "فنحرت قبل الرمي" للجمرة، والجملة معمولة للقول التقدير نحرت قبل الرمي ولم أشعر، ولكنه قدم ما يدفع عنه اللوم ويقيم له العذر وهو عدم الشعور، ولذا عبر بفاء السببية "فقال -صلى الله عليه وسلم: "فارم ولا حرج"، فما سأله سائل يومئذ عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل(11/444)
إلا قال -صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج".
وفي رواية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينا هو قائم يخطب يوم النحر، فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب أن كذا وكذا، قبل كذا وكذا، وفي رواية: حلقت قبل أنحر، نحرت قبل أن أرمي وأشباه ذلك.
وفي رواية: حلقت قبل أن أذبح، ذبحت قبل أن أرمي.
ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة
__________
بعض وأشباهها إلا قال -صلى الله عليه وسلم: "افعلوا ذلك ولا حرج" ولذا أجمعوا على الإجزاء في جميع الصور كما يأتي.
"وفي رواية" للبخاري ومسلم من طريق ابن جريج عن الزهري، عن عيسى، عن ابن عمرو "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بينما هو قائم يخطب" لفظ مسلم، ولفظ البخاري: أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب "يوم النحر" بمنى على راحلته "فقام إليه رجل فقال: ما كنت أحسب" أظن "أن كذا وكذا قبل كذا وكذا" بكاف التشبيه وذا اسم إشارة "حلقت قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأشباه ذلك" من الأشياء التي ظن أنها على خلاف الأصل.
"وفي رواية" لمسلم من طريق ابن عيينة عن الزهري بسنده، فقال رجل: "حلقت قبل أن أذبح" قال: "اذبح ولا حرج"، قال: "ذبحت قبل أن أرمي" قال: "ارم ولا حرج"، فحاصل ما في حديث عبد الله بن عمرو السؤال من أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح، النحر قبل الرمي، الحلق قبل الرمي، الإفاضة قبل الرمي، والأوليان في حديث ابن عباس أيضا في الصحيح.
وللدارقطني من حديثه أيضا: السؤال عن الحلق قبل الرمي، وكذا في حديث جابر وأبي سعيد عند الطحاوي.
وفي حديث علي عند أحمد: السؤال عن الإفاضة قبل الحلق.
وفي حديثه عند الطحاوي: السؤال عن الرمي والإفاضة معا قبل الحلق.
وفي حديث جابر عند ابن حبان وغيره: السؤال عن الإفاضة قبل الذبح.
وفي حديث أسامة بن شريك: السؤال عن السعي قبل الطواف وهو محمول على من سعى بعد طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة؛ فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف، أي: الركن، فهذا ما تحرر من مجموع الأحاديث، وبقيت عدة صور لم يذكرا الرواة إما اختصارا وإما؛ لأنها لم تقع، وبلغت بالتقسيم أربعا وعشرين صورة، أفاده الحافظ.
"ومن المعروف أن الترتيب أولى، وذلك أن وظائف يوم النحر بالاتفاق أربعة أشياء:(11/445)
أشياء: رمي جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده.
وقد تقدم أنه -صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق.
وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب، وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض، إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع.
ومذهب الشافعي وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث: الجواز وعدم جوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل: "لا حرج"، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق يشملهما.
وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض، إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: "لا حرج" أي لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه
__________
رمى جمرة العقبة، ثم نحر الهدي أو ذبحه، ثم الحلق أو التقصير، ثم طواف الإفاضة مع السعي بعده" لمن لم يكن سعى بعد طواف القدوم.
"وقد تقدم أنه -صلى الله عليه وسلم- رمى جمرة العقبة ثم نحر ثم حلق" ثم طاف طواف الإفاضة.
"وقد أجمع العلماء على مطلوبية هذا الترتيب" وإنما اختلفوا هل هو مستحب أو واجب "وأجمعوا أيضا على جواز تقديم بعضها على بعض" أراد بالجواز الإجزاء، وبه عبر في شرحه للبخاري، إذ هو المجمع عليه، أما الجواز فمختلف فيه "إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع".
فقال مالك: يجب في موضع واحد وهو تقديم الإفاضة على الرمي، وأما تقديم الحلق على الرمي، فقال: فيه فدية صيام أو إطعام أو نسك.
وقال أبو حنيفة: الترتيب في الأربع واجب، فمن قدم أو أخر فعليه الدم.
"ومذهب الشافعي" وأحمد في أحد قوليه.
"وجمهور السلف والعلماء وفقهاء الحديث الجواز" أي: الإباحة "وعدم وجوب الدم لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل لا حرج، فهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معا؛ لأن اسم الضيق" الذي هو معنى الحرج المنفي "يشملهما".
"وقال الطحاوي: ظاهر الحديث يدل على التوسعة في تقديم بعض هذه الأشياء على بعض إلا أنه يحتمل أن يكون قوله: لا حرج، أي: لا إثم في ذلك الفعل، وهو كذلك لمن(11/446)
الفدية.
وتعقب: بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل، ولو كان واجبا لبينه -صلى الله عليه وسلم- حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة فلا يحوز تأخير عنه.
وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: "لم أشعر" وبما في رواية يونس عند مسلم، وصالح عند أحمد: "فما سمعته يومئذ يساله عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقدم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" بأنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه وإن كان عالمًا فلا.
قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب ابتاع الرسول في الحج لقوله: "خذوا عني مناسككم" وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما وقع عنه تأخيره قد قرنت بقول السائل: "لم أشعر" فيختص الحكم بهذه الحالة، وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى.
__________
كان ناسيا أو جاهلا، وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية" مع الإثم.
"وتعقب بأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولو كان واجبا لبينه -صلى الله عليه وسلم- حينئذ؛ لأنه وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره" عن وقتها، وقد احتج الطحاوي بقول ابن عباس: من قدم شيئا من نسكه، أو أخره، فليهرق لذلك دما، قال: وهو أحد من روي أنه لا حرج، فدل على أن المراد نفي الإثم فقط، وأجيب بأن الطريق إلى ابن عباس رواها ابن أبي شيبة وفيها إبراهيم بن المهاجر وفيه مقال.
"وتمسك الإمام أحمد بقوله في الحديث: لم أشعر، وفي رواية يونس عند مسلم وصالح" بن كيسان "عند أحمد" كلاهما عن الزهري بإسناده: "فما سمعته يومئذ يسأل عن أمر مما ينسى المرء أو يجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعضها إلا قال: "افعل ولا حرج" ومر هذا قريبا وأعاده لحكاية تمسك أحمد به لقوله الآخر الذي حكاه صاحب المغني عن الأثرم عنه "أنه إن كان ناسيا أو جاهلا فلا شيء عليه" أي: لا لوم "وإن كان عالما فلا" ينتفي عنه اللوم وهو الكراهة كما في الإقناع.
"قال ابن دقيق العيد: ما قاله أحمد قوي من جهة أن الدليل دل على وجوب اتباع الرسول في الحج، لقوله: "خذوا عني مناسككم"، وهذه الأحاديث المرخصة في تقديم ما" أي: شيء من الأربع التي تفعل يوم النحر "وقع عنه" صلى الله عليه وسلم "تأخيره" عما قدمه السائل: "قد قرنت بقول السائل: لم أشعر فيختص الحكم بهذه الحالة" أي: عدم الشعور "وتبقى حالة العمد على أصل وجوب الاتباع في الحج. انتهى" ما نقله من كلام ابن دقيق العيد، وبقيته كما في(11/447)
وعن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر فقال: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم،
__________
الفتح، وأيضا فالحكم إذا رتب على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يجز اطراحه، ولا شك أن عدم الشعور وصف مناسب لعدم المؤاخذة وقد علق به الحكم، فلا يمكن اطراحه بإلحاق العمد به، إذ لا يساويه، وأما التمسك بقول الراوي فما سئل ... إلخ، لإشعاره بأن الترتيب مطلقا غير مراعى، فجوابه أن هذا الإخبار من الراوي تعلق بما وقع السؤال عنه، وهو مطلق بالنسبة إلى حالة السائل، والملطق لا يدل على أحد الخاصين، فلا يبقى حجة في حالة العمد. انتهى.
"وعن أبي بكرة" نفيع بنون وفاء مصغر ابن الحارث الثقفي "قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر" بمنى عند الجمرة "فقال: "إن الزمان" اسم لقليل الوقت وكثيره، والمراد هنا السنة "قد استدار" استدارة "كهيئته" أي: مثل حالته، فالكاف صفة مصدر محذوف.
قال الحافظ: والمراد باستدارته وقوع تاسع الحجة في الوقت الذي حلت فيه الشمس برج الحمل حيث يستوي الليل والنهار، وفي حديث ابن عمر عند ابن مردويه: أن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته "يوم خلق الله السماوات والأرض" وعاد الحج إلى ذي الحجة وبطل النسيء وهو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا يستحلون القتال في محرم لطول مدة التحريم بتوالي ثلاثة أشهر حرام، ثم يحرمون صفر مكانه، فكأنهم يقترضونه ثم يوفونه، وقيل: كانوا يحلون المحرم مع صفر من عام ويسمونهما صفرين ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمونهما محرمين، وقيل: بل كانوا ربما احتاجوا إلى صفر أيضا، فأحلوه وجعلوا مكانه ربيعا، ثم يدور كذلك التحريم والتحليل بالتأخير على السنة كلها إلى أن جاء الإسلام، فوافق حجة الوداع رجوع التحريم إلى المحرم الحقيقي، واختص الحج بوقت معين، واستقام حساب السنة ورجع إلى الأصل الموضوع يوم خلق الله السماوات والأرض "السنة" العربية الهلالية "اثنا عشر شهرا".
ذكر الطبري في سبب ذلك عن أبي مالك، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، ومن وجه آخر: كانوا يجعلون السنة اثني عشر شهرا وخمسة وعشرين يوما، فتدور الأيام والشهور لذلك، وإنما جعل الله الاعتبار بالقمر؛ لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو ظاهر مشاهد بالبصر بخلاف سير الشمس فتحتاج معرفته إلى حساب، فلم يحوجنا إلى ذلك كما قال -صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا".
"منها أربعة حرم" لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها، أو لتحريم القتال فيها وفسرها بقوله: "ثلاث متواليات" أي: متتابعات.(11/448)
ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان". وقال: "أي شهر هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس ذا الحجة"؟ قلنا:
__________
قال ابن التين: الصواب ثلاثة متوالية، يعني: لأن المميز الشهر، قال: ولعله أعاد على المعنى، أي: ثلاث مدد متواليات. انتهى، أو باعتبار العدة مع أن الذي لا يذكر التمييز معه جائز فيه التذكير والتأنيث "ذو القعدة وذو الحجة" بفتح القاف والحاء قاله المصنف، ولعله الرواية "والمحرم ورجب مضر" عطف على ثلاث لا على المحرم، وأضافه إلى مضر؛ لأنها كانت تحافظ على تحريمه أشد من محافظة سائر العرب ولم يكن يستحله أحد من العرب، كذا قال المصنف.
وفي فتح الباري أضافه إليهم؛ لأنهم كانوا يتمسكون بتعظيمه بخلاف غيرهم، فيقال: كانت ربيعة تجعل بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجل وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر فيحلون رجبا ويحرمون شعبان، ووصفه بقوله: "الذي بين جمادى وشعبان" تأكيدا وإزاحة للريب الحادث فيه من النسيء، وقيل: الأشبه أنه تأسيس؛ لأنهم كانوا يؤخرون الشهر عن موضعه إلى شهر آخر فينتقل عن وقته الحقيقي، فالمعنى لا رجب الذي هو عندكم وقد أنسأتموه.
قال الحافظ: وذكرها من سنتين لمصلحة توالي الثلاثة، إذ لو بدأ بالمحرم لفات مقصود التوالي، قال: وأبدى بعضهم لما استقر عليه الحال من ترتيب هذه الأشهر الحرم مناسبة لطيفة حاصلها أن لها مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام ويتوسطه ويختم بها، وإنما ختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع لاشتمالها على عمل مال محض، وهو الزكاة وعمل بدن محض، وذلك تارة بالجوارح وهو الصلاة، وتارة بالقلب وهو الصوم؛ لأنه كف عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منها، فكان له من الأربعة الحرم شهران.
"وقال: "أي شهر هذا"؟ قال البيضاوي: يريد تذكيرهم حرمة الشهر وتقريرها في نفوسهم ليبني عليها ما أراد تقريره، وقولهم: "قلنا: الله ورسوله أعلم" مراعاة للأدب، وتحرز عن التقدم بين دي الله ورسوله، وتوقف فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه، وذلك من حسن أدبهم؛ لأنهم علموا أنه لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب، وأنه ليس مراده مطلق الإخبار مما يعرفونه، ولذا قالوا: "فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه" إشارة إلى تفويض الأمور كلها إليه "قال: "أليس ذا الحجة" بالنصب خبر ليس، وفي رواية: ذو بالرفع اسمها والخبر محذوف، أي: أليس ذو الحجة هذا الشهر "قلنا: بلى" هو ذو الحجة "قال: "أي بلد هذا"؟ بالتذكير "قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام" مكة.(11/449)
بلى، قال: "أي بلد هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس البلد الحرام"؟ قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا"؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: "أليس يوم النحر"؟ قلنا: بلى، قال: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم
__________
ولفظ البخاري: في الحج، قال: "أليس بالبلدة الحرام"؟، ولفظه في الأضاحي، قال: "أليس البلدة" بالتأنيث، أي: مكة "قلنا: بلى، قال: "فأي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: "أليس" هو "يوم النحر" الذي ينحر فيه الأضاحي في سائر الأقطار والهدايا بمنى، فيوم بالنصب خبر ليس، ويجوز رفعه اسمها وحذف الخبر، أي: هذا اليوم "قلنا: بلى" حرف مختص بالنفي ويفيد إبطاله، وتمسك به من خص النحر بيوم العيد لإضافته اليوم إلى جنس النحر؛ لأن اللام هنا جنسية فتعم، فلا يبقى نحر إلا في ذلك اليوم، وأجاب الجمهور: بأن المراد النحر الكامل المفضل وأل كثيرًا ما تستعمل للكمال نحو، ولكن البر وإنما الشديد الذي يملك نفسه.
قال القرطبي: والتمسك بإضافة النحر إلى اليوم الأول ضعيف مع قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، وفي حديث أبي بكرة: هذا أنهم قالوا: الله ورسوله أعلم، وسكتوا حتى أخبرهم.
وفي البخاري عن ابن عباس، أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب الناس يوم النحر، فقال: "أي يوم هذا"؟، قالوا: يوم حرام، قال: "أي بلد هذا"؟، قالوا: "بلد حرام" قال: "فأي شهر هذا"؟، قالوا: شهر حرام.. الحديث، وظاهرهما التعارض، وأجيب بأن الطائفة الذين كان فيهم ابن عباس، أجابوا: والذين كان فيهم أبو بكرة ردوا العلم لله ورسوله، وسكتوا حتى أخبر، فقالوا: بلى، وبأن في حديث ابن عباس اختصارا، ورواية بالمعنى، فإن بلى بمعنى يوم حرام بالاستلزام، ونقل أبو بكرة السياق بتمامه، واختصره ابن عباس وكان ذلك بسبب قرب أبي بكرة منه؛ لأنه كان آخذا بخطام الناقة كما في رواية الإسماعيلي، وباحتمال تعدد السؤال في الخطبة مرتين.
ففي حديث أبي بكرة فخامة ليست في حديث ابن عباس لزيادة لفظة: "أتدرون"، فلذا سكتوا وفوضوا إليه، وأجابوا في السؤال الآخر العاري عن قوله: "أتدرون"، وأما احتمال أنه خطب مرتين يوم النحر، فتعقب بأنه إنما خطب مرة واحدة كما دل عليه صريح الأحاديث.
قال القرطبي: سؤاله -صلى الله عليه وسلم- عن الثلاثة وسكوته بعد كل سؤال منها كان لاستحضار فهو مهم، وليقبلوا عليه بكليتهم ويستشعروا عظمة ما يخبرهم عنه، ولذا قال بعده: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم": جمع عرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في(11/450)
"هذا في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي كفارا ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت"؟ قالوا:
__________
نفسه أو سلفه.
وقال التوربشتي: أنفسكم وأحسابكم، فإن العرض يقال للنفس والحسب، يقال: فلان نفى العرض، أي: بريء أن يعاب، ورد بأنه لو أريد النفوس لتكرر مع الدماء، إذ المراد بها النفوس.
وقال الطيبي: الظاهر أن المراد لأخلاق النفسانية، ثم قال: والتحقيق ما في النهاية أن العرض موضع المدح والذم من الإنسان، ولذا قيل: العرض النفس إطلاقًا للمحل على الحال. انتهى، وهو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم، كذا قال الزركشي وتبعه الحافظ وغيره، وتعقبه الدماميني؛ بأن كل ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق، فالإفصاح به متعين والأولى أن يقدر في الثلاثة كلمة واحدة وهي لفظة انتهاك التي موضوعها تناول شيء بغير حق كما نص عليه القاضي، فكأنه قال: فإن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم ولا حاجة إلى تقدير مع كل واحد من الثلاثة لصحة انسحابه على الجميع، وعدم احتياجه إلى التقييد بغير الحقية. "عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" زاد في بعض روايات البخاري: إلى يوم تلقون ربكم.
قال المصنف: بحر يوم من غير تنوين، ويجوز فتحه وكسره مع التنوين، والأول هو المروي. انتهى، ومناط التشبيه أن تحريم هذه الثلاثة كان ثابتا في نفوسهم مقررا عندهم عادة لسلفهم، ولذا قدم السؤال عنها مع شهرتها بخلاف الأنفس والأموال والأعرض، فكانا في الجاهلية يستبيحونها، فطرأ الشرع عليهم بأن تحريم دم المسلم وماله وعرضه أعظم من البلد والشهر واليوم، فلا يرد أن المشبه أخفض رتبة من المشبه به؛ لأن الخطاب إنما وقع بالنسبة لما اعتاده المخاطبون قبل تقرير الشرع.
"وستلقون ربكم" يوم القيامة "فيسألكم عن أعمالكم" فيجازيكم عليها "ألا" بالفتح والتخفيف "لا ترجعوا بعدي" بعد فراقي من موقفي هذا، أو بعد حياتي، وفيه استعمال رجع كصار معنى وعملا.
قال ابن مالك: وهو مما خفي على أكثر النحاة، أي: لا تصيروا بعدي "كفارا" أي: كالكفار، أو لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا القتال، أو لا تكن أفعالكم شبيهة أفعال الكفار، وفي رواية: "ضلالا": جمع ضال، والمعنى واحد "يضرب بعضكم رقاب بعض" برفع بضرب جملة مستأنفة مبينة لقوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا"، ويجوز الجزم.
قال أبو البقاء على تقدير شرط مضمر، أي: أن ترجعوا بعدي "ألا هل بلغت" وفي رواية:(11/451)
نعم، قال: "اللهم اشهد" فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع". رواه الشيخان.
وفي رواية للبخاري: "فودع الناس".
ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك، ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق، وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب ووقف بالعقبة
__________
"هل بلغت" مرتين "قالوا: نعم" بلغت "قال: "اللهم اشهد" أني أديت ما فرضته علي من التبليغ "فليبلغ الشاهد" الحاضر هذا المجلس "الغائب" عنه ما ذكر فيه أو جميع الأحكام التي سمعها "فرب مبلغ" بفتح اللام مشددة اسم مفعول بلغه كلامي "أوعى" أفهم لمعنى كلامي "من سامع" له مني.
قال الحافظ: رب للتقليل، وقد ترد للتكثير، ومبلغ بفتح اللام وأوعى نعت له، والذي تتعلق به رب محذوف تقديره يوجد أو يكون، ويجوز على مذهب الكوفيين في أن رب اسم أن يكون هي مبتدأ وأوعى الخبر فلا حذف ولا تقدير، والمراد رب مبلغ عني أوعى، أي: أفهم من سامع، وصرح بذلك في رواية ابن منده بلفظ: "فإنه عسى أن يكون بعض من لم يشهد أوعى لما أقول من بعض من شهد". انتهى.
وقال المهلب: فيه أنه يأتي في الآخر من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم إلا أن ذلك قليل؛ لأن رب موضوعة للتقليل. انتهى، أي: عند الأكثرين.
وقال جماعة: موضوعة للتكثير، واختار في المغني أنها ترد للتكثير كثيرا وللتقليل قليلا، لكن الظاهر أنها في الحديث هنا للتقليل بقوله في رواية للبخاري: فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه، ولرواية ابن منده المذكورة "رواه الشيخان" البخاري في مواضع تاما ومختصرا، ومسلم في الديات.
"وفي رواية البخاري" تعليقا، ووصله أبو داود وابن ماجه وغيرهما في آخر حديث عن ابن عمر، فطفق النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم اشهد" "فودع الناس" لأنه علم أنه لا يتفق له ذلك في وقعة أخرى ولا اجتماع آخر مثل ذلك، وبقية الحديث: فقالوا: هذه حجة الوداع.
"ووقع في طريق ضعيفة عند البيهقي من حديث ابن عمر سبب ذلك" الوداع "ولفظه: أنزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له" وجعل عليها الرحل "فركب ووقف بالعقبة واجتمع(11/452)
واجتمع إليه الناس فقال: يا أيها الناس فذكر الحديث.
وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه.
وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة: سابع ذي الحجة، ويوم عرفة، وثاني يوم النحر بمنى.
ووافقهم الشافعي إلا أنه قال: بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول النفر، وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر، قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف.
وتعقبه الطحاوي: بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة، ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمنا أنها لم تقصد لأجل الحج.
وقال ابن بطال: إنما فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب. قال: وأما ما ذكره الشافعي: أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة فليس بمتعين؛ لأن
__________
إليه الناس، فقال: "أيها الناس"..... فذكر الحديث" بنحوه "وفيه دلالة على مشروعية الخطبة يوم النحر بمنى، وبه قال الشافعي ومن تبعه، وخالف ذلك المالكية والحنفية، فقالوا: خطب الحج ثلاثة سابع ذي الحجة" بمكة "ويوم عرفة بها وثاني يوم النحر بمنى، ووافقهم الشافعي إلا أنه قال بدل ثاني النحر ثالثه؛ لأنه أول يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء "وزاد خطبة رابعة وهي يوم النحر" أي: يوم العيد "قال: وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف" للإفاضة.
"وتعقبه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج؛ لأنه لم يذكر فيها شيئا من أمور الحج، وإنما ذكر فيها وصايا عامة ولم ينقل أحد" من رواتها كابن عمر وابن عباس وأبي بكرة؛ "أنه علمهم فيها شيئا من الذي يتعلق بيوم النحر، فعلمناه أنها لم تقصد لأجل الحج".
"وقال ابن بطال: إنما فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك" أي: خطبة يوم النحر "من أجل تبليغ ما ذكره لكثرة الجمع الذي اجتمع من أقاصي الدنيا، فظن الذي رآه أنه يخطب" فأطلق عليها اسم الخطبة "قال: وأما ما ذكره الشافعي أن بالناس حاجة إلى تعليمهم أسباب التحلل المذكورة(11/453)
الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة: انتهى.
وأجيب: بأنه -صلى الله عليه وسلم- نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر، وعلى تعظيم ذي الحجة، وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون بتسميتها خطبة، فلا يلتفت لتأويل غيرهم، وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة، يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة، بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب. وأما قول الطحاوي: "إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من
__________
فليس بمتعين؛ لأن الإمام يمكنه أن يعلمهم إياها يوم عرفة" في خطبتها، وقد ذكر المالكية الأمور الأربع في جملة ما يخبرهم به في خطبة يوم عرفة. "انتهى".
"وأجيب بأنه -صلى الله عليه وسلم- نبه في الخطبة المذكورة على تعظيم يوم النحر وعلى تعظيم ذي الحجة وعلى تعظيم البلد الحرام، وقد جزم الصحابة المذكورون" ابن عباس وأبو بكرة وابن عمر "بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم" هذا واضح في رد قول ابن بطال: ظن الذي رآه أنه يخطب ولك أن تقول: هي خطبة، لكن ليست من خطب الحج المشروعة، إنما هي وصايا وتوديع كما أشار إليه أولا، إذ لا يصلح للخطيب المخبر بمناسك الحج أن يقول شيئًا مما ذكر في هذه الخطبة أتدرون، أي: بلد.... إلخ ونحوه.
"وما ذكره من إمكان تعليم ما ذكره يوم عرفة يعكر عليه في كونه يرى مشروعية الخطبة ثاني يوم النحر، وكان يمكن أن يعلموا ذلك يوم عرفة" له أن يقول: إن المناسك الأربع التي تفعل يوم النحر استغنى بتعليمهم إياها يوم عرفة؛ لأنه يتعسر خطبة تعلمهم ذلك يوم النحر، إذ المطلوب ساعة الوصول إلى الجمرة رميها عقب وصوله على أي حالة راكبا أو ماشيا، ثم النحر، ثم الحلق، ثم الطواف، وكل ذلك قبل الزوال فهو يوم عمل وسفر لا يمكن بسهولة خطبة لتعليم فعل ذلك على الوجه الأكمل، فاكتفى بتعليم ذلك في يوم عرفة بخلاف ثاني يوم، فيوم قرار بمنى فشرع فيه تجديد التعليم.
"بل يمكن أن يعلموا يوم التروية جميع ما يؤتى به من أعمال الحج، لكن" حكمة ذلك أنه "لما كان في كل يوم أعمال ليست في غيره شرع تجديد التعليم بحسب تجديد الأسباب" بعد هذا في الفتح، وقد بين الزهري وهو عالم أهل زمانه؛ أن الخطبة ثاني يوم النحر، نقلت من خطبة يوم النحر وأن ذلك من عمل الأمراء، يعني بني أمية.
قال ابن أبي شيبة: حدثنا وكيع، عن سفيان هو الثوري، عن ابن جريج، عن الزهري، قال:(11/454)
أسباب التحلل" فلا ينفي وقوع ذلك أو شيء منه في نفس الأمر، بل قد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق. انتهى.
وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بنمعاذ التيمي قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى، ففتحت أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا، فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار، فوضع أصبعيه السبابتين ثم قال
__________
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، فشغل الأمراء فأخروه إلى الغد، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يعتضد بما سبق، وبأن به أن السنة يوم النحر لا ثانيه. انتهى.
وكان المصنف تركه؛ لأنه قد لا يسلم له أن المراد بالأمراء بنو أمية كما ذكره بقوله، يعني بني أمية، إذ ليس ذلك في سياق الحديث، فكأنهم تركوه لفهمهم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقصد به أنه من خطب الحج المشروعة للتعليم، وإنما هي وصايا؛ ولأنه يعكر على حكمته التي أبداها من شرع تجديد التعليم بتجدد الأسباب، إذ هو لا يقول بخطبة ثاني يوم مع أن فيه تجديدًا.
"وأما قول الطحاوي إنه لم ينقل أنه علمهم شيئا من أسباب التحلل فلا ينفي وقوع ذلك، أو شيء منه في نفس الأمر" لاحتمال أنه وقع، ولم ينقله الراوي اعتناء بما نقله من أمر الوصية، وغاية ما يفيده هذا الاحتجاج بالاحتمال والطحاوي إنما قال لم ينقل، وإنما يرد عليه بأنه قد نقل "بل" إضراب انتقالي "قد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي أنه شهد النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب يوم النحر، وذكر فيه السؤال عمن يقدم بعض المناسك على بعض، فكيف ساغ للطحاوي هذا النفي المطلق" مع روايته لحديث ابن عمرو. "انتهى".
والجواب أنه ساغ له ذلك؛ لأنه ليس فيه أنه علمهم ذلك ابتداء في تلك الخطبة، وإنما أجاب السائلين بقوله: "افعل ولا حرج"، وجواب السائل متعين في مثل ذلك.
"وقد روى أبو داود والنسائي عن عبد الرحمن بن معاذ" بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي "التيمي" نسبة إلى جده تيم المذكور، صحابي شهد فتح مكة، وهو ابن عم طلحة بن عبد الله "قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن بمنى ففتحت" بالتخفيف، وضبطه بعضهم بالتشديد "أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا" معجزة ظاهرة له -صلى الله عليه وسلم- "فطفق" بكسر الفاء وفتحها، أي: أخذ "يعلمهم مناسكهم" جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو المعبد ويقع على المصدر والزمان والمكان، ثم سميت أمور الحج كلها مناسك "حتى بلغ الجمار" أي: وصل إلى ذكر حكمها، وكأنه ذكر المناسك على ترتيب وقوعها(11/455)
بحصى الخذف، ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك.
وفي رواية عن عبد الرحمن بن معاذ عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم فقال: "لينزل المهاجرون ههنا"، وأشار إلى ميمنة القبلة، "والأنصار ههنا" وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: "لينزل الناس حولهم".
وعن ابن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بني بكر قالا: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق، ونحن عند راحلته، وهي خطبة
__________
وفعلها والجمار الأحجار الصغار، سميت حمار الحج بذلك للحصى التي يرمي بها "فوضع أصبعيه السبابتين" اليمنى واليسرى "ثم قال:" "ارموا" "بحصى الخذف" أي: الحصى اصغار، أي: مثله، والخذف أن يؤخذ حصاة بين السبابتن ويرمي بها "ثم أمر المهاجرين فنزلوا بمقدم المسجد، وأمر الأنصار أن ينزلوا من" هكذا في أبي داود، لفظ: من "وراء المسجد، قال: ثم نزل الناس بعد ذلك" ففيه تقريب أهل الفضل والعلم على حسب مراتبهم في ذلك.
قال الولي العراقي: قد يسأل عن الجمع بين هذا الحديث وبين قوله عليه الصلاة والسلام: "منى مناخ من سبق"، فإنه دال على استحقاق السابق لبقعة للنزول فيها ولو كان غيره أفضل، وهو مخالف لتعيينه للمهاجرين بقعة وللأنصار بقعة، هكذا سأل وبيض للجواب.
"وفي رواية عبد الرحمن بن معاذ" الصحابي المذكور فيما قبله عند أبي داود أيضا "عن رجل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس بمنى ونزلهم منازلهم، فقال: "لينزل" بلام الأمر، كما في أبي داود "المهاجرون ههنا، وأشار إلى ميمنة القبلة والأنصار ههنا، وأشار إلى ميسرة القبلة، ثم قال: "لينزل الناس حولهم"" وفي الرواية الأولى: أنزل المهاجرين في مقدم المسجد والأنصار وراء المسجد.
قال الولي العراقي: وظاهرهما التنافي، فيحتاج إلى الجمع إن أمكن وإلا تعين الترجيح، ويمكن الجمع بأنه أنزل المهاجرين في ميمنة القبلة في مقدم المسجد، وأنزل الأنصار في ميسرة القبلة وراء المسجد، ويلزم عليه أن يخلو من المسجد ميسرته بكمالها ومؤخر ميمنته، فيحصل أنه -صلى الله عليه وسلم- أخلى ذلك لنفسه.
"وعن ابن أبي نجيح" الابن هو عبد الله المكي أبو يسار الثقفي، مولاهم ثقة من رجال الجميع، ورمي بالقدر، وربما دلس "عن أبيه" أبي نجيح، واسمه يسار المكي مولى ثقيف مشهور بكنيته وهو ثقة، روى له مسلم والسنن الثلاثة "عن رجلين من بني بكر، قالا: رأينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب بين أوسط أيام التشريق" ظاهره مشكل، فالجمع بين أوسط.(11/456)
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي خطب بمنى. رواه أبو داود.
وعن رافع بن عمرو المزني قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى، حين ارتفع الضحاء على بغلة شهباء، وعلي يعبر عنه، والناس بين قائم وقاعد. رواه أبو داود أيضا.
__________
ممتنع، فإما أنه وهم كان في بعض الأصول بين، وفي آخر أوسط، فجمع بينهما بعض الرواة وهما: لكن فيه أن الحكم على الإثبات بالخطأ يحتاج لدليل، وبأنه لا يصح أن يقال بين أيام التشريق لاقتضائه أن زمن الخطبة متخلل بينها لا منها وإنما يكون ذلك ليلا، ولم تقع الخطبة ليلا، وإما أن أوسط بدل من بين فهو نصب ظرفا لا مخفوض بالإضافة، ويرد هذا بالثاني مما رد به مما قبله، وإما أن المراد خطبهم في وسط أوسط أيام التشريق، أي: أن خطبته وقعت في الأوسط من أيام التشريق وكان ذلك بينه، أي: في أثنائه لا في أول النهار ولا في آخره، وفيه نظر؛ لأنه إذا خطب أثناءه صدق أنه خطب في أيام التشريق فلا يقال: خطب بينهما، قاله الولي العراقي.
"ونحن عند راحلته" مثلث العين ومعناه حضرة الشيء "وهي خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي خطب بمنى" كأنهما لم يطلعا على خطبته يوم النحر أو اطلعا ولم تكن عندهما خطبة تتعلق بالحج "رواه أبو داود" وسكت عليه فهو عنده صالح، وكذا سكت عليه عبد الحق في الأحكام، وتعقبه ابن القطان ورد تعقبه.
"وعن رافع بن عمرو" بفتح العين ابن هلال "المزني" صحابي ابن صحابي، سكن البصرة وعاش إلى خلافة معاوية "قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحاء" بفتح المعجمة ممدود إذا علت الشمس إلى ربع السماء فما بعده كما في النهاية، نقله الولي "على بغلة" أنثى البغال "شهباء" أي: بيضاء غلب بياضها على السواد، زاد في رواية لأبي داود في اللباس: وعليه برد أحمر "وعلي" بن أبي طالب "يعبر" بضم أوله وبالتشديد، أي: يبلغ "عنه".
قال الجوهري: عبرت عن فلان إذا تكلمت عنه واللسان يعبر عما في الضمير، أو المراد يفسر عبارته ويشرحها مأخوذ من عبارة الرؤيا وهو تفسيرها، أو المراد يفهمها للناس من عبرت الكتاب أعبره، والأول هو الظاهر المتعين وفيه منقبة لعلي، ولا يخالف قوله: ففتحت أسماعنا الحديث السابق لاحتمال أن هذه خطبة غير تلك؛ لأنه خطب بمنى غير مرة، أو المعجزة إنما هي في حق من لم يحضر المجلس، فأما من حضره فكان يسمع السمع المعتاد، فربما يخفى عليه كلمة ونحوها لشغل أو ثقل سمع أو جهل بتلك اللغة التي خاطبهم بها -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنهم خلق كثير(11/457)
وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن قال: حدثتني جدتي سراء بنت نبهان، وكانت ربة بيت في الجاهلية، قالت: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الرءوس فقال: أي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق. رواه أبو داود أيضا.
__________
من قبائل شتى، وهذه الخطبة غير المذكورة قبلها لقوله: على راحلته وهنا على بغلة، قاله الولي العراقي ملخصًا.
"والناس بين قائم وقاعد" لكثرتهم، فكان البعيد يقف ليراه ويسمع كلامه -صلى الله عليه وسلم "رواه أبو داود أيضا" ورواه النسائي والبغوي والطبراني وغيرهم عنه مطولًا، قال: أقبلت مع أبي وأنا غلام وصيف أو فوق ذلك في حجة الوداع، فإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخطب الناس على بغلة شهباء، وعلي بن أبي طالب يعبر عنه والناس من بين جالس وقائم، فجلس أبي وتخللت الركاب حتى أتيت البغلة، فأخذت بركاته ووضعت يدي على ركبته، فمسحت حتى الساق حتى بلغت بها القدم، ثم أدخلت كفي بين النعل والقدم فيخيل إلي الساعة أني أجد برد قدمه على كفي.
"وعن ربيعة بن عبد الرحمن بن حصن" الغنوي بفتح الغين المعجمة والنون، ذكره ابن حبان في الثقات "قال: حدثتني جدتي سراء" بفتح السين المهملة وشد الراء مع المد، وقيل: القصر كما في التقريب، وفي الإصابة بتشديد الراء مقصورة، ويقال: بالمد، قاله ابن الأثير "بنت نبهان" بفتح النون وسكون الموحدة ابن عمرو الغنوية الصحابية، وروت عنها أيضا ساكنة بنت الجعد حديثا آخر، رواه ابن سعد وقال: روت أحاديث بهذا الإسناد "وكانت ربة" أي: صاحبة "بيت" ومنزل "في الجاهلية" ما قبل الإسلام، والمراد أنها كبيرة السن، أدركت الجاهلية منفردة ببيت قاله الولي العراقي.
وقال ابن رسلان: ربة بيت، أي: قائمة على الضيم في الجاهلية. ا. هـ، فإن كان ذلك الواقع وإلا فالصواب ما قال الولي.
"قالت: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الرؤوس" بضم الراء والهمز، سمي بذلك حادي عشر الحجة؛ لأنهم كانوا يذبحون يوم النحر ثم يطبخون الرؤوس تلك الليلة فيبكرون على أكلها "فقال: "أي يوم هذا"؟، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: "أليس أوسط أيام التشريق"؟ وفيه أدب الصحابة معه وسكوتهم عن الجواب فيما يشكل عليهم.
"وفي رواية: خطب أوسط أيام التشريق، رواه أبو داود أيضا" أي: المذكور من الروايتين، وسكت عليه إلا أن الأولى عنده مسندة، وأما الثانية فمعلقة، ولفظه عقب المسند، قال أبو داود: وكذلك عم أبي حرة الرقاشي أنه خطب أوسط أيام التشريق.(11/458)
ثم ركب -صلى الله عليه وسلم- قبل الظهر فأفاض إلى البيت فطاف طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة والركن والصدر.
وفي البخاري: ويذكر عن أبي حسان عن ابن عباس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى.
وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان. وقال ابن المديني في "العلل": روى قتادة حديثا غريبا لا نحفظه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام. فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام، ولم أسمعه منه، عن أبيه عن قتادة حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى الحديث.
__________
قال الولي: أخرجه أحمد عن أبي حرة الرقاشي، عن عمه قال: كنت آخذا بزمام ناقة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ ودعته الناس، فذكر حديثا طويلا في خطبته وأبو حرة بضم المهملة وشد الراء المفتوحة وتاء تأنيث اسمه حنيفة، ذكره أبو حاتم وغيره، ضعفه ابن معين ووثقه أبو داود وعمه صحابي.
قال البغوي: بلغني أن اسمه خزيم بن حنيفة. ا. هـ، وقيل: عمر بن حمزة، أفاده ابن فتحون. "ثم ركب -صلى الله عليه وسلم" من منى "قبل الظهر فأفاض" أي: رجع "إلى البيت فطاف طواف الإفاضة" أي: طواف الرجوع من منى إلى مكة "وهو طواف الزيارة" أي: زيارة الحاج البيت "والركن" الذي لا يجبر تركه بشيء "والصدر" بصاد ودال مهملتين مفتوحتين، قال الرافعي: والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع.
"وفي البخاري يذكر" بضم أوله وفتح ثالثه "عن أبي حسان" بالصرف وعدمه مسلم بن عبد الله العدوي البصري، صدوق، رمي برأي الخوارج، قتل سنة ثلاثين ومائة، روى له مسلم حديثين عن ابن عباس غير هذا، وروى له الأربعة وعلق له البخاري.
"عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت أيام منى" قال الحافظ: "وصله الطبراني من طريق قتادة عن أبي حسان".
"وقال ابن المديني في العلل: روى قتادة حديثا غريبا لا نعرفه عن أحمد من أصحاب قتادة إلا من حديث هشام، فنسخته من كتاب ابنه معاذ بن هشام ولم أسمعه منه، عن أبيه، عن قتادة: حدثني أبو حسان عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يزور البيت كل ليلة ما أقام بمنى".
وقال الأثرم: قلت لأحمد: تحفظ عن قتادة هذا "الحديث"، فقال: اكتبوه من كتاب(11/459)
وأتى -صلى الله عليه وسلم- زمزم، وبنو عبد المطلب يسقون عليها، فقال: "انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم"، فناولوه دلوا منها فشرب منه.
وفي رواية ابن عباس: فشرب وهو قائم، وفي رواية: فحلف عكرمة: ما كان يومئذ إلا على بعير، لكن لم يعين فيها حجة الوداع ولا غيرها، إنما التعيين في
__________
قلت: فإن هنا إنسانا زعم أنه سمعه من معاذ فأنكر ذلك، وأشار الأثرم بذلك إلى إبراهيم بن محمد بن عرعرة، فإن من طريقه أخرجه الطبراني بهذا الإسناد، ولرواية أبي حسان ليس هو من شرط البخاري شاهد مرسل، أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عيينة، حدثنا ابن طاوس عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفيض كل ليلة "وأتى -صلى الله عليه وسلم" بعد فراغه من طواف الإفاضة "زمزم وبنو عبد المطلب يسقون عليها" أي: يفرقون منها بالدلاء ويصبونه في الحياض ويسقونه الناس "فقال:" لهم "انزعوا" بكسر الزاي، يقال: نزع بالفتح ينزع بالكسر، والأصل في فعل الذي عينه أو لامه حرف حلق فتح مضارعه، ولم يأت الكسر إلا في نزع ينزع والنزع الاستقاء أي: اسقوا "بني عبد المطلب، فلولا" خوفي "أن يغلبكم الناس على سقايتكم" بأن يزدحموا على النزع بحيث يغلبونكم ويدفعونكم لاعتقادهم أن النزع والاستقاء من مناسك الحج "لنزعت معكم" لكثرة فضيلة ذلك.
وقيل: قال ذلك شفقة على أمته من الحرج والمشقة، والأول أظهر وفيه بقاء هذه التكرمة لبني العباس، كبقاء الحجابة لبني شيبة، إذ لو استعمله الناس معهم لخرج عن اختصاصه بهم "فناولوه" صلى الله عليه وسلم "دلوا منها فشرب منه" يستحب الشرب منها والإكثار، وقد صح مرفوعا ماء زمزم لما شرب له وشربه جماعة من العلماء لمآب فوجدوها.
قال ابن العربي: شربناه للعلم، فليتنا شربناه للورع، وأولى ما يشرب لتحقيق التوحيد والموت عليه.
"وفي رواية ابن عباس" عند البخاري من طريق عاصم عن الشعبي أن ابن عباس حدثه، قال: سقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من زمزم "فشرب وهو قائم" ففيه جواز الشرب قائما، وقوله: "وفي رواية" حشو موهم أنها رواية أخرى مع أنه من جملة حديث البخاري، عقب قوله: وهو قائم، قال عاصم: "فحلف عكرمة" بالله "ما كان" صلى الله عليه وسلم "يومئذ" أي: يوم سقاه ابن عباس من زمزم "إلا على بعير" فكيف يكون قائما.
وعند ابن ماجه عن عاصم، فذكرت ذلك لعكرمة بالله ما فعل، أي: ما شرب قائما؛ لأنه كان حينئذ راكبا، وإنما حلف؛ لأنه خلاف ما رواه، أعني: عكرمة عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أتى(11/460)
رواية جابر عند مسلم.
واختلف أين صلى -صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ؟، ففي رواية جابر عند مسلم: أنه عليه السلام صلى بمكة، وكذا قالت عائشة.
وفي حديث ابن عمر -في الصحيحين- أنه -صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر ثم رجع فصلى الظهر بمنى.
فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له قول عائشة وجابر، وتبعه على ذلك جماعة؛ لأنهما اثنان، وهما أولى من الواحد؛ ولأن عائشة أخص الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها؛ ولأن سياق الناس به، ولها من القرب والاختصاص ما ليست لغيره؛ ولأن سياق جابر لحجته -صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق، وأحفظ للقصة وضبطها، حتى ضبط جزئياتها، حتى أقر منها ما لا يتعلق
__________
زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذه، يعني: عاتقه، وأشار إلى عاتقه، رواه البخاري، وأجيب بأنه قد روي أبو داود عن عكرمة نفسه، عن ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- أناخ فصلى ركعتين، فلعل شربه من زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكره لنهيه عنه، لكن في البخاري عن علي أنه -صلى الله عليه وسلم- شرب قائما "لكن لم يعين فيها" أي: رواية ابن عباس لا من طريق عكرمة ولا من طريق الشعبي "حجة الوداع ولا غيرها" فتح مكة "إنما التعيين في رواية جابر عند مسلم" يعني: فلولاها لأمكن الجمع بأنه في إحداهما شرب وهو على البعير، وفي الأخرى قائما، وقد علم الجمع بإمكان أنه لما نزل وصلى شرب قائما فلا خلاف.
"واختلف أين صلى؟ " النبي -صلى الله عليه وسلم- الظهر يومئذ" أي: يوم النحر "ففي رواية جابر عند مسلم، أنه عليه السلام صلى بمكة" ولفظه: فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر، وكذا قالت عائشة عند أبي داود وغيره.
"وفي حديث ابن عمر في الصحيحين؛ أنه -صلى الله عليه وسلم- أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى" فهذا تعارض "فرجح ابن حزم في كتاب حجة الوداع له" أي: مؤلة فيها "قول عائشة وجابر وتبعه على ذلك جماعة" بأربعة أوجه "لأنهما اثنان وهما أولى من الواحد، و" ثانيها "لأن عائشة أخص الناس به ولها من القرب والاختصاص ما ليس لغيرها، و" ثالثها: "لأن سياق جابر لحجته -صلى الله عليه وسلم- من أولها إلى آخرها أتم سياق و" هو "أحفظ للقصة، وضبطها حتى ضبط جزئياتها حتى أقر" بقاف وراء ثقيلة، أي: أثبت "منها ما لا يتعلق بالمناسك".(11/461)
بالمناسك، وهو نزوله في الطريق فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو لضبط مكان صلاته الظهر يوم النحر أولى، وأيضا: فإن حجة الوداع كانت في "آذار" وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس، ونحر بها بدنة وقسمها، وطبخ له من لحمها وأكل منه، ورمى الجمرة، وحلق رأسه وتطيب ثم أفاض، وطاف وشرب من ماء زمزم، ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر ممنها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى منى بحيث يدرك الظهر في فصل آذار.
ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر: بأنه لا يحفظ عنه في حجته -صلى الله عليه وسلم- أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، وبأن حديث ابن عمر متفق عليه، وحديث جابر من إفراد مسلم، فحديث ابن عمر أصح منه، فإن رواته أحفظ وأشهر، وبأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا، وفي رواية عنها: أن أخر الطواف إلى الليل، وفي رواية عنها: أنه أفاض من آخر يومه، فلم تضبط فيه وقت الإفاضة، ولا مكان الصلاة.
__________
وفي نسخة: حتى أمرا منها، أي: حتى ضبط أمرا لا يتعلق بالمناسك "وهو نزوله في الطريق، فبال عند الشعب وتوضأ وضوءا خفيفا، فمن ضبط هذا القدر فهو يضبط صلاته الظهر يوم النحر أولى و" رابعها "أيضا، فإن حجة الوداع كانت في آذار وهو تساوي الليل والنهار، وقد دفع من مزدلفة قبل طلوع الشمس إلى منى، وخطب بها الناس ونحر بها بدنة" المائة "وقسمها وطبخ له من لحمها وأكل منه ورمى الجمرة وحلق رأسه وتطيب، ثم أفاض وطاف وشرب من ماء زمزم ووقف عليهم وهم يسقون، وهذه أعمال يظهر منها أنها لا تنقضي في مقدار يمكن معه الرجوع إلى مني بحيث يدرك الظهر في فصل آذار" بهمزتين فذال معجمة فألف فراء.
قال في القاموس: الشهر الادس من الشهور الرومية "ورجحت طائفة أخرى قول ابن عمر" بأمور أربعة: أحدهما: "بأنه لا يحفظ عنه في حجته -صلى الله عليه وسلم؛ أنه صلى الفرض بجوف مكة، بل إنما كان يصلي بمنزله بالمسلمين مدة مقامه بمكة، و" الثاني: "بأن حديث ابن عمر متفق عليه" أي: رواه البخاري ومسلم "وحديث جابر من إفراد مسلم" التي انفرد بها عن البخاري فحديث ابن عمر أصح منه: فإن رواته أحفظ وأشهر" ولاتفاق الشيخين عليه. "و" الثالث: "بأن حديث عائشة قد اضطرب في وقت طوافه، فروي عنها أنه طاف نهارا".
"وفي رواية" لأحمد وأبي داود والترمذي "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أخر الطواف إلى الليل،(11/462)
وأيضا: فإن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن القاسم، وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به، ولم يصرح بالسماع، بل عنعنه، فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر. انتهى.
ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى
__________
وفي رواية" عند أبي داود "عنها: أنه" صلى الله عليه وسلم "أفاض" أي: طاف طواف الإفاضة "من آخر يومه" والجمع وإن أمكن بين رواياتها الثلاث بأن قولها إلى الليل، أي: إلى قربه بدليل قولها في الرائية الثانية من آخر يومه وذلك بالنهار، وهو الرواية الأولى " فلم تضبط فيه وقت الإفاضة ولا مكان الصلاة" فتقدم رواية من ضبط.
"و" الرابع: "أيضا بأن حديث ابن عمر أصح منه بلا نزاع؛ لأن حديث عائشة من رواية محمد بن إسحاق" بن يسار "عن عبد الرحمن بن القاسم" بن محمد، عن أبيه، عنها "وابن إسحاق مختلف في الاحتجاج به" أي: بروايته، فمنهم من لم يحتج به وطعن فيه كثير من الأئمة، ومنهم من احتج به بشرط أن يصح بالسماع؛ لأنه مدلس، فهنا لا حجة به اتفاقا "و" ذلك أنه "لم يصرح به بالسماع، بل عنعنه" أي: الحديث، فقال عن عبد الرحمن بن القاسم: "فلا يقدم على حديث عبد الله بن عمر" لأن رواته ثقات حفاظ مشاهير. "انتهى".
وقد جمع النووي بين الحديثين أي: حديث جابر وابن عمر باحتمال أنه صلى الظهر بمكة أول الوقت، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى بأصحابه حين سألوه ذلك، فيكون متنفلا بالظهر الثانية التي بمنى، كذا قال بناء على مذهبه من صحة اقتداء المفترض بالمتنفل، ثم ذكر أنه طاف قبل الزوال، قال: وما ورد عن عائشة وغيرها أنه أخر الزيارة إلى الليل فمحمول على أنه عاد للزيارة مع نسائه لا لطواف الإفاضة، قال: ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأحاديث.
وتعقبه الولي بأن ظاهر حديث أبي داود، عنها: أفاض من آخر يومه حين صلى الظهر أنه طاف بعد صلاة الظهر، أي: حين فرغمنها لا حين شرع فيها، إذ لا يجمع بين الصلاة والطواف في زمن واحد.
"ثم رجع -صلى الله عليه وسلم- إلى منى فمكث" بفتح الكاف وضمها "بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة" أي: جنسها، إذ المراد الثلاث جمرات كما صرح به بعد "إذا زالت الشمس" فورا، زاد ابن ماجه: قدر ما إذا فرغ رميه صلى الظهر.
قال الولي: فذكر مكثه الليالي ورميه الجمرة بالنهار، فكان ينبغي أن يقول ليالي أيام(11/463)
والثانية، فيطيل القيام فيهما ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقف عندها. رواه أبو داود من حديث عائشة.
وعن ابن عمر -عند الترمذي: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار مشى إليها ذاهبا وراجعا.
وفي رواية أبي داود: وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا والوسطى، ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي الحديث.
واستأذنه -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل
__________
التشريق وأيامها، والجواب أنه إنما اقتصر على الليالي؛ لأن بها يقع التاريخ، وأيضا؛ فإنه أتم الليالي الثلاث بخلاف الأيام فلم يتمها، بل ارتحل في أثناء اليوم الثالث "كل جمرة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة".
وفي الصحيح عن ابن عمر: يكبر على أثر كل حصاة "ويقف عند الأولى" التي تلي مسد الخيف "والثانية: فيطيل القايم فيهما" إلا أنه في الأولى أكثر، ولابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عطاء، قال: كان ابن عمر يقوم عند الجمرتين مقدار ما يقرأ سورة البقرة "ويتضرع" يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء، وفي الصحيح عن ابن عمر: ويدعو "ويرمي الثالثة" جمرة العقبة "فلا يقف عندها" قيل: لضيق المكان بالجبل، وقيل وهو الأصح: أن دعاءه كان في نفس العبادة قبل الفراغ منها، فلما رمى الثالثة فرغت العبادة، والدعاء فيها أفضل منه بعد فراغها "رواه أبو داود من حديث عائشة" قالت: أفاض -صلى الله عليه وسلم- من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فذكره، وفيه ابن إسحاق، لكن المنكر منه إنما هو أوله كما مر، وأما بقيته فله شواهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود وابن عمر.
"وعن ابن عمر عند الترمذي: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا رمى الجمار" الثلاث "مشى إليها ذاهبا وراجعا"، فأما الجمرة الت ترمى وحدها يوم النحر فرماها وهو راكب كما عند أحمد وغيره.
"وفي رواية أبي داود" عن ابن عمر: "وكان يستقبل القبلة في الجمرتين الدنيا" قال الحافظ: بضم الدال وكسرها، أي: القريبة إلى جهة مسجد الخيف وهي أول الجمرات التي ترمى من ثاني يوم النحر "والوسطى ويرمي جمرة العقبة من بطن الوادي".
وكذا رواه ابن مسعود في الصحيحين، ولابن أبي شيبة وغيره عن عطاء، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعلو إذا رمى الجمرة وجمع الحافظ بينهما بإمكان أن التي ترمى من بطن الوادي هي جمرة العقبة؛ لأنها عند الوادي بخلاف الجمرتين الأخيرتين، ويوضحه قوله في حديث بن مسعود: حين رمى جمرة العقبة استبطن الوادي ... "الحديث" وهو في البخاري مطولا.
"واستأذنه -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى" ليلة الحادي عشر(11/464)
السقاية فأذن له، رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر، وفي رواية الإسماعيلي: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته.
وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بـ"الرخصة" يقتضي أن يقابلها: العزيمة، وأن الإذن وقع للعلة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن وبالوجوب قال الجمهور:
وفي قول للشافعي، وهو رواية عن أحمد، وهو مذهب الحنفية: أنه سنة.
ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف.
ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل، وهل يختص الإذن بالسقاية، وبالعباس؟ الصحيح العموم، والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين.
__________
والليلتين بعدها، ووقع عند أحمد أن يبيت تلك الليلة بمنى وكأنه عنى ليلة الحادي عشر؛ لأنها تعقب يوم الإفاضة، قاله الحافظ: "من أجل السقاية" أي: سقايته المعروفة بالمسجد الحرام "فأذن له" ففيه استئذان الأمراء والكبراء في المصالح الطارئة وبدار من استؤذن إلى الإذن عند ظهر المصلحة "رواه البخاري ومسلم" وغيرهما "من حديث ابن عمر" عبد الله.
"وفي رواية الإسماعيلي" عنه: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته" فعبر برخص "وفيه دليل على وجوب المبيت بمنى وأنه من مناسك الحج؛ لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة" فيدل على الوجوب "وأن الإذن وقع للعلة المذكورة" السقاية "وإذا لم توجد، أو ما في معناها" كالرعاء "لم يحصل الإذن" لأن الحكم يدور مع العلة "وبالوجوب".
"قال الجمهور" ومنهم مالك والشافعي وأحمد في رواية "وفي قول للشافعي وهو رواية عن أحمد" وهي الصحيحة في مذهبه "وهو مذهب الحنفية أنه سنة" واستدلوا بأنه لو كان واجبا لما رخص للعباس وفيه نظر كما علم "ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف" فمن أوجبه أوجب الدم ومن لم يوجبه فلا "ولا يحصل المبيت إلا بمعظم الليل" وإنما اكتفى بساعة ليلة المزلفة لكثرة المشقة التي قبلها والتي بعدها، فسومح في التخفيف للمشقة "وهل يختص الإذن بالسقاية وبالعباس" فلو عمل غيره سقاية لم يرخص له في المبيت لأجلها كما قيل به وهو جمود، وقيل: يدخل معه آلة، وقيل: فريقه وهم بنو هاشم "الصحيح العموم" فلا يختص بالعباس "والعلة في ذلك إعداد الماء للشاربين" قال الحافظ: وهل يختص ذلك بالماء أو يلحق به ما في معناه من الأكل وغيره محل احتمال.(11/465)
وجزم الشافعي، بإلحاق من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يتعهده، بأهل السقاية، كما جزم الجمهور: بإلحاق الرعاء خاصة، وهو قول أحمد.
قالوا: ومن ترك المبيت لغير عذر وجب عليه دم عن كل ليلة.
ثم أفاض -صلى الله عليه وسلم- بعد ظهر يوم الثلاثاء -بعد أن أكمل رمي أيام التشريق، ولم يتعجل في يومين- إلى المحصب، وهو الأبطح، وحده: ما بين الجبلين إلى
__________
"وجزم الشافعي بإلحاق من له مال يخاف ضياعه أو أمر يخاف فوته أو مريض يتعهده بأهل السقاية" فلا دم عليهم في ترك المبيت؛ لأنهم أصحاب أعذار فأشبهوا أهل السقاية "كما جزم الجمهور بإلحاق الرعاء" بكسر الراء والمد: جمع راع "خاصة" دون أولئك، لكنهم لم يجزموا بذلك بالإلحاق، إنما هو بالنص الذي رواه مالك وأصحاب السنن الأربع.
وقال الترمذي: حسن صحيح عن عاصم بن عدي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى يرمون النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين ثم يرمون يوم النفر.
وفي لفظ لأبي داود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رخص للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما "وهو قول أحمد" واختيار ابن المنذر.
وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء والسقاية، كما جزم به في الطراز المذهب؛ لأنهما الوارد فيهما الرخصة، وأما الخائف ومن بعده فلا إثم عليهم للعذر، وأما الدم فعليهم كمن حلق رأسه وهو محرم للعذر فلا إثم عليه، وعليه الفدية والعذر إنما يرفع الإثم لا الدم إلا فيما ورد النص فيه.
"قالوا" ضمير للمالكية، فأصل العبارة في فتح الباري.
وقال المالكية: يجب الدم في المذكورات سوى الرعاء.
قالوا: "ومن ترك المبيت لغير عذر" خاص وهو الرعاية والسقاية "وجب عليه دم عن كل ليلة".
وقال الشافعي: عن كل ليلة إطعام مسكين، وقيل: عنه التصدق بدرهم، وعن الثلاث دم وهو رواية عن أحمد، والمشهور عنه.
وعن الحنفية: لا شيء عليه، هذا بقية كلام الفتح "ثم أفاض" دفع "صلى الله عليه وسلم بعد ظهر يوم الثلاثاء بعد أن أكمل رمي أيام التشريق ولم يتعجل في يومين" لأنه الأفضل "إلى المحصب" بضم الميم وفتح الحاء والصاد الثقيلة مهملتين وموحدة "وهو الأبطح" ويقال له: البطحاء أيضا وهو مكان متسع بين مكة ومنى وهو إليها أقرب "وحده ما بين الجبلين إلى المقبرة وهو(11/466)
المقبرة، وهو خيف بني كنانة، فوجد أبا رافع قد ضرب قبته هناك، وكان على ثقله، قال أبو رافع: لم يأمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته فجاء فنزل: رواه مسلم.
وفيه وفي البخاري، عن أنس أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر بالأبطح.
وفيهما من حديث أبي هريرة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من الغد يوم النحر"، وهو بمنى: "نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة"، حيث تقاسموا على الكفر، يعني بذلك
__________
خيف بني كنانة".
قال عياض: وإلى منى يضاف، ودليله قول الشافعي وهو عالم مكة وأحوازها:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاطن خيفها والناهض
قال الأبي: وإنما يصح الاحتجاج به إذا جعل من منى في موضع الصفة للمحصب، أما إذا علق براكبا فلا حجة فيه، وأبين منه قول مجنون بني عامر:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى ... فهيج لوعات الفؤاد وما يدري
دعا باسم ليلى غيرها فكأنما ... أطار بليلى طائرا كان في صدري
قال: وظاهر قول مالك في المدونة إذا رحلوا من منى نزلوا بأبطح مكة وصلوا ... إلخ، أنه ليس من منى "فوجد" مولاه "أبا رافع" اسمه أسلم في أشهر الأقوال العشرة "قد ضرب قبته" خيمته وكانت من شعر كما مر "وكان" أبو رافع "على ثقله" بفتح المثلثة والقاف، أي: متاعه "قال أبو رافع: لم يأمرني -صلى الله عليه وسلم- أن أنزل الأبطح حين خرج من منى، ولكني جئت فضربت فيه قبته" توفيقا من الله "فجاء فنزل، رواه مسل" وأبو داود وغيرهما.
"وفيه" أي: مسلم.
"وفي البخاري عن أنس؛ أنه عليه السلام صلى الظهر والعصر يوم النفر" بفتح النون وإسكان الفاء الانصراف من منى "بالأبطح".
قال الحافظ: لا ينافي أنه لم يرم إلا بعد الزوال؛ لأنه رمى فنفر ونزل المحصب فصلى الظهر به.
"وفيهما" أي: الصحيحين "من حديث" الأوزاعي عن الزهري، عن أبي سلمة، عن "أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "من الغد يوم النحر" نصب على الظرفية "وهو بمنى" أي: قال: في غداة يوم النحر حال كونه بمنى، ومقوله: "نحن نازلون غدا خيف".(11/467)
المحصب. وذلك أن قريشا وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس قال: ليس التحصيب بشيء، إنما هو منزل نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله، لكن لما نزل به -صلى الله عليه وسلم- كان
__________
وفي رواية: بخيف "بني كنانة" والمراد بالغد هنا ثالث عشر ذي الحجة؛ لأنه يوم النزول بالمحصب فهو مجاز في إطلاقه كما يطلق أمس على الماضي مطلقا، وإلا فثاني العيد هو الغد حقيقة وليس مرادًا، قاله الكرماني "حيث تقاسموا:" تحالفوا "على الكفر" حال من فاعل تقاسموا، أي: في حال كفرهم "يعني بذلك المحصب" بوزن محمد "وذلك أن قريشا وكنانة" فيه إشعار بأن كنانة من ليس قرشيا، إذ العطف يقتضي المغايرة، فيترجع القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم من ولد كنانة.
نعم لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر، فقريش ولد النضر بن كنانة، وأما كنانة فأعقب من غير النضر، فلذا وقعت المغايرة، قاله الحافظ.
"تحالفت" بحاء مهملة، والقياس تحالفوا، لكن أتى بصيغة المفرد المؤنث باعتبار الجماعة "على بني هاشم وبني المطلب" أخي هاشم؛ "أن لا يناكحوهم" فلا تتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وأخيه، ولا يزوجوا امرأة من نسائهم لأولاد أحد من الأخوين "ولا يبايعوهم" لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، ولأحمد: ولا يخالطوهم، وللإسماعيلي ولا يكون بينهم وبنه شيء وهي أعم "حتى يسلموا" بضم فسكون فكسر مخففا "إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم".
قال الحافظ: يختلج في خطري أن قوله، يعني: المحصب، إلى هنا من قول الزهري أدرجه في الخبر، فقد رواه شعيب في هذا الباب، يعني باب نزول النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة من كتاب الحج وإبراهيم ابن سعد كما للبخاري في السيرة، ويونس عنده في التوحيد، كلهم عن ابن شهاب مقتصرين على المرفوع منه إلى قوله: على الكفر، ومن ثم لم يذكر مسلم في روايته شيئا من ذلك. ا. هـ، وبه تعلم تسامح المصنف في العزو لهما.
"و" في الصحيحين أيضا "عن ابن عباس، قال: ليس التحصيب" النزول في المحصب "بشيء إنما هو منزل نزله رسول الله -صلى الله عليه وسلم، أي: ليس التحصيب من أمر المناسك الذي يلزم فعله" إنما هو منزل نزله للاستراحة بعد الزوال، فصلى به الظهرين والعشاءين.
وفي الصحيحين أيضًا عن عائشة: نزل الأبطح ليس بسنة إنما نزله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه كان أسمح لخروجه إذا خرج، أي: أسهل لتوجهه إلى المدينة ليستوعب في ذلك البطيء والمتعذر، ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة.(11/468)
النزول به مستحبا اتباعا له، لتقريره على ذلك. وقد فعله الخلفاء بعده، كما في مسلم.
وعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب، ثم ركب إلى البيت فطاف به، رواه البخاري.
وهذا هو طواف الوداع، ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح: وهو قول أكثر العلماء.
وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء بتركه.
واختلف في المرأة إذا حاضت بعدما طافت طواف الإفاضة، هل عليها طواف الوداع أم لا؟ وكان ابن عباس يرخص لها أن تنفر إذا أفاضت وكان ابن
__________
"لكن لما نزل -صلى الله عليه وسلم- به كان النزول به مستحبا اتباعا له لتقريره" أبا رافع "على ذلك، وقد فعله الخلفاء بعده كما في مسلم" عن ابن عمر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح، وفيه أيضا عن ابن عمر أنه كان يرى التحصيب سنة.
قال نافع: وقد فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده.
قال الحافظ: فالحاصل أن من نفى أنه سنة كعائشة وابن عباس أراد أنه ليس من المناسك، فلا يلزم بتركه شيء، ومن أثبته كابن عمر أراد دخوله في عموم التأسي بأفعاله -صلى الله عليه وسلم- لا الإلزام بذلك.
"وعن أنس: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد رقدة بالمحصب" متعلق بقوله: صلى، وقوله: ثم رقد، عطف عليه "ثم ركب إلى البيت فطاف به" للوداع، فيستحب أن يصلي به الأربع صلوات ثم يرقد بعض الليل وإن لم يكن ذلك من المناسك، إذ لا يخلو شيء من أفعاله -صلى الله عليه وسلم- عن حكمة "رواه البخاري".
وعنده نحوه من حديث ابن عمر: "وهذا هو طواف الوداع" بفتح الواو ويسمى طواف الصدر بفتح الدال؛ لأنه يصدر عن البيت، أي: يرجع إليه.
"ومذهب الشافعي أنه واجب يلزم بتركه دم على الصحيح وهو قول أكثر العلماء، وقال مالك وداود: هو سنة لا شيء" يلزم "بتركه" لا دم ولا غيره.
"واختلف في المرأة إذا حاضت بعد ما طافت طواف الإفاضة" الذي هو الركن "هل عليها طواف الوداع أم لا؟ " وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟، كما في الفتح.
وفي البخاري ومسلم عن ابن عباس: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف(11/469)
عمر يقول في أول أمره: إنها لا تنفر، ثم قال في آخر أمره: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن. رواه الشيخان.
وعن عائشة: أن صفية بنت حيي حاضت بعد أن أفاضت، فذكر ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم
__________
عن الحائض.
وفي مسلم عن ابن عباس: كان الناس ينصرفون من كل وجه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت".
"وكان ابن عباس يرخص لها" لفظ الصحيحين عن طاوس عن ابن عباس، قال: رخص للحائض.
وفي النسائي عنه: رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحائض "أن تنفر" بكسر الفاء "إذا أفاضت:" طافت للإفاضة قبل أن تحيض.
"وكان ابن عمر يقول في أول أمره: أنها لا تنفر" حتى تطهر وتطوف للوداع "ثم قال في آخر أمره" قبل موته بعام، وهذا نقل بالمعنى، فلفظ الصحيح قال، أي طاوس: وسمعت ابن عمر يقول: إنها لا تنفر، ثم سمعته يقول بعد: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن، رواه الشيخان".
قال الحافظ: هذا من مراسيل الصحابة، فإن ابن عمر لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- يوضح ذلك ما رواه النسائي والطحاوي عن طاوس؛ أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر، فقال: إن عائشة كانت تذكر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رخص لهن وذلك قبل موته بعام.
"وفي رواية الطحاوي: قبل موت ابن عمر بعام".
"ولابن أبي شيبة؛ أن ابن عمر كان يقيم على الحائض سبعة أيام حتى تطوف طواف الوداع".
قال الشافعي: كأن ابن عمر سمع الأمر بالوداع ولم يسمع بالرخصة أولا، ثم سمع الرخصة فعمل بها".
"وعن عائشة: أن صفية بنت حيي" أم المؤمنين "حاضت" في أيام منى ليلة النفر من منى كما في رواية للشيخين عن عائشة، وذلك "بعد أن أفاضت" يوم النحر، كما في رواية البخاري.
"فذكر" كذا في النسخ بالبناء للمفعول، وفي الصحيح: فذكرت بسكون الراء وضم التاء، أي قالت عائشة: فذكرت "ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم" ففي رواية للبخاري: فقلت: يا رسول الله إنها حائض "فقال: "أحابستنا هي"؟ بهمزة الاستفهام "فقالوا" ولفظ الموطأ: فقيل: "إنها قد(11/470)
فقال: "أحابستنا هي"؟ قالوا: إنها قد أفاضت، قال: "فلا إذا".
ومعنى: "أحابستنا هي"؟ أي أمانعتنا من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه؟ ظنا منه -صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها، فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر وتطوف وتحل الحل الثاني.
وفي رواية: فحاضت صفية، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض. فقال: "أحابستنا هي"؟ الحديث.
وهذا مشكل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول: "أحابستنا هي"؟ 0 وإن كان ما علم، فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني؟
__________
أفاضت" قائل ذلك نساؤه، كما في رواية للشيخين عن عائشة، أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم: إن صفية حاضت، فقال: "لعلها تحبسنا ألم تكن طافت معكن"؟، قلن: بلى، ومنهن صفية كما للشيخين أيضًا عن عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لصفية: "إنك لحابستنا أما كنت طفت يوم النحر"؟، قالت: بلى "قال: "فلا" حبس علينا "إذا" بالتنوين، أي: إذا أفاضت؛ لأنها فعلت ما وجب عليها، فهذا نص في أنه ليس على الحائض طواف وداع.
وما في أبي داود والنسائي مرفوعا، أنه عليها، أجاب عنه الطحاو بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا وهو في الصحيحين وغيرهما بطرق عديدة.
وبحديث أم سليم في الصحيحين أيضا "ومعنى: "أحابستنا هي"؟، أي: أمانعتنا؟ " لأن الحبس لغة المنع "من التوجه من مكة في الوقت الذي أردنا التوجه فيه ظنا منه -صلى الله عليه وسلم- أنها ما طافت طواف الإفاضة، وإنما قال ذلك؛ لأنه كان لا يتركها ويتوجه" للمدينة "ولا يأمرها بالتوجه معه وهي باقية على إحرامها" جملة حالية "فيحتاج إلى أن يقيم حتى تطهر" بضم الهاء وفتحها "وتطوف وتحل الحل الثاني" بالطواف، ففيه أن أمير الحاج يلزمه تأخير الرحيل لأجل الحائض، وقيده مالك بيومين فقط، وفيه إكرام صفية بالاحتباس لها كما احتبس بالناس على عقد عائشة.
"وفي رواية" للبخاري عن عائشة: حججنا فأفضنا يوم النحر "فحاضت صفية، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- منها ما يريد الرجل من أهله" أي: الجماع وفيه حسن أدب عائشة في العبارة "فقلت" بضم تاء المتكلم: وهو عائشة: "يا رسول الله إنها حائض، فقال: "أحابستنا هي"؟ ... الحديث، وهذا مشكل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- إن كان علم أنها طافت طواف الإفاضة فكيف يقول:(11/471)
ويجاب عنه: بأنه -صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن، فكان بانيا على أنها قد حلت، فلما قيل له: إنها حائض جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك، فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى.
وقالت عائشة: يا رسول الله، أتنطلقون بحج وعمرة وأنطلق بحج؟ فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. رواه الشيخان.
وفي رواية لمسلم أنها وقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالكعبة والصفا والمروة، ثم قال لها -يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا"، فقالت: يا رسول الله، إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت
__________
"أحابستنا هي"؟ وقد قال: فلا إذا "وإن كان ما علم فكيف يريد وقاعها قبل التحلل الثاني" إذ هو لا يجوز "ويجاب عنه بأنه -صلى الله عليه وسلم- ما أراد ذلك" أي: الوقاع "منها إلا بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة فأذن لهن".
وفي نسخة لها: أي لنسائه ومنهن صفية "فكان بانيا على أنها قد حلت" فلذا أراد وقاعها "فلما قيل له: إنها حائض، جوز أن يكون وقع لها قبل ذلك حتى منعها من طواف الإفاضة، فاستفهم عن ذلك" من نسائه ومنهن صفية "فأعلمته عائشة أنها طافت معهن، فزال عنه ما خشيه من ذلك. انتهى" وهذا من الفتح.
"وقالت عائشة: يا رسول الله أتنطلقون بحج؟ " منفردة عن عمرة "وعمرة" منفردة عن حج "وأنطلق" أنا "بحج" غير مفرد، وإلا فهي كانت قارنة على الأصح كا سبق "فأمر" أخاها "عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التنعيم" تطييبا لقلبها "فاعتمرت" منه "بعد الحج" في ذي الحجة "رواه الشيخان" من حديث جابر.
"وفي رواية لمسلم" عن جابر "أنها" أهلت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت، فقال لها النبي -صلى الله عليه وسلم: "أهلي بالحج"، ففعلت و"وقفت المواقف كلها حتى إذا طهرت" فتح الهاء وضمها وسكون التاء "طافت بالكعبة و" سعت بين "الصفا والمروة" أو سماه طوافا مجازا "ثم قال لها، يعني: رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" فهذا صريح في أن عمرتها لم تبطل، وأنها لم تخرج منها بل صارت قارنة "فقالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي" حرجا من أجل "أني لم أطف بالبيت حتى حججت" فأتيت بطواف واحد "قال:(11/472)
حتى حججت، قال: "فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة.
زاد في رواية: وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا، إذا خويت شيئا تابعها عليه.
وقد كانت عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بالعمرة، فحاضت فأمرها فأدخلت عليها الحج، وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها بحج وعمرة مستقلتين، فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن، وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها، فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها.
ثم ارتحل -صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورا- وهي عند باب شبيكة، بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان.
__________
"فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم"، وذلك ليلة الحصبة" بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين وفتح الموحدة، أي: ليلة المبيت بالمحصب.
"زاد في رواية" لمسلم عن جابر: "وكان -صلى الله عليه وسلم- رجلا سهلا" قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] "إذا هويت" بفتح فكسر ففتح أحبت "شيئا" ولا نقض فيه من جهة الدين كطلبها الاعتمار "تابعها" أي: وافقها "عليه" حسن عشرة "وقد كانت" أي: صارت "عائشة قارنة؛ لأنها كانت قد أهلت بعمرة فحاضت" بسرف "فأمرها فأدخلت عليها الحج وصارت قارنة، وأخبرها أن طوافها بالبيت و" سعيها "بين الصفا والمروة قد وقع عن حجها وعمرتها" بقوله: "قد حللت من حجك وعمرتك جميعا" "فوجدت في نفسها أن يرجع صواحباتها:" ضرائرها "بحج وعمرة مستقلتين" كما قال في بعض طرق الحديث: أيرجع صواحبي بحجة وعمرة وأرجع أنا بحجة؟ "فإنهن كن متمتعات ولم يحضن ولم يقرن وترجع هي بعمرة في ضمن حجتها" ليس لها عمل ظاهر "فأمر أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبا لقلبها" لا عوضا عن عمرتها "ثم ارتحل -صلى الله عليه وسلم- راجعا إلى المدينة، فخرج من كدى -بضم الكاف مقصورًا- وهي عند باب شبيكة بقرب شعب الشاميين من ناحية قعيقعان" لجبل المعروف، زاد الفتح: وكان نشأ هذا الباب عليها في القرن السابع، وقد اختلف في ضبط كدي وكداء، فالأكثر على أن العليا التي دخل منها بالفتح والمد، والسفلى التي خرج منها بالضم والقصر، وقيل: بالعكس.
قال النووي: وهو غلط.(11/473)
واختلف في المعنى الذي لأجله خالف -صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه، فقيل: ليتبرك به كل من في طريقته، وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان، وعكسه الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها. وقيل غير ذلك.
وفي صحيح مسلم وغيره، من حديث ابن عباس: أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي ركبا
__________
وحكى الحميد عن أبي العباس العذري أن بمكة موضعا ثالثا يقال له: كدى بالضم والتصغير يخرج منه إلى جهة اليمن.
قال المحب الطبري: حققه العذري عن أهل اليمن بمكة، قال: وقد بني عليها باب مكة الذي يدخل منه أهل اليمن.
"واختلف في المعنى الذي لأجله خالف -صلى الله عليه وسلم- بين طريقيه" حيث دخل من العليا التي هي كداء بالفتح والمد، وخرج من السفلى التي هي كدي بالضم والقصر كما في الصحيحين وغيرهما.
"فقيل: ليتبرك به كل من في طريقيه" بالتثنية "وقيل: الحكمة في ذلك المناسبة لجهة العلو عند الدخول لما فيه من تعظيم المكان" المدخول إليه "وعكسه" في الخروج "الإشارة إلى فراقه، وقيل: لأن إبراهيم لما دخل مكة دخل منها، وقيل: غير ذلك" فقيل: لأنه -صلى الله عليه وسلم- خرج منها مختفيا في الهجرة، فأراد أن يدخلها ظاهرا، وقيل: لأن من جاء منها كان مستقبلا للبيت ويحتمل؛ لأنه دخل منها يوم الفتح فاستمر على ذلك، وسبب ذلك قول أبي سفيان بن حرب: لا أسلم حتى أرى النخيل تطلع من كداء، قال العباس: فقلت له: ما هذا؟، قال: شيء طلع بقلبي أن الله لا يطلع الخيل هناك أبدا، قال: فذكرت أبا سفيان بذلك لما دخل -صلى الله عليه وسلم- من كداء، فذكره.
وللبيهقي عن ابن عمر قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر: "كيف قال حسان؟ "، فأنشد:
عدمت بنيتي إن لم تروها ... تثير النقع مطلعها كداء
فتبسم وقال: "أدخلوها من حيث قال حسان"، قاله في الفتح.
"وفي صحيح مسلم وغيره" كأبي داود والنسائي "من حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- لقي ركبا بالروحاء" بفتح الراء وسكون الواو وحاء مهملة ممدودة.
قال عياض في المشارق: من عمل الفرع بينها وبين المدينة نحو أربعين ميلا، وفي مسلم: ستة وثلاثون، وفي كتاب ابن أبي شيبة: ثلاثون ميلا، زاد في رواية أبي دود: فسلم عليهم قبل(11/474)
بالروحاء، فقال: من القوم؟ فقالوا: المسلمون فقالوا: من أنت قال: "رسول الله"، فرفعت امراة صبيا لها من محفة فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر".
ولما وصل -صلى الله عليه وسلم- لذي الحليفة بات بها. قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن وتعقبه. والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا.
فلما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا
__________
قوله: "فقال: "من القوم"؟، فقالوا:" نحن "المسلمون، فقالوا: من أنت؟، قال: "رسول الله" هكذا في مسلم وغيره، فما في نسخ: نحن المسلمون يا رسول الله خطأ نشأ عن سقط.
قال عياض: يحتمل أن هذا اللقاء كان ليلا فلم يعرفوه -صلى الله عليه وسلم، ويحتمل كونه نهارا لكونهم لم يروه قبل ذلك، فأسلموا في بلادهم ولم يهاجروا قبل ذلك "فرفعت امرأة صبيا لها من محفة" بكسر الميم كما جزم به النووي وغيره.
وحكى عياض عن المشارق الكسر والفتح بلا ترجيح شبه الهودج إلا أنه لا قبة عليها.
"فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟، قال: "نعم" له حج، وزادها على السؤال: "ولك أجر" ترغيبا لها.
قال عياض: وأجرها فيما تتكلفه من أمره في ذلك وتعليمه وتجنيبه ما يجتنب المحرم.
وقال عمر: وكثيرون يثاب الصبي وتكتب حسناته دون السيئات.
"ولما وصل -صلى الله عليه وسلم- لذي الحليفة بات بها" حتى يصبح فيدخل المدينة كما في الصحيح.
عن ابن عمر: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا خرج إلى مكة يصلي في مسجد الشجرة، وإذا رجع صلى بذي الحلفة ببطن الوادي وبات حتى يصبح.
"قال بعضهم: إن نزوله لم يكن قصدًا، وإنما كان اتفاقيا، حكاه القاضي إسماعيل في أحكامه عن محمد بن الحسن" الشيباني "وتعقبه" بأنه ليس اتفاقيا "والصحيح أنه كان قصدا لئلا يدخل المدينة ليلا" فيفجأ الناس أهاليهم على أهبة، فقد يرى منها ما يقبح عند اطلاعه فيكون سببا إلى بغضها وفراقها، وقد جاء أنه -صلى الله عليه وسلم- نهى أن يطرقوا النساء ليلا، فطرق رجلان أهلهما فكلاهما وجد ما يكره.
"ولما رأى المدينة كبر ثلاثا وقال: "لا إله إلا الله وحده" حال، أي: منفرد "لا شريك له" تأكيد لوحده، إذ المتصف بها لا شريك له "له الملك" السلطان والقدرة وأصناف(11/475)
"حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده".
ثم دخل المدينة نهارًا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين- وهو مكان معروف، وكل من المعرس والشجرة التي بات بها -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة. انتهى ملخصا من فتح الباري وغيره، والله أعلم.
وأما عمره -صلى الله عليه وسلم- والعمرة في اللغة: الزيارة.
ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما: أنها واجبة كالحج، والمشهور عن
__________
المخلوقات "وله الحمد" زاد في رواية للطبراني: "يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير" "وهو على كل شيء قدير آيبون" بالرفع خبر محذوف، أي: نحن راجعون إلى الله، وليس المراد الإخبار بمحض الرجوع فإنه تحصيل الحاصل، بل الرجوع في حالة مخصوصة وهي تلبسهم بالعبادة المخصوصة والاتصاف بالأوصاف المذكورة "تائبون" من التوبة وهي الرجوع عما يذم شرعًا، إلى ما يحمد شرعا قاله تواضعا أو تعليما لأمته، نحن "عابدون" نحن "ساجدون لربنا حامدون" كلها رفع بتقدير المبتدأ.
وقوله: لربنا متعلق بساجدون أو بجميع الصفات على طريق التنازع "صدق الله وعده" فيما وعد من إظهار دينه وغير ذلك، وهذا في سفر العزو ومناسبته للحج والعمرة قوله: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27] "ونصر عبده" محمدا -صلى الله عليه وسلم- "وهزم الأحزاب وحده" من غير سب من الآدميين، هذا معنى الحقيقة، فإن العبد وفعله خلق لربه والكل منه وإليه، ولو شاء أن يبيد الكفار بلا قتال لفعل "ثم دخل المدينة نهارا من طريق المعرس -بفتح الراء المشددة وبالمهملتين-" العين والسين "وهو مكان معروف" على طريق من أراد الوصول إلى مكة من المدينة وهو أسفل من ذي الحليفة، فهو أقرب إلى المدينة منها "وكل من المعرس والشجرة التي بات بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذهابه إلى مكة على ستة أميال من المدينة" لكن المعرس أقرب كما في الفتح. "انتهى ملخصًا من فتح الباري".
"وغيره" جميع ما ذكره في مبحث الحج والذي من غيره قليل بالنسبة لما جاء به منه "والله أعلم" بالحق فيما اختلف فيه من أمور الحج.
"وأما عمره" بضم ففتح: جمع عمرة "صلى الله عليه وسلم" فأربع، فترك جواب أما اكتفاء بما بعده "والعمرة" بضم العين مع ضم الميم وإسكانها وبفتح العين، وإسكان الميم "في اللغة الزيارة" وقيل: إنها مشتقة من عمارة المسجد الحرام، وقيل: هي لغة القصد إلى مكان عامر.
"ومذهب الشافعي وأحمد وغيرهما" من أهل الأثر "أنها واجبة كالحج" مرة في العمر،(11/476)
المالكية أنها تطوع وهو قول الحنفية.
وقد اعتمر -صلى الله عليه وسلم- أربع عمر، ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة قال: سألت أنسا: كم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ قال: حج حجة واحدة، واعتمر أربع عمر، عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته، وعمرة
__________
لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] .
قال ابن عباس: إنها لقرينتها في كتاب الله، أي: الفريضة، وكان الأصل قرينته، أي: الحج، وأجيب بأن دلالة الاقتران ضعيفة، وبأن المراد الإتمام بعد الشروع ولا نزاع فيه، وبأن الشعبي قرأ: والعمرة بالرفع، ففصل عطف العمرة على الحج فارتفع الإشكال.
وأما حديث زيد بن ثابت مرفوعا: "الحج والعمرة فريضتان"، راه الدارقطني والحاكم.
وقال الصحيح عن زيد بن ثابت من قوله: فضعيف فيه إسماعيل بن مسلم ضعفوه.
"والمشهور عن المالكية أنها تطوع" أي: سنة مؤكدة "وهو قول الحنفية" لحديث الحجاج بن أرطأة عن محمد بن المنكدر، عن جابر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن العمرة أواجبة هي؟، قال: لا وأن تعتمر فهو أفضل، أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح.
وانتقد بأن الحجاج ضعيف، وأجاب الكمال بن الهمام بأنه لا ينزل عن درجة الحسن وهو حجة اتفاقا، وإن قال الدارقطني: لا يحتج بالحجاج، فقد اتفقت الروايات عن الترمذي على تحسين حديثه هذا ولم ينفرد به، فقد رواه ابن جريج عن ابن المنكدر عن جابر وله طريق آخر عن جابر عند الطبراني في الصغير والدارقطني، وضعفه يحيى بن أيوب، وله شاهد عن أبي هريرة مرفوعا: الحج جهاد والعمرة تطوع، وأخرجه ابن قانع.
وقال ابن مسعود: الحج فريضة والعمرة تطوع، أخرجه ابن أبي شيبة. انتهى ملخصا.
"وقد اعتمر -صلى الله عليه سلم- أربع عمر" هذا دليل جواب أما، ولو عبر بالفاء كان الجواب.
"ففي الصحيحين وسنن الترمذي وأبي داود عن قتادة، قال: سألت أنسا كم حج رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟، قال: حجة واحدة" أي: بعد الهجرة، وأما قبلها فحج مرات كما أول الحج "واعتمر أربع عمر عمرة في ذي القعدة" التي تسمى عمرة القضاء "وعمرة الحديبية" التي صد عنها باتفاق، وكان في ذي القعدة أيضا كما في الصحيحين بطرق عن أنس، لفظ بعضها: أربع عمرة الحديبية في ذي القعدة حيث صده المشركون وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة حيث صالحهم وعجبت ممن وقف على هذا، وقال: قوله: عمرة في ذي القعدة هي التي صد عنها فإنه يكون عين قوله بعده وعمرة الحديبية، إذ هي التي صد عنها باتفاق "وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة" بكسر الجيم وسكون المهملة وخفة الراء وبكسر العين وشد الراء "إذ" أي:(11/477)
الجعرانة إذ قسم غنيمة حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح.
وفي رواية الصحيحين: اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته: عمرة الحديبية -أو زمن الحديبية- في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
وعن محرش الكعبي: أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرا، فدخل مكة ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس
__________
حين "قسم غنيمة" بالنصب معمول قسم من غير تنوين لإضافته إلى "حنين، هذا لفظ رواية الترمذي وقال: حسن صحيح".
"وفي رواية الصحيحين" عن قادة أن أنس بن مالك أخبره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اعتمر أربع عمر، كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته عمرة الحديبية أو زمن الحديبية" شك بعض الرواة في اللفظ الذي قاله، وإن اتحد المعنى "في ذي القعدة" وهي التي صد عنها، ويأتي وجه تسميتها عمرة للمصنف "وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة" هي عمة القضاء التي بدأ بها في رواية الترمذي "وعمرة من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة و" الرابعة "عمرة مع حجته" في ذي الحجة، واستشكل قوله: إلا التي مع حجته، بأن الصواب حذفه؛ لأنه عد التي مع حجته فكيف يستثنيها، وأجاب عياض بأن الرواية صواب، وكأنه قال في ذي القعدة منها ثلاث، والرابعة عمرة في حجته، أو المعنى كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته كانت في ذي الحجة.
"وعن محرش" بضم الميم وفتح المهملة، وقيل: إنها معجمة وكسر الراء بعدها معجمة، قال في الإصابة بكسر الراء الثقيلة، وضبطه ابن ماكولا تبعا لهشام بن يوسف ويحيى بن معين، ويقال: بسكون الحاء المهملة وفتح الراء، وصوبه ابن السكن تبعا لابن المديني وهو ابن سويد ابن عبد الله بن مرة الخزاعي الكعبي عداده في أهل مكة.
وقال عمرو بن علي الفلاس: أنه لقي شيخا بمكة اسمه سالم، فاكترى منه بعيرا إلى منى، فسمعته يحدث بحديث محرش، فقال: هو جدي وهو محرش بن عبد الله الكعبي، فقلت له ممن سمعته، فقال: حدثني به أبي وأهلنا. انتهى.
وقد تحرر بجمعه الخزاعي "الكعبي" أنه منسوب إلى كعب بن عمرو بطن من خزاعة "أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج من الجعرانة ليلا معتمرًا" زاد في رواية النسائي: فنظرت إلى ظهره كأنه سبيكة فضة "فدخل مكة ليلا فقضى عمرته" أي: فعلها وأتمها نحو: فإذا قضيت الصلاة "ثم خرج من(11/478)
من الغد، خرج في بطن سرف، حتى جاء مع الطريق، طريق جمع ببطن سرف، فمن أجل ذلك خفيت عمرته على الناس، رواه الترمذي وقال: حديث غريب.
وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج، رواه أبو داود.
وعن عروة بن الزبير قال: كنت أنا وابن عمر مستندين إلى حجرة عائشة، وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن، قال: فقلت: يا أبا عبد الرحمن، اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب؟ قال: نعم، فقلت لعائشة: أي أمتاه، ألا تسمعين ما يقول أبو
__________
ليلته فأصبح بالجعرانة كبائت، فلما زالت الشمس من الغد" لليلة المذكورة "خرج في بطن سرف حتى جاء مع الطريق طريق جمع بدل من الطريق "ببطن سرف" بفتح فكسر ففاء "فمن أجل ذلك خفيت عمرته" هذه "على الناس" وكانت سنة فتح مكة "رواه الترمذي وقال: حديث غريب" في الإصابة.
قال الترمذي: حسن غريب ولا يعرف لمحرش عن النبي -صلى الله عليه وسلم- غيره وهو عند أبي داود والنسائي وغيرهما بسند حسن.
"وعن ابن عمر قال: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم" زاد في رواية أحمد: عمرة كلها "قبل أن يحج، رواه أبو داود" وهو في صحيح البخاري عن عكرمة بن خالد أنه سأل ابن عمر عن العمرة قبل الحج، فقال: لا بأس.
قال عكرمة: قال ابن عمر: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن يحج، ولا خلاف في جواز ذلك، قاله أبو عمر.
"وعن عروة بن الزبير، قال: كنت أنا وابن عمر" زاد في رواية: في المسجد "مستندين إلى حجرة عائشة وإنا لنسمع ضربها بالسواك تستن" تتسوك "قال:" عروة: "فقلت: يا أبا عبد الرحمن" كنية ابن عمر "اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب؟، قال: نعم" اعتمر فيه.
وفي رواية للشيخين أيضا عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة المسجد، فإذا ابن عمر جالس إلى حجرة عائشة والناس يصلون الضحى في المسجد، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، فقال له عروة: يا أبا عبد الرحمن كم اعتمر -صلى الله عليه وسلم؟، فقال: أربع عمر، إحداهن في رجب، فكرهنا أن نكذبه ونرد عليه، وسمعنا استنان عائشة في الحجرة، قال عمرة "فقلت لعائشة: أي" نداء للقريب "أمتاه" بضم الهمزة وشد الميم ففوقية فألف فهاء مضمومة وهذا لفظ مسلم.
وفي البخاري: يا أماه، قال الحافظ: كذا للأكثر بسكون الهاء، ولأبي ذر: يا أمه بسكون الهاء أيضا بغير ألف، وهذا بالمعنى الأخص؛ لأنها خالته، وبالمعنى الأعم؛ لأنها أم المؤمنين "ألا تسمعين ما يقول أبو عبد الرحمن؟، قالت" عائشة: "وما يقول؟، قلت: يقول: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم(11/479)
عبد الرحمن؟ قالت: وما يقول؟ قلت: يقول: اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- في رجب، فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، لعمري ما اعتمر في رجب، وما اعتمر من عمرة إلا وأنا معه. قال عروة: وابن عمر يسمع، فما قال: لا ولا نعم، سكت.
وفي رواية أبي داود عن عروة عن عائشة قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين في ذي القعدة، وعمرة في شوال.
وفي رواية له عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
__________
في رجب" وهذا يدل على أن عندهم علمًا، فسؤالهم امتحان ففيه جواز الامتحان، لكنه مذهب صحابي، وفي الاحتجاج به خلاف، وكان مالك إذا عرف أنه سؤال امتحان لا يجيب، ولا يحتج له بحديث أخبروني بشجرة لا يسقط ورقها؛ لأن ذلك من الشارع تعليم لما اشتمل عليه من الأحكام، وترجم عليه أبو نعيم باب إلقاء العالم المسألة على طلبته ليختبر أذهانهم، قاله أبو عبد الله الأبي، لكن في قوله: مذهب صحابي نظر، إذ هو كما رأيت إنما فعله عروة ومجاهد وهما تابعيان اتفاقا فلا حجة فيه بلا خلاف "فقالت: يغفر الله لأبي عبد الرحمن" ذكرته بكنيته تعظيما له، ودعت له إشارة إلى أنه نسي "لعمري ما اعتمر" صلى الله عليه وسلم "في رجب" بالتنوين.
"وما اعتمر من عمرة إلا وأنه" أي: ابن عمر "لمعه" حاضر.
وفي رواية للبخاري: ما اعتمر إلا وهو شاهده، وما اعتمر في رجب قط، وقالت ذلك مبالغة في نسبته إلى النسيان، وإنما أنكرت عليه قوله: إحداهن في رجب "وابن عمر يسمع" كلامها "فما قال: لا، ولا نعم سكت" وسكوته يدل على أنه اشتبه عليه أو نسي أو شك، وبهذا أجيب عما استشكل من تقديم قول عائشة النافي على قول ابن عمر المثبت، وهو خلاف القاعدة المقررة، وهذا الحديث في الصحيحين واللفظ لمسلم.
"وفي رواية أبي داود عن عروة، عن عائشة" أنها "قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر عمرتين في ذي القعدة" هما عمرة القضية والتي قبلها "وعمرة في شوال" يعني: عمرة الجعرانة، فهذا مخالف لقول أنس: كلهن في ذي القعدة، وجمع الحافظ بأن ذلك وقع في آخر شوال وأول ذي القعدة، قال: ويؤيده ما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح عن مجاهد عن عائشة: لم يعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا في ذي القعدة.
"وفي رواية له" أي: لأبي داود وكذا لأحمد "عن مجاهد قال: سئل ابن عمر: كم اعتمر النبي -صلى الله عليه وسلم؟، قال: عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع" ففي هذا أن اختلافهما في عدد العمرة وفي السابق(11/480)
عمرتين، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: لقد علم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاثا سوى التي قرنها بحجة الوداع.
وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع. والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك.
والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان منفردا، وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا، وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم يدل على أنه كان قارنا؛ لأنه لم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمر مع حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي.
واحتاج بعضهم إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه -صلى الله عليه وسلم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه.
__________
في الشهر.
قال الحافظ: ويمكن تعدد السؤال بأن يكون ابن عمر سئل أولا عن العدد، فأجاب، فردت عليه عائشة فرجع إليها، فسئل مرة ثانية، فأجاب بموافقتها، ثم سئل عن الشهر، فأجاب بما في ظنه.
"وقد ذكرت الاختلاف فيما كان عليه السلام محرما به في حجة الوداع والجمع بين ما اختلف فيه من ذلك، والمشهور عن عائشة أنه عليه السلام كان مفردا وحديثها هذا قد يشعر بأنه كان قارنا" لا سيما قولها سوى التي قرنها بحجة الوداع، "وكذا ابن عمر قد أنكر على أنس لكونه" بزيادة اللام في المفعول "قال: إنه عليه السلام كان قارنا مع أن حديثه هذا المتقدم" لم يقدم المصنف، ذكر عن ابن عمر صريحا، وقد قدمته عن الصحيحين، بلفظ: اعتمر أربع عمر، والمصنف أخذ هذا من الفتح والإشارة في لامه عائدة لمذكور في البخاري الذي يتكلم عليه.
أما المصنف فلم يذكره وذكر كلام الفتح فأوهم، وإنما دل حديث ابن عمر على أنه قارن "لأنه لم ينقل أنه عليه السلام اعتمر بعد حجته، ولم يكن متمتعا؛ لأنه اعتذر عن ذلك بكونه ساق الهدي" فلم يبق إلا أنه قارن "واحتاج بعضهم" هو ابن بطال كما في الفتح "إلى تأويل ما وقع عن عائشة وابن عمر هنا، فقال: إنما يجوز نسبة العمرة الرابعة إليه -صلى الله عليه وسم- باعتبار أنه أمر الناس بها وعملت بحضرته، لا أنه -صلى الله عليه وسلم- اعتمرها بنفسه" وهذا بناء على الأصح عند مالك(11/481)
وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته -صلى الله عليه وسلم- من الجمع استغنيت عن هذا التأويل المتعسف.
قال بعض العلماء المحققين: وفي عدهم عمرة الحديبية التي صد عنها -صلى الله عليه وسلم- ما يدل على أنها عمرة تامة. وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور: أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية، ولو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضى قرشيا فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة.
وأما حديث أبي داود عن عائشة: أنه اعتمر في شوال، فإن كان محفوظا فلعله يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكن إنما أحرم في ذي القعدة.
__________
والشافعي أنه كان مفردًا "وأنت إذا تأملت ما تقدم من أقوال الأئمة في حجته -صلى الله عليه وسلم- من الجمع" بأن الإفراد إخبار عن أول أمره والقران إخبار عما استقر عليه "استغنيت عن هذا التأويل المتعسف" لأن خلاف الظاهر، لكنه مبني على الأصح عند الشافعية، والمالكية أنه حج مفردا، ومر أن الإمام الشافعي أول ما ورد بخلافه على أمره لغيره كبني الأمير المدينة، فما هنا عن عائشة وابن عمر من ذلك فلا تعسف فيه.
"قال بعض العلماء المحققين" هو ابن التين كما في الفتح "وفي عدهم" أي: الصحابة عائشة وأنس وابن عمر "عمرة الحديبية التي صد عنها -صلى الله عليه وسلم" خبر مقدم على المبتدأ، وهو "ما يدل على أنها عمرة تامة" لعل المراد من حيث الثواب؛ لأنه لم يأت من أعمالها بشيء سوى الإحرام، قاله شيخنا "وفيه إشارة إلى حجة قول الجمهور أنه لا يجب القضاء على من صد عن البيت خلافا للحنفية" زاعمين بأن عمرة القضاء إنما سميت بذلك لكونها قضاء عن التي صد عنها ولا يصح ذلك "فلو كانت عمرة القضية بدلا عن عمرة الحديبية لكانتا واحدة" والصحابة الفقهاء الفهماء عدوهما ثنتين "وإنما سميت عمر القضية والقضاء؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قاضى قريشا فيها" على أن يأتي من العام القابل يعتمر ويقيم ثلاثة أيام "لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صد عنها، إذ لو كان كذلك كانتا عمرة واحدة" وقد عدهما الصحابة اثنتين.
"وأما حديث أبي داود عن عائشة أنه اعتمر في شوال" السابق آنفا "فإن كان محفوظا فلعله" أي: الراوي عائشة "يريد عمرة الجعرانة حين خرج في شوال، ولكنه إنما أحرم في ذي(11/482)
وأنكر ابن القيم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رمضان، نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد عن أبيه عن عائشة قالت: خردت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان فأفطر وصمت وقصر وأتممت، وقال: إن إسناده حسن. لكن يمكن حمله على أن قولها: "في رمضان" متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر -صلى الله عليه وسلم- في تلك السنة من الجعرانة، لكن في ذي القعدة كما تقدم.
وأما قول ابن القيم -في الهدي أيضًا-: ولم يكن في عمره -صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة خارجًا من مكة كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها داخلا إلى مكة. وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة سنة لم ينقل عنه أحد أنه
__________
القعدة" حتى لا يخالف ما صح عنها وعن غيرها، أن عمره كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته، وقدمت نحو هذا الجمع عن الحافظ.
"وأنكر بن القيم أن يكون -صلى الله عليه وسلم- اعتمر في رمضان. نعم قد أخرج الدارقطني من طريق العلاء بن زهير" بن عبد الله الأزدي الكوفي ثقة، روى له النسائي "عن عبد الرحمن بن الأسود بن زيد" بن قيس النخعي من رجال الجميع "عن أبيه" الأسود الفقيه المخضرم، المكثر، التابعي الكبير، مات سنة أربع أو خمس وسبعين "عن عائشة، قالت: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في عمرة في رمضان، فأفطر وصمت وقصر وأتممت" الرباعية، فلم ينهني، فدل على جواز الإتمام والصوم في السفر.
"وقال" الدارقطني: "إن إسناده حسن".
وقال ابن القيم: إنه غلط؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يعتمر في رمضان، نقله الحافظ وأجاب، وتبعه المصنف بقوله: "لكن يمكن حمله على أن قولها: في رمضان متعلق بقولها: خرجت، ويكون المراد سفر فتح مكة، فإنه كان في رمضان، واعتمر عليه السلام في تلك السنة من الجعرانة" بعد الفتح بعدما غزا حنينا والطائف، ثم قسم غنائم حنين ثم اعتمر "لكن في ذي القعدة كما تقدم" قريبا، زاد الحافظ: وقد رواه الدارقطني بإسناد آخر إلى العلاء بن زهير، فلم يقل في الإسناد عن أبيه ولا قال فيه في رمضان. انتهى.
"وأما قول ابن القيم في الهدي أيضا: لم يكن في عمره -صلى الله عليه وسلم- عمرة واحدة" حال كونه "خارجا من مكة" إلى الحل، ثم يدخل مكة بعمرة "كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عمره كلها" حال كونه "داخلا إلى مكة، وقد أقام بمكة بعد الوحي ثلاث عشرة(11/483)
اعتمر خارجا من مكة في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة لا عمرة من كان بها، فيخرج إلى الحل ليعتمر. ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة وحدها. انتهى.
فيقال عليه: بعد أن فعلته عائشة بأمره، فدل على مشروعيته.
وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سرين قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم.
ومن طريق عطاء قال: من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها، فليخرج إلى التنعيم أو إلى الجعرانة فليحرم منها. فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء. والله أعلم.
__________
سنة لم ينقل عنه أحد أنه اعتمر خارجا من مكة" إلى الحل "في تلك المدة أصلا، فالعمرة التي فعلها وشرعها هي عمرة الداخل إلى مكة، لا عمرة من كان بها فيخرج إلى الحل ليعتمر" أي: يحرم، ثم يدخل مكة فيأتي بأفعال العمرة "ولم يفعل هذا على عهده أحد قط إلا عائشة. انتهى، فيقال عليه بعد أن فعلته عائشة بأمره، فقد دل على مشروعيته" فلا معنى لهذا الكلام.
"وروى الفاكهي وغيره من طريق محمد بن سيرين، قال: بلغنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقت لأهل مكة التنعيم، ومن طريق عطاء" بن أبي رباح "قال: "من أراد العمرة ممن هو من أهل مكة أو غيرها فليخرج إلى التنعيم أو الجعرانة فليحرم منها" وأفضل ذلك أن يأتي وقتا، أي: ميقاتا من مواقيت الحج، هذا بقية المروي عن عطاء.
قال الطحاوي: ذهب قوم إلى أنه لا ميقات للعمرة لمن كان بمكة إلا التنعيم، فلا يجاوز كما لا تجاوز مواقيت الحج، أي: تعلقا بحديث ابن سيرين المذكور، قال: وخالفهم آخرون، فقالوا: ميقات العمرة الحل، وإنما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- عائشة بالإحرام من التنعيم؛ لأنه أقرب الحل إلى مكة، ثم روي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة في حديثها، قالت: فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فاعتمرت منه.
قال الطحاوي عقب هذا: "فثبت بذلك أن ميقات مكة للعمرة الحل، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء" في جواز الإحرام منه، وإن كان الأفضل التنعيم لأمره لعائشة به بعد الجعرانة لإحرامه -صلى الله عليه وسلم- منها، "والله" تعالى "أعلم".(11/484)
الفهرس:
3 الباب الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الوتر
16 الباب الخامس في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الضحى
36 القسم الثاني في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل وأحكامها
36 الفصل الأول في رواتب الصلوات الخمس والجمعة
36 الفرع الأول في أحاديث جامعة لرواتب مشتركة
39 الفرع الثاني في ركعتي الفجر
46 الثالث في راتبة الظهر
48 الرابع في سنة العصر
52 الخامس في راتبة المغرب
57 السادس في راتبة العشاء
57 السابع في راتبة الجمعة
62 الفصل الثاني في صلاته عليه الصلاة والسلام العيدين
62 الأول في عدد الركعات
63 الثاني في عدد التكبير
64 الثالث في الوقت والمكان
65 الرابع في الأذان والإقامة
66 الخامس في قراءته -صلى الله عليه وسلم- في صلاتي العيدين
67 السادس في خطبته -صلى الله عليه وسلم- وتقديمه صلاة العيدين عليها
72 السابع في أكله -صلى الله عليه وسلم- يوم الفطر قبل خروجه إلى صلاة العيد
86 الباب الثاني في النوافل المقرونة بالأسباب -الفصل الأول في صلاته -صلى الله عليه وسلم- الكسوف
112 القسم الثاني في صلاته -صلى الله عليه وسلم- صلاة الاستسقاء
153 القسم الثالث في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم-في السفر
الفصل الأول في قصره -صلى الله عليه وسلم- الصلاة فيه وأحكامه -الفرع الأول في كم
153 كان عليه الصلاة والسلام يقصر الصلاة(11/485)
157 الفرع الثاني في القصر مع الإقامة
161 الفصل الثاني في الجمع الفرع الأول في جمعه -صلى الله عليه وسلم-
164 الفرع الثاني في جمعه -صلى الله عليه وسلم- بجمع ومزدلفة
165 الفصل الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- النوافل في السفر
170 الفصل الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- التطوع في السفر على الدابة
174 القسم الرابع في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- الخوف
180 القسم الخامس في ذكر صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الجنازة الفرع الأول في عدد التكبيرات
181 الفرع الثاني في القراءة والدعاء
185 الفرع الثالث في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على القبر
189 الفرع الرابع في صلاته -صلى الله عليه وسلم- على الغائب
196 النوع الثالث في ذكر سيرته -صلى الله عليه وسلم- في الزكاة
209 النوع الرابع في ذكر صيامه -صلى الله عليه وسلم-
216 القسم الأول في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شهر رمضان الفصل الأول في تخصيصه رمضان بأنواع العبادات
224 الفصل الثاني في صيامه عليه السلام برؤية الهلال
227 الفصل الثالث في صومه -صلى الله عليه وسلم- بشهادة العدل الواحد
229 الفصل الرابع فيما كان يفعله -صلى الله عليه وسلم- وهو صائم
237 الفصل الخامس في وقت إفطاره عليه الصلاة والسلام
239 الفصل السادس فيما كان -صلى الله عليه وسلم- يفطر عليه
240 الفصل السابع فيما كان يقوله -صلى الله عليه وسلم- عند الإفطار
242 الفصل الثامن في وصاله -صلى الله عليه وسلم-
254 الفصل التاسع في سحوره -صلى الله عليه وسلم-
257 الفصل العاشر في إفطاره -صلى الله عليه وسلم- في رمضان في السفر وصومه
262 القسم الثاني في صومه -صلى الله عليه وسلم- غير شهر رمضان الفصل الأول في سرده عليه الصلاة والسلام صوم أيام من الشهر وفطره أياما
264 الفصل الثاني في صومه -صلى الله عليه وسلم- عاشوراء
282 الفصل الثالث في صيامه -صلى الله عليه وسلم- شعبان
290 الفصل الرابع في صومه -صلى الله عليه وسلم- عشر ذي الحجة(11/486)
295 الفصل الخامس في صومه -صلى الله عليه وسلم- أيام الأسبوع
302 الفصل السادس في صومه -صلى الله عليه وسلم- الأيام البيض
306 النوع الخامس في ذكر اعتكافه -صلى الله عليه وسلم- واجتهاده في العشر الأخير من رمضان وتحريه ليلة القدر
322 النوع السادس في ذكر حجه وعمره -صلى الله عليه وسلم-(11/487)
المجلد الثاني عشر
تابع المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم
النوع السابع: من عباداته عليه الصلاة والسلام في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته
...
بسم الله الرحمن الرحيم
النَّوع السابع: من عباداته -عليه الصلاة والسلام في نبذة من أدعيته وذكره وقراءته
اختلف هل الدعاء أفضل, أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟
فقال الجمهور: الدعاء أفضل، وهو من أعظم العبادة، ويؤيده ما أخرجه الترمذي من حديث أنس رفعه: "الدعاء مخّ العبادة" , وقد تواترت الأخبار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالترغيب في الدعاء والحثّ عليه. وأخرج الترمذي وصحَّحه ابن حبان والحاكم
__________
"النوع السابع: من عباداته -عليه الصلاة والسلام- في نبذة"
بضم النون- شيء قليل "من أدعيته" جمع دعاء, "وذكره" ظاهره تغايرهما، وفي التحفة: الذكر لغةً كل مذكور، وشرعًا قول سيق لثناء أو دعاء، وقد يستعمل شرعًا أيضًا لكل قول يثاب قائله, "وقراءته" القرآن الكريم "اختلف هل الدعاء أفضل أم تركه والاستسلام للقضاء أفضل؟ فقال الجمهور: الدعاء أفضل وهو من أعظم العبادة".
"ويؤيده ما أخرجه الترمذي" في الدعوات، وقال: غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن لهيعة "من حديث أنس، رفعه" أي: قال: قال -صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" أي: خالصها؛ لأن الداعي يدعو الله عند انقطاع أمله عمَّا سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص, ولا عبادة فوقها, فكان مخها بهذا لاعتبار، وأيضًا لما فيه من إظهار الافتقار والتبري من الحول والقوة وهو سمة العبودية, واستشعار ذلة البشرية, ومتضمّن للثناء على الله, وإضافة الكرم والجود إليه.
"وقد تواترت الأخبار عنه -صلى الله عليه وسلم- بالترغيب في الدعاء والحثّ عليه" كقوله -صلى الله عله وسلم: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] .
رواه الأربعة وقال الترمذي: حسن صحيح, وصحَّحه أيضًا ابن حبان والحاكم عن النعمان بن بشير، وقوله: "الدعاء مفتاح الرحمة, ويدر لكم أرزاقكم، تدعون الله في ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح المؤمن, وعماد الدين, ونور السماوات والأرض"، ولأبي الشيخ والديلمي من حديث أبي موسى: "الدعاء جند من أجناد الله، يردّ القضاء بعد أن يبرم"، وللترمذي والحاكم من حديث ابن عمر: "الدعاء ينفع مما نزل وما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء" وسنده ليّن، ومع ذلك صحّحه الحاكم، كما قاله الحافظ, والأحاديث كثيرة جدًّا.
"وأخرج الترمذي" وابن ماجه وأحمد, والبخاري في الأدب المفرد, والبزار "وصحَّحه ابن حبان والحاكم" كلهم من رواية أبي صالح الخوزي -بضم الخاء المعجمة وسكون الواو، ثم(12/3)
عنه -صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل الله يغضب عليه" , وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمّ الإجابة, ولكن هَمّ الدعاء، فإن أتممت الدعاء علمت أن الإجابة معه. وفي هذا يقول القائل:
لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله ... من جود كفك ما عوَّدتني الطلبا
فالله سبحانه يحب تذلل عبيده بين يديه، وسؤالهم إياه، وطلبهم حوائجهم منه، وشكواهم منه إليه، وعياذتهم به منه، وفرارهم منه إليه. كما قيل:
__________
زاي- عن أبي هريرة, والخوزي مختلف فيه, ضعَّفه ابن معين، وقوَّاه أبو زرعة, وظنَّ ابن كثير أنه أبو صالح السمّان وليس كما قال، فقد جزم شيخه المزي بأنه الخوزي، قاله الحافظ "عنه -صلى الله عليه وسلم: "من لم يسأل" لفظ الترمذي: "إنه من لم يسأل" والضمير للشأن، أي: إنَّ الحال من لم يطل "الله" من فضله "يغضب عليه"؛ لأنه إمَّا قانط أو مستكبر, وكلّ موجب للغضب، قال الطيبي: معناه إنَّ مَنْ لم يسأله يبغضه, والمبغوض مغضوب عليه, والله يحب أن يُسْأَل. وقال ابن القيم: هذا يدل على أنَّ رضاه في مسألته وطاعته، وإذا رضي تعالى فكل خير في رضاه، كما أنَّ كل بلاء ومصيبة في غضبه, والدعاء عبادة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] ، فهو تعالى يغضب على من لم يسأله، كما أن ابن آدم يغضب على من سأله:
الله يغضب إن تركت سؤاله ... وبنى آدم حين يُسْأَل يغضب
فشتان ما بين هذين، وسحقًا لمن علق بالأثر وبعد عن العين، قال الحليمي: لا ينبغي أن يُخَلَّى يوم وليلة عن الدعاء؛ لأن الزمن يوم وليلة, وما وراءهما تكرار، فإذا كان ترك الدعاء أصلًا يوجب الغضب، فأدنى ما في تركه يومًا وليلة أن يكون مكروهًا.
"وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن هَمَّ الدعاء" لاحتياجه إلى الإخلاص والخضوع والذلة، وذلك لا يتيسر في كل وقت, "فإذا أتممت الدعاء" أتيت به على الوجه التام "علمت أن الإجابة معه" بوعد من لا يخلف الميعاد "وفي هذا يقول القائل: لو لم ترد نيل ما أرجو وآمله" بمد الهمزة وضم اللام- أرجو, "من جود كفِّك ما عودتني الطلبا" يعني: إنه اعتاد منه العطاء والإحسان متى قصده، فعلم أنه لا يريد منعه متى أتاه؛ إذ لو أراده ما أعطاه كلما أتاه, "فالله سبحانه يحب تذلل عبيده بين يديه, وسؤالهم إياه, وطلبهم حوائجهم منه, وشكواهم منه" تعالى؛ إذ هو الفاعل لما أصابهم من المكروه "إليه" سبحانه لا إلى غيره، فكأنهم يقولون: يا ربنا, أنت أصبتنا بما تعلمه، فأزله عنا "وعياذتهم:" التجاءهم واعتصامهم "به" عز وجل "منه" تعالى, "وفرارهم منه إليه" ألفاظ متقاربة المعنى "كما قيل:(12/4)
قالوا أتشكوا إليه ... ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه
وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [فاطر: 60] بأنَّ آخرها دلَّ على أنَّ المراد بالدعاء هو العبادة.
قال الشيخ تقي الدين السبكي: الأَوْلَى حمل الدعاء في الآية على ظاهره.
وأما قوله تعالى بعد ذلك {عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أنَّ الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا: فالوعيد فيه إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كفر، وأمَّا من تركه لمقصد من المقاصد فلا يتوجه إليه الوعيد المذكور، وإن كنَّا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه.
__________
قالوا: أتشكو إليه ... ما ليس يخفى عليه
فقلت ربي يرضى ... ذل العبيد لديه
ومعنى البيتين ظاهر "وقالت طائفة: الأفضل ترك الدعاء والاستسلام للقضاء، وأجابوا عن قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] "بأنَّ آخرها دلَّ على أن المراد" وفي نسخة: بدون على، أي: أفهم أن المراد "بالدعاء هو العبادة", فكأنه قال: اعبدوني أثبكم، وأجاب الأولون بأن هذا ترك للظاهر.
"و" لذا قال الشيخ تقي الدين السبكي: الأَوْلَى حمل الدعاء في الآية على ظاهره" من السؤال والطلب "وأما قوله بعد ذلك {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} فوجه الربط أنَّ الدعاء أخص من العبادة، فمن استكبر عن العبادة استكبر عن الدعاء، وعلى هذا: فالوعيد فيه بقوله: {سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "إنما هو في حق من ترك الدعاء استكبارًا، ومن فعل ذلك كفر، وأمَّا من تركه لمقصد من المقاصد" كالتسليم للقضاء, "فلا يتوجّه إليه الوعيد المذكور وإن كنَّا نرى أن ملازمة الدعاء والاستكثار منه أرجح من الترك لكثرة الأدلة الواردة فيه".
زاد الحافظ: ودلَّ قوله تعالى بعد {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين} [غافر: 65] أنَّ الإجابة منوطة بالإخلاص، وقال الطيبي في حديث الدعاء: هو العبادة، ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، يمكن أن تحمل العبادة على المعنى اللغوي: أي: الدعاء ليس إلّا إظهار غاية(12/5)
وقال القشيري في "الرسالة" اختلف أي الأمرين أَوْلَى, الدعاء أو السكوت والرضى؟ فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة، ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار، وقيل: السكوت والرضى أَوْلَى لما في التسليم من الفضل. انتهى.
وشبهتهم: إنَّ الداعي لا يعرف ما قُدِّرَ له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند.
وأجيب بأنَّه إذا اعتقد أنه لا يقع إلّا ما قدَّره الله تعالى كان إذعانًا لا معاندة, وفائدة الدعاء تحصيل الثواب بامتثال الأمر، ولاحتمال أن يكون المدعو به
__________
التذلُّل والافتقار والاستكانة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، الجملتان واردتان على الحصر، وما شرعت العبادة إلّا للخضوع للباري وإظهار الافتقار إليه، ولهذا ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر: 60] حيث عَبَّر عن عدم التذلل والخضوع بالاستكبار، ووضع عبادتي موضع دعائي, وجعل جزاء ذلك الاستكبار الصغار والهوان. انتهى، وفيه تجاسر على القرآن بقوله: عَبَّر، وبقوله: وضع, بمجرَّد احتمالٍ لاح له, فالأَوْلَى ما قبله عن السبكي.
وقال البيضاوي في شرح المصابيح: لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمَّى عبادته م حيث دلالته على أنَّ فاعله مقبل على الله, معرض عمَّا سواه, لا يرجو غيره, ولا يخاف إلّا منه, استدلَّ عليه بالآية، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به إذا أتى به المكلّف قَبِلَ منه لا محالة وترتَّب عليه المقصود, وترتَّب الجزاء على الشرط, والمسبَّب على السبب, "وقال القشيري في الرسالة: اختلف، أي: الأمرين أَوْلَى الدعاء أو السكوت والرضا" وثالثها: إن وجد في نفسه باعثًا استحبَّ الدعاء وإلّا فلا، ورابعها: إن جمع غيره معه استحب, وإن خص نفسه فلا, "فقيل: الدعاء، وهو الذي ينبغي ترجيحه لكثرة الأدلة" وسبق بعضها "ولما فيه من إظهار الخضوع والافتقار"؛ ولأنه سنته -صلى الله عليه وسلم- المتواترة عنه تواترًا معنويًّا، وقيل: السكوت والرضا أَوْلَى لما في التسليم من الفضل. انتهى".
وشبهتهم" كما قال الحافظ: "إن الداعي لا يعرف ما قُدِّرَ له، فدعاؤه إن كان على وفق القدرة" التي قدَّرها الله "فهو تحصيل الحاصل، وإن كان على خلافه فهو معاند" وكلاهما لا يجوز, "وأجيب بأنه إن اعتقد أنه لا يقع إلّا ما قدره الله تعالى كان" اعتقاده "إذعانًا لا معاندة فائدة الدعاء" حينئذ "تحصيل الثواب بامتثال الأمر" بالدعاء في الكتاب والسنة "ولاحتمال أن(12/6)
موقوفًا على الدعاء؛ لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى.
وقد أرشد -صلى الله عليه وسلم- أمته لكيفية الدعاء فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، وليصل على النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم ليدع بما شاء"، رواه الترمذي من حديث فضالة بن عبيد.
وقال -عليه السلام- في رجل يدعو: "أوجب إن ختم بآمين" رواه أبو داود.
__________
يكون المدعو به موقوفًا على الدعاء؛ لأن الله تعالى خلق الأسباب ومسبباتها. انتهى".
ما جاء به من الفتح بلا عزوٍ فيه أيضًا عن القشيري، وقالت طائفة: ينبغي أن يكون داعيًا بلسانه راضيًا بقلبه، قال: والأَوْلَى أن يقال: إذا وجد في قلبه إشارة إلى الدعاء, فالدعاء أفضل وبالعكس، قلت: القول الأَوَّل أعلى المقامات، وهو أن يدعو بلسانه ويرضى بقلبه, ولا يتأتَّى من كلّ أحد، بل ينبغي أن يخص به الكمَّل. قال القشيري: ويصح أن يقال: ما كان لله أو للمسلمين فيه نصيب فالدعاء أفضل، وما كان للنفس فيه حظّ فالسكوت أفضل. وعبَّر ابن بطال عن هذا القول لما حكاه بقوله: يستحب أن يدعو لغيره ويترك لنفسه، وعمدة من أَوَّلَ الدعاء في الآية بالعبادة أو غيرها قوله تعالى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام: 41] وإن كثيرًا من الناس يدعو فلا يستجاب له، فلو كانت على ظاهرها لم يتخلف، والجواب: إن كل داعٍ يستجاب له, لكن تتنوع الإجابة، فتارة تقع بعين ما دعا به, وتارة بعوضه.
وقد ورد في ذلك حديث صحيح أخرجه الترمذي والحاكم عن عبادة بن الصامت رفعه: "ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة إلّا آتاه الله إياها, أو صرف عنه من السوء مثلها"، ولأحمد من حديث أبي هريرة: "إما أن يعجّلها له وإمّا أن يدّخرها له"، وله عن أبي سعيد رفعه: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلّا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجّل له دعوته, وإمّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمّا أن يصرف عنه من السوء مثلها" وصحَّحه الحاكم, وهذا شرط ثانٍ للإجابة، ولها شروط أخرى، منها: أن يكون طيب المطعم والملبس؛ لحديث: "فأنى يستجاب لذلك" انتهى.
"وقد أرشد -صلى الله عليه وسلم- لكيفية الدعاء، فقال: "إذا صلى" أي: دعا "أحدكم, فليبدأ بحمد الله" وفي رواية: "بتحميد ربه" والحمد: الثناء بالجميل على الجميل، والتحميد حمد الله مرة بعد أخرى والثناء عليه" بما يتضمَّن ذلك، فهو عطف عام على خاص، فالثناء فعل يشعر بالتعظيم، كذا قاله بعضهم: وقال شيخنا: عطف تفسير, "وليصلّ على النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم ليدع بما شاء" من الدين والدنيا بما يجوز طلبه "رواه الترمذي" وأبو داود وصحَّحه ابن حبان والحاكم "من حديث فضالة" بفتح الفاء وتضم "ابن عبيد" بضم العين- الأنصاري الأوسيّ, "وقال -عليه السلام- في(12/7)
وقال: "لا يقل أحدكم إذا دعا: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة, فإن الله تعالى لا مكره له" رواه البخاري وغيره.
ومعنى الأمر بالعزم: الجدّ فيه، وأن يجزم بوقوع مطلوبه، ولا يعلّق ذلك بمشيئة الله تعالى، وإن كان مأمور في جميع ما يريد فعله أن يعلقه بمشيئة الله تعالى، وقيل: معنى العزم أن يحسن الظنَّ بالله في الإجابة، فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابن عيينة: لا يمنعنَّ أحدكم لدعاء ما يعلم من نفسه، يعني: من التقصير، فإنَّ الله تعالى قد استجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس حين قال: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف: 14] .
وقال -عليه السلام: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم
__________
رجل يدعو: "أوجب إن ختم بآمين" قال الحافظ في أماليه، أي: عمل عملًا وجبت له به الجنة.
وقال السيوطي: الظاهر أنَّ معناه فعل ما تجب له به الإجابة "رواه أبو داود" عن أبي زهير النمري، قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات ليلة, فأتينا على رجل قد ألحَّ في المسألة، فوقف -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، فقال: "أوجب إن ختم"، فقال رجل: بأي شيء يختم؟ فقال: "بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب"، فانصرف الرجل الذي سأل النبي -صلى الله عليه وسلم، فأتى الرجل، فقال: "اختم يا فلان بآمين وأبشر" "وقال" صلى الله عليه وسلم: "لا يقل أحدكم إذا دعا" طلب من الله "اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت".
زاد في رواية البخاري: "اللهم ارزقني إن شئت"؛ لأنَّ التعليق بالمشيئة إنما يحتاج إليه إذا تأتَّى إكراه المطلوب منه، فيعلمه أنه إنما يطلبه برضاه, والله منَزَّه عن ذلك، وقيل: لأنَّ فيه صورة استغناء عن المطلوب والمطلوب منه, والأَوَّل أَوْلَى, "ولكن ليعزم المسألة, فإن الله تعالى لا مكره" بكسر الراء "له" رواه البخاري وغيره" كأبي داود عن أبي هريرة, وهو في الصحيحين من حديث أنس بنحوه, "ومعنى الأمر بالعزم الجدّ فيه" بفتح الجيم- أي: الاجتهاد, "وأن يجزم بوقوع مطلوبه, ولا يعلق ذلك بمشيئة الله تعالى" أي: يكره كما قال النووي وهو أَوْلَى، وظاهر كلام ابن عبد البر أنه نهي تحريم وهو الظاهر، قاله الحافظ: "وإن كان مأمورًا في جميع ما يريد فعله أن يعلّقه بمشيئة الله تعالى" لأن هذا مقام غير مقام الدعاء والطلب من الله.
"وقيل: معنى العزم: أن يحسن الظنَّ بالله في الإجابة, فإنه يدعو كريمًا، وقد قال ابن عيينة" سفيان: لا يمنعنَّ أحدكم لدعاء" بنصب أحد مفعول فاعله "ما يعلم من نفسه -يعني: من التقصير- فإنَّ الله تعالى قد أجاب دعاء شر خلقه وهو إبليس, حين قال: {أَنْظِرْنِي} أخِّرني {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الأعراف: 15] وقال -عليه السلام: يستجاب(12/8)
يستجب لي" رواه الشيخان وغيرهما.
وكان -عليه السلام- يستحب الجوامع من الدعاء، ويدع ما سوى ذلك، رواه أبو داود من حديث عائشة.
والجوامع: التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو تجمع الثناء على الله تعالى وآداب المسألة.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل
__________
لأحدكم ما لم يعجل" بفتح التحتية والجيم بينهما عين ساكنة- من الاستجابة بمعنى الإجابة، قال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي: يجاب دعاء كل واحد منكم؛ لأن الاسم المضاف يفيد العموم على الأصحّ "يقول: دعوت فلم يستجب لي" بضم التحتية وفتح الجيم- بيان لقوله: "ما لم يعجل"، فمن مَلّ الدعاء لم يقبل دعاؤه؛ لأنه عبادة، أجيب أم لا, فمن أكثر منه أوشك أن يستجاب له.
"رواه الشيخان وغيرهما" كأبي داود والترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة: "وكان -عليه السلام يستحب", وللحاكم: كان يعجبه "الجوامع من الدعاء, ويَدَع" يترك "ما سوى ذلك، رواه أبو داود" بإسناد جيد "من حديث عائشة" وصحَّحه الحاكم وأقَرَّه الذهبي, "والجوامع" الكلمات "التي تجمع الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة" عطف تفسير "أو" التي "تجمع الثناء على الله تعالى، وآداب المسألة" أي: السؤال، وقيل: هي ما جمع مع الوجازة خيري الدنيا والآخرة نحو: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة} [البقرة: 201] قيل: وهو أوجه، لكن عليه يحم قوله: ويَدَع ما سوى ذلك, على أغلب الأحوال لا كلها، فقد قال المنذري: كان يجمع في الدعاء تارة ويفصّل أخرى, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في دعائه" ليس في مسلم لفظ في دعائه: "اللهمَّ أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري" الحافظ لجميع أموري، فإنَّ من فسد دينه فسدت جميع أموره, وخاب وخسر في الدنيا والآخرة, "وأصلِح لي دنياي التي فيها معاشي" بإعطاء الكفاف فيما يحتاج إليه, وكونه حلالًا معينًا على طاعة "وأصلح لي آخرتي التي إليها" كذا في النسخ, والذي رأيته في مسلم، وكذا نقله عنه السيوطي وغيره: "التي فيها معادي".
قال ابن الأثير وغيره، أي: ما أعود إليه يوم القيامة, وهو إمَّا مصدر ميمي أي: عودي أو(12/9)
الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر" رواه مسلم من حديث أبي هريرة.
وكان يقول: "اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.
__________
ظرف مكان من عاد إذا رجع، وقال الطيبي: إصلاح المعاد: اللطف والتوفيق إلى طاعة الله وعبادته. وقال الحراني: جمع في هذه الثلاثة أصول مكارم الأخلاق التي بُعِثَ لإتمامها؛ فإصلاح الدين بالتوفيق لإظهار خطاب ربه من جهة أحوال قلبه وأخلاق نفسه وأعمال بدنه فيما بينه وبين الله من غير التفات لغرض النفس في عاجل الدنيا ولا آجلها, وإصلاح الدنيا بتجنّب الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهر منه واستعمال الحلال الذي يصلح النفس والبدن عليه؛ لموافقته لتقويمها, وإصلاح المعاد بخوف الزجر والنهي الذي لا تصلح الآخرة إلّا بالتطهر منه لبعده عن حسناها, وخوف الأمر الذي تصلح الآخرة عليه لتقاضيه لحسناها, والمقصود بالزجر والنهي: الردع عمَّا يضر في المعاد, إلّا أنَّ الردع على وجهين: خطاب لمعرض ويسمَّى زجرًا، وخطاب مقبل على التفهّم ويسمى: نهيًا, فكان الزجر يزيغ الطبع, والنهي يزيغ العقل, "واجعل الحياة زيادة لي في كل خير" أي: اجعل حياتي سبب زيادة طاعتي, "واجعل الموت راحة لي من كل شر" أي: اجعل موتي سبب خلاصي من مشقة الدنيا والتخلص من غمومها وهمومها لحصول الراحة. قال الطيبي: وهذا الدعاء من جوامع الكلم.
"رواه مسلم" في الدعوات "من حديث أبي هريرة" ولم يخرجه البخاري "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم انفعني بما علمتني" بالعمل بمقتضاه خالصًا لك, "وعلمني ما ينفعني" أرتقى منه إلى عمل زائد على ذلك, "وزدني علمًا" مضافًا إلى ما علمتنيه، وهذا إشارة إلى طلب المزيد في السير والسلوك إلى أن يوصله إلى محل الوصال، وبه ظهر أنَّ العلم وسيلة للعمل وهما متلازمان، ولذا قالوا: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلّا في العلم, "الحمد لله على كل حال" من أحوال السراء والضراء، وكم يترتب على الضراء من عواقب حميدة ومواهب كريمة يستحق الحمد عليها، {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} "وأعوذ بالله من حال أهل النار" في النار وغيرها، قال الطيبي: ما أحسن موقع الحمد في هذا المقام، ومعنى المزيد فيه: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} وموقع الاستعاذة من الحال المضاف إلى أهل النار تلميحًا إلى القطيعة والبعد، وهذا الدعاء من جوامع الكلم التي لا مطمح وراءها "رواه الترمذي" وقال: غريب, وابن ماجه والحاكم "من حديث أبي هريرة" وفيه موسى بن عبيدة، ضعَّفه النسائي وغيره, ومحمد بن ثابت(12/10)
وكان يقول: "اللهم متّعنى بسمعي وبصري, واجعلهما الوارث مني، وانصرني على من ظلمني، وخذ منه بثأري" رواه الترمذي من حديث أبي هريرة أيضًا.
وكان أكثر دعائه: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" رواه الشيخان من حديث أنس.
وكان يقول: "رب أعنِّي ولا تعن عليَّ، وانصرني ولا تنصر عليَّ، وامكر لي
__________
لم يرو عنه غير موسى, فهو مجهول العين "وكان يقول: "اللهم متّعني" أي: انفعني، زاد في رواية البيهقي: من الدنيا "بسمعي وبصري" الجارحتين المعروفتين، وقيل: أبي بكر وعمر؛ لحديث: "هذان السمع والبصر"، واستبعد بزيادة البيهقي عقب: وبصري وعقلي, "واجعلهما الوارث مني" استعارة من وارث الميت؛ لأنه يبقى بعده, "وانصرني على من ظلمني" تعدَّى وبغى عليّ, "وخذ منه بثأري" بالهمز، ويجوز إبداله تخفيفًا، أي: بحقي بأن تهلكه، وأشار به إلى قوة المخالفين حثًّا على تصحيح الالتجاء والصدق في الرغبة.
"رواه الترمذي" والحاكم "من حديث أبي هريرة", ورواه البيهقي: "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم: "ربنا" وفي رواية: اللهم ربنا "آتنا في الدنيا حسنة" كصحة وعفاف وكفاف وتوفيق للخير, "وفي الآخرة حسنة" ثوابًا ورحمةً, "وقنا" بالعفو والمغفرة "عذاب النار" الذي استحقيناه بسوء أعمالنا، وقول عليٍّ -كرَّم الله وجهه: الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة, وفي الآخرة الحور، وعذاب النار امرأة السوء، وقول الحسن البصري: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة, وفي الآخرة الجنة، "وقنا عذاب النار" احفظنا من كل ذنب يجر إليها أمثلة المراد بها.
قال ابن كثير: جمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ورزق واسع وعلم نافع وعمل صالح, إلى غير ذلك، وأمَّا الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة, وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات وتيسير الحساب وغير ذلك، وأما النجاة من النار فهو متقضى تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات. انتهى.
ولا يرد عليه أن أعلاها: رؤية الله تعالى؛ لأنَّ كلامه فيما قبل دخوله الجنة، وسبب الاختلاف في التفسير، أن حسنة نكرة في الإثبات فلا تعمّ "رواه الشيخان من حديث أنس بن مالك: "وكان" صلى الله عليه وسلم- يقول: "رب أعني ولا تعن عليَّ، وانصرني" ظفرني "ولا تنصر عليَّ" أعداء الدين، قال الراغب: النصر من الله معونة الأنبياء والأولياء وصالحي العباد بما يؤدي إلى صلاحهم عاجلًا وآجلًا، وذلك تارةً يكون من خارج بمن يقيضه الله فيعينه، وتارةً من داخل بأن(12/11)
ولا تمكر عليّ، واهدني وانصرني على من بغى عليّ، رب اجعلني لك شاكرًا، لك ذاكرًا، لك راهبًا، مطواعًا لك، مخبتًا إليك، أواهًا منيبًا، رب تَقَبَّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي، وثبّت حُجَّتي، وسدِّد لساني، واهد قلبي، واسلل سخيمة صدري". رواه الترمذي.
وكان يقول: "اللهم لك أسلمت، وبك أمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت، أن تضلني، أنت
__________
يقوي قلب الأنبياء والأولياء, أو يلقي الرعب في قلوب الأعداء، وعليه قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} "وامكر لي" جاز لأجلي, مَنْ فَعَل بي ما يستحق ما يجازى عليه بأن فعل بي سوءًا, "ولا تمكر عليَّ" أي: اعف عني, فلا تؤاخذني بما صدر مني، قال في النهاية: مكر الله إيقاع بلائه بأعدائه دون أوليائه، وقيل: هو استدراج العبد بالطاعات فيتوهّم أنها مقبولة وهي مردودة، والمعنى: ألحق مكرك بأعدائي لا بي، وأصل المكر الخداع. انتهى.
ولا يسند إلى الله على سبيل المقابلة والازدواج, والمقابلة هنا مقدَّرة؛ لأن قوله: "امكر لي" معناه: جَازِ من مكر عليّ, "واهدني" لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها, ولا يصرف سيئها إلا أنت كما في حديث آخر.
وفي رواية: فاهدني ويسر هداي إليّ, "وانصرني" ظفرني "على من بغى عليّ" جار واعتدى بأن تهلكه, "رب اجعلني لك شاكرًا" أي: وفِّقني له لأقوم بما وجب عليّ من شكر نعمائك التي لا تحصى, "لك ذاكرًا" بقلبي ولساني, "لك راهبًا" خائفًا منك, "مطواعا لك" في جميع أوامرك, "مخبتًا" خاشعًا متواضعًا "إليك أوَّاهًا" كثير التأوّه من الذنوب والتأسُّف على الناس, "منيبًا" راجعًا إليك، "رب تَقَبَّل توبتي واغسل حوبتي" بفتح المهملة- أي: خطيئتي, "وأجب دعوتي, وثبّت حجتي, وسدّد لساني, واهد قلبي" خصَّه مع دخوله في قوله أولًا: "واهدني" اهتمامًا به؛ لأنه الرئيس الذي إذا صلح صلح الجسد كله, "واسلل" بمهملة ولا مين- انزع وخَرِّج برفق "سخيمة" بفتح المهملة وكسر المعجمة- أي: حقد "صدري" , وفي رواية: قلبي.
"رواه الترمذي" وأبو داود والنسائي وابن ماجه, وصحَّحه الحاكم، كلهم عن ابن عباس: "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم لك أسلمت" أي: أنقذت, "وبك آمنت" أي: صدَّقت، قال النووي: فيه إشارة إلى الفرق بين الإسلام والإيمان, "وعليك" لا على غيرك "توكلت" اعتمدت في تفويض جميع أموري, "وإليك أنبت" رجعت وأقبلت بهِمَّتِي, "وبك خاصمت" أعدائي, "اللهمَّ إني أعوذ" أعتصم "بعزتك -لا إله إلا أنت- أن تضلني" بعدم التوفيق للرشد, والتوقيف على طريق الهداية والسداد، وهو متعلق بأعوذ، أي: من أن تضلني، وكلمة التهليل معترضة لتأكيد(12/12)
الحي الذي لا تموت، والجنّ والإنس يموتون" رواه الشيخان عن ابن عباس.
وكان يقول: "اللهم إنِّي أسألك الهدى والتُّقى، والعفاف والغِنَى". رواه مسلم والترمذي من حديث ابن مسعود.
وكان يقول: "اللهمَّ اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به منِّي، اللهم اغفر لي جَدِّي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي،
__________
العزة, "أنت الحي لا تموت" بلفظ الخطاب، أي: الحياة الحقيقية التي لا يجامعها الموت بحال.
وفي رواية: "أنت الحي القيوم الذي لا يموت" بلفظ الغائب, "والجن والإنس يموتون" عند انقضاء آجالهم، والمراد: الخلق كلهم، لكنَّ التنصيص لإفادة الخطاب جرى مجرى الغالب من تقابلهما، يعني: وأنا أموت لأني من الإنس، ولم ينصّ على مَنْ عداهم لما ذُكِرَ, ولا حجة فيه لمن احتجَّ به على عدم موت الملائكة, مع أنه لا مانع من دخولهم في مسمَّى الجن بجامع ما بينهم من الاجتنان عن عيون الإنس، كيف وقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} ، {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوِْ} [القصص: 88] .
"رواه الشيخان" البخاري في التوحيد, ومسلم في الدعوات, "عن ابن عباس", وقصر من عزاه لمسلم وحده, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أسألك الهدى" أي: الهداية إلى الصراط المستقيم "والتّقى" الخوف من الله, والحذر من مخالفته, "والعفاف" الصيانة عن مطامع الدنيا, "والغنى" غنى النفس والاستغناء عن الناس.
قال الطيب: أطلق الهدى والتقى ليناول كل ما ينبغي أن يهدى إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق, وكل ما يجب أن يتَّقى منه من شركٍ ومعصية وخلق رديء.
"رواه مسلم والترمذي" وابن ماجه، كلهم في الدعوات "من حديث ابن مسعود" ولم يخرّجه البخاري: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم" وفي رواية للبخاري: رب بدل اللهم "اغفر لي خطيئتي" ذنبي, "وجهلي" ضد العلم، وقال الكرماني: الجهل ما يجهل به، كما قالوه في الصائم لا يجهل أي: لا يرتكب ما يوقع في الجهل. انتهى.
أي: لا يفعل ما يوصف معه بالجهل وإن لم يذنب به, "وإسرافي" تجاوزي الحدّ, "في أمري" كله, "وما أنت أعلم به مني" مما علمته وما لم أعلمه، بأنّ صدر سهوًا, "اللهم اغفر لي جدي" بكسر الجيم ضد الهزل, "وهزلي" بفتح الهاء ضد الجد, "وخطئي" بالهمز ضد العمد, "وعمدي" ضد السهو.
ووقع في رواية للبخاري: "اللهم اغفر لي خطاياي وعمدي" جمع خطيئة وعطف العمد(12/13)
اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخَّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدّم وأنت المؤخِّر, وأنت على كل شيء قدير" رواه الشيخان من حديث أبي موسى.
وكان أكثر دعائه: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي من حديث أم سلمة.
__________
عليها, خاصّ على عام، باعتبار أن الخطايا أعمّ من المعتمد, أو من عطف أحد المتقابلين على الآخر, يحمل الخطايا على ما وقع على سبيل الخطأ, "وكل ذلك" المذكور "عندي" موجود, كالتذييل للسابق، أي: أنا متَّصف بهذه الأشياء فاغفرها لي، قاله تواضعًا وهضمًا لنفسه، أو عَدَّ فوات الكمال وترك الأَوْلَى ذنوبًا, "اللهم اغفر لي ما قدَّمت وما أخَّرت" وهذان شاملان لجميع ما سبق؛ كقوله: "وما أسررت" أخفيت, "وما أعلنت" أظهرت، أي: ما حدثت به نفسي وما تحرك به لساني، قاله تواضعًا وإجلالًا لله, أو تعليمًا لأمته.
وتعقَّبه الحافظ بأنه لو كان للتعليم فقط كفَى أن يأمرهم بأن يقولوا, فالأَوْلَى أنه للكل, "وما أنت أعلم به مني، أنت المقدِّم" لمن تشاء من خلقك بتوفيقه إلى رحمتك, "وأنت المؤخِّر" لمن تشاء عن ذلك, "وأنت على كلِّ شيء قدير" جملة مؤكدة لمعنى ما قبلها, وعلى كل شيء متعلق بقدير فعيل بمعنى فاعل, مشتق من القدرة وهي القوة والاستطاعة, وهل يطلق الشيء على المستحيل والمعدوم خلاف.
"رواه الشيخان" في الدعوات "من حديث أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري, "وكان أكثر دعائه -صلى الله عليه وسلم: "يا مقلب القلوب" بتقليب أعراضها وأحوالها لا ذواتها, "ثبِّت قلبي على دينك" بكسر الدال.
قال البيضاوي: إشارةً إلى شمول ذلك للعباد حتى الأنبياء، ودفع توهّم أنهم يستثنون. وقال الطيبي: أضاف القلب إلى نفسه تعريضًا بأصحابه؛ لأنه مأمون العاقبة، فلا يخاف على نفسه لاستقامته؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس: 2-3] ، وفيه: أن أعراض القلوب من إرادة وغيرها يقع بخلق الله, وجواز تسمية الله بما ثبت في الحديث وإن لم يتواتر, وجواز اشتقاق الاسم له من الفعل الثابت, وبقية الحديث: فقيل له في ذلك، فقال: "إنه ليس آدميّ إلّا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام, ومن شاع أزاغ"، زاد في رواية أحمد: "فنسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا, ونسأل الله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب".
"رواه الترمذي من حديث أم سلمة" هند أم المؤمنين، قال الغزالي: إنما كان هذا أكثر دعائه لاطِّلاعه على عظيم صنع الله في عجائب القلب وتقلبه، فإنه هدف يصاب على الدوام من(12/14)
وكان يقول: "اللهم عافني في جسدي، وعافني في سمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني، لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين" رواه الترمذي.
وكان يقول: "اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، ونق قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس" رواه النسائي.
وكان يقول: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب
__________
كل جانب، فإذا أصابه شيء وتأثَّر أصابه من جانب آخر ما يضاده فتغيّر وصفه، وعجيب صنع الله في تقلبه لا يهتدي إليه إلا المراقبون بقلوبهم, والمراعون لأحوالهم مع الله, "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم عافني" سلِّمني من المكاره, "في جسدي"؛ لئلَّا يشغلني شاغل أو يعوقني عائق عن كمال القيام بعبادتك, "وعافني في سمعي وبصري" كذلك, "واجعلهما الوارث مني" بأن يلازماني عند الموت لزوم الوارث لمورثه، أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت، أو أراد بقاء قوتهما عند الكبر وانحلال القوى، أو أراد: اجعل تمتعي بهما في مرضاتك باقيًا، أذكر به بعد اموت, "لا إله إلا الله الحليم الكريم, سبحان الله رب العرش العظيم, والحمد لله رب العالمين" أي: الوصف بجميع صفات الكمال وسائر نعوت الجلال وحده على كل حال "رواه الترمذي" والحاكم، والبيهقي كلهم في الدعوات من حديث عائشة: "وكان" صلى الله عليه وسلم- يقول: "رب اغسل" أزل "خطاياي" جمع خطيئة, "بماء الثلج والبرد" بفتحتين- حب الغمام، أي: بالماء المنحل منهما، فالإضافة ليست بيانية، وخصَّهما لأنهما ماءان طاهران لم تمسَّهما الأيدي, ولم يمتهنهما الاستعمال، فكان ذكرهما آكد هنا, وإن كان الماء الجاري أبلغ عادة في إزالة الوسخ، أشار إليه الخطّابي, وقال الكرماني: جعل الخطايا بمنزلة النار؛ لأنها تؤدي إليها، فعبَّر عن إطفاء حرارتها بالغسل تأكيدًا في إطفائها، وبالغ فيه باستعمال المبردات ترقيًا عن الماء إلى أبرد منه وهو الثلج، ثم إلى أبرد منه وهو البرد؛ لأنه يجمد ويصير جليدًا بخلاف الثلج فيذوب. انتهى.
ومَرَّ لذلك مزيد في الصلاة, "ونَقِّ" بفتح النون وشد القاف, "قلبي" الذي بمنزلة ملك الأعضاء واستقامتها باستقامته, "من الخطايا" الذنوب, وهذا تأكيد للسابق, ومجاز عن إزالة الذنوب ومحو آثارها, "كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس" بفتح الدال والنون- أي: الوسخ، وخصَّ الأبيض لظهور النقاء فيه أقوى من غيره.
"رواه النسائي" والحاكم وغيرهما من حديث عائشة, وهو بعض حديث طويل في الصحيحين: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أسألك" أطلب منك "فعل الخيرات" المأمورات،(12/15)
المساكين، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" رواه في الموطأ.
وكان يدعو: "اللهم فالق الإصباح، وجاعل الليل سكنًا، والشمس والقمر حسبانًا، اقض عني الدين وأغنني من الفقر، وأمتعني بسمعي وبصري وقوتي، وتوفَّني في سبيلك" رواه في الموطأ.
__________
أي: الإقدار على فعلها والتوفيق له, "وترك المنكرات" أي: المنهيات, "وحب المساكين" يحتمل إضافته إلى الفاعل, وإلى المفعول وهو أنسب بما قبله، قال الباجي: وهو من فعل القلب، ومع ذلك فيختص بالتواضع، وفيه: إن فعل الثلاثة إنما هو بفضل الله وتوفيقه, "وإذا أردت" بتقديم الدال على الراء من الإدارة، أي: أوقعت.
وفي رواية: بتقديم الراء على الدال من الإرادة, "بقوم" لفظ الموطأ: في الناس, "فتنة" بلايا ومحننًا, "فاقبضني إليك غير مفتون" فيه إشارة إلى طلب العافية واستدامة السلامة إلى حسن الخاتمة.
"رواه في الموطأ" بلاغًا، قال ابن عبد البر: هو حديث صحيح ثابت من حديث عبد الرحمن بن عابس وابن عباس، وثوبان، وأبي أمامة, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يدعو: "اللهم فالق الإصباح" خالقه ومظهره, "وجاعل الليل سكنًا" يسكن فيه, "والشمس والقمر" منصوبان على محل الليل، ويجوز جرهما عطفًا على لفظه, "حسبانًا" قال ابن عبد البر: أي: حسبانًا، أي: بحساب معلوم، وقد يكون جمع حساب كشهاب وشهبان.
وقال الباجي: أي يحسب بهما الأيام والشهور والأعوام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5] "اقض عني الدَّيْن" قال ابن عبد البر: الأظهر فيه دين الناس, ويدخل فيه دين الله بالأَوْلَى، وفي الحديث: "دين الله أحقّ أن يقضى" , "واغتنى من الفقر" وهو ما لا يدرك معه القوت، وقد أغناه كما قال: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] ، ولم يكن غناه أكثر من اتخاذه قوت سنة لعياله, والغنى كله في قلبه ثقة بربه, "وأمتعني بسمعي" لما فيه من التنعم بسماع الذكر وما يسر, "وبصري" لما فيه من التدبر برؤية مخلوقات الله, "و" أمتعنى "قوتي" بفوقية قبل الياء واحدة القوى.
وروي: وقوني -بنون بدل الفوقية، قال ابن عبد البر: والأوَّل أكثر عند الرواة, "وتوفني في سبيلك" الجهاد أو جميع أعمال البر؛ من تبليغ الرسالة وغيرها، فذلك كله سبيل الله، قاله الباجي "رواه في الموطأ" عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه بلغه فذكره, "وكان -صلى الله عليه وسلم- يتعوَّذ فيقول: "(12/16)
وكان -صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ فيقول: "اللهم إنِّي أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات" رواه الشيخان من حديث أنس، وفي رواية أبي داود: "اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن وضلع الدَّيْن وغلبة الرجال".
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجذام والبرص والجنون، وسيء
__________
وفي لفظ للبخاري عن أنس: كنت أسمعه يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجر" بسكون الجيم- وأصله: التأخر عن الشيء, مأخوذ من العجز وهو مؤخر الشيء، وللزوم الضعف والقصور عن الإتيان بالشيء، استعمل في مقابله القدرة واشتُهِرَ فيها, "والكسل" التثاقل عن الشيء مع القدرة عليه الداعية إليه, "والجبن" خلاف الشجاعة, "والهرم" وهو أقصى الكبر, "والبخل" ضد الكرم, "وأعوذ بك من عذاب القبر" ما فيه من الأهوال والشدائد, "وأعوذ بك من فتنة المحيا" ما يعرض للإنسان في مدة حياته من الافتنان بالدنيا وشهواتها وجهالاتها, وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت, "والممات" قيل: هي فتنة القبر بسؤال الملكين, والمراد من شر ذلك؛ إذ أصل السؤال واقع لا محالة, فلا يدعى برفعه فيكون عذاب القبر مسببًا عن ذلك, والسبب غير المسبب، وقيل: المراد الفتنة قبل الموت, وأضيفت إلى الموت لقربها منه, وحينئذ تكون فتنة المحيا قبل ذلك، وقيل: غير ذلك, والمحيا والممات مصدران مجروران بالإضافة بوزن مفعل, ويصلحان للزمان والمكان والمصدر.
"رواه الشيخان من حديث أنس، وفي رواية أبي داود: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" بفتح المهملة والزاي, جمع بينهما؛ لأنَّ الهمَّ إنما يكون في المتوقّع, والحزن فيما وقع، فالهمّ للمستقبل, والحزن على الماضي؛ ولأن أصل الهمّ الذوبان, يقال: أهمَّه المرض بمعنى أذابه، سُمِّيَ به ما يعتري الإنسان من شديد الغم؛ لأنه أبلغ وأشد من الحزن الذي أصله الخشونة، فليس العطف لاختلاف اللفظ مع اتحاد المعنى كما ظنّ, "وضلع الدَّيْن" بفتح المعجمة واللام ومهملة- أي: ثقله وشدته, المانع لصاحبه عن الاستواء، فإن أصل الضلع الاعوجاج والميل, وذلك حيث لا يجد مَنْ عليه الدَّيْن وفاءً, ولا سيما مع المطالبة، قال بعض السلف: ما دخل هَمّ الدَّيْن قلبًا إلّا أَذْهَبَ منه مِنَ العقل ما لا يعود إليه, "وغلبة الرجال" شدة تسلطهم بغير حق تغلبًا وجدلًا، فالإضافة للفاعل, أو هيجان النفس من شدة الشهوة، فالإضافة للمفعول, وصريح المصنّف انفراد أبي داود وليس كذلك، فقد روى البخاري عن أنس: كنت أسمعه -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن, والعجز والبخل والجبن, وضلع الدين, وغلبة الرجال" وكان صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجذام" كغراب, عِلَّة تحدث من انتشار السواد في البدن(12/17)
الأسقام" رواه أبو داود والنسائي من حديث أنس.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت، ومن شر ما لم أعلم" رواه مسلم من حديث عائشة.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، ومن علم لا ينفع، أعوذ بك من هذه الأربعة" رواه الترمذي.
__________
فتفسد مزاج الأعضاء وجهاتها، وربما انتهى إلى تآكل الأعضاء وسقوطها, "والبرص" بفتحتين- بياض يظهر في ظاهر البدن لفساد المزاج, "والجنون وسيء الأسقام" , ونص على الثلاثة مع دخولها في هذه؛ لأنها أبغض شيء إلى العرب, ولهم عنها نفرة عظيمة، ولذا عدّوا من شروط الرسالة السلامة من المنفرات، فاستعاذته منها تعليمٌ للأمة أو إظهار للعبودية "رواه أبو داو والنسائي من حديث أنس" بإسناد صحيح, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من شر ما علمت ومن ما لم أعلم".
"روه مسلم" كذا في النسخ من العلم فيهما، والذي في مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه، كلهم "من حديث عائشة" بلفظ: "من شر ما عملت ومن شر ما لم أعمل" بتقديم المي على اللام فيهما, من العمل، أي: من شر يحتاج فيه إلى العفو, "وما لم أعمل" بأن تحفظني منه في المستقبل، أو أراد شر عمل غيره، {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ} خاصة, أو ما ينسب إليه افتراء ولم يعمله.
وقد وقع في الإحياء بتقديم اللام ووروده عليه، لكنه لم يعزه لمسلم، فالردّ على المصنف أقوى لعزوه لمسلم ما ليس فيه, وإن كان جاء حديث آخر بتقديم اللام مرفوعًا: "اللهم إني أسألك من الخير كله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله ما علمت منه وما لم أعلم".
رواه أبو داود الطيالسي عن جابر بن سمرة, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع" لذكر الله ولا لاستماع كلامه تعالى, وهو القلب القاسي, أبعد القلوب من الله سبحانه, "ومن دعاء لا يسمع" أي: لا يستجاب ولا يعتدّ به، فكأنه غير مسموع, "ومن نفس لا تشبع" من جمع المال أشرًا وبطرًا, ومن كثرة الأكل الجالبة لكثرة الأبخرة الجالبة للنوم, وكثرة الوساوس والخطرات النفسانية المؤدية إلى مضار الدنيا والآخرة, "ومن علم لا ينفع" أي: لا يعمل به أو لا يهذب الأخلاق الباطنة, فيسري بها إلى الأفعال الظاهرة, "أعوذ بك من هذه الأربع" أتى به مع استفادته مما قبله تنبيهًا على توكيد هذا الحكم وتقويته, وفيه تسجيع الدعاء بلا قصد، ولذا جاء في غاية الانسجام، والمكروه إنما هو المتكلّف المقصود؛ لأنه لا يلائم الضراعة والذلة.
قال الطيبي: في كل من هذه القرائن إشعار بأن وجوده مبني على غايته, والغرض الغاية،(12/18)
والنسائي من حديث ابن عمرو بن العاص.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوّل عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك" رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن عمرو بن العاص أيضًا.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن
__________
فإن تعلّم العلم إنما هو للنفع به، فإذا لم ينفعه لم يخلص كفافًا، بل يكون وبالًا, وإن القلب إنما خُلِقَ ليخشع لربه, فإن لم يخشع فهو قاسٍ يستعاذ منه, {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} , وإنما يعتد بالنفس إذا تجافت عن دار الغرور, وأنابت إلى دار الخلود، فإذا كانت نهمة لا تشبع, كانت أعدى عدو للمرء، فهي أهمّ ما يستعاذ منه، وعدم استجابة الدعاء دليل على أن الداعي لم ينتفع بعلمه, ولم يخشع قلبه, ولم تشبع نفسه.
"رواه الترمذي والنسائي من حديث" عبد الله "بن عمرو بن العاص", ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة, والنسائي أيضًا عن أنس, وقد رواه مسلم في آخر حديث، ولفظه عن زيد بن أرقم: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل, والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهمّ آت نفسي تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع, ومن قلب لا يخشع, ومن نفس لا تشبع, ومن دعوة لا يستجاب لها" وكذا رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
"وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك" أي: ذهابها مفردة في معنى الجمع؛ لأن المفرد المضاف يعمّ النعم الظاهرة والباطنة, وهي كل ملائم تحمد عاقبته، والاستعاذة من زوالها تتضمَّن الحفظ من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيل, "وتحوّل" أي: تبدل "عافيتك" , ويفارق التحوّل الزوال، فيقال في كل ثابت لشيء ثم فارقه: زال، ولفظ أبي داود: تحويل, بزيادة تحتية, وهو تغيير الشيء وانفصاله عن غيره، فكأنَّه سأل دوام العافية وهي السلامة من الآلام والأسقام, "وفجأة" بضم الفاء والمد وفتحها والقصر- بغتة, "نقمتك" بكسر النون وقد تفتح, وسكون القاف- غضبك وعقوبتك.
قال المازري: استعاذ من أخذه الأسف, "وجميع سخطك" بفتحتين- أي: الأسباب الموجبة لذلك، وإذا انتفت أسبابها حصلت أضدادها.
"رواه مسلم وأبو داود" والترمذي "من حديث ابن عمرو بن العاص أيضًا" هذا وهم، فالذي فيهما وكذا الترمذي عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر، أي: بن الخطاب, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر" فقد المال أو فقر النفس, "والقلة" بكسر القاف- قلة(12/19)
أظلم أو أظلم" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق" رواه أبو داود من حديث أبي هريرة أيضًا.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع, فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة, فإنها بئست البطانة" رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضًا.
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّيْن وغَلَبَة العدو، وشماتة
__________
المال التي يخاف منها قلة الصبر وتسلط الشيطان أن يتذكَّر تنعُّم الأغنياء، أو المراد: القلة في أبواب البر ونقصان الخير, أو قلة العدد والمدد, أو الكل, "والذلة" بالكسر, "وأعوذ بك من أن أظلِم" بالبناء للفاعل، أي: أجور أو أعتدي, "أو أظلَم" بالبناء للمفعول، والظلم وضع الشيء في غير محله.
رواه أبو داود" وابن ماجه والحاكم من حديث أبي هريرة", وسكت عليه أبو داود, "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشقاق" بكسر المعجمة وقافين- النزاع والخلاف والتعادي؛ لأن كلًّا منها يكون في شق، أي: ناحية, أو هو العداوة, وفيها أيضًا المفاعلة, فتكون على بابها, "والنفاق" نفاق العمل, "وسوء الأخلاق"؛ لأن صاحبه لا يقر من ذنب إلّا وقع في آخر, والأخلاق السيئة من السموم القاتلة, والمهلكات والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن الله تعالى المقرّبة للشيطان, فحق أن يستعاذ منها.
"رواه أبو داود والنسائي" في الصلاة "من حديث أبي هريرة" أيضًا، ورواه النسائي في الاستعاذة: "وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع" أي: من ألمه وشدة مصابرته؛ لأنه يمنع راحة البدن, ويحلل المواد المحمودة بلا بدل, ويشوش الدماغ, ويثير الأفكار الفاسدة والخيالات الباطنة, "فإنه بئس الضجيع" أي: النائم معي في فراش واحد، سمَّاه ضجيعًا لملازمته لصاحبه في المضجع, تنبيهًا على أنَّ المراد الملازم المضر لا مطلق الجوع, "وأعوذ بك من الخيانة" مخالفة الحق بنقض العهد في السر, "فإنها بئست البطانة" بالكسر- خلاف الظهارة، ثم استعيرت لمن يخصه الإنسان بالاطِّلاع على باطن أمره، ولما كانت الخيانة أمرًا يبطنه الإنسان ويستره, سمَّاها بطانة, والخيانة خزي وهوان, وتكون في المال والنفس والعدد والكيل والوزن وغير ذلك, "رواه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة أيضًا"
بإسناد صحيح, وله شاهد من حديث ابن مسعود عند الحاكم في حديث, "وكان" صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّيْن" ثقله وشِدَّته؛ حيث لا قدرة على وفائه، لا سيما مع الطلب, "وغلبة العدوّ" من يفرح بمصيبته ويحزن بمسرته, "وشماتة الأعداء" فرحهم ببلية تنزل(12/20)
الأعداء" رواه النسائي:
وكان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم والهرم، وأعوذ بك من التردي ومن الغرق والحرق، وأعوذ بك من أن يتخبَّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا، وأعوذ بك أن أموت لديغًا" رواه أبو داود والنسائي
__________
بعدوهم، ختم بهذه الكلمة البديعة لكونها جامعة متضمِّنة لسؤال الحفظ من جميع ما يشمت به, وإنما قال ذلك خوفًا على أتباعه من التفرقة, وقلة انتفاع المؤلَّفة, لا لأنه يتأثّر من الشماتة مراعاةً لحظِّ نفسه لعصمته من ذلك، كذا أفاده بعض الكمل.
"رواه النسائي" والحاكم وأحمد من حديث ابن عمر, "وكان" صلى الله عليه وسلم "يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهدم" بسكون الدال- سقوط البناء ووقوعه على الشيء، وروي بفتح الدال اسم ما انهدم منه، وفي النهاية: الهدم محركًا البناء المهدوم, وبالسكون الفعل.
قال ابن رسلان: يحتمل أن يراد بالهدم المستعاذ منه سقوط البناء المعقود أو المسقَّف لما يترتب عليه من فساد ما انهدم عليه من الحيوان وغيره, واحتياج مالكه إلى كلفة في تجديده, "والهرم" كِبَر السن المؤدي إلى تساقط القوى وذهاب العقل وتخبط الرأي, "وأعوذ بك من التردي" السقوط من عال كشاهق جبل أو في بئر, ونحو ذلك من الردي وهو الهلاك, "ومن الغرق" بفتح الراء على الصواب, وكسرها القياس، أي: الموت في الماء غريقًا, "والحرق" بفتحتين- الالتهاب بالنار.
قال البيضاوي: استعاذ من هذه الأمور مع أنَّها شهادة؛ لأنها مجهدة مقلقة لا يثبت المرء عندها، فربما استزلَّه الشيطان: أخلَّ بدينه؛ ولأنه يعد فجأة وأخذة أسف، وقال الطيبي: لأنها في الظاهر مصائب بلايا ومحن كالأمراض السابقة المستعاذ منها، وأما ترتب ثواب الشهادة عليها فللبناء على أنه تعالى يثيب عبده المؤمن على المصائب كلها حتى الشوكة؛ ولأن الفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه, أنها متمنَّى كل مؤمن, وقد يجيب عليه توخي بهجة الشهادة والتحري فيها, بخلاق التردي وما معه، فيجب التحرز عنها, ولو سعى فيها عصى, "وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان" أي: يصرعني ويلعب بي ويفسد ديني أو عقلي, "عند الموت" بنزعاته التي تَزِلّ بها الأقدام وتصرع الأحلام، وقد يستولي على المرء عند ذلك فيُضِلّه أو يمنعه التوبة, أو يعوقه عن الخروج عن مظلمة، أو يؤيسه من الرحمة, أو يكره له الموت ويؤسّفه على الحياة الدنيا، فلا يرضى مما قضي عليه من الفناء, فيختم له بسوءٍ والعياذ بالله تعالى, وهذا تعليم للأمة, فإن شيطانه أسلم, ولا تسلط لأحد عليه بحالٍ, وكذلك الأنبياء لا تسلط للشيطان عليهم، فتخبيط الشيطان مجاز عن إضلاله وتسويله, "وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرًا" عن الحق أو عن(12/21)
من حديث أبي اليسر.
وكان يتعوّذ من عين الجن والإنس، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سوى ذلك. رواه النسائي.
وكان إذا خاف قومًا قال: "اللهمَّ إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم" رواه أبو داود.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يعوّذ الحسَن والحسين, ويقول: "إن أباكما كان يعوّذ بهما إسماعيل وإسحاق - أعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".
__________
قتال الكفار؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- يحرم عليه الفرار مطلقًا، فمن قيده بما إذًا حرَّم الفرار, إنما هو بالنظر لغيره, وأنه تعليم للأمة, "وأعوذ بك أن أموت لديغًا" فعيل بمعنى ملدوغ -بدال مهملة وغين معجمة، يستعمل في ذات سم كحية وعقرب، أمَّا بذال معجمة وعين مهملة ففي الإحراق بنار، كالكي وإعجامهما أو إهمالهما فمما خلت عنه كتب اللغة المتداولة.
رواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث أبي اليسر -بفتح التحتية والمهملة- كعب بن عمرو الأنصاري, "وكان" صلى الله عليه وسلم- يتعوّذ بالله من عين الجن والإنس, وفي رواية: كان يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان, فلمَّا نزلت المعوذتان -بكسر الواو مشددة- أخذ بهما, أي: صار يتعوّذ بهما وترك ما سوى ذلك" مما كان يتعوّذ به غير القرآن, لما ثبت أنه كان يرقي بالفاتحة، وكان يرقي بها تارة وبالمعوذتين أخرى, لما تضمنتاه من الاستعاذة من كل مكروه.
"رواه النسائي" والترمذي وقال: حسن غريب, وابن ماجه, وصحَّحه الضياء في المختارة، كلهم عن أبي سعيد, "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا خاف قومًا" أي: شَرَّ قوم "قال: "اللهم إنا نجعلك في نحورهم" أي: في مقابلة صدورهم؛ لتدفع عنا شرورهم, وتحول بيينا وبينهم, تقول: جعلت فلانًا في نحر العدو إذا جعلته قبالته يقاتل عنك ويحول بينك وبينه, "ونعوذ بك من شرورهم" المراد: نسألك أن تصد صدورهم عنَّا, وتدفع شرورهم وتكفينا أمورهم، وخصَّ النحر لأنَّه أسرع وأقوى في الدفع والتمكّن من المدفوع, والعدو إنما يستقبل بنحره عند مناهضة القتال, أو تفاؤلًا بنحرهم أو قتلهم.
"رواه أبو داود" وأحمد الحاكم والبيهقي بأسانيد صحيحة عن أبي موسى، قال الحاكم: على شرط الشيخين, وأقرَّه الذهبي, "وكان -صلى الله عليه وسلم" يعوّذ -بذال معجمة "الحسن والحسين, ويقول: لهما: "إن أباكما" جدّكما الأعلى إبراهيم -عليه الصلاة والسلام, "كان يعوّذ بها" أي: بالكلمات الآتية، ولبعض رواه البخاري: بهما -بالتثنية, "إسماعيل وإسحاق" ابنيه، وهي: "أعوذ" هذا لفظ البخاري, ووقع في الأذكار: أعيذكما "بكلمات الله" كلامه على الإطلاق أو المعوذتين أو(12/22)
رواه البخاري والترمذي.
وقد استشكل صدور هذه الأدعية ونحوها منه -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ووجوب عصمته.
وأجيب: بأنه امتثل ما أمره الله به من تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] .
ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع والشكر لربه تعالى، لما علم أنه قد غفر له، ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمنته وللتشريع،
__________
القرآن، قاله المصنف, زاد الحافظ: وقيل: ما وعدته، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} ، والمراد بها قوله: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} "التامّة" الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو القاضية التي تمضي وتستمر ولا يردها شيء ولا يدخلها نقص ولا عيب.
قال الخطَّابي: استدلَّ أحمد به على أنَّ كلام الله غير مخلوق؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يحتج بمخلوق, "من كل شيطان" إنسي وجني, "وهامَّة" بشد الميم- واحدة الهوام, ذوات السموم، وقيل: كل ما له سم يقتل، فأمَّا ما لا يقتل بسمه فيقال له: السوام، وقيل: المراد: كل نسمة تهم بسوء, "ومن كل عين لامّة" بالتشديد أيضًا- التي تصيب ما نظرت إليه بسوء، وقال الخطابي: المراد بها كل داء وآفة تلم بالإنسان من جنون وخبل، وقال أبو عبيد: أصله من ألممت إلمامًا، وإنما قال: لامَّة؛ لأنه أراد أنها ذات لمم.
وقال ابن الأنباري: يعني أنها تأتي في وقت بعد وقت، وقال: لامَّة؛ ليوافق لفظ هامَّة؛ لأنه أخفّ على اللسان.
"رواه البخاري" في أحاديث الأنبياء, "والترمذي" وابن ماجه، كلاهما في الطب، وأبو داود في السنة والنسائي في التعوذ "وقد استشكل صدور هذه الأدعية" السابقة "ونحوها منه -صلى الله عليه وسلم- مع قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} ووجوب عصمته، وتقدَّم الكلام على هذه الآية, وأنه لا ذنب البتة، والمراد بالغفر الستر والمنع, كأنه قيل: ليستر عنك الذنب ويمنعك منه، فلا يمنع منك ذنب أصلًا, وهذا أحسن الأجوبة.
"وأجيب بأنه امتثل ما أمره الله به م تسبيحه وسؤاله المغفرة في قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] إلى آخر السورة, "ويحتمل أن يكون قاله على سبيل التواضع والاستكانة والخضوع" عطف تفسير "والشكر لربه لما علم" بكسر اللام "أنه قد غفر له, ويحتمل أن يكون سؤاله ذلك لأمته, أو للتشريع, والله أعلم", وقال الطيبي: استعاذ مما عصم(12/23)
والله أعلم.
وكان -عليه السلام- عند الكرب -وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه ويغمه- يدعو: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السموات والأرضين, رب العرش العظيم" رواه البخاري: وفي رواية: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض، ورب العرش الكريم".
قال الطيبي: صدّر هذا الثناء بذكر الرب؛ ليناسب كشف الكرب؛ لأنه مقتضى التربية، ومنه: التهليل المشتمل على التوحيد، وهو أصل التنزيهات الجلالية، والعظمة التي تدل على تمام القدرة, والحلم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل لا يتصوّر منه.
__________
منه ليلتزم خوف الله وإعظامه, والافتقار إليه، وليقتدي به, وليبين صفة الدعاء, "وكان -عليه السلام- عند الكرب -وهو ما يهجم على الإنسان مما يأخذ بنفسه ويحزنه" جملة معترضة لتفسير الكرب "يدعو" يقول: "لا إله إلا الله العظيم" المطلق البالغ أقصى مراتب العظمة، الذي لا يتصوّره عقل, ولا يحيط بكنهه بصيرة, ولا يعظم عليه شيء, "الحليم" الذي لا يستفزه غضب, ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام, فيؤخره مع القدرة عليه, "لا إله إلا الله رب السموات والأرضين, رب العرش العظيم" بجره نعت للعرش "رواه البخاري" ومسلم عن ابن عباس.
وفي نسخة: رواه الشيخان وهي أصوّب, "وفي رواية" لها أيضًا عن ابن عباس، أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض".
وفي رواية: "ورب العرش الكريم" بجره كالعظيم قبله, صفة للعرش في رواية الأكثر، وروي برفعهما نعتان لرب, أو للعرش خبر مبتدأ محذوف قُطِعَ عمَّا قبله للمدح, وسبق شرحه مبسوطًا في الطب.
"قال الطيبي: صدَّر هذا الثناء" المسمَّى دعاء؛ لأن الثناء على الكريم دعاء, ولا أكرم منه سبحانه "بذكر الرب ليناسب كشف الكرب؛ لأنه مقتضى التربية", والمراد بالتصدير ذكره مرارًا في أثنائه, إلا الابتداء به كما هو ظاهر, "ومنه التهليل المشتَمِل على التوحيد" بقوله: أوّل كل قرينة: لا إله إلا الله, "وهذا أصل التنزيهات الجلالية, والعظمة التي تدل على تمام القدرة" فلذا وصفّه بها, "والحلم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل" أي: الأحمق "لا يتصوّر منه حلم(12/24)
حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية. انتهى.
وكان -عليه السلام- إذا همَّه أمر رفع رأسه إلى السماء وقال: "سبحان الله العظيم"، رواه الترمذي من حديث أبي هريرة.
فإن قلت: هذا ذكر ليس فيه دعاء.
فالجواب: إن التعرّض للطلب تارة يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارةً بذكر أوصاف السيد من وحدانيته والثناء عليه. وقد قال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضك الثناء
قال سفيان الثوري: فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتُفِيَ بالثناء، فكيف بالخالق.
__________
ولا كرم, وهُمَا" العظيم الحليم " أصل الأوصاف الإكرامية. انتهى".
وتقدَّم عن ابن القيم أبسط من هذا في كلام المصنّف في الطب "وكان -عليه السلام- إذا همّه أمر" أقلقه وأزعجه "رفع رأسه" كذا في النسخ, والمتقدّم له في الطب عن الترمذي: إذا أهمَّه الأمر رفع طرفه, وهو الذي في الترمذي بلفظ: أهمَّه بالألف وتعريف الأمر, وطرفه، أي: بصره "إلى السماء، وقال" مستغيثًا متضرعًا: "سبحان الله العظيم" , وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم"، هذا باقي الحديث.
"رواه الترمذي" تامًّا من حديث أبي هريرة", زاد في بعض النسخ هنا: "فإن قلت: هذا المذكور من الحديثين ذكر ليس فيه دعاء، فالجواب: إنّ التعرّض للطلب تارةً يكون بذكر أوصاف العبد من فقره وحاجته، وتارةً يكون بذكر أوصاف السيد" المطلوب منه -سبحانه وتعالى, "من وحدانيته والثناء عليه" كما هنا "وقال أمية بن أبي الصلت" الذي آمن شعره وكفر قلبه "في مدح عبد الله بن جدعان" بضم الجيم وإسكان الدال ثم عين مهملتين- التيمي: "أأذكر حاجتي أم" لا أذكرها، بل "قد كفاني حياؤك -بمهملة وتحتية- عن ذكر حاجته, "إن شيمتك" بمعجمة- طبيعتك "الحياء" المقتضي مزيد الكرم المغني عن ذكر الحاجة "إذا أثنى عليك" مدحك "المرء يومًا" قطعة من الزمان, "كفاه من تعرضك" مصدر مضاف لمفعوله، أي: سؤاله لك "الثناء" أي: ثناؤه عليك.
"قال سفيان الثوري" المتقدّم للمصنف في الطلب ابن عيينة: "فهذا مخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفي بالثناء" عن السؤال, "فكيف بالخالق" وهذا مر في الطلب بأبسط من هذا،(12/25)
وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا كربه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" رواه أبو داود من حديث أنس.
وقال -عليه السلام: "ما كربني أمر إلّا تمثَّل لي جبريل فقال: يا محمد, قل: توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرًا" رواه الطبراني عن أبي هريرة. وتقدَّم في المقصد الثامن مزيد لذلك.
وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول في الضالّة: "اللهم رادَّ الضالة وهادي الضالّة أنت تهدي من الضلالة، اردد عليَّ ضالتي بعزتك وسلطانك، فإنها من عطائك وفضلك". رواه الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر.
__________
وقد سقط في غالب النسخ: "وكان" صلى الله عليه وسلم" "إذا كربه أمر" أي: شقَّ عليه وأهمَّه شأنه "قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" مما نزل بي.
"رواه أبو داود من حديث أنس", وكذا الترمذي, "وقال -عليه السلام: "ما كربني أمر إلا تمثَّل لي" تصوّر "جبريل، فقال: يا محمد, قل: توكلت على الحي الذي لا يموت, والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا" فخيره كله لعباده، فلذا استحقّ الحمد على ذلك, "ولم يكن له شريك في الملك" الألوهية, "ولم يكن له ولي" ينصره "من" أجل "الذل" أي: لم يذل فيحتاج إلى ناصر, "وكبره تكبيرًا" عظِّمه عظمة تامَّة عن الولد والشريك، والذل وكل ما لا يليق به, أمره بأن يثق ب, ويسند أمره إليه في استكفاء ما ينوبه, مع التمسُّك بقاعدة التوكّل، وعرَّفه أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكّل عليه وحده, ولا يتوكّل على غيره من الأحياء الذين يموتون, "رواه الطبراني عن أبي هريرة.
ورواه عنه أيضًا ابن مصري في أماليه، ورواه البيهقي وابن أبي الدنيا عن إسماعيل بن أبي فديك مرسلًا "وتقدَّم في المقصد الثامن" بميم فنون- وهو مقصد الطبّ النبوي "مزيد لذلك، وكان -صلى الله عليه وسلم "يقول في الضالّة" أي: في دعائه لطلب ردّها، وتكرَّر ذلك منه على ما يفيده, كان مع المضارع في أحد الأقوال: "اللهم رادَّ الضالة" الإبل التي تبقى بمضيعة بلا رب للذكر والأنثى, "وهادي الضالة أنت تهدي" بفتح التاء- من هدى، أي: تنقذ وتخلص, "من الضلالة, أردد عليَّ ضالتي بعزِّك وسلطانك, فإنها من عطائك وفضلك".
"رواه الطبراني في الصغير من حديث ابن عمر: " ويجوز أنَّ هذا الدعاء ينفع لمن غاب عنه شيء حيوانًا كان أو غيره, وإن كان الأصل أنَّ الضالة الحيوان الضائع، ويقال لغيره ضائع(12/26)
وكان -صلى الله عليه وسلم- يدعو هكذا بباطن كفَّيه وظاهرهما. رواه أبو داود عن أنس.
وقال أبو موسى الأشعري -كما عند البخاري: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه.
وعنده أيضًا من حديث ابن عمر: رفع -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد".
لكن في حديث أنس "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء", وهو حديث صحيح. ويجمع بينه وبين ما تقدّم "بأنَّ الرفع في الاستسقاء يخالف غيره, إما بالمبالغة إلى أن يصير اليدان في حذو الوجه مثلًا، وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكّر على ذلك أنه ثبت في كلٍّ منهما حتى يُرَى بياض إبطيه، بل يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإمَّا أن الكفين في الاستسقاء يليان الأرض وفي الدعاء يليان السماء.
__________
ولفظه: "وكان" صلى الله عليه وسلم "يدعو هكذا بباطن كفيه" إلى السماء تارةً, إن دعا بنحو تحصيل شيء "وظاهرهما" إلى السماء تارةً, إن دعا بنحو دفع بلاء.
"رواه أبو داود عن أنس" بن مالك, قال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لدفع بلاء أن يرفع يديه جاعلًا ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء. انتهى.
"وقال أبو موسى" عبد الله بن قيس "الأشعري, كما عند البخاري" في المغازي, في قصة دعائه لأبي عامر عمّ أبي موسى بعد قتله شهيدًا في غزوة خيبر -بالراء: "دعا النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه" لعدم الشعر أصلًا, أو لدوام تعاهده, "وعنده" أي: البخاري "أيضًا من حديث ابن عمر" في آخر حديث مَرَّ في المغازي: "رفع -صلى الله عليه وسلم- يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد" مرتين, كما في البخاري, "لكن في حديث أنس" في الصحيحين: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يرفع يديه في شيء من دعائه إلّا في الاستسقاء. وهو حديث صحيح، ويجمع بينه وبين ما تقدَّم بأن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره، إمَّا بالمبالغة" في الرفع "إلى أن يصير اليدان حذو الوجه مثلًا في الداء" في غير الاستسقاء, يرفعهما "إلى حذو المنكبين", ولا يعكر على ذلك أنه" ثبت في كلٍّ منهما" حديث أبي موسى بلفظ: حتى رأيت، وحديث أنس بلفظ: "حتى يرى بياض إبطيه، بل" إضراب عن العكر, "يجمع بأن تكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره، وإمَّا أنَّ الكفَّين في الاستسقاء يليان الأرض، وفي الدعاء يليان السماء".(12/27)
قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وبتعذير الجمع, فجانب الإثبات أرجح. انتهى.
وروى الإمام أحمد والحاكم وأبو داود, أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حذو منكبيه. وفي رواية ابن ماجه: ويبسطهما.
وهذا يقتضي أن تكونا متفرقتين مبسوطتين، لا كهيئة الاغتراف.
قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء.
وروى ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضَمَّ كفَّيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه. رواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف.
وهل يمسح بهما وجهه؟ أمَّا في القنوت في الصلاة فالأصح لا، لعدم وروده
__________
ويؤيده رواية مسلم عن أنس أنه -صلى الله عليه وسلم- استسقى, فأشار بظهر كفيه إلى السماء، ولأبي داود عن أنس: كان يستسقى هكذا, ومد يديه وجعل بطونها مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.
"قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وبتعذير الجمع" أي: تعذره, "فجانب الإثبات أرجح. انتهى".
وعند أبي داود والترمذي, وحسَّنه عن سلمان رفعه: "إنَّ ربكم حي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا" بكسر المهملة وسكون الفاء، أي: خاليتين, "وروى الإمام أحمد" والحاكم "وأبو داود، أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يرفع يديه إذا دعا حَذْوَ منكبيه" أي: مقابلهما.
"وفي رواية ابن ماجه" ويبسطهما، وهذا يقتضي أن تكونا متفرقتين"؛ لأن كونهما حذو المنكبين يقتضي تفرقهما "مبسوطتين, لا كهيئة الاغتراف" الذي يجمعهما.
"قال الحافظ ابن حجر: غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء إنما المراد بها مد اليدين وبسطهما عند الدعاء", وكأنه عند الاستسقاء زاد مع ذلك, فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذياه, وبه حينئذ يُرَى بياض إبطيه. هذا بقية كلام الحافظ جاعلًا ذلك تأييدًا للجمع السابق أن المنفي الرفع البالغ.
"وروى ابن عباس: كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دعا ضمَّ كفَّيه" جمعهما, "وجعل بطونهما مما يلي وجهه" رواه الطبراني في الكبير بسند ضعيف", وله شاهد عن أحمد عن السائب, "كان -صلى الله عليه وسلم- إذا سأل الله جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه, "وهل يمسح بهما وجهه" فيه(12/28)
فيه، قال البيهقي: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئًا، وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة، وقد روي فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف مستعمل عند بعضهم في الدعاء خارجها، فأمَّا فيها فعمل لم يثبت فيه خبر ولا أثر ولا قياس، والأَوْلَى أن لا يفعله.
وقد دعا -صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: "اللهمَّ أكثر ماله وولده, وبارك له فيما أعطيته" رواه البخاري.
وفي "الأدب المفرد" له، عن أنس قال: قالت أم سليم -وهي أم أنس- خويدمك ألا تدعو له؟ فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل حياته، واغفر له".
وفي الصحيح: إن أنسًا كان في الهجرة ابن تسع سنين، وكان وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل - وقيل: ثلاث, وله مائة وثلاث سنين. قاله خليفة وهو
__________
تفصيل "أمَّا في القنوت في الصلاة فالأصح لا" يمسح "لعدم وروده فيه.
"قال البيهقي: لا أحفظ فيه عن أحد من السلف شيئًا، وإن روي عن بعضهم في الدعاء خارج الصلاة أنه يمسح ندبًا, وهذا قسيم قوله: أمَّا في القنوت, "وقد روي فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ضعيف" أخرجه أبو داود عن بريدة, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه, حسَّنه بعض الحفاظ, وهو "مستعمل عند بعضهم في الدعاء خارجها" فيستحبّ على المعتمد عند الشافعيه، وقال به بعض المالكية تفاؤلًا وتيمنًا بأن كفَّيه ملئتا خيرًا، فأفاض منه على وجهه "فأمَّا فيها, فعمل لم يثبت فيه خبر" عن المصطفى, "ولا أثر" عن صاحب, "ولا قياس, والأَوْلَى أن لا يفعله" تنزيهًا للصلاة عن فعلٍ لم يرد, "وقد دعا -صلى الله عليه وسلم- لأنس فقال: "اللهم أكثر" بفتح الهمزة وكسر المثلثة, "اله وولده, وبارك له فيما أعطيته" رواه البخاري" في الدعوات, ومسلم في الفضائل، كلاهما عن أنس، قال: قالت أم سليم للنبي -صلى الله عليه وسلم: أنس خادمك فادع له، فقال: فذكره, "وفي" كتاب الأدب المفرد له" للبخاري, "عن أنس قال: قالت أم سليم" بضم السين وفتح اللام, "وهي أم أنس: خويدمك" بالتصغير, تعنى: أنسًا "ألا تدعو له", قالت ذلك استعطافًا, "فقال" صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده, وأطل حياته, واغفر له" فزاده دعوتين على الثلاثة في الحديث قبله, والحديث واحد، غير أنَّ بعض الرواة ذكر ما لم يذكر الآخر.
"وفي الصحيح: إن أنسًا كان في الهجرة ابن تسع سنين, وكانت وفاته سنة إحدى وتسعين فيما قيل: وقيل: ثلاث" وتسعين, "وله مائة وثلاث سنين، قاله خليفة" ابن خياط -بخاء(12/29)
المعتمد.
وأكثر ما قيل في سنِّه: إنه بلغ مائة سنة وسبع سنين، وأقلَّ ما قيل فيه: بلغ تسعًا وتسعين سنة.
وأمَّا كثرة ولده، فروى مسلم, قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير، وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون على نحو المائة اليوم. وورد في حديثٍ رواه الشيخان أنَّ أنسًا قال: أخبرتني ابنتي أمينة -بضم الهمزة وفتح الميم، وسكون المثناة التحتية، بعدها نون- أنه دفن من صلبي إلى مقدِم الحجاج البصرة مائة وعشرون.
وقال ابن قتيبة في "المعارف": كان بالبصرة ثلاثة ما ماتوا حتى رأى كل واحد منهم من ولده مائة ذكر لصلبه: أبو بكرة، وخليفة بن بدر، وأنس, وزاد غيره.
__________
معجمة وتحتية ثقيلة- العصفري البصري، شيخ البخاريّ، صدوق, إخباري علَّامة, مات سنة أربعين ومائتين "وهو المعتمد" كما قال الحافظ: "وأكثر ما قيل في سنّه أنه بلغ مائة سنة وسبع سنين" هذا يرد على قوله المصنف في شرح البخاري.
وقيل: عاش مائة سنة وثلاثين سنة، وقيل: مائة وعشرين, "وأقل ما قيل فيه: بلغ تسعًا وتسعين سنة" مائة إلّا سنة, وهو آخر الصحابة موتًا بالبصرة "وأما كثرة ولده, فروى مسلم" عن إسحاق, وهو ابن عبد الله بن أبي طلحة قال: حدَّثني أنس قال: جاءت بي أمّي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قد أزرتني بنصف خمارها, ورَّدتني بنصفه، فقالت: يا رسول الله, هذا ابني أنيس, أتيتك به يخدمك, فادع الله له، فقال: "اللهم أكثر ماله وولده" , "قال أنس: فوالله إنَّ مالي لكثير, وإن ولدي وولد ولدي ليعادّون" أي: يبينون بالعدد، لكن لفظ مسلم: ليتعادّون على نحو المائة اليوم" بتاء ففوقية بعد التحتية، وبلفظ: اليوم.
وورد في حديث رواه الشيخان: إن أنسًا قال: أخبرتني ابنتي أمينة" أي: بضم الهمزة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية بعدها نون" فها تأنيث تابعية مقبولة, روى عنها أبوها، "أنه دُفِنَ من صلبي إلى مقدم الحجاج" بن يوسف الثقفي "البصرة" أميرًا عليها, مائةٌ وعشرون" ذكورً وأناثًا، ثم مات له بعد ذلك خمسة، فعند الطبراني قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي مائة وخمسة وعشرين.
"وقال" محمد بن مسلم بن قتيبة" الدينوري "في" كتاب المعارف: كان بالبصرة ثلاثة من الرجال ما ماتوا حتى رأى كلّ واحد منهم من ولده مائة ذكره لصلبه: أبو بكرة، نفيع بن الحرث الثقفي الصحابي، مات بالبصرة سنة إحدى أو اثنتين وخمسين "وخليفة بن بدر(12/30)
رابعًا: وهو المهلب بن أبي صفرة
وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أكثر ماله وولده، وأطل عمره، واغفر له" , فقد دفنت من صلبي مائة واثنين، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأرجو الرابعة.
وأخرج الترمذي عن أبي العالية في ذكر أنس: وكان له بستان يؤتي في كل سنة الفاكهة مرتين، وكان فيه ريحان تفوح منه رائحة المسك. ورجاله ثقات.
__________
وأنس، وزاد غيره رابعًا: وهو المهلب بن أبي صفرة" بضم المهملة وإسكان الفاء- واسمه: ظالم بن سارق العتكي -بفتح المهمة والفوقية- الأزدي البصري، من ثقات الأمراء, وكان عارفًا بالحرب, فكان أعداؤه يرمونه بالكذب, وهو من كبار التابعين, وله رواية مرسلة، قال أبو إسحاق السبيعي: ما رأيت أميرًا أفضل منه، مات سنة اثنتين وثمانين على الصحيح.
"وأخرج ابن سعد عن أنس قال: دعا لي النبي -صلى الله عليه وسلم" فقال: "اللهم أكثر ماله وولده" قال القاضي عياض: فيه جواز الدعاء بمثل هذا, وحجة لفضل الغنى، وذلك إذا لم يشغل عن القيام بحق الله تعالى، ولولا دعوته -صلى الله عليه وسلم- لخيف عليها الهلاك من كثرتهما؛ لأنه تعالى حذَّر من ذلك فقال: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} يعني: في الغالب، وقال الأبي: ويحتمل أنه إنما دعا له بتكثير المال لما رأى عليه من حالة الفقر, وهو دليل ترديه بنصف الخمار, فلا دليل فيه على تفضيل الغنى, "وأطل عمره, واغفر له" , فقد دفنت من صلبي مائة واثنين, وإن ثمرتي لتحمل" بها الأشجار "في السنة" أي: كل سنة مرَّتين, لقد بقيت حتى سئمت كرهت الحياة, وأرجو الرابعة" وهي المغفرة.
وفي رواية لمسلم: فدعا لي بكل خير, وكان في آخر ما دعا به لي أن قال: "اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه" , قال القرطبي: قوله: دعا لي بكل خير, يحتمل أنه دعا له بهذا اللفظ, ويحتمل أن التعبير بذلك من أنس. انتهى.
والثاني هو المتبادر من قوله: وكان في آخر, فإنه يشعر أن قبله دعوات, إمَّا أنه لم يحفظها أو لم يرد التحديث بها تفصيلًا، فأجملها بقوله: بكل خير.
"وأخرج الترمذي عن أبي العالية" رفيع بن مهران "في ذكر أنس", لفظ الترمذي من طريق أبي خلدة قلت لأبي العالية: أَسَمِعَ أنس من النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: خدمه عشر سنين, ودعا له النبي -صلى الله عليه وسلم, وكان له بستان يؤتي" بالواو، أي: يعطي "في كل سنة الفاكهة مرتين, وفي نسخة: يأتي بالفاكهة -بالألف- أي: يجيء, والذي في الإصابة عن الترمذي عن أبي العالية: يحمل الفاكهة في السنة مرّتين, وكان فيه ريحان يفوح منه ريح المسك, ورجاله ثقات, ثم لا تعارض بين هذا(12/31)
ودعا -عليه الصلاة والسلام- لمالك بن ربيعة السلولي أن يبارك له في ولده، فولِدَ له ثمانون ذكرًا، رواه ابن عساكر.
وأرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى عليٍّ يوم خيبر، وكان أرمد فتفل في عينيه وقال: "اللهمَّ أذهب عنه الحر والبرد"، قال: فما وجدت حرًّا ولا بردًا منذ ذلك اليوم، ولا رمدت عيناي.
وبعث -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن قاضيًا فقال: يا رسول الله، لا علم لي بالقضاء، فقال: " ادن مني" فدنا منه، فضرب يده على صدره وقال: "اللهم اهد قلبه وثبت
__________
وبين ما رواه ابن ماجه برجالٍ ثقات عن عمرو بن غيلان الثقفي، والطبراني عن معاذ, والطبراني أيضًا برجالٍ ثقات عن فضالة بن عبيد مرفوعًا: "اللهمَّ من آمن بي وصدَّقني وعلم أنَّ ما جئت به هو الحق من عندك, فأقلل ماله وولده وحبّب إليه لقاءك، ومن لم يؤمن بي ولم يصدقني ولم يعلم أن ما جئت به هو الحق من عندك, فأكثر ماله وولده وأطل عمره"؛ لأن فضل التقلل من الدنيا مختلف باختلاف الأشخاص، كما يشير إليه الحديث القدسي: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى.........." الحديث، فمن الناس من يخاف عليه الفتنة بالمال والولد, وعليه ورد هذا الحديث, وإن كانت من صيغة عموم؛ لأنه يصدق بمؤمن يخاف عليه الفتنة بالمال والولد، ومنهم من لا يخاف عليه كأنس، وحديث: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"، فدعا لكلٍّ من أمته بما يصلح له, ولا تناقض بين أحاديثه، فقول الداودي أحمد بن نصران: حديث أنس يدل على بطلان هذا الحديث، وكيف يصح وهو -صلى الله عليه وسلم- يحض على النكاح والتماس الولد. ساقط، فقد أمكن الجمع, وقال الحافظ: لا منافاة بينهما؛ لاحتمال أن يكون ورد في حصول الأمرين معًا، لكن يعكر عليه حديث أنس, فيقال: كيف دعا له وهو خادمه بما كرهه لغيره، فيحتمل أنه قرن دعاءه له بذلك بأن لا يناله من قبله ضرر؛ لأن المعنى في كراهة كثرة اجتماع المال والولد إنما هو لما يخشى من الفتنة بهما, والفتنة لا يؤمن معها الهلكة. انتهى.
"ودعا -عليه الصلاة والسلام- لمالك بن ربيعة" أبي مريم "السلولي" بمهملة ولامين- مشهور بكنيته, شهد بيعة الرضوان وحجة الوداع "أن يبارك له في ولده، فولد له ثمانون ذكرًا، رواه ابن عساكر" وابن منده "وأرسل -عليه الصلاة والسلام- إلى عليٍّ يوم خيبر وكان أرمد، فتفل" بفوقية ففاء- أقلّ من البزاق "في عينيه، وقال: "اللهم أذهب عنه الحر والبرد"، فما وجد حرًّا ولا بردًا منذ ذلك اليوم ولا رمدت عيناه" بكسر الميم وتقدَّمت القصة مبسوطة في خيبر, "وبعث -صلى الله عليه وسلم- عليًّا" زوج الزهراء "إلى اليمن قاضيًا فقال" حين أراد بعثه: "يا رسول الله, لا علم لي بالقضاء: فقال: "ادن مني" فدنا" قرب "منه فضرب" أي: وضع "يده على صدره وقال:(12/32)
لسانه" قال علي: فوالله ما شككت في قضاء بين اثنين. رواه أبو داود وغيره.
وعاد -صلى الله عليه وسلم- عليًّا من مرض فقال: "اللهم اشفه اللهمّ عافه" , ثم قال: "قم"، قال عليّ: فما عاد لي ذلك الوجع بعد. رواه الحاكم وصحَّحه البيهقي وأبو نعيم.
ومرض أبو طالب فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي, ادع ربك الذي تعبد أن يعافيني، فقال: "اللهم اشف عمي"، "فقام أبو طالب كأنَّما تسقط من عقال"، فقال: يا ابن أخي، إن ربك الذي تعبد ليطيعك، فقال: "وأنت يا عمَّاه, لئن أطعت الله ليطيعنك" رواه ابن عدي والبيهقي وأبو نعيم من حديث أنس. وتفرَّد به الهيثمي، وهو ضعيف.
ودعا عليه السلام لابن عباس: "اللهم فقهه في الدين، اللهم أعط ابن عباس الحكمة وعلمه التأويل". رواه البغوي وابن سعد.
وفي رواية البخاري: "اللهم علمه الكتاب" فكان عالمًا بالكتاب، حبر الأمة،
__________
اللهم اهد قلبه" بهمزة وصل, "وثبت لسانه" بشد الموحدة، أي: اجعله مستقرًّا دائمًا على النطق بالحق، أضاف الهداية للقلب؛ لأن المراد خلق الاهتداء فيه, والثبات للسان لتحركه عند النطق، فناسب الثبات بمعنى القرار "قال عليّ: والله ما شككت في قضاء بين اثنين".
رواه أبو داود وغيره" كأحمد والترمذي من حديث عليّ, "وعاد -صلى الله عليه وسلم- عليًّا من مرض قال: "اللهم اشفه، اللهم عافه"، ثم قال: "قم" كأنه زال عنه المرض في الحال, فأمره بالقيام "قال عليّ: فما عاد لي لك الوجع بعد" بضم الدال, "رواه الحاكم وصحَّحه البيهقي وأبو نعيم" من حديث علي, "ومرض أبو طالب, فعاده النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا ابن أخي, ادع ربك الذي تعبد أن يعافيني، فقال: "اللهم اشف عمي"، فقال أبو طالب: كأنما نشط" بكسر الشين "من عقال" كان معقولًا به فحلّ منه فقام سريعًا, "قال: "يا ابن أخي, إن ربك الذي تعبد ليطيعك، فقال: وأنت يا عمَّاه لئن أطعت الله ليطيعنك".
"رواه ابن عدي والبيهقي وأبو نعيم من حديث أنس، وتفرَّد به الهيثم وهو ضعيف، ودعا عليه السلام لابن عباس" عبد الله، فقال: "اللهم فقهه في الدين، اللهمَّ أعط ابن عباس الحكمة" تحقيق العلم وإتقان العمل, "وعلمه التأويل" للقرآن، وقد جاء في رواية: "وعلمه تأويل القرآن".
"رواه البغوي" الكبير في معجم الصحابة "وابن سعد" من حديث عمر بن الخطاب "وفي رواية البخاري" عن ابن عباس: ضمَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى صدره، وقال: "اللهم علّمه الكتاب"(12/33)
بحر العلم، رئيس المفسرين, ترجمان القرآن، وكونه في الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى.
وقال للنابغة الجعدي لما قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في علم إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
__________
القرآن؛ لأن العرف الشرعي عليه، والمراد بالتعليم: ما هو أعمّ من حفظه والتفهّم فيه.
وفي رواية للبخاري أيضًا: الحكمة بدل الكتاب، فقيل: المراد بها القرآن؛ لأن الحديث واحد، فرواه بعضهم بالمعنى، والأقرب أنَّ المراد بها الفهم في القرآن، وقيل: العمل به، وقيل السنة، وقيل: الإصابة في القول، وقيل: الخشية, وقيل: الفهم عن الله، وقيل: العقل, وقيل: ما يشهد العقل بصحته، وقيل: نور يفرق بين الإلهام والوسواس، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة، ذكره الحافظ "فكان عالمًا بالكتاب حبر" بكسر الحاء أصح من فتحها عند أكثر اللغويين، وعند ثعلب والمحدثين الفتح، أي: عالم "الأمة, بحر العلم, رئيس المفسرين, ترجمان القرآن, وكونه في الدرجة العليا والمحل الأقصى لا يخفى" على أحد "وقال" صلى الله عليه وسلم "للنابغة" بنون وموحدة وغين معجمة- لقبه؛ لأنه ترك الشعر مدة في الجاهلية، ثم عاد إليه بعد أن أسلم، فقيل: نبغ, واسمه: قيس بن عبد الله بن عديس بن ربيعة بن جعدة، وقيل: اسمه عبد الله، وقيل: حبان بن قيس، وقيل: غير ذلك "الجعدي" نسبة إلى جدّه جعدة كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة "لما قال" أي: أنشده من قصيدته المطولة نحو مائتي بيت أولها:
خليلي غضا ساعة وتهجرا ... ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا
وقال ابن عبد البر: أظنه أنشدها كلها للنبي -صلى الله عليه وسلم، فلمَّا أتى على قوله فيها:
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ... ويتلو كتابًا كالمجرة نيرا
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
غضب وقال: "أين المظهر يا أبا ليلى؟ " قلت: الجنة، قال: "أجل إن شاء الله" ثم قال: أنشدني فأنشدته.
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في علم إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
بوادر: جمع بادرة, وصفوة -بفتح المهملة وسكون الفاء، وأصدر: منع نفسه من المهالك(12/34)
"لا يف الله فاك" أي: لا يسقط الله أسنانك، وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف: قال: فأتى عليه أكثر من مائة سنة, وكان من أحسن الناس ثغرًا، رواه البيهقي وقال فيه: فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة, وما ذهب له سن، وفي رواية ابن أبي أسامة: وكان من أحسن الناس ثغرًا, وإذا سقطت له سن نبتت له أخرى، وعند ابن السَّكن: فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد لدعوته -صلى الله عليه وسلم.
__________
"لا يف الله فاك" زاد في رواية: مرتين "أي: لا يسقط الله أسنانك, وتقديره: لا يسقط الله أسنان فيك، فحذف المضاف".
"قال" الراوي لهذا الحديث عن النابغة: "فأتي عليه أكثر من مائة سنة, وكان من أحسن الناس ثغرًا" بمثلثة ومعجمة، أي: أسنانًا، ففي القاموس في معاني الثغر والأسنان أو مقدمها أو ما دامت في منابتها. انتهى.
وحمل ما هنا على الجميع, متعين لقوله بعده: وما ذهب له سن "رواه البيهقي وقال فيه" الراوي: "فلقد رأيته ولقد أتى عليه نيف ومائة سنة, وما ذهب له سن، وفي رواية" الحرث "بن أبي أسامة" من طريق الحسن بن عبيد الله العنبري، قال: حدَّثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنشدته، فذكر القصة وقال في آخرها: "وكان من أحسن الناس ثغرًا", أي: أسنانًا, "وإذا سقطت له سن" لا يخالف قوله: وما ذهب له سن؛ لأنه لما "نبتت له أخرى" مكانها, كأنها لم تسقط.
وكذا رواه السلفي في الأربعين البلدانية من طريق نصر بن عاصم الليثي عن أبيه: سمعت النابغة يقول: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فذكر القصة وفيها فقال: "صدقت, لا يف الله فاك"، قال عاصم: فبقي عمره أحسن الناس ثغرًا, كلما سقطت سن عادت أخرى وكان معمرًا.
"وعند ابن السكن" في الصحابة والارقطني في المؤتلف والمختلف, عن كرز بن شامة: وكانت له وقادة عن النابغة، فذكر القصة بنحوها، وقال كرز: "فرأيت أسنان النابغة أبيض من البرد" حب الغمام "لدعوته -صلى الله عليه وسلم".
وعند الخطابي في غريب الحديث, والمرهبي في كتاب العلم، وغيرهما عن عبد الله بن جراد: فرأيت أسنان النابغة كالبرد المنهل ما انقضمت له سن ولا انفلت.
وحكي في الإصابة الخلاف في سنّه، فروى الحاكم عن النضر بن شميل عن المنتجع الأعرابي، قال: أكبر من لقيت النابغة الجعدي، قلت له: كم عشت في الجاهلية؟ قال: دارين، قال النضر: يعني: مائتي سنة، وقال الأصمعي: عاش مائتين وثلاثين سنة، وقال ابن قتيبة: مات(12/35)
وسقاه -عليه الصلاة والسلام- عمرو بن أخطب ماء في قدح قوارير، فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم جَمِّله" فبلغ ثلاثًا وتسعين سنة وما في لحيته ورأسه شعرة بيضاء، رواه الإمام أحمد من طريق أبي نهيك. قال أبو نهيك: فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس في لحيته شعرة بيضاء. وصحَّحه ابن حبان والحاكم.
وأخرج البيهقي عن أنس أن يهوديًّا أخذ من لحية النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهمَّ جَمِّله". فاسودت لحيته بعد أن كانت بيضاء. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن قتادة قال: حلب يهودي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّ شعره حى صار أشد سوادًا من كذا وكذا. قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش
__________
بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة، وقال غيره: مائة وثمانون، وقيل: مائتان.
قال أبو عبيدة معمر: كان النابغة ممن فكَّر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وهجر الأزلام واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم, "وسقاه -عليه الصلاة والسلام- عمرو" بفتح العين "ابن أخطب -بمعجمة فمهملة- ابن رفاعة الأنصاري، الخزرجي، أبو زيد، مشهور بكنيته "ماء في قدح قوارير" أي: زجاج، وأما قوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 16] ، فقال البيضاوي: أي تلونت جامعةً بين صفاء الزجاجة وشفيفها وبياض الفضة ولينها، أي: لين مَسِّها, بمعنى نعومتها, "فرأى فيه شعرة بيضاء فأخذها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم جَمِّله" فبلغ ثلاثًا وتسعين سنة وما في لحيته و" لا في "رأسه شعرة بيضاء".
رواه الإمام أحمد من طريق أبي نهيك" قال: حدثني أبو زيد، قال: استسقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ماء, فأتيته بقدح, فذكره. "قال أبو نهيك" بفتح النون- الأزدي البصري الثقة، اسمه: عثمان بن نهيك "فرأيته ابن أربع وتسعين سنة وليس في لحيته شعرة بيضاء، وصحَّحه ابن حبان والحاكم", وقد عاش بعد ذلك، ففي رواية لأحمد أيضًا عن علباء بن أحمر عن أبي زيد بن أخطب، قال: مسح النبي -صلى الله عليه وسلم- على وجهي ودعا لي, ووجدته زادنى جمالًا، قال -أي: علباء: فأخبرني غير واحد أنه بلغ بضعًا ومائة سنة أسود الرأس واللحية.
"وأخرج البيهقي عن أنس أن يهوديًّا أخذ من لحية النبي -صلى الله عليه وسلم" شيئًا يحسن إزالته "فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّت لحيته بعد أن كانت بيضاء، وقال عبد الرزاق بن همام أحد الحفاظ: "أخبرنا معمر" بن راشد "عن قتادة" بن دعامة "قال: حلب يهودي للنبي -صلى الله عليه وسلم- ناقة، فقال: "اللهمَّ جَمِّله" فاسودَّ شعره حتى صار أشد سوادًا من كذا وكذا".
"قال معمر: وسمعت غير قتادة يذكر أنه عاش تسعين سنة" بفوقية قبل السين "لم(12/36)
تسعين سنة فلم يشب، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل, والبيهقي وقال: مرسل شاهد لما قبله.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لابن الحمق الخزاعي، وقد سقاه -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ متعه بشبابه"، فمرَّت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء. رواه أبو نعيم وغيره.
وجاءته فاطمة وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها -صلى الله عليه وسلم, ووضع يده على صدرها ثم قال: "اللهمَّ مشبع الجاعة لا تجع فاطمة بنت محمد". قال عمران بن الحصين: فنظرت إليها وقد علاها الدم على الصفرة في وجهها، ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران، ذكره يعقوب بن سليمان الإسفرايني في دلائل الإعجاز.
ودعا -صلى الله عليه وسلم- لعروة بن الجعد البارقي فقال: "اللهمَّ بارك له في صفقة يمينه"، قال: فما اشتريت شيئًا قط إلا وربحت فيه.
__________
يشب، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود في المراسيل والبيهقي، وقال: مرسل شاهد لما قبله" من مرسل قتادة, "وقال -عليه الصلاة والسلام- لابن الحمق" بفتح المهملة وكسر الميم وقاف- واسمه: عمرو -بفتح العين- ابن الحمق بن كاهل "الخزاعي" الكعبي: "وقد سقاه -عليه الصلاة والسلام" لبنا "اللهمَّ متِّعه بشبابه"، فمرت عليه ثمانون سنة لم ير شعرة بيضاء" يعني: إنه استكمل الثمانين لا أنه عاش بعد ذلك ثمانين، قاله في الإصابة: "رواه أبو نعيم وغيره" من حديثه, وقد سكن الكوفة ثم مصر, ثم قتل زمن معاوية ووجه إليه برأسه, "وجاءته" صلى الله عليه وسلم "فاطمة ابنته, سيدة النساء "وقد علاها الصفرة من الجوع، فنظر إليها -صلى الله عليه وسلم- ووضع يده" الميمونة على صدرها، ثم قال: "اللهمَّ مشبع الجاعة" جمع جائع "لا تجع فاطمة بنت محمد"، قال عمران بن الحصين: فنظرت إليها" عقب الدعاء "وقد علاها الدم على الصفرة في وجهها, ولقيتها بعد فقالت: ما جعت يا عمران بعد الدعاء.
"ذكره يعقوب بن سليمان الإسفرايني في دلائل الإعجاز, ودعا -عليه الصلاة والسلام- لعروة بن الجعد" ويقال: ابن أبي الجعد، وصوَّبه علي بن المديني, وقال ابن قانع: اسم أبي الجعد عياض، وزعم الرشاطي أنه عروة بن عياض بن أبي الجعد, وأنه نسب إلى جده كما في الإصابة "البارقي" بالموحدة والقاف- حضر فتوح الشام، ثم سيِّره عثمان إلى الكوفة, وهو أول قاض بها, وحديثه عند أهلها: لما أرسله يشتري بدينار فاشترى به شاتين, باع إحداهما بدينار وجاء به, وبالشاة الأخرى له -صلى الله عليه وسلم- فقال: "اللهم بارك له في صفقة يمينه"، قال عروة: "فما اشتريت شيئًا قط إلا ربحت فيه" والحديث مشهور في البخاري وغيره.(12/37)
وقال لجرير البجلي, وكان لا يثبت على الخيل، وضرب في صدره: "اللهم ثبته واجعله هاديًا مهديًّا" قال: فما وقعت عن فرسي بعد.
وقال لسعد بن أبي وقاص: "اللهم أجب دعوته" فكان مجاب الدعوة. رواه البيهقي والطبراني في الأوسط.
ودعا لعبد الرحمن بن عوف بالبركة. رواه الشيخان عن أنس، زاد البيهقي من وجه آخر: قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب تحته ذهبًا أو فضة. الحديث.
قال القاضي عياض: وقد فتح الله عليه ومات, فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى مجلت فيه الأيدي، وأخذت كل زوجة ثمانين ألفًا، وكن أربعًا، وقيل: مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهنَّ؛ لأنه طلقها في مرض موته على
__________
"وقال -صلى الله عليه وسلم "لجرير" بن عبد الله "البجلي, وكان لا يثبت على الخيل" أي: يسقط لعدم اعتياده ركوبها, وكان يخاف السقوط عنها حال جريها, "وضرب في صدره: "اللهم ثَبِّته" فدعا له بأكثر مما طلب وهو الثبوت مطلقًا, "واجعله هاديًا" لغيره "مهديًّا" في نفسه, "قال" جرير: فما وقعت عن فرس بعد" والحديث في الصحيح, "وقال لسعد بن أبي وقاص" مالك الزهري: "اللهم أجب دعوته، فكان مجاب الدعوة" بعين ما يدعو به.
"رواه البيهقي والطبراني في الأوسط", وهو في الترمذي من حديث ابن أبي حازم، عن سعد، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم استجب لسعد إذا دعاك" فكان لا يدعو إلّا استُجيبَ له "ودعا" صلى الله عليه وسلم "لعبد الرحمن بن عوف" الزهري "بالبركة".
"رواه الشيخان عن أنس" قال: رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: "مهيم"، قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، فقال: "بارك الله لك, أَوْلِم ولو بشاة" زاد البيهقي من وجه آخر.
"قال عبد الرحمن: فلو رفعت حجرًا لرجوت أن أصيب تحته ذهبًا أو فضة..... الحديث".
"قال القاضي عياض: وقد فتح الله عليه، ومات, فحفر الذهب من تركته بالفئوس حتى مجلت" بفتح الميم والجيم وتكسر الجيم- أي: تنقطت "فيه الأيدي" أي: صار فيها بين الجلد واللحم ماء.
قاله الجوهري: "وأخذت كل زوجة ثمانين ألفًا وكن أربعًا، وقيل:" أخذت كل واحدة من الأربع "مائة ألف، وقيل: بل صولحت إحداهنَّ" وهي تماضر -بضم الفوقية وكسر الضاد المعجمة- الكلبية الصحابية "لأنه طلَّقها في مرض موته على ثمانين ألفًا، وأوصى بخمسين ألفًا(12/38)
ثمانين ألفًا. وأوصى بخمسين ألفًا بعد صدقاته الفاشية في حياته، وعوارفه العظيمة، أعتق يومًا ثلاثين عبدًا، وتصدَّق مرة بعير فيها سبعمائة بعير وردت عليه تحمل من كل شيء, فتصدَّق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها.
وذكر المحب الطبري مما عزاه للصفوة عن الزهري: إنه تصدق بشطر ماله: أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل على خمسمائة فرس في سبيل الله، ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وكان عامة ماله من التجارة.
ودعا على مضر فأقحطوا حتى أكلوا العلهز -وهو الدم بالوبر- حتى استعطفته قريش.
ولما تلى -عليه الصلاة والسلام: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قال عتيبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم، فقال: "اللهمَّ سلط عليه كلبًا من كلابك". فخرج عتيبة مع أصحابه في عير إلى الشام حتى إذا كانوا بالشام زأر الأسد، فجعلت فرائصه ترعد، فقيل له: في أي شيء ترعد؟ فوالله ما نحن وأنت في هذا إلا سواء، فقال
__________
بعد صدقاته الفاشية" أي: الكثيرة "في حياته, وعوارفه" أي: أفعاله المعروفة, جمع عارفة "العظيمة, أعتق يومًا ثلاثين عبدًا, وتصدَّق مرة بعير" بكسر العين "فيها سبعمائة بعير وردت عليه" من تجارته "تحمل من كل شيء, فتصدق بها وبما عليها وبأقتابها وأحلاسها".
"وذكر المحب الطبري مما عزاه للصفوة" لابن الجوزي "عن الزهري, أنه تصدق بشطر ماله أربعة آلاف، ثم تصدق بأربعين ألف دينار، ثم حمل" المغازين "على خمسمائة فرس في سبيل الله" الجهاد, "ثم حمل على ألف وخمسمائة راحلة" من الجمال "في سبيل الله وكان عامَّة ماله من التجارة, ودعا" صلى الله عليه وسلم "على مضر" بقوله: "اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف" , "فأقحطوا حتى أكلوا العلهز" بكسر المهملة والهاء بينما لام ساكنة وآخره زاي "وهو الدم بالوبر, حتى استعطفته قريش" فدعا لهم "ولما تلا -عليه الصلاة والسلام: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} ، قال عتيبة" بالتصغير "ابن أبي لهب" وأما أخوه عتبة المكبر فأسلم في فتح مكة كما مَرَّ: "كفرت برب النجم، فقال: "اللهم سلّط عليه كلبًا من كلابك" فخرج عتيبة مع أصحابه في عير" إبل "إلى الشام" في تجارة "حتى إذا كانوا بالشام" بمحل يقال له الزرقاء, "زأر" بزاي فراء فهمزة- أي: صوت "أسد، فجعلت فرائصه ترعد" بضم العين وفتحها "فقيل له: في أي شيء ترعد، فوالله ما نحن وأنت في هذا إلّا سواء، فقال: إن محمدًا دعا علي(12/39)
إن محمدًا دعا علي، ولا والله ما أظلت هذه السماء من ذي لهجة أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه حتى جاء النوم، فأحاطوا به وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم، ووسَّطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق رءوسهم رجلًا رجلًا حتى انتهى إليه فمضغه مضغة، وهو يقول: ألم أقل لكم إن محمدًا أصدق الناس، ومات. ذكره يعقوب الإسفرايني. وتقدَّم في ذكر أولاده -عليه الصلاة والسلام- قصة بنحو هذا.
وعن مازن الطائي -وكان بأرض عمان- قلت: يا رسول الله، إني امرؤ مولع بالطرب وشرب الخمر والنساء، وألحت علينا السنون، فأذهبن الأموال وأهزلن الذراري والرجال، وليس لي ولد، فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء
__________
ولا والله ما أظلَّت هذه السماء من ذي لهجة" بفتح الهاء أفصح من سكونها، قاله الزمخشري: "أصدق من محمد، ثم وضعوا العشاء فلم يدخل يده فيه حتى جاء النوم" أي: وقته "فأحاطوا به" داروا حوله "وأحاطوا أنفسهم بمتاعهم, ووسَّطوه بينهم وناموا، فجاء الأسد يستنشق:" يشمّ "رءوسهم رجلًا رجلًا حتى انتهى إليه، فمضغه مضغة وهو يقول: ألم أقل لكم أن محمدًا أصدق الناس ومات".
"ذكره يعقوب الإسفرايني, وتقدَّم في ذكر أولاده -عليه الصلاة والسلام- قصة بنحو هذه" ذكر فيها أن سبب الدعاء أن عتيبة لما فارق السيدة أم كلثوم قال: كفرت بدينك وفارقت ابنتك، لا تحبني ولا أحبك, فدعا عليه، فيحتمل تعدّد السبب, "وعن مازن" بزاي ونون- ابن العضوية -بفتح العين المهملة وضم الضاد المعجمة- ابن غراب "الطائي", ذكره ابن السكن وغيره في الصحابة, "وكان بأرض عمان: "بضم المهملة وخفة الميم- موضع باليمن، وفي خبره هذا أنه أنشد النبي -صلى الله عليه وسلم:
إليك رسول الله خبت مطيتي ... تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطيء الحصى ... فيغفر لي ذنبي وارجع بالفلج
والفلج -بضم الفاء وسكون اللام وجيم: الفوز، وتجوب -بجيم وموحدة: تقطع، وخبت -بخاء معجمة وموحدة: سارت سيرًا شديدًا، ويروى: جئت -بمهملة مضمومة ومثلثة مبني للمفعول "قلت: يا رسول الله, إني امرؤ مولع" متعلّق "بالطرب" بفتحتين- الخفة واللعب والميل إلى اللهو, "وشرب الخمر والنساء، وألحت" دامت "علينا السنون" القحط والجدب "فأذهبنَّ الأموال وأهزلنَّ" من الهزال -بالزاي- ضد السمن, "الذراري والرجال" من الجوع, وليس لي ولد, فادع الله أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحياء" بالقصر الغيث والمطر والخصب "ويهب لي(12/40)
ويهب لي ولدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن, وبالحرام الحلال, وأته بالحياء، وهب له ولدًا" قال مازن: فأذهب الله عني كل ما كنت أجد، وأخصبت عمان, وتزوجت أربع حرائر، ووهب الله لي حيان بن مازن. رواه البيهقي.
ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بتبوك, صلى إلى نخلة, فمَرَّ رجل بينه وبينها, فقال -صلى الله عليه وسلم: "قطع صلاتنا قطع الله أثره" فأقعد فلم يقم. رواه أبو داود والبيهقي، لكن بسند ضعيف.
وأكل عنده -صلى الله عليه وسلم- بشماله فقال: "كل بيمينك" قال: لا أستطيع، قال: "لا استطعت" فما رفعها إلى فِيهِ بعد. والرجل هو بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة- ابن راعي العير -بفتح العين وسكون المثناة التحتية.
__________
ولدًا، فقال -صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ أبدله بالطرب قراءة القرآن، وبالحرام الحلال، وأته بالحياء وهب له ولدًا"، قال مازن: فأذهب الله عني كل ما كنت أجد وأخصبت عمان" أسقط من الحديث: وحججت حججًا, وحفظت شطر القرآن, "وتزوَّجت أربع حرائر, ووهب الله لي حيان" بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة تحت، كذا رأيته مضبوطًا, ولا أعرف له ترجمة، قاله في نور النبراس "ابن مازن".
رواه البيهقي" في الدلائل، والطبراني وابن السكن والفاكهي في كتاب مكة، وابن قانع كلهم من طريق هشام بن الكلبي، عن أبيه قال: حدَّثني عبد الله العماني، قال: قال مازن بن العضوية: فذكر حديثًا طويلًا اقتصر المصنف منه على حاجته, "ولما نزل -صلى الله عليه وسلم- بتبوك, صلى إلى نخلة، فمَرَّ بينه وبينها، فقال -صلى الله عليه وسلم: "قطع صلاتنا" أي: فعل: ما ينقص ثوابها "قطع الله أثره", ولعله فهم منه انتهاك حرمة الله، فدعا عليه لأنه كان لا ينتقم لنفسه, "فأقعد فلم يقم" أي: فلم يستطع القيام بعد. "رواه أبو داود والبيهقي, لكن بسند ضعيف. وأكل عنده -صلى الله عليه وسلم- رجل بشماله، فقال: "كل بيمينك" قال: "لا أستطيع"، قال: "لا استطعت"، فما رفعها إلى فيه بعد" فما استطاع رفعها، ذلك لا أنه تركه مع القدرة عليه، والحديث رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع، وزاد في رواية مسلم: لم يمنعه إلا الكبر، واستدلّ به عياض على أنه كان منافقًا، وزيفه النووي بأن ابن مندة وأبا نعيم وابن ماكولا وغيرهم ذكروه في الصحابة، قال في الإصابة: وفيه نظر؛ لأن كل من ذكره إنما استند لهذا الحديث، فالاحتمال قائم, ويمكن الجمع بأنه لم يكن في تلك الحالة أسلم، ثم أسلم بعد, "والرجل" المبهم في رواية مسلم "هو بسر -بضم الموحدة وسكون المهملة- كما ضبطه الدارقطني وابن ماكولا وغيرهما، وقيل: فيه بشر بالمعجمة، ذكره ابن منده ونسبه أبو نعيم إلى التصحيف، لكن في سنن البيهقي، أنه بمعجمة أصح "ابن راعي العير -بفتح(12/41)
وطلب -صلى الله عليه وسلم- معاوية بن أبي سفيان، فقيل له: إنه يأكل، فقال في الثانية: "لا أشبع الله بطنه" فما شبع بطنه أبدًا، رواه البيهقي من حديث ابن عباس، وكان معاوية رديفه يومًا فقال: يا معاوية، ما يليني منك"؟ قال: بطني؟ قال: "اللهمّ املأه علمًا وحلمًا". رواه البخاري في تاريخه.
وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ثروان: "اللهم أطل شقاءه وبقاءه" فأدرك شيخًا كبيرًا شقيًّا يتمنَّى الموت.
وكم له -صلى الله عليه وسلم- من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضي عياض بابًا في
__________
العين وسكون المثناة التحتية" الأشجعي، كما سُمِّيَ بذلك في رواية الدارمي وابن حبان والطبراني عن سلمة، ولا دلالة فيه على وجوب الأكل باليمين؛ لأن الدعاء ليس لترك المستحب، بل لقصده المخالفة كبرًا بلا عذر، ومَرَّ لذلك مزيد في المقصد الثالث,: "وطلب -صلى الله عليه وسلم- معاوية بن أبي سفيان, فقيل له: إنه يأكل، فقال في الثانية: "لا أشبع الله بطنه" دعاء عليه على المتبادر، ويدل عليه قول: "فما شبع بطنه أبدًا", زعم أنه دعا له بأنَّ الله يرزقه القناعة ليس بشيء، ولا يؤيده دعاؤه له في الحديث الثاني؛ لأنهما قصتان.
"رواه البيهقي من حديث ابن عباس" وفي مسلم، عنه: قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: "ادع لي معاوية", وكان كاتبه "وكان معاوية رديفه يومًا، فقال له: يا معاوية, ما يليني منك، قال بطني، قال: "اللهم املأه" أي: البطن؛ لأنه مذكر "علمًا وحلمًا" رواه البخاري في تاريخه, وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي ثروان" بمثلثة وراء- الراعي التميمي، ذكره الدولابي في الكنَى.
وأخرج عن أحمد بن داود المكي، عن إبراهيم بن زكريا، عن عبد الملك بن هارون, من عنيزة، قال: حدثني أبي، سمعت أبا ثروان يقول: كنت أرعى لبني عمرو بن تميم في إبلهم، فهرب النبي -صلى الله عليه وسلم- من قريش، فجاء حتى دخل في إبلي، فنفرت الإبل؟ فإذا هو جالس، فقلت: من أنت؟ فقد نفرت إبلي, قال: "أردت أن أستأنس إليك وإلى إبلك"، فقلت: من أنت؟ قال: "ما يضرك أن لا تسألني؟ " قلت: إني أراك الذي خرجت نبيًّا، قال: "أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله"، قلت: اخرج من إبلي فلا يبارك الله في إبل أنت فيها، فقال: "اللهمَّ أطل شقاءه وبقاءه"، فأدرك شيخًا كبيرًا شقيًّا" من الشقاء وهو التعب، لفظ الرواية المذكورة: قال هارون: فأدركته شيخًا كبيرًا "يتمنَّى الموت" فقال له القوم: ما نراك يا أبا ثروان إلا هالكًا، دعا عليك رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقال: كلا, إني أتيته بعدما ظهر الإسلام، فأسلمت واستغفر لي, ولكن دعوته الأولى سبقت، وتابعه محمد بن سليمان الباغندي عن عبد الملك وعبد الملك متروك.
ذكره في الإصابة: وكم للتكثير, صلى الله عليه وسلم "له من دعوات مستجابات، وقد أفرد القاضي(12/42)
الشفاء ذكر فيه طرفًا منها، وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفرايني في كتابه "دلائل الإعجاز" فكم أجابه الله تعالى إلى مسئوله، وأجناه من شجرة دعائه ثمرة سؤله.
وأما حديث أبي هريرة عند البخاري, أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبيء دعوتي شفاعة لأمتي في الآخرة" , فقد استشكل ظاهره بما ذكرته، وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء -صلى الله عليهم وسلم- من الدعوات المجابة، فإن ظاهره أنَّ لكل نبي دعوة مجابة فقط.
وأجيب: بأنَّ المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها، وما عدا ذلك من دعواتهم فهي على رجاء الإجابة، وقيل: معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي: أفضل دعواته، ولهم دعوات أخرى" وقيل: لكل نبي منهم دعوة عامّة مستجابة في أمته، إما
__________
عياض بابًا في الشفاء، ذكر فيه طرفًا" أي: بعضًا "منها, وكذا الإمام يوسف بن يعقوب الإسفرايني في كتابه دلائل الإعجاز: فكم" للتكثير, "أجابه الله تعالى إلى مسئوله وأجناه" بجيم ونون، أي: أعطاه من شجرة دعائه ثمرة سؤله", شبَّه الدعاء ببستان ذي شجر، فهو استعارة بالكناية، وإثبات الشجر تخييل, والثمرة ترشيح، والمعنى: إنَّ الله أعطاه ما سأل على أكمل وجه، وتهيأ ما سأله في دعائه.
"وأمَّا حديث أبي هريرة عند البخاري" ومسلم وغيرهما "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل نبي دعوة" وقوله: "مستجابة" إنما وقعت في رواية أبي ذر وحده للبخاري, ولم تقع لباقي رواته, ولا هي في الموطأ الذي أخرجه البخاري من طريقه ولا في مسلم "يدعو بها" بهذه الدعوة "وأريد أن أختبيء" بسكون المعجمة وفتح الفوقية وكسر الموحدة فهمزة- أي: أدَّخِر "دعوتي" المقطوع بإجابتها "شفاعة لأمتي في الآخرة" في أهمّ أوقات حاجتهم.
"فقد استشكل ظاهره بما ذكرته" من الأحاديث, وفيها كلها أنه استجيب له ما دعا به, "وبما وقع لنبينا ولكثير من الأنبياء -صلى الله عليه وسلم- من الدعوات المجابة" التي لا تحصى "فإن ظاهره أنَّ لكل نبي دعوة مستجابة فقط" تعليل للإشكال.
وأجيب بأن المراد بالإجابة في الدعوة المذكورة القطع بها, وما عدا ذلك من دعواتهم فهي على رجاء الإجابة" على غير يقين ولا وعد.
"وقيل: معنى قوله: "لكل نبي دعوة" أي: هي "أفضل دعواته, ولهم دعوات أخرى" ليست أفضل وإن كانت مجابة.
"وقيل: لكل نبي منهم دعوة عامَّة مستجابة في أمته، إما بإهلالكم وإما بنجاتهم،(12/43)
بإهلاكم، وإما بنجاتهم، وأما الدعوات الخاصة: فمنها ما يستجاب, ومنها ما لا يستجاب. وقيل: لكل نبي منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] وقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} [مريم: 6] وقول سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} .
وأما قول الكرماني في شرحه على البخاري: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لكلّ نبي دعوة مستجابة، وإجابة الباقي في مشيئة الله تعالى، فقال العيني: هذا السؤال لا يعجبني؛ لأن فيه بشاعة، وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة. وقوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" لا ينفي ذلك؛ لأنه ليس بمحصور. انتهى. ولم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا بشيء فلم يستجب له.
وفي هذا الحديث بيان فضيلة نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أمته
__________
وأما الدعوات الخاصة: فمنها ما يستجاب, ومنها ما لا يستجاب" بعين المطلوب لا مطلقًا، فلا يرد أن آحاد المؤمنين يستجاب لهم بإحدى ثلاث كما مَرَّ. "وقيل: لكلٍّ منهم دعوة تخصه لدنياه أو لنفسه، كقول نوح: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} فهذه دعوة لإصلاح دنياه, "وقول زكريا: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا، يَرِثُنِي} فهذه لنفسه, "وقول سليمان: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي} لا يكون {لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فهذه لنفسه.
"وأما قول الكرماني" محمد بن يوسف "في شرحه على البخاري: فإن قلت: هل جاز أن لا يستجاب دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم, قلت: لكل نبي دعوة مستجابة, وإجابة الباقي في مشيئة الله" تعالى، فيجوز أن لا يستجاب بعضها في الدنيا وأكثرها مجاب, "فقال العيني" بدر الدين محمود: "هذا السؤال لا يعجبني؛ لأن فيه بشاعة" كراهة "وأنا لا أشك أن جميع دعوات النبي -صلى الله عليه وسلم- مستجابة".
"وقوله: "لكل نبي دعوة مستجابة" لا ينفي ذلك؛ لأنه ليس بمحصور. انتهى" أي لم يقل: لا يستجاب لكل نبي إلّا دعوة, وهذا قد سبقه إلى نحوه بعض شراح المصابيح، وقد تعقَّبه الطيبي بأن غفلة عن الحديث الصحيح.
"سألت الله ثلاثًا فأعطاني اثنين ومنعنى واحدة" انتهى. وبه يتعقّب أيضا قوله: "ولم ينقل أنه -صلى الله عليه وسلم- دعا بشيء فلم يستجب له" بل نقل كما رأيت "وفي هذا الحديث بيان فضيلة(12/44)
على نفسه وأهل بيته بدعوته المجابة، ولم يجعلها دعاء عليهم بالهلاك كما وقع لغيره -صلوات الله وسلامه عليهم.
وظاهر الحديث يقتضي أنه -عليه السلام- أخر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع، ويحتمل أن يكون المؤخر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ومنفعتها، وأما طليها فحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا.
وقد أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- الترقي في مراتب التوحيد بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} [محمد: 19] فإنه ليس أمرًا بتحصيل ذلك العلم؛ لأنه عالم بذلك، ولا بالثبات؛ لأنه معصوم، فتعيِّن أنه يكون للترقي في مراتبه ومقاماته، إشارة إلى أنَّ العلم به تعالى, والسير إليه لا نهاية له أبدًا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية في العالم منتظم في سلك تحقيقها، وستثمر من أفنان طواياها، ولذا
__________
نبينا -صلى الله عليه وسلم- على سائر الأنبياء؛ حيث آثر أمته على نفسه" فلم يدعها لنفسه "و" "أهل بيته يدعوته المجابة" فلم يدع بها لهم "ولم يجعلها دعاء عليهم" أي: أمته "بالهلاك كما وقع لغيره" نوح -صلوات الله وسلامه عليهم", ووجه الفضيلة للمصطفى مع أن نوحًا إنما دعا بعد أن أوحي إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} , إنَّ نبينا -صلى الله عليه سلم- لما أتى له ملك الجبال وقال: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، قال: "لا إني أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله" صلى الله عليهم أجمعين, "وظاهر الحديث يقتضي أنه -عليه السلام- أخَّر الدعاء والشفاعة ليوم القيامة، فذلك اليوم يدعو ويشفع" فيه, فهو خبر، فذلك اليوم, والعائد محذوف، ويحتمل نصب اليوم ظرفًا فلا حذف.
"ويحتمل أن يكون المؤخَّر ليوم القيامة ثمرة تلك الدعوة ونفعها، وأما طلبها, فحصل من النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا" لكنَّه احتمال بعيد مخالف للظاهر, "وقد أمر الله النبي -صلى الله عليه وسلم- بالترقي في مراتب التوحيد، بقوله: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه} , فإنه ليس أمرًا بتحصيل ذلك العلم؛ لأنه عالم بذلك" فيلزم الأمر بالموجود في المأمور "ولا بالثبات" الدوام عليه؛ "لأنه معصوم" فلا يمكن منه عدم الثبات حتى يؤمر به "فتعيِّن أن يكون للترقي في مراتبه ومقاماته, إشارةً إلى أن العلم به تعالى, والسير إليه لا نهاية له أبدًا، فجميع العلوم الحقيقية والمعارف اليقينية في العالم منتظم" داخل "في سلك تحقيقها ومستثمر" أي: مثمر, فالسين زائدة, "من أفنان" جمع فنن، أي: أغصان، أي: خواص "طواياها" أي: المراتب العلية, جميع طويّة بمعنى مطوية، أي: ما خفي من تلك المراتب.(12/45)
اكتفى بعلمها له -صلى الله عليه وسلم- في الآية, فالشأن كله في تصحيح التوحيد وتجريده وتكميله، وقد قال تعالى له -عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} [المزمل: 8] وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} [الأعراف: 205] ؛ لأنه لا بُدَّ في أول السلوك من الذكر باللسان مدةً, ثم يزول الاسم ويبقى المسمَّى، فالدرجة الأولى هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} [المزمل: 8] والمرتبة الثانية هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّك} ، وفي استيفاء مباحث ذلك طول يخرج عن الغرض، وقد تقدَّم جملة من أذكاره مفرَّقة في الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة. كما رواه عنه أبو هريرة عند البخاري.
وظاهره أنَّه يطلب المغفرة، ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد: أنه -صلى الله عليه وسلم- يقول هذا اللفظ بعينه، ويرجّح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد من
__________
"ولذا اكتفى بعلمها له -صلى الله عليه وسلم- في الآية، فالشأن كله في تصحيح التوحيد وتجريده" عن شوائب الشرك وتكميله" بالترقي فيه.
"وقد قال تعالى له -عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} ، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أي: سرًّا {تَضَرُّعًا} تذللًا {وَخِيفَةً} خوفًا منه؛ "لأنه لا بُدَّ في أول السلوك من الذكر باللسان مدة، ثم يزول الاسم ويبقى المسمَّى، فالدرجة الأولى هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّك} والرتبة الثانية هي المرادة بقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} وفي استيفاء مباحث ذلك طول يخرج عن الغرض", وهذا شذا عبقة صوفية.
"وقد تقدَّم جملة من أذكارها مفرقة في الوضوء والصلاة والحج وغير ذلك كالصيام, فلا حاجة إلى إعادتها "وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة" إظهارًا للعبودية, وافتقارًا لكرم الربوبية, وتعليمًا لأمَّته, أو من ترك الأولى، أو تواضعًا، أو لأنه كان دائم الترقي في معارج القرب، فكلما ارتقى درجة ورأى ما قبلها دونها استغفر، لكن قال الفتح: إن هذا مفرع على أن العدد المذكور في استغفاره كان مفرقًا بحسب تعدد الأحوال، وظاهر ألفاظ الحديث يخالف ذلك.
"كما رواه عنه أبو هريرة" قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"، هذا لفظه "عند البخاري" في الدعوات, وليس فيه: والليلة, "وظاهره أنه يطلب المغفرة ويعزم على التوبة، ويحتمل أن يكون المراد أنه -صلى الله عليه وسلم- يقول(12/46)
طريق مجاهد عن ابن عمر, أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله من رواية محمد بن سوقة عن نافع عن ابن عمر بلفظ: إن كنَّا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس "رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور" مائة مرة.
ويحتمل أن يريد بقوله في حديث أبي هريرة "أكثر من سبعين مرة" المبالغة, ويحتمل أن يريد العدد بعينه، ولفظ "أكثر" مبهم، فيمكن أن يفسَّر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة. وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة، من رواية معمر عن الزهري بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك.
__________
هذا اللفظ بعينه، ويرجّح الثاني ما أخرجه النسائي بسند جيد" أي: مقبول "من طريق مجاهد عن ابن عمر، أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه" في المجلس قبل أن يقوم مائة مرة. وله" أي: النسائي "من رواية محمد بن سوقة -بضم المهملة- الغنوي -بفتح المعجمة والنون الخفيفة- أبي بكر الكوفي، العابد الثقة، المرضي من رجال الجميع "عن نافع عن ابن عمر، بلفظ: إن" مخففة من الثقيلة، أي: إنا "كنَّا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس: "رب اغفر لي وتب علي إنك التواب الغفور" مائة مرة".
"ويحتمل أن يريد بقوله في حديث أبي هريرة: "أكثر من سبعين مرة" المبالغة" والتكثير، فإن العرب تضع السبع والسبعين والسبعمائة موضع الكثرة، وقد قال أعرابي لمن أعطاه شيئًا: سبع الله لك الأجر، أي: كثره لك، ويدل عليه حديث البخاري مرفوعًا: "إن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال: رب إني أذنبت ذنبًا فاغفر لي، فغفر له"، وفي آخره: "علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به, اعمل ما شئت فقد غفرت لك".
"ويحتمل أن يريد به العدد بعينه" كما قال في النهاية والمطالع: كل ما جاء في الحديث من ذكر الأسباع، قيل: هو على ظاهره وحصر عدده، وقيل: هو بمعنى التكثير, "و" لكن لفظ: "أكثر" مبهم, فيمكن أن يفسّر بحديث ابن عمر المذكور، وأنه يبلغ المائة"؛ لأن الحديث يفسر بالحديث.
"وقد وقع في طريق أخرى عن أبي هريرة من رواية معمر عن الزهري" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة "بلفظ: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" , لكن خالف معمر أصحاب الزهري في ذلك" فإنهم إنما قالوا: أكثر من سبعين، فرواية معمر شاذة.(12/47)
نعم أخرج النسائي أيضًا من رواية محمد بن عمرو عن أبي سلمة بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة".
وأخرج النسائي أيضًا من طريق عطاء، عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الناس فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة".
واستغفاره -عليه الصلاة والسلام- تشريع لأمته، أو من ذنوبهم، وقيل غير ذلك، وتقدَّم ما ينتظم في سلك ذلك.
فإن قلت: ما كيفية استغفاره -صلى الله عليه وسلم؟
فالجواب: إنه ورد في حديث شداد بن أوس، عند البخاري رفعه: سيد الاستغفار أن يقول: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على
__________
"نعم أخرج النسائي من رواية محمد بن عمرو" بفتح العين "عن أبي سلمة" بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة "بلفظ: "إني لأستغفر الله وأتوب إليه كل يوم مائة مرة".
وأخرج النسائي أيضًا من طريق عطاء بن أبي رباح "عن أبي هريرة, أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الناس، فقال: "يا أيها الناس توبوا إلى الله, فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة" فثبت بذلك أن حديث أبي هريرة جاء بلفظ: "مائة مرة" من غير طريق الزهري، ومن طريقه بلفظ: "أكثر من سبعين"، فقوي تفسير أكثر بالمائة, "واستغفاره -عليه الصلاة والسلام- تشريع لأمته, أو من ذنوبهم".
"وقيل: غير ذلك، وتقدَّم ما ينتظم في سلك ذلك، فإن قلت: ما يفية استغفاره -عليه السلام؟ فالجواب: إنه" قد علم مما سبق أنه لم يتقيد بصفة مخصوصة، ولكن "ورد في حديث شداد بن أوس" بن ثابت الأنصاري ابن أخي حسان بن ثابت، يكنَّى أبا يعلى، مات بالشام قبل سنة ستين أو بعدها "عند البخاري" والنسائي "رفعه: سيد الاستغفار" أي: أفضله كما أشار إليه البخاري؛ حيث ترجم على هذا الحديث باب أفضل الاستغفار، ومعنى الأفضلية كما قال الحافظ: الأكثر نفعًا للمستعمل، وقال الطيبي: لما كان هذا الدعاء جامعًا لمعاني التوبة كلها استعير له اسم السيد, وهو في الأصل الرئيس الذي يقصد في الحوائج, ويرجع إليه في الأمور, "أن يقول" العبد، ففي رواية أحمد والنسائي: إن سيد الاستغفار أن يقول العبد: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني" كذا في معظم الروايات: أنت مرة واحدة، ولبعضهم: أنت أنت مرتين, "وأنا عبدك".
قال الطيبي: يجوز أن تكون حالًا مؤكدة وأن تكون مقدرة، أي: أنا عبد لك، كقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وينصره عطف قوله: "وأنا على عهدك ووعدك" أي: ما(12/48)
عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي, فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". قال: "من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل موقنًا بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة"، فتعيّن أن هذه الكيفية هي
__________
عاهدتك عليه وواعدتك من الإيمان بك, وإخلاص الطاعة لك, "ما استطعت" من ذلك, وما مصدرية ظرفية، أي: مدة استطاعتي, وفيه إشارة إلى الاعتراف بالعجز والقصور عن كنه الواجب من حقه تعالى، وقد يكون المراد كما قال ابن بطال: بالعهد, العهد الذي أخذه الله على عباده حين أخرجهم أمثال الذرو, {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} ، فأقروا بالربوية وأذعنوا بالوحدانية، وبالوعد ما قال على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم: "إن مات لا يشرك بالله شيئًا وأدَّى ما افترض الله عليه دخل الجنة" , "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت" أبوء -بضم الموحدة وسكون الواو بعدها همزة ممدودة- أعترف "بنعمتك علي وأبوء".
زاد في رواية الكشميهني: لك "بذنبي" أعترف به أو أحمله برغمي، لا أستطيع صرفه عني, "فاغفر" في رواية بلا فاء "لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".
قال الطيبي: اعترف أولًا بأنه أنعم عليه ولم يقيده؛ ليشمل جميع أنواع الإنعام، ثم اعترف بالتقصير وأنه لم يقم بأداء شكرها وعدَّه ذنبًا مبالغة في التقصير وهضم النفس.
قال الحافظ: ويحتمل أن قوله: "أبوء لك بذنبي" اعتراف بوقوع الذنب مطلقًا؛ ليصح الاستغفار منه, لا أنه عد ما قصّر فيه من أداء النعم ذنبًا, "قال" صلى الله عليه وسلم: "من قالها" أي: الكلمات "من النهار موقنًا" مخلصًا بها , "من قلبه" مصدقا بثوابها, "فمات من يومه" قبل أن يمسي, "فهو من أهل الجنة" الداخلين لها ابتداءً من غير دخول النار؛ لأن الغالب أن المؤمن بحقيقتها الموقن بمضمونها لا يعصي الله تعالى، أو أن الله تعالى يعفو عنه ببركة هذا الاستغفار. قاله الكرماني.
"ومن قالها من الليل وهو موقن" مخلص بها, "فمات قبل أن يصبح, فهو من أهل الجنة" ويحتمل أن يكون هذا فيمن قالها ومات قبل أن يفعل ما تغفر له به ذنوبه، وقال ابن أبي جمرة: من شرط الاستغفار صحة النية والتوجّه والأدب، فلو أن أحدًا حصَّل الشروط واستغفر بغير هذا اللفظ, واستغفر آخر بهذا اللفظ الوارد, لكن أخلَّ بالشروط هل يتساويان؟ فالجواب: إن الذي يظهر أن اللفظ المذكور إنما يكون سيد الاستغفار إذا جمع الشروط المذكورة، قال: وقد جمع هذا الحديث من بديع المعاني وحسن الألفاظ ما يحق له أن يسمَّى سيد الاستغفار، ففيه الإقرار لله وحده بالألوهية والعبودية, والاعتراف بأنه الخالق, والإقرار بالعهد الذي أخذه عليه, والرجاء بما وعده به, والاستعاذة من شر ما جنى العبد على نفسه, وإضافة النعماء(12/49)
الأفضل، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل.
وأما قرءاته -صلى الله عليه وسلم- وصفتها، فكانت مدًّا، يمد ب "بسم الله" ويمد بـ "الرحمن" ويمد بـ "الرحيم" رواه البخاري عن أنس.
__________
إلى موجدها, وإضافة الذنب إلى نفسه, ورغبته في المغفرة, واعترافه بأنه لا يقدر أحد على ذلك إلا هو, وفي كل ذلك الإشارة إلى الجمع بين الشريعة والحقيقة, وأن تكاليف الشريعة لا تحصل إلّا إذا كان في ذلك عون من الله, وهذا هو القدر الذي يُكَنَّى عنه بالحقيقة، فلو أن العبد خالف حتى يجري عليه ما قدر عليه, وقامت الحجة عليه ببيان المخالفة, لم يبق إلّا أحد أمرين: إما العقوبة بمقتضى العدل, أو العفو بمقتضى الفضل أ. هـ.
وقال الكرماني: لا شك أنّ في الحديث ذكر الله بأكمل الأوصاف, وذكر العبد نفسه بأنقص الحالات, وهو أقصى غاية التضرع ونهاية الاستكانة لمن لا يستحقها إلا هو، أمَّا الأول فلِمَا فيه من الاعتراف بوجود الصانع وتوحيده الذي هو أصل الصفات القدسية المسماة بصفات الجلال, والاعتراف بالصفات الصنعية الوجودية المسمَّاة بصفات الإكرام, وهي القدرة اللازمة عن الخلق الملزومة للإرادة والعلم والحياة, والخامسة الكلام اللازم من الوعد والسمع والبصر اللازمان من المغفرة؛ إذ المغفرة للسموع, والمبصر لا تتصور إلّا بعد السماع والإبصار.
وأما الثاني: فلما فيه أيضًا من الاعتراف بالعبودية وبالذنوب, في مقابلة النعمة التي تقتضي نقيضها وهو الشكر أ. هـ "فتعيِّن أنَّ هذه الكيفية هي الأفضل, وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يترك الأفضل" رأسًا، بل بقوله: ويقول غيره: لا أنه يقتصر عليه وإلا خالف الأحاديث.
قال الحافظ: ومن أوضح ما جاء في الاستغفار ما أخرجه الترمذي وغيره مرفوعًا: "من قال استغفر الله الذي لا إله إلا الله هو الحي القيوم وأتوب إليه غفرت ذنوبه وإن كان فر من الزحف".
قال أبو نعيم: هذا يدل على أن بعض الكبائر يغفر ببعض العمل الصالح, وضابطه الذنوب التي لا توجب على مرتكبها حكمًا في نفس ولا مال, وفي قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} إشارة إلى أنَّ من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب, وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب، ولأبي داود والترمذي مرفوعًا: "ما أصرَّ من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة".
وأما قراءته -صلى الله عليه وسلم- وصفتها فكانت مدًّا" بغير همز، أي: ذات مد، أي: يمد الحرف المستحق للمد, "يمد بسم الله" أي: اللام التي هي قبل هاء الجلالة" ويمد بالرحمن" الميم التي قبل النون ويمد بالرحيم" أي: الحاء المد الطبيعي الذي لا يمكن النطق بالحرف إلّا به من غير زيادة عليه, لا كما يظن بعضهم من الزيادة عليه.
"رواه البخاري" في التفسير "عن أنس, ونعتتها" وصفت قراءته "اسم سلمة" هند "قراءة(12/50)
ونعتها أم سلمة: "قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. رواه أبو داود والنسائي والترمذي.
وقالت أيضًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يقطع قراءته، يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف. رواه الترمذي.
وقالت حفصة: كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. رواه مسلم.
وقال البراء: كان يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} فما سمعت أحدًا
__________
مفسرة حرفًا حرفًا. رواه أبو داود والنسائي والترمذي" عنها, "وقالت" أم سلمة "أيضًا: كان -صلى الله عليه وسلم- يقطّع -بشد الطاء- من التقطيع قراءته, أسقط من الحديث آية آية، أي: يقف على فواصل الآي "يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثم يقف, ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثم يقف" وهكذا, ولذا قال البيهقي وغيره: الأفضل الوقوف على رءوس الآي, وإن تعلقّت بما بعدها.
قال البيهقي: متابعة السنة أَوْلَى مما ذهب إليه بعض القراء من تتبع الأغراض والمقاصد, والوقوف عند انتهائها، وقال الطيبي: قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يشير إلى ملكه لذوي العلم من الملائكة والثقلين يدبر أمرهم في الدنيا، وقوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يشير إلى أنه يتصرّف فيهم في الآخرة بالثواب والعقاب.
وقوله: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} متوسط بينهما، ولذا قيل: رحمن الدنيا ورحيم الآخرة, فكما جاز ذلك الوقفو يجوز هذا, فقول بعضهم: هذه الرواية لا يرتضيها البلغاء وأهل اللسان؛ لأن الوقف الحسن ما هو عند الفصل التام من أول الفاتحة إلى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ، وكان -صلى الله عليه وسلم- أفضل الناس غير مرضي, والنقل أَوْلَى بالاتباع.
"رواه الترمذي" وقال: حسن غريب, والحاكم وقال: على شرطهما، وأقرَّه الذهبي, "وقالت حفصة" أم المؤمنين: "كان يرتل السورة" يقرأها بتمهّل وترسّل؛ ليقع مع ذلك التدبر، كما أمره تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المرسل: 4] حتى تكون أطول من أطول منها" إذا قرئت بلا ترتيل، أي: حتى يكون الزمن الذي صرفه في قراءتها أطول من الزمن الذي صرفه في قراءة الطويلة.
"رواه مسلم" من طريق مالك وغيره، وهو في الموطأ, "وقال البراء" بن عازب -رضي الله تعالى عنهما": "كان" صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء والتين بالواو حكاية ولبعض الرواة بالتين والزيتون أي بهذه السورة في الركعة الأولى.
ففي رواية للشيخين أيضًا عن البراء أنه -صلى الله عليه وسلم- كان في سفر، فقرأ في العشاء في إحدى(12/51)
أحسن صوتًا أو قراءة منه -صلى الله عليه وسلم. رواه الشيخان.
فقد كانت قراءته -صلى الله عليه وسلم- ترتيلًا لا هذا ولا عجلة, بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنَّى بقراءته، ويرجع صوته بها أحيانًا، كما رجع يوم الفتح في قراءة {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} . وحكى عبد الله بن مغفل ترجيعه: آآآثلاث مرات، ذكره البخاري.
وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" وقوله: "ليس
__________
الركعتين, والتين والزيتون وللنسائي: فقرأ في الركعة الأولى، وفي كتاب الصحابة لابن السكن عن ورقة بن خليفة, رجل من أهل اليمامة.
قال: سمعنا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- فأتيناه، فعرض علينا الإسلام فأسلمنا، وأسهم لنا، وقرأ في الصلاة بـ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} و {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} .
قال الحافظ: يمكن إن كانت، أي: القراءة في الصلاة التي عين البراء أنها العشاء، أن قرأ في الأولى بالتين، وفي الثانية بالقدر.
قال البراء: "فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا، أو قراءة" شكَّ الراوي منه -صلى الله عليه وسلم" بل هو الأحسن على مدلول اللفظ عرفًا، وإن صدق لغة بالمساوي.
"رواه الشيخان" وأصحاب السنن, "فقد كانت قراءته -عليه الصلاة والسلام- ترتيلًا، لا هذا" بفتح الهاء، والذال المعجمة- أي: سرعة، ونصبه على المصدر، كما في النهاية وغيرها، فقوله: "ولا عجلة" تفسير "بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا" بل حديثه كذلك، كما قالت عائشة: ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليسرد سردكم هذا، بل كان يحدث حديثًا لو عدَّه العادّ لأحصاه, "وكان يقطع قراءته آية آية" أي: يقف على فواصل، إلّا الآي، كما مَرَّ "وكان يمد عند حروف المد، وكان يتغنَّى بقراءته، ويرجِّع صوته أحيانًا، كما رجَّع يوم الفتح" لمكة "في قراءة: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} ، وحكى عبد الله بن مغفل "بميم مضمومة فمعجمة ففاء ثقيلة مفتوحتين- المزني, من أصحاب الشجرة "ترجيعه آآآثلاث مرات" الغرض منه أنه كان يقطع قراءته آية آية، كتقطيع من نطق بهذه الألفات ثلاث مرات مبينة كذا، قاله شيخنا: "ذكره" أي: رواه البخاري" في مواضع، ومسلم، وغيرهما "وإذا جمعت هذا الحديث إلى قوله" صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم".
رواه أحمد، والبخاري، وفي كتاب خلق الأفعال، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وصححه، وابن حبان، والحاكم, كلهم من حديث البراء، وعلقه البخاري في آخر صحيحه في كتاب التوحيد، وابن حبان أيضًا، وغيره، عن أبي هريرة، والطبراني، والدارقطني بسند حسن، عن ابن عباس، وأبو نعيم، عن عائشة بسند ضعيف، والبزار، عن عبد الرحمن بن عوف بسند ضعيف(12/52)
منَّا من لم يتغنَّ بالقرآن"، وقوله: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن" أي: ما استمع الله لشيء كاستماعه لنبي يتغنَّى بالقرآن يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن يأذن أذانًا بالتحريك، علمت أن هذا الترجيع منه -عليه الصلاة والسلام- كان اختيارًا، لا اضطرارًا لهز الناقة له، فإن هذا لو كان لأجل هز الناقة لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه ويفعله اختيارًا ليتأسَّى به, وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: كان يرجّع في قراءته، فينسب "الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمَّى ترجيعًا.
وقد استمع -عليه الصلاة والسلام- ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره
__________
"وقوله" صلى الله عليه وسلم: "ليس منَّا" أي: من العالمين بسنتنا, الجارين على طريقتنا "من لم يتغن بالقرآن" أي: يحسِّن صوته به؛ لأنه أوقع في النفوس، وأدعى إلى الاستماع والإصغاء، وهو كالحلاوة التي تجعل في الدواء لتنفيذه إلى أمكنة الداء، وكالأفاوية التي يطيب بها الطعام؛ ليكون الطبع أدعى قبولًا له، لكن بشرط أن لا يغيّر اللفظ، ولا يخل بالنظم، ولا يخفي حرفًا، ولا يزيد حرفًا، والإ حرم إجماعًا قال ابن أبي مليكة: فإن لم يكن حسن الصوت حسّنه ما استطاع، وهذا الحديث رواه البخاري في التوحيد، عن أبي هريرة وأحمد، وأبو داود، وابن حبان، والحاكم عن سعد بن أبي وقاص، وأبو داود، عن أبي لبابة، والحاكم عن ابن عباس، وعن عائشة, "وقوله" صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين والسنن من حديث أبي هريرة: "ما أذن" بفتح الهمزة وكسر المعجمة- كما ضبطه النووي وغيره، أي: ما استمع الله لشيء، "كاستماعه لنبي يتغنَّى بالقرآن"، أي: يتلوه يجهر به، يقال منه: أذن" بفتح أوله، وكسر ثانية "يأذن" بفتح الذال "أذانًا بالتحريك" أي: فتح الهمزة، والذال مصدر، هو مجاز عن تقريب القارئ، وإجزال ثوابه، وقبول قراءته، ولا يجوز حمله على الإصغاء؛ لأنه محال عليه تعالى؛ ولأن سماعه لا يختلف "علمت أن هذا الترجيع" الواقع منه -عليه الصلاة والسلام" في الفتح "كان اختيارًا، لا اضطرارًا لهز الناقة له" كما دعاه بعضهم, فإنَّ هذا لو كان لأجل هَزّ الناقة لما كان داخلًا تحت الاختيار، فلم يكن عبد الله بن مغفل يحكيه"؛ حيث قال: أأأ ثلاث مرات. وعنه أيضًا لولا أن يجتمع الناس حولي لرجعت لكم، كما رجع -صلى الله عليه وسلم, "ويفعله اختيارًا ليتأسَّى" يُقْتَدَى به, وهو يرى هذا من هز الراحلة له حتى ينقطع صوته، ثم يقول: كان يرجّع في قراءته فينسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة لم يكن منه فعل يسمَّى ترجيعًا" لعدم اختياره "وقد استمع -عليه الصلاة والسلام- ليلة(12/53)
بذلك قال: لو كنت أعلم أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا. أي: حسنته وزينته بصوتي تزيينًا.
وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" من باب القلب, أي: زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن القلب لا وجه له. قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك تأييدًا لا شبهة فيه حديث ابن عباس: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل شيء حلية، وحلية القرآن حسن الصوت"، والله أعلم.
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا يطول ذكره، وفصل النزاع في ذلك أن يقال: إن التطريب والتغني على وجهين.
أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلّف ولا تمرين وتعليم.
بل إذا خلا في ذلك وطبعه، واسترسلت طبيعته، جاءت بذلك التطريب والتلحين،
__________
لقراءة أبي موسى الأشعري" عبد الله بن قيس, كان حسن الصوت جدًّا، وحسبك قوله -صلى الله عليه وسلم- له: "يا أبا موسى, لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" , "فلما أخبره بذلك" بقوله: "لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة" كما في رواية لمسلم. قال: لو علمت أنك تسمعه لحبرته لك تحبيرًا، أي: حسنته وزينته بصوتي تزيينًا، وهذا الحديث يرد على من قال: إن قوله: "زينوا القرآن بأصواتكم" من باب القلب, أي: زينوا أصواتكم بالقرآن, فإن القلب لا وجه له" بل له وجه؛ لأنه ورد كذلك أخرج الحاكم عن البراء مرفوعًا "زينوا أصواتكم بالقرآن، فإن الصوات الحسن يزيد القرآن حسنًا".
"قال ابن الأثير: ويؤيد ذلك" أي: حمله على أن الصوت يحسن القرآن, تأييد لا شبهة فيه حديث ابن عباس" إنما رواه البزار والبيهقي عن أنس، والطبراني عن أبي هريرة "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لكل شيء حلية, وحلية القرآن حسن الصوت"؛ لأن الحلية حليتان: حلية تدرك بالعين, حلية تدرك بالسمع, ومرجع ذلك كله إلى جلاء القلب, وذلك على قدر نية القارئ" لكن هذا الحديث ضعَّفه ابن حبان، والذهبي، والحافظ النور الهيثمي من الوجهين، وبينوا وجه الضعف، فلا تأييد به "والله أعلم".
"وقد اختلف العلماء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا يطول ذكره، وفصل" أي: قطع النزاع في ذلك أن يقال التطريب، والتغني على وجهين, أحدهما ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين" اعتياد ومداومة, "ولا تعليم" من معلم, بل إذا خلى في ذلك وطبعه" مفعول معه "واسترسلت طبيعته" أي: استمرت في العمل على حالها "جاءت(12/54)
فهذا جائز, وإن أعانته طبيعته على فضل تزيين وتحسين، كما قال أبو موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا. والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطيب في القراءة, ولكن النفوس تستجليه وتستملحه؛ لموافقة الطبع وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغني المحمود، وهو الذي يتأثّر به التالي والسامع. والوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع، ليس في الطباع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرّن، كما يتعلّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركّبة على إيقاعات مخصوصة, وأوزان مخترعة لا تحصل إلّا بالتعلم والتكلف، فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وأنكروا القراءة بها
__________
بذلك التطريب والتلحين، فهذا جائز، وإن أعانته طبيعته على فضل" أي: زيادة "تحسين وتزيين" مبالغة، فيما قبله "كما قال أبو موسى للنبي -صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا، والحزين ومن هاجه" حرَّكه "الطرب والحب" ميل القلب للمحبوب لمعنى يستحسنه فيه, "والشوق" نزاع النفس مصدر شاقه, "لا يملك من نفسه رفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستجلبه" بجيم، وموحدة, "وتستملحه" أي: تعده مليحًا "لموافقة الطبع، وعدم التكلف والتصنع، فهو مطبوع لا متطبع" بضم الميم، وكسر الباء المشددة- أي: متشبّه, "وكلف" بكسر اللام، أي: محب لذلك مولع به "لا متكلف" بكسر اللام مشددة- أي: طالب أن تكون تلك الصفة قائمة به, "فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويسمعونه، وهو التغني المحمود الذي يتأثر به التالي" القارئ والسامع" له.
"والوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع ليس في الطباع" الجبلة الت خلق عليها "السماحة به, بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن، كما يتعلّم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلّم والتكلف، فهذه" أي: القراءة على هذه الحالة "هي التي كرهها السلف، وأنكروا القراءة بها".
زاد في شرحه للبخاري عقب نحو هذا، وقد علم، مما ذكرنا أن ما أحدثه المكلفون بمعرفة الأوزان، والموسيقى في كلام الله من الألحان والتطريب، والتغني المستعمل في الغناء بالغزل على إيقاعات مخصوصة، وأوزان مخترعة أن ذلك من أشنع البدع وأسوئها، وأنه يوجب(12/55)
وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبيّن الصواب من غيره، وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المكلفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها, ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بسجاياهم تارةً، وتطريبًا أخرى، وهذا أمر في الطباع، ولم ينه عنه الشارع, مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه -صلى الله عليه وسلم، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: "ليس منَّا مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن" وليس المراد الاستغناء به عن غيره كما ظنه بعضهم، ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى. والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو حسن الصوت بالترجيع، كما قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
__________
على سامعهم النكير، وعلى التالي التعزير, "وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره، وكل مَنْ علم بأحوال السلف يعلم قطعًا بأنهم برآء" جمع براء "من القراءة بألحان الموسيقي" بكسر القاف "المكلفة التي هي على إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها، ويسوغوها" أي يجوّزوها "ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بسجاياهم" بسين وجيم- جمع سجية، أي: بطبائعهم "تارةً", وفي نسخة: بشجى، بمعجمة وجيم مقصور- أي: حزن، وتطريب أخرى" بأن يقصدوا تحسين قراءتهم مع مراعاة الأنغام المقتضية لذلك, "وهذا أمر في الطباع، ولم ينه عنه الشارع, مع شدة تقاضي" أي: طلب "الطباع له، بل أرشد إليه، وندب إليه -صلى الله عليه وسلم", وأخبر عن استماع الله تعالى لمن قرأ به" بقوله: "ما أذن الله لشيء" الحديث "وقال: "ليس منا" أي: على سنتنا وهدينا "من لم يتغنَّ بالقرآن"، وليس المراد الاستغناء به عن غيره، كما ظنَّه بعضهم" بل معناه: مَنْ لم يحسن صوته به "ولو كان كذلك لم يكن لذكر حسن الصوت، والجهر به" في حديث "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الصوت يتغنَّى بالقرآن"، أي: يجهر به, "معنًى, والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء" بكسر المعجمة، والمد "الذي هو حسن الصوت بالترجيع، قال الشاعر:
تغن بالشعر أما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
أي: كالميدان الذي تجري فيه الخيل، فيظهر فيها الحسن من غيره يغني، أنه إذا استعمل(12/56)
وروى ابن أبي شيبة عن عقبة بن عامر مرفوعًا: "تعلموا القرآن وتغنّوا به واكتبوه" الحديث. والله أعلم.
وقد صح أنه -صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعري يقرأ فقال: "لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود" يعني: من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعاني، وفي طريق آخر كما تقدَّم, أن أبا موسى قال: يا رسول الله، لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا.
قال ابن المنير: فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلو أشجى من المزامير
__________
على هذا الوجه حصل به بسط نفس، كاللذة الحاصلة للمتسابقين في الميدان، لكن رجَّح النور بشتى القول، بأن المراد به الاستغناء، واعترض الأول، بأن المعنى: ليس من أهل سنتنا، أو ممن تبعنا في أمرنا، وهو وعيد، ولا خلاف بين الأمة أن قارئ القرآن مثاب في غير تحسين صوته، فكيف يجعل مستحقًّا للوعيد.
قال الطيبي: ويمكن حمله على معنى التغنى، أي: ليس منا معاشر الأنبياء من لم يحسّن صوته بالقرآن، ويسمع الله منه، بل يكون من جملة من هو نازل عن مرتبتهم، فيثاب على قراءته كسائر المسلمين، لا على تحسين صوته كالأنبياء ومن تعبهم فيه.
"وروى ابن أبي شيبة" وأحمد برجال الصحيح "عن عقبة بن عامر" الجهني "مرفوعًا: "تعلموا القرآن" أي: احفظوه وتفهَّموه, "وتغنَّوْا به" أي: اقرءوه بتحزن وترقيق وحسن صوت، وليس المراد قراءته بالألحان والنغمات، "واكتبوه" الحديث بقيته: "فوالذي نفسي بيده، لهو أشد تفلتًا من المخاض في العقل".
"والله أعلم" بمراد رسوله, "وقد صح" في الصحيحين وغيرهما أنه -صلى الله عليه وسلم- سمع أبا موسى الأشعري يقرأ، فقال: "لقد أوتي هذا".
وفي رواية للبخاري: "يا أبا موسى، لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" في حسن الصوت بالقاءة, يعني: من مزامير داود نفسه، كما ذكره أهل المعاني" فآل مقحمة؛ لأنه لم يرو أن أحدًا من آل داود أعطي من حسن الصوت ما أعطي داود، والمزامير جمع مزمار -بكسر الميم- الآلة المعروفة, أطلق اسمها على الصوت للمشابهة، فشبه حسن صوته وحلاوة نغمته بصوت المزمار, "وفي طريق آخر، كما تقدم أن أبا موسى قال: يا رسول الله, لو علمت أنك تسمع لحبَّرته" حسَّنته "لك تحبيرًا: تحسينًا.
"قال ابن المنبر: "فهذا يدل على أنه كان يستطيع أن يتلوا أشجى" أي: أشد "من(12/57)
عند المبالغة في التحبير؛ لأنه قد تلا مثلها وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته.
وقد كان داود إذا أراد أن يتكلّم على بني إسرائيل يجوع سبعة أيام لا يأكل ولا يشرب ولا يأتي النساء، ثم يأمر سليمان فينادي في الضواحي والنواحي والآكام والأودية والجبال: إن داود يجلس يوم كذا، ثم يخرج له منبرًا إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتي الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ في الثناء على الله بما هو أهله، فتموت طائفة من المستمعين، ثم يأخذ في النياحة على المذنبين فتموت طائفة، فإذا استجر الموت بالخلق قال له سليمان: يا نبي الله، قد استجر الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق، فيخر داود مغشيًّا عليه، فيحمل على سريره إلى بيته، وينادي منادي سليمان: أيها الناس، من كان له مع داود قريب أو
__________
المزامير" في إدخال الحالة الحاصلة للسامع عند سماع المزامير "عند المبالغة في التحبير؛ لأنه قد تلا مثلها" بنصّ المصطفى, "وما بلغ الحد، فكيف لو بلغ حد استطاعته" وقد روى ابن أبي داود بسند صحيح، عن أبي عثمان النهدي قال: دخلت دار أبي موسى الأشعري، فما سمعت صوت صنج ولا بربط ولا ناي أحسن من صوته الصنج -بفتح الصاد المهملة، فنون ساكنة، فجيم- آلة من نحاس، كالطبقتين يضرب بأحدهما على الآخر، ويربط بموحدتين بينهما, آخره طاء مهملة- توزن جعفر, فارسي معرب, آلة كالعود والناي -بنون بغير همز- المزمار, "وقد كان داود إذا أراد أن يتكلّم على بني إسرائيل" أي: يعظهم ويذكرهم بأحوال الآخرة, "يجوع سبعة أيام، لا يأكل ولا يشرب، ولا يأتي النساء, ثم يأمر سليمان ابنه فينادي في الضواحي" بضاد معجمة, "والنواحي" عطف تفسير "والآكام، والأودية، والجبال" مَرَّ بيانها في الاستسقاء "أن داود يجلس يوم كذا, ثم يخرج له منبرًا" أي: شيئًا مرتفعًا "إلى الصحراء، فيجلس عليه، وسليمان قائم على رأسه، فتأتي الإنس والجن والطير والوحش والهوام والعذارى جمع عذراء، أي: الأبكار, "والمخدرات يسمعون الذكر، فيأخذ في الثناء على الله بما هو أهله, فتموت طائفة من المستمعين" شوقًا إليه تعالى, "ثم يأخذ في النياحة على المذنبين, فتموت طائفة" من المذنبين خوفًا منه سبحانه "فإذا استجر الموت بالخلق" أي: انتشر فيهم وكثر "قال له سليمان: يا نبي الله, قد استجر" بفوقية فجيم "الموت بالناس، وقد مزقت المستمعين كل ممزق" أي: فرقتهم تفريقًا تامًّا، فممزق مصدر ميمي, "فيخر داود مغشيًّا عليه, فيحمل على سريره إلى بيته، وينادي سليمان: من كان له مع داود قريب، أو(12/58)
حميم فليخرج لافتقاده, فكانت المرأة تأتي بالسرير فتقف على زوجها أو أبيها أو أخيها، فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود في اليوم الثاني قال: يا سليمان, ما فعل عُبّاد بني إسرائيل؟ فيقول له سليمان: قد مات فلان وفلان وهلمَّ جرا. فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا رب داود, أغضبان أنت على داود, حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفًا منك أو شوقًا إليك؟ فلا يزال ذلك دأبه إلى المجلس الآخر، وأقام داود على ذلك ما شاء الله تعالى.
ولا يظنّ مما ذكرته من حال بني إسرائيل أنهم في ذلك أعلى من هذه الأمة، فأمَّا المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه، وأمَّا الموت من الموعظة شوقًا أو خوفًا فلنا فيه طريقان:
أحدهما: أن نقول: إن القوة التي أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية, بل القوة الروحانية والتأييدات الإلهية, فلفرط قوة هذه الأمة إن شاء الله تعالى تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها؛ لتوالي أحوال الذكر وأطوار اليقين.
__________
حميم" أي: شقيق "فليخرج لافتقاده، فكانت المرأة تأتي بالسرير، فتقف على زوجها أو أبيها أو أخيها فتدخل به المدينة، فإذا أفاق داود في اليوم الثاني قال: يا سليمان, ما فعل عبَّاد" جمع عابد "بني إسرائيل، فيقول له: قد مات فلان وفلان" يسميهم بأسمائهم, "وهلمَّ جرا، فيضع داود يده على رأسه وينوح ويقول: يا رب داود, أغضبان أنت على داود، حتى إنه لم يمت فيمن مات خوفًا منك، وشوقًا إليك، فلا يزال ذلك دأبه" عادته "إلى المجلس الآخر, وأقام داود على ذلك ما شاء الله تعالى" أي: مدة مشيئته تعالى ذلك "ولا يظن مما ذكرته من حال بني إسرائيل" في هذه القصة "أنهم في ذلك أعلى من هذه الأمة، فأمَّا المزامير فحسبك" كافيك "ما ذكر من حال أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه", وهو واحد, "وأمَّا الموت من الموعظة شوقًا أو خوفًا, فلنا فيه طريقان: أحدهما أن نقول: إن القوة التي أوتيتها هذه الأمة" المحمدية "تقاوم الأحوال الواردة عليها، فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية" بكسر الجيم "بل القوة الروحانية" بضم الراء, "والتأييدات الإلهية" باقية مانعة لها من الفناء، فحذف الخبر للعلم به مما قبله, "فلفرط قوة هذه الأمة -إن شاء الله تعالى" للتبرك متعلق بقوله: "تقارب", ولو قال: يتقارب كان أَوْلَى" عند سلفها الصالح، ما بين حال سماع الموعظة، وحال عدم سماعها؛ لتوالي الذكر وأطوار اليقين, وقد قال بعضهم"(12/59)
وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا. فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذي فرَّق بينهم وبين مَنْ قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام, وهما أصحاب المزامير, لم يتَّفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما في الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التي أمدَّهما بها. ولا خلاف أن داود -عليه الصلاة السلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأمَّا نوحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذي يزيده شوقًا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه, وقد رأي إنسانًا يبكي من الموعظة فقال: هكذا كنّا حتى قست القلوب. عَبَّر عن القوة بالقسوة تواضعًا، ومرتبته بحمد الله محفوظة ومنزلته مرفوعة.
__________
علي بن أبي طالب على ما في المسايرة لابن الهمام وغيرها، أو عامر بن قيس التابعي على ما في الرسالة القشيرية، وقد يكون على أوَّل من قالها، وعامر تمثَّل بها, "لو كشف الغطاء" عن أحوال الآخرة, والحشر والنشر, والوقوف بين يدي الله تعالى، وغيرها "ما ازددت" فيها "يقينًا" ليقيني بها، فعبَّر عن حالته التي هو عليها من غلبة أحوال الآخرة على قلبه باليقين، فأخبر أنه لو عاين ذلك ما ازداد يقينًا لتحققه له، قاله الأنصاري شيخ الإسلام، وقال غيره: لأنه حصل عنده من البراهين القطعية على حقيقة التوحيد ومتعلقاته، والإيمان وصدق الرسل، فيما جاءوا به ما لا يزيد اليقين فيه عند رؤيته ذلك عيانًا,"فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذي فرّق بينهم وبين من قبلهم، ألا ترى أن داود وسليمان -عليهما الصلاة والسلام, وهما أصحاب المزامير" إنما صاحبها داود، كما مَرَّ, فلعلَّ نسبتها لسليمان أيضًا؛ لأنه كان يسمعها من أبيه ولم يتغير حاله "لم يتَّفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما في الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التي أمدهما" الله تعالى "بها، ولا خلاف أن داود -عليه الصلاة والسلام، وإن لم يمت من الذكر أفضل، ممن مات من أمته"؛ إذ محال أن يبلغ ولي رتبة نبي, وأما نوحه على كونه لم يمت, فذلك من التواضع الذي يزيده شوقًا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، قربى "وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، وقد رأى إنسانًا يبكى من الموعظة، فقال: هكذا كنَّا حتى قست القلوب, عَبَّر عن القوة بالقسوة تواضعًا، ومرتبته بحمد الله محفوظة، ومنزلته مرفوعة" فليست عنده قسوة "والطريق الثاني أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه(12/60)
والطريق الثاني أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة، مثل ما اتفق في مجلس داود -عليه الصلاة والسلام- من موت المستمعين للذكر في مجلس السماع قديمًا وحديثًا، ولأبي إسحاق الثعلبي جزء في قتلى القرآن رويناه، وعندي من ذلك جملة أريد تدوينها, بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرَّد النظر إلى المشايخ، كما حكي أن مريدًا لأبي تراب التخشبي كان يتجلى له الحق تعالى في كل يوم مرات, فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد البسطامي لرأيت أمرًا عظيمًا، فلمَّا ارتحل المريد مع شيخه أبي تراب النخشبي لأبي يزيد, ووقع بصر المريد عليه وقع ميتًا, فقال له أبو تراب: يا أبا يزيد نظرة منك قتلته، وقد كان يدعى رؤية الحق تعالى, فقال له أبو يزيد: قد كان صاحبك صادقًا، وكان
__________
الأمة" من الأخبار والقصص "مثل ما اتفق في مجلس داود -عليه الصلاة والسلام- من موت المستمعين للذكر في مجلس السماع قديمًا وحديثا، ولأبي إسحاق" أحمد بن محمد بن إبراهيم "الثعلبي" ويقال له: الثعالبي النيسابوري, صاحب التفسير والعرائس.
قال الذهبي: كان حافظًا, رأسًا في التفسير والعربية, متين الزهادة والديانة, مات سنة سبع وعشرين أو سبع وثلاثين وأربعمائة, "جزء قتلى القرآن" أي: مؤلف في بيان من قُتِلَ عند سماع القرآن, "وعندي من ذلك جملة أريد تدوينها" بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ, كما حكي أن مريدًا لأبي تراب النخشبي -بفتح النون وسكون الخاء وفتح الشين المعجمة- نسبة إلى نخشب, بلدة بما رواء النهر، واسمه: عسكر بن حصين, واشتهِرَ بكنتيه, فلم يعرف إلّا بها, جمع بين العلم والدين والزهد والتصوف والتقشّف والتوكل والتبل, ووقف بعرفة خمسًا وخمسين وقفة, وصحب حاتمًا الأصم والخواص والطبقة, وعند أحمد بن حنبل وغيره, مات سنة خمس وأربعين ومائتين, كان يتجلَّى له لذلك المريد "الحق تعالى في كل يوم مرات, فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد" اسمه: طيفور بن عيسى البسطامي, نادرة زمانه حالًا وأنفاسًا وورعًا وعلمًا وزهدًا وتُقَى, وأفردت ترجمته بتصانيف حافلة, ومات سنة إحدى وستين ومائتين عن ثلاث وسبعين سنة, "لرأيت أمرًا عظيمًا", فلم يزل يشوقه إليه, "فلمَّا ارتحل المريد مع شيخه أبي تراب النخشبي لأبي يزيد" فقيل: إنه في الغيضة مع السباع، وكان يأوي إليها، فقعدا على طريقه, فلمَّا مرَّ "ووقع بصر المريد عليه, وقع ميتًا, فقال له أبو تراب: يا أبا يزيد, نظرة" حصلت له "منك", أو نظرة منك إليه قتلته, وقد كان يدَّعي رؤية الحق تعالى، فقال له أيو يزيد قد كان صاحبك صادقًا، وكان الحق يتجلّى له(12/61)
الحقّ يتجلّى له على قدر مقامه، فلمَّا رآني تجلَّى له على قدر ما رأى، فلم يطق فمات.
واصطلاح أهل الطريق في التجلي معروف، وحاصله: رتبة من المعرفة جلية علية, ولم يكونوا يعنون بالتجلي رؤية البصر التي قيل فيها لموسى -عليه الصلاة والسلام, على خصوصيته {لَنْ تَرَانِي} والتي قيل فيها على العموم لا تدركه الأبصار, وإذا فهمت أنَّ مرادهم الذي أثبتوه غير المعنى الذي حصل منه الناس على اليأس في الدنيا، ووعد به الخواص في الآخرة، فلا ضير بعد ذلك عليك, ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولي السرائر. انتهى.
وإذا علمت هذا, فاعلم أن السماع في طريق القوم معروف، وفي الجواذب إلى المحبة معدود موصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب في "القوت" عن جماعة من الصحابة؛ كعبد الله بن جعفر، وابن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية، وكذا عن
__________
على قدر مقامه، فلما رآني تجلّى له على قدر ما رأى" لم يقل: على قدري تأدبًا، وخوفًا من رؤية نفسه فوق غيره, "فلم يطق فمات" فلا عجب "واصطلاح أهل الطريق" كما قال العلامة ابن المنير "في التجلي معروف, وحاصله رتبة من المعرفة جلية ظاهرة عليّة عالية القدر، وحالة بين النوم واليقظة سوية، والإيمان يزيد وينقص, كذا في كلام ابن المنبر, "ولم يكونوا" لفظ ابن المنبر، ولا تظنهم "يعنون بالتجلي رؤية البصر التي قيل فيها لموسى -عليه الصلاة والسلام- على خصوصيته: {لَنْ تَرَانِي} ، والتي قيل فيها على العموم: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} ، وإذا فهمت أن مرادم الذي أثبتوه غير المعنى الذي حصل منه الناس على اليأس في الدنيا" إلّا نبينا -صلى الله عليه وسلم- على الأصح، كما مَرَّ في المعراج, "ووعد به الخواص في الآخرة" أي: المؤمنون "فلا ضير بعد ذلك عليك، ولا طريق لسوء الظن بالقوم إليك، والله متولي السرائر أ. هـ".
قال السبكي: وكلام ابن المنبر هذا يقرب من قول شيخه العز بن عبد السلام في قواعده التجلي، والمشاهدة عبارة عن العلم والعرفان, والقوم لا يقتصرون في تفسير التجلي على العلم، ولا يعنون به الرؤية، ثم لا يفصحون بما يعنون, بل يلوحون تلويحًا، ولم يفصح القشيري بتفسيره، ولعله خاف على فهم من ليس من أهل الطريق "وإذا علمت هذا، فاعلم أن السماع في طريق القوم معروف، وفي الجواذب إلى المحبة معدود موصوف، وقد نقل إباحته أبو طالب" المكي "في القوت", أي: كتابه المسمَّى قوت القلوب "عن جماعة من الصحابة كعبد الله بن جعفر" الهاشمي "وابن الزبير" الأسدي "والمغيرة بن شعبة" الثقفي "ومعاوية"(12/62)
الجنيد، والسري وذو النون، واحتجَّ له الغزالي في "الإحياء" بما يطول ذكره، خصوصًا في أوقات السرور المباحة، تأكيدًا له وتهييجًا، كعرس وقدوم غائب، ووليمة وعقيقة وحفظ القرآن، وختم درس وكتاب وتأليف.
وفي الصحيحين من حديث عائشة: إن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام مِنَى تدففان وتضربان، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغشٍّ بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه وقال: "دعهما يا أبا بكر, فإنها أيام عيد" , وفي رواية: دخل
__________
الأموي, "وكذا" "عن الجنيد" شيخ الطائفة, "والسري" السقطي, "وذو النون" المصري, واحتج له الغزالي في الإحياء بما يطول ذكره, خصوصًا في أوقات السرور المباحة تأكيدًا له، وتهييجًا لعرس" زواج "وقدوم غائب ووليمة، وعقيقة" لمولود "وحفظ قرآن، وختم درس، وكتاب" وختم "تأليف" في علم شرعي، أو آلته.
"وفي الصحيحين من حديث عائشة، أنَّ أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان" زاد في رواية: من جواري الأنصار، وللطبراني عن أم سلمة: إحداهما لحسَّان، وفي الأربعين للسلمي: إنهما لعبد الله بن سلام ولابن أبي الدنيا وحمامة, وصاحبتها تغنيان, وإسناده صحيح.
قال الحافظ: ولم أقف على تسمية الأخرى، لكن يحتمل أنَّ اسمها زينب, ولم يذكر حمامة المصنّفون في الصحابة, وهي على شرطهم، وفي الإصابة: زينب الأنصارية, غير منسوبة، جاء أنها كانت تغني بالمدينة.
رواه ابن طاهر في الصفوة عن جابر, "في أيام مِنَى تدففا" بفاءين "وتضربان" بالدف عطف تفسير، ولمسلم: تغنيان بدف، وللنسائي: بدفين، والدف -بضم الدال على الأشهر وتفتح، ويقال له أيضًا: الكربال -بكسر الكاف, وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر "ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- متغش" بغين وشين معجمتين- أي: مستتر، ولمسلم: تسجَّى، أي: التفَّ "بثوبه" إعراضًا عن ذلك؛ لأن مقامه يقتضي الارتفاع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دالّ على جوازه على الوجه الذي أقره؛ إذ لا يقر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتًا وكيفيةً تقليلًا لمخالفة الأصل "فانتهرهما" أي: الجاريتين، أي: زجرهما "أبو بكر".
وفي الرواية الثانية: فانتهرني، أي: عائشة، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أمَّا عائشة فلتقريرها، وأمَّا الجاريتان فلفعلهما, "فكشف -صلى الله عليه وسلم- عن وجهه" الثوب "وقال: "دعهما يا أبا بكر فإنها" أي: هذه الأيام "أيام عيد" , وتلك الأيام أيام مِنَى، هذا باقي الحديث، أضافها إلى العيد, ثم إلى مِنَى إشارة إلى الزمان ثم المكان، ففيه تعليل الأمر بتركهما, وإيضاح خلاف ما ظنه(12/63)
على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وعندي جاريتان تغنيان بغناء يوم بعاث -بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلثة- اسم حصن الأوس, وبالمعجمة تصحيف، أي: تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث، وهو حرب كان بين الأنصار، فاضطجع على الفراش وحوّل
__________
الصديق أنهما فعلتا ذلك بغير علمه -صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ظنه نائمًا, فأنكر على بنته لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر بالإنكار نيابةً عن النبي -صلى الله عليه وسلم، فأوضح له الحال وعرَّفه الحكم مقرونًا ببيان الحكمة بأنه يوم سرور شرعي, فلا ينكر فيه هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا زال إشكال كيف أنكر الصديق ما أقرَّه النبي -صلى الله عليه وسلم.
"وفي رواية" في الصحيحين أيضًا عن عائشة، قالت: "دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أيام مِنَى "وعندي جاريتان" من جواري الأنصار "تغنيان", ترفعان أصواتهما "بغناء" بكسر المعجمة والمد "يوم بعاث -بضم الموحدة والعين المهملة آخره مثلثة- اسم حصن للأوس" كما قال أبو موسى المديني في ذيل الغريب, وصاحب النهاية, وفي كتاب أبي الفرج الأصبهاني, أنه موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم, وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك, ولا منافاة بين القولين، وقال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين، قال في المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف "وبالمعجمة تصحيف".
قال عياض ومن تبعه: أعجمه أبو عبيد وحده، وفي الكامل لابن الأثير: أعجمها صاحب العين -يعني: الخليل وحده، وكذا حكاه البكري عن الخيل، وجزم أبو موسى في ذيل الغريب بأنه تصحيف "أي: تنشدان الأشعار التي قيلت يوم بعاث".
وفي رواية في الصحيح: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، أي: قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء, وللبخاريّ في الهجرة بما تعاذفت -بمهملة وزاي وفاء- من العزف, وهو الصوت الذي له دوي، وفي رواية: تفازقت -بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي- من القذف, وهو هجاء بعضهم لبعض، ولأحمد: تذاكر أن يوم بعاث يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج, "وهو حرب كان بين الأنصار" الأوس والخزرج قبل الإسلام، سببه أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود متوطنين بها، فخالفوهم, وكانوا تحت قهرهم، ثم غلبوا على اليهود بمساعدة ملك غسّان، فلم يزالوا متفقين إلى أن قتل أوسي حليفًا للخزرج، فوقعت بينهم حروب دامت مائة وعشرين سنة, آخرها يوم بعاث قبل الهجرة بثلاث سنين على المعتمد، وقيل: بخمس, وكان رئيس الأوس حضير والد أسيد، ويقال له: حضير الكتائب، وجُرِحَ يومئذ ثم مات بعد مدة, ورئيس الخزرج عمرو بن النعمان, جاءه سهم فصرعه, فهزموا بعد أن كانوا ظهروا, فكانت الغلبة للأوس "فاضطجع" صلى الله عليه وسلم "على الفراش وحوَّل وجهه" إعراضًا عن ذلك, "فدخل أبو بكر" زائرًا لابنته(12/64)
وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني وانتهر الجاريتين وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأقبل عليه -صلى الله عليه وسلم- وقال: "دعهما".
واستدلَّ جماعة من الصوفية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة.
وتعقب: بما في الحديث الآخر عند البخاري عن عائشة: "وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنّم وعلى الحداء، ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج وتشويق لما فيه من تعريض بالفواحش أو تصريح.
قال القرطبي: قولها -يعني عائشة: "ليستا بمغنيتين" أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك. قال: وهذا منها تحرز عن الغناء
__________
فانتهرني" زجرني لإقراري لذلك, "وانتهر الجاريتين" أيضًا لتعاطيهما "وقال: مزمارة" بكسر الميم، وضبطه عياض بضمها, وحكي فتحها، يعني: الغناء أو الدف؛ لأن المزمارة والمزمار مشتق من الزمير، وهو صوت له صفير, ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، سُمِّيَت به الآلة التي يزمر بها، وأضافها إلى "الشيطان"؛ لأنها تلهي فتشغل القلب عن الذكر، وعند أحمد، فقال: يا عباد الله, أبمزمور الشيطان "عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم", قال القرطبي: المزمور الصوت, ونسبته إلى الشيطان ذمّ على ما ظهر لأبي بكر, "فأقبل عليه -صلى الله عليه وسلم" بعد أن كشف الثوب عن وجهه "وقال: "دعهما" أتركهما، زاد في رواية في الصحيح: "إن لكل قوم عيدًا وهذا عيدنا"، واستدلَّ جماعة من الصوية بهذا الحديث على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، وتعقَّب بما في الحديث الآخر" أي: الرواية الآخرى, وإلا فهو حديث واحد "عند البخاري عن عائشة: "دخل عليَّ أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث, "وليستا بمغنيتين، فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبته لهما باللفظ؛ لأنَّ الغناء" بزنة كتاب "يطلق على رفع الصوت وعلى الترنّم" ترجيع الصوت.
زاد الحاظ: الذي تسميه العرب النصب -بفتح النون وسكون المهملة- وعلى الحداء -بضم الحاء وكسرها والدال المهملة والمد- الغناء للإبل "ولا يسمَّى فاعله مغنيًّا، وإنما يسمَّى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير وتهييج" تحريك, "وتشويق لما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح".
"قال القرطبي في المفهم "قولها، يعني: عائشة: ليستا بمغنيتين، أي: ليستا ممن يعرف الغناء كما تعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرّز" أي: تحفظ "عن(12/65)
المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرّك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرَّمة لا يختلف في تحريمه. قال: وأمَّا ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلان المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة، وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح يقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وأنَّ ذلك يثمر سني الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة. انتهى.
والحق: إن السماع إذا وقع بصوت حسن، بشعر متضمِّن للصفات العلية أو
__________
الغناء المعتاد عند المشتهرين به, وهو الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن" المخفي, "وهذا" النوع "إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء أو الخمر أو غيرهما من الأمور المحرَّمة لا يختلف في تحريمه".
"قال" القرطبي: "وأمَّا ما ابتدعه الصوفية في ذلك فمن قبيل ما لا يختلف في تحريمة، لكن النفوس الشهوانية" نسبة إلى الشهوة وهي اشتياق النفس إلى الشيء, "غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير" الصلاح والعبادة, "حتى لقد ظهرت في كثير منهم فعلات المجانين" جمع مجنون، وفي نسخة: المجان جمع ماجن، أي: هازل، والأُولَى هي التي في الفتح عن القرطبي وهي أبلغ وأنسب بقوله: "والصبيان حتى رقصوا بحركات متطابقة" متوافقة غير متخالفة "وتقطيعات متلاحقة" متتابعة تتبع بعضها في الانسجام.
"وانتهى التواقح" بفوقية وقاف- قلة الحياء, من الوقاحة بفتح الواو, "بقوم منهم, إلى أن جعلوها من باب القرب" جمع قربة, "وصالح الأعمال" أي: الأعمال الصالحة, "وأن ذلك يثمر سني" بسين ونون، أي: مرتفع, "الأحوال, وهذا على التحقيق من آثار الزندقة" بزاي ونون وقاف, اسم من تزندق.
في نسخة: الزبرقة -بالزاي وسكون الموحدة وفتح الراء وقاف- أي: التشبه بمن يحسن نفسه بأمور باطلة، والذي في الفتح الزندقة، وزاد: وقوله أهل المخزقة. "انتهى" كلام القرطبي, وسلمه الحافظ وقال: ينبغي أن عكس مرادهم ويقرأ: سني -عوض النون المكسورة- بغير همز سيء -بمثناة تحتية ثقيلة مهموزًا. انتهى.
"والحق أن السماع إذا وقع بصوت حسن بشعر متضمّن للصفات العلية" لله سبحانه(12/66)
النعوت النبوية المحمدية، عريًا عن الآلات المحرمة، والحظوظ الخبيثة الغبية، والشبه الدنية، وأثار كامن المحبة الشريفة العلية، وضبط السامع نفسه ما أمكنه؛ بحيث لا يرفع صوته بالبكاء، ولا يظهر التواجد وهو يقدر على ضبط نفسه ما أمكنه, مع العلم بما يجب لله ورسوله, ويستحيل لئلّا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق، كان من الحسن في غاية، ولتمام تزكية النفس نهاية. نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوف الشبهة، وللخروج من الخلاف إلّا نادرًا.
وقد نقل عن الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعلَّ مرادهم ما كان فيه تهييج شيطاني، وإذا كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقًا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأشخاص، واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب، وهو لمن يرتقي بربه ترقية مثير للكامن في النفوس من الأزل، حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} فما كان في القلب من رقة ووجد وحقيقة
__________
"أو النعوت النبوية المحمدية عريًا" خاليًا "عن الآلات المحرمة والحظوظ الخبيثة الغبية" بغين معجمة- قليلة الفطنة, "والشبه الدنية" الخسيسة, "وأَثَار" حرَّك, "كامن" مخفي, "المحبة الشريفة العلية" المرتفعة القدر "وضبط" حفظ "السامع نفسه ما أمكنه؛ بحيث لا يرفع صوته بالبكاء ولا يظهر التواجد" الأخلاق الباطنة "وهو يقدر على ضبط" أي: حفظ "نفسه ما أمكنه مع العلم بما يجب لله ورسوله ويستحيل" في حق كل منهما, "لئلَّا ينزل ما يسمعه على ما لا يليق, كان من الحسن في غاية, ولتمام تزكية النفس" تطهيرها "نهاية, نعم تركه والاشتغال بما هو أعلى أسلم لخوفه الشبهة وللخروج من الخلاف إلّا نادرًا مستثنى من تركه.
"وقد نقل عن الإمام الشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعة من العلماء ألفاظ تدل على التحريم، ولعلّ مرادهم ما كان فيه تهييج شيطاني" لا ملطقًا, "وإذا كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلوب لم يجز أن يحكم فيه مطلقًا بإباحة ولا تحريم" لأنه كلام, "بل يختلف ذلك بالأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب, وهو لمن يرتقي بربه ترقية".
وفي نسخة: وهي لمن بقي بربه، أي: متعلقًا بمرضاة ربه, فكان بقاؤه بالتعلق بمرضاته في جميع أحواله "مثير للكامن في النفوس من الأزل حين خاطبنا الحق تعالى بقوله: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم} , فما كان في القلب من رِقَّة ووجد" شوق, "وحقيقة فهو من حلاوة ذلك الخطاب(12/67)
فهو من حلاوة ذلك الخطاب، والأعضاء كلها ناطقة بذكره، مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة، وكان الشعر متضمنًا لذكر المحبوب الحق، برز الكامن وذاعت الأسرار, سيما في أرباب البدايات.
وقد شوهد تأثير السماع حتى في الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم, فقد شوهد تدلي الطيور من الأغصان على أولي النغمات الفائقة والألحان الرائقة، وهذا الجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثيرًا يستخفّ معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافة الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراه إذا طالت عليه البوادي، وأعياه الإعياء تحت الحِمل, إذا سمع منادي الحداء يمد عنقه, ويصغى سمعه إلى الحادي، ويسرع في سيره، وربما أتلف نفسه في شدة السير وثقل الحمل، وهو لا يشعر بذلك لنشاطه.
وقد حكي مما ذكره في "الإحياء" عن أبي بكر الدينوري: أن عبدًا أسود قتل جمالًا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها، وكانت محملة أحمالًا ثقيلة، فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة، وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل
__________
والأعضاء كلها ناطقة بذكره, مستطيبة لاسمه، فالسماع من أكبر مصايد النفوس، وإذا اقترن بألحانه المناسبة, وكان الشعر متضمنًا لذكر المحبوب الحق, برز الكامن, وذاعت" بذال معجمة وعين مهملة فشت أو انتشرت "الأسرار, سيما في أرباب البدايات، وقد شوهد تأثير السماع حتى في الحيوانات الغير الناطقة من الطيور والبهائم, فقد شوهد تدلي الطيور من الأغصان" للأشجار "على أولي النغمات الفائقة والألحان الرائقة, وهذا الجمل" بالجيم "مع بلادة طبعه يتأثَّر بالحداء تأثرًا يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر" بسين التأكيد؛ "لقوة نشاطه في سماعه المسافة الطويلة, وينبعث فيه من النشاط" الخفة والإسراع "ما يسكره ويولهه" يحيره, "فتراه إذا طالت عليه البوادي" جمع بادية, "وأعياه الإعياء" التعب "تحت الحمل" بكسر الحاء المهملة وسكون الميم- المحمول عليه, "إذا سمع منادي الحداء يمد عنقه ويصغي" يميل "سمعه إلى الحادي, ويسرع في سيره، وربما أتلف نفسه في شدة السير وثقل الحمل وهو لا يشعر بذلك لنشاطه".
وقد حكي مما ذكره في الإحياء" للغزالي, عن أبي بكر الدينوري, أن عبدًا أسود قتل جمالًا كثيرة بطيب نغمته إذا حداها, وكانت محمَّلة أحمالًا ثقيلة, فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة" من سرعة السير, "وأنه حدا على جمل غيرها بحضرته، فهام الجمل وقطع(12/68)
وقطع حباله, وحصل له ما غيبه عن حَسِّه، حتى خَرَّ لوجهه.
فتأثير السماع محسوس، ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج، بعيد العلاج، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال. وإذا كانت هذه البهائم تتأثَّر بالنغمات، فتأثير النفوس النفسانية أَوْلى. وقد قال:
نعم لولاك ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق
نعم أسعى إليك على جفوني ... تداني الحي أو بعد الطريق
إذا كانت تحنّ لك المطايا ... فماذا يفعل النصب المشوق
فزبدة السماع تلطيف السر، ومن ثَمَّ وضع العارف الكبير سيدي علي الوفوي حزبه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة، تنشيطًا لقلوب المريدين وترويحًا لأسرار السالكين، فإن النفوس -كما قدمناه- لها حظ من الألحان، فإذا قيلت هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمَّدية بهذه الأنغام الفائقة والأوزان الرائقة، بشربتها العروق، وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوي المحمدي، فأثمرت شجرة خطاب الأزل بما سقيته من موارد هذه اللطائف
__________
حباله" المربوط بها, "وحصل له ما" أي: شيء "غيِّبَه عن حسِّه حتى خرَّ" أي: سقط "لوجهه" أي: عليه, "فتأثير السماع محسوس" مشاهد بحاسة البصر, "ومن لم يحركه فهو فاسد المزاج" بكسر الميم- الطبع, "بعيد العلاج" معنى أنه لا ينفع فيه بسهولة, "زائد في غلظ الطبع وكثافته" بمثلثة- عطف مساوٍ حسَّنه اختلاف اللفظ, "على الجمال" الموصوفة بالبلادة, "وإذا كانت هذه البهائم تتأثّر بالنغمات، فتأثير النفوس النفسانية أَوْلَى", وأنشد المصنّف لغيره.
نعم لولاك ما ذكر العقيق ... ولا جابت له الفلوات نوق
نعم أسعى إليك على جفوني ... تدانى الحي أو بعد الطريق
إذا كانت تحن لك المطايا ... فماذا يفعل الصب المشوق
"فزبدة السماع تلطيف السر" أي: ترقيقه, "ومن ثَمَّ وضع العارف الكبير سيدي علي" بن العارف الكبير سيدي محمد "الوفوي, حِزْبَه المشهور على الألحان والأوزان اللطيفة تنشيطًا لقلوب المريدين وترويحًا" بالحاء المهملة "لأسرار السالكين، فإن النفوس -كما قدمناه- لها حظ" نصيب "من الألحان، فإذا قيلت" أي: ذكرت "هذه الواردات السنية الفائضة من الموارد النبوية المحمدية" صفات للحزب الشريف "بهذه الأنغام الفائقة والأوزان الرائقة بشربتها العروق, وأخذ كل عضو نصيبه من ذلك المدد الوفوي المحمدي فأثمرت شجرة"(12/69)
عوارف المعارف.
تنبيه: زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد من التلاوة وأظهر تأثيرًا.
والحجة في ذلك: إن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة، ولا تحتمله صفاتها المخلوقة، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدَّعت وتحيِّرت، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف، شاكل بعضها بعضًا, فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق. قاله أبو نصر السراج.
__________
بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت, "تنبيه" إيقاظ.
"زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن, "وأظهر تأثيرًا, والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة, ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة, "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت, والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق, والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان, "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف, شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق, فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج", وسبقه إلى معناه الجنيد, وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم.(12/70)
المقصد العاشر:
الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته
ونقلته إلى حظيرة قدسه لديه -صلى الله عليه وسلم
__________
بالرفع فاعل "خطاب الأزل" في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} "بما سقيته من مواد هذه اللطائف عوارف المعارف" مفعول أثمرت, "تنبيه" إيقاظ.
"زعم بعضهم أن السماع أدعى للوجد" من التلاوة" للقرآن, "وأظهر تأثيرًا, والحجة" أي: الدليل في ذلك الزعم المذكور "أن جلال القرآن لا تحتمله القوى البشرية المحدثة, ولا تحتمله صفاتها المخلوقة"؛ لعدم المناسبة, "ولو كشف للقلوب ذرة" أي: قدرها "من معناه؛ لدهشت وتصدعت" انشقت "وتحيرت, والألحان مناسبة للطبائع بنسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق, والشعر" كذلك نسبته بنسبة الحظوظ، فإذا علقت الأشجان" الهموم والأحزان, "والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف, شاكل" ناسب "بعضها بعضًا، فكان أقرب إلى الحظوظ النفسانية, وأخف على القلوب بمشاكلة المخلوق, فلذا كان أدعى للوجد بخلاف القرآن؛ لجلالته لا مناسبة بينه وبين المخلوق "قاله أبو نصر السراج", وسبقه إلى معناه الجنيد, وهو كما ظاهر احتجاج لكون السماع أدعى للوجد لا جواب عنه كما زعم.
"المقصد العاشر: الفصل الأول: في إتمامه تعالى نعمته عليه بوفاته" متعلق بإتمامه, "ونقلته إلى حظيرة" بظاء معجمة مشالة "قدسة" أي: الجنة لديه, أي: عنده, وهذا عطف مسبب على سبب -صلى الله عليه وسلم وزيارة قبره مقرّ الميت, وأصله مصدر قَبَرَه إذا دفنه, وهو هنا بمعنى المقبور فيه, "الشريف" شرفًا ما(12/70)
وزيارة قبره الشريف, ومسجده المنيف, وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات الجامعة لمزايا التكريم, والدرجات العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة والمقام المحمود, وانفراده بالسؤدد في مجمع مجامع الأولين والآخرين, وترقيه في جنة عدن أرقى مدارج السعادة, وتعاليه في يوم المزيد أعلى الحسنى وزيادة.
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول:
اعلم -وصلنى الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده- أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب الفجائع
__________
ناله مكان سواه؛ بحيث كان أفضل الباقع بإجماع, "ومسجده المنيف" المرتفع في الشرف على غيره حتى المسجد الحرام أو إلا المسجد الحرام على القولين، "وتفضيله في الآخرة بفضائل الأوليات" جمع أوله، أي: بالأمور التي يتقدم وصفه بها على جميع الخلق، ككونه أول من تنشق عنه الأرض, وأول شافع وأول مشفع, وأول من يقرع باب الجنة، وقال شيخنا: أي بفضائل الأمم المتقدمة مع أنبيائهم، أي: إنه جمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره، فكان في ذلك المشهد أتَمَّ الناس فضيلة وأكملهم. انتهى.
وتعسفه لا يخفى "الجامعة لمزايا" فضائل "التكريم والدرجات" المراتب "العليات, وتشريفه بخصائص الزلفى" فعلى من أزلف، أي: القربى "في مشهد مشاهد الأنبياء والمرسلين, وتحميده بالشفاعة" العظمى العامة "والمقام المحمود" الذي يقوم فيه لها فيحمده الأولون والآخرون، ولا شكَّ أنه مغاير لها وإن احتوى عليها, "وانفراده بالسؤدد" بضم السين وبالهمز- أي: السيادة، أي: المجد والشرف "في مجمع" بكسر الميم وفتحها- مفرد "مجامع", يطلق على الجمع وعلى موضع الاجتماع كما في المصباح, "الأولين والآخرين, وترقِّيه في جنة عدن" إقامة, "أرقى" أي: أعلى "مدارج" جمع درجة، وفي نسخة: معارج جمع معرج ومعراج, "السعادة" أي: أعلى مراتبها, وتعاليه في يوم المزيد" وهو يوم الجمعة في الجنة.
كما رواه الشافعي كما مرَّ في الجمعة "أعلى معالى الحسنى" الجنة, وزيادة النظر إلى وجه الله تعالى "وفيه ثلثة فصول".
الفصل الأول: "اعلم وصلني الله وإياك بحبل تأييده, وأوصلنا بلطفه إلى مقام توفيقه وتسديده" بسين مهملة "أنَّ هذا الفصل مضمونه يسكب المدامع من الأجفان, ويجلب(12/71)
لإثارة الأحزان، ويلهب نيران الموجدة على أكباد ذوي الإيمان.
ولما كان الموت مكروهًا بالطبع، لما فيه من الشدة والمشقَّة العظيمة، لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر.
وأوّل ما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا، فقد اقترب أجلك، فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به، من أداء الرسالة والتبليغ، وما عندنا خير لك من الدنيا، فاستعدّ للنقلة إلينا.
وقد قيل: إن هذه السورة آخر سورة نزلت يوم النحر، وهو -صلى الله عليه وسلم- بمنى في حجة الوداع، وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يوما. وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليال. وعن مقاتل. سبعا، وعن بعضهم: ثلاثا.
__________
الفجائع" أي: الآلام, "لإثارة الأحزان" بسبب فقد رؤيته -عليه الصلاة والسلام, ويلهب نيران الموجدة" الحزن على أكباد ذوي الإيمان, ولما كان الموت مكروهًا بالطبع لما فيه من الشدة والمشقّة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يخيّر" بضم الياء وفتح الخاء المعجمة كما في الصحيح من حديث عائشة، ويأتي في المتن: أوَّل ما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فتح مكة, "فإن المراد من هذه السورة: إنك يا محمد إذا فتح الله عليك البلاد, ودخل الناس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجًا" جماعات, "فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار، فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ، لكلّ ما أمر بتبليغه "وما عندنا خير لك من الدنيا" كما قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية "فاستعدّ للنقلة إلينا، وقد قيل: إن هذ السورة آخر سورة نزلت يوم النحر وهو -صلى الله عليه وسلم- بمِنَى في حجة الوداع" ولذا خطب وودَّع الناس كما مَرَّ في الحج.
"وقيل: عاش بعدها إحدى وثمانين يومًا" إن كان قائل هذا يقول: نزلت يوم النحر, فلا يستقيم هذا العد إلّا على القول أنه توفي في ثاني ربيع الأول وأوّل يوم منه، أمَّا على قول الجمهور أنه توفي ثاني عشر ربيع الأوّل, فيكون عاش بعدها ثلاثًا وتسعين يومًا, والأقوال الثلاثة مَرَّت للمصنف في آخر المقصد الأول.
"وعند ابن أبي حاتم من حديث ابن عباس: عاش بعدها تسع ليالٍ" بفوقية فمهملة, "وعن مقاتل: سبعًا" بسين قبل الموحدة, "وعن بعضهم: ثلاثًا, ولأبي يعلى" بإسناد ضعيف "من حديث(12/72)
ولأبي يعلى من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع.
وفي حديث ابن عباس، عند الدارمي: لما نزلت: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال: "نعيت إليّ نفسي" فبكت، قال: "لا تبكي، فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت. الحديث.
وروى الطبراني من طريق عكرمة، عن ابن عباس قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بأشد ما كان قط اجتهادًا في أمره الآخرة.
وللطبراني أيضًا، من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] .
__________
ابن عمر, نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق في حجَّة الوداع، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه الوداع" فركب راحلته واجتمع الناس إليه فخطب, الحديث. وعلى تقدير صحة جميع هذه الأقوال، فيحتمل أن الرواة اختلف وقت سماعهم، فمنهم من سمعها قبل وفاته بإحدى وثمانين, ومنهم بتسع ليالٍ، وهكذا فكل أخبر عن وقت سماعه ظنًّا أنه وقت نزولها.
"وفي حديث ابن عباس عند الدارمي: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاطمة، وقال" لها حين جاءته، وفي نسخة: قال بلا واو، أي: فلمَّا جاءته قال: "نعيت إلي نفسي" ببناء نعيت للمجهول, "فبكت" أسفًا عليه, "قال: "لا تبك" وفي نسخة: لا تبكي بالياء للإشباع, "فإنك أول أهلي لحوقًا بي" فضحكت..... الحديث" وهو دالّ للقول بنزولها قبل موته بتسع أو سبع أو ثلاث لما في الصحيح, أنه دعا فاطمة في مرض موته, فسارَّها فبكت, ثُمَّ سارَّها فضحكت, إن فسرنا ما سارَّها به بنزول سورة النصر.
"وروى الطبراني من طريق عكرمة عن ابن عباس، قال: لما نزلت {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} نعيت -بضم النون- إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه، فأخذ بشأن ما كان قط اجتهادًا في أمر الآخرة" أي: أخذ باجتهاد أشد من الاجتهاد الذي كان يجتهده قبل, "وللطبراني أيضًا من حديث جابر: لما نزلت هذه السورة, قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لجبريل: "نعيت" بفتح النون وتاء الخطاب، أو بضمها مبني للمفعول, "إلي نفسي" فقال له جبريل: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} الآية. أي: الدنيا.(12/73)
وروي في حديث ذكره ابن رجب في "اللطائف" أنه تعبَّد حتى صار كالشن البالي.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين، وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر من الذكر والاستغفار.
وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم, فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا في
__________
"وروي في حديث ذكره ابن رجب في اللطائف أنه -صلى الله عليه وسلم- تعبَّد حتى صار كالشن" بفتح المعجمة وشد النون- الجلد البالي، فجرد عن بعض معناه فاستعمله في الجلد بلا قيد، فوصفه بقوله: "البالي" والله أعلم بحال هذا الحديث.
فإن المفهوم من الأحاديث الصحيحة أنَّه لم يصل إلى هذه الحالة, وإن زاد في العبادة إلى الغاية, "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعرض" بفتح الياء وكسر الراء- يدارس "القرآن كل عام على جبريل مرة، فعرضه ذلك العام مرتين" في رمضان, كما في الصحيحين في حديث عائشة عن فاطمة "أسرَّ إلي أن جبريل كان يعراضني القرآن في كل سنة مرة، وأنه عارضني الآن مرتين, ولا أراه إلا حضر أجلي"، وفي رواية للشيخين أيضًا بالجزم, ولفظه: فقالت: سارَّني أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت..... الحديث. وهو يرد على قوله أولًا أنَّ أول علمه بانقضاء أجله نزول سورة النصر، فإنها نزلت يوم النحر على أبعد ما قيل, والعرض في رمضان الذي قبله, إلّا أن يقال: الإعلام من سورة النصر ظاهر للأمر بالتسبيح والاستغفار، وقول جبريل له: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4] . بخلاف معارضة جبريل, فليس فيها إفصاح بقرب أجله، لكنه فهمه من مخالفة عادته؛ حيث كرره مرتين, أو أنه لما تأخر تحديث فاطمة بهذا حتى مات, لم يعلم منه أنه أوّل ما أعلم به, والذي ظهر الإعلام به أولًا إنما هو سورة النصر "وكان -عليه الصلاة والسلام- يعتكف العشر الأواخر من رمضان كل عام, فاعتكف في ذلك العام" الذي قُبِضَ فيه عشرين, وأكْثَرَ من الذكر والاستغفار"؛ لعلمه بانقضاء أجله, والظاهر من إطلاق العشرين أنها متوالية, فيكون العشر الوسط منها، ولما عارضه مرتين اعتكف مثلي ما كان يعتكف.
"وقالت أم سلمة: كان -صلى الله عليه وسلم- في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: "سبحان الله وبحمده, أستغفر الله وأتوب إليه" فقلت له: إنك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم" سمته دعاء نظرًا لقوله: "استغفر الله"..... إلخ.(12/74)
أمتي، وأنى إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره" ثم تلا هذه السورة. رواه ابن جرير وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق عن عائشة نحوه.
وروى الشيخان من حديث عقبة بن عامر قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أحد بعد ثمان سنين؛ كالمودع للأحياء واللأموات، ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرط، وأنا عليكم شهيد، وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه وأنا في مقامي هذا، وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني لست أخشى
__________
فغلبت أو أرادت بالدعاء ما فيه ثناء على الله, سواء كان فيه طلب أم لا, "فقال: "إن ربي أخبرني أني سأرى علمًا" بفتحتين- دليلًا "في أمتي" على وفاتي, "وأني" أي: وأمرني أني "إذا رأيته أن أسبح بحمده وأستغفره"، ثم تلا هذه السورة" يعني: وقد رأيته.
"رواه ابن جرير" محمد الطبري "وابن خزيمة، وأخرج ابن مردويه من طريق مسروق" بن الأجدع "عن عائشة نحوه" أي: نحو حديث أم سلمة, "وروى الشيخان من حديث عقبة" بالقاف "ابن عامر" الجهني "قال: صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قتلى أُحد" زاد في رواية للشيخين: صلاته على الميت، أي: مثل صلاته، والمراد: إنه دعا لهم بدعاء صلاة الميت؛ كقوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} لا أنه صلى عليهم الصلاة المعهودة على الميت؛ للإجماع على أنه لا يصلى على القبر, "بعد ثمان سنين" فيه تجوّز، لأن أحدًا كانت في شوال سنة ثلاث باتفاق, والوفاة النبوية في ربيع الأول سنة إحدى عشرة, فيكون سبع سنين ودون النصف, فهو من جبر الكسر, "كالمودّع للأحياء والأموات" بصلاته على أهل أُحد، وخرج إليهم كما في رواية في الصحيح: خرج يومًا فصلى على أهل أُحد، ثم انصرف "ثم طلع المنبر" كالمودِّع للأحياء والأموات "فقال: "إني بين أيديكم فرط" بفتح الفاء والراء- المتقدم على الواردين ليصلح لهم الحياض والدلاء ونحوها، أي: أنا سابقكم إلى الحوض كالمهييء له لأجلكم, وفيه إشارة إلى قرب وفاته وتقدّمه على أصحابه, "وأنا عليكم شهيد" أشهد بأعمالكم، فكأنه باقٍ معهم لم يتقدمهم، بل يبقى بعدهم حتى يشهد بأعمال آخرهم, فهو قائم بأمرهم في الدَّارين في حال حياته وموته.
وعند البزار بسند جيد عن ابن مسعود رفعه: "حياتي خير لكم, ومماتي خير لكم, تعرض علي أعمالكم, فما كان من حسن حمدت الله عليه, وما كان من سييء استغفرت الله لكم" , "وإن موعدكم الحوض" يوم القيامة, "وإني" زاد في رواية: والله "لأنظر إليه" نظرًا حقيقيًّا "وأنا في مقامي" بفتح الميم "هذا" الذي أنا قائم فيه، فهو على ظاهره, وكأنه كُشِفَ له عنه في تلك الحالة، قاله الحافظ وغيره، ويقويه رواية في الصحيح: "إني والله لأنظر إلى حوضي الآن"، قال المصنف وغيره: فيه أن الحوض على الحقيقة, وأنه مخلوق موجود الآن, "وإني قد أعطيت(12/75)
عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها".
وزاد بعضهم: "فتقتتلوا, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم".
وعن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر فقال: "إن عبدًا خيِّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء, وبين ما عنده، فاختار ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمهاتنا، قال: فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. قال: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيِّر، وكان أبو بكر أعلمنا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:
__________
مفاتيح خزائن الأرض" فيه إشارة إلى ما فتح لأمته من الملك والخزائن من بعده, "وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي" أي: لا أخاف على جميعكم الإشراك, بل على مجموعكم؛ لأنه قد وقع من بعضهم بعده, "ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا" بحذف إحدى التاءين, "فيها" أي: الدنيا بدل اشتمال مما قبله، والمنافسة في الشيء الرغبة فيه وحب الانفراد به, "وزاد بعضهم" أي: الرواة "فتقتتلوا على المنافسة, فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" وقد وقع ما قاله -صلى الله عليه وسلم, ففتحت على أمته بعده الفتوح, وصبّت عليهم الدنيا صبًّا, وتحاسدوا وتقاتلوا, وكان ما كان، ولم يزل الأمر في ازدياد.
"وعن أبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جلس على المنبر" قبل موته بخمس كما يأتي، وفي رواية: خطب الناس "فقال: "إن عبدًا خيِّره الله" من التخيير "بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا" زينتها "ما شاء" أن يؤتيه منها، وفي نسخة: زهرة بدون من، لكن الذي في البخاري من، وفي مسلم: بدونها, لكن لم يقل ما شاء, "وبين ما عنده" في الآخرة, "فاختار" ذلك العبد "ما عنده"، فبكى أبو بكر -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله, فديناك بآبائنا وأمهاتنا".
قال أبو سعيد: "فعجبنا له", وفي رواية: لبكائه, وقال الناس" متعجبين من تفديته؛ لأنهم لم يفهموا المناسبة بين الكلامين: "انظروا إلى هذا الشيخ, يخبر رسول الله " بالرفع فاعل يخبر "صلى الله عليه وسلم عن عبد خيِّره الله بين أن يؤتيه زهرة".
كذا في نسخ، وفي آخرى: من, وهو في الصحيح من زهرة "الدنيا ما شاء, وبين ما عنده, وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا", وللبخاري في الصلاة: فبكى أبو بكر، فقلت في نفسي: ما يبكي هذا الشيخ إن يكن الله خُيِّرَ عبدًا بين..... إلخ، وجمع الحافظ، بأنَّ أبا سعيد حدَّث نفسه بذلك، فوافق تحديث غيره به فنقل جميع ذلك.
"قال" أبو سعيد: فكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو المخَيَّر" بفتح التحتية المشددة والنصب(12/76)
"إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام، لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت إلّا خوخة أبي بكر" رضي الله عنه. رواه البخاري ومسلم.
__________
خبر كان, ولفظة: هو, ضمير فصل، ورواه أبو ذر بالرفع خبر المبتدأ، أعنى: هو, والجملة في موضع نصب خبر كان, "وكان أبو بكر أعلمنا به" أي: بالنبي -صلى الله عليه وسلم، أو بالمراد من الكلام المذكور, فبكى حزنًا على فراقه, "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم:" زاد في رواية للبخاري: "يا أبا بكر لا تبك" , "إن أمَنَّ الناس" بفتح الهمزة والميم وشد النون، أي: أكثرهم مِنَّة, "عليَّ في صحبته وماله أبو بكر" أفعل تفضيل من المنِّ بمعنى العطاء والبذل، يعني: إن أبذل الناس لنفسه وماله لا من المانية التي تفسد الصنيعة، وأغرب الداودي فشرحه على أنه من المانية، وقال: تقديره: لو توجه لأحد الامتنان علي لتوجّه لأبي بكر والأول أَوْلَى، قاله الحافظ, "ولو كنت متخذًا" وقوله: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين في حديث أبي سعيد وإنما في البخاري في حديثه في بعض طرقه "من أمتي"، وفي روايات له بدونها, نعم لفظ من أهل الأرض.
رواه مسلم، لكن من حديث ابن مسعود لا من حديث أي: سعيد, "خليلًا" أرجع إليه في المهمات, وأعتمد عليه في الحاجات, وفي رواية للبخاري: "لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلًا"؛ لأنه أهلٌ لذلك لولا المانع، فإن خِلّة الله لا تسع مخالة شيء غيره أصلًا, "ولكن أخوة" بالرفع "الإسلام" جامعة بيني وبينه، ولتمامها: صرت معه لأخ، زاد في راية: ومودته أي: الإسلام.
وفي حديث ابن عباس عند البخاري: "ولكن أخوة الإسلام أفضل" واستشكل بأن الخلة أفضل من أخوة الإسلام, فإنها تستلزمها وزيادة، وأجيب بأن أفضل بمعنى فاضل، وبأنَّ المراد مودة الإسلام مع النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل من مودته مع غيره, ولا يعكر عليه اشتراك جميع الصحابة في هذه الفضيلة مع أبي بكر؛ لأن رجحانه عليهم عُلِمَ من غير هذا, وأخوة الإسلام ومودته متقاربة بين المسلمين في نصر الدين وإعلاء كلمة الحق وتحصيل كثرة الثواب، ولأبي بكر من ذلك أكثره وأعظمه "لا يبقى" الذي في البخاري: في أزيد من موضع كمسلم لا يبقين.
قال الحافظ وغيره: بفتح أوله ونون التوكيد الثقيلة, "في المسجد خوخة" بمعجمتين- باب صغير, ونسبة النهي إليها تجوّز؛ لأن عدم بقائها لازم للنهي عن إبقائها, وكأنه قال: لا تبقوها حتى تبقى، وقد رواه بعضهم بضم أوله وهو واضح، وكانوا قد اتخذوا في ديارهم أبوابًا صغارًا إلى المسجد، فأمر -صلى الله عليه وسلم- بسدِّها كلها, "إلا خوخة أبي بكر" إكرامًا له وتنبيهًا على أنه الخليفة بعده, أو المراد المجاز فهو كناية عن الخلافة وسد أبواب المقالة دون التطرق والتطلع إليها، رجَّحه(12/77)
ولمسلم من حديث جندب: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليالٍ.
وكأنَّ أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز الذي أشار به النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى.
وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنَّه لما خطب في حجة الوداع قال للناس: "خذوا عني مناسككم، فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق
__________
التوربشتي بأنه لم يصح عنده أن أبا بكر كان له منزل بجنب المسجد, وإنما كان منزله بالسنح من عوالي المدينة، وردَّه الحافظ بأنه استدلال ضعيف؛ إذ لا يلزم من كونه بالسنح أن لا يكون له دار مجاورة للمسجد، ومنزله الذي بالسنح هو منزل أصهاره من الأنصار، وقد كان له إذ ذاك زوجة أخرى وهي أسماء بنت عميس باتفاق, وأم رومان على القول, بأنها كانت باقية يومئذ.
وقد ذكر عمر بن شبة في أخبار المدينة أنَّ دار أبي بكر الذي أذَّن له في إبقاء الخوخة فيها إلى المسجد كانت ملاصقة للمسجد, ولم تزل بيده حتى احتاج إلى شيء يعطيه لبعض مَن وفد عليه، فباعها لام المؤمنين حفصة بأربعة آلاف درهم.
"رواه البخاري" في موضعٍ "ومسلم" في الفضائل, "ولمسلم من حديث جندب: "سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل أن يموت بخمس ليال: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل" هذا بقية الحديث في مسلم، فليس بالمراد بقول ما مَرَّ من قوله: "إن عبدًا" كما زعم من لم يقف على شيء، قال الحافظ: قد تواردت الأحاديث على نفي الخلة من النبي -صلى الله عليه وسلم- لأحد.
وأمَّا ما روي عن أُبَيّ بن كعب: إن أحدث عهدي بنبيكم قبل موته بخمسٍ دخلت عليه وهو يقول: "إنه لم يكن نبي إلّا وقد اتخذ من أمته خليلًا, وإن خليلي أبو بكر, ألا وإن الله اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا".
أخرجه أبو الحسن الحربي في فوائده، فمعارض بحديث جندب المذكور، فإن ثبت حديث أُبَيّ أمكن الجمع بينهما بأنها لما برئ من ذلك تواضعًا لربه وإعظامًا له, أذن الله تعالى له فيه في ذلك اليوم لما رأى من تشوّقه إليه, وإكرامًا لأبي بكر بذلك, فلا يتنافى الخبر أن أشار إليه المحب الطبري.
وروي عن أبي أمامة نحو حديث أُبَيّ دون التقييد بالخمس, أخرجه الواحدي في تفسيره, والخبران واهيان, وكأن أبا بكر -رضي الله عنه- فهم الرمز" أي: الإشارة "الذي أشار به -صلى الله عليه وسلم- من قرينة ذكره ذلك في مرض موته, فاستشعر منه أنه أراد نفسه، فلذلك بكى" أسفًا وحزنًا "وما زال -صلى الله عليه وسلم- يعرض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال(12/78)
يودع الناس، فقالوا: هذا حجة الوداع.
فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجه إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى "خما" في طريقه بين مكة والمدينة، فخطبهم وقال: "أيها الناس، إنما أنا بشر مثلكم، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب" ثم حضَّ على التمسك بكتاب الله, ووصَّى بأهل بيته.
قال الحافظ ابن رجب: وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور.
وكانت خطبته التي خطب بها المذكور في حديث أبي سعيد الذي قدمته في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي- وهو معصوب الرأس بخرقة، حتى أهوى إلى المنبر, فاستوى عليه فقال: "والذي نفسي بيده، إني
__________
للناس: "خذوا عني مناسككم" احفظوها واعملوا بها, "فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" , وطفق أي: شرع "يودّع الناس، فقالوا: هذه حجة الوداع، فلمَّا رجع -عليه الصلاة والسلام- من حجِّه" أي: شرع في الرجوع "إلى المدينة" ليلًا في قوله: "جمع الناس بماء يدعى" يسمَّى "خُمّا" بضم الخاء المعجمة وشد الميم- غدير في طريقه بين مكة والمدينة" على ثلاثة أيام من الجحفة, يقال له: غدير خم, "فخطبهم وقال" بعد أن حمد الله وأثنى عليه، ووعظ, وذكر كما في مسلم: "أيها الناس" الحاضرون أو أعمّ, "إنما أنا بشر" وقوله: "مثلكم" ليست في مسلم, ولا في نقل السيوطي عنه, وعن أحمد وعبد بن حميد، فكأن كتابها سبقه قلمه لحفظ القرآن, "يوشك" يقرب "أن يأتيني رسول ربي" يعني: ملك الموت, "فأجيب" اي: أموت, كنَّى عني بالإجابة إشارةً إلى أنه ينبغي تلقيه بالقبول, كأنه يجيب إليه باختياره, ثم حضَّ على التمسط بكتاب الله" القرآن "ووصَّى بأهل بيته" ومَرَّ الحديث في مقصد المحبة السابع.
"قال الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي: "وكان ابتداء مرضه -عليه السلام- في آخر شهر صفر" يوم الاثنين أو السبت أو الأربعاء كما يأتي, "وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يومًا في المشهور" يأتي مقابله قريبًا, "وكانت خطبته التي خطب بها المذكورة في حديث أبي سعيد الذي قدمته" آنفًا "في ابتداء مرضه الذي مات فيه، فإنه خرج كما رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي سعيد، قال: خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونحن في المسجد وهو معصوب الرأس بخرقة" من الصداع "حتى أهوى" ارتفع صاعدًا إلى المنبر, فاستوى" جلس "عليه، فقال: "والذي نفسي بيده" قسم كان يقسم به كثيرًا, وفيه الحلف على الأمر المحقق من(12/79)
لأنظر إلى الحوض في مقامي هذا" ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا" إلخ، ثم هبط عنه, فما رؤي عليه حتى الساعة.
فلمَّا عرَّض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء، ولم يصرّح خفي المعنى على كثير ممن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} ، وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى, وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه، وأخذ في مدحه والثناء عليه على المنبر؛ ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته, فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر" رضي الله عنه, ثم قال -صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذًا من أهل الأرض
__________
غير استخلاف لمزيد التأكيد, "إني لأنظر إلى الحوض" نظرًا حقيقيًّا "في مقامي" بفتح الميم "هذا"، ثم قال: "إن عبدًا عرضت عليه الدنيا إلى آخره" , بقيته: "وزينتها, فاختار الآخرة" فلم يفطن لها غير أبي بكر فذرفت عيناه، فبكى ثم قال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا وأنفسنا وأولادنا وأموالنا يا رسول الله, ثم هبط عنه" نزل عن المنبر "فما رؤي عليه" بضم الراء وهمزة مكسورة وفتح الياء, وبكسر الراء ومد الهمزة "حتى الساعة" أي: فما قام عليه بعد في حياته, والمراد بالساعة القيامة، قاله المصنف: فلمَّا عرض على المنبر باختياره اللقاء لله تعالى على البقاء" في الدنيا, "ولم يصرحّ, خفي المعنى على كثير ممن سمع" كلامه, ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به" زيادة على غيره {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: أحد الاثنين, والآخر أبو بكر {إِذْ} بدل من إذ قبله {هُمَا فِي الْغَارِ} ثقب في جبل ثور، "وكان أعلم الأمة بمقاصد الرسول -صلى الله عليه وسلم, فلما فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جزعه" ضعف قوته وعدم صبره على ما حلَّ به "وأخذ في مدحه والثناء عليه" عطف مساوٍ "على المنبر ليعلم الناس كلهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال: "إن أمَنَّ الناس علي في صحبته وماله أبو بكر".
وفي رواية في الصحيح أيضًا: "إن من أمَنِّ الناس" فقيل من زائدة على رأي الكسائي فلا خلف، أو يحمل على أن لغيره مشاركة ما في الأفضلية, لكنه مقدَّم في ذلك, بدليل السياق المتقدم والمتأخر، ويؤيده حديث أبي هريرة عند الترمذي: "ما لأحد عندنا يد إلّا كافأناه عليها ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة"، فدلَّ ذلك على ثبوت يد لغيره, إلّا أن لأبي بكر رجحانًا، وحاصله: إنه حيث أطلق أراد أنه أرجحهم، وحيث لم يطلق أراد الإشارة إلى من شاركه "ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا" زاد في رواية: غير ربي(12/80)
خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام"، لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أن يخالل مخلوفًا, فإن الخليل من جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلًا
أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقى في المسجد خوخة إلّا سدت, إلا خوخة أبي بكر" إشارةً إلى أنَّ أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلين، ثم أكّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر -رضي الله عنه، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" فولّاه إمامة الصلاة، ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا, أفلا
__________
"لاتخذت أبا بكر خليلًا, ولكن أخوة الإسلام" أي: حاصلة، وتقدَّم أن لفظ: من أهل الأرض, ليس في الصحيحين, ولا أحدهما من حديث أبي سعيد، وإنما في بعض طرقه عند البخاري: من أمتي، وإن لفظ من أهل الأرض إنما رواه مسلم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلًا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله" "لما كان -صلى الله عليه وسلم- لا يصلح له أنه يخالل مخلوقًا، فإن الخليل مَنْ جرت محبة خليله منه مجرى الروح, ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل".
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
ومَرَّ الخلاف في مقصد المحبة: هل هي والخلة متساويان, أو المحبة أرفع, أو الخلة, "أثبت له أخوة الإسلام، ثم قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يبقي في المسجد خوخة إلّا" خوخة "سدت" فحذف المستثنى والفعل صفته، لكن لم يقع في الصحيحين بهذا اللفظ, فإنه إنما وقع في بعض طرقه عند البخاري: "لا يبقين في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر".
أما رواية: خوخة, فليس فيها إلّا سدت, وإنما فيهما كما مَرَّ: "لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر" إشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده، فإن الإمام يحتاج إلى سكنى المسجد والاستطراق فيه بخلاف غيره, وذلك من مصالح المسلمين المصلين" فإبقاؤها مصلحة عامّة, "ثم أكَّد هذا المعنى بأمره صريحًا أن يصلي بالناس أبو بكر، فرُوجِعَ في ذلك وهو يقول: "مروا أبا بكر أن يصلي بالناس" والمراجع له عائشة وحفصة كما يأتي, "فولَّاه إمامة الصلاة".(12/81)
نرضاه لدنيانا.
__________
"ولذا قال الصحابة عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا" أي: الصلاة؛ لأنها عماد الدين, "أفلا نرضاه لدنيانا", وفيه إشارة قوية إلى استحقاقه الخلافة، لا سيما وقد ثبت أن ذلك كان في الوقت الذي أمرهم فيه أن لا يؤمَّهم إلّا أبو بكر، قاله الخطابي وابن بطال وغيرهما, وجاء في سد الأبواب أحاديث يخالف ظاهرها حديث الباب، فلأحمد والنسائي بإسنادٍ قوي عن سعد بن أبي وقاص: أمر -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب الشارعة في المسجد وترك باب علي.
زاد الطبراني في الأوسط برجال ثقاتٍ فقالوا: يا رسول الله, سددت أبوابنا، فقال: "ما سددتها, ولكن الله سدها"، ولأحمد والنسائي والحاكم برجال ثقاتٍ عن زيد بن أرقم: كان لنفر من الصحابة أبواب شارعة في المسجد، فقال -صلى الله عليه وسلم: "سدوا هذه الأبواب إلّا باب علي"، فتكلم ناس في ذلك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "إني والله ما سدت شيئًا ولا فتحته، ولكن أمرت بشيء فاتبعته".
وعند أحمد والنسائي برجالٍ ثقات عن ابن عباس: أمر -صلى الله عليه وسلم- بأبواب المسجد فسدت غير باب عليّ، فكان يدخل المسجد وهو جنب, ليس له طريق غيره، وللطبراني عن جابر بن سمرة: "أمَرَّ -صلى الله عليه وسلم- بسد الأبواب كلها غير باب علي، فربما مَرَّ فيه وهو جنب", ولأحمد بإسناد حسن عن ابن عمر: لقد أعطي علي ثلاث خصال، لأن تكون لي واحدة منهن أحبَّ إلي من حمر النعم، زوَّجه -صلى الله عليه وسلم- ابنته وولدت له، وسد الأبواب إلّا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم خيبر، وهذه أحاديث يقوي بعضها بعضًا, وكل طريق منها صالح للحجة فضلًا عن جموعها.
وأوردها ابن الجوزي في الموضوعات, وأعلها بما لا يقدح, وبمخالفتها للأحاديث الصحيحة في باب أبي بكر، وزعم أنها من وضع الرافضة, قابلوا بها الحديث الصحيح، فأخطأ في ذلك خطأ شنيعًا فاحشًا، فإنه سلك رد الأحاديث الصحيحة بتوهمه المعارضة, مع أن الجمع بين القضيتين ممكن، كما أشار إليه البزار بما دلَّ عليه حديث أبي سعيد عند الترمذي, أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعلي: "لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنبًا غيري وغيرك" , والمعنى: إن باب علي كان إلى جهة المسجد, ولم يكن لبيته باب غيره، فلذا لم يؤمر بسدِّه، ويؤيده ما أخرجه إسماعيل القاضي عن المطلب بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب, أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأذن لأحد أن يمرَّ في المسجد وهو جنب إلّا لعلي بن أبي طالب؛ لأن بيته كان في المسجد، ومحصّل الجمع أنه أمر بسد الأبواب مرتين، ففي الأولى استثنى باب علي لما ذكر، وفي الأخرى باب أبي بكر، لكن إنما يتمّ بحمل باب علي على الباب الحقيقي وباب أبي بكر على المجازي، أي: الخوخة -كما في بعض طرقه, وكأنهم لما أمروا بسدها سدوها وأحدثوا خوخًا يستقربون الدخول إلى المسجد منها، فأمروا بعد ذلك بسدها، فهذا لا بأس به في الجمع، وبه جمع الطحاوي والكلاباذي, وصرَّح بأن بيت أبي بكر كان له باب خارج المسجد, وخوخة إلى داخل المسجد, وبيت علي لم يكن له باب إلّا من(12/82)
وكان ابتداء مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة، كما ثبت في رواية معمر عن الزهري، وفي سيرة أبي معشر: كان في بيت زينب بنت جحش، وفي سيرة سليمان التيمي: كان في بيت ريحانة، والأوّل هو المعتمد.
وذكر الخطابي أنه ابتدأ به يوم الاثنين، وقيل يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد: يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا -كما مَرَّ, وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما في الروضة، وصدَّر بالثاني، وقيل: عشرة أيام، وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح.
وفي البخاري قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتدَّ به وجعه, استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذِنَّ له، فخرج وهو بين رجلين تخطّ رجلاه في
__________
داخل المسجد. انتهى، ملخصًا من فتح الباري.
"وكان ابتداء" اشتداد "مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة, كما ثبت في رواية معمر عن الزهري" عن عبيد الله بن عبد الله عن عائشة: أوّل ما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت ميمونة. الحديث في الصحيحين، وأما ابتداؤه الحقيقيّ فكان في بيت عائشة كما يأتي "وفي سيرة أبي معشر" نجيح بن عبد الرحمن، "كان في بيت زينب بنت جحش, وفي سيرة سليمان التيمي, كان في بيت ريحانة, والأوّل" بيت ميمونة "هو المعتمد" كما قال الحافظ؛ لأنه الذي في الصحيحين مسندًا.
"وذكر الخطابي أنه ابتدأ به" المرض, "يوم الاثنين، وقيل: يوم السبت، وقال الحاكم أبو أحمد" شيخ الحاكم أبي عبد الله "يوم الأربعاء، واختلف في مدة مرضه، فالأكثر أنها ثلاثة عشر يومًا" وهو المشهور "كما مَرَّ، وقيل: أربعة عشر، وقيل: اثنا عشر، وذكرهما" أي: القولين "في الروضة, وصدَّر بالثاني" الذي هو اثنا عشر, "وقيل: عشرة أيام, وبه جزم سليمان التيمي في مغازيه, وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح" عنه، وجمع شيخنا بجواز اختلاف أحواله في ابتداء مرضه، فذكر كلّ منهم اليوم الذي علم بحصول ما رآه من حاله وشدة مرضه التي انقطع بها عن الخروج في بيت عائشة: كانت سبعة أيام على ما يأتي, وما زاد عليها قبل اشتداده الذي انقطع به -صلى الله عليه وسلم.
"وفي البخاري" ومسلم "قالت عائشة: لما ثقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم, واشتد به وجعه" عطف تفسير, يقال: ثقل مرضه إذا اشتدَّ وركضت أعضاؤه عن الحركة، قال عياض: العرب تسمي كل مرض وجعًا "استأذن أزواجه في أن يمرَّض" بضم أوله وفتح الميم وشد الراء "في بيتي, فأذِنَّ -بفتح الهمزة وكسر المعجمة وشد النون- أي: الأزواج له -صلى الله عليه وسلم.(12/83)
الأرض بين عباس بن عبد المطلب وبين رجل آخر. قال عبيد الله: فأخبرت عبد الله بالذي قالت عائشة فقال لي عبد الله ابن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسمّ عائشة؟ قال: قلت: لا، قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب. الحديث.
وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العبّاس ورجل آخر.
وفي أخرى: بين رجلين أحدهما أسامة. وعند الدارقطني: أسامة والفضل، وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو ثم موحدة, قيل: وهو اسم أمة، وقيل: هو عبد, وعند ابن سعد من وجه آخر: بين الفضل وثوبان.
__________
قال الكرماني: وروي -بضم الهمزة وكسر الذال وخفة النون- مبني للمجهول "فخرج وهو بين رجلين تخط رجلاه في الأرض" أي: لا يقدر على تمكينها منها لشدة مرضه, "بين عباس بن عبد المطلب" عمه "وبين رجل آخر، قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها- ابن عتبة -بضمها وإسكان الفوقية- راوي الحديث عن عائشة "فأخبرت عبد الله" ابن عباس مستفهمًا للعرض عليه "بالذي قالت عائشة، فقال لي عبد الله بن عباس: هل تدري من الرجل الآخر الذي لم تسم عائشة".
وفي رواية للشيخين: فدخلت على عبد الله بن عباس، فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدَّثتني عائشة عن مرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: هات, فعرضت عليه حديثها, فما أنكر منه شيئًا، غير أنه قال: أسمَّت لك الرجل الذي كان مع العباس, "قلت: لا, قال ابن عباس: هو علي بن أبي طالب" زاد الإسماعيلي: ولكن عائشة لا تطيب له نفسًا بخير، وعند ابن إسحاق: ولكن لا تقدر أن تذكره بخير. انتهى.
وذلك لما جبل عليه الطبع البشري، فلا إزراء في ذلك عليها ولا على علي -رضي الله عنهما...... "الحديث".
"وفي رواية مسلم عن عائشة: فخرج بين الفضل بن العباس" أكبر ولده "ورجل آخر" هو علي -كما في بقية هذه الرواية أيضًا.
"وفي " رواية "أخرى" لغير مسلم كما في شروحه "بين رجلين، أحدهما أسامة بن زيد "وعند الدارقطني أسامة والفضل" بن عباس "وعند ابن حبان في أخرى: بريرة ونوبة -بضم النون وسكون الواو، ثم موحدة- كما ضبط ابن ماكولا, "قيل: وهو اسم أمة" واحدة الإماء "وقيل: هو عبد " أسود ذكر, وبه جزم سيف، ويؤيده رواية ابن خزيمة: فخرج بين بريرة ورجل آخر, فوهم من ذكر نوبة في النساء الصحابيات، قاله الحافظ.
"وعند ابن سعد" محمد "من وجه آخر بين الفضل وثوبان" بمثلثة مولاه -صلى الله عليه وسلم, "وجمعوا(12/84)
وجمعوا بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأن خروجه تعدّد، فتعدد من اتكأ عليه.
وعن عائشة -رضي الله عنها، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور في بيوتكنّ، فإن شئتنّ أذنتنّ لي" رواه أحمد.
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدا؟ " يريد يوم عائشة, حرصًا على أن يكون في بيت عائشة.
وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري: إن فاطمة هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك, فقالت لهنَّ: إنه يشق عليه الاختلاف.
وفي رواية ابن أبي مليكة عن عائشة, أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- بيتها كان يوم الإثنين، وموته يوم الإثنين الذي يليه.
وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين أكون أنا غدًا"،
__________
بين هذه الروايات على تقدير ثبوتها بأنَّ خروجه تعدَّد، فتعدد من اتكأ عليه" وهو أَوْلَى ممن قال: تناوبوا في صلاة واحدة، هذا بقية ما ذكره الحافظ هنا في الوفاة.
"وعن عائشة -رضي الله عنها, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لنسائه: "إني لا أستطيع أن أدور" أطوف عليكن "في بيوتكنّ، فإن شئتن أذنتنَّ لي" في أن أكون في بيت عائشة "رواه أحمد" وفيه مزيد لطفه وحسن عشرته، فإنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكتف بأنه لا يستطيع الدوران مع أنه عذر ظاهر حتى أنه علّق الإذن على مشيئتهن.
"وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول" وفي رواية يسأل: "أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟ " مرتين "يريد يوم عائشة حرصًا على أن يكون في بيت عائشة", قال ابن التين في الرواية الأخرى: إن أزواجه أذِنَّ له أن يقيم عند عائشة, فظاهره يخالف هذا، ويجمع باحتمال أنهنَّ له بعد أن صار إلى يومها، يعني: فيتعلّق الإذن بالمستقبل وهو جمع حسن، قاله الحافظ.
"وذكر ابن سعد بإسناد صحيح عن الزهري أن فاطمة" الزهراء "هي التي خاطبت أمهات المؤمنين بذلك" أي: الاستئذان, "فقالت لهنَّ: أنه يشق" يصعب "عليه الاختلاف" بالمجيء والرواح من حجرة إلى أخرى.
"وفي رواية ابن أبي مليكة" بضم الميم- اسمه: عبد الله "عن عائشة, أن دخوله -عليه الصلاة والسلام- بيتها كان يوم الإثنين وموته يوم الإثنين الذي يليه" فاختصَّت بسبعة أيام.
"وفي مرسل أبي جعفر عند ابن أبي شيبة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "أين أكون غدًا؟: كررها أي:(12/85)
كررها مرتين، فعرف أزواجه أنه إنما يريد عائشة, فقلن: يا رسول الله، قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة.
وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عن الإسماعيلي, كان يقول: "أين أنا غدًا" حرصًا على بيت عائشة، فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي.
وعن عائشة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعًا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه، فقال: "بل أنا وا رأساه" ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك، ودفنتك, فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسَّم -صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه. رواه أحمد والنسائي.
__________
هذه المقالة "مرتين فعرف" وفي نسخة: فعرفنا على لغة أكلوني البراغيث "أزواجه أنه إنما يريد عائشة فقلن: يا رسول الله, قد وهبنا أيامنا لأختنا عائشة".
"وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه عند الإسماعيلي: كان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أين أنا غدًا؟ " حرصًا على بيت عائشة" أي: على أن يكون في بيتها, كما في رواية: "فلمَّا كان يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي", ويمكن الجمع بين هذه الروايات بأن كان يقول: "أين أنا غدًا؟ " قبل يوم عائشة، وأمر فاطمة أن تستأذنهنَّ فأخبرتهنَّ بذلك، فلمَّا كان يوم عائشة قال وهن عنده: "أين أنا غدًا؟ " وكرها، ففهم أزواجه أنه يريد عائشة، وأكَّد ذلك قول فاطمة: إنه يشق عليه الاختلاف، فوهبن أيامهنَّ لعائشة، فقال -صلى الله عليه وسلم- زيادة في تطييب قلوبهنَّ: "أني لا أستطيع....." إلخ.
وكان ذلك في يومها كما قالت, فلمَّا كان في يومي أذن له نساؤه أن يمرَّض في بيتي، هكذا ظهر لي.
"وعن عائشة: أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم من جنازة" لبعض أصحابه "بالبقيع" بموحدة- مقبرة المدينة, "وأنا أجد صداعًا في رأسي" جملة حالية, "وأنا أقول: وا رأساه" ندبت نفسها وأشارت إلى الموت، قاله الطيبي: كأنها فهمت أن وجع رأسها يتولّد منه الموت, فقال -صلى الله عليه وسلم- مشيرًا إلى أنها لا تموت منه بالإضراب "بل أنا وا رأساه"، ثم قال مشيرًا إلى أنها لو ماتت قبله لكان خيرًا لها: "ما ضرك لو مت قبلي فغسَّلتك" بنفسي على ظاهره، ففيه أنَّ الزوج أحقّ بتغسيل زوجته, "وكفَّنتك وصليت عليك ودفنتك"، فقالت: لكأنِّي بك والله لو فعلت" أي: لو قام بي "ذلك" فهو -بضم التاء أو بفتحها خطابًا، أي: لو فعلت الغسل وما بعده "لقد رجعت إلى بيتي فأعرست، من أعرس، أي: غشي "فيه ببعض نسائك، فتبسّم -صلى الله عليه وسلم, ثم بدأ في وجعه الذي مات فيه، ورواه أحمد والنسائي" من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها.(12/86)
وفي البخاري: قالت عائشة: وا رأساه, فقال -صلى الله عليه وسلم: "ذاك لو كان وأنا حي, فأستغفر لك وأدعو لك" فقالت عائشة: وا ثكلياه، والله إنّي لأظنك تحب موتي، فلو كان ذلك لظللت آخر يومك معرسًا ببعض أزواجك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه، لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه, فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنَّى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون".
__________
"وفي البخاري" في الطب والأحكام "قالت عائشة: وا رأساه" من الصدع ظنًّا أنه قد يتولّد منه الموت "فقال -صلى الله عليه وسلم: "ذاك" بكسر الكاف، أي: موتك -كما يدل عليه السياق "لو كان وأنا حي" الواو للحال "فأستغفر لك وأدعو لك" بكسر الكاف فيهما, "فقالت عائشة: واثكلياه" بضم المثلثة وسكون الكاف وكسر اللام مصححًا عليها في الفرع بعدها تحتية خفيفة فألف فهاء ندبة، وفي بعض الأصول: بفتح اللام, ولم يذكر الحافظ ابن حجر غيرها، وتعقّبه العيني فقال: ليس كذلك؛ لأنَّ ثكلياه إمَّا أن يكون مصدرًا أو صفة للمرأة التي فقدت ولدها، فإن كان مصدرًا فالثاء مضمومة واللام مكسورة، وإن كان صفة فالثاء مفتوحة واللام كذلك، قال في القاموس: الثكل بالضم الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو الولد. انتهى.
وليست حقيقته مرادة هنا, بل هو كلام يجري على ألسنتهم عند حصول المصيبة أو توقعها, قاله المصنف, "والله إني لأظنك تحب موتي" فهمت ذلك من قوله: "لو كان وأنا حي" , "فلو كان ذلك" أي: موتي، وفي رواية: ذاك بلا لام" لظللت" بفتح اللام والظاء المعجمة وكسر اللام الأولى وسكون الثانية، أي: لدنوت وقربت "آخر يومك" من موتى حال كونك "معرسًا" بضم الميم وفتح العين المهملة وكسر الراء المشددة فسين مهملة- اسم فاعل, وبسكون العين وخفة الراء من أعرس بالمرأة إذا بنى بها أو غشيها "ببعض أزواجك", ونسيتني, "فقال -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه" قال المصنف: هكذا في الأصول المعتمدة التي وقفت عليها بإثبات بل الإضرابية, "لقد همت أو أردت" بالشك من الراوي "أن أرسل إلى أبي بكر" الصديق وابنه عبد الرحمن, "فأعهد" بفتح الهمزة والنصب عطفًا على أرسل: أي: أوصي بالخلافة إلى أبي بكر كراهية "أن يقول القائلون" الخلافة لفلان أو يقول واحد منهم: الخلافة لي, وأن مصدرية, والمقول محذوف, "أو يتمنَّى المتمنون" أن تكون الخلافة لهم فأعينه قطعًا للنزع، وقد أراد الله تعالى أن لا يعهد ليؤجر المسلمون على الاجتهاد, والمتمنون -بضم النون- جمع متمنٍّ بكسرها، وقال ابن التين: ضبط بفتح النون, وإنما هو بضمها؛ لأن الأصل المتمنيون بزنة المتطهرون, استثقلت الضمة على الياء فحذفت, فاجتمع ساكنان الياء والواو فحذفت الياء لذلك وضمت النون لأجل الواو؛ إذ لا يصح واو قلبها كسرة. انتهى.(12/87)
وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب، يعني: دعي ذكر ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي.
فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد في الزهد عن طاوس أنه قال: أنين المريض شكوى، وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية أن تأوّه المريض مكروه.
قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه
__________
وأقرَّه الحافظ، وردّه العيني فقال: فتح النون هو الصواب وهو الأصل, كما في قوله: المسمون؛ إذ لا يقال فيه بضم الميم, وتشبيه القائل المذكور بالمتطهرون غير مستقيم؛ لأن هذا صحيح وذاك معتلّ اللام, وكل هذا عجز, وقصور عن قواعد علم التصريف.
كذا قال وأقرَّه المصنّف وردَّه شيخنا بأن الصواب خلافه لما علل به, وأمَّا تشبيهه بالمسمّون فهو من اشتباه اسم الفاعل باسم المفعول، فإن النون في اسم الفاعل مكسورة, ومفتوحة في اسم المفعول, فيفعل فيها ما ذكر, وقياس اسم الفاعل من سمي المسمون بضم الميم الثانية جمع المسمَّى.
وفي التقريب قال الأزهري: تميت الشيء قدرته, والفاعل متمنٍّ والجمع متمنون -بضم النون, والأصل متمنيون, ومثله قاضون وأصله قاضيون, "ثم قلت: "يأبى الله" إلّا خلافة أبي بكر "ويدفع المؤمنون" خلاف غيره لاستخلافي له في الإمامة الصغرى "أو" قال صلى الله عليه وسلم: "يدفع الله" خلافة غيره "ويأبى المؤمنون" إلّا خلافته, شك الراوي في التقديم والتأخير.
وفي رواية لمسلم: "ادعو إلي أبا بكر أكتب له كتابًا, فإني أخاف أن يتمنَّى متمنٍّ ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر" , وللبزار: "معاذ الله أن يختلف الناس على أبي بكر"، ففيه إشارة إلى أن المراد الخلافة وهو الذي فهمه البخاري, وبوّب عليه في كتاب الأحكام باب الاستخلاف.
قال الكرماني: وفائدة إحضار ابن الصديق معه في العهد بالخلافة ولم يكن له فيها دخل, أنَّ المقام مقام طيب قلب عائشة، كأنه قيل: كما أنَّ الأمر مفوّض إلى أبيك كذلك الاشتوار في ذلك بحضرة أخيك فأقاربك هم أهل مشورتي.
"وقوله: "بل أنا وا رأساه" إضراب بمعنى: دعي ما تجدينه من وجع رأسك واشتغلي بي" فإنك لا تموتين في هذا الأيام من هذا الوجع, بل تعيشين بعدي، علم ذلك بالوحي.
"فإن قلت: قد اتفقوا على كراهة شكوى العبد كربه، وروى أحمد" الإمام "في" كتاب الزهد عن طاوس" بن كيسان اليماني، "أنه قال: أنين المريض" تأوه, وتوجّعه "شكوى".
وجزم أبو الطيب وابن الصباغ وجماعة من الشافعية، أنَّ تأوه" توجّع "المريض مكروه" تنزيهًا, "قلت: تعقبه النووي فقال: هذا ضعيف أو باطل، فإن المكروه ما ثبت فيه(12/88)
نهي مخصوص، وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتجَّ بحديث عائشة هذا، ثم قال: فلعلّهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى، فإنه لا شك أن اشتغاله بالذكر أَوْلَى. انتهى.
قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط للقضاء، وتورّث شماتة الأعداء، وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه عن حاله فلا بأس اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية. فكم من ساكت وهو ساخط، وكم من شاكٍ وهو راض، فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان.
وقد تبيّن -كما نبَّه عليه في اللطائف- أن أوَّل مرضه -عليه الصلاة والسلام- كان صداع الرأس، والظاهر أنه كان مع حمى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، يتبرَّد بذلك.
وفي البخاري قالت: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا علي من
__________
نهي مقصود" له بعينة ولم يصلح للتحريم, "وهذا لم يثبت فيه ذلك، ثم احتج بحديث عائشة هذا" فإن قوله -صلى الله عليه وسلم: "بل أنا وا رأساه" دليل على الجواز, "ثم قال النووي: فلعلهم أرادوا بالكراهة خلاف الأولى, فإنه لا شك أن اشتغاله" أي: المريض "بالذكر أَوْلَى. انتهى".
وأما حديث المريض: أنينه تسبيح, فليس بثابت كما نقله السخاوي عن شيخه الحافظ, "قال في فتح الباري: ولعلهم أخذوه" أي: قولهم بالكراهة "بالمعنى من كون كثرة الشكوى تدل على ضعف اليقين وتشعر بالتسخّط" أي: إظهار التألُّم وعدم الصبر "للقضاء" الذي أصابه مما يكرهه "وتورّث شماتة الأعداء" فرحهم.
وأما إخبار المريض صديقه أو طبيبه" الذي يداويه "عن حاله فلا بأس به" أي: يجوز "اتفاقًا، فليس ذكر الوجع شكاية، فكم من ساكت وهو ساخط" بقلبه, "وكم من شاكٍ" بلسانه "وهو راضٍ" بقلبه, "فالمعوّل في ذلك على عمل القلب لا على نطق اللسان"؛ لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله.
"وقد تبيّن كما نبَّه عليه في اللطائف أنَّ أوَّل مرضه -عليه الصلاة والسلام- كان صداع الأس، والظاهر أنه كان مع حمَّى، فإن الحمَّى اشتدت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب" بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الضاد المعجمتين- الإجانة "ويصبّ عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن يتبرَّد بذلك" من الحمَّى.
وفي البخاري قالت عائشة: لما دخل بيتي واشتدَّ وجعه قال: "أهريقوا" أي: صبوا(12/89)
سبع قرب لم تحلل أوكيتهن، لعلي أعهد إلى الناس" فأجلسناه في مخضب لحفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم طففنا نَصُبّ عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتن. الحديث.
وقد قيل في الحكمة في هذا العدد: إن له خاصية في دفع ضرر السمّ والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "هذا أوان انقطاع أبهري" أي: من ذلك السمّ. وتمسَّك بعض من أنكر نجاسة سؤر الكلب به، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه.
وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة، فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك, فقال: "إنا كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف
__________
علي من سبع قرب لم تحلل" بضم الفوقية وسكون المهملة وفتح اللام خفيفة "أوكيتهن" جمع وكاء وهو رباط القربة, "لعلي أعهد إلى الناس" أي: أوصي, "فأجلسناه في مخضب" بكسرالميم بزنة منبر, إناء يغتسل فيه "لحفصة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم, ثم طفقنا" شرعنا "نصُبّ عليه من تلك القرب" السبع, "حتى طفق يشير إلينا بيده أن قد فعلتنّ" أي: كفّوا عن الصب "الحديث" تتمته هنا في البخاري، قالت: ثم خرج إلى الناس فصلَّى لهم وخطبهم.
وفي حديث ابن عباس أنه -صلى الله عليه وسلم- خطب في مرضه.... الحديث, وفيه آنه آخر مجلس جلسه، ولمسلم عن جندب: إن ذلك كان قبل موته بخمس. قال الحاظ: فعليه يكون يوم الخميس، ولعلّه كان بعد اختلافهم عنده, وقوله لهم: "قوموا" فلعله وجد بعد ذاك خفة فخرج, "وقد قيل في الحكمة في هذا العدد" أي: قوله: "من سبع قرب" "أنَّ له" أي: العدد "خاصية في دفع ضرر السم والسحر، وسيأتي إن شاء الله تعالى" قريبًا "أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "هذا أوان" بالفتح ظرفًا "انقطاع أبهري" بفتح فسكون "من ذلك السم" الذي أكله بخيبر, "وتمسك به بعض في أنكر نجاسة سؤر الكلب، وزعم أن الأمر بالغسل منه سبعًا إنما هو لدفع السمية التي في ريقه".
زاد الحافظ: وقد ثبت حديث: "من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر" , وللنسائي في قراءة الفاتحة على المصاب سبع مرات وسنده صحيح، ولمسلم: القول لمن به وجع أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحذر سبع مرات، وفي النسائي: من قال عند مريض لم يحضر أجله أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك سبع مرات, "وكانت عليه -صلوات الله وسلامه عليه- قطيفة" كساء له خمل "فكانت الحمَّى تصيب من يضع يده عليه" أي: المصطفى "من فوقها" أي: القطيفة لشدة حرارة الحمَّى "فقيل له في ذلك، فقال: "إنا"(12/90)
لنا الآجر" رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا، والحاكم, وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري.
وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدَّ عليه الوجع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وعن عبد الله قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم, وهو يوعك وعكًا شديدًا، فقلت: يا رسول الله، إنك توعك وعكًا شديدًا، قال: "أجل، إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"، قلت: ذلك أن لك أجرين، قال: "أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كَفَّر الله بها سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها" رواه البخاري.
__________
معاشر الأنبياء "كذلك يشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر".
"رواه ابن ماجه وابن أبي الدنيا والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، كلهم من رواية أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان, "وقالت عائشة: ما رأيت أحدًا كان أشدّ عليه الوجع" أي: المرض، والعرب تسمي كل مرض وجعًا "من رسول الله -صلى الله عليه وسلم" زيادة في أجره، وهذا الحديث رواه الشيخان.
"وعن عبد الله" بن مسعود قال: دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو" أي: والحال أنه يوعك بفتح العين- يحمّ "وعكًا شديدًا" فمسسته, "فقلت: يا رسول الله, إنك توعك وعكًا" بسكون العين وفتحها "شديدًا: قال: "أجل" بفتح الجيم وسكون اللام مخفَّفة، أي: نعم "إني أوعك كما يوعك رجلان منكم"؛ لأنه كالأنبياء مخصوص بكمال الصبر.
قال ابن مسعود: "قلت ذلك" التضاعف "إن لك لأجرين، قال: "أجل ذلك كذلك" فالبلاء في مقابلة النعمة، فمن كانت نعم الله عليه أكثر كان بلاؤه أشد, "وما من مسلم يصيبه أذى شوكة" بالرفع بدل, والتنكير للتقليل, ودونها في الحقارة، وعكس ذلك قاله في الفتح والكواكب، وفي رواية: أذى مرض فما سواه, "إلا كفَّر الله بها" وفي نسخة: به، أي: بالأذى، لكن الذي في البخاري بها، أي: بالشوكة "سيئاته" الصغائر أو الكبائر، حدث عن الكرم بما شئت "ما تحط الشجرة ورقها" وذلك زمن الخريف، فإنها حينئذ تتجرّد عنها سريعًا لجفافها وكثرة هبوب الرياح.
زاد في حديث سعد بن أبي وقاص عند الدارمي، وصحَّحه الترمذي وابن حبان: "حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئة"، قال الطيبي: تحات ورق الشجر كنايةً عن إذهاب الخطايا, شبَّه حالة المريض وإصابة المرض جسده، ثم محو السيئات عنه سريعًا, بحملة الشجر وهبوب الرياح وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها، فهو تشبيه تمثيلي لانتزاع الأمور والمتوهمة في المشبه(12/91)
والوَعْك -بفتح الواو وسكون العين المهملة، وقد تفتح- الحمى، وقيل: ألم الحمى، وقيل: إرعادها الموعك وتحريكها إياه. وعن الأصمعي: الوعك الحر، فإن كان محفوظًا فلعلَّ الحمى سميت وعكًا لحرارتها.
قال أبو هريرة: ما من وجع يصيبني أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا من الأجر.
وأخرج النسائي وصححه الحاكم، من حديث فاطمة بنت اليمان -أخت حذيفة- قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده: فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمَّى، "فقال: "إن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم".
__________
من المشبه به، فوجه الشبه الإزالة الكلية سريعًا لا الكمال والنقصان؛ لأن إزالة ذنوب الإنسان سبب كماله، وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها.
"رواه البخاري" في مواضع عديدة من الطب، وكذا رواه مسلم في الطب "والوعك بفتح الواووسكون العين المهملة وقد تفتح - الحمى" نفسها "وقيل: ألم الحمَّى، وقيل: إرعادها الموعوك وتحريكها إياه".
وعن الأصمعي" بفتح الميم- عبد الملك بن قريب "الوعك الحرّ، فإن كان محفوظًا" عند أهل اللغة فلعل الحمَّى سميت وعكًا لحرارتها, "قال أبو هريرة: ما من وجع" أي: مرض يصيبني "أحبَّ إليَّ من الحمَّى، إنها تدخل في كل مفصل" بزنة مسجد, أحد مفاصل الإنسان "من ابن آدم، وإن الله يعطي كل مفصل قسطًا" نصيبًا "من الأجر".
"وأخرج النسائي وصحَّحه الحاكم من حديث فاطمة بنت اليمان أخت حذيفة" العبسية، ويقال اسمها خولة، روى عنها ابن أخيها أبو عبيد بن حذيفة، أنها "قالت: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في نساء نعوده، فإذا سقاء -بكسر السين- معلق "يقطر" ماؤه عليه من شدة ما يجد من حر "الحمَّى, فقال: "إن أشد" هكذا الرواية في النسائي وغيره أشد "الناس" بدون من قبلها, فما في نسخ: إن من لا يصح ولا من جهة المعنى؛ لأن الأنبياء أشدّ على الإطلاق، وفي تاريخ البخاري مرفوعًا: "أشد الناس بلاء في الدنيا نبي أو صفي"، والذي في الإصابة: والزيادات معز، وللنسائي وغيره وبلفظ: "إن أشد الناس بلاء" في الدنيا "الأنبياء ثم الذين يلونهم" الأصفياء والصالحون "ثم الذين يلونهم" وهذا يفسره رواية الطبراني في الكبير عن فاطمة بنت اليمان نفسها مرفوعًا بلفظ: "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل".
قال القرطبي: أحب الله تعالى أن يبتلى أصفياءه تكميلًا لفضائلهم ورفعة لدرجاتهم عنده(12/92)
وفي حديث عائشة: إنه -صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة أو ركوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله, إن للموت سكرات" الحديث رواه البخاري.
وروى أيضًا عن عروة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم".
وفي رواية: "ما زالت أكلة خيبر تعادني".
__________
وليس ذلك نقصًا في حقهم ولا عذابًا، بل كمال رفعة مع رضاهم بجميل ما يجريه الله عليهم، وقال العارف الجيلاني: إنما كان الحق يديم على أصفيائه البلايا والمحن ليكونوا دائمًا بقلوبهم في حضرته لا يغفلون عنه؛ لأنه يحبهم ويحبونه, فلا يختارون الرخاء؛ لأن فيه بعدًا عن محبوبهم، وأمَّا البلاء فقيد للنفوس يمنعها من الميل لغير المطلوب، فإذا دام ذابت الأهوية وانكسرت القلوب، فوجدوا الله أقرب إليهم من حبل الوريد كما قال الله تعالى.
وفي بعض الكتب الإلهية: أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، أي: على الكشف منهم والشهود, وإلا فهو عند كل عبد انكسر قلبه أم لا.
"وفي حديث عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- كان بين يديه علبة" بضم العين وسكون اللام وفتح الموحدة- قدح ضخم من خشب "أو ركوة" بفتح الراء- من جلد, يشك عمر بن سعيد أحد رواته، كما في البخاري: "فيها ماء, فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: "لا إله إلا الله, إن للموت سكرات" جمع سكرة وهي الشدة..... "الحديث" باقية، ثم نصب يده فجعل يقول في الرفيق الأعلى حتى قبض ومالت يده.
"رواه البخاري" إن عائشة كانت تقول: إن من عم الله عليّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في بيتي.... الحديث، وفيه: وكان بين يديه ركوة إلى آخر ما هنا.
"روى" البخاري "أيضًا" لكن تعليقًا, قال الحافظ: وصله البزار والحاكم والإسماعيلي "عن عروة "بن الزبير، عن عائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما أزال أجد ألم الطعام" أي: أحس الألم في جوفي بسبب الطعام المسموم "الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان" بالرفع على الخبرية, وهو الذي في الفرع وبالفتح لإضافته إلى مبني وهو الماضي؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد, وهو في موضع رفع خبر المبتدأ, قاله المصنف واقتصر الحافظ على قوله: أوان -بالفتح على الظرفية "وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم" بفتح السين وضمها.
"وفي رواية" لابن سعد بأسانيد متعددة في قصة الشاة التي سمت له بخيبر، وقال في آخرها: وعاش بعد ذلك ثلاث سنين حتى كان وجعه الذي قبض فيه جعل يقول: "ما زلت أكلة(12/93)
والأكلة -بالضم: اللقمة التي أكل من الشاة. وبعض الرواة يفتح الألف، وهو خطأ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة، قاله ابن الأثير.
ومعنى الحديث: إنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا.
والأبهر: عرق مستبطن بالصلب يتَّصل بالقلب، إذا انقطع مات صاحبه.
وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا من السم.
وعند البخاري أيضًا قالت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات ومسح بيديه، فلمَّا اشتكى وجعه الذي توفي فيه، طفقت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه.
__________
خيبر تُعادّني" بضم الفوقية وشد الدال المهملة، قاله في النهاية، أي: تراجعني ويعاودني ألم سمها في أوقات معلومة, يقال به عداد من ألم، أي: يعاوده في أوقات معلومة. انتهى. فنسخ تعاودني بزيادة واو قبل الدال تحريف, وعند ابن سعد: "ما زلت أجد من الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادًا حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري" وتوفي شهيدًا. انتهى.
"والأكلة -بالضم" للهمزة "اللقمة التي أكل من الشاة, وبعض الرواة يفتح الألف وهو خطأ؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- لم يأكل منها إلا لقمة واحدة, قاله ابن الأثير" في النهاية, ومعنى الحديث أنه نقض عليه سم الشاة التي أهدتها له اليهودية، فكان ذلك يثور عليه أحيانًا", حتى ينال رتبة الشهادة, ومرَّت القصة مبسوطة في خيبر "والأبهر" بفتح الهمزة والهاء بينهما موحدة ساكنة "عرق مستبطن بالصلب متصل بالقلب إذا انقطع مات صاحبه".
هكذا نقله في الفتح عن أهل اللغة، ثم قال: وقال الخطابي: يقال: إن القلب متصل, "وقد كان ابن مسعود وغيره يرون أنه -صلى الله عليه وسلم- مات شهيدًا من السم" الذي تناوله بخيبر، ومن المعجزة أنه لم يؤثّر فيه في وقته؛ لأنهم قالوا: إن كان نبيًّا لم يضره, وإن كان ملكًا استرحنا منه، فلمَّا لم يؤثر فيه تيقنوا نبوته حتى قيل: إن اليهودية أسلمت, ثم نقض عليه بعد ثلاث سنين لإكرامه بالشهادة.
"وعند البخاري أيضًا قالت" عائشة: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا اشتكى" أي: مرض "نفث" بمثلثة، أي: تفل بغير ريق أو مع ريق خفيف "على نفسه بالمعوذات" بكسر الواو المشددة, ومسح أي: يقرأ ماسحًا "بيديه" عند قراءتها؛ لتصل بركة القرآن إلى بشرته المقدَّسة, "فلما اشتكى" مرض "وجعه", مرضه الذي توفي فيه طفقت" أي: أخذت حال كوني "أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث" بكسر الفاء "وأمسح بيد النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه" بركتها، وهذا(12/94)
وفي رواية مالك: وأمسح بيده رجاء بركتها.
ولمسلم: فلما مرض مرضه الذي مات فيه, جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي.
وأطلقت على السور الثلاث: المعوّذات تغليبًا.
وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدري، ومع عبد الرحمن سواك رطب يستنّ به، فأبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونقضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستنَّ به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه. الحديث.
__________
رواه البخاري في الوفاة من طريق يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة.
"وفي رواية مالك" عن ابن شهاب بهذا الإسناد عند البخاري في فضائل القرآن: "وأمسح بيده -صلى الله عليه وسلم "رجاء بركتها", وفي رواية معمر عن ابن شهاب، بسنده عند البخاري في الطب: أمسح بعد نفسه, "ولمسلم" من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسح بيد نفسه؛ لأنها كانت أعظم بركة من يدي".
وعند البخاري عن ابن أبي مليكة عن عائشة: فذهبت أعوّذه, فرفع رأسه إلى السماء وقال: "في الرفيق الأعلى" , وللطبراني من حديث أبي موسى، فأفاق وهي تمسح صدره وتدعو بالشفاء، فقال: "لا ولكن أسال الله الرفيق الأعلى" , "وأطلقت على السور الثلاث" الإخلاص والتاليتين لها "المعوذات تغليبًا" كما قال الحافظ: إنه المعتمد, وعبارته: المراد بالمعوذات: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} , {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، وجمع باعتار أن أقل الجمع اثنان, أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يقع بها التعويذ من السورتين, ويحتمل أن المراد هاتان السورتان مع سورة الإخلاص, وأطلقت ذلك تغليبًا وهذا هو المعتمد.
"وفي البخاري عن عائشة: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم, وأنا مسندته إلى صدري, ومع عبد الرحمن سواك رطب" من جريد "يستنّ" بشدّ النون- يستاك به, قال الخطابي: أصله من السنّ، أي: بالفتح- ومنه السن الذي يسن عليه الحديد, فأبده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك" من عبد الرحمن "فقضمته ونقضته" بالفاء والضاد المعجمة "وطيبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستنَّ" استاك "به، فما رأيته استنَّ استنانًا قط أحسن منه.... الحديث" تمامه: فما عدا أن فرغ -صلى الله عليه وسلم- رفع يده أو إصبعه, ثم قال: "في الرفيق الأعلى" ثلاثًا، ثم قضى, وكانت تقول: مات بين حاقنتي وذاقنتي.(12/95)
وقولها: "فأبده" بتشديد الدال المهملة- أي: مَدَّ نظره إليه.
وقولها: "فقضمته" بكسر الضاد المعجمة- أي: لطوله, ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن, "ثم طيبته": أي لينته بالماء.
وفي رواية له أيضًا قالت: إنَّ من نعم الله تعالى عليَّ أن جمع الله بين ريقي وريقه عند موته، دخل على عبد الرحمن وبيده سواك، وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم.
وفي رواية: مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم, فظننت أنَّ له بها حاجة، فأخذتها فمضغت رأسها ونفضتها ودفعتها إليه, فاستنَّ بها كأحسن ما
__________
"وقولها: فأبدَّه" بموحدة خفيفة "وبتشديد الدال المهملة، أي: مَدَّ نظره إليه" يقال: أبددت فلانًا النظر إذا طوَّلته إليه.
وفي رواية الكشميهني: فأمدَّه بالميم، قال المصنف: وهما بمعنى, "وقولها: فقضمته" بفتح القاف و "بكسر الضاد المعجمة" أي: مضغته, والقضم الأخذ بطرف الأسنان "أي: لطوله, ولإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ثم طيبته، أي: لينته بالماء".
قال الحافظ: وحكى عياض أن الأكثر رووه بالصاد المهملة، أي: كسرته أو قطعته، حكى ابن التين رواية بالفاء والمهملة.
قال المحب الطبري: إن كان بالضاد المعجمة فيكون قولها: فطيبته تكرارًا، وإن كان بالمهملة فلا؛ لأنه يصير المعنى: كسرته لطوله، أو لإزالة المكان الذي تسوك به عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون طيبته تأكيدًا للينته.
"وفي رواية له" للبخاري "أيضًا، قالت" عائشة: "إنَّ من نِعَمِ الله تعالى عليَّ" بشد الياء "أنَّ الله جمع بين ريقي وريقه عند موته, دخل عليَّ عبد الرحمن" بن أبي بكر "وبيده سواك, وأنا مسندة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه, وعرفت أنه يحب السواك، فقلت: آخذه لك، فأشار برأسه أن نعم" فيه العمل بالإشارة عند الحاجة, وقوة فطنة عائشة.
وباقي هذا في البخاري: فناولته فاشتدَّ عليه، وقلت: أليِّنه لك، فأشار برأسه أن نعم، فليِّنته فأمره, وبين يديه ركوة إلى آخر ما مَرَّ.
"وفي رواية" للبخاري أيضًا عن عائشة: "مَرَّ عبد الرحمن وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه -صلى الله عليه وسلم. فظننت أن له بها" بالجريدة "حاجة, فأخذتها, فمضغت رأسها ونقضتها" بفاء ومعجمة(12/96)
كان مستنًا، ثم ناولنيها, فسقطت يده أو سقطت من يده، فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا، أوّل يوم من الآخرة.
وفي حديث خرَّجه العقيلي: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضيغه, ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك"؛ لكي يهوّن علي عند الموت.
قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هوّن الله عليهم ذلك بلقاء الله، وبكل ما أحبوا من تحفة أو كرامة، حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك، لما قد مثل له.
وفي المسند عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليهوَّن عليَّ الموت؛ لأني رأيت بياض كف عائشة في الجنة". وخرَّجه ابن سعيد وغيره مرسلًا: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيتها في الجنة، حتى ليهوّن عليَّ بذلك موتى, كأني أرى كفيها"، يعني عائشة.
فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب عائشة حبًّا شديدًا، حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت
__________
"ودفعتها إليه، فاستنَّ بها كأحسن ما كان مستنًا، ثم ناولنيها فسقطت يده أو سقطت" الجريدة "من يده" شك الراوي: "فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم" من أيامه -صلى الله عليه وسلم "من الدنيا وأول يوم" من أيامه من الآخرة" عليه الصلاة والسلام.
"وفي حديث خرجه العقيلي" بضم العين- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال لها في مرضه: "ائتيني بسواك رطب فامضغيه، ثم ائتيني به أمضغه؛ لكي يختلط ريقي بريقك لكي يهوّن" الأمر "عليّ عند الموت".
وعند ابن عساكر: "ما أبالي بالموت مذ علمت أنك زوجتي في الجنة" , "قال الحسن" البصري: "لما كرهت الأنبياء الموت" باعتبار الطبع البشريّ, "هوَّن الله عليهم ذلك بلقاء الله, وبكل ما أحبوا من تحفة" وزان رطبة, ما اتحفت به غيرك.
وحكى الصغاني: سكون الحاء أيضًا, "أو كرامة, حتى إن نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو محب لذلك لما قد مثل له، وفي المسند" للإمام أحمد "عن عائشة أيضًا: أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنه ليهوّن" بسكون الواو- يسهل "عليّ الموت" أي: تطيب نفسي به وإن وجدت فيه شدة ومشقة؛ "لأبي رأيت بياض كف عائشة في الجنة" وخرجه ابن سعد وغيره مرسلًا" بدون ذكر عائشة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد رأيتها في الجنة حتى ليهوَّن عليَّ بذلك موتى كأني أرى كفيها"، يعني عائشة، فقد كان -عليه الصلاة والسلام- يحب عائشة حبًّا شديدًا.(12/97)
له بين يديه في الجنة ليهوّن عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحِبَّة، وقد سأله -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: أي الناس أحب إليك؟ فقال: "عائشة" , فقال: من الرجال, قال: "أبوها" , ولهذا قال لها في ابتداء مرضها لما قالت: وا رأساه, وددت أن ذلك كان وأنا حي, فأصلي عليك وأدفنك، فعظم ذلك عليها، وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان -صلى الله عليه وسلم- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.
ويروى أنه كان عنده -صلى الله عليه وسلم- في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم بالصدقة، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفِّه وقال: "ما ظنّ محمد بربه لو لقي الله وعنده هذه؟ " ثم تصدَّق بها كلها، رواه البيهقي.
انظر إذا كان هذا سيد المرسلين، وحبيب رب العالمين المغفور له ما تقدَّم
__________
حتى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت" صورت "له بين يديه في الجنة؛ ليهون" بسكون الواو يسهل "عليه موته، فإن العيش إنما يطيب باجتماع الأحبة" وقراءته بشدّ الواو تقتضي أنه خُفِّفَ عليه في قبض روحه وهو خلاف قوله: "إن للموت سكرات"، وخلاف قول عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم, "وقد سأله صلى الله عليه وسلم رجل" هو عمرو بن العاص, لما أمَّره على ذات السلاسل على جيش فيهم أبو بكر وعمر، قال: فظننت أن لي منزلة عنده، فأتاه "فقال: أيّ الناس" هكذا الرواية في الصحيحين وغيرهما، فنسخة النساء تصحيف سببه خيال يقول في العقل، أنه أنسب بالجواب, "أحب إليك" زاد في رواية: فأحبه "فقال: "عائشة" فقال: من الرجال".
وعند ابن خزيمة وابن حبان عن عمرو: فقلت: إني لست أعني النساء، أني أعني الرجال، فلو كان السؤال، أي النساء, ما صح أن عمرًا يقول هذا, "قال: "أبوها" , فقلت: ثم مَنْ؟ قال: "ثم عمر بن الخطاب" فعدَّ رجالًا، هذا تمامه في الصحيحين، زاد في رواية: سكت مخافة أن يجعلني في آخرهم, "ولهذا قال لها في ابتداء مرضها، لما قالت: وا رأساه: "وددت أن ذلك كان" وجد "وأنا حي, فأصلي عليك وأدفنك" فعظم" شقَّ "ذلك عليها, وظنت أنه يحب فراقها، وإنما كان -عليه الصلاة والسلام- يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما، ويروى أنه كان عنده -صلى الله عليه وسلم- في مرضه سبعة دنانير، فكان يأمرهم" أي: من عنده "بالصدقة بها، ثم يغمى عليه, فيشتغلون بوجعه, فدعا بها" أي: أمر بإحضارها "فوضعها في كفِّه وقال: "ما ظن محمد بربه لو لقي الله تعالى" مصدرية "وعنده هذه"، ثم تصدق بها كلها" رغبةًَ في الأجر وإعراضًا عن الدنيا.
"رواه البيهقي, انظر إذا كان هذا سيد المرسلين" بالنصب خبر كان, "وحبيب رب العالمين، المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" وجواب إذا محذوف، أي: تبرأ من الدنيا(12/98)
من ذنبه وما تأخَّر، فكيف حال من لقي الله عنده دماء المسلمين وأموالهم المحرّمة، وما ظنه بربه تعالى.
وفي البخاري من طريق عروة, عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة في شكواه الذي قبض فيه، فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها فضحكت، فسألناها عن ذلك فقالت: سارَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت، ثم سارَّني فأخبرني أني أول أهله يتبعه فضحكت.
وفي رواية مسروق عن عائشة: أقبلت فاطمة تمشي كأنَّ مشيتها مشية النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا يا بنتي" ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها.
ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت
__________
مع أنه إنما اكتسبها من أحلّ الحلال, "فكيف حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة, وما ظنه بربه تعالى" إن لم يتجاوز عنه ويرض عنه خصماؤه.
"وفي البخاري" ومسلم والنسائي "من طريق عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- فاطمة" بنته -رضي الله عنها "في شكواه" مرضه الذي قُبِضَ فيه" بالتذكير على معنى شكوى للكشميهني، فيها بالتأيث على لفظها, "فسارَّها بشيء فبكت، ثم دعاها فسارَّها بشيء فضحكت" سقطت بشيء، الثانية لبعض رواة البخاري, "فسألناها عن" سبب "ذلك" البكاء والضحك "فقالت:" بعد وفاته "سارَّني النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يقبض في وجعه الذي توفي فيه فبكيت" حزنًا عليه, "ثم سارّني فأخبرني أني أوّل أهله" ولبعض الرواة: أول أهل بيته "يتبعه" بسكون الفوقية "فضحكت" فرحًا بقرب الاجتماع به.
"وفي رواية" الصحيحين والنسائي عن "مسروق" بن الأجدع "عن عائشة" قالت: "أقبلت فاطمة تمشي كأنّ مشيتها" بكسر الميم "مشية النبي -صلى الله عليه وسلم, فقال لها: "مرحبًا يا بنتي" بموحدة فألف وصل فموحدة ساكنة، ويوجد في بعض أصول البخاري: "يا بنتي" بياء النداء بعدها ألف، وصوّب الأوّل, "ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله" شكّ الراوي, "ثم سارَّها" لفظه: ثم أسرَّ إليها حديثًا فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسرَّ إليها حديثًا فضحكت؟ فقلت: ما رأيتك كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال: فقالت: ما كنت لأفشي سِرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قبض، فسألتها فقالت: "أسرَّ إليَّ أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرَّة وأنه عارضني الآن مرتين, ولا أراه إلّا حضر أجلي, وأنَّك أول أهلي لحاقًا بي" فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين" فضحكت لذلك.
ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة" بن(12/99)
طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا وهديًا ودلًّا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة. وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها وقبَّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت عليه فأكبَّت عليه قبلته.
واتفقت الروايتان على أنَّ الذي سارَّها به أولًا فبكت، هو إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة أنه: إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به، وفي رواية مسروق أنه: إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة. وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين.
ومما زاده مسروق: قول عائشة: ما رأيت كاليوم فرحًا أقرب من حزن، فسألتها، عن ذلك فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي
__________
عبيد الله التميمية, كانت فائقة الجمال، روى لها الجميع "عن عائشة" أم المؤمنين، "قالت: ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا" بفتح المهملة وسكون الميم وفوقية "وهديًا" بفتح فسكون "ودلًّا" بفتح الدال المهملة وشد اللام- الثلاثة عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيبة -كما في النهاية, "برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- قام إليها" إجلالًا لها, وفيه مشروعية القيام, "وقَبَّلها" حبًّا لها "وأجلسها في مجلسه" تعظيمًا لها, "وكان" صلى الله عليه وسلم "إذا دخل عليها" في بيتها "فعلت ذلك، فلمَّا مرض دخلت" فاطمة "عليه، فأكبَّت عليه فقبَّلته" حبًّا وإشفاقًا "واتفقت الروايتان على أن الذي سارَّها به أولًا فبكت هو: إعلامه إياها بأنه يموت من مرضه ذلك، "واختلفا" أي: الروايتان "فيما سارَّها به فضحكت، ففي رواية عروة: إنه إخباره إياها بأنها أوّل أهله لحوقًا به".
"وفي رواية مسروق" كما رأيت: إنه إخباره إياها أنها سيدة نساء أهل الجنة, وجعل كونها أوّل أهله لحوقًا به مضمومًا إلى الأوّل" إخباره بأنه ميت من وجعه "وهو الراجح، فإن حديث مسروق" عن عائشة "يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة" عنها, "وهو" أي: مسروق "من الثقات الضابطين" فزيادته مقبولة, "ومما زاده مسروق قول عائشة: ما رأيت كاليوم" أي: كفرح اليوم "فرحًا" بفتح الراء- أو التقدير: ما رأيت فرحًا كفرح رؤيته اليوم أقرب من حزن" بضم المهملة وسكون الزاي, ولأبي ذرٍّ بفتحهما, "فسألتها عن ذلك، فقالت: ما كنت لأفشي" بضم(12/100)
فسألتها فقالت: أسرَّ إلي "أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وأنه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وأنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي".
وفي رواية عائشة بنت طلحة من الزيادة: إن عائشة لما رأت بكاها وضحكها قالت: إن كنت لأظن أن هذه المرأة من أعقل النساء، فإذا هي من النساء.
ويحتمل تعدد القصة.
وفي رواية عروة الجزم أنه ميت من وجعه ذلك, بخلاف رواية مسروق, ففيها أنه ظنّ ذلك بطريق الاستنباط مما ذكره من معارضة القرآن.
وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين إلا بالزيادة, ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها ولضحكها معًا باعتبارين، فذكر كل من الراويين ما لم يذكر الآخر.
__________
الهمزة "سرَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى توفي" متعلق بمحذوف تقديره: فلم تقل لي شيئًا حتى توفي, "فسألتها، فقالت: أسرَّ إلي: "إن" بكسر الهمزة "جبريل كان يعارضني" يدارسني "القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني العام مرتين، ولا أراه" بضم الهمزة- أي: لا أظنه "إلا حضر أجلي, وإنك أوّل أهل بيتي لحاقًا بي".
قال المصنف: بفتح اللام والحاء المهملة، قال الحافظ: وقد طوى عروة هذا كله.
"وفي رواية عائشة بنت طلحة" السابقة قريبًا "من الزيادة، أنّ عائشة لما رأت بكاءها وضحكها، قالت: إن" مخففة من الثقيلة، أي: إني "كنت لأظن أن هذه المرأة" أي: فاطمة "من أعقل النساء، فإذا هي من النساء، لجمعها بين حزن وفرح؛ لكنها معذورة؛ لأنه أخبرها بما يوجب كلًّا منهما "ويحتمل تعدد القصة" جمعًا بين روايتي مسروق وعروة.
"وفي رواية عروة "لفظ الفتح، ويؤيده، أي: هذا الاحتمال أنَّ في رواية عروة "الجزم أنه ميت من وجعه ذلك بخلاف رواية مسروق، ففيها أنه ظنَّ ذلك بطريق الاستنباط, مما ذكره من معارضة القرآن" مرتين "وقد يقال: لا منافاة بين الخبرين" خبر عروة وخبر مسروق "إلّا بالزيادة، ولا يمتنع أن يكون إخباره بكونها أوّل أهله لحوقًا به سببًا لبكائها وضحكها معًا باعتبارين" فباعتبار أسفها على بقائها بعده مدة بكت, وهو ما رواه مسروق، وباعتبار سرعة لحاقها به ضحكت, وهو ما رواه عروة "فذكر كلّ من الراويين" مسروق وعروة "ما لم يذكره الآخر", وهذا الجمع أَوْلَى من احتمال التعدد؛ لأن الأصل عدمه.(12/101)
وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين.
ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها: إن سبب البكاء موته، وسبب الضحك لحاقها به.
وعند الطبراني -من وجه آخر- عن عائشة, أنه قال لفاطمة: "إن جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية منك، فلا تكوني أدنى امرأة منهن صبرًا".
وفي الحديث: إخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال -صلى الله عليه وسلم، فإنّهم اتفقوا على أنَّ فاطمة رضي الله عنها كانت أوّل من مات من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده، حتى من أزواجه -عليه الصلاة والسلام.
وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة فظنّوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه، فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه، فقالوا:
__________
وقد روى النسائي من طريق أبي سلمة" ابن عبد الرحمن "عن عائشة, في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين الأخيرين" أنها أوّل أهله لحاقًا به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، وهذا يؤيد الجمع الثاني.
"ولابن سعد من رواية أبي سلمة عنها" أي: عائشة: "إنَّ سبب البكاء موته, وسبب الضحك لحاقها به" فوافق رواية عروة.
"وعن الطبراني من وجهٍ آخر عن عائشة, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إن" بكسر الهمزة "جبريل أخبرني أنه ليس امرأة من نساء المؤمنين أعظم رزية" براء فزاي- مصيبة "منك، فلا تكوني أدنى" أقل "امرأة منهن صبرًا" وبهذا فضلت أخواتها؛ لأنهنَّ متن في حياته, فكنَّ في صحيفته، ومات هو في حياتها فكان في صحيفتها، ولا يقدر قدر ذلك إلا الله تعالى.
"وفي الحديث" معجزة، وهو إخباره -صلى الله عليه وسلم- بما سيقع، فوقع كما قال، فإنهم اتفقوا على أنَّ فاطمة أوّل من مات من أهل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- بعده" بستة أشهر على الصحيح "حتى من أزواجه -عليه الصلاة والسلام، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- من شدة وجعه يغمى عليه في مرضه ثم يفيق، وأغمي عليه مرة، فظنوا أن وجعه ذات الجنب فلدوه" بإشارة أم سلمة وأسماء بنت عميس، كما رواه ابن سعد عن أبي بكر بن عبد الرحمن "فجعل يشير إليهم أن لا يلدوه -بضم اللام "فقالوا: كراهية المريض للدواء".(12/102)
كراهية المريض للدواء، فلمَّا أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني؟ " فقالوا: كراهية المريض للدواء، فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلّا لد وأنا أنظر إلا العباس فإنه لم يشهدكم" رواه البخاري.
واللدود هو ما يجعل في جانب الفم من الدواء، فأمَّا ما يصب في الحلق فيقال له: الوجور.
وفي الطبراني من حديث العباس: إنهم أذابوا قسطًا بزيت ولدّوه به.
وفي قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد" ... إلخ مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان، وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك عقوبة لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه. قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم
__________
قال عياض: ضبطناه بالرفع، أي: هذا منه كراهية، وقال أبو البقاء: خبره مبتدأ محذوف، أي: هذا الامتناع كراهية، ويجوز النصب مفعول له، أي: نهانا لكراهية أو مصدر، أي: كرهه كراهية.
قال عياض: الرفع أوجه من النصب على المصدر, "فلما أفاق قال: "ألم أنهكم أن تلدوني" بإشارتي لكم بعدم فعل ذلك, "فقلنا" ظننا أنك إنما نهيت "كراهية المريض للدواء" لا لسبب يقتضي ترك اللد "فقال: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد" بضم اللام مبني للمفعول، أي: إلّا فعل ذلك به تأديبًا حتى لا يعود وأنا أنظر" جملة حالية، أي: في حال نظري إليهم, "إلا العباس، فإنه لم يشهدكم" أي: لم يحضركم حال اللد فلا يلد.
"رواه البخاري, واللدود" بوزن صبور "هو ما يجعل" أي: يصبّ "في جانب الفم بالمسعط "من الدواء" بيان لما, "فأمَّا ما يصب في الحلق" من الدواء "فيقال له: الوجور" بفتح الواو بعدها جيم.
"وفي الطبراني من حديث العباس" بن عبد المطلب، "إنهم أذابوا قسطًا" بضم القاف العود الهندي "بزيت ولدوه به" صبوه من أحد شقي فمه "وفي قوله: "لا يبقى أحد في البيت إلا لد".... إلخ.
"مشروعية القصاص فيما يصاب به الإنسان عمدًا "وفيه نظر؛ لأن الجميع لم يتعاطوا ذلك، وإنما فعل بهم ذلك" أي: أمر بفعله "عقوبةً لهم؛ لتركهم امتثال نهيه عمَّا نهاهم عنه" قال الحافظ: أمَّا من باشره فظاهر، وأما من لم يباشره فلكونهم تركوا نهيهم عمَّا نهاهم هو عنه، ويستفاد منه أنَّ التأويل البعيد لا يعد ربه صاحبه، ثم فيه نظر أيضًا؛ لأن اللد وقع في معارضة النهي.(12/103)
القيامة وعليهم حقه, فيقعوا في خطيئة عظيمة, وتعقَّب بأنه كان يمكن أن يقع العفو؛ ولأنه كان لا ينتقم لنفسه، والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا.
قيل: وإنما كره اللدود مع أنه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقق ذلك كره له التداوي.
قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، والذي يظهر أنَّ ذلك كان قبل التخيير والتحقيق، وإنما أنكر التداوي لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب, فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك، كما هو ظاهر في سياق الخبر.
وعند ابن سعد قال: كانت تأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخاصرة، فاشتدت به, فأغمي عليه، فلددناه، فلمَّا أفاق قال: "كنتم ترون أن الله يسلط علي ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليّ سلطانًا، والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد في البيت إلا لد، ولددنا ميمونة وهي صائمة.
__________
"قال ابن العربي: أراد أن لا يأتوا يوم القيامة وعليهم حقه, فيقعوا في خطيئة عظيمة", وفي الفتح، عنه: في خطب عظيم, "وتعقب بأنه كان يمكن أن يقع العفو", وبعد وقوعه لا يبقى عليهم حق يطالبون به في القيامة, "ولأنه كان لا ينتقم لنفسه" كما صحَّ, "والذي يظهر أنه أراد بذلك تأديبهم لئلَّا يعودوا، فكان ذلك أي: لدهم "تأديبًا لا اقتصاصًا ولا انتقامًا، قيل: وإنما كره اللدود" أي: استعماله بصبِّهم في حلقه، وفي الفتح: اللد وهو أظهر, "مع أنَّه كان يتداوى؛ لأنه تحقق أنه يموت في مرضه، ومن تحقَّق ذلك كره له التداوي" لعدم فائدته.
"قال الحافظ بن حجر: وفيه نظر"؛ لاحتياج الكراهة إلى نهي مقصود, والدواء وإن لم ينفع في دفع الموت قد ينفع في تخفيف الوجع حتى يقع الموت, "والذي يظهر أن ذلك كان قبل التخيير" في البقاء في الدنيا ولقاء الله, "والتحقيق" للموت باختياره اللقاء, "وإنما أنكر التداوي؛ لأنه كان غير ملائم لدائه؛ لأنهم ظنوا أن به ذات الجنب، فداووه بما يلائمها، ولم يكن فيه ذلك" المرض المسمَّى بذات الجنب, "كما هو ظاهر في سياق الخبر".
"وعند ابن سعد" محمد, عن عائشة أنه "قال: كانت تأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الخاصرة" أي: وجعها, "فاشتدت به, فأغمي عليه, فلددناه، فلمَّا أفاق" من الإغماء "قال: "كنتم ترون أن الله يسلط عليَّ ذات الجنب، ما كان الله ليجعل لها عليَّ سلطانًا" تسلطًا عليّ, "والله لا يبقى أحد في البيت إلا لد"، فما بقي أحد إلا لد، ولددنا ميمونة" أم المؤمنين(12/104)
وروى أبو يعلي -بسند ضعيف فيه ابن لهيعة- من وجه آخر عن عائشة: إنه -صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب.
وجمع بينهما: بأنَّ ذات الجنب تطلق بإزاء مرضين: أحدهما ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن، والآخر ريح محتقن بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا. وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان، والثاني هو ما أثبت هنا, وليس فيه محذور كالأوّل.
وفي حديث ابن عباس عند البخاري: لما حضر رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وفي البيت رجال، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلموا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده"، فقال بعضهم:
__________
"وهي صائمة" امتثالًا لأمره وبرًّا لقسمه.
وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أسماء بنت عميس، قالت: أوَّل ما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيت ميمونة، فاشتدَّ مرضه حتى أغمي عليه، فتشاورا في لده فلدوه, فلمَّا أفاق قال: هذا فعل نساء جئن, أي: أتين من هنا، وأشار إلى الحبشة, وكانت أسماء منهنّ، فقالوا: كنا نتّهم بك ذات الجنب، فقال: "ما كان الله ليقذفني به، لا يبقى أحد في البيت إلا لُدّ"، قالت: فلقد التدت ميمونة وإنها لصائمة.
"وروى أبو يعلي بسند ضعيف فيه ابن لهيعة،" بفتح اللام وكسر الهاء "من وجه آخر عن عائشة، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات من ذات الجنب، وجمع" الجامع الحافظ فلفظه: ظهر لي الجمع "بينهما, بأن ذات الجنب تطلق بإزاء" أي: مقابل "مرضين، أحدهما: ورم حارّ يعرض في الغشاء المستبطن, والآخر: ريح محتقن" أي: محتبس "بين الأضلاع، فالأوّل هو المنفي هنا".
"وقد وقع في رواية الحاكم في المستدرك: ذات الجنب من الشيطان", ولذا لم تسلط على حبيب الرحمن, "والثاني:" الريح المحتقن, "هو ما أثبت هنا, وليس فيه محذور كالأوّل" فهي المراد بذات الجنب في هذه الرواية.
"وفي حديث ابن عباس عند البخاري" في مواضع، قال: "لما حضر" بضم الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم" أي: حضره الموت، وفي إطلاق ذلك تجوّز، فإنَّ ذلك كان يوم الخميس كما عند البخاري في الجهاد وغيره, وعاش بعد ذلك إلى يوم الاثنين.
قاله الحافظ: "وفي البيت رجال" من الصحابة, "فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "هلمّوا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بلا نون على أنّ لا ناهية، وللكشميهني تضلون بالنون على أنها نافية "بعده، فقال(12/105)
إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله, فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني" قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم, وبين أن يكتب ذلك لاختلافهم ولغطهم.
قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب, مع صريح أمره لهم بذلك؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنَّه ظهرت منه قرينة دلّت على أنَّ الأمر ليس على التحتم، بل على الاختيار، فاختُلِفَ اجتهادهم،
__________
بعضهم:" هو عمر "أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد غلبه الوجع, وعندكم القرآن حسبنا:" كافينا "كتاب الله", فلا نكلف النبي -صلى الله عليه وسلم- إملاء الكتاب في هذه الحالة، قال ذلك شفقة عليه, "فاختلف أهل البيت" الذين كانوا فيه من الصحابة, لا أهل بيته -عليه الصلاة والسلام، قاله الحافظ. "واختصموا" تنازعوا, "فمنهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا" بفتح فكسر "بعده" فيه إشعار بأنَّ بعضهم كان مصممًا على الامتثال والرد على من امتنع منه, "ومنهم من يقول غير ذلك، فلمَّا أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "قوموا عني" أي: عن جهتي، زاد في رواية في الصحيح: "ولا ينبغي عندي التنازع"، وفي أخرى: "عند نبي تنازع".
قال الحافظ: ولما وقع منهم الاختلاف ارتفعت البركة كما جرت العادة بذلك عند وقوع التنازع والتشاجر، وقد مضى في الصيام أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبرهم بليلة القدر، فرأى رجلين يختصمان، فرفعت.
"قال عبيد الله" بضم العين- ابن عبد الله -بفتحها، راوي هذا الحديث عن ابن عباس: "فكان ابن عباس يقول: إن الرزيئة" بفتح الراء وكسر الزاي بعدها ياء ساكنة ثم همزة، وقد تسهل وتشدد الياء- أي: المصيبة "كل الرزيئة" بالنصب على التأكيد, "ما حال" أي: الذي حجز "بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبين أن يكتب ذلك؛ لاختلافهم ولغطهم" بفتح اللام والغين المعجمة- أي: أصواتهم.
"قال المازري: إنما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك" بقوله: "هلموا أكتب"، وفي رواية: "ائتوني بكتاب أكتب"؛ لأن الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب، فكأنه ظهرت منه قرينة دلّت على أن الأمر ليس على التحتم, أي: القطع, "بل على الاختيار، فاختلف اجتهادهم" في أن كتبه أَوْلَى للإيضاح والبيان, أو تركه اكتفاء بالقرآن(12/106)
وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك عن غير قصد جازم.
وقال النووي: اتفق العلماء على أن قول عمر: "حسبنا كتاب الله" من قوة فقهه ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عزوا عنها, فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء، وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارةً إلى تصويبه، وأشار بقوله: "حسبنا كتاب الله" إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] ، ولا يعارض ذلك قول ابن عباس: "إن الرزية.. إلخ"؛ لأن عمر كان أفقه منه قطعًا، ولا يقال: إن ابن عباس لم يكتف بالقرآن مع أنه حبر القرآن، وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال أسفًا على
__________
وصمَّم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنه -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك من غير قصد جازم", وعزمه -صلى الله عليه وسلم- كان إمَّا بالوحي وإمَّا بالاجتهاد، وكذلك تركه إن كان العزم بالوحي فبالوحي, وإلا فبالاجتهاد أيضًا, وفيه حجة لمن قال بالرجوع إلى الاجتهاد في الشرعيات، هذا باقي كلام المازري كما في الفتح، فمعنى قوله: من غير قصد جازم: أنه قاله على وجه يفهم منه أنه لم يجزم بذلك، بل قاله مع التردد في الكتبة وتركها.
"وقال النووي: اتفق العلماء على أنَّ قول عمر: حسبنا كتاب الله من قوة فقهه" أي: فهمه "ودقيق نظره؛ لأنه خشي أن يكتب أمورًا ربما عجزوا عنها، فيستحقوا العقوبة لكونها منصوصة، وأراد أن لا يسد باب الاجتهاد على العلماء" فيفوتهم ثواب الاجتهاد, "وفي تركه -صلى الله عليه وسلم- الإنكار على عمر إشارة إلى تصويبه"؛ إذ لو تحتَّم لأنكر عليه ولم يتركه لاختلافهم، كما لم يترك التبليغ لخالفة من مخالفه, ومعاداة من عاداه, وكما أمرهم حينئذ بقوله: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا الوفد بنحو: ما كنت أجيزهم...." الحديث في الصحيح "وأشار بقوله: حسبنا كتاب الله إلى قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْء} [الأنعام: 38] بناء على أن المراد به القرآن، فإنه فيه أمر الدين إمَّا مفصَّلًا وإما مجملًا، وقيل: المراد اللوح المحفوظ؛ لاشتماله على ما يجري في العلم من جليل ودقيق, لم يهمل فيه أمر حيوان ولا جماد، ولا يحتمل أن يكون عمر قصد التخفيف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى ما هو فيه من شدة الكرب, وقامت عنده قرينة بأنَّ ما أراد كتابته مما يستغنون عنه؛ إذ لو كان من غير هذا القبيل لم يتركه -صلى الله عليه وسلم- لأجل اختلافهم، وهذا من جملة كلام النووي المنقول عنه في الفتح. "ولا يتعارض ذلك قول ابن عباس: إن الرزيئة...... إلخ؛ لأن عمر كان أفقه" أي: أفهم "منه قطعًا و" لكن "لا يقال" في تعليل كونه أفقه "أنَّ ابن عباس لم يكتف بالقرآن" واكتفى به عمر،(12/107)
ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لكونه أَوْلَى من الاستنباط، والله أعلم.
ولما اشتدَّ به -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت له عائشة: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق، إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء، قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" , فعاودته بمثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس". رواه الشيخان وأبو حاتم واللفظ له.
وفي رواية: إن أبا بكر رجل أسيف.
وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري: فمر عمر فليصلّ بالناس، فقال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، قالت: قلت لحفصة: قولي له: إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالناس، ففعلت حفصة، فقال:"
__________
كما قال ابن بطال؛ لأن عمر لم يرد أنه يكتفي به عن بيان السنة، بل لما قام عنده من القرينة, وخشي مما يترتب على كتابة الكتاب, فرأى أن الاعتماد على القرآن لا يترتَّب عليه شيء مما خافه, وابن عباس لا يقال في حقه: لم يكتف بالقرآن, "مع أنه حبر القرآن, وأعلم الناس بتفسيره وتأويله، ولكنه قال" ذلك "أسفًا", ولفظ الحافظ: ولكنه أسف "على ما فاته من البيان بالتنصيص عليه؛ لونه أَوْلَى من الاستنباط, والله أعلم" لا سيما وقد بقي ابن عباس حتى شاهد الفتن, "ولما اشتدَّ به -صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: "مروا" بضمتين- بوزن كلوا, "أبا بكر فليصلّ" بسكون اللام الأُولى- ويروى بكسرها مع زيادة ياء مفتوحة, "بالناس" إمامًا, "فقالت له عائشة: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق" بقافين, "إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء " لرقة قلبه.
وفي رواية: إذا قرأ القرآن لا يملك معه, "قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فعاودته مثل مقالتها، فقال: "إنكن صواحبات يوسف" , والخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به عائشة فقط، كما أن صواحبات جمع, والمراد زليخاء فقط, "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس".
رواه الشيخان وأبو حاتم، واللفظ له" من حديث عائشة.
"وفي رواية" للشيخين من طريق الأسود، عنها أنها قالت: "إن أبا بكر رجل أسيف" بفتح الهمزة وكسر المهملة وسكون التحتية ففاء- أي: حزين.
"وفي حديث عروة عن عائشة عند البخاري" في الصلاة والاعتصام, أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت عائشة: إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء "فمر عمر فليصل بالناس, فقال: "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، قالت: قلت لحفصة" بنت عمر: "قولي له" صلى الله عليه وسلم: "إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء" لرقة قلبه وغلبة دمعه, "فمر عمر فليصل بالناس، ففعلت حفصة" ذلك, "فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مه" اسم فعل(12/108)
صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا.
والأسيف: بوزن فعيل، وهو بمعنى فاعل, من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب.
ولابن حبان من رواية عاصم عن شقيق عن مسروق عن عاشة في هذا الحديث: قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم، وصواحب: جمع صاحبة، والمراد: إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن.
ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة, ووجه المشابهة بينهما في ذلك أنَّ زليخا استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة، ومرادها الزيادة على ذلك, وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف -عليه الصلاة والسلام- ويعذرنها في محبته، وإن عائشة أظهرت أنّ سبب إرادتها صرف الإمامة
__________
مبني على السكون- زجر بمعنى: اكففي, "إنكن أنتن صواحب يوسف" جمع صاحبة, "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس"، فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا"؛ لأن كلامها صادف المرة الثالثة من المعاودة، وكان -صلى الله عليه وسلم- لا يراجع بعد ثلاث، فلمَّا أشار إلى الإنكار عليها بما ذكر وجدت حفصة في نفسها؛ لأن عائشة هي التي أمرتها بذلك، ولعلها تذكّرت ما وقع لها أيضًا معها في قصة المغافير، قاله الحافظ. وقال ابن عبد البر فيه: إن المكترب ربما قال قولًا يحمله عليه الحرج؛ إذ معلوم أن حفصة لم تعدم من عائشة خيرًا، وإذا كان هذا في السلف الصالح, فأحرى من دونهم "الأسيف -بوزن فعيل- وهو بمعنى فاعل من الأسف وهو شدة الحزن، والمراد به هنا: رقيق القلب" لتصريحها في روايات بأنه رقيق، فيحمل عليه قولها أسيف.
"ولابن حبان من رواية عاصم" بن سليمان الأحول البصري, من رجال الجميع, "عن شقيق" بن سلمة الكوفي, من رجال الكل "عن مسروق, عن عائشة في هذا الحديث".
"قال عاصم: والأسيف الرقيق الرحيم, وصواحب: جمع صاحبة، والمراد:؛ إنهن مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن، ثم إنَّ هذا الخطاب وإن كان بلفظ الجمع، فالمراد به واحدة وهي عائشة" وأما حفصة فإنما قالته بأمرها, ووجه المشابهة بينهما في ذلك أن زليخاء -بفتح الزاي والمد, وقيل بضمها- على هيئة المصغَّر.
قال ابن كثير: والظاهر أنه لقب, "استدعت النسوة وأظهرت لهنّ الإكرام بالضيافة, ومرادها زيادة على ذلك، وهو أن ينظرن إلى حسن يوسف -عليه الصلاة والسلام- ويعذرنها" بكسر الذال "في محبته"؛ لأنهنَّ قلن: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} "وأن عائشة(12/109)
عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه. ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به، وقد صرَّحت هي بذلك، كما عند البخاري في باب وفاته -عليه الصلاة والسلام, فقالت: لقد راجعته وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه أبدًا. وأن لا كنت أرى أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به.
ونقل الدمياطي: إن الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة.
وقد ذكر الفاكهي في "الفجر المنير" مما عزاه لسيف ابن عمر في كتاب
__________
أظهرت أن سبب إرادتها صرف الإمامة عن أبيها؛ لكونه لا يسمع المأمومين القراءة لبكائه, ومرادها زيادة على ذلك: وهو أن لا يتشاءم الناس به" بشين معجمة والمد.
"وقد صرَّحت هي بذلك كما عند البخاري في باب وفاته -عليه الصلاة والسلام", وكذا عند مسلم في الصلاة "فقالت: لقد راجعته" صلى الله عليه وسلم- في ذلك, "وما حملني على كثرة مراجعته إلّا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلًا قام مقامه" بهم "أبدًا و" ما حملني على ذلك "أن لا".
زاد مسلم: أني "كنت أرى" بضم الهمزة، أي: أظن "أنه لن يقوم أحد مقامه إلّا تشاءم الناس به" بشين معجمة- أي: وما حملني عيه إلّا ظني عدم محبَّة الناس للقائم مقامه، وظني تشاءمهم به، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي بكر، هذا باقيه في الصحيحين.
وفي رواية لمسلم قالت: والله ما بي إلا كراهية أن يتشاءم الناس بأوّل من يقوم في مقامه -صلى الله عليه وسلم, فراجعته مرتين أو ثلاثًا.
"ونقل الدمياطي، أنَّ الصديق صلى بالناس سبع عشرة صلاة", وفي مسند الدارمي من وجه آخر: إن أبا بكر هو الذي أمر عائشة أن تشير على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر عمر بالصلاة, وكذا في مرسل الحسن عند ابن أبي خيثمة, قال الحافظ: لكن لم يرد أبو بكر ما أرادت عائشة بل قاله لعذره برقة قلبه, أو لفهمه منها الإمامة العظمى, وعلم ما في تحملها من الخطر, وعلم قوة عمر على ذلك فاختاره, والظاهر أنه لم يطّلع على المراجعة, وفهم من أمره بذلك تفويضه سواء باشر بنفسه أو استخلف.
"وقد ذكر الفاكهاني في" كتاب "الفجر المنير" في الصلاة على البشير النذير "مما عزاه لسيف بن عمر" التميمي، ويقال: الضبي الكوفي، ضعيف الحديث، عمدة في التاريخ, أفحش ابن حبان القول فيه, مات في زمن الرشيد، روى له الترمذي.
قاله الحافظ "في كتاب الفتوح" وله كتاب الردة "أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم(12/110)
"الفتوح" أنَّ الأنصار لما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزداد وجعًا، أطافوا بالمسجد، فدخل العباس, فأعلمه -عليه الصلاة والسلام- بمكانهم وإشفاقهم، ثم دخل عليه الفضل فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك. فخرج -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على عليّ والفضل, والعباس أمامه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس يخطّ برجليه، حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر, وثار الناس إليه، فحمد الله وأثنى عليه وقال: "يا أيها الناس، بلغني أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خُلِّدَ نبي قبلي فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألَا إني لاحق بربي، وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأوَّلين خيرًا، وأوصى المهاجرين فيما بينهم، فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} إلى آخرها, وإنَّ الأمور تجري بإذن الله، ولا يحمّلنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإنَّ الله -عز وجل- لا يعجل بعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
__________
يزداد وجعًا أطافوا بالمسجد، فدخل العباس فأعلمه -عليه الصلاة والسلام- بمكانهم وإشفاقهم" خوفهم عليه الفقد, "ثم دخل عليه الفضل" بن عباس "فأعلمه بمثل ذلك، ثم دخل عليه علي بن أبي طالب كذلك" أي: كدخول مَنْ قبله, بأن ذكر له حال الأنصار, "فخرج -صلى الله عليه وسلم" حال كونه متوكئًا على علي والفضل, والعباس أمامه" قدَّامه, "والنبي -صلى الله عليه وسلم- معصوب الرأس" من الوجع "يخط برجليه" بضم الخاء "حتى جلس على أسفل مرقاة" درجة "من المنبر، وثار" اجتمع "الناس إليه" في المجلس, "فحمد الله وأثنى عليه" بما هو أهله "وقال: "يا أيها الناس, بلغني" من الثلاثة المذكورين "أنكم تخافون من موت نبيكم, هل خلد نبي قلبي فيمن بعث إليه" بالإفراد نظرًا للفظ من "فأخلد فيكم" بالنصب, وفيه تسلية لهم وتذكير بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} [الأنبياء: 34] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ} "ألا" بالفتح والتخفيف, "وإني لاحق بربي، ألا وإنكم لاحقون به, وأوصيكم بالمهاجرين الأوّلين خيرًا" بأن تعرفوا حقهم وتنزلوهم منزلتهم, "وأوصى المهاجرين فيما بينهم" بالدوام على التقوى وعمل الصالحات, "فإن الله تعالى يقول: {وَالْعَصْرِ} الدهر, أو ما بعد الزول إلى الغروب أو صلاة العصر {إِنَّ الْإِنْسَانَ} الجنس {لَفِي خُسْرٍ} في تجارته, وتلاها "إلى آخرها", وأنه قال إلى آخرها "وإن الأمور تجري" أي: تقع "بإذن الله" أي: بإرادته, "ولا يحملنكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله -عز وجل- لا يعجل بعجلة" أي: بسبب عجلة "أحد" , فلا فائدة في الاستعجال, بل فيه الهمّ والغمّ والنكال, "ومن غالب الله غلبه" الله, ومن خادع الله خدعه" والمفاعلة في الأمرين ليست مرادة، بل هي نحو: عافاك الله, وإنما(12/111)
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] ، "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلكم, أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم في الثمار؟ ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم وبهم الخصاصة؟ ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا وإني فرط لكم، وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده عليَّ غدًا فيلكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغي، يا أيها الناس, إن الذنوب تغيّر النعم، وتبدّل القِسَم، فإذا بَرَّ الناس برَّهم أئتمتهم, وإذا فجر الناس
__________
عَبَّر بالمفاعلة تشبيهًا بفعل المغالب والمخادع لمن هو مثله، كما قال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] تشبيهًا لفعل المنافقين بفعل المخادع {فَهَلْ عَسَيْتُم} فهل يتوقع منكم {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أمور الناس, وتأمَّرتم عليهم, أو أعرضتم وتوليتم عن الإسلام {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} تشاجرًا على الدنيا وتجاذبًا لها, أو رجوعًا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور ومقاتلة الأقارب، والمعنى: إنهم لضعفهم في الدِّين وحرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم, ويقول لهم: هل عسيتم.
قاله البيضاوي: ولا يخفى مناسبة تلاوته لهذه الآية في هذا المقام, "وأوصيكم بالأنصار خيرًا، فإنهم الذين تبوّءوا الدار" أي: اتخذوا المدينة وطنًا, سُمِّيَت دارًا لأنها دار الهجرة, "والإيمان" أي: ألفوه, فنصب بعامل خاص, أو بتضمين تبوّءوا معنى لزموا, أو يجعل الإيمان منزلًا مجازًا لتمكنهم فيه، فجمع في تبوءوا بين الحقيقة المجاز, "من قبلكم, أن تحسنوا إليهم" بدل من خيرًا، ثم بَيَّن أن أمره به لمكافأتهم بقوله: "ألم يشاطروكم في الثمار" بإعطائكم نصف ثمارهم, والاستفهام للتقرير, "ألم يوسّعوا لكم في الديار؟ ألم يؤثروكم؟ " يقدموكم "على أنفسهم, وبهم الخصاصة" الحاجة إلى ما يؤثرون به, "ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين" منهم, "فليقبل من محسنهم, وليتجاوز عن مسيئهم" في غير الحدود، وعَبَّر بالجمع إشارة إلى أن المراد جنس رجلين, أو على أن أقل الجمع اثنان, "ألا" بالفتح مخففًا "ولا تستاثروا عليهم" بتقديم أنفسكم وتميزكم بالأمور الدنيوية دونهم, "ألا وإني فرط" بفتحتين سابق, "لكم" أهييء لكم حوائجكم, "وأنتم لاحقون بي، ألا وإن موعدكم الحوض" في القيامة, "ألا فمن أحب أن يَرِدَه عليَّ غدًا" عَبَّر به؛ لأن كل ما هو آتٍ قريب, "فليكفف يده ولسانه إلّا فيما ينبغي" وخصَّهما؛ لأنهما أغلب ما يحصل الفعل, وإلا فباقي الأعضاء كذلك, "يا أيها الناس, إن الذنوب تغيِّر النِّعَم" كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] "وتبدِّل القِسَم, فإذا بَرَّ الناس بَرَّهم أئمتهم، وإذا فجروا عقوهم" , أي: عقَّهم أئمتهم بمخالفة مطلوبهم وقطع الإحسان(12/112)
عقوهم".
وفي حديث أنس عند البخاري قال: مَرَّ أبو بكر والعبّاس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون, فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منَّا، فدخل أحدهما على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بذلك، فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم, وقد عصب على رأسه حاشية برد، فصعد المنبر -ولم يصعده بعد ذلك اليوم, فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار، فإنهم كرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم, وتجاوزوا عن مسيئهم".
__________
إليهم, وغير ذلك.
"وفي حديث أنس عند البخاري، قال: مَرَّ أبو بكر" الصديق, "والعبَّاس" بن عبد المطلب, "بمجلس من مجالس الأنصار", وذلك في مرضه -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه, "وهم يبكون" جملة حالية "فقال: ما يبكيكم؟ " بأفراد، قال عند البخاري: فما في نسخة: فقالا, غير صحيحة, فقد قال الحافظ: لم أقف على الذي خاطبهم بذلك هل هو أبو بكر أو العباس، ويظهر لي أنه العباس, "فقالوا: ذكرنا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- منا" الذي كنَّا نجلسه معه, ونخاف أن يموت من هذا المرض ونفقد مجلسه، فبكينا لذلك, "فدخل أحدهما" ليس في البخاري، إنما فيه: فدخل فقط.
قال الحافظ: كذا أفرد بعد أن ثنَّى، والمراد به من خاطبهم، وقدمت رجحان أنه العباس. انتهى، ومراده بقوله: ثنَّى، أي: في قوله: مَرَّ أبو بكر والعباس، فكان أصل المصنف، أي: أحدهما بأي التفسيرية "على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك" الذي وقع من الأنصار, "فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم، و" الحال أنه "قد عصب" بخفَّة الصاد المهملة, "على رأسه حاشية برد" بضم الموحدة وسكون الراء- نوع من الثياب معروف.
وفي رواية المستملي: بردة بزيادة هاء التأنيث, وحاشية مفعول عصب, "فصعد" بكسر العين "المنير ولم يصعده" بفتحها "بعد ذلك" اليوم, "فحمد الله وأثنَى عليه، ثم قال: "أوصيكم بالأنصار, فإنهم كرشي" بفتح الكاف وكسر الراء والشين المعجمة, "وعيبتي" بفتح العين المهملة وسكون التحتية وفتح الموحدة وتاء تأنيث, "وقد قضوا الذي عليهم" من الإيواء ونصره -صلى الله عليه وسلم, كما بايعوه ليلة العقبة, "وبقي الذي لهم" وهو دخول الجنة كما وعدهم -عليه السلام, فإنهم بايعوه على إيوائه ونصره على أنَّ لهم الجنة، قاله المصنف تبعًا للحافظ، ويحتمل أن الذي لهم أعمّ من الجنة التي وعدهم بها وإكرامهم في الدنيا.
ويؤيده أن المراد الوصية بهم في الدنيا, وما في الرواية التي قبله وقوله: "فاقبلوا من محسنهم, وتجاوزوا عن مسيئهم" في غير الحدود "وقوله: "كرشي وعيبتي"، أي: موضع سري،(12/113)
وقوله: "كرشي وعيبتي" , أي: موضع سري, أراد أنهم بطانته وموضع أمانته، والذين يعتمد عليهم في أموره. واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه، والرجل يجمع ثيابه في عيبته، وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي. يقال: عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية.
وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة فقال: "حياكم الله بالسلام، رحمكم الله، جبركم الله، رزقكم الله، نصركم الله، رفعكم الله، آواكم الله، أوصيكم بتقوى الله، وأستخلفه عليكم، وأحذركم الله، إني لكم منه نذير مبين، أن لا تعلوا على الله في بلاده وعباده, فإنه قال لي ولكم: {تلك الدار
__________
أراد أنهم بطانته" أي: موضع سره "وموضع أمانته, والذين يعتمد عليهم في أموره".
قال القزاز: المثل بالكرش؛ لأنه مستقر غذاء الحيوان الذي يكون فيه نماؤه, "واستعار الكرش والعيبة لذلك؛ لأن المجتر يجمع علفه في كرشه, والرجل يجمع ثيابه في عيبته", وهي اسم لما يجمع فيه الثياب، وفي الفتح: ما يحرز فيه الرجل نفيس ما عنده "وقيل: أراد بالكرش الجماعة، أي: جماعتي وصحابتي، يقال عليه كرش من الناس، أي: جماعة، قاله في النهاية".
قال ابن دريد: هذا من كلامه -صلى الله عليه وسلم- الموجز الذي لم يسبق إليه, وقال غيره: الكرش بمنزلة المعدة للإنسان, والعيبة مستودع الثياب, الأوّل أمر باطن, والثاني أمر ظاهر، فكأنه ضرب المثل بهما في إراد اختصاصهم بأموره الظاهرة والباطنة, والأوّل أَوْلَى, وكل من الأمرين مستودع لما يخفى فيه، قاله الحافظ.
"وذكره الواحدي بسندٍ وصله لعبد الله بن مسعود قال: نعى" بالنون "لنا" أي: أخبر "رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نفسه" أي: أخبر بموته "قبل موته بشهر، فلمَّا دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة، فقال: "حياكم الله" أصله الدعاء بالحياة، ثم استعمل شرعًا في دعاء خاص وهو السلام، كما قال: "بالسلام رحمكم الله" أتاكم الله رحمته التي وسِعَت كل شيء, "جبركم الله" بالجيم- أصلحكم, "رزقكم الله" الحلال على ما هو اللائق في مقام الدعاء, وإن كان الرزق أعمّ عند أهل السنة, "نصركم الله" أي: أعانكم, "رفعكم الله" أي: رفع قدركم بين العباد, ورفع أعمالكم بأن يتقبلها منكم, "آواكم الله" بالمد والقصر والمد أشهر، أي: ضمكم إلى رحمته ورضوانه, وإلى ظل عرشه يوم القيامة, "أوصيكم بتقوى الله, واستخلفه عليكم, وأحذركم الله, إني لكم منه نذير مبين" بَيِّنَ الإنذار "أن لا تعلوا" تتكبروا "على الله في بلاده" بترك ما أمركم به وفعل ما نهاكم(12/114)
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] قلنا: يا رسول الله، متى أجلك؟ قال: "دنا الفراق، والمنقلب إلى الله , وإلى جنة المأوى"، قلنا: يا رسول الله، من يغسّلك؟ قال: "رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى"، قلنا: يا رسول الله، فيم نكفنك؟ قال: "في ثيابي هذه, وإن شئتم في بياض ثياب مصر، أو حلة يمنية"، قلنا: يا رسول الله، من يصلي عليك؟ قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني, فضعوني على سرير هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عني ساعة، فإن أوّل من يصلي عليّ جبريل, ثم ميكائيل, ثم إسرافيل, ثم ملك الموت ومعه جنود من الملائكة، ثم ادخلوا عليّ فوجًا فوجًا، فصلوا علي وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي، ثم نسائهم، ثم أنتم, وأقرءوا السلام على من غاب من أصحابي ومن تبعني على
__________
عنه, "وعباده" بظلمهم, "فإنه قال لي ولكم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ} أي: الجنة {نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} بالبغي {وَلَا فَسَادًا} بعمل المعاصي, {والعاقبة} المحمودة {للمُتَّقِين} عقاب الله بعمل الطاعات, "وقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} مأوى "للمتكبرين" عن الإيمان، كما قال في الآية الآخرى {مَثْوًى لِلْكَافِرِين} [العنكبوت: 68] ، الزمر: 32] ، والمراد: إن لهم فيها المأوى "قلنا: يا رسول الله, متى أجلك؟ قال: "دنا" قرب "الفراق" للدنيا "والمنقلب" الرجوع "إلى الله وإلى جنة المأوى" الإقامة, "قلنا: يا رسول الله, من يغسلك؟ بكسر السين من باب ضرب ويثقّل للمبالغة, "قال: "رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى" الأقرب فالأقرب, "قلنا: يا رسول الله, فيم نكفنك؟ قال: "في ثيابي هذه" التي علي, "وإن شئتم في ثياب بياض مصر" أي: في الثياب البيض التي جاءته من مصر.
روى ابن عبد الحكم أنَّ المقوقس أهدى له -عليه الصلاة والسلام- في جملة الهدية عشرين ثوبًا من قباطي مصر، وأنها بقيت حتى كفِّن في بعضها، والصحيح ما في الصحيح عن عائشة أنه كفِّن في ثياب يمانية كما يأتي, "أو حلة يمنية" من اليمن, "قلنا: يا رسول الله, مَن يصلي عليك؟
"قال: "إذا أنتم غسَّلتموني وكفَّنتموني, فضعوني على سريري هذا على شفير" بمعجمة وفاء- أي حرف "قبري، ثم اخرجوا عني ساعة" قدرًا من الزمان, "فإن أوَّل من يصلي عليَّ جبريل، ثم ميكائيل, ثم إسرافيل، ثم ملك الموت ومعه جنود" جماعة "من الملائكة، ثم ادخلوا عليَّ فوجًا فوجًا" جماعة بعد جماعة -بفتح فسكون- مفرد أفواج, وجمع الجمع أفاويج, "فصلوا عليّ وسلموا تسليمًا، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي" علي والعبَّاس ونحوهما, "ثم(12/115)
ديني"، من يومي هذا إلى يوم القيامة، قلنا: يا رسول الله، من يدخلك قبرك؟ قال: "أهلي مع ملائكة ربي". وكذا رواه الطبراني في "الدعاء" وهو واهٍ جدًّا.
وقالت عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" , فلمَّا اشتكى وحضره القبض ورأسه على فخذي غشي عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت, ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى"، فقلت: إذًا لا يختارنا، فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا وهو صحيح.
وفي رواية: إنها أصغت إليه قبل أن يموت، وهو مستند إلى ظهره يقول:
__________
نساؤهم ثم أنتم" أي: باقي الصحابة الموجودين بالمدينة, "وأقرءوا" بلغوا "السلام" عني "على من غاب من أصحابي".
قال ابن الأثير: يقال: أقرئ فلانًا السلام واقرأ عليه السلام، كأنَّه حين يبلغه سلامه يحمله على أن يقرأ السلام، ويرده: "ومن تبعني على ديني من يوم هذا إلى يوم القيامة" قلنا: يا رسول الله, من يدخلك قبرك؟ قال: "أهلي" أقاربي "مع ملائكة ربي".
"وكذا رواه الطبراني في" كتاب "الدعاء, وهو واهٍ" أي: ضعيف "جدًّا" من وهي الحائط إذا مال للسقوط فلا ينتفع به, "وقالت عائشة: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح, يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يحيا" بضم التحتية وشدة الثانية مفتوحة بينهما حاء مهملة مفتوحة- أي: يسم إليه الأمر أو يملك في أمره, أو يسلم عليه تسليم الوداع, "أو يخيّر" بين الدنيا والآخرة, والشك من الراوي، قاله المصنف.
وفي رواية للبخاري: "لا يموت نبي حتى يخيّر بين الدنيا والآخرة" , "فلما اشتكى" أي: مرض "وحضره القبض, ورأسه على فخذي, غشِّي عليه، فلمَّا أفاق شخص" بفتح المعجمتين، أي: ارتفع "بصره نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" , أو في بمعنى مع, "فقلت: إذًا لا يختارنا" من الاختيار، وللأكثر: لا يجاورنا من المجاورة, "فعرفت أنه حديثه الذي كان يحدثنا" به "وهو صحيح".
وعند أبي الأسود في المغازي عن عروة، أنَّ جبريل نزل إليه في تلك الحالة فخيّره، زاد في رواية للبخاري: قالت -أي: عائشة: فكانت آخر كلمة تكلّم بها: "اللهم في الرفيق الأعلى".
"وفي رواية" للبخاري عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن عائشة "أنها" سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم, و"أصغت" بسكون الصاد المهملة وفتح الغين المعجمة- أي: أمالت معها "إليه قبل أن يموت(12/116)
"اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى" , رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة.
وما فهمته عائشة من قوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ، نظير فهم أبيها -رضي الله عنه- من قوله -عليه الصلاة والسلام: "إن عبدًا خَيِّرَه الله ما بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده" , أنَّ العبد المراد هو النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قدَّمته. ذكره الحافظ ابن حجر.
وعند أحمد من طريق المطّلب بن عبد الله عن عائشة: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب ثم يخيِّر".
ولأحمد أيضًا، من حديث أبي مويهة قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد, ثم الجنة، فخُيِّرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة, فاخترت
__________
وهو مستند إلى ظهره" فسمعته "يقول: "اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني" بهمزة قطع "بالرفيق الأعلى".
رواه البخاري من طريق الزهري عن عروة" عن عائشة, وصوابه: تقديم هذا على قوله، وفي رواية: إذ هو الذي في البخاري من هذا الطريق، أمَّا هذه الرواية فإنما رواها البخاري من طريق عباد عنها كما علم, "وما فهمته عائشة من قوله -عليه الصلاة والسلام: "اللهم في الرفيق الأعلى" أنه خُيِّرَ" بين الدنيا والارتحال إلى الآخرة, "نظير فهم أبيها -رضي الله عنه- من قوله -عليه الصلاة والسلام: "إن عبدًا خَيِّرَه الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عنده" أنَّ العبد المراد هو النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قدَّمته".
"ذكره الحافظ ابن حجر" بلفظ فائدة, "وعند أحمد من طريق المطلب بن عبد الله" بن المطلب بن حنطب المخزومي "عن عائشة، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "ما من نبي يقبض إلا يرى الثواب" الذي أُعِدَّ له في الآخرة, "ثم يُخَيِّر" بضم أوله وفتح الخاء المعجمة- بين البقاء في الدنيا والارتحال إلى الآخرة.
ولأحمد أيضًا من حديث أبي مويهة" ويقال: أبو موهية وأبو موهوية, وهو قول الواقدي, مولى النبي -صلى الله عليه وسلم, كان من مولدي مزينة، روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص, وهو من أقرانه، ذكره صاحب الإصابة في الكنى, ولم يذكر له اسمًا, فاسمه كنيته, "قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أوتيت" بالبناء للمفعول "مفاتيح خزائن الأرض والخلد" البقاء في الدنيا إلى انقضائها, "ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي" عاجلًا, "والجنة، فاخترت لقاء ربي والجنة" حبًّا(12/117)
لقاء ربي والجنة".
وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه: "خيرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي وبين التعجيل فاخترت التعجيل".
وفي رواية أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه عند النسائي، وصحَّحه ابن حبان، فقال: "أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".
وظاهره أنَّ الرفيق: المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين، وقال ابن الأثير في "النهاية" الرفيق" جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين، وقيل: المراد به الله تعالى, يقال: الله رفيق بعباده من الرفق والرأفة، انتهى، وقيل: المراد
__________
في لقاء الله وزهدًا في الدنيا, مع أن الجنة معطاة له على التخييرين.
"وعند عبد الرزاق من مرسل طاوس، رفعه: "خُيِّرت بين أن أبقى حتى أرى ما يفتح على أمتي" من المدائن والفتوحات, "وبين التعجيل" إلى لقاء الله تعالى, "فاخترت التعجيل" شوقًا إلى الله تعالى.
"وفي رواية أبي بردة" قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث بن أبي موسى" الأشعري، المتوفَّى في سنة أربع ومائة، وقيل: غير ذلك، وقد جاوز ثمانين سنة "عن أبيه عند النسائي, وصحَّحه ابن حبان فقال" صلى الله عليه وسلم: "أسأل الله الرفيق الأعلى الأسعد مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".
وفي رواية المطلب عن عائشة عند أحمد: فقال: "مع الرفيق الأعلى، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين....." إلى قوله رفيقًا، قال الحافظ بعد ذكر هاتين الروايتين مقدمًا الثانية "وظاهره: أنَّ الرفيق المكان الذي تحصل فيه المرافقة مع المذكورين" في الآية, من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ومن الملائكة الثلاثة المذكورين في الحديث لا معهم فقط، كما أوهمه تصرف المنف.
"وقال ابن الأثير في النهاية: الرفيق جماعة الأنبياء الذين يسكنون أعلى عليين" فهو اسم جنس تشمل الواحد فما فوقه، والمراد: الأنبياء, ومن ذكر في الآية، وقد ختمت بقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ونكتة الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد, الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد, نَبَّه عليه السهيلي.
"وقيل: المراد به" بالرفيق "الله تعالى"؛ لأنه من أسمائه تعالى كما في مسلم عن عائشة، وأبي داود عن عبد الله بن مغفل، رفعاه: "إن الله رفيق يحب الرفق"، وعَزْوه لأبي داود وحده تقصير, "يقال: الله الرفيق بعباده من الرفق والرأفة. انتهى".(12/118)
به: حظيرة القدس.
وفي كتاب "روضة التعريف بالحب الشريف": لما تجلَّى له الحق ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات, والحظوظ الضرورية من أداني معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله في زيادة الترقي، ولذلك روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "كلّ يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه". وكلما فارق مقامًا واتصل بما هو أعلى منه لمح الأوّل بعين النقص، وسار على ظهر المحبّة، ونعمت المطية لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال، والسفر إلى حضرة ذي الجلال، والاتّصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه.
__________
وهو يحتمل أن يكون صفة ذات كالحليم أو صفة فعل، وغلط الأزهري, هذا القول لقوله: "مع الرفيق" ولا وجه لتغليطه؛ لأن تأويله على ما يليق بالله سائغ، قاله الحافظ.
"وقيل: المراد به" بالرفيق "حظيرة القدس" أي: الجنة، وبه جزم الجوهري وابن عبد البر وغيرهما، ويؤيده ما عند ابن إسحاق: الرفيق الأعلى الجنة، قال الحافظ بعد أن ذكر خمس روايات صحاح، كلها بلفظ الرفيق الأعلى: وهذه الأحاديث تردُّ على من زعم أن الرفيق تغيير من الراوي، وأنَّ الصواب الرقيع بالقاف والعين المهملة, وهو من أسماء السماء. انتهى.
وفي كلام بعضهم: الرفيق الأعلى: نهاية مقام الروح وهي الحضرة الواحدية، فالمسئول إلحاقه بالمحل الذي ليس بينه وبين أحد في الاختصاص، والقول بأنَّ المراد إلحاقة بالملائكة, ومن في الآية مردود بأن محله فوقهم، فكيف يسأل اللحاق بهم, وتعقبت بأن المراد المحل الذي يحصل فيه مرافقتهم في الجمة على اختلاف درجاتهم، ويوجد في بعض نسخ المصنف هنا, "وفي كتاب روضة التعريف بالحب الشريف: لما تجلَّى" ظهر "له الحق" تعالى ليلة المعراج, حتى رآه بعيني رأسه على الصحيح, "ضعفت العلاقة بينه وبين المحسوسات" الأشياء المشاهدة بحاسّة البصر, "والحظوظ الضرورية من أداني" أقاصي "معاني الترقيات البشرية، فكانت أحواله -عليه الصلاة والسلام "في زيادة الترقي" فلذا بادر باختيار اللقاء على البقاء شوقًا لرؤية محبوبه الذي رآه سابقًا, ولذلك روي أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "كل يوم لا أزداد فيه قربًا من الله فلا بورك لي في طلوع شمسه"، وكلما فارق مقامًا واتَّصل بما هو أعلى منه لمح الأول بعين النقص" عن الأعلى, وإن كان كمالًا, "وسار على ظهر المحبَّة ونعمت المطية" هي "لقطع هذه المراحل والمقامات والأحوال" عطف تفسير للمراحل "والسفر إلى حضرة ذي الجلال, والاتصال بالمحبوب الذي كل شيء هالك إلا وجهه", فبادر باختيار الموت ليظفر عاجلًا باللقاء، وإذا قيل في وجه ترديد موسى للمصطفى لية المعراج ليظفر بتكرار(12/119)
قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة، كونها تتضمّن التوحيد والذكر بالقلب، حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان؛ لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع، فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر، انتهى ملخصًا.
قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ ثم رأى مقعده من الجنة, ثم رُدَّت إليه نفسه, ثم خُيِّر. ففي المسند قالت -يعني: عائشة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ما من نبي إلّا تقبض نفسه ثم يرى الثواب, ثم ترد إليه نفسه, فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق" فكنت قد حفظت ذلك عنه، وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: قضى، قالت: فعرفت الذي قال، فنظرت إليه حين ارتفع ونظر، فقلت: إذًا والله لا يختارنا، فقال: "مع الرفيق الأعلى
__________
رؤية مَنْ قد رأي، فما بالك بمن رأى بنفسه، وقد سقط هذا من غالب نسخ المصنف, وليس من مسموعنا، وقد بينَّا وجه ذكره هنا.
"قال السهيلي: الحكمة في اختتام كلامه -صلى الله عليه وسلم- بهذه الكلمة كونها تتضمَّن التوحيد"؛ لدلالتها على قطع العلائق عن غيره -سبحانه وتعالى؛ حيث قصر نظره على طلب الرفيق الأعلى على كل تفسيراته, "والذكر بالقلب"؛ لأن الرفيق مفرد, وهو يستدعي تقديرًا في الكلام, كأن يقال: أسألك مجاورة الرفيق ونحوه.
هذا وإن لم يذكر باللسان فهو مستحضر بالقلب, "حتى يستفاد منها الرخصة لغيره أنَّه لا يشترط أن يكون الذكر باللسان" عند الموت؛ "لأن بعض الناس قد يمنعه من النطق مانع" كعقل اللسان عنه, "فلا يضره ذلك إذا كان قلبه عامرًا بالذكر. انتهى ملخصًا" كلام السهيلي.
"قال الحافظ ابن رجب: وقد روي ما يدل على أنه قُبِضَ, ثم رأى مقعده من الجنة، ثم رُدَّت إليه نفسه, ثم خُيِّر، ففي المسند للإمام أحمد, من طريق المطّلب بن عبد الله "قالت" يعني: عائشة:" كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول" وهو صحيح: "ما من نبي" أراد به ما يشمل الرسول, "ألَّا تقبض نفسه، ثم يرى الثواب"، الذي أعدَّه الله له, "ثم ترد إليه نفسه, فيخير بين أن تُرَدّ إليه إلى أن يلحق، فكنت قد حفظت ذلك عنه" في صحته, "وإني لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حين مالت عنقه، فقلت: "قضي" أي: مات" قالت" عائشة: "فعرفت الذي قال" هو ما حفظته عنه, "فنظرت إليه حين ارتفع" بصره "ونظر" إلى جهة سقف البيت "فقلت: "إذًَا والله لا يختارنا", أي: لا يريد البقاء فينا, فقال: "مع الرفيق الأعلى في الجنة مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين(12/120)
والصالحين وحسن أولئك رفيقًا".
وفي البخاري من حديث عروة عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح - يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يحيا أو يخيّر" فلما اشتكى وحضره القبض, ورأسه على فخذ عائشة, غُشِّيَ عليه، فلمَّا أفاق شخص بصره نحو سقف البيت ثم قال: "اللهم في الرفيق الأعلى".
ونبَّه السهيلي على أنه النكتة في الإتيان بهذه الكلمة بالإفراد، الإشارة إلى أنَّ أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد.
__________
والصديقين" أفاضل أصحاب الأنبياء لمبالغتهم في الصدق والتصديق, "والشهداء" القتلى في سبيل الله, "والصالحين" غير من ذكر, "وحسن أولئك رفيقًا" أي: رفقاء في الجنة، بأن يستمتع فيها برؤيتهم وزيارتهم والحضور معهم, وإن كان مقرهم في درجات عالية بالنسبة إلى غيرهم.
"وفي البخاري من حديث" الزهري، عن "عروة، عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صحيح يقول: "إنه لم يقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة" , وصريحه أن ذلك من خواصّ الأنبياء، ولا يخالفه حديث الصحيحين: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشى....." الحديث, للفرق بأنَّ الأنبياء تعرض عليهم، ثم يخيّرون بخلاف غيرهم فلا يخيرون, وإن كان العرض عليهم قبل الموت كما هو مفاد الحديث الصحيح، فالخصوصية أيضًا عرضه حال الحياة بخلاف غيرهم, "ثم يحيَّا" بضم أوله وفتح المهملة وتشديد التحتانية بعدها, "أو يخير" شك الراوي هل قال: يحيا أو قال: يخير" قاله الحافظ, "فلما اشتكى" مرض, "وحضره القبض, ورأسه على فخذ عائشة".
كذا في البخاري, وكأنه التفات، وقدَّمه المصنف: على فخذي بالمعنى, "غُشِّيَ" أي: أغمي "عليه، فلمَّا أفاق شخَصَ" ارتفع بصره" بالرفع فاعل, "نحو سقف البيت، ثم قال: "اللهم" اجعلني "في الرفيق الأعلى" , وفي بمعنى مع, أي: مع الجماعة الذين يحمد مرافقتهم، وهذا الحديث مَرَّ قريبًا وكأنه أعاده؛ لأنَّ ابن رجب ذكره كالمعارض لما قبله عن المسند، ويمكن الجمع بينهما بحمل قبض نفسه على شدة الاستغراق في رؤية الثواب, حتى كأنه قبض، فلا يخالف حديث البخاري الصريح في أن التخيير قبل القبض.
"ونبَّه السهيلي على أن النكتة في الإتيان بهذه الكلمة" أي: لفظع الرفيق "بالإفراد, الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل واحد", وهي نكتة في الآية والحديث جميعًا.(12/121)
وفي صحيح ابن حبان عنها قالت: أغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ورأسه في حجري. فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال: "أسال الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل".
ولما احتضر -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على النبي -صلى الله عليه وسلم، قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه بالماء ويقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت".
وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات".
قال بعض العلماء: فيه أنَّ ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته.
وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب، ألا ترى إلى قول بلال حين قال له أهله وهو في السياق: وا حرباه، ففتح عينيه وقال:
__________
"وفي صحيح ابن حبان، عنها" أي: عائشة "قالت: أغمي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه" أي: صدره, كما في رواية الطبراني "وأدعو له بالشفاء، فلمَّا أفاق قال" زاد الطبراني: لا، ولكن "أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل" وهذا يؤيد أنه خُيِّرَ قبل الموت, ولما احتضر -صلى الله عليه وسلم- اشتدَّ به الأمر، قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على النبي -صلى الله عليه وسلم", زيادةً في رفع درجاته.
"قالت" عائشة: "وكان عنده" صلى الله عليه وسلم "قدح من ماء", أي: فيه ماء, "فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ويقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت" شدائده.
"وفي رواية: فجعل يقول: "لا إله إلا الله, إن للموت لسكرات" قال بعض العلماء فيه: إن ذلك من شدة الآلام والأوجاع لرفعة منزلته. وقد قالت عائشة: لا أكره شدة الموت لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم.
"وقال الشيخ أبو محمد المرجاني: تلك السكرات سكرات الطرب" الفرح, "ألا ترى إلى قول بلال" أول من أسم في أحد الأقوال: "لما قال له أهله وهو في السياق" النزع: وا حرباه -بفتح المهملة والراء والموحدة- من الحرب -بفتحتين- نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له.
وروي بضم الحاء وزاي ساكنة، وروي: وا حوباه -بفتح الحاء وسكون الواو- من الحوب وهو الإثم, والمراد ألمها بشدة جزعها عليه أو من الحوبة، أي: رقة القلب "ففتح عينيه وقال:(12/122)
وا طرباه، غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه، فإذا كان هذا طربه, وهو في هذا الحال بلقاء محبوبه وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه.
وفي حديث مرسل ذكره الحافظ ابن رجب: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم إنك تأخذ الروح من بين العصب والأنامل والقصب، فأعنِّي عليه وهوّنه عليّ".
وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم عنها قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت، فيدخل يده في القدح, ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول: "اللهم أعنِّى على سكرات الموت".
__________
وا طرباه, غدًا ألقى الأحبَّة محمدًا وصحبه".
وفي رواية: وحزبه, "فإذا كان هذا طربه وهو في هذا الحال" السياق "بلقاء محبوبه, وهو النبي -صلى الله عليه وسلم- وحزبه، فما بالك بلقاء النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه تعالى" استفهام تعجبي، واستدلَّ على ذلك بقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} لا ملك مقرَّب, ولا نبي مرسل, {مَا أُخْفِيَ} خبيء {لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، ما تَقَرّ به عيونهم.
وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة يرفعه، "قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر".
قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ....} الآية. وأخرج الحاكم وصحَّحه عن ابن مسعود، قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدَّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين, ولم تسمع أذن, ولم يخطر على قلب بشر, ولم يعلم ملك مقرّب, ولا نبي مرسل, وأنه لفي القرآن {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ} الآية "وهذا موضع تقصر العبارة عن وصف بعضه"؛ إذ لا يعلم إلا الله.
"وفي حديثٍ مرسل ذكره الحافظ ابن رجب" عبد الرحمن الحنبلي، أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: "اللهمَّ إنك تأخذ الروح من بين العصب" بعين مهملة "والأنامل والقصب" بالقاف- عظام اليدين والرجلين ونحوهما, "فأعنِّي عليه" أي: على أخذ الروح, أي: على المشقَّة الحاصلة عند أخذه, "وهوّنه عليّ" يسِّره وسهّله.
"وعند الإمام أحمد والترمذي من طريق القاسم بن محمد عنها, أي: عائشة "قالت: ورأيته وعنده قدح فيه ماء وهو يموت, فيدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعنِّي على سكرات الموت" شدائده, "ولما غشاه الكرب" الشدة "قالت فاطمة -رضي(12/123)
ولما غشَّاه الكرب، قالت فاطمة -رضي الله عنها: وا كرب أبتاه، فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" رواه البخاري.
قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم أن المراد بقوله -عليه الصلاة والسلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته, لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان يلزم أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه مبعوث إلى مَن جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه، وإنما الكلام على ظاهره، وأنَّ المراد بالكرب ما كان يجده -عليه الصلاة والسلام- من شدة الموت، وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر. انتهى.
وروى ابن ماجه: أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إنه حضر من أبيك ما الله تعالى بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة".
__________
الله عنها: وا كرب أبتاه" بألف الندبة والهاء ساكنة للوقف وللنسائي: واكرابه.
قال الحافظ والأوّل أصوب لقوله: "فقال لها: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" , وهذا يدل على أنها لم ترفع صوتها, وإلا لنهاها.
"رواه البخاري" من إفراده عن أنس عن فاطمة "قال الخطابي: زعم من لا يُعَدّ من أهل العلم" لغباوة فهمه "أنَّ المراد بقوله -عليه السلام: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" أنَّ كربه كان شفقة على أمته, لما علم من وقوع الاختلاف والفتن بعده، وهذا ليس بشيء؛ لأنه كان" زائدة "يلزم" من ذلك "أن تنقطع شفقته على أمته بموته، والواقع أنها باقية إلى يوم القيامة؛ لأنه" حيّ في قبر، ومبعوث إلى من جاء بعده، وأعمالهم تعرض عليه", فما وجده حسنًا حمد الله عليه, وما وجده سيئًا استغفر لهم, كما ورد عنه "وإنما الكلام على ظاهره, وأن المراد بالكرب ما كان يجده -علي السلام- من شدة الموت, وكان فيما يصيب جسده من الآلام كالبشر؛ ليتضاعف له الأجر, انتهى.
وملخصه: إن هذا الزعم تخيل أن شدة الموت لا تصيبه كغيره، فصرف الكرب إلى الشفقة, وما علم ما لزم عليه من انقطاعها, مع أنها لا تنقطع, وخفي عليه أنه في الآلام الحسية كغيره.
"وروى ابن ماجه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لفاطمة: "إنه" أي: الحال والشأن "حضر من أبيك" أي: عنده "ما" , وفاعل حضر محذوف، أي: أمر ليس "الله بتارك منه أحدًا لموافاة" أي: إتيان، أي: إنه مستمر لكل أحد إلى "يوم القيامة" أي: قربها هذا على ما في نسخ المصنف، وفيه(12/124)
وفي البخاري من حديث أنس بن مالك: إنَّ المسلمين بينما هم في صلاة الفجر من يوم الاثنين، وأبو بكر يصلي بهم, لم يفجأهم إلّا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف الصلاة, ثم تبسَّم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة, قال أنس: وهَمَّ المسلمون أن يفتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأشار إليهم بيده -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم, ثم دخل الحجرة وأرخى الستر.
__________
سقط, وتقصير في العزو، فإن الحديث رواه البخاري والترمذي في الشمائل، عن أنس: لما وجد -صلى الله عليه وسلم- من كرب الموت ما وجد, قالت فاطمة: وا كرباه، فقال -صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم, إنه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحدًا لموافاة يوم القيامة"، فسقط من قلم المصنف لفظ: ليس بعد ما وألف الموافاة.
قال الشراح: ما، أي: أمر عظيم, فاعل حضر, "ليس الله بتارك منه"، أي: من الوصول إليه أحدًا، وذلك الأمر العظيم هو الموافاة يوم القيامة، أي: الحضور, ذلك اليوم المستلزم للموت قبله، وقيل: الموافاة فاعل تارك، أي: لا يترك الموت أحدًا لا يصل إليه، ثم بَيِّنَ ذلك الأمر الذي يوصّل الموت إليه كل أحد بقوله: "يوم القيامة" الواصل إليه كل ميت, وفيه ركاكة, والقصد تسليتها بأنَّه لا كرب عليه بعد اليوم، وأمَّا اليوم فقد حضره ما هو مقر عام لجميع الخلق، فينبغي أن ترضي وتسلمي.
"وفي البخاري من حديث أنس بن مالك, أن المسلمين بينما هم" بميم ودونها روايتان "في صلاة الفجر" الصبح "من يوم الاثنين, وأبو بكر يصلي بهم" وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا, "لم يفجأهم إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد كشف ستر حجرة عائشة، فنظر إليهم وهم في صفوف, ولأبي ذر: وهم صفوف في "الصلاة، ثم تبسَّم يضحك" حال مؤكدة؛ لأن تبسّم بمعنى يضحك, وأكثر ضحك الأنبياء التبسّم، وكان ضحكه فرحًا باجتماعهم على الصلاة وإقامة الشريعة واتفاق الكلمة, "فنكص" بصاد مهملة، أي: تأخَّر "أبو بكر على عقبيه" بالتثنية؛ "ليصل الصفَّ", أي: يأتي إليه, "وظنَّ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يريد أن يخرج إلى الصلاة" بهم إمامًا, "قال أنس: وهَمَّ" بشد الميم "المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم" بأن يخرجوا منها, "فرحًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأشار إليهم بيده -صلى الله عليه وسلم- أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر".
قال الحافظ: فيه أنه لم يصلّ معهم ذلك اليوم، وما رواه البيهقي عن حميد عن أنس: آخر صلاة صلاها -صلى الله عليه وسلم- مع القوم. الحديث, وفسَّرها بأنها صلاة الصبح، فلا يصح الحديث الباب،(12/125)
وفي رواية أبي اليمان عن شعيب، عند البخاري، في "الصلاة": فتوفي من يومه ذلك. وكذا في رواية معمر عنده أيضًا في حديث أنس: لم يخرج إلينا -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا، فأقيمت الصلاة، فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله -صلى الله عليه وسلم- بالحجاب, فرفعه، فلمَّا وضح لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح لنا، قال: فأومأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدَّم وأرخى الحجاب. الحديث رواه الشيخان.
وعنه أنَّ أبا بكر كان يصلي بهم في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين، وهم صفوف في الصلاة، كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة،
__________
ويشبه أنَّ الصواب أنها صلاة الظهر، وهذا الحديث في البخاري هنا من طريق عقيل عن ابن شهاب عن أنس.
"وفي رواية أبي اليمان" الحكم بين نافع شيخ البخاري, "عن شعيب" بن أبي حمزة، عن الزهري، عن أنس "عند البخاري في الصلاة, فتوفِّي من يومه ذلك" قرب الزوال, "وكذا في رواية معمر" عن الزهري، عن أنس "عنده", أي: البخاري "أيضًا" في غير هذا الموضع, ومعمر هو ابن راشد, أحد أصحاب ابن شهاب, فنسخة أبي معمر تحريف, "وفي حديث أنس: لم يخرج إلينا -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا" من الأيام, وكان ابتداؤها من حين خرج فصلى بهم قاعدًا, "فأقيمت الصلاة, فذهب أبو بكر يتقدَّم، فقال: نبي الله -صلى الله عليه وسلم" من إجراء قال مجرى فعل وهو كثير، أي: أخذ "بالحجاب" الستر الذي على الحجرة, "فرفعه، فلما وضح" أي: ظهر "لنا وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فما نظرنا منظرًا" بفتح الميم والظاء المعجمة بينهما نون ساكنة- أي: شيئًا ننظر إليه "قط كان أعجب إلينا من وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين وضح: "ظهر لنا".
"قال" أنس: "فأومأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أبي بكر أن يتقدَّم" إلى الصلاة ليؤمَّهم "وأرخى الحجاب" قال الحافظ: ليس مخالفًا لقوله في أوله: فتقدَّم أبو بكر، بل في السياق حذف يظهر من قوله في رواية الزهري: فنكص أبو بكر، والحاصل أنه تقدَّم، ثم ظنَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- يخرج فتأخَّر، فأشار إليه حينئذ أن يرجع إلى مكانه.... "الحديث" تمامه" فلم يقدر عليه حتى مات -صلى الله عليه وسلم.
"رواه الشيخان" ففيه أن الصديق استمرَّ خليفة على الصلاة حتى مات المصطفى, لا كما زعمت الشيعة أنه عزله بخروجه وتخلّف أبو بكر، يرد عليهم وعنه" أي: أنس "إن أبا بكر كان يصلي بهم", وفي رواية: لهم، أي: لأجلهم إمامًا في المسجد النبوي, "في وجع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي توفي فيه حتى إذا كان يوم الاثنين" برفع يوم فكان تامَّة ونصبه خبر لكان ناقصة, "وهم صفوف في الصلاة" جملة حالية "كشف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ستر الحجرة، فنظرنا إليه"(12/126)
فنظرنا إليه وهو قائم، كأنَّ وجهه ورقة مصحف مثلث الميم، ثم تبسَّم -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا. الحديث رواه مسلم.
وقد جزم موسى بن عقبة عن ابن شهاب، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس، وكذا لأبي الأسود عن عروة.
وعن جعفر بن محمد عن أبيه قال: لما بقي من أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث، نزل عليه جبريل فقال: يا محمد, إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك، وتفضيلًا لك، وخاصَّة لك، يسألك عمَّا هو أعلم به منك يقول: كيف تجدك؟ فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، ثم جاءه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك
__________
لفظ مسلم: فنظر إلينا, "وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة" بفتح الراء "مصحف مثلث الميم" كناية عن الجمال البارع وحسن البشرة وصفاء الوجه واستنارته, "ثمَّ تبسَّم -صلى الله عليه وسلم- ضاحكًا" فرحًا باجتماعهم على الصلاة, واتفاق كلمتهم وإقامة شريعته، ولهذا استنار وجهه الوجيه؛ لأنه كان إذا سُرَّ استنار وجهه.... "الحديث" ذكر في بقيته نحو ما مَرَّ في رواية البخاري من همهم بالخروج ونكوص أبي بكر إلى آخره.
"رواه مسلم" من طريق صالح عن الزهري، قال: حدثني أنس فذكره، وفي آخره أيضًا: فتوفي من يومه ذلك, "وقد جزم موسى بن عقبة عن" شيخه "ابن شهاب بأنه -صلى الله عليه وسلم- مات حين زاغت الشمس" بزاي ومعجمة- أي: مالت, "وكذا لأبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن "عن عروة" بن الزبير, وجزم ابن إسحاق, بأنه مات حين اشتدَّ الضحاء, أي: بالفتح والمد- ويخدش فيه قوله: وتوفي من آخر ذلك اليوم, ويجمع بنهما بأن إطلاق الآخر بمعنى ابتداء الدخول في أول النصف الثاني من النهار وذلك عند النزول واشتداد الضحاء يقع قبل الزوال, ويستمر حتى يتحقّق زوال الشمس, ويؤيد هذا الجمع ما ذكره ابن شهاب وعروة أنه مات حين زاغت الشمس.
كذا قال الحافظ, مع أن لفظ أنس عند الشيخين: فتوفي من يومه ذلك, ليس فيهما لفظ آخر الذي خدش به, فهو صادق باشتداد الضحاء وبالزوال, نعم جمعه بين هذين بما ذكر متجه. "وعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر "عن أبيه" محمد بن عليّ بن الحسين "قال: لما بقي من أَجَل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث نزل عليه جبريل، فقال: يا محمد, إن الله قد أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضيلًا لك، وخاصة" تخصيصًا "لك, يسألك عمَّا هو أعلم به منك، يقول: كيف تجدك؟ " أي: تجد نفسك في هذا الوقت, "فقال: "أجدني يا جبريل مغمومًا، وأجدني يا جبريل مكروبًا"، ثم أتاه في اليوم الثاني، فقال له مثل ذلك" الذي قاله في اليوم الأول "ثم أتاه في(12/127)
الموت فقال جبريل: يا محمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك، قال: "ائذن له"، فدخل ملك الموت, فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله، إن الله -عز وجل- أرسلني إليك, وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر، إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها، فقال جبريل: يا محمد، إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال -صلى الله عليه وسلم: "فامض يا ملك الموت لما أمرت به"، فقال جبريل: يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنما كنت حاجتي من الدنيا, فقبض روحه، فلمَّا توفي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت
__________
اليوم الثالث".
وفي رواية: فلمَّا كان في اليوم الثالث هبط جبريل ومعه ملك الموت ومعهما ملك آخر يسكن الهواء لم يصعد إلى السماء قط، ولم يهبط إلى الأرض قط، يقال له: إسماعيل, موكَّل على سبعين ألف ملك، كل ملك على سبعين ألف ملك، فسبقهم جبريل, "فقال له مثل ذلك" القول المذكور, "ثم استأذن في" اليوم الثالث "ملك الموت" وجبريل عنده, "فقال جبريل: يا محمد" وفي نسخة: يا أحمد "هذا ملك الموت يستأذن" يطلب الإذن في الدخول "عليك, ولم يستأذن على أدمي قبلك, ولا يستأذن على أدمي بعدك" فهو تخصيص لك على الجمع "قال: "ائذن له فدخل ملك الموت".
وفي حديث ابن عباس عند الطبراني أنه قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته, إن ربك يقرئك السلام, "فوقف بين يديه فقال: يا رسول الله, إن الله -عز وجل- أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كلِّ ما تأمر" به "إن أمرتني أن أقبض روحك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها".
زاد في رواية، قال: "وتفعل ذلك يا ملك الموت؟ " قال: نعم, أمرت أأطيعك في كل ما أمرتني, "فقال جبريل: يا محمد, إن الله قد اشتاق إلى لقائك، قال -صلى الله عليه وسلم: "فامض يا ملك الموت لما أمرت به" من قبض روحي إن شئت، فإني اخترت ذلك, "فقال جبريل: يا رسول الله, هذا آخر موطئي من الأرض, إنما كنت حاجتي من الدنيا".
وفي حديث أبي هريرة عند ابن الجوزي: وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك, والمنفي نزوله بالوحي المتجدّد، فلا ينافي ما ورد في أحاديث أنه ينزل ليلة القدر, ويحضر قتال المسلمين مع الكفار, ويحضر من مات على طهارة من المسلمين، ويأتي مكة والمدينة بعد خروج الدجال ليمنعه من دخولهما، وفي زمن عيسى -عليه السلام- لا بشرع جديد، وتفصيل ذلك يطول, "فقبض روحه" الزكية, "فلمَّا توفي -صلى الله عليه وسلم- وجاءت التعزية" إسناد مجازي، أي: أهل التعزية "سمعوا صوتًا(12/128)
التعزية, سمعوا صوتًا من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء من كل مصيبة, وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإنما المصاب من حرم الثواب, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقال عليّ: أتدرون من هذا؟ هو الخضر -عليه السلام. رواه البيهقي في دلائل النبوة.
وفي تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي, وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر، مما ذكره في الإحياء, وأن النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب, ثم قال العراقي: قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصحّحه، ولا يصح.
ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس أيضًا قال: لما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع
__________
من ناحية البيت: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته".
زاد في حديث ابن عمر عند البلاذري: فرددنا عليه مثل ذلك، فقال: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} جزاء أعمالكم {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إن في الله عزاء" تسلية "من كل مصيبة, وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فثقوا" اعتمدوا, "وإياه فارجوا, فإنما المصاب".
وفي لفظ: فإن المصاب "من حُرِمَ الثواب" الذي أعدَّه الله تعالى له بعدم الصبر ومزيد الجزع؛ لأنه فاته "والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته", ختم بالسلام كما بدأ به, "فقال عليّ: أتدرون من هذا" فكأنهم قالوا: لا ندري, فقال: "هو الخضر" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين "عليه السلام".
رواه البيهقي في دلائل النبوة، وفي تخريج أحاديث الإحياء" للغزالي "للحافظ العراقي" زين الدين عبد الرحيم, "وذكر التعزية المذكورة عن ابن عمر مما ذكره في الإحياء، وأنَّ النووي أنكر وجود الحديث المذكور في كتب الحديث، وقال: إنما ذكره الأصحاب" يعني: علماء الشافعية في كتب الفقه بلا إسناد, "ثم قال العراقي" تعقبًا على نفي النووي: "قد رواه الحاكم في المستدرك من حديث أنس ولم يصححه" أي: لم يصرح بقوله: صحيح, وإن كان موضوع كتابه المستدرك في الأحاديث الصحيحة الزائدة على الصحيحين, "ولا يصح" لضعف سنده، ولكنه وجد في كتاب مشهور من كتب الحديث, وإن كان ضعيف السند.
"ورواه ابن أبي الدنيا عن أنس قال: لما قُبِضَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع أصحابه حوله(12/129)
أصحابه حوله يبكون، فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء، يتخطَّى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, حتى أخذ بعضادتي باب البيت, فبكى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة، وعوضًا من كل فانٍ. الحديث. وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر: عليَّ بالرجل، فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعلَّ هذا الخضر جاء يعزينا. ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب، وفيه محمد بن جعفر الصادق، تكلم فيه، وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جده علي، والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر علي، كما رواه الشافعي في الأم, وليس فيه ذكر للخَضِر -عليه السلام.
قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقائك، معناه: قد أراد لقاءك بأن يردّك من دنياك إلى معادك زيادة في قربك وكرامتك.
__________
يبكون" بلا رفع صوت, "فدخل عليهم رجل طويل شعر المنكبين في إزار ورداء يتخطَّى أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أخذ بعضادتي" بكسر العين وضاد معجمة- تثنية عضادة، أي: جانبي "باب البيت، فبكى رسول الله" بنصبه مفعول بكى.
"وفي نسخة: بكى على رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ثم أقبل على أصحابه فقال: إن في الله عزاء من كل مصيبة, وعوضًا من كل فانٍ. الحديث وفيه: ثم ذهب الرجل، فقال أبو بكر الصديق: "عليَّ بالرجل" أي: ائتوني به, "فنظروا يمينًا وشمالًا فلم يروا أحدًا، فقال أبو بكر: لعل هذا الخضر جاء يعزينا".
"ورواه ابن أبي الدنيا أيضًا من حديث علي بن أبي طالب, وفيه محمد بن جعفر الصادق, تُكُلِّمَ فيه, وفيه انقطاع بين علي بن الحسين وبين جدَّه علي" بن أبي طالب؛ لأنه لم يدركه، فالحديث ضعيف, وأيما كان فكيف ينكر وجوده في كتب الحديث، وقد وجد في أكثر من كتاب "والمعروف عن علي بن الحسين مرسلًا من غير ذكر عليّ" بن أبي طالب "كما" "رواه الشافعي في الأم, وليس فيه ذكر للخضر -عليه الصلاة والسلام".
"قال البيهقي: قوله: إن الله اشتاق إلى لقاءك، معناه: قد أراد لقاءك" لاستحالة الحقيقي الذي هو نزاع النفس إلى الشيء في حقه تعالى, "بأن يردك من دنياك إلى معادك, زيادة في قربك وكرامتك، انتهى".(12/130)
وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس قال: جاء ملك الموت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا ملك الموت, ادخل راشدًا" فلمَّا دخل قال: إن ربك يقرئك السلام, فبلغني أن ملك الموت لم يسلم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده.
وقالت عائشة: توفي في بيتي، وفي يومي, وبين سحري ونحري، وفي رواية: بين حاقنتي وذاقنتي. رواه البخاري.
والحاقنة: بالحاء المهملة والقاف والنون: أسفل من الذقن.
والذاقنة: طرف الحلقوم.
والسحر: بفتح السين وسكون الحاء المهملتين، وهو الصدر. والنحر: بفتح
__________
"وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس، قال: جاء ملك الموت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في مرضه" الذي توفي فيه, "ورأسه في حجر علي، فاستأذن فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال له: ارجع فإنَّا مشاغيل عنك، فقال -صلى الله عليه وسلم: "هذا ملك الموت, ادخل راشدًا"، فلما دخل قال: إن ربك يقرئك السلام", والظاهر المتبادر أن قوله: "فبلغني أن ملك الموت لم يسلّم على أهل بيت قبله ولا يسلم بعده" من قول ابن عباس، والجزم بأنه من كلام الطبراني يحتاج إلى دليل؛ لأنه خلاف المتبادر, "وقالت عائشة:" إن من نِعَمِ الله عليَّ أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم "توفي في بيتي وفي يومي" الذي كان يدور علي فيه "وبين سحري ونحري" بفتح فسكون فيهما كما يأتي.
"وفي رواية" عنها: مات "بين حاقنتي وذاقنتي" بذال معجمة وقاف مكسورة، قال الحافظ: وهذا لا يعارض حديثها السابق أن رأسه كان على فخذها؛ لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها.
"رواه" أي: المذكور من الروايتين "البخاري، والحاقنة -بالحاء المهملة والقاف المكسورة "والنون" المفتوحة: "أسفل من الذقن، والذاقنة: طرف الحلقوم", وفي الفتح: الحاقنة ما سفل من الذقن، والذاقنة ما علا منه، أو الحاقنة نقرة الترقوة وهما حاقنتان، ويقال: الحاقنة: المظهر من الترقوة والحلق، وقيل: ما دون الترقوة من الصدر، وقيل: هي تحت السرة، وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم, والسحر -بفتح السين وسكون الحاء المهملتين- هو الصدر" وهو في الأصل: الرئة -كما في الفتح, "والنحر -بفتح النون وسكون الحاء المهملة" موضع(12/131)
النون وسكون الحاء المهملة.
والمراد: أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي ورأسه بين عنقها وصدرها.
وهذا لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق: أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه في حجر عليّ؛ لأن كل طريق منها -كما قال الحافظ ابن حجر- لا يخلو عن شيء، فلا يلتفت لذلك والله أعلم.
__________
القلادة من الصدر كما في الصحاح، قال الحافظ: والمراد به موضع النحر، وأغرب "الداودي فقال: هو ما بين الثديين، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر, "والمراد أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي ورأسه بين عنقها وصدرها".
وروى أحمد والبزار والحاكم بسند صحيح، عنها: لما خرجت نفسه لم أجد ريحًا قط أطيب منها، وروى البيهقي عن أم سلمة، وضعت يدي على صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم مات، فمرَّ بي جمع آكل وأتوضأ ما يذهب ريح المسك من يدي "وهذا" الحديث الصحيح "لا يعارضه ما أخرجه الحاكم وابن سعد من طرق، أنه -صلى الله عليه وسلم- مات ورأسه في حجر علي؛ لأن كل طريق منها كما قال الحافظ ابن حجر لا يخلو عن شيء" أي: مقال في إسناده, "فلا يلتفت لذلك" لمعارضته الحديث الصحيح، لكن لفظ الحافظ لا يخلو عن شيعي -بكسر الشين- مفرد الشيعة، فلا يلتفت إليهم، أي: إلى الشيعة, إلا أنه لما بينه لم يذكر فيهم شيعيًّا، وقد رأيت بيان حال الأحاديث التي أشرت إليها دفعًا لتوهم التعصب.
روى ابن سعد عن جابر: سأل كعب الأحبار عليًّا: ما كان آخر ما تكلم به -صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أسندته إلى صدري, فوضع رأسه على منكبه، فقال: "الصلاة الصلاة"، فقال كعب: كذلك آخر عهد الأنبياء، وفي سنده الواقدي وحرام ابن عثمان وهما متروكان.
وعند الواقدي عن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "ادعوا لي أخي"، فدُعِيَ له عليّ فقال: "دن مني" قال: فلم يزل مستندًا إليَّ وإنه ليكلمني حتى نزل به وثقل في حجري، فصحت: يا عباس, أدركني فإني هالك، فجاء العباس، فكان جهدهما جميعًا أن أضجعاه. فيه انقطاع مع الواقدي عبد الله فيه لين، وبه عن أبيه، عن علي بن الحسين: قبض ورأسه في حجر علي. فيه انقطاع.
وعند الواقدي عن أبي الحويرث، عن أبيه عن الشعبي، مات ورأسه في حجر علي. فيه الواقدي والانقطاع, وأبو الحويرث اسمه: عبد الرحمن بن معاوية بن الحارث المدني، قال مالك: ليس بثقة, وأبوه لا يعرف حاله.
وعن الواقدي، عن سليمان بن داود بن الحصين، عن أبيه، عن أبي غطفان: سألت ابن(12/132)
قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي: إن أول كلمة تكلم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة: "الله أكبر" , وآخر كلمة تكلم بها: "في الرفيق الأعلى".
وروى الحاكم من حديث أنس قال: "إن آخر ما تكلّم به النبي -صلى الله عليه وسلم: "جلال ربي الرفيع".
ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غائبًا بالنسخ -يعني: العالية, عند زوجته بنت خارجة- وكان -صلى الله عليه وسلم- قد أذن له في الذهاب إليهما، فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه
__________
عباس، قال: توفي وهو إلى صدر علي، فقلت: إن عروة حدَّثني عن عائشة، قالت: توفي بين سحري ونحري، فقال ابن عباس: لقد توفي وأنه لمسند إلى صدر علي, وهو الذي غسَّله وأخي الفضل, وأبي أبى أن يحضر, فيه الواقدي وسليمان لا يعرف حاله, وأبو غطفان -بفتح المعجمة ثم المهملة- اسمه: سعد, مشهور بكنيته, وثَّقه النسائي.
وأخرج الحاكم في الإكليل من طريق حبة العربي: أسندته إلى صدري فسالت نفسه. وحبة ضعيف، ومن حديث أم سلمة، قالت: علي آخرهم عهدًا به -صلى الله عليه وسلم. وحديث عائشة أثبت من هذا، ولعلها أرادت أنه آخر الرجال عهدًا، ويمكن الجمع بأن يكون علي آخرهم عهدًا به، وأنه لم يفارقه حتى مال، فظنَّ أنه مات، ثم أفاق بعد أن توجّه، فأسندته عائشة بعده إلى صدرها فقبض، ولأحمد في أثناء حديث عنها، فبينما رأسه ذات يوم على منكبي؛ إذ مال رأسه نحو رأسي، فظننت أنه يريد من رأسي حاجة، فخرجت من فيه نقطة باردة، فوقعت على نقرة نحري، فاقشعرَّ جلدي, وظننت أنه غشي عليه، فسجيته ثوبًا، انتهى.
فلم يذكر فيها شيعيًّا، وإنما ذكر ضعف رواته كما ترى, "قال السهيلي: وجدت في بعض كتب الواقدي أن أوَّل كلمة تكلّم بها النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسترضع عند حليمة" السعدية "الله أكبر"، وآخر كلمة تكلم بها "في الرفيق الأعلى".
وفي حديث عائشة عند البخاري: فكانت آخر كلمة تكلم بها: "اللهمَّ الرفيق الأعلى" وروى الحاكم من حديث أنس قال: إن آخر ما تكلّم به النبي -صلى الله عليه وسلم: "جلال" أي: أختار جلال "ربي الرفيع" فقد بلغت ثم قضي، هذا بقية الحديث.
وجمع بينهما بأن هذا آخريه مطلقة وما عداه آخرية نسبية, "ولما توفي -صلى الله عليه وسلم- كان أبو بكر غالبًا بالسنح" بضم السين المهملة فنون ساكنة، وبضمها أيضًا فحاء مهملة "يعني: بالعالية, أي: بأقربها, على ميل من المسجد النبوي "عند زوجته" حبيبة "بنت خارجة بن زيد الخزرجية، صحابية بنت صحابي, "وكان -عليه السلام- قد أذن له في الذهاب إليها"؛ لأنه أصبح يوم الإثنين(12/133)
وتوعّد من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة، والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم. فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة فدخل، فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجثا يقبله ويبكي ويقول: توفي والذي نفسي بيده، صلوات الله عليك يا رسول الله، ما أطيبك حيًّا وميتًا، ذكره الطبري في "الرياض".
وقالت عائشة: أقبل أبو بكر على فرس من مسكنه بالسنح، حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة, فبصر برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى ببرد حبرة، فكشف عن وجهه، ثم أكبَّ عليه فقبَّله ثم بكى وقال: بأبي
__________
خفيف المرض، فقال له أبو بكر: أراك يا رسول الله قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب, واليوم يوم ابنة خارجة أفآتيها، قال: نعم، فذهب فمات في غيبته, "فسلَّ عمر بن الخطاب سيفه وتوعّد" بالقتل "من يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بناءً على ما قدم عنده، وأداه إليه اجتهاده أنه لا يموت حتى يشهد على أمته بأعمالها أخذًا من قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] ، كما رواه ابن إسحاق عنه، ثم رجع عن ذلك كما يأتي: "وكان يقول: إنما أرسل إليه كما أرسل إلى موسى -عليه السلام، فلبث عن قومه أربعين ليلة", وهذا قاله اجتهادًا بالقياس, ثم رجع عنه "والله إني لأرجو أن يقطع أيدي رجال وأرجلهم".
زاد في رواية: وألسنتهم, يعني: المنافقين، وفي لفظ: لا يموت حتى يؤمر بقتال المنافقين, "فأقبل أبو بكر من السنح حين بلغه الخبر إلى بيت عائشة، فدخل فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجثا" بجيم فمثلثة برك على ركبتيه "يقبّله ويبكي، ويقول: توفي والذي نفسي بيده -صلوات الله عليك يا رسول الله, ما أطيبك حيًّا وميتًا".
"ذكره الطبري" محب الدين الحافظ "في" كتاب "الرياض" النضرة في فضائل العشرة "وقالت عائشة: أقبل أبو بكر" حال كونه راكبًا "على فرس من مسكنه" متعلق بأقبل, "بالسنح" منازل بني الحارث من الخزرج, "حتى نزل" عن الفرس, "فدخل المسجد، فلم يكلّم الناس حتى دخل على عائشة، فبصر برسول الله", الذي في البخاري هنا وقبله في الجنائز: فتيمَّم، قال المصنف: أي: قصد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى" بضم الميم وفتح السين والجيم المشددة، أي: مغطّى, هذا لفظ الجنائز، وفي الوفاة مغشَّى -بضم الميم وفتح الغين والشين(12/134)
أنت وأمي، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. رواه البخاري.
واختلف في قول أبي بكر -رضي الله عنه: "لا يجمع الله عليك موتتين".
فقيل هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال؛ لأنه لو صحَّ ذلك للزم أن يموت موتة أخرى، فأخبر أنه أكرم على الله أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} ، و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ، وهذا أوضح الأجوبة وأسلمها.
__________
المشددة المعجمتين- أي: مغطّى "ببرد" لفظ الجنائز، وفي الوفاة: بثوب, "حبرة" بكسر الحاء المهملة وفتح الموحدة، وإضافة برد أو ثوب, وبالتنوين, فحبرة صفته، وهي ثوب يماني مخطّط أو أخضر, "فكشف عن وجهه" لبرد ثم أكبَّ عليه" لازم وثلاثيه كَبَّ متعدٍّ عكس المشهور من قواعد التصريف, فهو من النوادر, "فقبَّله" بين عينيه "ثم بكى" اقتداءً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما دخل على عثمان بن مظعون وهو ميت، فأكبَّ عليه وقبَّله، ثم بكى حتى سالت دموعه على وجنتيه.
رواه الترمذي "وقال: بأبي أنت وأمي" الباء متعلقة بمحذوف، أي: أنت مفدَّى بأبي, فهو مرفوع مبتدأ وخبر, أو فعل فما بعده نصب، أي: فديتك, "لا يجمع" بالرفع، ولفظ الجنائز: يا نبي الله، وي الوفاة: والله لا يجمع "الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك" بصيغة المجهول، وللمستملي والحموي كتب الله عليك "فقدمتها".
"رواه البخاري" في الجنائز والوفاة النبوية من أفراده عن مسلم.
ورواه النسائي وابن ماجه في الجنائز, "واختلف في" معنى "قول أبي بكر -رضي الله عنه: لا يجمع الله عليك موتتين، فقيل: هو على حقيقته، وأشار بذلك إلى الرد على من زعم" هو عمر "أنه سيحيا فيقطع أيدي رجال" كما في البخاري في المناقب، قالت -أي: عائشة: وقال عمر: وليبعثه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم؛ لأنه لو صح ذلك للزم أن يموت موتة أخرى ثانية؛ إذ لا بُدَّ من الموت قبل القيامة "فأخبر أنه أكرم على الله من أن يجمع عليه موتتين كما جمعهما على غيره، كـ {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ} أربعة أو ثمانية أو عشرة أو ثلاثون أو أربعون ألفًا {حَذَرَ الْمَوْتِ} وهم قوم بني إسرائيل, وقع الطاعون ببلادهم ففروا، فقال لهم الله: موتوا، فماتوا ثم أحياهم بعد ثمانية أيام أو أكثر بدعاء نبيهم حزقيل -بكسر المهملة والقاف وسكون الزاي، فعاشوا دهرًا عليهم أثر الموت لا يلبسون ثوبًا إلا عاد كالكفن, واستمرَّت في أسباطهم و {كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} هي بيت المقدس راكبًا على حمار ومعه سلة تين وقدح(12/135)
وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره، إذا يحيا فيسأل ثم يموت، وهذا جواب الداودي.
وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك. وقيل: كنَّى بالموت الثاني عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر. قال في فتح الباري.
وعنها: إن عمر قام يقول: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّله, وقال: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا، والذي نفسي بيده، لا يذيقك الله الموتتين أبدًا، ثم خرج فقال: أيها الحالف، على رسلك، فلمّا تكلم أبو بكر
__________
عصير وهو عزير، وقيل: أرمياه، وقيل: غيرهما {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة على عروشها" سقوفها لما خربها بخت نصر، قال استعظامًا لقدرة الله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} ليريه كيفية ذلك، {قَالَ كَمْ لَبِثْتَ} الآية "وهذا أوضح" أظهر الأجوبة وأسلمها من الاعتراض.
"وقيل: أراد أنه لا يموت موتة أخرى في القبر كغيره؛ إذ يحيا فيسأل ثم يموت"؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- لا يسأل, "وهذا جواب الداودي" أحمد بن نصر المالكي شارح البخاري, "وقيل: لا يجمع الله موت نفسك وموت شريعتك، وقيل: كُنِّيَ بالموت الثان عن الكرب، أي: لا تلقى بعد هذا الموت كربًا آخر" ويؤيده قوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة: "لا كرب على أبيك بعد اليوم" "قاله في فتح الباري" في كتاب الجنائز، وتعقّب الثالث في الوفاة، فقال: وأغرب من قال: المراد بالموتة الأخرى موت الشريعة، قال هذا القائل، ويؤيده قول أبي بكر بعد ذلك في خطبته، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, "وعنها" أي: عائشة أيضًا، "أنَّ عمر قام يقوم: والله ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم" بناء على ظنه الذي أداه اجتهاده إليه، وأسقط من الحديث، قالت: وقال عمر: والله ما كان يقع في نفسي إلا ذلك، وليبعثه الله فليقطعنَّ أيدي رجال وأرجلهم "فجاء أبو بكر" من السنح, "فكشف عن وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقبَّله" بين عينيه "وقال: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا, والذي نفسي بيده لا يذيقك" بالرفع "الله الموتتين أبدًا"؛ لأنه يحيا في قبره ثم لا يموت كما هو أحد الوجوه المتقدمة. قال الحافظ: وهذا أحسن، ولعل هذا هو الحكمة في تعريف الموتتين، يعني: في هذه الرواية، أي: المعروفتين المشهورتين الواقعتين لكل أحد غير الأنبياء، فبطل تمسك من تمسك به لإنكار الحياة في القبر. انتهى.
"ثم أخرج" أبو بكر من عنده -صلى الله عليه وسلم- وعمر يكلم الناس, "فقال: أيها الحالف على رسلك" بكسر الراء وسكون المهملة- هينتك، أي: اتئد في الحلف ولا تستعجل، وعبَّر بالحالف لأن(12/136)
جلس عمر فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه وقال: ألا من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية [آل عمران: 144] ، قال: فنشج الناس يبكون، رواه البخاري.
يقال: نشج الباكي، أي: غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب.
__________
عادتهم النداء بالحالة التي يكون الشخص عليها، كقوله -صلى الله عليه وسلم- لحذيفة: "قم يا نومان" ولعلي: "قم أبا تراب" وتنبيهًا على أنه لا ينبغي الحلف في ذا المقام، لا لأنه لم يعرفه لما خرج، وإنما سمع الحلف، فأبهمه؛ لأن أبا بكر يعرف صوت عمر، ولأنه قال: اجلس يا عمر كما يأتي قريبًا "فلمَّا تكلم أبو بكر جلس عمر" بعد إبايته -كما في حديث ابن عباس الآتي، فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس, "فحمد الله أبو بكر وأثنى عليه، وقال: ألا" بالفتح والتخفيف- تنبهًا على ما بعده, كأنه قال: تنبهوا, "من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أي: ستموت ويموتون فلا شماتة بالموت، فالميت بالتثقيل من لم يمت وسيموت، وأما بالتخفيف فمن حلَّ به الموت, قال الخليل: أنشد أبو عمرو:
أيا سائلي تفسير ميت وميت ... فدونك قد فسرت إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح فذلك ميت ... وما الميت إلّا من إلى القبر يحمل
"وقال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران: 144] ، اختصار من المصنف، وإلّا فهي متلوة كلها عند البخاري، فقال: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} رجعتم إلى الكفر، والجملة الأخيرة محلّ الاستفهام الإنكاري، أي: ما كان معبودًا فترجعوا، نزلت لما أشيع يوم أحد أنه -صلى الله عليه وسلم- قُتِلَ، وقال المنافقون: إن كان قتل فارجعوا إلى دينكم، {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} وإنما يضر نفسه، {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} نعمة بالثبات، "قال فنشج" بفتح النون والشين المعجمة وبالجيم "الناس يبكون لتحققهم موته, ولم يبين المصنف ولا الحافظ فاعل قال: فيحتمل أنه عائشة، وذكر باعتبار الشخص, أو إنها قالته حاكية له عن عمر ويؤيده قولها أولًا: وقال عمر: والله...... إلخ.
هكذا أفاده شيخنا أبو عبد الله الحافظ البابلي.
"رواه البخاري" في مناقب الصديق بهذا اللفظ: "يقال نشج" بفتحات "الباكي، أي: غُصَّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب" أي: شدة البكاء.(12/137)
وعن سالم بن عبيد الأشجعي قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، فأخذ بقائم سيفه وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فقال الناس: يا سالم، أطلب صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم, قال: فخرجت إلى المسجد, فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت بالبكاء، فقال: يا سالم أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو مسجَّى، فرفع البرد عن وجهه، ووضع فاهه على فيه, واستنشى الريح، ثم سجَّاه والتفت إلي فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية، وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} يا أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمد قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في "الراض" له، وقال: خرج الترمذي معناه
__________
"وعن سالم بن عبد الأشجعي" الصحابي, من أهل الصُّفَّة, نزل الكوفة، روى له أصحاب السنن حديثين بإسناد صحيح في العطاس, وله رواية عن عمر، هي أنه "قال: لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان أجزع الناس كلهم عمر بن الخطاب، فأخذ بقائم سيفه" من إضافة الصفة للموصوف، أي: شهر سيفه "وقال: لا أسمع أحدًا يقول: مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم: "فقال الناس: يا سالم, أطلب صاحب رسول الله" يعنون: أبا بكر "قال: فخرجت إلى المسجد، فإذا بأبي بكر، فلمَّا رأيته أجهشت" بجيم وهاء ومعجمة- أي: فزعت إليه "بالبكاء" كالصبي يفزع إلى أمه, "فقال: يا سالم, أمات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فقلت: إن هذا عمر بن الخطاب يقول: لا أسمع أحدًا يقول مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ضربته بسيفي هذا، قال" سالم: فأقبل أبو بكر حتى دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهومسجى" يجيم بوزن مغطَّى ومعناه "فرفع" كشف وأزال البرد عن وجهه, ووضع فاهه على فيه, واستنشى "أي: شمَّ الريح, أي: ريح الموت, فعلم أنه مات, "ثم سجَّاه: غطاه بالبرد والتفت إلينا بعد خروجه من عنده فقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} وتلا "الآية" كلها "وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} , يا أيها الناس, من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال عمر: فوالله لكأنِّي لم أتل هذه الآيات" بناءً على أن الجمع ما فوق الواحد "قط. خرَّجه الحافظ أبو أحمد حمزة بن الحارث، كما ذكره الطبري في الرياض، له وقال: خرَّج الترمذي معناه بتمامه".(12/138)
بتمامه.
واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت.
وعند أحمد: عن عائشة قالت: سجَّيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبًا، فجاء عمر والمغيرة بن شعبة فاستأذنا، فأذنت لهما, وجذبت الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه، ثم قاما، فقال المغيرة: يا عمر، مات، قال: كذبت، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفني الله المنافقين. ثم جاء أبو بكر فرفعت الحجاب فنظر إليه فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث ابن عباس عند البخاري: إن أبا بكر خرج وعمر بن الخطاب يكلم الناس، فقال: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا
__________
وأخرجه يونس بن بكير في زيادات المغازي "واستنشى الريح: شمها، أي: شمَّ ريح الموت" فعرف أنه مات -عليه الصلاة والسلام, "وعند أحمد عن عائشة، قالت: سجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- ثوبًا" نصب بنزع الخافض, "فجاء عمر" بن الخطاب "والمغيرة بن شعبة, فاستأذنا" في الدخول, "فأذنت لهما, وجذبت" سحبت "الحجاب، فنظر عمر إليه، فقال" متعجبًا: "واغشياه", ظنَّ أنه أغمي عليه إغماء شديدًا بدون موت, "ثم قاما", فلما دنوا من الباب, "فقال المغيرة: يا عمر مات" أخبره بذلك تحسرًا وتأسفًا لا أنه استفهام بحذف الأداة؛ لقوله: "قال" عمر: "كذبت"؛ إذ لو كان استفهامًا لم يسغ له تكذيبه, "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يموت حتى يفني الله المنافقين".
قال المصنف: هذا قاله عمر بناءً على ظنه؛ حيث أدَّاه اجتهاده إليه، وفي سيرة ابن إسحاق عن ابن عباس أن عمر قال له: إن الحاصل له على هذه المقالة قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ} [البقرة: 143] ، فظنَّ أنه -صلى الله عليه وسلم- يبقى في أمته حتى يشهد عليها, "ثم جاء أبو بكر" من النسخ, "فرفعت الحجاب، فنظر إليه فقال: إنا لله" ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء, "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجازينا, "مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم".
وروى ابن إسحاق وعبد الرزاق والطبراني أن العباس قال لعمر: هل عند أحد منكم عهد من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في ذلك، قال: لا. قال: فإنه قد مات، ولم يمت حتى حارب وسالم، ونكح وطلق, وترككم على محجَّة واضحة, وهذا من موافقات العباس للصديق.
"وفي حديث ابن عباس عند البخاري" هنا وقبله في الجنائز: "إنَّ أبا بكر خرج" من عند النبي -صلى الله عليه وسلم "وعمر بن الخطاب يكلم الناس" يقول لهم: لم يمت -صلى الله عليه وسلم, "فقال أبو بكر" له:(12/139)
عمر، فقال أبو بكر: أمَّا بعد, من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله -عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} قال: والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر, فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها.
وفي حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة, أنَّ أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين. قال: وكانوا أظهروا الاستبشار ورفعوا رءوسهم، فقال: أيها الرجل، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات: ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْد} ثم أتى أبو بكر المنبر. الحديث.
__________
اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس" لما حصل له من الدهشة والحزن، "فأقبل الناس إليه، وللكشميهني: عليه, "وتركوا عمر", وفي الجنائز: فأبى عمر، فتشهد أبو بكر، فمال إليه الناس وتركوا عمر, "فقال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَت} مضت {مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل} .
زاد في رواية البخاري: إلى قوله الشاكرين, "قال" ابن عباس: "والله لكأنَّ الناس لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها".
قال الكرماني: فإن قلت: ليس فيها أنه -صلى الله عليه وسلم- قد مات، وأجاب بأنَّ أبا بكر تلاها لأجل أنه -صلى الله عليه وسلم- قد مات، قال الحافظ: ورواية ابن السكن قد أوضحت المراد. فإنه زاد لفظ علمت.
"وفي حديث ابن عمر" عبد الله "عند ابن أبي شيبة أن أبا بكر مَرَّ بعمر وهو يقول: ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولا يموت حتى يقتل الله المنافقين، قال" ابن عمر: "وكانوا أظهروا الاستبشار" الفرح، وأسقط عقب هذا لفظ: وفرحوا بموته, "ورفعوا رءوسهم فقال" أبو بكر لعمر: "أيها الرجل, إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد مات، ألم تسمع الله تعالى يقول: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} فأخبر بأنه سيموت, فكيف تنكره، "وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أفإن مت, "ثم أتى أبو بكر المنبر..... الحديث" تمامه: فصعد عليه, فحمد الله وأثنى عليه، فذكر خطبته: أما بعد ... إلخ.
وفي البخاري أن عمر قال: والله ما هو إلّا أن سمعت أبا بكر تلاها، أي: آية آل عمران، فعقرت حتى ما تقلني رجلاي, وحتى أهويت إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمت أن(12/140)
قال القرطبي أبو عبد الله المفسّر: وفي هذا أدلّ دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدّها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم. فظهر عنده شجاعته وعلمه. قال الناس: لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم، واضطرب الأمر, فكشفه الصديق بهذه الآية، فرجع عمر عن مقالته التي قالها.
كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب "الإنابة", عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر -رضي الله عنه- في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واستوى على منبره -صلى الله عليه وسلم، تشهَّد ثم قال: أما بعد، فإني قلت لكم أمس مقالة, وإنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله، ولا في عهد عهده إلي رسول الله -صلى الله عليه وسلم, ولكني كنت أرجو أن
__________
النبي -صلى الله عليه وسلم- قد مات.
"قال القرطبي -أبو عبد الله" محمد "المفسر" أي: مؤلف التفسير, وهو تلميذ القرطبي صاحب المفهم على مسلم, "وفي هذا أدل دليل على شجاعة الصديق، فإن الشجاعة حدها ثبوت القلب عند حلول المصائب، ولا مصيبة أعظم من موت النبي -صلى الله عليه وسلم, فظهر عنده شجاعته وعلمه, قال الناس" أي: أكثرهم: "لم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واضطرب الأمر، فكشفه الصديق بهذه الآية" وفي نسخة: فكشف، أي: عن الناس اضطرابهم، ففيه وة جأشه وكثرة علمه، وقد وافقه على ذلك العبَّاس -كما مَرَّ- والمغيرة، كما رواه ابن سعد وابن أم مكتوم, كما في مغازي أبي الأسود عن عروة، قال: إن ابن أم مكتوم كان يتلو {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} والناس لا يلتفتون إليه، وكان أكثر الصحابة على خلاف ذلك، فيؤخذ منه أن الأقل عددًا في الاجتهاد قد يصيب ويخطيء الأكثر، فلا يتعيّن الترجيح بالأكثر، ولا سيما إن ظهر أنّ بعضهم قلد بعضًا.
قاله الحافظ: "فرجع عمر عن مقالته التي قالها، كما ذكره الوائلي أبو نصر عبد الله في كتاب الإنابة عن أنس بن مالك, أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر" على الخلافة "في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم, واستوى على منبره: تشهّد عمر".
أخرجه ابن إسحاق في السيرة بنحوه، قال: حدثني الزهري قال: حدثني أنس قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة، وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر فتكلّم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل, "ثم قال" عمر: "أما بعد, فإني قلت لكم أمس مقالة, وأنها لم تكن كما قلت، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب الله" صريحًا، وإنما كنت استنبطها من قوله: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فظننت أنه يبقى في أمته حتى يشهد على آخر أعمالها -كما عند ابن إسحاق، عنه: "ولا في عهد عهده إليّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم(12/141)
أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال, فاختار الله -عز وجل- لرسوله الذي عنده على الذي عندكم, وهذا الكتاب الذي هدى به رسوله, فخذوا به تهتدوا لما هدي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال أبو نصر: المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت, ولن يموت حتى يقطع أيد وأرجل, وكان ذلك لعظيم ما ورد عليه, وخشي الفتنة وظهور المنافقين, فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر, وتفوهه بقول الله -عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم. انتهى.
وقال ابن المنير: لما مات -صلى الله عليه وسلم- طاشت العقول، فمنهم من خبل، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان
__________
قال: ذلك دعا لتوهمهم أنه قال ذلك, فيستمر الاضطراب, "ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى يدبرنا" بضم التحتية وسكون الدال وفتح الموحدة "أي: يكون آخرنا موتًا، أو كما قال" شك الراوي, "فاختار الله -عز وجل- لرسوله الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب" القرآن "الذي هدى الله به رسوله، فخدوا به" اعملوا بما فيه, "تهتدوا لما هدي له رسول الله -صلى الله عليه وسلم" فتكونوا ورثته، وفي آخر هذا الخبر عند ابن إسحاق: فبايع الناس أبا بكر البيعة العامَّة بعد بيعة السقيفة، ثم تكلّم أبو بكر..... الحديث.
"قال أبو نصر:" المذكور "المقالة التي قالها عمر ثم رجع عنا هي "قوله: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمت, ولن يموت حتى يقطع أيدي الرجل" رجال، يعني: المنافقين, "وكان قوله: "ذلك لعظيم ما ورد عليه, وخشي الفتنة وظهور المنافقين، فلما شاهد عمر قوة يقين الصديق الأكبر وتفوهه", نطقه بقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة كأنَّها لم تنزل قط إلّا ذلك اليوم. انتهى".
وجواب: فلمَّا شاهد محذوف دلَّ عليه ما قبله، أي: رجع عن مقالته, "وقال ابن المنير" في معراجه: "لما مات -صلى الله عليه وسلم- طاشت" ذهبت العقول, أي: كادت تذهب؛ إذ لم تذهب بالفعل, "فمنهم من خبل" أي: قارب الخبل, أو حصلت له حالة تشبه الخبل، قال في القاموس: خبله الحزن جننه وأفسد عقله, "ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من أخرس" منع النطق, "فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى" مرض "وكان عمر ممن خبل, أي: كاد لأنه لم يخبل بالفعل(12/142)
عمر ممن خبل، وكان عثمان ممن أخرس, يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمدًا. وكان أثبتهم أبو بكر الصديق -رضي الله عنه، جاء وعيناه تهملان, وزفراته تتردد, وغصصه تتصاعد وترتفع، فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأكبَّ عليه, وكشف الثوب عن وجهه وقال: طبت حيًّا وميتًا، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك، فعظمت عن الصفة وجللت عن البكاء، ولو أنَّ موتك كان اختيارًا لجدنا لموتك بالنفوس. اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك.
ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري: إنَّ أبا بكر قَبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات، كما قدمنا، وكذا وقع في رواية غيره.
وفي رواية يزيد بن بابنوس عنها، عند أحمد، أنه أتاه من قَبَّل رأسه، فحدر
__________
وكان عثمان ممن أخرس, يذهب به ويجيء ولا يستطيع كلامًا، وكان علي ممن أقعد فلم يستطع حراكًا" بزنة سحاب، أي: حركة كما في القاموس, "وأضنى عبد الله بن أنيس، فمات كمدًا" بفتح الكاف والميم- حزنًا, "وكان أثبتهم أبو بكر جاء وعيناه تهملان" بضم الميم, "وزفراته" بزاي ففاء فراء- أنفاسه "تتردد" مرة بعد مرة, "وغصصه" جمع غصة كغرف وغرفة, شجاه "تتصاعد وترتفع" عطف تفسير فدخل على النبي -صلى الله عليه وسلم، فأكبَّ عليه وكشف الثوب عن وجهه، وقال: طبت حيًّا وميتًا وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء قبلك", وهو النبوة والرسالة؛ لأنك آخر الأنبياء "فعظمت عن الصفة" النعت، أي: إن كل صفة تقصر عنك, "وجللت عن البكاء"؛ لأنه لا يوازيك "ولو أن موتك كان اختيارًا" أي: لو خُيِّرنا فيه وفي فدائك "لجدنا لموتك بالنفوس، أذكرنا يا محمد عند ربك" تعالى "ولنكن من بالك".
"ووقع في حديث ابن عباس وعائشة عند البخاري أن أبا بكر قَبَّلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ما مات" قال الحافظ: ففيه كتقبيله لعثمان بن مظعون بعد موته, جواز تقبيل الميت تعظيمًا وتبركًا, "كما قدمناه مطولًا" عنهما.
وقد رواه البخاري مختصرًا تلو المطول، بلفظ: عن عائشة وابن عباس، أنَّ أبا بكر قَبَّل النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد موته, "وكذا في رواية غيره" أي: البخاري, "وفي رواية يزيد" بتحتية وزاي "ابن بابنوس" بموحدتين بينهما ألف غير مهموز وبعد الثانية المفتوحة نون مضمومة فواو ساكنة فسين مهملة، البصري، مقبول الرواية، خرَّج له أبو داود والنسائي, "عنها" أي: عائشة, "عند أحمد، أنه" أي: أبا بكر "أتاه" صلى الله عليه وسلم "من قِبَلِ رأسه، فحدر" بمهملتين أبو بكر "فاه" أي: حطّ فم نفسه من(12/143)
فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته وقال: واخليلاه.
وعند ابن ابي شيبة عن ابن عمر: فوضع فاه على جبين رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي، طبت حيًّا وميتًا.
وعن عائشة: إنَّ أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه، ووضع يديه على صدغيه، وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه. أخرجه ابن عرفة العبدي كما ذكر الطبري, قال: ولا تضاد بين هذا على تقدير صحته وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته، بأن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم, وقال لهم ما قال.
وأخرج البيهقي وأبو نعيم من طريق الواقدي عن شيوخه: إنهم شَكُّوا في موته -صلى الله عليه وسلم، قال بعضهم: قد مات، وقال بعضهم: لم يمت، فوضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه -صلى الله عليه وسلم- فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه، فكان
__________
علوّ أي: قيام, "فقَبَّل جبهته ثم قال: وانبياه، ثم رفع رأسه" أي: رأس نفسه "فحدر فاه" ثانيًا: "وقَبَّل جبهته، ثم قال: واصفياه، ثم رفع رأسه فحدر فاه وقَبَّل جبهته" ثالثًا, "وقال: واخليلاه".
وعند ابن أبي شيبة عن ابن عمر" عبد الله: "فوضع أبو بكر "فاه على جبين" هو بمعنى جبهة "رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فجعل يقبّله ويبكي ويقول: بأبي أنت وأمي, طبت حيًّا وميتًا" فيه جواز التفدية بهما، وقد يقال: هي لفظة اعتادت العرب أن تقولها ولا تقصد معناها الحقيقي؛ إذ حقيقة التفدية بعد الموت لا تتصور.
قاله الحافظ: "وعن عائشة أنَّ أبا بكر دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد وفاته، فوضع فاه بين عينيه" أي: المصطفى, "ووضع يديه على صدغيه وقال: وانبياه واخليلاه واصفياه".
"أخرجه" الحسن "بن عرفة" بن يزيد العبدي, أبو علي البغدادي الصدوق، مات سنة سبع وخمسين ومائتين, وقد جاوز المائة "كما ذكره الطبري" في الرياض, "قال: ولا تضاد" لا تخلف "بين هذا على تقدير صحته, وبين ما تقدَّم مما تضمَّن ثباته بأن "أي: بسبب أن يكون قد قال ذلك من غير انزعاج ولا قلق خافتًا به صوته، ثم التفت إليهم وقال لهم ما قال".
وأخرج البيهقي وأبونعيم من طريق الواقدي" محمد بن عمر بن واقد, الأسمى عن شيوخه، أنهم شكُّوا في موته -صلى الله عليه وسلم, قال بعضهم: قد مات, وقال بعضهم: لم يمت, فوضعت أسماء بنت عميس" وكانت زوج الصديق يومئذ، وهي أم ابنه محمد وجدّة القاسم, "يدها بين(12/144)
هذا هو الذي قد عرف به موته، وأخرجه ابن سعد عن الواقدي أيضًا.
ولما توفي -عليه الصلاة والسلام- قالت فاطمة: يا أبتاه، أجاب ربًا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه. رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: وقد قيل: الصواب: إلى جبريل ننعاه. جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال: والأوّل متوجّه فلا معنى لتغليط الرواة بالظن.
وزاد الطبراني: يا أبتاه, مِنْ ربه ما أدناه.
__________
كتفيه، فقالت: قد توفي، قد رفع الخاتم من بين كتفيه " وأراد أنَّ النبوة والرسالة باقيتان بعد الموت حقيقة كما يبقى وصف الإيمان للمؤمن بعد موته, فلم رفع ما هو علامة، وأجيب بأنه لما وضع لحكمة وهي تمام الحفظ والعصمة، وقد تَمَّ الأمر بالموت, فلم يبق لبقائه في الجسد فائدة, "فكان هذا هو الذي عرف به موته" أي: إنه من جملة ما عرف به، وإلّا قد عرفه الصديق بشمّ ريح الموت من فمه، وبغير ذلك كما مَرَّ، أو المراد الذي عرف به للنساء.
"وأخرجه ابن سعد" محمد "عن" شيخه "الواقدي أيضًا" قال: حدَّثنا القاسم بن إسحاق عن أمه عن ابنها القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن أم معاوية, أنه لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره. والواقدي متروك، وذكر مغلطاي في الزهد: إن الحاكم روى في تاريخه عن عائشة أنها لمست الخاتم حين توفي -صلى الله عليه وسلم- فوجدته قد رفع, قال الشامي: ولا أخًا له صحيحًا, "ولما توفي -عليه الصلاة والسلام- قالت فاطمة: يا أبتاه" أصله يا أبي، والفوقية بدل من التحتية، والألف للندبة والهاء للسكت, "أجاب ربًّا دعاه" إلى حضرته القدسية, "يا أبتاه, مَنْ جنة الفردوس" بفتح ميم من مبتدأ والخبر قوله: "مأواه" منزله، وحكى الطيبي عن نسخة من المصابيح: كسر الميم على نها حرف جر، قال: والأولى أَوْلَى. انتهى.
وعلى الثاني: فمن للتبعيض، أي: بعض جنة الفردوس, خبر لقوله: مأواه, "يا أبتاه مَنْ إلى جبريل ننعاه -بفتح النون الأولى وسكون الثانية- وإلى جاره.
"رواه البخاري" عن أنس من أفراده, "قال الحافظ ابن حجر: قد قيل: الصواب إلي" بشد ياء المتكلم "جبريل" بالرفع فاعل, "نعاه" أخبر بموته, جزم بذلك سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان، قال" الحافظ: "والأول متوجّه" أي: له وجه, هو أنه لا يلزم أن الإخبار بالموت إنما يكون لغير العالم به, بلقد يذكر للعالم به تأسفًا على ما فقده من خصاله المحمودة, وتذكيرًا لما بينهما من المحبة والوصلة, "فلا معنى لتغليط الرواة بالظنّ، وزاد الطبراني" والإسماعيلي: "يا أبتاه, مِنْ ربه ما أدناه" ما أقربه.(12/145)
وقد عاشت فاطمة -رضي الله عنها- بعده -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر, فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها ذلك.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويًا
وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قُبِضَ -صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وامحمداه. الحديث.
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة
وفي سنن ابن ماجه: إنه -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه: "أيها الناس، إن أحدًا من الناس، أو من المؤمنين, أصيب بمصيبة فليعز بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي".
وقال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول: يا عبد الله، اتق الله، فإن في رسول الله أسوة حسنة. ويعجبني قول
__________
قال الحافظ: يؤخذ منه أنَّ تلك الألفاظ إذا كان الميت متصفًا بها أنه لا يمنع ذكره بها بعد موته, بخلاف ما إذا كانت فيه ظاهرًا, وهو في الباطن بخلافه, أولًا: يتحقق اتصافه بها فتدخل في المنع, "وقد عاشت فاطمة بعده -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر، فما ضحكت تلك المدة وحُقَّ لها" بضم الحاء "ذلك" أي: عدم الضحك، وأنشد بيتًا لغيره.
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
أي: على هجرها له مصرًّا, جاز ما به "وأخرج أبو نعيم عن علي قال: لما قبض -صلى الله عليه وسلم- صعد ملك الموت باكيًا إلى السماء، والذي بعثه بالحق نبيًّا, لقد سمعت صوتًا من السماء ينادي: وا محمداه.... الحديث. كل المصائب تهون" تسهل "عند هذه المصيبة؛ " إذ لا يساويها شيء, "وفي سنن ابن ماجه" عن عائشة "أنه -صلى الله عليه وسلم- قال في مرضه" الذي توفي فيه: "أيها الناس, إن أحدًا" وفي رواية: "إيما أحد من الناس أو من المؤمنين" شك الراوي, "أصيب بمصيبة فليتعزّ" يتصبر "بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي" أي: مصيبته بي, "وقال أبو الجوزاء" بجيم وزاي- أوس بن عبد الله الربعي -بفتح الموحدة- البصري، التابعي الثقة.
"كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته المصيبة جاءه أخوه" في الإسلام "فصافحه، ويقول: يا عبد الله اتق الله" واصبر على ما أصابك, "فإن في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة،(12/146)
القائل:
اصبر لكل مصيبة وتجلّد ... واعلم بأن المرء غير مخلّد
واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجَّى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
ويرحم القائل:
تذكرت لما فرّق الدهر بيننا ... فعزَّيت نفسي بالنبي محمد
وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد
كادت الجمادات تتصدّع من ألم مفارقته -صلى الله عليه وسلم, فكيف بقلوب المؤمنين؟ ولما فقده الجذع الذي كان يخطب إليه قبل اتخاذ المنبر حَنَّ إليه وصاح. كان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
وروي أن بلالًا لما كان يؤذن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم- وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب. فلما دُفِنَ ترك بلال الأذان.
__________
ويعجبني قول القائل:
اصبر لكل مصيبة وتجلّد ... واعلم بأن المرء غير مخلّد
واصبر كما صبر الكرام فإنها ... نوب تنوب اليوم تكشف في غد
وإذا أتتك مصيبة تشجّى بها ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
تشجّى بفتح التاء وسكون المعجمة- تحزن بها "ويرحم الله القائل".
تذكرت لما فرَّق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد
وقلت لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد
"كادت" قاربت: "الجمادات تتصدع" تنشق "من ألم مفارقته -صلى الله عليه وسلم" مستأنف لقصد الإخبار بالجزع عليه لكل موجود حتى لغير الحيوانات, "فكيف بقلوب المؤمنين، ولما فقده الجذع" واحد جذوع- النخل "الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حنَّ إليه وصاح" صوت حتى نزل إليه والتزمه ومرَّت قصته, "كان الحسن" البصري "إذا حدَّث بهذا الحديث بكى وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم, فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه" لأنكم عقلاء.
"وروي أن بلالًَا لما كان يؤذّن بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم, وقبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله, ارتجَّ" بشد الجيم "المسجد", أي: أهله، أي: تحركوا واضطربوا "بالبكاء والنحيب،(12/147)
ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب, خصوصًا من كان رؤيته حياة الألباب.
لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد
قد حمَّلوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد
وقد كانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين بلا خلاف، وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتدّ الضحاء، ودفن يوم الثلاثاء، وقيل: ليلة الأربعاء.
فعند ابن سعد في الطبقات، عن علي: توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين، ودُفِنَ يوم الثلاثاء، وعنده أيضًا عن عكرمة: توفي يوم الإثنين، فحُبِسَ بقية يومه وليلته، ومن الغد حتى دفن من الليل، وعنده أيضًا: عن عثمان بن محمد الأخنسي: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس, ودفن يوم الأربعاء، وروي أيضًا عن أبيّ بن
__________
فلمَّا دُفِنَ ترك بلال الأذان. ما أمرَّ عيش من فارق الأحباب, خصوصًا من كانت رؤيته حياة الألباب: العقول، وأنشد:
لو ذاق طعم الفراق رضوى ... لكان من وجده يميد
قد حملوني عذاب شوق ... يعجز عن حمله الحديد
رضوى -بفتح الراء- جبل بالمدينة, ويميد: يتحرك "وقد كانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين بلا خلاف, وقت دخوله المدينة في هجرته, حين اشتدَّ الضحاء" بالفتح والمد قرب الزوال, "ودفن يوم الثلاثاء، وقيل:" دفن "ليلة الأربعاء", فعند ابن سعد في الطبقات عن علي قال: "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم الإثنين", وهذا مروي في الصحيح عن عائشة وأنس, "ودفن يوم الثلاثاء".
وكان رواه ابن سعد عن ابن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن, وزعم ابن كثير أنه قول غريب, وعنه أي: ابن سعد "أيضًا عن عكرمة" أنه -صلى الله عليه وسلم- توفي يوم الإثنين فحُبِسَ" أي: منع من الدفن بقية يومه وليلته "التالية له, "ومن الغد" أي: يوم الثلاثاء, حتى دفن من الليل أي: ليلة الأربعاء وزعم ابن كثير أن هذا قول الجمهور, "وعنده" أي: ابن سعد أيضًا عن عثمان بن محمد" بن المغيرة بن الأخنس "الأخنسي" بخاء معجمة ونون ومهملة- نسبة إلى جده المذكور, الثقفي الحجازي، صدوق, له أوهام.
روى له الأربعة, "توفي يوم الإثنين حين زاغت:" مالت "الشمس، ودفن يوم الأربعاء" ويأتي مثله عن سهل بن سعد، فحاصل الخلاف هل دفن يوم الثلاثاء أو ليلة الأربعاء أو يوم الأربعاء، ويمكن الجمع على تقدير صحة الكل بالتجوّز في دفن يوم الثلاثاء على أنَّ معناه شرع(12/148)
عباس بن سهل عن أبيه عن جده: توفي يوم الإثنين، فمكث بقية يوم الإثنين والثلاثاء حتى دُفِنَ يوم الأربعاء. وعنده أيضًا, عن صالح بن كيسان, عن ابن شهاب: توفي يوم الإثنين حين زاغت الشمس.
ورثته عمَّته صفية بمراثي كثيرة منها قولها:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا ... وكنت بنا برًّا ولم تك جافيا
وكنت رحيمًا هاديًا ومعلمًا ... ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده ... ولكن لما أخشى من الهجر آتيا
كأن على قلبي لذكر محمد ... وما خفت من بعد النبي المكاويا
أفاطم صلى الله رب محمد ...
__________
في دفنه في يوم ثم تأخر لاختلافهما في المحل الذي يدفن فيه وهل يجعل له لحد أو شق، وطول الزمن بصلاتهم عليه فوجا بعد فوج حتى دفن ليلة الأربعاء، وبالتجوز في قوله: يوم الأربعاء على أن معناه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء والعلم لله.
"وروي" ابن سعد "أيضا عن أبي" بضم الهمزة وموحدة وتحتية ثقيلة "ابن عباس بن "سهل" بن سعد الأنصاري، الساعدي فيه ضعف ماله في البخاري غيرحديث واحد تقدم في الحيل النبوية وروى له الترمذي وابن ماجه "عن أبيه عباس الثقة.
روى له الشيخان وغيرهما "عن جده" الصحابي المشهور، قال: "توفي" صلى الله عليه وسلم "يوم الاثنين، فمكث يوم الانين والثلاثاء حتى دفن يوم الأربعاء وعنده" أي: ابن سعد "أيضا عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب، قال: توفي يوم الاثنين حين زاغت" بمعجمتين، أي مالت "الشمس" للزوال "ورثته عمته صفية بمراثي كثيرة، منها قولها:" لكن هذا إنما نسبه ابن سعد وغيره لأختها أروي بنت عبد المطلب: "ألا يا رسول الله كنت رجاءنا" بالمد "وكنت بنا برا" محسنا رفيقا "ولم تك جافيا" معرضا عنا، أو طاردا لنا "وكنت رحيما" بالخلق "هاديا ومعلما" لهم "لبيك عليك اليوم من كان باكيا" فلا لوم عليه "لعمرك" حياتك "ما أبكى النبي لفقده" أي: لمجرده "ولكنني لما أخشى من الهجر آتيا" مفعول أخشى قدم عليه متعلقة "كأن على قلبي لذكر محمد وما خفت" عطف على ذكر، أي ولما خفته من بعد النبي" من الذل والاختلاف وتغير الأحوال "المكاويا:" اسم كان مؤخر جمع مكواه وهي الحديدة التي يحرق بها الجلد ونحوه.
والمعنى: كأن على قلبي نيرانا من أثر المكاوي التي أحرقته لذكر محمد، وفي نسخة: المقاليا "أفاطم" بضم الميم وفتحها على لغة من ينتظر ومن لا "صلى الله رب محمد، على(12/149)