بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا، لا سيما إن دعا بالأدعية التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم.
ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما ينوب الإنسان.
وأما الرقى فاعلم أن الرقي بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى، هو الطب الروحاني، إذا كان على لسان الأبرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله
__________
عدم العود، "والاستغفار والصدقة وألح في المسألة" لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" رواه الطبراني وغيره.
"وأكثر التملق والدعاء والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، والتوجه إليه بنبيه صلى الله عليه وسلم، فإن هذا الدعاء لا يكاد يرد أبدًا" لجمع شروط الدعاء وآدابه، "لا سيما إن دعا بالأدعية التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها مظنة الإجابة، أو أنها متضمنة للاسم الأعظم" كدعوة ذي النون، والله لا إله إلا هو الحي القيوم، "ولا خلاف في مشروعية الفزع إلى الله تعالى والالتجاء إليه في كل ما ينوب الإنسان" بشرط غلبة ظن الإجابة، بحيث تكون أغلب على القلب من الرد؛ لأن الداعي إذا لم يكن جازمًا، لم يكن رجاؤه صادقًا، وإذا لم يصدق الرجاء لم يخلص الدعاء؛ إذ الرجاء هو الباعث على الطلب، ولا يتحقق الفزع بدون تحقق الأصل، ولأن الداعي إذا لم يدع الله على يقين أنه يجيبه، فعدم إجابته إما لعجز المدعو، أو نحله، أو عدم علمه بالابتهال، وذلك كله على الحق تقد محال، ولذا قال: ادعو الله وأنتم موقنون بالإجابة.
قال الكمال بن الهمام: ما تعارفه الناس في هذه الأزمان من التمطيط والمبالغة في الصياح، والاشتغال بتحرير النغم إظهارًا للصناعة النغمية، لا إقامة للعبودية، فإنه لا يقتضي الإجابة، بل هو من مقتضيات الرد، وهذا معلوم أن قصده إعجاب الناس به، فكأنه يقول: اعجبوا من حسن صوتي وتحريري، ولا أرى أن تحرير النغم في الدعاء، كما يفعله قراء هذا الزمان يصدر ممن فهم معنى الدعاء، والسؤال، وما ذاك إلا نوع لعب، فإنه لو قدر في الشاهد سائل حاجة من ملك أدى سؤاله مطلبه، بتحرير النغم من رفع وخفض وتطريب وترجيح، كالتغني نسب البتة إلى قصد السخرية واللعب؛ إذ مقام طلب الحاجة التضرع لا التغني، فاستبان أن ذلك من مقتضيات الخيبة والحرمان. انتهى.
"وأما الرقى" "بضم الراء وفتح القاف جمع رقية اسم للمرة من التعويذ"، "فاعلم أن الرقي" "بفتح الراء وسكون القاف مصدر رقي، أي التعويذ، ويصح ضم الراء وفتح القاف"، بتقدير أن الرقي الحاصلة "بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا(9/374)
تعالى، لكن لما عز هذا النوع، فزع الناس إلى الطب الجسماني.
وفي البخاري، من حديث عائشة، أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات وهي الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب، أو المراد الفلق والناس.
وكذلك كل ما ورد التعويذ في القرآن، كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين} [المؤمنون: 97] .
وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث ابن مسعود: أن رسول
__________
كان على لسان الأبرار" جمع بر، وهو الصادق، أو المتقي "من الخلق" بأن يصدر منهم قراءة أو كتابة، "حصل الشفاء بإذن الله تعالى، لكن لما هذا النوع" أي: قل لقلة أهله "فزع" "بفتح الزاي وكسرها، أي لجأ" "الناس إلى الطب الجسماني" بالأدوية.
"وفي البخاري" ومسلم، كلاهما في الطب "من حديث عائشة: أنه صلى الله عليه وسلم كان ينفث" "بضم الفاء وكسرها بعدها مثلثة، أي ينفخ نفخًا لطيفًا أقل من النقل" "على نفسه في المرض الذي مات فيه" كالمرض الذي قبله، فاستمر ذلك ولم ينسخ "بالمعوذات" "بكسر الواو".
قال عياض: فائدة النفث التبرك بتلك الرطوبة، أو الهواء الذي ماسه الذكر، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وفيه تفاؤل بزوال الألم وانفصاله، كانفصال ذلك النفث.
وبقية الحديث: فلما ثقل كنت أنفث عليه بهن، أمسح بيد نفسه لبركتها، فسألت الزهري كيف ينفث؟ قال: كان ينفث على يديه، ثم يمسح بهما وجهه، وقائل: سألت معمرًا، راوية عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال بعضهم: لعله صلى الله عليه وسلم لما علم أنه آخر مرضه، وارتحاله عن قرب ترك ذلك، "وهي" أي المعوذات "الفلق والناس والإخلاص، فيكون من باب التغليب" أي أطلق على الإخلاص اسم التعويذ لوقوعها مع المعوذتين، "أو المراد القلق والناس" فقط، إما مجازًا من باب تسمية الجزء باسم الكل، أو بناء على أن أقل الجمع اثنان، وفي أنه حقيقي أو مجازي، كالتغليب قولان: وقد روى ابن خزيمة وابن حبان وابن عبد البر، عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى قرأ على نفسه بقل هو الله أحد والمعوذتين، وهذا يرجح أو يقنن التغليب، ولذا قال الحافظ المعتمد؛ أنه تغليب، لا لأن أقل الجمع اثنان، أو باعتبار أن المراد الكلمات التي يتعوذ بها من السورتين، "وكذلك كل ما ورد من التعويذ في القرآن" فإنه من الطب الروحاني، "كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين} [المؤمنون: 97] ، نزغاتهم مما يوسوسون به.
"وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث" عبد الرحمن بن حرملة، عن(9/375)
الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقي إلا بالمعوذات، ففي سنده عبد الرحمن بن حرملة، قال البخاري: لا يصح حديثه. على تقدير صحته فهو منسوخ بالإذن في الرقية بالفاتحة.
وأما حديث أبي سعيد عند النسائي: كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فأخذ بهما وترك ما سواهما، وحسنه الترمذي، فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية، ولا سيما مع
__________
"ابن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال، فذكر منها الرقي إلا بالمعوذات، ففي سنده عبد الرحمن بن حرملة" بن عمرو الأسلمي، المدني، مات سنة خمس وأربعين ومائة.
"قال البخاري: لا يصح حديثه" فلا يرد على قولنا: وكذلك كل ما ورد من التعويذ في القرآن، "وعلى تقدير صحته" لأن مسلمًا روى له، كأصحاب السنن الأربعة.
وفي التقريب: أنه صدوق، ربما أخطأ، "فهو منسوخ بالإذن في الرقية بالفاتحة" أي إقرار الذي رقي بها على ذلك، وقوله: "وما يدريك أنها رقية، خذوها"، أي الشياه "واضربوا لي معكم بسهم"، كما في الصحيحين.
هذا ولفظ الحديث عند من عزاه لهم لتكميل الفائدة، عن ابن مسعود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره عشر خصال: الصفرة، وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب، والتبرج بالزينة لغير محلها، والضرب بالكعاب، والرقى إلا بالمعوذات، وعقد التمائم، وعزل الماء لغير محله، وفساد الصبي غير محرمه، والصفرة الخلوق بالزعفران، والتبرج، أي تبرج النساء في غير محلها "بفتح الحاء وتكسر" وهو تزين المرأة لزوجها، والكعاب: جمع كعب، وهو فصوص النرد، وعزل الماء، قال الخطابي: هو أن يعزل الرجل ماءه عن فرج المرأة، وهو محل الماء.
قال في النهاية: وفيه التعريض بإتيان الدبر، وفساد الصبي، أي فطمه قبل أوانه، أو وطء المرضع، فيعرضها للحمل، فيفسد الصبي، وربما قطع اللبن بحملها، وغير محرمه معناه لم يبلغ بالكراهة. التحريم عائد إلى فساد الصبي فقط.
"وأما حديث أبي سعيد عند النسائي" والترمذي وابن ماجه: "كان صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان" أي يقول أعوذ بالله من الجان، كما جزم به بعض الشراح، "وعين الإنسان" من ناس ينوس إذا تحرك، وذلك يشترك فيه الإنس والجن، وعين كل ناظر، "حتى نزلت المعوذتان" الفلق والناس، "فأخذ بهما وترك ما سواهما".
"وحسنه الترمذي" فقال: حسن غريب، وصححه الضياء في المختارة، "فلا يدل على المنع من التعوذ بغير هاتين السورتين، بل على الأولوية" أي أن التعوذ بهما أولى من التعوذ(9/376)
ثبوت التعوذ بغيرهما. وإنما اجتزأ بهما لما اشتملنا عليه من جوامع الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلًا.
وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط:
- أن تكون بكلام الله تعالى، أو بأسمائه وصفاته.
- وباللسان العربي أو بما يعرف معناه من غيره.
- وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى.
__________
بغيرهما، "ولا سيما مع ثبوت التعوذ بغيرهما" هكذا قاله الحافظ: يعني من القرآن وغيره، وقال غيره: وترك ما سواهما مما كان يتعوذ به من الكلام غير القرآن، لما ثبت أنه كان يرقي بالفاتحة تارة، وبالمعوذتين أخرى، وكلام الحافظ أحسن، "وإنما اجتزأ بهما" "بجيم، ثم زاي فألف"، أي اكتفى بهما، لكونهما كافيتين عما سواهما، كما أرشد إلى ذلك، بقوله: "لما اشتملنا عليه من جوامع الاستعاذة" فهذه النسخة مساوية لنسخة اختارهما، أي قدمهما ورجحهما على غيرهما، وليس المراد على الأولى؛ أنه اكتفى بهما وإن لم يكونا كافيتين، بدليل السياق والتعليل، "من كل مكروه جملة وتفصيلًا" إذ الاستعاذة من شر ما خلق تعم كل شر يستعاذ منه في الأشباح والأرواح، والاستعاذة من شر الغاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم، أو القمر إذا غاب تتضمن الاستعاذة من شر ما انتشر فيه من الأرواح الخبيثة، والاستعاذة من شر النفاثات تتضمن الاستعاذة من شر السواحر وسحرهن، ومن شر حاسد تتضمن الاستعاذة من شر النفوس الخبيثة المؤذية.
والسورة الثانية تتضمن الاستعاذة من شر الإنس والجن، المشار له بقوله الوسواس، أي الذي يوسوس للآدمي عند غفلته عن ذكر الله، الخناس: الذي يخنس عند ذكر الله، من الجنة والناس، بيان للشيطان الموسوس أنه جني وإنسي، لقوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِن} [الأنعام: 122] ، أو من الجنة، بيان له، والناس عطف على الوسواس، واعترض الأول؛ بأن الناس، لا يوسوسون في صدور الناس إنما يوسوس في صدورهم الجن.
وأجيب بأن الناس يوسوسون أيضًا بمعنى يليق بهم في الظاهر، ثم تصل وسوستهم إلى القلب، وتثبت فيه بالطريق المؤدي إلى ذلك.
"وقد أجمع العلماء على جواز الرقي عند اجتماع ثلاثة شروط" الأول: "أن تكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه وصفاته، و" الثاني: أن تكون "باللسان العربي" ولم يقيده بما يفهم معناه؛ لأن الغالب على لسان العرب فهمه لمستعمله، "أو بما يعرف معناه من غيره" لا من لا يعرف، لجواز كونه شركًا، "و" الثالث: "أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل بتقدير الله(9/377)
واختلفوا في كونها شرطًا، والراجح أنه لا بد من اعتبارها.
وفي صحيح مسلم من وحديث عوف بن مالك: قال كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف ترى في ذلك؟ فقال: "عرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقي إذا لم يكن فيه شرك".
وله من حديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي، فجاء آل عمرو بن
__________
تعالى"، وهذا الشرط لا بد منه للجواز، فإن انتفى لم يجز، بل ربما جر إلى الكفر، "واختلفوا في كونها" أي اجتماع الثلاثة "شرطًا" ليحصل المقصود بها أولًا "والراجح أنه لا بد من اعتبارها" ليحصل المقصود؛ لأنه عند انتفائها قد يحصل، وقد لا يحصل، وهو الغالب، هكذا قال في الحاشية، وقال في تقريره قوله: وأجمعوا يخالف قوله، واختلفوا إلا أن يؤول؛ بأن معناه شرطًا في الجواز، كما دل عليه قوله بعد، والشرط الثالث لا بد منه، أي للجواز، فالثلاثة لحصول القصد، ولكن الثالث للجواز أيضًا، فإذا انتفى انتفى الجواز، بل ربما جر إلى الكفر. انتهى، وفيه شيء مع قوله: أجمعوا على جواز.
"وفي صحيح مسلم" وأبي داود "من حديث عوف بن مالك" الأشجعي، صحابي مشهور من مسلمة الفتح وسكن دمشق ومات سنة ثلاث وسبعين، "قال: كنا نرقي" "بفتح النون وسكون الراء" "في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله كيف ترى" لنا "في ذلك" أنفعله أم نتركه؟ وفيه استفهام العالم عما جهل حكمه، "فقال: اعرضوا" "بكسر الهمزة والراء بينهما عين مهملة ساكنة" وهي همزة وصل تسقط في الدرج وتثبت في الابتداء مكسورة، أي أبرزوا "على رقاكم" لأني العالم الأكبر، المتلقي عن معلم العلماء ومفهم الحكماء ومفهم الحكماء، فلما عرضوها عليه، قال: "لا بأس بالرقي"، أي جائزة "إذا لم يكن فيه" أي فيما رقي به "شرك" أي شيء يوجب اعتقاده الكفر، أو شيء من كلام أهل الشرك، الذي لا يوافق أصول الإسلام، ولذا منع الرقي بالسرياني والعبراني، ونحوهما مما جهل معناه خوف الوقوع في ذلك، وفيه أن على المفتي أن يسأل المستفتي عما أبهمه في السؤال قبل الجواب، وجواز الرقي بما لا ضرر فيه، وإن كان بغير أسماء الله وكلامه، لكن إذا فهم معناه، والحث على السعي في إزالة المرض والضرر عن المسلمين بكل ممكن جائز.
"وله" أي لمسلم بمعنى روى أيضًا "من حديث جابر" بن عبد الله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرقي" خوف الوقوع في محذور، فجاء آل عمرو بن حزم بن يزيد الأنصاري، الصحابي المشهور، قال في مقدمة الفتح، وفي موطأ ابن وهب التصريح بعبارة بن حزم من آل عمرو،(9/378)
حزم بن يزيد الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله، إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، قال: "اعرضوها علي"، قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بأسًا، من استطاع أن ينفع أخاه فلينفعه".
وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك فإنه يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطًا. والشرط الأخير لا بد منه.
__________
"فقالوا: يا رسول الله إنه" أي الشأن والحال، "كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب" وإنك نهيت عن الرقي.
هذا سقط من قلم المصنف، وهو في مسلم وغيره، قال النووي: أجاب العلماء عنه بأجوبة، أحدها كان نهي أول، ثم نسخ ذلك وأذن فيها، وفعلها واستقر الشرع على الإذن، والثاني: أن النهي عن الرقي المجهولة، والثالث: أن النهي كان لقوم يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها، كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة، "قال: "اعرضوها علي" قال: فعرضوا عليه" الرقية التي كانوا يرقون بها، "فقال: "ما أرى بأسًا من استطاع" منكم "أن ينفع أخاه" من الدين، "فلينفعه" ندبًا مؤكدًا، وقد يجب في بعض الصور، وحذف المنتفع به لإرادة التعميم فيشمل كل ما ينتفع به من رقية، أو علم، أو جاه، أو مال، أو نحو ذلك.
فقول الفردوس: يعني بالرقية فيه نظر، وفيه قوله منكم الساقطة من قلم المصنف، إشارة إلى أن نفع الكافر أخاه بنحو صدقة عليه لا يثاب عليه في الآخرة، وهو ما عليه جمع، والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة.
وفي رواية لمسلم أيضًا عن جابر قال: لدغت رجلًا منا عقرب ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله أرقى، فقال: "من استطاع"، فذكره.
قال التوربشتي: كأن السائل عرف أن من حق الإيمان اعتقاد أن المقدور كائن لا محالة، ووجد الشرع يرخص في الاسترقاء ويأمر بالتداوي وبالاتقاء عن مواطن المهلكات، فأشكل عليه الأمر، كما أشكل على الصحب حين أخبروا أن الكتاب يسبق على الرجل، فقالوا: ففيم العمل، "وقد تمسك قوم بهذا العموم، فأجازوا كل رقية جربت منفعتها، ولو لم يعقل معناها" لأن نفعها يبعدها عن التأدية إلى الشرك، "لكن دل حديث عوف" المذكور؛ على "أنه مهما كان من الرقي يؤدي إلى الشرك فإنه يمنع، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطًا" ولو جربت منفعتها، "والشرط الأخير" هو أن يعتقد أنها لا تؤثر بذاتها "لا بد منه".(9/379)
وقال قوم: لا يجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين: لا رقية إلا من عين أو حمة.
وأجيب: بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية، فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل أو مس أو نحو ذلك؛ لاشتراكهما في كونهما ينشأان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، يلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية. وقد وقع عند أبي داود من حديث أنس مثل حديث عمران وزاد: أو دم، وفي مسلم من حديث أنس أيضًا رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
__________
فإن اعتقد أن تأثيرها بذاتها لم يجز الرقي بها، بل ربما أدت إلى الكفر.
"وقال قوم: لا يجوز الرقية إلا من العين واللدغة، لحديث عمران بن حصين" عند البخاري موقوفًا: "لا رقية إلا من عين" يصيب العائن بها غيره إذا استحسنه عند رؤيته، "أو حمة" "بضم الحاء المهملة وخفة الميم".
قال في النهاية: وقد تشد، وأنكره الأزهري، وهي السم، وتطلق على إبرة العقرب للمجاورة؛ لأن السم يخرج منها، وأصلها حمو أو حمى بوزن صرد والهاء فيه عوض عن الواو المحذوفة أو الياء.
وقال الخطابي: الحمة اسم ذوات السموم، وقد تسمى إبرة العقرب، والزنبور حمة؛ لأنها مجرى الشم، وكذا رواه مسلم عن بريدة بن الحصيب موقوفًا عليه، لكن رواه أبو داود، وصححه الحاكم من حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
"وأجيب؛ بأن معنى الحصر فيه؛ أنهما أصل كل ما يحتاج إلى الرقية" من الأمراض والأوجاع، لورود الرقية في ذلك، "فيلتحق بالعين جواز رقية من به خبل" "بفتح الخاء المعجمة وسكون الموحدة" جنون، وشبهه كالهوج والبله والخبل "بفتح الباء أيضًا" الجنون، كما في المصباح، "أو مس" من جن غير عقله، وصيره كالمجنون، "أو نحو ذلك؛ لاشتراكهما في كونهما ينشأان عن أحوال شيطانية من إنس أو جن، ويلتحق بالسم" الحاصل من لدغة العقرب "كل ما عرض للبدن من قرح" "بفتح القاف وضمها"، "ونحوه من المواد السمية" فتطلب الرقية من ذلك كله.
"وقد وقع عند أبي داود" وصححه الحاكم "من حديث أنس" عن النبي صلى الله عليه وسلم "مثل حديث عمران" الموقوف عله، "وزاد" من حديث أنس: "أو دم" لا يرقأ، هذا بقيته عند أبي داود، فبان بهذه الزيادة أن الحصر ليس بمراد.
"وفي مسلم من حديث أنس أيضًا: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين(9/380)
الرقية من العين والحمة والنملة وفي حديث آخر والأذن، ولأبي داود من حديث الشفاء بنت عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا تعلمين هذه -يعني حفصة- رقية النملة"؟.
والنملة: قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد.
وقيل: المراد بالحصر يعني الأفضل، أي لا رقية أنفع، كما قيل: لا سيف أقطع إلا ذو الفقار.
__________
والحمة والنملة" فزيادة النملة تعطي أن الحصر ليس بحقيقي.
"وفي حديث آخر: والأذن" أي وجع الأذن، فهذه ثلاث، ورد النص عليها الدم والنملة والأذن، فليس الحصر بمراد، "ولأبي داود من حديث الشفاء" بكسر الشين المعجمة وتخفيف الفاء والمد"، كما قاله ابن الأثير وغيره، وضبطها ابن نقطة وغيره بالقصر، وهو المعتمد "بنت عبد الله" بن عبد شمس القرشية العدوية، لها أحاديث، وهي غير الشفاء بنت عوف التي حضرت ولادته صلى الله عليه وسلم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" لها: "ألا تعلمين هذه -يعني حفصة-" بنت عمر أم المؤمنين، "رقية النملة" فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدًا، اللهم اكشف الباس رب الناس، ترقي بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانًا نظيفًا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق، وتطليه على النملة، ذكر المصنف فيما يأتي.
وفي النهاية قيل: إن هذا الكلام لعب وممازحة، كقوله للعجوز: "لن يدخل الجنة عجوز"، وذلك أن رقية النملة شيء كانت تستعمله النساء، يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع، ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال: العروس تحتفل وتختضب وتكتحل، وكل شيء تفتعل، غير أن لا تعصي الرجل، فأراد صلى الله عليه وسلم بهذا المقال: تأبين حفصة؛ لأنه ألقى إليها سرًّا، فأفشته. انتهى.
"والنملة" "بفتح النون" وإسكان الميم "قروح تخرج في الجنب وغيره من الجسد" كالساق، سمي بذلك لأن صاحبه يحس ف مكانه، كأن نملة تدب عليه وتعضه، وقال الخطابي: هي قروح تخرج في الجنبين، ويقال: إنها قد تخرج في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله تعالى.
"وقيل: المراد بالحصر" في حديث، لا رقية إلا من عين أو حمة، "يعني الأفضل، أي لا رقية أنفع" ولا أولى من رقية هذين، لما فيهما من زيادة الضرر، "كما قيل" في شرح خبر: لا سيف إلا ذو الفقار، الذي أخرجه الحسن بن عرفة عن أبي جعفر الباقر، قال: نادى ملك من السماء يوم بدر: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي؛ أن معناه: "لا سيف أقطع إلا ذو(9/381)
وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما.
وروى أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم عن ابن مسعود: "رفعه إن الرقى والتمائم والتولة شرك".
والتمائم: جمع تميمية وهي خرزة أو قلادة تعلق في الرأس، كانوا في الجاهلية يعتقدون أن ذلك يدفع الآفات.
والتولة: بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها، وهو ضرب من السحر.
وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند
__________
الفقار" اسم لأحد أسيافه صلى الله عليه وسلم، فلا ينافي أن السيوف كثيرة، وفي نسخة: بحذف أقطع، ولعلها لا تصح لقوله: كما قيل: نعم. لو قال كما في خبر لتعين حذفها.
"وقال قوم، المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء" لئلا يقع به فيسيء اعتقاده، ولأنها طب روحاني، وأطباء الأدوية الجسمانية ينهون عن استعمال الدواء بلا مرض، "والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما" وله وجه.
"وروى أبو داود وابن ماجه" والإمام أحمد، "وصححه الحاكم" وأقره الذهبي "عن ابن مسعود، رفعه: "إن الرقى والتمائم" "بفوقية فميمين بينهما همزة"، "والتولة" "بكسر التاء وضمها" "شرك" أي: من الشرك سماها شركًا؛ لأن المتعارف منها في عهده ما كان معهودًا في الجاهلية، وكان مشتملًا على ما يتضمن الشرك، ولأن اتخاذها يدل على اعتقاد تأثيرها ويفضي إلى الشرك، قاله البيضاوي، وقال الطيبي: المراد بالشرك اعتقاد أن ذلك سبب قوي وله تأثير، وذلك ينافي التوكل والانخراط في زمرة الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
"والتمائم: جمع تميه، وهي" في الأصل "خرزوة أو قلادة تعلق في الرأس" للأولاد لدفع العين، ثم توسعوا فيها، فسموا بها كل عوذة، "كانوا في الجاهلية يعتقون أن ذلك يدفع الآفات" بذاته، فلذا أطلق عليه اسم الشرك.
"والتولة بكسر المثناة" الفوقية وضمها كما في ابن رسلان "وفتح الواو واللام مخففًا، شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها" إليها، "وهو ضرب من السحر".
وفي القاموس: التولة: كهمزة السحر، أو شبهة وخرزة تحبب معها المرأة إلى زوجها، كالتولة، كعنبة فيهما، "وإنما كان ذلك من الشرك؛ لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع(9/382)
غير الله، ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه. فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولا خلاف في مشروعية الفزع واللجا إليه سبحانه وتعالى، في كل ما وقع وما يتوقع.
وقال بعضهم: المنهي عنه من الرقى هو الذي يستعمله المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي له بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها بالطبع لبني آدم تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك.
وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة.
__________
من عند غير الله" وهكذا كان اعتقادهم، "ولا يدخل في ذلك ما كان بأسماء الله وكلامه" ولا من عقلها تبركًا بذكر الله، عالمًا لا أنه لا كاشف إلا الله، "فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك قبل وقوعه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى" ففيه رد على القوم الذين حملوا النهي على ما قبل الوقوع، "ولا خلاف في مشروعية الفزع واللجا" عطف تفسير إليه سبحانه وتعالى في كل ما وقع وما يتوقع" فهذا الاتفاق يرد أيضًا على أولئك القوم.
"وقال بعضهم: المنهي عنه من الرقي هو الذي يستعمله المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي له بأمور مشتبهة مركبة من حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه" يخلطه المعزم وغيره "من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم" عتاتهم الخارجين عن الطاعة، "ويقال: إن الحية لعداوتها بالطبع لبني آدم تصادق الشياطين، لكونهم أعداء بني آدم فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين، أجابت وخرجت من مكانها، وكذلك اللديغ إذا رقي بتلك الأسماء" أي أسماء الشياطين "سالت سمومها من بدن الإنسان، فلذلك كره من الرقي ما لم يكن بذكر الله وأمائه، خاصة" وكتابه من ذكر "وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئًا من شوب الشرك، وعلى كراهة الرقي بغير كتاب الله علماء الأمة" يريد وبغير أسمائه وذكره.(9/383)
وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية؛ مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى شرك.
والثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز، فإن كان مأثورًا فيستحب.
والثالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله تعالى.
وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله، وبما يعرف من ذكر الله، فقلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال: نعم إذا رقوا بما تعرف من كتاب الله وذكر الله.
وفي الموطأ: أن أبا بكر قال لليهودية التي كان ترقي عائشة: أرقيها
__________
"وقال القرطبي: الرقي ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان يرقى به في الجاهلية؛ مما لا يعقل معناه، فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى شرك، والثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز" اتفاقًا، "فإن كان مأثورًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه، "فيستحب" فعله، "والثالث: ما كان بأسماء غير الله تعالى من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات. كالعرش".
"قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه، ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله تعالى به والتبرك بأسمائه، فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقي به" كأن وصفه بأوصافه تقتضي تعظيمه حتى استحق أن يتبرك به، ويجعل ذكره سببًا لشفاء المريض، "فينبغي أن يجتنب، كالحلف بغير الله تعالى" المختلف في كراهته وحرمته.
"وقال الربيع" بين سليمان: "سألت الشافعي عن الرقية، فقال: لا بأس أن يرقى بكتاب الله وبما يعرف من ذكر الله، فقلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين، قال: نعم إذا رقوا بما تعرف" "بفتح التاء وكسر الراء" يا ربيع "وبضم التاء فتح الراء" صفة لما، أي برقية تعرف "وبتحتية مبني للمفعول" "من كتاب الله" لعل المراد به ما يعظمونه، كغير المبدل من التوراة والإنجيل، ويحتمل العموم، ويقيد واز تمكينهم من القرآن بمن رجي إسلامه منهم.
قال شيخنا: "وذكر الله" تعالى، "وفي الموطأ" في كتاب الجامع، عن يحيى بن سعيد(9/384)
بكتاب الله. قال النووي وقال القاضي عياض: واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم، بالجواز قال الشافعي والله أعلم.
وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم، رقية الذي يصاف بالعين.
روى مسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين".
أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت موجود، وهو من جملة ما تحقق كونه.
قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث، وأنكره طوائف من المبتدعة
__________
الأنصاري، عن عمرة بنت عبد الرحمن؛ "أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقي عائشة" لفظه: أن أبا بكر الصديق دخل على عائشة وهي تشتكي ويهودية ترقيها، فقال أبو بكر: "أرقيها بكتاب الله" القرآن والتوراة إن كانت معربة بالعربي، أو أمن تغييرهم لها.
"قال النووي: وقال القاضي عياض، واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني المسلم" بالجواز وعدمه، "وبالجواز قال الشافعي، والله أعلم" بالصواب من القولين، "وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط، والذي يكتب خاتم سليمان، وقال: لم يكن ذلك من أمر الناس القديم" تعليل للكراهة "رقية الذي يصاب بالعين" أي هذا بيان ما يرقى به المصاب بالعين، وأنها حق "روى مسلم" في الطب من صحيحه، والإمام أحمد، "عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر" "بفتحتين" أي: لو فرض أن لشيء قوة بحيث يسبق القدر "لسبقته العين" لكنها لا تسبق القدر، فكيف غيرها، فإنه تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة.
قال القرطبي: فلو مبالغة في تحقيق إصابة العين جرى مجرى التمثيل؛ إذ لا يرد القدر شيء، فإنه عبارة عن سابق علم الله ونفوذ مشيئته، ولا راد لأمره ولا معقب لحكمه فهو كقولهم: لأطلبنك ولو تحت الثرى ولو صعدت السماء وقال البيضاوي معناه أن إصابة العين لها تأثير ولو أمكن أن يعاجل القدر شيء فيؤثر في إفناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر لسبقته العين "أي أن الإصابة بالعين شيء ثابت موجود" تفسير لقوله: حق، "وهو من جملة ما تحقق كونه" أي وجوده بالفعل، لا أنه بطريق الإمكان.
"قال المازري" بفتح الزاي وكسرها نسبة إلى جزيرة بصقلية" كما في الديباج وغيره، وتقدم مرارًا "أخذ الجمهور بظاهر الحديث" من تأثيرها بإرادة الله وخلقه، "وأنكره طوائف من(9/385)
لغير معنى؛ لأن كل شيء ليس محالًا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من مجوزات العقول. فإذا أخبر الشارع بوقوعه لم يكن لإنكاره معنى. وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة.
وقد اشتكى بعض الناس هذه الإصابة فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟
وأجيب: بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعيون. وقد نقل عن بعض من كان معيانًا أنه قال: إذا رأيت شيئًا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني. ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد. ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء فيرمد.
__________
المبتدعة لغير معنى" كقول بعض الطبائعيين: لا شيء إلا ما يدركه الحواس الخمس، وما عدا ذلك لا حقيقة له، وهذا لا معنى له، "لأن كل شيء ليس محالًا في نفسه، ولا يؤدي إلى قلب حقيقة، ولا إفساد دليل، فهو من مجوزات العقول" أي من الأمور التي تقول العقول بإمكانها، وكل ما جوزته وجاء في السنة وجب قبوله والأخذ بظاهره، كما أشار له بقوله: "فإذا أخبر الشارع بوقوعه، لم يكن لإنكاره معنى" سوى العناد والمكابرة، "وهل من فرق بين إنكارهم هذا" أي إصابة العين استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لا فرق بين إنكارهم هذا "و" بين "إنكارهم ما يخبر به من أمور الآخرة" ومعلوم أنه لا يعبأ به، بل قد يكون كفرًا.
"وقد اشتكى بعض الناس هذه الإصابة، فقال: كيف تعمل العين من بعد حتى يحصل الضرر للمعيون؟ " اسم مفعول من عانه، إذا أصابه بالعين تقول، كما في الفتح: عنت الرجل أصبته بعينك، فهو معين ومعيون؛ "وأجيب بأن طبائع الناس تختلف، فقد يكون ذلك من سم يصل من عين العائن في الهواء إلى بدن المعون" فيحصل له الضرر بتقدير الله.
"وقد نقل عن بعض من كان معيانًا" "بكسر الميم شديد الإصابة بالعين كعيون" "أنه قال: إذا رأيت شيئًا يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني" أي فإذا خرجت قد تصل إلى بدن المعيون، "ويقرب ذلك بالمرأة الحائض تضع يدها في إناء اللبن فيفسد، ولو وضعتها بعد طهرها لا يفسد" وكذا تدخل البستان فتضر بكثير من الغروس من غير أن تمسها، كما في الفتح، "ومن ذلك أن الصحيح قد ينظر إلى العين الرمداء" "بالمد مؤنس أرمد، كحمراء مؤنس أحمر" "فيرمد" ويتثاءب واحد بحضرته فيتثاءب هو.(9/386)
وقال المازري: زعم بعض الطبائعيين أن العائن ينبعث من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك أو يفسد. وهو كإصابة السم من نظر الأفعى، وأشار إلى منع الحصر في ذلك مع تجويزه. وإن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقية أو لا؟ وهو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه. ومن قال ممن ينتمي إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم جواهر لطيفة غير مرئية ينبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الباري الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم فقد أخطأ بدعوى القطع، ولكنه
__________
"وقال المازري: زعم بعض الطبائعين أن العائن ينبعث" يخرج "من عينه قوة سمية تتصل بالمعين فيهلك" يموت "أو يفسد" جسمه أو عقله، "وهو كإصابة السم من نظر الأفعى" حية رقشاء، دقيقة العنق، عريضة الرأس، لا تزال مستديرة على نفسها، لا ينفع منها ترياق ولا رقية، فالمراد أن جنسًا من الأفاعي إذا وقع بصرها على الإنسان هلك، فكذلك العائن، وعبارة المازري عقب قوله: فيهلك أو يفسد، قالوا: ولا يمتنع هذا، كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب، تتصل باللديغ فيهلك، وإن كان غير محسوس لنا، فكذا العين، وهذا غير مسلم لأنا بينا في علم الكلام أن لا فاعل إلا الله، وبينا فساد القول بالطبائع، وأن المحدث لا يفعل في غيره شيئًا، فبطل ما قالوه، ثم المنبعث من العين إن كان عرضًا فباطل لأنه لا يقبل الانتقال وإن كان جوهرًا فباطل أيضًا لأن الجواهر متجانسة فليس بعضها بأن يكون مفسد لبعضها بأولى من عكسه، فبطل ما قالوه.
"وأشر" المازري "إلى منع الحصر في ذلك" أي خروج سمية من عين العائن "مع تجويزه" خروجها، لا على سبيل القطع، "وإن الذي يتمشى على طريقة أهل السنة: أن العين إنما تضر عند نظر العائن بعادة أجراها الله تعالى، أن يحدث الضرر عند مقابلة شخص آخر، وهل ثم جواهر حقيقة" تخرج من العين، ولفظ المازري خفية، أي غير ظاهرة، "أو لا هو أمر محتمل لا يقطع بإثباته ولا نفيه" إذا لا مستند لذلك، وإنما هو من مجوزات العقل، وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وإضافته إلى الله.
"ومن قال ممن ينتمي" ينتسب "إلى الإسلام من أصحاب الطبائع بالقطع بأن ثم" هناك "جواهر لطيفة غير مرئية ينبعث من العائن فتتصل بالمعيون، وتتخلل مسام جسمه، فيخلق الباري" سبحانه "الهلاك عندها، كما يخلق الهلاك عند شرب السم" وعند قطع الرأس، "فقد أخطأ بدعوى القطع" إذ لا دليل عليه، "ولكنه جائز أن يكون عادة ليس ضرورة ولا طبيعة"(9/387)
جائز أن يكون عادة ليس ضرورة ولا طبيعة. انتهى.
وهو كلام سديد. وليس المراد بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة، بل ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون. وقد أخرج البزار بسنده عن جابر رفعه: "أكثر من يموت بعد قضاء الله وقدره بالنفس". قال الراوي: يعني العين.
وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه من الخجل فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك، كذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه. وكثير من
__________
ألجأ العقل إليها. "انتهى" كلام المازري، "وهو كلام سديد" أي صواب، لموافقته مذهب أهل السنة.
وقال ابن العربي: الحق أن الله تعالى يخلق عند نظر العائن إليه وإعجابه به إذا شاء ما شاء من ألم أو هلكة، وقد يرفعه قبل وقوعه بالرقية، "وليس المراد بالتأثير المعنى الذي يذهب إليه الفلاسفة" أن إصابة العين صادرة عن تأثير النفس بقوتها فيه، فأول ما تؤثر في نفسها، ثم تؤثر في غيرها، وقيل: إنما هو سم في عين العائن يصيب بلفحه عند التحديق إليه، كما يصيب لفح سم الأفعى من يتصل به، كما في الفتح؛ "بل" المراد "ما أجرى الله به العادة من حصول الضرر للمعيون" بخلق الله تعالى.
"وقد أخرج البزار" والبخاري في التاريخ، والطيالسي والحكيم الترمذي "بسنده" قال الحافظ، وتبعه السخاوي بسند حسن وصححه الضياء "عن جابر، رفعه: "أكثر من يموت" من أمتي، كما في البزار وغيره، فكأنه سقط من قلم المؤلف ""بعد قضاء الله وقدره" أي بعد تحتمها فيما سبق، فهو حال من الخبر، أو المبتدأ عند سيبويه ""بالنفس".
"قال الراوي: يعني العين" لأنه جاء صريحًا عند من عزيناه لهم بلفظ بالعين، قال الحكيم الترمذي: وذلك لأن هذه لأمة فضلت باليقين على سائر الأمم، فحجبوا أنفسهم بالشهوات، فعوقبوا بآفة العين، فإذا نظر أحدهم بعين الغفلة، كانت عينه أعظم، والذم له ألزم، {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ} ، فلما فضلهم الله باليقين لم يرض منهم أن ينظروا إلى الأشياء بعين الغفلة، وتتعطل منة الله عليهم وتفضيله لهم؛ "وقد أجرى الله العادة بوجود كثير من القوى والخواص في الأجسام والأرواح، كما يحدث لمن ينظر إليه من يحتشمه" أي يستحيي منه "من الخجل" هو كالاستحياء، "فيرى في وجهه حمرة شديدة لم تكن قبل ذلك" النظر، "وكذلك الاصفرار عند رؤية من يخافه، وكثير من الناس يسقم" "بفتح الياء(9/388)
الناس يسقم بمجرد النظر إليه وتضعف قواه. وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين، وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح، والأرواح مختلفة في طبائعها وكيفيتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها الخبيثة.
والحاصل: أن التأثير بإرادة الله وخلقه ليس مقصورًا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية، وأخرى بتوجه الروح، كالذي يحدث من الأدعية والرقى والالتجاء إلى الله تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي، إن صادف البدن -لا وقاية له- أثر فيه، وإلا لم ينفذ السهم بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء انتهى ملخصًا من فتح الباري وغيره.
قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوي لهذه العلة، فمن التعوذات والرقى:
__________
والقاف"، يمرض "بمجرد النظر إليه وتضعف قواه، وكل ذلك بواسطة ما خلق الله تعالى في الأرواح من التأثيرات لشدة ارتباطها بالعين" لفظ الفتح، ولشدة ارتباطها بالعين نسب الفعل إلى العين، أي نسبة مجازية، "وليست هي المؤثرة، وإنما التأثير للروح والأرواح مختلفة في طبائعها وكيفياتها وخواصها، فمنها ما يؤثر في البدن بمجرد الرؤية من غير اتصال به لشدة خبث تلك الروح وكيفيتها" صفتها "الخبيثة، والحاصل أن التأثير بإرادة الله وخلقه" وعبارة الفتح، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر إنما هو بقدر الله تعالى السابق لا بشيء يحدثه الناظر في المنظور، "ليس مقصورًا على الاتصال الجسماني، بل يكون تارة به، وتارة بالمقابلة، وأخرى بمجرد الرؤية وأخرى بتوجه الروح" وهذا الحادث بلا مماسة العين بشيء من أجزاء المعيون، "كالذي يحدث" في البدن "من" لشفاء من المرض ونحوه بسبب "الأدعية والرقي والالتجاء إلى الله تعالى، وتارة يقع ذلك بالتوهم والتخيل، فالذي يخرج من عين العائن سهم معنوي إن صادف البدن" حال كونه، "لا وقاية له" أي غير متحصن بشيء يمنع من تأثير العين، كالأدعية وخشب شجر المخيط.
قال السخاوي: بلغني أن الولي العراقي لم يكن يفارق رأسه، فتبعته "أثر فيه" الضرر بخلق الله، "وإلا لم ينفذ فيه السهم، بل ربما رد على صاحبه كالسهم الحسي سواء. انتهى ملخصًا من فتح الباري وغيره".
"قال ابن القيم: والغرض العلاج النبوي" الوارد في الأحاديث من الرقي بالأدعية ونحوها(9/389)
الإكثار من قراءة المعوذتين والفاتحة وآية الكرسي، ومنها التعوذات النبوية نحو: أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
__________
"لهذه العلة" أي إصابة العين، "فمن التعوذات والرقى الإكثار من قراءة المعوذتين" لحديث عائشة السابق: كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث، ولحديثها أيضًا: كان صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما، ثم يقرأ قل هو الله أحد، وقل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس، ثم مسح بهما ما استطاع من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات. رواه البخاري.
"والفاتحة" لحديث الصحيحين في الذي رقى اللديغ بالفاتحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "وما أدراك أنها رقية"؟. وروى البيهقي في الشعب، عن جابر، رفعه: "ألا أخبرك بخير سورة نزلت في القرآن"؟ قلت: بلى، قال: "فاتحة الكتاب"، قال راويه: وأحسبه قال: "فيها شفاء من كل داء". وله ولسعيد بن منصور، عن أبي سعيد مرفوعًا: "فاتحة الكتاب شفاء من السم"، وللديلمي عن عمران بن حصين، مرفوعًا: "في كتاب الله عز وجل ثمان آيات للعين، لا يقرؤها عبد في دار فتصيبهم في ذلك اليوم عين إنس أو جن فاتحة الكتاب سبع آيات وآية الكرسي"، هكذا في نسخة صحيحة بخط الحافظ ابن حجر من الفردوس للديلمي، فأوهم السخاوي في قوله، فذكر منها الفاتحة وآية الكرسي، والصواب أن يسقط قوله، فذكر منها لإبهامه أنه بقي ست آيات، مع أنه بين أن السبع الفاتحة وآية الكرسي الثامنة، بقوله صلى الله عليه وسلم: "فاتحة الكتاب سبع آيات وآية الكرسي"، يعني الثامنة، "وآية الكرسي" سميت بذلك لذكره فيها.
روى الديلمي، عن أبي إمامة: سمعت عليًّا يقول: ما أرى رجلًا أدرك عقله في الإسلام يبيت حتى يقرأ هذه الآية: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} إلى قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم} ، فلو تعلمون ما هي، أو ما فيها لما تركتموها، على حال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، ولم يؤتها نبي قبلي"؛ قال علي: فما بت ليلة منذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرأها، قال أبو أمامة: وما تركتها منذ سمعتها من علي، ثم سلسلة الباقون إلى الديلمي، وفي خبر سيدة البقرة آية الكرسي، أما إن فيها خمس كلمات، في كل كلمة خمسون بركة.
"ومنها: التعوذات النبوية، نحو: أعوذ بكلمات الله" صفاته القائمة بذاته، وقيل: العلم؛ لأنه أعم الصفات، وقيل: القرآن، وقيل: جميع ما أنزله على أنبيائه؛ لأن الجمع المضاف إلى المعارف يعم "التامة" أي الفاضلة التي لا يدخلها نقص "من كل شيطان وهامة" "بشد الميم" ما له سم يقتل، كالحية، قاله الأزهري، وجمعها هوام مثل دابة ودواب، وقد يطلق على ما لا يقتل، كالحشرات، كقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أيؤذيك هوام رأسك"؟، يعني القمل على(9/390)
ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما خلق وبرأ وذرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
وإذا كان يخشى ضرر عينه وغصابتها للمعين فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه. كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "ألا برَّكت عليه".
__________
الاستعارة بجامع الأذى، "ومن كل عين لامة" أي مصيبة بسوء، وهي كل ما يخاف من فزع وشر، قاله المجد.
وفي النهاية: أي ذات لمم، ولذا لم يقل ملمة، واللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان، أي يقرب منه ويعتريه؛ "ونحو: أعوذ بكلمات الله التامات" بالجمع، وفي السابقة بالإفراد.
قال الحكيم الترمذي: وهما بمعنى، فالمراد بالجمع الجملة، وبالواحدة ما تفرق في الأمور والأوقات، ووصفها بالتمام إشارة إلى أنها خالصة من الريب والشبه، وتمت كلمات ربك صدقًا وعدلًا، "التي لا يجاوزهن" لا يتعداهن "بر" "بفتح الياء" تقي محسن، "ولا فاجر" مائل عن الحق، أي لا ينتهي علم أحد إلى ما يزيد عليها "من شر ما خلق وبرأ وذرأ" قيل: هما بمعنى خلق.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وقال: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْض} [الملك: 24] .
وقال: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُم} [البقرة: 54] ، فذكر الثلاثة لإفادة اتحاد معناها، وقيل: البرء والذرء يكون طبقة بعد طبقة وجيلًا بعد جيل، والخلق لا يلزم فيه ذلك، "ومن شر ما ينزل من السماء" من العقوبات، كالصواعق، "ومن شر ما يعرج فيها" مما يوجب العقوبة، وهو الأعمال السيئة، "ومن شر ما ذرأ" خلق "في الأرض" على ظهرها، "ومن شر ما يخرج منها" مما خلقه في بطنها، "ومن شر فتن الليل والنهار" الواقعة فيهما وهو من الإضافة إلى الظرف "ومن شر طوارق الليل والنهار" جمع طارق، وهو الحادث الآتي بالليل، وإطلاقه على الآتي نهارًا على سبيل الاتساع "إلا طارقًا" نصب؛ لأنه استثناء متصل من كلام موجب، فهو منصوب.
وفي نسخة: بالجر بدلًا من طوارق؛ لأنه نفي معنى، أي فلا يصيبني شيء من طوارق الليل إلا طارق "يطرق" "بضم الراء" أي ياتي "بخير يا رحمن" وفي ختمه بذلك مزيد الاستعطاف.
"وإذا كان يخشى ضرر عينه وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: اللهم بارك عليه" لأنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، "كما قال صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة" بن كعب بن(9/391)
ومما يدفع إصابة العين: قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
ومنها رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل ذي نفس أو عين حاسد. الله يشفيك: بسم الله أرقيك.
وعنده أيضًا من حديث عائشة: كان جبريل يرقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى: بسم الله يبريك، ومن كل داء يشفيك، ومن شر حاسد إذا حسد، ومن شر كل
__________
مالك العنزي "بنون ساكنة وزاي منقوطة" حليف الخطاب، أسلم قديمًا، وهاجر وشهد بدرًا، ومات ليالي قتل عثمان، "لما عان سهل" "بسكون الهاء" "ابن حنيف" "بضم المهملة وفتح النون وسكون التحتية وبالفاء" ابن واهب الأنصاري، الأوسي، البدري، مات في خلافة علي. "الأ" "بالفتح والتشديد"، بمعنى هلا، وبها جاء في بعض طرقه: "بركت عليه" أي قلت بارك الله فيك، فإن ذلك يبطل ما يخاف من العين ويذهب تأثيره، قاله الباجي.
"ومما يدفع إصابة العين قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله" كما قال تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "من رأى شيئًا فأعجبه، فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره"، رواه البزار وابن السني عن أنس، ففيهما استحباب هذا الذكر عند رؤية ما يعجب. واستدل مالك بالآية على استحبابه لكل من دخل منزله، كما قاله ابن العربي، وأخرج ابن أبي حاتم، عن مظرف قال: كان مالك إذا دخل بيته قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، قلت له: لم تقول هذا؟، قال: ألا تسمع الله تعالى يقول: وتلا الآية.
وأخرج عن الزهري مثله، "ومنها: رقية جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه مسلم" في الطب عن أبي سعيد أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد اشتكيت، قال: "نعم"، قال: "بسم الله أرقيك" "بفتح الهمزة" من رقى يرقي، كرمى يرمي "من كل شيء يؤذيك، من شر كل ذي نفس أو عين حاسد".
قال عياض: يحتمل أن يريد بالنفس نفس الحيوان، ويحتمل أن يريد بها العين؛ لأن النفس تطلق على العين، يقال: أصابته نفس، أي عين، والنافس العائن، وتطلق النفس والعين على أشياء أخر ليست مراده هنا "الله يشفيك" "بفتح أوله" يعافيك، "بسم الله أرقيك" ختمه بما بدأه به، ليكون أنجع، فإن في تكرار الرقية نفعًا مشاهدًا، "وعنده" أي مسلم "أيضًا" في الطب "من حديث عائشة: "كان جبريل يرقي النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى" أي مرض، والشكاية المرض، وليس المراد أنه أخبر بما يجد من الألم والاستقراء، يدل أن تداويه أو أكثره، إنما هو بالرقي لا بأدوية؛ لأن الأدوية إنما تستعمل في الأمراض التي من قبل فساد المزاج، ومزاجه صلى الله عليه وسلم خير الأمزجة، قاله أبو عبد الله الأبي: "بسم الله" لفظ مسلم، قال: بسم الله "يبريك".(9/392)
ذي عين.
وأخرى مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".
وظاهر الأمر الوجوب، وحكى المازري فيه خلافًا وصحح الوجوب، وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى.
__________
قال القرطبي: الاسم هنا المسمى، فكأنه قال: الله يبريك، كما قال: سبح اسم ربك الأعلى، أي سبح ربك، والاسم في الأصل عبارة عن الكلمة الدالة على المسمى، والمسمى هو مدلولها إلا أنه يتوسع، فيوضع الاسم موضع المسمى مسامحة، فتدبر هذا، فإنه موضع كثر فيه الغلط وتاه فيه كثير من الجهال، "ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد" خصه بعد التعميم لخفاء شره، "ومن شر كل ذي عين" عطف خاص على عام؛ لأن كل عائن حاسد، ولا عكس، فلما كان الحاسد أعم، كان تقديم الاستعاذة منه أهم، قال عياض: فيه دليل على أن الحسد يؤثر في المحسود ضررًا ما في جسمه، بمرض أو في ماله، وذلك بإذن الله سبحانه.
وقال ابن القيم: أعاذه من الحاسد؛ لأن روحه مؤذية للمحسود، مؤثرة فيه أثرًا بينًا، لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين.
"وأخرج مسلم من حديث ابن عباس رفعه: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين" أعاده لأنه ترك سابقًا بقينه، وهي: "وإذا استغسلتم" أي إذا طلب منكم أيها المتهمون بأنكم عنتم غسل الأعضاء الآتي بيانها، "فاغسلوا" ندبًا أو وجوبًا، وهو الأصح كما يأتي، ولأحمد والطبراني، وصححه الحاكم من حديث ابن عباس: العين حق تستنزل الحالق "بحاء مهملة" الجبل العالي.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رفعه: "العين حق"، وزاد أحمد برجال الصحيح من حديثه، ويحضرها الشيطان وحسد اب آدم، وحديث: "العين حق تدخل الرجل القبر والجمل القدر"، رواه أبو نعيم وابن عدي من حديث أبي ذر، وفي إسنادهما مقال، "وظاهر الأمر" في قوله: فاغسلوا "الوجوب" لأنه الأصل فيه.
"وحكى المازري: فيه خلافًا" بالوجوب والندب "وصحح الوجوب" وتبعه القرطبي، فقال: هو خطاب للعائن إذا فهم أنه أصاب بالعين، فيجب عليه الغسل، ويبعد "وقال" المازري: ويبعد الخلاف فيه "متى خشي الهلاك، وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقد تقرر أنه يجب بذل الطعام للمضطر، وهذا أولى" قال: وبهذا التقرير يرتفع(9/393)
ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع في حديث سهل بن حنيف عند أحمد والنسائي: أن أباه حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كان بشعب الخرار من الجحفة، اغتسل سهل بن حنيف وكان أبيض حسن الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة قال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة، فلبط سهل -أي صرع- وسقط إلى الأرض. فأتى
__________
الخلاف.
وقال ابن عبد البر: الأمر للوجوب؛ لأن الأمر حقيقته الوجوب، ولا ينبغي لأحد أن يمنع أخاه ما ينفعه ولا يضره، لا سيما إذا كان بسببه، وكان هو الجاني عليه، فواجب على العائن الغسل، "ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال".
"قال الحافظ ابن حجر: وقد وقع" وفي نسخة: وقعت: أي صفة الاغتسال "في حديث سهل بن حنيف" "بضم ففتح" "عند أحمد والنسائي" سقط من قلم المصنف قول الحافظ، وصححه ابن حبان من طريق الزهري، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، وبه يصح قوله "إن أباه" أي أبا أبي أمامة وهو سهل بن حنيف، أما على السقط ففاسد، إذ تصير الصحبة لحنيف، ولا صحبة له، إنما هي لابنه سهل، "حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج، وساروا معه نحو ماء، حتى إذا كان بشعب الخرار" "بفتح الخاء المعجمة والراء الأولى الشديدة" موضع قرب الجحفة، قاله ابن الأثير وغيره، وقال ابن عبد البر: موضع بالمدينة، وقيل: من أوديتها. انتهى.
لكن يؤيد الأول قوله "من الجحفة: اغتسل سهل بن حنيف" وفي رواية مالك عن محمد بن أبي أمامة، عن أبيه، فنزع، أي سهل جبة كانت عليه، "وكان أبيض حسن" أي مليح "الجسم والجلد، فنظر إليه عامر بن ربيعة، فقال: ما رأيت كاليوم" أي ما رأيت في يوم جلدًا في البياض والحسن كهذا الجلد، "ولا جلد مخبأة" "بضم الميم وخاء معجمة وموحدة وهمز" وهي المخدرة المكنونة التي لا تراها العيون ولا تبرز للشمس فتغيرها، يعني: أن جلد سهل كجلد المخبأة إعجابًا بحسنه.
وفي رواية الك المذكورة: ولا جلد عذارء بدل مخبأة، فكأنه جمع بينهما، فاقتصر كل راو على ما سمعه، أو أحدهما بالمعنى، لكن لا شك أن مخبأة أخص، "فلبط سهل" "بضم اللام وكسر الموحدة وطاء مهملة"، "أي صرع وسقط إلى الأرض" وزنًا ومعنى.
وقال ابن وهب: لبط: وعك، وكأنه فسره برواية مالك بلفظ: فوعك سهل مكانه، واشتد وعكه، جمعًا بين الروايتين لاتحاد القصة والمخرج، ولا يتعين لجواز أن سقوطه من شدة وعكه، وهذا أولى إبقاء للفظين على حقيقتهما.(9/394)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل تتهمون من أحد"؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعا عامرًا، فتغيظ عليه، فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت". ثم قال: "اغتسل له"، فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره، ثم كفأ القدح ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس.
__________
زاد في رواية: حتى ما يعقل لشدة الوجع، "فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم" زاد مالك عن ابن شهاب، عن أبي أمامة، فقيل له: يا رسول الله هل لك في سهل بن حنيف؟ والله ما يرفع رأسه "فقال: "هل تتهمون من أحد"؟ عانه، "قالوا:" نتهم "عامر بن ربيعة" وكأنهم لما قالوا ذلك ذهب صلى الله عليه وسلم إلى سهل لتثبت الخبر منه.
ففي رواية مالك، عن محمد بن أبي أمامة، عن أبيه: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أن سهلًا وعك، وأنه غير رائح معك، فأتاه صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أن عامر بن ربيعة، "فدعا عامرًا، فتغيظ عليه، فقال: "علام" أي لم، وفيه معنى الإنكار "يقتل أحدكم أخاه" في الإسلام، أي يكون سببًا في قتله بالعين، زاد في رواية: وهو غني عن قتله، "هلا إذا رأيت ما يعجبك برت" به، كما هو الرواية، قال أبو عمر: أي قلت: تبارك الله أحسن الخالقين، اللهم بارك فيه، فيجب على كل من أعجبه شيء أن يبارك فإذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة.
وقال الباجي: أي قلت: بارك الله فيك، وللنسائي وابن ماجه عن أبي إمامة، وابن السني عن عامر بن ربيعة، كلاهما مرفوعًا: "إذا رأى أحدكم من أخيه ما يعجبه، فليدع له بالبركة".
وروى ابن السني، عن سعيد بن حكيم قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا خاف أن يصيب شيئًا بعينه، قال: "اللهم بارك فيه ولا تضره"، "ثم قال: "اغتسل له" ولمالك عن محمد: توضأ له، وظاهر أنه ليس المراد الوضوء ولا الغسل الشرعيين، بل الصفة التي بينها، بقوله: "فغسل" عامر "وجهه ويديه" وفي رواية بدل هذا، وظاهر كفيه "ومرفقيه" زاد في رواية: وغسل صدره "وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح" زاد في رواية، قال: وحسبته قال: وأمر فحسًا منه حسوات، "ثم صب ذلك الماء عليه رجل من خلفه على رأسه وظهره" وظاهره، أو صريحه أن الصاب غير العائن.
ووقع عند ابن ماجه عن أبي أمامة: ثم دعا صلى الله عليه وسلم بماء، فأمر عامرًا أن يتوضأ، فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، وركبتيه وداخلة إزاره، وأمره أن يصب عليه "ثم كفأ" "بالهمز"، أي قلب "القدح، ففعل ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس" لزوال علته.
قال المازري: المراد بداخلة إزاره الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن: "بفتح الحاء(9/395)
قال المازري: وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج. انتهى.
وزاد القاضي عياض: أن المراد ما يلي جسده من الإزار. وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد، وقيل: أراد وركه لأنه معقد الإزار.
ورأيت مما عزي لخط شيخنا الحافظ أبي الخير السخاوي: قال ابن بكير راويه عن مالك، إنه كناية عن الثوب الذي يلي الجلد.
وقال ابن الأثير في النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته العين من أحد جاء إلى العائن بقدح فيه ماء فيدخل كفه فيه فيتمضمض ثم يمجه في القدح ثم يغسل وجهه فيه، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على يده اليمنى، ثم يدخل يده
__________
المهملة وسكون القاف موضع الإزار، وقيل: الحاضرة فقط، وهذا التفسير نقله ابن عبد البر عن ابن حبيب، وقال نحوه ابن وهب عن مالك.
"قال المازري": "وظن بعضهم أنه كناية عن الفرج" والجمهور على الأول. "انتهى" كلام المازري.
"وزاد القاضي عياض: أن المراد ما يلي جسده من الإزار" بيان لما، فداخلة الإزار على قوله هي القطعة من الإزار التي تلاقي البدن، "وقيل: أراد موضع الإزار من الجسد" أي أنه يغسل من بدنه ما ستره الإزار، فما قبله فسرها بما يلاقي البدن من الثوب، وهذا بما يلاقيه الثوب من البدن.
"وقيل: أراد وركه" بفتح الواو وكسرها وسكون الراء، وبفتحها وكسر الراء ما فوق الفخذ مؤنثة، كما في القاموس، فقوله: "لأنه معقد الإزار" وجهه أنه لما كان قريبًا من محل عقده سماه معقدًا، "ورأيت ما عزى لخط شيخنا الحافظ أبي الخير" محمد بن عبد الرحمن "السخاوي".
"قال ابن بكير" هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي، مولاهم المصري، وقد ينسب إلى جده ثقة في الليث، وتكلموا في سماعه من مالك مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين وله سبع وسبعون سنة "راويه" أي الحديث "عن مالك" وهو من جملة رواة الموطأ؛ "إنه كناية عن الثوب الذي يلي الجلد".
"وقال ابن الأثير في النهاية: كان من عادتهم أن الإنسان إذا أصابته العين من أحد جاء إلى العائن بقدح فيه ماء، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض" بغرفة منه "ثم يمجه في القدح، ثم" يأخذ منه ماء "يغسل وجهه فيه" أي القدح مرة واحدة، "ثم يدخل يده اليسرى" في(9/396)
اليمنى فيصب على يده اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على مرفقه الأيسر، ثم يدخل يده اليسرى فيصب على قدمه اليمنى، ثم يدخل يده اليمنى فيصب على قدمه اليسرى، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى المستعمل على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة فيبرأ بإذن الله تعالى، انتهى.
قال المازري: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه.
__________
القدح، "فيصب على يده اليمنى" صبة واحدة، "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على يده اليسرى" واحدة "ثم يدخل يده اليسرى فيصب على مرفقه الأيمن" واحدة، "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على مرفقه الأيسر" صبة واحدة، "ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على قدمه اليمنى" واحدة "ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على قدمه اليسرى" صبة واحدة "ثم يدخل يده اليسرى فيصب على ركبته اليمنى ثم يدخل يده اليمنى فيصب على ركبته اليسرى" صبة واحدة فيهما، "ثم يغسل داخل إزاره، ولا يوضع القدح بالأرض" حتى يفرغ، "ثم يصب ذلك الماء المستعمل" فاعل يصب "على رأس المصاب بالعين من خلفه صبة واحدة، فيبرأ بإذن الله تعالى. انتهى" كلام النهاية.
وأصله من رواية ابن أبي ذئب عن الزهري، وقال: إنه من العلم. رواه ابن أبي شيبة.
قال ابن عبد البر: وهو أحسن ما فسر به؛ لأن الزهري راوي الحديث، زاد عياض: أن الزهري أخبر أنه أدرك العلماء يصفونه، واستحسنه علماؤنا، ومضى به العمل، قال: وجاء من رواية عقيل عن الزهري مثله، إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه في غسل القدمين، أنه لا يغسل جميعهما، وإنما قال: ثم يفعل مثل ذلك من طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه، واليسرى كذلك. انتهى.
وهو أقرب لقول الحديث: وأطراف رجليه، وهذه الصفة تنفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الإصابة وقبل الاستحكام، فقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى ما يدفعه، بقوله: ألا بركت عليه، وفي رواية فليدع بالبركة كما مر.
"قال المازري: وهذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه" قال: وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات.(9/397)
وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا الله ورسوله أعلم، وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة، أو متفلسف؛ فالرد عليه أظهر؛ لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله: الخواص.
قال ابن القيم: ومن علاج ذلك والاحتراز عنه، ستر محاسن من يخاف عليه العين، بما يردها عنه، كما ذكره البغوي في كتاب شرح السنة: أن عثمان بن عفان رأى صبيًّا مليحًا، فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال في تفسيره، ومعنى دسموا نونته: أي سودوا نونته، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصغير.
__________
"وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع، قلنا: الله ورسوله أعلم" يعني أنه من التعبد كغيره من الأحكام التعبدية، "وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة" فوجب قبوله وإن لم يعقل معناه، "أو متفلسف، فالرد عليه أظهر؛ لأن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل" عنده "بمعنى لا يدرك، ويسمون ما هذا سبيله الخواص" أي أنه تفعل بخاصية فيها، فليكن ذلك على قوله مثله، وهذا مجاراة للخصم وإن لم يقل به.
وقال ابن القيم: هذه الصفة لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر بها، ولا من شك فيها، أو فعلها مجربًا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الأطباء عللها، بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما تفعل بالخاصة، فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة، فهذا ترياق سم الحية يؤخذ من لحمها، وهذا علاج النفس الغضبية، بوضع اليد على بدن الغضبان، فيسكن، فكان أثر تلك العين كشعلة من نار وقعت على جسد، ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها، ولا شيء أرق من المغابن، فكان في غسلها إبطال لعملها، ولا سيما أن للأرواح الشيطانية في تلك المواضع اختصاصًا، وفيه أيضًا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذًا، فتطفأ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الماء. انتهى.
"قال ابن القيم: ومن علاج ذلك" أي دفع العين قبل حصولها "والاحتراز عنه ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، كما ذكره البغوي" المتأخر، محيي السنة، صاحب التفسير "في كتاب شرح السنة أن عثمان بن عفان رأى صبيًّا مليحًا" أي حسنًا، "فقال: دسموا نونته لئلا تصيبه العين، ثم قال" البغوي "في تفسيره" أي تفسير هذا اللفظ في كتاب شرح السنة: "ومعنى دسموا نونته، أي سودوا نونته، والنونة النقرة التي تكون في ذقن الصغير" "بفتح الذال والقاف" مجتمع اللحيين من أسفلهما.(9/398)
وذكر عن أبي عبد الله الساجي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة، فكان في الرفقة رجل عائن فلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبد الله، فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى. فقال: دلوني عليه، فوقف عليه فقال: بسم الله حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، فارجع البصر هل ترى من فطور، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير. فخرجت حدقتا العائن وقامت الناقة لا بأس بها. انتهى.
__________
"وذكر" وأخرجه ابن عساكر وغيره "عن أبي عبد الله" واسمه سعيد بن يزيد "الساجي" "بسين مهملة وجيم" نسبة إلى الساج الخشب، كان له آيات باهرة وكرامات ظاهرة، "أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة" نشطة خفيفة، "فكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبد الله: احفظ ناقتك من العائن، فقال ليس له إلى ناقتي سبيل، فأخبر العائن بقوله، فتحين" "بالنون" أي ترصد "غيبة" أي وقت غيبة، "أبي عبد الله، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبو عبد الله، فأخبر أن العائن قد عانها وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه" فدلوه على مكانه، "فوقف عليه، فقال بسم الله حبس" "بفتح فسكون"، كما سمعته من الوالد مرارًا ناقلًا له عن شيخه الأجهوري، فهو مبتدأ خبره بسم الله، أي منع "حابس" أي مانع تأثير ضرر عين العائن، "وحجر يابس" يصيب العائن، "وشهاب قابس" كوكب يحرق العائن، "رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه" ممن هو لى شكله، أو المراد أحب الأشياء إليه، فيصدق ببعض أجزائه كعينيه، "فارجع البصر هل ترى من فطور" صدوع وشقوق، "ثم ارجع البصر كرتين" كرة بعد كرة "ينقلب" يرجع "إليك البصر خاسئًا" ذليلًا لعدم إدراك خلل، "وهو حسير" منقطع عن رؤية خلل، "فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها" لفك العين عنها. "انتهى" وهذا من المجربات في إزالة أثر العين.
ومما يدفع العين أيضًا ما ذكره القاضي حسين، أحد أئمة الشافعية، قال: نظر بعض الأنبياء إلى قومه يومًا فاستكثرهم وأعجبوه، فمات منهم في ساعة سبعون ألفًا، فأوحى الله إليه أنك عنتهم، ولو أنك إذ عنتهم حصنتهم لم يهلكوا، قال: وبأي شيء أحصنهم، فأوحى الله إليه، تقول: حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبدًا ودفعت عنكم السوء بلا حول ولا قوة(9/399)
وفي حديث هذا الباب من الفوائد: أن العائن إذا عرف يقضي عليه بالاغتسال، وأن الاغتسال من النشرة النافعة، وأن العين قد تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب، ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه، وأن الإصابة بالعين قد تقتل.
وقد اختلف في جريان القصاص بذلك:
فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئًا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا. انتهى.
ولم تتعرض الشافعية للقصاص، بل منعوه وقالوا: إنه لا يقتل غالبًا ولا يعد
__________
إلا بالله العلي العظيم.
قال المعلق عن القاضي: وكانت عادة القاضي حسين إذا نظر إلى أصحابه فأعجبه سمتهم وحسن حالهم حصنهم بهذا.
"وفي حديث هذا الباب: من الفوائد أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال" على الوجه المتقدم، "وإن الاغتسال من النشرة" "بضم النون" رقية يعالج بها المجنون والمريض، كما في القاموس: "النافعة" وتأتي للمصنف صفتها في الكلام على السحر، "وإن العين قد تكون مع الإعجاب، ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح" إذ لا شك أن عامر بن ربيعة من الصالحين؛ إذ هو من أهل بدر، وأسلم قديمًا، "وإن الذي يعجبه الشيء يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه" من قوله: ألا بركت، "وأن الإصابة بالعين قد تقتل" لقوله: علام يقتل أحدكم أخاه.
"وقد اختلف في جريان القصاص بذلك، فقال القرطبي: ولو أتلف العائن شيئًا ضمنه، ولو قتل، فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه، بحيث يصير عادة، وهو في ذلك كالساحر القاتل بسحره عند من لا يقتله كفرًا" وأما عندنا، فيقتل قتل بسحره أم لا؛ لأنه كالزنديق "انتهى" كلام القرطبي بما زدته.
"ولم تتعرض الشافعية للقصاص" أي لم يقولوا به، فلا ينافي قوله: "بل منعوه" وإلا فمنعهم القصاص تعرض، "وقالوا: إنه" أي النظر الذي يصيب به "لا يقتل غالبًا، ولا يعد(9/400)
مهلكا. وقال النووي في "الروضة": ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام، دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف ولم يقع منه فعل أصلًا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة، وأيضًا: فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين، انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: ولا يعكر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه، والفرق بينهما عسر.
ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم: أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس، وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره
__________
مهلكًا".
"وقال النووي في الروضة: ولا دية فيه ولا كفارة؛ لأن الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس وبعض الأحوال مما لا انضباط له، كيف" يقتص من العائن "ولم يقع منه فعل أصلًا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال النعمة" "عطف تفسير، لحسد"، "وأيضًا: فالذي ينشأ عن الإصابة بالعين حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين ذلك المكروه في زوال الحياة، فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين. انتهى".
لكن يقال عليه لما حصل زوال الحياة بالإصابة بالعين وإن لم يتعين في الأصل طلب بما يطلب به من أزال الحياة بالضرب مثلًا.
"قال الحافظ ابن حجر: ولا يعجر عليه إلا الحكم بقتل الساحر، فإنه في معناه" أي العائن، فإن السحر ليس بمنضبط ولا عام، والذي ينشأ عن حصول مكروه لا يتعين في زوال الحياة، "والفرق بينهما عسر".
قال شيخنا: ويمكن الفرق بأن الساحر يحصل منه أفعال يضاف إليها القتل عادة، كالعزائم التي يقصد بها القتل، ولذا قالوا: يثبت السحر، بقوله: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبًا، أو بالقسم الفلاني، وشهد عدلان كانا يعرفان السحر وتابا أن هذا القسم يقتل غالبًا انتهى وتعسفه لا يخفى.
"ونقل ابن بطال" العلامة أبو الحسن علي، "عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للإمام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس" مخالطتهم، "وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرًا رزقه" أعطاه "ما يقوم به" وجوبًا من بيت المال وكف أذاه عن الناس، "فإن ضرره أشد من ضرر(9/401)
أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر من مخالطة الناس وأشد من ضرر الثوم الذي منع أكله من حضور الجماعة. قال النووي: وهذا القول صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه ذكر رقيته صلى الله عليه وسلم.
زاد المصنف هنا وفي شرحه في التي كان يرقى بها عن عبد العزيز قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت، فقال أنس: ألا أرقيك برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى، قال: قل اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقمًا. رواه البخاري.
وقوله: "اذهب الباس": بغير همزة للمواخاة، وأصله الهمز.
__________
المجذوم الذي منعه عمر" بن الخطاب والعلماء بعده "من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم" بضم المثلثة "الذي منع آكله" أي منعه النبي صلى الله عليه وسلم "من حضور الجماعة" بالمسجد لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بإبعادها إلى حيث لا يتأذى بها، هذا بقية نقل ابن بطال.
"قال النووي" تبعًا لعياض، "وهذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه" فيعمل به، "ذكر رقيته صلى الله عليه وسلم" هذه الترجمة للبخاري بلفظ: باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم.
"زاد المصنف هنا، وفي شرحه في التي كان يرقى بها" غالبًا من الرقى العامة، لا في داء بعينه، فلا يرد أن ما كان يرقى به لا يختص بهذه "عن عبد العزيز" بن صهيب البناني بموحدة ونونين، البصري، مات سنة ثلاثين ومائة، "قال: دخلت أنا وثابت" بن أسلم البناني أبو محمد البصري، مات سنة بضع وعشرين ومائة وله ست وثمانون سنة "على أنس بن مالك فقال ثابت: يا أبا حمزة" بمهملة وزاي كنية أنس، "اشتكيت" بضم التاء، أي مرضت.
وفي رواية: إني اشتكيت، "فقال أنس: ألا" "بتخفيف اللام للعرض والتنبيه "أرقيك" بفتح الهمزة "برقية رسول الله صلى الله عليه وسلم" من إضافة المصدر إلى فاعله، أي بالرقية التي كان يرقى بها، وحديث مسلم السابق في المصنف يدل على أن الإضافة في مثل هذه للمفعول، كما في الفتح، "قال" ثابت: "بلى" ارقني، "قال: قل اللهم رب الناس مذهب" بضم الميم وكسر الهاء "الباس" الشدة "اشف" بكسر الهمزة "أنت الشافي" فيه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن ما لم يوهم نقصًا، وكان له أصل في القرآن كهذا، ففيه: وإذا مرضت فهو يشفين، "لا شافي إلا أنت" إذ لا ينفع الدواء إلا بتقديرك، "شفاء" بالنصب على أنه مصدر اشف، ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ، أي هو "لا يغادر سقمًا" بفتحتين وبضم ثم سكون "رواه البخاري" في الطب.
"وقوله: أذهب" كذا في النسخ تبعًا للفتح، مع أن المصنف قدمه بلفظ: مذهب، وضبطه(9/402)
وفي قوله: "لا شافي إلا أنت" إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله وإلا فلا ينجع.
وقوله: "لا يغادر" -بالعين المعجمة- أي لا يترك.
وفي البخاري أيضًا عن مسروق عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ بعض أهله يمسح بيده اليمنى ويقول: "اللهم رب الناس اذهب البأس، واشفه وأنت الشافعي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا". وقوله "يمسح بيده" أي على الوجع.
__________
في شرحه "بضم الميم" "البأس بغير همز للمواخاة" لقوله الناس، "وأصله الهمز".
زاد المصنف في شرحه، وفي الفرع "بالهمز على الأصل".
"وفي قوله: لا شافي إلا أنت إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوي إن لم يصادف تقدير الله، وإلا فلا ينجع" جواب الشرط الأول، وجواب الثاني، وهو: وإلا محذوف، أي نجع، أي إن لم يصادف لم ينجع، وإن صادف نجع.
"وقوله: لا يغادر -بالغين المعجمة- أي لا يترك سقمًا إلا أذهبه.
"وفي البخاري أيضًا" تلو هذا الحديث، وبعده بباب "عن مسروق" بن الأجدع بن مالك الهمداني، الوادعي، الكوفي، الفقيه، العابد، المخضرم، مات سنة اثنتين، ويقال: سنة ثلاث وستين "عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعوذ" "بضم الياء وكسر الواو الثقيلة وذال معجمة"، أي يطلب من الله عصمة "بعض أهله".
قال الحافظ: لم أقف على تعيينه، "يمسح بيده اليمنى" على الوجع، على طريق التفاؤل لزوال ذلك الوجع قاله الطبري، وظاهر الحديث: كان المسح بحائل أم لا، لكن الأولى بلا حائل إلا لمانع، ككون المرض بالعورة، "ويقول: "اللهم رب الناس أذهب" "بهمزة مفتوحة قبل الذال" "البأس".
قال المصنف: "بالهمز في فرع اليونينية، والمشهور حذفه ليناسب سابقه" "واشفه" "بكسر الهاء" أي العليل، أو هي هاء السكت، "وأنت الشافي بإثبات الواو في الكلمتين للحموي والمستملي، وحذفها فيهما للكشميهني، "لا شفاء" "بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، أي حاصل لنا أو له "إلا شفاؤك شفاء" أي اشف "شفاء لا يغادر سقمًا" "التنوين للتقليل".
"وقوله: يمسح بيده، أي على الوجع" تفاؤلًا لزوال ذلك الوجع، "وقوله: إلا شفاؤك،(9/403)
وقوله "إلا شفاؤك" بالرفع بدل من موضع: لا شفاء.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي يقول: "امسح الباس رب الناس، بيدك الشفاء، لا كاشف له إلا أنت". رواه البخاري أيضًا.
وفي صحيح مسلم، عن عثمان بن أبي العاص، أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: بسم الله، ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر".
__________
بالرفع بدل من موضع لا شفاء".
وقال في المصابيح: الكلام في عرابه، كالكلام في لا إله إلا الله, ولا يخفى أنه بحسب صدر الكلام نفي لكل إله سواه تعالى، وبحسب الاستثناء إثبات له وللألوهية؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات، لا سيما إذا كان بدلًا، وأنه يكون هو المقصود بالنسبة، ولهذا كان البدل الذي هو المختار في كل كلام تام غير موجب بمنزلة الواجب في هذه الكلمة الشريفة، حتى لا يكاد يستعمل لا إله إلا الله بالنصب، ولا إله إلا إياه، فإن قيل: كيف يصح، مع أن البدل هو المقصود، والنسبة إلى المبدل منه سلبية فالجواب إنما وقعت النسبة إلى البدل بعد النقض بإلا، فالبدل هو المقصود المعتبر في المبدل، منه لكن بعد نقضه ونفي النفي إثبات.
"وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرقي" "بفتح أوله وكسر القاف" وهو بمعنى قوله في الرواية قبله: كان يعوذ، حال كونه "يقول: امسح" أي أزل، وهو بمعنى الرواية قبله: أذهب "البأس" الضرر "رب الناس، بيدك الشفاء" لا بيد غيرك، "لا كاشف له" أي المرض "إلا أنت" وهو بمعنى قوله: اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت، "رواه البخاري أيضًا" تلو الحديث قبله من الباب المذكور، وهذا من إفراده عن مسلم.
"وفي صحيح مسلم عن عثمان بن أبي العاص" الثقفي، الطائفي، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف، ومات بالبصرة في خلافة معاوية، "أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعًا يجده في جسده منذ أسلم".
وفي الموطأ قال عثمان: وبي وجع قد كاد يهلكني، "فقال" له "النبي صلى الله عليه وسلم: "ضع يدك" اليمنى "على الذي تألم" "بفتح اللام" "من جسدك".
وفي رواية الطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان الذي تشتكي، فامسح بها سبع مرات، وفي الموطأ، فقال: امسحه بيمينك سبع مرات، "وقل: بسم الله" أي هذا اللفظ "ثلاثًا" من المرات، "وقل سبع مرات: أعوذ" أعتصم "بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" من(9/404)
وإنما كرره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء لإخراج المادة.
__________
وجعي هذا، كما زاده في حديث أنس عند الترمذي، وحسنه، والحاكم، وصححه عن محمد بن سالم، قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد إذا اشتكيت، فضع يدك حيث تشتكي، ثم قال: بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد من وجعي هذا، ثم ارفع يدك، ثم أعد ذلك وترًا، قال: فإن أنس بن مالك حدثني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثني بذلك.
وفي رواية الطبراني والحاكم عن عثمان أنه يقول ذلك في كل مسحة من السبع. ومعنى أحاذر: أخاف، زاد في رواية الموطأ: قال عثمان: فقلت ذلك، فأذهب الله ما كان بي، فلم أزل آمر بها أهلي وغيرهم، وهذا من الأدوية الإلهية والطب النبوي، لما فيه من ذكر الله والتفويض إليه والاستعاذة بعزته وقدرته.
قال بعضهم: ويظهر أنه إذا كان المريض نحو طفل، أن يقول من يعوذه من شر ما يجد ويحاذر، وأن يقول: أعيذك، قال شيخنا: ويحتمل أن يقول هذا اللفظ مطلقًا، تبركًا بالمروي، ويلاحظ أن المعنى ما أجده بهذا المريض وأخافه عليه، لكن يؤيد الأول حديث البخاري عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة"، ويقول: "إن أباكما كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق"، "وإنما كرره ليكون أنجع وأبلغ، كتكرار الدواء" الطبيعي "لإخراج المادة" أي لاستقصاء إخراجها، وفي السبع خاصية لا توجد في غيرها، وقد حض صلى الله عليه وسلم على السبع في غير ما موضع، بشرط قوة اليقين وصدق النية.(9/405)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم:]
عن بريدة قال: شكا خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل.
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم:
الفزع: الخوف والأرق، "بفتحتين" السهر بالليل، ولم يذكر تحت الترجمة شيئًا للفزع، فلعله أراد الأرق ونحوه من كل ما يحذر، ومنه الفزع، وربما يشعر به قول الحديث: من شر خلقك كلهم، ويحتمل؛ أنه بيض لذكر حديث للفزع فنسي، وقد روى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: بلغني أن خالد بن الوليد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أروع في منامي، فقال له صلى الله عليه وسلم: "قل: أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون"، "عن بريدة" ابن الحصيب "بالتصغير فيهما وحاء وصاد مهملتين" الأسملي، الصحابي المشهور، "قال: شكا خالد" بن الوليد المخزومي سيف الله "إلى(9/405)
من الأرق، فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم رب السماوات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جارًا من شر خلقك كلهم جميعًا أن يفرط علي أحد منهم أو يبغي علي، عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك". رواه الترمذي.
__________
النبي صلى الله عليه وسلم، يا رسول الله ما أنام الليل من الأرق" السهر، ثم يحتمل أنه أراد الليل كله أو معظمه، كخبر: لا يضع العصا عن عاتقه، "فقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أويت" "بقصر الهمزة" على الأفصح، قال شيخ الإسلام وغيره: إن كان أوى لازمًا كما هنا، فالقصر أفصح وإن كان متعديًا، كالحمد لله الذي آوانا، فالمد أفصح، عكس ما وقع لبعضهم "إلى فراشك" أي انضممت إليه ودخلت فيه لتنام، "فقل" استحبابًا: "اللهم رب السماوات السبع وما أظلت" أي سترت، "ورب الأرضين السبع"، كما في الترمذي، فسقط من المصنف: "وما أقلت" أي حملت، "ورب الشياطين وما أضلت" أغوت، وعبر بما إرادة للعموم، نحو: لله ما في السماوات وما في الأرض، "كن لي جارا" أي مجيرًا، مؤمنًا لي مما أخاف "من شر خلقك كلهم جميعًا" جمع بين التأكيدين زيادة في التأكيد، "أن يفرط" "بضم الراء، أي يتعدى" "علي أحد منهم" بكلام أو غيره، يؤذيني "أو يبغي علي" أي يظلمني ويعتدي "عز" غلب "جارك" من أجرته، "وجل" عظم "ثناؤك" "بالمد" مدحك، فلا يمكن إحصاره، "ولا إله غيرك" يرجى لكشف الضر وإجابة الدعاء، أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء، "رواه الترمذي" في سننه.(9/406)
[ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى] :
في المسند مرفوعًا: "ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: "إنا لله وإنا إليه
__________
ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى:
"في المسند" يطلق، كما في الألفية على المرفوع وعلى المتصل، وهو المراد بقوله: "مرفوعًا" ولا ينبغي أن يريد مسند أحمد لئلا يعاب بقصر العزو له، مع أن هذا الحديث أخرجه أحمد ومسلم ومالك وأصحاب السنن، عن أم سلمة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "ما من أحد" وفي رواية: ما من مسلم، وأخرى: ما من عبد.
قال الطيبي: نكرة وقعت في سياق النفي، وضم إليها من الاستغراقية لإفادة الشمول "تصيبه مصيبة" أي مصيبة كانت، لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء ساء المؤمن فهو مصيبة"، رواه ابن السني.(9/406)
راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها".
قال في الهدى النبوي: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عالجته وأجلته فإنها تتضمن أصلين عظيمين، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته.
أحدهما: أن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير.
__________
قال الباجي: لفظ مصيبة موضوع في أصل كلام العرب لكل من ناله خير أو شر، لكن خص في عرف الاستعمال بالرزايا والمكاره، "فيقول" زاد في رواية، كما أمره الله، أي بالثناء والتبشير لقائله المقتضى ندبه، والمندوب مأمور به على المختار في الأصول، "إنا لله" ملكًا وعبيدًا يفعل بنا ما يشاء "وإنا إليه راجعون" في الآخرة فيجازينا، "اللهم أجرني" "بقصر الهمزة وضم الجيم وسكون الراء".
قال عياض: يقال أجر "بالقصر والمد"، والأكثر أنه مقصور لا يمد، أي أعطني أجري وجزاء صبري وهمي "في مصيبتي، واخلف" "بقطع الهمزة وكسر اللام" "لي خيرًا منها إلا أجره الله" أثابه وأعطاه الأجر "في مصيبته، واخلف له خيرًا منها" فينبغي لكل من أصيب بمصيبة أن يفزع إلى ذلك تأسيًا بكتاب الله وسنة رسوله.
قال ابن جريج: ما يمنعه أن يستوجب على الله ثلاث خصال، كل خصلة منها خير من الدنيا وما فيها، صلوات الله ورحمته والهدى، قاله أبو عمر بن عبد البر.
وبقية الحديث قالت: فلما مات أبو سلمة، قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم إني قلتها: فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم.
"قال" ابن القيم "في الهدي النبوي: وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب وأنفعه له في عاجلته" الدنيا، "وآجلته" الآخرة، "فإنها تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق" أي اتصف "العبد بمعرفتهما، تسلي عن مصيبته" وصبر "أحدهما" أي الأصلين؛ "إن العبد وأهله وماله ملك لله تعالى حقيقة، وقد جعله عند العبد عارية، فإذا أخذه منه، فهو كالمعير يأخذ متاعه من المستعير" وقد ضربت المثل بالعارية أم سليم لزوجها أبي طلحة لما مات ابنه منها أبو عمير وتحته في جانب البيت، وكان أبو طلحة خارجًا عنه، فلما جاء قال: كيف الغلام؟، قالت: هدأت نفسه، وأرجو أنه استراح، وقربت له العشاء، فتعشى، ثم تطيبت وتعرضت له حتى واقعها، فلما أراد أن يخرج، قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قومًا قد أعاروا أهل البيت عارية، فطلبوا(9/407)
والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره، ويجيء ربه فردًا كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن بالحسنات وبالسيئات، فإذا كانت هذه الحالة بداية العبد ونهايته فكيف يفرح بموجود، أو يأسى على مفقود، ففكره في مبدئه ومعاده من أعظم علاج هذا الداء.
قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير في إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، وإن سرور الدنيا أحلام نوم، أو ظل زائل، إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا، وإن متعت قليلًا منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة إلا ملأتها عبرة، ولا سرته بيوم سرور، إلا خبأت له يوم شرور. قال ابن مسعود: لكل فرحة ترحة، وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا.
__________
عاريتهم، ألهم أن يمنعوهم؟، قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، فغضب وقال: تركتني حتى تلطخت، ثم أخبرتني بابني، واسترجع، ثم صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أخبره بما كان منهما، فقال: "لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما".
وفي رواية اللهم بارك لهما، فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة، قال بعض الأنصار: فرأيت له تسعة أولاد، كلهم قد قرءوا القرآن، كما مر ذلك مبسوطًا في الصحيحين وغيرهما.
"والثاني: أن مصير العبد ومرجعه إلى الله، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ويجيء ربه فردًا" كما قال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم: 80] ، "كما خلقه أول مرة بلا أهل ولا مال ولا عشيرة، ولكن" يأتي "بالحسنات" إن كان محسنًا، "وبالسيئات" إن كان مسيئًا، "فإذا كانت هذه الحالة بداية العبد ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى" أي يحزن "على مفقود، ففكره في مبدئه، ومعاده" عوده يوم القيامة، "من أعظم علاج هذا الداء، قال: ومن علاجه أن يطفئ نار مصيبته ببرد التأسي" الاقتداء "بأهل المصائب، وأنه لو فتش العالم لم ير فيه إلا مبتلى، إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وإن سرور الدنيا أحلام نوم" تشبيه بليغ بحذف الأداة، "أو ظل زائل" عن قريب، "إن أضحكت قليلًا أبكت كثيرًا، وإن سرت يومًا ساءت دهرًا" زمنًا طويلًا، "وإن متعت قليلًا" بشيء من زهرتها "منعت طويلًا، وما ملأت دارًا حبرة" "بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة" أي نعمة وسعة "إلا ملأتها عبرة" "بفتح المهملة" الدمع قبل أن يفيض، أو تردد البكاء في الصدر، أو الحزن بلا بكاء: جمعها عبرات، كما في القاموس، "ولا سرته بيوم سرور إلا خبأت له يوم شرور".
"قال ابن مسعود" عبد الله الصحابي: "لكل فرحة ترحة" "بفتح الفوقية وسكون الراء"، هم: "وما ملئ بيت فرحًا إلا ملئ ترحًا" "بفتحتين"، أي هما.(9/408)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب} :
والكرب عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرضين ورب العرش الكريم"، رواه الشيخان.
وقوله: "عند الكرب" أي عند حلول الكرب.
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه:
إضافة بيانية، أي بدواء هو التوجه "إلى الرب" الهم الفكر فيما يتوقع حصوله من أذى حزن، كما في السبل، وفي القاموس: الهم: الحزن، جمعه هموم، "والكرب" الحزن بالنفس، كالكربة بالضم، والإضافة بيانية فيهما، أي من داء هو الهم والكرب، أو المراد بالداء الأثر الحاصل من الهم، من نحو سهر ومرض وصفرة ونحول، فالإضافة حقيقية.
"عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب" "بفتح الكاف وسكون الراء فموحدة" وهو ما يدهم الإنسان، فيأخذ بنفسه، فيغمه ويحزنه: "لا إله إلا الله العظيم" المطلق، البالغ أقصى مراتب العظمة، الذي لا يتصوره عقل، ولا يحيط بكنهه بصيرة، ولا شيء يعظم عليه، "الحليم" الذي لا يستفزه غضب، ولا يحمله غيظ على استعجال العقوبة والمسارعة إلى الانتقام، فيؤخره مع القدرة عليه، "لا إله إلا الله رب العرش العظيم" "بالجر" "لا إله إلا الله رب السماوات السبع، ورب الأرضين، ورب العرش الكريم" "بجره"، كالعظيم قبله نعت للعرش في رواية الجمهور.
ونقل ابن التين عن الداودي؛ أنه رواه برفع العظيم والكريم نعتان للرب، أو نعتان للعرش، على أنه خبر مبتدأ محذوف، قطع عما قبله للمدح، ورجح بحصول توافق القرائن، ورجح بعضهم الأول، بأن وصف الرب بالعظيم والكريم أولى من وصف العرش بهما، وتعقب بأن وصف ما يضاف للعظيم بالعظيم أقوى من تعظيم العظيم، وقد نعت الهدهد عرش بلقيس؛ بأنه عرش عظيم، ولم ينكر عليه سلميان، ووصف العرش بالكرم؛ لأنه الرحمة تنزل منه، أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.
قال الطيبي: صدر هذا الثناء بذكر الرب ليناسب كشف الكرب؛ لأنه يقتضي التربية، "رواه الشيخان" في الدعوات بهذا اللفظ من طريق هشام، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، "وقوله عند الكرب، أي عند حلول الكرب" أي نزوله وقيامه به، "وعند مسلم" من(9/409)
وعند مسلم: كان يدعو بهن ويقولهن عند الكرب.
وعنده أيضًا: كان إذا حزبه أمر -وهو بفتح المهملة والزاي- أي هجم عليه أو غلبه.
قال الطبري: معنى قول ابن عباس "يدعو", وإنما هو تهليل وتعظيم، يحتمل أمرين: أحدهما، أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء، كما عند عبد بن حميد "كان إذا حزبه أمر قال ... " فذكر الذكر المأثور، وزاد، ثم دعا. قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش عن إبراهيم قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء. ثانيهما: ما أجاب به ابن عيينة وقد سئل عن الحديث الذي فيه "أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له" الحديث. فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه
__________
طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يدعو بهن" أي بالكلمات المذكورة بعطف التفسير، بقوله: "ويقولهن عند الكرب" فذكره بمثل حديث هشام، غير أنه قال رب السماوات والأرض، قاله مسلم، أي أنه أسقط رب قبل الأرض، وهذا على عادة مسلم في تحري الألفاظ، "وعنده أيضًا" من طريق يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أبي العالية، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا حزبه أمر" فذكر مثله، "وهو بفتح المهملة والزاي" المنقوطة وموحدة، "أي هجم عليه أو غلبه" وهما متقاربان.
"قال الطبري: معنى قول ابن عباس: يدعو، وإنما هو تهليل وتعظيم يحتمل أمرين".
"أحدهما أن المراد تقديم ذلك قبل الدعاء" ولا يبعده قوله يدعو بهن؛ لأن المراد يدعو ملتبسًا أو متوسلًا بهن، "كما عند" "بالنون" "عبد" بلا إضافة "ابن حميد" أحد الحفاظ، أي كما رواه في مسنده، بلفظ: "كان إذا حزبه أمر ال فذكر الذكر المأثور" أي: لا إله إلا الله إلى آخره، "وزاد: ثم دعا" وكذا هو عند أبي عوانة في مستخرجه، بلفظ: ثم يدعو، ورواه الطبراني في الكبير، وزاد في آخره: اصرف عني شر فلان، أي يعينه باسمه، فإن له أثرًا بينًا في دفع شره.
"قال الطبري: ويؤيد هذا ما روى الأعمش" سليمان بن مهران، "عن إبراهيم" النخعي، "قال: كان يقال إذا بدأ الرجل بالثناء قبل الدعاء" أي قدمه عليه، فالظرف بيان للمقدم عليه، "استجيب له، وإذا بدأ بالدعاء قبل الثناء كان على الرجاء" في الاستجابة وعدمها.
"ثانيهما: ما أجاب به" سفيان "ابن عيينة، وقد سئل عن الحديث الذي فيه أكثر ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث" وقد رواه(9/410)
دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين"، وقال أمية بن أبي الصلت في مدح عبد الله بن جدعان:
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يومًا ... كفاه من تعرضك الثناء
__________
ابن أبي شيبة عن علي، مرفوعًا: "أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي بعرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير"، "فقال سفيان: هو ذكر وليس فيه دعاء، ولكن قال النبي صلى الله عليه وسلم" فيما يرويه "عن ربه عز وجل" بواسطة الملك أو بدون واسطة، وجهان في جميع الأحاديث الإلهية: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" تصريح الدعاء.
"وقال أمية بن أبي الصلت" عبد الله بن ربيعة الثقفي: كان يتعبد في الجاهلية ويؤمن بالبعث، وينشد في ثنائه الشعر المليح، ويطمع في النبوة، وأدرك الإسلام ولم يسلم، ومات في حصار الطائف سنة ثمان كافرًا.
وفي مسلم عن الشريد بن سويد: أنه أنشد النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية مئة بيت، وفي ابن عساكر وغيره مرفوعًا: "آمن شعر أمية بن أبي الصلت وكفر قلبه" "في مدح عبد الله بن جدعان" "بضم الجيم وإسكان الدال، ثم عين مهملتين، فألف، فنون" ابن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم التيمي، يكنى أبا زهير، وهو أحد من حرم الخمر في الجاهلية، وابن عم عائشة، ولذا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن ابن جدعان كان يطعم الطعام ويقري الضيف، فهل ينفعه ذلك؟، فقال: "لا. إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
رواه مسلم: "أأذكر حاجتي أم قد كفاني" يحتمل أن الاستفهام تقريري والظاهر أنه استفهام إنكاري أي لا أذكرها بل قد كفاني "حياؤك" بفتح المهملة والتحتية والمد، عن ذكر حاجتي، "إن شيمتك" "بمعجمة" طبيعتك التي خلقت عليها "الحياء" المقتضى مزيد الكرم، المغني عن ذكر الحاجة، ويحتمل أنه "بكسر الحاء وموحدة فيهما" أي عطاؤك بلا عوض "إذا أثنى عليك" أي مدحك "المرء يومًا" قطعة من الزمان لا حقيقة اليوم، "كفاه من تعرضك" "مصدر مضاف لمفعوله"، أي كفاه من سؤاله لك، أو من طلب معروفك "الثناء" أي ثناؤه عليك، وأنشده غير المصنف من تعرضه الثناء، وهو ظاهر، والمعنى على الضبط الأول: إن الثناء عليك يحملك على البحث عن حاجة المثنى والتقيد بأمره، فيكفيه ذلك عن ذكرها. وعلى الثاني: إن عطاءك بمعنى إعطائك، يغني ذا الحاجة عن السؤال، ويجعل مجرد الثناء كافيًا، بل لا يحتاج إليه، فإن مجرد علمك بالحاجة كاف في بذل معروفك، فليس القصد بالثناء إلا مجرد(9/411)
فهذا المخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق.
ثم إن حديث ابن عباس هذا -كما قال ابن القيم- قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القدرة والرحمة والإحسان والتجاوز عن المسيء، ووصفه بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوي والسفلي والعرش والكرسي، الذي هو سقف المخلوقات وأعظمها، والربوبية التامة تستلزم توحيده، وأنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل
__________
الحضور عندك، وبعد البيتين:
كريم لا بغيره صباح ... عن الخلق الجميل ولا مساء
فأرضك كل مكرمة بناها ... بنو تيم وأنت لها سماء
"فهذا المخلوق حين نسب إلى الكرم اكتفى بالثناء عن السؤال، فكيف بالخالق" وأيد الاحتمال الثاني بحديث سعد بن أبي وقاص، رفعه: دعوة ذي النون إذ دعا، وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، فإنه لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله تعالى له.
أخرجه الترمذي والنسائي، وفي لفظ للحاكم: فقال رجل: كانت ليونس، خاصة أم للمؤمنين عامة، فقال صلى الله عليه وسلم: "ألم تسمع إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِين} " [الأنبياء: 88] ، "ثم إن حديث ابن عباس هذا كما قاله ابن القيم" ف زاد المعاد في هدى خير العباد، "قد اشتمل على توحيد الإلهية والربوبية" بكلمة الإخلاص، وكونه رب كل شيء، وذلك أصل التنزيهات الجلالية، "ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم" بقوله: العظيم الحليم، "وهاتان الصفتان" أي التوحيد والوصف "مستلزمتان لكمال القدرة" من لفظ العظيم؛ لأن العظمة دالة على كمال القدرة "والرحمة والإحسان والتجاوز عن المسيء" بقوله: الحليم الذي يدل على العلم؛ إذ الجاهل لا يتصور منه حلم ولا كرم، وهما أصل الأوصاف الإكرامية، "ووصفه بكمال ربوبيته الشاملة للعالم العلوي والسفلي والعرش والكرسي".
كذا في بعض النسخ، وفي أكثرها سقوطه والكرسي، وهو الذي في الهدي "الذي هو" أي العرش "سقف المخلوقات" لارتفاعه عن جميعها، فهو مظل على جميل العالم، كالسقف، "وأعظمها" جرمًا، "والربوبية التامة تستلزم توحيده، وإنه الذي لا تنبغي العبادة والحب والخوف والرجاء والإجلال والطاعة إلا له، وعظمته المطلقة تستلزم إثبات كل كمال له،(9/412)
كمال له، وسلب كل نقص وتمثيل عنه، وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه. فعلم القلب ومعرفته بذلك توجه محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور وما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب أولى أو أحرى. ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق، وخروج القلب منه إلى سعة البهجة والسرور. وإنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه أنوارها وباشر قلبه حقائقها.
قال ابن بطال: حدثني أبو بكر الرازي قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم فقال له شيخ: إن أبا بكر بن علي قد سعي به عند السلطان فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفيته بالتسبيح لا يفتر، فقال لي
__________
وسلب كل نقص وتمثيل عنه" وذلك أصل التنزيهات الجلالية، كما قاله الطيبي؛ "وحلمه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه" إذ الحليم الذي يؤخر العقوبة مع القدرة، كما مر، "فعلم القلب ومعرفته بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيده، فيحصل له من الابتهاج واللذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم، وأنت تجد المريض إذا ورد عليه ما يسره ويفرحه ويقوي نفسه كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسي، فحصول هذا الشفاء للقلب" إذا ورد عليه ما سبق عند علمه بكمال العظمة ... إلخ "أولى أو أحرى" عطف مساوٍ حسنه اختلاف اللفظ، "ثم إذا قابلت بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التي تضمنها هذا الحديث وجدته في غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق وخروج القلب منه إلى سعة البهجة" أي إلى السعة الحاصلة للداعي بسبب ما قام به من البهجة "والسرور، إنما يصدق هذه الأمور من أشرقت فيه" أي في ذاته "أنوارها وباشر قلبه حقائقها" لا من لم يصل إلى ذلك.
"قال ابن بطال" العلامة المحدث أبو الحسن علي شارح البخاري: "حدثني أبو بكر الرازي" "قال: كنت بأصبهان عند أبي نعيم" الحافظ أحمد بن عبد الله الأصبهاني، صاحب الحلية وغيرها، "فقال له شيخ: إن أبا بكر بن علي" لفظ ابن بطال، وهناك شيخ يقال له أبو بكر بن علي، عليه مدار الفتيا، "قد سعى به عند السلطان، فسجن، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وجبريل عن يمينه يحرك شفيته بالتسبيح" أي تنزيه الله تعالى "لا يفتر" عنه فهو منه كغيره من الملائكة، كالنفس منا لا يشغلنا عنه شاغل، كما قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَار(9/413)
النبي صلى الله عليه وسلم قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه، قال: فأصبحت فأخبرته فدعا به، فلم يمكث إلا قليلًا حتى أخرج.
وفي حديث علي عند النسائي وصححه الحاكم: لقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات وأمرني إن نزل بي كرب أن شدة أن أقولها: "لا إله إلا الله الكريم العظيم، سبحان الله تبارك الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين"، وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول، وفي لفظ: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم العلي العظيم، لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي لفظ "لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحانه، تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين". أخرجها كلها النسائي.
__________
لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، "فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: قل لأبي بكر بن علي يدعو بدعاء الكرب الذي في صحيح البخاري حتى يفرج الله عنه" بخلاصه من السجن، "قال: فأصبحت، فأخبرته" بهذا المنام "فدعا به، فلم يمكث إلا قليلًا حتى أخرج" من السجن.
"وفي حديث علي عند النسائي: وصححه الحاكم" وابن حبان: "لقنني" خاطبني شفاهًا، وفهمني "رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة، وأمرني إن نزل بي كرب" حزن يأخذ بنفسي، "أو شدة" من نحو مرض، "أن أقولها" وهي: "لا إله إلا الله الكريم" المعطي فضلًا، "العظيم" الذي لا شيء يعظم عليه، "سبحان الله" تنزيهًا له عما لا يليق بعلي قدره، "تبارك الله" تعالى وتكاثر خيره، "رب العرش العظيم" "بالجر فقط" هنا صفة للعرش لا بالرفع لتقدم وصف الله تعالى به، "والحمد لله رب العالمين" أي ملك جميع الخلائق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم، وكل منها يطلق عليه عالم، يقال عالم الإنس وعالم الجن، إلى غير ذلك، وغلب في جمعه "بالياء والنون" أولو العلم على غيرهم، وهو من العلامة؛ لأنه علامة على موجده.
"وفي لفظ: "الحليم الكريم" في الأول" أي أنه أبدل العظيم بالحليم.
"وفي لفظ" أي رواية "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العليم" لكل معلوم، أو البالغ في العلم، فعلمه تعالى شامل لجميع المعلومات، محيط بها، سابق على وجودها، "العلي" فعيل من العلو، وهو البالغ في علو مرتبته إلى حيث لا رتبة إلا وهي منحطة عنه، "العظيم لا إله إلا الله وحده لا شريك له" أعاده ليكون أنجع وأغلب.
"وفي لفظ: "لا إله إلا الله، الحليم الكريم، سبحانه تبارك وتعالى رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين"، أخرجها كلها النسائي" أحمد بن شعيب المصري، أبو عبد الرحمن،(9/414)
وروى الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر رفع طرفه إلى السماء فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم".
وعنده أيضًا من حديث أنس: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: "يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث".
قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير قوله: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" في رفع هذا الداء مناسبة بديعة، فإن صفة "الحياة" متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، صفة "القيومية" متضمنة لجميع صفات الأفعال. ولهذا كان الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى هو اسم الحي القيوم، والحياة
__________
أحد الحفاظ، فينبغي للمكروب، أن يأتي بجميع هذه الروايات؛ لأنها كلها فيها حث أكيد، واختلاف ألفاظها إن كان من الرواة، فيتأكد ذكر جميعها حتى يصادف لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان نطق بجميعها في أوقات، فيتعين التأسي به في ذكر جميعها.
"وروى الترمذي عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أهمه الأمر" أقلقه وأزعجه، "رفع طرفه" بصره "إلى السماء" متسغيثًا متضرعًا، "فقال: "سبحان الله العظيم"، وإذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم" من أبنية المبالغة، والقيم معناه: القائم بأمور الخلق ومدبر العالم في جميع أحواله، والقيوم: القائم بنفسه مطلقًا لا بغيره، ويقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به، "وعنده أيضًا من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه" "بحاء مهملة وزاي وموحدة مفتوحات" "أمر" أي هجم عليه، أو غلبه، أو نزل به هم، أو غم، وفي رواية: حزنه "بنون"، أي أوقعه في الحزن، يقال: أحزنني الأمر وحزنني، فأنا محزون، ولا يقال: محزن.
ذكره ابن الأثير، "قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث" مما نزل بي؛ "قال العلامة ابن القيم: وفي تأثير قوله يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث في رفع هذا الداء" الكرب الذي نزل به "مناسبة بديعة، فإن صفة الحياة متضمنة لجميع صفات الكمال مستلزمة لها، وصفة القيومية متضمنة لجميع صفات الأفعال" لأن معنى القيوم: الدائم القائم بتدبير الخلق وحفظه على أحسن الأحوال وأجمعها، "ولهذا كان الاسم الأعظم الذي إذا دعي به" الله سبحانه "أجاب: وإذا سئل به أعطى، هو اسم الحي القيوم" في أحد الأقوال، والإضافة بيانية، أي الاسم الذي هو الحي القيوم، "والحياة التامة" صفة "تضاد جميع الآلام والأسقام، ولهذا لما(9/415)
التامة تضاد جميع الآلم والأسقام، ولهذا لما كملت حياة أهل الجنة لم يلحقهم هم ولا غم ولا حزن ولا شيء من الآفات. فالتوسل بصفة "الحياة والقيومية" له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة ويضر بالأفعال. فلهذا الاسم "الحي القيوم" تأثير عظيم خاص في إجابة الدعوات وكشف الكربات ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء قال: "يا حي يا قيوم".
وروى أبو داود عن أبي بكر الصديق، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوات المكروب: اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت".
وفي هذا الدعاء -كما قاله في زاد المعاد- من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده، والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه كله ولا يكله إلى نفسه، والتوسل إليه بتوحيده، مما له تأثير في دفع
__________
كملت حياة أهل الجنة، لم يلحقهم هم، ولا غم، ولا حزن، ولا شيء من الآفات، فالتوسل بصفة الحياة والقيومية له تأثير في إزالة ما يضاد الحياة" أي يخالفها "ويضر بالأفعال" "بضم أوله من أضر لتعديه بالباء" فإن تعدي بنفسه، فمن ضر نحو: لن يضروكم، "فلهذا الاسم الحي القيوم تأثير عظيم خاص في إجابة الدعوات وكشف الكربات، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد في الدعاء، قال: "يا حي يا قيوم" كما في الحديث قبله.
"وروى أبو داود" في الأدب، وأحمد والبخاري في الأدب المفرد، وابن حبان، وصححه "عن أبي بكر الصديق" كذا في النسخ والذي في أبي داود: ومن ذكرت معه إنما هو عن أبي بكرة، واسمه نفيع ن الحارث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دعوات المكروب" المغموم المحزون، أي الدعوات النافعة له، المزيلة لكربه، وكأنه جمعها لاشتمالها على أفراد، كأنها محيطة بجميع دعوات المكروب، لاشتمالها على ما هو جامع لكشف كل كرب، أو المراد: أن هذا من جملتها "اللهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله، لا إله إلا أنت" ختمه بهذه الكلمة الحضورية الشهودية إشارة إلى أن الدعاء إنما ينفع المكروب ويزيل كربه إذا كان مع حضور وشهود، ومن شهد فيه بالتوحيد والجلال مع جمع الهمة وحضور البال، فهو حري بزوال الكرب في الدنيا، والرحمة ورفع الدرجات في العقبى.
"وفي هذا الدعاء، كما قاله في زاد المعاد" في هدي خير العباد؛ "من تحقيق الرجاء لمن الخير كله بيده والاعتماد عليه وحده، وتفويض الأمر إليه، والتضرع إليه أن يتولى إصلاح شأنه كله، ولا يكله إلى نفسه" ولا أقل قليل، لقوله: طرفة عين، "والتوسل إليه(9/416)
هذا الداء.
وكذا قوله في حديث أسماء بنت عميس عند أبي داود مرفوعًا: "كلمات الكرب: الله ربي لا أشرك به شيئًا".
وفي مسند الإمام أحمد من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي
__________
بتوحيده" شيء عظيم "مما له" "بميمين"، متعلق بما قدرنا "تأثير" نفع زائد على غيره "في دفع هذا الداء".
وفي نسخة: ما له "بميم واحدة، وهو المبين المقدم عليه بيانه" أي في هذا الدعاء شيء عظيم له تأثير من تحقيق الرجاء إلى آخره؛ "وكذا قوله في حديث أسماء بنت عميس" بمهملتين مصغر الخثعمية، صحابية لها أحاديث، وهي أخت ميمونة أم المؤمنين، "عند أبي داود، مرفوعًا: "كلمات الكرب" الدعوات النافعة له بشرط صدق النية وخلوص الطوية: "الله" "بالرفع مبتدأ والخبر" "ربي لا أشرك به" أي بعبادته "شيئًا" من الخلق برياء أو طلب أجر، كمن يسره أن يطلع على عمله، أو المراد: لا أشرك بسؤاله أحدًا غيره، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20] .
وقد رواه بأتم منه ابن أبي الدنيا، عن أسماء بنت عميس، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصابه غم أو سقم أو شدة أو لأواء أو أزل، فقال: الله الله ربي، لا أشرك به، كشف ذلك عنه"، ورواه الخطيب عنها مرفوعًا: "إذا أنزل بأحدكم غم، أو هم، أو سقم، أو لأواء وأزل، فليقل: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا ثلاث مرات".
وللطبراني في الأوسط، عن عائشة مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم هم أو لأواء، فليقل: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا".
وللنسائي عن عمر بن عبد العزيز، مرسلًا، مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم هم، أو حزن، فليقل سبع مرات: الله الله ربي، لا أشرك به شيئًا"، وذكر الجلالة مرتين استلذاذًا بذكره واستحضارًا لعظمته وتأكيدًا للتوحيد، فإنه الاسم الجامع للصفات الجلالية والجمالية والكمالية.
"وفي مسند الإمام أحمد" وابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم، "من حديث ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدًا" أي مسلمًا، ففي رواية الثلاثة. المذكورين: ما أصاب مسلمًا قط "هم" فكر فيما يتوقع حصوله من أذى "ولا حزن" "بضم فسكون"، "فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك" "برفع ابن صفة ثانية لعبدك، فهو من تعدد الصفات، بحذف العاطف، فتكتب الألف والمراد بالعبد والأمة الجنس الصادق بجميع أصوله، وبهذا يظهر قوله(9/417)
بيدك، ماض في حكمك عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزن وهمه، وأبدله مكانه فرحًا".
وإنما كان هذا الدعاء بهذه المنزلة لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعي وعبودية آبائه وأمهاته، وأن ناصيته بيده، يصرفها كيف يشاء، وإثبات القدر، وأن أحكام الرب تعالى نافذة في عبده، ماضية فيه، لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها، والله سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام غير ظالم لعبده، ثم توسله
__________
الآتي: وعبودية آبائه وأمهاته، "ناصيتي بيدك" الناصية قصاص الشعر، جمعها النواصي، كما في المصباح.
وفي القاموس: وقصاص الشعر مثلثة، حيث ينتهي منبته من مقدمه ومؤخره، ولم يرد الناصية خاصة، فهو كخبر الخيل في نواصيها الخير "ماض" أي: نافذ "في حكمك" لا انفكاك لي عنه، ولا حيلة في دفعه، "عدل في قضاؤك" حكمك، لا جور فيه ولا ظلم، "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك" أي جنسه، فيصدق بجميع كتبه المنزلة، "أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت" اختصصت "به في علم الغيب عندك" فلم يطلع عليه أحدًا، "أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي" لأرتع في زهور معارفه "ونور صدري".
وفي رواية ابن أبي الدنيا والطبراني والحاكم: ونور بصري بدل صدري، فينبغي للداعي أن يجمع بينهما، "وجلاء" "بكسر الجيم والمد"، أي كاشف "حزني وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرحًا" أي سرورًا.
وفي رواية الثلاثة الذين ذكرتهم: "إلا أذهب الله همه وأبدله مكان حزنه فرحًا"، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلم هذه الكلمات، قال: "بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن"، "وإنما كان هذا الدعاء" المذكور "بهذه المنزلة" الرتبة العلية، "لاشتماله على الاعتراف بعبودية الداعي وعبودية آبائه وأمهاته" وذلك صفة الإنسان الحقيقية، "وإن ناصيته" أي: جملته "بيده" قدرته، "يصرفها" أي يقلبها "كيف يشاء" وعبر عن ذلك بالناصية، إشارة إلى أنه بمنزلة الأسير الذي يجره آسره بشعر رأسه، ليفعل به ما يريده، "وإثبات" "بالجر عطف على عبودية الداعي" "القدر" "بفتحتين" "وإن أحكام الرب تعالى نافذة" "بالمعجمة" "في عبده، ماضية فيه" هو بمعنى ما قبله، حسنه اختلاف اللفظ، "لا انفكاك له عنها، ولا حيلة له في دفعها" عنه بوجه، "والله(9/418)
بأسماء الرب تعالى التي سمى بها نفسه، ما علم العباد منها، وما لم يعلموا، ومنها ما استأثر به في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل وأحبها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلًا للمطلوب، ثم سؤاله أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعًا، كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان، وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد، وأن يجعله شفاء همه وغمه فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء، ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع والأصدية وغيرها، فإذا صدق العليل في استعمال هذا الدواء أعقبه شفاء تامًّا.
وفي سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة
__________
سبحانه وتعالى عدل في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده" لأنه المالك الحقيقي، "ثم توسله" "بالجر عطفًا على اشتماله المجرور باللام، أو على الاعتراف" "بأسماء الرب تعالى التي سمى بها نفسه، ما علم العباد منها وما لم يعلموا، ومنها ما استأثربه في علم الغيب عنده، فلم يطلع عليه ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا، وهذه الوسيلة أعظم الوسائل" وهي ما يتقرب به إلى الشيء، "وأحبها إلى الله تعالى، وأقربها تحصيلًا للمطلوب، ثم سؤاله" "بالجر عطف على توسله"، وهي أولى من نسخة: ثم سأله "أن يجعل القرآن العظيم لقلبه ربيعًا، كالربيع الذي يرتع فيه الحيوان" أي يسعى وينشط، فهو تشبيه بليغ، أو استعارة، "وأن يجعله لصدره كالنور الذي هو مادة الحياة، وبه يتم معاش العباد، وأن يجعله شفاء همه وغمه، فيكون بمنزلة الدواء الذي يستأصل الداء" يزيله بحيث لا يبقى له أثر، "ويعيد البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحزنه كالجلاء الذي يجلو الطبوع" جمع طبع، وهو الصدأ والدنس، كما في القاموس، "والأصدية" جمع صدأ، وهو الوسخ الذي يعلو الحديد، فهما متقاربان، ولذا أفرد الضمير في قوله: "وغيرها" لأن المراد منها شيء واحد، وهو الآثار التي تكون في الثياب ونحوها من الدنس، "فإذا صدق العليل في استعمال هذا الدواء، أعقبه شفاء تامًّا" وصدقه باليقين التام، وصدق النية وخلوص الطوية، وأن لا يقصد به التجربة؛ لأن قاصد ذلك عنده شك.
"وفي سنن أبي داود" في الصلاة، "عن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سفيان الصحابي بن الصحابي، "قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد" النبوي، "فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة" غير منسوب ولا مسمى، ويجوز أنه أبو أمامة بن ثعلبة الحارثي، لكن أفرده ابن منده، وتبعه أبو نعيم بالترجمة، عنه وعن الباهلي، فهو غيرهما، كما أشار إليه في(9/419)
ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة"، فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك، وقضى عنك دينك"، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "قل إذا أصبحت وإذا أمسيت، اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". قال: ففعلت ذلك
__________
الإصابة، "فقال: "يا أبا أمامة ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة"، فقال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، فقال: "أفلا أعلمك كلامًا إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك"، قلت: بلى يا رسول الله" علمني، "قال: "قل إذا أصبحت" دخلت في الصباح، "وإذا أمسيت" دخلت في المساء، فصريحه المبادرة لقول ذلك أول الليل وأول النهار: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن" "بفتح الحاء المهملة والزاي" كما ضبطه المصنف كغيره، وهو الرواية: مصدر حزن كتعب، وهو المناسب، لكونه مستعاذًا منه من الاسم الذي هو الحزن "بضم فسكون".
وفي البخاري: البخل، والبخل واحد مثل الحزن، والحزن، أي "بضم فسكون فيهما، وبفتحتين فيهما، وليس العطف لاختلاف اللفظين مع اتحاد المعنى" كما ظن، بل الهم في أمر يتوقع، والحزن فيما وقع قبل، والهم من الحزن الذي يذيب لإنسان، فهو أشد من الحزن، وهو خشونة في النفس، فالفرق بينهما بالشدة والضعف، "وأعوذ بك من العجز" القصور عن فعل الشيء ضد القدرة، فهو ما لا يستطيعه الإنسان، "والكسل" ترك الشيء والتراخي عنه مع كونه يستطيعه، "وأعوذ بك من الجبن" "بضم الجيم وسكون الموحدة" الخوف والخور من تعاطي الحرب ونحوها، خوفًا على المهجة، "والبخل" ضد الكرم، "وأعوذ بك من غلبة الدين" أي استيلائه وكثرته، "وقهر الرجال" غلبتهم.
وقال التوربتشي: غلبة الدين: أن يثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله، وقهر الرجال: الغلبة؛ لأن القهر يراد به السلطان، ويراد به الغلبة، كما هنا لما في رواية، وغلبة الرجال، كأنه أراد هيجان النفس من شدة الشبق وإضافته إلى المفعول، أي يغلبهم ذلك إلى هذا المعنى سبق فهمي، ولم أجد في تفسيره نقلًا.
وقال بعضهم: قهر الرجال جور السلطان، وقال الطيبي: من مستهل الدعاء إلى قوله، والجبن يتعلق بإزالة الهم، والآخر بقضاء الدين، فعليه قوله: وقهر الرجال إما أن يكون إضافته إلى الفاعل، أي قهر الدائن إياه وغلبته عليه بالتقاضي، وليس معه ما يقضي دينه، أو إلى المفعول؛ أن لا يكون له أحد يعاونه على قضاء دينه من رجاله وأصحابه.(9/420)
فأذهب الله همي، وقضي ديني عني.
وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزدوجان: فالهم والحزن أخوان، والعجز والكسل أخوان، والجبن والبخل أخوان، وضلع الدين وقهر الرجال أخوان، فحصلت الاستعاذة من كل شر.
__________
"قال" أبو أمامة: "ففعلت ذلك" أي لازمت هذا الدعاء صباحًا ومساء، "فأذهب الله همي وقضى ديني عني".
قال في الإصابة: ظاهر سياق أول الحديث أنه من حديث أبي سعيد، وآخره أنه من رواية أبي أمامة، هذا وقد أخل المزي بترجمته في التهذيب والأطراف، وأغفله أبو أحمد الحاكم في الكنى. انتهى.
ولا مخالفة، والحديث إنما هو من رواية أبي سعيد، وقول الأنصاري: قلت: بلى يا رسول الله، ما نقل أبي سعيد عنه بتقدير قال: قلت كما صرح بلفظ قال: ففعلت، ولذا أغفله المزي في كتابيه؛ لأنه لم يرو الحديث، إنما الراوي أبو سعيد، "وقد تضمن هذا الحديث الاستعاذة من ثمانية أشياء، كل اثنين منها قرينان مزودوجان" أي متشاكلان، "فالهم والحزن أخوان" إذ المكروه الوارد على القلب إن كان من مستقبل يتوقعه أحدث الهم، أو من ماض أحدث الحزن، "والعجز والكسل أخوان" لأن التخلف عن أسباب الخير، إن كان لعدم قدرة فالعجز، أو لعدم إرادته فالكسل، "والجبن والبخل أخوان" لأن عدم النفع، إن كان بالبدن فالجبن، أو بالمال فالبخل، "وضلع الدين" "بفتح المعجمة واللام" أي ثقله حتى يميل صاحبه عن الاستواء لثقله، حيث لا يجد وفاء، لا سيماء مع المطالبة، "وقهر الرجال أخوان" فإن استيلاء الغير إن كان بحق فضلع الدين، أو بباطل فقهر الرجال، "فحصلت الاستعاذة من كل شر" وهذا قالوه في حديث البخاري وغيره، عن أنس رضي الله عنه: كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال"، فأتى به المصنف وإن كان لفظ حديثه وغلبة الدين؛ لأنه بمعنى ضلع لدين.
قال بعض العارفين: يجب التدقيق في فهم كلام النبوة ومعرفة ما انطوى تحته من الأسرار، ولا يقف مع الظاهر، فالمحقق ينظر ما سبب حصول القهر من الرجال، فيجده الحجاب عن شهود كونه سبحانه هو المحرك لهم حتى قهروه، فيرجع إلى ربه، فيكفيه قهرهم، والواقف مع الظاهر لا يشهده من الحق، بل من الخلق، فلا يزال في قهر، ولو أن شهد الفعل من الله، لزال القهر ورضي بحكم الله، فما وقعت الاستعاذة إلا من سبب القهر الذي هو الحجاب.(9/421)
وفي سنن أبي داود -أيضًا- عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب".
وإنما كان الاستغفار له تأثير في دفع الهم والضيق لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل أمة أن المعاصي والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب، وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول
__________
"وفي سنن أبي داود أيضًا" والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، "عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لزم الاستغفار" أي داوم عليه، وفي رواية أحمد والحاكم: من أكثر من الاستغفار "جعل الله له من كل هم فرجًا" "بفتح الفاء والراء والجيم"، أي كشفًا وخلوصًا منه، "ومن كل ضيق مخرجًا" من ذلك الضيق، "ورزقه من حيث لا يحتسب" يخطر بباله، مقتبس من قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3] ، لأن من داوم الاستغفار وقام بحقه، كان متيقنًا وناظرًا إلى قوله تقدس: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10، 11] .
قال الحكيم الترمذي: أشار بالإكثار إلى أن الآدمي لا يخلو من ذنب أو عيب ساعة، والعذاب عذابان: أدنى وأكبر، فالأدنى عذاب الذنوب، فإذا كان الإنسان متيقظًا على نفسه، فكلما أذنب أو عاب تبعهما استغفارًا، لم يبق في وبالهما وعذابهما، وإذا لها عن الاستغفار تراكمت ذنوبه، فجاءت الهموم والضيق والعسر والعناء والتعب، فهذا عذابه الأدنى، وفي الآخرة عذاب النار؛ وإذا استغفر تنصل من الهم، فصار له من الهموم فرج، ومن الضيق مخرج، ورزقه من حيث لا يحتسب، "وإنما كان الاستغفار له تأثير في دفع الهم والضيق؛ لأنه قد اتفق أهل الملل وعقلاء كل أمة" على "أن المعاصي والفساد يوجبان الهم والغم والحزن وضيق الصدر وأمراض القلب" نحو: الغل والحسد والكبر واحتقار الناس، "وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام في القلوب، فلا دواء لها إلا التوبة والاستغفار" لا ينجع فيها غيرهما.
"وعن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من كثرت همومه فليكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله" ولا حد للإكثار، وحد بعضهم أقله بثلاثمائة.
"وثبت في الصحيحين: أنها كنز من كنوز الجنة" ففيهما كالسنن الأربع عن(9/422)
ولا قوة إلا بالله. وثبت في الصحيحين أنها كنز من كنوز الجنة، وفي الترمذي: أنها باب من أبواب الجنة، وفي بضع الآثار: أنه ما ينزل ملك من السماء ولا يصعد إلا بلا حول ولا قوة إلا بالله.
وروى الطبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كربني أمر إلا تمثل لي جبريل فقال: يا محمد قل توكلت على الحي الذي لا يموت، والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرًا".
__________
أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "قل لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنز من كنوز الجنة".
قال الكرماني: أي كالكنز في كونه نفيسًا مدخرًا، مكنونًا عن أعين الناس، وقال الطيبي: هذا التركيب ليس باستعارة لذكر المشبه، وهو الحوقلة، والمشبه به وهو الكنز، ولا التشبيه العرفي، لبيان الكنز بقوله: من كنوز الجنة، بل هو من إدخال الشيء في جنس، وجعله أحد أنواع على التغليب، فالكنز إذًا نوعان: المتعارف وهو المال الكثير، يجعل بعضه فوق بعض ويحفظ، والثاني غير المتعارف، وهو هذه الكلمة الجامعة، المكتنزة بالمعاني الإلهية، لما أنها محتوية على التوحيد الخفي؛ لأنه إذا نفيت الحيلة والاستطاعة عما من شأنه ذلك، وأثبت لله على سبيل الحصر بإيجاده واستعانته وتوفيقه، لم يخرج شيء من ملكه وملكوته.
"وفي الترمذي: أنها باب من أبواب الجنة" أي أن المكثر لها له باب، أحد أبوابها الثمانية يدعى للدخول منه.
"وفي بعض الآثار: إنه ما ينزل ملك من السماء، ولا يصعد إلا بـ"لا حول ولا قوة إلا بالله" أي بقولها.
"ورو الطبراني" وابن صصرى في أماليه "من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما كربني أمر" "بفتح الكاف والراء" أي شق علي "إلا تمثل لي جبريل" أي جاءني بصورته المثالية، "فقال: يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ولم يكن له شريك في الملك" أي الألوهية، "ولم يكن له ولي من" أجل "الذل" أي لم يذل فيحتاج إلى ناصر، "وكبره تكبيرًا" عظمه عظمة تامة من اتخاذ الولد والشريك والذل، وكل ما لا يليق به، وترتيب الحمد على ذلك، للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته.
روى أحمد عن معاذ الجهني: مرفوعًا: "آية العز الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا ... " إلخ السورة، أمره جبريل أن يثق بالله ويسند أمره إليه في استكفاء ما ينوبه مع التمسك بقاعدة التوكل،(9/423)
وفي كتاب ابن السني من حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة عند الكرب أغاثه الله عز وجل".
وعنده -أيضًا- من حديث سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه، كلمة أخي يونس: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} " [الأنبياء: 87] .
__________
وعرفه؛ أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكل عليه وحده، ولا يتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون.
وعن بعض السلف: أنه قال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ذكره الزمخشري.
"وفي كتاب ابن السني" "بضم السين وشد النون" الحافظ أبي بكر، أحمد بن محمد بن إسحاق الدينوري، صاحب التصانيف "من حديث أبي قتادة" الحارث، ويقال: عمرو أو النعمان بن ربعي "بكسر الراء وسكون الموحدة فمهملة" الأنصاري، السلمي، المدني، شهد أحدًا وما بعدها، ولم يح شهوده بدرًا، ومات سنة أربع وخمسين على الأصح الأشهر.
"عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة" لله ما في السماوات إلى آخرها "عند الكرب أغاثه الله عز وجل" أي فرج كربه وأزاله، "وعنده" أي ابن السني "أيضًا من حديث سعد بن أبي وقاص" مالك الزهري، أحد العشرة، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لا يقولها مكروب إلا فرج الله عنه" كربه، قدم على الإخبار بها حثًّا عليها وتنويها بنفعها، ليلقى البال لها "كلمة أخي يونس" بن متى، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، {أَنْ} أي بأن {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} أي أنت القادر على حفظ الإنسان حيًّا في بطن الحوت، ولا قدرة لغيرك على ذلك، ثم أردفه بقوله: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} في ذهابي من بين قومي بلا إذن، تصريحًا بالعجز والإنكسار وإظهارًا للذلة والافتقار.
قال الحسن: ما نجا إلا بإقراره على نفسه بالظلم، وإنما قبل منه ولم يتقبل من فرعون حين قال: لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل؛ لأن يونس ذكرها في الحضور والشهود، وفرعون ذكرها في الغيبة تقليدًا لبني إسرائيل، ذكره الإمام الرازي، ثم المنادى به، لا إله إلا أنت ... إلخ, وما قبله إخبار عن صفة ما كان يقوله يونس وقتًا وصفة، فنبه صلى الله عليه وسلم بذكر الآية بتمامها على بيان صفته التي كان عليها وقت الدعاء من التضرع والتذلل، وإن وقته كان شديد العظم كربه، وهذا قد رواه الترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا، عن سعد بن أبي وقاص، رفعه: "ألا أخبركم بشيء، إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا، دعا به ربه ففرج عنه"، قالوا: بلى قال: "دعاء ذي(9/424)
وعند الترمذي: لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له.
وروى الديملي في مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد -يعني الصادق- قال: حدثني أبي عن جدي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر دعا بهذا الدعاء: "اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك بها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدًا، ويا ذات النعمة التي لا تحصى
__________
النون، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".
"وعند الترمذي" أيضًا والنسائي والحاكم، عن سعد مرفوعًا: "دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين"، "لم يدع بها رجل مسلم" بنية صادقة صالحة "في شيء قط إلا استجيب له" وفي رواية: إلا استجاب الله له، أي لأنها لما كانت مسبوقة بالعجز والانكسار ملحوقة بهما، صارت مقبولة: أم من يجيب المضطر إذا دعاه، فإن قيل: هذ ذكر لا دعاء، أجيب؛ بأنه ذكر يفتتح به الدعاء، ثم يدعو بما شاء، أو هو كما ورد: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، كما مر.
"وروى الديلمي في مسند الفردوس، عن جعفر بن محمد، يعني الصادق" لصدقه في مقاله من سادات آل البيت، "قال: حدثني أبي" محمد الباقر، "عن جدي" علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب مرسلًا؛ لأن جده تابعي؛ "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه" "بفتح الحاء المهملة والزاي والموحدة" أي هجم عليه، أو غلبه "أمر" هم، أو غم، "دعا بهذا الدعاء: "اللهم احرسني" "بضم الراء" احفظني "بعينك التي لا تنام واكنفني" أي استرني "بركنك الذي لا يرام" لا يقدر على طلبه، "وارحمني بقدرتك علي" لأن ذلك شأن الكرم الرحمة مع القدرة، "فـ" بسبب ذلك "لا أهلك، وأنت رجائي" أي مرجوي في جميع أموري، "فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري" أي قيامي بواجبها من الطاعات، "وكم من بلية ابتليتني بها قل لك بها صبري، فيا من قل عند نعمته شكري، فلم يحرمني" "بفتح أوله وضمه وكسر الراء" أي يمنعني من نعمه من حرم، كضرب وأحرم، "ويا من قل عند بليته صبري، فلم يخذلني" "بضم الذال" يترك نصرتي، "ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني" "بفتح الياء والضاد"، يكشف مساوئ، فأفتضح، وهذا من مزيد تواضعه صلى الله عليه وسلم واستغراقه في شهود الجلال، وإلا فمن يشكر ومن يصبر إذا لم يشكر ولم يصبر هو، وأي(9/425)
عددًا، أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد وبك أدرأ في نحور الأعداء والجبارين، اللهم أعني على ديني بالدنيا، وعلى آخرتي بالتقوى واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حظرته علي، يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لي ما لا ينقصك، واغفر لي ما لا يضرك، إنك أنت الوهاب، أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا، ورزقًا واسعًا، والعافية من البلايا، وشكر العافية -وفي رواية وأسألك تمام العافية وأسألك دوام العافية: وأسألك الشكر على العافية - وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
__________
خطيئة له فضلًا عن خطايا، وهو أيضًا من باب التعليم لأمته "يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدًا" بل هو دائم، "ويا ذا النعمة التي لا تحصى عددًا".
وفي نسخة: النعماء، والأولى أنسب؛ لأنها التي يتعلق بها العد، وأما النعماء، فصفة له تعالى بمعنى الأنعام، لا يتعلق بها العد؛ لأن الصفة لا تعدد فيها ولا تكثر، "أسألك أن تصلي على محمد وعلى آل محمد، وبك أدرأ" "بفتح الهمزة وسكون الدال وبالراء" أدفع "في نحور الأعداء والجبارين" العتاة المتكبرين، "اللهم أعني على ديني بالدنيا، وعلى آخرتي بالتقوى، واحفظني فيما غبت عنه" من الأفعال لتي لا استحضرها، أو من الأهل والمال.
وفي نسخة: فيما غبت عني، بالتثقيل وفتح تاء الخطاب، والمعنى واحد، "ولا تكلني إلى نفسي فيما حظرته" "بحاء مهملة وظاء معجمة، أي منعته" "علي" بل إلى توفيقك لئلا أوقع فيما حظرته، " يا من لا تضره الذنوب، ولا ينقصه العفو، هب لي ما لا ينقصك" وصوله إلي، وهو عفوك.
وفي نسخة: ما لا ينفعك، والمعنى عليهما: هب لي ما لا ينقص شيئًا من قدرك، ولا ينفعك شيء منه، لو لم توصله لي، "واغفر لي ما لا يضرك" وهو الذنوب، "إنك أنت الوهاب" كثير النعم، دائم العطاء: صيغة مبالغة من الهبة، وهي العطية بلا سبب سابق، ولا استحقاق ولا مقابلة ولا جزاء، "أسألك فرجًا قريبًا وصبرًا جميلًا" لا جزع فيه، "ورزقًا واسعًا، والعافية من البلايا، وشكر العافية" "مصدر جاء على فاعله، كناشئة الليل بمعنى نشوء الليل".
"وفي رواية: "وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية" أي السلامة من الأسقام، "وأسألك الشكر على العافية" أعادها مظهرة؛ لأن مقام الدعاء يطلب فيه البسط؛ لأنه مقام خطاب وخضوع، "وأسألك الغنى" "بكسر الغين والقصر" "عن الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" ختم بها الدعاء لما فيه من التوحيد الخفي كما مر.(9/426)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر} :
عن ابن عمر: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن الدنيا أدبرت عني وتولت قال له: "فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبه يزرقون، قل عند طلوع الفجر: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، استغفر الله مائة مرة تأتيك الدنيا
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر:
أي مداواته قولًا أو فعلًا، بأن يفعل ما هو سبب للشفاء أو يأمر به، ومثله يقال في نظائره، والإضافة في داء الفقر بيانية، "عن ابن عمر أن رجلًا قال: يا رسول الله إن الدنيا أدبرت عني" بعد الغنى، ويحتمل أنه فقير من أول أمره، والأول أولى لاحتياج الثاني لتأويل أدبرت، بمعنى: لم تأتني، وبعده لا يخفى، لا سيما مع قوله: "وتولت" إذ حقيقة الإدبار والتولي إنما يكون بعد المجيء.
وفي رواية المستغفري: قلت ذات يدي، "قال له: "فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق، وبه" أي التسبيح "يرزقون" "استفهام" أي كيف يغيب عنك علم ذلك، والقصد من الاستفهام حثه على قول ذلك ليأتيه الغنى، وعبر من الملائكة بالصلاة التي أريد بها مطلق الثناء، لجزمهم باتصافه تعالى بجميع صفات الكمال، وليس أحد منهم يصفه بخلاف ذلك، مع اعترافهم بأنهم ما عبدوه حق عبادته، وفي الخلائق بالتسبيح؛ لأنهم من حيث هم بقطع النظر عن المؤمنين ينسبون إليه ما لا يليق به، كالشريك، فناسب التعبير بالتسبيح الذي هو التنزيه عما لا يليق، "قل عند طلوع الفجر" وفي رواية المستغفري ما بين الفجر إلى أن تصلي الصبح، وهي مفسرة للعندية، فالحديث واحد: "سبحان الله" أي تنزيهه عما لا يليق به من كل نقص، فيلزم نفي الشريك والصاحبة والولد وجميع الرذائل، "وبحمده" "الواو للحال" أي أسبحه ملتبسًا بحمدي له، أو عاطفة، أي أسبحه وأثني عليه بحمده، أو الحمد مضاف للفاعل، والمراد لازمه، أي ما يوجبه من التوفيق، وعلى العطف، فهي جملة أخرى، والتسبيح إشارة إلى صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى صفات الإكرام، وقدم التسبيح؛ لأنه من التخلي بمعجمة على التوحيد؛ لأنه من التحلي "بمهملة" "سبحان الله العظيم" كرر هذه تأكيدًا، ولأن الاعتناء بشأن التنزيه أكثر من جهة كثرة المخالفين، ولهذا جاء في القرآن بعبارات مختلفة نحو: سبحان وسبح بلفظ الأمر، وسبح بلفظ الماضي، ويسبح بلفظ المضارع، ولأن التنزيهات تدرك بالعقول بخلاف الكمالات، فإنها تقصر عن إدراك حقائقها.
قال بعض المحققين: حقائق الإلهية لا تعرف إلا بطريق السنة، كما في العالم؛ لا يدرك منه إلا أنه ليس بجاهل، فأما علمه، فلا سبيل إليه، قاله الحافظ "استغفر الله".(9/427)
صاغرة"، فولى الرجل فمكث ثم عاد فقال: يا رسول الله لقد أقبلت علي الدنيا فما أدري أين أضعها. رواه الخطيب في رواية مالك.
__________
قال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا} [هود: 3] أي بطيب عيش وسعة رزق إلى أجل مسمى هو الموت، ويؤت كل ذي فضل، أي عمل فضله، أي جزاءه في الآخرة "مائة مرة تأتيك" كذا في جميع النسخ "بالياء" على أنه جواب إذا مقدره، وهي غير جازمة، أي فإنك إذا فعلت ذلك تأتيك، وإلا فالواجب حذفها؛ لأنها في جواب الأمر، أو يقال هو لم يقصد به الجزاء "الدنيا صاغرة" ليلة حقيرة، والمراد بسهولة بلا تعب ولا مشقة.
زاد في رواية المستغفري: راغمة، "فولى الرجل، فمكث" مدة "ثم عاد، فقال: يا رسول الله لقد أقبلت علي الدنيا" بكثرة، "فما أدري أين أضعها" من كثرتها، "رواه الخطيب" أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، الحافظ "في رواة مالك" أي في كتابه المؤلف فيمن روي عن مالك الإمام، فبلغ بهم ألفًا إلا سبعة رووا عن مالك وزاد عليه غيره كثيرًا، وكذا رواه المستغفري.(9/428)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق] :
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق:
روى ابن السني وابن عدي وابن عساكر من طريق ابن لهيعة، والطبراني في الدعاء من طريق عبد الرحمن بن الحارث، كلاهما "عن عمرو بن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي، السهمي، صدوق، مات سنة ثمان عشرة ومائة، "عن أبيه" شعيب، صدوق، ثبت سماعه من جده عبد الله، فالضمير في "عن جده" لشعيب، وإن عاد على عمرو ابنه حمل على جده الأعلى الصحابي، فالحديث متصل، وقد اختلف في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، وأصح الأقوال أنها حجة مطلقًا إذا صح السند إليه.
قال ابن الصلاح: وهو قول أكثر أهل الحديث حملًا للجد عند الإطلاق على الصحابي عبد الله بن عمرو دون ابنه محمد، والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك، فقد قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وأبا خيثمة وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده: ما تركه أحد منهم وثبتوه، فمن الناس بعدهم، وقول ابن حبان: هي منقطعة؛ لأن شعيبًا لم يلق عبد الله مردود، فقد صح سماع شعيب بعدهم، وقول ابن حبان: هي منقطعة؛ لأن شعيبًا لم يلق عبد الله مردود، فقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو، كما صرح به البخاري في التاريخ وأحمد، وكما رواه الدارقطني(9/428)
الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه".
فإن قلت ما وجه الحكمة في إطفاء الحريق بالتكبير، أجاب صاحب زاد المعاد: بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهي مادة الشيطان التي خلق منها، وكان فيه من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان إعانة عليه
__________
والبيهقي في السنن بإسناد صحيح.
وذكر بعضهم: أن محمدًا مات في حياة أبيه، وإن أباه كفل شعيبًا ورباه، وقيل: لا يحتج به مطلقًا، وقيل: إن أفصح بأن جده عبد الله قبل وإلا فلا، وقيل: إن استوعب ذكر آبائه بالرواية عنهم صريحًا قبل، وإلا فلا. انتهى ملخصًا من شرح زين الحفاظ على ألفيته التي اقتصر فيها على الأصح بقوله:
والأكثر احتجوا بعمرو حملًا ... له على الجد الكبير الأعلى
"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الحريق فكبروا" أي قولوا: الله أكبر، وكرروا كثيرًا، وينبغي الجهر به مخلصًا لله، ممتثلًا لأمر رسوله، متسحضرًا ما لله من عظيم القدرة، "فإن التكبير يطفئه" "بضم الياء"، إذا صدر عن كمال إخلاص وقوة يقين، وتخصيصه للإيذان بأن من هو أكبر من كل شيء حري بأن يقهر النار ويطفئها.
قال النووي: ويسن أن يدعو معه بدعاء الكرب، وفي تفسير لطبري: إذا كتب أسماء أهل الكهف في شيء وألقي في النار أطفئت، وينبغي أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنه يصرف عنه البلاء، وأن يقول ما قال إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل، وهذا الحديث رواه البيهقي من الوجه المذكور، بلفظ: استعينوا على إطفاء الحريق بالتكبير، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند الطبراني، بلفظ: اطفؤا الحريق بالتكبير، ومن حديث ابن عباس عند ابن عدي، بلفظ: إذا رأيتم الحريق فكبروا، فإنه يطفئ النار، ومن حديث ابن عباس وجابر، بلفظ: إذا وقعت كبيرة أو هاجت ريح عظيمة، فعليكم بالتكبير، فإنه يجلي العجاج الأسود، فانجبر بذلك ما فيه من ضعف ابن لهيعة، مع أنه لم ينفرد به، بل تابعه عبد الرحمن بن الحارث، كما علم.
"فإن قلت ما وجه الحكمة في إطفاء الحريق بالتكبير" قلت: "أجاب صاحب زاد المعاد" في هدي خير العباد؛ "بأنه لما كان الحريق سببه النار، وهي مادة الشيطان التي خلق منها" أي إنها أعظم الأجزاء التي خلق منها، إلا أنها متمحضة من النار، بل العناصر الأربعة مجتمعة فيه، لكن لما غلبت النار على بقية العناصر جعل مخلوقًا منها.
وفي البيضاوي: من نار السموم، ومن نار باعتبار الغالب، كذا قال شيخنا: "وكان فيه" أي الحريق، أي لهب النار "من الفساد العام ما يناسب الشيطان بمادته وفعله، وكان للشيطان(9/429)
وتنفيذ له، وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدي الشيطان، وإليهما يدعو، وبهما يهلك بني دم، فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض بالبغي والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع الشيطان وفعله، فلهذا كان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق، فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار التي هي مادة الشيطان. وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى.
ولقد جربت ذلك بطيبة في سنة خمس وتسعين وثمانمائة فوجدت له أثرًا عظيمًا لم أجده لغيره، ولقد شاع وذاع رؤية طيور بحريق طيبة الواقع في ثالث عشر رمضان في سنة ست وثمانين وثمانمائة، معلنة بالتكبير.
__________
إعانة عليه" أي على وجود الحريق؛ بأن يتسبب في إيصال النار إلى نحو الحطب، فيحصل الحريق، "وتنفيذ له" أي جعله مؤثرًا فيما يصل إليه فيفسده، "وكانت النار تطلب بطبعها العلو والفساد، وهما هدي الشيطان" أي صفته التي هو عليها، "وإليهما يدعو" الناس، "وبهما يهلك بني آدم فالنار والشيطان كل منهما يريد العلو في الأرض بالبغي والفساد، وكبرياء الله تعالى تقمع" أي تذل "الشيطان وفعله" فتمنعه الفساد، "فلهذا" جواب: لما كان الحريق دخلته الفاء على القليل، ولو حذف، فلهذا، واقتصر على قوله: "كان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق" لكان أولى لاحتياجها لمقدر تدخل عليه تكون علة للجواب، مقدمة على معلولها، والأصل: فكان تكبير الله له أثر في إطفاء الحريق، لهذا "فإن كبرياء الله تعالى لا يقوم لها شيء، فإذا كبر المسلم ربه أثر تكبيره في خمود النار" سكون لهبها، المؤدي إلى طفئها، "التي هي مادة الشيطان، وقد جربنا نحن وغيرنا هذا فوجدناه كذلك. انتهى" كلام ابن القيم.
"ولقد جربت ذلك بطيبة" لما احترقت "في سنة خمس وتسعين وثمانمائة، فجدت له أثرًا عظيمًا لم أجده لغيره، ولقد شاع وذاع رؤية طيور" بيض "بحريق طيبة" أي وقت حريقها، أي حريق مسجدها فقط، ولم يصل إلى جوف الحجرة شيء من هدم هذا الحريق، "الواقع في" الثلث الأخير من ليلة "ثالث عشر رمضان في سنة ست وثمانين وثمانمائة، معلنة" تلك الطيور "بالتكبير" كالذي يكفها عن بيوت الجيران، وذلك عبرة وموعظة أبرزها الله تعالى للإنذار، فخص بها حضرة النذير صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت؛ أن أعمال أمته تعرض عليه، فلما ساءت ناسب ذلك الإنذار بإظهار عنوان النار المجازي بها في موضع عرضها، قاله الشريف السمهودي، وبسط القصة في تاريخه.(9/430)
[ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به من داء الصرع] :
في الصحيحين أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أصرع، وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: "إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك". فقالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف
__________
ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به:
بكسر الطاء وضمها، كما في القاموس، أي يداوي به "من داء الصرع" مرض يشبه الجنون، "في الصحيحين: إن امرأة" روى البخاري في الطب ومسلم في الأدب، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قال لي ابن عباس: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟، قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء "أتت النبي صلى الله عليه وسلم" اسمها سعيرة "بمهملات مصغر" الأسدية، كما في تفسير ابن مردويه، وهو عند المستغفري في الصحابة، وأخرجه أبو موسى في الذيل.
قال المستغفري في كتابه: شعيرة "بالشين المعجمة والصحيح بالمهملة" قال في الإصابة: وذكرها ابن منده، وتبعه أبو نعيم "بالمعجمة والقاف" ويقال: بكاف بدل القاف، والصواب: أنها "بمهملتين".
وفي البخاري عن عطاء: أنه رأى أم زفر، تلك امرأة طويلة على ستر الكعبة "بكسر السين"، أي جالسة عليها معتمدة، ففي حديث ابن عباس عند البزار؛ أنها قالت إني أخاف الحب أن يجردني، فدعا لها، فكانت إذا خشيت أن يأتيها تأتي أستار الكعبة فتتعلق بها.
وذكر ابن سعد وعبد الغني في المبهمات، عن الزبير بن بكار، عن سليمان بن عبد الله، عن شيخ من أهل مكة، قال: هي أم زفر ماشطة خديجة، العجوز التي قال صلى الله علي وسلم: "إنها كانت تغشانا زمن خديجة"، وكلام أبي عمر يقتضي أنهما واحدة، وقال أبو موسى: إنه محتمل، قال في الإصابة، وهو بعيد، والعلم عند الله، "فقالت: إني أصرع".
وفي رواية للطبراني والخطيب: إني امرأة أغلب على عقلي، "وإني أتكشف" "بفتح الفوقية والشين المعجمة المشددة" ولأبي ذر: أنكشف "بنون ساكنة بدل الفوقية، وكسر المعجمة مخففة، "فادع الله لي" أن يشفيني من ذلك الصرع، "قال: "إن شئت صبرت" على ذلك، "ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك أن يعافيك" من ذلك الصرع.
وفي رواية المستغفري من وجه آخر، عن عطاء: إن ابن عباس قال له: ألا أريك أمرأة من أهل الجنة، فأراني حبشية عظيمة، فقال: هذه سعيرة الأسدية، أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إن بي هذه، تعني الريح، فادع الله أن يشفيني مما بي، فقال: "إن شئت دعوت الله يعافيك مما بك ويثبت لك حسناتك وسيئاتك، وإن شئت فاصبري ولك الجنة"، "فقالت: اصبر".(9/431)
فدعا لها.
قال العلامة ابن القيم: الصرع صرعان، من الأرواح الخبيثة الأرضية، وصرع من الأخلاط الردية، والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء.
فأما علاج صرع الأرواح الخبيثة فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان، فإنه
__________
والجنة، كما زاده في رواية المستغفري، "قالت: فإني أتكشف" روي بالوجهين السابقين أيضًا، "فادع الله" زاد أبو ذر لي: "أن لا أنكشف" بالوجهين أيضًا، "فدعا لها" صلى الله عليه وسلم بعدم الكشف، وتجويز أنه دعا بزوال الصرع خلاف الواقع، ولعبد الرزاق عن الحسن؛ أنها كانت تخنق في المسجد، فجاء إخوتها النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوا ذلك إليه، فقال: "إن شئتم دعوت الله فبرئت، وإن شئتم كانت كما هي، ولا حساب عليها في الآخرة"، فخيرها إخوتها، فقالت: دعوني كما أنا فتركوها؛ فإن صح هذا، فكأنهم لما أخبروها عنه، جاءت لتسأله بنفسها، وتسمعه وتسأله أن لا تنكشف، وإلا فما في الصحيحين أصح.
ووقع في رواية عن ابن عباس: وفي سعيرة نزلت، ولا تكونوا كالتي نفضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، كانت تجمع الصوف والشعر والليف، فتغزل كبة عظيمة، فإذا ثقلت عليها نقضتها، فقال الله: يا معشر قريش، لا تكونوا مثل سعيرة فتنقضوا أيمانكم بعد توكيدها، أخرجها ابن خزيمة قائلًا: أنا أبرأ إلى الله من عهدة هذا الإسناد.
"قال العلامة ابن القيم: الصرع صرعان من الأرواح الخبيثة الأرضية" يعني الشياطين، لاستحسان تلك الصورة الإنسية، أو المجرد إيقاع الأذية، "وصرع من اأخلاط الردية" بسبب انحباسها من شدة تعرض في بطون الدماغ ومجاري الأعصاب المحركة، فيمنع الأعضاء الرئيسة عن انفصالها منعًا غير تام، أو بخار رديء يسرع إليه منبعض الأعضاء، فلا يبقى الشخص معه منتصبًا، بل يسقط ويقذف بالزبد لغلظ الرطوبة.
"والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء، فأما علاج صرع الأرواح الخبيثة، فيكون بأمرين: أمر من جهة المصروع، وأمر من جهة المعالج، فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه" بأن يكون صرعه خفيفًا له معه شعورًا، ويكون في ابتدائه قبل غيبوبته، أو بعد الإفاقة، لئلا يعود عليه، فلا يرد أنه لا يتأتى له ذلك مع قيام العارض به، "وصدق توجهه إلى فاطر" خالق "هذه الأرواح وبارئها" "عطف مساوٍ" حسنه اختلاف اللفظ، "والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ" توافق "عليه القلب واللسان" بأن ينطق مع حضور القلب واعتقاد حقية ما يقوله بلسانه؛(9/432)
هذا نوع المحاربة، والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بالأمرين: أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا. والثاني: من جهة المعالج بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا، حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه، أو يقول: بسم الله أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اخرج عدو الله أنا رسول الله". وكان بعضهم يعالج ذلك بآية الكرسي ويأمر بكثرة قراءة المصروع ومن يعالجه بها وبقراءة المعوذتين.
قال: ومن حدث له الصرع وله خمسة وعشرون سنة وخوصًا بسبب دماغي أنس من برئه، وكذلك إذا حصل له في صغره واستمر به إلى هذه السن. قال:
__________
"فإنه هذا" العلاج لدفع الصارع عنه "نوع المحاربة والمحارب، لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح، إلا بالأمرين؛ أن يكون السلاح صحيحًا في نفسه جيدًا، وأن يكون الساعد قويًّا" فإن فقدا أو أحدهما لم ينتصف "والثاني من جهة المعالج فيه بأن يكون فيه هذان الأمران أيضًا" أي صدق التوجه والتعوذ الصحيح، وحال المعالجين أنهم يجتهدون في علاجهم ويتفاوتون فيه، فيكون في بعضهم قوة وشدة، "حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: اخرج منه" فالغاية لمقدر دل عليه السياق، "أو يقول: بسم الله، أو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله" هكذا في نسخ، بلفظ: يقول مضارعًا فيهما، أي إن بعض المعالجين يكتفي بقوله: اخرج لشدة قوته وتمكنه، وبعضهم يضم إليه ما يؤثر في الإزالة؛ بأن يقول: بسم الله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني: ونحوهما مما عهد استعماله لعلاج المصروع.
وفي نسخة: بموحدة، أي أن بعضهم يكتفي بقوله: اخرج، أو يكتفي بقول: بسم الله ونحوه، ولا يستعمل العزائم القوية التأثير لشدتها عليهم، "قال: وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اخرج عدو الله" "بالنصب نداء بحذف الأداة"، "أنا رسول الله"، وكان بعضهم يعالج ذلك بآية الكرسي، ويأمر بكثرة قراءة المصروع" آية الكرسي، إذا كان أهلًا للقراءة، ليدفع عن نفسه، "و" يأمر "من يعالجه بها" أي بكثرة قراءتها، "وبقراءة المعوذتين" "بكسر الواو"، قل أعوذ برب الفلق وتاليها.
"قال" ابن القيم: "ومن حدث له الصرع وله خمس وعشرون سنة" أي بلغ ذلك السن، "وخصوصًا بسبب دماغي ليس من برئه، وكذلك إذا حصل له في صغره واستمر به إلى هذا السن" أي بلوغ خمس وعشرين، "قال: فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع(9/433)
فهذه المرأة التي جاء في الحديث أنها كانت تصرع وتنكشف بجواز أن يكون صرعها من هذا النوع فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة.
ولقد جربت الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى مع قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى آخر سورة الفتح في ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا.
ومن الغريب قصة غزال الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف واستغثت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجيء إلي بصارعها في المنام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فوبخته وأقسم أن لا يعود إليها، فاستيقظت وما بها قلبه ومن ثم لم يعد إليها فلله الحمد.
__________
وتنكشف، بجواز أن يكون صرعها من هذا النوع، فوعدها صلى الله عليه وسلم بصبرها على هذا المرض بالجنة".
روى عبد الرزاق عن طاوس: كان صلى الله عليه وسلم يؤتى بالمجانين، فيضرب صدر أحدهم فيبرأ، فأتي بمجنونة يقال لها أم ظفر، فضرب صدرها، لم تبرأ، ولم يخرج شيطانها، فقال صلى الله عليه وسلم: "هو بغيتها في الدنيا، ولها في الآخرة خير"، "ولقد جربت الإقسام بالنبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى" في إزالة الصرع "مع" قراءة "قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] ، إلى آخر سورة الفتح، في ابنتين صغيرتين صرعتا فشفيتا" زال عنهما الصرع، "ومن الغريب قصة غزال الحبشية خادمتنا لما صرعت بدرب الحجاز الشريف" بطريق مكة بعد رجوعي من الزيارة الشريفة لقصد مصر في سنة خمس وثمانين وثمانمائة، واستمر بها الصرع أيامًا، "واستغثت به صلى الله عليه وسلم في ذلك، فجيء إلي بصارعها في المنام، بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فوبخته، وأقسم أن لا يعود إليها".
وفي المقصد الأخير: فأتاني آت في منامي ومعه الجني الصارع لها، فقال لقد أرسله لك النبي صلى الله عليه وسلم، فعاتبته وحلفته أن لا يعود إليها، "فاستيقظت وما بها قلبه" "بفتح القاف واللام والموحدة، أي وجع"، "ومن ثم" أي من هذا الوقت، "لم يعد إليها، فلله الحمد".
وفي المقصد الأخير: ولا زالت في عافية من ذلك حتى فارقتها بمكة في سنة أربع وتسعين.(9/434)
[ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر] :
قال النووي: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وقد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا بل معصية كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا، وأما تعليمه وتعلمه فحرام، وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر فاعله واستيب منه، ولا يقتل عندنا، وإن تاب قبلت توبته. وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله.
والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق؛ لأن الساحر عنده كافر، كما ذكرنا، وعندنا: ليس بكافر، وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق.
قال القاضي عياض: ويقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروي عن جماعة
__________
ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر:
الدواء: "بالفتح والمد" ما يداوى به "ويكسر الدال اسم مصدر" والمراد هنا ما يشمل الأشياء التي يداوى بها والمداوة، فإنه صلى الله عليه وسلم بين للناس ما يداوى به، وتداوى هو أيضًا لإزالة السحر، عنه "قال النووي: السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع".
وفي الصحيح مرفوعًا: "اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر"، "وقد يكون كفرًا، وقد لا يكون كفرًا، بل معصية كبيرة" فليس السحر عندهم على المعتمد كفرًا بذاته، بل بما ضم إليه، "فإن كان فيه قول" مما يكفر به قائله، "أو فعل" كعبادة شمس ونحوها، "يقتضي الكفر كفر، وإلا فلا" يكون كفرًا بمجرده، "وأما تعليمه وتعلمه فحرام" ولو قصد به دفع ضرورة السحر عن نفسه، أو عن غيره، أو معرفة حقائق الأشياء عند الأكثر لخوف الافتتان والإضرار، "وإن لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر فاعله" فقط لفعله الحرام، ولا استتابة؛ لأنه لم يكفر، "واستتيب منه" إن كفر به، "ولا يقتل عندنا" أي الشافعية، "وإن تاب قبلت توبته" كالمرتد.
"وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب" أي لا تطلب منه التوبة، "و" إن تاب "لا تقبل توبته، بل يتحتم قتله" لأنه لا تعرف توبته حتى تقبل منه، "والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق" "بزنة قنديل"، قيل: هو المنافق، والأكثر أنه الذي لا يتمسك بدين، وفي القاموس الزنديق "بالكسر" من الثنوية، أو القائل بالنور والظلمة، أو من لا يؤمن بالآخرة ولا بالربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان، "لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا، وعندنا ليس بكافر".
قال الماوردي: مذهب الشافعي أنه لا يكفر بالسحر، ولا يجب به قتله، ويسأل عنه، فإن اعترف معه بما يوجب كفره كفر بمعتقده لا بسحره، وكذا لو اعتقد إباحته كفر باعتقاده لا بسرحه، فيقتل حينئذ بما أنضم إلى السحر لا بالسحر، "وعندنا تقبل توبة المنافئق والزنديق" وعند مالك لا.
"قال القاضي عياض: ويقول مالك قال أحمد بن حنبل، وهو مروي عن جماعة من(9/435)
من الصحابة والتابعين.
قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنسانًا واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالبًا فعليه القصاص. وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا يقتل فلا قصاص وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني.
قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى.
واختلف في السحر:
فقيل: هو تخييل فقط، ولا حقيقة له، وهو اختيار أبي جعفر الإستراباذي من الشافعية، وأبي بكر الرازي من الحنفية وطائفة.
__________
الصحابة والتابعين، قال أصحابنا" الشافعية: "فإذا قتل الساحر بسحره إنسانًا" ذكر أو أنثى، "واعترف" حقيقة "أنه مات بسحره، وأنه يقتل غالبًا" وحكمًا، كقتله بنوع كذا، وشهد عدلان تابا؛ أنه يقتل غالبًا، فهذا عمد، "فعليه القصاص" حيث وجدت المكافأة، "وإن قال مات به، ولكنه قد يقتل، وقد لا يقتل، فلا قصاص، وتجب الدية والكفارة، وتكون الدية في ماله لا على عاقلته؛ لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني، قال أصحابنا: ولا يتصور ثبوت القتل بالسحر بالبينة، وإنما يتصور باعتراف الساحر. انتهى".
قال شيخنا: قد يتصور بأن يتوب اثنان من السحرة، ويشهدا على الساحر؛ بأنهما شاهداه، يستعمل القسم الفلاني لقتل فلان، وهو يقتل غالبًا، أو بأن يقر بأنه قتل بالقسم الفلاني، فيشهدان عليه؛ بأن ذلك القسم يقتل غالبًا.
"واختلف في السحر، فقيل: هو تخييل فقط" أي يخيل إلى المسحور أنه يفعل الشيء ولم يفعله، "ولا حقيقة له" وإليه ذهب المعتزلة، "وهو اختيار أبي جعفر الإستراباذي" "بكسر الهمزة والفوقية وسكون السين المهملة وفتح الراء والموحدة فألف فمعجمة"، "من الشافعية" ذكره العبادي وبالغ في مدحه، وقال: لم أقف على تاريخ وفاته، "وأبي بكر" أحمد بن علي بن الحسين "الرازي" الإمام الحافظ، "من الحنفية" له تصانيف "وطائفة" كالبغوي، واحتجوا بقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه: 66] ، قال المصنف: ولا حجة فيها، أي الآية؛ لأنها وردت في هذه القصة، وكان سحرهم كذلك، ولا يلزم منه أن جميع أنواع السحر تخييل.(9/436)
قال النووي، والصحيح أن له حقيقة، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة.
قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لكن محل النزاع هل يقع بالسحر انقلاب عين أو لا؟ فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون بأن له حقيقة اختلفوا: هل له تأثير فقط بحيث يغير المزاج فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا وعكسه، فالذي عليه الجمهور هو الأول.
قال المازري: جمهور العلماء على إثبات السحر؛ لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق، أو تركيب أجسام، أو مزج بين قوى
__________
"قال النووي والصحيح" وهو مذهب أهل السنة، "إن له حقيقة" ويكون بالقول والفعل، ويؤلم ويمرض ويقتل ويفرق بين الزوجين، "وبه قطع" أي جزم "الجمهور، وعليه عامة العلماء، ويدل عليه الكتاب" كقوله: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه؛ إذ لو كان تخييلًا ما حصلت الفرقة به، "والسنة الصحيحة المشهورة" وهي كثيرة.
"قال شيخ الإسلام أبو الفضل العسقلاني: لكن محل النزاع" بين الفريقين: "هل يقع بالسحر انقلاب عين" كجعل البشر جمادًا أو حمارًا، "أو لا" يقع ذلك، "فمن قال: إنه تخييل فقط منع ذلك، والقائلون؛ بأن له حقيقة اختلفوا هل له تأثير فقط، بحيث يغير المزاج، فيكون نوعًا من الأمراض، أو ينتهي إلى الإحالة، بحيث يصير الجماد حيوانًا مثلًا، وعكسه" الحيوان جمادًا، "فالذي عليه الجمهور هو الأول".
قال الدميري: والثاني: واضح البطلان؛ لأنه لو قدر على هذا القدر أن يرد نفسه إلى الشباب بعد الهرم، وأن يمنع نفسه من الموت.
"قال المازري" في شرح مسلم "جمهور العلماء على إثبات السحر" أي إن له حقيقة؛ لأن الله ذكره في القرآن العزيز، وأنه يتعلم، وأنه مما يكفر به ومما يفرق به بين المرء وزوجه، وفي الحديث أنه أشياء دفنت وأخرجت، وكيف يتعلم ما لا حقيقة له، هذا كله في كلام المازري وعطف عليه قوله ولأن العقل، وفي غالب نسخ المصنف بحذفها تعليل لما اقتصر عليه من كلام المازري، وهو "لأن العقل لا ينكر أن الله قد يخرق العادة عند نطق الساحر بكلام ملفق" مضموم بعضه إلى بعض، تشبيهًا بلفق الثوب، "أو تركيب أجسام" كما وقع لسحرة فرعون، "أو مزج" أي خلط "بين قوى على ترتيب مخصوص" فيخلق الله عند(9/437)
على ترتيب مخصوص. ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء من مزج بعد العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده فيصير بالتركيب نافعًا.
وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكره الله في قوله: {يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} [البقرة: 102] ، لكون المقام مقام تهويل. فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى.
قال المازري: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك، قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، وإن قلنا إنها ظاهرة في ذلك.
ثم قال: والفرق بين السحر والمعجزة والكرامة، أن السحر يكون بمعاناه أقوال وأفعال حتى يتم للساحر ما يريد من سحره، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبًا
__________
ذلك التأثير، "ونظير ذلك ما وقع من حذاق الأطباء" مهرتهم، العارفين بغوامض الطب ودقائقه، "من مزج" خلط "بعد العقاقير ببعض حتى ينقلب الضار منها بمفرده، فيصير بالتركيب نافعًا".
"وقيل: لا يزيد تأثير السحر على ما ذكره الله في قوله: يفرقون به بين المرء وزوجه" بأن يحدث الله عنده النشوز والاختلاف، وبغض كل منهما للآخر ابتلاء منه، "لكون المقام مقام تهويل" أي تفريع، "فلو جاز أن يقع به أكثر من ذلك لذكره الله تعالى" وهو لم يذكره.
"قال المازري: والصحيح من جهة العقل أن يقع به أكثر من ذلك" قيد بالعقل لأنه في مقام الرد على الموافقين على مقتضى العقل، فلا يرد عليه أنه وقع في الخارج ما يزيد على ذلك بكثير.
وقد حكى القرافي وغيره: أنه لم يبلغ أحد في السحر إلى الغاية التي وصل إليها القبط أيام دلوكا ملكة مصر بعد فرعون، فإنهم وضعوا السحر على البرابي، وصوروا فيها صور عساكر الدنيا، فأي عسكر قصدهم أتوا إلى ذلك العسكر المصور، فما فعلوه به من قلع الأعين وقطع الأعضاء وقع نظيره للعسكر القاصد لهم، فتحامتهم العساكر، وأقاموا ستمائة سنة، والنساء هن الملوك والأمراء بمصر بعد غرق فرعون وجنوده.
"قال: والآية ليست نصًّا في منع الزيادة، وإن قلنا: إنها اهرة في ذلك" أي منع الزيادة، "ثم قال" المازري: "والفرق بين السحر" على قول الأشاعرة: إن به يقع خرق العادة، "والمعجزة" للنبي، "والكرامة" للولي "أن السحر يكون بمعاناة أقوال وأفعال، حتى يتم للساحر ما يريد من سحره، والكرامة لا تحتاج إلى ذلك، إنما تقع غالبًا اتفاقًا" بدون قصد.(9/438)
اتفاقًا، وأما المعجزة فتمتاز عن الكرامة بالتحدي.
ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق، وأن الكرامة لا تظهر على يد فاسق، ونقل نحوه النووي في "زيادة الروضة" عن المتولي.
وينبغي أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكًا بالشريعة متجنبًا للموبقات، فالذي يظهر على يديه من الخوارق كرامة وإلا فهو سحر.
وقال القرطبي: والسحر حيل صناعية يتوصل إليها بالاكتساب، غير أنها لدقتها لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته الوقوف على خواص الأشياء والعلم بوجود تركيبها وأوقاتها، وأكثره تخييلات بغير حقيقة وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم
__________
"وأما المعجزة، فتمتاز عن الكرامة بالتحدي" لأن النبي يتحدى بها ويعجز بها الخلق، فتدل على صدقه، والولي والساحر لا يتحديان بها، ولا يعجزان بها الخلق، ولو تحديا بها لم تنخرق لهما العادة، وأيضًا يفرق بين الولي والساحر؛ بأنه يكون إخراقها له دليل فسقه وكفره، والولي لا يكون ذلك علمًا على ذلك فيه، هذا أيضًا كلام المازري.
"ونقل إمام الحرمين: الإجماع على أن السحر لا يقع إلا من فاسق" أي لا يظهر أثره، كذا قال شيخنا: "وإن الكرامة لا تظهر على يد فاسق" وإنما تقع على يد ولي عامل بالطاعات، مجتنب للمعاصي، فلو وقعت على يد فاسق، فقد تكون معونة من الله تعالى له واصطفاء بتوفيقه للمتوبة، وقد تكون استدراجًا والعياذ بالله تعالى.
"ونقل نحوه النووي في زيادة الروضة عن المتولي: وينبغي أن يعتبر حال من يقع منه الخارق، فإن كان متمسكًا بالشريعة" عاملًا لما أمرت به، "متجنبًا للموبقات" أي المهلكات من المعاصي، "فالذي يظهر على يديه من الخوارق كرامة، وإلا فهو سحر" وهذا مفاد الإجماع المذكور.
"وقال القرطبي" في شرح مسلم: دل القرآن في غير ما آية، والسنة في غير ما حديث؛ على أن السحر موجود وله أثر في المسحور، فمن كذب بذلك، فهو كافر مكذب لله ولرسوله، ومنكر لما علم بالعيان، ثم إن منكره في السر زنديق، وفي الظاهر مرتد، كذا في القرطبي قبل قوله: "والسحر حيل صناعية، يتوصل إليها بالإكتساب، غير" "نصب استثناء" "أنها لدقتها" أي غموضها وخفاء معناها، "لا يتوصل إليها إلا آحاد الناس، ومادته" أي السحر "الوقوف على خواص الأشياء، والعلم بوجوه تركيبها وأقواتها" أي أزمانها التي تركب فيها، "وأكثره(9/439)
عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116] ، مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالًا وعصيًّا.
وقال أبو بكر الرازي في "الأحكام" أخبر الله تعالى أن الذي ظنه موسى أنها تسعى لم يكن سعيًا حقيقيًّا، وإنما كان تخييلًا، وذلك أن عصيهم كانت مجوفة وقد ملئت زئبقًا، وكذلك الحبال كانت من آدم محشوة زئبقًا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابًا وجعلوا لها آزاجًا وصلوها نارًا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركها؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى، ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى.
__________
تخييلات بغير حقيقة" كعلم السيمياء، "وإيهامات بغير ثبوت، فيعظم عند من لا يعرف ذلك، كما قال تعالى عن سحرة فرعون: {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} .
في فنه روى أنهم ألقوا حبالًا غلاظًا وخشبًا طوالًا، كأنها حيات ملأت الوادي، وركب بعضها بعضًا، كما في البيضاوي، "مع أن حبالهم وعصيهم لم تخرج عن كونها حبالًا وعصيًا" بخلاف العصي، فإنها انقلبت حقيقتها خرقًا للعادة وإظهارًا للمعجزة، هذا بقية كلام القرطبي.
"وقال أبو بكر الرازي في الأحكام: أخبر الله تعالى: أن الذي ظنه موسى أنها تسعى" بقوله: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، "لم يكن" ما ظهر من سعيها "سعيًا حقيقيًّا، وإنما كان تخييلًا" سحروا أعين الناس واسترهبوهم، أي خوفوهم حيث صيروها حيات تسعى، "وذلك أن عصيهم كانت مجوفة، قد ملئت زئبقًا" "بكسر الزاي والبناء، بينهما همزة ساكنة، ويجوز تخفيفها"، "وكذلك الحبال كانت من أدم" أي جلد "محشوة زئبقًا، وقد حفروا قبل ذلك أسرابًا" جمع سرب "بفتحتين" بيت في الأرض لا منفذ له، "وجعلوا له آزاجًا" جمع أزج "بفتح الألف والزاي وجيم" مثل سبب وأسباب: بيت بيني طولًا، كما في المصباح.
وفي القاموس: ضرب من الأبنية، ويجمع أيضًا على أزج "بضمتين" وأزجة كفيلة "وصلوها نارًا، فلما طرحت على ذلك الموضع وحمى الزئبق حركها؛ لأن من شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فلما أثقلته كثافة الحبال والعصي" جمع عصا، "صارت تتحرك بحركته، فظن من رآها أنها تسعى" تمشي، "ولم تكن تسعى حقيقة، انتهى".
وفي البيضاوي: يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وذلك أنهم لطخوها بالزئبق، فلما(9/440)
قال القرطبي: والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب كالحب والبغض، وبإلقاء الخير والشر، وفي الأبدان بالألم والسقم، وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانًا، أو عكسه، بسحر الساحر.
وقد ثبت في البخاري من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى إن كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، حتى إذا كان ذات ليلة عند عائشة دعا ودعا ثم قال: "يا عائشة، أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟
__________
ضربت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليها أنها تتحرك. انتهى.
ولا مخالفة لجواز أنهم ملئوا أجوافها بالزئبق، ولطخوها به من خارج أيضًا، ووضعوا الأسراب في محل الشمس، وصلوها نارًا زيادة في الإرهاب.
"قال القرطبي" عقب ما مر، عنه: "والحق أن لبعض أصناف السحر تأثيرًا في القلوب، كالحب والبغض، وبإلقاء الخير والشر" والتفرقة بين المرء وزوجه، ويحول بين المرء وقلبه، كما في القرطبي أيضًا، "و" تأثيرًا "في الأبدان بالألم والسقم" كل ذلك مدرك بالمشاهدة، وإنكاره معاندة، هكذا في القرطبي: "وإنما المنكر أن ينقلب الجماد حيوانًا: أو عكسه بسحر الساحر" كما مر بيانه.
"وقد ثبت في البخاري" ومسلم "من حديث عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر" بالبناء للمجهول" "حتى إن" "مخففة من الثقيلة، أي أنه" "كان ليخيل إليه أنه يفعل الشيء، وما فعله".
وفي رواية لهما أيضًا: أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن، "حتى إذا كان ذات ليلة" من إضافة المسمى إلى الاسم، أو ذات مقحمة، "عند عائشة" لفظ البخاري: حتى إنه كان ذات يوم، أو ذات ليلة وهو عندي، لكنه دعا ودعا، قال المصنف: بالشك من الراوي، والمستدرك منه هو قولها: وهو عندي، أي لكنه لم يكن مشتغلًا بي، بل بالدعاء، أو من قولها: كان يخيل إليه، أي أن السحر أثر في بدنه، لا في عقله وفهمه، بحيث إنه توجه إلى الله تعالى، ودعا على الوضع الصحيح والقانون المستقيم، قاله في الكواكب.
وفي رواية للبخاري أيضًا: حتى إذا كان ذات يوم بلا شك، بل بالجزم بيوم، فليس فيه رواية بالجزم بليلة، كما فعل المصنف "دعا ودعا" أي كرر الدعاء.
وفي رواية للبخاري أيضًا: دعا الله ودعاه، وفي مسلم: فدعا، ثم دعا، ثم دعا بالتكرير ثلاثًا، وهو المعهود من عادته، قال عياض: أي أظهر العجز والافتقار إلى الله، لعلمه أنه لا يكشف الضر إلا هو سبحانه، "ثم قال: يا عائشة "أشعرت" "بفتحات وبضم العين أيضًا، وكسر تاء(9/441)
أتاني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال أحدهما: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبه قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال: في مشط ومشاطه وجف طلع نحلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان"،
__________
الخطاب، "أي أعلمت "أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه" قال عياض: أي أجابني فيما دعوته، فسمى الدعاء استفتاء، والجواب فتيًا؛ لأن الداعي طالب، والمجيب مسعف، فاستعير أحدهما للآخر.
زاد غيره: أو المعنى أجابني عما سألته عنه؛ لأن دعاءه كان لأن يطلعه على حقيقة ما هو فيه لما اشتبه عليه من الأمر.
زواد في رواية: قلت: وما ذاك، قال: "أتاني رجلان" قال القرطبي: أي ملكان في صورة رجلين، وظاهره أنه في اليقظة، ويحتمل في المنام، ورؤيا الأنبياء وحي. انتهى.
وقال المصنف في قوله: ما وجع الرجل إشعار بوقوع ذلك في المنام؛ إذ لو كان يقظة لخاطباه وسألاه.
وفي رواية الإسماعيلي: فانتبه من نومه ذات يوم، لكن في حديث ابن عباس، عند ابن سعد: فهبط عليه ملكان، وهو بين النائم واليقظان.
وفي رواية الطبراني: أتاني ملكان، وعند ابن سعد: بسند منقطع أنهما جبريل وميكائيل، "فقعد أحدهما عند رأسي" هو جبريل، كما جزم به الدمياطي، "والآخر" ميكائيل "عند رجلي" "بشد التحتية مثنى"، "فقال: أحدهما" جبريل أو ميكائيل لصاحبه.
وفي رواية: فقال: الذي عند رأسي للآخر وعند الحميدي: فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: قال الحافظ وكأنها أصوب، "ما وجع الرجل" أي ما مرضه، "قال: مطبوب" أي مسحور، يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنى بالطب عن السحر، كما كنى بالسليم عن اللديغ.
قال ابن الأنباري: الطب من أسماء الأضداد، يقال للعلاج والسحر، وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب، أي حاذق، سمي طبيبًا لفطنته، قال عياض: "قال من طبه" أي سحره.
"قال لبيد" "بفتح اللام وكسر الموحدة" "ابن الأعصم" "بمهملتين" بوزن الأحمر، زاد في رواية للشيخين، اليهودي من بني زريق "بضم الزاي وفتح الراء وقاف"، وفي طبقات ابن سعد؛ أن متولي السحر أخوات لبيد، وكن أسحر منه وأنه هو الذي دفنه، "قال: في أي شيء" طبه، "قال: في مشط" "بكسر الميم وضمها وسكون ثانيه" ويجوز الضم، والجمع أمشاط: الآله التي يمشط بها.
وفي رواية القابسي: مشاط الحديد، وغلط قاله الحافظ، وفي القاموس: المشط مثلثة: آلة(9/442)
فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: "يا عائشة كأن ماءها نقاعة
__________
يمتشط بها، وفي القرطبي: "بضم الميم" وأحد الأمشاط التي يمتشط بها، ويطلق على نبت صغير يقال له نبت الذئب، وعلى سلاميات ظهر القدم والعظم العريض من الكف، فيحتمل أن الذي كان فيه أحد الأربعة، "ومشاطة" "بضم الميم وفتح المعجمة مخففة، فألف، فطاء مهملة" ما يخرج من الشعر عند التسريح، وللبيهقي من حديث ابن عباس من شعر رأسه، ومن أسنان مشطه، وفي رواية للبخاري: ومشاقة "بالقاف بدل الطاء" قال الحافظ: وهما بمعنى، وقيل: بالقاف ما يمشط من الكتان. انتهى.
وفي البخاري: يقال المشاطة، أي: بالطاء ما يخرج من الشعر إذا مشطوا لمشاقة، أي: بالقاف من مشاقة الكتان، "وجف طلع نخلة" "بضم الجيم وشد الفاء" الغشاء الذي يكون على الظلع، ويطلق على الذكر والأنثى، فلذا قيده بقوله: "ذكر" بالتنوين، كنخلة، على أن لفظ ذكر صفة لجف، وللمستملي وجب بموحدة بدل الفاء بمعنى واحد.
وقال القرطبي: إنه بالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري، قاله شمر، وللكشميهني: وجف "بالفاء" طلعة "بتاء تأنيث"، قاله المصنف.
"قال: وأين هو قال في بئر ذروان" "بفتح المعجمة وسكون الراء" وفي رواية لهما: ذي أروان "بفتح الهمزة وسكون الراء" وصوبه أبو عبيد البكري والأصمعي.
قال المصنف: وكلاهما صحيح، وعلى الأول: هو من إضافة الشيء لنفسه، قيل: والأصل أوان، ثم لشدة الاستعمال سهلت الهمزة، فصارت ذروان "بمعجمة بدل الهمزة" وهي بئر كانت معروفة بالمدينة في بستان بني رزيق.
زاد في رواية: تحت راعوفة في بئر ذروان "براء فألف" في رواية الأكثر، ولبعضهم "بلا ألف فعين فواو ففاء" حجر يترك في البئر عند الحفر، ثابت لا يستطاع قلعه، يقوم عليه المستقي والناظر فيها، وقيل: في أسفل البئر، يجلس عليه الذي ينظفها، لا يمكن قلعه لصلابته؛ "فأتاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه".
وعند ابن سعد عن ابن عباس: فبعث إلى علي وعمار، فأمرهما أن يأتيا البئر، وعنده أيضًا من مرسل عمر بن الحكم، فدعا جبير بن إياس الرزقي، وهو ممن شهد بدرًا فدله على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه، قال: ويقال إن الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي.
قال الحافظ: ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك، وباشر بنفسه، فنسب إليه؛ وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجههم أولًا، ثم توجه فشاهدها بنفسه، "فجاء" صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع، "فقال: "يا عائشة كأن ماءها نقاعة" "بضم النون وتخفيف القاف" "الحناء" "بكسر المهملة والمد" يعني أن ماء البئر أحمر،(9/443)
الحناء، وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين"، فقلت يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: "قد عافاني الله، فكرهت أن أثور على الناس فيه شرًّا"، فأمر بها فدفنت.
وفي رواية للبخاري أيضًا: فأتى البئر حتى استخرجه فقال: "هذه البئر التي رأيتها"، قالت عائشة: أفلا تنشرت؟ قال: "أما الله شفاني، وأكره أن أثير على الناس
__________
كالذي ينقع فيه الحناء، أي أنه تغير لرداءته، أو لما خالطه مما ألقي فيه، "وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين" في التناهي في كراهتها وقبح منظرها.
ويحتمل أن يريد رءوس الحيات، فالعرب تسمي بعض الحيات شيطانًا، وهي حية قبيحة المنظر هائلة جدًّا، "فقلت: يا رسول الله، أفلا استخرجته، قال: "قد عافني الله" منه، "فكرهت أن أثور" "بضم الهمزة وفتح المثلثة وكسر الواو مشددة" "على الناس فيه".
وللكشميهني: منه "شرًّا" من تذكر المنافقين السحر وتعلمه ونحو ذلك، فيؤذي المسلمين وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة. "فأمر بها" أي بالبئر "فدفنت" "بالبناء للمجهول"؛ "في رواية للبخاري أيضًا: فأتى" صلى الله عليه وسلم "البئر حتى استخرجه" فهذه معارضة للتي قبلها، ولرواية: أفلا أخرجته، قال: "لا"، قال المهلب: اختلف الرواة على هشام في إخراج السحر المذكور، فأثبته سفيان بن عيينة، وجعل سؤال عائشة عن النشرة، ونفاه عيسى بن يونس، وجعل سؤالها عن الاستخراج، ولم يذكر الجواب، وصرح به أبو أسامة ولفظه، فقلت: يا رسول الله أفاخرجته؟، قال: "لا"، والنظر يقتضي ترجيح رواية سفيان لتقدمه في الضبط، ويؤيده: أن النشرة لم تقع في رواية أبي أسامة وزيادة سفيان مقبولة؛ لأنه أثبتهم، ولا سيما أنه كرر استخراج السحر في روايته مرتين، يعني بالمرة الأولى في قوله: قال: فاستخرج، فبعد من الوهم، وزاد ذكر النشرة، وجعل جوابه صلى الله عليه وسلم عنها بدلًا عن الاستخراج، وقد يجمع بأن الاستخراج المنفي في رواية أبي أسامة غير الاستخراج المثبت في رواية سفيان؛ فالمثبت هو استخراج الجف من البئر، والمنفي استخراج ما حواه، قال: وكأن السر في ذلك أن لا يراه الناس فيتعلموا السحر. انتهى من فتح الباري.
"فقال" صلى الله عليه وسلم لعائشة: "هذه البئر التي رأيتها" "براء فهمزة مفتوحتين"، وفي رواية: "أريتها" "بضم الهمزة وكسر الراء" وحذف المصنف من هذه الرواية؛ فكأن ماءها نقاعة الحناء، وكأن نخلها رءوس الشياطين، قال: فاستخرج، وهو مبني للمجهول، وفاعل قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المصنف، "قالت عائشة: أفلا تنشرت" أي فعلت النشرة وهي الرقية التي يعالج بها المريض، "قال: "أما الله شفاني" عبارة المصنف في شرحه: أما والله "بتخفيف الميم"، والله جربوا والقسم ولابن عساكر وأبوي ذر والوقت: أما والله، بالتشديد فقد شفاني. انتهى.(9/444)
شرًّا".
وفي حديث ابن عباس عند البيهقي في الدلائل -بسند ضعيف- في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم أنهم وجدوا وترًا فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت سورة الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة.
وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع عن ابن عباس أن عليًّا وعمارًا لما
__________
فما ساقه هنا لا يوافق رواية منهما، "وأكره أن أثير على الناس شرًّا" بتذكر السحر، وقد وقع في رواية لمسلم: أن عائشة قالت: أفلا أحرقته؟، قال القاضي عياض: كذا في جميع النسخ، قيل: صوابه أخرجته، كما في الرواية الأخرى؛ لأنه المناسب لقوله: "كرهت أن أثير على الناس شرًّا"، أي بإخراجه؛ لأنه إذا أخرج فقد يوقف على عقه فيتعلم، وكفى بذلك شرًّا، قال: وعندي إن أحرقته صواب، ولا يعترض بما تقدم؛ لأنها تعني بحرقها حين يخرجها، بل أحرقتها أظهر للذي أرادت من إتلاف عينه وإبطال عمله، وما يتوقع من شره مع بقائه لم يغير.
وقال القرطبي: عندي أن رواية أحرقته أولى، وتعني لبيدًا صانع السحر، فأجابها بأنه يثير شرًّا بين المسلمين واليهود لما كان لهم من العهد والذمة، فلو قتلته لثارت فتنة، وتحدث الناس: أن محمدًا يقتل من عاهد. انتهى، وهذا فيه بعد، وكلام عياض أظهر.
"وفي حديث ابن عباس عند البيهقي في الدلائل" النبوية "بسند ضعيف" لأن فيه الكلبي، عن أبي صالح، وهما ضعيفان، "في آخر قصة السحر الذي سحر به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه وجدوا وترًا" "بفتح الواو والفوقية". "فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت سورة الفلق والناس، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة" ولفظ البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: مرض صلى الله عليه وسلم مرضًا شديدًا، فأتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه ما ترى قال: طب، قال: وما طب؟، قال: سحر، قال: من سحره؟، قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: أين هو؟، قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في ركية، فأتوا الركية فانزحوا ماءها وارفعوا الصخرة، ثم خذوا الركية فاحرقوها، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر في نفر، فأتى الركية، فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الركية وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، وأنزلت عليه هاتان السورتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفلق: 1] ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس} [الناس: 1] ، وفي سياقه نكارة ومخالفة لحديث الصحيحين ظاهرة.
"وأخرجه ابن سعد بسند آخر منقطع، عن ابن عباس: أن عليًّا وعمارًا لما بعثهما(9/445)
بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر وجدا طلعة فيها إحدى عشرة عقدة فذكر نحوه.
وفي رواية ذكرها في فتح الباري: فنزل رجل البئر فاستخرجه وأنه وجد في الطلعة تمثالًا من شمع تمثال النبي صلى الله عليه وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة.
وقد بين الواقدي السنة التي وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم مرسل قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة ودخل المحرم سنة سبع جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد أن الأعصم، وكان حليفًا في بني رزيق، وكان ساحرًا، فقالوا: أنت أسحرنا، وقد سحرنا محمدًا فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه، فجعلوا له ثلاثًا دنانير.
__________
النبي صلى الله عليه وسلم لاستخراج السحر، وجدا طلعة" لنخلة، "فيها إحدى عشرة عقدة، فذكر نحوه" من نزول السورتين وانحلال العقد بقراءتهما.
"وفي رواية ذكرها في فتح الباري: فنزل رجل البئر فاستخرجه، وإنه وجد في الطلعة تمثالًا" بكسر الفوقية، أي صورة "من شمع" بفتح الميم، وتسكن الذي يستصبح به، "تمثال النبي صلى الله عليه وسلم" بالنصب بدل من تمثالًا، "وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين" بكسر الواو، "فكلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا" في بدنه، "ثم يجد بعدها راحة" وهذا كالذي قبله صريحة في أنه استخرج ما حواه الجف، فيتأكد الجمع المتقدم.
"وقد بين الواقدي" محمد بن عمر بن وافد "السنة التي وقع فيها السحر، كما أخرجه عنه" تلميذه محمد "بن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم" المدني، صدوق "مرسل" لأن عمر من أواسط التابعين، "قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخل المحرم سنة سبع، جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم، وكان حليفًا في بني زريق" بتقديم الزاي مصغر، "وكان ساحرًا، فقالوا: أنت أسحرنا" أعلمنا بالسحر، "وقد سحرنا محمدًا، فلم نصنع شيئًا" ينكؤه، "ونحن نجعل لك جعلًا على أن تسحره لنا سحرًا ينكؤه" بوزن يمنعه، "فجعلوا له ثلاثًا دنانير" فسحره.(9/446)
ووقع في رواية أبي ضمرة عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة، وفي رواية وهيب عن هشام ستة أشهر.
ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعون يومًا من استحكامه.
وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها في السحر، حتى ظفرت به في جامع معمر عن الزهري: أنه لبث سنة. قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولًا بالإسناد الصحيح فهو المعتمد.
وقال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل. وزعموا أن تجويزها بعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أن جبريل يكلمه وليس هو ثَمَّ، وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.
__________
ومر أن عند ابن سعد أن متولي السحر أخوات لبيد، وكن أسحر منه، وأنه هو الذي ألقاه في البئر.
"ووقع في رواية أبي ضمرة" بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض الليثي، والمدني "عند الإسماعيلي: فأقام أربعين ليلة".
"وفي رواية وهيب" بالتصغير ابن خالد بن عجلان البصري، "عن هشام" بن عروة، راوي حديث الباب، عن أبيه، عن عائشة: أقام "ستة أشهر" في السحر، "ويمكن الجمع بأن تكون الستة أشهر من ابتداء تغير مزاجه، والأربعون يومًا من استحكامه" إتقانه وشدته.
"وقال السهيلي: لم أقف في شيء من الأحاديث المشهورة على قدر المدة التي مكث صلى الله عليه وسلم فيها في السحر حتى ظفرت به" أي وجدته، وأصل معناه الفوز والفلاح "في جامع معمر عن الزهري" مرسلًا "إنه لبث سنة".
"قال الحافظ ابن حجر: وقد وجدناه موصولًا" عند أحمد والإسماعيلي "بالإسناد الصحيح، فهو المعتمد" إذ الموصول مع صحة إسناده مقدم على المرسل عند التعارض.
"وقال المازري" في شرح مسلم: "أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة" أي شرفها ورفعتها، "قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل" وهذه كلمة حق أريد بها باطل، "وزعموا أن تجويزها" أي فعلة السحر بهم، والأظهر تجويزه "بعدم" يبطل "الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أجبريل يكلمه، وليس هو، ثم" بفتح المثلثة وشد الميم، أي هناك موجودًا، "وأنه يوحى إليه، ولم يوح إليه(9/447)
قال المازري: وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله عز وجل، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل. وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها، ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعرض للبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين، انتهى.
وقال غيره: لا يلزم من أنه يظن أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت ليقظة قلبه وسلامة ذهنه، فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور، أنه يظهر
__________
بشيء".
"قال المازري: وهذا كله مردود" وباطل، "لأن الدليل" وهو المعجزات، كما في كلام المازري "قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله عز وجل، وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل" لا يلتفت إليه؛ "وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة" بضم فسكون، أي معرض "لما يعرض للبشر، كالأمراض".
وقد صح أنه كان يوعك كما يوعك رجلان زيادة في أجره، "فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له" وعليه يحمل الحديث، فلا طعن فيه مع صحته باتفاق "مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. انتهى" ما نقله من المازري. وبقيته: وقد قال بعض الناس معنى الحديث أنه يخيل إليه أنه وطئ إحدى زوجاته ولم يطأ، وقد يخيل للإنسان في المنام مثل هذا، فلا يبعد أن يتخيله صلى الله عليه وسلم في اليقظة.
وقال بعض أصحابنا: يمكن أن يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما فعله، ولكن لا يعتقد صحة خياله، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، فلا يبقى لاعتقاد الملحد طريق، وهذا هو معنى قوله: "وقال غيره لا يلزم من أنه يظن أنه يفعل الشيء ولم يكن فعله؛ أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر، يخطر ولا يثبت ليقظة قلبه وسلامة ذهنه، فلا يبقى على هذا للملحد حجة" فكان اللائق أن المصنف يقول: ونقل عن بعض أصحابه لإبهامه أن المازري لم يذكره، لا سيما مع فصله بلفظ. انتهى.
"وقال القاضي عياض" في الشفاء وفي شرح مسلم: ظهر لي ما هو أجلى وأبعد عن(9/448)
له من نشاطه ومن سابق عادته الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى "حتى كاد ينكر بصره" أي صار كالذي ينكر بصره بحيث إنه إذا رأى الشيء تخيل أنه على غير صفته، فإذا تأمله عرف حقيقته. ويؤيد جميع ما تقدم: أنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام في خبر من الأخبار أنه قال قولًا فكان بخلاف ما أخبر.
قال بعضهم: وقد سلك النبي عليه الصلاة والسلام في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم لأمر به، واحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون
__________
مطاعن الملحدة من نفس الحديث، ففي بعض طرقه سحره يهود حتى كاد ينكر بصره، وفي بعضها حبس عن عائشة سنة، وعند البيهقي عن ابن عباس: مرض صلى الله عليه وسلم وحبس عن النساء والطعام والشراب، فدلت هذه الطرق أن السحر إنما تسلط على ظاهر جسده، لا على عقله، فـ"يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور" في قوله: يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن "أنه يظهر له من نشاطه" أي طيب نفسه للعمل، كما في الأساس، "ومن سابق عادته" قبل السحر "الاقتدار" "بالرفع فاعل يظهر أي قدرته" "على الوطء، فإذا دنا" قرب "من المرأة فتر" "بفاء ففوقية ضعف" "عن ذلك" فلم ينهض له "كما هو شأن المعقود" الممنوع عن الجماع بالسحر وتسميه العامة المربوط وهذا جواب سؤال هو: إذا قلت: إن السحر لم يؤثر إلا في ظاهر بدنه، يرد عليك أن تخيل ما لم يقع واقعًا، يقتضي خللًا في الذهن والإدراك؛ وحاصل الجواب أنه لا يقتضيه كما كرره، "ويكون قوله في الرواية الأخرى" وهي رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وعروة: سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعلوه في بئر، "حتى كاد" أي قارب "ينكر بصره" أي: ما أبصر، أو ينكر نفس رؤيته لتأثير السحر، "أي صار كالذي ينكر بصره" لا أنه أنكره حقيقة، "بحيث إنه إذا رأى الشيء تخيل أنه على غير صفته" للضعف الطارئ في بصره من السحر، "فإذا تأمله عرف حقيقته" لأن تميزه باق على حاله، لم يطرأ عليه شيء.
"ويؤيد جميع ما تقدم" من الأجوبة "أنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم في خبر من الأخبار" المروية في قصة السحر "أنه قال قولًا، فكان بخلاف ما أخبر" إلى هنا كلام عياض بمعناه.
"قال بعضهم: وقد سلك النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض" التسليم "وتعاطي الأسباب، ففي أول الأمر فوض وسلم" "عطف تفسير" "لأمر ربه واحتسب الأجر"، عند الله "في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي" خاف "من تماديه أن يضعفه عن(9/449)
عبادته جنح إلى التداوي. فقد أخرج أبو عبيد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه، يعني حين طب، ثم جنح إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية في الكمال.
وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة مقاومة السحر الذي هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والتوجه، فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله معمورًا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة، ولهذا كان غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال؛ لأن الأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها، اتنهى ملخصًا.
ويعكر عليه حديث الباب، وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم مقامه، وصدق توجهه إلى الله وملازمة ورده، ولكن يمكن الانفصال عن
__________
فنون"، أي أنواع "عبادته جنح إلى التداوي".
"فقد أخرج أبو عبيد" القاسم بن سلام بالتشديد البغدادي، الإمام المشهور، الثقة الفاضل، المصنف، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين، "من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى" الأنصاري، المدني، ثم الكوفي، ثقة من كبار التابعين، مات سنة ثلاث وثمانين، "قال: احتجم النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه، يعني حين طب" أي سحر، "ثم جنح إلى الدعاء" فدعا ربه مرارًا، "وكل من المقامين" التفويض وتعاطي الأسباب "غاية في الكمال" فلذا سلكهما.
"وقال ابن القيم: من أنفع الأدوية وأقوى ما يوجد من النشرة" بضم النون "مقاومة السحر الذي هو من تأثير الأرواح الخبيثة بالأدوية الإلهية من الذكر والدعاء والتوجه" إلى الله، "فالقلب إذا كان ممتلئًا من الله، معمورًا بذكره، وله ورد من الذكر والدعاء والتوجه لا يخل به، كان ذلك من أعظم الأسباب المانعة من إصابة السحر له، قال: وسلطان" أي قوة "تأثير السحر هو في القلوب الضعيفة" حتى قال الفخر الرازي: لا يظهر تأثير السحر إلا على فاسق، "ولهذا كان غالب ما يؤثر في النساء والصبيان والجهال؛ لأن الأرواح الخبيثة" يعني الشياطين "إنما تتسلط على أرواح تلقاها مستعدة لما يناسبها".
"انتهى ملخصًا ويعكر عليه حديث الباب؛ وجواز السحر على النبي صلى الله عليه وسلم مع عظيم مقامه وصدق توجهه إلى الله وملازمة ورده" من صلاة وذكر وتلاوة وغير ذلك؛ "ولكن يمكن(9/450)
ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب، وإن ما وقع به عليه الصلاة والسلام لبيان تجويز ذلك عليه.
وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال: أن في كتب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فتدق بين حجرتين ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقلاقل، ثم يحسو منه ثلاث حسيات ثم يغتسل به، فإنه يذهب عنه ما كان به، وهو جيد للرجل إذا احتبس عن أهله.
وممن صرح بجواز النشرة، المزني عن الشافعي، وأبو جعفر الطبري وغيرهما.
__________
الانفصال" أي التخلص والتباعد "عن ذلك بأن الذي ذكره محمول على الغالب" كما يؤخذ من قوله غالب ما يؤثر؛ "إن ما وقع به صلى الله عليه وسلم لبيان تجويز ذلك عليه" ويمكن الانفصال أيضًا؛ بأنه إنما قال سلطان، أي قوة وشدة، والذي وقع له صلى الله عليه وسلم ليس بسلطانه؛ إذ لم يغير شيئًا من عقله، ولا نقص شيء من عبادته، مع أن الذي سحر به كان بالغًا في القوة، بحيث لو فعل مثله بغيره من ضعفاء القلوب، لاشتد مرضه وأقعد واختل عقله وترك العبادة؛ وكذا قول الرازي: لا يظهر تأثيره إلا على فاسق، أي كل الظهور المخل بالعقل.
"وأما ما يعالج به من النشرة المقاومة للسحر، فذكر ابن بطال أن في كتب وهب بن منبه" بن كامل اليماني، التابعي المشهور؛ "أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر، فتدق بين حجرتين، ثم يضرب ذلك بالماء، ويقرأ فيه آية الكرسي والقلاقل" أي قل هو الله أحد والمعوذتان، "ثم يحسو" يملأ فمه "منه ثلاث حسيات"، يبتلعها، "ثم يغتسل به" أي بالباقي بعد الحسو، "فإنه يذهب عنه ما كان به" من السحر، "وهو جيد للرجل إذا احتبس" أي منع "عن" جماع "أهله، وممن صرح بجواز النشرة المزني" إسماعيل، "عن الشافعي" الإمام، "وأبو جعفر" محمد بن جرير "الطبري وغيرهما" كالشعبي ويحيى بن سعيد، وجاءت بها آثار، واستدل لجوازها يقول عائشة: أفلا تنشرت، فلم ينكر عيها، وإنما قال: "أما الله فقد شفاني".
وقال الحسن البصري: هي من السحر، وفي أبي داود عن جابر: النشرة من عمل الشيطان، وأجيب؛ بأن المراد بها التي كانت الجاهلية تعالج بها وتعتقد تأثيرها.
وقد نقل الطيبي عن بعضهم: أن النشرة نوع من الرقي والعلاج، يعالج بها من يظن أنه مس من الجن، وفي الحديث: لعل طبًا، أي سحرًا أصابه فنشره، أي رقاه بـ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} [الفلق: 1] ، ويقال أيضًا: نشره إذا كتب له نشرة، قاله أبو عبد الله الأبي.(9/451)
قال ابن الحاج في "المدخل": كان الشيخ أبو محمد المرجاني أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه فيجدون على ذلك الشفاء، وأخبر رحمه الله أن النبي عليه الصلاة والسلام أعطاها له في المنام، وقال: إنه مرة رأى النبي عليه الصلاة والسلام قال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك في هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهي هذه: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ} [التوبة: 128] ، إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] ، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] ، إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين، ثم يكتب: اللهم أنت المحيي وأنت المميت، وأنت الخالق وأنت البارئ وأنت المبلي، وأنت الشافي، خلقتنا من ماء مهن، وجعلتنا في قرار مكين إلى قدر معلوم، اللهم إني أسألك بأسمائك الحسني وصفاتك العلا، يا من بيده الابتلاء والمعافاة، والشفاء والدواء، أسألك بمعجزات نبيك محمد عليه الصلاة والسلام، وبركات خليلك إبراهيم وحرمة كليمك موسى عليه السلام، اللهم أشفه.
__________
"قال ابن الحاج في المدخل: كان الشيخ أبو محمد المرجاني أكثر تداويه بالنشرة يعملها لنفسه ولأولاده ولأصحابه، فيجدون على ذلك الشفاء" بإذن الله، "وأخبر رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها له في المنام، وقال" أيضًا؛ "أنه مرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما تعلم ما عمل معك ومع أصحابك" استفهام تقرير لينبهه على عظم فائدتها وتلقيها بالقبول التام "في هذه النشرة، نقله عنه خادمه، وهي هذه {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُم} أي منكم محمد صلى الله عليه وسلم، {عَزِيزٌ} شديد {عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي عنتكم ولقاؤكم المكروه، {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} أن تهتدوا {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ} شديد الرحمة {رَحِيمٌ} بهم يريد لهم الخير، إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} مر أن هذه إحدى آيات الشفاء {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} ، إلى آخر السورة، وسورة الإخلاص والمعوذتين" أي وسورة المعوذتين، "ثم يكتب: اللهم أنت المحيي وأنت المميت، وأنت الخالق وأنت البارئ وأنت المبلي" بالأمراض ونحوها، "وأنت الشافي" منها "خلقتنا من ماء مهين" ضعيف، وهو المني، "وجعلتنا في قرار مكين" أي حريز، وهو الرحم "إلى قدر معلوم" وهو وقت الولادة، "اللهم إني أسألك بأسمائك الحسنى" تأنيث الأحسن، "وصفاتك العلا" المرتفعة عن جميع الصفات، "يا من بيده الابتلاء" الاختيار والامتحان بالأمراض "والمعافاة" منها، "والشفاء والدواء، أسألك بمعجزات نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وبركات خليلك إبراهيم وحرمة
كليمك موسى عليه السلام، اللهم اشفه" عافه مما به.(9/452)
[ذكر رقية تنفع لكل شكوى} :
عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئًا فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطبيين أنزل رحمة من عندك، وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ بإذن الله". رواه أبو داود في سننه.
__________
ذكر رقية تنفع لكل شكوى:
أي مرض، "عن أبي الدرداء" عويمر الأنصاري، الصحابي الجليل، أول مشاهده أحد، مات في خلافه عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك، "قال: سمعت رسول الله صلى الله علي وسلم يقول: "من اشتكى منكم شيئًا" أو اشتكاه أخ له، هكذا لفظ الحديث عند أبي داود، فسقط من المصنف أو نساخه واو للتنويع، "فليقل" بعد وضع يده على الوجع قياسًا على ما سبق: "ربنا" جوز شيخنا رفعه خبر مبتدأ، أي أنت ربنا، ونصبه منادى، أي: يا ربنا، والمتبادر على رفعه أنه مبتدأ خبره "الله" وصفته "الذي في السماء تقدس اسمك" أي تنزه، ويؤيد النصب كاف الخطاب في اسمك؛ إذ الأصل عدم الالتفات، وخص التنزيه بالسماء، لكون تمامه إنما هو فيها، وإن وجد منه في الأرض فليس كالسماوات، فإن سكانها ملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، وأما الأرض فأكثرها كفار وعبدة أوثان، لا يقدسون اسمه حق تقديسه، "أمرك في السماء والأرض" نافذ، "كما رحمتك في السماء" عامة في أهلها من الملائكة وغيرهم، "فاجعل رحمتك في الأرض" عامة، كالسماء.
وحكمة ذلك أن ظهور الرحمة في السماء، كالمحقق الظاهر لكل أحد، لسلامة أهلها من الذنوب والبلايا، فسأل أن يجعلها في الأرض بحفظ أهلها من الذنوب، وبمغفرة ما اقترفوه منها، "واغفر لنا حوبنا" بالضم، أي ذنبنا العظيم، وقرئ شاذًّا "بالفتح" مصدر حاب حوبًا، وقيل: الضم لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم، "وخطايانا أنت رب الطبيين" جمع طبيب، أي المداوين، وفي بعض النسخ: المطببين، أي الطالبين للطب، أي الدواء، لكن الذي رأيته في النسخ الصححية من غير المصنف هو الأول، "أنزل رحمة من عندك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله"، رواه أبو داود في سننه" والنسائي. كما يأتي قريبًا.(9/453)
[رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع] :
روى الحميدي في "الطب" عن يونس بن يعقوب عن عبد الله قال: كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الصداع "بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الكبير وأعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار ومن شر حر النار". ورواه ابن السني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وأصاب أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ورم في رأسها، فوضع رسول الله عليه الصلاة والسلام يده على ذلك من فوق الثياب فقال: "بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك الطيب المبارك المكين عندك، بسم الله". صنع ذلك ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك، فقالت ذلك ثلاثة أيام. فذهب الورم.
رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقي.
__________
رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع:
بزنة غراب وجع الرأس ويأتي للمصنف قريبًا بسط حقيقته، "روى الحميدي" أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح الأزدي، صاحب الجمع بين الصحيحين "في الطب" النبوي، "عن يونس بن يعقوب" "عن عبد الله" "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الصداع" فيقول "بسم الله الرحمن الرحيم بسم الله الكبير" عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول، أو معناه أكمل الموجودات وأشرفها، وعلى الوجهين هو من أسماء التنزيه، "وأعوذ بالله العظيم من شر كل عرق نعار" "بفتح النون وفتح العين المهملة" فار منه الدم أو صوت لخروج الدم، كما في القامس، "ومن شر حر النار، ورواه ابن السني من حديث ابن عباس رضي الله عنهما" فله طريقان، "وأصاب أسماء بنت أبي بكر" الصديق "رضي الله عنهما ورم في رأسها، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على ذلك من فوق الثياب" لأنه لم تمس يده الشريفة يد امرأة غير حلائله، "فقال: "بسم الله أذهب عنها سوءه وفحشه بدعوة نبيك" هذه المذكورة، ويحتمل دعوته إلى الإسلام والشرائع، فإنها أعظم منزلة عند الله، أي بدعوة نبيك العباد إليك التي حصل بها الهدى وتحمل بسببها المشاق، توسل إلى الله تعالى بتلك الحالة ليكون أنجع في الإجابة، كما في قصة أصحاب الكهف "الطيب" بوزن سيد أي الطاهر أو الزكي لأنه لا أطيب منه "المبارك" العظيم البركة وهي لفظ جامع لأنواع الخير "المكين" "فعيل من المكانة"، أي ذي الرفعة والشرف "عندك" ومن ذلك أن قرنت ذكره بذكرك، "بسم الله" صنع ذلك" المذكور من وضع اليد والقول "ثلاث مرات، وأمرها أن تقول ذلك فقالت ذلك" الدعاء "ثلاثة أيام" في كل يوم ثلاث مرات، "فذهب الورم، رواه الشيخ ابن النعمان بسنده والبيهقي".(9/454)
[رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس] :
روى البيهقي أن عبد الله بن رواحة شكا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجع ضرسه، فوضع عليه الصلاة والسلام يده على خده الذي فيه الوجع وقال: "اللهم أذهب عنه سوء ما يجده وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك"، سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح.
وروى الحميدي أن فاطمة رضي الله عنها أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشكو ما تلقى من ضربان الضرس، فأدخل سبابته اليمني فوضعها على السن الذي تألم، فقال: "بسم الله وبالله، أسألك بعزك وجلالك وقدرتك على كل شيء، فإن مريم لم تلد غير عيسى من روحك وكلمتك، أن تشفي ما بفاطمة بنت خديجة من الضر كله"، فسكن ما بها.
__________
رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس:
بالكسر: السن مذكر ما دام له هذا الاسم، فإن قيل فيه: سن، فؤنث، فالتذكير والتأنيث باعتبار لفظين وتذكير الأسماء وتأنيثها سماعي، كما في المصباح وغيره.
"روى البيهقي أن عبد الله بن رواحة" الخزرجي، البدري، الأمير الشهيد بمؤتة "شكا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجع ضرسه، فوضع عليه الصلاة والسلام يده على خده الذي فيه الوجع وقال: "اللهم أذهب عنه سوء ما يجده وفحشه، بدعوة نبيك المكين المبارك عندك"، سبع مرات، فشفاه الله قبل أن يبرح"، أي يزول من مكانه.
"وروى الحميدي أن فاطمة رضي الله عنها أتت رسول الله عليه الصلاة والسلام تشكو ما تلقى من ضربان الضرس"، أي شدة وجعه، "فأدخل سبابته اليمنى، فوضع يده على السن الذي تألمه"، أي يقوم بها الألم، وهو الوجع، وعبر بالذي نظر الآن المحدث عنه الضرس، وهو مذكر، وإلا فالأولى التي؛ لأن السن مؤنثة سماعا، "فقال: "بسم الله وبالله، أسألك بعزك وجلالك وقدرتك على كل شيء"، ومن ذلك وجود عيسى من غير أب، " فإن مريم لم تلد غير عيسى"، فهو تعليل لمقدر "من روحك" أضافه إليه تعالى تشريفا له "وكلمتك"، أي قول كن، ولم يقل ولدت عيسى من روحك، لئلا يوهم انها ولدت غير عيسى من غير روحه، "أن تشفي ما بفاطمة بنت خديجة" لم يقل بنتي؛ لأنه مقام تضرع وانكسار، فنسبها إلى أمها كأنها أجنبية منه، ليكون(9/455)
ومن الغريب: ما شاع وذاع عن شيخنا المحب الطبري إمام مقام الخليل بمكة، ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجوع ضرسه، ويسأل عن اسمه واسم أمه وعن المدة التي يريد المألون أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين مثلًا بالوتر، قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر.
ومما جرب أن يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم. {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] ، وإن شاءت كتب {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 13] .
__________
الدعاء أنجع "من الضر كله، فسكن ما بها" ومناسبة ذكر مريم دون غيرها من النساء ما بينها وبين فاطمة من الفضل، فكأنه قال: كما أكرمت مريم بتلك العجيبة أكرم فاطمة بذهاب وجعها.
"ومن الغريب ما شاع وذاع عن شيخنا المحب" قاضي القضاة محمد بن الإمام رضي الدين "الطبري" المكي، المتوفى آخر ليلة الأربعاء، ثامن عشر صفر، سنة أربع وتسعين وثمانمائة بمكة، كما في شرح المصنف للبخاري، وليس هو المحب الطبري، الحافظ أحمد المشهور؛ لأنه متقدم على المصنف بزمان، مات سنة أربع وتسعين وستمائة، "إمام مقام الخليل بمكة".
وفي شرحه البخاري إمام الحرم، الشريف المكي: وما هنا أخص، "ورأيته يفعله غير مرة، وضع يده على رأس الموجود ضرسه، ويسأل عن اسمه واسم أمه، وعن المدة التي يريد المألوم أن لا يألمه فيها، فيقول: سبع سنين أو تسع سنين، مثلًا بالوتر قالوا: فما يرفع يده إلا وقد سكن ألمه، ويمكث المدة المذكورة لا يألمه، كما أشيع ذلك واشتهر" بمكة، ولم يبين أكان يقرأ أو يقول شيئًا مع وضع يده، أو بمجرد وضعه يذهب الله تعالى الألم كرامة له.
"ومما جرب أن يكتب على الخد الذي يلي الوجع: بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُم} خلقكم {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} القلوب {قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون} ما مزيدة، والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جدًّا على هذه النعم، "وإن شاءت كتب" مع هذه الآية أو بدونها {وَلَهُ مَا سَكَن} أي حل {فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَار} أي كل شيء فهو ربه وخالقه ومالكه، {وَهُوَ السَّمِيع} لما يقال، {الْعَلِيم} بما يفعل.(9/456)
[رقية لعسر البول] :
روى النسائي عن أبي الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أباه احتبس بوله، فأصابه حصاة البول، فعلمه أبو الدرداء رقية سمعها من النبي عليه الصلاة والسلام: "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء فاجعل رحمتك في الأرض، واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، أنت رب المتطببين فأنزل شفاء من شفائك، ورحمة من رحمتك على هذا الوجع. فيبرأ بإذن الله" أمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرأ. وقد تقدم هذا في رقية الشكوى العامة من حديث أبي داود.
__________
رقية لعسر البول:
أي احتباسه، "روى النسائي عن أبي الدرداء أنه أتاه رجل يذكر أن أباه احتبس بوله" امتنع من الخروج، "فأصابه حصاة البول، فعلمه أبو الدرداء رقية سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "من اشتكى منكم شيئًا، أو اشتكاه أخ له، فليقل": "ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك" تنزه عما لا يليق بعلي كما لك، "أمرك" نافذ "في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا ذنوبنا" الكبائر.
وفي الرواية السابقة: حوبنا "وخطايانا" الصغائر، "أنت رب المتطببين" "بموحدتين: جمع متطبب، وهو الطالب للدواء"، "فأنزل شفاء من شفائك ورحمة من رحمتك على هذا الوجع، فيبرأ بإذن الله"، وأمره أن يرقيه بها، فرقاه بها فبرأ، وقد تقدم هذا في رقية الشكوى العامة من حديث أبي داود" أي روايته عن أبي الدرداء مرفوعًا بدون قصة الرجل.(9/457)
[رقية الحمى] :
عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة وهي موعوكة، وهي تسب الحمى، فقال: "لا تسبيها فإنها مأمورة ولكن لو شئت علمتك كلمات إذا قلتهن أذهبها الله عنك"، قالت: فعلمني، قال: قولي: "اللهم جلدي الرقيق وعظمي الدقيق
__________
رقية الحمى:
"عن أنس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وهي موعوكة" أي قام بها الوعك وهو الحمى، "وهي تسب الحمى، فقال: "لا تسبيها، فإنها مأمورة" من الله تعالى بالقيام بك، فلا ذنب لها، "ولكن لو شئت علمتك كلمات، إذا قلتهن" هكذا في نسخ متعددة صحيحة "بتاء فوقية تليها هاء" وفي بعض النسخ: قلتيهن بزيادة تحتية بين التاء التي هي الفاعل، والهاء التي هي المفعول، إما للإشباع، أو لغة ردية، ولا يصح أن تكون التاء للتأنيث والياء هي الفاعل؛ لأن ياء الفاعل لا تكون مع الماضي، "أذهبها الله عنك"، قالت: فعلمني، قال: "قولي اللهم(9/457)
من شدة الحريق، يا أم ملدم، إن كانت آمنت بالله العظيم فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهًا آخر" قال فقالتها فذهبت عنها، رواه البيهقي.
وقد جرب ذلك -كما رأيته بخط شيخنا- ولفظه: اللهم ارحم عظمي الدقيق وجلدي الرقيق، وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم، إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر، فلا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم ولا تفوري على الفم، وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله إلهًا آخر، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
ويكتب للحمى المثلثة -مما ذكره صاحب الهدي- على ثلاث ورقات لطاف: بسم الله فرت، بسم الله مرت. بسم الله قلت، ويأخذ كل يوم ورقة
__________
جلدي الرقيق" أي ارحمه، "وعظمي الدقيق" "بالدال"، أي ليس بغليظ "من شدة الحريق"، أي لهب الحمى، "يا أم ملدم" "بكسر الميم وإسكان اللام، فدال مهملة مفتوحة فميم".
قال في النهاية: كنية الحمى، والميم الأولى زائدة، وألدمت عليه الحمى أي دامت، وبعضهم يقولها بالذال بالمعجمة: "إن كنت آمنت بالله العظيم، فلا تصدعي الرأس، ولا تنتني الفم، ولا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، وتحولي عني إلى من اتخذ مع الله إلهًا آخر" فيه جواز الدعاء على المشركين بالأمراض.
"قال" أنس: "فقالتها" أي هذه الكلمات، "فذهبت عنها، رواه البيهقي، وقد جرب ذلك" فليس تأثير هذا الدعاء خاصًّا بعائشة، "كما رأيته بخط شيخنا" بمخالفة قليلة في اللفظ، "ولفظه: اللهم ارحم عظمي الدقيق" "بالدال" "وجلدي الرقيق" "بالراء، وكل منهما معناه خلاف الغليظ" "وأعوذ بك من فورة الحريق، يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله واليوم الآخر" "يوم القيامة" "فلا تأكلي اللحم، ولا تشربي الدم، ولا تغوري على الفم، وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله إلهًا آخر" لعله يرتدع فيوحد الله، "فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله".
"ويكتب للحمى المثلثة" التي تلازم ثلاثة أيام، ثم تقلع، ثم تأتي كذلك ثلاثًا "مما ذكره صاحب الهدي" ابن القيم فيه "على ثلاث ورقات لطاف" أي صغار: "بسم الله فرت" "بالفاء" أي ذهبت بسرعة، "بسم الله مرت" أي جازت، بمعنى أنها لا تستقر. "بسم الله قلت" "بالقاف" أي عدمت؛ لأن القلة قد تنتهي إلى العدم، "ويأخذ كل يوم ورقة، ويجعلها في فمه،(9/458)
ويجعلها في فمه ويبلعها بماء.
وقد رخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه.
قال ابن الحجاج في "المدخل": وقد كان الشيخ أبو محمد المرجاني لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية، فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيها، أزلي لم يزل، ولا يزال، يزيل الزوال، وهو لا يزال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] .
وقال المروزي: بلغ أبا عبد الله أني حممت فكتب لي من الحمى رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا فجعلناهم الأخسرين، اللهم رب جبريل
__________
ويبلعها بماء" بحيث يزيل الماء صورة الحروف حتى لا يلاقي النجاسة في الباطن، قاله شيخنا بناء على مذهبه؛ أن الباطل نجس معفو عنه، أما على مذهبنا أنه طاهر ولا يحكم له بالنجاسة حتى يخرج، فلا يحتاج إلى إزالة الماء صورة الحروف، "وقد رخص جماعة من السلف في كتابه بعض القرآن، وشربه وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه" أي القرآن.
"قال ابن الحجاج في المدخل، وقد كان الشيخ أبو محمد المرجاني لا تزال الأوراق للحمى وغيرها على باب الزاوية" أي زاوية الشيخ، "فمن كان به ألم أخذ ورقة منها فاستعملها، فيبرأ بإذن الله تعالى، وكان المكتوب فيه أزلي".
قال صاحب مختار الصحاح: الأزل القدم، يقال: أزلي ذكر بعض أهل العلم؛ أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار، فقالوا: يزلي، ثم أبدلت الياء ألفًا؛ لأنها أخف، "لم يزل ولا يزال يزيل الزوال" أي الإعراض، "وهو لا يزال" باق، "ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
زاد في نسخة: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، "وقال المروزي" أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد بن إبراهيم ثقة حافظ: "بلغ أبا عبد الله" أحمد بن حنبل "إني حممت، فكتب لي من الحمى" أي من أجلها "رقعة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله ومحمد رسول الله، يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، وأرادوا به كيدًا" وهو الحرق، "فجعلناهم الأخسرين" في مرادهم، ومناسبتها للحمى أنها من فيح جهنم، كما في(9/459)
وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك أي كبريائك إله الحق آمين.
ومما جرب للخراج، ونقله صاحب زاد المعاد، أن يكتب عليه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105، 106، 107] .
ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال عن عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض، أو شيء نظيف، حديث ابن عباس: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد الله رب العالمين، وكأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] .
__________
الحديث "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، أي كبريائك إله الحق" منادى بحذف الأداة "آمين" ختم بها الدعاء رجاء للإجابة.
"ومما جرب للخراج" بضم الخاء المعجمة وخفة الراء فألف فجيم، قال في المصباح، كغراب بئر الواحدة خراجة، "ونقله صاحب زاد المعاد" ابن القيم فيه: "ن يكتب عليه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَال} كيف تكون يوم القيامة، {فَقُلْ} لهم: {يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} بأن يفتتها كالرمل السائل، ثم يطيرها بالرياح {فَيَذَرُهَا قَاعًا} منبسطًا {صَفْصَفًا} مستويًا {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} انخفاضًا {وَلَا أَمْتًا} ارتفاعًا.
"ومما يكتب لعسر الولادة ما روى الخلال" بالخاء المعجمة نسبة إلى الخل "عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل، قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض" "بجيم فألف فميم"، قال في المقدمة: إناء معروف من فضة أو غيرها، وهو مستدير قعر له غالبًا. انتهى.
ومعلوم أن أحمد لا يكتب في إناء فضة، "أو شيء نظيف" إن لم يكن جامًّا أبيض.
"حديث ابن عباس" كلمات الفرج "لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين" مر شرحه قريبًا، ويزيد على كتابة هذا الحديث كتابة قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا} أي الساعة {لَمْ يَلْبَثُوا} في قبورهم {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} إلا عشية يوم أو بركته، وصح إضافة الضحى إلى العشية لما بينهما من الملابسة؛ إذ هما طرفا النهار وحسن الإضافة وقوع الكلمة فاصلة، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من(9/460)
قال الخلال: أخبرنا أبو بكر أن أبا عبد الله جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله تكتب لامرأة قد عسر عليها ولدها منذ يومين فقال: قل له يجيء بجام واسع وزعفران. قال المروزي: ورأيته يكتب لغير واحد.
وفي "المدخل": يكتب في آنية جديدة: اخرج أيها الولد من بطن ضيق إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذي جعلك في قرار مكين إلى قدر معلوم، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} [الحشر: 21] ، إلى آخر السورة، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وتشربه النفساء، ويرش منه على وجهها. قال الشيخ المرجاني: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح في قوته. انتهى.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى عليه السلام على امرأة وقد اعترض ولدها في بطنها فقالت: يا كلمة الله ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه
__________
العذاب في الآخرة لطوله، {لَمْ يَلْبَثُوا} في الدنيا في ظنهم {إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} وكتابه هذا كله في الجام وضاح إن كان كبيرًا يسع ذلك، وإلا كتب عليه وعلى جوانبه.
"قال الخلال" الحسن بن علي بن محمد أبو علي، ثقة حافظ، نزيل مكة، وبها مات، "أخبرنا أبو بكر" أحمد بن علي بن سعيد بن إبراهيم الثقة الحافظ: "أن أبا عبد الله" أحمد بن حنبل، "جاءه رجل، فقال: يا أبا عبد الله تكتب" خبر بمعنى الطلب أو نقدر الهمزة، أي تكتب "لامرأة قد عسر عليها ولدها" أي خروجه.
وفي نسخة: الولادة "منذ يومين، فقال قل له يجيء بجام" إناء أبيض، أو نظيف "واسع وعفران، قال المروزي: ورأيته يكتب لغير واحد، وفي المدخل" لابن الحاج: "يكتب في آنية جديدة أخرج أيها الولد من بطن ضيق" بالتذكير؛ لأن البطن مذكر "إلى سعة هذه الدنيا، اخرج بقدرة الذي جعلك في قرار مكين إلى قدر معلوم {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ويمحى بالماء "وتشربه النفساء" أي التي تعسرت عليها الولادة، سماها نفساء تفاؤلًا؛ بأن الولد يخرج فتصير نفساء، "ويرش منه على وجهها".
"قال الشيخ المرجاني: أخذته عن بعض السادة، فما كتبته لأحد إلا نجح" أي ولد "في وقته انتهى".
"وروى عكرمة عن ابن عباس قال: مر عيسى عليه السلام على امرأة، وقد اعترض ولدها في بطنها، فقالت يا كلمة الله" أي يا من هو مكون بكلمة الله وأمره الذي هو، كن بلا(9/461)
فقال عيسى: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس خلصها، قال: فرمت بولدها قال: فإذا عسر على المرأة ولدها فاكتبه لها.
ومما يكتب أيضًا لذلك، ويكون في إناء نظيف: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 1-4] وتشرب الحامل منه وترش على بطنها فتضع سريعًا.
ومما يكتب للرعاف على جبهة المرعوف {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [هود: 44] ولا يجوز كتبها بدم الراعف كما يفعله بعض الجهال، فإن الدم نجس فلا يجوز أن يكتب به كلام الله.
ومما يكتب لعرق النسى: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل شيء، أنت خلقتني وخلقت عرق النسى فيَّ فلا
__________
واسطة أب ولا نطفة، "ادع الله لي أن يخلصني مما أنا فيه، فقال عيسى: يا خالق النفس من النفس، ويا مخلص النفس من النفس، ويا مخرج النفس من النفس، خلصها، قال: فرمت بولدها" أي ولدته، "قال: فإذا عسر على المرأة ولدها" أي خروجه، "فأكتبه لها، ومما يكتب أيضًا لذلك ويكون في إناء نظيف {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّت، وَأَذِنَتْ} سمعت وأطاعت في الانشقاق {لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي حق لها أن تسمع وتطيع، {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّت} زيد في سعتها كما يمد الأديم، ولم يبق فيها بناء ولا جبل، {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} من الموتى على ظهورها، {وَتَخَلَّتْ} عنه، "وتشرب الحامل منه وترش على بطنها، فتضع سريعًا" بإذن الله.
"ومما يكتب للرعاف" خروج الدم من الأنف، ويقال: هو الدم الخارج نفسه "على جبهة المرعوف، {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ} الذي نبع منك، فشربته دون ما نزل من السماء، فصار أنهارًا وبحارًا، {وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} أمسكي عن المطر، فأمسكت {وَغِيضَ} نقص {الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي تم أمر هلاك قوم نوح، "ولا يجوز كتبها بدم الراعف، كما يفعله بعض الجهال فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله" عز وجل.
"ومما يكتب لعرق النسى" بزنة حصى عرق في الفخذ، والتثنية نسيان، كما في المصباح: "بسم الله الرحمن الرحم، اللهم رب كل شيء، ومليك كل شيء، وخالق كل(9/462)
تسلطه علي بأذى، ولا تسلطني عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر سقمًا، لا شافي إلا أنت.
وأما حفيظة رمضان لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، أنت سميع عليم محيط به علمك كعسلهون، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء: 105] إلى آخرها.
قال شيخنا: اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب وجملة بلدان أنها حفيظة رمضان، تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر.
وهذه بدعة لا أصل لها، وإن وقعت في كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم بورودها في حديث ضعيف، وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدًّا، حتى وهو قائم على المنبر في أثناء خطبته حين يرى من يكتبها انتهى.
__________
شيء، أنت خلقتني وخلقت عرق النسى فيَّ، فلا تسلطه عليَّ بأذى، ولا تسلطني عليه بقطع، واشفني شفاء لا يغادر" أي لا يترك "سقمًا، لا شافي إلا أنت" فلا يكون إلا بمشيئتك.
"وأما حفيظة رمضان" أي الألفاظ التي تكتب فيه للحفظ، فهي "لا آلاء إلا آلاؤك" "بالمد فيها" أي: لا نعم إلا نعمك، "يا الله أنت" وفي نسخة: إنك "سميع عليم محيط به علمك، كعسلهون" "بكاف فعين مهملة مفتوحتين، فسين مهملة ساكنة، فلام مفتوحة، فهاء فواو فنون"، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} ، وقوله "إلى آخرها" لم يقع في كلام شيخه.
"قال شيخنا" السخاوي في المقاصد: هذه ألفاظ "اشتهرت ببلاد اليمن ومكة ومصر والمغرب، وجملة بلدان إنها حفيظة رمضان" أضيفت إليه لوقوع كتبها فيه، "تحفظ من الغرق والسرق والحرق وسائر الآفات، وتكتب آخر جمعة منه، وجمهورهم يكتبها والخطيب يخطب على المنبر، وبعضهم بعد صلاة العصر، وهذه بدعة لا أصل لها وإن وقعت في كلام غير واحد من الأكابر، بل أشعر كلام بعضهم بورودها في حديث ضعيف. وكان الحافظ ابن حجر ينكرها جدًّا حتى وهو قائم على المنبر في أثناء خطبته حين يرى من يكتبها" ليرجع عن هذه البدعة. "انتهى" كلام شيخه.
وفي التحفة: جزم أئمتنا وغيرهم بحرمة كتابة وقراءة الكلمات الأعجمية التي لا يعرف معناها، وقول بعض: كعسلهون: حية محيطة بالعرش رأسها على ذنبها لا يعول عليه؛ لأن مثل ذلك لا مدخل للرأي فيه، فلا يقبل فيه إلا ما ثبت عن معصوم على أنها بهذا المعنى لا تلائم ما قبلها في الحفيظة، وهو لا آلاء إلا آلاؤك يا الله، كعسلهون، بل هذا اللفظ في غاية الإيهام، ومن ثم قيل إنها اسم صنم أدخلها ملحد على جهلة العوام، وكأن بعضهم أراد دفع ذلك الإيهام، فزاد بعد الجلالة محيط به علمك، كعسلهون، أي كإحاطة تلك الحية بالعرش، وهو غفلة عما تقرر أن هذا لا يقبل إلا ما صح فيه عن معصوم، وأقبح من ذلك ما اعتيد في بعض البلاد من صلاة الخمس في هذه الجمعة عقب صلاتها، زاعمين إنها تكفر صلوات العام، أو العمر المتروكة، وذلك حرام لوجوه لا تخفى. انتهى.(9/463)
[ذكر ما يقي من كلام بلاء] :
عن أبان بن عثمان عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات حين يمسي لم تصبه فجأة بلاء حتى يصبح، ومن قالها حين يصبح لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي". قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج، فجعل الذي يسمع منه الحديث ينظر إليه، فقال مالك تنظر إلي فوالله ما كذبت على عثمان ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما
__________
ذكر ما يقي، "أي يحفظ قائله" من كل بلاء:
فلا يصل إليه بلاء، وهذه غير قوله سابقًا رقية تنفع كل شكوى؛ لأن تلك تزيل ما حل به من المرض؛ "عن أبان بن عثمان" بن عفان الأموي المدني، الثقة، مات سنة خمس ومائة، "عن أبيه" ذي النورين، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من قال بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات حين يمسي" أي حين يدخل وقت المغرب، "لم تصبه فجأة" "بضم الفاء والمد" وفي لغة بزنة تمرة، أي بغتة "بلاء حتى يصبح" يدخل وقت الصبح، "ومن قالها" ثلاث مرات "حين يصبح" يدخل وقت الصبح، "لم تصبه فجأة بلاء حتى يمسي" فينبغي المحافظة عليها مساء وصباحًا.
"قال: فأصاب أبان بن عثمان الفالج" "بالفاء والجيم" مرض يحدث في أحد شقي البدن طولًا فيبطل إحساسه وحركته، وربما كان في الشقين، ويحدث بغتة، "فجعل الذي يسمع منه الحديث ينظر إليه" نظر تعجب، كأنه يقول لم جاءك هذا العارض، "فقال" أبان: "مالك تنظر إلي، فوالله ما كذبت على عثمان" يعني أباه، "ولا كذب عثمان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن اليوم الذي أصابني فيه ما أصابني" يعني الفالج "غضبت" "بغين فضاد معجمتين فموحدة"،(9/464)
أصابني غضبت فنسيت أن أقولها. رواه أبو داود، ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعنده: فكان أباه قد أصابه طرف فالج فجعل الرجل ينظر إليه فقال له أبان: ما تنظر إلي، أما إن الحديث كما حدثتك ولكن لم أقله يومئذ ليمضي الله قدره.
__________
"فنسيت" بسبب الغضب "أن أقولها".
وفي نسخة: عصيت "بمهملتين وتحتية من العصيان"، أي فعلت ما كان سببًا للنسيان، وهو المعصية، وسماه معصية وإن لم يكن كذلك على عادتهم من عدم التقصير ما أمكن، فيعدون نحو خلاف الأولى عصيانًا.
"رواه أبو داود، ورواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وعنده" أي الترمذي: "فكان أبان قد أصابه طرف فالج" أي بعضه، "فجعل الرجل ينظر إليه، فقال له أبان: ما تنظر إليَّ أما" "بالفتح وخفة الميم"، "إن الحديث كما حدثتك، ولكن لم أقله يومئذ" أي يوم أصابه "ليمضي" أي لينفذ "الله قدره" السابق في علمه.(9/465)
[ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء] :
وذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكي الأفريقي، في كتابه "أخبار أفريقية" عن أنس بن مالك مرفوعًا: "من قال: بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات برئ من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وعوفي من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها الجنون والجذام والبرض والريح".
ويشهد له ما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه الصلاة
__________
ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء:
"ذكر أبو محمد عبد الله بن محمد المالكي، الأفريقي" بفتح الهمزة نسبة إلى أفريقية، من كبار بلاد المغرب، كذا في اللب وفي المراصد إفريقية: "بالكسر اسم لبلاد واسعة ومملكة يسيرة" "في كتابه أخبار أفريقية، عن أنس بن مالك مرفوعًا: "من قال بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عشر مرات برئ" أي عوفي "من ذنوبه" بمحوها عنه "كيوم ولدته أمه" فيصير بلا ذنب، "وعوفي من سبعين بلاء من بلايا الدنيا، منها: الجنون والجذام والبرص والريح" أي ما يصيبه من الأرواح الخبيثة، "ويشهد له" أي يقويه ويدل على أن له أصلًا "ما رواه الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من قول لا حول(9/465)
والسلام: "أكثروا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها من كنز الجنة".
قال مكحول: فمن قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابًا من الضر أدناها الفقر.
وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء أيسرها الهم".
ومن ذلك في الأمان من الفقر:
عن أبي موسى قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "من قال لا حول
__________
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإنها من كنز الجنة" أي ثوابها نفيس مدخر في الجنة، كما يدخر الكنز ويحفظ في الدنيا، فإن الأكمل إنما طريقه التشبيه، شبه نفس ثواب مدخر في الجنة أنفس: مال مدخر تحت الأرض في أن كل واحد منهما معد للانتفاع به بأبلغ انتفاع.
"قال مكحول" الشامي أبو عبد الله، ثقة، فقيه، كثير الإرسال، مات سنة بضع عشرة ومائة؛ "فمن قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ" "بفتح الميم والجيم"، أي لا متحصن "من الله إلا إليه، كشف الله عنه سبعين بابًا من الضر، أدناها الفقر".
وفي نسخة: أدناهن، والأولى أولى؛ لأن جمع الكثرة فيما لا يعقل إفراد الضمير الراجح إليه أولى من جمعه.
قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بمتصل؛ إذ مكحول لم يسمع من أبي هريرة.
قال المنذري: ورواه النسائي والبزار مطولًا ورفعًا، ولا منجا من الله إلا إليه، ورواتهما ثقات محتج بهم، ورواه الحاكم، وقال: صحيح ولا علة له، وفي رواية له، وصححها أيضًا قال: "يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة"؟، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "تقول لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه".
"وروى الطبراني" في الوسط، والحاكم "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله كان دواء من تسعة وتسعين داء" مائة إلا واحدة، "أيسرها الهم".
قال الحاكم: صحيح الإسناد، وتعقب بأن فيه بشر بن رافع ضعيف، "ومن ذلك من الأمان من الفقر عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقرًا أبدًا"، رواه ابن أبي الدنيا".(9/466)
ولا قوة إلا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقر أبدًا". رواه ابن أبي الدنيا.
وروى الطبراني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أبطأ عليه رزقه فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله".
وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب يرفعه: "من قال كل يوم وليلة: لا إله إلا الله الملك الحق المبين، مائة مرة كان له أمانًا من الفقر، وأنسًا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى، واستقرع به باب الجنة". قال بعض رواته: لو رحلتم في هذا الحديث إلى الصين ما كان كثيرًا. ذكره عبد الحق في كتاب الطب النبوي.
__________
عبد الله بن محمد الحافظ.
"وروى الطبراني" في الأوسط "عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" "من ألبسه الله نعمة، فليكثر من الحمد لله، ومن كثرت ذنوبه فليستغفر الله"، "ومن أبطأ عليه رزقه" أي تأخر عليه مجيئه، "فليكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله" فإن رزقه يأتيه بسهولة من حيث لا يعلم، وترك المصنف أول الحديث اقتصارًا على مراده منه.
"وعن جعفر" الصادق "بن محمد" الباقر، "عن أبيه" محمد بن علي، "عن جده" زين العابدين علي بن الحسين "عن علي بن أبي طالب، يرفعه: "من قال كل يوم" وكل "ليلة لا إله ئإلا الله الملك الحق المبين مائة مرة، كان له" ذلك "أمانًا من الفقر وأنسًا من وحشة القبر، واستفتح به باب الغنى" "بكسر المعجمة" ضد الفقر، أي طلب فتحه "واستقرع به باب الجنة" أي توسل إلى قرع بابها ليفتح له.
"قال بعض رواته: لو رحلتم في هذا الحديث إلى الصين" مملكة بالمشرق بعيدة، منها الأواني الصينية "ما كان كثيرًا، ذكره عبد الحق" بن عبد الرحمن بن عبد الله الإشبيلي، الحافظ، الفقيه، المالكي، الزاهد، الورع، صاحب التصانيف العديدة، مات سنة إحدى وثمانين وخمسمائة "في كتاب الطب النبوي" وأخرجه أبو نعيم والديلمي والخطيب في رواة مالك.(9/467)
[ذكر دواء داء الطعام] :
روى البخاري في تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام: بسم الله خير الأسماء في الأرض وفي السماء لا يضر مع اسمه داءً، جعل فيه رحمة وشفاء. لم يضره ما كان.
__________
ذكر دواء داء الطعام:
"روى البخاري في تاريخه عن عبد الله بن مسعود: من قال حين يوضع الطعام" قبل أن يأكل منه "بسم الله خير الأسماء" الكائنة "في الأرض وفي السماء لا يضر مع اسمه داءً، جعل فيه رحمة وشفاء، لم يضره" ذلك الطعام "ما كان" ولو كان شأنه أن فيه ضررًا ببركة اسم الله.(9/468)
[ذكر داء أم الصبيان] :
عن علي قال: قال رسول الله عليه الصلاة السلام: من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان. رواه ابن السني، وذكره عبد الحق في "الطب النبوي".
وأم الصبيان: هي الريح التي تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها.
وسر التأذين -كما قاله صاحب تحفة الودود في أحكام المولود- أن يكون أول ما يقرع سمع المولود كلماته المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالثقلين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حين يولد فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع الشيطان ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه.
__________
ذكر داء أم الصبيان:
"عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ولد له مولود" ذكر أو أنثى، "فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان"، رواه ابن السني، وذكره عبد الحق في الطب النبوي" وإسناده ضعيف، "وأم الصبيان هي الريح التي تعرض لهم، فربما يخشى عليهم منها".
قال بعضهم: كذا قيل، وأولى منه قول الحافظ ابن حجر: أم الصبيان هي التابعة من الجن، "وسر" أي حكمة "التأذين، كما قاله صاحب تحفة الودود" أي ذي الود وفي نسخة: المودود "بميم قبل الواو" لمناسبة قوله "في أحكام المولود" وهو العلامة ابن القيم: "أن يكون أول ما يقرع سمع المولود كلماته" أي المذكور من الأذان والإقامة، "المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالثقلين، له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها، مع ما في ذلك من فائدة أخرى، وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو: كان يرصده حين يولد، فيقارنه للمحنة التي قدرها الله وشاءها، فيسمع الشيطان ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه" بالمولود، فيقل ضرره.(9/468)
النوع الثاني: في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية
[ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يعالج به الصداع والشقيقة] :
اعلم أن الصداع ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه أحد جانبي الرأس لازمًا سمي شقيقة -بوزن عظيمة- وسببه أبخرة مرتفعة إلى الدماغ، أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع إلى الدماغ، فإن لم تجد منفذًا أحدثت الصداع، وإن مال إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة، وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة تشبيهًا ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله.
__________
"النوع الثاني:" "في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية"
أي الموافقة للطبيعة، سواء عالج بها نفسه أو غيره، وأل في النوع عهدية، والمعهود ما عبر عنه سابقًا بالأدوية الطبيعية فذكر هنا إيضاحًا.
ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يعالج به الصداع والشقيقة:
بمعجمة وقافين عطف خاص على عام، كما يفيده قوله: "اعلم أن الصداع ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله، فما كان منه في أحد جانبي الرأس لازمًا" زاد في الفتح: أو في مقدمه، "سمي شقيقة بوزن عظيمة" أي كما يسمى صداعًا، ومفهومه: أن غير الملازم لا يسمى شقيقة، لكن الحافظ لم يقيده بلازمًا، "وسببه أبخرة مرتفعة إلى الدماغ" من المعدة، "أو أخلاط حارة أو باردة ترتفع" تصعد من المعدة "إلى الدماغ، فإن لم تجد" تلك الأبخرة أو الأخلاط "منفذًا" تخرج منه، كانسداد مسام الشعر، "أحدثت الصداع، وإن مال" البخار، أو المرتفع "إلى أحد شقي الرأس أحدث الشقيقة" فالمحدث هو الألم، وهو غير المائل، "وإن ملك كل الرأس أحدث داء البيضة" أي الداء المسمى بالبيضة، وهي وجود الألم في جميع الرأس، "تشبيهًا ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كلها" كذا في جميع النسخ مؤنثًا، باعتبار أنه بضعة من الجسد، أو باعتبار الهامة، وإلا فالواجب كله؛ إذ الرأس مذكر اتفاقًا.(9/469)
وأسباب الصداع كثيرة: منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها، ومنها ما يكون من الحركة العنيفة كالجماع والقيء والاستفراغ والسهر وكثرة الكلام، ومنها ما يحدث من الأعراض النفسانية كالهم والحزن والجوع والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس كضربة تصيبه أو ورم في صفاق الدماغ، أو حمل شيء ثقيل يضغط الرأس، أو تسخينه بشيء خارج عن الاعتدال، أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد.
وأما الشقيقة: فهي في شرايين الرأس وحدها، وتختص بالموضع الأضعف
__________
وفي الفتح: وإن ملك قمة الرأس، وهو ظاهر في أنها أعلاه؛ لأن القمة "بكسر القاف" أعلى الرأس، كما في القاموس، ويحتمل أن يراد بها كل الرأس، فيوافق ظاهر المصنف.
"وأسباب الصداع كثيرة، منها ما تقدم، ومنها ما يكون عن ورم في المعدة" نفسها، "أو في عروقها، أو ريح غليظة فيها، أو لامتلائها" بكسرة الأكل، "ومنها ما يكون من الحركة العنيفة الشديدة، كالجماع والقيء والاستفراغ" للجهد في دم وإسهال ونحوهما.
وفي الفتح: والاستفراغ الناشئ عن جماع أو حمام أو غيرهما، "والسهر" الكثير، "وكثرة الكلام" لا سيما العالي، "ومنها: ما يحدث من الأعراض النفسانية: كالهم والحزن والجوع" المفرط "والحمى، ومنها ما يحدث عن حادث في الرأس، كضربة تصيبه، أو ورم في صفاق الدماغ" "بكسر الصاد المهملة، وزن كتاب" أي الجلد الأسفل الذي تحت الجلد، الذي عليه شعر الرأس، وهو الذي يعبر عنه الفقهاء بالسمحاق، ولعل إضافته للدماغ مع أن بينه وبين العظم قبل الدماغ، الجلدة التي تسمى خيطة الدماغ، لقربه من الدماغ في الجملة، أو لكونه حافظة في الجملة، "أو حمل شيء ثقيل يضغط" "بفتح أوله وسكون الضاد وفتح الغين المعجمتين" من باب نفع، أي يعصر "الرأس" أي كأنه يعصره بحيث يصيره كأن أجزاءه انضم بعضها إلى بعض، لشدة ثقل ذلك الشيء عليه، "أو تسخينه" بالخفض عطفًا على ضربة "بشيء خارج عن الاعتدال" كلبس ثقيل برأسه، أو دهنه بشيء زائد في التسخين، أو أكل العقاقير المسخنة بقوة، فعدل عن قول الفتح أو تسخينه بلبس شيء خارج عن الاعتدال لإفادة التعميم، وأن اللبس كالمثال، "أو تبريده بملاقاة الهواء أو الماء في البرد" لا في الحر.
"وأما الشقيقة، فهي" الكائنة "في شرايين الرأس" "بشين معجمة مفتوحة فراء فألف فتحتيتين فنون، جمع شريان بفتح المعجمة وكسرها مع سكون الراء" أي العروق النابضة، أي(9/470)
من الرأس. وعلاجها بشد العصابة.
وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة فيمكث اليوم واليومين لا يخرج.
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "وارأساه" وأنه خطب وقد عصب رأسه. فعصب الرأس ينفع في الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس.
وفي البخاري من حديث ابن عباس: احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقية كانت به. وقد جاءت مقيدة في بعض طرق ابن عباس نفسه، فعند أبي داود الطيالسي في مسنده من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه. وقد قال الأطباء: إنها نافعة جدًّا.
__________
المتحركة "وحدها" دون غيرها، "وتختص بالموضع الأضعف من الرأس، وعلاجها بشد العصابة" "بكسر العين" ما عصب به، كالعصب والعمامة كما في القاموس.
"وقد أخرج الإمام أحمد من حديث بريدة" بن الحصيب بتصغيرهما "أنه صلى الله عليه وسلم كان ربما أخذته الشقيقة، فيمكث اليوم" تارة، "واليومين" أخرى، "لا يخرج" لما فيه من الوجع زيادة في أجره.
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحدًا أشد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ "وفي الصحيح" عن عائشة "أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: "وارأساه" فيه أن ذكر الوجع ليس شكاية، فكم من ساكت وهو ساخط، وكما من شاك وهو راض، فالمعول في ذلك على القلب، لا على نطق اللسان، وقد بسط المصنف هذا المعنى في المقصد الأخير، "وإنه خطب" فيمرض موته، أي وعظ الناس وأوصاهم، "وقد عصب رأسه" أي شدة بعصابة، "فعصب الرأس ينفع في الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس" بتخفيف الوجع.
"وفي البخاري من حديث ابن عباس: "احتجم صلى الله عليه وسلم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به" زاد في رواية عند البخاري بماء يقال له: لحى جمل، أي بمنزل فيه ماء يسمى لحى "بفتح اللام وسكون المهملة" والإفراد، وفي رواية لحيا بالتثنية، وجمل "بفتح الجيم والميم" موضع بطريق مكة ند عقبة الجحفة، وأطلق في قوله: في رأسه، "وقد جاءت مقيدة بما في بعض طرق" حديث "ابن عباس نفسه، فعند أبي داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي، في مسنده من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في وسط رأسه" وكذا جاء في حديث عبد الله بن بحينة عند البخاري بهذا اللفظ، فتحمل عليه روايته المطلقة "وقد قال(9/471)
وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضًا في الأخدعين والكاهل. أخرجه الترمذي وحسنه، وأبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم.
وقد قال الأطباء: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف.
وقد ورد في حديث ضعيف جدًّا، أخرجه ابن عدي من طريق عمر بن رباح عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رفعه: الحجامة في الرأس تنفع في سبع؛ من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين. وعمر متروك، رماه الفلاس وغيره بالكذب.
وروى ابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء،
__________
الأطباء: إنها" أي الحجامة في وسط الرأس "نافعة جدًّا، وورد أنه صلى الله عليه وسلم احتجم أيضًا في الأخدعين" "بخاء معجمة ودال وعين مهملتين"، قال أهل اللغة: عرقان في سالفة العنق، كما في الترغيب، وفي المصباح: هما عرقان في موضع الحجامة، "والكاهل" ما بين الكتفين، وفي المصباح: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق، وهو الثلث الأعلى، وفيه ست فقرات، قال أبو زويد: الكاهل من الإنسان خاصة، ويستعار لغيره وهو ما بين كتفيه، وقال الأصمعي: هو موصل العنق، وفي الكفاية: هو الكتد.
"أخرجه الترمذي، وحسنه أبو داود وابن ماجه، وصححه الحاكم" كلهم عن أنس، ولفظ الترمذي: كان يحتجم في الأخدعين والكاهل، ولفظ أبي داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم ثلاثًا في الأخدعين والكاهل.
"وقد قال الأطباء: الحجامة على الأخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه والأذنين والعينين والأسنان والأنف، وقد ورد في حديث ضعيف جدًّا أخرجه ابن عدي من طريق عمر" "بضم العين" "ابن رباح" "بكسر الراء وتحتانية"، العبدي، البصري، الضرير، "عن عبد الله بن طاوس" بن كيسان اليماني، ثقة، فاضل، من رجال الجميع، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة، "عن أبيه" طاوس، يقال: إنه لقب واسمه ذكوان الفارسي، فقيه، ثقة، فاضل، مات سنة ست ومائة، "عن ابن عباس رفعه: الحجامة في الرأس تنفع من سبع: من الجنون والجذام والبرص والنعاس والصداع ووجع الضرس والعين، وعمر" بن رباح "متروك رماه الفلاس" "بالفاء" الصيرفي اسمه عمرو "بفتح العين" ابن علي الباهلي، البصري، ثقة، حافظ، مات سنة تسع وأربعين ومائتين، روى له الستة. "وغيره بالكذب" في الحديث، فلهذا ترك.
"وروى ابن ماجه في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع" "بشد الدال مبني للمفعول"،(9/472)
ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع. وفي صحته نظر.
وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة، ولم يكن عن مادة يجب استفراغها، وإذا كان كذلك نفع فيه الحناء نفعًا ظاهرًا. قالوا: وإذ دق وضمدت به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس بل يعم جميع الأعضاء.
وفي تاريخ البخاري وسنن أبي داود: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحد وجعًا في رأسه إلا قال له "احتجم"، ولا شكا وجعًا في رجليه إلا قال له "اختضب بالحناء".
وفي الترمذي عن علي بن عبد الله عن جدته -وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم- قالت: ما كان يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة ولا نكتة إلا أمرني أن أضع عليها الحناء.
__________
قال المجد: صدع بالضم تصديعًا، ويجوز في الشعر صدع، كعنى، فهو مصدوع، فقصر التخفيف على الشعر "غلف" "بفتح المعجمة واللام مخففة ومثقلة"، أي ضمخ "رأسه بالحناء" "بالكسر والمد"، "ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع، وفي صحته نظر".
"وهو علاج خاص بما إذا كان الصداع من حرارة ملتهبة" أي قوية، "ولم يكن" ناشئًا "عن مادة يجب استفراغها" فلا ينجع فيه استفراغ هذه المادة، وإذا كان من برد لم ينفع فيه الحناء، بل يزيده لبردها، "وإن كان كذلك" أي حارًا لم ينشأ عن مادة، "نفع فيه الحناء نفعًا ظاهرًا" لأن المرض يعالج بضده، "قالوا: وإذا دق وضمدت" "بخفة الميم وشدها مبني للمجهول، أي شدت "به الجبهة مع الخل سكن الصداع، وهذا لا يختص بوجع الرأس، بل يعم جميع الأعضاء" أي وجعها كلها.
"وفي تاريخ البخاري وسنن أبي داود" والترمذي وابن ماجه، كلهم عن سلمى خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكا إليه أحد وجعًا في رأسه إلا ال له: "احتجم"، ولا شكا وجعًا في رجليه إلا قال له: "اختضب" الرواية أخضبهما "بالحناء".
قال الترمذي: حديث غريب، إنما نعرف من حديث قائد.
"وفي الترمذي عن علي بن عبد الله" بن أبي رافع: كذا وقع مكبرًا، قال الحافظ: والصواب عبيد الله، يعني مصغرًا ابن أبي رافع، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، "عن جدته" سلمى أم رافع زوج أبي رافع، صحابية لها أحاديث، "وكانت تخدم النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: ما كان يكون برسول الله صلى الله عليه وسلم قرحة" "بالقاف" واحدة القروح، التي تخرج في الجسد، "ولا نكتة" "بضم النون وسكون الكاف وفوقية" أي: أثر يسير "إلا أمرني أن أضع عليها الحناء" "بالمد".(9/473)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد] :
وهو مرض حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها، وسببه، انصباب أحد الأخلاط وأبخرة تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع إلى الخياشيم أحدث الزكام، أو إلى العين أحدث الرمد، أو إلى اللهاة والمنخرين أحدث الخنان -بالخاء المعجمة والنون- أو إلى الصدر أحدث النزلة، أو إلى القلب أحدث الشوصة، وإن لم ينحدر وطلب نفاذًا فلم يجد أحدث الصداع، كما تقدم.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج الرمد بالسكون والدعة وترك الحركة.
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد:
لعله لم يقل لداء الرمد؛ لأنه لا يسمى مرضًا عرفًا، "وهو مرض حار يعرض في الطبقة الملتحمة من العين، وهو بياضها" الظاهر، كما زاده الحافظ "وسببه انصباب أحد الأخلاط" أمزجة الإنسان الأربعة، "وأبخرة" الواو بمعنى أو، وفي نسخ: بأو "تصعد من المعدة إلى الدماغ، فإن اندفع" الحاصل من الأخلاط أو الأبخرة "إلى الخياشيم" جمع خيشوم: بزنة فيعول أقصى الأنف "أحدث الزكام" بضم الزاي، وهو تحلب فضول رطبة من بطني الدماغ المقدمين إلى المنخرين، وقد زكم كعنى، كما في القاموس، "أو" اندفع "إلى العين، أحدث الرمد، أو إلى اللهاة" بفتح اللام: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم، "والمنخرين أحدث الخنان بالخاء المعجمة والنون، أو إلى الصدر أحدث النزلة" بفتح النون، وهي كالزكام "أو إلى القلب أحدث الشوصة" بشين معجمة مفتوحة فواو ساكنة فصاد مهملة وجع في البطن، أو ريح يتعقب في الأضلاع، أو ورم في حجابها، من داخل، واختلاج العروق قاله القاموس، "وإن لم ينحدر وطلب نفاذًا" بالذال المعجمة أي خروجًا، "فلم يجد" منفذًا "أحدث الصداع، كما تقدم" أول الكلام.
"وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان يعالج الرمد بالسكون والدعة" بفتح المهملتين الراحة، فقوله: "وترك الحركة" عطف سبب على مسبب.(9/474)
وفي سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرًا، فأكلت، فقال: "تأكل تمرًا وبك رمد"؟ فقلت: يا رسول الله، أمضغ من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حمى إلى علي من الرطب لما أصابه الرمد.
وفي البخاري من حديث سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين".
والكمأة: نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد في الأرض من غير أن يزرع.
__________
"وفي سنن ابن ماجه عن صهيب" بن سنان الرومي، الصحابي الشهير، يقال اسمه عبد الملك، وصهيب لقب، مات بالمدينة سنة ثمان وثلاثين، "قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر، فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرًا، فأكلت، فقال" أ "تأكل" "فهمزة الاستفهام مقدرة"، ويأتي في النوع الثالث، ذكره بالهمزة "تمرًا وبك رمد" والاستفهام للتوبيخ، ولا ينافي أمره له بالأكل لأنه عنده الخبز، فيصدق بالأكل، منه فقط، أو علم أنه لا يضره أكل التمر، وإنما قصد بالاستفهام المباسطة، "فقلت: يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى" فيه أن رمده كان بإحدى عينيه فقط، "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" تعجبًا؛ لأنه إن كان يضربه لم يفده المضغ من ناحية العين التي لا رمد بها.
"وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم حمى إلى علي من الرطب لما أصابه الرمد" لأنه حار كالرمد فيقوي ضرره.
"وفي البخاري" ومسلم والترمذي، "من حديث سعيد بن زيد" بن عمرو بن نفيل العدوي، أحد العشرة، "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الكمأة" "بفتح الكاف وسكون الميم وهمزة مفتوحة" وفي العامة من لا يهمزه واحدة الكمء "بفتح فسكون فهمز" مثل تمرة وتمر، وعكس ابن الأعرابي، فقال: الكمأة الجمع، والكمء الواحد على غير قياس، قال: ولم يقع في كلامهم نظير هذا سوى جبأة وجب، وقيل: الكمأة قد تطلق على الواحد وعلى الجمع، وقد جمعوها على أكمؤ، قال الشاعر:
ولقد جنيتك أكمؤا وعساقلا ... ولقد نهيتك عن بنات الأوبر
والعساقل "بمهملتين وقاف ولام" السراب، وكأنه أشار إلى أن محمل وجدان إلا كمؤ الفلوات "من المن" "بفتح الميم وشد النون" زاد في رواية أبي نعيم من حديث أبي سعد: والمن من الجنة، "وماؤها شفاء للعين" أي لدائها، كذا لأكثر رواة البخاري، وكذا عند مسلم، وللمستملي: من العين، أي من داء العين، "والكمأة نبات لا ورق لها ولا ساق، يوجد في(9/475)
وروى الطبراني من طريق بن المنكدر عن جابر قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فامتنع قوم من أكلها وقالوا: هو جدري الأرض، فبلغه ذلك فقال: "إن الكمأة ليست جدري الأرض، لا إن الكمأة من المن".
__________
الأرض من غير أن يزرع".
زاد الحافظ: قيل: سميت بذلك لاستتارها، يقال: كمأ الشهادة إذا كتمها، ومادة الكمأة من جوهر أرض بخارى، يحتقن نحو سطح الأرض ببرد الشتاء، وينميه مطر الربيع، فيتولد ويندفع متجسدًا، ولذا كان بعض العرب يسميها جدري الأرض تشبيهًا لها بالجدري مادة وصورة؛ لأن مادته رطوبة تندفع غالبًا عند الترعرع، وفي ابتداء استيلاء الحرارة ونماء القوة ومشابهتها له في الصورة ظاهرة.
وأخرج الترمذي عن أبي هريرة أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: الكمأة جدري الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: "الكمأة من المن" الحديث.
"وروى الطبراني من طريق" محمد "بن المنكدر عن جابر، قال: كثرت الكمأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فامتنع قوم من أكلها، وقالوا: هو جدري الأرض" لمشابهته للجدري مادة وصورة، "فبلغه" صلى الله عليه وسلم "ذلك: فقال: "إن الكمأة ليست جدري الأرض، ألا" "بالفتح والتخفيف" "إن الكمأة من المن".
قال الحافظ: هذا الحديث والذي قبله، يعني حديث أبي هريرة، كل منهما صريح في أنه سبب لقوله: الكمأة من المن الحديث، العرب تسمي الكمأة أيضًا نبات الرعد؛ لأنها تكثر بكثرته، ثم تنفطر عنها الأرض، وهي كثيرة بأرض العرب، وتوجد بالشام ومصر، وأجودها ما كانت أرضه رملة قليلة الماء، ومنها صنف قتال يضرب لونه إلى الحمرة، وهي باردة رطبة في الثالثة، رديئة للمعدة بطيئة الهضم.
زاد بعضهم: أكلها يورث القولنج والسكت والفالج وعسر البول، والرطب منها أقل ضررًا من اليابس، وإذا دفنت في الطين الرطب، ثم صلقت بالماء والملح والصعتر وأكلت بالزيت والتوابل الحارة قل ضررها، ومع ذلك ففيها جوهر مائي لطيف بدليل خفتها، فلذا كان ماؤها شفاء للعين.
وقال ابن البيطار: الغذاء المتولد منه غليظ وليس برديء، الكيموس وينفع المعدة الحارة؛ لأنه بارد رطب وماؤه يجلو البصر، وإذا ربي به الأثمد نفع جدًّا ودفع نزول الماء.
وقال ابن خالويه: يعصر ماؤه ويخلط به أدوية، فيكتحل به، وقال ابن العربي: الصحيح أنه ينفع من وجع العين مفردًا ومركبًا، وقال غيره: إن كان عن حرارة نفع مفردًا، وإلا مركبًا.(9/476)
واختلف في قوله: "من المن"، فقيل: من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل، وهو الطل الذي يسقط على الشجر فيجمع ويؤكل حلوًا، ومنه الترنجبيل فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوًا بغير علاج.
وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجبيل الذي يسقط على الشجر، وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غر تكلف ببذر ولا سقي، وإنما
__________
"واختلف في قوله: من المن" أي في المراد به على ثلاثة أقوال: "فقيل: من المن الذي أنزله الله على بني إسرائيل" لأن في رواية لمسلم: من المن الذي أنزل على بني إسرائيل "وهو الطل الذي يسقط على الشجر" أي شجر البلوط.
قال المصنف: المن كل طل ينزل من السماء على شجر أو حجر وينعقد عسلًا، ويجف جفاف الصمغ كالشيرخشت والترنجبيل، والمعروف بالمن ما وقع على شجر البلوط، معتدل، نافع للسعال الرطب والصدر والرئة، "فيجمع ويؤكل حلوًا، ومنه الترنجبيل، فكأنه يشبه الكمأة بجامع ما بينهما من وجود كل منهما عفوًا بغير علاج".
قال الحافظ عقب هذا: والقول الثاني: إن المعنى أنها من المن الذي امتن الله تعالى به على عباده عفوًا بغير علاج، قاله أبو عبيد وجماعة.
"وقال الخطابي: ليس المراد أنها نوع من المن الذي أنزل الله على بني إسرائيل، فإن الذي أنزل على بني إسرائيل كان كالترنجيل الذي يسقط على الشجر" وهذا ينبت في الأرض، "وإنما المعنى أن الكمأة شيء ينبت من غير تكلف ببذر ولا سقي" فهو من قبيل المن الذي كان ينزل على بني إسرائيل، فيقع على الشجر فيتناولونه، ثم أار، يعني الخطابي إلى أنه يحتمل أن يكون الذي أنزل على بني إسرائيل، كان أنواعًا منها ما يسقط على الشجر، ومنها ما يخرج من الأرض فتكون الكمأة منه؛ وهذا هو القول الثالث، وبه جزم الموفق عبد اللطيف البغدادي ومن تبعه، فقالوا: المن الذي أنزل على بني إسرائيل ليس هو ما يسقط على الشجر فقط، بل كان أنواعًا من الله عليهم بها، من النبات الذي يوجد عفوًا، ومن الطير الذي يسقط عليهم من غير اصطياد، ومن الطل الذي يسقط على الشجر، والمن مصدر بمعنى المفعول، أي ممنون به، فلما لم يكن للعبد فيه شائبة كسب، كان منا محضًا، وإن كانت جميع نعم الله على عبيده منها منه عليهم، لكن خص هذا باسم المن، لكونه لا صنع لأحد فيه، فجعل سبحانه وتعالى قوتهم في التيه الكمأة، وهي تقوم مقام الخبز، وأدمهم السلوى، وهي تقوم مقام اللحم، وحلواهم الطل الذي ينزل على الشجر، فكمل بذلك عيشهم، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من(9/477)
اختصت الكمأة بهذه الفضيلة لأنها من الحلال المحض، الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال المحض يجلو البصر.
وقال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفًا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين: أحدهما أن يخلط في الأدوية التي يكتحل بها، حكاه أبو عبيد، ثانيهما: أن تشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها ثم يؤخذ الميل فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها؛ لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة وتبقي النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها وهي باردة يابسة فلا ينجع.
وقال آخر: تجعل الكمأة في قدر جديدة ويصب الماء عليها، ولا يطرح
__________
المن"، فأشار إلى أنها فرد من أفراده، فالترنجبيل كذلك فرد من أفراد المن، وإن غلب استعمال المن عليه عرفًا، ذكره الحافظ، ثم قال قوله: وماؤها شفاء للعين.
قال الخطابي: "وإنما اختصت الكمأة بهذه الفضيلة؛ لأنها من الحلال المحض الذي ليس في اكتسابه شبهة، ويستنبط منه أن استعمال الحلال يجلو البصر" والعكس بالعكس كما في كلام الخطابي عند الحافظ، زاد بعضهم: ويجلو البصيرة أيضًا.
"وقال ابن الجوزي: في المراد بكونها شفاء للعين قولان: أحدهما: أنه ماؤها حقيقة، إلا أن أصحاب هذا القول اتفقوا على أنها لا تستعمل صرفًا في العين، لكن اختلفوا كيف يصنع بها على رأيين، أحدهما أنه يخلط في الأدوية التي يكتحل بها" كالأثمد والتوتيا، "حكاه أبو عبيد".
قال الحافظ: ويصدق على هذا القول، أن بعض الأطباء قالوا: أكل الكمأة يجلو البصر، "ثانيهما: أن تشق وتوضع على الجمر حتى يغلي ماؤها، ثم يؤخذ الميل" "بكسر الميم" المرود، "فيجعل في ذلك الشق وهو فاتر، فيكتحل بمائها؛ لأن النار تلطفه وتذهب فضلاته الرديئة وتبقي النافع منه، ولا يجعل الميل في مائها، وهي باردة يابسة، فلا ينجع".
زاد الحافظ، وحكى إبراهيم الحربي، عن صالح وعبد الله ابني أحمد بن حنبل أنهما اشتكيت أعينهما، فأخذا كمأة وعصراها واكتحلا بمائها، فهاجت أعينهما ورمدا.
قال ابن الجوزي: وحكى شيخنا أبو بكر بن عبد الباقي أن بعض الناس عصر ماء كمأة، فاكتحل بها، فذهبت عينه.
"وقال آخر: تجعل الكمأة في قدر جديدة ويصب الماء عليها، ولا يطرح فيها ملح،(9/478)
فيها ملح، ثم يؤخذ غطاء جديد نقي فيجعل على القدر، فما جرى على الغطاء من بخار الكمأة فذلك الماء الذي يكتحل به.
وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربي به الأثمد كان من أصلح الأشياء للعين إذا اكتحل به وحده يقوي أجفانها، ويزيد الروح الباصرة قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل، وقال أيضًا: إذا اكتحل بماء الكمأة بميل من ذهب تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة في البصرة كثيرة.
__________
ثم يؤخذ غطاء جديد نقي" "بنون فقاف" "من" الدنس، "فيجعل على القدر، فما جرى" أي سال "على الغطاء من بخار الكمأة، فذلك الماء الذي يكتحل به".
"وقال ابن واقد: إن ماء الكمأة إذا عصر وربي به الأثمد كان من أصلح الأشياء للعين، إذا اكتحل به وحده يقوي أجفانها ويزيد الروح الباصر قوة وحدة، ويدفع عنها نزول النوازل" ووصف الروح بالباصر بناء على أن القوى التي في البدن تسمى أرواحًا، فيقال: الروح الباصر والروح السامع والروح الشام، كما قاله ابن القيم.
"وقال" ابن واقد: "أيضًا إذا اكتحل بماء الكمأة بميل من ذهب، تبين للفاعل لذلك قوة عجيبة وحدة في البصر كثيرة" ولم يذكر المصنف القول الثاني، وهو: أن المراد ماؤها الذي تنبت به، فإنه أول مطر يقع في الأرض فتربى به الأكحال، حكاه ابن الجوزي، عن أبيبكر بن عبد الباقي: فتكون الإضافة إضافة الكل لا إضافة جزء، كأنه يقول ابن القيم: هذا أضعف الوجوه.
قال الحافظ: وفيما ادعاه ابن الجوزي من الاتفاق على أنها لا تستعمل صرفًا نظر، فقد حكى عياض عن بعض أهل الطب في التداوي بماء الكمأة تفصيلًا، وهو: إن كان لتبريد ما بالعين من الحرارة، فماؤها مجردً شفاء، وإلا فتستعمل مركبة، وبهذا جزم ابن العربي، فقال الصحيح: إنه ينفع بصورته في حال، وبإضافته في أخرى، وقد جرب ذلك فوجد صحيحًا.
نعم، جزا الخطابي بمال ابن الجوزي، فقال: تربى بالتوتيا وغيرها من الأكحال، ولا تستعمل صرفًا؛ لأنه يؤذي العين، وقال النووي: الصحيح، بل الصواب أن ماءها شفاء للعين مطلقًا، فيعصر ماؤها ويجعل في العين منه، قال: وقد رأيت أنا وغيري في زماننا من كان أعمى، فذهب بصره حقيقة، فكحل عينيه بماء الكمأة مجردًا، فشفي وعاد إليه بصره، وهو الشيخ العدل الأمين، الكمال بن عبد الدمشقي، صاحب صلاح، ورواية في الحديث، وكان استعماله لماء الكمأة اعتقادًا في الحديث وتبركًا به، فنفعه الله به، قلت: الكمال المذكور هو كمال الدين عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر، يعرف بابن عبد بغير إضافة الحارثي، الدمشقي، من أصحاب أبي طلفر الخشوعي، سمع منه جماعة من شيوخ شيوخنا، عاش ثلاثًا وثمانين سنة، ومات سنة(9/479)
وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحي وابن سينا وغيرهما، قال: والذي يزيل الإشكالات عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت في الأصل سليمة من المضار، عرض لها الآفات بأمور أخرى، من مجاورة أو امتزاج أو غير ذلك من الأسباب التي أرادها الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة، واستعمال كل ما وردت به السنة بصدق ينتفع به من يستعمله، ويدفع الله عنه الضرر لنيته والعكس بالعكس والله أعلم.
__________
اثنتين وسبعين وستمائة قبل النووي بأربع سنين، وينبغي تقييد ذلك بمن عرف من نفسه قوة اعتقاد في صحة الحديث والعمل به، كما يشير إليه آخر كلامه، وهو ينافي قوله أولًا مطلقًا.
وقد أخرج الترمذي في جامعه بسند صحيح إلى قتادة، قال: حدثت أن أبا هريرة قال: أخذت ثلاثة أكمؤ، أو خمسًا، أو سبعًا فعصرتهن، فجعلت ماءهن في قارورة، فكحلت بها جارية لي، فبرئت. انتهى.
"وقال ابن القيم: اعترف فضلاء الأطباء أن ماء الكمأة يجلو العين، منهم المسيحي" "بفتح الميم وكسر المهملة وسكون التحتية"، كما يفيده كلام التبصر "وابن سيناء وغيرهما، قال: والذي يزيل الإشكالات عن هذا الاختلاف أن الكمأة وغيرها خلقت في الأصل سليمة مع المضار، ثم عرض لها الآفات بأمور أخرى من مجاورة أو امتزاج، وغير ذلك من الأسباب التي أراد الله تعالى، فالكمأة في الأصل نافعة لما اختصت به من وصفها؛ بأنها من الله، وإنما عرضت لها المضار بالمجاورة واستعمال كل ما وردت به السنة، بصدق ينتفع به من يستعمله ويدفع الله عنه الضرر لنيته، والعكس بالعكس، والله أعلم" بالنيات، وهذا الحديث جاء عن جمع صحابة أبو سعد الخدري، جابر عن أحمد، والنسائي وابن ماجه وابن عباس وعائشة عند أبي نعيم في الطب النبوي، ورواه ابن السني عن صهيب، رفعه: "عليكم بماء الكمأة الرطبة، فإنها من المن، وماؤها شفاء للعين".
قال عبد الملك بن عمير: فحدثت بهذا الحديث شهر بن حوشب، فلقيني بعد، فقال: الحديث الذي حدثتني به، لقد أخذ ابنا لي من هذا الجذري، فشرب عيناه ما شاء الله منه حتى ذهبت عيناه فأخذت الكمأة، فقطرت في عينيه قطرة قطرة، وعرفت أن الله عز وجل وتر يحب الوتر، حتى إذا كان الغد قطرت فيه ثلاثًا ثلاثًا، حتى إذا كان الغد قطرت فيه خمسًا خمسًا، حتى بلغت أحد عشر، فكأن ليس بعينيه نكبة.
وقال المستغفري: قال علي بن الجهم: دعاني المتوكل أمير المؤمنين، فقال: قد أكثرت(9/480)
.......................................
__________
من الأدوية لعيني، فلا تزداد إلا رمدًا، فسل العلماء هل يعرفون حديثًا في ذلك؟ قال: فمضيت إلى أحمد بن حنبل، فسألته، فقال: روى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين" قال: فرجعت إلى المتوكل، فأخبرته، فقال: ادع لنا يوحنا بن ماسويه، فدعوته، فقال له المتوكل: كيف يستخرج ماء الكمأة؟، قال: أنا أستخرج ذلك، فأخذ الكمأة، فقشرها ثم سلقها، فانضجت أدنى النضج، ثم شقها وأخرج ماءها بالميل، فكحل به عين المتوكل، فبرأت في الدفعة الثانية، فعجب يوحنا، وقال: أشهد أن صاحبكم كان حكيمًا، يعني النبي صلى الله عليه وسلم.(9/481)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة] :
وهي -بضم المهملة وسكون الذال المعجمة- وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبًا، وقيل: هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو في الخرم الذي ينزل بين الأنف والحلق، وهو الذي يسمى سقوط اللهاة، وقيل: هو اللهاة والمراد وجعها سمي باسمها، وقيل: هو موضع قريب من اللهاة، واللهاة -بفتح اللام- اللحمة التي في أقصى الحلق.
وفي البخاري، من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية -أسد خزيمة- وهي
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة:
"وهي بضم" العين "المهملة وسكون الذال المعجمة: وجع في الحلق يعتري الصبيان غالبًا" قيلك سميت بذلك؛ لأنها تخرج غالبًا عند طلوع العذرة، وهي خمسة كواكب تحت الشعرى العبور، ويقال لها أيضًا: العذارى، وطلوعها يقع في وسط الحر.
"وقيل: هي قرحة تخرج بين الأذن والحلق، أو" تخرج "في الخرم الذي ينزل من الأنف والحلق" عبارة غيره، أو في الخرم الذي بين الأنف والحلق، "وهو الذي يسمى سقوط اللهاة".
"وقيل: هو اللهاة" نفسها، "والمراد وجعها، سمي باسمها" تسمية للحال باسم المحل، "وقيل: هو موضع قريب من اللهاة، واللهاة: "بفتح اللام" اللحمة التي في أقصى الحلق" ويجمع على لهى ولهيات، مثل حصاة وحصى وحصيات، وعلى لهوات أيضًا، على الأصل كما في المصباح.
"وفي البخاري" ومسلم وأبي داود وابن ماجه، "من حديث أم قيس" يقال: اسمها آمنة "بنت محصن" "بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ونون" "الأسدية، أسد(9/481)
أخت عكاشة، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها قد أعلقت عليه من العذرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام تدغرون أولادكن بهذا العلاق؟ عليكم بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب" يريد الكست وهو العود الهندي.
__________
خزيمة" بن مدركة بن إلياس بن مضر، احترازًا عن أسد ربيعة وغيره، وتلو هذا البخاري: وكانت من المهاجرات الأول، اللاتي بايعن النبي صلى الله عليه وسلم، "وهي أخت عكاشة" بالتشديد" ابن محصن، أحد من يدخل الجنة بغير حساب "أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها".
قال الحافظ: لم أعرف اسمه، "قد أعلقت" وفي رواية: علقت "بشد اللام بدون ألف"، وصوب الحافظ وغيره الأول، وهما في البخاري، أما مسلم، فإنما فيه أعلقت بالألف، وهما بمعنى: لكن اللغويون إنما يقولون: أعلقت، أفاده عياض "عليه".
وفي رواية للبخاري، عنه: وصوب ابن الأعرابي عليه، وهو ما في مسلم، وقال الخطابي: المحدثون يقولون عليه والصواب عنه، أي دفعت عنه، ومعنى أعلقت عليه أو ردت عليه العلوق، أي ما عذبته به "من العذرة".
وقال النووي: أي عالجت رفع لهاته بإصبعها، وقال عياض: فسره سفيان برفع الحنك بالإصبع، وأبو عبيد برفع اللهاة وكل متقارب، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "علام" بدون ألف بعد الميم وفي رواة: بالألف، أي لأي شيء "تذغرن أودلاكن بهذا العلاق" "بكسر العين وفتحها"، وفي رواية: الإعلاق، وهما بمعنى، ولكن أهل اللغة إنما يذكرون الإعلاق رباعي، وتفسيره غمز العذرة، قال عياض، أي لأنه مصدر أعلقت.
وقال القرطبي: هو الأشهر لغة، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز العلاق، وقال ابن الأثير، يجوز على أن العلاق اسم المصدر الذي هو الإعلاق، كما قالوا في العطاء أنه اسم المصدر الذي هو الإعطاء، قال القرطبي: والرواية في العلاق "بكسر العين" انتهى.
وضبطه النووي بفتحها، فهما روايتان، وفي الكلام معنى الإنكار، أي على أي شيء تعالجن هذا الداء بهذه الآفة والمداوة الشنيعة، فلا تفعلن ذلك، ولكن "عليكم" "بالميم"، ورواه الكشميهني: عليكن "بالنون" وهما باعتبار الأشخاص والأنفس، قاله المصنف: "بهذا العود الهندي" يعني: استعملوه على ما يأتي بيانه، "فإن فيه سبعة أشفية" جمع شفاء، أي أدوية، "منها ذات الجنب" أي الألم العارض فيه من رياح غليظة مؤذية، وتسمى الشوصة، وقال الترمذي: هي السل.
قال القرطبي: وفيه بعد، والمعروف الأول، وفي الرواية للشيخين: فإن فيه سبعة أشفية من سبعة أدواء، منها: ذات الجنب، يسعط به من العذرة، ويلد به من ذات الجنب، أي بأن يصب الدواء في أحد شقي الفم، ويسعط ابتداء كلام بيان لصفة التداوي، "يريد" صلى الله عليه وسلم "الكست(9/482)
وقوله: "تدغرن" خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة والدال المهملة، والدغر: غمز الحلق.
عن جابر بن عبد الله قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبي يسيل منخراه، دمًا، فقال: "ما هذا؟ به العذرة، أو وجع في رأسه"، فقال: "ويلكن لا تقتلن أولادكن، أيما امرأة أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه فلتأخذ قسطًا هنديًا فلتحله
__________
"بضم الكاف وسكون السين المهملة والتاء المثناة آخره"، وفي الطريق الآتي: "بالقاف، ثم السين، ثم الطاء، وهما لغتان"، "وهو العود الهندي".
قال ابن العربي: القسط نوعان: هندي، وهو أسود، وبحري، وهو أبيض؛ والهندي أشدهما حرارة، وقال القرطبي: البحري الأبيض أحد نوعي العود الهندي، قال الحافظ: كذا وقع الاقتصار في الحديث من السبعة على اثنين، فإما أن يكون ذكر السبعة، فاختصر الراوي، أو اقتصر عليه السلام على الاثنين، لوجودهما حينئذ دون غيرهما.
وقد ذكر الأطباء: من منافع القسط أنه يدر الطمث والبول، ويقتل ديدان الأمعاء، ويدفع السم وحمى الربع والورد، ويسخن المعدة ويحرك شهوة الجماع، ويذهب الكلف طلاء، فذكروا أكثر من سبعة.
وأجاب بعض الشراح بأن السبعة علمت بالوحي، وما زاد عليها بالتجربة، فاقتصر على ما هو بالوحي لتحققه، وقيل: ذكر ما يحتاج إليه دون غيره؛ لأنه لم يبعث بتفاصيل ذلك، قلت: ويحتمل أن تكون السبعة أصول صفة التداوي به؛ لأنها إما طلاء أو شرب أو تكميد أو تنطيل أو تبخير أو سعوط أو لدود؛ فالطلاء يدخل في المراهم ويخل بالزيت ويلطخ، وكذلك التكميد والشرب يسحق ويجعل في عسل أو ماء أو غيرهما، وكذا التنطيل والسعوط يسعط في زيت ويقطر في الأنف، وكذا الدهن والتبخير واضح، وتحت كل واحد من السبعة منافع لأدواء مختلفة، ولا يستغرب ذلك ممن أوتي جوامع الكلم.
"وقوله: تدغرن خطاب للنسوة، وهو بالغين المعجمة" المفتوحة مضارع دغر، كمنع، "والدال المهملة" قال القرطبي: لا يجوز غيره، "والدغر غمز الحلق" قال القرطبي: والمراد به هنا رفع الحنك، وأصله الدفع، ونهى عن ذلك لما فيه من تعذيب الصبي، ولعله يزويد في وجعه.
"و" أخرج أحمد وأصحاب السنن، "عن جابر بن عبد الله، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة وعندها صبي" صغير، "يسيل منخراه دمًا، فقال: "ما هذا"؟ الذي بهذا الصبي "قالوا: به العذرة أو وجع في رسه، فقال: "ويلكن" كلما تقال لمن وقع في هلكة، ولا يترحم(9/483)
بماء ثم تسعطه إياه". فأمرت عائشة فصنع ذلك للصبي فبرأ. الحديث.
وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمزة اللهاة، وبالعلاق: وهو شيء يعلقونه على الصبيان، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن
__________
عليه بخلاف ويح، "لا تقتلن أولادكن" أي لا تفعلن ما يكون سببًا لقتلهم، "أيما امرأة" بزيادة ما لإفادة التعميم، "أصاب ولدها عذرة أو وجع في رأسه، فلتأخذ قسطًا" "بضم القاف وبالطاء".
قال البخاري: وهو الكست، يعني بالكاف والفوقية، قال: مثل الكافور والقافور، ومثل كشطت وقشطت، وقرأ عبد الله بن مسعود: قشطت.
قال القرطبي: وهذا من التعاقب بين الحرفين، "هنديًا" يجلب من الهند، وهو نوعان: أسود وأبيض، ويقال له: بحري، وهو المراد هنا لحديث زيد بن أرقم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت" هذا مفاد كلام القرطبي، وفي شرح المصنف البحري، ما يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، وزاد بعضهم: ثالثًا، يسمى بالقسط المر، وهو كثير ببلاد الشام، خصوصًا السواحل، قال في نزهة الأفكار: وأجودها البحري، وخيار الأبيض الخفيف، الطيب الرائحة، وبعده الهندي، وهو أسود خفيف، وبعده الثالث: وهو ثقيل، ولونه كالخشب البقس، ورائحته ساطعة، وأجود ذلك كله ما كان جديدًا، ممتلئًا غير متآكل بلدغ اللسان، وكل دواء مبارك نافع، "فلتحله بماء" أي تحكه على حجر بالماء، كذا في المرقاة.
وقال القرطبي: أي يدق ناعمًا "ثم تسعطه" "بفتح التاء والعين وبضم العين من سعط، كمنع ونصر، وبضم التاء وكسر العين من أسعط"، "إياه" أي تصبه في أنفه.
قال القرطبي: وهل يسعط به مفردًا أو مع غيره، يسأل عن ذلك أهل المعرفة والتجربة، ولا بد من النفع به إذا لا يقول صلى الله عليه وسلم إلا حقًّا "فأمرت عائشة، فصنع ذلك للصبي فبرأ، الحديث".
قال في المرقاة: وقد حصل هذا المرض لولدي، وألح به، فأرادوا أن يغمزوا حلقه على طريقة النساء، فمنعتهن من ذلك تمسكًا بالحديث، واستعملت له القسط، فشفي منه سريعًا، ولم يعاوده بعد ذلك، ووصفته لجماعة فبرءوا منه، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي القسط تجفيف يشد اللهاة ويرفعها إلى مكانها، وكانوا يعالجون أولادهم بغمز اللهاة وبالعلاق" "بكسر العين وفتحها" "وهو شيء يعلقونه على الصبيان" كالعوذة، وهذا بيان لمراده هنا، وإلا فالعلاق لغة ما يعلق بها لشيء ثم تفسيره مخالف لقوله في شرح البخاري: أعلقت عليه من العذرة، أي رفعت حنكه بإصبعها، ففجرت الدم، وفي الفتح والنهاية وغيرهما أنه كانت عادة النساء إذا أصاب الصبي العذرة، تعمد المرأة إلى خرقة تفتلها فتلًا شديدًا وتدخلها في أنفه، وتطعن ذلك(9/484)
ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم.
والسعوط: ما يصب في الأنف.
وقد استشكل معالجتها -أي العذرة- بالقسط مع كونه حارًا، والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان، وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجاز حار؟
وأجيب: بأن مادة العذرة دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تجفيف للرطوبة وقد يكون نفعه في هذا الداء بالخاصية، وأيضًا فالأدوية الحارة قد تنفع من الأمراض الحارة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا، وقد ذكر ابن سينا في معالجة سقوط اللهاة بالقسط مع الشب اليماني، على أنا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبيعية.
__________
الموضع، فيفنجر منه دم أسود، وربما أقرحه، وذلك الطعن يسمى دغرًا، فمعنى تدغرن أولادكن، أنها تغمز حلق الولد بإصبعها، فترفع ذلك الموضع وتكبسه بهذا العلاق.
زاد في النهاية: وكانوا بعد ذلك يعلقون عليه علاقًا، كالعوذة، "فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأرشدهم إلى ما هو أنفع للأطفال وأسهل عليهم" فإنه يصل إلى العذرة فيقضها؛ لأنه حار يابس، "والسعوط" "بفتح السين وضم العين المهملتين" "ما يصب في الأنف" أما بضم السين، فالفعل الذي هو سب الدواء في الأنف.
"وقد استشكل معالجتها أي العذرة بالقسط مع كونه حارًا" يابسًا، "والعذرة إنما تعرض في زمن الحر بالصبيان وأمزجتهم حارة، لا سيما وقطر الحجاز حار" فكيف يعالج الشيء بما يقويه.
"وأجيب: بأن مادة العذرة" أصلها الذي تولدت منه "دم يغلب عليه البلغم، وفي القسط تجفيف للرطوبة" البلغمية، "وقد يكون نفعه في هذا الداء" أي المرض "بالخاصية" وإن كان حارًا، "وأيضًا فالأدوية الحارة قد تنفع من الأمراض الحارة بالعرض كثيرًا، بل وبالذات أيضًا".
"وقد ذكر ابن سينا في معالجة سقوط اللهاة بالقسط" الباء زائدة، ولم تقع في الفتح "مع الشب اليماني، على أنا لو لم نجد شيئًا من التوجيهات لكان أمر المعجزة خارجًا عن القواعد الطبيعية" أي لكان الشفاء مع وجود سبب منعه أمرًا خارقًا للعادة.
وقال النووي: اعترض من في قلبه مرض، فقال: أجمع الأطباء على أن مداواة ذات الجنب بالقسط خطر جدًّا، لفرط حرارته.
قال المازري: وقد كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، فقد ذكر جالينوس؛ أن القسط ينفع من وجع الصدر، وذكر بعض قدماء الأطباء أنه يستعمل لجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وهذا يبطل ما زعمه المعترض الملحد. انتهى.
والمازري أطال النفس في ذكر منافع القسط التي تطابق عليها الأطباء في كتبهم، ثم قال فأنت ترى هذه المنافع التي ذكرها الأطباء، فتعلم أنه ممدوح شرعًا وطبًّا.(9/485)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن] :
في الصحيحين من حديث سعيد بن أبي عروبة أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي يشتكي بطنه -وفي رواية استطلق بطنه- فقال: "اسقه عسلًا"، فسقاه فقال: إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا،
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن:
"في الصحيحين" والترمذي والنسائي، كلهم في الطب، "من حديث سعيد بن أبي عروبة، عن أبي المتوكل" علي بن دآود، ويقال ابن داود "بضم الدال بعدها واو فهمزة" الناجي "بنون وجيم" البصري، ثقة، من رجال الجميع وأوساط التابعين، مات سنة ثمان ومائة، وقيل: قبلها، "عن أبي سعيد" سعد بن مالك "الخدري" الصحابي ابن الصحابي: "أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أخي" قال الحافظ: لم أقف على اسم واحد منهما "يشتكي بطنه" أي وجع بطنه من إسهال حصل له من تخمة.
"وفي رواية" للشيخين أيضًا من حديث قتادة، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، فقال: إن أخي "استطلق" "بفتح الفوقية واللام" "بطنه" "بالرفع، وضبطه في الفتح مبنيًَّا للمفعول، أي تواتر إسهال بطنه" قال المصنف: وكذا قال القرطبي في المفهم، هو بضم التاء مبنيًّا للمفعول، فهو الرواية الصحيحة، فيكون أصله استطلق هو بطنه، فالسين زائدة لا للطلب.
قال الحافظ: استطلق، بضم المثناة وسكون الطاء المهملة وكسر اللام، بعدها قاف، أي كثر خروج ما فيه، يريد الإسهال، ولمسلم من طريق سعيد بن أبي عروبة: قد عرب بطنه، بمهملة، فراء مكسورة، فموحدة، أي فسد هضمه لاعتلال المعدة، ومثله ذرب "بذال معجمة بدل العين" وزنا ومعنى؛ "فقال: "اسقه عسلًا" صرفًا أو ممزوجًا، وعند الإسماعيلي: اسقه العسل، واللام عهدية، والمراد عسل النحل، لكونه المشهور عندهم، قال الحافظ: أي عند النحاة الذي هو الإشارة إلى معهود في الذهن، لا عند البيانين؛ أنه الإشارة إلى حصة غير معينة؛ لأنه حينئذ لا يفيد أنه النحل إلا أن يراد النحل، ويراد بالحصة باعتبار القدر منه، "فسقاه" العسل فلم ينجع،(9/486)
فقال: "صدق الله وكذب بطن أخيك".
وفي رواية لمسلم فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة فقال: "اسقه عسلًا"، فقال: سقيته فلم يزده إلا استطلاقًا، فقال: "صدق الله".
وفي رواية أحمد عن يزيد بن هارون فقال في الرابعة: "اسقه عسلًا"، قال فأظنه، قال: فسقاه فبرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك".
قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب في موضع الخطأ، يقال: كذب سمعك، أي زل فلم يدرك حقيقة ما قيل له، فمعنى: كذب بطن أخيك،
__________
فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، "فقال: إني سقيته" العسل، "فلم يزده إلا استطلاقًا" بعد السقي، ففي السياق حذف مستفاد من هذا، "فقال: "صدق الله" في قوله: فيه شفاء للناس، "وكذب" أخطأ "بطن أخيك" حيث لم يصلح لقبول الشفاء، لكثرة المادة الفاسدة التي فيه، ولذا أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها، فلما كرر ذلك برأ، كما في الرواية الأخرى أنه سقاه الثانية والثالثة، فإن ما ساقه المصنف، لفظ رواية قتادة عن أبي المتوكل، التي ذكرها بقوله: وفي رواية استطلق بطنه ففيها اختصار عند البخاري.
أما رواية سعيد بن أبي عروبة، عن أبي المتوك التي صدر بها، فهي تامة، ولفظها، فقال: إن أخي يشتكي بطنه، فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتى الرجل الثانية، فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتاه الثالثة فقال: "اسقه عسلًا"، ثم أتاه، فقال: فعلت، فلم يبرأ، فقال: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، فسقاه فبرأ؛ فبين أن قوله: "صدق الله" إنما كان بعد أن جاء ثلاث مرات.
"وفي رواية لمسلم: فقال له ثلاث مرات" إني سقيته، فلم يزده إلا استطلاقًا، "ثم جاء الرابعة، فقال: "اسقه عسلًا"، فقال: سقيته، فلم يزده إلا استطلاقًا" لجذبه المادة، وكونه أقل من كميته، "فقال: "صدق الله" "وكذب بطن أخيك".
"وفي رواية أحمد، عن" شيخه "يزيد بن هارون" السلمي، مولاهم الواسطي بإسناده "فقال في الرابعة: اسقه عسلًا، قال: فأظنه قال: فسقاه فبرأ" "بفتح الراء والهمز بوزن قرأ" وهي لغة أهل الحجاز، وغيرهم يقولها "بكسر الراء بوزن علم، كما في الفتح"، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدق الله وكذب بطن أخيك" ففي هاتين الروايتين؛ أنه قال ذلك بعد الرابعة.
قال الحافظ: والأرجح أنه قاله بعد الثالثة، وفي رواية: فسقاه فعافاه الله سبحانه.
"قال الخطابي وغيره: أهل الحجاز يطلقون الكذب" الذي هو الإخبار، بخلاف الواقع عمدًا، أو سهوًا، أو جهلًا، لكن لا إثم فيهما، إنما هو في العمد "في موضع الخطأ" الذي هو خلاف الصواب قولًا أو فعلًا، "يقال: كذب سمعك، أي زل، فلم يدرك حقيقة ما قيل له" بل(9/487)
أي لم يصلح لقبول الشفاء بل ذل عنه.
وقال الإمام فخر الدين الرازي: لعله صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع كونه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا سيظهر نفع بعد ذلك كان جاريًا مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ.
وقد اعترض بعض الملحدة فقال: العسل مسهل، فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال؟
وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله، بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَم
__________
أدرك الحكم على خلاف ما ألقي إليه وليس هو حقيقة الكذب؛ إذ الإخبار فيه بخلاف الواقع فهو دليل على إطلاق الكذب في موضع الخطأ.
زاد عياض: وكذا يقولون كذب بصرك إذا لم يدرك ما رأى، قال الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالًا
"فمعنى كذب بطن أخيك، أي يصلح لقبول الشفاء، بل ذل عنه" قال بعضهم فيه: إن الكذب قد يطلق على عدم المطابقة في غير الخبر.
قال في المصابيح: هو على سبيل الاستعارة التبعية، وفيه إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء، "وقال الإمام فخر الدين الرازي: لعله صلى الله عليه وسلم علم بنور الوحي" كأنه لم يقل بالوحي؛ لأنه ينشأ عنه أنوار تشرق في صدره، بل في جميع بدنه، يظهر بها من المعاني اللطيفة والأسرار الخفية ما تقصر العبارة عن بيانه، "أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلما لم يظهر نفعه في الحال، مع كونه عليه الصلاة والسلام كان عالمًا؛ بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك، كان جاريًا مجرى الكذب" بحسب ظاهر الحال، وإلا فإذا كان الغرض علمه بالوحي أنه لا يصلح الآن، وإذا كرر صلح، يكون البرء متوقفًا على تكرر السقي، فهو متوقع، "فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ" اي كذب.
"وقد اعترض بعض الملحدة" هذا الحديث، "فقال: العسل مسهل" "بضم فسكون" من أسهل، أي مطلق للبطن، "فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال" مع أنه يزيده، وقد يؤدي إلى هلاكه.
"وأجيب: بأن ذلك جهل من قائله" لأنه أطلق في محل التقييد، "بل هو كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] ، وجه الشبه أن هؤلاء بادروا إلى إنكار نفع(9/488)
يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ} [يونس: 39] فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والعادة والزمان والغذاء المألوف، والتدبير وقوة الطبيعة، وعلى أن الإسهال يحدث من أنواع: منها الهيضة التي تنشأ عن تخمة، واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها، فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة، فكأن هذا الرجل كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته فوصف له صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة من أخلاط لزجة تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل كخمل المنشفة، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك مثل العسل، لاسيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم
__________
العسل من الإسهال، كما أن المشركين بادروا إلى إنكار كون القرآن منزلًا من عند الله، لعدم وصولهم إلى فهم معانيه وما يراد به؛ "فقد اتفق الأطباء على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن" لمن قام به، فليس علاج الشيخ كعلاج الصبي، "والعادة" أي ما يعتاد له فعله من مشي وركوب وسهر ونوم ولبس وغير ذلك، "والزمان" فليس دواؤه في نحو الصيف، كدوائه في نحو الشتاء، "والغذاء المألوف" إذ قد يحدث المرض بمخالفته، فعلاجه برده إلى المألوف، "والتدبير" أي التأمل في صفة استعمال الدواء بمعرفة قدره وصفة تركيبه وغير ذلك، ككونه يستعمل بعد غليه بالنار، أو تسخينه فقط، بحيث يزول برده، أو باردًا، "وقوة الطبيعة" على القدر الذي يجعل من الدواء لها؛ "و" اتفقوا "على أن الإسهال يحدث من أنواع، منها: الهيضة" أي المرض الناشئ من اجتماع فضول في المعدة، هذا المراد هنا بدليل قوله: "التي تنشأ عن تخمة" "بوزن رطبة" أي فساد المعدة من الأخلاط المجتمعة فيها كما يأتي.
"واتفقوا على أن علاجها بترك الطبيعة وفعلها" فلا يستعمل لها قابض لئلا تحتبس تلك الفضول فيتولد منها مزيد الضرر، "فإن احتاجت إلى مسهل أعينت ما دام بالعليل قوة"، وحبسه عنه ضرر واستعجال مرض، "فكان هذا الرجل، كان استطلاق بطنه من تخمة أصابته، فوصف له صلى الله عليه وسلم العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة، من أخلاط لزجة" "بزاي وجيم"، أي متعلقة بها "تمنع استقرار الغذاء فيها، وللمعدة خمل" "بكسر المعجمة وميم ساكنة"، "كخمل المنشفة" "بكسر الميم اسم آلة" "فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة أفسدتها، وأفسدت الغذاء الواصل إليها، فكان دواؤها باستعمال ما يجلو" يزيل "تلك الأخلاط، ولا شيء في ذلك" نافع "مثل العسل، لا سيما إن مزج بالماء الحار، وإنما لم يفسده في أول(9/489)
يفسده في أول مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء، إن قصر عنه لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أوهى القوة وأحدث ضررًا آخر، فكأنه شرب منه أولًا مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات برأ بإذن الله تعالى.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء، نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها.
وقال بعضهم: إن العسل تارة يجري سريعًا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء ويدر البول فيكون قابضًا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعة لها حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهل، فإنكار وصفه بالمسهل مطلقًا قصور من المنكر.
__________
مرة لأن الدواء يجب أن يكون له مقدار وكمية بحسب الداء" المرض "إن قصر عنه" "بفتحتين مخففًا"، كعقد، ومشددًا، أي عجز، كما في القاموس: "لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أو هي" أضعف "القوة وأحدث ضررًا آخر، فكأنه" أي الرجل "شرب منه أولًا مقدارًا لا يفي بمقاومة الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات برأ بإذن الله تعالى" "بزنة قرأ" لغة أهل الحجاز ولغة غيرهم، كعلم" والسياق في المرض، أما في الدين، فبالثاني فقط.
"وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "كذب بطن أخيك" إشارة إلى أن هذا الدواء، نافع، وأن بقاء الداء ليس لقصور الدواء في الشفاء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمن ثم أمره بمعاودة شرب العسل لاستفراغها" فشفي لما استفرغت.
"وقال بعضهم": هو صاحب كتاب المائة في الطب، كما في الفتح: "إن العسل تارة يجري سريعًا إلى العروق وينفذ معه جل الغذاء" أكثره "ويدر البول فيكون قابضًا، وتارة يبقى في المعدة فيهيجها بلذعة لها" "بذال معجمة وعين مهملة" أي يؤثر فيها كتأثير النار أما بمهملة فمعجمة، فلذوات السموم، كالعقرب، "حتى يدفع الطعام ويسهل البطن فيكون مسهل، فنكار وصفه" أي العسل "بالمسهل مطلقًا قصور من المنكر".
وقال القرطبي في المفهم: اعترض بعض زنادقة الأطباء هذا، فقال: أجمع الأطباء على أن العسل مسهل، فكيف يوصف لمن به الإسهال، وهذا كلام جاهل، بدليل صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وبصناعة الطب التي ينتمي إليها، أما الأول، فلأن من علم صدقه بدليل المعجزة، حقه إذا وجد(9/490)
وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المسهل أربعة أقوال:
أحدها: أن حمل الآية على عمومها في الشفاء أولى، وإلى ذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، أي في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها بالقبول فشفي بإذن الله تعالى.
الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم من التداوي بالعسل في الأمراض كلها.
الثالث: أن الموصوف له ذلك كان به هيضة، كما تقدم تقريره.
__________
من كلامه ما يقصر عن إدراكه أن يعلم أن القول حق في نفسه، وينسب القصور إلى نفسه، ثم إن كان الصادق بين كيفية العمل بذلك الشيء، فليبحث عنه، فإذا انكشف له، علم أن ذلك هو الذي أراد الصادق، وهذا إنما يخاطب به علماء الطب المسلمون؛ وأما بيان جهله بصناعة الطب، فإنه حاد في النقل، حيث أطلق في محل التقييد، ونقل إجماعًا لا يصح، وبيان ذلك ما قاله الإمام المازري: الأشياء التي يفتقر فيها إلى تفصيل، فلما يوجد فيها مثل ما يوجد في صناعة الطب، فإن المريض المعين يجد الشيء دواء في ساعة، ثم يصير داء له في الساعة التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه، فينتقل علاجه إلى شيء آخر بسبب ذلك، وذلك مما لا يحصى كثرة؛ وقد يكون الشيء شفاء في حالة، وفي شخص، فلا يطلب الشفاء به في سائر الأحوال، ولا في كل الأشخاص، والأطباء مجمعون على أن العلة الواحدة يختلف علاجها باختلاف السن، فذكر نحو ما في المصنف، ثم قال: وبه علم جهالة المعترض، ولسنا نستدل على صدقه صلى الله عليه وسلم بصدق الأطباء، بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم، وإنما خرجنا على ما يصح من قواعدهم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لا يكذب، وبينا به جهالة المعترض بالصفة التي ينتمي إليها. انتهى.
"وقال ابن الجوزي: في وصفه صلى الله عليه وسلم العسل لهذا المسهل" "بضم، فسكون، ففتح"، أي الشخص المسهل "أربعة أقوال، أحدها: إن حمل الآية على عمومها في الشفاء أولى" بالقبول، "وإلى ذلك أشار بقوله صلى الله عليه وسلم: صدق الله، أي في قوله: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} فلما نبه على هذه الحكمة تلقاها المسهول "بالقبول، فشفي بإذن الله تعالى".
"الثاني: أن الوصف المذكور على المألوف من عادتهم" أي العرب "من التداوي بالعسل في الأمراض كلها" وهذا ضعيف كما يأتي، بل باطل؛ إذ لو كان كذلك ما حسن استدلاله صلى الله عليه وسلم، بقوله: صدق الله.
"الثالث: أن الموصوف له ذلك كان به هيضة، كما تقدم تقريره" وهو وجيه، واقتصر عليه المازري وغيره.(9/491)
الرابع: يحتمل أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البلغ، فلعله شربه أو لا بغير طبخ، انتهى.
والثاني والرابع ضعيفان.
ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: عليكم بالشفاءين العسل والقرآن أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم أيضًا موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح. وأثر علي: إذا اشتكى أحدكم فليستوهب من امرأته شيئًا من صداقها درهمًا فليشتر به عسلًا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجمع هنيئًا مريئًا مباركًا، أخرجه
__________
"الرابع": يحتمل "أن يكون أمره بطبخ العسل قبل شربه، فإنه يعقد البغم، فلعله شربه أولا بغير طبخ، انتهى. والثاني والرابع ضعيفان" قد علم ضعف الثاني، ولعل وجه الرابع احتياجه إلى قرينة تدل عليه، أو أن القرينة دلت على خلافه.
"ويؤيد الأول حديث ابن مسعود: عليكم" أي ألزموا التداوي "بالشفاءين العسل" لعاب النحل، أو طل خفي يقع على الزهر وغيره، فتلقطه النحل، وقيل: بخار يصعد في الجو، فيستحيل ويغلظ بالليل، ويقع عسلًا، فتجنيه النحل وتغتذي به، فإذا شبعت جنت منه مرة أخرى، ثم تذهب به إلى بيوتها وتضعه فيها؛ لأنها تدخر لنفسها غذاءها، وقيل: إنها تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرة، فيقلب الله تلك الأجسام في داخل أبدانها عسلًا، ثم إنها تقيء ذلك، فهو العسل، وأصلحه الربيعي، ثم الصيفي، وأما الشتائي فرديء، وما يؤخذ من الجبال والشجر أجود مما يؤخذ من الخلايا، وهو بحسب مرعاه، ومن العجب أن النحل يأكل من جميع الأزهار، ولا يخرج منه إلا حلو، مع أن أكثر ما يجنيه مر، وله زهاء مائة اسم "والقرآن" جمع في هذا احديث بين الطب البشري والإلهي، وبين الفاعل الطبيعي والروحاني، وطب الأجساد وطب الأرواح، والسبب الأرضي والسماوي، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ} .
"أخرجه ابن ماجه والحاكم مرفوعًا" عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين، "وأخرجه ابن أبي شيبة والحاكم أيضًا موقوفًا" على ابن مسعود
"ورجاله رجال الصحيح" وقال البيهقي في الشعب الصحيح، موقوف على ابن مسعود، "و" يؤيده أيضًا "أثر علي" كرم الله وجهه: "إذا اشتكى" أي مرض "أحدكم، فليستوهب" يطلب "من امرأته" أن تهبه "من صداقها درهمًا، فليشتر به عسلًا، ثم يأخذ ماء السماء" أي المطر، "فيجمع" دواء "هنيئًا مريئًا مباركًا" لبركته من العسل الذي فيه شفاء للناس، ومن ماء السماء الذي قال تعالى فيه: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] .
"أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن" عن علي موقوفًا عليه، "وروينا عنه"(9/492)
ابن أبي حاتم في التفسير بسند حسن.
وروينا عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهمًا عن طيب نفس منها، فليشتر به عسلًا فليشربه فإنه شفاء.
قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره، أي من وجوه: قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء: 82] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ، وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] .
__________
أي عن علي "رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله" أي آية كانت "في صحيفة وليغسلها بماء السماء وليأخذ من امرأته درهمًا" من صداقها، كما في الرواية قبلها، فيحمل المطلق على المقيد، "عن طيب نفس منها" فإن خلا عن ذلك لم يفد، "فليشتر به عسلًا فليشربه فإنه شفاء".
"قال الحافظ ابن كثير، بعد أن ذكره" أي أثر علي، "أي" إنه شفاء "من وجوه" أربعة: الأولى: "قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [الإسراء: 82] وقال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] " كثير البركة، وهذا الوجه الثاني، "وقال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] "، تمييز محول عن الفاعل، أي إن طابت أنفسهن عن شيء من الصداق فوهبنه لكم، "فكلوه هنيئًا" طيبًا "مريئًا"، محمود العافية، لا ضرر فيه، وهذا الوجه الثالث.
"وقال في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] " وهذا رابع الوجوه، وضمير فيه للعسل، وقول مجاهد للقرآن.
صحيح في نفسه، لكن ليس هو الظاهر من سياق الآية؛ لأنها إنما فيها ذكر العسل، ولم يتابع مجاهد على قوله هذا، ثم قيل: المراد بالآية الخصوص، أي شفاء من بعض الأدواء، ولبعض الناس، قال القرطبي: لأن شفاء نكرة في سياق الثبوت، فلا تعم، وجعلها بعض أهل الصدق على العموم، فكانوا يستشفون به في كل الأمراض لصدق القرآن، وكان ابن عمر لا يشتكي قرحة ولا شيئًا إلا جعل عليه العسل، فقيل له في ذلك، فقال: أليس الله تعالى يقول: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس} [النحل: 69] ، ومرض عوف بن مالك الأشجعي، الصحابي، فقال: ائتوني بماء، فإن الله تعالى يقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] ، ثم قال: ائتوني بعسل، وتلا الآية، ثم قال: ائتوني بزيت، وتلا من شجرة مباركة، فخلط ذلك بعضه(9/493)
..................
__________
ببعض، وشربه فعوفي.
وعن أبي وجزة "بجيم وزاي" أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى به، وهذا عمل بمطلق القرآن، وأصله صدق النية والله أعلم.
قال ابن بطال: يؤخذ من قوله: "صدق الله وكذب بطن أخيك"، الألفاظ لا تحمل على ظاهرها؛ إذ لو كان كذلك لبرأ العليل من أول شربة، فلما لم يبرأ إلا بعد التكرار، دل على أن الألفاظ تفتقر إلى معانيها.
قال الحافظ: ولا يخفى تكلف هذا الانتزاع. نعم يؤخذ منه أن الذي يجعل الله فيه الشفاء قد يتخلف لتتم المدة التي قدر الله تعالى فيها الداء، أي المرض.(9/494)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة] :
بما يمشيه ويلينه روى الترمذي وابن ماجه في سننه من حديث أسماء بنت عميس قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا كنت تستمشين؟ " قالت: بالشبرم، قال: حار حار ثم قالت: استمشيت بالسنى فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن شيئًا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنى"، قال أبو عيسى هذا حديث غريب، وقد ذكره البخاري في
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة:
وهي المزاج المركب من الأخلاط، والإضافة لامية "بما يمشيه" أي اليبس، أي يسهله "ويلينه" تليينًا دون الإسهال، فالعطف مغاير لا تفسير، وعدل عن وصف الطبيعة بالتمشية؛ لأن الذي يتصف بها، وإنما هو يبسها لا نفسها الذي هو المزاج، ثم الطب الدواء النافع، فذكره النهي عن الشبرم تبعًا للإقرار على السنى، أو أراد بالطب ما يشمل دفع المضرة.
"روى الترمذي وابن ماجه في سننه" وأحمد والحاكم "من حديث أسماء بنت عميس" "بمهملتين مصغر" "قالت: قال" لي "رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بماذا" أي بأي دواء "كنت تستمشين" أي تطلبين مشي بطنك، أي إخراج ما فيه، "قالت: "بالشبرم" "بضم الشين المعجمة والراء، بينهما موحدة ساكنة، وآخره ميم" وقد يفتح أوله، "قال: حار حار" أي شديد الحرارة، فالثاني تأكيد لفظي، ويحتمل أن الثاني، "بجيم وشد الراء اتباع لحار بمهملتين" كما في النهاية، يقال: حار جار، ويقال حار يار بمثناة تحتية على الاتباع أيضًا، "ثم قالت: استمشي بالسنى" "بفتح السين والنون والقصر" وقد يمد لا تحصى منافعه، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أن شيئًا كان فيه شفاء من الموت لكان في السنى" مبالغة في كثرة منافعه.
"قال أبو عيسى" الترمذي: "هذا حديث غريب" وصححه الحاكم وأقره الذهبي، "وقد(9/494)
تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس مثل ما ذكره الترمذي.
وذكر أبو محمد الحميدي في كتاب "الطب" النبوي له أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والشبرم فإنه حار حار، وعليكم بالسنى فتداووا به، فلو دفع الموت شيء لدفعه السنى".
وحكى عبد الحق الإشبيلي في كتاب "الطب" له أن المحاسبي ذكر في كتابه المسمى بـ"المقصد والرجوع إلى الله تعالى" أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب السنى بالتمر.
وفي سنن ابن ماجه، من حديث عمرو بن بكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: سمعت عبد الله بن حرام، وكان ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين يقول
__________
ذكره" أي رواه "البخاري في تاريخه الكبير من حديث أسماء بنت عميس، مثل ما ذكره الترمذي" أي بلفظه، "وذكر أبو محمد" اسمه محمد بن أبي نصر فتوح "الحميدي" الحافظ صاحب الجمع بين الصحيحين "في كتاب الطب النبوي له؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والشبرم" أي احذروا استعماله، "فإنه حار حار، وعليكم بالسنى، فتداووا به، فلو دفع الموت شيء لدفع السنى" لكنه لا يدفعه، فلا يدفعه السنى.
"وحكى عبد الحق الإشبيلي" "بكسر الهمزة والموحدة وسكون الشين المعجمة والتحتية قبل اللام نسبة إلى إشبيلية" من أمهات بلاد الأندلس، حافظ كبير، مصنف، ففيه، "في كتاب الطب، له أن المحاسبي" "بكسر السين" الحارث بن أسد "ذكر في كتابه، المسمى بالمقصد والرجوع إلى الله تعالى: أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب السنى بالتمر" أي وضعهما في الماء وشربه، كما يفيده شرب، أي ليبس الطبيعة، كما هو ظاهر السياق ويوضعهما في الماء يندفع اجتماع حارين، المنهي عنه عند الأطباء لضرره.
"وفي سنن ابن ماجه" والحاكم، كلاهما في الطب "من حديث عمرو بن بكر بن إبراهيم بن أبي عبلة" "بفتح المهملة وسكون الموحدة" واسمه شمر "بكسر المعجمة" ابن يقظان الشامي، يكنى أبا إسماعيل، تابعي صغير، ثقة، من شيوخ مالك ورجال الصحيحين، مات سنة اثنتين وخمسين ومائة، "قال: سمعت عبد الله بن حرام" كذا في النسخ، وصوابه كما في الإصابة والتقريب عبد الله بن أم حرام، وهو عبد الله بن عمرو، وقيل: ابن كعب الأنصاري، نزل بيت المقدس، وهو آخر من مات من الصحابة بها، وزعم ابن حبان أن اسمه سمعون، له هذا الحديث: "وكان ممن صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلتين" أي إليهما، وفي نسخة: للقبلتين،(9/495)
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله: "عليكم بالسنى والسنوت، فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام"، قيل: يا رسول الله وما السام؟ قال: "الموت".
قالوا: والشبرم: قشر عرق شجرة، وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها لخطرها وفرط إسهالها.
وأما السنى، فهو نبت حجازي، وأفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة، قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء، ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع من الوسواس
__________
أي: الكعبة وبيت المقدس، "يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بالسنى والسنوت".
قال ابن الأثير: يروى "بضم السين والفتح" أفصح، وفي الدر "بفتح السين" أفصح من ضمها، قال ابن الجوزي: "وبضم النون"، وفي القاموس: السنوت كتنور وسنور، "فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام" "بمهملة من غير همز" "قيل: يا رسول الله، وما السام؟، قال: "الموت" فيه: أن الموت داء من جملة الأدواء، وقال الشاعر:
كذاك الموت ليس له دواء
قال الحاكم: حديث صحيح، ورده الذهبي بأن عمرو بن بكر اتهمه ابن حبان، وقال ابن عدي: له مناكير، "قالوا: والشبرم قشر عرق شجرة" وفي النهاية حب يتداوى به، وقيل: هو الشيح، وفي القاموس الشبرم، كقنفذ، ويفتح: شجر ذو شوك، يقال: ينفع من الوباء ونبات آخر له حب كالعدس، وأصل غليظ ملآن لبنًا، والكل مسهل، واستعمال لبنه خطر، وإنما يستعمل أصله مصلحًا؛ بأن ينقع في الحليب يومًا وليلة، ويجدد اللين ثلاث مرات، ثم يجفف وينقع في عصير الهندباء والرازيانج، ويترك ثلاثة أيام، ثم يجفف ويعمل منه أقراص مع شيء من التربذ والهليلج والصبر؛ فإنه دواء فائق، "وهو حار يابس في الدرجة الرابعة، وهو من الأدوية التي منع الأطباء من استعمالها، لخطرها وفرط إسهالها" وإنما أجازوه بالتدبير الذي رأيته عن القاموس، ولم يكتف بقوله: إياكم والشبرم، قصدًا للجمع بين السنة وبين ما تطابقت عليه الأطباء، ولدفع توهم أنه أريد بالحديث نهي أهل الحجاز لحرارة أرضهم.
"وأما السنى، فهو نبت حجازي، أفضله المكي، وهو دواء شريف مأمون الغائلة" أي الفساد، أي لا ضرر فيه، "قريب من الاعتدال، حار يابس في الدرجة الأولى، يسهل الصفراء والسوداء" زاد القاموس: والبلغم، وزاد غيره: والدم، فهو موافق للأخلاط الأربعة، بعضها بالطبع، وبعضها بالخاصية على زعم الأطباء، "ويقوي جرم القلب، وهذه فضيلة شريفة، ومن خاصيته النفع من الوسواس السوداوي" أي الناشئ من غلبة خلط السوداء يقبض.(9/496)
السوداوي.
قال الرازي: السنى والشاهترج يسهلان الأخلاط المحترقة وينفعان من الجرب والحكة، والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم.
وأما السنوات، فقيل هو العسل، وقيل: رب عكة السمن يخرج خطوطًا سودًا على السمن، وقيل: حب يشبه الكمون وليس به، وقيل: هو الكمون الكرماني، وقيل: إنه الرازيانج، وقيل: إنه الشبت، وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن.
قال بعض الأطباء: وهذا أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب، أي: يخلط السنى مدقوقًا بالعسل المخالط للسمن، ثم يلعق فيكون أصلح من استعماله مفردًا، لما في العسل والسمن من إصلاح السنى وإعانته على الإسهال.
__________
"قال الرازي: والسني والشاهترج" "بشين معجمة وجيم" بالفارسية ملك البقول، ويسميه أهل مصر هاتراج، "يسهلان الأخلاط المحترقة، وينفعان من الجرب" بفتحتين خلط غليظ يحدث تحت الجلد من مخالطة البلغم الملح للدم، يكون معه بثور، وربما حصل معه هزال لكثرته، "والحكة" "بكسر الحاء داء يكون بالجسد" وفي كتب الطب: هي خلط رقيق يحدث تحت الجلد، ولا يحدث منه مدة، بل شيء كالنخالة، وهو سريح الزوال، "والشربة من كل واحد منهما من أربعة دراهم إلى سبعة دراهم" باختلاف الأمزجة، ولا يزاد على سبعة.
"وأما السنوت، فقيل: هو العسل" النحل، "وقيل: هو رب عكة السمن، يخرج خطوطًا سودًا على السمن" فتلك الخطوط هي السنوت، "وقيل: حب يشبه الكمون، وليس به" أي وليس هو الكمون، "وقيل: هو الكمون الكرماني" "بكسر الكاف عند الأكثر، وصحيح ابن السمعاني فتحها وسكون الراء فيهما" "وقيل: إنه الراز يانج، وقيل: إنه الشبت" "بفوقية" المعروف، "وقيل: إنه العسل الذي يكون في زقاق السمن" "بكسر الزاي" السقاء الذي يجعل فيه.
"قال بعض الأطباء: وهذا" القول الأخير "أجدر بالمعنى وأقرب إلى الصواب" في تفسير قوله: عليكم بالسنى والسنوت، "أي يخلط السنى" حال كونه "مدقوقًا بالعسل" متعلق بيخلط، "والمخالط للسمن، ثم يعلق فيكون أصلح من استعماله" أي السنى "مفردًا لما في العسل والسمن من إصلاح السنى وإعانته على الإسهال" لأن رطوبتهما تقاوم اليبس الذي
في السني فتصلحه.(9/497)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفؤود] :
وهو الذي أصيب فؤاده بمرض، فهو يشتكيه كالمبطون.
روى أبو داود عن سعد قال: مرضت مرضًا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: "إنك رجل مفؤود، فائت الحارث بن كلدة من ثقيف فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة فليجأهن بنواهن ثم ليلد بهن الفؤاد".
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفؤود وهو الذي أصيب فؤاده:
أي قلبه "بمرض، فهو يشتكيه كالمبطون، روى أبو داود" من طريق مجاهد: "عن سعد" ابن أبي وقاص، أحد العشرة، "قال: مرضت مرضًا، فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني" يزورني، فوضع يديه على ثديي" تثنية ثدي "حتى وجد بردها على فؤادي" قلبي: "فقال: "إنك رجل مفؤود" أي تشتكي فؤادك، "فائت الحارث بن كلدة" "بفتح الكاف واللام"، ابن عمرو الثقفي، طبيب العرب، ذكره في الإصابة في القسم الأول، وقال: روى ابن إسحاق لما أسلم أهل الطائف، تكلم نفر منهم في العبيد الذين نزلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأعتقهم، فقال: أولئك عتقاء الله، وكان ممن تكلم فيهم الحارث بن كلدة، قال غيره: وكان فيهم الأزرق مولى الحارث، ثم ذكر حديث أبي داود هذا، ثم قال: وقال ابن أبي حاتم: لا يصح إسلامه، وهذا الحديث يدل على جواز الاستعانة بأهل الذمة في الطب، قلت: وجدت له رواية في أمالي المحاملي.
وفي التصحيف للعسكري من طريق شريك، عن عبد الملك بن عمير، عن الحارث بن كلدة، وكان أطب العرب، وكان يجلس في مقناة له، فقيل له في ذلك، فقال: الشمس تثفل الريح وتبلي الثوب وتخرج الداء الدفين.
قال العسكري: المقناة "بالقاف والنون" الموضع الذي لا تصيبه الشمس، وقوله: تثفل، بمثلثة وفاء مكسورة، أي تغيره، وروى الحربي في غريب الحديث، وعبد الملك بن حبيب في كتاب الطب النبوي، له أن عمر سأل الحارث بن كلدة: ما الدواء؟ قال: الازم، يعني الحمية، وروى أنه لما احتضر اجتمع الناس إليه، فقالوا: أوصنا، فقال: لا تتزوجوا إلا شابة، ولا تأكلوا الفاكهة إلا نضيجة، ولا يتعالجن أحدكم ما احتمل بدنه الداء، وعليكم بالنورة في كل شهر، فإنها مذهبة للبلغم، ومن تغدى فلينم بعده، ومن تعشى فليمش أربعين خطوة. انتهى ببعض اختصار "من ثقيف، فإنه رجل متطبب، فليأخذ سبع تمرات من عجوة المدينة" أي التمر(9/498)
وهذا الحديث من الخطاب العام الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم. والتمر لأهل المدينة كالحنطة لغيرهم.
و"اللدود": ما يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم.
وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما تمر المدينة، ولا سيما العجزة، وفي كونها سبعًا خاصية أخرى تدرك بالوحي.
وفي الصحيحين "من تصبح بسبع تمرات عجوة من تمر العالية لم يضره
__________
المسمى بذلك، "فليجأهن" "بفتح الفاء وسكون اللام وفتح التحتية والجيم والهمز وضم الهاء وشد النون"، أي فليدقهن، وبه سميت الوجيئة، وهو تمر يبل بلبن، ثم يدق حتى يلتئم، كما في النهاية، وفي نسخة: فليحلهن، أي ينقعهن في الماء "بنواهن" ليخرج خاصيته، ولكنها تصحيف مخالف للنهاية، "ثم ليلد بهن الفؤاد".
وفي رواية ابن منده: مرض سعد، فعاده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "إني لأرجو أن يشفيك الله"، ثم قال للحارث بن كلدة: "عالج سعدًا مما به"، فذكر الحديث، فكان سعدًا لما أتى الحارث جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أو لقيه من غير مجيء، فقال له: عالج إلى آخره، فلا خلف، ثم حاصله، أنه صلى الله عليه وسلم وصف الدواء، وإنما أمر الحارث بصنعه وتركيبه فقط.
"وهذا الحديث من الخطاب العام، الذي أريد به الخاص، كأهل المدينة ومن جاورهم، والتمر لأهل المدينة" لكونه غذاء لهم، "كالحنطة لغيرهم" كأن الخطاب العام مأخوذ من قوله: فإنه رجل متطبب، ثم وصف له الدواء، فيفيد عمومه، حتى كأنه قيل: هذا دواء لكل مفؤود، مع أن المراد مفؤود خاص، كالمدني، وإلا فليس في الحديث خطاب عام البتة؛ لأنه إنما وصف لشخص مدني في مرضه، "واللدود" "بفتح اللام ومهملتين "ما" أي الدواء الذي "يسقاه الإنسان من أحد جانبي الفم" أي يصب من أحد جانبي فم المريض، وبضم اللام الفعل، كما في الفتح وغيره، زاد في المفهم، أو أدخل من هناك بإصبع "وفي التمر خاصية عجيبة لهذا الداء، سيما تمر المدينة، ولا سيما العجوة" نوع من أجود تمر المدينة.
قال القزاز: إنه مما غرسه النبي صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة، "وفي كونها سبعًا، خاصية أخرى تدرك بالوحي" لا بغيره؛ إذ لا مدخل للعقل في ذلك.
"وفي الصحيحين" البخاري في الأطعمة والطب، ومسلم في الأطعمة، وأبو داود في الطب، والنسائي في الوليمة، كلهم من حديث عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تصبح" "بفوقية مفتوحة وصاد مهملة وموحدة مشددة"، أي أكل صباحًا قبل أن يأكل شيئًا، وأصل الصبوح والاصطباح تناول الشراب صبحًا، ثم استعمل في الأكل؛ لأن(9/499)
ذلك اليوم سم ولا سحر".
__________
شرب اللبن عند العرب بمنزلة الأكل، زاد في رواية للشيخين: كل يوم "بسبع" "بجر" سبع بالموحدة، رواه أبو ذر "تمرات عجوة" "بتنوينهما مجرورين"، فالثاني عطف بيان أو صفة، ورواه الأكثر سبع بدون باء، وتمرات بالتنوين، وعجوة "بالنصب عطف بيان أو صفة"، وروى تمرات عجوة، بإضافة تمرات لتاليه من إضافة العام للخاص "من تمر العالية" أي القرى التي في الجهة العالية من المدينة، وهي جهة نجد، "لم يضره" "بضم الضاد المعجمة وشد الراء" من الضرر، وفي رواية: يضره "بكسر الضاد وسكون الراء" من ضاره يضيره ضيرًا إذا أضره، "ذلك اليوم سم" "بتثليث السين"، "ولا سحر" وفي رواية: بتقديم سحر على سم، وفي أخرى: لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل.
قال المصنف: ومفهومه أن السر الذي في أكل العجوة من دفع ضرر السم والسحر يرتفع إذا دخل الليل.
قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على حكم من تناول ذلك أول الليل، هل يكون كمن تناوله أول النهار حتى يندفع عنه ضرر السم والسحر إلى الصباح؟، قال: والذي يظهر خصوصية ذلك بالتناول أول الليل؛ لأنه حينئذ يكون الغالب أن تناوله على الريق، فيحتمل أن يلحق به من تناوله أول الليل على الريق، كالصائم.
قال تلميذه شيخنا الحافظ السخاوي: وقع في حديث الباب من رواية فليح، عن عامر بن سعد، قال وأظنه قال: وإن أكلها حين يمي لم يضره شيء حتى يصبح، رواه أحمد في مسنده؛ بل وقع عند الطبراني في الأوسط من حديث أبي طوالة، عن أنس، عن عائشة مرفوعًا: "من أكل سبع تمرات من عجوة المدينة في يوم" الحديث، وفيه: من أكلهن ليلًا لم يضره انتهى.
ثم قوله: من تمر العالية، ثبت في بعض طرق حديث سعد، وسقط من أكثرها، وفي مسلم عن عائشة، مرفوعًا: "إن في عجوة العالية شفاء، وإنها ترياق أول البكرة"، ورواه أحمد، بلفظ: في عجوة العالية أول البكرة على ريق النفس شفاء من كل سحر أو سم.
وفي أبي داود عن جابر وأبي سعيد، والنسائي عن جابر، مرفوعًا: "العجوة من الجنة، وهي شفاء من السم"، أي: وذلك ببركة دعوته صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، لا لخاصية في التمر، ثم هل ذلك خاص بزمنه صلى الله عليه وسلم أو عام؟، قولان رجح بعضهم الأول، وقال الخطابي: وصف عائشة ذلك بعده صلى الله عليه وسلم يرد قول من قال: إن ذلك خاص بزمنه.
نعم، من جربه وصح معه عرف استمراره، وإلا فهو مخصوص بزمانه، وأما التخصيص بالسبع، فقال النووي: لا يعقل معناه، كأعداد الصلوات ونصب الزكاة.
وقال القرطبي: الشفاء بالعجوة من باب الخواص التي لا تدرك بقياس ظني، قال: ومن(9/500)
.....................................................
__________
أئمتنا من تكلف لذلك؛ بأن السموم إنما تقتل لإفراط بردها، فإذا داوم على التصبح بالعجوة، تحكمت فيه الحرارة، وأعانتها الحرارة الغريزية، فقاوم ذلك برودة السم ما لم يستحكم، لكن هذا يلزم منه رفع خصوصية عجوة المدينة، بل خصوصية العجوة مطلقًا، بل خصوصية التمر، فإن في الأدوية الحارة ما هو أولى من التمر، فتخصيص السبع لا يعلمه إلا الله، ومن أطلعه الله عليه. انتهى. وأيضًا، فإن سلم ذلك في السلم لم يفد في السحر.
قال القرطبي: وقد جاء ذلك في مواطن كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم في مرضه: "صبوا علي من سبع قرب"، وقوله: "غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا"، وجاء هذا العدد في غير الطب، كقوله تعالى: {سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ} [يوسف: 43] الآية، وحديث سبع كسني يوسف، وكذا السبعون والسبعمائة، فما جاء من هذا العدد مجيء التداوي، فذلك لخاصية لا يعلمها إلا الله ومن أطلعه عليها، وما جاء في غيره، فالعرب تضع هذا العدد للكثر، لا لإرادة عدد بعينه ولا حصر.
قال المصنف: وقول ابن القيم إذا أديم أكل العجوة على الريق، يجفف مادة الدود ويضعفه، أو يقتله، فيه إشارة إلى أن المراد نوع خاص من السم، لكن سياق الحديث يقتضي التعميم؛ لأنه نكرة في سياق النفي؛ ويبقى القول في السحر، فالمصير إلى أن ذلك من سر دعائه صلى الله عليه وسلم لتمر المدينة، ولكونه غرسه بيده الشريفة أولى.(9/501)
[ذكرطبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب] :
في البخاري مرفوعًا: "عليكم بهذا العود الهندي، فإن فيه سبعة أشفية، ومنها ذات الجنب".
وفي الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت".
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب:
"في البخاري" ومسلم، مرفوعًا" عن أم قيس بنت محصن، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "عليكم بهذا العود الهندي" أي استعملوه، "فإن فيه سبعة أشفية" أي أدوية: جمع شفاء، كدواء وأدوية، وجمع الجمع: أشاف، "منها: ذات الجنب" وأنه يسعط به من العذرة، فأخبر بسبعة وذكر ثنتين، إما لأنهما الموجودان حينئذ دون غيرهما، أو هو اختصار من الراوي، كما مر، "وفي الترمذي" والحاكم، وصححه "من حديث زيد بن أرقم، قال: قال صلى الله عليه وسلم: "تداووا من ذات الجنب بالقسط" "بضم القاف" وفي لغة بالكاف بدل القاف "البحري".(9/501)
واعلم أن ذات الجنب ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن للأعضاء، وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات والعضل التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا.
فالأول هو ذات الجنب الحقيقي، الذي تكلم عليه الأطباء، ويحدث بسببه خمسة أمراض، الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري.
__________
قال المازري: القسط صنفان بحري وهندي، والبحري هو القسط الأبيض، ويؤتى به من بلاد المغرب، وهو أفضل من الهندي وأقل حرارة منه، وقيل: هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حرًّا، وتعقبه القرطبي بأن البحري الأبيض أحد نوعي العود الهندي، فكيف يؤتى به من بلاد المغرب، والفرض أنه هندي إلا أن يعني بالمغرب المغرب من بلاد الهند. انتهى.
وبه يعلم أنه لا تنافي بين هذا الحديث وبين قوله في الحديث السابق: يريد الكست، وهو العود الهندي، وقوله في حديث جابر المار أيضًا، فليأخذ قسطًا هنديًّا؛ لأن المراد به أحد نوعي الهندي، وهو الأبيض البحري، كما في هذا الحديث؛ لكن في شرح المصنف؛ أن البحري يجلب من اليمن، ومنه ما يجلب من المغرب، "والزيت" المسخن؛ بأن يدق ناعمًا ويخلط به، ويدلك به محله، أو يلعق؛ فإنه نافع له محلل لمادته، مقو للأعضاء الباطنة، مفتح للسدد وغير ذلك.
قال بعض العلماء: على المريض والطبيب أن يعمل على أن الله أنزل الداء والدواء، وأن المرض ليس بالتخليط وإن كان معه، وأن الشفاء ليس بالدواء، وإن كان عنده، وإنما المرض بتأديب الله والبرء برحمته، حتى لا يكون كافرًا بالله مؤمنًا بالدواء، كالمنجم إذا قال: مطرنا بنوء كذا، ومن شهد الحكمة في الأشياء ولم يشهد مجريها، صار بما علم منها أجهل من جاهلها.
"واعلم أن ذات الجنب ورم حار يعرض في الغشاء المستبطن" أي الداخل "للأعضاء" أي فيها بحيث جعل كالبطانة، والمراد: الأعضاء الرئيسة، كالقلب والكبد ونحوهم، "وقد يطلق على ما يعرض في نواحي الجنب من رياح غليظة تحتقن بين الصفاقات" بكسر الصاد وتخفيف الفاء جمع صفاق.
قال في القاموس: ككتاب الجلد الأسفل تحت الجلد الذي عليه الشعر، أو ما بين الجلد والمصران، أو جلد البطن كله، "والعضل" جمع عضلة "بفتح المهملة والمعجمة" كل عصبة معها لحم غليظ، "التي في الصدر والأضلاع، فتحدث وجعًا، فالأول" الذي هو ورم حار إلى آخره، "هو ذات الجنب الحقيقي، الذي تكلم عليه الأطباء، ويحدث بسببه خمسة أمراض:(9/502)
ويقال لذات الجنب أيضًا: وجع الخاصرة، وهو من الأمراض المخوفة؛ لأنها تحدث بين القلب والكبد، وهو من سيئ الأسقام. والمراد بذات الجنب هنا الثاني؛ لأن القسط وهو العود الهندي هو الذي يداوي به الريح الغليظة.
وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحي أنه قال: العود حار يابس قابض، محبس للبطن، ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح ويفتح السدد، ويذهب فضل الرطوبة، نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ. قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضًا إذا كان ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة.
__________
الحمى والسعال والنخس وضيق النفس والنبض المنشاري" أي تحرك العروق تحركًا شديدًا لأعلى وأسفل، حركة تشبه حركة المنشار.
"ويقال لذات الجنب أيضًا وجع الخاصرة" مقتضى المقابلة أن يقول: وقد تطلق ذات الجنب على وجع الخاسرة، "وهو من الأمراض المخوفة؛ لأنها تحدث بين القلب والكبد" تعليل مبني على التفسير الأول، الذي هو المعنى الحقيقي لذات الجنب، "وهو من سيئ الأسقام" ولذا قال صلى الله عليه وسلم لما لدوه في مرضه، ظنا منهم أن به ذات الجنب: "ما كان الله ليسلطها علي"، أي ما كان الله مريدًا لأن يسلطها علي رحمة بي ورأفة علي.
"والمراد بذات الجنب هنا الثاني" المذكور بقوله: وقد يطلق على ما يعرض ... إلخ، "لأن القسط، هو العود الهندي هو الذي يداوى به الريح الغليظة".
"وقد حكى الإمام ابن القيم عن المسيحي" من فضلاء الأطباء؛ "أنه قال: العود حار، يابس، قابض، محبس" "بضم، فسكون، فكسر" أي مانع "للبطن" من الإسهال، وهو عطف بيان لقابض، "ويقوي الأعضاء الباطنة، ويطرد الريح، ويفتح السدد ويذهب فضل الرطوبة" أي زيادتها، "نافع من ذات الجنب، جيد للدماغ، قال: ويجوز أن ينفع من ذات الجنب الحقيقية أيضًا إذا كانت ناشئة عن مادة بلغمية، ولا سيما في وقت انحطاط العلة" أي نقصانها.
قال المازري: اعترض بعض الملحدة على هذا الحديث، وقال القسط: لا ينفع من ذات الجنب لشدة حرارته والتداوي به خطر، وهذا باطل؛ فقد ذكر بعض قدماء الأطباء أن ذات الجنب الحادثة من البلغم، علاجها بالقسط.
وذكر ابن سينا وغيره؛ أن شربه ينفع من وجع الصدر، وقال جالينوس: ينفع من وجع الكبد والجنبين.
وقال بعض القدماء: إنه يستعمل لإسخان عضو وجلب خلط من باطن الجسد إلى ظاهره،
وبهذه وصفه ابن سينا وهذا كله يبين كذب هؤلاء الملحدة، وقد تطابق الأطباء على أن يدر البول والطمث، وينفع من السموم، ويحرك شهوة الجماع، ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف إذا طلي به، وينفع من ضعف الكبد والمعدة وبردهما، ومن حمى الورد والربع، ومن النافض لطوخًا بالزيت، ومن البرد الكامن والفالج والاسترخاء، فأنت ترى هذه المنافع التي ذكرها الأطباء، فصار ممدوحًا طبًّا وشرعًا. انتهى ملخصًا وقدمته بنحوه.(9/503)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء الاستسقاء] :
عن أنس قال: قدم رهط من عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم. فاجتووا المدينة فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبل الصدقة فشربتم من ألبانها وأبوالها"، فلما صحوا عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم واستاقوا الإبل، وحاربوا الله
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء الاستسقاء:
"عن أنس" بن مالك رضي الله عنه، "قال: قدم رهط من عرينة" "بضم العين وفتح الراء المهملتين" حي من قحطان، "وعكل" "بضم العين وسكون الكاف، فلام" حي من تيم الرباب، وعند أبي عوانة عن أنس: أربعة من عرينة وثلاثة من عكل، ولا يخالف رواية البخاري في الجهاد والديات عن أنس أن ناسًا من عكل ثمانية، لاحتمال أن الثامن من غير القبيلتين، وكان من أتباعهم، فلم ينسب "على النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتووا المدينة" "بجيم وواوين" أي أصابهم الجوى، وهو داء الجوف إذا تطاول، أو كرهوا الإقامة بها لما فيها من الوباء، أو لم يوافقهم طعامها، "فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم" وفي رواية للبخاري، فقالوا: يا نبي الله إنا كنا أهل ضرع، ولم نكن أهل الريف؛ وله في أخرى؛ أن ناسا كان بهم سقم، قالوا: يا رسول الله، آونا وأطعمنا، فلما صحوا، قالوا: إن المدينة وخمة، والظاهر؛ أنهم قدموا سقامًا من الهزال الشديد والجهد من الجوع مصفرة ألوانهم، فلما صحوا من السقم أصابهم من حمى المدينة، فكرهوا الإقامة بها، ولمسلم عن أنس: وقع بالمدينة الموم "بضم الميم وسكون الواو" وهو ورم الصدر، فعظمت بطونهم، فقالوا: يا رسول الله إن المدينة وخمة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبل الصدقة، فشربتم من ألبانها وأبوالها" لزال عنكم هذا المرض، أو لو للتمني، فلا يحتاج للجواب، وفي رواية: فاشربوا بالأمر الصريح، وأخرى: فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا، أي لأنهم أبناء سبيل، وفي رواية: الحقوا بإبل رسول الله، وفي أخرى: هذا نعم لنا تخرج فاخرجوا فيها، وجمع بأن إبل الصدقة كانت ترعى خارج المدينة، وصادف بعثه صلى الله عليه وسلم بلقاحه إلى المرعى، طلب هؤلاء الخروج، فأمرهم بالخروج مع راعيه، فرخص لهم في الشرب من إبل الصدقة؛ لأنهم أبناء سبيل كما علم، وأما لقاحه فبإذنه، "فلما صحوا عمدوا" "بفتح الميم" قصدوا.(9/504)
ورسوله، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وألقاهم في الشمس حتى ماتوا. رواه الشيخان.
__________
وفي رواية للبخاري: فانطلقوا وشربوا، وفي أخرى: وصحوا، وأخرى، وسمنوا ورجعت إليهم ألوانهم، وكفروا بعد إسلامهم، وعمدوا "إلى الرعاة فقتلوهم" "بضم الراء" جمع راع كقضاة وقاض.
قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أن المقتول راعيه صلى الله عليه وسلم، وفي ذكره بالأفراد، وكذا لمسلم، لكن عنده في رواية: ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم "بصيغة الجمع" فيحتمل أن لإبل الصدقة رعاة، فقتل بعهضم مع راعي اللقاح النبوية، فاقتصر بعض الرواة عليه، وذكر بعضهم معه غيره، ويحتمل أن بعض الرواة ذكره بالمعنى، فتجوز في الإتيان بصيغة الجمع، وهذا أرجح لأن أصحاب المغازي لم يذكر أحد منهم أنهم قتلوا غير يسار راعيه صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح أبي عوانة: فقتلوا أحد الراعيين، وجاء الآخر قد جزع، فقال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل، ولم أقف على اسم الآخر. انتهى.
"واستاقوا الإبل" ساقوها من السوق، وهو السير العنيف، "وحاربوا الله ورسوله" أي فعلوا فعلم المحارب، "فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم" "بالمد"، أي وراءهم عشرين فارسًا، أميرهم كرز بن جابر على الصحيح "بضم الكاف وسكون الراء وزاي منقوطة"، ومرت القصة مبسوطة في المغازي، "فأخذوا" وللبخاري: فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، "فقطع" "بخفة الطاء" "أيديهم وأرجلهم".
زاد الترمذي والإسماعيلي من خلاف، وبه رد الحافظ قول الداودي: فقطع يدي كل واحد ورجليه، "وسمل أعينهم" "بفتح المهملة والميم ولام مخففًا، أي فقأها بحديدة محماة".
قال الحافظ: لم تختلف روايات البخاري في أنه سمر "بالراء وخفة الميم"، وفي رواية لمسلم: باللام، قال الخطابي: السمل فقء العين بأي شيء كان، وبالراء لغة فيه، ومخرجها متقارب، وقد يكون من المسمار، يريد أنهم كحلوا بأميال قد أحميت، قلت: وقع التصريح بالمراد عند البخاري في الجهاد وفي المحاربين، ولفظه: ثم أمر بمسامير فأحميت، ثم كحلهم بها، فهذا يوضح ما تقدم، ولا يخالف رواية اللام؛ لأنه فقء العين بأي شيء كان. انتهى. "وألقاهم في الشمس حتى ماتوا" وكانوا قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، كما عند ابن سعد، فيكون ما فعل بهم قصاصًا كما أشار إليه أنس، بقوله: "إنما سمل صلى الله عليه وسلم أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة"، رواه مسلم، ومال إليه جماعة، وإسناد الفعل في جميع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم مجاز، والمراد أمر، كما صرح به في روايات أخر.(9/505)
واعلم أن الاستسقاء مرض مادي، سببه مادة غريبة باردة تحلل الأعضاء فتربو بها، إما الأعضاء الظاهرة كلها، وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط.
وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها، وهو الذي يربو معه لحم جميع البدن، بمادة بلغمية تفشو مع الدم في الأعضاء. وزقي: وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة مائية ردية يسمع لها عند الحركة خضخضة كالماء في الزق، وهو أرادأ أنواعه عند أكثر الأطباء. وطبلي: وهو الذي تنتفخ معه البطن بمادة ريحية، إذا ضربت عليه سمعت له صوتًا كصوت الطبل.
وإنما أمرهم عليه الصلاة والسلام بشرب ذلك؛ لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينًا وإدرارًا وتلطيفًا وتفتيحًا للسدد، إذا كان أكثر رعيها الشيخ والقيصوم
__________
"رواه الشيخان" واللفظ لمسلم وزاد في رواية: قال سلام: فبلغني أن الحجاج قال لأنس: حدثني بأشد عقوبة عاقبه النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثه بهذا الحديث، فبلغ الحسن البصري، فقال: وددت أنه لم يحدثه بهذا، وللإسماعيلي: فوالله ما انتهى الحجاج حتى قام على المنبر، فقال: حدثنا أنس، فذكر الحديث، وقال: قطع النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي والأرجل، وسمر الأعين في معصية الله، أفلا نفعل مثل ذلك في معصية الله؟
"واعلم أن الاستسقاء مرض مادي" أي سببه مادة تفسد الجسد، كما قال: "سببه مادة غريبة باردة تحلل الأعضاء فتربو" أي تزيد "بها إما الأعضاء الظاهرة كلها" بأن تنفتح مثلًا بسبب تلك المادة، "وإما المواضع الخالية من النواحي التي فيها تدبير الغذاء والأخلاط، وأقسامه ثلاثة: لحمي، وهو أصعبها" من جهة شدته في البدن، "وهو الذي يربو" يزيد "معه لحم جميع البدن بمادة بلغمية تفشو"، أي تنتشر "مع الدم في الأعضاء، و" الثاني: "زقي" "بزاي وقاف"، "وهو الذي يجتمع معه في البطن الأسفل مادة مائة ردية، يسمع لها عند الحركة خضخضة" أي تحرك واضطراب، "كالماء في الزق" والمراد: أثر الخضخضة، وهو القاموس، "وهو أردأ أنواعه عند أكثر الأطباء" من حيث تعسر دوائه وعلاجه، "وطبلي: وهو الي تنتفخ معه البطن بمادة ريحية إذا ضربت عليه سمعت له صوتًا كصوت الطبل" وهو أخفها، "وإنما أمرهم عليه الصلاة والسلام بشرب ذلك" اللبن والبول، "لأن في لبن اللقاح جلاء وتليينًا وإدرارًا وتلطيفًا وتفتيحًا للسدد إذا".(9/506)
والبابونج والأقحوان والإذخر وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء خصوصًا إذا استعمل بحراراته التي يخرج بها من الضرع، مع بول الفصيل، وهو حار كما يخرج من الحيوان، فإن ذلك مما يزيد في ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن.
وأما ضعف المعدة فذكر ابن الحاج في المدخل: أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتًا بالمصطكى بعد دقها ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز، يفعل ذلك سبعة أيام
__________
وفي نسخة: إذ "كان أكثر رعيها الشيح" "بالكسر": نبت معروف "والقيصوم" "فيعول" من نبات البادية، قال في القاموس: وهو صنفان أنثى وذكر، النافع منه أطرافه، وزهره مر جدًّا، ويدلك البدن به للناقض، فلا يقشعر إلا يسيرًا، ودخانه يطرد الهوام، وشرب سحيقه نبأ نافع لعسر النفس وللبول والطمث ولعرق النساء، وينبت الشعر ويقتل الدود "والبابونج" زهرة معروفة كثيرة النفع، "والأقحوان" "بالضم" البابونج، كما في القاموس، فالعطف مرادف "والإذخر" "بكسر الهمزة والخاء" نبات معروف ذكي الريح، وإذا جف أبيض، "وغير ذلك من الأدوية النافعة للاستسقاء، خصوصًا إذا استعمل بحرارته التي يخرج بها من الضرع مع بول الفصيل، وهو حار، كما يخرج من الحيوان" أي وقت خروجه قبل أن يبرد، "فإن ذلك" أي ضم بول الفصيل إلى اللبن "مما يزيد في ملوحة اللبن وتقطيعه الفضول وإطلاقه البطن" فيخرج الداء الذي فيه.
"وأما ضعف المعدة" مستأنفًا ليس سيمًا لشيء، وناسب ذكره عقب الاستسقاء؛ لأنه قد يكون سببًا في ضعفها إذا برئ؛ إذ سببه المادة المفسدة للمعدة، "فذكر ابن الحاج في المدخل؛ أن بعض الناس مرض بمعدته، فرأى الشيخ الجليل أبو محمد" عبد الله بن محمد القرشي، "المرجاني" الإمام القدوة، الواعظ المفسر، أحد الأعلام في الفقه والتصوف، قدم مصر ووعظ بها، واشتهر في البلاد وامتحن، وأفتى العلماء بتكفيره، فلم يؤثروا، فعملوا عليه الحيلة، فقتل بتونس سنة تسع وسبعين وستمائة، كما في اللواقح، "النبي صلى الله عليه وسلم" في المنام، "وهو يشير بهذا الدواء، وهو أن يأخذ كل يوم على الريق وزن درهم من الورد المربى، ويكون ملتوتًا بالمصطكى" "بالفتح والضم ويمد في الفتح فقط"، علك رومي أبيض نافع، والمقعدة، قاله القاموس، وفي المصباح: "بضم الميم وتخفيف الكاف"، والقصر أكثر من المد.
وقال ابن خالويه: يشدد فيقصر، ويخفف فيمد، وحكى ابن الأنباري: فتح الميم والتخفيف والمد، وحكى ابن الجواليقي ذلك، لكنه قال: والقصر، وكذا قال الفارابي، لكنه قال(9/507)
ففعله فبرئ.
ومرض بعض الناس ببرد المعدة فرأى الشيخ المرجاني أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، أوقية ونصف أوقية عسل نحل، ودرهمان شونيز، ومثلهما أنيسون، ونصف أوقية من النعنع الأخضر، ومن القرنفل درهم، ومن القرفا نصف درهم، وشيء من قشر الليمون، مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار، فاستعمله فبرئ.
ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء: شونيز ثلاثة دراهم ومن خزامي درهمين ونصف، ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامي ومثله من الغليا، ووزن درهم من البلوط وهو ثمرة الفؤاد، وأوقية من الزيت المرقي يجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار وزن درهمين على الريق، وعند النوم وزن درهم
__________
مصطكي: بالتاء والميم أصلية، وهي رومية معربة "بعد دقها، ويجعل فيها سبع حبات من الشونيز" "بفتح الشين" الحبة السوداء على الأشهر، "يفعل ذلك سبعة أيام، ففعله فبرئ" ببركة المصطفى، "ومرض بعض الناس ببرد المعدة، فرأى الشيخ المرجاني أيضًا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا الدواء، أوقية ونصف عسل نحل ودرهمان شونيز ومثلهما آنيسون ونصف أوقية من النعنع" "بزنة جعفر وهدهد"، أو كجعفر، وهم للجوهري بقل معروف أنجع دواء للبواسير، ضمادًا بورقة، وضماده بملح لعضة الكلب وللسعة العقرب، واحتماله قبل الجماع يمنع الحبل، ويقال: نعناع أيضًا كما في القاموس "الأخضر، ومن القرنفل درهم، ومن القرفا نصف درهم، وشيء من قشر الليمون مع قليل من الخل، ويعقد ذلك على النار فاستعمله فبرئ".
"ومرض آخر بسلس الريح، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشير بهذا الدواء شونيز" "بالجر بدل من هذا الدواء"، "ثلاثة دراهم، ومن خزامي درهمين ونصف" بجره أيضًا عطف على شونيز قدم عليه متعلقة، وهو من خزامي، وهو ظاهر، فلا وجه لمن قال صوابه درهمان، "ومن الكمون الأبيض ثلاثة دراهم، ومثله من السعتر الشامي، ومثله من الغليا" أي من كل منهما ثلاثة دراهم "ووزن درهم من البلوط" "بفتح الموحدة وضم اللام مشددة"، "وهو ثمرة الفؤاد" أي المسمى بذلك، وفي القاموس: البلوط كتنور شجر كانوا يغتذون بثمره قديمًا، بارد يابس، ثقيل، غليظ، ممسك للبول، وبلوط الأرض: نبات ورقه كالهندباء، مدر، مفتح، مضمر للطحال، "وأوقية من الزيت المرقي، يجعل فيه من عسل النحل ما يعقد به، وهو ربع رطل، ويؤخذ منه غدوة النهار" أي أوله "وزن درهمين على الريق، وعند النوم وزن درهم،(9/508)
ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك قال في النوم لذلك الشخص الذي أخبره بهذا الدواء إنه ينفع لأدواء وهي: الريح، وسلس الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، والنفاس، ولتعقد الرياح.
والزيت المرقي: صفته أن تأخذ شيئًا من الزيت الطيب، وتجعله في إناء نظيف وتحركه بعود وتقرأ عليه الإخلاص والمعوذتين، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن} إلى آخر السورة.
وحصل لآخر قولنج، فرأى الشيخ المرجاني النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم وصف من الزيت المرقي، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، ويعمل له التلبينة ويستعملها بعد أن يفطر على ذلك،
__________
ونصف، فاستعمله فبرئ. ثم إنه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك قال في النوم لذلك الشخص الذي أخبره بهذا الدواء" على لسان المرجاني: "إنه ينفع لأدواء" أمراض عديدة، "وهي: الريح، وسلس الريح، والمعدة وبرودتها، ووجع الفؤاد وألم الحيض، والنفاس، ولتعقد الرياح. والزيت المرقي: صفته أن تأخذ شيئًا من الزيت الطيب، وتجعله في إناء نظيف وتحركه بعود وتقرأ عليه الإخلاص والمعوذتين، و {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر السورة {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآن} إلى آخر السورة" والظاهر أن هذه الصفة معلومة عندهم، إلا أنها علمها النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الشخص الذي قال له: إنه ينفع لأدواء عديدة، بدليل أنه في وصفه للمرجاني قال: والزيت المرقي، فيفيد أن صفة رقيته بهذا كانت معلومة عندهم قبل ذلك.
"وحصل لآخر قولنج" "بضم القاف وفتح اللام"، قال في القاموس: وقد تكسر لامه، أو هو مكسور اللام، "وبفتح القاف وبضم": مرض معوي مؤلم يعسر معه خروج الثقل والريح، "فرأي الشيخ" المرجاني "النبي صلى الله عليه وسلم فأشار بهذا الدواء: وهو أن يأخذ ثلاثة دراهم من عسل النحل، ووزن درهم وصف من الزيت المرقي، وإحدى وعشرين حبة من الشونيز ويخلط الجميع ثم يفطر عليه، ويفعل مثله عند النوم، يفعل ذلك حتى يبرأ، ويعمل له التلبينة" "بفتح الفوقية وسكون اللام وكسر الموحدة، وسكون التحتية ونون مفتوحة فهاء"، وقد تحذف، "ويستعملها بعد أن يفطر على ذلك، والتلبينة حساء" "بفتح الحاء والسين المهملتين والمد"،(9/509)
والتلبينة حساء يعمل من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيه عسل، ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله فبرئ بعد أن أعيا الأطباء.
ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الإلية والزيت المرقي، ورقيق البيضة، ويخلط ذلك كله، ويمده على الموضع ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل بعدما يدق دقًَّا ناعمًا حتى يعود مثل الدقيق؛ ففعله فبرئ.
وشكا بعض الناس الدوخة في رأسه فرأى الشيخ النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فأشار إلى هذا الدواء: قرنفل وزنجبيل وقرفة وجوزة طيب وسنبل، من كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ثم يطبخ ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، فيكون عسل النحل غالبًا عليه، ففعله فبرئ، انتهى.
وهذا وإن كان منامًا فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجاني لذلك.
__________
"يعمل" أي يطبخ "من دقيق أو نخالة، وربما عمل فيها عسل" وربما عمل لبن، سميت بذلك تشبيهًا لها باللبن في بياضها ورقتها، "ويكون غذاؤه مصلوقة الدجاج أو لحم الضأن، ففعله، فبرئ بعد أن أعيا الأطباء".
وفي الصحيحين، عن عروة، عن عائشة: أنها كانت تأمر بالتلبية للمريض وللمحزون على الهالك، وتقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن التلبينة تجم فؤاد المريض وتذهب ببعض الحزن" "بضم الفوقية وكسر الجيم وشد الميم، وبفتح الفوقية وضم الجيم"، وفي رواية: "التلبينة مجمة لفؤاد المريض" الحديث.
قال القرطبي: روي مجمة "بفتح الميم والجيم، وبضم الميم وكسر الجيم"، أي تريح قلبه وتسكنه وتقويه، "ومرض آخر بوجع الظهر، فشكا ذلك للشيخ" المرجاني، "فرأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشير بهذا الدواء، وهو عسل نحل وشونيز ودهن الإلية، والزيت المرقي ورقيق البيضة" المسمى عرفًا بياض البيض، "ويخلط ذلك كله ويمده على الموضع" الموجوع، "ويدر عليه دقيق العدس بقشرة مع الحرمل" نبات بالبادية له حب أسود، وقيل: حب كالسمسم "بعد ما يدق ناعمًا حتى يعود مثل الدقيق، ففعله فبرئ" "بكسر الراء وفتحها" "وشكا بعض الناس الدوخة في رأسه، فرأى الشيخ" المرجاني "النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فأشار إلى هذا الدواء، قرنفل وزنجبيل وقرفا وجوزة طيب وسنبل، من كل واحد درهم ونصف، وشونيز درهمين، يدق الجميع ويطبخ، ويعقد بعسل النحل، فإذا قرب استواؤه عصر عليه قليل ليمون، ويكون عسل النحل غالبًا عليه، ففعله فبرئ. انتهى" كلام المدخل، "وهذا" كله "وإن كان منامًا فقد عضدته التجربة مع إرشاد الشيخ المرجاني لذلك" فلا بأس بالعمل به بصدق النية.(9/510)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرف النسا] :
وهو بفتح النون والمهملة، المرض الحال بالعرق، والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله. قيل: وسمي بذلك لأن ألمه ينسي ما سواه. وهذا العرق ممتد من مفصل الورك وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دواء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق في كل يوم جزاء". رواه ابن ماجه.
وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم، وهو أنفعه لهم؛ لأن
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرق النسا. وهو بفتح النون والمهملة:
والقصر "المرض الحال بالعرق" أي عرق الفخذ، "والإضافة فيه من باب إضافة الشيء إلى محله" المناسب لتفسيره، أن يقول من إضافة المحل إلى الحال فيه، وفي القاموس: أن النسا اسم للعرق نفسه لا للمرض؛ إذا قال: النسا عرق من الورك إلى الكعب، ويثنى نسوان ونسيان، قال الزجاج: لا تقل عرق النسا؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. انتهى.
فيؤول إذا أضيف بأنه من إضافة المسمى إلى الاسم، "قيل: وسمي بذلك؛ لأن ألمه ينسي ما سواه" فهو من النسيان، وقيل: من النسء التأخير؛ لأنه يطول ويتأخر برؤه، "وهذا العرق ممتد من مفصل الورك، وينتهي إلى آخر القدم وراء الكعب".
"عن أنس" بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "دواء عرق النسا إليه شاة" "بفتح الهمزة وإسكان اللام مخففًا".
قال ابن السكيت وجماعة: ولا تكسر الهمزة، ولا يقال ألية بالتشديد، والجمع أليات، مثل: سجدة وسحدات، والتثنية أليان، "بحذف التاء على غير قياس"، وبإثباتها في لغة على القياس "أعرابية" "التاء في شاة للوحدة، فيصدق بالذكر والأنثى، لكن في رواية: بألية، كبش ليس بالعظيم ولا بالصغير، وفي أخرى: كبش أسود، فتحمل رواية شاة على الذكر الأسود الذي ليس بكبير ولا صغير؛ لأن المطلق يحمل على المقيد، "تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء" متساوية، "ثم يشرب على الريق في كل يوم جزاء".
"رواه ابن ماجه: وهذا الدواء خاص بالعرب وأهل الحجاز ومن جاورهم" من غيرهم،(9/511)
هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة، فعلاجها بالإسهال. والإلية فيها الخاصيتان: الإنضاج والتليين. وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين. وفي تعيين الشاة الأعرابية، قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها، وخاصية مرعاها؛ لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيخ والقيصوم ونحوهما، وهذا إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها، بعد أن تلطفه تغذية، وتكسبها مزاجًا ألطف منها ولا سيما الإلية.
__________
لأن للمجاورة تأثيرًا، "وهو أنفعه لهم؛ لأن هذا المرض يحدث من يبس، وقد يحدث من مادة غليظة لزجة" أي متعلقة، "فعلاجها بالإسهال والإلية، فيها الخاصيتان، الإنضاج" وهو تهيئته للحالة التي يسهل خروجه بعدها، من أنضجت اللحم إذا سويته بالطبخ "والتليين، وهذا المرض يحتاج علاجه إلى هذين الأمرين، وفي تعيين الشاة الأعرابية قلة فضولها وصغر مقدارها ولطف جوهرها وخاصية مرعاها؛ لأنها ترعى أعشاب البر الحارة، كالشيخ والقيصوم ونحوهما، وهذه" الأعشاب "إذا تغذى بها الحيوان صار في لحمه من طبعها بعد أن تلطفه" أي تلطف تلك الأعشاب لحمها "تغذية" "بالرفع اسم صار"، "وتكسبها مزاجًا ألطف منها، ولا سيما الإلية".(9/512)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الورم] :
والخراجات بالبط والبزل، يذكر عن علي رضي الله عنه قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده، بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله، بهذه معدة فقال: "بطوا عنه"، قال علي: فما برحت حتى بطت، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد.
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الورم:
أي الغلظ من المرض، وجمعه أورام، والفعل ورم يرم "بكسر الراء فيهما" "والخراجات" "بخاء معجمة وجيم"، مخففًا: جمع خراج كغراب "بالبط" أي الشق "والبزل" "بموحدة، وزاي عطف مرادف"، يقال: بزل الشيء إذا ثقبه وأخرج ما فيه، "ويذكر عن علي رضي الله عنه، قال: دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعوده بظهره ورم، فقالوا: يا رسول الله بهذه معدة" "بكسر الميم" قيح غليظ، "فقال: "بطوا" أي شقوا "عنه" أي عما احتبس فيه، "قال علي: فما برحت" أي زلت من مكاني "حتى بطت والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد" أي حاضر.(9/512)
[ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعًا] :
روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا، فقطع له عرقًا وكواه عليه.
وأخرج مسلم عن جابر: لما رمي سعد بن معاذ في أكحله، جسمه النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطحاوي، وصححه الحاكم عن أنس قال: كواني أبو طلحة في
__________
ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعًا:
كما في الحديث الأول، وبالكي وحده كما في بقية الأحاديث التي ساقها، ولم يذكر الطب بقطع العرق وحده، وسواء كان ذلك في نفسه بناء على تسليم أنه اكتوى، أو لغيره بإرشاده لمن يفعله في نفسه أو غيره.
"روى البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أبي بن كعب" بن قيس الأنصاري، النجاري، سيد القراء، من فضلاء الصحابة، "طبيبًا فقطع له عرقًا" أي فصده "وكواه عليه".
وفي رواية لمسلم أيضًا، عن جابر، قال: رمى أبي يوم الأحزاب على أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي أمر بكيه.
قال القرطبي: فيه دلالة على أنه لا يلي عمل الشيء إلا من يغرفه، وعلى جواز الكي إذا صحت منفعته أو دعت إليه حاجة، والنهي عنه إنما هو إذا وجد عنه غنى، ولذا لا يقال أن أبيا المشهود؛ بأنه أقرأ الأمة، وسعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمن لموته ليسا من السبعين ألفًا الذين لا يكتوون.
"وأخرج مسلم عن جابر: لما رمي" "بضم الراء مبني للمجهول" "سعد بن معاذ" يوم الخندق "في أكحله" "بفتح الهمزة وسكون الكاف وفتح الحاء المهملة" عرق في الذراع يفصد، قال الخليل: هو عرق الحياة، ويقال له نهر الحياة، في كل عضو منه شعبة، له اسم آخر، وإذا قطع في اليد لم يرقا الدم.
قال أبو حاتم: يقال له في اليد الأكحل، وفي الفخذ النسا، وفي الظهر الأبهر "جسمه" أي قطع دمه بالكي "النبي صلى الله عليه وسلم" بيده بمشقص، ثم ورمت الثانية فحسمه، هذا بقية الحديث في مسلم: "بميم مكسورة ومعجمة ساكنة، فقاف، فمهملة" نصل السهم الطويل.
"وروى الطحاوي، وصححه الحاكم عن أنس قال: كواني أبو طلحة" زيد بن سهل(9/513)
زمن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعند الترمذي: أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة.
وروى مسلم عن عمران بن حصين قال: كان يسلم علي حتى اكتويت فتركت، ثم تركت فعاد. وفي رواية: إن الذي كان انقطع عني رجع إلي، يعني تسليم الملائكة.
وروى أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي، فاكتوينا فما أفلحنا ولا أنجحنا، الحديث.
__________
الأنصاري زوج أم أنس "في زمن النبي صلى الله عليه وسلم" لمرض اقتضى العلاج بالكي.
"وعند الترمذي؛ أنه صلى الله عليه وسلم كوى أسعد بن زرارة" الأنصاري، الخزرجي، قديم الإسلام، شهد العقبات الثلاثة، ومات قبل بدر باتفاق، قال الواقدي: في شوال على رأس تسعة أشهر من الهجرة، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ودفن بالبقيع، "من الشوكة" هي حمرة تعلو الوجه، بلفظ: واحدة الشوك.
"وروى مسلم عن عمران بن حصين" بمهملتين" مصغر ابن عبيد الخزاعي أبي نجيد "بنون وجيم"، مصغر من فضلاء الصحابة وفقهائهم، وكان مجاب الدعوة، بعثه عمر إلى البصرة ليفقه أهلها، فأقام إلى أن مات بها سنة اثنتين وخمسين. وقيل: سنة ثلاث وأبوه صحابي، "قال: كان يسلم علي" "بالبناء للمفعول، أي كانت الملائكة تسلم علي "حتى اكتويت" قبل وفاته بسنتين، كما رواه الحارث بن أبي أسامة، "ثم تركت الكي، فعاد" رجع إلي تسليم الملائكة.
وعند الدارمي عن مطرف، قال عمران بن حصين: إني محدثك بحديث؛ أنه كان يسلم علي، وأن ابن زياد أمرني فاكتويت، فاحتبس عني حتى ذهب أثر الكي.
"وفي رواية" لمسلم، أيضًا عن عمران: "إن الذي كان انقطع عني" بسبب الكي "رجع إلي، يعني تسليم الملائكة" أي الحفظة، قال أبو عمر: يقول عنه أهل البصرة؛ أنه كان يرى الحفظة، وكانت تكلمه حى اكتوى، ففقده ثم عاد إليه؛ ومراد المصنف من سياق هذا معارضته للأحاديث قبله، الدالة على الجواز، ويأتي له الجمع قريبًا، وليس مراده الاستدلال به على الترجمة، وترجى أن وجه الدلالة إقراره صلى الله عليه وسلم له بعد فعله فاسد؛ لأن عمران إنما اكتوى قبل موته بسنتين، كما رواه الحارث، وذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة.
"وروى أحمد وأبو داود والترمذي" بسند قوي، "عن عمران" رضي الله عنه: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكي، فاكتوينا، فما أفلحنا ولا أنجحنا" أي ما ظفرنا بمطلوبنا، وإنما اكتووا مع النهي؛ لأنهم فهموه على الكراهة، أو على خلاف الأولى، كما قاله المتن بعد أسطر. وفي(9/514)
وإنما يستعمل الكي في الخلط الباغي الذي لا تنقطع مادته إلا به، ولهذا وصفه صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنه، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم، ولذا كانت العرب تقول في أمثلتها: آخر الدواء الكي.
والنهي فيه محمول على الكراهة أو على خلاف الأولى، لما يقتضيه مجموع الأحاديث، وقيل: إنه خاص بعمران لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه فلم ينجح.
وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى. لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع، والثاني: كي
__________
لفظ: فلم تفلحن ولم تنجحن، أي الكيات، ونجح كمنع. "الحديث" كذا في النسخ: فيقتضي أن له بقية مع أنه ليس له بقية، وقد أحسن في شرحه تبعًا للحافظ، فلم يقل الحديث، "وإنما يستعمل الكي في الخلط الباغي" أي المتجاوز في خروج الدم، يقال: بغى الجرح إذا تراخى إلى الفساد، ومنه البغي الظلم والاعتداء والفساد، "الذي لا تنقطع مادته إلا به" أي الكي، "ولذا وصفه صلى الله عليه وسلم، ثم نهى عنه" فقال الشفاء في ثلاثة: "شربة عسل وشرطة محجم وكية نار، وأنهى أمتي عن الكي"، رواه البخاري، عن ابن عباس: "إنما كرهه لما فيه من الألم الشديد والخطر العظيم" "بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة" الإشراف على الهلاك وخوف التلف، "ولذا كانت العرب تقول في أمثلتها: آخر الدواء الكي" وآخر الطب الكي.
قال السخاوي: كلام معناه أنه بعد انقطاع معرفة الشفاء يعالج به، ولذا كان أحد ما حمل عليه النهي عن الكي وجود طريق مرجو للشفاء سواه، "والنهي فيه محمول على الكراهة، أو على خلاف الأولى لما يقتضيه مجموع الأحاديث" السابقة وغيرها من جوازه والنهي عنه، فيجمع بينها بذلك.
"وقيل: إنه" أي النهي "خاص بعمران" يعني: ومن شابهه في مرضه، بدليل قوله: وأنهى أمتي عن الكي، "لأنه كان به الباسور، وكان موضعه خطرًا، فنهاه عن كيه، فلما اشتد عليه كواه" حملًا له على التنزيه؛ "فلم ينجح" لم يظفر بزوال الباسور ولا ينافي ذلك ما رواه الحارث في مسنده عن الحسن عن عمران أنه شكا بطنه، فلبث زمانًا طويلًا، فدخل عليه رجل، فأمره بالكي، فاكتوى قبل وفاته بسنتين، وكان يسلم عليه، فلما اكتوى فقده، ثم عاد إليه؛ لأن وجع بطنه نشأ من اشتداد الباسور؛ لأنه يحبس الريح والغائط.
"وقال ابن قتيبة: الكي نوعان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل(9/515)
الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي له، فإن كان الكي لأمر محتمل فهو خلاف الأولى لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق.
وحاصل الجمع: أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع بل يدل على أن تركه أرجح من فعله، ولهذا وقع الثناء على تاركه، وأما النهي عنه فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما لا يتعين طريقًا إلى الشفاء.
وقال بعضهم: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عنه مع إثباته الشفاء فيه إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم الداء بطبعه فكرهه لذلك، ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوى التعذيب بالنار لأمر مظنون.
__________
من اكتوى لأنه يريد أن يدفع القدر، والقدر لا يدافع" إذ لا بد من وقوعه.
"والثاني: كي الجرح إذا فسد، والعضو إذا قطع، فهو الذي شرع التداوي له" أي بالكي، "فإن كان الكي لأمر محتمل، فهو خلاف الأولى، لما فيه من تعجيل التعذيب بالنار لأمر غير محقق" إذ الشفاء بالدواء محتمل، فلا ينبغي فعله.
"وحاصل الجمع" بين الأحاديث "أن الفعل يدل على الجواز، وعدم الفعل لا يدل على المنع" لجواز إن تركه خوفًا من الألم لا لمنع الفعل، "بل يدل على أن تركه أرجح من فعله" لأن تركه مع الإخبار بأن فيه شفاء، وحرص النفس على الخلاص من المرض دليل على أن الترك لمرجح عنده، "ولهذا وقع الثناء على تاركه" في حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون".
"وأما النهي عنه، فإما على سبيل الاختيار والتنزيه، وإما عما" أي عن كي "لا يتعين طريقًا إلى الشفاء" فما نكرة موصوفة.
"وقال بعضهم: إنما نهى صلى الله عليه وسلم عنه مع إثباته الشفاء فيه" بقوله: "الشفاء في ثلاث ... " الحديث المار قريبًا.
ورواه البخاري أيضًا ومسلم منه حديث جابر بلفظ: "إن كان في شيء من أدويتكم شفاء، ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار، وما أحب أن أكتوي"، "إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم" أي يقطع "الداء بطبعه، فكرهه لذلك" لأنه اعتقاد باطل، فالشافي إنما هو الله تعالى، فهو الذي يحسمه، "ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء لظنهم أنه يحسم الداء، فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار لأمر مظنون" فهو مكروه، أو خلاف الأولى.(9/516)
قال في فتح الباري: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ: روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر: والثابت في الصحيح في غزوة أحد أن فاطمة أحرقت حصيرًا فحشت به جرحه، وليس هذا الكي المعهود. انتهى.
__________
"قال في فتح الباري: ولم أر في أثر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، إلا أن القرطبي نسب إلى كتاب آداب النفوس للطبري" محمد بن جرير "أن النبي صلى الله عليه وسلم اكتوى، وذكره الحليمي بلفظ: روى أنه اكتوى للجرح الذي أصابه بأحد. قال الحافظ ابن حجر" تعقبًا عليهما: "والثابت في الصحيح" البخاري "في غزوة أحد" وفي غيرها، ومنه في الطب، وبوب عليه باب حرق الحصير ليسد به الدم، "أن فاطمة أحرقت حصيرًا فحشت به جرحه، وليس هذا الكي المعهود. انتهى".
يعني فإن كان ذلك مراد من قال: اكتوى، لم يصح إلا بتأويل؛ أنه أطلق الكي على الحشو برماد الحصير مجازًا، وقد جزم ابن التين؛ بأنه اكتوى، وابن القيم بأنه لم يكتو، ولفظ الصحيح عن سهل بن سعد: لما كسرت على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضة، وأدمي وجهه، وكسرت رباعيته، كان علي يختلف بالماء في المجن، وجاءت فاطمة تغسل عن وجهه الدم، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة، عمدت إلى حصير، فأحرقتها وألصقتها على جرحه، فرقا الدم.(9/517)
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون:
قال الخليل بن أحمد: الطاعون الوباء، وقال ابن الأثير: الطاعون المرض العام والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد به الأمزجة، وقال القاضي أبو
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون:
بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالًّا على الموت العام، كالوباء، ويقال: طعن، فهو مطعون، وطعين إذا أصابه الطاعون، وإذا أصابه الطعن بالرمح، هذا كلام الجوهري، "قال الخليل بن أحمد" الأزدي الفراهيدي أبو عبد الرحمن البصري، اللغوي، صاحب العروض والنحو، صدوق، عالم، عابد، مات بعد الستين ومائة، وقيل: سنة سبعين أو بعدها" "الطاعون: الوباء".
"وقال ابن الأثير" في النهاية: في طعن " الطاعون المرضى العام والوباء الذي يفسد له الهواء، فتفسد به الأمزجة" فمفهوم هذا تغايرهما، وقال في وبأ الوباء: "بالقصر والمد والهمزة" الطاعون والمرض العام، فجعلهما جزأين من جزئيات الوباء، فمفهومه تساويهما.(9/517)
بكر بن العربي: الطاعون المرض الغالب الذي يطفئ الروح، سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله، وقال أبو الوليد الباجي: هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس. وقال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض فسميت طاعونًا لشبهها بها في الهلاك. وقال النووي في تهذيبه: هو بئر وورم مؤلم جدًّا يخرج مع لهب، ويسود ما حوله أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة، ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالبًا في مراق البدن والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد.
وقال ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث مرضًا قتالًا يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الآذان، أو عند الأربية، وسببه ورم رديء: يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو، ويغير ما يليه،
__________
"وقال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الفقيه الحافظ: "الطاعون المرض الغالب الذي يطفئ الروح" أي يزيل قوته، وهو مجاز عن قتله، "سمي بذلك لعموم مصابه وسرعة قتله".
"وقال أبو الوليد" سليمان "الباجي" الحافظ الفقيه: "هو مرض يعم الكثير من الناس في جهة من الجهات، بخلاف المعتاد من أمراض الناس" فلا يعم ولا يختص بجهة.
"وقال القاضي عياض: أصل الطاعون القروح" جمع قرح "الخارجة في الجسد، والوباء عموم الأمراض، فسميت" عموم الأمراض "طاعونًا لشبهها بها" أي القروح "في الهلاك" لمن حلت به، "وقال النووي في تهذيبه" أي كتاب تهذيب الأسماء واللغات، "هو بئر" "بموحدة، فمثلثة، فراء" أي خراج صغير "وورم مؤلم جدًّا، يخرج مع لهب، ويسود ما حوله، أو يخضر، أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية" نسبة إلى البنفسج، كسفرجل، والمكرر منه اللامان، وزنه فعلل، كما في المصباح: "كدرة" متغيرة، "ويحصل معه خفقان" اضطراب قلب "وقيء، ويخرج غالبًا في مراق البدن" أي ما لان منه، "والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد" أي باقيه قسيم قوله غالبًا.
"وقال ابن سيناء: الطاعون مادة سمية تحدث مرضًا قتالً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن" "بمعجمة وموحدة ونون" وهي الأرفاغ والآباط "من البدن" الواحد، مغبن كمسجد، "وأغلب ما يكون تحت الإبط، أو خلف الآذان، أو عند الأربية" "بضم الهمزة وإسكان الراء وكسر الموحدة وتحتية مشددة".(9/518)
ويؤدي إلى القلب كيفية ردية فيحصل القيء والغثيات والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قل من يسلم منه، وأسلمه الأحمر ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، وأما الوباء: فهو فساد جواهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده.
والحاصل: أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان الدم وانصباب الدم إلى عضو فيفسده، وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء، يسمى طاعونًا بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت.
والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء، أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية، وقد قالت عائشة: دخلنا المدينة وهي أوبأ أرض الله، وقال بلال: أخرجونا إلى
__________
قال الجوهري: أصل الفخذ، وأصله أربوة، فاستثقلوا التشديد على الواو، أي: فقلبوها ياء، "وسببه ورم رديء يستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويغير ما يليه" إلى سواد أو خضرة أو حمرة كدرة، "ويؤدي إلى القلب كيفية ردية فيحصل القيء والغثيات والغشي والخفقان، وهو لرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، وأردؤه ما يقع في الأعضاء الرئيسة، والأسود منه قل من يسلم منه" من الموت، "وأسلمه الأحمر، ثم الأصفر، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبئة" بالواو والهمز، وتقلب الهمزة ياء، "ومن ثم أطلق على الطاعون وباء، وبالعكس، وأما الوباء، فهو فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده" أي زيادته وقوته، "والحاصل" أي حاصل المقام لا حاصل كلام ابن سينا "أن حقيقته ورم ينشأ عن هيجان ادم وانصباب الدم إلى عضو، فيفسده" ولا ينافيه أنه وخز الجن، لجواز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة، فتحدث منها المادة السمية، ويهيج الدم بسببها أو ينصب.
وقال الكلاباذي: يحتمل أن الطاعون قسمان: قسم يحصل من غلبة بعض الأخلاط من دم أو صفراء محترقة، أو غير ذلك من غير سبب يكون من الجن، وقسم يكون من وخز الجن، كما تقع الجراحات من القروح التي تخرج في البدن من غلبة بعض الأخلاط، وإن لم يكن هناك طعن، وتقع الجراحات أيضًا من طعن الإنس، "وإن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعونًا بطريق المجاز، لاشتراكهما في عموم المرض به، أو كثرة الموت" كما أشار إليه عياض، وإن كانا متغايرين، "والدليل على أن الطاعون يغاير الوباء أن الطاعون لم يدخل المدينة النبوية" قط.
"وقد قالت عائشة: دخلنا" وفي رواية: قدمنا "المدينة، وهي أوبأ أرض الله، وقال(9/519)
أرض الوباء.
والطاعون: من طعن الجن، وإنما لم تتعرض له الأطباء لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف من الشارح، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن وقوعه غالبًا في أعدل الفصول، وفي أصح البلاد هواء، وأطيبها ماء، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وبأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشاهدة أنه يصيب الكثير، ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو مثلهم في مزاجهم، ولو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد لا يتجاوزه، ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب بقتل بلا مرض، فدل على أنه طعن الجن. كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك.
منها حديث أحمد والطبراني عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه
__________
بلال: أخرجونا" أي كفار قريش "إلى أرض الوباء" ومر الحديثان في الهجرة، "والطاعون من طعن الجن، وإنما لم تتعرض الأطباء، لكونه من طعن الجن؛ لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما عرف في الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم" لكنها منقوضة، كما أشار إليه بقوله: "ومما يؤيد أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن" وقد عبر في شرحه للبخاري بالاستدراك، فقال: لكن "وقوعه غالبًا في أعدل الفصول" من العام، وهو فصل الربيع، "وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء" وذلك يبطل قول الأطباء أنه من فساد الهواء أو وباء البلاد، "و" أيضًا، "لأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض؛ لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى" في ساعة واحدة، "والطاعون يذهب أحيانًا ويجيء أحيانًا على غير قياس ولا تجربة، فربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين" فبطل كونه من فساد الهواء، "بأنه لو كان كذلك لعم الناس والحيوان، والموجود بالمشهادة أنه يصيب الكثير ولا يصيب من هم بجانبهم ممن هو مثلهم في مزاجهم" وأيضًا "لو كان كذلك لعم جميع البدن، وهذا يختص بموضع من الجسد، لا يتجاوزه" إلى ما سواه، "ولأن فساد الهواء يقتضي تغير الأخلاط وكثرة الأسقام، وهذا في الغالب يقتل بلا مرض، فدل على أنه طعن الجن، كما ثبت في الأحاديث الواردة في ذلك، منها: حديث أحمد والطبراني وصححه الحاكم "عن أبي بكر" اسمه عمرو أو(9/520)
قال: سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة".
قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع في الألسنة، وهو في النهاية تبعًا لغريبي الهروي بلفظ "وخز إخوانكم" ولم أره بلفظ "إخوانكم" بعد التتبع الطويل البالغ في شيء من طرق الحديث المسندة، لا في الكتب المشهورة ولا في الأجزاء المنثورة، وقد عزاه بعضهم لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم. انتهى.
__________
عارم "بن أبي موسى الأشعري" ثقة، من رجال الجميع، مات سنة ست ومائة، وكان أسن من أخيه أبي بردة، "عن أبيه" عبد الله بن قيس الأشعري، "قال: سألت عنه" أي الطاعون "رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "هو وخز" "بفتح الواو وسكون المعجمة، بعدها زاي" "أعدائكم من الجن" أي كفارهم، قال أهل اللغة: الوخز الطعن إذا كان غيرنا، فذو وصف طعن الجن بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر، فيؤثر في الباطن أولًا، ثم يؤثر في الظاهر، وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن، فيؤثر في الظاهر أولًا، ثم يؤثر في الباطن، وقد لا ينفذ، كما في الفتح، "وهو لكم شهادة" أي لكل مسلم وقع به، أو وقع في بلد هو فيها.
ففي البخاري عن عائشة؛ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الطاعون، فأخبرها أنه كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين، فليس من عبد يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر الشهيد.
"قال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر: يقع" هذا الحديث "في الألسنة، وهو في النهاية تبعًا لغريبي الهروي" أي كتابه المؤلف في غريبي القرآن والحديث "بلفظ: وخز إخوانكم ولم أره بلفظ إخوانكم بعد التتبع الطويل، البالغ" الغاية "في شيء من طرق الحديث المسندة" المروية بالأسانيد، "لا في الكتب المشهورة" كالستة والمسانيد العشرة والمعاجم، "ولا في الأجزاء المنثورة".
"وقد عزاه بعضهم" هو صاحب كتاب آكام المرجان في أحكام الجان، كما في شرح المصنف "لمسند أحمد والطبراني أو كتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود لذلك في واحد منها والله أعلم. انتهى".
قال المصنف: فإن قلت: فإذا كان الطعن من الجن، فكيف يقع في رمضان والشياطين تصفد فيه وتسلسل؟
أجيب: باحتمال أنهم يطعنون قبل دخول رمضان، ولم يظهر التأثير إلا بعد دخوله، وقيل(9/521)
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا
__________
غير ذلك.
"وفي الصحيحين" البخاري في ذكر بني إسرائيل، والطب، وترك الحيل، ومسلم في الطب، وكذا النسائي "من حديث أسامة بن زيد" الحب بن الحب، "قال" وقد سأله سعد بن أبي وقاص: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون؟، فقال أسامة: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطاعون رجز" "بالزاي" على المعروف، أي عذاب، ووقع لبعض الرواة رجس "بسين مهملة بدل الزاي".
قال الحافظ المحفوظ: "بالزاي"، والمشهور أن الذي بالسين الخبيث، أو النجس، أو القذر، ووجه عياض؛ بأن الرجس يطلق على العقوبة أيضًا.
وقد قال الفارابي والجوهري والراغب: الرجس العذاب، ومنه قوله تعالى: {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] ، "أرسل على طائفة من بني إسرائيل" لما كثر طغيانهم، "وعلى من كان قبلكم" كذا في نسخ المصنف: "بالواو" والذي في الصحيحين إنما هو بأو.
قال الحافظ: بالشك من الراوي، وفي رواية ابن خزيمة بالجزم، بلفظ: رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، والتنصيص عليهم أخص، فإن كان ذلك المراد، فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي، أحد صغار التابعين، عن سيار أن رجلًا كان يقال له: بلعام، كان مجاب الدعوة، وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام، فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم، فقال: حتى أؤامر ربي، فمنع، فأتوه بهدية، فقبلها، وسألوه ثانيًا، فقال: حتى أؤامر ربي، فلم يرجع إليه بشيء فقالوا: لو كره لنهاك، فدعا عليهم، فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل، فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم، أرسلوا النساء في عسكرهم ومروهن لا يمتنعن من أحد، فعسى أن يزنوا فيهلكوا، فكان فيمن خرج بنت الملك، فأرادها بعض الأسباط وأخبرها بمكانه، فمكنته من نفسها، فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفًا في يوم، وجاء رجل من بني هارون ومعه الرمح، فطعنهما، وأيده الله، فانتظمهما جميعًا، وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق.
وذكر الطبري أيضًا هذه القصة عن محمد بن إسحاق، عن سالم أبي النضر بنحوه، وسمى المرأة كشتاء: "بفتح الكاف وسكون المعجمة وفوقية" والرجل زمري: "بكسر الزاي وسكون(9/522)
سمعت به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه".
__________
الميم وكسر الراء" رأس سبط شمعون، والذي طعنهما فنحاص "بكسر الفاء وسكون النون، ثم مهملة فألف فمهملة" ابن هارون وقال في آخره: فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفًا، والمقلل يقول عشرون ألفًا، وهذه الطريق تعضد الأولى.
وذكر ابن إسحاق في المبتدأ أن بني إسرائيل لما كثر عصيانهم، أوحى الله إلى داود فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط سنتين، أو العدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام، فأخبرهم، فقالوا: اختر لنا، فاختار الطاعون، فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا، وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله، فرفعه، وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، فيحتمل أنه المراد بقوله: أو من كان قبلكم من ذلك، ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشًا، ثم يخضب كفه في دمه، ثم يضرب به على بابه، ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك فقالوا: إن الله يبعث عليكم عذابًا، وإنا ننجوا منه لهذه العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفًا، فقال فرعون عند ذلك لموسى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَك} ، فدعا، فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره، وابن جرير عن الحسن في قوله تعالى: {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ} [البقرة: 243] ، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم، فأقدم من وفقنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام، ومن غيرهم في قصة فرعون، وتكرر بعد ذلك لغيرهم. انتهى.
"فإذا سمعتم به بأرض، فلا تدخلوا عليه" لأنه تهور وإقدام على خطر وإلقاء إلى التهلكة، كمن أراد دخول دار، فرأى فيها حريقًا تعذر طفؤه، فعدل عن دخولها لئلا يصيبه، وليكون ذلك أسكن للنفس وأطيب للعيش، ولئلا يقعوا في اللوم المنهي عنه بلوم أنفسهم فيما لا لوم فيه؛ لأن الباقي والناهض لا يتجاوز واحد منهم أجله، "وإذا وقع بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها فرارًا منه" لأنه فرار من القدر، فالأول تأديب وتعليم، والثاني تفويض وتسليم.
قال ابن عبد البر: النهي عن الدخول لدفع ملامة النفس، وعن الخروج للإيمان بالقدر. انتهى.
والأكثر على أن النهي عن الفرار منه للتحريم، وقيل: للتنزيه، ومفهوم الحديث جوازه لشعل عرض غير الفرار، وحكى عليه لاتفاق.
قال الحافظ: ولا شك أن الصور ثلاث: ومن خرج لقصد الفرار محضًا، فهذا يتناوله النهي(9/523)
وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكمًا.
منها: أن الطاعون يكون في الغالب عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا فلا يليق بالعاقل.
ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره، أو الكبر حيًّا وميتًا.
وأيضًا: فلو شرع الخروج. فخرج الأقوياء لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء. وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف لما فيه من كسر قلب من لم يفر، وإدخال الرعب عليه بخلافه.
وقد جمع الغزالي بين الأمرين فقال: الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر
__________
لا محالة، ومن خرج لحاجة متمحضة، لا لقصد الفرار أصلًا، ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد إلى بلد كان بها إقامته مثلًا، ولم يكن الطاعون وقع، فاتفق وقوعه في أثناء تجهزه، فهذا لم يقصد الفرار أصلًا، فلا يدخل في النهي.
الثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج إليها وانضم إلى ذلك، أنه قصد الراحة من الإقامة بالبلد التي وقع بها الطاعون، فهذا محل النزاع، كأن تكون الأرض التي وقع بها وخمة، والأرض التي يتوجه إليها صحيحة، فتوجه بهذا القصد إليها، فمن منع نظر إلى صورة الفرار في الجملة، ومن أجاز نظر إلى أنه لم يتمحض القصد للفرار، وإنما هو لقصد التداوي. انتهى.
"وقد ذكر العلماء في النهي عن الخروج حكمًا، منها: أن الطاعون يكون في الغالب عامًّا في البلد الذي يقع به، فإذا وقع، فالظاهر مداخلة سببه لمن هو بها، فلا يفيده الفرار؛ لأن المفسدة إذا تعينت حتى لا يقع الانفكاك عنها كان الفرار عبثًا، فلا يليق بالعاقل" فعله؛ إذ لا فائدة فيه، "ومنها: أن الناس لو تواردوا على الخروج لصار من عجز عنه بالمرض المذكور أو بغيره" من الأمراض، "أو الكبر" ضائع المصلحة لفقد من يتعهده "حيًّا" بالقيام بما يحتاجه، "وميتًا" بتجهيزه ودفنه، "وأيضًا" من الحكم، "فلو شرع الخروج فخرج الأقوياء، لكان في ذلك كسر قلوب الضعفاء" الذين لا يقدرون على الخروج.
"وقد قالوا: إن حكمة الوعيد في الفرار من الزحف" بنحو قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ، "لما فيه من كسر قلب من لم يفر وإدخال الرعب عليه بخلافه، وقد جمع الغزالي بين الأمرين،(9/524)
البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق، فيصل إلى القلب والرئة فيؤثر في الباطن ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي سيقع به لا يسلم غالبًا مما استحكم به، وينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرض لا يجدون من يتعاهدهم فتضيع مصالحهم.
ومنها: ما ذكره بعض الأطباء: أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها ويصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم، بل ربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الردية التي حصل تكيف بدنها بها فأفسدته فمنع من الخروج
__________
فقال: "إنما نهى عن الخروج كالدخول، مع أن سببه الطبي من الهواء، وأظهر طرق التداوي الفرار من المضر وترك التوكل في نحو مباح؛ لأن "الهواء لا يضر من حيث ملاقاته ظاهر البدن، بل من حيث دوام الاستنشاق" له، فإذا كان فيه عفونة بدأ، "فيصل إلى القلب والرئة، فيؤثر في الباطن، ولا يظهر على الظاهر إلا بعد التأثير في الباطن، فالخارج من البلد الذي سيقع به لا يسلم" وفي نسخة: لا يخلص "غالبًا مما استحكم به" أي من أجل ما استحكم عنه من الداء.
قال الغزالي: لكنه توهم الخلاص، فيصير من جنس الموهومات كالطيرة، فلو تجرد هذا المعنى لم يكن منهيًّا عنه، "و" لكنه "ينضاف إلى ذلك أنه لو رخص للأصحاء في الخروج لبقي المرضى لا يجدون من يتعاهدهم، فتضيع مصالحهم" أحيانًا وأمواتًا، وعبارة الغزالي: لو رخص للأصحاء في الخروج لم يبق بالبلد إلا من طعن، فيضيع حالهم فيكون هلاكهم محققًا وخلاصهم منتظرًا، كما أن صلاح الأصحاء منظر، ولو أقاموا لم تكن الإقامة قاطعة بالموت، ولو خرجوا لو يقطع بالخلاص، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وينعكس هذا فيمن لم يدخل البلد، فإن الهواء لم يؤثر بباطنه، ولا بأهل البلد حاجة إليه، فإن لم يبق في البلد إلا مطعون وافتقروا لمتعهد، وقدم عليهم لم ينه عن الدخول، بل يندب للإعانة، ولأنه تعرض لضرر موهوم على رجاء دفع ضرر عن بقية المسلمين، كما يؤخذ من تشبيه الفرار هنا بالفرار من الزحف؛ لأن فيه كسرًا لقلوب البقية وسعيًا في إهلاكهم. انتهى.
وهو نفيس، "ومنها: ما ذكره بعض الأطباء أن المكان الذي يقع به الوباء تتكيف أمزجة أهله بهواء تلك البقعة فتألفها ويصير لهم كالأهوية الصحيحة لغيرهم، فلو انتقلوا إلى الأماكن الصحيحة لم توافقهم بل" إضراب انتقالي، "وربما إذا استنشقوا هواءها استصحب معه إلى القلب من الأبخرة الردية التي حصل تكيف بدنها بها، فأفسدته، فمنع من الخروج لهذه(9/525)
لهذه النكتة.
ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع في اللو المنهي عنه.
وقال العارف بن أبي جمرة: البلاء إنما يقصد به أهل البقعة، لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة، فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب.
__________
النكتة" وهي متعلقة بنفس من يريد الخروج.
"ومنها: أن الخارج يقول: لو أقمت لأصبت" بالطاعون، "والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقع في اللو" "بالفتح وشد الواو" "المنهي عنه" بقوله صلى الله عليه وسلم: "إياك ولو فإن لو، من الشيطان".
رواه مسلم، ووقع عند بعض رواته بلفظ: اللو "بالتشديد"، قال عياض والمحفوظ خلافه. نعم روى النسائي وابن ماجه مرفوعًا: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن غلبك أمر، فقل: قدر الله وما شاء فعل، وإياك واللو، فإن اللو تفتح عمل الشيطان"؛ وللطبراني مرفوعًا: "أحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا وكذا ولكن قدر الله وما شاء فعل فإن لو مفتاح الشيطان"، والجمع بين هذا وما ثبت من استعماله صلى الله عليه وسلم لو، كقوله: لو سلك الناس واديًا، لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما قاله النووي، الظاهر أن النهي عن إطلاقها فيما لا فائدة فيه، أما من قالها تأسفًا على ما فات من طاعة الله، أو ما هو متعذر عليه منها، ونحو: هذا فيجوز، وعليه أكثر الاستعمال الموجود في الأحاديث، وقيل غير ذلك، وقد ترجم البخاري في كتاب التمني ما يجوز من اللو إشارة إلى ذلك، "وقال العارف بن أبي جمرة" "بجيم وراء": "البلاء إنما يقصد به أهل البقعة لا البقعة نفسها، فمن أراد الله إنزال البلاء به فهو واقع به لا محالة" "بفتح الميم"، "فأينما توجه يدركه، فأرشدنا الشارع إلى عدم النصب" أي إلى ترك التعب فيما لا فائدة فيه.
قال ابن عبد البر: يقال ما فر أحد من الطاعون فسلم من الموت، ولم يبلغني عن أحد من حملة العلم أنه فر منه، إلا ذكر المدائني أن علي بن زيد جدعان هرب منه إلى السبالة، فكان يجمع كل جمعة ويرجع، فإذا رجع صاحوا به فر من الطاعون، فطعن فمات بالسبالة. انتهى.
لكن نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي وقع بها الطاعون عن جماعة من الصحابة، منهم: علي والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين الأسود بن هلال ومسروق، وأنهما كانا(9/526)
وقال ابن القيم: جمع صلى الله عليه وسلم للأم في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه، كمال التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرضًا للبلاء وموافاة له في محل سلطانه، وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشدنا الله إليها، وهي حمية عن الأمكنة والأهوية والمؤذية، وأما نهيهه عن الخروج من بلده ففيه معنيان.
أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا.
__________
يفران منه.
ونقل ابن جرير: أن أباه موسى الأشعري كان يبعث بنيه إلى الأعراب من الطاعون، وعن عمرو بن العاصي؛ أنه قال: تفرقوا من هذا الرجز في الشعاب والأودية ورءوس الجبال حملًا للنهي على التنزيه، وخالفهم الأكثر، وقالوا: إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها، إن لم يعطف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون غدة كغدة البعير المقيم بها، كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف"، رواه أحمد برجال ثقات.
وروى الطبراني وأبو نعيم بإسناد حسن، مرفوعًا: "الطاعون شهادة لأمتي ووخز أعدائكم من الجن غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيدًا، ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف".
"وقال ابن القيم: جمع صلى الله عليه وسلم للأمة في نهيه عن الدخول إلى الأرض التي هو بها، ونهيه عن الخروج منها بعد وقوعه كمال" أي غاية "التحرز منه، فإن في الدخول في الأرض التي هو فيها تعرضًا للبلاء وموافاة" أي إتيانًا "له في محل سلطانه" قوته وشدته، "وإعانة الإنسان على نفسه، وهذا مخالف للشرع والعقل، بل" إضراب انتقالي لا إبطالي؛ كأنه قيل: وأيضًا "تجنب الدخول إلى أرضه من باب الحمية التي أرشدنا الله إليها" بنحو قوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وهي حمية عن الأمكنة والأهوية المؤذية.
"وأما نهيه عن الخروج من بلده ففيه" أي ففي حكمته "معنيان".
"أحدهما: حمل النفوس على الثقة بالله تعالى" أي الاعتماد "والتوكل عليه، والصبر على أقضيته والرضا" بها.(9/527)
والثاني: ما قاله أئمة الطب أنه يجب على من كان يحترز من الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة، ويقلل الغذاء، ويميل إلى التدبير المجفف من كل وجه، والخروج من أرض الوباء والسفر منها لا يكون إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدًّا. هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما، انتهى.
__________
"والثاني: ما قاله أئمة الطب: إنه يجب على من يحترز عن الوباء أن يخرج عن بدنه الرطوبات الفضيلة" أي الزائدة نسبة إلى الفضل، وهو الزيادة، "ويقلل الغذاء" بأن لا يشبع، "ويميل إلى التدبير المجفف" للرطوبة الزائدة "من كل وجه، والخروج" مبتدأ "من أرض الوباء، والسفر منها" عطف عليه، والخبر، "لا يكون إلا بحركة شديدة، وهي مضرة جدًّا، هذا كلام أفضل المتأخرين من الأطباء، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما. انتهى" كلام ابن القيم.
وبه يظهر مطابقة الحديث لقول الترجمة: طبه من الطاعون، وإلا فظاهر الحديث ليس فيه طب منه، إنما فيه نهيه عن الخروج والدخول؛ وحاصل الجواب أنه نهي شرعي مشتمل على طب بدني، كما علم.(9/528)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة] :
أخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والبيهقي عن شرحبيل الجعفي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعة، فقلت: يا رسول الله هذه السلعة قد أذتني، تحول بيني وبين قائم السيف أن أقبض عليه وعنان الدابة، فنفث في كفي، ووضع كفه على السلعة
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة:
"أخرج البخاري في تاريخه، والطبراني والبيهقي" وابن السكن "عن شرحبيل الجعفي" سمي ابن منده وابن فتحون أباه عبد الرحمن، وقال العسكري شرحبيل بن أوس، وقال: ابن السكن ابن عقبة، "قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبكفي سلعة" "بكسر السين وفتحها وسكون اللام، وبفتحتين وبكسر السين وفتح اللام كعنبة، كما في القاموس، أي شيء كالغدة في كفه يتحرك بالتحريك.
قال الأطباء: هي ورم غليظ غير ملتزق باللحم يتحرك عند تحريكه لها غلاف ويقبل الزيادة؛ لأنها خارجة عن اللحم، فتكون من قدر حمصة إلى قدر بطيخة، "فقلت: يا رسول الله هذه السلعة قد أذتني تحول" خبر بعد خبر كالعلة لأذيتها له؛ كأنه قيل: لأنها تحول "بيني وبين قائم السيف أن أقبض" أي أضم "عليه" أصابعه، "وعنان الدابة" "بكسر العين لجامعها،(9/528)
فما زال يطحنها بكفه حتى رفعها عنها وما أرى أثرها.
ومسح صلى الله عليه وسلم وجه أبيض بن جمال وكان به القوباء فلم يمس من ذلك اليوم ومنها أثر، رواه البيهقي وغيره.
__________
أي يحول بينه وبين أن يقبض عليه أيضًا، وأسقط من لفظ الحديث، فقال صلى الله عليه وسلم: "ادن" فدنوت، "فنفث في كفي" ليحصل الشفاء ببركة ريقه الشريف، "ووضع كفه على السلعة، فما زال يطحنها بكفه" أي يدلكها، وعبر بالطحن عن الدلك مجازًا "حتى رفعها" أي ما زال يكرر الدلك إلى أن رفع كفه "عنها" أي السلعة، "وما أرى أثرها" لزواله والكف مؤنثة من الإنسان، وغيره قال ابن الأنباري: وزعم من لا يثوب به أن الكف مذكر، ولا يعرف تذكيرها ممن يوثق بعلمه، لكن في شرح البهجة أن تذكيرها لغة قليلة، "ومسح صلى الله عليه وسلم وجه أبيض بن حمال" "بالمهملة وشد الميم المأربي، بسكون الهمزة وكسر الراء بعدها موحدة".
قال البخاري وابن السكن: له صحبة وأحاديث يعد في أهل اليمن، "وكان به القوباء" "بضم القاف وفتح الواو، وقد تخفف بالسكون والمد" داء معروف.
زاد في رواية: فالتقمت أنفه، "فلم يمس من ذلك اليوم، ومنها: أثر" لزوالها ببركة اليد الميمونة، "رواه البيهقي وغيره" كأبي داود والترمذي والنسائي في الكبرى، وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، كما في الإصابة.(9/529)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى] :
روى البخاري من حديث مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء البارد".
واختلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى:
"روى البخاري" ومسلم، وكلاهما "من حديث مالك" عن نافع، عن ابن عمر، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه "قال: "الحمى من فيح جهنم" "بفتح الفاء وسكون التحتية فحاء مهملة" وفي حديث رافع بن خديج في الصحيحين: من فور بالراء بدل الحاء.
وفي رواية للبخاري: عنه: من فوح بالواو بدل التحتية، وكلها بمعنى، والمراد سطوع حرها ووهجه، "فأطفئوها" "بقطع الهمزة وكسر الفاء، بعدها همزة مضمومة" "بالماء البارد" شربًا، وغسل أطراف أو جميع الجسد على ما يليق بالزمان والمزاج والمكان.
"واختلف في نسبتها إلى جهنم، فقيل: حقيقة، واللهب الحاصل في جسم(9/529)
المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك، كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة، أظهرها في هذه الدار عبرة ودلالة.
وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه، والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم، تنبيهًا للنفوس على شدة حر النار، وأن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها.
قوله "فأطفئوها" الحمى حظ المؤمن من النار.
__________
المحموم قطعة من جهنم، وقدر الله ظهورها" في الدنيا "بأسباب تقتضيها" نذيرًا للجاحدين وبشيرًا للمقربين، "ليعتبر العباد بذلك" فالتعذيب بها يختلف باختلاف محله، فيكون للمؤمن تكفيرًا لذنوبه وزيادة في أجوره، وللكافر عقوبة وانتقامًا، وإنما طلب ابن عمر كشفه، كما في البخاري عقب هذا الحديث، قال نافع: وكان عبد الله يقول: اللهم اكشف عنا الرجز، أي العذاب مع ما فيه من الثواب لمشروعية طلب العافية من الله؛ إذ هو قادر على أن يكفر سيئات عبده ويعظم ثوابه من غير أن يصيبه شيء يشق عليه، "كما أن أنواع الفرح واللذة من نعيم الجنة أظهرها" الله سبحانه "في هذه الدار" الدنيا "عبرة" تذكيرًا ووعظًا "ودلالة" على ما عنده تعالى.
"وقيل: الخبر ورد مورد التشبيه والمعنى: أن حر الحمى شبيه بحر جهنم" في كونه مذيبًا للبدن ومعذبًا له، "تنبيهًا للنفوس على شدة حر النار، وإن هذه الحرارة الشديدة شبيهة بفيحها، وهو ما يصيب من قرب منها من حرها" لتتعظ النفوس فتبعد عن الأسباب الموجبة للنار.
زاد المصنف في شرح البخاري: والأول أولى، قال الطيبي: من ليست بيانية حتى تكون بسببها، كقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] ، فهي إما ابتدائية، أي الحمى نشأت وحصلت من فيح جهنم، أو تبعيضية، أي بعض منها، قال: ويدل لهذا التأويل ما في الصحيح: اشتكت النار إلى ربها، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها، كذلك الحمى حرارة غريزية تشتغل في القلب وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العرق إلى جميع البدن.
"قوله: فأطفئوها بهمزة قطع" مفتوحة "أمر من الإطفاء" الرباعي. "وروى الطبراني" مرفوعًا: "الحمى حظ المؤمن من النار" أي نار جهنم، فإذا ذاق لهيبها في الدنيا لا يذوق لهيب جهنم في الأخرى، أي أنها تكفر ما يوجب النار وتسهل عليه الورود حتى لا يشعر به(9/530)
وفي رواية نافع عن ابن عمر، عند الشيخين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" بهمزة وصل والراء مضمومة
__________
أصلًا.
قال ابن القيم: ليس المراد أنها هي نفس الورود المذكور في القرآن؛ لأن سياقه يأبى حمله على الحمى قطعًا؛ لأنه تعالى وعد عباده كلهم بورود النار، فالحمى للمؤمن تكفر خطاياه، فتسهل عليه الورود، فينجي منه سريعًا. انتهى.
وهو رد لقول مجاهد في تفسير الآية: الحمى في الدنيا حظ المؤمن من الورود في الآخرة، رواه ابن أبي حاتم والبيهقي عنه، وقال الزين العراقي: إنما جعلت حظه من النار لما فيها من البرد والحر المغير للجسم، وهذه صفة جهنم، فهي تكفر الذنوب فتمنعه من دخول النار. انتهى.
يعني دخول عذاب لا الورود، هذا ولفظ الطبراني في الأوسط، عن أنس مرفوعًا: "الحمى حظ أمتي من فيح جهنم" ورواه في الكبير عن أبي ريحانة، رفعه: "الحمى كير من جهنم، وهي نصيب المؤمن من النار".
نعم، رواه ابن أبي الدنيا والعقيلي من حديث عثمان: "الحمى حظ المؤمن من النار يوم القيامة"، ورواه البزار عن عائشةٍ، والقضاعي والديلمي عن ابن مسعود، رفعه: "الحمى حظ كل مؤمن من النار"؛ وقول الحافظ أبي بكر بن العربي، قال بعض الغافلين: الحمى حظ المؤمن من النار، فهو مستثنى من هذا، أي الآية، فقال: وهذه غفلة عظيمة، بل لا بد لكل أحد من الصراط فتلقح النار قومًا، ونقف دون آخرين، والكل وارد عليها. انتهى.
مراده أن جعل الحديث نفس الورود لمن حلت به الحمى، فستثنى من الآية من نزلت به غفلة بدليل فحوى كلامه، لا إنه لم يقف على الحديث، كما ظنه بعضهم فتعجب منه، بأن للحديث طرقًا عديدة لا تخفى على من له أدنى ممارسة بالحديث.
"وفي رواية نافع عن ابن عمر عند الشيخين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الحمى أو شدة الحمى من فيح جهنم" الذي في البخاري في الطب، إنما هو باللفظ السابق من رواية مالك عن نافع، وفيه: قبله في صفة جهنم من بدء الخلق من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، مرفوعًا: "الحمى من فيح جهنم فابردوها بالماء": فإنما فيه أنه قال: فأبردوها بدل قوله في الأولى: فأطفئوها، وكذا رواه مسلم من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد الله، عن نافع بلفظ: فأبردوها، ورواه من طريق مالك عن نافع باللفظ الأول، وهو: فأطفئوها، وكذا رواه من طريق محمد بن زيد عن ابن عمر، ورواه من وجه آخر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إن(9/531)
على المشهور وحكي كسرها الراء. وفي رواية ابن ماجه بالماء البارد.
وفي رواية همام عن أبي جمرة عند البخاري، قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة، فأخذتني الحمى، فاحتبست أيامًا، فقال: ما حبسك؟ قلت: الحمى، قال: أبردها بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم"، شك همام.
قال ابن القيم: قوله "بالماء" فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو
__________
شدة الحمى من فيح جهنم فأطفئوها بالماء"؛ فلم أجد في واحد من الصحيحين بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف، "فأبردوها بالماء بهمزة وصل والراء مضمومة على المشهور" في الرواية من بردت الحمى أبردها بردًا، بوزن قتلها أقتلها قتلًا، أي أسكنت حرارتها، قال شاعر الحماسة:
إذا وجدت لهيب الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهرة ... فمن النار على الأحشار تتقد
"وحكي كسرها"، أي "الراء" مع وصل الهمزة، وحكى عياض رواية بهمزة قطع مفتوحة وكسر الراء من إيراد الشيء إذا عالجه فصيره باردًا، مثل أسخنته إذا صيرته سخنًا، وأشار إليها الخطابي، وقال الجوهري: إنها لغة ردية، وقول أبي البقاء: الصواب وصل الهمزة وضم الراء، زاد القرطبي: وأخطأ من زعم قطعها فيه نظر بعد ثبوتها رواية عند عياض والخطابي، فيكفي في توجيهها أنها لغة وإن كانت ردية بعنى مخالفة للقياس.
"وفي رواية ابن ماجه" من حديث أبي هريرة لا ابن عمر كما يوهمه المصنف: "بالماء البارد" شربًا وغسل أطراف؛ لأن البارد رطب ينساغ لسهولته، فيصل للطافته إلى أماكن العلة من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة.
"وفي رواية همام" بن يحيى، "عن أبي جمرة" بجيم وراء نصر بن عمران بن عصام الضبعي "بضم المعجمة وفتح الموحدة، بعدها مهملة" البصري، نزيل خراسان، مشهور بكنيته، ثبت من رجال الجميع، مات سنة ثمان وعشرين ومائة.
"عند البخاري" في وصفه جهنم، "قال: كنت أجالس ابن عباس بمكة" وفي رواية أحمد: كنت أدفع الناس عن ابن عباس، "فأخذتني الحمى، فاحتبست أيامًا" عن المجيء له، "فقال: ما حبسك" أي منعك، "قلت: الحمى، قال: أبردها" عنك "بماء زمزم، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء، أو بماء زمزم"، شك همام" "بفتح الهاء وشد الميم" ابن يحيى البصري، راوي الحديث عن أبي جمرة.
"قال ابن القيم: قوله بالماء فيه قولان: أحدهما: أنه كل ماء، وهو الصحيح، والثاني:(9/532)
الصحيح. والثاني: أنه ماء زمزم. ثم قال بعد أن روى حديث أبي جمرة هذا، وراوي هذا قد شك فيه، ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ إذ هو متيسر عندهم، وأمر غيرهم بما عندهم من المياه، انتهى.
وتعقب: بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان عن همام: فأبردوها بماء زمزم ولم يشك، وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم.
قال ابن القيم: واختلف من قال: إنه على عمومه: هل المراد به الصدقة بالماء أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن الذي حمل من قال إن المراد به الصدقة أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمى. ولم يفهم وجهه، مع أن لقوله وجهًا حسنًا وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش عن الظمآن بالماء البارد أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقًا، انتهى.
وقال الخطابي وغيره: اعترض بعض سخفاء الأطباء على هذا الحديث، بأن
__________
أنه ماء زمزم" لحديث: فأبردوها بماء زمزم بدون شك، وبه جزم ابن حبان، فقال: إن شدة الحمى تبرد بماء زمزم دون غيره من المياه، "ثم قال" ابن القيم "بعد أن روى" أي نقل "حديث أبي جمرة هذا، وراوي هذا قد شك فيه" فليس بقيد، "ولو جزم به لكان أمرًا لأهل مكة بماء زمزم؛ لأنه متيسر عندهم، وأمر غيرهم بما عندهم من المياه. انتهى".
"وتعقب بأنه وقع في رواية أحمد عن عفان" "بشد الفاء ونون"، والصرف على أنه من عفن، ومنعه على أنه من عف ابن مسلم بن عبد الله الباهلي، البصري، ثقة، ثبت، "عن همام" بن يحيى المذكور: "فأبردوها بماء: زمزم، ولم يشك".
"وكذا أخرجه النسائي وابن حبان والحاكم" فتعين أنه خطاب لأهل مكة خاصة، أما غيرهم فمطلق الماء.
"قال ابن القيم: واختلف من قال إنه على عمومه" في جميع المياه، "هل المراد به الصدقة بالماء، أو استعماله على قولين، والصحيح أنه استعماله، وأظن الذي حمل من قال" وهو ابن الأنباري: كما نقله عنه الخطابي؛ "أن المراد به الصدقة أنه أشكل عليه استعمال الماء البارد في الحمي، ولم يفهم وجهه" أي وجه استعماله فيها، "مع أن لقوله" المراد الصدقة "وجهًا حسنًا، وهو أن الجزاء من جنس العمل، فكما أخمد لهيب العطش" حرارته "عن الظمآن بالماء البارد، أخمد الله لهيب الحمى عنه جزاء وفاقًا. انتهى".
وهو إن كان حسنًا، لكن رده الحافظ بأن صريح الأحاديث يرده، "وقال الخطابي(9/533)
قال اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام، ويحقن البخار ويعكس الحرارة التي في داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف. وقد غلط بعض من ينسب إلى العمل، فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيئًا لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث.
والجواب: أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب في صدق الخبر، فيقال له أولًا: من أين حملت الأمر على الاغتسال، وليس في الحديث الصحيح بيان الكيفية فضلًا عن اختصاصها بالغسل، وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء، فإن أظهر الوجود أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء أو صبه إياه على جميع بدنه يضره فليس هو المراد، وإنما قصده عليه الصلاة
__________
وغيره" كالمازري بمعناه: "اعترض بعض سخفاء الأطباء" "بسين وخاء معجمة، أي رقيقي العقل ناقصة" "على هذا الحديث بأن قال: اغتسال المحموم بالماء خطر يقربه من الهلاك؛ لأنه يجمع المسام" أي يضم بعض أجزائها إلى بعض، فيسدها "ويحقن البخار، ويعكس الحرارة التي في داخل الجسم، فيكون ذلك سببًا للتلف" الموت، وزعم إجماع الأطباء على ذلك، كما في كلام المازري.
"وقد غلط بعض من ينسب إلى العمل" بالأحاديث، كذا في جميع ما رأينا من نسخ المتن، والذي في الفتح إلى العلم بتقديم اللام، "فانغمس في الماء لما أصابته الحمى، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه، فأصابته علة صعبة كادت تهلكه، فلما خرج من علته قال قولًا سيئًا" قبيحًا "لا يحسن ذكره، وإنما أوقعه في ذلك جهله بمعنى الحديث".
"والجواب أن هذا الإشكال صدر عن صدر مرتاب" أي شاك "في صدق الخبر، فيقال: له: أولًا من أين حملت الأمر على الاغتسال، و" الحال أنه "ليس في الحديث الصحيح يان الكيفية" الصفة، "فضلًا عن اختصاصها بالغسل، فحمله عليه تحرض ونسبة ما لم يقله إليه، "وإنما في الحديث الإرشاد إلى تبريد الحمى بالماء" إشارة إلى أن الأمر إرشادي، "فإن أظهر الوجود، أو اقتضت صناعة الطب أن انغماس كل محموم في الماء، أو صبه إياه على جميع بدنه يضره، فليس هو المراد" لاستحالة أن يأمر بما فيه ضرر.
وفي قوله: كل محموم تنكيت على المرتاب؛ إذ صناعة الطب لا تقتضي ذلك لكل محموم، بل بعض المحمومين ينفعهم، فيحمل الحديث عليه ولا يجعل عامًّا، لكنه قصد إرخاء العنان مع الخصم، "وإنما قصده عليه الصلاة والسلام استعمال الماء على وجه ينفع،(9/534)
والسلام استعمال الماء على وجه ينفع فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به، وهذا كله وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق، وقد ظهر من الحديث الآخر أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية مخصوصة، وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت الصديق رضي الله عنها: فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئًا من الماء بين ثدييه وثوبه، فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها، والصحابي، ولا سيما مثل أسماء التي كانت تلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بالمراد من غيرها.
وقد ذكر أبو نعيم وغيره، من حديث أنس رفعه: "إذا حم أحدكم فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر".
وقال المازري: لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى التفصيل
__________
فليبحث عن ذلك الوجه ليحصل الانتفاع به" ولا يرد الحديث الصحيح بالعقل السخيف، "وهذا كما وقع في أمره العائن بالاغتسال وأطلق".
"وقد ظهر من الحديث الآخر؛ أنه لم يرد مطلق الاغتسال، وإنما أراد الاغتسال على كيفية" أي صفة "مخصوصة" تقدمت، "وأولى ما يحمل عليه كيفية تبريد الحمى بالماء ما صنعته أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما" المروي في الموطأ والصحيحين عن أسماء أنها كانت إذا أتيت بالمرأة قد حمت تدعو لها أخذت الماء فصبته بينها وبين جيبها، قالت: وكان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نبردها بالماء، ففسر معناه بقوله: "فإنها كانت ترش على بدن المحموم شيئًا من الماء بين ثدييه وثوبه" لأن الجيب ملاصق للصدر، "فيكون ذلك من باب النشرة المأذون فيها" وتقدمت: "والصحابي" "مبتدأ خبره مقدر، أي أعلم، وأما أعلم، المذكور في قوله، "ولا سيما مثل أسماء التي كانت ممن يلازم بيت النبي صلى الله عليه وسلم، أعلم بالمراد" "فخبر" مثل لقوله: "من غيرها" بالتأنيث، هكذا قرره شيخنا، وهو أحسن من قوله في الحاشية: أعلم خبر قوله: والصحابي، وأنث في قوله: من غيرها، لكون القصة مع أسماء، فكأنها المراد من الصحابي، وكان الأولى أن يقول من غيره.
"وقد ذكر" أي روى أبو نعيم وغيره" كالطبراني والحاكم بسند قوي "من حديث أنس، رفعه: "إذا حم أحدكم" "بالضم والتشديد" أصابته الحمى، $"فليرش عليه الماء البارد ثلاث ليال من السحر" أي قبيل الصبح، فهذا الحديث المرفوع يؤيد فعل أسماء، فيكون المراد بالإبراد الرش لا الاغتسال، كما فهم المعترض.
"وقال المازري" في الرد عليه: "لا شك أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجًا إلى(9/535)
حتى إن المريض يكون الشيء دواء له في ساعة فيصير داء له في الساعة الأخرى التي تليها لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه مثلًا فيتغير علاجه، ومثل ذلك كثير. فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال. والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدم والتأثير المألوف، وقوة الطباع. ويحتمل أن يكون هذا في وقت مخصوص فيكون من الخواص التي أطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب.
وجعل ابن القيم خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاصًّا لأهل الحجاز وما والأهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة عن شدة حرارة الشمس. قال: وهذا ينفعها الماء البارد شربًا واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم في العروق
__________
التفصيل" أي التبيين، "حتى إن المرض يكون الشيء دواء في ساعة، فيصير داء له في الساعة الأخرى التي تليها، لعارض يعرض له من غضب يحمي مزاجه، مثلًا: فيتغير علاجه" ولذا قيل: الطب وقتي، وأن من تسامح المعالج قوله: يستعمل الدواء الفلاني في اليوم الآتي، "ومثل ذلك كثير، فإذا فرض وجود الشفاء لشخص بشيء في حالة ما لم يلزم منه وجود الشفاء به له أو لغيره في سائر الأحوال، والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن" للمريض "والزمان" الواقع فيه المرض "والعادة والغذاء المتقدم، والتأثير المألوف وقوة الطباع".
وفي كلام المازري: وأيضًا فالأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها؛ بأن يسقى الماء الشديد البرد. نعم، ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والغسل على ما قالوه، أو قريب منه.
"ويحتمل أن يكون هذا في وقت مخصوص، فيكون من الخواص التي اطلع عليها النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، ويضمحل عند ذلك جميع كلام أهل الطب" لأنه معجز خارج عن قواعدهم.
"وجعل ابن القيم خطابه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث" بقوله: فأبردوها بالماء، أو فأطفئوها بالماء، "خاصًّا لأهل الحجاز وما والأهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية، الحادثة عن شدة حرارة الشمس. قال: وهذا ينفعها الماء البارد شربًا واغتسالًا؛ لأن الحمى حرارة غريبة تشتعل في القلب، وتنتشر منه بتوسط الروح والدم(9/536)
إلى جميع البدن وهي قسمان: عرضية وهي الحادثة عن ورم أو حركة أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ الشديد ونحو ذلك، ومرضية وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإذا كان مبدأ تعلقها بالروح فهي حمى يوم، لا تقلع غالبًا في يوم ونهايتها إلى ثلاث، وإن كان تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دق، وهي أخطرها. وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة: صفراوية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الأفراد والتركيب.
وإذا تقرر هذا فيجوز أن يكون المراد النوع الأول. فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج وغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر.
وقد قال جالينوس: لو أن شابًّا خشن اللحم خصب البدن ليس في أحشائه ورم واستحم بماء بارد أو سبح فيه وقت القيظ عند منتهى الحمى لانتفع بذلك.
__________
في العروق إلى جميع البدن" وحاصله أنه ينفع لبعض الحميات دون بعضها، فيحمل عليه الحديث وهو وجيه، "وهي" أي الحمى "قسمان".
"عرضية، وهي الحادثة عن ورم، أو حركة، أو إصابة حرارة الشمس، أو القيظ" الحر "الشديد" وإن كان في ظل "ونحو ذلك".
"ومرضية، وهي ثلاثة أنواع، وتكون عن مادة، ثم منها ما يسخن جميع البدن، فإذا كان مبدأ تعلقها بالروح، فهي حمى يوم لا تقلع غالبًا في يوم" صوابه كما في الفتح؛ لأنها تقلع، ومثله للمصنف في الشرح، وهو واضح؛ لأن على ما هنا كان اللائق تسميتها حمى يومين، "ونهايتها إلى ثلاث، وإن كانت تعلقها بالأعضاء الأصلية، فهي حمى دق، وهي أخطرها" أشدها في الخطر بمعجمة فمهملة، أي الهلاك، "وإن كان تعلقها بالأخلاط سميت عفنية، وهي بعدد الأخلاط الأربعة: أعني صفرواية، سوداوية، بلغمية، دموية، وتحت هذه الأنواع المذكورة أصناف كثيرة بسبب الإفراد والتركيب. ا. هـ".
"وإذا تقرر هذا، فيجوز أن يكون المراد النوع الأول" أي الصفراوية، "فإنها تسكن بالانغماس في الماء البارد، وشرب الماء المبرد بالثلج" بمثلثة وجيم "وبغيره، ولا يحتاج إلى علاج آخر".
"وقد قال جالينوس" في كتابه حيلة البرء، حكيم مشهورة، عاش سبعًا وثمانين سنة، منها ستين سنة مداومًا على معرفة صناعة الطب وعلامات الدواء، "لو أن شابًّا خشن اللحم خصب البدن" ناميه، "ليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد" صبه عليه، "أو سبح" عام "فيه وقت(9/537)
وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته، كما في الحديث: "صبوا علي من ماء سبع قرب لم تحلل أوكيتهن" وفي المسند وغيره من حديث الحسن عن سيرة يرفعه "الحمى قطعة من النار فأبردوها عنكم بالماء البارد". وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حم دعا بقربة من ماء فأفرغها على رأسه فاغتسل، وصححه الحاكم، ولكن قال: في إسناده راو ضعيف.
وعن أنس يرفعه: "إذا حم أحدكم فليسن على رأسه من الماء البارد من السحر ثلاث ليال". رواه الطحاوي وأبو نعيم في الطب.
__________
القيظ" شدة الحر "عند منتهى الحمى، لانتفع بذلك" لإذهابه آثار العفونة.
"وقد تكرر في الحديث استعماله صلى الله عليه وسلم الماء البارد في علته" أي مرض موته، "كما في الحديث: "صبوا" لفظ الصحيح هريقوا، ومعناه صبوا "علي من ماء سبع قرب لم تحلل" "بضم الفوقية وسكون المهملة وفتح اللام الأولى" "أوكيتهن" جمع وكاء، الخبط الذي يربط به ربة، وحكمة السبع؛ أن له خاصية في دفع ضرر السم، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هذا أوان انقطاع أمري من ذلك السم"، يريد سم الشاة التي أكل منها بخيبر.
"وفي المسند" للإمام أحمد "وغيره، من حديث الحسن" البصري، "عن سيرة" بن جندب، "يرفعه: "الحمى قطعة من النار" أي نار جهنم، جعلها الله في الدنيا، "فأبردوها عنكم بالماء البارد"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا حم" "بالضم والتشديد" "دعا بقربة من ماء، فأفرغها على رأسه، فاغتسل وصححه الحاكم".
"ولكن قال" غيره "في إسناده: راو ضعيف" فسقط من قلم المصنف فاعل، قال: إذ كون الحاكم يصححه، ويقول في إسناده ضعيف من المحال: فدع عنك ما يقول في العقل من الاحتمال، "وعن أنس يرفعه: "إذا حم أحدكم" أي أصابته الحمى، "فليسن" "بضم السين المهملة وشد النون"، وروي "بشين معجمة"، وترجى الضياء المقدسي أنه تصحيف، وليس كما قال: ففي النهاية: الشن بالمعجمة الصب المتقطع، وبالمهملة الصب المتصل، وهذا يؤيد رواية الإعجام، إذ المعنى: فليرش "على رأسه من الماء البارد" رشا متفرقًا، ويؤيده أن ذا الحديث بعينه ورد بلفظ: فيرش كما مر قريبًا جدًّا، وأيد أيضًا بما تقدم أن أسماء كانت ترش على بدن المحموم.
وقال العسكري: بمهملة، ويقال: بمعجمة "من السحر" أي قبيل الصبح "ثلاث ليال" فإنه نافع في الصيف، في القطر الحار في الحمى العرضية، أو الغب الخالصة، الخالية عن الورم والعتق والأعراض الردية والمواد الفاسدة، فتطفئها بإذن الله تعالى إذا كان فاعل ذلك من أهل(9/538)
وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن المرقع، رفعه: "الحمى رائد الموت، وهي سجن الله في الأرض، فبردوا لها الماء في الشنان وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء". قال: ففعلوا فذهب عنهم الحمى.
وقد أخرج الترمذي من حديث ثوبان مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم الحمى وهي قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء، يستنقع في نهر جار، ويستقبل جريته،
__________
الصدق واليقين.
"رواه الطحاوي وأبو نعيم في الطب" النبوي، والنسائي وأبو يعلى والطبراني والحاكم، وقال: على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وقال الحافظ: سنده قوي، وقال شيخه الهيثمي: رجاله ثقات.
"وأخرج الطبراني من حديث عبد الرحمن بن المرقع" "بضم الميم وفتح الراء وكسر القاف المشددة وعين مهملة" السلمي، صحابي سكن مكة وشهد فتح خيبر، "رفعه: "الحمى رائد الموت" أي رسوله الذي يتقدمه، كما يتقدم الرائد قومه، فهي مشعرة بقدومه، فليستعد صاحبها له بالمبادرة إلى التوبة والخروج من المظالم، والاستغفار والصبر وإعداد الزاد، ولا ينافيه عدم استلزام كل حمى للموت؛ لأن الأمراض كلها من حيث هي مقدمات للموت ومنذرات به، وإن أفضت إلى سلامة جعلها الله تذكرة لابن آدم يتذكر بها الموت.
وقد روى أبو نعيم عن مجاهد: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده، حتى إذا كان آخر مرض يمرضه، أتاه ملك الموت، فقال: أتاك رسول بعد رسول، فلم تعبأ به، وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا، "وهي سجن الله في الأرض" للمؤمن، حبس بها عبده إذا شاء، ففتروها بالماء، هكذا زاد البيهقي وغيره من مرسل الحسن البصري، رفعه: وهو تفسير من المصطفى ولا عطر بعد عروس، "فبردوا لها الماء في الشنان" "بكسر المعجمة" جمع شن بفتحها القربة البالية، "وصبوه عليكم فيما بين الأذانين المغرب والعشاء"، قال: ففعلوا، فذهب عنهم الحمى" وهذا الحديث رواه ابن السني وأبو نعيم في الطب، والديلمي والقضاعي من حديث أنس، ورواه العسكري، وزاد بيان السبب عن أنس، قال: لما افتتح صلى الله عليه وسلم خيبر وكانت مخضرة من الفواكه، وقع الناس فيها، فأخذتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أيها الناس الحمى رائد الموت"، فذكر.
"وقد أخرج التمذي من حديث ثوبان" الهاشمي، مولى النبي صلى الله عليه وسلم، صحبه ولازمه، ونزل بعده الشام، مات بحمص سنة أربع وخمسين، "مرفوعًا: "إذا أصاب أحدكم الحمى، وهي قطعة من النار" حقيقة أو مجازًا، "فليطفئها عنه بالماء" لأن الماء يطفئ النار، واستأنف بيانيًّا في(9/539)
وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك، وصدق رسولك، بعد صلاة الصبح وقبل طلوع الشمس، ولينغمس فيه ثلاث غمسات، ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ فخمس، وإلا فسبع، وإلا فتسع، فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله". قال الترمذي: غريب، وفي سنده سعيد بن زرعة مختلف فيه.
__________
جواب سؤال مقدر: ما معنى الإطفاء؟، فقال: "يستنقع في نهر جار، ويستقبل جريته، وليقل: بسم الله، اللهم اشف عبدك" لم يقل اشفني؛ لأن المقام مقام استعطاف وتذلل، ولا وصف أصدق من وصف العبودية، "وصدق رسولك" فيما أخبر أنه شفاء من الحمى "بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس" ظرف لقوله: يستنقع، "ولينغمس فيه ثلاث غمسات ثلاثة أيام، فإن لم يبرأ، فخمس" ينغمس فيها، فخمس خبره محذوف، "وإلا فسبع، وإلا فتسع" من الأيام، "فإنها لا تكاد تجاوز تسعًا بإذن الله" وهذا يحتمل أن يكون لبعض الحميات دون بعض، ويحتمل أنه خارج عن قواعد الطب، داخل في قسم المعجزات الخارق للعادة، ألا ترى كيف قال فيه صدق رسولك، وبإذن الله، وقد شوهد وجرب، فوجد كما نطق به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، قاله الطيبي، وقال الزين العراقي: عملت بهذا الحديث، فانغمست في بحر النيل، فبرئت منها، قال ولده: ولم يحم بعدها. ولا في مرض موته.
"قال الترمذي" حديث "غريب، وفي سنده سعيد" "بكسر العين" "ابن زرعة" الحمصي، الجرار "بجيم ومهملتين" الخزاف "بمعجمة وزاي"، من أواسط التابعين، "مختلف فيه" أي في تضعيفه وتوثيقه، وفي التقريب أنه مستور.(9/540)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحكة وما يولد القمل} :
لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة رخص صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما في البخاري عن قتادة أن أنسًا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحكة وما يولد القمل:
الحكة: "بكسر الحاء" نوع من الجرب، ولم يذكر ما يتولد منه القمل، فلعله أراد أن سبب الترخيص في الحزير أنه يمنع ما يولد القمل، "لما كانت الحكة لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، رخص صلى الله عليه وسلم" أي أباح "للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما، كما في البخاري" في الجهاد واللباس ومسلم في اللباس من طريق سعيد، "عن قتادة" بن دعامة: "أن أنسًا حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف"(9/540)
والزبير بن العوام في قميص من حرير من حكة كانت بهما.
وفي رواية أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -يعني القمل- فأرخص لهما في لبس الحرير، قال فرأيته عليهما في غزاة.
وفي رواية رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في الحرير.
وفي رواية رخص، أو رخص لحكة كانت بهما.
__________
القرشي، الزهري، "والزبير بن العوام في" لبس "قميص من حرير من" أجل "حكة كانت بهما" ومن خصائصه صلى الله عليه وسلم أن له أن يخص من شاء بما شاء، والحديث ظاهر في تخصيصهما بذلك.
وفي رواية لمسلم: في القميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما، أو وجع كان بهما، "وفي رواية" للبخاري من طريق همام، عن قتادة، عن أنس "أن عبد الرحمن بن عوف، والزبير شكيا" "بالياء" وفي رواية: شكوا "بالواو" وصوبها ابن التين؛ لأن لام الفعل واو، كقوله تعالى: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189] ، وأجيب بأن في الصحاح يقال: شكيت وشكوت "إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يعني القمل" لم يتعرض الحافظ، ولا المصنف لبيان فاعل، يعني: "فأرخص" "بفتح الهمزة وإسكان الراء"، "لهما في لبس الحرير، قال" أنس: "فرأيته عليهما في غزاة" ظاهرة أن لبسهما له إنما هو لأجل القمل، وصادف بقاؤه عليهما إلى وجود الغزواة؛ لكن ترجم عليه البخاري في الجهاد باب الحرير في الحرب، وتبعه الترمذي، فترجم عليه ما جاء في لبس الحرير في الحرب، أخذًا من قوله في غزاة، وجعل الطبري جوازه في الغزو، ومستنبطًا من جوازه للحكة، فقال: دلت الرخصة في لبسه بسبب الحكة؛ أن من قصد بلبسه ما هو أعظم من أذى الحكة، كدفع سلاح العدو ونحو ذلك، أنه يجوز.
"وفي رواية" للبخاري أيضًا، من طريق يحيى القطان: أخبرنا شعبة، عن قتادة، عن أس: "رخص النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام في" لبس "الحرير"، ولم يذكر في هذه الرواية العلة والسبب، فهو محمول على السابقة، وظاهر الروايات أنه لا فرق بين أبيض وغيره، ووقع عند أبي نعيم في الطب، عن عبد الرحمن أنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص له في لبس قميص من حرير أبيض.
"وفي رواية" للبخاري أيضًا، من طريق غندر، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس: "رخص" "بفتح الراء والخاء مبنيًّا للفاعل"، "أو رخص" "بضم الراء وكسر الخاء مبنيًّا للمفعول"، والشك من الراوي.
وقد أخرجه أحمد عن غندر، بلفظ: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللبخاري في اللباس من(9/541)
ويحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين، أو أن الحكة حصلت من القمل فنسبت العلة تارة إلى السبب وتارة إلى المسبب.
قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه: أنه يجوز لبس الحرير للرجل إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكان للقمل وما في بمعنى ذلك. وقال مالك: لا يجوز، وهذا الحديث حجة عليه، انتهى.
وتعقب قوله: "لما فيه من البرودة" بأن الحرير حار.
__________
طريق وكيع، عن شعبة: رخص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير "لحكة كانت بهما" وقد رجع ابن التين الرواية التي فيها الحكة على الرواية التي فيها، يعني القمل، وقال: لعل أحد الرواة تأوله فأخطأ، "و" جمع الداودي، فقال: "يحتمل أن تكون إحدى العلتين بأحد الرجلين" زاد الحافظ: "أو أن الحكة حصلت من القمل، فنسبت العلة إلى السبب، وتارة إلى المسبب" ولفظ الحافظ: وتارة إلى سبب السبب.
"قال النووي: هذا الحديث صريح في الدلالة لمذهب الشافعي وموافقيه" كأبي يوسف؛ "أنه يجوز لبس الحرير" للرجل للضرورة، كما "إذا كانت به حكة لما فيه من البرودة، وكذا للقمل، وما في معنى ذلك" كدفع الحر والبرد، ثم المشهور عند القائل بالجواز أنه لا يختص للسفر.
وقال بعض الشافعية: يختص لورود الرخصة فيه، والمقيم يمكنه التداوي.
وحكى ابن حبيب عن ابن الماجشون أنه يستحب في الحرب، قال المهلب: لإرهاب العدو مثل الرخصة في الاختيال فيه، "وقال مالك" وأبو حنيفة: "لا يجوز" لبسه للرجل مطلقًا "وهذا الحديث حجة عليه. انتهى".
ولا حجة فيه؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، فتحتمل التخصيص، وهو المتبادر من قول أنس: رخص للزبير وعبد الرحمن، أي لا لغيرهما، وبه قال جماعة؛ لأن له أن يخص من شاء بما شاء، كترخيصه في النياحة لأم عطية، ولأبي بردة في التضحية بعناق من معز، وقال القرطبي: الحديث حجة على من منع إلا أن يدعي الخصوصية بالزبير وعبد الرحمن، ولا تصح تلك الدعوى، وتعقبه الحافظ بأن عمر جنح إلى ذلك، فروى ابن عساكر، عن ابن سيرين أن عمر رأى على خالد بن الوليد قميص حرير، فقال: ما هذا، فذكر له خالد قصة عبد الرحمن، فقال: وأنت مثل عبد الرحمن أو لك مثل ما لعبد الرحمن، ثم أمر من حضره فمزقوه، رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا.
"وتعقب قوله لما فيه من البرودة؛ بأن الحرير حار" بالمشاهدة، "والصواب أن(9/542)
والصواب: أن الحكمة فيه إنما هي لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل.
وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه ملبوس كان معتدل الحرارة في مزاجه، مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسميته إياه.
وقال الرازي: الأبريسم أسخن من الكتان وأبرد من القطن، ويربي اللحم، وكل لباس خشن فإنه يهزل ويصلب البشرة، فملابس الأوبار والأصواف تسخن وتدفئ وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن، فثياب الكتاب باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير لبس فيها من اليبس والخشونة كغيرها صارت نافعة من الحكة؛ لأن الحكة -كما قدمته- لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص عليه الصلاة والسلام لهما في لباس الحرير لمداواة الحكة.
__________
الحكمة فيه إنما هي لخاصية فيه تدفع الحكة والقمل" ويمكن الجواب عنه؛ بأنه لم يدع أنه بارد، وإنما قال: لما فيه من البرودة، وذلك لا يمنع أنه مشتمل على كل منهما، إلا أن الحرارة أغلب، لكن هذا عقلي، والحرارة والبرودة لا يجتمعان في لباس ولا مأكول، إنما يقال حار رطب، أو حار يابس، وكذا يقال في بارد، أما حار بارد فلا يجتمعان في شيء واحد.
"وقال ابن القيم: وإذا اتخذ منه" أي الحرير "ملبوس كان معتدل الحرارة" لأنه حار رطب "في مزاجه" أي طبعه "مسخنًا للبدن، وربما برد البدن بتسمين إياه" أي أحدث فيه البرد بسبب التسمين، فلذا وصفه للحكة.
"وقال الرازي: الأبريسم" "بفتح السين وضمها" الحرير، أو معرب كما في القاموس، وفي المصباح: معرب، وفيه لغات كسر الهمزة والراء والسين، وابن السكيت يمنعها، ويقول: ليس في الكلام افعيلل "بكسر اللام"، بل بالفتح مثل اهليلج واطريفل، والثانية فتح الثلاثة، والثالثة كسر الهمزة وفتح الراء والسين، "أسخن من الكتان، وأبرد من القطن، ويربى" "بموحدة بعد الراء، أي يزيد "اللحم" أي يسمنه، "وكل لباس خشن، فإنه يهزل" "بضم الياء وكسر الزاي"، "ويصلب" "بضم الياء وكسر اللام المشددة وموحدة" أي ييبس "البشرة" ويجففها، "فملابس الأوبار" "بموحدة" جمع وبر للبعير، كالصوف للغنم، أي المتخذة منها، "والأصواف" المتخذة من صوف الغنم "تسخن وتدفئ" البدن لحرارتها ويبسها، "وملابس الكتان والحرير والقطن تدفئ ولا تسخن" لأنه لا يبس فيها، فثياب الكتاب باردة يابسة، وثياب الصوف حارة يابسة، وثياب القطن معتدلة الحرارة، وثياب الحرير ألين من ثياب القطن، وأقل حرارة منه، ولما كانت ثياب الحرير ليس فيها شيء من اليبس والخشونة، كغيرها صارت نافعة من الحكة لأن الحكة كما قدمته لا تكون إلا عن حرارة ويبس وخشونة، فلذلك رخص عليه الصلاة والسلام لهما في لباس الحرير لمداواة الحكة" لكونها معتدلة الحرارة وخلوها من اليبس والخشونة.(9/543)
[ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر] :
تقدم في غزوتها قصة اليهودية التي أهدت إليه الشاة المسمومة، وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن امرأة يهودية أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية بخيبر، فقال: "ما هذه"؟ فقالت: هدية، وحذرت أن تقول من الصدقة فلا يأكل. فأكل النبي صلى الله عليه وسلم وأكل أصحابه، ثم قال: "أمسكوا"،
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر:
السم معروف، ويثلث، والجمع سموم وسمام، قاله القاموس، والأكثر فتح سينه، "تقدم في غزوتها" أي خيبر "قصة اليهودية" وهي زينب بنة الحارث، كما سماها ابن إسحاق وموسى بن عقبة، "التي أهدت إليه الشاة المسمومة" مبسوطة، وأنها أسلمت، كما قال الزهري وسليمان التيمي.
"وقد روى عبد الرزاق" بن همام بن نافع الحميري، مولاهم أبو بكر الصنعاني، ثقة، حافظ، له تصانيف، مات سنة إحدى عشرة ومائتين، وله خمس وثمانون سنة، "عن معمر" بن راشد الأزدي، مولاهم البصري، نزيل اليمن، ثقة، ثبت، فاضل، مات سنة أربع وخمسين ومائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب أحد الأعلام، "عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك" الأنصاري، المدني، ثقة، من كبار التابعين، ويقال: ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في خلافة سليمان؛ "أن امرأة يهودية" هي زينب.
وفي أبي داود أنها أخت مرحب اليهودي، وبه جزم السهيلي، وعند البيهقي أنها بنت أخي مرحب، "أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة"، أي عنزا، كما في رواية "مصلية" بفتح الميم وسكون الصاد"، أي مشوية "بخيبر" بعدما افتتحها، وبنى بصفية، "فقال: "ما هذه"؟ فقالت: هدية وحذرت" "بفتح الحاء وكسر الذال المعجمة، أي خافت" ويجوز ضم الحاء وشد الذال، أي خوفت "أن تقول من الصدقة، فلا يأكل،" وهو خلاف ما أرادته، "فأكل النبي صلى الله عليه وسلم" أي مضغ منها مضغة على ما عند ابن إسحاق، ثم لفظها أو ابتلعها على ما عند غيره، وجمع بينهما بأنه(9/544)
ثم قال للمرأة: "هل سميت هذه الشاة"؟ قالت: من أخبرك؟ قال: "هذا العظم"، لساقها، وهو في يده، قالت: نعم، قال: "لِم"؟ قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك والناس، وإن كنت نبيا لم يضرك. قال: فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا على كاهله.
وقد ذكروا في علاج السم أن يكون بالاستفراغات والأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله، إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء فليبادر إلى الدواء
__________
ابتلع ما انفصل منها بريقه دون اللحمة، "وأكل أصحابه" الذين كانوا معه حينئذ، وكانوا ثلاثة على ما روى، وسمي منهم بشر بن البراء، "ثم قال: "أمسكوا" أي كفوا عن الأكل، فإنها مسمومة.
وفي رواية: ارفعوا أيديكم، "ثم قال للمرأة: "هل سميت هذه الشاة"؟ قالت: من أخبرك؟ قال: "هذا العظم" لساقها" ما بين الركبة والقدم مؤنثة، "وهو" أي العظم "في يده" وهذا مخالف لرواية أبي داود عن جابر, والبيهقي عن أبي هريرة، قال: "أخبرتني هذه في يدي" للذراع، والجواب أن المراد بالساق هنا الذراع؛ لأن الشاة لما كانت تمشي على أربع أطلق على ذراعها اسم الساق، وقد جاء عند ابن إسحاق وغيره؛ لأنها سألت، أي عضو من الشاة أحب إليه، قيل: الذراع، فأكثرت فيها من السم، ثم سمت باقي الشاة، ثم جاءت بها، وتناول صلى الله عليه وسلم الذراع، فانتهش منها، فلما ازدرد لقمته، قال: "ارفعوا أيديكم، فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة"، "قالت: نعم، قال: "لِمَ"؟ وفي رواية "ما حملك على ذلك"؟ "قالت: أردت إن كنت كاذبا أن نستريح منك" نحن "والناس، وإن كنت نبيًّا لم يضرك".
وعند ابن سعد، قالت: قتلت أبي وزوجي وعمي وأخي، ونلت من قومي، فقلت: إن كان نبيا، فسيخبره الذراع، وإن كان ملكا استرحنا منه. وتقدم عن صحيح البخاري أنه جمع اليهود، فقال: "هل جعلتم في هذه الشاة سما"، قالوا: نعم، قال: "ما حملكم على ذلك"؟، قالوا: أردنا إن كنت كاذبا أن نستريح منك، وإن كنت نبيا لم يضرك، ونسب الجعل لهم؛ لأنهم لما علموا به حين شاورتهم، وأجمعوا لها على سم معين، كأنهم جعلوه، ولذا قالوا: نعم، وكأنه جمعهم وسألهم بعدما سألها، فأجابوه بمثل ما أجابته به.
"قال: فاحتجم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة على كاهله" أي بين كتفيه، كما في رواية: حجمه أبو هند، أو أبو طيبة بالقرن والشفرة، ويحتمل أنهما جميعا حجماه، فقد روي أنه احتجم بين كتفيه في ثلاثة مواضع.
"وقد ذكروا في علاج السم أن يكون بالاستفراغات والأدوية التي تعارض فعل السم وتبطله" تزيله تفسير للمعارضة، "إما بكيفياتها وإما بخواصها، فمن عدم الدواء" الذي نص(9/545)
الكلي، وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا والزمان حارا، فإن القوة السمية تسري في الدم، فتبعثه في العروق والمجاري، حتى تصل إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن كان استفراغا تاما لم يضره السم، بل إما أن يذهب، وإما أن يضعف فتقوى عليه الطبيعة فتبطل فعله، أو تضعفه.
ولما احتجم صلى الله عليه وسلم احتجم على الكاهل؛ لأنه أقرب إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليا بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله تعالى من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة زاده الله فضلا وشرفا.
__________
الأطباء على إبطاله فعل السم بأن لم يجده أصلا، أو عدم إفادته بعد استعماله، "فليبادر إلى الدواء الكلي" أي الذي يعم السم وغيره، كإخراج الدم، فله دخل في علاج جميع الأمراض، "وأنفعه الحجامة، ولا سيما إذا كان البلد حارا" كالحجاز، "والزمان حارا" كالصيف، "فإن القوة السمية تسري في الدم فتبعثه" أي تدخله "في العروق والمجاري" المواضع التي يسري منها الدم إلى العروق، "حتى تصل" القوة السمية "إلى القلب والأعضاء، فإذا بادر المسموم وأخرج الدم، خرجت معه تلك الكيفية السمية التي خالطته، فإن كان استفراغا تاما" بأن خرج مع الدم السم، وأثره بتمامه، "لم يضره السم، بل إما أن يذهب" رأسا، "وإما أن يضعف، فتقوى عليه الطبيعة، فتبطل فعله أو تضعفه، ولما احتجم صلى الله عليه وسلم احتجم على الكاهل؛ لأنه أقرب إلى القلب" فيه إفادة أنه احتجم في مقدم أعلى الظهر الذي يلي العنق، فيكون هو المراد برواية بين كتفيه، "فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجا كليا، بل بقي أثرها مع ضعفه" أي الأثر "لما يريد الله من تكميل مراتب الفضل كلها له بالشهادة، زاده الله فضلا وشرفا" وذلك لا ينافي أنه أقر قول اليهود: وإن كنت نبيا لم يضرك؛ لأن المراد الضرر على الوجه المعتاد في السم، ويدل لبقاء الأثر قول عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه الذي مات فيه: "يا عائشة ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السم"، رواه البخاري تعليقا، ووصله البزار والحاكم والإسماعيلي.(9/546)
فهرس الجزء التاسع: من شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني
الفهرس
...
فهرس الجزء الناسع: من شرح العلامة الزرقاني على المواهب اللدنية للقسطلاني
الفهرس:
3 النوع العاشر في إزالة الشبهات عن آيات وردت في حقه
58 المقصد السابع في وجوب محبته واتباع سنته والاهتداء بهديه
59 الفصل الأول في وجوب محبته واتباع سنته
159 الفصل الثاني في حكم الصلاة عليه والتسليم فريضة وسنية
239 الفصل الثالث في ذكر أخبار دالة على محبة أصحابه عليه الصلاة والسلام
329 المقصد الثامن في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات
332 الفصل الأول في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات
366 النوع الأول في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الإلهية
405 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الفزع والأرق المانع من النوم
406 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من مر المصيبة ببرد الرجوع إلى الله تعالى
409 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الهم والكرب بدواء التوجه إلى الرب
427 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الفقر
428 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء الحريق
431 ذكر ما كان عليه الصلاة والسلام يطب به من داء الصرع
434 ذكر دوائه صلى الله عليه وسلم من داء السحر
453 ذكر رقية تنفع لكل شكوى
454 رقيته صلى الله عليه وسلم من الصداع
455 رقيته صلى الله عليه وسلم من وجع الضرس
456 رقية لعسر البول
457 رقية الحمى
464 ذكر ما يقي من كل بلاء
465 ذكر ما يستجلب به المعافاة من سبعين بلاء
467 ذكر دواء داء الطعام
469 النوع الثاني في طبه صلى الله عليه وسلم بالأدوية الطبيعية
474 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للرمد(9/549)
481 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من العذرة
486 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء استطلاق البطن
494 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من يبس الطبيعة
498 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم للمفئود
501 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم لداء ذات الجنب
505 الاستسقاء
511 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من داء عرق النسا
512 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم في الورم
513 ذكر طبه عليه الصلاة والسلام بقطع العروق والكي جميعا
517 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الطاعون
528 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السلعة
529 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الحمى
540 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من الجنة وما يولد القمل
544 ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من السم الذي أصابه بخيبر(9/550)
المجلد العاشر
تابع المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات
تابع الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات
...
بسم الله الرحمن الرحيم
تابع المقصد الثامن: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات وتعبيره الرؤيا وإنبائه بالأنباء المغيبات
تابع الفصل الأول: في طبه صلى الله عليه وسلم لذوي الأمراض والعاهات
النوع الثالث: في طبه عليه الصلاة والسلام بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية:
"ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من القرحة والجرح وكل شكوى":
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: "بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا، يشفى سقيمنا".
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: "بسم الله تربة أرضنا، وريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا". رواه البخاري.
وفي رواية مسلم: كان إذا اشتكى الإنسان، أو كانت به قرحة أو جرح قال بإصبعه هكذا، ووضع سفيان سبابته بالأرض، الحديث.
__________
"النوع الثالث":
"في طبه عليه الصلاة والسلام بالأدوية المركبة من الإلهية والطبيعية: ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من القرحة والجرح وكل شكوى" أي مرض، "عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض" بأي مرض كان: "بسم الله" هذه "تربة أرضنا" المدينة خاصة لبركتها، أو كل أرض "وريقة" بالواو, وفي رواية أبي ذر للبخاري ولغيره: بريقة "بالباء متعلقة بمحذوف خبر ثان" "بعضنا يشفى سقيمنا".
زاد في رواية: غير أبي ذر بإذن ربنا، "وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية" للمريض "بسم الله، تربة أرضنا، وريقة بعضنا".
قال المجد: الريق بالكسر: الرضاب، وماء الفم والريقة أخص جمعه أرياق، "يشفى سقيمنا بإذن ربنا" رواه", أي المذكور من الرواتين "البخاري" في الطب، الأولى عن شيخه ابن المديني، عن ابن عيينة، عن عبد ربه بن سعيد, عن عمر، عن عائشة، والثانية عن شيخه صدقة بن الفضل، عن ابن عيينة بإسناده المذكور.
"وفي رواية مسلم" عن شيخه ابن أبي عمر، عن سفيان عن عبد ربه، عن عمرة، عن عائشة: "كان إذا اشتكى الإنسان" ذكرا أو أنثى، "أو كانت به قرحة" واحدة القروح، "أو جرح، قال: بإصبعه" في موضع الحال من فاعل، قال: "هكذا، ووضع سفيان" بن عيينة راوي الحديث مبينا معنى الإشارة، بقوله: هكذا "سبابته بالأرض ... الحديث" بقيته، ثم رفعها قال: "بسم الله"،(10/3)
وقوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف، أي هذه تربة أرضنا.
وقوله: "يشفى سقيمنا" ضبط بوجهين، بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع، وبفتح أوله على أن الفاعل مقدر، وسقيمنا بالنصب على المفعولية.
قال النووي: معنى الحديث: أنه أخذ من ريق نفسه، على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فعلق بها شيء منه، ثم مسح به الموضع العليل أو الجرح قائلا الكلام المذكور في حالة المسح.
وقال القرطبي: زعم بعض علمائنا أن السر في أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي فيه الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه، مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها. وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع.
__________
فذكره، إلا أنه ما كان ينبغي للمصنف حذف قوله: ثم رفعها، لأنه من تتمة ما بين سفيان بفعله معنى الإشارة، ولذا أتى الحافظ به، وقوله: "تربة أرضنا" خبر مبتدأ محذوف، أي هذه تربة أرضنا، وقوله: "يشفى سقيمنا ضبط"، "أي روي "بوجهين بضم أوله على البناء للمجهول، وسقيمنا بالرفع" نائب الفاعل، ويقدر فيه: بهما يشفى سقيمنا، "وبفتح أوله" وكسر الفاء، "على أن الفاعل مقدر" أي ضمير مستتر يعود على ما ذكر من التربة والريقة، "وسقيمنا بالنصب على المفعولية" وعزاها المصنف لرواية أبي ذر عن الكشميهني، وصدر بالأولى، فهي رواية الأكثر.
"قال النووي: معنى الحديث أنه أخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب، فعلق" "بكسر اللام" لصق "بها شيء منه" أي التراب، "ثم مسح به الموضع العليل، أو الجرح" حالة كونه، "قائلا الكلام المذكور في حالة المسح"، فجمع بين الطب الإلهي والطبيعي، وفي الفتح قوله: "ريقة بعضنا" يدل على أنه كان يتفل عند الرقية.
"وقال القرطبي" أبو العباس في شرح مسلم: "زعم بعض علمائنا" يعني المازري: "أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرئ الموضع الذي فيه الألم، ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها" عبارة القرطبي: وإدمالها، واختصاص بعض الأرض بتحليل الأوجاع والأورام، هكذا في كلام المازري.
"وقال في الريق: إنه يختص بالتحليل والإنضاج وإبراء الجرح والورم، ولا سيما من الصائم والجائع", وإن لم يكن صائما لبعد عهده بالأكل والشرب، وذلك بانفراده في الأجسام(10/4)
وتعقبه القرطبي: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق، وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله صلى الله عليه وسلم وأما وضع الأصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة.
وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج ودفع الضرر، فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن يستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها، حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه ليأمن مضرة ذلك، ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.
وقال التوربشتي: كأن المراد بالتربة الإشارة إلى النطفة، كأنه تضرع بلسان
__________
الرخصة، وأما في القوية، فقد يضاف إليها في علاج الأورام الحطة الممضوغة وأشباهه من المحللات المنضجات، وخص ذلك بعضهم بأرض المدينة تبركا بتربتها لفضلها، والصواب ما ذكرناه، هذا كله كلام المازري.
"وتعقبه القرطبي: بأن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته، وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يعلق" بفتح اللام، أي يلصق "بها ما ليس له بال ولا أثر، وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله صلى الله عليه وسلم, وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك، أو لحكمة إخفاء" إضافة بيانية، أي هي إخفاء "آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة".
"وقال البيضاوي" في شرح المصابيح: "قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلا في النضج وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج" الطبع الذي يتألف منه الجسد "ودفع الضرر" عنه، "فقد ذكروا أنه ينبغي للمسافر أن ستصحب تراب أرضه إن عجز عن استصحاب مائها" لبعد المسافة، "حتى إذا ورد المياه المختلفة جعل شيئا منه في سقائه" إنائه الذي يجعل فيه الماء "ليأمن من مضرة ذلك" الماء المختلف، "ثم إن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد" أي تقتصر "العقول عن الوصول إلى كنهها، "أي حقيقتها.
"وقال التوربشتي" شارح المصابيح -بضم الفوقية ثم واو ساكنة ثم راء مكسورة ثم(10/5)
الحال: إنك اخترعت الأصل الأول من التراب ثم أبدعته من ماء مهين، فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته.
وقال النووي: قيل المراد "بأرضنا" أرض المدينة لبركتها، و"بعضنا" ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا بريقه وفيه نظر.
وفي حديث عائشة عند أبي داود والنسائي: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس وهو مريض، فقال: "اكشف الباس رب الناس"، ثم أخذ ترابا من بطحان فجعله في قدح ثم نفث عليه، ثم صبه عليه، قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقي.
__________
موحدة مكسورة ثم شين معجمة ساكنة ثم فوقية- نسبة إلى توربشت من شيراز، ذكره السبكي في الطبقات، قاله في اللب وضبط في السبل الراء بالفتح، ولعله سبق قلم: "كأن المراد بالتربة الإشارة" إلى فطرة آدم، والريقة الإشارة "إلى النطفة" التي خلق منها الإنسان، هذا لفظ التوربشتي، كما في الفتح وشرح المصنف للبخاري، فسقط ذلك من قلم المصنف، "كأنه تضرع بلسان الحال", وتعرض بفحوى المقال، فقال: "إنك اخترعت الأصل الأول" آدم "من التراب ثم أبدعته", لفظه: ثم أبدعت بنيه "من ماء مهين" ضعيف, "فهين عليك أن تشفي من كانت هذه نشأته" من الأمراض.
"وقال النووي: قيل المراد بأرضنا أرض المدينة لبركتها، وبعضنا ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف ريقه، فيكون ذلك مخصوصا بريقه" وتربة المدينة، "وفيه نظر" إذ لا دليل على التخصيص وإن نحا إليه الطيبي، فقال في شرح المشكاة إضافة تربة أرضنا، وريقة بعضنا تدل على الاختصاص، وأن تلك التربة والريقة مختصان بمكان شريف يتبرك به، بل بذي نفس شريفة، قدسية، طاهرة، زكية عن أوصاف الذنوب وأوساخ الآثام، فلما تبرك بسم الله الشافي، ونطق بها ضم إليها تلك التربة، ولريقة وسيلة إلى المطلوب، ويعضده أنه صلى الله عليه وسلم بزق في عين علي، فبرئ من الرمد، وفي بئر الحديبية, فامتلأ ماء.
"وفي حديث عائشة عند أبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم دخل على ثابت بن قيس بن شماس" "بفتح الشين المعجمة والميم الثقيلة وسين مهملة" الأنصاري، الخزرجي، خطيب الأنصار، من كبار الصحابة، بشره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، واستشهد باليمامة، فنفذت وصيته بمنام رآه خالد بن الوليد، قدمته قبل هذا الموضع، وهو مريض، فقال: "اكشف الباس" بغير همز للمواخاة، لقوله: "رب الناس"، "ثم أخذ ترابا من بطحان" بضم الموحدة، وحكي فتحها وسكون الطاء المهملة فيهما، وقيل: بفتح أوله وكسر الطاء" ونسب عياض الأول للمحدثين، والثالث للغويين واد بالمدينة، "فجعله في قدح، ثم نفث" تفل قليلا "عليه" أي الماء، "ثم صبه عليه" أي: على ثابت.
"قال الحافظ ابن حجر: هذا الحديث تفرد به الشخص المرقي" أي أنه اختص بفعله معه على هذه الصفة، وليس المراد تفرد بروايته؛ لأنه لم يروه، إنما روته عائشة كما ترى.(10/6)
"ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من لدغة العقرب":
عن عبد الله بن مسعود قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إذ سجد فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "لعن الله العقرب، ما تدع نبيا ولا غيره"، ثم دعا بإناء فيه ماء وملح فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حتى سكنت، رواه ابن أبي شيبة في مسنده.
وقال ابن عبد البر: رقى صلى الله عليه وسلم من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم من لدغة العقرب:
بدال مهملة فغين معجمة، "عن عبد الله بن مسعود، قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، إذ سجد، فلدغته عقرب في إصبعه، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعدما أتم صلاته، إذ هو اللائق بحاله وتحمله المشاق، وهذا الإمام مالك لدغته العقرب ست عشرة مرة في درس حديثه وما قطعه، فكيف بالمصطفى في صلاته، وقد جاء في حديث علي: فلما فرغ، أي من صلاته، قال: "لعن الله العقرب" أي طرده عن الرحمة "ما تدع نبيا ولا غيره" زاد في حديث علي: "إلا لدغتهم" وهذا تعجب منها، لأن كثيرا من الحيوان يخلق فيه قوة تمييز، فمقتضى الأمر أنها لا تلدغ الأنبياء.
وفي حديث عائشة عند ابن ماجه: "لعن الله العقرب ما تدع المصلي وغير المصلي، اقتلوها في الحل والحرم".
وروى أبو يعلى عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم لا يرى بقتلها في الصلاة بأسا، "ثم دعا بإناء فيه ماء وملح، فجعل يضع موضع اللدغة في الماء والملح"، ويقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ، "والمعوذتين حتى سكنت" اللدغة، أي ألمها، "رواه ابن أبي شيبة في مسنده"، ورواه البيهقي والطبراني في الصغير بإسناد حسن عن علي بنحوه، لكنه قال: ثم دعا بماء وملح ومسح عليهما، وقرأ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] والمعوذتين، "و" لذا "قال ابن عبد البر: قى صلى الله عليه وسلم نفسه لما لدغ "من العقرب بالمعوذتين، وكان يمسح الموضع" الذي(10/7)
بماء فيه ملح.
وهذا طب مركب من الطبيعي والإلهي، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة التي هي مجامع التوحيد، وفي المعوذتين الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا. ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر أن يقرأ بهما عقب كل صلاة. رواه الترمذي.
وفي هذا سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة الأخرى التي تليها. وقال: "ما تعوذ المتعوذون بمثلهما".
وأما الماء والملح فهو الطب الطبيعي، فإن في الملح نفعا كثيرا من السموم ولا سيما لدغة العقرب، وفيه من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها من البدن، ولما كان في لسعها قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل صلى الله عليه وسلم الماء والملح لذلك.
__________
لدغ "بماء فيه ملح" كما في حديث علي، فليست الرقيا لغيره، "وهذا طب مركب من الطبيعي والإلهي، فإن سورة الإخلاص قد جمعت الأصول الثلاثة لتي هي مجامع التوحيد", وهي توحده في ذاته وصفاته، فلا تعدد له بحيث يكون معه إله، ولا رتكب في ذاته، لأنه من عوارض الجسم وهو محال عليه، وصمديته، أي كونه مقصودا لجميع الخلق في حوائجهم، ومستغنيا عما سواه, {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، وقدمه وبقاؤه، فلم يسبق بعدم بحيث يكون متولدا عن غيره، ولا يلحقه الفناء، فلا يحتاج إلى من يخلف عنه، فهو موجود أزلا وأبدا.
"وفي المعوذتين: الاستعاذة من كل مكروه جملة وتفصيلا"، تقدم بيان ذلك في النوع الأول، "ولهذا أوصى صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر" الجهني، الصحابي، الفقيه، الفاضل، مات قرب الستين "أن يقرأ بهما عقب كل صلاة، رواه الترمذي" عن عقبة، "وفي هذا" أي أمره المذكور "سر عظيم في استدفاع الشرور من الصلاة إلى الصلاة الأخرى التي تليها", وظاهره، ولو حصل له عذر، كنوم منعه من الصلاة أياما، ولا مانع من ذلك، كذا قال شيخنا.
"وقال" صلى الله عليه وسلم: "ما تعوذ" أي: اعتصم "المتعوذون بمثلهما". "وأما الماء والملح، فهو الطب الطبيعي، فإن في الملح نفعا كثيرا من السموم، ولا سيما لدغة العقرب".
قال ابن سينا: يتضمد به مع بزر الكتان للسعة العقرب، "وفيه من القوة الجاذبة المحللة ما يجذب السموم ويحللها من البدن، ولما كان في لسعها" بمهملتين "قوة نارية تحتاج إلى تبريد وجذب استعمل صلى الله عليه وسلم الماء والملح لذلك" تنبيها على أن علاج السميات بالتبريد والجذب.
وفي البخاري عن عائشة: رخص صلى الله عليه وسلم في الرقية من كل ذي حمة "بضم ففتح مخففا"، أي ذي سموم.
وفي السنن عن أبي هريرة: جاء رجل فقال: يا رسول الله ما لقيت من عقرب لدغتني البارحة، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو قلت حين أمسيت: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرك إن شاء الله".
وفي التمهيد عن سعيد بن المسيب قال: بلغني أن من قال حين يمسي: سلام على نوح في العالمين لم يلدغه عقرب، وفي تفسير القشيري عن بعض التفاسير: أن الحية والعقرب أتيا نوحا، فقالتا: احملنا، فقال: لا أحملكما، لأنكما سبب الضرر، فقالتا احملنا ونحن نضمن لك أن لا نضر أحدًا ذكرك.(10/8)
"ذكر الطب من النملة":
وهي بفتح النون وإسكان الميم، قروح تخرج في الجنب، وسمي نملة لأن صاحبه يحس في مكانه كأن نملة تدب عليه وتعضه.
وفي حديث مسلم عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة والعين والنملة.
__________
ذكر الطب من النملة:
"وهي بفتح النون وإسكان الميم قروح تخرج في الجنب" وقد تكون على غيره، قال ابن قتيبة وغيره: زعمت المجوس أن ولد الرجل من أخته إذا خط على الرمل شفي صاحبها، وفيه قال الشاعر:
ولا عيب فينا غير عرف لمعشر ... كرام وأنا لا نخط على الرمل
والنملة أيضا التميمة، وحكى الهروي: فيها الضم، والنملة بالكسر المشية المتقاربة، قاله عياض. "وسمي" هذا المرض "نملة؛ لأن صاحبه يحس" بضم الياء وكسر الحاء من أحس الشيء علم به، وبفتح الياء وضم الحاء من حس، كنصر لغة "في مكانه، كأن نملة تدب" "بكسر الدال" تسير "عليه وتعضه" "بفتح العين" في الأكثر، وحكى ابن القطاع ضمها.
"وفي حديث مسلم عن أنس: أنه صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحمة" بضم المهملة وخفة الميم" أي ذوات السموم، "والعين والنملة" أي أذن فيها بعد النهي عنها، كما أشعر به قوله: رخص لأنه صلى الله عليه وسلم كان نهى عن الرقى لما عسى أن يكون فيها من ألفاظ الجاهلية، ثم(10/9)
وروى الخلال أن الشفاء بنت عبد الله كانت ترقي في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكانت قد بايعته بمكة قالت: يا رسول الله إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة، فأريد أن أعرضها عليك، فعرضتها عليه، فقالت: بسم الله ضلت حتى تعود من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس. قال: ترقي بها على عود سبع مرات، وتقصد مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه على النملة.
__________
رخص لهم فيها إذا عريت عن ذلك.
"وروى الخلال" "بالخاء المعجمة وشد اللام" "أن الشفاء" "بكسر المعجمة وفاء خفيفة، والمد" عند ابن الأثير في الجامع، والقصر عند ابن نقطة، ورجح "بنت عبد الله" بن عبد شمس، القرشية، العدوية، قيل: اسمها ليلى أسلمت قبل الهجرة وبايعت، وهي من المهاجرات الأول وعقلاء النساء وفضلائهن وكان صلى الله عليه وسلم يزورها ويقيل عندها في بيتها، واتخذت له فراشا وإزارا ينام فيه، فلم يزل ذلك عند ولدها حتى أخذه منهم مروان وهي أم سليمان بن أبي حثمة، ولها أحاديث "كانت ترقي في الجاهلية من النملة، فلما هاجرت إلى النبي صلى الله عليه وسلم" بعد هجرته بقليل، "وكانت قد بايعته بمكة" على الإسلام، "قالت: يا رسول الله إني كنت أرقي في الجاهلية من النملة، فأريد أن أعرضها عليك".
زاد في رواية ابن منده، قال: "فاعرضيها". "فعرضتها عليه" بسكون التاء لا بضمها لقوله: "فقالت": أهو بضمها، وقولها: فقالت التفات، ويؤيده رواية ابن منده قالت: فعرضتها عليه، فقال: "ارقي بها وعلميها حفصة"، وهذه بضم التاء قطعا "بسم الله ضلت" النملة بضاد معجمة أي تاهت عن طريق قصدها "حتى تعود" ترجع "من أفواهها ولا تضر أحدا، اللهم اكشف الباس رب الناس، قال: ترقي بها" لعل هذا إخبار من الراوي عن صفة فعلها وحذف النون منه ومن تقصد؛ لأنه إخبار عن فعل المؤنثة الغائبة "على عود" زاد في رواية أبي نعيم: كريم ولعل معناه اهر نظيف "سبع مرات، وتقصد مكانا نظيفا وتدلكه على حجر بخل خمر حاذق وتطليه" "بفتح التاء وكسر اللام" "على النملة", وهذا الحديث أخرجه أبو نعيم من حديث الشفاء بتمامه، ومن قبله ابن منده، إلى قوله: ترقي ورويا أيضا عنها، قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا قاعدة عند حفصة، فقال: "ما عليك أن تعلمي هذه رقية النملة كما علمتها الكتابة".(10/10)
"ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من البثرة":
روى النسائي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لها: "عندك ذريرة؟ " فقلت: نعم، فدعا بها فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: "اللهم مطفئ الكبير، ومكبر الصغير، أطفئها عني". فطفئت.
__________
ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من البثرة:
بموحدة ومثلثة، أي الخراج الصغير. "روى النسائي" من طريق عبد الله بن زيد الجرمي "عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم" هي عائشة كما في التقريب: "أنه قال لها": "عندك" بتقدير همزة الاستفهام، أي: أعندك "ذريرة". "بذال معجمة مفتوحة وراء مكسورة، فتحتية ساكنة، فراء، فهاء": نوع من الطيب معروف، كما في مقدمة الفتح.
قال الزمخشري: هي فتات قصب الطيب، وهو قصب يؤتى به من الهند، كقصب النشاب، زاد الصفاني: وأنبوبه محشوه من شيء أبيض مثل نسج العنكبوت، ومسحوقة عطر إلى الصفرة والبياض، "فقلت: نعم" عندي، "فدعا بها"، أي طلبها، "فوضعها على بثرة بين أصبعين من أصابع رجله، ثم قال: "اللهم مطفئ الكبير". "بطاء مهملة، ففاء" أي: مذهبه استعارة من أطفأت النار إذا أخمدتها، "ومكبر الصغير أطفئها" أخمدها وأذهبها "عني". "فطفئت" خمدت وذهبت.(10/11)
"ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حرق النار":
روى النسائي عن محمد بن حاطب قال: تناولت قدرا، فأصاب كفي من مائها، فاحترق ظهر كفي، فانطلقت بي أمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أذهب الباس رب الناس"، وأحسبه قال: و "اشف أنت الشافي" ويتفل.
__________
ذكر طبه عليه الصلاة والسلام من حرق النار:
"روى النسائي عن محمد بن حاطب" بن الحارث بن معمرة القرشي، الجمحي, صحابي صغير ولد قبل أن يصلوا إلى الحبشة، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أمه، وعن علي، ومات سنة أربع وسبعين، وقيل: سنة ست وثمانين وأبوه صحابي، مات بالحبشة، فقدمت به أمه المدينة مع أهل السفينة، "قال: تناولت قدرا" "بكسر القاف مؤنثة" وقيل: يذكر ويؤنث، "فأصاب كفي من مائها، فاحترق ظهر كفي، فانطلقت بي أمي" هي أم جميل، بفتح الجيم بنت المجلل "بجيم ولامين" القرشية، العامرية، من السابقات إلى الإسلام، وبايعت وهاجرت إلى الحبشة الهجرة الثانية.
روى الإمام أحمد عن محمد بن حاطب، عن أمه أم جميل بنت المجلل، قالت: أقبلت بك من الحبشة حتى إذا كنت من المدينة على ليلة أو ليلتين طبخت طبيخا، ففني الحطب، فذهبت أطلبه، فتناولت القدر، فانكفأت على ذراعك، فذهبت بك "إلى النبي صلى الله عليه وسلم", فقلت: يا رسول الله هذا محمد بن حاطب، وهو أول من سمي باسمك، وقد أصابه هذا الحرق، قالت: فمسح على رأسك، وتفل في فيك، ودعا لك بالبركة، فقال: "أذهب الباس رب الناس". "وأحسبه" أي أظنه "قال: "واشف أنت الشافي"، ويتفل" على موضع الحرق، والجملة حالية، أي: فقال ذلك، والحال أنه يتفل، وفي نسخة: وتفل، أي فقال, وتفل.(10/11)
"ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية":
وهي قسمان: حمية عما يجلب المرض، وحمية عما يزيده فيقف على حاله.
فالأولى: حمية الأصحاء.
والثانية: حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن الزائد، وأخذت القوى في دفعه.
والأصل في الحمية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] فحمى المريض من استعمال الماء
__________
ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية:
بكسر الحاء وسكون الميم، أي المنع من تناول ما يضر، "وهي قسمان: حمية عما يجلب المريض" قبل أن يأتي "وحمية عما يزيده فيقف على حاله، فالأولى حمية الأصحاء، والثانية حمية المرضى، فإن المريض إذا احتمى وقف مرضه عن الزائد" أي زيادته، "وأخذت" "بمعجمتين ففوقية" أي شرعت "القوى في دفعه" وإن قرئ: أحدث "بمهملتين فمثلثة" فمعناه: أحدث القوى شيئا، أي سببا في دفعه، ولم يذكر أن من أنواع الحمية ما يكون سببا لإزالة المرض إلا أن يؤخذ من هذا، لأنه يترتب على الحمية المانعة من زيادة المرض زواله، لكن من نفس القوى لا من خصوص الحمية، على أنه قد يقال: إنهم لا يكتفون في دفع المرض بمجرد الحمية، بل يستعملون معها أدوية لإزالته, فلذا لم يذكره.
"والأصل في الحمية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} ، إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] ، فحمى المريض، أي: منعه "من استعمال الماء؛ لأنه(10/12)
لأنه يضره، كما وقعت الإشارة لذلك في أوائل هذا المقصد.
وقد قال بعض فضلاء الأطباء: رأس الطب الحمية.
والحمية للصحيح عندهم في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه، وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض، لأن التخليط يوجب الانتكاس، والانتكاس أصعب من ابتداء المرض.
والفاكهة تضر بالناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة، وفي سنن ابن ماجه عن صهيب قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر، فقال: "ادن وكل". فأخذت تمرا فأكلت، فقال: "أتأكل تمرا وبك رمد"؟. فقلت: يا رسول الله أمضغ من الناحية الأخرى، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به التمر.
__________
يضره، كما وقعت الإشارة لذلك في أوائل هذا المقصد"، وأنه تنبيه على الحمية من كل مؤذ له من داخل أو خارج.
"وقد قال بعض فضلاء الأطباء: رأس الطب الحمية، والحمية للصحيح عندهم" أي الأطباء "في المضرة بمنزلة التخليط للمريض والناقه" بالنون والقاف، أي الذي برئ من المرض، لكنه في عقبه، والمراد الحمية المطلقة للصحيح عن كل شيء ولو وافق مزاجه، فلا ينافي قوله أولا "حمية الأصحاء" "وأنفع ما تكون الحمية للناقه من المرض؛ لأن التخليط يوجب الانتكاس" أي معاودة المرض، "والانتكاس أصعب من ابتداء المرض"؛ لأنه يأتي على قوة، والانتكاس يأتي على ضعف، "والفاكهة تضر" "بضم الفوقية وكسر الضاد" "بالناقه من المرض، لسرعة استحالتها وضعف الطبيعة عن دفعها لعدم القوة".
"وفي سنن ابن ماجه، عن صهيب" بن سنان الرومي، "قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم وبين يديه خبز وتمر"، فقال: "ادن وكل"، فأخذت تمرا فأكلت، فقال: "أتأكل تمرا وبك رمد؟ " استفهام وتوبيخ، وأمره بالأكل صادق بالخبز أو علم أنه لا يضره أكل التمر، وإنما قصد المباسطة بالاسفهام، "فقلت: يا رسول لله أمضغ من الناحية الأخرى" أي ناحية العين التي لا رمد فيها، لأنه كان بإحدى عينيه، "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم" تعجبا؛ لأنه لا يفيده المضغ من تلك الناحية في دفع ضرره إن كان يضره، وهذا الحديث بعزوه قدمه المصنف في النوع الثاني استدلالا على طبه للمرض، وأعاده هنا لقوله: "ففيه الإشارة إلى الحمية وعدم التخليط، وأن الرمد يضر به(10/13)
وعن أم المنذر بنت قيس الأنصارية قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي، وهو ناقه من مرض، ولنا دوال معلقة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "إنك ناقه"، حتى كف. قالت: وصنعت شعيرا وسلقا فجئت به فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من هذا فأصب فإنه أنفع لك"، رواه ابن ماجه.
وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من أكله من الدوالي لأن في الفاكهة نوع ثقل على المعدة، ولم يمنعه من السلق والشعير لأنه من أنفع الأغذية للناقه، ففي ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة.
فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء لكي تمنع تزايده وانتشاره.
وقال ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى منه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه، ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة تتلقيانه بالقبول والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع
__________
التمر" لحرارته، فيقوى الرمد، "وعن أم المنذر بنت قيس" بن عمرو "الأنصارية" من بني النجار، يقال اسمها سلمى، وضعفه في الإصابة، "قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علي" ابن عمه، "وهو ناقه من مرض" كان به، "ولنا دوال" أشجر عنب "معلقة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل منها، وقام علي يأكل منها، فطفق"، أي شر "النبي صلى الله عليه وسلم يقول لعلي: "إنك ناقه" حتى كف" عن الأكل، "قالت" أم المنذر: "وصنعت شعيرا وسلقا" "بكسر السين وإسكان اللام "بقل معروف، فجئت به، فقال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من هذا فأصب، فإنه أنفع لك" , وفي رواية أبي داود: فإنه أوفق لك، "رواه ابن ماجه" وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب، "وإنما منعه صلى الله عليه وسلم من أكله من الدوالي، لأن في الفاكهة نوع ثقل على المعدة" فلا تتحمله معدة الناقه، "ولم يمنعه من السلق والشعير؛ لأنه من أنفع الأغذية للناقة، ففي ماء الشعير التغذية والتلطيف والتليين وتقوية الطبيعة", والسلق يجلو ويحلل ويلين ويفتح السدد ويسر النفس، "فالحمية من أكبر الأدوية للناقه قبل زوال الداء" عنه، "لكي تمنع تزايده وانتشاره" فيه.
"وقال ابن القيم: ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا مما يحمى منه العليل والناقه والصحيح إذا اشتدت الشهوة إليه ومالت إليه الطبيعة، فتناول منه الشيء اليسير الذي لا تعجز الطبيعة عن هضمه،" أي دفعه "لم يضره تناوله، بل ربما انتفع به، فإن الطبيعة والمعدة(10/14)
من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء, ولهذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا وهو أرمد على تناول التمرات اليسيرة وعلم أنها لا تضره. ففي هذا الحديث -يعني حديث صهيب- سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق وكان فيه ضرر ما، كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه وإن كان نافعا في نفسه. فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك العكس.
__________
تتلقيانه بالقبول" "بفتح القاف وضمها لغة" "والمحبة، فيصلحان ما يخشى من ضرره، وقد يكون أنفع من تناول ما تكرهه الطبيعة وتدفعه من الدواء" وهذا معلوم بالمشاهدة، "ولهذ أقر النبي صلى الله عليه وسلم صهيبا، وهو أرمد على تناول", أي: أكل "التمرات اليسيرة، وعلم أنها لا تضره" لاشتداد شهوته إليها.
"ففي هذا الحديث يعني حديث صهيب سر طبي لطيف، فإن المريض إذا تناول ما يشتهيه عن جوع صادق، وكان فيه ضرر ما، أي: قليل، "كان أنفع وأقل ضررا مما لا يشتهيه، وإن كان نافعا في نفسه، فإن صدق شهوته ومحبة الطبيعة له تدفع ضرره، وكذلك بالعكس" وبهذا التوجيه الوجيه علم أنه لا حاجة إلى قول من قال: "هذا مبني على التوكل، وأنه تعالى هو الشافي، وقد روى ابن ماجه عن ابن عباس، قال: عاد النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال: "ما تشتهي"، قال: خبز بر، فقال: "من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه" ثم قال: "إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا فليطعمه".(10/15)
"ذكر حمية المريض من الماء":
عن قتادة بن النعمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله العبد حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء". قال الترمذي: حديث حسن غريب.
__________
ذكر حمية المريض من الماء:
"عن قتادة بن النعمان" بن زيد بن عامر الأنصاري الظفري "بمعجمة وفاء مفتوحتين"، شهد بدرا ومات سنة ثلاث وعشرين على الصحيح، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "إذا أحب الله العبد" , وفي رواية: "عبدا" بالتنكير "أحماه" وفي رواية: "حماه" بدون ألف، أي منعه "الدنيا" أي حال بينه وبين شهواتها، ووقاه أن يتلوث بزهرتها؛ لئلا يمرض قلبه بداء محبتها وممارستها، ويألفها ويكره الآخرة، "كما يظل" أي يستمر "أحدكم يحمي" يمنع "سقيمه الماء" أي شربه إذا كان يضره، فهو سبحانه يزوي الدنيا عمن أحبه حتى لا يتدنس بها وبقذارتها، ولا يشرق بغصصها، كيف وهي للكبار مؤذية، وللخواص داعية، وللعارفين شاغلة، وللمريدين حائلة، ولعامة(10/15)
وروى الحميدي مرفوعا: "لو أن الناس أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم".
وللطبراني في الأوسط عن أبي سعيد مرفوعا: "من شرب الماء على الريق انتقصت قوته". وفيه محمد بن مخلد الرعيني، وهو ضعيف.
__________
المؤمنين قاطعة، والله لأوليائه ناصر ولهم منها حافظ، وإن أرادوها.
"قال الترمذي" بعد أن رواه: "حديث حسن غريب"، ورواه الحاكم وصححه، وأقره الذهبي، "وروى الحميدي مرفوعا: "لو أن الناس" حتى الأصحاء "أقلوا من شرب الماء لاستقامت أبدانهم" صلحت وحسنت، وللماء حالة مشهورة في الحماية عند الأطباء، بل هو منهي عنه للصحيح أيضا إلا بأقل ممكن، فإنه يبلد الخاطر ويضعف المعدة، فلذا نبه على التقلل منه.
"وللطبراني في الأوسط عن أبي سعيد" الخدري سعد بن مالك بن سنان، مرفوعا: "من شرب الماء على الريق انتقصت" لغة في نقصت "قوته" أي: ذهب منها شيء، "وفيه محمد بن مخلد الرعيني" بضم الراء وعين مهملة ونون" نسبة إلى ذي رعين من أقيال اليمن، "وهو ضعيف" لكن ليس هذا من أحاديث الأحكام.(10/16)
"ذكر طبه صلى الله عليه وسلم بالحمية من الماء المشمس خوف البرص":
روى الدارقطني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لا تغتسلوا بالماء المشمس فإنه يورث البرص.
وروى الدارقطني هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف.
__________
ذكر طبه:
وفي نسخة: أمره "صلى الله عليه وسلم بالحمية من الماء المشمس خوف البرص", أي ما سخنته الشمس.
"روى الدارقطني" بإسناد صحيح "عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: لا تغتسلوا بالماء المشمس، فإنه يورث البرص،" لأن الشمس بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء كالهباء، فإذا لاقت البدن بسخونتها قبضت على مسام الشعر، فيحدث منها البرص، والظاهر أن عمر قاله توقيفا إذ لا مجال للرأي فيه، قاله في الإيعاب.
"وروى الدارقطني هذا المعنى مرفوعا من حديث عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو" أي عامر الذي في سنده "ضعيف", فلا حجة فيه، لكن تأيد بخبر عمر الموقوف عليه، ولفظ(10/16)
وكذا خرج العقيلي نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعي عن عمر.
فعلى هذا يكره استعمال الماء المشمس شرعا خوف البرص، لكنهم اشترطوا شروطا: أن يكون في البلاد الحارة، والأوقات الحارة دون الباردة، وفي الأواني المنطبعة على الأصح دون الحجر والخشب ونحوهما, واستثنى النقدان لصفائهما. وقال الجويني بالتسوية، حكاه ابن الصلاح. ولا يكره المشمس في الحياض والبرك قطعا، وأن يكون الاستعمال في البدن لا في الثوب، وأن يكون مستعملا حال حرارته، فلو برد زالت الكراهة في الأصح في الروضة وصحح في الشرح الصغير عدم الزوال. واشترط صاحب التهذيب -كما قاله الجبلي- أن يكون
__________
الحديث عند الدارقطني وأبي نعيم، عن عائشة أنها سخنت للنبي صلى الله عليه وسلم، ماء في الشمس، فقال: "لا تفعلي يا حميراء، فإنه يورث البرص".
"وكذا خرج العقيلي نحوه عن أنس بن مالك، ورواه الشافعي عن عمر" بن الخطاب موقوفا عليه، كرواية الدارقطني المبدأ بها، "فعلى هذا يكره" تنزيها "استعمال الماء المشمس، شرعا" لا طبا "خوف البرص، لكنهم", أي القائلين بالكراهية "اشترطوا شروطا أن يكون" استعمال ذلك "في البلاد والأوقات الحارة" كالحجاز في الصيف "دون الباردة" كالشام والحجاز في الشتاء "و" أن يكون التشميس "في الأواني المنطبعة" أي التي تقبل الطبع، بأن تتأثر وتمتد تحت المطرقة في يد الصائغ، كحديد ونحاس "على الأصح دون الحجر والخشب، ونحوهما" الخزف والجلود لانتفاء الزهومة المتولد عنها برص، "واستنثى النقدان" أي أخرج المتقدمون، وجرى عليه في أصل الروضة من ذلك الذهب والفضة "لصفائهما" أي صفاء جوهرهما، فلا ينفصل عنهما شيء.
"وقال الجويني بالتسوية" بين النقدين وغيرهما في الكراهة "حكاه ابن الصلاح" وغيره، والمعتمد الأول، "ولا يكره المشمس في الحياض والبرك قطع" لفقد العلة، "وأن يكون الاستعمال في البدن", اغتسالا، أو وضوءا أو شربا "لا في الثوب", فلا يكره لبسه إذا غسل بماء مشمس قال في الإيعاب: إلا إن مس البدن، وهو رطب أخذا من قول الاستقصاء: لا معنى لاختصاصه بالبدن دون الثوب الذي هو لابسه، لأنه يصل أثر للبدن في حال لبسه رطبا، أو مع العرق. انتهى.
"وأن يكون" المشمس "مستعملا حال حرارته، فلو برد" بفتح الراء وضمها" قال المجد: كنصر وكرم، أي زالت حرارته، "زالت الكراهة في الأصح" عند النووي "في الروضة، وصحح" الرافعي "في الشرح الصغير" على وجيز الغزالي "عدم الزوال" لأن العلة انفصال شيء(10/17)
رأس الإناء منسدا لتنجس الحرارة، وفي شرح المهذب أنها شرعية يثاب تاركها وقال في شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد فشرعية وإلا فإرشادية، وإذا قلنا بالكراهة فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة. وقال الطبري: إن خاف الأذى حرم، وقال ابن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله، واختار النووي في الروضة عدم الكراهة مطلقا، وحكاه الروياني في البحر عن النص.
__________
من أجزاء الإناء المورثة للبرص باقية، ورد بأن محل كونها تورثه إذا استعمل حارا، فإن زالت فلا قوة لها على الوصول للمسام، فلا يخاف منها تولد برص، كما شهدت بذلك قواعد الطب أنه إذا برد زال ضرره "واشترط صاحب التهذيب، كما قاله الجبلي" "بجيم وتحتية" "أن يكون رأس الإناء" أي أعلاه وفمه "منسدا" أي مغطى "لتنحبس الحرارة" فإن كان مكشوفا لم يكره لعدم انحباسها، والراجح عدم اشتراط ذلك، بل قال في نهاية المحتاج: يكره إذا كان الإناء مغطى حيث أثرت فيه الشمس السخونة، بحيث تنفصل من الإناء أجزاء سمية تؤثر في البدن، لا مجرد انتقاله من حالة إلى أخرى، وإن كان المكشوف أشد كراهة لشدة تأثيرها فيه.
"وفي شرح المهذب" للنووي نقلا عن الأصحاب. ورجحه: "أنها" أي كراهة المشمس "شرعية يثاب تاركها" ولا يعاقب فاعلها، خلافا لما اختاره ابن الصلاح، تبعا للغزالي أنها إرشادية لمصلحة دنيوية، لا يتعلق بتركها الثواب، كالأمر بالإشهاد عند التبايع.
"وقال" النووي "في شرح التنبيه: إن اعتبرنا القصد", أي إن قصد تارك امتثال نهي الشارع "فشرعية، وإلا" يقصد ذلك، بل خاف ضرره، "فإرشادية" لا ثواب فيها، قال السبكي: التحقيق إن فاعل الإرشاد لمجرد غرضه لا يثاب، ولمجرد الامتثال يثاب، ولهما يثاب ثوابا أنقص من ثواب من محض قصد الامتثال، "وإذا قلنا بالكراهة، فكراهة تنزيه لا تمنع صحة الطهارة" بل تصح به اتفاقا، لأن كراهته ليست ذاتية.
"وقال الطبري: إن خاف الأذى" منه بتجربة من نفسه، أو إخبار طبيب عارف "حرم" عليه استعماله.
"وقال" عز الدين "بن عبد السلام: لو لم يجد غيره وجب استعماله"؛ لأنه قادر على طهور بيقين، وضرر استعماله غير محقق ولا مظنون، إلا في جنسه على ندور، فلا يباح له التيمم مع وجوده إلا لخوف ضرر، كالتيمم فيجوز.
"واختار النووي في الروضة" من حيث الدليل لا المذهب "عدم الكراهة مطلقا" وإن وجدت فيه الشروط، وقال في تنقيحه: إنه الأصح، وفي مجموعه: إن الصواب الموافق للدليل، ولنص الأم حيث قال فيها: لا أكرهه إلا أن يكون من جهة الطب.
قال الرافعي: أي أكرهه شرعا حيث يقتضي الطب محذور فيه، "وحكاه الروياني في البحر عن النص", أي نص الإمام الشافعي، وإليه ذهب أكثر العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة، لكن اختار المتأخرون من المالكية، كالقاضي سند كراهته بالشروط، وأنها شرعية, والله أعلم.(10/18)
"ذكر الحمية من طعام البخلاء":
عن عبد الله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طعام البخيل داء وطعام الأسخياء شفاء". رواه التنيسي عن مالك في غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق في الأحكام.
__________
ذكر الحمية من طعام البخلاء:
جمع بخيل، وهو لغة: منع السائل مما يفضل عنه، وشرعا: منع الواجب، "عند عبد الله بن عمر" بن الخطاب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "طعام البخيل" أعم من اللغوي والشرعي "داء" لأنه يطعم الضيف مع ثقل وتضجر وعدم طيب نفس، ولذا قيل: إنه يظلم القلب، "وطعام الأسخياء" جمع سخي، وهو الجواد الكريم "شفاء" وفي رواية: "دواء" وعبر بالمفرد في البخيل إشارة إلى حقارة البخل وأهله، وأنهم وإن كثروا فهم في الحقارة، وعدم النظر إليهم كالعدم، وفي الثاني بالجمع إشارة إلى أنهم في غاية العزة والشرف، فالواحد منهم يقوم مقام الكثير.
نعم في رواية الخطيب: "طعام السخي دواء" أو قال: "شفاء وطعام الشحيح داء" وفي لفظ: "طعام الكريم"، وفي آخر: "طعام الجواد" "رواه" عبد الله بن يوسف "التنيسي" "بكسر الفوقية والنون المشددة بعدها تحتية ثم مهملة" نسبة إلى تنيس بلد قرب دمياط -بناها تنيس بن حام بن نوح- أبو محمد الكلاعي، أصله من دمشق، ثقة، متقن، من أثبت الناس في الموطأ، ولذا اعتمده البخاري فرواه عنه، مات سنة ثمان عشرة ومائتين، "عن مالك", عن نافع، عن ابن عمر "في غير الموطأ، كما ذكره عبد الحق في" كتاب "الأحكام" ولم ينفرد به التنيسي، بل تابعه روح بن عبادة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر.
أخرجه الدارقطني في غرائب مالك والخطيب في "المؤتلف" وفي كتاب "البخلاء" والديلمي والحاكم، وأبو علي الصدقي في عواليه، وابن عدي في كامله، لكنه قال: إنه بطل عن مالك فيه مجاهيل وضعفاء، ولا يثبت، وقال الذهبي: إنه كذب، لكن قال الحافظ الزين العراقي: رجاله ثقات، أئمة، قال ابن القطان: وإنهم لمشاهير ثقات إلا مقدام بن داود، فإن أهل مصر تكلموا فيه، وحاصل هذا أنه حديث ضعيف، وبه يصرح قول ختام الحفاظ العسقلاني حديث منكر. انتهى، والمنكر من أقسام الضعيف.(10/19)
"ذكر الحمية من داء الكسل":
روى أبو داود في المراسيل عن يونس عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه رآه مضطجعا في الشمس، قال يونس فنهاني وقال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنها تورث الكسل وتثير الداء الدفين".
__________
ذكر الحمية من داء الكسل:
"روى أبو داود في المراسيل، عن يونس" بن يزيد الأيلي, بفتح الهمزة وسكون التحتية ولام, ثقة روى له الجميع، إلا أن في روايته عن الزهري وهما قليلا، وفي غير الزهري خطأ، مات سنة تسع وخمسين ومائة على الصحيح. وقيل: سنة ستين، "عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن" التيمي، مولاهم المدني، المعروف بربيعة الرأي، واسم أبيه فروخ، ثقة، فقيه مشهور "أنه" أي ربيعة "رآه" أي يونس "مضطجعا في الشمس، قال يونس: فنهاني وقال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "إنها" أي الشمس "تورث الكسل" بفتحتين عدم النشاط، "وتثير" تحرك "الداء الدفين" أي المدفون في البدن، وظاهره ولو في الشتاء فالكون فيها منهي عنه إرشادا لضرره، وبه صرح جمع من الأطباء، وقال الحارث بن كلدة: إياكم والقعود في الشمس فإن كنتم لا بد فاعلين فتنكبوها بعد طلوع النجم أربعين يوما، ثم أنتم وهي سائر السنة، وعن ابن عباس مرفوعا: "إياكم والجلوس في الشمس، فإنها تبلي الثوب وتنتن الريح وتظهر الداء الدفين"، أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق محمد بن زياد الطحان، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس، لكن قال الذهبي: هو من وضع الطحان.(10/20)
"ذكر الحمية من داء البواسير":
عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجامعن أحدكم وبه حقن خلاء، فإنه يكون منه البواسير" رواه أبو أحمد الحاكم.
__________
ذكر الحمية من داء البواسير:
جمع باسور، قيل: هو ورم تدفعه الطبيعة إلى كل موضع في البدن يقبل الرطوبة من المقعدة، والأنثيين والأشفار وغير ذلك، فإن كان في المقعدة لم يكن حدوثه دون انتفاخ أفواه العروق، وقد تبدل السين صادا، فيقال: باصور، وقيل: غير عربي، كذا في المصباح، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجامعن أحدكم" حليلته "وبه حقن" بفتح فسكون مصدر حقن، كنصر، أي احتباس "خلاء" بالمد وخاء معجمة المتوضأ، "فإنه يكون منه البواسير" أي: من احتباس البول الزائد المحوج إلى الخروج إلى الخلاء، فلعل إضافة حقن إليه للإشارة إلى أن الذي يورث البواسير هو الاحتباس الزائد، بحيث يحتاج صاحبه إلى تفريغ نفسه في المحل المعد لذلك.
"رواه أبو أحمد" محمد بن محمد النيسابوري، "الحاكم،" الكبير، الحافظ، الجهبذ، محدث خراسان مع العبادة والصلاح والمشي على سنن السلف وكثرة التصانيف، سمع ابن خزيمة والبغوي الكبير، وخلقا بالعراق والشام والجزيرة، وعنه أبو عبد الرحمن السلمي، والحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الموافق له في الاسم والنسبة واللقب، وإنما افترقا في الكنية واسم الأب، وقال: إنه إمام عصره في هذه الصنعة، مات في ربيع الأول سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة وله ثلاث وسبعون سنة، ومات تلميذه الحاكم سنة خمس وأربعمائة، هذا هو المنقول في غير ما كتاب.(10/20)
"ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحي الذباب بإغماس الثاني":
عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء".
__________
ذكر حماية الشراب من سم أحد جناحي الذباب بإغماس الثاني:
أي الجناح الذي لم يقدمه الذباب، وهو بمعجمة جمع ذبابة بالهاء، ويجمع أيضا على أذبة وذبان، "بالكسر وذب، بالضم"، وهو أجهل الخلق، لأنه يلقي نفسه في الهلاك ويتولد من العفونة، ولم يخلق له أجفان لصغرحدقته، ومن شأن الأجفان صقل مرآة الحدقة من الغبار، فجعل الله له يدين يصقل بهما مرآة حدقته، فلذا تراه أبدا يمسح عينيه بيديه.
"عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع" سقط "الذباب في إناء أحدكم" هذا لفظ رواية البخاري في الطب، ولفظه في بدء الخلق في "شراب أحدكم"، وهو شامل لكل مائع ماء أو غيره.
وفي حديث أبي سعيد عند النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان: "إذا وقع في الطعام"، والأولى أشمل، لأن الإناء يكون فيه كل شيء من مأكول ومشروب ماء أو غيره، "فليغمسه كله" فيما وقع فيه، والأمر إرشادي لمقابلة الداء بالدواء، وسقط التأكيد من رواية بدء الخلق: "ثم ليطرحه" بعد استخراجه من الإناء وللبخاري في بدء الخلق: "ثم لينزعه" ولبعض رواته: "ثم لينتزعه". "بزيادة فوقية قبل الزاي" "فإن في أحد جناحيه شفاء" بتذكير أحد عند البخاري في الطب، ولبعض رواته فيه كبدء الخلق: "فإن في إحدى"، "بكسر الهمزة وسكون الحاء مؤنثا"، إما لأن الجناح يذكر ويؤنث، أو أنث باعتبار اليد، وجزم الصغاني بأنه لا يؤنث، وصوب الأول، "وفي الآخر داء" بالتذكير وفي بدء الخلق: "والأخرى" بضم الهمزة والتأنيث وحذف حرف(10/21)
وفي رواية أبي داود: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه كله".
وفي رواية الطحاوي: "فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء".
وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بالبعض.
قال شيخ شيوخنا: لم يقع لي في شيء من الطرق تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره. لكن ذكر بعض العلماء أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر، فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء.
__________
الجر، ففيه شاهد لمن يجيز العطف على معمولي عاملين، كالأخفش، وقد استبان لك أن هذا الحديث رواه البخاري في الطب، باللفظ الذي ساقه المصنف، وكذا رواه ابن ماجه في الطب، ورواه البخاري أيضا قبل ذلك في بدء الخلق بتغيير قليل في اللفظ علمته.
وفي رواية أبي داود: "فإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كله"، زاد في رواية البزار: برجال ثقات ثلاثا مع قول بسم الله.
وفي رواية الطحاوي: "فإنه يقدم السم" أي الجناح الذي فيه السم فيضعه في الإناء، "ويؤخر الشفاء" أي جناحه فلا يضعه.
"وفي قوله: "كله" رفع توهم المجاز في الاكتفاء بالبعض" أي يغمس بعضه.
"قال شيخ شيوخنا" الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "لم يقع لي في شيء من الطرق" للحديث "تعيين الجناح الذي فيه الشفاء من غيره، لكن ذكر بعض العلماء" يعني الدميري، فإنه ذكر في حياة الحيوان "أنه تأمله فوجده يتقي بجناحه الأيسر", وهو مناسب للداء، كما أن الأيمن مناسب للشفاء، هذا كلام الدميري، "فعرف أن الأيمن هو الذي فيه الشفاء" حقيقة، فأمر الشارع، بمقابلة السمية بالشفاء، ولا بعد في حكمة الله أن يجعلهما جزئي واحد، كالعقرب بأبرتها السم، ويتداوى منه بجرمها، فلا ضرورة للعدول عن الحقيقة هنا وجعله مجازا، كما وقع لبعضهم، حيث جعله من الطب الروحاني بمعنى إصلاح الأخلاق وتقويم الطباع، بإخراج فاسدها وتبقية صالحها.
قال التوربشتي: وجدنا لهذا الحديث فيما أقامه الله لنا من عجائب خلقته وبديع فطرته شواهد ونظائر، منها: النحلة يخرج من بطنها شراب نافع، وبث في إبرتها السم الناقع، والعقرب تهيج الداء بإبرتها، ويتداوى من ذلك بجرمها، وأما اتقاؤه بالجناح الذي فيه الداء، فإنه تعالى ألهم الحيوان بطبعه ما هو أعجب منه، فلينظر المتعجب من ذلك إلى النملة كيف تسعى في جمع القوت، وتصون الحب عن الندى، وتجفف الحب إذا أثر فيه الندى، ثم تقطع الحب لئلا ينبت(10/22)
وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة والذباب كله في النار إلا النحل". وسنده لا بأس به.
قال الجاحظ: كونه في النار ليس تعذيبا له بل ليعذب به أهل النار، ويتولد من العفونة. ومن عجيب أمره أن رجيعه يقع على الثوب الأسود أبيض وبالعكس، وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة، ومبدأ خلقه منها ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا، وربما بقي عامة اليوم على الأنثى. ويحكى أن بعض الخلفاء سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ فقال: مذلة للملوك، وكانت ألحت عليه ذبابة. قال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة، فرحمة الله عليه ورضوانه.
__________
وتترك الكزبرة، لأنها لا تنبت وهي صحيحة، فتبارك الله أحسن الخالقين.
"وأخرج أبو يعلى عن ابن عمر، مرفوعا: "عمر الذباب أربعون ليلة" أي غايته ذلك، وإلا فقد يموت قبل ذلك، "والذباب كله" بسائر أنواعه، فالعرب تجعل هذا الطائر والفراش والنحل والدبر والناموس والبعوض، كلها من الذباب "في النار إلا النحل". "وسنده لا بأس به".
"قال الجاحظ" بجيم، فألف، فحاء مهملة، فظاء معجمة عمرو بن بحر في كتاب الحيوان له، "كونه في النار ليس تعذيبا له، بل ليعذب به أهل النار، ويتولد من العفونة" كالزبل، ويكثر إذا هاجت ريح الجنوب، ويخلق تلك الساعة، وإذا هاجت ريح الشمال خف وتلاشى، "ومن عجيب أمره أن رجيعه" أي روثه فعيل بمعنى فاعل، لأنه رجع عن حاله الأولى بعد أن كان علفا أو طعاما "يقع على الثوب الأسود أبيض، وبالعكس، وأكثر ما يظهر في أماكن العفونة ومبدأ خلقه منها، ثم من التوالد، وهو أكثر الطيور سفادا" "بكسر السين", أي وقوعا لى أنثاه، "وربما بقي عامة اليوم على الأنثى، ويحكى أن بعض الخلفاء" هو المأمون ابن الخليفة الرشيد العباسي، "سأل الشافعي: لأي علة خلق الذباب؟ " أي: هل له حكمة؟ , وإلا فأفعال الله لا تعلل، "فقال: مذلة الملوك، وكانت ألحت" أي لازمت وتكرر ترددها "عليه" أي على ذلك الملك "ذبابة".
"قال الشافعي: سألني ولم يكن عندي جواب، فاستنبطت ذلك من الهيئة الحاصلة", وعبارة الدميري في حياة الحيوان: وفي مناقب الشافعي أن المأمون سأله: لأي علة خلق الله الذباب، فقال: مذلة للملوك، فضحك المأمون، وقال: رأيته قد وقع على جسدي، قال: نعم، ولقد سألتني عنه وما عندي جواب، فلما رأيته قد سقط منك بموضع لا يناله منك أحد، فتح الله لي فيه بالجواب، فقال: لله درك، "فرحمة الله عليه ورضوانه" وقد سبقا بذلك، ففي حياة(10/23)
عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غطوا الإناء، وأوكوا السقاء فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا ينزل فيه من ذلك الوباء". رواه مسلم في صحيحه قيل: وذلك في آخر شهور السنة الرومية.
__________
الحيوان أيضا حدث يحيى بن معاذ أن أبا جعفر المنصور ألح على وجهه ذباب حتى أضجره، فقال: انظروا من بالباب، قالوا: مقاتل بن سليمان، فقال: عليّ به، فلما دخل عليه، قال: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال: نعم ليذب به الجبابرة. انتهى.
وأبو جعفر ثاني خلفاء بني العباس، والمأمون سابعهم، وفي الشفاء لابن سبع وتاريخ ابن النجار مسندا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقع على جسده ذباب أصلا، ومر في الخصائص. ذكر أمره صلى الله عليه وسلم بالحمية من الوباء النازل في الإناء بالليل بتغطيته أي ستره، "عن جابر" بن عبد الله الأنصاري، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "غطوا الإناء" أي استروه، والأمر للندب، "وأوكوا" بفتح الهمزة وسكون الواو وضم الكاف بلا همز، أي شدوا واربطوا "السقاء"، "بكسر السين والمد" القربة، أي شدوا رأسها بالوكاء، وهو الخيط مع ذكر اسم الله تعالى في الخصلتين، كما صرح به في رواية أخرى, فاسم الله هو السور الطويل العريض، والحجاب الغليظ المنيع من كل سوء.
قال القرطبي: هذا الباب من الإرشاد إلى المصلحة الدنيوية، نحو: أشهدوا إذا تبايعتم وليس للأمر الذي قصد به الإيجاب، وغايته أن يكون من باب الندب، بل جعله جمع من أهل الأصول قسما منفردا عن الوجوب والندب، "فإن في السنة ليلة ينزل" من السماء "فيها وباء"، "بالمد والقصر" وهو أشهر مرض عظيم عام الله أعلم بحقيقته.
وفي رواية لمسلم أيضا: "يوما" مكان: "ليلة". ولا منافاة بينهما، إذ ليس في أحدهما نفي الآخر، فهما ثابتان، قاله النووي: "لا يمر بإناء ليس عليه غطاء"، "بالكسر والمد" أي ستر، وهو ما يغطي به، جمعه أغطية، "أو سقاء ليس عليه وكاء"، "بكسر الواو ممدود" أي خيط مربوط به وفي رواية: بإناء لم يغط، ولا سقاء لم يوك "إلا ينزل فيه من ذلك الوباء" وخص ذلك أبو حميد الصحابي بالليل، وقوفا مع ظاهر قوله: "ليلة" لكن قال النووي: ليس في الحديث ما يدل عليه، والمختار عند أكثر الأصوليين، وهو مذهب الشافعي وغيره، أن تفسير الصحابي إذا كان خلاف ظاهر اللفظ ليس بحجة، ولا يلزم غيره من المجتهدين موافقته على تفسيره أما إذا لم يكن في ظاهر اللفظ ما يخالفه، بأن كان مجملا، فيرجع إلى تأويله، ويجب الحمل عليه، لأنه لا يحل حمل المحمل على شيء إلا بتوقيف. انتهى.
وإنما يحسن الرد عليه برواية "يوما" المفيدة مع رواية "ليلة"، أنه يغطي ليلا ونهارا، وإلا فظاهر "ليلة" لا يخالفه، ولعله لم يسمع "يوما".
"رواه مسلم في صحيحه" في الأشربة، "قيل: وذلك في آخر شهور السنة الرومية" وفي مسلم قال الليث: فالأعاجم عندنا يتقون ذلك في كانون الأول، قال النووي: أي يحذرونه ويخافونه وكانون غير مصروف، لأنه علم أعجمي، وهو الشهر المعروف. انتهى. قال غيره: والظاهر أنه في أواخره إما في السابع والعشرين، أو التاسع والعشرين، وأوله خامس كيهك من الشهور القبطية.(10/24)
"ذكر حمية الولد من إرضاع الحمقى":
روى أبو داود في المراسيل بإسناد صحيح عن زياد السهمي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقى، فإن اللبن يشبه. وعند ابن حبيب: يعدي، وعند القضاعي بسند حسن من حديث ابن عباس مرفوعا: "الرضاع يغير الطباع".
__________
ذكر حمية الولد من إرضاع الحمقى:
مؤنث أحمق، أي فاسدة العقل، قاله الزهري، "روى أبو داود في المراسيل، بإسناد صحيح عن زياد السهمي" مجهول أرسل حديثا، ويقال: هو مولى عمرو بن العاصي من الثالثة، قاله في التقريب، "قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسترضع الحمقى، فإن اللبن يشبه" أي: يورث شبها بين الرضيع والمرضعة.
"وعند ابن حبيب: يعدي" بدل يشبه، إذ العادة جارية أن الرضيع يغلب عليه أخلاق المرضعة من خير وشر.
"وعند القضاعي" وكذا ابن لال والديلمي "بسند حسن" كما قال بعض شراح القضاعي، وتعقب بأن فيه صالح بن عبد الجبار، قال في الميزان: أتى بخبر منكر جدا، وساق هذا الحديث، ثم قال فيه انقطاع, وفيه أيضا عبد الملك بن مسلمة، مدني، ضعيف، "من حديث ابن عباس، مرفوعا: "الرضاع يغير الطباع" " أي يغير الصبي عن لحوقه بطبع والديه إلى طبع مرضعته، لصغره ولطف مزاجه، والمراد حث الوالدين على توخي مرضعة طاهرة العنصر، زكية الأصل، ذات عقل ودين وخلق جميل، والطباع ما تركب في الإنسان من جميع الأخلاق التي لا يكاد يزايلها من خير وشر، كما في النهاية.
وفي المصباح: الطبع بالسكون الجبلة التي خلق الإنسان عليها، وللحديث طريق ثان عند أبي الشيخ من حديث ابن عمر، مثل حديث ابن عباس: فاعتضد ومن ثلم لما دخل الشيخ أبو محمد الجويني بيته ووجد ابنه الإمام أبا المعالي يرضع ثدي غير أمه، اختطفه منها، ثم نكس رأسه ومسح بطنه، وأدخل أصبعه في فيه، فلم يزل يفعل ذلك حتى خرج ذلك اللبن، قائلا:(10/25)
وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا أنه نهى عن استرضاع الفاجرة.
وعن عمر بن الخطاب: أن اللبن ينزع لمن تسترضع له.
وأما الحمية من البرد فاشتهر على الألسنة: اتقوا البرد فإنه قتل أبا الدرداء. لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه، فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل، فإن أبا الدرداء عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا. انتهى.
وأما ما اشتهر أيضا: أصل كل داء البردة، فقال شيخنا: رواه أبو نعيم والمستغفري معا في الطب النبوي والدارقطني في العلل، كلهم من طريق تمام بن نجيح عن الحسن البصري عن أنس رفعه. وتمام ضعفه الدارقطني وغيره، ووثقه ابن معين وغيره.
__________
يسهل عليّ موته، ولا تفسد طباعه بشرب لبن غير أمه، ثم لما كبر الإمام كان إذا حصل له كبوة في المناظرة، يقول: هذه من بقايا تلك الرضعة.
"وعند ابن حبيب أيضا مرفوعا أنه نهى عن استرضاع الفاجرة" أي الفاسقة، "وعن عمر بن الخطاب أن اللبن ينزع"، أي يميل بالشبه "لمن تسترضع له" أي لمرضعته في الخير وضده.
"وأما الحمية من البرد" بالتدفي، "فاشتهر على الألسنة: اتقوا البرد، فإنه قتل أبا الدرداء" عويمرا العجلاني "لكن قال شيخ الحفاظ ابن حجر: لا أعرفه، فإن كان واردا فيحتاج إلى تأويل", كأن يقال: كاد يقتله. "فإن أبا الدرداء: عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهرا. انتهى".
حتى مات في خلافة عثمان، وقيل: عاش بعد ذلك، "وأما ما اشتهر أيضا أصل كل داء البردة" أي قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعها سائره، قاله الرابغ، "فقال شيخنا" السخاوي في المقاصد: "رواه أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الحافظ، "والمستغفري" الحافظ أبو العباس جعفر بن محمد بن المعتز بن محمد بن المستغفر نسبة إلى جده، هذا ابن الفتح النسفي، صاحب التصانيف، ولد بعد سنة خمسين وثلاثمائة، ومات بنسف سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة "معا في الطب النبوي، والدارقطني في" كتاب "العلل، كلهم من طريق تمام بن نجيح" الأسدي، الدمشقي، نزيل حلب، "عن الحسن البصري، عن أنس، رفعه" به "وتمام، ضعفه الدارقطني وغيره", كبن حبان، فقال: تمام منكر الحديث يروي أشياء موضوعات عن الثقات، كان يتعمدهم، وقال ابن عدي والعقيلي: حديثه منكر، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه، "ووثقه ابن معين وغيره" واعتمد في التقريب الأول، فقال: ضعيف، "ولأبي نعيم أيضا من(10/26)
ولأبي نعيم أيضا من حديث ابن المبارك عن السائب بن عبد الله عن علي بن زحر عن ابن عباس مثله.
ومن حديث عمرو بن الحارث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد رفعه: "أصل كل داء من البردة".
وقد قال الدارقطني عقب حديث أنس من علله: عباد بن منصور عن الحسن البصري من قوله، وهو أشبه بالصواب.
وجعله الزمخشري في "الفائق" من كلام ابن مسعود.
قال الدارقطني في كتاب التصحيف: قال أهل اللغة رواه المحدثون البردة يعني بإسكان الراء، والصواب "البردة" يعني الفتح، وهي التخمة، لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب. من "برد" إذا ثبت وسكن.
__________
حديث" عبد الله "بن المبارك عن السائب بن عبد الله، عن علي بن زحر" "بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة" "عن ابن عباس مثله"، أي مثل لفظ حديث أنس.
"ومن حديث عمرو بن الحارث، عن دراج" "بفتح الدل المهملة والراء الثقيلة" فألف فجيم, ابن سمعان السهمي، مولاهم المصري، القاص في حديثه عن أبي الهيثم، ضعف قيل اسمه عبد الرحمن ودراج لقب، وكنيته أبو السمح "بمهلتين، الأولى مفتوحة الميم ساكنة"، مات سنة عشرين ومائة, "عن أبي الهيثم" المصري، مولى عقبة بن عامر، مقبول روى له أبو داود والنسائي "عن أبي سعيد رفعه: "أصل كل داء البردة", ورواه أبو نعيم أيضا وابن السني، كلاهما في الطب من حديث علي وأبي سعيد.
قال السخاوي: ومفرداتهها ضعيف, "و" قد "قال الدارقطني عقب" روايته "حديث أنس من علله" وقد رواه "عباد بن منصور،" فسقط من قلم المصنف لفظ، وقد رواه وهو ثابت عند شيخه، "عن الحسن البصري، من قوله" فلم يذكر أنسا ولا النبي صلى الله عليه وسلم "وهو أشبه بالصواب" من رفعه "وجعل الزمخشري في الفائق من كلام ابن مسعود" لا من كلام المصطفى.
"قال الدارقطني في كتاب التصحيف: قال أهل اللغة: رواه المحدثون: البردة، يعني بإسكان الراء، والصواب البردة، يعني بالفتح" للراء، "وهي التخمة" سميت بذلك، "لأنها تبرد حرارة الشهوة، أو لأنها ثقيلة على المعدة بطيئة الذهاب من برد إذا ثبت وسكن", وتعقب زعم أن الصواب الفتح بأن القاموس قدم السكون، فال البردة، وتحرك التخمة، فجعل اللغة الكثيرة السكون.
وقال ابن الأثير وغيره: سميت بذلك لأنها تبرد المعدة، فلا تستمرئ الطعام، وذلك بمعنى(10/27)
وقد أورد أبو نعيم مضموما لهذه الأحاديث، حديث الحارث بن فضيل عن زياد بن مينا عن أبي هريرة رفعه: "استدفئوا من الحر والبرد". وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها حديث إسحاق بن نجيح عن أبان عن أنس رفعه: "إن الملائكة لتفرح بفراغ البرد عن أمتي، أصل كل داء البرد". وهما ضعيفان وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون. انتهى.
__________
قول بعض الأطباء هي إدخال الطعام على الطعام قبل هضم الأول، فإن بطء الهضم أصله البرد الذي بردت منه المعدة، قال في الفائق: والقصد ذم الإكثار من الطعام، قيل: لو سئل أهل القبور ما سبب قصر آجالكم، لقالوا: التخمة.
"وقد أورد أبو نعيم" في الطب النبوي، "مضموما لهذه الأحاديث حديث الحارث بن فضيل" بالتصغير, الأنصاري، المدني، ثقة، من رجال مسلم، "عن زياد بن مينا" "بكسر الميم وإسكان التحتية ونون" تابعي مقبول، "عن أبي هريرة، رفعه: "استدفئوا من الحر والبرد" وكذا أورد المستغفري مع ما عنده منها" أي: من الأحاديث السابقة "حديث إسحاق بن نجيح" الملطي، نزيل بغداد، كذبوه "عن أبان" بن يزيد العطار البصري، ثقة، له أفراد، "عن أنس رفعه: إن الملائكة لتفرح بفراغ" في المقاصد بارتفاع "البرد عن أمتي أصل كل داء البرد"، وهما" أي ذا الحديث وما قبله "ضعيفان، وذلك شاهد لما حكي عن اللغويين في كون المحدثين رووه بالسكون" فيكون المراد بالبردة البرد، فيتعين سكونه، وكذا على أن المراد التخمة على ما صدر به القاموس، كما علم. "انتهى" كلام شيخه.(10/28)
الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا
يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف: إذا فسرتها، وعبرتها بالتشديد للمبالغة في
__________
الفصل الثاني: في تعبيره صلى الله عليه وسلم الرؤيا
أي تفسيرها، وهو العبور من ظاهرها إلى باطنها، قاله الراغب، وفي المدرك: حقيقة عبرت الرؤية، ذكرت عاقبتها وآخر أمرها، كما تقول: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وهو عبره، ونحوه: أولت الرؤيا إذا ذكرت مآلا، وهو مرجعها.
وقال البيضاوي: عبارة الرؤيا الانتقال من الصور الخالية إلى المعاني النفسانية التي هي مثالها من العبور، وهو المجاوزة، "يقال: عبرت الرؤيا بالتخفيف" للباء "إذا فسرتها، قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، "وعبرتها بالتشديد للمبالغة في ذلك" هكذا(10/28)
ذلك.
وأما "الرؤيا" بوزن فعلى -وقد تسهل الهمزة- فهي ما يراه الشخص في منامه.
قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤيا إدراكات يلقيها الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها، أي حقيقتها، وإما بكناها أي بعبارتها، وإما تخليطا.
وذهب القاضي أبو بكر بن الطيب: إلى أنها اعتقادات، واحتج بأن الرائي قد
__________
في نسخ صحيحة "بالواو"، لأنهما إطلاقان متقابلان بمعنيين مختلفين، خلاف ما في نسخ سقيمة بأو، والتخفيف هو الذي اعتمده الأثبات وأنكروا التشديد، لكن قال الزمخشري: عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب الكامل لبعض الأعراب:
رأيت رؤيا ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
"وأما الرؤيا بوزن فعلى" "بضم الفاء قسيم لمقدر" أي أما التعبير فمأخوذ من عبرت الرؤيا إلى آخره، "وقد تسهل الهمزة" بإبدالها واوا، ثم قد تبقى ظاهرة، وقد تقلب ياء وتدغم فيما بعدها، فيتحصل من ذلك ثلاث لغات، "فهي ما يراه الشخص في منامه" فهي كالرؤية، ففرق بينهما بتاء التأنيث، كالقربة والقربى.
وقال القرطبي: الرؤيا مصدر رأى في منامه، والرؤية مصدر رأى في اليقظة، وقد تكون الرؤية مصدر رأى يقظة، كقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] ؛ لأن الصحيح أن الإسراء يقظة.
"قال القاضي أبو بكر بن العربي: الرؤية إدراكات يلقيها" وفي نسخة: يخلقها، وهما ظاهرتان، وفي آخر: علقها، أي أثبتها "الله تعالى في قلب العبد على يدي ملك أو شيطان، إما بأسمائها أي حقيقتها" بأن يخلق صورة ما يراه في المنام، كما هو موجود مشاهد في الخارج، إما حالا، وإما مآلا، كأن يرى صورة إنسان يعرفه في اليقظة على صفة خاصة، أو يخاطب بشيء معلوم، "وإما بكناها، أي بعباراتها" بأن يخلق في قلبه شيئا هو علامة على أمور يخلقها في الحال، أو كان قد خلقها فيقع ذلك، "وإما تخليطا" بأن يخلق في قلبه حقيقة ما يراه، وم هو دال على أمور تقوم به.
قال: أعني ابن العربي: ونظيرها في اليقظة الخواطر، فإنها قد تأتي على نسق، وقد تأتي مسترسلة غير محصلة.
"وذهب القاضي أبو بكر" محمد "بن الطيب" الباقلاني "إلى أنها اعتقادات" أي ربط(10/29)
يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد.
قال ابن العربي: والأول أولى، والذي يكون من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التنسل فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات.
وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولوا الوقوف على حقائق لا تدرك بالعقل، ولا يقوم عليها برهان، وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم، فمن ينتمي إلى الطب ينسب جميع الرؤايا إلى الأخلاط، فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح في الماء ونحو ذلك لمناسبة الماء طبيعة البلغم، ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو وهكذا إلى آخره. وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله
__________
للقلب على معنى يتصور في نفسه، فذلك الربط عقد واعتقاد، وما ربط عليه القلب من المعاني معتقد، فتصور إنسان بصورته مثلا اعتقاد، والإنسان المتصور بأنه كذا معتقد.
"واحتج بأن الرائي قد يرى نفسه بهيمة أو طائرا مثلا، وليس هذا إدراكا، فوجب أن يكون اعتقادا، لأن الاعتقاد قد يكون على خلاف المعتقد" بخلاف الإدراك.
"قال ابن العربي: والأول أولى" لأن حقيقة الرؤيا تعلق الشيء بخصوص المرئي بذاته، أو بعلامة تدل عليه وذلك إنما يكون فيما لو رآه نفسه، أما إذا تصوره بغير صورته، فإنما هو مثال انتقش في ذهنه ليس حقيقة المرئي، "والذي يكون", أي يوجد "من قبيل ما ذكره ابن الطيب من قبيل التمثيل، فالإدراك إنما يتعلق به لا بأصل الذات" ولذا قالوا: التصورات لا يقع فيها الخطأ، فمن رأى شبحا من بعد فتصوره إنسانا، وليس هو كذلك، كانت الصورة الحاصلة في ذهنه صورة إنسان بلا شك، والخطأ إنما هو في الحكم على تلك الصورة بأنها إنسان، م أنها حجر أو شجر أو نحوهما.
"وقال المازري: كثر كلام الناس في حقيقة الرؤيا، وقال فيها غير الإسلاميين أقاويل كثيرة منكرة، لأنهم حاولا الوقوف على حقائق لا تدر بالعقل، ولا يقوم عليها برهان" دليل عقلي، "وهم لا يصدقون بالسمع، فاضطربت أقاويلهم" بسبب ذلك، "فمن ينتمي" ينتسب "إلى الطب" من غير الإسلاميين "ينسب جميع الرؤيا إلى الأخلاط" الأمزجة الأربعة، فيستدل بالرؤيا على الخلط، "فيقول: من غلب عليه البلغم رأى أنه يسبح" يعوم "في الماء ونحو ذلك، لمناسبة طبيعة البلغم،" إذ كل منهما بارد رطب، "ومن غلبت عليه الصفراء رأى النيران والصعود في الجو" وشبهه لمناسبة الصفراء في أن كلا منهما حار يابس، ولأن(10/30)
العادة به لكنه لم يقم عليه دليل، ولا اطردت به عادة، والقطع في موضع التجويز غلط.
ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري في الأرض هي في العالم العلوي كالنقوش، فما حاذى بعض النفوس منها انتقش فيها. قال: وهذا أشد فسادا من الأول، لكونه تحكما لا برهان عليه. والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض، والأعراض لا انتقاش فيها.
قال: والصحيح ما عليه أهل السنة، أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد فهو كما يقع اليقظان، ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف.
__________
خفتها وإيقادها يخيل إليه الطيران في الجو والصعود في العلو، "وهكذا إلى آخره" أي: وهكذا يصنعون في بقية الأخلاط، كما هو لفظ المازري، "وهذا وإن جوزه العقل، وجاز أن يجري الله العادة به، لكنه لم يقم عليه دليل" من جهة الشرع، "ولا اطردت به عادة،" لأنا نرى كثيرا ممن غلب عليه البلغم أو غيره يرى ما لا يناسب طبعه، "والقطع في موضع التجويز غلط" وجهالة، فإن نسبوا ذلك إلى الأخلاط بعادة أجراها الله فجائز، وإن أضافوه إلى فعل الأخلاط قطع بخطئهم.
"ومن ينتمي إلى الفلسفة يقول: إن صور ما يجري، أي يقع "في الأرض هو في العالم العلوي كالنقوش" وكأنه يدور بدوران الآخر، "فما حاذى بعض النفوس" بفاء وسين مهملة جمع نفس"، "منها" أي: النقوش "بالقاف والمعجمة" "انتقش فيها".
"قال" المازري: "وهذا أشد فسادا من الأول" أي قول من ينتمي إلى الطب، "لكونه تحكما لا برهان عليه، والانتقاش من صفات الأجسام، وأكثر ما يجري في العالم العلوي الأعراض والأعراض لا انتقاش فيها", فبطل قولهم بوجهين.
"قال" المازري: "والصحيح ما عليه أهل السنة أن الله تعالى يخلق في النائم اعتقادات، هذا على قول ابن الطيب، أما على مختار ابن الربي، فالمناسب أن يقول إدراكات، "كما يخلقها في قلب اليقظان، فإذا خلقها، فكأنه جعلها علما على أمور أخرى خلقها" قبل ذلك، "أو يخلقها في ثاني حال، ومهما وقع منها على خلاف المعتقد، فهو كما يقع لليقظان ونظيره أن الله تعالى خلق الغيم علامة على المطر، وقد يتخلف" فإذا وقع في قلب النائم اعتقاد الطيران، وليس بطائر فغايته أنه اعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، وكم في(10/31)
وتلك الاعتقادات تقع تارة بحضرة الملك فيقع بعدها ما يسره، وتارة بحضرة الشيطان فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله.
وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال: لقي عمر عليا فقال: يا أبا الحسن، الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق ومنها ما يكذب، قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تصدق، والذي يستيقظ دون العرش فتلك الرؤيا التي تكذب". قال الذهبي في تلخيصه: هذا حديث منكر، ولم يصححه المؤلف.
وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه به في المنام". ووجد الحديث للترمذي في "نوادر الأصول" من حديث عبادة بن
__________
اليقظة من يعتقد الشيء على خلاف ما هو عليه، ويجعل ذلك الاعتقاد علما على غيره، هكذا في كلام المازري، "وتلك الاعتقادات تقع تارة الملك، فيقع بعدها ما يسره" أي الرائي، "وتارة بحضرة الشيطان" إبليس أو غيره، "فيقع بعدها ما يضره، والعلم عند الله".
"وأخرج الحاكم والعقيلي من رواية محمد بن عجلان" المدني، صدوق، إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، "عن سالم بن عبد الله بن عمر" بن الخطاب، أحد الفقهاء، "عن أبيه، قال: لقي عمر عليا، فقال: يا أبا الحسن الرجل يرى الرؤيا، فمنها ما يصدق، ومنها ما يكذب" فما السر في ذلك، "قال: نعم" أجيبك: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من عبد ولا أمة ينام فيمتلئ نوما"، أي يثقل نومه "إلا تخرج روحه إلى العرش، فالذي لا يستيقظ دون العرش" بأن يبقى نائما حتى تصل روحه إلى العرش، "فتلك الرؤيا التي تصدق،" أي تقطع مطابقة للواقع لانكشاف صور الأشياء لها على حقيقتها، "والذي يستيقظ دون العرش" أي قبل وصول روحه إليه، "فتلك الرؤيا التي تكذب،" أي تخبر بخلاف الواقع.
"قال الذهبي في تلخيصه" لكتاب المستدرك للحاكم، لخصه تلخيصا حسنا مع تعقب عليه: "هذا حديث منكر" أي ضعيف، "ولم يصححه المؤلف" يعني لم يصرح الحاكم بقوله: صحيح، وإن رواه في المستدرك موضوعه الصحيح الزائد على ما في الصحيحين.
"وذكر ابن القيم حديثا مرفوعا غير معزو" لأحد بأن قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إن رؤيا المؤمن كلام يكلمه ربه في المنام" به، "ووجد الحديث للترمذي" محمد بن علي الحكيم "في"(10/32)
الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته عن شيخه عمر بن أبي عمر، وهو واهن وفي سنده جنيد بن ميمون عن حمزة بن الزبير عن عبادة.
قال الحكيم: قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] قال: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي في المنام. ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم، فالوحي لا يدخله خلل لأنه محروس، بخلاف رؤيا غير الأنبياء فإنه قد يحضرها الشيطان.
وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ فينسخ منه، ويضرب لكل على قصته مثلا، فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى أو نذارة أو معاتبة، والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العداوة بينهما، فهو يكيده بكل وجه، ويريد إفساد أموره
__________
كتابه "نوادر الأصول من حديث عبادة بن الصامت، أخرجه في الأصل الثامن والتسعين، وهو من روايته، عن شيخه عمر بن أبي عمر" "بضم العين" الكلاعي "بفتح الكاف"، "وهو واه" أي شديد الضعف، "وفي سنده أيضا: جنيد" بضم الجيم" مصغر "ابن ميمون، عن حمزة بن الزبير، عن عبادة" بن الصامت الصحابي، ووجد أيضا في كبير الطبراني، وأخرجه الضياء في المختارة، عن عبادة قال النور الهيثمي: فيه من لم أعرفه.
"قال الحكيم" الترمذي: "قال بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] "قال:" معنى {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} , أي في المنام", فالحجاب هو المنام على هذا التفسير، ويؤيده ظاهر الحديث المذكور، وزعم أن معناه يكلمه ربه على لسان ملك خلاف المتبادر، "ورؤيا الأنبياء وحي بخلاف غيرهم" وإن قلنا: إن الله يكلم المؤمن على هذا الحديث الضعيف، "فالوحي لا يدخله خلل، لأنه محروس" أي محفوظ "بخلاف رؤيا غير الأنبياء، فإنه قد يحضرها الشيطان" فيداخله الخلل، كما هو الأصل فيما حضره، بل الغالب عليه الكذب، سيما إذا ألقيت على يد شيطان، والله الهادي المضل.
"وقال الحكيم أيضا: وكل الله بالرؤيا ملكا اطلع على أحوال بني آدم من اللوح المحفوظ، فينسخ منها ويضرب لكل على قصته" الثابتة في اللوح، "مثلا: فإذا نام مثلت له تلك الأشياء على طريق الحكمة الإلهية لتكون له بشرى، أو نذارة، أو معاتبة" فإذا كان في اللوح أن فلانا يحصل له كذا، تمثل مثال على صورة ما فيه، فإذا نام ألقى ذلك المثال في قلبه، "والآدمي قد يسلط عليه الشيطان لشدة العدواة بينهما، فهو يكيده،" أي يخدعه ويمكر به(10/33)
بكل طريق، فيلبس عليه رؤياه إما بتغليظه فيها أو بغفلته عنها.
وفي البخاري عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث، ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم، فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم.
وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة، مع أن النبوة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم.
وأجيب: بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز.
__________
"بكل وجه" يقدر عليه، "ويريد إفساد أموره بكل طريق، فيلبس" "بكسر الباء" يخلط "عليه رؤياه، إما بتغليطه فيها، أو بغفلته عنها" رأسا.
"وفي البخاري" من طريق مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، "عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا الحسنة" أي الصادقة، أو المبشرة احتمالان للباجي "من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة".
قال ابن عبد البر: مفهومه أنها من غير الصالح لا يقطع بأنها كذلك، ويحتمل أنه خرج على جواب سائل، فلا مفهوم له، ويؤيده رواية: "يراها الرجل الصالح، أو ترى له"، فعم قوله: "أو ترى له" الصالح وغيره، "والمراد غالب رؤيا الصالحين، وإلا فالصالح قد يرى الأضغاث" أي الأحلام الباطلة، جمع ضغث مبالغة في وصف الحلم بالبطلان، أو لتضمنه أشياء مختلفة، "ولكنه نادر لقلة تمكن الشيطان منهم، بخلاف عكسهم"، أي: مخالفهم وهم الفسقة، "فإن الصدق فيها نادر لغلبة تسلط الشيطان عليهم".
زاد في شرح البخاري: وحينئذ فالناس على ثلاثة أقسام: الأنبياء ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيا ما يحتاج إلى تعبير, والصالحون والغالب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير، ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم ثلاثة مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم, وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق, وكفار ويندر فيا الصدق جدا، قاله المهلب، كما في الفتح.
"وقد استشكل كون الرؤيا جزءا من النبوة مع أن النبوة، قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم وأجيب بأن الرؤيا إن وقعت منه صلى الله عليه وسلم فهي جزء من أجزاء النبوة حقيقة، وإن وقعت من غير النبي،(10/34)
وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت فعلمها باق.
وتعقب بقول مالك -كما حكاه ابن عبد البر- أنه سئل: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة.
وأجيب: بأنه لم يرد أنها نبوة باقية، وإنما أراد أنها أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم، فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة، لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يسلتزم ثبوت وصفه، كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله رافعا صوته لا يسمى مؤذنا، وفي حديث أم كرز الكعبية عند أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان قال: ذهبت النبوة وبقيت المبشرات. وعند أحمد من حديث عائشة مرفوعا: "لم يبق بعدي من المبشرات
__________
فهي جزء من أجزاء النبوة على سبيل المجاز" لا الحقيقة، فإن جزء النبوة لا يكون نبوة، كما أن جزء الصلاة لا يكون صلاة، "وقيل: المعنى أنها جزء من علم النبوة، لأن النبوة وإن انقطعت، فعلمها باق" "بفتح العين واللام" أي علاماتها كالمعجزات الدالة على نبوته عليه الصلاة والسلام، كذا ضبطه شيخنا، ولا يتعين، فيصح أن يكون بكسر فسكون مفرد علوم، إذ لا شك أن علومها باقية.
"وتعقب بقول مالك كما حكاه ابن عبد البر أنه سئل: أيعبر" يفسر "الرؤيا كل أحد، فقال: أبالنبوة يلعب؟ ثم قال" مالك "الرؤيا جزء من النبوة" فظاهره أن المراد جزء من حقيقة النبوة.
"وأجيب بأنه لم يرد أنها نبوة باقية" حقيقة، "وإنما أراد أنها لما أشبهت النبوة من جهة الاطلاع على بعض الغيب، لا ينبغي" لا يصح "أن يتكلم فيها بغير علم" لأنه إفتاء بالجهل عن أمر مغيب وهو حرام، "فليس المراد أن الرؤيا الصالحة نبوة" من جهة الاطلاع على الغيوب، "لأن المراد تشبيه الرؤيا بالنبوة، وجزء الشيء لا يستلزم ثبوت وصفه" له، "كمن قال: أشهد أن لا إله إلا الله، رافعا صوته" بها، "لا يسمى مؤذنا" شرعا ولا عرفا، ولا يقال: إنه أذن، وإن كان جزءا من الأذان، وكذا لو قرأ يئا من القرآن وهو قائم لا يسمى مصليا، وإن كانت القراءة جزءا من الصلاة.
"وفي حديث أم كرز" "بضم الكاف وسكون الراء بعدها زاي" "الكعبية" المكية، صحابية، لها أحاديث "عند أحمد" وابن ماجه، "وصححه ابن خزيمة وابن حبان" عن النبي صلى الله عليه وسلم "قال: ذهبت النبوة،" أي انقطع الوحي بموتي، "وبقيت المبشرات" بكسر الشين المعجمة(10/35)
إلا الرؤيا"، وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبو داود أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو ترى له". والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه.
وقوله: "من الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك،
__________
جمع مبشرة اسم فاعل للمؤنث" وهي البشرى من البشر، وهو إدخال الفرح والسرور على المبشر "بالفتح" وليس جمع البشرى، لأنها اسم بمعنى البشارة، وفسرها في الخبر الآتي بالرؤيا الصالحة.
"وعند أحمد من حديث عائشة، مرفوعا: لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا" أي الصالحة، كما في الحديث بعده.
"وفي حديث ابن عباس عند مسلم وأبي داود، أنه عليه الصلاة والسلام كشف الستارة" "بالكسر" ورأسه معصوب في مرضه الذي مات فيه، والناس صفوف" في الصلاة "خلف أبي بكر" الصديق، فقال: "يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة، يراها المسلم" بنفسه، "أو ترى له"، "بضم التاء، أي يراها له غيره "والتعبير بالمبشرات خرج مخرج الغالب، فإن من الرؤيا ما تكون منذرة، وهي صادقة يريها الله تعالى للمؤمن رفقا به ليستعد لما يقع قبل وقوعه".
وقال ابن التين: معنى الحديث أن الوحي ينقطع بموتي، ولا يبقى ما يعلم منه ما سيكون إلا الرؤيا، ويرد عليه الإلهام، فإن فيه إخبارا بما سيكون، وهو للأنبياء بالنسبة للوحي كالرؤيا، ويقع لغير الأنبياء، كما في مناقب عمر: قد كان فيما مضى محدثون "بفتح الدال، أي ملهمون بفتح الهاء وقد أخبر كثير من الأولياء عن أمور مغيبة، فكانت كما أخبروا، والجواب أن الحصر في المنام لشموله لآحاد المؤمنين، وكثرة وقوعه بخلاف الإلهام، فيختص بالبعض، ومع اختصاصه، فإنه نادر، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن يكن في أمتي أحد فعمر"، كان السر في ندور الإلهام في زمنه، وكثرته من بعده غلبة الوحي إليه صلى الله عليه وسلم في اليقظة وإرادة إظهار المعجزات منه، وكان المناسب أن لا يقع لغيره في زمانه منه شيء، فلما انقطع الوحي بموته وقع الإلهام لمن اختصه الله به للأمن من اللبس في ذلك، وفي إنكار ذلك، مع كثرته واشتهاره مكابرة ممن أنكره.
قال الحافظ: "وقوله من "الرجل الصالح" لا مفهوم له، فإن المرأة الصالحة كذلك".(10/36)
وحكى ابن بطال الاتفاق عليه.
وقوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة" كذا في أكثر الأحاديث. وروى مسلم من حديث أبي هريرة: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة"، وعنده أيضا من حديث ابن عمر: "جزء من سبعين جزءا" وعند الطبراني: "جزء من ستة وسبعين جزءا" وسنده ضعيف، وعند ابن عبد البر من طريق عبد العزيز بن المختار عن ثابت عن أنس مرفوعا: "جزء من ستة وعشرين جزءا" ووقع في شرح مسلم للنووي وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين".
والذي يتحصل من الروايات عشرة، أقلها ما عند النووي، وأكثرها من ستة وسبعين، وأضربنا عن باقيها خوف الإطالة.
__________
"وحكى ابن بطال: الاتفاق عليه" ومر أيضا أن ابن عبد البر جوز أن الصالح لا مفهوم له، وقوله: "جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، كذا في أكثر الأحاديث" أنس عند البخاري كما مر، وهو في الصحيحين من طريق قتادة، عن أنس، عن عبادة بن الصامت، لكن قال الحافظ: خالف قتادة غيره، فلم يذكروا عبادة في السند، وأبو هريرة في الصحيحين، والبخاري عن أبي سعيد، وابن عمر وجابر وابن عمر، وعند أحمد وعوف بن مالك وأبو رزين عند ابن ماجه، وابن مسعود والعباس بن عبد المطلب عند الطبراني، وهو متواتر.
"وروى مسلم من حديث أبي هريرة" في أثناء حديث: "جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوة". "وعنده أيضا من حديث ابن عمر" بن الخطاب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءا من النبوة"، وكذا عند أحمد عن ابن عباس.
"وعند الطبراني" عن ابن عمر: "جزء من ستة وسبعين جزءا". "وسنده ضعيف".
"وعند ابن عبد البر من طريق عبد لعزي بن المختار" الدباغ البصري، مولى حفصة بنت سيرين, ثقة، روى له الستة، "عن ثابت، عن أنس مرفوعا": "جزء من ستة وعشرين جزءا". ووقع في شرح مسلم للنووي، وفي رواية عبادة: "أربعة وعشرين". وأشار الحافظ إلى تجويز أنه تصحيف، فعند ابن جرير، عن عبادة: "جزء من أربعة وأربعين". وابن النجار عن ابن عمر: "جزء من خمس وعشرين". والترمذي عن أبي زرين: "جزء من أربعين" وابن جرير عن ابن عباس: "جزء من خمسين". "والذي يتحصل من الروايات عشرة: أقلها ما عند النووي".
قال الحافظ: إن لم يكن مصحفا، "وأكثرها من ستة وسبعين" فذكرنا منها ستة، "وأضربنا عن باقيها" أربعة "خوف الإطالة" وقد ذكرتها لك، وأي إطالة فيها، ولكن الناس فيما(10/37)
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا جزء من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما، وأما تفصيل النسبة فيختص بمعرفته درجة النبوة.
وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل
__________
يعشقون مذاهب.
قال الحافظ: ويمكن الجواب عن اختلاف الأعداد، بأنه بحسب الوقت الذي حدث فيه صلى الله عليه وسلم بذلك، كأن يكون لما أكمل ثلاث عشرة سنة بعد مجيء الوحي إليه حدث بأن الرؤيا جزء من ستة وعشرين إن ثبت الخبر بذلك، وذلك وقت الهجرة، ولما أكمل عشرين حدث بأربعين، ولما أكمل اثنتين وعشرين حدث بأربعة وأربعين، ثم حدث بعدها بخمسة وأربعين، ثم حدث بستة وأربعين في آخر حياته، وما عدا ذلك من الروايات فضعيف، ورواية خمسين تحتمل جبر الكسر، والسبعين للمبالغة. انتهى.
وملحظ جمعه على تسليم الآتي أنه أوحى إليه مناما ستة أشهر، كما أفاده بقوله إن ثبت الخبر بذلك، وقد جمع غيره بغير ذلك مما فيه تعسف، وقد قال ابن العربي: تفسيره بمدة النبي صلى الله عليه وسلم باطل، لأنه يفتقر إلى نقل صحيح، ولا يوجد. قال: والأحسن قول الطبري العالم بالقرآن والسنة: إن نسبة هذه الأجزاء إلى النبوة إنما هو بحسب اختلاف الرائي، فرؤيا الصالح على عدد، والذي دونه دون ذلك. انتهى.
وخدش فيه القرطبي بحمل مطلق الرؤيا على مقيدها بالرجل الصالح، ولا خدش فيه بذلك، لأن الصالح يختلف إلى أعلى ومتوسط وأدنى، وابن العربي إنما قال الذي دونه، ثم هذا على أن الصالح له مفهوم، أما على ما قال أبو عمر لا مفهوم له، فالجمع حسن.
"وقال القاضي أبو بكر بن العربي: أجزاء النبوة لا يعلم حقيقتها إلا ملك أو نبي، وإنما القدر الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم أن الرؤيا من أجزاء النبوة في الجملة، لأن فيها اطلاعا على الغيب من وجه ما" يحصل له الشبه بالنبوة من ذلك الوجه.
"وأما تفصيل النسبة، فيختص بمعرفته درجة النبوة" إذ لا يصل إلى ذلك غيره، ومن حاول ذلك لم يصب، ولئن وقع له الإصابة في بعضها لما شهد له من الأحاديث المستخرج منها، لم يسلم له ذلك في بقيتها، مع أنه ما فيه من التكلف لم يقدر أن يبلغ بالعدد إلى ثلاثين.
"وقال المازري: لا يلزم العالم أن يعرف كل شيء جملة وتفصيلا، فقد جعل الله(10/38)
الله للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل.
وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة وأبدى لها مناسبة، فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله تعالى أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا؛ لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح.
قال ابن بطال: هذا تأويل بعيد من وجهين:
أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى.
وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه
__________
للعالم حدا يقف عنده، فمنه ما يعلم المراد به جملة وتفصيلا، ومنه ما يعلم جملة لا تفصيلا، وهذا من هذا القبيل" الثاني، فلا يلزم بيان تلك الأجزاء، قال: ورجح بعض شيوخنا هذا الوجه، وقدح في القول، بأن مدة الرؤيا قبل النبوة ستة أشهر، بأنه لم يثبت، "وقد تكلم بعضهم على الرواية المشهورة" المبدأ بها، وهي جزء من ستة وأربعين، "وأبدى لها مناسبة" واعترض، وإذا أردت بيان ذلك، "فنقل ابن بطال عن أبي سعيد السفاقسي أن بعض أهل العلم ذكر أن الله أوحى إلى نبيه في المنام ستة أشهر، ثم أوحى إليه بعد ذلك في اليقظة" "بفتح القاف" خلاف النوم "بقية مدة حياته، ونسبتها إلى الوحي في المنام جزء من ستة وأربعين جزءا" من النبوة، "لأنه عاش بعد النبوة ثلاثا وعشرين سنة على الصحيح" وقيل: عشرين، وقيل: خمسا وعشرين.
"قال ابن بطال هذا تأويل بعيد من وجهين، أحدهما: أنه قد اختلف في قدر المدة التي بعد بعثه صلى الله عليه وسلم" لكن قد اعترف بأنه بناه على الصحيح، فلا معنى لاستبعاده بهذا؛ "والثاني أنه يبقى حديث السبعين جزءا بغير معنى", قال الحافظ: ويضاف إليه بقية الأعداد الواردة، أي: في بقائها بغير معنى، "وهذا الذي قاله من الإنكار في هذه المسألة، سبقه إليه الخطابي فقال: كان بعض أهل العلم يقولون": أفاد الجمع تعدد قائل ذلك "في تأويل هذا العدد قولا لا يكاد يتحقق، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين(10/39)
الصلاة والسلام أقام بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة. قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على من قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا، ولا نعلم في ذلك أثرا ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله على سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا. وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام، ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها. وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره.
__________
سنة، وكان يوحى إليه في منامه ستة أشهر، وهي نصف سنة، فهي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة.
"قال الخطابي: وهذا وإن كان وجها تحتمله قسمة الحساب والعدد، فأول ما يجب على ما قاله أن يثبت ما ادعاه خبرا" عمن يقبل قوله، لأنه خبر عن غيب، "ولا نعلم في ذلك أثرا" عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابي، "ولا ذكر مدعيه في ذلك خبرا، فكأنه قاله في سبيل الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا" لأنه اعتبار له في المعارف والعلوم، وإنما يعتبر به في العمليات وما هو وصلة إليها وأسقط المصنف من كلام الخطابي: ولئن كانت هذه المدة محسوبة من أجزاء النبوة على ما ذهب إليه، فليلتحق بها سائر الأوقات التي كان يوحى إليه فيها في منامه في طول المدة كما ثبت عنه في أحاديث كثيرة، كليلة القدر والرؤيا في أحد وفي دخول مكة، فإنه يتلفق من ذلك مدة أخرى تزاد في الحساب فتبطل القسمة التي ذكرها، فدل ذلك على ضعف ما تأوله المذكور، "وليس كل ما خفي علينا علمه يلزمنا حجته، كأعداد الركعات وأيام الصيام ورمي الجمار، فإنا لا نصل من علمها إلى أمر يوجب حصرها تحت أعدادها، ولم يقدح ذلك في موجب اعتقادنا للزومها" وبقية كلام الخطابي، وهو كقوله في حديث آخر: الهدى الصالح السمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة، فإن تفصيل هذا العدد وحصر النبوة متعذر، وإنما فيه أن هاتين الخصلتين من جملة هدي الأنبياء وسمتهم، فكذلك معنى حديث الباب المراد به تحقيق أمر الرؤيا، وأنها مما كان الأنبياء تثبته، وأنها جزء من أجزاء العلم الذي يأتيهم والأنباء التي كان ينزل بها الوحي عليهم. انتهى ملخصا.
قال الحافظ: وقد قبل جماعة من الأئمة المناسبة المذكورة، وأجابوا عما أورده الخطابي، أما الدليل على كون الرؤيا ستة أشهر، فإن ابتداء الوحي كان على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم،(10/40)
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق الرؤيا بالأسحار". رواه الترمذي
__________
كما جزم به ابن إسحاق وغيره، وذلك في ربيع الأول، ونزول جبريل إليه وهو بغار حراء كان في رمضان وبينهما ستة أشهر، وفي هذا الجواب نظر؛ لأنه على تقدير تسليمه ليس فيه تصريح بالرؤيا.
وقد قال النووي، أي تبعا لغيره: إن زمن الرؤيا للنبي صلى الله عليه وسلم كان ستة أشهر وأما ما ألزمه به من تلفيق أوقات المرائي وضمها إلى المدة فأجيب عنه بأن المراد وحي المنام المتتابع، وأما ما وقع منه في غضون وحي اليقظة، فهو يسير بالنسبة إلى وحي اليقظة، فهو مغمور في جانب وحي اليقظة، فلم يعتبر بمدته، وهو نظير ما اعتمدوه في نزول الوحي، وقد أطبقوا على تقسيم النزول إلى مكي ومدني فقط، فالمكي ما نزل قبل الهجرة، ولو وقع بغير مكة، كالطائف ونخلة، والمدني ما نزل بعد الهجرة، ولو وقع بغير المدينة، كما في الغزوات وسفر الحج والعمرة حتى مكة، وهو اعتذار مقبول.
"وقد ذكروا في المناسبات غير ذلك مما يطول ذكره" لا سيما وكله متعقب، ومنها: أن هذه التجزئة في طرق الوحي، إذ منه ما سمع من الله بلا واسطة والملك والإلهام والمنام وصلصلة الجرس، وقد عدها الحليمي ستا وأربعين، فتعسف وتكلف.
وقال الإمام الغزالي: لا يظن أن تقدير النبي صلى الل عليه وسلم يجري على لسانه كيف اتفق، بل لا ينطبق إلا بحقيقة الحق، فقوله: ستة وأربعين جزءا من النبوة تقدير محقق، لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين؛ لأن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره، وهو مختص بأنواع من الخواص، كل واحد منها يمكن انقسامه إلى أقسام، بحيث يمكننا أن نقسمها إلى ستة وأربعين جزءا، بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءا من جملتها، لكن لا يرجع إلا إلى الظن والتخمين، لا أنه الذي أراده صلى الله عليه وسلم حقيقة.
"وعن أبي سعيد" الخدري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أصدق الرؤيا بالأسحار" أواخر الليل على المشهور، لفضل الوقت بانتشار الرحمة فيه، ولراحة القلب البدن بالنوم قبل ذلك غالبا، وخروجهما عن تعب الخواطر وتواتر التصرفات، ومتى كان القلب أفرغ كان أوعى لما يلقى إليه؛ لأن الغالب حينئذ اجتماع الخواطر والدواعي؛ ولأن المعدة خالية غالبا، فلا يتصاعد منها الأبخرة المشوشة، ولا يعارضه خبر جابر، رفعه: "أصدق الرؤيا ما كان نهارا، لأن الله عز وجل خصني بالوحي نهارا" , رواه الديلمي والحاكم في تاريخه بسنده ضعيف، لجواز أن رؤيا النهار أصدق من رؤيا الليل ما عدا وقت السحر؛ لأن الخاص يقضي على العام، أو أن أصدق في كل من الحديثين على معنى من، وهذا أولى، لأن علماء التعبير قالوا: رؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، وأصدقها بالأسحار، "رواه الترمذي والدارمي" وابن حبان والبيهقي والحاكم، وقال: صحيح،(10/41)
والدارمي.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا".
قال الخطابي في "المعالم" في قوله: "إذ اقترب الزمان" قولان:
أحدهما: أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار، وهو وقت استوائهما، أيام الربيع، وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا، قال: والمعبرون
__________
وأقره الذهبي.
"وروى مسلم من حديث" عبد الوهاب الثقفي، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن "أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم"، قال: "إذ اقترب" افتعل من القرب، وروي: "تقارب". "الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب" مبالغة، أي: لم تقرب أن تكذب، فضلا عن أن تكذب، ومنه قول ذي الرمة:
إذا غير النأي المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
أي لم يقرب من البراح، "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، قال عياض: كان ذلك لأن غير الصادق يعتري الخلل رؤياه من وجهين: أحدهما: أن تحديثه نفسه يجري في نومه على جري عادته من الكذب، فتكون رؤياه كذلك، والثاني: أنه قد يحكي رؤياه، ويسامح في زيادة أو نقص أو تحقير عظيم، أو تعظيم حقير، فتكذب رؤياه لذلك، وبسط ذلك القرطبي كما يأتي، وخص عزوه لمسلم لزيادته: "وأصدقكم" ... إلخ، وإلا فهو في البخاري أيضا من وجه آخر، عن ابن سيرين أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمنين".
"قال الخطابي في المعالم" أي معالم السنن شرحه على أبي داود "في قوله: "إذا اقترب الزمان". قولان".
"أحدهما" وهو قول أبي داود "أن يكون معناه تقارب زمان الليل وزمان النهار" بأن يكون قدر أحدهما قريبا من الآخر، "وهو وقت استوائهما أيام الربيع" أي ربيع الزمان، وهو تلو الشتاء، ومراده أنه ليس الليل في غاية الطول، ولا النهار في غاية القصر، كأوائل الشتاء، ولا عكسه كأوائل الصيف، وليس المراد باستوائهما أن يكون الليل طول النهار في جميع فصل الربيع؛ لأنه خلاف الواقع، إذ لا يستويان إلا في أول ليلة منه، واليوم التالي لها، "وذلك وقت اعتدال الطبائع الأربع غالبا" فلا يكون في المنام أضغاث أحلام، فإن من موجبات التخليط غلبة(10/42)
يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار.
والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته، إذ دنا قيام الساعة.
وتعقب الأول: بأنه يبعده التقييد بالمؤمن، فإن الوقت الذي تعتدل فيه الطبائع لا يختص به.
وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر عن أيوب في هذا الحديث بلفظ: "في آخر الزمان لا تكذب رؤيا المؤمن".
__________
بعض، الأخلاط على بعض ومن ثم "قل: والمعبرون يقولون: أصدق الرؤيا ما كان عند اعتدال الليل والنهار وإدراك الثمار" وانفتاق الأزهار، وعند ذلك تصح الأمزجة وتنصح الحواس.
والثاني: أن اقتراب الزمان المراد به انتهاء مدته إذا دنا" قرب "قيام الساعة، وتعقب الأول بأنه يبعده التقييد بالمؤمن" في الرواية الآتية، المعبر عنه في رواية مسلم بالمسلم؛ "فإن الوقت الذي تعتدل في الطبائع لا يختص به" وبعده المازري، بأن رؤيا الصالح الصدق في كل زمان.
وقال ابن العربي: لا يصح التفسير الأول؛ لأنه لا أثر لاعتدال الزمان في صدق الرؤيا إلا على ما يقوله الفلاسفة من اعتدال الأمزجة حينئذ، ثم إنه وإن كان في هذا الاعتدال في الأول، لكنه حين تحل الشمس برأس الميزان عكس الأول؛ لأنه تسقط الأوراق ويتقلص الماء عن الثمار، مع أنه يتقارب فيه الليل والنهار، يعني: فحمله على أحدهما تخصيص بلا مخصص، قال: والصحيح التفسير الثاني؛ لأن القيامة هي الحاقة التي تحق فيها الحقائق، فكل ما قرب منها فهو أخص بها. انتهى.
"وجزم ابن بطال بأن الثاني هو الصواب، واستند إلى ما أخرجه الترمذي من طريق معمر، عن أيوب" السختياني "في" روايته "هذا الحديث" عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة "بلفظ": "في آخر الزمان لا تكذب" لفظ الترمذي: "لم تكد تكذب". "رؤيا المؤمن". والحديث واحد، فيفسر الاقتراب بآخر الزمان.
قال ابن بطال: فالمعنى إذا اقتربت الساعة وقبض أكثر أهل العلم، ودرست معالم الديانة بالهرج والفتنة كان الناس على مثل الفترة محتاجين إلى مذكر ومجدد لما درس من الدين، كما كانت الأمم تذكر بالأنبياء لكن لما كان نبينا خاتم الأنبياء عوضوا بالرؤيا الصادقة التي هي جزء من النبوة الآتية بالبشارة والنذارة، وقال ابن أبي حمزة: المؤمن في ذلك الوقت يكون غريبا، فيقل أنيسه ومعينه، فيكرم بالرؤيا الصادقة، وفي الأبي قال بعضهم: كان ذلك عند القيامة، لأن(10/43)
وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي عند بسط العدل وكثرة الأمن وبسط الخير والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه.
وقال القرطبي في "المفهم": المراد -والله أعلم- بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث، زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم -عليه الصلاة والسلام- بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول، وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب، ومن ثم قال عقب هذا: "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا"، وإنما كان كذلك لأن من كثر صدقه تنور قلبه، وانتقشت فيه المعاني على وجه الصحة، وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته فإنه يستصحب ذلك في نومه فلا يرى إلا صدقا، وهذا بخلاف الكاذب والمخلط، فإنه يفسد
__________
العلم حيئنذ ينقطع بموت العلماء والصالحين والناهين عن المنكر، فجعل الله صدق الرؤيا زاجرا لهم وحجة عليهم.
"وقيل: إن المراد بالزمان المذكور زمان المهدي" محمد بن عبد الله الحسني الحسيني، "عند بسط العدل وكثرة الأمن، وبسط الخير" المال "والرزق، فإن ذلك الزمان يستقصر لاستلذاذه فتتقارب أطرافه", وأخذوا هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: يتقارب الزمان حتى تكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كالساعة، وملحظ هذا التلذذ بحسن الزمان وطيب العيش، وملحظ ما قبله الهم بتغير الزمان بالهرج ونحوه، وهو بعد المهدي وعيسى، فهو غيره قطعا، فلا اتجاه لتجويز؛ أنه بيان لمعنى القول الثاني، لا مغاير له.
"وقال القرطبي في المفهم" في شرح مسلم: "المراد والله أعلم بآخر الزمان المذكور في هذا الحديث" إذا اقترب الزمان "زمان الطائفة الباقية مع عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بعد قتله الدجال، فأهل هذا الزمان أحسن هذه الأمة حالا بعد الصدر الأول", أي زمان الصحابة خير القرون، "وأصدقهم أقوالا، فكانت رؤيا لا تكذب", وهذا يلي زمان المهدي لأن عيسى حين ينزل يصلي خلفه، فيجتمعان، فيكون المراد حسن الزمان في الوقتين، "ومن ثم قال عقب هذا: "وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا". وإنما كان كذلك، لأن من كثر صدقه تنور قلبه" أي كثر نوره، "وانتقشت" أي ثبتت واستقرت "فيه المعاني على وجه الصحة" بحيث لا تزول عن الخاطر، فكأنها منقوشة، "وكذلك من كان غالب أحواله الصدق في يقظته، فإنه يستصحب ذلك في نومه، فلا يرى إلا صدقا".
ولذا لما كان صلى الله عليه وسلم أصدق العالمين، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، "وهذا بخلاف الكاذب والمخلط" بالمعاصي "فإنه يفسد قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا(10/44)
قلبه ويظلم، فلا يرى إلا تخليطا وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيان، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليتحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان فليستعذ بالله من شرها ولا يذكرها، فإنها لا تضره". رواه البخاري.
وفي رواية مسلم: "ورؤيا السوء من الشيطان، فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا
__________
وأضغاثا، وقد يندر المنام أحيانا، فيرى الصادق ما لا يصح، ويرى الكاذب ما يصح، ولكن الأغلب الأكثر ما تقدم. انتهى ملخصا" كلام القرطبي.
وقيل: المراد إذا اقترب أجل الإنسان بمشيئته، فإن رؤياه قلما تكذب لصفاء باطنه ونزوع الشهوات عنه، فنفسه حينئذ لمشاهدة الغيب أميل.
"وعن أبي سعيد الخدري" سعد بن مالك بن سنان الصحابي ابن الصحابي، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إذا رأى أحدكم في منامه الرؤيا يحبها". صفة الرؤيا أو حال منها، "فإنما هي من الله" لا دخل فيها للشيطان، ولا للأضغاث، "فليحمد الله عليها" بأن يقول: الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ما يحبه قال ذلك، "وليتحدث بها"، "بتحتية ففوقية وفتح الدال المهملة" رواية أبي ذر، ورواه غيره: "وليحدث". "بكسر الدال دون فوقية"، "وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان".
قال عياض: نسبتها إلى الله للتكريم، والتشريف، لطهارتها من حضور الشيطان وإفساده لها، وسلامتها من الأضغاث، أي التخليط وجمع الأشياء المتضادة بخلاف المكروهة، وإن كانتا جميعا من خلق الله تعالى وبإرادته، ولا فعل للشيطان فيها، لكنه يحضرها ويرضاها ويسر بها، فلذا نسبت إليه، أو لأنها مخلوقة على طبعه من التحذير والكراهة التي خلق عليها، أو لأنها توافقه، ويستحسنها لما فيها من شغل بال المسلم وتضرره بها، "فليستعذ بالله من شرها" أي الرؤيا، "ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضره"، لأن الله جعل ذلك سببا لسلامته من مكروه يترتب عليها، كما جعل الصدقة وقاية للمال وسببا لدفع البلاء.
"رواه البخاري" في التعبير، "وفي رواية مسلم" عن أبي قتادة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الرؤيا الصالحة من الله، ورؤيا السوء". أي سوء الظاهر، أو سوء التأويل احتمالان لعياض "من الشيطان" لأنه يخيل فيها، ولأنها تناسب صفته من الكذب والتهويل وغير ذلك، "فمن رأى رؤيا فكره منها شيئا، فلينفث" "بكسر الفاء وضمها"، "عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان(10/45)
فلينفث عن يساره وليتعوذ بالله من الشيطان، ولا يخبر بها أحدا، فإن رأى رؤيا حسنة فليبشر ولا يخبر بها إلا من يحب".
وقوله: "فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة، من البشرى.
وفي حديث أبي رزين العقيلي عند الترمذي: "ولا يقصها إلا على واد -بتشديد الدال، اسم فاعل من الود- أو ذي رأي". وفي أخرى: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا". وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح".
وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: "فليحمد الله عليها وليحدث بها".
__________
ولا يخبر بها أحدًا، فإن رأى رؤيا حسنة، فليبشر".
قال عياض: يحتمل حسن ظاهرها ويحتمل صحتها، "ولا يخبر بها إلا من يحب" فيخبره بشرطه الآتي، "وقوله: "فليبشر" بفتح التحتانية وسكون الموحدة وضم المعجمة من البشرى".
قال عياض: هكذا الرواية، وعند العذري، يعني أحد رواة مسلم "بالنون"، وهو تصحيف، إنما هو من البشارة، يقال: بشرت الرجل مخففا ومشددا، كأن الحافظ لم يرتضه، فقال: زعم عياض أن النون تصحيف، ووقع في بعض نسخ مسلم: فليستر بمهملة ومثناة من الستر.
"وفي حديث أبي رزين" "بفتح الراء وكسر الزاي"، لقيط بن عامر "العقيلي" صحابي شهير "عند الترمذي" وأبي داود وابن ماجه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت, ولا يقصه إلا على واد" أو ذي رأي، هذا لفظه برمته، أي إلا على واحد من هذين، إما واد "بتشديد الدال" أي محب "اسم فاعل من الود" "بفتح الواو وضمها"، "أو ذي رأي" أي علم بتعبيرها، وإن لم يكن محبا، فإنه يخبرك بحقيقتها، أو بأقرب ما يعلم منه، لا أن تعبيرها يزيلها عما جعلها الله عليه، ووقع في بعض نسخ الفتح، أي ذي رأي بأي، وهو تصحيف، والنسخ الصحيحة، بأو، كما هو في الترمذي.
"وفي" رواية "أخرى" له: "ولا تحدث بها إلا لبيبا أو حبيبا" قال البيضاوي: معناه لا تقصها إلا على حبيب لا يقع في قلبه لك إلا خير، أو عاقل لبيب لا يقول إلا بفكر بليغ ونظر صحيح، ولا يواجهك إلا بخير.
"وفي أخرى: "لا تقص رؤياك إلا على عالم أو ناصح".
"وفي حديث أبي سعيد عند مسلم" صوابه عند البخاري كما قدمه: ومسلم لم يخرج(10/46)
وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها، وأن يستبشر بها، وأن يتحدث بها لكن لمن يحب دون من يكره.
وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان، ويتفل حين يهب من نومه، ولا يذكرها لأحد أصلا. وفي البخاري من حديث أبي هريرة خامسة: وهي الصلاة، ولفظه: "من رأى شيئا يكرهه في منامه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل". لكن لم يصرح البخاري بوصله، وصرح به مسلم، وزاد مسلم سادسة: وهي التحول عن جنبه الذي كان عليه فقال: عن جابر رفعه: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثا، وليستعذ
__________
حديث أبي سعيد: "فليحمد الله وليحدث بها" غيره "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا الصالحة" أي ما يطلب فعله من رائيها "ثلاثة أشياء: أن يحمد الله عليها" فيقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، "وأن يستبشر" يفرح "بها، وأن يتحدث بها، لكن لمن يحب دون من يكره", وفي نسخ: أدب بالإفراد مرادا به الجنس الصادق بالقليل والكثير، فصح الإخبار عنه بثلاثة، "وحاصل ما ذكر من آداب الرؤيا المكروهة أربعة أشياء: أن يتعوذ" يعتصم "بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل" "بضم الفاء وكسرها" "حين يهب"، "بضم الهاء"، "من نومه".
قال عياض: أي يستيقظ أثر حلمه، ففي حديث أبي قتادة عند مسلم: "فليبصق على يساره حين يهب من نومه" , ثلاث مرات، "ولا يذكرها لأحد أصلا" ولو حبيبا.
"وفي البخاري من حديث أبي هريرة: خامسة وهي الصلاة، ولفظه: "من رأى شيئا يكرهه في منامه، فلا يقصه"، "بضم الصاد المشددة" على أحد، وليقم فليصل، لكن لم يصرح البخاري بوصله" أي يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه أخرج حديث إذا اقترب الزمان من طريق عوف الأعرابي، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، ثم قال في آخره: قال ابن سيرين: وكان يقال: الرؤيا ثلاث: حديث النفس وتخويف الشيطان وبشرى من الله، فمن رأى شيئا ... إلخ.
"وصرح به مسلم" في روايته الحديث المذكور من طريق أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم فساقه كله مرفوعا، وزاد بعد قوله: "فليصل ولا يحدث بها الناس". ولذا قال الحافظ: غفل أبو بكر بن العربي، فقال: زاد الترمذي على الصحيحين الأمر بالصلاة: "وزاد مسلم سادسة، وهي: التحول عن جنبه الذي كان عليه" نائما، "فقال" أي روى بسنده من طريق أبي الزبير، "عن جابر رفعه" بقوله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها" صفة الرؤيا أو حال منها، "فليبصق"، "بالصاد"، "عن يساره" أي جانبه الأيسر "ثلاثا" من المرات، "وليستعذ بالله" بجمع همة وحضور قلب وصفاء باطن وصحة توجه، فلا يكفي الاستعاذة بمجرد(10/47)
بالله من الشيطان، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه".
قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها، ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها كما صرحت به الأحاديث.
وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث الاقتصار على واحد، ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها. انتهى.
ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله كما قال القرطبي، لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه، وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها.
__________
اللسان، كما أشار إليه بعض الأعيان.
قال الحافظ: وورد في صفتها أثر صحيح، أخرجه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وعبد الرزاق، بأسانيد صحيحة عن إبراهيم النخعي، قال: إذا رأى أحدكم في منامه، ما يكره، فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله ورسله "من" شر رؤياي هذه أن يصيبني منها ما أكره في ديني أو دنياي.
وقال غيره: وزاد أنه يقول: اللهم إني أعوذ بك من عمل "الشيطان" وسيئات الأحلام، رواه ابن السني: "وليتحول عن جنبه الذي كان" مضطجعا "عليه" حين رأى ذلك.
"قال النووي: وينبغي أن يجمع هذه الروايات كلها ويعمل بجميع ما تضمنته، فإن اقتصر على بعضها أجزأه في دفع ضررها، كما صرحت به الأحاديث، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم ير في شيء من الأحاديث، الاقتصار على واحد" بل في بعضها أربع، وفي بعضها ثلاث، وفي بعضها ثنتان، "ثم قال: لكن أشار المهلب إلى أن الاستعاذة كافية في دفع شرها".
قال الحافظ: وكأنه أخذه من قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 89، 99] ، فيحتاج مع الاستعاذة إلى صحة التوجه، ولا يكفي إمرار الاستعاذة باللسان. "انتهى".
"ولا ريب أن الصلاة تجمع ذلك كله، كما قاله القرطبي" في المفهم، "لأنه إذا قام يصلي تحول عن جنبه" تحولا زائدا، "وبصق ونفث عند المضمضة في الوضوء، واستعاذ قبل القراءة، ثم دعا الله في أقرب الأحوال إليه، فيكفيه الله شرها", وهذا وإن كان وجيها، لكن ظاهر الأحاديث يأباه، لا سيما قوله: ويبصق عن يساره حين يهب من نومه، إذ المتبادر منه الإسراع به عقب النوم، وإن البصق غير بصق مضمضة الوضوء الذي يأتي به بعد ذلك للصلاة(10/48)
وذكر بعضهم سابعة: وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا، فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة: ولا يقربك شيطان فمتجه، قال: وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة.
وحكمة التفل -كما قال القاضي عياض- أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة، تحقيرا له واستقذارا، وخصت به اليسار لأنها محل الأقذار ونحوها، والتثليث للتأكيد.
وقد ورد التفل والنفث والبصق، وقال النووي في الكلام على النفث في
__________
المطلوبة أيضا.
"وذكر بعضهم سابعة، وهي قراءة آية الكرسي، ولم يذكر لذلك مستندا" يدل عليه، "فإن كان أخذه من عموم قوله في حديث أبي هريرة" عند البخاري: "إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرس من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ولن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان" حتى تصبح، "فمتجه" في الجملة، وإلا فهو عند إرادة النوم، وهذا عند الانتباه منه بسبب رؤيا مكروه، فيحتاج إلى دليل خاص.
"قال" الحافظ ابن حجر: "وينبغي أن يقرأها في صلاته المذكورة", وقد ذكر العلماء حكمة هذه الأمور، فأما الاستعاذة بالله من شرها فواضح، وهي مشروعة عند كل أمر يكره، وأما الاستعاذة من الشيطان، فلما وقع في بعض طرق الحديث أنها منه، وأنه يخيل بها لقصد تحزين الآدمي والتهويل عليه، "وحكمة التفل كما قال القاضي عياض: أمر به طردا للشيطان الذي حضر الرؤيا المكروهة تحقيرا له واستقذارا" له، كما يبصق على الشيء المستقذر، "وخصت به اليسار، لأنها محل الأقذار ونحوها" وقوله: "والتثليث للتأكيد" ليس هو من كلام القاضي، بل زاده الحافظ عقبه.
قال الحكيم الترمذي: هذا التفل واصل إلى وجه الشيطان واقع عليه، فالتفل مع تعوذ الرائي بالله يرد الذي جاء به من النزغة والوسوسة، كالنار إلى وجهه، فيحترق ويصير قروحا.
ورد عن الربيع بن خيثم أنه قص عليه رؤيا منكرة، فأتاه رجل، وقال: رأيت في المنام رجلا يقول: أخبر الربيع بأنه ن أهل النار، فتفل عن يساره، وتعوذ فرأى ذلك الرجل في الليلة الثانية أن رجلا جاء بكلب، فأقامه بين يديه وفي عنقه حبل وفي جبهته قروح، فقال: هذا ذلك الشيطان وهذه القروح تلك النفثات التي نفثها في وجهه الربيع.
"وقد ورد التفل والنفث والبصق".(10/49)
الرقية تبعا للقاضي عياض: اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد ولا يكونان إلا بريق. وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث، وقيل: عكسه. وسئلت عائشة عن النفث في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب، لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة بغير قصد. قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب: فجعل يجمع بزاقه.
قال القاضي عياض: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء.
وقال النووي أيضا: وأكثر الروايات في الرؤيا: "فلينفث" , وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا.
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأن المطلوب منه في الموضعين مختلف، لأن المطلوب في الرقية برطوبة الذكر كما تقدم، والمطلوب هنا طرد الشيطان،
__________
قال الجوهري: التفل شبيه بالبصق، وهو أقل منه أوله البزق، ثم التفل، ثم النفث ثم النفخ، وقال عياض: هنا النفث والبصق بمعنى واحد، وتقدم الكلام، على ذلك في الصلاة وفي الطب.
"وقال النووي: في الكلام على النفث في الرقية تبعا للقاضي عياض، اختلف في التفل والنفث، فقيل: هما بمعنى واحد، ولا يكونان إلا بريق" أي مع ريق "وقال أبو عبيدة: يشترط في التفل ريق يسير، ولا يكون في النفث" ريق أصلا.
"وقيل: عكسه" النفث بريق والتفل بدونه، "وسئلت عائشة عن النفث في الرقية" ما صفته؟ "فقالت: كما ينفث آكل الزبيب" نفثا "لا ريق معه، قال: ولا اعتبار بما يخرج معه من بلة" بكسر الباء الموحدة وشد اللام" "بغير قصد، قال: وقد جاء في حديث أبي سعيد في الرقية بفاتحة الكتاب، فجعل يجمع بزاقه".
"قال القاضي عياض: وفائدة التفل" في الرقية "التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفث المباشر للرقية المقارن للذكر الحسن، كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء".
"وقال النووي أيضا" زيادة على ما تبع فيه عياضا: "وأكثر الروايات في الرؤيا: فلينفث وهو النفخ اللطيف بلا ريق، فيكون التفل والبصق محمولين عليه مجازا".
"وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن المطلوب منه في الموضعين" أي الرقية والرؤيا "مختلف؛ لأن المطلوب في الرقية التبرك برطوبة الذكر، كما تقدم" قريبا، "والمطلوب هنا"(10/50)
وإظهار احتقاره واستقذاره كما نقله هو عن عياض كما تقدم.
فالذي يجمع الثلاثة، الحمل على التفل، فإنه نفخ معه ريق لطيف، فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق.
وأما قوله: "فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال.
وأما التحول، فللتفاؤل بتحول تلك الحال كان عليها.
والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة: "ولا يخبر بها إلا من يحب" لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له لما لا يحب، إما بغضا فيه وإما حسدا، فقد تقع على تلك الصفة، أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك.
__________
في الرؤيا "طرد الشيطان وإظهار احتقاره واستقذاره، كما نقله هو عن عياض، كما تقدم" قريبا، "فالذي يجمع الثلاثة الحمل على التفل، فإنه نفخ مع ريق لطيف" أي قليل، "فبالنظر إلى النفخ قيل له: نفث، وبالنظر إلى الريق قيل له: بصق" فتتفق الروايات.
وقال الزركشي: ينبغي فعل الكل؛ لأنه زجر للشيطان، فهو من باب رمي الجمار، "وأما قوله: "فإنها لا تضره". فمعناه كما قال النووي: إن الله تعالى جعل ما ذكر سببا للسلامة من المكروه المترقب من الرؤيا، كما جعل الصدقة وقاية للمال" وسببا لدفع البلاء، "وأما التحول فللتفاؤل بتحول تلك الحال التي كان عليها" عبارة عياض، أمره بذلك تفاؤلا بتحول الرؤيا عن تأويلها المكروه، وأنها لا تضر، كذا لخصه الأبي، وقال غيره أمر بالتحول لتتم يقظته ولمجانبة مكان الشيطان، ولذا أمر الناعس يوم الجمعة بالتحول عن مكانه الأول.
قال الحافظ: وأما الصلاة فلما فيها من التوجه إلى الله واللجأ إليه؛ ولأن في التحرم بها عصمة من الأسواء، وبها تكمل الرغبة وتصح الطلبة لقرب المصلي من ربه عند سجوده، "والحكمة في قوله في الرؤيا الحسنة: "ولا تخبر بها إلا من تحب" هي، "لأنه إذا أخبر بها من لا يحب فقد يفسرها له بما"، أي بتفسير "لا يحب، إما بغضا فيه" أي الرائي، "وإما حسدا" للنعمة فيكيده به {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] ، "فقد تقع على تلك الصفة" إذا كان لها تأويلان أو أكثر، أحدها حسن والآخر سيئ، "أو يتعجل لنفسه من ذلك حزنا ونكدا، فأمر بترك تحديث من لا يحب بسبب ذلك" المذكور.(10/51)
وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف، فيه يزيد الرقاشي، ولكن له شاهد أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه، بسند حسن، وصححه الحاكم عن أبي رزين العقيلي رفعه: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر فإذا عبرت وقعت".
وعند الدارمي بسند حسن عن سليمان بن يسار عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب، وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية بيتي انكسرت وإني ولدت غلاما أعور، فقال: "خير يرجع زوجك إن شاء الله
__________
"وقد روي من حديث أنس مرفوعا: "الرؤيا لأول عابر". وهو حديث ضعيف فيه يزيد" بن أبان "الرقاشي" بخفة القاف، ثم معجمة" أبو عمرو البصري، "القاص "بتشديد المهملة" تابعي صغير، زاهد ضعيف، مات قبل العشرين ومائة، "ولكن له شاهد".
"أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه بسند حسن، وصححه الحاكم" على شرط مسلم، "عن أبي رزين" لقيط بن عامر "العقيلي، رفعه: "الرؤيا على رجل طائر" أي هي كشيء معلق برجله لا استقرار لها "ما لم تعبر" بالبناء للمجهول وتخفيف الباء" في أكثر الروايات، أي لما لم تفسر، "فإذا عبرت وقعت" تلك الرؤيا بمعنى أن يلحق الرائي أو المرئي له حكمها.
قال في النهاية: يريد أنها سريعة السقوط إذا عبرت، كما أن الطير لا يستقر غالبا، فكيف يكون ما على رجله. وقال في جامع الأصول: كل حركة من كلمة أو شيء يجري لك فهو طائر، يقال: اقتسموا دارا وطار سهم فلان في ناحية كذا، أي خرج وجرى، والمراد أن الرؤيا على رجل قدر جار وقضاء ماض من خير أو شر، وهي الأول عابر يحسن تعبيرها، وتتمة الحديث: "ولا تقصها إلا على واد أو ذي رأي". ومر قريا.
"وعند الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن تهرام السمرقندي، الحافظ، صاحب المسند، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي وغيرهم، ثقة، متقن، فاضل، مات سنة خمس وخمسين ومائتين، وله أربع وسبعون سنة "بسند حسن عن سليمان بن يسار" الهلالي، المدني، مولى ميمونة، وقيل: أم سلمة، ثقة، فاضل، أحد الفقهاء، السبعة، مات بعد المائة، وقيل: قبلها.
"عن عائشة قالت: كانت امرأة من أهل المدينة لها زوج تاجر يختلف", أي يذهب ويجيء "في التجارة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجي غائب وتركني حاملا، فرأيت في المنام أن سارية" أي: عمود "بيتي انكسرت، وأني ولدت غلاما أعور" لا يبصر إلا بعين(10/52)
صالحا، وتلدين غلاما برا". فذكرت ذلك ثلاثا، فجاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب، فسألتها فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك، وتلدين غلاما فاجرا، فقعدت تبكي، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا فاعبروها على خير، فإن الرؤيا تكون على ما يعبرها صاحبها".
وعند سعيد بن منصور من مرسل عطاء بن أبي رباح: قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي انكسرت، وكان زوجها غائبا، فقال: "رد الله عليك زوجك"، فرجع سالما، الحديث.
قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول
__________
واحدة، "فقال": رؤياك "خير يرجع زوجك إن شاء الله صالحا" أي بحالة حسنة من ربح تجارته وصحة جسده، "وتلدين غلاما برا" بك وبأبيه وطائعا لله، "فذكرت" المرأة "ذلك ثلاثا" من المرات للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يجيبها بما ذكر، وكأنها فعلت ذلك لتزداد طمأنينة، لأن ظاهر رؤياها مكروه، "فجاءت" مرة أخرى "ورسول الله صلى الله عليه وسلم غائب" عن بيت عائشة، قالت: "فسألتها" عن تعدد مجيئها، "فأخبرتني بالمنام، فقلت لها: لئن صدقت رؤياك ليموتن زوجك وتلدين غلاما فاجرا" كأنها فهمت ذلك من العلامات التي يعتمد عليها في التعبير، وهي قطعا لم تسمع تعبيره صلى الله عليه وسلم للمرأة قبل ذلك، إذ لا تستبيح مخالفته، "فقعدت تبكي" لتجويزها أن تعبيره صلى الله عليه وسلم أحد تفسيرين للرؤيا، ولذا أعادها عليه، فلما فسرتها عائشة بذلك، وهي عالمة بالتعبير كأبيها رضي الله عنهما، قوي ذلك عندها فبكت، "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم" فسأل عن بكائه، فأخبر بسببه، فقال: "مه يا عائشة، إذا عبرتم للمسلم الرؤيا، فاعبروها على خير" أي على أحسن ما يعبر به، "فإن الرؤيا تكون" تقع "على ما يعبرها صاحبها" أي العابر الذي تقص عليه.
"وعند سعيد بن منصور" بن شعبة الخراساني، نزيل مكة، ثقة، له تصانيف، مات سنة سبع وعشرين ومائتين، وقيل: بعدها "من مرسل عطاء بن أبي رباح"، "بفتح الراء والموحدة المخففة" واسمه أسلم القرشي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه، فاضل، كثير الإرسال، مات سنة أربع عشرة ومائة على المشهور.
"قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني رأيت كأن جائزة بيتي" أي ساريته "انكسرت وكان زوجها غائبا، فقال: "رد الله زوجك عليك". فرجع سالما", الحديث, فصدق الله تعبير رسوله صلى الله عليه وسلم.
"قال أبو عبيدة وغيره: معنى قوله: "الرؤيا لأول عابر" إذا كان العابر الأول عالما، فعبر(10/53)
عالما، فعبر وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب فلا ينبغي أن يسأل غيره، وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده ويبين ما جهل الأول. هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره.
ومن آداب المعبر، ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه يكتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا فقصها على أخيه فليقل: خير لنا شر لأعدائنا. ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع.
وفي حديث ابن زمل عند الطبراني والبيهقي في الدلائل: لما قص على
__________
وأصاب وجه التعبير، وإلا فهي لمن أصاب بعده، إذ ليس المدار إلا على إصابة الصواب في تعبير المنام، ليتوصل بذلك إلى مراد الله تعالى فيما ضربه من المثل، فإن أصاب" بظهور قرائن تدل على أنه مصاب، "فلا ينبغي أن يسأل غيره وإن لم يصب فليسأل الثاني، وعليه أن يخبر بما عنده، ويبين ما جهل الأول، هكذا قال، وفيه بحث يطول ذكره".
"ومن آداب المعبر ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر أنه كتب إلى أبي موسى: فإذا رأى أحدكم رؤيا" تفريع على شيء قبله لم يتعلق به غرض المصنف، "فقصها على أخيه" أي ذكرها له ليطلب منه تفسيرها، "فليقل" الأخ "خير لنا، شر لأعدائنا، ورجاله ثقات، ولكن سنده منقطع" إذ معمر لم يدرك أبا موسى.
"وفي حديث ابن زمل" "بكسر الزاي وإسكان الميم ولام" قال في الإصابة عبد الله بن زمل الجهني، ذكره ابن السكن وقال: روي عنه حديث الدنيا سبعة آلاف سنة، بإسناد مجهول وليس بمعروف في الصحابة، ثم ساق الحديث، وفي إسناده ضعف، قال: وروي عنه بهذا الإسناد أحاديث مناكير، قلت: وجميعها جاء عنه ضمن حديث واحد، أخرجه بطوله الطبراني في المعجم الكبير، وأخرج بعضه ابن السني في اليوم الليلة، ولم أره سمي في أكثر الكتب، ويقال: اسمه الضحاك، ويقال: عبد الرحمن والصواب الأول، والضحاك غلط، فإن الضحاك بن زمل آخر من أتباع التابعين، وقال ابن حبان: عب الله بن زمل, له صحبة، لكن لا أعتمد على إسناد خبره. انتهى.
فهو صحابي قطعا، وإن كان إسناد خبره ضعيفا، فجازف صاحب القاموس في قوله: عبد الله بن زمل "بالكسر" تابعي مجهول، غير ثقة، وقول الصغاني صحابي غلط، فإنه الأولى بأن يكون هو الغالط، وصاحب الإصابة لم يذكره في قسم من ذكر في الصحابة غلطا، إنما ذكره في القسم الأول المسلم كون من فيه صحابيا.(10/54)
النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه، فقال عليه الصلاة والسلام: "خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا الحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك" الحديث, وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله تعالى.
ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل، وأن لا يقصها على امرأة، لكن ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة يقول: هل رأى أحد الليلة رؤيا، فيقص عليه ما شاء الله أن يقص، ويعبر لهم ما يقصونه، وبوب عليه البخاري: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح.
قالوا: وفي إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس، وفيه إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير: إن
__________
"عند الطبراني" في المعجم الكبير، "والبيهقي في الدلائل" النبوية "لما قص" أي أراد أن يقص "على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياه" حين قال صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح والاستغفار: هل رأى منكم أحد شيئا، قال ابن زمل: فقلت: أنا يا رسول الله، "فقال عليه الصلاة والسلام: خير نلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا، الحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك الحديث وسنده ضعيف جدا، ويأتي إن شاء الله" آخر هذا الفصل.
"ومن آداب المعبر أن لا يعبرها عند طلوع الشمس، ولا عند غروبها، ولا عند الزوال، ولا في الليل".
"و" من آداب الرائي "أن لا يقصها على امرأة" لنقص عقلها، ولا على عدو، ولا على جاهل، "لكن ثبت" في البخاري وغيره، عن سمرة بن جندب "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الغداة" أي الصبح "يقول" لأصحابه: "هل رأى أحد" منكم "الليلة رؤيا". فيقص عليه, بضم الياء وفتح القاف "ما" أي مقصوصا: "شاء الله أن يقص" "بضم الفتح".
وفي رواية النسفي للبخاري: فيقص عليه من شاء الله "بفتح الياء وضم القاف" ومن فاعل، أي القاص، "ويعبر لهم ما يقصونه" أي يفسره، "وبوب عليه البخاري باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح" وقبل طلوع الشمس، أي جوازه أو ندبه، "قالوا: وفيه إشارة إلى ضعف ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن سعيد بن عبد الرحمن عن بعض علمائهم قال: لا تقصص رؤياك على امرأة، ولا تخبر بها حتى تطلع الشمس" ووجه ضعفه من حديث الصحيح ظاهر؛ لأنه كان يصلي بغلس، "وفيه" أيضا" إشارة إلى الرد على من قال من أهل التعبير إن(10/55)
المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى الرابعة، ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس، ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة.
قال المهلب: تعبير الرؤيا عند صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات، لحفظ صاحبها لها لقرب عهده بها، وقبل ما يعرض له نسيانها، ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه، وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشره بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فكيف عنها، وربما كانت إنذارا الأمر فيكون له مترقبا. قال: فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أو النهار. قاله في فتح الباري.
وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة، وأن ينام على
__________
المستحب أن يكون التعبير من بعد طلوع الشمس إلى" الساعة "الرابعة" من النهار، "ومن العصر إلى قبل المغرب، فإن الحديث دال على استحباب تعبيرها قبل طلوع الشمس"، "ولا يخالف قولهم بكراهة تعبيرها في أوقات كراهة الصلاة" لجواز حمله على بعد طلوع الشمس إلى ارتفاعها، وبعد الاصفرار إلى الغروب ووقت الاستواء على القول بكراهة الصلاة وقته لا بعد صلاة الصبح، وإن كره النفل حينئذ لتعبيره صلى الله عليه وسلم فيه، فيخص قولهم بما عده، ولذا "قال المهلب" أبو القاسم بن أحمد بن أسيد بن أبي صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين في الفقه والحديث والعبادة والنظر، سمع الأصيلي والقابسي وأبا ذر الهروي وغيرهم، وسمع منه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهم أحيا صحيح البخاري بالأندلس، وشرحه ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة: "تعبير الرؤيا عند" أي بعد "صلاة الصبح أولى من غيره من الأوقات لحفظ صاحبها لها، لقرب عهده بها وقبل ما يعرض له نسيانها" فيقصها على وجهها، "ولحضور ذهن العابر وقلة شغله بالفكرة فيما يتعلق بمعاشه" فيعبرها على الصواب "وليعرف الرائي ما يعرض له بسبب رؤياه، فيستبشر بالخير ويحذر من الشر، ويتأهب لذلك، فربما كان في الرؤيا تحذير من معصية فيكف عنها، وربما كانت إنذار الأمر، فيكون له مترقبا" فيكون أهون عليه من فجأته له.
"قال" المهلب: "فهذه عدة فوائد لتعبير الرؤيا أول النهار، قاله في فتح الباري، وذكر أئمة التعبير أن من آداب الرائي أن يكون صادق اللهجة"، "بفتح الهاء وسكونها لغة" أي فصيح اللسان، أي يبين كلامه بيانا شافيا، بحيث لا يشتبه على المخاطب، "وأن ينام على وضوء(10/56)
وضوء، على جنبه الأيمن، وأن يقرأ عند نومه والشمس، والليل، والتين، وسورة الإخلاص والمعوذتين وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سيئ الأحلام، وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة صادقة نافعة حافظة غير منسية, اللهم أرني في منامي ما أحب. وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل.
إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين:
أضغاث أحلام وهي لا تنذر بشيء وهي أنواع:
الأول: تلاعب الشيطان ليحزن الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه، أو يرى أنه واقع في هول ولا يجد من ينجده ونحو ذلك. وروى مسلم عن جابر:
__________
على جنبه الأيمن".
قال ابن الوردي: ومن ينم على الشمال لا يصح، وصح ما سواه وهو متضح، وربما صحت كرؤيا الجنب، "وأن يقرأ عند نومه والشمس والليل والتين وسورة الإخلاص" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] .
وفي نسخة: وسورتي الإخلاص وهما {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص: 1] والأولى هي الموافقة لما نقله شارح ألفية ابن الوردي، يندب للنائم أمور، منها: استقبال القبلة وقراءة ما تيسر، والأولى الفاتحة والإخلاص لما رواه البزار وغيره عن أنس، مرفوعا: إذا وضعت جنبك على الفراش وقرأت فاتحة الكتاب و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] الآية، فقد أمنت من كل شيء إلا الموت "والمعوذتين" "بكسر الواو"، "وأن يقول: اللهم إني أعوذ بك من سير الأحلام"، من إضافة الصفة للموصوف، "وأستجير بك من تلاعب الشيطان في اليقظة" "بفتحات" والمنام، اللهم إني أسألك رؤيا صالحة، صادقة، نافعة، حافظة" لصاحبها عن أن يخلط فيها، أو يفهم منها غير ما أريد بها، غير منسية" بأن يتذكرها إذا استيقظ، "الله أرني في منامي ما أحب، وأن لا يقصها على عدو ولا جاهل" بعلم الرؤيا "إذا علمت هذا، فاعلم أن جميع المرائي تنحصر في قسمين: أضغاث أحلام" تخليطها، "وهل لا تنذر" تخبر "بشيء، وهي أنواع الول تلاعب الشيطان ليحزن" "بضم الياء وكسر الزاي وفتحها وضم الزاي" الرائي، كأن يرى أنه قطع رأسه وهو يتبعه أو يرى أنه واقع في هول" فزع وخوف "ولا يجد من ينجده" يعينه ويخلصه منه "ونحو ذلك".(10/57)
قال جاء أعرابي فقال: يا رسول الله، إني حلمت أن رأسي قطع وأنا أتبعه، فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام".
الثاني: أن يرى أن بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا.
__________
"وروى مسلم" من طريق أبي الزبير، "عن جابر قال: جاء أعرابي" زاد في رواية ابن ماجه والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، "فقال: يا رسول الله إني حلمت" "بضم اللام" رأيت في منامي "أن رأسي قطع وأنا أتبعه" أمشي على أثره، وفي رواية ابن ماجه: فاتبعته فأعدته "فزجره النبي صلى الله عليه وسلم"، وقال: "لا تخبر بتلعب الشيطان بك في المنام".
وفي مسلم أيضا من طريق أبي سفيان، عن جابر: جاء أعرابي، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تحدث بتلعب الشيطان بك في منامك" وقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد يخطب، فقال: "لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه" وله في رواية ثالثة، عن جابر: جاء رجل، فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كان رأسي قطع، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "إذا لعب الشيطان بأحدكم في منامه، فلا يحدث به الناس".
قال المازري والقرطبي: ليس في المنام ما يدل على أنه من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن منامه هذا من الأضغاث أو تلاعب الشيطان، بوحي أو بدلالة في المنام دلته على ذلك، أو على أنه من المكروه الذي هو من تحذير الشيطان.
وقيل: إن الراوي أسقط من المنام ما لو ذكره لعلم أنه من الأضغاث وإلا فأهل التأويل في قطع الرأس تأويلات، كمفارقة الرائي ما هو عليه من النعم، أو مفارقة قومه، أو زوال سلطانه، أو تغير حاله في جميع الأمور، إلا أن يكون عبدا، فيدل على عتقه، أو مريضا فيدل على شفائه، أو مديانا فيدل على قضاء دينه، أو لم يحج، فيدل على أن يحج، أو محزونا فدل على زوال حزنه أو فرحه، أو خافئا فيدل على أمنه، إلى غير ذلك مما وسعوا فيه، وكذلك ينظرون في اتباع الرأس بما يئولون به قطع الرأس في الحملة لا باعتبار هذا المنام بعينه.
وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب أصول العبارة أن رجلا قال: يا رسول الله إني رأيت رأسي قطع، فجعلت أنظر إليه بإحدى عيني، فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: "بأيهما كنت تنظر إليه" فلبث ما شاء الله، ثم قبض صلى الله عليه وسلم، وإن النظر إليه كأنه اتباع السنة. انتهى.
"الثاني: أن يرى بعض الملائكة يأمره أن يفعل المحرمات ونحوه من المحالات عقلا"؛ لأن العقل دل على عصمتهم من ذلك، فلا يمكن وقوعه، فهو من الأضغاث لا تعبير له.(10/58)
الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه، فيراه كما هو في المنام، وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة، أو يغلب على مزاجه ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا، وعن الماضي قليلا.
القسم الثاني: الرؤيا الصادقة، وهي رؤيا الأنبياء، ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور، وهي التي تقع في اليقظة على ما وفق ما وقعت في النوم، وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق الصبح ما لا يعد ولا يحد.
قالت عائشة: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الحديث رواه البخاري.
__________
"الثالث: ما يحدث به نفسه في اليقظة أو يتمناه فيراه، كما هو في المنام" لا يعبر، لأنه منام همة، "وكذا رؤية ما جرت به عادته في اليقظة" بفعله أو قوله، "أو يغلب على مزاجه" من الأضغاث لا يؤول، "ويقع على المستقبل غالبا، وعن الحال كثيرا" غير غالب، "وعلى الماضي قليلا" وعبر في الفتح بلفظ عن في الثلاثة والخطب سهل.
"القسم الثاني: الصادقة وهي رؤيا الأنبياء ومن تبعهم من الصالحين، وقد تقع لغيرهم بندور" أي قلة إنقاذا لهم من المعاصي، أو معافاة في أبدانهم، "وهي التي تقع في اليقظة على وفق ما وقعت في النوم" كرؤياه صلى الله عليه وسلم أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين محلقين رؤسهم ومقصرين.
"وقد وقع لنبينا صلى الله عليه وسلم من الرؤيا الصادقة التي كفلق"، "بفتحتين"، "الصبح" أي شبيهة به في الضياء والوضوح، وخص بالشبة لظهوره الواضح الذي لا يشك فيه "ما لا بعد" لكثرته فلا يمكن حصره بعد "ولا يحد" لعدم إمكان حده.
"قال عائشة: أول ما بدئ "بضم الموحدة وكسر المهملة فهمزة" به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي" أي من أقسامه، فمن للتبعيض، وقل القزاز لبيان الجنس، كأنها قالت من جنس الوحي وليست منه، أي فهي مجاز علاقته المشابهة للوحي في أنه لا دخل للشيطان فيها، رده عياض بحديث أنها جزء من النبوة الرؤيا الصادقة في النوم" زيادة للإيضاح أو لتخرج رؤيا العين يقظة، مجازا، "فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت" في بيانها مجيئا، "مثل:" فنصب نعت مصدر محذوف "فلق الصبح" في الضياء والظهور أو التقدير مشبهة ضياء الصبح، فالنصب على الحال والفلق الصبح لكنه لما استعمل في هذا المعنى وغيره أضيف إليه للتخصيص والبيان إضافة العام للخاص، "الحديث رواه البخاري" في مواضع ومسلم ومر بتمامه في أوائل الكتاب.(10/59)
وفي رواية: الصالحة.
وهما بمعنى بالنسبة إلى أمور الآخر في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص. فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم كلها صادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا تذبح، ورأى في سيفه ثلما، فأول البقر ما أصاب أصحابه يوم أحد، والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل، ثم كانت العاقبة للمتقين، وكان بعد ذلك النصر والفتح على جميع الخلق.
وأما رؤيا غير الأنبياء، فبينهما عموم وخصوص إن فسرنا الصادقة بأنها التي لا تحتاج إلى تفسير، وأما إن فسرناها بأنها غير الأضغاث فالصالحة أخص مطلقا.
وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري في "التعبير القادري": الرؤية الصادقة ما يقع عينه، أو ما يعبر في المنام، أو يخبر به من لا يكذب، والصالحة ما فسر.
واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاثة درجات:
__________
"وفي رواية" عند مسلم والبخاري في بدء الوحي: "الصالحة" بدل الصادقة، "وهما بمعنى" واحد "بالنسبة إلى أمور الآخرة في حق الأنبياء، وأما بالنسبة إلى أمور الدنيا، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، "فرؤيا النبي صلى الله عليه وسلم" وغيره من الأنبياء "كلها صادقة، فالصالحة في الأصل أخص" من الصادقة، وقد تكون صالحة وهو الأكثر، وغير صالحة بالنسبة إلى الدنيا، كما وقع في الرؤيا يوم أحد، فإنه صلى الله عليه وسلم رأى بقرا" "بموحدة فقاف" "تذبح، ورأى في سيفه ثلما" "بفتح المثلثة وسكون اللام" "فأول البقر ما" أي بما "أصاب أصحابه يوم أحد" من استشهاد سبعين، "والثلم الذي كان في سيفه برجل من أهل بيته يقتل" حمزة سيد الشهداء، "ثم كانت العاقبة للمتقين وكان بعد ذلك النصر الفتح على جميع الخلق".
"وأما رؤيا غير اأنبياء فبينهما" أي الصادقة والصالحة "عموم وخصوص" من وجه "إن فسرنا الصادقة بأنها التي تحتاج إلى تفسيره وأما إن فسرناها غير الأضغاث، فالصالحة أخص مطلقا" من الصادقة.
"وقال الإمام نصر بن يعقوب الدينوري" "بفتح الدال والنون والواو" وراء نسبة إلى الدينور من بلاد الجبل "في" كتاب "التعبير القادري: الرؤيا الصادقة ما يقع بعينه" يقظة مثل ما وقع مناما، "أو ما يعبر في المنام" للرائي "أو يخبر به من يكذب" من الأنبياء وكثير من الصالحين، "والصالحة ما فسر": عبر بتعبير كتعبيره صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم.
"واعلم أن الناس في الرؤيا على ثلاث درجات: الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم،(10/60)
الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ورؤياهم كلها صدق، وقد يقع فيها ما يحتاج إلى تعبير.
والصالحون: والأغلب على رؤياهم الصدق، وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير.
ومن عداهم، يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم، وفسقة فالغالب على رؤياهم الأضغاث ويقل فيها الصدق.
وكفار: ويندر في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا" أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن مع يوسف عليه الصلاة والسلام، ورؤيا ملكهم وغير ذلك.
وقد روى الإمام أحمد مرفوعا، وصححه ابن حبان من حديث أبي سعيد:
__________
ورؤياهم كلها صدق" وغالبها لا يحتاج إلى تعبير، "ويقع فيها ما يحتاج إلى تعبير،" كرؤيا يوم أحد، "والصالحون والأغلب على رؤياهم الصدق" واحتياجها إلى تعبير، "وقد يقع فيها ما لا يحتاج إلى تعبير" بأن يقع يقظة، كما رأوا في المنام، ويندر فيها الأضغاث لشغل بال وتغير مزاج ونحو ذلك، "ومن عداهم يقع في رؤياهم الصدق والأضغاث، وهم على ثلاثة أقسام: مستورون، فالغالب استواء الحال في حقهم". من جهة رؤياهم، "وفسقة والغالب على رؤياهم الأضغاث، ويقل فيها الصدق" لا جدا، "وكفار ويندر": يقل "في رؤياهم الصدق جدا، ويشير إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثا".
"أخرج مسلم من حديث أبي هريرة" وأوله إذا اقترب الزمان كما مر قريبا، لكن بلفظ أصدقكم "بالكاف" في الموضعين، وهو الذي رأيته في مسلم، "وقد وقعت الرؤيا الصادقة من بعض الكفار كما في رؤيا صاحب السجن" أحدهما يعصر خمرا، والآخر يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه "مع يوسف عليه الصلاة والسلام" أي اللذين دخلا السجن معه "ورؤيا ملكهم" سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، "وغير ذلك" كما حكى أن جالينوس غلظ طحاله فعجز عن علاجه، فرأى في المنام ملكا أمره بفصد عرق بين الخنصر والبنصر فبرئ، وأنه عرض له ورم في المحل الذي يتصل منه بالحجاب، فأمره الله في المنام بفصد العرق الضارب من كفه اليسرى فبرئ وذلك لأن الكافر وإن لم يكن محلا للصدق، لكن لا يمتنع أن يرى ما يعود عليه بخير في دنياه.
"وقد روى الإمام أحمد" والترمذي والدارمي "مرفوعا وصححه ابن حبان من حديث(10/61)
أصدق الرؤيا بالأسحار. وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها، ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل، وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر، ولا سيما عند طلوع الفجر، وعن جعفر الصادق أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة، وعند محمد بن سيرين: رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، والنساء كالرجال، وعن القيرواني: إن المرأة إذا رأت ما ليست له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه.
ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام: شربه اللبن وتعبيره بالعلم، كما في حديث ابن عمر عند البخاري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينا أنا نائم
__________
أبي سعيد: أصدق الرؤيا بالأسحار" سبق شرحه قريبا.
"وذكر الإمام نصر بن يعقوب الدينوري أن الرؤيا أول الليل يبطئ تأويلها" إلى النصف الأول، "ومن النصف الثاني يسرع بتفاوت أجزاء الليل،" فكلما قرب من آخره كان أسرع مما قبله، "وإن أسرعها تأويلا رؤيا السحر" قبيل الصبح بين الفجرين، "ولا سيما عند طلوع الفجر" الصادق.
"وعن جعفر" بن محمد "الصادق: أسرعها تأويلا رؤيا القيلولة" نصف النهار، أي بالنهار، فلا يخالف الحديث.
"وعن محمد بن سيرين" التابعي المشهور، العالم بالتعبير: "رؤيا الليل مثل رؤيا النهار، و" رؤيا "النساء كالرجال" أي كرؤياهم.
"وعن" علي "القيرواني" العابر: "أن المرأة إذا رأت ما ليس له أهلا فهو لزوجها، وكذا حكم" رؤيا "العبد لسيده، كما أن رؤيا الطفل لأبويه" إن لم يكن كل أهلا، كما صرح به في الألفية، فقال:
والعبد رؤياه تخص المولى ... وما ترى المرأة نال البعلا
وانقل إلى الوالد رؤيا الطفل ... إن كان هؤلاء غير أهل
"ومن مرائيه الكريمة عليه الصلاة والسلام شربه اللبن وتعبيره بالعلم" لا يظهر عطفه على ما قبله، فإما أن يقدر في الأول من مرئيه وتعبيراته، أو يقدر في الثاني، ومن تعبيراته تعبيره بالعلم، "كما في حديث ابن عمر عند البخاري" في العلم والمناقب والتعبير في ثلاثة مواضع.
وكذا أخرجه مسلم في الفضائل من طرق كلها عند الشيخين تدور على ابن شهاب، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه "قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" يقول: "بينا" بغير ميم، كما ضبطه المصنف في المواضع المذكورة "أنا نائم أتيت"، "بضم الهمزة"، "بقدح لبن، فشربت(10/62)
أتيت بقدح لبن فشربت منه، حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي، يعني عمر". قالوا: فما أولته؟ قال: "العلم".
__________
منه". أي من اللبن وأكثرت، "حتى إني"، "بكسر الهمزة" بعد حتى الابتدائية وفتحها على جعلها جاره "لأرى" "بفتح الهمزة" من الرؤية، ويؤيده رواية المناقب: حتى أنظر "الري"، "بكسر الراء وشد الياء" على الرواية.
وحكى الجوهري: الفتح أيضا، وقيل: "بالكسر الفعل، وبالفتح المصدرية"، ورؤية الري على سبيل الاستعارة، كأنه لما جعل الري جسما أضاف إليه ما هو من خواص الجسم, وهو كونه مرئيا "يخرج في أظفاري" جمع ظفر وفي بمعنى على, نحو: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} ، أي عليها، وتكون بمعنى يظهر عليها، والظفر إما منشأ الخروج أو ظرفه، والجملة في موضع نصب على الحال إن قدرت الرؤية بمعنى الإبصار، ومفعول ثان لأرى إن قدر بمعنى العلم، واللام للتأكيد، وعبر بصيغة المضارع، والأصل أنه ماض استحضار الصورة الحال، "ثم أعطيت فضلي" , أي ما فضل من القدح الذي شربت منه، "يعني عمر".
كذا في إحدى روايات البخاري في التعبير: وكان بعض رواته شك وله في العلم.
وفي الرواية الثانية في التعبر: "فأعطيت فضلي عمر بن الخطاب". وفي المناقب: "ثم ناولت عمر". وفي الرواية الثالثة في التعبير: "ثم أعطيت فضلته عمر". أي فضلة اللبن.
"قالوا": وفي رواية للبخاري في التعبير، فقال من حوله: "فما أولته؟ " أي عبرته، قال: "العلم"، "بالنصب" أي أولته العلم وبالرفع أي المؤول به هو العلم.
وفي رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عند سعيد بن منصور: ثم ناول عمر فضله، قال: ما أولته، وظاهره أن السائل عمر، ووقع في جزء الحسن بن عرفة من وجه آخر عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "أولوها" قالوا: يا نبي الله هذا العلم الذي آتاكه الله حتى إذا امتلأت فضلت منه فضلة، فأخذها عمر، قال: "أصبتم". وإسناده ضعيف، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون بعضهم أول، وبعضهم سأل، أو أن هذا وقع أولا، ثم احتمل عندهم أن يكون عنده في تأويلها زيادة على ذلك، فقالوا ما أولته، ووجه التعبير بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة المنافع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني، والعلم للغذاء المعنوي، وفيه فضل عمر، وإن من شأن عمر الرؤيا، أن لا تحمل على ظاهرها وإن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إلى تعبير، ومنها ما يحمل على ظاهره، والمراد بالعلم هنا العلم بساسة الناس، بكتاب الله وسنة رسوله، واختص عمر بذلك لطول مدته بالنسبة إلى أبي بكر، وباتفاق الناس على طاعته بالنسبة إلى عثمان، فإن مدة أبي بكر كانت قصيرة، فلم تكثر فيها الفتوح التي هي أعظم(10/63)
وفي رواية الكشميهني: "من أظافيري". وفي رواية صالح بن كيسان: "من أطرافي".
وهذه الرؤية يحتمل أن تكون بصرية، وهو الظاهر، ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول: ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن جده في هذا الحديث: "فشربت حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". على أنه محتمل أيضا.
قال بعض العارفين: الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق المعرفة من بين شك وجهل، وهو كما قال، لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم
__________
الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدته الناس، بحيث لم يخالفه أحد، ثم ازدادت اتساعا في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال واختلفت الآراء، ولم يتفق له ما اتفق لعمر من طواعية الخلق له، فنشأت الفتن من ثم إلى أن أفضى الأمر إلى قتله، استخلف علي فما ازداد الأمر إلا اختلافا والفتن إلا انتشارا، قاله الحافظ في موضعين.
"وفي رواية الكشميهني" للبخاري: "من أظافيري" جمع أظفور كأسبوع وأسابيع بدل قوله في الرواية الأولى: "في أظفاري".
"وفي رواية صالح بن كيسان" عن ابن شهاب بسنده عند البخاري في التعبير: "حتى إني لأرى الري يخرج من أطرافي". بدل: "في أظفاري".
وفي رواية المناقب: "يجري في ظفري" , أو: "أظفاري" بالشك. "وهذه الرؤية": "حتى لأرى الري" , "يحتمل أن تكون بصرية وهو الظاهر", ويؤيده رواية المناقب: "حتى أنظر إلى الري". "ويحتمل أن تكون علمية، ويؤيد الأول" البصرية، "ما أخرجه الطبراني والحاكم من طريق أبي بكر بن سالم بن عبد الله بن عمر" تابعي صغير، وثقه العجلي، وروى له الشيخان "عن أبيه" سالم أحد الفقهاء، "عن جده في هذا الحديث: "فشربت" من اللبن "حتى رأيته يجري في عروقي بين الجلد واللحم". "عن أنه محتمل أيضا" لأن تكون رؤيا علمية، فلا يؤيد الأول.
"قال بعض العارفين" عبارته على البخاري، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "الذي خلص اللبن من بين فرث ودم قادر على أن يخلق" أي: يوجد "المعرفة من بين شك وجهل" زاد في الفتح: ويحفظ العمل عن غفلة وزلل. انتهى.
والمراد من هذه العبارة أن حال الرائي من حيث هو متردد بين أن لا يعلم من حال رؤياه شيئا يؤولها به، وبين أن يتخيل شيئا منها لا يجزم به، فيتردد في المراد منها، والله قادر على أن(10/64)
والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة فيكون من باب الكرامة.
وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم اعتبارا بما بين له أول الأمر حين أتى بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن فقال له جبريل: أخذت الفطرة، انتهى.
وقد جاء في بعض الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة، كما أخرجه البزار من حديث أبي هريرة رفعه: اللبن في المنام فطرة.
__________
يخلق المعرفة، وهي العلم المطابق للواقع فيمن أراد فيدركه ويجزم به.
وفي الفتح قال ابن العربي: اللبن رزق يخلقه الله طيبا بين أخباث من دم وفرث، كالعلم يظهره الله في ظلمة الجهل، فضرب به المثل في المنام، "وهو كما قال لكن اطردت العادة بأن العلم بالتعلم".
وفي حديث مرفوع: "وإنما العلم بالتعلم". "والذي ذكره قد يكون خارقا للعادة، فيكون من باب الكرامة" والمراد أن خلق المعرفة قد يكون العادة من تحصيله بالتعلم، فلا يكون كرامة، وقد يكون بإلهام من الله تعالى من غير تعب، وهو اللدني، فيكون كرامة لمن أوتيها، كما إليه الإشارة بقوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] .
"وقال العارف ابن أبي جمرة: تأول" عبر "النبي صلى الله عليه وسلم اللبن بالعلم، اعتبارا بما بين له أو الأمر حين أتى" في الإسراء "بقدح خمر وقدح لبن، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: أخذت الفطرة. انتهى".
أي: الحق الذي أمر الله به من فعل الطاعات وترك المحرمات، وقيل غير ذلك مما سبق في المعراج.
وفي رواية: فقال له جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة، "وقد جاء في بضع الأحاديث المرفوعة تأويله بالفطرة" بكسر الفاء وسكون الطاء" زاد في الفتح والسنة والقرآن، "كما أخرجه البزار" بإسناد حسن "من حديث أبي هريرة رفعه: "اللبن في المنام فطرة" لأن العالم القدسي تصاغ فيه الصور من العالم الحسي لتدرك منه المعاني، ولما كان اللبن في عالم الحس من أول ما يحصل به التربية ويرشح به المولود، صيغ عنه مثال الفطرة الت بها تتم القوة الروحانية، وتنشأ عنها الخاصة الإنسانية، ذكره بعضهم.
وقيل: الفطرة هنا علم التوحيد لا غيره فهو الفطرة التي فطر الحق عليها عباده حتى أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} ، فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء. انتهى.(10/65)
وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة مال وسرور وصحة جسم، وألبان الوحش شك في الدين، وألبان السباع غير محمودة، إلا أن لبن اللبوة مال مع عداوة لذي أمر.
وفي الحديث: إن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره.
وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم، ووجه التعبير في الحديث بذلك من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع، وكونهما سببا للصلاح، فاللبن للغذاء البدني،
__________
"وقد ذكر الدينوري: أن اللبن المذكور في هذا" الحديث "يختص بلبن الإبل، وأنه لشاربه مال حلال وعلم، قال: ولبن البقر" عراب أو جواميس "خصب السنة ومال حلال وفطرة أيضا، ولبن الشاة" ضأن أو معز "مال وسرور وصحة جسم" وفي ألفية ابن الوردي قال:
وكل ما حل من الألبان ... مال حلال كالظبا والضأن
"وألبان الوحش" مما لا يتأنس من دواب البر "شك في الدين" للشارب إما حالا بأن يكون متلبسا بذلك حال الرؤيا، وإما استقبالا بأن يطرأ عليه بعد، "وألبان السباع"، "جمع سبع بضم الياء وتسكن" يطلق على كل ما له ناب ويفترس، فهو من جملة الوحوش، فشربها شك في الدين، فلعله خصه بالذكر إشارة إلى أن فيها مضرة دنيوية أيضا.
ولذا قال: "غير محمودة" لشاربها "إلا أن لبن اللبوة" أنثى الأسد "مال مع عدواة لذي أمر" أي صاحب حكم، "وفي الحديث" من الفوائد: "أن علم النبي صلى الله عليه وسلم بالله لا يبلغ أحد درجته فيه؛ لأنه شرب حتى أرى الري يخرج من أظفاره، وأما إعطاؤه فضله لعمر، ففيه إشارة إلى ما حصل لعمر من العلم بالله" والشدة في أمره، "بحيث كان لا تأخذه في الله لومة لائم" فلا يرفق في القيام بالحق، وأبو بكر، وإن كان لا يقر على باطل، لكنه كان يعامل بالرفق واللين، كما هو معلوم من سيرهما، وإليه أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر".
وتقدم أن وجه اختصاصه بذلك لطول مدة خلافته بالنسبة إلى أبي بكر، "ووجه التعبير في الحديث بذلك", أي: تعبير اللبن بالعلم "من جهة اشتراك اللبن والعلم في كثرة النفع" بهما، "وكونهما سببا للصلح فاللبن" جعل محصلا "للغذاء البدني" وهو إصلاحه، بما يتغذى به من(10/66)
والعلم للغذاء المعنوي.
ومن ذلك رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنهما ما يبلغ دون ذلك، ومر عليّ بن الخطاب وعليه قميص يجره". قالوا: ما أولته يا رسول الله؟
__________
الطعام والشراب.
وفي الحديث: ليس شيء يجزي عن الطعام والشراب إلا اللبن، "والعلم للغذاء المعنوي", أي يحصل ما ينتفع به في الدين من تمييز الحق من الباطل، وإطلاق الغذاء عليه مجازا تشبيها لما يحصل المنفعة في الدين بما يحصل المنفعة في البدن.
وفي الحديث أيضا كما قال ابن أبي جمرة: مشروعية قص الكبير رؤياه على من دونه، وإلقاء العالم المسائل، واختيار أصحابه في تأويلها، وإن ممن أدب أن يرد الطالب علم ذلك إلى معلمه، قال: والذي يظهر أنه لم يرد منهم أن يعبروها، وإنما أراد أن يسألوه عن تعبيرها، ففهموا مراده فسأله فأفادهم، ولذلك ينبغي أن يسلك هذا الأدب في جميع الحالات.
"ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته: "رؤيته صلى الله عليه وسلم القميص وتعبيره بالدين عن أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان "الخدري رضي الله عنه" وعن أبيه، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" أنه قال: "بينا". "بغير ميم" وفي رواية بالميم. "أنا نائم رأيت الناس" من الرؤيا الحلمية على الأظهر، أو من الرؤية البصرية، فتطلب مفعولا واحدا وهو الناس، فجملة: "يعرضون عليّ". حال، أو علمية من الرأي، فتطلب مفعولين هما الناس, "يعرضون عليّ" أي يظهرو لي، ويجوز رفع الناس، كما قال الحافظ، ولعله بتقدير رأيت رؤيا، فقيل: ما هي؟ قال: هي الناس، وسقط لفظ على لأبي ذر وابن عساكر في التعبير، وثبت لغيره فيه كما في الإيمان وفي المناقب وفي التعبير أيضا، عرضوا علي "وعليهم قمص"، "بضم القاف والميم" جمع قميص "منها ما يبلغ الثدي" بالجمع والإفراد روايتان، يكون للرجل والمرأة خلافا لمن خصه بها، إلا أن يدعي أنه أطلق في الحديث على الرجل مجازا، "ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومر علي" كذا عند البخاري في إحدى روايتيه في التعبير، وفي الثانية كالإيمان والمناقب: "وعرض علي". "عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره" لطوله، كذا في الإيمان والتعبير، وفيه أيضا رواية: يجتره.
قال المصنف: بسكون الجيم بعدها فوقية مفتوحة، ولابن عساكر: يجره بضم الجيم وإسقاط الفوقية، وفي المناقب: اجتره "بهمزة وصل وسكون الجيم" قالوا: ما أولته؟ أي عبرته، وللكشميهني: أولت بلا ضمير، وفي الإيمان: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: "الدين"(10/67)
قال: "الدين". رواه البخاري.
وفي رواية الحكيم الترمذي في طبقة البخاري من طريق أخرى في هذا الحديث، فقال أبو بكر: علام تأولت هذا يا رسول الله؟
قالوا و"الثدي" بالمثلثة وكسر الدال وتشديد الياء، جمع ثدي، بفتح ثم سكون، والمعنى: أن القميص قصير جدا بحيث لا يصير من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها.
وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك" يحتمل أن يريد به من جهة السفل، وهو الظاهر فيكون أطول، ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو فيكون أقصر، ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة: "فمنهم من كان قميصه إلى سرته، ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى أنصاف ساقيه".
__________
"بالنصب ويجوز الرفع"، "رواه البخاري" في التعبير في موضعين، وقبله في المناقب وقبله في الإيمان، ورواه مسلم في الفضائل، كلاهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل، عن أبي سعيد.
"وفي رواية الحكيم الترمذي" محمد بن علي "من طبقة البخاري من طريق أخرى في" روايته "هذا الحديث: فقال أبو بكر الصديق: علام" أي على أي معنى "تأولت هذا" المنام "يا رسول الله؟ " ففيه بيان أنه السائل، فالجمع في قوله: قالوا. كأنه لما سكتوا عن سؤاله، فكأنهما "قالوا: والثدي: بضم المثلثة وكسر الدال وتشديد الياء جمع ثدي بفتح ثم سكون" كما رواه أبو ذر في التعبير في الموضعين وفي المناقب، ورواه غيره في الثلاثة بالإفراد، وأما في الإيمان، فرواه أبو ذر بالإفراد، وغيره بالجمع، كما أفاده المصنف، "والمعنى أن القميص قصير جدا، بحيث لا يصير" أي لا يمتد، وفي نسخة: أي لا يستر، وفي الفتح، وتبعه المصنف في الشرح، بحيث لا يصل "من الحلق إلى نحو السرة بل فوقها" والمعنى واحد على الجميع.
"وقوله: "ومنها ما يبلغ دون ذلك". يحتمل أن يريد به" أي بالدون "من جهة السفل، وهو الظاهر، فيكون أطول" مما يبلغ الثدي، "ويحتمل أن يكون دونه من جهة العلو، فيكون أقصر" أي لم يبلغ الثدي.
"ويؤيد الأول ما في رواية الحكيم الترمذي المذكورة": "فمنهم من كان قميصه إلى سرته -بضم السين- ومنهم من كان قميصه إلى ركبته -بالإفراد- ومنهم من كان قميصه إلى(10/68)
ويجوز النصب في قوله: "الدين". والتقدير: أولت الدين، ويجوز الرفع.
وفي رواية الحكيم المذكورة: على الإيمان.
وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه، والأصل في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] .
واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده. وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل كما يستر القميص عورة البدن. قال: وأما غير عمر فالذي كان
__________
إنصاف ساقيه" بجمع إنصاف كراهة توالي تثنيتين، "ويجوز النصب في قوله الدين" على أنه معمول أولت، "والتقدير أولت الدين، ويجوز الرفع" أي هو الدين، وظاهره استواؤهما وليس كذلك، فإن الحافظ قال: بالنصب، ويجوز الرفع، فمفاده أن الرواية بالنصب، وكذا جزم به المصنف في الإيمان وغيره.
"وفي رواية الحكيم المذكورة" قال: "على الإيمان" أولته بدل قوله: قال الدين "وقد قيل في وجه تعبير القميص بالدين أن القميص يستر العورة في الدنيا، والدين يسترها في الآخرة ويحجبها عن كل مكروه" فهو من التشبيه البليغ، لأنه يستر العورة، والدين يستره من النار، كما قال المصنف، "والأصل في قوله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى} العمل الصالح، أو السمت الحسن أو خشية الله، أو لباس الحرب، بالنصب عطفا على "لباسا"، والرفع مبتدأ خبره {ذَلِكَ خَيْرٌ} أو الخير خير وذلك صفته كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه, ولم يقل المصنف الآية، وإن وقعت في الفتح، لأن الاستدلال لا يتوقف على تمامها، وهم إنما يقولون الآية إذا كان في باقيها تمام الاستدلال.
"واتفق أهل التعبير على أن القميص يعبر بالدين، وأن طوله يدل على بقاء آثار صاحبه من بعده" وذلك مناسب لحال عمر فإن دينه متين وآثاره باقية.
"وقال ابن العربي: إنما أول النبي صلى الله عليه وسلم القميص بالدين، لأن الدين يستر عورة الجهل" فيشمل الإنسان ويحفظه ويمنعه من المخالفات، "كما يستر القميص عورة البدن" فوجه الشبه الستر والشمول، ولا يشكل ظاهره بأنه يستلزم فضل عمر على أبي بكر؛ لأن المراد بالأفضل الأكثر ثوابا والأعمال علاماته، فمن كان عمله أكثر فدينه أقوى، ومن كان دينه أقوى فثوابه أكثر، ومن كان ثوابه أكثر فهو أفضل، لأنه ليس في الحديث تصريح بالمطلوب، فيحتمل أن أبا بكر(10/69)
يبلغ الثدي هو الذي يستر القلب عن الكفر ولو كان يتعاطى المعاصي؛ لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك وفرجه باد هو الذي يستر رجله عن المشي إلى المعصية، والذي يستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه، والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص.
وأشار العارف ابن أبي جمرة: إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث: المؤمنون، لتأويله القميص بالدين، قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية، بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي.
قال: ويؤخذ من هذا الحديث، أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره فإنه يعبر بدين لابسه، قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار نزعه،
__________
لم يعرض في أولئك الناس، إما لأنه عرض عليه قبل ذلك، وإما لأنه لا يعرض أصلا، أو أنه لما عرض كان عليه قميص أطول من قميص عمر، وسكت عن ذكره اكتفاء بما علم من فضله، أو لأن المراد حينئذ بيان فضيلة عمر، فاقتصر عليها، أو ذكر أبا بكر، فذهل عنه الراوي.
وعن التنزل بأن الأصل عدم جميع هذه الاحتمالات، فهو معارض بالأحاديث الدالة على أفضلية الصديق، وقد تواترت تواترا معنويا، فهو المعتمد، كما أفاده الحافظ في محلين.
"قال" ابن العربي: "وأما غير عمر، فالذي كان يبلغ الثدي هو الذي ستر القلب عن الكفر" لقرب الثدي من القلب، "ولو كان يتعاطى المعاصي لأنه لا يخرج بها عن الإيمان، والذي كان يبلغ أسفل من ذلك"، أي الثدي "وفرجه باد، هو الذي لم يسر رجله عن المشي في المعصية" بأن يمس فيها، "والذي ستر رجله هو الذي احتجب بالتقوى من جميع الوجوه" فلم يفعل معصية، "والذي يجر قميصه زاد على ذلك بالعمل الصالح الخالص" لله تعالى.
"وأشار العارف ابن أبي جمرة إلى أن المراد بالناس في هذا الحديث المؤمنون لتأويله القميص بالدين" وإن كان لفظ الناس عاما "قال: والذي يظهر أن المراد خصوص هذه الأمة المحمدية" أي مؤمنوها، "بل بعضها، والمراد بالدين العمل بمقتضاه، كالحرص على امتثال الأوامر واجتناب المناهي، وكان لعمر في ذلك المقام العالي" الذي لا يساويه فيه من بعده.
"قال: ويؤخذ من الحديث أن كل ما يرى في القميص من حسن أو غيره، فإنه يعبر بدين لابسه" لأن المصطفى عبر الطول بالدين، فعلى قياسه: إذا كان حسنا، فلابسه حسن(10/70)
وإذا اختار أبقاه فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب، ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان، وقد يكون سبب نقص العمل.
وفي الحديث: إن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة، والقوة والضعف، وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص، لما ورد من الوعيد في تطويله.
ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين.
روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها فقال ابن عباس ذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا
__________
الدين، وإن كان قبيحا فلابسه ناقص الدين.
"قال: والنكتة في القميص أن صاحبه إذا اختار" نزعه "نزعه" "بفتحات" جواب إذا وما قدرته "بفتح فسكون" مفعول اختار، "وإذا اختار" بقاءه "أبقاه، فلما ألبس الله المؤمنين لباس الإيمان واتصفوا به كان الكامل في ذلك سابغ الثوب" أي طويله "ومن لا فلا، وقد يكون نقص الثوب بسبب نقص الإيمان" لأنه يزيد وينقص على المذهب المنصور، "وقد يكون بسبب نقص العمل" وإن كان كامل الإيمان.
"وفي الحديث" من الفوائد إفادة "أن أهل الدين يتفاضلون في الدين بالقلة والكثرة والقوة والضعف" ولذا بوب عليه البخاري تفاضل أهل الإيمان في الأعمال، "وهذا من أمثلة ما يحمد في المنام، ويذم في اليقظة شرعا، أعني جر القميص لما ورد من الوعيد في تطويله" بنحو خبر: "لا ينظر الله إلى من يجر إزاره خيلاء". وفيه أيضا مشروعية تعبير الرؤيا وسؤال العالم بها عن تعبيرها، ولو كان هو الرائي، وفيه الثناء على الفاضل بما فيه لإظهار منزلته عند السامعين، ومحله إذا أمن عليه الفتنة بالمدح، كالإعجاب وفضيلة عمر ظاهره، "ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام السوارين الذهب في يده الشريفة وتعبيرهما بالكذابين".
"روى البخاري" في التعبير وقبله في المغازي، "عن عبيد الله" "بضم العين" "ابن عبد الله" بفتحها" ابن عتبة بن مسعود، أحد الفقهاء، "قال: سألت عبد الله بن عباس عن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها" في شأن مسيلمة الكذاب.
وعند البخاري في المغازي: أن مسيلمة قدم المدينة، فأتاه صلى الله عليه وسلم ومعه ثابت بن قيس، وفي يده صلى الله عليه وسلم قضيب، فكلمه، فقال له مسيلمة: إن شئت خلينا بينك وبين الأمر، ثم جعلته لنا بعدك،(10/71)
نائم رأيت أنه وضع في يدي سواران من ذهب ففظعتهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان". فقال عبيد الله: أحدهما العنبسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مسيلمة.
__________
فقال صلى الله عليه وسلم: "لو سألتني هذا القضيب ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي أريت فيه ما أريت".
قال عبيد الله: فسألت ابن عباس عن رؤياه التي ذكرها، "فقال ابن عباس: ذكر لي" "بضم أوله مبينا للمفعول" وإبهام الصحابي لا يقدح، والذاكر له أبو هريرة، كما في الصحيحين من طريق نافع بن جبير.
قال ابن عباس: فأخبرني أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا" بغير ميم، قاله المصنف في المحلين "أنا نائم رأيت أنه وضع" بضم الواو "في يدي" بالتثنية "سواران"، "تثنية سوار بالكسر، ويجوز بالضم"، ولأبي ذر: إسواران "بكسر الهمزة وسكون المهملة تثنية إسوار لغة في سوار "من ذهب" من لبيان الجنس، كقوله تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] ، فهي القلب، "ففظعتهما"، "بفاء وظاء مشالة بعدها عين مهملة"، يقال: فظع الأمر، فهو فظيع إذا جاوز المقدار، قال ابن الأثير: الفظيع الأمر الشديد، وجاء هنا متعديا، والمعروف: فظعت به وفظعت منه، فتحمل التعدية على المعنى أي خفتهما أو معنى فظعتهما اشتد عليّ أمرهما.
قال الحافظ: ويؤيد الثاني رواية: فكبرا علي، "وكرهتهما" لكونهما من حلية النساء، وهو عطف مسبب على سبب، أي كرهتهما لشدة أمرهم وقبحه، "فأذن لي"، "بضم الهمزة وكسر المعجمة".
وفي رواية نافع عن ابن عباس: "فأوحي إلي في المنام أن أنفخهما". "فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان" أي تظهر شوكتهما ومحاربتهما، "فقال عبيد الله" "بضم العين" ابن عبد الله، المذكور في السند، "أحدهما العنبسي" "بمهملة فنون ساكنة فسين مهملة" وهو الأسود صحب صنعاء، كما في الرواية الثانية، واسمه عبهلة "بفتح العين المهملة وسكون الموحدة وفتح الهاء" ابن كعب، وكان يقال له أيضا: ذو الحمار؛ لأنه كان يخمر وجهه، وقيل: هو اسم شيطانه، وقول الكرماني: لأنه علم حمارا إذا قال له اسجد يخصف رأسه، يقتضي أنه بحاء مهملة، والمعروف أنه بالخاء المعجمة، بلفظ الثوب الذي يختمر به، كما أفاده الحافظ "الذي قتله فيروز" الديلمي الصحابي "باليمن" لما خرج بصنعاء وادعى النبوة، وغلب على عاملها للنبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين بن أبي أمية المخزومي، وأخرجه منها، ويقال: أنه مر به، فلما حاذاه عثر الحمار، فادعى أنه سجد له، ولم يقم الحمار حتى قال له شيئا، فقام.
روى يعقوب بن سفيان والبيهقي من طريقه من حديث النعمان بن بزرج "بضم الموحدة(10/72)
وفي رواية أبي هريرة عند الشيخين: "بينا أنا نائم إذ أتيت خزائن الأرض
__________
وسكون الزاي"، ثم راء مضمومة ثم جيم قال: خرج الأسود الكذاب ومعه شيطانان، يقال لأحدهما سحيق "بمهملتين وقاف مصغر" والآخر شقيق "بمعجمة وقافين مصغر"، وكانا يخبرانه بكل شيء يحدث من أمور الناس، فلما مات باذان عامل النبي صلى الله عليه وسلم بصنعاء، جاء شيطان الأسود، فأخبره، فخرج في قومه حتى ملك صنعاء، وتزوج المرزبانة، زوجة باذان، فذكر القصة في مواعدتها فيروز وغيره، فدخلوا على الأسود ليلا، وقد سقته المرزبانة الخمر صرفا حتى سكر، وكان على بابه ألف حارس، فنقب فيروز ومن معه الجدار حتى دخلوا، فقتله فيروز واحتز رأسه، وأخرجوا المرأة وما أحبوا من متاع البيت، وأرسلوا الخبر إلى المدينة، فوافى بذلك عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الأسود عن عروة: أصيب الأسود قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بيوم أو ليلة، فأتاه الوحي، فأخبر أصحابه، ثم جاء الخبر إلى أبي بكر، وقيل: وصل الخبر بذلك صبيحة دفنه صلى الله عليه وسلم "والآخر مسيلمة" "بكسر اللام" مصغر ابن ثمامة، بضم المثلثة ابن كبير، بموحدة ابن حبيب بن الحارث من بني حنيفة، قال ابن إسحاق: ادعى النبوة سنة عشر، وزعم بعضهم أن مسيلمة لقب واسمه ثمامة، فيه نظر لأن كنيته أبو ثمامة، فإن كان محفوظا، فيكون ممن توافقت كنيته واسمه، فجمع جموع كثيرة ليقاتل الصحابة، فجهز له الصديق جيشا، أميرهم خالد بن الليد، فقتل جمع من الصحابة، ثم كان الفتح بقتل مسيلمة، قتله عبد الله بن زيد بن عاصم المازني على الأشهر، وقيل: عدي بن سهل، وقيل: وحشي بالحربة التي قتل بها حمزة، وقيل: أبو دجانة، ولعل عبد الله هو الذي أصابته ضربته, وحمل عليه الباقون، ثم ما في هذه الرواية من أن النص على اسمهما من عبيد الله قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند الشيخين، من رواية نافع بن جبير، عن ابن عباس، عن أبي هريرة ولفظه: "فأولتهما كذابين يخرجان بعدي أحدهما العنسي صاحب صنعاء، والآخر مسيلمة صاحب اليمامة".
قال عياض: النص على اسمهما في هذه الرواية التي بعدها هو من النبي صلى الله عليه وسلم وعند ابن أبي شيبة من مرسل الحسن، رفع: "رأيت كأن في يدي سوارين، من ذهب فكرهتهما فذهبا كسرى وقيصر".
قال الحافظ: هذا إن كان الحسن أخذه عن ثبت، فظاهره يعارض التفسير بمسيلمة والأسود، فيحتمل أن يكون تعددا، والتفسير من قبله بحسب ما ظنه أدرج في الخبر فالمعتمد ما ثبت مرفوعا أنهما الأسود ومسيلمة.
"وفي رواية أبي الأسود عند الشيخين" في التعبير فالبخاري عن شيخه إسحاق بن راهويه، وفي المغازي عن شيخه إسحاق بن نصر، ومسلم عن شيخه محمد بن رافع، ثلاثتهم عن(10/73)
فوضع في يدي سواران من ذهب، فكبر علي وأهماني، فأوحي إلي أن أنفخهما فنفختهما، فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما، صاحب صنعاء وصاحب اليمامة".
__________
عبد الرزاق، عن معمر، عن همام أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا" بغير ميم "أنا نائم إذ أتيت" قال الحافظ: كذا وجدته في نسخة معتمدة من طريق أبي ذر من الإتيان بمعنى المجيء، وبحذف الباء من "خزائن الأرض"، وهي مقدرة، وعند غيره: "أوتيت" بزيادة واو من الإيتاء بمعنى الإعطاء، ولا إشكال في حذف الباء على هذه الرواية، ولبعضهم كالأول، لكن بإثبات الباء، وهي رواية أحمد وإسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق يعني عند البخاري في المغازي، "فوضع"، "بضم الواو مبني لما لم يسم فاعله "في يدي" وفي رواية: في كفي "سواران" بالتثنية رفع بالألف مفعول ناب عن فاعله، ولأبي ذر: فوضع "بفتح الواو مبنيا للفاعل"، أي وضع الآتي بخزائن الأرض في يدي سوارين، نصب بالياء على المفعولية، كذا في شرح المصنف، وكان الحافظ لم ير الرواية الأولى هنا، فعزاها لرواية البخاري في المغازي، عن شيخه إسحاق بن نصر، عن عبد الرزاق قال: ولا إشكال فيهما، وشرح ابن التين هنا على لفظ وضع بالضم، وسوارين بالنصب، وتكلف لتخريج ذلك "من ذهب" صفة للسوارين، "فكبر"، "بضم الموحدة والإفراد" أي عظم على شأنهما وثقل.
وفي رواية المغازي: كمسلم، فكبرا بالتثنية، أي عظما "علي وأهماني" أحزناني وأقلقاني "فأوحي إلي" بالبناء للمجهول، رواه الأكثر، ولبعض الرواة: "فأوحى الله إلي".
قال القرطبي: أي إلهاما، أو على لسان ملك "أن انفخهما" بهمزة وصل، وكسر النون للتأكيد والجزم على الأمر، وقال الطيبي: ويجوز أن تكون مفسرة، لأن أوحي يتضمن معنى القول، وأن تكون ناصبة والجار محذوف، "فنفختهما" زاد البخاري في المغازي ومسلم: فذهبا، وفي رواية ابن عباس التي قبلها: فطارا، وزاد سعيد بن منصور من طريق سعيد المقبري، عن أبي هريرة: فوقع واحد باليمامة، والآخر اليمن، "فأولتهما بالكذابين اللذين أنا بينهما" لأن السوارين في اليدين جميعا، فهو بينهما، قال عياض، ويأتي توجيه القرطبي "صاحب صنعاء" الأسود العنسي "وصاحب اليمامة" بتخفيف الميمين: مدينة باليمن على أربع مراحل من مكة، يعني مسيلمة الكذاب، وهذا ظاهر في أنهما كانا موجودين حين قص الرؤيا، فيخالف قوله في رواية ابن عباس التي فوق هذه: "يخرجان بعدي"، والجمع بينهما أن المراد بخروجهما بعده ظهور شوكتهما، ودعواهما النبوة ومحاربتهما، نقله النبوي عن العلماء.
قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأن ذلك كله ظهر للأسود بصنعاء في حياته صلى الله عليه وسلم، فادعى النبوة وعظمت شوكته، وحارب المسلمين وفتك بهم، وغلب على البلد، وآل أمره إلى أن قتل في(10/74)
قال المهلب: هذا الرواية ليست على وجهها، وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين لأن الكذب وضع الشيء في غير موضعه، فلما رأى في ذراعيه سوارين من ذهب وليس من لبسه، لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له. وأيضا: ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه دليل على الكذب، وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما من موضعهما.
__________
حياته صلى الله عليه وسلم كما مر وأما مسيلمة، فادعى النبوة في حياته صلى الله عليه وسلم لكن لم تعظم شوكته، ولم تقع محاربته إلا في عهد أبي بكر، فإما أن يحمل ذلك على التغليب، وإما أن يكون المراد بقوله بعدي أي بعد نبوتي.
قال العيني: في نظره نظر، لأن كلام ابن عباس يصدق على خروج مسيلمة بعده صلى الله عليه وسلم، وأما كلامه في حق الأسود، فمن حيث أن أتباعه ومن لاذ به تبعوا سبيله وقووا شوكته، فأطلق عليه الخروج بعده بهذا الاعتبار، كذا قال، وهو كلام يضحك منه، فإن قوله يصدق على خروج مسيلمة بعده تقرير لقول الحافظ، يحمل على التغليب وقوله: وأما كلامه ... إلخ، فإنما يتم أن ثبت أن أتباعه بعد قتله استمروا على ما كانوا عليه معه وأتى به، ولذا قال المصنف عقب نقله. انتهى.
فليتأمل "قال المهلب: هذه الرواية ليست على وجهها" أي ظاهرها، "وإنما هي ضرب من المثل، وإنما أول النبي صلى الله عليه وسلم السوارين بالكذابين، لأن الكذب وضع الشيء في غيره موضعه" تفسير باللازم وإلا فهو لغة الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عمدا أو خطأ، "فلما رأى في ذراعيه سوارن من ذهب، وليس من لبسه" أي مما يليق به ويلبسه، ولم يسبق له لبسهما، "لأنهما من حلية النساء، عرف أنه سيظهر من يدعي ما ليس له" فهو كاذب، "وأيضا ففي كونهما من ذهب، والذهب نهي عن لبسه" تحريما "دليل على" وجود "الكذب" إذ محال أن يلبس ما نهى عنه، "وأيضا: فالذهب مشتق من الذهاب، فعلم أنه شيء يذهب عنه، وتأكد ذلك بالإذن له في نفخهما، فطارا، فعرف أنه لا ينسب لهما أمر، وأن كلامه بالوحي الذي جاء به يزيلهما عن موضعهما" وفي ذلك إشارة إلى حقارة أمرهما، لأن شأن الذي ينفخ فيه فيذهب بالنفخ أن يكون في غاية الحقارة، قاله بعضهم، ورده ابن العربي، بأن أمرهما كان في غاية الشدة، لم ينزل بالمسلمين قبله مثله، قال الحافظ: وهو كذلك، لكن الإشارة إنما هي إلى الحقارة المعنوية لا الحسية، ويتجه في تأويل نفخهما أنه قتلهما بريحه، لأنه(10/75)
وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول الرؤيا عليهما ليكونا ذلك، إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت, ويحتمل أن يكون بوحي.
والمراد بـ"خزائن الأرض" الذي ذكرها، ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة.
وقال القرطبي: إنما كبر عليه السواران لكون الذهب من حلية النساء، وما حرم على الرجال، وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما، ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعاء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا على أهلهما بزخرف أقوالهما ودعاويهما الباطلة انخدع أكثرهم بذلك، فكأن الدين بمنزلة البلدين، والسوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب.
__________
لم يغزهما بنفسه أما الأسود، فقتله فيروز الصحابي في مرض موته صلى الله عليه وسلم على الصحيح، وأما مسيلمة، فقتل في خلافة الصديق.
"وقال ابن العربي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوقع بطلان أمر مسيلمة والعنسي، فأول" أي حمل "الرؤيا عليهما، فيكون ذلك إخراجا للمنام عليهما، فإن الرؤيا إذا عبرت خرجت" أي وقعت على الوجه الذي عبرت به، "ويحتمل أن يكون" تعبيره إياها بهما "بوحي" أوحى إليه بتعيينهما، "والمراد بخزائن الأرض التي ذكرها ما فتح على أمته من الغنائم، ومن ذخائر كسرى وقيصر وغيرهما، ويحتمل معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة" وقال غيره: بل يحمل على أعم من ذلك.
"وقال القرطبي" أبو العباس في المفهم: "إنما كبر عليه السواران، لكون الذهب من حلية النساء، ومما حرم على الرجال" فلا يليق ذلك بعلي مقامه، "وفي طيرانهما إشارة إلى اضمحلال أمرهما" وعدم ثباته، "ومناسبة هذا التأويل لهذه الرؤيا أن أهل صنعناء وأهل اليمامة كانوا مسلمين، فكانوا كالساعدين" تثنية ساعد، ما بين المرفق والكتف مذكر "للإسلام، فلما ظهر فيهما الكذابان، وبهرجا" زورا وزخرفا "على أهلهما بزخرف أقوالهما" المفسد لعقولهما "ودعاويهما الباطلة، انخدع أكثرهم بذلك، فكأن اليدين" الشريفتين اللتين وضع فيهما السواران "بمنزلة البلدين و"كأن "السوارين بمنزلة الكذابين، وكونهما من ذهب إشارة إلى ما زخرفا" أي حسنا "من الكذب، والزخرف من أسماء الذهب" ولذا قال: "اللذين أنا بينهما"،(10/76)
وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا ناله ضرر، وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه، وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه.
ومن ذلك: رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس، وتعبيرها بنقل وباء المدينة إلى الجحفة.
روى البخاري من حديث عن عبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى قامت بمهيعة -وهي
__________
"وقال أهل التعبير: من رأى أنه يطير، فإن كان إلى جهة السماء تعريجا" أي ارتفاعا، والتكثير للمبالغة، لكن لفظ الفتح إلى جهة السماء بغير تعريج، وتبع المصنف في الشرح، "ناله ضرر وإن غاب في السماء ولم يرجع مات، وإن رجع أفاق من مرضه" إن كان مريضا، "وإن كان يطير عرضا سافر ونال رفعة بقدر طيرانه" زاد في الفتح: فإن كان بجناح، فهو مال أو سلطان يسافر في كنفه، وإن كان بغير جناج دل على التحذير مما يدخل فيه، وقالوا: إن الطيران للشرار دليل رديء. انتهى.
وقال بعضهم: من رأى عليه سوارين من ذهب، أصابه ضيق في ذاته مدة، فإن كانا من فضة فهو خير من الذهب، وليس يصلح للرجال في المنام من الحلي إلا التاج والقلادة والعقد والخاتم.
قال الحافظ في المغازي: ويؤخذ من هذه القصة منقبة للصديق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم تولى نفخ السوارين بنفسه حتى طارا، فأما الأسود فقتل في زمنه، وأما مسيلمة فكان القائم عليه حتى قتل أبو بكر، فقام مقامه صلى الله عليه وسلم في ذلك، ويؤخذ منه أن السوار وسائر آلات الحلي اللائقة بالنساء تعبر للرجال بما يسوءهم ولا يسرهم، ولله أعلم.
"ومن ذلك" أي مرائيه وتعبيراته "رؤيته صلى الله عليه وسلم المرأة السوداء الثائرة الرأس" "بمثلثة من ثار الشيء إذا انتشر". "وتعبيرها بنقل وباء المدينة" "بالمد والقصر" مرضها العام لا الطاعون، لأنه لم يدخلها "إلى الجحفة" "بضم الجيم وسكون المهملة" الميقات المعلوم.
"روى البخاري" في التعبير من ثلاثة طرق، "من حديث" موسى بن عقبة، عن سالم، "عن" أبيه "عبد الله بن عمر" رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام امرأة". وفي رواية: "كأن امرأة". "سوداء ثائرة الرأس"، "بمثلثة"، أي منتفش شعر رأسها، ولأحمد وأبي يعلى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة: "ثائرة الشعر تفلة". والمراد شعر الرأس وتفلة، "بفتح الفوقية وكسر الفاء ولام"، أي كريهة الرائحة "خرجت من المدينة" النبوية، كذا في أكثر(10/77)
الجحفة- فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها".
وهذا من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق من اسم السوداء: السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع اسمها، وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة.
وقال القيرواني من أهل التأويل: كل شيء غلبت السوداء في أكثر
__________
الروايات.
وفي رواية ابن أبي الزناد: أخرجت بزيادة همزة مضمومة أوله على البناء للمجهول، ولفظه: أخرجت من المدينة، فأسكنت بالجحفة وسارت "حتى قامت" أي انتصبت قائمة حين وصولها "بمهيعة" "بفتح الميم وسكون الهاء فتحتية مفتوحة فعين مهملة" وقيل: بوزن عظيمة، ثم استقرت فيها كما يفيده التعبير بأسكنت في تلك الرواية.
قال الحافظ: وأظن قوله: "وهي الجحفة" مدرجا من قول موسى بن عقبة، فإن أكثر الروايات عنه خلا عن هذه الزيادة، وثبتت في رواية سليمان، يعني ابن بلال عن موسى عند البخاري، وابن جريج عن موسى عند ابن ماجه، إلا أنه قال بالمهيعة.
قال ابن التين: ظاهر كلام الجوهري أن مهيعة تصرف، لأنه أدخل عليها الألف واللام، إلا أن يكون أدخلهما للتعظيم وفيه بعد، انتهى.
وجزم السيوطي بأنه مدرج منه، "فأولت ذلك أن وباء المدينة نقل إليها" أي نقل من المدينة الجحفة لعدوان أهلها وأذاهم للناس، وكانوا يهودا وترجم البخاري على هذا الحديث باب: إذا رأى أنه أخرج الشيء من كورة "بضم الكاف وسكون الواو، بعدها راء مفتوحة فهاء تأنيث" أي: ناحية.
قال الحافظ: ظاهر الترجمة أن فاعل الإخراج النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نسبه إليه لأنه دعا به حيث قال: "اللهم حبب إلينا المدينة، وانقل حماها إلى الجحفة"، "وهذا" كما قال المهلب "من قسم الرؤيا المعبرة، وهي مما ضرب به المثل ووجه التمثيل أنه شق" أي قطع، أي أخذ "من اسم السوداء" جزئين "السوء والداء فتأول خروجهما بما جمع" هو، أي الجزآن "اسمها" فهو بالنصب مفعول، أو بالرفع والمفعول محذوف، أي بما جمعه اسمها، "وتأول من ثوران شعر رأسها أن الذي يسوء ويثير الشر يخرج من المدينة" "بفتح التحتية وضمها".
"وقال" علي "القيرواني، من" علماء "أهل التأويل: كل شيء غلبت عليه السوداء في أكثر وجوهها فهو مكروه" أي رؤياه تدل على مكروه، "وقال غيره: ثوران الرأس يؤول(10/78)
وجوهها فهو مكروه، وقال غيره: ثوران الرأس يؤول بالحمى لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء لأنها أكثر اسيتحاشا.
ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة وبقرا ينحر وتعبير ذلك.
عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت من المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، فذهب وهلي إلى أنها اليمامة أو هجر، فإذا هي المدينة
__________
بالحمى، لأنها تثير البدن بالاقشعرار وبارتفاع الرأس، لا سيما من السوداء، لأنها أكثر استيحاشا" وعبارة الحافظ في حكاية هذا، وقيل: لأن ثوران الشعر من اقشعرار الجسد، ومعنى الاقشعرار: الاستيحاش، فلذلك يخرج ما يستوحش النفوس منه، كالحمى قلت: وكأن مراده بالاستيحاش أن رؤيته موحشة، وإلا فالاقشعرار في اللغة تجمع الشعر وتقبضه وكل شيء تغير عن هيئته، يقال: اقشعر كاقشعرت الأرض بالجدب والنبات من العطش، وقد قال القيرواني: فذكر كلامه استشهادا لما ترجاه وهو حسن.
"ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه في درع حصينة" صفة درع الحديد، لأنها مؤنثة عند الأكثر، "و" رؤيته "بقرا" "بالنصب" في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى: وبقر بالجر، أي: وفي بقر، أي: مع بقر "ينحر، وتعبير ذلك عن أبي موسى" عبد الله بن قيس الأشعري، "عن النبي صلى الله عليه وسلم" قال: "رأيت في المنام أني أهاجر" بضم الهمزة "من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلي" "بفتح الهاء" أي وهمي واعتقادي، قاله عياض وتبعه النووي، وجزم به الحافظ في الهجرة، وقال: هنا قال ابن التين: وبه رويناه والذي عند أهل مكة "بسكون الهاء" قال: ولعل الرواية على نحو قولهم في البحر بحر بالتحريك، ونهر ونهر، وشعر وشعر. انتهى.
وجزم في النهاية "بسكون الهاء" ولعله رواية قليلة، وقد يشعر به قول المصنف في علامات النبوة "بفتح الواو والهاء" وقد تسكن، وبه جزم في النهاية "إلى أنها اليمامة": بلاد الجو بين مكة واليمن، "أو هجر"، "بفتح الهاء والجيم" غير مصروف، قاعدة أرض البحرين، أو بلد باليمن، قاله المصنف.
وفي القاموس: مذكر مصروف، وقد يؤنث بلد باليمن واسم لجميع أرض البحرين، ورواه أبو ذر والأصيلي وابن عساكر الهجر بزيادة أل "فإذا هي" مبتدأ، وإذ للمفأجاة "المدينة" خبر "يثرب" اسمها في الجاهلية، فأتى به للبيان، أي التي تسمونها يثرب، ألا تراه قال قبل المدينة: فلا ينافي نهيه عن تسميتها بذلك، أو كان ذلك قبل نهيه، قاله عياض، قال: وفيه خروج الرؤيا على وجهها لهجرته صلى الله عليه وسلم إلى أرض بها نخل، وهي المدينة.(10/79)
يثرب، ورأيت فيها بقرا، والله خير، وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير بعد، وثواب الصدق الذي أتانا الله بعد يوم بدر". رواه
__________
قال القرطبي: ولم يجزم بأحد البلدين، وليس في الرؤيا ما يدل على تعيين أحدهما، وإنما ذهب وهله إلى أحدهما لكثرة ما بهما من النخل.
وفي الصحيح مرفوعا: "أريت دار هجرتكم بين لابتين". قال الزهري: وهما الحرتان، قال ابن التين: رأى صلى الله عليه وسلم دار هجرته بصفة تجمع المدينة وغيرها، ثم رأى الصفة المختصة بالمدينة فتعينت، قال أبو عبد الله الأبي: فإن قيل: رؤياه حق، وقد ظن أحد البلدين ولم يتفق ذلك، أجيب بحضرة الشيخ حين أورد السؤال، بأن معنى كونها حقا، أنها ليست حلما من الشيطان، وأما باعتبار المطابقة فقد لا تجب المطابقة، ولم ينكره الشيخ، وأجاب هو، بأن الوهل يحتمل أن يكون أول حركة الذهن إلى التفسير، ثم لم يتماد عليه، ثم الوهل يحتمل أنه في النوم ويحتمل في اليقظة، انتهى.
ومراده بالشيخ الإمام محمد بن عرفة شيخه "ورأيت فيها" أي الرؤيا، اختصر الحديث تبعا للبخاري في التعبير، وإلا فقبل هذا في البخاري في علامات النبوة.
وفي مسلم: ورأيت في رؤياي هذه سيفا، فذكر ما يأتي، وقال عقبه: ورأيت فيها "بقرا"، "بموحدة وقاف" $"والله خير" "مبتدأ وخبر".
قال عياض: رويناه برفعهما، ومعناه عند الأكثر، أي ثواب الله للمقتولين خير لهم من مقامهم في الدنيا، وقيل: المعنى صنع الله خير لهم وهو قتلهم يوم أحد، قال الأبي: وعلى التقديرين، فارتفاعهما على المبتدأ والخبر، ويحتمل أنه على اعتبار العوض بالنصر، كما يقال: في الله عوض من كل هالك.
قال عياض: وقيل فيه تقديم وتأخير، والتقدير: رأيت والله بقرا ينحر، والاسم مخفوض على القسم، وبهذا اللفظ جاء في رواية السيرة، وسمي خيرا على التفاؤل وإن كان مكروها في الظاهر، أو باعتبار عقباه، كما يقول العابر لمن قص عليه رؤياه خير، والأولى قول من قال: والله خير من جملة الرؤيا، وأنها كلمة ألقيت إليه، وسمعها عند رؤياه بدليل قوله: وإذا الخير ... إلخ. انتهى.
"وإذا هم النفر"، "بفتح النون والفاء"، "من المؤمنين" الذين استشهدوا "يوم أحد".
قال القرطبي: أخذ النفر من لفظ بقر مصحفا، إذ لفظهما واحد ليس بينهما إلا النقط، يعني: والتصحيف من وجوه التأويل، وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري في المواضع كلها، فإذا هم المؤمنون يوم أحد، "وإذ الخير ما جاء الله به من الخير بعد".(10/80)
البخاري ومسلم.
وقد روى الإمام وغيره عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت كأني في درع حصينة، ورأيت بقرا تنحر، فأولت الدرع الحصينة المدينة، والبقر بَقْرًا".
وهذه اللفظة الأخيرة وهي "بقر" الموحدة، وسكون القاف، مصدر بقره يبقره بقرا.
__________
قال عياض: صحت الرواية فيها أنها بالضم مقطوعة عن الإضافة، أي بعد ما أصيبوا يوم أحد، "وثواب الصدق" أي صدق الوعد مع قريش يوم أحد على الاجتماع ببدر في العام القابل، فخرج صلى الله عليه وسلم إليها، وجبنت قريش فما خرجوا إليها "الذي أتانا"، "بالمد"، أي أعطانا "الله بعد يوم بدر" أي بدر الموعد، وهي الثالثة، وربما عبر عنها بالثانية، ولفظ الجلالة ثابت في الصحيحين، فلا عبرة بسقوطها في غالب نسخ المصنف.
قال عياض: صحت رواية في بعد "بالنصب" مضافة ليوم بدر، فهما أمران مختلفان أوتيهما في وقتين مختلفين، فيستحيل أن يكون المراد بيوم بدر، الغزوة الكبرى لتقدمها على أحد في رمضان سنة اثنتين، وأحد في شوال سنة ثلاث، فتعين أنها بدر الثانية في شوال سنة أربع.
"رواه البخاري" مفرقا في التعبير: وغزوة بدر، وغزوة أحد، وعلق أوله في الهجرة، وساقه تاما في علامات النبوة، لكنه في الجميع شك في رفعه، فيقول: أرى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ: قائل ذلك هو البخاري، كأنه شك هل سمع من شيخه صيغة الرفع أم لا؟
"و" أخرجه "مسلم" وأبو يعلى عن أبي كريب شيخ البخاري، فيه: فلم يترددا، بل جزما برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، "وقد روى الإمام أحمد وغيره" النسائي وابن سعد بإسناد صحيح، "عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رأيت كأني في درع حصينة" منيعة، تمنع عن لابسها الأذى، "ورأيت بقرا" فزاد على السابقة: "تنحر" وبه يتضح التأويل.
وفي حديث ابن عباس: تذبح، "فأولت الدرع الحصينة المدينة" فهذا أيضا زيادة على السابق "و" أولت "البقر" "بفتحتين"، "بقرا"، "وهذه اللفظة الأخيرة، وهي بقر: "بفتح الموحدة وسكون القاف" مصدر بقره يبقره" كقتله يقتله، أي شق بطنه "بقرا" يكون فينا، قال: فكان من أصيب من المسلمين، كما زاد في حديث ابن عباس: ومنهم من ضبطها "بفتح النون والفاء"؛ لأن من وجوه التأويل التصحيف، ولفظ بقر مثل لفظ نفر "بنون وفاء" خطأ.
ويؤيده رواية مسلم: وإذا هم النفر من المؤمنين يوم أحد كما مر، قيل: إنما أول البقر بمن قتل، لأن البقر متسلحة بقرونها، وبها يدفع ويناطح بعضها بعضا، فأشبهت رجال الحرب، وخص القتل بأصحابه، وليس في الرؤيا دليل ظاهر على تخصيصهم، لأن البقر قد يعبر بها عن أهل(10/81)
ولهذا الحديث سبب جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا من المدينة، وإيثارهم الخروج طلبا للشهادة ولبسه اللأمة وندامتهم على ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل". وفيه: "إني رأيت أني في درع حصينة" الحديث، بنحو حديث جابر، وأتم منه، وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول.
والمراد بقوله: "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي آتانا الله بعد يوم بدر" فتح خيبر ثم مكة، أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية من تثبيت قلوب المؤمنين.
__________
الحرب والبادية ومن يثير الأرض، لأنها تثيرها، ولأن الذكر منها ثور، وهذه صفة أصحابه الأنصار لاشتغالهم بالزراعة، وليست صفة غيرهم من قريش، أو لأن أصحابه الثائرين معه على الحرب، كذلك لتحريكهم جهتهم من الأرض، وقلبهم ظاهرها وباطنها.
قاله عياض: "ولهذا الحديث سبب، جاء بيانه في حديث ابن عباس عند أحمد أيضا، والنسائي والطبراني، وصححه الحاكم من طريق أبي الزناد" "بكسر الزاي وخفة النون" اسمه عبد الله بن ذكوان، "عن عبيد الله" "بضم العين" "ابن عبد الله" "بفتحها" "ابن عتبة" "بضمها وإسكان الفوقية" "عن ابن عباس في قصة أحد، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يبرحوا" يخرجوا "من المدينة وإيثارهم" تقديمهم "الخروج طلبا للشهادة ولبسه" صلى الله عليه وسلم "اللأمة" "بهمزة ساكنة"، ويجوز تخفيفه الدرع، "وندامتهم على ذلك" بعدما دخل بيته، وقول بعضهم: استكرهتم رسول الله، "وقوله صلى الله عليه وسلم" حين خرج وعرضوا عليه القعود "لا ينبغي" لا يجوز "لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل" أو يحكم الله بينه وبين عدوه، وفيه: "إني رأيت أن في درع حصينة، الحديث بنحو حديث جابر" المذكور قبله، "وأتم منه" سياقا، "وقد تقدمت الإشارة إليه في غزوة أحد من المقصد الأول".
"والمراد بقوله": "وإذا الخير ما جاء الله به من الخير، وثواب الصدق الذي آتانا"، "بالمد" أعطانا "الله بعد يوم بدر". فتح خيبر وقريظة، "ثم مكة"، "أي ما جاء الله به بعد بدر الثانية" التي بعد أحد، وتسمى بدر الموعد، لتواعدهم عليها بعد فراغ غزوة أحد "من تثبيت قلوب المؤمنين" لأن الناس جمعوا لهم، فزادهم إيمانا وفرق العدو من هيبتهم، فلم يأتوها وأخلفوا الموعد.(10/82)
قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار بأن قوله في الخبر: "والله خير" من جملة الرؤيا. قال: والذي يظهر لي أن لفظ "والله خير" لم يتحرر إيراده، وأن رواية ابن إسحاق هي المحررة، وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة، يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر وبعده إلى فتح مكة، والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد نبه عليه ابن بطال.
ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام أنه أتى برطب. روى مسلم عن أنس
__________
"قال في فتح الباري: وفي هذا السياق إشعار، بأن قوله في الخبر" أي الحديث: "والله خير من جملة الرؤيا" زاد الفتح في المغازي، كما جزم به عياض وغيره، "قال" في الفتح هنا: "والذي يظهر لي أن لفظ الله خير لم يتحرر إيراده" من راويه، "وإن رواية ابن إسحاق": "إني رأيت والله خيرا، رأيت بقرا". "هي المحررة" والواو للقسم، وخيرا مفعول رأيت، "وأنه رأى بقرا ورأى خيرا، فأول البقر على من قتل من الصحابة يوم أحد، وأول الخير على ما حصل لهم من ثواب الصدق في القتال والصبر على الجهاد يوم بدر" العظمى، "وبعده إلى فتح مكة" وما اتصل به من حنين والطائف، ولم ينظروا إلى ما وقع في أحد، وفي هذا تورك على قول عياض: يستحيل أن المراد غزوة بدر الكبرى لتقدمها على أحد، لأنه لا يمتنع أنها المراد، وأن الرؤيا مؤولة بثواب القتال الواقع قبلها وبعدها، إلى آخر المغازي، كما أشار إليه بقوله: "والمراد بالبعدية على هذا لا يختص بما بين بدر وأحد" بل يم جميع المغازي "نبه عليه ابن بطال".
قال الحافظ عقبه: ويحتمل أن يريد ببدر بدر الموعد، لا الواقعة المشهورة، السابقة على أحد، فإن بدر الموعد كان بعد أحد، ولم يقع فيها قتال، وكان المشركون لما رجعوا من أحد، قالوا: موعدكم العام المقبل بدر، فخرج صلى الله عليه وسلم ومن انتدب معه إلى بدر، ولم يحضر المشركون، فسميت بدر الموعد، فأشار بالصدق إلى أنهم صدقوا الموعد ولم يخلفوه، فأثابهم الله تعالى على ذلك بما فتح عليهم بعد ذلك من قريظة وخيبر وما بعدهما. انتهى.
وهذا الذي قدمه المصنف باختصار، بقوله: والمراد ... إلخ. هو مختار عياض كما قدمته، ومر في المغازي أن غزوات بدر ثلاثة: الأولى في طلب كرز بن جابر لما أغار على سرح المدينة، فرجع ولم يلق حربا، والثانية: الكبرى، وتسمى العظمى، والثانية, وبدر القتال، والثالثة: بدر الموعد، "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام، أنه أتي برطب" في المنام.
"روى مسلم عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "رأيت الليلة" الذي رأيته في(10/83)
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت الليلة فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن نافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب". فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب، ومن ذلك: رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه، وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت في رؤياي
__________
مسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كائنا"، "بنون" المتكلم ومعه غيره "في دار عقبة"، "بالقاف"، "ابن رافع"، "بالراء" الأنصاري، الصحابي، له ذكر في هذا الحديث.
وأخرجه ابن منده من حديثه، لكنه صحف أباه، فقال ابن نافع، "بالنون"، وتعقبه أبو نعيم وله حديث آخر، وهو: "إذا أحب الله عبدا أحماه الدنيا" أخرجه أبو يعلى والحسن بن سفيان، عنه رفعه، قاله في الإصابة ملخصا: "فأتينا برطب من رطب ابن طاب" نوع من أنواع تمر المدينة، منسوب إلى ابن طاب رجل من أهلها، "فأولته أن الرفعة لنا في الدنيا" أخذا من لفظ رافع، "والعاقبة في الآخرة" أخذا من لفظ عقبة، "وأن ديننا قد طاب" أي قارب الاستقامة، ويناهي صلاحه لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] .
وقد قيل: لعل هذه الرؤيا كانت بعد أحد والخندق واستقامة الدين، ويحتمل أنها كانت قبل تبشيرا له صلى الله عليه وسلم بما يكون من حاله وحال الدين، وتأول الرطب بالدين؛ لأنه حلو، في القلوب سهل، لأن الشريعة سمحة كملت بعد تدريج، كما أن الرطب سهل حلو، كمل بعد تدريج من الطلع، إلى أن صار رطبا، قال علماء التعبير: طرق التعبير أربعة: الاشتقاق كما تقدم، والثانية ما يعبر بمثاله ويعتبر بشكله، كدلالة متعلم الكتابة على القاضي والسلطان وصاحب السجن ورئيس السفينة، وعلى الوصي والوالد، والثالثة ما يفسره المعنى المقصود من ذلك الشيء المرئي، كدلالة فعل السفر على السفر، وفعل السوق على المعيشة، وفعل الدار على الزوجة والجارية، والرابعة: التعبير بما تقدم له ذكر في القرآن والسنة والشعر وكلام العرب وأمثالها، وكلام الناس وأمثالهم، أو خبر معروف, أو كلمة حكمة، وذلك كتعبير الخشبة بالمنافق، لقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ} [المنافقون: 4] والفأرة بالفاسق؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سماها فويسقة، وتعبير الزجاجة بفم المرأة لتسمية بعض الشعراء إياها بذلك، وكتعبير رؤية الأنبياء والخلفاء بما كان في أيامهم وخاص قصصهم.
قاله عياض: "ومن ذلك رؤيته عليه الصلاة والسلام سيفا يهزه"، "بضم الهاء" من باب نصر، أي يحركه، "وتعبيره ما روي في حديث أبي موسى" السابق في وسطه، عند مسلم والبخاري في العلامات، واقتصره هنا، فذكر منه هذه القطعة، وبوب عليه: إذا رأى الشخص أنه(10/84)
هذه أني هززت سيفا فانقطع صدره فإذا هو ما أصيب به المؤمنون يوم أحد، ثم هززته أخرى فعاد أحسن ما كان. فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين". رواه الشيخان.
وهذه أيضا من ضرب المثل ولما كان صلى الله عليه وسلم يصول بالصحابة عبر عن السيف بهم، وبهمزة عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه بالقتل فيهم، وبالهمزة
__________
هز سيفا في المنام، وكذا فعل في غزوة أحد، لكن ذكر بقيته، وهي: "ورأيت فيها بقرا ... إلخ ". أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ورأيت" في رواية الكشميهني: أريت "في رؤياي هذه" التي أولها قوله: "رأيت في المنام أني أهاجر". "أني هززت"، "بفتح الهاء والزاي الأولى وسكون الثانية"، "سيفا".
وفي رواية الكشميهني: سيفي بالإضافة، وهو ذو الفقار، "فانقطع صدره" , وعن ابن إسحاق: "ورأيت في ذباب سيفي ثلما". وعند ابن سعد من مرسل عروة والبيهقي في الدلائل، موصولا عن أنس: "ورأيت سيفي ذا الفقار قد انقصم". "فإذا هو" أن تعبيره "ما أصيب به المؤمنون يوم أحد" من قتل سبعين وفي رواية عروة: كأن الذي رأى بسيفه ما أصاب وجهه.
وقال ابن هشام: حدثني بعض أهل العلم أنه صلى الله عليه وسلم: قال: "وأما الثلم في لسيف، فهو رجل من أهل بيتي يقتل" ولا خلف، فإن ذلك مما أصيب به المؤمنون، فإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيحين أصح، "ثم هززته أخرى".
قال القاضي عياض: وكذا رويناه من طريق العذري وابن هامان "بزائين" في الموضعين، يعني هذا وما قبله، قال: ووقع في طريق غيرهم في الموضعين: هززته بتشديد الزاي، وهي لغة بكر بن وائل "فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح" لمكة "واجتماع المؤمنين" وإصلاح حالهم.
قال القرطبي: يعني ما يفتح الله به بعد أحد، فإنهم لم يكلوا من الجهاد، وما ضعفوا بما أصابهم فيها، بل خرجوا صبيحتها ونزلوا حمراء الأسد، مستظهرين على عدوهم، ولم يزل أمرهم مجتمعا، وإيمانهم يعلو ويقوى.
"رواه الشيخان:" مسلم جزما برفعه في جملة الحديث المشتمل على ثلاثة أمور، والبخاري بهذه القطعة منه في التعبير، بلفظ: أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم "بضم الهمزة" أي أظنه، ومر قول الحافظ الشك من البخاري، ورواه مسلم وغيره جزما، عن أبي كريب محمد بن العلاء شيخ البخاري فيه، "وهذه" الرؤيا كما قال المهلب "أيضا من ضرب المثل" المحتاجة إلى التعبير، "و" وجهه أنه "لما كان صلى الله عليه وسلم يصول" يثب "بالصحابة" على القتال "عبر عن السيف" أي أوله "بهم وبهمزة" أي عبر عنه "عن أمره لهم بالحرب، وعن القطع فيه" أي السيف، وهو تفسير للثلم،(10/85)
الأخرى لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم.
وقال أهل التعبير: السيف يصرف على أوجه، منها أن من نال سيفا فإنه ينال سلطانا، إما ولاية وإما وديعة، وإما زوجة وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف فبالعكس، وإن سلما أو عطبا فكذلك. وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله بالأم وذوي الرحم وإن جرد السيف وأراد قتل شخص فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر.
وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا فإنه يتزوج، أو ضرب
__________
"بالقتل فيهم، وبالهمزة الأخرى، لما عاد إلى حالته من الاستواء عبر به عن اجتماعهم والفتح عليهم" بالفتوحات والنصر، ونحوه قول القرطبي: هزه حمله إياهم على الجهاد, وإنما أول قطع صدره بمن قتل يوم أحد، لأنهم كانوا معظم عسكره وصدره إذا كان فيهم عمه حمزة وغيره من أشراف المهاجرين والأنصار، واقتبس صدر القوم بصدر السيف، وأول القطع الذي رأى فيه بقطع أعمال المقتولين.
وقال عياض: هذه الرؤيا بخلاف الأولى، أي رؤيا الهجرة، لأن تلك خرجت على وجهها، وهذه أولها بما ذكر، لأن سيف الرجل أنصاره الذين يصول بهم كما يصول بسيفه، وقد يكون سيفه ولده، أو والده، أو أخاه، أو عمه، أو زوجته، وقد يدل على الولاية والوديعة، وعلى لسان الرجل وحجته، وعلى سلطان جائر، كل ذلك بحسب القرائن التي تصحب الرؤيا وتشهد لأحد هذه الوجوه، كما أول ذلك هنا بأصحابه لقرينة محاربتهم.
"وقال أهل التعبير: السيف يصرف" في تعبيره "على أوجه" بحسب القرائن، "منها: أن من نال سيفا، فإنه ينال سلطانا إما ولاية، وإما وديعة، وإما زوجة" ظاهرة، عزبا كان أو متزوجا ووقع في كلام المصنف تقييده بما إذا كان عزبا، "وإما ولدا، فإن سله من غمده فانثلم" "بنون فمثلثة" انكسر "سلمت زوجته وأصيب ولده، فإن انكسر الغمد وسلم السيف، فبالعكس" يسلم ولده وتموت زوجته، "وإن سلما أو عطبا فكذلك" أي يصابان معا إن عطب الغمد والسيف، ويسلمان جميعا إن سلما، "وقائم السيف يتعلق بالأب والعصبات، ونعله" الحديدة التي في أسفل غمده يتعلق بالأم وذوي الرحم" كالخالة، "وإن جرد السيف وأراد قتل شخص، فهو لسانه يجرده في خصومة، وربما عبر السيف بسلطان جائر".
"وقال بعض أهل التعبير أيضا: من رأى أنه أغمد سيفا، فإنه يتزوج، أو ضرب شخصا(10/86)
شخصا بسيف فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه ومن رأى سيفا عظيما فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره.
ومن ذلك: رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينا أنا نائم، رأيت أني على قليب، عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوبا أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غربا فأخذها
__________
بسيف، فإنه يبسط لسانه فيه، ومن رأى أنه يقاتل آخر وسيفه أطول من سيفه فإنه يغلبه، ومن رأى سيفا عظيما، فهو فتنة، ومن قلد سيفا قلد أمرا، فإن كان قصيرا لم يدم أمره" وإن رأى أنه يجر حمائله، فإنه يعجز عنه كما في الفتح.
"ومن ذلك رؤياه عليه الصلاة والسلام أنه على قليب" "بفتح القاف وكسر اللام وسكون التحتية وموحدة" بئر لم يطو، "عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال: "بينا" بغير ميم، كما قال المصنف في مواضع: "أنا نائم رأيت على قليب" بئر مقلوب ترابها قبل الطي، هكذا رواه سعد بن المسيب عن أبي هريرة.
وفي رواية همام، عنه: على حوض أسقي الناس، وجمع بأن الحوض هو الذي يجعل بجانب البئر لتشرب منه الإبل، فلا منافاة، وكأنه كان يملأ من البئر، فيسكب في الحوض والناس يتناولون الماء لأنفسهم ولبهائمهم "وعليها دلو، فنزعت"، "بسكون العين"، "منها ما شاء الله" أن أنزع، "ثم أخذها ابن أبي قحافة"، "بضم القاف وخفة المهملة فألف ففاء" أبو بكر الصديق عبد الله ن عثمان رضي الله عنهما، "فنزع" أخرج "منها" من البئر "ذنوبا أو ذنوبين"، "بفتح المعجمة" فيهما الدلو الممتلئ، والشك من الراوي، هكذا رواه الأكثر.
وفي رواية همام وأبي يونس مولى أبي هريرة عند مسلم، كلاهما عن أبي هريرة: ذنوبين بلا شك.
قال الحافظ في المناقب: اتفق من شرح هذا الحديث على أن ذكر الذنوب إشارة إلى مدة خلافته، وفيه نظر؛ لأنه ولي سنتين وبعض سنة، فلو كان ذلك المراد، لقال: ذنوبين أو ثلاثة، والذي يظهر أن ذلك إشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار، وهي ثلاثة ولذا لم يتعرض في ذكر عمر إلى عدد ما نزعه من الدلاء، وإنما وصف بالعظمة إشارة إلى كثرة ما وقع في خلافته من الفتوحات، وفي الأم للشافعي: معنى قوله: "وفي نزعه ضعف" قصر مدته وعجلة موته وشغله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والازدياد، الذي بلغه عمر في طول مدته، فجمع ما(10/87)
عمر بن الخطاب، فلم أر عبقريا من الناس ينزع نزع ابن لخطاب حتى ضرب الناس بعطن".
وعبقري القوم: سيدهم وكبيرهم وقويهم.
وفي رواية: "فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجر".
وفي رواية: "وأتاني أبو بكر فأخذ الدلو من يدي ليريحني".
__________
تفرق في كلام غيره.
ويؤيده حديث ابن مسعود عند الطبراني، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما عبرتها يا أبا بكر؟ "، قال: إليّ الأمر من بعدك، ثم يليه عمر، قال: "كذلك عبرها الملك". وفيه أيوب بن جابر، وهو ضعيف، "والله يغفر له" إشارة إلى أن ضعفه المراد به الرفق غير قادح فيه، أو المراد بالضعف ما وقع في أيامه من أمر الردة واختلاف الكلمة، إلى أن اجتمع ذلك في أواخر أيامه، وتكمل في زمان عمر، وإليه الإشارة بالقوة.
وفي حديث سمرة أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا من السماء دليت، فجاء أبو بكر فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فشرب حتى تضلع، ففي هذه إشارة إلى بيان المراد بالنزع الضعيف والنزع القوي، "ثم استحالت" أي تحولت الدلو "غربا"، "بفتح الغين المعجمة وسكون الراء وموحدة" أي دلوا عظيما، "فأخذها عمر بن الخطاب فلم أر عبقريا" أي سيدا عظيما قويا "من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضرب الناس بعطن"، "بفتح المهملتين آخره نون" ما يعد للشرب حول البئر من مبارك الإبل، والمراد شربت الإبل بعطن بأن بركت، والعطن للإبل كالوطن للناس، لكن غلب على مبركها حول الحوض.
"وعبقري القوم سيدهم وكبيرهم وقويهم" وقيل: الأصل أن عبقر أرض تسكنها الجن فيما يزعمون، فكما رأوا شيئا فائقا غريبا مما يصعب علمه ويدق، أو ينشأ عظيما في نفسه، نسبوه إليه، ثم اتسع فيه، فسمي به السيد والكبير والقوي، وهو المراد هنا.
"وفي رواية" عند البخاري، عن همام، عن أبي هريرة: "فأتى ابن الخطاب، فأخذ منه، فلم يزل ينزع" يستخرج الماء من البئر بالدلو "حتى تولى الناس" أعرضوا "والحوض يتفجر" يتدفق منه الماء ويسيل.
"وفي رواية" هي رواية همام المذكورة: "وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني من التعب، فنزع ذنوبين، وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى ابن الخطاب فأخذ" ... إلخ، فلو قال المصنف: وفي رواية: وأتاني أبو بكر، فأخذ الدلو من يدي ليريحني، إلى أن قال في عمر: فلم يزل ينزع ... إلخ، كان أحسن، لأن كلامه يوهم أنهما روايتان.(10/88)
وفي رواية موسى عن سالم عن أبيه: "رأيت الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب فاستحالت غربا، فما رأيت من الناس يفري فريه حتى ضرب الناس بعطن". رواه البخاري.
قال النووي: قالوا هذا المنام مثال لم جرى للخليفتين، من ظهور آثارهما
__________
"وفي رواية موسى" بن عقبة "عن سالم" بن عبد الله بن عمر "عن أبيه" مرفوعا: "رأيت الناس" في المنام "اجتمعوا" على بئر "فقام أبو بكر" في هذه الرواية اختصار.
وفي رواية نافع عن ابن عمر عند البخاري قال: قال صلى الله عليه وسلم: "بينما أنا على بئر أنزع منها، جاءني أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدلو".
وفي رواية أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده مرفوعا عند البخاري أيضا: "أريت في المنام أني أنزع بدلو بكرة على قليب، فجاء أبو بكر، فنزع" أبو بكر "ذنوبا أو ذنوبين" شك الراوي "وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب".
وفي رواية نافع: "ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر". "فاستحالت" تحولت الدلو "غربا" أي انقلبت من الصغرى إلى الكبرى، "فما رأيت من الناس" وللكشميهيني: "فما رأيت في الناس"، وفي رواية نافع: "فلم أر عبقريا من الناس يفري"، "بفتح التحتية وسكون الفاء وكسر الراء"، "فريه"، "بفتح الفاء وسكون الراء وتخفيف التحتية" ولأبي ذر: من يفري فريه "بكسر الراء وشد التحتية" أي يعمل عملا جديا صالحا عجيبا، كذا قاله المصنف هنا، لكن قال الحافظ في المناقب: روي فريه "بسكون الراء" وخطأه الخليل. انتهى.
وهو مخالف لقول عياض: ضبطناه "بسكون الراء وبكسرها وتشديد الياء" وأنكر الخليل التشديد وخطأ قائله، والمعنى: يعمل عمله ويقوى قوته، وأصل الفري القطع، يقال: فلان يفري الفرى، أي يعمل العمل البالغ، ومنه: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا} ، أي عظيما، يقال: فريت إذا قطعت على وجه الصلاح، وأفريت إذا فعلت الفساد، "حتى ضرب الناس بعطن", "بفتحتين"، أي رويت إبلهم.
وعند البخاري في المناقب من طريق أبي بكر بن سالم، عن أبيه، عن جده: حتى روى الناس، وضروبا بعطن، وهو عند أبي بكر بن أبي شيبة بلفظ: فما قب عمر حتى روى الناس وضربوا بعطن، وأقامت في مكانها حتى بركت، "رواه" أي المذكور من حديثي أبي هريرة بالروايتين، "وابن عمر "والبخاري" في مواضع من التعبير والمناقب من طرق وروى الحديثين أيضا مسلم في الفضائل من طرق.
"قال النووي قالوا:" أي: العلماء ومراده العز، ولجمع لا التبري، "هذ المنام مثال لما(10/89)
الصالحة، وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين، ثم خلفه أبو بكر فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم، ثم خلفه عمر فاتسع الإسلام في زمنه. فشبه أمر المسلمين بقليب فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم، وأميرهم المسقي لهم منها، وفي قوله: "فأخذ الدلو من يدي ليريحني" إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأن الموت راحة من كد الدنيا، وتعبها، فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم. وأما قوله: "وفي نزعه ضعف" فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولاته، وأما ولاية
__________
جرى للخليفتين من ظهور آثارهما الصالحة وانتفاع الناس بهما، وكل ذلك مأخوذ من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه صاحب الأمر، فقام به أكمل مقام، وقرر قواعد الدين" وفتح الله على يديه أمصار الكفر، مكة وخيبر والمدينة والبحرين وسائر جزيرة العرب، وأرض اليمن بكمالهما، وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل والمقوقس وملوك عمان، والنجاشي الذي ملك بعد أصحمة، "ثم خلفه، أبو بكر، فقاتل أهل الردة وقطع دابرهم" فلما فرغ منهم أخذ في قتال الكفار، ففتح على يديه بصرى ودمشق وبلاد حوران وما والاها، "ثم خلفه عمر، فاتسع الإسلام في زمنه" ففتح على يديه البلاد الشامية كلها، ومصر والعراق وأكثر أقليم فارس، وكسر كسرى وفر إلى أقصى مملكته وفر هرقل إلى القسطنطينية، "فشبه أمر المسلمين بقليب" بئر "فيه الماء الذي فيه حياتهم وصلاحهم وأميرهم المسقي لهم منها".
وقال البيضاوي: أشار بالبئر إلى الدين الذي هو منبع ما به حياة النفوس وتمام أمر المعاش والمعاد، والنزع منه إخراج الماء إشارة إلى إشاعة أمره وإجراء أحكامه.
"وفي قوله: فأخذ الدلو من يدي ليريحني إشارة إلى خلافة أبي بكر بعد موته صلى الله عليه وسلم لأن الموت راحة من كد الدنيا وتعبها" خصوصا لمثله، ولذا لما قالت فاطمة في مرض موته: واكرب أبتاه، قال صلى الله عليه وسلم: "لا كرب على أبيك بعد اليوم". "فقام أبو بكر بتدبير أمر الأمة ومعاناة أحوالهم" أتم قيام.
وفي حديث: "أنا سيف الإسلام وأبو بكر سيف الردة".
"وأما قوله: "وفي نزعه ضعف". فهو إخبار عن حاله في قصر مدة ولايته" لأنها كانت سنتين وثلاثة أشهر، والاضطراب الذي وجد في زمنه من أهل الردة وفزارة وغطفان وبني يربوع وبعض تميم وكندة وبكر بن وائل وأتباع مسيلمة الكذاب، وإنكار بعض الزكاة، فدعا له بالمغفرة ليتحقق السامعون أن الضعف الذي وجد في نزعه هو من مقتضى تغير الزمان، لا أن ذلك منه، لكن نسب إليه إطلاقا لاسم المحل على الحال، وهو مجاز شائع في كلام العرب، فليس(10/90)
عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله: "والله يغفر له" نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب، وإنما هي كلمة كانوا يقولونها. وقوله: "فاستحالت في يده غربا" أي تحولت الدلو غربا -بفتح المعجمة وسكون الراء بعدها موحدة- أي: دلوا عظيمة.
وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة بن جندب أن رجلا قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب
__________
الضعف، وهنا في عزيمته، ولا خطأ من فضله عن عمر لقلة نزعه عن نزع عمر، بل هو إخبار عن حسن ولايته، والدعاء له بالمغفرة إعلام بأن الله جازاه على ما عاناه من حرب أهل الردة، فلا يظن أنه لتقصير وقع منه.
"وأما ولاية عمر فإنها لما طالت كثر انتفاع الناس بها واتسعت دائرة الإسلام بكثرة الفتوح وتمصير الأمصار وتدوين الدواوين، وليس في قوله: "والله يغفر له". نقص، ولا إشارة إلى أنه وقع منه ذنب وإنما هي كلمة كانوا يقولونها" يدعمون بها الكلام، أي يقومونه.
هكذا قال النووي تبعا لقول عياض: الأشبه عندي أن قوله: "والله يغفر له". دعامة للكلام ووصلة له، وقد جاء في الحديث، أنها كلمة كان المسلمون يقولونها، يقولون: افعل هذا والله يغفر لك، مثل قولهم: تربت يمينك وقاتله الله.
وقوله: "فاستحالت في يده" لم يذكرها فيما قدم، لكنها ثابتة في رواية نافع، عن ابن عمر عند البخاري "غربا"، "أي تحولت الدلو غربا بفتح المعجمة وسكون الراء، بعدها موحدة" أي: دلوا عظيمة" فتحولت من الصغر إلى الكبر.
"وأخرج أحمد وأبو داود عن سمرة" "بضم الميم" "ابن جندب" بن هلال الفزاري، حليف الأنصار، صحابي مشهور له أحاديث، مات بالبصرة سنة ثمان وخمسين "أن رجلا قال: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي" بضم المهملة وشد اللام أي أرسل "من السماء" إلى الأرض، "فجاء أبو بكر، فأخذ بعراقيها" "بكسر المهملة وفتح القاف" خشبتان تجعلان على فم الدلو، متخالفتان لربط الدلو، "فشرب شربا ضعيفا" أي قليلا، "ثم جاء عمر، فأخذ بعراقيها، فشرب حتى تضلع" "بضاد معجمة" أي ملأ أضلاعه كناية عن الشبع، "ثم جاء عثمان، فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع" أي شبع، وقد طالت مدة ولايته عن عمر، وفتح في زمانه مدائن العراق وخراسان والأهواز وبلاد المغرب بتمامها، ومن المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية، "ثم جاء علي فانتشطت"، "بضم المثناة وكسر المعجمة، بعدها طاء(10/91)
حتى تضلع، ثم جاء علي فانتشطت وانتضح عليه منها شيء.
والعراقي: جمع عرقوة، وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان كالصليب، وقد: عرقيت الدلو إذا ركبت العرقوة فيها. وانتشطت: أي جذبت ورفعت.
فهي نبذة من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم.
وأما ما رآه غيره فعبر صلى الله عليه وسلم له بما يخص ويعم من أمور الدنيا والآخرة.
__________
مهملة" أي نزعت منه، فاضطرب وسقط بعض ما فيها أو كله، "وانتضح" أي رش "عليه منها شيء" قليل.
قال ابن العربي: حديث سمرة يعارض حديث ابن عمر، أو هما خبران، قال الحافظ: الثاني هو المعتمد، فحديث ابن عمر مصرح بأنه صلى الله عليه وسلم هو الرائي، يعني: وكذا حديث أبي هريرة وحديث سمرة سابقة، فنزل الماء من السماء وهو خزانته، فاسكن في الأرض كما يقتضيه حديث سمرة، ثم أخرج منها الدلو، كما دل عليه حديث ابن عمر، أي وأبي هريرة، وفي حديث سمرة إشارة إلى نزول النصرة من السماء على الخلفاء.
وفي حديث ابن عمر إشارة إلى استيلائهم على كنوز الأرض بأيديهم، وكلاهما ظاهر في الفتح التي فتحوها، وفي حديث سمرة زيادة إشارة إلى ما وقع لعلي من الفتن والاختلاف عليه، فإن الناس أجمعوا على خلافته، ثم لم يلبث أهل الجمل أن خرجوا عليه، وامتنع معاوية في أهل الشام، ثم حاربه بصفين، ثم غلب بعد قليل على مصر، وخرجت الحرورية على علي، فلم يحصل له في أيام خلافته راحة، فضرب المنام المذكور مثالا لأحوالهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
"والعراقي جمع عرقوة" "بفتح العين وإسكان الراء وضم القاف وفتح الواو، ولا تضم العين"، قال الجوهري: لأن فعلوة إنما تضم إذا كان ثانيه نونا مثل عنصرة، "وهي الخشبة المعروضة على فم الدلو، وهما عرقوتان،" أي خشبتان تعرضان على الدلو "كالصليب، وقد عرقيت" "بتحتية ففوقية" "الدلو، إذا ركبت العرقوة فيها وانتشطت، أي جذبت" سحبت "ورفعت، فهذه نبذة" شيء قليل "من مرائيه الكريمة صلى الله عليه وسلم" وإلا فهي كثيرة جدا "وأما ما رآه غيره، فعبره صلى الله عليه وسلم له بما يخص" الرائي، "ويعم" أي يشمله ويشمل غيره "من أمور الدنيا والآخرة" فكثير لا يحصر، وإذا أردت بعضه "فقد كان" فجواب الشرط محذوف، والمذكور جواب شرط مقدر، إذ لا يظهر كونه جوابا للمذكور إلا أن يقال لما كان سببا لتفسير رؤيا الغير جعله جوابا،(10/92)
فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الصبح أقبل على أصحابه فقال: "من رأى منكم الليلة رؤيا فليقصها عليّ أعبرها له"، فيقص الناس عليه مرائيهم.
وروى البخاري والترمذي عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟ فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وأنه قال ذات غداة: "هل رأى أحد منكم رؤيا"؟، فقالوا: ما أحد رأى
__________
أو يقدر فيه، فهو ما تضمنه قولي: فقد كان "صلى الله عليه وسلم إذا انفتل"، "بهمزة وصل ونون ساكنة وفاء ففوقية مفتوحتين فلام" أي التفت "من صلاة الصبح" بعد السلام وما يليه من الأذكار، ولذا لم يقل فرغ لئلا يوهم التفاته بمجرد الفراغ، "أقبل على أصحابه" أي جعل وجهه إليهم، فقال: "من رأى منكم الليلة" أي الماضية "رؤيا فليقصها علي أعبرها له"، "فيقص الناس عليه مرائيهم" أي: ما يرونه في منامهم: جمع مرأى "بفتح فسكون" وهو محل الرؤيا، فالرؤيا إدراكه في منامه، والمرأة ما تعلقت به تلك الرؤيا.
"وروى البخاري" في التعبير والجنائز تاما، وروى أطرافا منه في مواضع، ومسلم قطعة من أوله، "والترمذي" تاما، "عن سمرة بن جندب" "بضم الدال وفتحها" "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول لأصحابه: "هل رأى أحد منكم" زاد في الجنائز: الليلة "رؤيا" مقصور غير منصرف، ويكتب بالألف، ولفظ البخاري كان مما يكثر.
قال الطيبي: مما خبر كان، وما موصولة، ويكثر صلته، والضمير الراجع إلى ما فاعل يقول. وقوله: أن يقول فاعل يكثر، و "هل رأى أحد منكم" هو المقول، أي رسول الله من الذين يكثر منهم هذا القول، فوضع ما موضع من تفخيما وتعظيما، كقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} ، أو تقديره كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجيد تأويل الرؤيا، وكان له مساهمة فهم، لأن الإكثار من هذا القول لا يكثر إلا من تدرب فيه بإصابته، كقوله: كان زيد من العلماء بالنحو، ومنه قول صاحبي السجن ليوسف: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، أي المجيدين في عبارة الرؤيا، وعلما ذلك لما رأياه يقص عليه بعض أهل السجن، هذا من حيث البيان، وأما من طريق النحو، فيحتمل أن قوله: "هل رأى أحد منكم من رؤيا" مبتدأ، والخبر مقدم عليه على تأول هذا القول مما يكثر رسول الله أن يقوله، ومال في الفتح إلى ترجيح الوجه السابق، والمتبادر وهو الثاني، وهو الذي اتفق عليه أكثر الشارحين "فيقص عليه من شاء الله أن يقص" "بفتح الياء وضم القاف فيهما" كذا في رواية النسفي، وفي رواية غيره: ما، وهي للمقصوص ومن للقاص، قاله كله المصنف، "وأنه قال ذات غداة" بإقحام لفظ ذات أو هو من إضافة المسمى إلى اسمه، أو من إضافة الجزء إلى الكل، وهذا أولى؛ لأن السؤال لم يقع في جميع الغداة، وعليه فهو صفة لمحذوف، أي ساعة صاحبة غداة؟(10/93)
شيئا، قال: "لكني أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني فقالا لي: انطلق، فانطلقت فأتيا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فتثلغ رأسه"، الحديث.
وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟.
__________
"هل رأى أحد منكم رؤيا؟ "، فقالوا: ما منا أحد رأى شيئا، قال: "لكني أتاني الليلة آتيان"، "بمد الهمزة وكسر الفوقية" وعند ابن أبي حاتم من حديث علي: ملكان. وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني". وقال في آخر الحديث: إنهما جبريل وميكائيل. قال الطيبي: وجه الاستدراك أنه كان يحب أن يعبر لهم الرؤيا، فلما قالوا: ما رأينا، كأنه قال: أنتم ما رأيتم، لكني رأيت. انتهى.
وإيضاحه أنه استدراك على ما يتوهم من أنه لو سكت لم يكن رأى شيئا ومنشأ التوهم حبه لتعبير ما يراه هو أو غيره و"الليلة" بالنصب على الظرفية، والمعنى: أتاني في الليلة الماضية، وإلا فمعلوم أنه وقت الإخبار كان في النهار لا في الليل، "وإنهما ابتعثاني" بموحدة ساكنة ففوقية فمهملة فمثلثة فألف فنون".
كذا رواه الأكثر للكشميهني انبعثا بي "بنون فموحدة وبعد الألف موحدة"، قا الجوهري: بعثه وابتعثه أرسله، وقال ابن هبيرة: معنى ابتعثاني أيقظاني، ويحتمل أن يكون رأى في المنام أنهما أيقظاه، فرأى ما رأى في المنام، ووصفه بعد أن أفاق على أن منامه كاليقظة، لكن لما رأى مثالا كشفه التعبير دل على أنه كان مناما، "فقالا لي: انطلق"، "بكسر اللام"، "فانطلقت" لفظ البخاري في التعبير: "وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما".
وفي الجنائز: "رأيت الليلة رجلين أتياني، فأخذا بيدي، فأخرجاني إلى الأرض المقدسة". وعند أحمد: "إلى أرض فضاء، أو أرض مستوية".
وفي حديث علي عند ابن أبي حاتم: "فانطلقا بي إلى السماء، فأتيا على رجل مضطجع" وفي الجنائز: مستلق على قفاه "وإذا آخر قائم عليه بصخرة" وفي الجنائز: بفهر أو صخرة بالشك.
وفي حديث علي: "فمررت على ملك وأمامه آدمي، وبيد الملك صخرة يضرب بها هامة الآدمي"، "وإذا هو يهوي بالصخرة"، "بفتح أوله وكسر الواو" أي يسقط، يقال: هوى "بالفتح" يهوي هويا، سقط إلى أسفل، وضبطه ابن التين "بضم أوله" من الرباعي، يقال: أهوى من بعد، وهوى "بفتح الواو" من قرب "لرأسه، فتثلغ" الصخرة "رأسه"، "بفتح أوله وسكون المثلثة وفتح اللام فغين معجمة" أي تشدخه، وفي الجنائز: فتشدخ به، والشدخ كسر الشيء الأجوف.
وقد فسره الملكان بأنه الرجل يأخذ القرآن، فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وفي الجنائز: "وأما الذي رأيت تشدخ رأسه، فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم(10/94)
ما شاء الله تعالى، ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص متبرعا. واختلف النقلة في سبب تركه السؤال:
فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة -عند الترمذي وأبي داود- أنه صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ , فقال رجل: أنا يا رسول الله! رأيت كأن ميزانا نزل من السماء، فوزنت أنت وأبي بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان. فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فمن حينئذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا عن رؤيا.
قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم مبينة لفضل بعضهم على بعض
__________
يعمل بما فيه بالنهار، يعمل به إلى يوم القيامة، أي ما رأيت" الحديث، رواه البخاري مطولا في التعبير من طريق عوف، وقبله في الجنائز من طريق جرير بن أبي حازم، كلاهما عن أبي رجاء، عن سمرة بنحو ورقتين، فذكره بشرحه فيه طول، وبدونه لا فائدة فيه.
"وأقام عليه الصلاة والسلام يسأل أصحابه" بقوله: "هل رأى منكم الليلة أحد رؤيا"؟. "ما شاء الله تعالى" أي مدة مشيئته، "ثم ترك السؤال، فكان يعبر لمن قص" أي لمن ذكر ما رآه له "متبرعا" من غير أن يسأل أحدا.
"واختلف النقلة في سبب تركه السؤال، فقيل: سبب ذلك حديث أبي بكرة" نفيع بن الحارث الثقفي، وقيل: اسمه مسروح، أسلم بالطائف، ثم نزل بالبصرة ومات بها سنة إحدى أو اثنتين وخمسين.
"عند الترمذي وأبي داود أنه صلى الله عليه وسلم" كان يعجبه الرؤيا الصالحة ويسأل عنها، وأنه "قال ذات يوم: "من رأى منكم رؤيا"؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله" رأيت رؤيا، "رأيت كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بأبي بكر ووزن".
وفي رواية: ثم وزن "أبو بكر وعمر، فرجح أبو بكر" على عمر "ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر" على عثمان، هكذا في نسخ صحيحة، وفي بعضها: فرجح عثمان بنصبه مفعول رجح وفاعله مستتر، أي: فرجح عمر عثمان، "ثم رفع الميزان، فرأينا الكراهة" ظهرت "في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وفي رواية: فانساء لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: "خلافة نبوة, ثم يؤتي الله الملك من يشاء". "قالوا: فمن حيئنذ لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم أحدا عن رؤيا".
"قال بعضهم: وسبب كراهته عليه الصلاة والسلام إيثاره لستر العواقب وإخفاء(10/95)
في التعيين خشي أن يتواتر ويتوالى ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه حكمة بالغة ومشيئة نافذة.
وقال ابن قتيبة -فيما ذكر ابن المنير: سبب تركه السؤال حديث ابن زمل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده وأستغفر الله، إن الله كان توابا". سبعين مرة، ثم يقول: "سبعون بسبعمائة، لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". ثم يستقبل الناس بوجهه فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا؟ ". قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله! قال: "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين اقصص رؤياك".
قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب لاحب سهل، والناس على الجادة منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى ذلك الطريق بهم على مرج لم تر عيني مثله،
__________
المراتب، فلما كانت هذه الرؤيا كاشفة لمنازلهم، مبينة لفضل بعضهم على بعض في التعيين، خشي أن يتواتر ويتوالى" يتتابع "ما هو أبلغ في الكشف من ذلك، ولله في ستر خلقه" أي المخلوقين بإيجاده "حكمة بالغة" أي تامة "ومشيئة نافذة" "بمعجمة" أي ماضية.
"وقال ابن قتيبة" عبد الله بن مسلم الدينوري "فيما ذكر ابن المنير" في معراجه "سبب تركه السؤال حديث ابن زمل" "بكسر الزاي وسكون الميم ولام" الجهني، واسمه عبد الله على الأصح، صحابي جزما، كما مر عن الإصابة، وأنه لا عبرة بقول القاموس: تابعي، مجهول، غير ثقة وقول الصغاني، صحابي غلط، وأنه هو الغالط.
وقد أنصف من قال فيه: لكثرة دخوله فيما لا يعنيه كثر الغلط فيه، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح، قال صلى الله عليه وسلم وهو ثاني رجليه: "سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله" "بالواو" عند ابن قتيبة، وعند غيره بلا واو، "إن الله كان توابا". "سبعين مرة"، ثم يقول: "سبعون بسبعمائة" لأن الحسنة بعشر أمثالها، "لا خير فيمن كانت ذنوبه في يوم أكثر من سبعمائة". "ثم يستقبل الناس بوجهه" أي يجعل وجهه إليهم، فيقول: "هل رأى أحد منكم شيئا" في منامه، "قال ابن زمل: فقلت ذات يوم: أنا يا رسول الله"، قال: رؤياك "خير تلقاه وشر نوقاه، وخير لنا وشر على أعدائنا والحمد لله رب العالمين، اقصص رؤياك". حدث بها على وجهها، "قال: رأيت جميع الناس على طريق رحب" "براء مفتوحة فمهملة ساكنة فموحدة" أي: واسع "لاحب" "بلام فمهملة مكسورة" واضح "سهل" أي: لا صعوبة فيه "والناس على الجادة" "بجيم فألف(10/96)
يرف رفيقا، يقطر نداه، فيه من أنواع الكلأ، فكأني بالرعلة الأولى حين أشرفوا على المرج كبروا ثم أكبوا رواحلهم في الطريق فلم يضلوه يمينا ولا شمالا، ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع، ومنهم الآخذ الضغث ومضوا على ذلك. قال: ثم قدم عظم الناس، فلما أشفوا على المرج كبروا وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج، فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى آدم، إذا هو تكلم يسمو، يكاد يفرع الرجال طولا، وإذا عن يسارك رجل ربعة تار أحمر، كثير خيلان الوجه، إذا هو تكلم أصغيتم
__________
فمهملة مفتوحة ثقيلة فتاء تأنيث،" أي وسط الطريق "منطلقون، فبينما هم كذلك أشفى"، "بفتح الهمزة وإسكان المعجمة ففاء فياء تحتية" أي أشرف "ذلك الطريق بهم على مرج"، "بفتح الميم وسكون الراء وجيم" موضع ترعى فيه الدواب، "لم تر عيني مثله يرف"، "بفتح التحتية وكسر الراء ففاء"، "رفيقا" أي يكثر ماؤه "يقطر نداه فيه من أنواع الكلأ"، "بكاف فلام مفتوحتين فهمزة" عشبه ونباته ويابسه، "فكأني بالرعلة"، "براء مفتوحة فعين مهملة ساكنة فلام فتاء تأنيث" القطعة من الفرسان "الأولى حين أشرفوا"، الرواية عند ابن قتيبة الذي هو نافل عنه: أشفوا "بفتح فسكون ففاء" بمعنى أشرفوا، فذكره المصنف بالمعنى "على المرج كبروا، ثم أكبو"، أي أرسلوا "رواحلهم في الطريق, فلم يضلوه" أي لم يخرجوا عنه "يمينا ولا شمالا".
زاد في رواية: فكأني أنظر إليهم منطلقين، "ثم جاءت الرعلة الثانية من بعدهم، وهم أكثر منهم أضعافا، فلما أشفوا" أشرفوا وأطلقوا "على المرج كبروا، ثم أكبوا رواحلهم في الطريق، فمنهم المرتع"، "بضم الميم وسكون الراء وكسر الفوقية" أي الذي يخلي ركابه ترتع، أي: تسعى وترعى كيف شاءت ومنهم الآخذ الضغث"، "بكسر المعجمة وإسكان المهملة، فمثلثة" قبضة من حشيش مختلط, "ومضوا على ذلك، قال: ثم قدم عظم"، "بضم فسكون" أكثر "الناس فلما أشفوا على المرج كبروا" فرحا، "وقالوا: هذا خير المنزل، فمالوا في المرج يمينا وشمالا، فلما رأيت ذلك لزمت الطريق حتى أتيت أقصى" أبعد "المرج فإذا أنا بك يا رسول الله على منبر فيه سبع درجات، وأنت في أعلاها درجة، وإذا عن يمينك رجل أقنى"، "بقاف ونون"، قال ابن الأثير: هو السائل الأنف، المرتفع وسطه، وقيل: هو نتوء في وسط القصبة، والأول أولى بالمدح "آدم"، "بالمد" أي أسمر، "إذا هو تكلم يسمو" يعلو ويرتفع على جلسائه، "يكاد يفرع"، "بفتح الياء وسكون الفاء وفتح الراء وعين مهملة" أي: يعلو، "الرجال طولا،(10/97)
إليه إكراما له، وإذا أمام ذلك شيخ كأنكم تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء شارف، وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله.
قال: فانتقع لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم سري عنه، فقال: "أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل، فذلك ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فالدنيا وغضارة عيشها، لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها، وأما الرعلة الثانية والثالثة -وقص كلامه- فإن لله وإنا إليه راجعون، وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني، وأما المنبر فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم فذلك موسى، نكرمه بفضل كلام الله إياه، وأما الرجل الربعة التار فذلك عيسى عليه السلام نكرمه بفضل منزلته من الله، وأما
__________
وإذا عن يسارك رجل ربعة"، "بفتح الراء وسكون الموحدة" وقد تفتح، أي ليس بالطويل ولا بالقصير "تار"، "بفوقية فألف فراء ثقيلة"، "أي مسترخ من جوع أو غيره، "أحمر كثير خيلان" جمع خال، أي شامات "الوجه".
زاد في رواية: كأنه حمم شعره بالماء، "إذا هو تكلم أصغيتم" أملتم سمعكم ورأسكم "إليه" تسمعوا كلامه "إكراما له، وإذا أمام" قدام "ذلك شيخ كأنما تقتدون به، وإذا أمام ذلك ناقة عجفاء"، "بفتح العين المهملة وسكون الجيم ففاء فهمز ومد" مهزولة "شارف"، "بمعجمة فألف فراء ففاء" أي مسنة "وإذا أنت كأنك تبعثها يا رسول الله! قال: فانتقع"، "بنون ففوقية فقاف" مبني للمجهول، أي تغير "لون رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة" قطعة من الزمان "ثم سري" أي كشف "عنه، فقال": "أما ما رأيت من الطريق الرحب اللاحب السهل فذلك" أي تعبيره "ما حملتكم عليه من الهدى، فأنتم عليه، وأما المرج الذي رأيت فلدنيا وغضارة"، "بفتح المعجمتين فألف فراء فتاء تأنيث" طيب "عيشها" ولذاته وخصبه، "لم نتعلق بها ولم تردنا ولم نردها".
كذا في رواية ابن قتيبة، وفي رواية غيره: "مضيت أنا وأصحابي، لم نتعلق منها، ولم تتعلق منا ولم نردها". "وأما الرعلة الثانية والثالثة". "وقص" أي: ذكر "كلامه". "فإنا لله وإنا إليه راجعون" أسف من تهافتهم على الدنيا وانهماكهم عليها فاسترجع "وأما أنت فعلى طريقة صالحة، فلن تزال عليها حتى تلقاني" تعبير لقوله: لزمت الطريق حتى أتيت أقصى المرج فإذا أنا بك. "وأما المنبر، فالدنيا سبعة آلاف سنة، أنا في آخرها ألفا، وأما الرجل الطويل الآدم، فذلك موسى نكرمه" نحن، أي: نعظمه "بفضل كلام الله إياه" مثله في رواية ابن قتيبة.
وفي رواية غيره: "فذلك موسى إذا تكلم يعلو الرجال بفضل كلام الله تعالى إياه". وهذا(10/98)
الشيخ الذي رأيت كأننا نقتدي به فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأما الناقة العجفاء الشارف التي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم، لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي".
قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحدًا عن رؤيا، إلا أن يجيء الرجل متبرعا فيحدثه بها. رواه ابن قتيبة والطبراني والبيهقي في الدلائل وسنده ضعيف جدا.
ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير، أن زرارة بن عمرو النخعي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع، فقال: يا رسول الله، إني رأيت في طريقي هذا رؤيا، رأيت أتانا تركتها في الحي ولدت جديا أسفع أحوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ " قال: نعم، تركت أمة
__________
المناسب لتعبير قوله: إذا تكلم يعلو، "وأما الرجل الربعة التار"، "بالفوقية"، أي المسترخي "فذلك" أي تعبيره "عيسى عليه السلام" وذلك مناسب لحاله، فإنه كثير الصيام والسياحة وعبادة الله، فيسترخي من ذلك "نكرمه" نعظمه بالإصغاء إليه "بفضل منزلته من الله".
"وأما الشيخ الذي رأيت كاننا نقتدي به، فذلك إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] "وأما الناقة العجفاء الشارف الذي رأيتني أبعثها فهي الساعة عليها -أي على الأمة- تقوم, لا نبي بعدي ولا أمة بعد أمتي، قال الراوي: فما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا أحد عن رؤيا إلا أن يجيء الرجل متبرعا" يقص منامه عليه من غير سؤال "فيحدثه بها"، أي يعبرا له.
"رواه ابن قتيبة" بإسناده، واقتصر ابن المنير على عزوه له، وزاد المصنف "والطبراني" في الكبير "والبيهقي في الدلائل" النبوية، "وسنده ضعيف جدا" ولا يلزم منه أن ابن زمل ليس بصحابي، إذ ضعف الدليل لا يضعف المدلول.
"ومن غرائب ما نقل عنه صلى الله عليه وسلم من التعبير أن زرارة"، "بضم الزاي"، "ابن عمرو"، "بفتح العين"، وسماه ابن الكلبي زرارة بن قيس بن الحارث بن عدي "النخعي"، "بفتح النون والخاء المعجمة" نسبة إلى النخع قبيلة من مذحج من اليمن، "قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد النخع" في نصف المحرم سنة إحدى عشرة، قاله أبو حاتم، وبه جزم ابن سعد عن الواقدي.
وقال أبو عمر: قدم زرارة في نصف رجب سنة تسع، وجمع باحتمال قدومه وحده في هذا التاريخ، ثم قدم مع قومه في التاريخ المبدأ به وهو سنة قدوم قومه وكانوا آخر الوفود، "فقال: يا رسول الله إني رأيت في طريقي هذا رؤيا" زاد في رواية، هالتني، وفي أخرى، رأيت في(10/99)
أظنها قد حملت، قال: "قد ولدت غلاما وهو ابنك"، قال: فما باله أسفع أحوى؟ قال: ادن مني، فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه؟ " قال: نعم والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق ولا علم به أحد، قال: فهو ذاك".
قال: ورأيت النعمان بن المنذر وعليه قرطان ودملجان ومسكتان، قال: "ذلك ملك العرب رجع إلى أحسن زيه وبهجته".
قال: ورأيت عجوزا شمطاء، تخرج من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا".
قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض فحالت بيني وبين ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، آكلكم آكلكم وأهلكم ومالكم فقال
__________
سفري هذا عجبا، "رأيت أتانا"، "بفوقية ونون" الأنثى من الحمير، ولا يقال: إتانة، قاله ابن السكيت "تركتها في الحي" وفي رواية: خلفتها في أهلي, "ولدت جديا" الذكر من أولاد المعز "أسفع" بفتح فسكون ففتح أسود مشرب بحمرة "أحوى" كالتأكيد لما قبله، "فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من امرأة تركتها مصرة حملا؟ "، "اسم فاعل من أصر على الشيء أقام عليه"، والمراد أن حملها محقق ثابت، "قال: نعم تركت أمة أظنها قد حملت، قال: "قد ولدت غلاما وهو ابنك" جملة استئنافية دفع بها ما قد يدخل عليه من الريبة إذا رأى اللون الغريب، "قال: فما باله أسفع أحوى", أي ما الحال الداعي إلى مجيئه بهذا اللون المخالف للون أبيه، "قال: ادن مني، فدنا منه، قال: "هل بك برص تكتمه؟ " استفهام تقريري أريد به طلب اعترافه به ليرتب عليه الجواب، فيكون ألزم للحجة، وأمره بالقرب منه لعلمه أنه يخفيه، "قال: نعم" هو بي، ولكن "والذي بعثك بالحق ما رآه مخلوق، ولا علم به أحد" غيرك، فهذا من آياته صلى الله عليه وسلم "قال: "فهو ذاك" أي اللون الذي في ابنك أثر البرص الذي فيك.
"قال" زرارة: "ورأيت النعمان بن المنذر" ملك العرب "وعليه قرطان"، "بضم القاف تثنية قرط، وهو ما يعلق في شحمتي الأذن "ودملجان"، "بضم الدال وضم اللام وفتحها شيء يشبه السوار "ومسكتان"، "بفتح الميم والسين المهملة سواران"، "قال: ذلك ملك"، "بضم فسكون"، "العرب، رجع إلى أحسن زيه"، "بكسر الزاي وشد الياء هيئته"، "وبهجته" حسنه لأن النعمان كان ملكا على العرب، فالمعنى عادت العرب إلى ما كانوا عليه من العز والشرف، وذهبت غلبة الفرس والعجم بظهوره صلى الله عليه وسلم "قال: ورأيت عجوزا شمطاء"، "بزنة حمراء أبيض شعر رأسها"، "تخرج من الأرض، قال: "تلك بقية الدنيا" فلم يبق منها إلا القليل بالنسبة للماضي، كالباقي من عمر العجوز مما مضى، "قال: ورأيت نارا خرجت من الأرض، فحالت بيني وبين ابن لي(10/100)
النبي صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان"، قال: وما الفتنة؟ قال: "يفتك الناس بإمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس"، وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، "يحسب المسيء أنه محسن، ودم المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء البارد".
فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة، محشوا حلاوة الحق، مكسوا طلاوة الصدق مجلوا بأنوار الوحي.
والأسفع: الذي أصاب جسده لون آخر.
__________
يقال له عمرو" بن زرارة، أورده في الإصابة في القسم الأول، وقال: صحبته محتملة، "ورأيتها تقول: لظى لظى" بزنة فتى النار أو لهبها، ولظى معرفة جهنم، كما في القاموس: "بصير وأعمى", أي أجمع الغث والثمين، فلا أترك واحدا منهما، "آكلكم آكلكم" تأكيد لفظي للأول، "أهلكم ومالكم" عطف بيان لآكلكم، وفي نسخ: آكلكم كلكم، بالتوكيد المعنوي وما بعده بالنصب بدل من الكاف، وهذا الذي في ابن المنير عن ابن قتيبة، "فقال صلى الله عليه وسلم: "تلك فتنة تكون في آخر الزمان" سماه آخرا مع أنا قتل عثمان رضي الله عنه، باعتبار أنه لغلظ أمرها وفحشها بمنزلة ما يكون في آخر الزمان أن الذي فيه الأحكام وتزول، حتى كأنها لا أثر لها، أو المراد آخر زمان خلافة النبوة، وسماه آخر مع أنه بقي منها خلافة علي والحسن لقرب قتل عثمان من آخرها، "قال: وما الفتنة" لأنها لغة تطلق على معان، فسأله أيها أراد، "قال: "يفتك"، "بكسر التاء وضمها" يبطش "الناس بإمامهم" الخليفة ويقتلونه على غفلة، ولعل تفسيرها بالفتك متسببة عنها، لأنها الميل والخروج عن الاعتدال، وذلك يتسبب عنه البطش والقتل، "ثم يشتجرون"، "بمعجمة وجيم" أي يتنازعون "اشتجار أطباق الرأس" عظامه "وخالف صلى الله عليه وسلم بين أصابعه" لم يبينوا صفة لمخالفة، وقال مستأنفا: "يحسب المسيء أنه محسن" للإشارة إلى غلبتها، فيظن المبطل أنه محق، لأن اجتهاده أداه لذلك، "ودم المؤمن عند المؤمن أحلى" ألذ، والذي في ابن المنير وغيره: أحل من الحل ضد الحرام "من شرب الماء البارد", وكأنه لغلبة اشتباه الحال، فيظن أنه محق، فيراه أشد حلاء من شرب الماء, وخصه لغلبة حصوله من جهة حل، كالأنهار والأمصار، ونحوهما بقية الحديث كما مر في الوفدان: مات ابنك قبلك أدركت الفتنة، وإن مت أنت أدركها ابنك، قال: يا رسول الله ادع الله أن لا أدركها، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا يدركها" فمات، فبقي ابنه، فكان ممن خلع عثمان.
وعند ابن الكلبي وغيره: فكان أول خلق الله خلع عثمان بالكوفة، "فانظر إلى هذا التعبير البارز من مشكاة النبوة محشوا حلاوة الحق مكسوا طلاوة الصدق" مثلث الطاء الحسن(10/101)
والأحوى: الأسود ليس بالشديد.
والمسكتان: السواران من ذهب.
وأطباق الرأس: عظامه.
والاشتجار: الاختلاف والاشتباك.
فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما بالكذابين فيما مر.
أجيب: بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك ويحلونهم، وكان السواران من زي النعمان ليسا بمنكرين في حقه ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته فجدير أن يهمه ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير موضعه، ولكن حمدت العاقبة بذهابهما، ولله الحمد.
__________
والبهجة والقبول، كما في القاموس: "مجلوا بأنوار الوحي، والأسفع الذي أصاب جسده لون آخر" هذا مخالف لظاهر قول المجد: السفع: السواد يضرب إلى الحمرة، ثم قال: ومن اللون سواد أشرب حمرة، "والأحوى الأسود ليس بالشديد" في ذلك، "والمسكتان السواران من ذهب" كأنه بيان للمراد، وإلا فالذي قاله ابن سيده والجوهري: المسك بالتحريك، أي بتفحتين أسورة من ذبل أو عاج الواحدة مسكة.
زاد ابن الأثير في الجامع: فإن كانت من غير ذلك أضيفت إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب أو فضة أو غيرهما، والذبل: "بمعجمة وموحدة" شيء كالعاج، وقيل: ظهر السلحفاة البحرية، "وأطباق الرأس عظامه، والاشتجار الاختلاف والاشتباك، فإن قلت: تعبيره عليه الصلاة والسلام السوارين هنا يرجع إلى بشرى، وعبرهما" أي السوارين اللذين رآهما في يده الكريمتين "بالكذابين فيما مر" وذلك ضد البشرى.
"أجيب" أي أجاب ابن المنير في معراجه "بأن النعمان بن المنذر كان ملك العرب، وكان مملكا من جهة الأكاسرة، وكانوا يسورون الملوك", يجعلون لهم الأساور "ويحلونهم" بالحلي "وكان السواران من زي النعمان"، "بكسر الزاي" ليسا بمنكرين في حقه، ولا بموضوعين في غير موضعهما عرفا" فلذلك عبرهما ببشرى.
"وأما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن لباس الذهب لآحاد أمته" فضلا عنه، "فجدير" حقيق "أن يهمه"، "بفتح الياء وضم الهاء"، "ذلك لأنه ليس من زيه، فاستدل به على أمر يوضع في غير(10/102)
ومن ذلك: ما روي عن قيس بن عباد -بضم العين وتخفيف الموحدة- قال: كنت في حلقة فيها سعد بن مالك وابن عمر، فمر عبد الله بن سلام فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة، فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا، فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم، إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة
__________
موضعه"، وهو الكذابان، "ولكن حمدت العاقبة بذهابهما"، المأخوذ من لفظ ذهب، لأن حروفهما واحدة، "ولله الحمد" على ذلك، "ومن ذلك" أي تعبيره صلى الله عليه وسلم "ما روي عن قيس بن عباد، بضم العين" المهملة "وتخفيف الموحدة" آخره دال مهملة، الضبعي "بضم المعجمة وفتح الموحدة" أبي عبد الله البصري، ثقة، تابعي، كبير، له إدراك، قدم المدينة في خلافة عمر، ووهم من عده في الصحابة، مات بعد الثمانين، "قال كنت في حلقة"، "بسكون اللام"، "فيها سعد بن مالك" هو ابن أبي وقاص "وابن عمر" عبد الله، "فمر عبد الله بن سلام"، "بتخفيف اللام اتفاقا" الإسرائيلي، من ذرية يوسف الصديق، أسلم أول ما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، كما في الصحيح، وغلط من قال قبل الوفاة النبوية بعامين، ومات سنة ثلاث وأربعين.
وللبخاري في المناقب: كنت جالسا في مسجد المدينة، فدخل رجل على وجهه أثر الخضوع، "فقالوا: هذا رجل من أهل الجنة".
وعند مسلم: كنت بالمدينة في ناس فيهم بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل في وجهه أثر الخشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة، هذا رجل من أهل الجنة ثلاثا، فصلى ركعتين تجوز فيهما، ثم خرج.
وعنده أيضا عن خرشة بن الحر: كنت جالسا في حلقة في مسجد بالمدينة وفيها شيخ حسن الهيئة، وهو عبد الله بن سلام، فجعل يحدثهم حديثا حسنا، فلما قام قال القوم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، وللنسائي: فجاء شيخ يتوكأ على عصا، فذكر نحوه.
قال الحافظ: ويجمع بينهما بأنهما قصتان، اتفقا الرجلين، فكأنه كان في مجلس يتحدث، كما في رواية خرشة: فلما قام ذاهبا مر على حلقة فيها سعد وابن عمر، فحضر ذلك قيس بن عباد، كما في روايته، وكل من خرشة وقيس، اتبع ابن سلام ودخل عليه منزله، وسأله فأجابه، ومن ثم اختلف الجواب بالزيادة والنقص، سواء كان زمن اجتماعهما بابن سلام، اتحد أم تعدد، "فقلت له: إنهم قالوا كذا وكذا"، بين في مسلم أن قائل ذلك رجل واحد، وفيه زيادة، ولفظه: ثم خرج فاتبعته، فدخل منزله ودخلت، فتحدثنا، فلما استأنس قلت له: إنك لما دخلت قبل قال رجل: كذا وكذا، وكأنه نسب القول للجماعة، والناطق به واحد لرضاهم به وسكوتهم(10/103)
خضراء، فنصب فيها، وفي رأسها عروة، وفي أسفلها منصف -والمنصف الوصيف- فقال: ارقه، فرقيته حتى أخذت بالعروة، فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". رواه البخاري.
__________
عليه.
وفي رواية خرشة: فقلت: والله لأتبعه، فلأعلمن مكان بيته، فانطلق حتى كان يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقال: ما حاجتك يابن أخي؟ فقلت: سمعت القوم يقولون لما قمت: من سره أن ينظر إلى الرجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا، فأعجبني أن أكون معك، "فقال: سبحان الله، ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" إنكار منه على من قطع له بالجنة، فكأنه ما سمع حديث سعد بن أبي وقاص: ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض أنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام، رواه الشيخان، وكأنهم هم سمعوه، ويحتمل أن يكون هو أيضا سمعه، لكنه كره الثناء عليه بذلك تواضعا، ويحتمل أن يكون إنكار منه على من سأله عن ذلك، لكونه فهم منه التعجب من خبرهم، فأخبره بأن ذلك لا عجب فيه لما ذكر له من قصة المنام، وأشار بذلك القول إلى أنه لا ينبغي لأحد إنكار ما لا علم له به إذا كان الذي أخبره به من أهل الصدق.
وفي رواية خرشة: فقال: الله أعلم بأهل الجنة، وسأحدثك مم قالوا ذلك فذكر المنام، وهذا يقوى باحتمال أنه أنكر عليهم الجزم، ولم ينكر أصل الأخبار، بأنه من أهل الجنة، وهذا شأن الخائف المراقب المتواضع.
وفي رواية النسائي: الجنة لله يدخلها من يشاء، زاد ابن ماجه: الحمد لله، "إنما رأيت كأنما عمود وضع في روضة خضراء" أي وسطها، فعند البخاري في المناقب: رأيت كأني في روضة، ذكر من سمعتها وخضرتها كذا وكذا وسطها عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء.
قال الكرماني: يحتمل أن يراد بالروضة جميع ما يتعلق بالدي وبالعمود الأركان الخمسة، وبالعروة الوثقى الإيمان، "فنصب فيها"، "بضم النون وكسر المهملة فموحدة" وللمستملي والكشميهني: قبضت "بفتح القاف والموحدة، فضاد معجمة ساكنة، فتاء المتكل"، "وفي رأسها عروة".
وفي رواية المناقب في مسلم: في أعلاه، أي العمود عروة، فيعلم منه أن ضمير رأسها للعمود، وأنثه وهو مذكر باعتبار الدعامة، "وفي أسفلها منصف"، "بكسر الميم وسكون النون وفتح الصاد المهملة وبالفاء" ويقال أيضا بفتح الميم.
حكاه عياض وغيره، "والمنصف الوصيف" مدرج في الخبر، وهو تفسير من ابن سيرين،(10/104)
وفي رواية خرشة: بينما أنا نائم أتاني رجل فقال لي: قم، فأخذ بيدي فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد -بجيم ودال مشددة جمع جادة وهي الطريق المسلوك- عن شمالي، قال: فأخذت لآخذ فيها -أي أسير- فقال: لا تأخذ فيها فإنها طريق أصحاب الشمال.
وفي رواية النسائي من طريقه: فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها.
__________
بدليل قوله في رواية مسلم: فجاءني منصف، قال ابن عود: والمنصف الخادم، كذا قال الحافظ.
وفي البخاري في المناقب: قال لي خليفة: حدثنا معاذ، حدثنا ابن عون عن محمد، حدثنا قيس عن ابن سلام، قال: وصيف مكان منصف، والوصيف الخادم الصغير، ذكرا كان أو أنثى، "فقال" المنصف: "ارقه"، "بهاء السكت" وفي رواية بإسقاطها، "فرقيته"، "بكسر القاف على الأفصح" وحكى فتحها، كذا قال الحافظ وقال عياض: روي "بكسر القاف وفتحها، والفصيح الكسر" أي صعدت "حتى أخذت بالعروة" وفي المناقب: كمسلم، فقيل لي: ارقه، قلت: لا أستطيع، فأتاني منصف، فرفع ثيابي من خلفي، فرقيت حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة، فقيل لي: استمسك فاستيقظت، وإنها لفي يدي، "فقصصتها" على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: $"يموت عبد الله وهو آخذ بالعروة الوثقى". تأنيث الأوثق العقد الوثيق من الحبل الوثيق المحكم، وهو تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد، المخصوص حتى يتصوره السامع كأنه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده، والمعنى: وهو آخذ من الدين عقدا وثيقا لا تحله شبهة.
"رواه البخاري" في التعبير، ومسلم في الفضائل، كلاهما من طريق قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، عن قيس بهذا اللفظ مختصرا، وأخرجاه في المناقب من طريق عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، كان يتيما في حجر عمر.
قال أبو داود: له صحبة، وقال العجلي: ثقة من كبار التابعين، مات سنة أربع وسبعين، وروايته عند مسلم، عنه، عن ابن سلام: وسأحدثك مم قالوا: ذلك: "بينا أنا نائم أتاني رجل، فقال لي: قم، فأخذ بيدي، فانطلقت معه، فإذا أنا بجواد، بجيم ودال مشددة" زاد عياض: ومخففة "جمع جادة، وهي الطريق المسلوك" البين "عن شمالي، قال" عبد الله بن سلام: "فأخذت لآخذ فيها، أي أسير، فقال: لا تأخذ فيها، فإنها طريق أصحاب الشمال".(10/105)
وفي رواية مسلم: فإذا جواد منهج على يميني، فقال لي خذ ههنا، فأتى بي جبلا فقال لي: اصعد، قال فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت، حتى فعلت ذلك مرارا.
وفي رواية ابن عون: فقال: "تلك الروضة روضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، عروة الوثقى، لا تزال متمسكا بالإسلام حتى تموت".
وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه قال: "رأيت خيرا، أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". زاد مسلم: "ولن تناله".
وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن عبد الله بن سلام لم يمت
__________
"وفي رواية النسائي من طريقه" أي خرشة، عن ابن سلام: "فبينا أنا أمشي إذ عرض لي طريق عن شمالي، فأردت أن أسلكها، فقال: إنك لست من أهلها" أي فلا تسلكها.
"وفي رواية مسلم" المذكورة عن خرشة، عن ابن سلام عقب قوله الشمال، "فإذا جواد منهج على يميني".
قال القرطبي: يرفع منهج على الصفة، أي ظاهر واضح، "فقال لي: خذ" أي سر "ههنا، فأتى بي جبلا، فقال لي: اصعد، قال: فجعلت إذا أردت أن أصعد خررت" سقطت على استي، كما في مسلم متصلا بقوله: "حتى فعلت ذلك مرارا" قال: ثم انطلق بي حتى أتى بي عمودا، رأسه في السماء وأسفله في الأرض، فقال لي: اصعد فوق هذا، قلت: كيف أصعد هذا ورأسه في السماء، قال: فأخذ بيد، فزجل بي "بزاي وجيم"، أي رفعني، وروي "بحاء مهملة"، بمعناه، قال القرطبي: ورواية الجيم أصح وأولى، قال: فإذا أنا متعلق بالحلقة، ثم ضرب العمود فخر, وبقيت متعلقا بالحلقة حتى أصبحت، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه كما في مسلم.
"وفي رواية" عبد الله "بن عون" البصري، عن محمد بن سيرين، عن قيس بن عباد، عن ابن سلام، عند الشيخين، فقصصتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "تلك الروضة روضة الإسلام" , أي جميع ما يتعلق بالدين، "وذلك العمود عمود الإسلام" أي أركانه الخمسة، أو كلمة الشهادة وحدها، "وتلك العروة عروة الوثقى" أي الإيمان.
قال في المفهم: معنى الوثقى القوية التي لا انقطاع لها، وأضيفت عروة هنا إلى صفتها، كمسجد الجامع وصلاة الأولى، ورواه أبو ذر: وتلك العروة الوثقى بدون عروة الثانية، "لا تزال متمسكا بالإسلام" لفظ الصحيحين من هذه الطريق: "فأنت على الإسلام". نعم في مسلم في رواية خرشة: "ولن تزال متمسكا به"، "حتى تموت" وذلك الرجل عبد الله بن سلام. هذا بقية هذه الرواية عندهما، وهو يحتمل أنه قوله، ولا مانع أن يخبر بذلك ويريد نفسه، ويحتمل أنه من كلام الراوي، قاله الحافظ.(10/106)
شهيدا، وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة.
وقولهم إنه من أهل الجنة، أخذوه من قوله لما ذكر طريق الشمال: إنك لست من أهلها.
وإنما قال: "ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم" على سبيل التواضع وكراهية أن يشار إليه بالأصابع، خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره.
وقال القيرواني: الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها، وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى.
__________
"وفي رواية خرشة عند النسائي وابن ماجه، قال" صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام، لما قص عليه: "رأيت"، "بفتح التاء"، " خيرا" فيستحب قول ذلك للعابر.
"أما المنهج فالمحشر وأما الجبل فهو منزل الشهداء". "زاد مسلم" من رواية خرشة: "ولن تناله". "وهذا علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن عبد الله بن سلام لم يمت شهيدا وإنما مات على فراشه في أول خلافة معاوية بالمدينة" سنة ثلاث وأربعين.
"وقولهم: إنه من أهل الجنة أخذوه من قوله: لما ذكر طريق الشمال إنك لست من أهلها", ومن كان كذلك فهو من أهل الجنة، أو من قوله صلى الله عليه وسلم: "فأنت على الإسلام حتى تموت". ومن مات عليه فهو من أهلها.
قال الأبي: قوله في رواية مسلم: وسأحدثك لم ذلك، أي قالوا ذلك، نص في أنه فهم عنهم، أنهم قالوه مستندين للرؤيا، وإنما فيها أنه يموت على الإسلام وهو يستلزم دخول الجنة، وفهموا أنه دخول أولي، وكأنه هو لم يره أوليا، "وإنما قال: ما كان ينبغي لهم أن يقولوا ما ليس لهم به علم على سبيل التواضع وكراهية" بكسر الهاء وخفة الياء"، "أن يشار إليه بالأصابع خشية أن يدخله العجب، عافانا الله من سائر المكاره".
قال عياض: لا نقطع بالجنة إلا لمن أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهلها، أو أخبر أه يموت على الإسلام، فهؤلاء إن بلغهم حديث سعد، فما قالوا ذلك إلا عن علم، وإنكاره عليهم يحتمل أنه لم يبلغه حديث سعد، أو بلغه ولم يذكره تواضعا وتسترا.
قال الأبي: والثاني أظهر، لأنه وإن لم يبلغه حديث سعد، فالرؤيا تدل على دخوله الجنة مطلقا لا دخولها أولا، أي مع السابقين، ومراد أولئك أنه يدخلها دخولا أوليا. انتهى.
وتقدم احتمال أنه إنكار على سائله، لفهمه منه التعجب من خبرهم، بأن ذلك لا عجب(10/107)
وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة، تدل لمن تمسك به على قوته في دينه، وإخلاصه فيه.
ومن ذلك، ما رواه البخاري عن أم العلاء وهي امرأة من نسائهم، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريت لعثمان بن مظعون بعد موته في النوم عينا تجري، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: "ذلك عمله يجري له".
وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا
__________
فيه للرؤيا، فلا ينبغي لأحد إنكار ما لا يعلم إذا أخبره أهل الصدق.
قال المصنف: ويحقق هذا قوله: فاستيقظت، وإنها لفي يدي، أي حقيقة من غير تأويل على ظاهر اللفظ، وتكون رؤياه هذه كشفا كشفه الله له كرامة. انتهى.
وفيه تورك على قول الحافظ، أي إن الاستيقاظ كان حين الأخذ من غير فاصل، ولم يرد أنها بقيت في يده في حال يقظته، ولو حمل على ظاهره لم يمتنع في قدرة الله، لكن الذي يظهر خلافه، ويحتمل أن يريد أن أثرها بقي في يده بعد الاستيقاظ، كأن يصبح فيرى يده مقبوضة.
"وقال القيرواني" على المعابر في كتاب البستان: "الروضة التي لا يعرف نبتها تعبر بالإسلام لنضارتها وحسن بهجتها" زيادة على غيرها، "وتعبر أيضا بكل مكان فاضل، وقد تعبر بالمصحف، وكتب العلم والعالم ونحو ذلك. انتهى".
باعتبار الرائي والزمان والمكان، "وقال غيره من المعبرين: الحلقة والعروة المجهولة" التي لا تعرف من أي نوع هي، "تدل لمن تمسك بها على قوته في دينه وإخلاصه فيه" لأن أصل العروة الشيء المتعلق به، حبلا كان أو غيره.
وقيل: هي شجرة تبقى على الجدب سميت عروة، لأن العرب تتعلق بها إلى زمان الخصب.
"ومن ذلك ما رواه البخاري" في مواضع من طرق، كلها عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، "عن" أمه "أم العلاء"، "بفتح العين والمد" اسمها، كنيتها بنت الحارث بن ثابت بن خارجة بن ثعلبة، وهي أم خارجة الراوي عنها، فعند أحمد والطبراني عن سالم أبي النضر، عن خارجة بن زيد، عن أمه، عن عثمان بن مظعون: لما قبض قالت أم خارجة: طبت أبا السائب ... الحديث، فلا يلزم من كونه أبهمها في رواية الزهري أن تكون أخرى، فقد يبهم الإنسان نفسه فضلا عن أمه، ووقع عند أحمد بن سعد عن ابن عباس لما مات عثمان بن مظعون قالت امرأته: هنيئا لك الجنة، فذكر نحو القصة وفيه نظر، فلعله امرأة بلا ضمير، وهي أم العلاء، ويحتمل أنه كان تزوجها قبل زيد بن ثابت، ويحتمل تعدد القول منهما جميعا، وهذا أظهر، "وهي(10/108)
كالصدقة.
وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثالثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث".
وتعقبه الحافظ ابن حجر: بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر، فهو أحد الثلاث. قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته.
وقال غيره: العين الجارية عمل من صدقة أو معروف لحي أو ميت.
وقال آخر: عين الماء نعمة وبركة وخير، وبلوغ أمنية إن كان صاحبها مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره. والله أعلم.
__________
امرأة من نسائهم" أي الأنصار، ففي رواية للبخاري امرة من الأنصار، وقائل هذا الزهري، "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم" قالت: طار لنا عثمان بن مظعون في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، فاشتكى، فمرضناه حتى توفي، ثم جعلناه في أثوابه، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، قال: "وما يدريك"؟. قلت: لا أدري والله. قال: "أما هو فقد جاءه اليقين، إني لأرجو له الخير من الله، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي ولا بكم"؟. قالت أم العلاء: فوالله لا أزكي أحدا بعده، قالت: "وأريت"، "بهمزة مضمومة فراء مكسورة" وفي رواية: ورأيت بتقديم الراء على الألف لعثمان بن مظعون" وفي رواية للبخاري: فأحزنني ذلك، فنمت، فأريت لعثمان "بعد موته في النوم عينا" من ماء "تجري فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك" الذي رأيته "له" عليه السلام، "فقال": "ذلك"، " بكسر الكاف"، " عمله" الذي كان يعمله في حياه، "يجري له" ثوابه بعد موته.
"وقد قيل: يحتمل أنه كان لعثمان شيء من عمله بقي له ثوابه جاريا كالصدقة" فإنه كان من الأغنياء" وأنكره مغلطاي وقال: لم يكن له شيء من الأمور الثلاثة التي ذكرها مسلم في حديث أبي هريرة، رفعه: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث". إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
"وتعقبه الحافظ" وفي نسخة: شيخ الحافظ "ابن حجر بأنه كان له ولد صالح شهد بدرا وما بعدها، وهو السائب، مات في خلافة أبي بكر" الصديق، "فهو أحد الثلاث" في حديث مسلم، "قال: وقد كان عثمان من الأغنياء، فلا يبعد أن تكون له صدقة استمرت بعد موته" فقد أخرج ابن سعد من مرسل أبي بردة بن أبي موسى، قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون(10/109)
فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام يهدي إلى غيره ما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل، ولطائف التعبير -كما قاله ابن المنير- لا تحصره المجلدات.
وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل، هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه، وبركات طريقه، وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين من لطائف التعبير، مما شاع وذاع، وامتلأت به الأسماع، طبق الأرض صدقا وصوابا، وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا، قضيت بأن ما منحه صلى الله عليه وسلم من العلوم والمعارف، لا تحيط به
__________
على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأين هيئتها، فقلن: ما لك، فما في قريش أغنى من بعلك، قالت: الحديث، ويحتمل أن يراد بعمل عثمان مرابطته في جهاد أعداء الله، فإنه مما يجري له عمله، كما ثبت في السنن وصححه الترمذي وابن حبان والحاكم، عن فضالة بن عبيد، رفعه: "كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل الله، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة، ويؤمن من فتنة القبر". وله شاهد عند مسلم والنسائي والبزار، عن سلمان، رفعه: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأمن الفتانين". وله شواهد أخرى، فليحمل حال عثمان على ذلك، ويزول الإشكال من أصله، هذا بقية كلام الحافظ، ومر الكلام في غير هذا الموضع على قوله: "ما أدري ما يفعل بي ولا بكم". وعلى أن الخصال الباقية بعد الموت عشرة، وأنه اقتصر في خبر مسلم على ثلاث، لإمكان رجوع ما عداها إليها.
وقال المهلب: العين الجارية في المنام تحتمل وجوها، فإن كان ماؤها صافيا عبرت بالعمل الصالح وإلا فلا.
"وقال غيره: العين الجارية عمل جار من صدقة أو معروف لحي أو ميت" قد أحدثه أو أجراه.
"وقال آخر" وفي الفتح، وقال آخرون: "عين الماء نعمة وبركة وخير وبلوغ أمنية إن كان صاحبها" أي الذي رآها مناما "مستورا، فإن كان غير عفيف أصابته مصيبة تبكي لها أهل داره، والله أعلم، فهذا طرف من تعبيره عليه الصلاة والسلام، يهدى إلى غيره مما يشابهه، وإلا فالذي نقل عنه صلى الله عليه وسلم من غرائب التأويل ولطائف التعبير، كما قال ابن المنير" في المعراج: "لا تحصره المجلدات" لكثرته، "وأنت إذا تأملت أن كل كرامة أوتيها واحد من هذه الأمة في علم أو عمل هي من آثار معجزة نبيه صلى الله عليه وسلم وسر تصديقه" لنبيه، "وبركات" اتباع "طرقه وثمرات الاهتداء بهديه وتوفيقه، واستحضرت ما أوتيه الإمام محمد بن سيرين"(10/110)
العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه الإشارات، وإذا كان هذا ابن سيرين واحد من أمته عليه الصلاة والسلام نقل عنه من فن التعبير ما لا يعد فكيف به صلى الله عليه وسلم وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه.
__________
التابعي المشهور، "من لطائف التعبير مما شاع وذاع وامتلأت به الأسماع طبق الأرض صدقا وصوابا وعجبا عجابا، بل بحرا عبابا"، "بضم العين وموحدتين، أي كثير الماء"، "قضيت" جواب إذا تأملت "بأن ما منحه صلى الله عليه وسلم" من العلوم والمعارف لا تحيط به العبارات، ولا تدرك حقيقة كنهه" إضافة بيانية، ففي المصباح كنه الشيء: حقيقته ونهايته "الإشارات وإذا كان هذا ابن سيرين" بدل من اسم الإشارة "واحد"، "بالرفع" صفة ابن "من أمته عليه الصلاة والسلام" والخبر "نقل عنه من فن التعبير ما لا يعد" لكثرته، "فكيف به صلى الله عليه وسلم" عليه، "وزاده فضلا وشرفا لديه، وأفاض علينا من سحائب علومه ومعارفه، وتعطف علينا بعواطفه".(10/111)
الفصل الثالث: في إنبائه صلى الله عليه وسلم بالأنباء المغيبات
اعلم أن علم الغيب يختص بالله تعالى، وما وقع منه على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام وغيره فمن الله تعالى، إما بوحي أو إلهام، والشاهد لهذا قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 27] ، ليكون معجزة له.
واستدل به على إبطال الكرامات.
وأجيب: بتخصيص الرسول بالملك، والإظهار بما يكون بغير توسطه،
__________
الفصل الثالث: في إنبائه
"بكسر الهمزة" أي إخباره "صلى الله عليه وسلم بالأنباء" "بفتح الهمز" جمع نبأ "بالهمز" أي الأخبار "المغيبات" أي الأمور التي بعدت عنا، فلم يتعلق علمنا بها.
"اعلم أن علم الغيب" أي ما غاب عنا جمعه غيوب، "يختص بالله تعالى" علام الغيوب، "وما وقع منه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم" وعلى لسان "غيره" من الأنبياء والصالحين، "فمن الله تعالى، إما بوحي" للأنبياء "أو إلهام" لغيرهم، "والشاهد لهذا" أي الدليل عليه "قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} ما غاب عن العباد، {فَلَا يُظْهِرُ} يطلع {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} من الناس {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، "ليكون" العلم به "معجزة له" أي لمن أظهر على يديه.(10/111)
وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون برؤيا الملائكة، كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء، وفي حديث مر: أنه عليه الصلاة والسلام قال: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي". فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به، إعلاما على ثبوت نبوته، ودلائل على صدق رسالته، وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه بالاطلاع على الغيوب، حتى إن كان بعضهم ليقول لصاحبه: اسكت فوالله لو لم يكن عنده من يخبره لأخبرته حجارة البطحاء، ويشهد له قول ابن رواحة:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا انشق معروف من الصبح ساطع
__________
"واستدل به على إبطال الكرامات" لأنها إذا كانت إخبارا عن غيب، فالعلم بها مناف لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، فإن المستثنى منه شامل لما يظهر على يد بعض الأولياء من اغيب.
"وأجيب بتخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير توسطه" أي الملك "وكرامات الأولياء" الحاصلة باطلاعهم "على المغيبات" فهو متعلق بمحذوف، "إنما تكون برؤيا الملائكة" للغيوب، ويلقون ما يطلعون عليه إلى من شاء الله بوحي أو إلهام، فلا حاجة إلى تأويل رؤيا براءة الملاكئة للناس، وأن يطلعوهم على ذلك بطريق من الطرق، "كإطلاق اطلاعنا على أحوال الآخرة" أي علمنا بها "بتوسط الأنبياء".
"وفي حديث مر" في غزوة تبوك: "أنه عليه الصلاة والسلام قال" لما ضلت ناقته وقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم مكانها فقال صلى الله عليه وسلم: "والله إني لا أعلم إلا ما علمني ربي" وأنه أخبرني أنها بمكان، كذا حبستها شجرة، وأرسل فأتى بها، "فكل ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من الأنباء المنبئة عن الغيوب ليس هو إلا من إعلام الله له به" لتكون تلك الغيوب "أعلاما" "بفتح الهمزة" جمع علم، أي دلائل "على ثبوت نبوته ودلائل" أي علامات "على صدق رسالته" "عطف تفسير"، وقد تواترت الأخبار واتفقت معانيها على اطلاعه صلى الله عليه وسلم على الغيب، كما قال عياض، ولا ينافي الآيات الدالة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله، وقوله: {لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} ، لأن المنفي علمه من غير واسطة، كما أفاده المتن، أما اطلاعه عليه بإعلام الله، فمحقق لقوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} .
قال في لطائف المنن: اطلاع العبد على غيب من غيوب الله بنور منه، لدليل خبر: "اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله" لا يستغرب، وهو معنى "كنت بصره الذي يبصر به"، فمن كان الحق بصره أطلعه على غيبه، فلا يستغرب.(10/112)
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وقول حسان بن ثابت:
__________
وقال بعض العارفين: قوله: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} ، لا ينافي قول العارف المرسي في تفسيرها، أو صديق، أو ولي، ولا زيادة فيه على النص، فإن السلطان إذا قال: لا يدخل علي اليوم إلا الوزير، لا ينافي دخول أتباع الوزير معه، فكذلك الولي إذا أطلعه الله على غيبه لم يره بنور نفسه، وإنما رآه بنور متبوعه، وما كلفنا الله الإيمان بالغيب إلا وقد يفتح لنا باب غيبه، وإلى هذا أشار الغزالي في أماليه على الإحياء، ثم قال: ويحتمل أن المراد بالرسول في الآية ملك الوحي، الذي بواسطته تنكشف الغيوب، فيرسله للإعلام بمشافهة، أو إلقاء في روع، أو ضرب مثل في يقظة، أو منام، ليطلع على الغيب من أراد، وفائدة ذلك الامتنان على من رزقه الله ذلك، وإعلامه بأنه لم يصل إليه بحوله وقوته، فلا يظهر على غيبه أحدا من عباده إلا على يدي رسول من ملائكته، أرسله لمن فرغ قلبه لانصباب أنهار العلوم الغيبية في أوديته، حتى يصل لأسرار الغيب المكنونة في خزائن الألوهية. انتهى.
وهو نفيس من المهمات، والثاني: هو ما أشار إليه المصنف بقول: واستدل ... إلخ، تبعا للبيضاوي، لكن لم ينمقه هذا التنميق الحسن.
"وقد اشتهر وانتشر أمره عليه الصلاة والسلام بين أصحابه" ولو ظاهرا كالمنافقين والمؤلفة، "بالاطلاع على الغيوب، حتى أن" مخففة من الثقيلة، أي أنه "كان بعضهم" أي بعض أصحابه بحسب الظاهر، وهم بعض المؤلفة قبل خلوص إسلامهم والمنافقون، "ليقول لصاحبه" أي من هو معه: إذا أراد أن يتكلم بشيء في حقه صلى الله عليه وسلم "اسكت": لا تنطق بشيء من أمره، "فوالله لو لم يكن عنده من يخبره" بما نقوله في شأنه من ملك ونحوه، "لأخبرته حجارة البطحاء" أرض مستوية يسيل فيها، وحجارتها ما فيها من الحصباء، أي أنها تخبره بما غاب عنه حقيقة، إن فرض أنه ليس عنده من يخبره غيرها، فلا داعي لجعله مبالغة في هذا المقام.
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة وأمر بلالا، بأن يؤذن فوق الكعبة، قال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا إذا لم ير هذا اليوم، وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد مؤذنا غير هذا الغراب الأسود.
وقال أبو سفيان بن حرب: لا أقول شيئا، ولو تكلمت لأخبرته هذه الحصباء، فخرج صلى الله عليه وسلم وقال: قد علمت الذي قلتم، وذكر مقالتهم، فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله، ما كان معنا أحد فنقول: أخبرك، ثم حسن إسلام الثلاثة بعد، فالغاية إنما تتعلق ببعض المؤلفة والمنافقين، وسماهم أصحابه بحسب الظاهر، كما أشرت إليه، فأما أصحابه المؤمنون، فإنهم جازمون بإطلاعه(10/113)
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ... ويتلو كتاب الله في كل مشهد
فإن قال في يوم مقالة غائب ... فتصديقها في ضحوة اليوم أو غد
وهذا الفصل ينقسم قسمين:
الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم.
من ذلك: في قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] ، فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب تقضي العادة بخلافه.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنعام: 7] الآية فإنها كان لقريش قافلتان:
__________
على الغيب، لكنهم لا يتكلمون بشيء في حقه، ولا يريدون إخفاء كلام عنه حتى يأمر بعضهم بعضا بالسكوت، ولذا قصر في شفاء الغاية على المنافقين، "ويشهد له قول ابن رواحة" عبد الله الأنصاري، الأمير، الشهيد بموته من قصيدة: "وفينا رسول الله يتلو كتابه" القرآن "إذا انشق معروف من الصبح ساطع" أي مرتفع، يقال: سطع الصبح يسطع "بفتحتين": ارتفع "أرانا الهدى" يعني الإيمان "بعد العمى" أي الكفر "فقلوبنا به" أي بالهدى "موقنات أن ما قال واقع" لا محالة.
"وقول حسان بن ثابت" الأنصاري في جملة قصيدة: "نبي يرى ما لا يرى الناس حوله" كرؤيته لجبريل وغيره من الملائكة، وكرؤيته الجنة والنار وغيرهما في صلاة الكسوف دون الناس وهم حوله.
وقد قال: إني أرى ما لا ترون، "ويتلو كتاب الله" القرآن العظيم "في كل مشهد" محضر، "فإن قال في يوم مقالة غائب" أي مقالة أخبر بها عن أمر غائب، "فتصديقها" أي نسبتها إلى الصدق حاصل بسرعة، فيظهر "في ضحوة اليوم" الذي قالها فيه، "أو غد" أي ما يليه "وهذا الفصل ينقسم قسمين: الأول: فيما أخبر به عليه الصلاة والسلام مما نطق به القرآن العظيم، من ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} شك {مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن أنه من عند الله، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} " أي المنزل، ومن للبيان، أي هي مثله في البلاغة وحسن النظم والأخبار عن الغيب، فإنكم عربيون فصحاء، مثله، "إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} " ما ذكر لعجزكم، {وَلَنْ تَفْعَلُوا} ذلك أبدًا لظهور إعجازه، "فقوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} إخبار عن غيب" هو عدم(10/114)
إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم، وأنجز لهم ما وعد، ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز.
ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، وهذا إخبار عن المستقبل، لأن "السين" تعين الاستقبال، يعني كفار قريش يوم بدر، وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف، وكانوا مستعدين بالمال والسلاح، وكان عدد المسلمين ثلاثمائة عشر رجلا، وليس معهم إلا فرسان، إحداهما للزبير بن العوام، والأخرى للمقداد بن الأسود فهزم الله المشركين ومكن المسلمين من قتل أبطالهم واغتنام أموالهم.
__________
إتيانهم بسورة من مثله "تقضي العادة بخلافه" لأنهم كانوا غاية في البلاغة، مع استنكافهم أن يغلبوا خصوصا في الفصاحة، فما فعلوا ولا قدروا، ومر بسط هذا في المعجزات.
"ومن ذلك قوله تعالى": اذكر {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ} [الأنفال: 7] ، العير أو النفير {أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} تريدون {أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ} ، أي البأس والسلاح {تَكُونُ لَكُمْ} " لقلة عَددها، وعُددها بخلاف النفير، "الآية فإنها" أي القصة، وفي نسخة: فإنه، أي الشأن "كان لقريش قافلتان، إحداهما ذات غنيمة دون الأخرى، فأخبر الله تعالى عما في ضمائرهم" وهو ودهم للغنيمة دون القتال، "وأنجز لهم ما وعد" من النصر البالغ يوم بدر، "ولا شك أن الوعد كان قبل اللقاء، لأن الوعد بالشيء بعد وقوعه غير جائز" إذ هو مجرد عبث.
"ومن ذلك قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] ، قال الزجاج: يعني الأدبار، لأن اسم الواحد يقع على الجمع، أي سيفرق جمعهم ويغلبون، "وهذا إخبار عن المستقبل، لأن السين تعين الاستقبال يعني" بالجمع "كفار قريش يوم بدر" وفيه علم من أعلام النبوة، لأن الآية: نزلت بمكة، وأخبرهم أنهم سيهزمون في الحرب، فكان كما قال.
وعند ابن أبي حاتم عن عكرمة، وعبد الرزاق, عن معمر، عن قتادة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت، أي جمع يهزم، أي جمع يغلب، قال: فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبت في الدرع، وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، فعرفت تأويلها يومئذ، "وقد كان عددهم ما بين تسعمائة إلى ألف" أي تسعمائة وخمسين مقاتلا عند ابن عقبة وابن عائذ.
وفي صحيح مسلم عن عمر: كانوا ألفا، وهو أولى بالصواب على أنه يمكن الجمع، بأن الخمسين غير مقاتلين، لأنهما قيدا بمقاتلا، ومر بسط ذلك، "وكانوا مستعدين بالمال والسلاح،(10/115)
ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} [آل عمران: 151] ، يريد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال ورجعوا من غير سبب، ونادى أبو سفيان: يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله تعالى". قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم ليستأصلوهم، فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 601] إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} ، وسبب نزول هذه الآية أن كسرى وقيصر تقاتلا فغلب كسرى قيصر، فساء المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب، ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وتمزيق كسرى كتابه، وفرح المشركون به، فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين
__________
وكان عدد المسلمين ثلاثمائة وثلاثة عشر رلا" على أرجح الأقوال، "وليس معهم إلا فرسان، أحدهما للزبير بن العوم، والأخرى للمقداد بن الأسود، فهزم الله المشركين ومكن المسلمين، من قتل أبطالهم" سبعين، "و" من "اغتنام أموالهم" وأسر سبعين.
"ومن ذلك في كفار قريش: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} بسكون العين وضمها {بِمَا أَشْرَكُوا} بسبب إشراكهم {بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} حجة على عبادته، وهو الأصنام، "يريد ما قذف" تفسير نلقي "في قلوبهم من الخوف" تفسير الرعب "يوم أحد حتى تركوا القتال، ورجعوا من غير سبب" بحسب الظاهر، "ونادى أبو سفيان" صخر بن حرب: "يا محمد! موعدنا موسم بدر القابل" أي الآتي بعد هذا، وفي نسخ: لقابل، أي لعام قابل "إن شئت فقال عليه الصلاة والسلام" لعمر بن الخطاب: قل: "نعم هو موعد بيننا وبينكم إن شاء الله تعالى".
"قيل: لما رجعوا وكانوا ببعض الطريق ندموا، وعزموا أن يعودوا عليهم" على المؤمنين "ليستأصلوهم" بالقتل، "فألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم" فاستمروا راجعين.
ومن ذلك قوله تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم: 1-3] ، أي أقرب أرض الروم إلى فارس، بالجزيرة التي التقى فيها الجيشان والبادئ بالغزو الفرس {وَهُمْ} أي الروم {مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ} .
أضيف المصدر إلى المفعول به، أي غلبة فارس إياهم، {سَيَغْلِبُونَ} فارس {فِي بِضْعِ(10/116)
الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية، وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين.
ومن ذلك، قوله تعالى: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا} [الجمعة: 7] ، فأخبر أنهم لا يتمنون الموت بالقلب ولا بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا، فأخبر فوجد مخبره كما أخبر، فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت لسارعوا إلى تكذيبه، بالتمني، ولو لم يعلم ذلك لخشي أن يجيبوا إليه فيقضى عليه بالكذب، قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت ثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى، وروي مرفوعا: "لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي يهودي على وجه الأرض".
ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
__________
سِنِينَ} إلى قوله: {لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} بالنصر، "وسبب نزول هذه الآية أن كسرى" ملك الفرس، "وقيصر" ملك الروم "تقاتلا، فغلب كسرى قيصر، فساء" أحزن "المسلمين ذلك، لأن الروم أهل كتاب" وفارس عباد أوثان، "ولتعظيم قيصر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتمزيق كسرى كتابه" من باب العلة الغائية، وإلا فالآية مكية، والكتابة إليهما وإلى غيرهما من الملوك إنما كانت سنة سبع من الهجرة، "وفرح المشركون به" وقالوا للمسلمين: نحن نغلبكم كما غلبت فارس الروم، وهذا السبب رواه ابن أبي حاتم عن الزهري بلاغا، "فأخبر الله تعالى بأن الروم بعد أن غلبوا سيغلبون في بضع سنين، والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة، فغلبت الروم أهل فارس يوم الحديبية وأخرجوهم من بلادهم، وذلك بعد سبع سنين" من غلبة فارس على الروم.
"ومن ذلك قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 94] تعلق بتمنيه الشرطان على أن الأول قيد في الثاني، أي إن صدقتم في زعمكم أنها لكم، ومن كانت له يؤثرها والموصل إليها، فتمنوه {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94] "فأخبر" بالبناء للمفعول النبي، أي أخبره الله "أنهم لا يتمنون الموت بالقلب، ولا" يتمنونه "بالنطق باللسان مع قدرتهم عليه أبدا" فنفى عنهم تمنيه في جميع الأزمنة المستقبلة بقوله: {أَبَدًا} ، وبقوله: {لَنْ} ، "فأخبر" صلى الله عليه وسلم بذلك الذي أوحي إليه، "فوجد مخبره، كما أخبره فلو لم يعلموا ما يلحقهم من الموت"، أي العذاب الأليم بعده "لسارعوا إلى تكذيبه بالتمني", إذ هم أحرص شيء على تكذيبه لو قدروا "ولو لم يعلم ذلك" صلى الله عليه وسلم "لخشي أن يجيبوا إليه، فيقضى عليه بالكذب،" فظهر(10/117)
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] الآية.
هذا وعد من الله لرسوله عليه الصلاة والسلام بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد،
__________
بذلك معجزته، وبانت حجته بصدق خبره عن الغيب.
"قال البيضاوي: وهذه الجملة إخبار بالغيب، وكان كما أخبر، لأنهم لو تمنوا الموت لثقل وانتشر، فإن التمني ليس من عمل القلب فيخفى", بل هو أن يقول: ليت كذا، ولو كان بالقلب لقالوا تمنينا، هذا كلام البيضاوي، وهو اختصار لقول الكشاف: إن قلت التمني من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علم أنهم لن يتمنوه، قلت: ليس التمني من أعمال القلوب، وإنما هو قول الإنسان بلسانه: ليت لي كذا، وليت كلمة تمنٍ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب، ولو كان بالقلوب لقالوا: قد تمنيناه بقلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوه.
قال القطب في حواشيه: استدل على أن التمني ليس من أفعال القلوب، بأن التحدي إنما يكون بأمر ظاهر، وفيه أن التحدي إنما يكون بإظهار المعجز لإلزام من لم يقبل الدعوى، والتمني ليس بمعجز، فهو كقول الخصم: احلف لي إن كنت صادقا، ويمكن أن يقال التحدي هنا لطلب دفع المعجزة، فإن إخباره بأنهم لن يتمنوه أبداً معجزة، طلب دفعها بتمنيهم، والدفع إنما يكون بأمر ظاهر.
"وروي مرفوعا: لو تمنوا الموت لغص" "بفتح المعجمة والصاد المهملة"، أي مات، كما جز به التلمساني وضبطه غيره "بضم المعجمة وفتح المهملة المشددة"، وهما لغتان، "كل إنسان منهم بريقه" أي رضاب فمه، وخصه لأنه إذا جف فمه أسرع هلاكه، "فمات مكانه" سريعا، "وما بقي يهودي على وجه الأرض"، كذا ساق الحديث البيضاوي، وأشار محشيه الحافظ السيوطي، إلى أنه لم يرد بهذ اللفظ، فقال: أخرج البخاري والترمذي عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه" ولابن جرير من وجه آخر عن ابن عباس، موقوفا: "لو تمنوه يوم قال ذلك ما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات"، وللبيهقي عنه، رفعه: "لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه". انتهى.
وأخرجه أحمد بسند جيد عن ابن عباس، مرفوعا: "لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا" وأخرجه البيهقي من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، رفعه: "والذي نفسي بيده، لا يقولها رجل منهم إلا غص بريقه"، وبهذا اللفظ الأخير، أورده في الشفاء وقال: يعني يموت مكانه، وقدمت هذا وما قبله في وجوه إعجاز القرآن.
"ومن ذلك قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ(10/118)
{وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس {أَمْنًا} وحكما فيهم، وقد فعل ذلك فيهم ولله الحمد والمنة، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ومن بعد أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس، وملوك عمان، والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أصحمة رحمه الله.
ثم لما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام واختار الله له ما عنده من الكرامة، قام بالأمر بعد خليفته أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فلمَّ شعث ما
__________
فِي الأَرْضِ} ، بدلا من الكفار، {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 55] من بني إسرائيل بدلا عن الجبابرة، "الآية" سبب نزولها ما أخرجه ابن مردويه في تفسيره والدارمي، ومن طريقه الطبراني والضياء في المختارة، والحاكم، وصححه عن أبي بن كعب، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، فكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، "هذا وعد من الله لرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض، أئمة الناس" قادتهم، "و" يجعلهم "الولاة" أي الحكام "عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع" وتذل "لهم العباد" وهذا كالتفسير لقوله: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} ، وهو الإسلام، بأن يظهره على جميع الأديان، ويوسع لهم في البلاد فيملكونها، {وَلَيُبِدِّلَنَّهُمْ} "بالتخفيف والتشديد"، " {مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ} من الناس" الكفار " {أَمْنًا} وحكما فيهم"، "لفظا ومعنى"، "وقد فعل تعالى ذلك فيهم، والحمد لله والمنة"؛ لأن وعده عز وجل متحتم الوقوع، "فإنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين" بلفظ تثنية بحر اسم لموضع بين البصرة وعمان, "وسائر جزيرة العرب".
قال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى تهامة طولا، وأما العرض فما بين يبرين إلى منقطع السماوة.
وقال الأصمعي: هي ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، وأما العرض فمن جدة وما والاها من شاطئ البحر إلى ريف العراق "وأرض اليمن بكمالها", وهو إقليم كبير معروف، "وأخذ الجزية من مجوس هجر"، "بفتحتين" إقليم معلوم، "ومن بعد أطراف الشام" كأيلة وغيرها، "وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر والإسكندرية، وهو المقوقس" مع أنه لم يسلم واحدة منهما "وملوك عمان"، "بضم العين وتخفيف الميم" موضع باليمن، أما عمان:(10/119)
وهي عند موته عليه الصلاة والسلام وأطد جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ومخاليفها من بلاد حوران وما والاها. وتوفاه الله واختار له ما عنده. ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق.
فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر كسرى وأهانه غاية الهوان وتقهقر إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية، وأنفق
__________
"بالفتح والتشديد" بلدة بطرف الشام من بلاد البلقاء، فلا تراها هنا، "والنجاشي ملك الحبشة الذي تولى بعد أطحمة رحمه الله" دعاء لأصحمة كما هو ظاهر، إذ هو الذي أسلم، وكان رد المهاجرين إلى الحبشة، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوم موته وصلى عليه، أما الذي تولى بعده فكافر، لم يعرف له إسلام ولا اسم، والنجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، "ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم واختار الله له ما عنده من الكرامة" التي لا يدرك مداها، "قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلمَّ": جمع "شعث ما وهى" تفرق "عند موته عليه الصلاة والسلام" من ضعف الأمر بردة قبائل تقدم ذكرها في الرؤيا، ومنع الزكاة حتى رجعوا إلى الحق وهو جواب لما دخلته "الفاء على قلة"، "وأطد"، "بفتح الهمزة والطاء المهملة المشددة ودال مهملة ثبت"، "جزيرة العرب ومهدها، وبعث الجيوش الإسلامية إلى بلاد فارس صحبة خالد بن الوليد" سيف الله، "ففتحوا منها طرفا، وجيشا آخر صحبة أبي عبيدة" عامر بن الجراح، أمين هذه الأمة "إلى أرض الشام، وجيشا ثالثا صحبة عمرو بن العاصي إلى بلاد مصر، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى"، "بضم
الموحدة"، "ودمشق" بكسر الدال وفتح الميم وقد تكسر"، "ومخالفيها جمع مخلاف "بكسر الميم والحاء معجمة" بناء على استعمال مخلاف في غير اليمن، بمعنى الناحية، أي نواحيها "من بلاد حوران" وما والها، وتوفاه الله واختار له ما عنده ومنّ على الإسلام وأهله بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق، فقام في الأمر بعده قياما تاما، لم يدر الفلك"، "بفتحتين" بعد الأنبياء" وبعد أبي بكر، كما زاده السخاوي "على مثله في قوة سيره وكمال عدله، وتم في أيامه فتح البلاد(10/120)
أموالهما في سبيل الله، كما أمر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم.
ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس وقيروان وسبتة مما يلي البحر المحيط ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين، وقتل كسرى، وباد ملكه بالكلية، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله، ورسوله، وصدق الله ورسوله.
ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} [البقرة: 61] ، فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان كما أخبر.
__________
الشامية بكمالها، وديار مصر إلى آخرها، وأكثر إقليم فارس، وكسر": هزم "كسرى، وأهانه غاية الهوان، وتقهقر" رجع "إلى أقصى مملكته، وقصر قيصر وانتزع يده من بلاد الشام، فانحاز إلى قسطنطينية"، "بضم القاف"، "وأنفق أموالهما في سبيل الله، كما أخبر بذلك ووعد به صلى الله عليه وسلم".
وقد قال بعض السلف: خلافة أبي بكر وعمر حق في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية، وفي المجالسة عن ابن قتيبة: هذه الآية شاهدة لخلافة الصديق، وقوله: {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} ، أي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بقوله: من بعد خوفهم أمنا الصحابة، لأنهم كانوا الخائفين في صدر الإسلام وقبل الهجرة المستضعفين، ثم وجدوا بعد هذا جميع ما وعدهم الله من النصر والظهور والعز، قاله في التماس السعد، "ثم لما كانت الدولة العثمانية" أي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، "امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك أندلس"، "بفتح الهمزة والدال وضم اللام" إقليم بالمغرب، "وقيروان"، "بفتح القاف والراء والواو" بلد بإفريقية "وسبتة"، "بفتح المهملة وسكون الموحدة وفوقية" مدينة "مما يلي البحر والمحيط و" فتح "من ناحية المشرق إلى أقصى بلا الصين"، بكسر الصاد: إقليم "وقتل كسرى وباد" هلك "ملكه بالكلية" تصديقا لقوله صلى الله عليه وسلم لما مزق كتابه: "والله ممزقه وملكه". "وفتحت مدائن العراق وخراسان"، "بضم المعجمة والتخفيف" إقليم من الري إلى مطلع الشمس "والأهواز"، "بفتح الهمزة والواو بينهما هاء ساكنة، ثم ألف فزاي" بلد مشهور "وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جدا، وجيء بالخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ(10/121)
ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، وهذا ظاهر في العيان بأن دين الإسلام كما أخبر عال على جميع الأديان.
ومن ذلك، قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} إلى آخرها، فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا، فما مات عليه الصلاة والسلام وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام, إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه.
__________
القرآن، فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله" وهذا جاء به المصنف من مؤلف لطيف لشيخه السخاوي، سماه التماس السعد في الوفاء بالوعد، وقال عقب هذا: وبهذا ظهر قوله صلى الله عليه وسلم، الذي ثبت في الصحيح: "إن الذي زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها". وقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وفد عليه: "أتعرف الحرة"؟. قلت: لم أرها، سمعت بها. قال: "فوالذي نفسي بيده ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز". قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "نعم كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد". قال عدي: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت في غير جوار، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها، وقوله: "بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة، والدين والنصر، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة نصيب".
"ومن ذلك قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} [آل عمران: 112] ، الذل والهوان {وَالْمَسْكَنَةُ} أي أثر الفقر من السكون والخزي، فهي لازمة لهم وإن كانوا أغنياء لزوم الدرهم المضروب لسكته، "فاليهود أذل الكفار في كل مكان وزمان، كما أخبر" الله تعالى، ومن ذلك أنه ليس لهم مملكة قط، بل هم مبددون في البلدان.
"ومن ذلك قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} محمدًا صلى الله عليه وسلم: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ} يعليه {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} جميع الأديان المخالفة له {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] ، ذلك "وهذا ظاهر في العيان"، "بكسر العين" المشاهدة، "بأن دين الإسلام كما أخبر"، بأنه يظهره "عال" مرتفع "على جميع الأديان" باعتبار زاعميها {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} .
"ومن ذلك" الإخبار بالغيب "قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ} [النصر: 1] نبيه صلى الله عليه وسلم(10/122)
القسم الثاني: في ما أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرءان العزيز فكان كما أخبر به في حياته وبعد مماته.
أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إن الله قد رفع لي الدنيا، فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه".
وعن حذيفة قال: قام فينا رسول الله عليه الصلاة والسلام مقاما، فما ترك شيئا في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه ليكون منه الشيء قد نسيته فأراه فأعرفه فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه، ثم قال
__________
على أعدائه "والفتح" فتح مكة "إلى آخرها" أي السورة، "فكان كما أخبر، دخل الناس في دين الله أفواجا": جماعات بعدما كان فيه واحد واحد، بعد فتح مكة جاءته العرب من أقطار الأرض طائعين، "فما مات صلى الله عليه وسلم وفي بلاد العرب كلها موضع لم يدخله الإسلام، إلى غير ذلك مما يطول استقصاؤه" تتبعه والكشف عنه.
"القسم الثاني" بيان "ما" أي شيء كثير "أخبر به عليه الصلاة والسلام من الغيوب سوى ما في القرآن العزيز" الغالب على غيره، "فكان" فوجد بعد إخباره "كما أخبر" أي على الوجه الذي أخبر "به" بعضه وقع "في حياته" بعضه وقع "بعد مماته" على طبق ما قال.
"أخرج الطبراني عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد رفع" أي أظهر وكشف "لي الدنيا"، بحيث أحطت بجميع ما فيها، "فأنا أنظر إليها وإلى ما هو كائن فيها إلى يوم القيامة، كأنما أنظر إلى كفي هذه" إشارة إلى أنه نظر حقيقة، دفع به احتمال أنه أريد النظر العلم، ولا يرد أنه إخبار عن مشاهدة، فلا يلاقي الترجمة، لأن إخباره بذلك إخبار عن غيب عن الناس ثم يعلم باعتبار صدقه ووجوب اعتقاد ما يقوله أن كل ما علمه الناس بعده من جملة ما رآه رفعت له الدنيا صلى الله عليه وسلم.
"وعن حذيفة" بن اليمان رضي الله عنهما، "قال: قام" أي خطيبا، فعبر بالقيام عن الخطبة، لأن الخطيب يخطب قائما "فينا"، أي الصحابة، أي قام ونحن عنده، فالظرفية مجازية "رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما"، "بفتح الميم" اسم لموضع القيام، ومنه: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} ، أي لا موضع، أما على قراءة "ضم الميم" فالمراد موضع الإقامة أو نفس الإقامة، بجعله مصدرا من أقام، "فما ترك(10/123)
حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي أم تناسوه؟ والله ما ترك رسول الله عليه الصلاة والسلام من قائد فتنة إلى أن تنقضي الدنيا يبلغ من معه ثلثمائة فصاعدا إلا سماه لنا باسمه واسم أبيه وقبيلته. رواه أبو داود.
وروى مسلم من حديث ابن مسعود في الدجال: فيبعثون عشرة فوارس طليعة، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ".
__________
شيئا" يكون كما في أبي داود، أي يوجد ويحدث بعده من فهم أحوال المسلمين، ومن يتولى أمورهم بعده، وما يكون بعده من الفتن، والحرب، فيكون تامة، والجملة صفة "شيئا"، "في مقامه ذلك" من وضع الظاهر موضع المضمر، لكمال العناية به "إلى قيام الساعة" القيامة "إلا حدث به" أي ذكر أنه سيوجد، والفعل في تأويل الاسم، كقولهم: أنشدك الله لا فعلت، والاستثناء متصل لدخول المحدث به في "شيئا"، وقيل: منقطع بمعنى لكن، "حفظه" أي ما حدث به "من حفظه" أي استمر على حفظه بعض من سمعه لاعتنائهم به، "ونسيه من نسيه" ممن سمعه، أي لم يداوموا بذكرهم له فنسوه، وأفرد ضمير حفظه ونسيه رعاية للفظ "شيئا"، "قد علمه أصحابي هؤلاء" الحاضرون عنده من الصحابة، "وأنه" أي الشأن "ليكون" يوجد "منه الشيء" في الخارج، "قد نسيته" لطول العهد "فأراه" بعد وجوده، "فأعرفه فأذكره" أي أتذكره وأستحضره، "كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" فيه تقديم وتأخير أي كما أن الرجل إذا غاب عنه رجل كان يعرف وهه وسمته، وهو في مخيلته، لكنه لم يذكره، فإذا رآه تذكره وعرفه، فليس إذا متعلقا بيذكر، بل ينسى المعلوم من الكلام، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس تشبيها تمثيليا "ثم قال حذيفة: ما أدري أنسي أصحابي" هذا الحديث "أم تناسوه"، أي أظهروا نسيانه خوف الفتنة، لا لقلة الاهتمام به، كما زعم، بل لأنه من الأسرار التي لا ينبغي أن يحدث بها كل أحد، "والله" أقسم للتأكيد "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قائد"، "بقاف ودال مهملة" ومن زائدة، أي محرك "فتنة" محاربة وإيقاع ضرر بالمسلمين، كالحجاج وغيره الذين معهم جند تتبعهم، كما يتبع الجمل والفرس من يقوده، وفيه استعارة بالكناية، شبه الفتنة بخيل تقاد بمقاودها، وأثبت لها القائد تخييلا، "إلى أن تنقضي الدنيا" تتم وتنتهي مدتها، ويخرب العالم "يبلغ" يصل "من معه" من أتباعه، والضمير للقائد "ثلاثمائة فصاعدا إلا" قد "سماه لنا" صلى الله عليه وسلم "باسمه واسم أبيه وقبيلته" التي عرف بها أعم من كونها منها نسبا أو حلفا أو مقيما عندهم أو غير ذلك، بحيث لم يبق فيه شبهة، والجملة صفة قائد فتنة، أي أنه إنما ذكر منهم من جمعه ثلاثمائة، فأزيد، فإن نقص عنها لم يذكره(10/124)
فوضح من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح من خواطر الأبرار الأخيار أنه عليه الصلاة والسلام عرفهم بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه فلا سبيل إلى فوته.
__________
"رواه أبو داود" من طريق أبي وائل، عن حذيفة به، وروى صدره الشيخان، حتى قوله: عرفه، ولذا عزاه المصنف لأبي داود لزيادة، ثم قال حذيفة إلى آخر الحديث.
"وروى مسلم" في أواخر صحيحه، في كتاب الفتن، "من حديث ابن مسعود في" أمر "الدجال" من طريق أبي قتادة العدوي، عن يسير بن جابر "بضم التحتية فسين مهملة مصغر" أو يقال أصله أسير، فسهلت الهمزة، قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجل ليس له هجيري، ألا يا عبد الله بن مسعود جاءت الساعة، قال: فقعد وكان متكئا، فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ولا يفرح بغنيمة، ثم قال: بيده هكذا ونحاها نحو الشام، فقال: عدو يجتمعون لأهل الشام، ويجتمع لهم أهل الشام، قلت: الروم، يعني قال: نعم، ويكون عند ذلكم القتال ردة شديدة "بفتح الراء" أي هزيمة، فيشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيبقى هؤلاء وهؤلاء، كل غير غالب وتفنى الشرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة الموت، لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيبقى هؤلاء وهؤلاء كل غير غالب وتفنى الشرطة، فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية الإسلام، فيجعل الله الدبرة عليهم فيقتتلون مقتلة إما قال لا يرى مثلها، وإما قال لم ير مثلها، حتى أن الطائر ليمر بجنبتهم، فما يخلفهم حتى يخر ميتا، فيتعاد بنو الأب، كانوا مائة فلا يجدون بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يفرح، أو أي ميراث يقاسم، فبينما هم كذلك إذ سمعوا بناس هم أكثر من ذلك، فجاءهم الصريخ أن الدجال قد خلفهم في ذراريهم، فيرفضون ما في أيديهم، ويقبلون، "فيبعثون عشرة فوارس طليعة"، "بطاء مهملة بوزن فعيلة" القوم، يبعثون أما الجيش، يتعرفون طلع العدو "بالكسر" أي خبره.
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم" التي يركبون عليها، "هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ" أو من خير فوارس على ظهر الأرض يومئذ، هكذا في مسلم بالشك لبذلهم نفوسهم في نصر دين الله تعالى، وقوله: ليس له هجيري "بكسر الهاء والجيم مشددة والقصر"، أي شأن ودأب، وقوله: فيشترط المسلمون ضبط بوجهين "بتحتية ثم فوقية، وفتح الشين والراء المشددة، فطاء وبتحتية فشين ساكنة، ففوقية فطاء مهملة"، والشرطة "بضم المعجمة" أول طائفة من الجند تتقدم للقتال، ومعنى نهد بدال مهملة نهض، والدبرة "بفتح المهملة وسكون الموحدة" أي الهزيمة على الروح، وقوله فما يخلفهم، أي(10/125)
وقال أبو ذر: لقد تركنا رسول الله عليه الصلاة والسلام وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلا ذكرنا منه علما.
ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين. وأما علم عوارف المعارف الإلهية فتلك لا يتناهى عددها، وإليه عليه الصلاة والسلام ينتهي مددها.
ومن ذلك ما رواه الشيخان عن أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام نعى النجاشي للناس في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات.
وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري: أن النبي عليه الصلاة والسلام صعد أحدًا، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم الجبل فضربه برجله وقال له: "اثبت
__________
يتجاوزهم، "فوضح" انكشف وانجلى "من هذا الخبر وغيره مما سيأتي من الأخبار، وسنح"، "بمهملتين بينهما نون"، أي ظهر وعبر به تفننا، إذ هو بمعنى وضح "من خواطر الأبرار الأخيار أنه صلى الله عليه وسلم عرفهم" أعلمهم "بما يقع في حياته وبعد موته، وما قد انحتم وقوعه" أي وجب وجوبا لا يمكن إسقاطه، "فلا سبيل إلى فوته" بل لا بد منه.
"وقال أبو ذر" في حديث رواه أحمد والطبراني وغيرهما: "لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي ذهب عنا وانتقل إلى الآخرة "و" الحال أنه "ما يحرك طائر جناحيه في" جو "السماء إلا ذكرنا منه علما" أي عرفنا بعلامات فيه تدل على أشياء تقصد من طيرانه على الصفة التي هو عليها، كذا في الشرح.
وقال غيره: أي ذكر لنا من طيرانه علما يتعلق به، فكيف بغيره مما يهمنا في الأرض، وهذا تمثيل لبيان كل شيء تفصيلا تارة، وإجمالا أخرى، والمعنى لم يدع شيئا إلا بينه لنا، بحيث لا يخفى علينا شيء بعده، وقد كان خطب قبل وفاته خطبا، أطال فيها مرة من الصباح إلى الظهر ومرة من الظهر إلى قبيل الغروب، لم يدع شيئا إلا بينه لأصحابه.
وفي رواية: إلا ذكر لنا منه علما، "ولا شك أن الله تعالى قد أطلعه على أزيد من ذلك، وألقى عليه علم الأولين والآخرين" وعطف على ما فهم مما سبق أنه فيما يتعلق بأحوال الدنيا مما يمكن علمها والاطلاع عليها قوله: "وأما علم عوارف المعارف الإلهية، فتلك لا يتناهى عددها، وإليه صلى الله عليه وسلم ينتهي مددها" لا إلى غيره، إذ لا يصل إلى ذلك، "ومن ذلك" الغيب الذي أخبر به قبل وقوعه "ما رواه الشيخان" من طريق مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، "عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي"، "بفتح النون" واسمه أصحمة(10/126)
أحد! فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك: ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي
__________
"للناس" أي أخبرهم بموته "في اليوم الذي مات فيه" في رجب سنة تسع، قاله ابن جرير وجماعة، وقيل: مات قبل الفتح، وفيه جواز الإعلام بالجنازة ليجتمع الناس للصلاة، والنعي المنهي عنه هو ما يكون معه صياح، خلافا لزاعم أنه الإعلام بالموت للاجتماع، فإن شهود الجنائز خير، والدعاء إلى الخير خير جماعا، قاله ابن عبد البر.
وفي رواية للبخاري: نعى لنا النجاشي يوم مات، فقال: "استغفروا لأخيكم". "وخرج بهم إلى المصلى" مكان ببطحان، فقوله في رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع، أي بقيع بطحان، أو المراد موضع معد للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، قاله الحافظ.
وفي الصحيحين عن جابر، مرفوعا: "قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه" وللبخاري: "فقوموا، فصلوا على أخيكم أصحمة"، ولمسلم: "مات عبد الله صالح أصحمة". وفي الإصابة: جاء في بعض طرق حديث أبي هريرة: أصبحنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه جبريل، فقال: إن أخاك أصحمة النجاشي، قد توفي، فصلوا عليه، فوثب ووثبنا معه حتى جاء المصلى، "فصف بهم" لازم والباء بمعنى مع"، أي صف معهم، أو متعد والباء زائدة للتوكيد، أصفهم، لأن الظاهر أن الإمام متقدم فلا يوصف بأنه صاف معهم إلا على المعنى الآخر، قاله الحافظ، "وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات" إشاعة لموته على الإسلام، لأن بعض الناس لم يعلم بأنه أسلم.
وفي صحيح ابن حبان، عن عمران بن حصين: فقاموا وصلوا خلفه وهم لا يظنون، إلا أن جنازته بين يديه.
وفي صحيح أبي عوانة، عن عمران: فصلينا خلفه ونحن لا نرى، إلا أن جنازته قدامنا.
وذكر الواحدي: بلا سند، عن ابن عباس قال: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي، حتى رآه وصلى عليه، وعلى هذا فصلاته كصلاة الإمام على ميت رآه، ولم يره المأموم، ولا خلاف في جوازها، وقد أشبعت الكلام على هذا الحديث في شرح الموطأ، ولله الحمد.
"وفي حديث أنس عند أحمد والبخاري" وأبي داود والترمذي والنسائي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد"، "بكسر العين" علا "أحدا" الجبل المعروف بالمدينة، ولمسلم عن أبي سعيد، وأحمد بإسناد صحيح عن بريدة حراء، وجمع بتعدد القصة لما في مسلم، عن أبي هريرة أنه كان على حراء ومعه المذكورون هنا، وزاد: وعلي وطلحة والزبير "ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف" أي(10/127)
نفسي بيده لتنفقن في سبيل الله، قال النووي قال الشافعي وسائر العلماء: معنا لا يكون كسرى بالعراق ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام، فأعلمنا عليه الصلاة والسلام بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، فكان كما قال، فأما كسرى فانقطع ملكه بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق، واضمحل بدعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وأما قيصر فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده واستقرت للمسلمين, ولله الحمد.
وقد وقع ذلك في خلافة سيدنا عمر بن الخطاب كما قدمته. وقال عليه
__________
تحرك واضطرب "بهم الجبل، فضربه برجله" الشريفة صلى الله عليه وسلم، "وقال له": "اثبت أحد" منادى بحذف الأداة ونداؤه خطابه، وهو يحتمل المجاز والحقيقة، وهو الظاهر، ويؤيده ضربه برجله، "فإنما عليك نبي وصديق"، "بكسر الصاد وشد الدال" ملازم للصدق.
وفي الطبراني: برجال ثقات أن عليا كان يحلف أن الله أنزل اسم أبي بكر من السماء الصديق، "وشهيدان" عمر وعثمان.
قال ابن المنير: قيل: حكمة ذلك أنه لما رجف أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين أن هذه الرجفة ليست من جنس رجفة الجبل بقوم موسى لما حرفوا الكلم، وأن تلك رجفة الغضب، وهذه رجفة الطرب، ولذا نص على مقام النبوة والصديقية والشهادة التي توجب سرور ما اتصلت به لا رجفانه، فأقر الجبل بذلك فاستقر وتقدم لهذا مزيد، "فكان كما أخبر عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هلك كسرى"، "بكسر الكاف" على الأفصح، وقد تفتح لقب لكل من ملك الفرس، أي إذا مات كسرى أنوشروان بن هرمز، "فلا كسرى بعده" بالعراق، "وإذا هلك" مات "قيصر" لقب لكل من ملك الروم، والمراد هرقل، "فلا قيصر بعده" بالشام، "والذي نفسي بيده لتنفقن"، "بضم الفوقية وسكون النون وكسر الفاء وضم القاف"، " كنوزهما" مالهما المدفون، أو الذي جمع وادخر "في سبيل الله" عز وجل، وقد وقع ذلك.
وفي نسخة: الناصرية "بفتح الفاء والقاف" مصلحة، ورفع كنوزهما قاله المصنف.
"قال النووي: قال الشافعي" الإمام "وسائر العلماء: معناه لا يكون كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشام، كما كان في زمنه عليه الصلاة والسلام" فلا يشكل ببقاء مملكة الفرس مدة، لأن آخرهم قتل في زمن عثمان، وببقاء مملكة الروم إلى الآن، "فأعلمنا صلى الله عليه وسلم، بانقطاع ملكهما من هذين الإقليمين، فكان كما قال، فأما كسرى، فانقطع ملكه بالكلية من جميع الأرض، وتمزق ملكه كل ممزق" فرق جيشه في البلاد كل تفريق، "واضمحل بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم" لما مزق(10/128)
الصلاة والسلام لسراقة: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى"؟ , فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه وقال: الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة.
ومن ذلك: إخباره عليه الصلاة والسلام بالمال الذي تركه عمه العباس عند أم الفضل، بعد أن كتمه، فقال: ما علمه غيري وغيرها وأسلم كما تقدم ذلك في غزوة بدر من المقصد الأول.
__________
كتابه إليه أن يمزق ملكه كل ممزق، وأحسن القائل:
وكسر كسرى بتمزيق الكتاب فقد ... أذاقه الله تمزيقا بتمزيق
"وأما قيصر، فانهزم من الشام ودخل أقصى بلاده، فافتتح المسلمون بلاده" الشامية كلها وما والاها، "واستقر للمسلمين ولله الحمد" وإنما بقي ملكه في غيرها، لأنه قبل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجله، وكاد أن يسلم. انتهى.
قال الشافعي: وسبب الحديث أن قريشا كانوا يأتون الشام والعراق تجارا، فلما أسلموا خافوا انقطاع سفرهم إليهم لدخولهم في الإسلام فقال، النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك تطييبا لقلوبهم، وتبشيرا لهم، بأن ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين.
وقال الخطابي: معناه: فلا قيصر بعده يملك مثل ما ملك، وذلك أنه كان بالشام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنصارى نسك إلا به، ولا يملك على الروم أحد إلا إذا كان دخله إما سرا وإما جهرا فانجلى عنها قيصر، واستفتحت خزائنه، ولم يخلفه أحد من القياصرة في تلك البلاد بعده.
"وقد وقع ذلك في خلافة سيدنا عمر كما قدمته" وعاش قيصر إلى سنة عشرين على الصحيح، وقيل مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والذي حارب المسلمين بالشام ولده، ولقبه أيضا قيصر وأما كسرى بن هرمز الذي كتب إليه صلى الله عليه وسلم، فهلك في زمنه وتولى ابنه شيرويه، ثم هلك عن قرب، فأمروا عليهم بنته توران، فقال صلى الله عليه وسلم: "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". "وقال عليه الصلاة والسلام" كما رواه البيهقي "لسراقة" المدلجي، الذي تعرض له ليرده عن الهجرة، فساخت قوائم فرسه، فطلب الأمان: "كيف بك" جواب عما أبهم من الأحوال، وهو استخبار يتضمن التعجب من حاله التي هو عليها، لأن كل أحد لا ينفك عن حال من الأحوال إذا طرأ عليه ما لم يعهد مثله ونال ما لم ينال أمثاله، فكني عنه بما ذكر، وفيه من البلاغة ما لا يخفى "إذا لبست" أي وضعت ساعديك "سواري كسرى"، "مثنى سوار بضم السين وكسرها" ومثل هذا يسمى لبسا في اللغة، "فلما أتى بهما عمر ألبسهما إياه" أي سراقة تحقيقا للمعجزة، وهذا جاء على القلب، والأصل ألبسه إياهما، "وقال" عمر: "الحمد لله" على تصديق كلمة النبوة وإعزاز دينه(10/129)
وإخباره عليه الصلاة والسلام بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة.
وبموضع ناقته حين ضلت وكيف تعلقت بخطامها في الشجرة.
ولما رجع المشركون يوم الأحزاب، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الآن نغزوهم ولا يغزونا". فلم يُغْزَ رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبعث عليه الصلاة والسلام جيشا إلى مؤته، وأمر عليهم زيد بن حارثة ثم قال: "فإن أصيب فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة". فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبي عليه الصلاة والسلام على المنبر، فكشف له حتى
__________
وزوال شوكة أعدائه وما فتح الله على يديه "الذي سلبهما كسرى وألبسهما سراقة" أعرابي بدوي من بني مدلج متقشف.
وفي رواية البيهقي أنه وضعهما في يديه، فبلغا منكبيه، فقال عمر: الحمد لله الذي جعل سواري كسرى بن هرمز في يدي سراقة بن مالك، ثم قال له: قل: الله أكبر الله أكبر وحمدًا لله على منه بنعمة الفتح وإعزاز الدين، وكبر تعظيما لمالك الملك الذي يؤتي ملكه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فتبارك الله الذي بيده الملك، الذي قصم من نازعه رداء كبريائه، فلا سلطان إلا سلطانه, ولا عز لغير من أعزه، وليس في هذا استعمال الذهب وهو حرام؛ لأنه إنما فعله تحقيقا لمعجزة الرسول من غير أن يقرهما، فإنه روي أنه أمره، فنزعهما وجعلهما في الغنيمة، ومثل هذا لا يعد استعمالا.
"ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام بالمال" أي الذهب "الذي تركه عمه العباس" لما خرج إلى بدر ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطم بها المشركين، فأخذت منه في الحرب "عند أم الفضل" زوجته لتربية الأولاد إن مات "بعد أن كتمه" وسأل أن يحسب العشرين أوقية من فدائه، فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: تتركني أتكفف قريضا، فقال: "فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة". "فقال: ما علمه غيري وغيرها" وما يدريك؟ فقال: "أخبرني ربي". "وأسلم كما تقدم ذلك في غزوة بدر" العظمى "من المقصد الأول".
"وإخباره صلى الله عليه وسلم بشأن كتاب حاطب إلى أهل مكة" لما عزم على فتحها، ومر ما فيه من الإشكال، وجوابه ثمة "وبموضع ناقته حين ضلت" ببعض طريق تبوك، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيا لعلم أين هي، فقال: "إني لا أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلني الله عليها". "وكيف تعلقت بخطامها في الشجرة" فقال: "وهي في الوادي في شعب كذا وكذا, وقد حبستها شجرة بزمامها, فانطلقوا حتى تأتوني بها". كما مر، "ولما رجع" انصرف "المشركون يوم الأحزاب، قال صلى الله عليه وسلم: "الآن" , أي من الآن "نغزوهم" نقصدهم بالحرب، "ولا يغزونا" لا يقصدونا به، فكان(10/130)
نظر إلى معتركهم فقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة حتى استشهد". فصلى عليه, ثم قال: "استغفروا له, ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب حتى استشهد". فصلى عليه، ثم قال: "استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فاستشهد". فصلى عليه، ثم قال: "استغفروا لأخيكم". فأخبر أصحابه بقتلهم في الساعة التي قتلوا فيها، ومؤته دون دمشق بأرض البلقاء.
وعن أسماء بنت عميس قالت: دخل رسول الله عليه الصلاة والسلام صبيحة اليوم الذي قتل فيه جعفر وأصحابه فقال: "يا أسماء! أين بنو جعفر"؟. فجئت بهم، فضمهم وشمهم ثم ذرفت عيناه بالدموع فبكى، فقلت: يا رسول الله! أبلغك
__________
كذلك، "فلم يغز رسول الله صلى الله عليه وسلم" بعد، فإنه اعتمر في سنة فصدوه، ووقعت الهدنة بينهم إلى أن نقضوها، فغزاهم وفتح مكة، "وبعث صلى الله عليه وسلم جيشا" عدته ثلاثة آلاف "إلى مؤتة"، "بضم الميم وسكون الواو بغير همز عند الأكثر، وعند الأقل بالهمز"، "وأمر عليهم زيد بن حارثة" حبه ومولاه أبا أسامة، "ثم قال: "فإن أصيب" أي قتل "فجعفر بن أبي طالب" أميرهم، "فإن أصيب فعبد الله بن رواحة الأمير، فإن أصيب فليرتض المسلمون برجل من بينهم يجعلونه عليهم". كما هو بقية الحديث، "فلما التقى المسلمون بمؤتة جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فكشف له حتى نظر إلى معتركهم"، "بضم الميم وفتح الراء" موضع العراك والمعاركة، أي: القتال، وفي نسخة: معركتهم، "فقال: "أخذ الراية زيد بن حارثة" أي حملها على العادة أن حاملها الأمير، وقد يدفعها لمقدم عسكره وإلا فهي معه من حين دفعها له صلى الله عليه وسلم بالمدينة، كما قدم المصنف، أنه عقد لواء أبيض، ودفعه إلى زيد "حتى استشهد" طعنا بالرماح، "فصلى عليه" أي دعا له، "ثم قال": "استغفروا له، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب" فقاتل على فرسه فأحاط به القتال، فنزل عنها وقاتل "حتى استشهد" بضربة رجل من النصارى، فقطعه نصفين "فصلى عليه" دعا له "ثم قال": "استغفروا لأخيكم جعفر، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، فاستشهد". "فصلى عليه" دعا له، فليس المراد صلاة الجنازة، إذ هم شهداء معركة، "ثم قال": "استغفروا لأخيكم". "فأخبر أصحابه بقتلهم في الساعة التي قتلوا فيها، ومؤتة دون دمشق بأرض البلقاء"، "بفتح الموحدة وسكون اللام وبالقاف والمد" مدينة معروفة هناك.
قال عياض: وبينه عليه السلام وبينهم مسيرة شهر أو أزيد، واعترض بأن بين المدينة ومؤتة نحو عشر مراحل يعرف ذلك من سلك طريقها، لكنه لم يعرفه لبعد بلاده، ورد بأنه يقتضي أنه قاله من عند نفسه بلا ثبت وليس كذلك، فإنه يختلف باختلاف الأحوال، كالماشي، وسير الجمال بأحمالها بخلاف الفرسان، وبطول الأيام وقصرها.(10/131)
عن جعفر شيء؟ قال: "نعم قتل اليوم"، رواه يعقوب الإسفراييني في كتابه دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق والبغوي.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها". فكان كذلك امتدت في المشارق والمغارب ما بين أقصى الهند إلى أقصى المشرق إلى بحر طنجة حيث لا عمارة وراءه، وذلك ما لم يملكه أحد من الأمم.
ومن ذلك: إعلامه قريشا بأكل الأرضة ما في صحيفتهم التي تظاهروا بها
__________
"وعن أسماء بنت عميس"، "بمهملتين" مصغر زوجة جعفر، "قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة اليوم الذي قتل فيه جعفر وأصحابه" ثلاثة عشر بجعفر، وقدمت أسماءهم بغزوة مؤتة، وأن الكفار كانوا أكثر من مائتي ألف، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأصابوا غنيمة، وفي هذا مزيد عز ظاهر للإسلام كما لا يخفى، "فقال": "يا أسماء أين بنو جعفر"؟ عبد الله ومحمد وعون، "فجئت بهم، فضمهم وشمهم، ثم ذرفت"، "بفتح الذال والراء وبالفاء" أي سالت "عيناه بالدموع، فبكى، فقلت: يا رسول الله أبلغك عن جعفر", زاد في رواية ابن إسحاق وأصحابه: "شيء؟ قال": "نعم قتل اليوم". وعند ابن إسحاق: "نعم أصيبوا هذا اليوم". "رواه يعقوب الإسفراييني"، "بكسر الهمزة وسكون السين وفتح الفاء والراء وكسر التحتية بلا همز" نسبة إلى إسفرايين بليدة بنواحي نيسابور "في كتابه دلائل الإعجاز، وخرجه ابن إسحاق" محمد في السير، "والبغوي" الكبير عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، عاش مائة وثلاث سنين.
"ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "زويت"، "بضم الزاي مبني للمجهول"، أي جمعت "لي الأرض" وضم بعضها لبعض لأطلع على جميعها، كما جزم به عياض، وجوز بعض أنه كناية عن رفع الحجب وسعة الاطلاع والخروج من صفة البشر إلى صفة غيره، والمراد غالب الأرض، أطلق عليه اسم الكل مبالغة في الكثرة والإسراع، ثم يحتمل أن ذلك ليلة الإسراء أو غيرها من الليالي أو الأيام، "فرأيت مشارقها ومغاربها" كناية عن جميعها، كما في قوله: {رَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} ، أو الجمع باعتبار تعدد المطالع، أو أنه لم يذكر الجنوب والشمال؛ لأن معظم امتداد هذه الأمة في جهتي المشرق والمغرب، "وسيبلغ ملك أمتي ما زوي" ضم وجمع "لي منها" أي الأرض أو المشارق والمغارب، وهذا الحديث أخرجه مسلم عن ثوبان، مرفوعا: "إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض". الحديث.(10/132)
على بني هاشم، وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك: ما رواه الطبراني في الكبير، والبزار من حديث ابن عمر قال: كنت جالسا مع النبي عليه الصلاة والسلام في مسجد منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلما ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك فقال: "إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت". فقالا: أخبرنا يا رسول الله! فقال الثقفي للأنصاري: سل. فقال: أخبرني يا رسول الله! فقال: "جئتني تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه، وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك
__________
قال عياض: إنهما الذهب والفضة كنزا كسرى وقيصر ملكي الشام والعراق، لأنه في حديث آخر أضاف الدرهم إلى العراق، وكانت مملكة كسرى والدينار إلى الشام وهي مملكة قيصر، "فكان كذلك امتدت" اتسعت أو انتشرت "في المشارق والمغارب ما بين أقصى أرض الهند إلى أقصى أرض المشرق إلى بحر طنجة"، "بفتح الطاء المهملة وسكون النون وفتح الجيم" بلد بساحل بحر المغرب "حيث لا عمارة"، "بكسر العين"، "وراءه" أي ليس بعده بلاد ولا جزائر معمورة، "وذلك" الذي امتد لهذه الأمة "ما" أي قدر "لم يملكه أحد من الأمم" السالفة.
"ومن ذلك إعلامه قريشا بأكل الأرضة"، "بفتح الهمزة والراء والضاد المعجمة" دويبة "ما في صحيفتهم", وفي نسخة: ما في الصحيفة وهو موصول مفعول أكل الصدر، والأرضة فاعل، أي إعلامه أن الأرضة أكلت الحروف المكتوبة في الصحيفة، "التي تظاهروا بها على بني هاشم وقطعوا بها رحمهم، وأنها أبقت فيها كل اسم لله، فوجدوها كما قال عليه الصلاة والسلام" وسبقت القصة مفصلة في المقصد الأول.
"ومن ذلك ما رواه الطبراني في الكبير، والبزار" واللفظ له برجال ثقات، كما قال المنذري، ورواه ابن حبان بنحوه: كلهم "من حديث ابن عمر" عبد الله، "قال: كنت جالسا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد منى" هو مسجد الخيف، "فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما" فرد عليهما ولم يذكره؛ لأنه معلوم، "ثم قالا: يا رسول الله جئنا نسألك" كل عن سؤال، "فقال": "إن شئتما أن أخبركما بما جئتما تسألاني عنه فعلت"، "بتاء المتكلم"، "وإن شئتما أن أمسك" عن الإخبار "وتسألاني فعلت". "فقالا: أخبرنا يا رسول الله".(10/133)
فيه، وعن نحرك، وعن حلاقك رأسك وما لك فيه مع الإضافة". فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك.
ومن ذلك: ما روي عن واثلة بن الأسقع قال: أتيت رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو في نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة، فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس، فقد نهينا عنه، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام:
__________
زاد في حديث أنس عند البيهقي: لنزداد إيمانا ونزداد يقينا، "فقال الثقفي للأنصاري: سل" وفي رواية ابن حبان عن ابن عمر: جاء أنصاري فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن، قال: "اجلس"، وجاء ثقفي فقال: يا رسول الله كلمات أسأل عنهن، فقال: "سبقك الأنصاري"، فقال الأنصاري: إنه غريب وإن للغريب حقا، فابدأ به، فأقبل على الثقفي، فقال: "إن شئت" ... إلخ، فذكر الحديث إلى أن قال: فقام الثقفي، ثم أقبل على الأنصاري، فذكر نحوه.
وفي حديث أنس عند البيهقي فقال الأنصاري للثقفي: سل، فقال: بل أنت فسله، فإني أعرف حقك، فظاهر هذا كالرواية التي ساقها المصنف، أن الأنصاري تقدم بالسؤال، وصريح رواية ابن حبان أن المتقدم هو الثقفي؛ لأنه رتب ثم بعد ذكر سؤاله، وإخبار المصطفى بما جاء يسأل عنه، وقوله: فقام الثقفي، ثم أقبل على الأنصاري، ولعل وجه الجمع أن الأنصاري لما علم أن الحق له في التقديم، وطلب تقديم الثقفي لكون غريبا، وأبى الثقفي، وقال: "بل أنت فسله، فإني أعرف حقك، أي: بسبق السؤال وسبق الإسلام، ولم يرض بذلك الأنصاري، وصمم على تقديم الثقفي عليه إكراما له لغربته ولمعرفته حقه، "فقال" الأنصاري "أخبرني يا رسول الله! فقال": "جئتني تسألني عن مخرجك" خروجك "من بيتك، تؤم" تقصد "البيت الحرام وما لك فيه" من الثواب، "وعن ركعتيك بعد الطواف فيهما، وعن سعيك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة" بها "وما لك فيه، وعن رميك الجمار" يوم النحر وبعده "وما لك فيه وعن نحرك" هديك، "وعن حلاقك رأسك وما لك فيه مع الإضافة"، فقال: والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسألك" قال صلى الله عليه وسلم: "فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لم تضع ناقتك خفا، ولم ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة ومحا به عنك خطيئة، وترفع بها لك درجة، وأما ركعتاك بعد الطواف، فإنهما كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة، فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة، فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا، فيباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي، جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم عدد الرمال وزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الكبائر الموبقات، وأما(10/134)
"دعوني وإياه فإني أعلم ما الذي أخرجه من منزله". فقلت: يا رسول الله ما الذي أخرجني من منزلي؟ قال: "أخرجك من منزلك لتسأل عن البر وعن الشك". قال: قلت: والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره، فقال عليه الصلاة والسلام: "البر ما استقر في الصدر، واطمأن إليه القلب، والشك ما لم يستقر في الصدر، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وإن أفتاك المفتون".
ومن ذلك: قوله لفاطمة رضي الله عنها في مرضه: "وإنك أول أهلي لحاقا
__________
نحرك فهو خير لك عند ربك، وأما حلاق رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة، ويمحي عنك بها خطيئة". قلت: يا رسول الله فإن كانت الذنوب أقل من ذلك، قال: "يدخر لك في حسناتك، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك، فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يقع بين كتفيك، ثم يقول اعمل لما يستقبل فقد غفر لك ما مضى".
قال الثقفي: أخبرني يا رسول الله، قال: "جئت تسألني عن الصلاة، إذا غسلت وجهك انتثرت الذنوب من أشفار عينيك، وإذا غسلت يديك انتثرت الذنوب من أظفار يديك، وإذا مسحت برأسك انتثرت الذنوب عن رأسك، وإذا غسلت رجليك انتثرت الذنوب من أظفار قدميك" ... الحديث، وفيه ذكر الرجوع والسجود والصلاة والصوم، فاقتصر المصنف على حاجته منه وهو الإخبار بالغيب، أما بقية الحديث، فمعلوم عند أصحابه، فلا يقال اقتصاره يقتضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يجبه عن سؤاله، وأن الثقفي اكتفى بسؤال الأنصاري وليس كذلك، لا سيما والثقفي هو السابق بالسؤال.
"ومن ذلك ما روي"، "عن واثلة"، "بمثلثة"، "ابن الأسقع"، "بقاف" ابن كعب الليثي، نزل الشام ومات في سنة خمس وثمانين وله مائة وخمس سنين، "قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في نفر من أصحابه يحدثهم، فجلست وسط الحلقة"، "بفتح السين وسكونها"، "فقال بعضهم: يا واثلة قم عن هذا المجلس فقد نهينا عنه"، "بضم النون للعلم بالناهي" صلى الله عليه وسلم.
روى أبو داود عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة وهو عند الترمذي، وقال حسن صحيح، بلفظ: إن رجلا جلس وسط الحلقة، فقال حذيفة: ملعون على لسان محمد, أو لعن الله على لسان محمد من جلس وسط الحلقة، قال الحاكم على شرط الشيخين، "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "دعني" اتركوني "وإياه" يستفاد منه أن محل النهي ما لم يكن لحاجة، " "فإني أعلم ما الذي أخرجه من منزله"، فقلت: يا رسول الله ما الذي أخرجني من منزلي"؟ , أي أخبرني به لأزداد إيمانا، قال: "أخرجك من منزلك لتسأل" , أي إرادة وصولك إليّ لتسأل "عن البر وعن الشك". "قال" واثلة: "قلت: والذي بعثك بالحق ما أخرجني غيره،(10/135)
بي". فعاشت بعده ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر.
وقوله عليه الصلاة والسلام لنسائه: "أسرعكن بي لحاقا، أطولكن يدا". فكانت
__________
فقال صلى الله عليه وسلم: "البر"، "بالكسر" أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر "بالضم" في تغذية البدن، والحصر مجازي، فالمراد معظم البر "ما استقر" أي ثبت "في الصدر" المحتوي على القلب "واطمأن إليه القلب" لأنه سبحانه فطر عباده على الميل إلى الحق والسكون إليه، وركز في طبعهم حبه.
قال عياض: البر مشترك بين الصلة والصدق واللطف والمبرة وحسن الصحبة والعشرة، وهذه يجمعها حسن الخلق، أي يستلزمها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم في حديث النواس: "البر حسن الخلق". "والشك ما لم يستقر" يثبت ويرسخ "في الصدر" بل تحرك وخطر، ولم يمازج نور القلب ولم يطمئن إليه، "فدع" أترك "ما يريبك إلى ما لا يريبك". "بفتح الياء وضمها فيهما، والفتح أكثر" رواية: وأفصح، أي أترك ما اعترض لك الشك فيه منقلبا إلى ما شك فيه، فإذا شككت في كون الشيء حسنا أو قبيحا أو حلالا أو حراما فاركه، واعدل إلى ما تيقنت حسنه وحله والأمر للندب، لأن اتقاء الشبهات مستحب لا واجب على الأصح، لحديث: "فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه". "وإن أفتاك المفتون"، أي جعلوا لك رخصة، وذلك لأن على قلب المؤمن نورا يتقد، فإذا ورد عليه الحق التقى هو ونور القلب فامتزجا وائتلفا، فاطمأن القلب وهش، وإذا ورد عليه الباطل نفر نور القلب، ولم يمازجه، فاضطرب القلب.
قال القرطبي: وإنما أحاله في الجواب على هذا الإدراك القلبي، لعلمه بجودة فهمه وتنوير قلبه، كما في الحديث الآخر: "العلم حزار القلوب"، أي القلوب المنشرحة للإيمان، المستضيئة بنور العلم، التي قال فيها مالك: العلم نور يضعه الله حيث شاء، وهذا الجواب لا يحسن لغليظ الطبع يعيد الفهم، وإنما يحسن أن يجاب، بأن يفسر له الأوامر والنواهي وأحكام الشرع.
وقال غيره: الكلام في نفوس ماتت منها الشهوات وزالت عنها حجب الظلمات، لا في النفوس المرتكبة في الكدورات المحفوظة بحجب اللذات، فإنها تطمئن إلى الشك والجهل، أو تسكن إليه وتستقر فيها، فليس لأهل التخليط من هذه العلامات شيء لأن الحق لا يثبت إلا في قلوب طاهرة، وكذا الحكمة واليقين، ونحو هذا السؤال سأله وابصة بن معبد، وأخبره صلى الله عليه وسلم بما جاء يسأل عنه.
أيضا أخرج أحمد والدارمي وغيرهما عن وابصة بن معبد أنه جاء يتخطى الناس حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا وابصة تحدثني بما جئت له أو أحدثك"؟، قال: بل أنت يا رسول الله، فهو أحب إليّ، قال: "جئت تسأل عن البر والإثم"، قلت: نعم، قال: "استفت نفسك، البر ما(10/136)
زينب بنت جحش لأنها كانت تعمل بيدها وتتصدق.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعلي: "أتدري من أشقى الآخرين"؟.
__________
سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والأثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتوك".
وأخرج مسلم عن النواس بن سمعان، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس".
وأخرج أحمد برجال ثقات، عن أبي ثعلبة الخشني، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني بما يحل لي وبما يحرم، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم وصوب في البصر، ثم قال: "البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لا تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون".
"ومن ذلك قوله لفاطمة رضي الله عنها في مرضه" الذي توفي فيه، كما في الصحيحين من طريق مسروق عن عائشة، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مرحبا بابنتي". ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أسر إليها حديثا فبكت، ثم أسر إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم أقرب فرحا من حزن، فسألتها عما قال، فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبض، فسألتها، فقالت: أسر إليّ "إن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة، وإنه عارضني الآن مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي، وإنك أول أهلي لحاقا بي". "بفتح اللام والحاء المهملة"، وفي رواية: "لحوقا بي". وبقية الحديث: فبكيت، فقال: "أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين"؟. فضحكت.
وفي الصحيحين أيضا من رواية عروة، عن عائشة عن اطمة: سارني فأخبرني أنه يقبض في وجعه، فبكيت، ثم سارني فأخبرني أني أول أهل بيته أتبعه، فضكحت، واتفقت الروايات على أن بكاءها لإعلامه إياها بموته، وضم مسروق لذلك: كونها أول أهله لحوقا به، واختلف في سبب ضحكها.
ففي رواية مسروق: إخباره أنها سيدة نساء أهل الجنة، وفي رواية عروة كونها أول أهله لحاقا به، ورجح الحافظ رواية مسروق لاشتمالها على زيادة ليست في رواية عروة، وهو من الثقات الضابطين.
وللنسائي من طريق أبي سلمة، عن عائشة في سبب البكاء أنه ميت، وفي سبب الضحك الأمرين، "فعاشت بعده ثمانية أشهر" في قول ضعيف.
"وقيل: ستة أشهر" وهو الصحيح المشهور الذي في البخاري وغيره عن عائشة، ورجحه الواقدي قائلا: وذلك لثلاث خلون من رمضان سنة إحدى عشرة.(10/137)
قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك"، أخرجه أحمد في المناقب. وعند ابن أبي حاتم: "الذي يضربك على هذا" وأشار إلى يافوخه، وعند المحاملي: قال علي: عهد إليّ رسول الله عليه الصلاة والسلام: "لتخضبن هذه من هذه". وأشار إلى لحيته ورأسه. وعند الضحاك: "الذي يضربك على هذه فتبتل منها هذه". وأخذ بلحيته. فضربه عبد الرحمن بن ملجم, وعند الطبراني وأبي نعيم، من حديث جابر مرفوعا: "إنك مؤمر مستخلف، وإنك مقتول، وإن هذه مخضوبة من هذه".
وقال عليه الصلاة والسلام لمعاوية: "أما إنك ستلي أمر أمتي من بعدي، فإذا
__________
"وقوله عليه الصلاة والسلام لنسائه" فيما رواه مسلم والنسائي، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا". قالت: فكنا نتطاول أيتنا أطول يدا، قالت: "فكانت" أطولنا يدا "زينب بنت جحش، لأنها كانت تعمل بيديها" أي تدبغ وتخرز كما في رواية، "وتتصدق" به في سبيل الله.
قال عياض: معنى نتطاول نتقايس، لأنهن حملن الطول على حقيقته، فكانت سودة أطولهن يدا، أي جارحة، فكانت تظن أنها هي حتى انكشف ذلك بموت زينب، فعلم أنه إنما أراد طول اليد بالصدقة، فإنه يعبر به عن الجود والكرم، يقال: فلان طويل اليد والباع، وفي ضده: قصير اليد وجعد الأنامل. ا. هـ. وماتت بالمدينة سنة عشرين، وقيل: إحدى وعشرين.
"ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعلي" بن أبي طالب: "أتدري من أشقى الآخرين"، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: "قاتلك". أخرجه أحمد في المناقب. وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم لعلي: "من أشقى الأولين"؟. قال: عاقر الناقة، قال: "فمن أشقى الآخرين"؟. قال: الله ورسوله أعلم.
"وعند ابن أبي حاتم" قال: "الذي يضربك على هذا" بدل قوله: قاتلك، "وأشار إلى يافوخه"، "بتحتية وفاء وخاء معجمة".
"وعند المحاملي"، "بفتح الميم الأولى وكسر الثانية" نسبة إلى بيع المحامل التي يحمل عليها الناس في السفر، الحافظ أبي عبد الله الحسين بن إسماعيل بن محمد الضبي، البغدادي محدثها، كان فاضلا، دينا، صدوقا، صنف وجمع وكان يحضر مجلسه عشرة آلاف رجل، ولي قضاء الكوفة ستين سنة ثم استعفي، ولد سنة خمس وثلاثين ومائتين، ومات سنة ثلاثين وثلاثمائة.
"قال علي: عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتخضبن هذه من هذه". وأشار إلى لحيته" بقوله: هذه الأولى، "ورأسه" بهذه الثانية، وأنت باعتبار الهامة وإلا فالرأس مذكر، أي يضربه على رأسه(10/138)
كان ذلك فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم". قال معاوية: فما زلت أرجوها حتى قمت مقامي هذا. رواه ابن عساكر.
وأخرج ابن عساكر أيضا عن عروة بن رويم: لن يغلب معاوية أبدا، وإن عليا قال يوم صفين: لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية أبدا.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "يقتل هذا مظلوما", وأشار إلى عثمان رضي الله عنه. خرجه البغوي في المصابيح من الحسان والترمذي وقال: حديث غريب، وخرجه أحمد، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام فاستشهد في الدار
__________
ضربة يسيل بها دمه حتى يبل لحيته، فشبه دمه بالخضاب الصبغ، المعروف لتغييره لونها كما يغير الخضاب، ففيه استعارة.
"وعند الضحاك: "الذي يضربك على هذه" أي رأسه باعتبار الهامة، "فتبتل منها" من دمها "هذه". وأخذ بلحيته" بيان للإشارة، "فضربه" بسيف مسموم في جبهته، فوصلت إلى دماغه "عبد الرحمن بن ملجم"، "بضم الميم وسكون اللام وفتح الجيم"، جزم به النووي وغيره، وحكى بعضهم كسرها، المرادي أحد الخوارج الذين يكفرون مرتكب الكبيرة.
"وعند الطبراني وأبي نعيم من حديث جابر مرفوعا" أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "إنك مؤمر"، "بضم الميم الأولى وفتح الثانية شديدة" أي مولى "مستخلف"، "بفتح اللام" أي مولى الخلافة "عطف بيان على مؤمر" لأن التأمير أعم، "وإنك مقتول، وإن هذه" لحيته "مخضوبة من" دم "هذه" أي رأسه.
"وقال صلى الله عليه وسلم لمعاوية": "أما إنك ستلي أمر أمتي من بعدي، فإذا كان ذلك" أي ولايتك "فاقبل"، "بفتح الموحدة"، "من محسنهم وتجاوز"، "بفتح الواو"، "عن مسيئهم" مخصوص بغير الحدود.
"قال معاوية: فما زلت أرجوها" أي البشارة المذكورة "حتى قمت مقامي هذا", أي استقرت لي الخلافة، "رواه ابن عساكر" بسند ضعيف "وأخرجه ابن عساكر أيضا عن عروة بن رويم"، "بالراء مصغرا" اللخمي، صدوق، يرسل كثيرا، مات سنة خمس وثلاثين ومائة على الصحيح، وهو من صغار التابعين، الذين رأوا الواحد والاثنين من الصحابة، ولم يثبت له سماع من أحد منهم، فحديثه معضل، وهو: "لن يغلب معاوية أبدا، وأن عليا قال يوم صفين"، "بكسر المهملة والفاء الشديدة" موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات، كانت به الوقعة بين علي ومعاوية في غرة صفر سنة سبع وثلاثين، ودامت أياما كثيرة: "لو ذكرت هذا الحديث ما قاتلت معاوية(10/139)
وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] .
وفي الشفاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يقتل عثمان وهو يقرأ في المصحف، وإن الله عسى أن يلبسه قميصا، وإنهم يريدون خلعه وإنه سيقطر دمه على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ". انتهى. وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة فتقع قطرة من دمك على: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} ". لكن قال الذهبي: إنه حديث موضوع.
__________
أبدا،" وهو معضل كما علمت، بل قيل: إنه موضوع، ولوائح الوضع ظاهرة فيه، فإن عليا ما رجع عن رأيه، بل كان عازما على قتاله، ثم شغله عنه قتال الخوارج كما بين في التواريخ.
"ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "يقتل هذا مظلوما". وأشار إلى عثمان رضي الله عنه، خرجه البغوي" محيي السنة المتأخر "في المصابيح" وجعله "من" الأحاديث "الحسان" لأنه قسم المصابيح إلى صحاح، وهو ما أخرجه الشيخان، وإلى حسان، وهو ما رواه أصحاب السنن، وتعقب بأن في السنن الضعيف "و" هذا خرجه "الترمذي وقال: حديث غريب"، فلم يصرح بأنه حسن، "وخرجه أحمد، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام" فإنه بويع بالخلافة بإجماع الصحابة بعد موت عمر في المحرم سنة أربع وعشرن، "فاستشهد في الدار" بعد عصر يوم الجمعة من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، فكانت خلافته دون اثنتي عشرة سنة بأيام، "وبين يديه المصحف، فنضح الدم على هذه الآية" أي سقط عليها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إشارة إلى أنه لم يحصل منه ما يأثم به، بل ينال عظيم الثواب بصبره.
"وفي الشفاء" لعياض: "أنه عليه الصلاة والسلام قال: "يقتل عثمان وهو يقرأ في المصحف، وإن الله عسى", أي أرجو منه، والرجاء منه واقع "أن يلبسه قميصا" يعني الخلافة، استعار لها اسم القميص استعارة تحقيقية، ورشحها بقوله: "وإنهم يريدون خلعه", أي عزله من الخلافة، وهم مائتان من أهل الكوفة، ومائتان وخمسون من أهل البصرة، وستمائة من أهل مصر، طلبوا ذلك منه لأمور يطول شرحها، مفصلة في التواريخ، فامتنع لما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال له: "لعل الله يقمصك قميصا، فإن راودوك على خلعه، فلا تخلعه حتى يخلعوه". "وإنه سيقطر دمه على قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي يأخذ ثأرك ممن قتلك. "انتهى".
"وقد أخرجه الحاكم عن ابن عباس بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا عثمان تقتل(10/140)
وقد روى مسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله عليه الصلاة والسلام أشرف على أطم من آطام المدينة ثم قال: "هل ترون ما أرى، إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر" فكانت فتنة قتل عثمان وتتابعت الفتن إلى فتنة الحرة وكانت لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها وقائع كثيرة موجودة في كتب التواريخ.
وأخرج البيهقي عن الحسن قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلي، حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد. وأخرج أيضا عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن، منهم ثلاثمائة من الصحابة، وذلك في خلافة يزيد. وأخرج أيضا عن مغيرة قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة المدينة ثلاثة أيام وافتض بها ألف
__________
وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على" قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الظاهر منه أن دمه قطر على رسم هذه الآية في المصحف الذي كان يقرأ فيه، واستبعد احتمال أنه أريق دمه عند آخر تلاوة الآية، "لكن قال الذهبي: إنه حديث موضوع" وأقره السيوطي، كما أقره المصنف.
"وقد روى مسلم" في الفتن، والبخاري في أواخر الحج، وفي المظالم وفي علامات النبوة، وفي الفتن فما هذا الإيهام من المصنف؟ كلاهما من طريق ابن شهاب عن عروة "عن أسامة بن زيد" رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف" نظر من مكان مرتفع "على أطم"، "بضم الهمزة والطاء"، "من آطام"، "بفتح الهمزة والطاء والمد"، "المدينة" أي حصن من حصونها، "ثم قال" لأصحابه: "هل ترون ما أرى؟ إني لأرى" ببصري "مواقع" أي مواضع سقوط "الفتن خلال بيوتكم" أي نواحيها بأن تكون الفتن مثلت له حتى رآها، كما مثلت له الجنة والنار في القبلة حتى رآهما وهو يصلي، أو تكون الرؤية بمعنى العلم، "كمواقع القطر" شبه سقوط الفتن وكثرتها بالمدينة، بسقوط القطر في الكثرة والعموم، "فكانت فتنة قتل عثمان" التي هي المبدأ، "وتتابعت الفتن" بعده، كالجمل وصفين والنهروان وقتل الحسين "إلى فتنة الحرة"، "بفتح الحاء المهملة والراء الثقيلة" أرض ذات حجارة سود، كأنها أحرقت بالنار بظاهر المدينة، "وكانت" بها الوقعة "لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين من الهجرة، وجرت فيها وقائع كثيرة موجودة في كتب التاريخ" لا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
"وأخرج البيهقي عن الحسن"، "بفتحتين" البصري، لأنه المراد عند الإطلاق عند أهل الحديث، ونسخة: الحسين بالتصغير خطأ، لأن الحسين بن علي قتل يوم عاشوراء سنة إحدى(10/141)
عذراء.
وقال عليه الصلاة والسلام لأبي موسى وهو على قف بئر أريس، لما طرق عثمان الباب: "ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه" إشارة إلى ما يقع من استشهاده يوم الدار، بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر قال ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام فتنة، فمر رجل فقال: "يقتل فيها هذا يومئذ ظلما". قال: فنظرت فإذا هو عثمان. وإسناده صحيح.
__________
وستين قبل وقعة الحرة بسنتين، فأخطأ من زعم أنها الصواب، لأن الحسن لم يدرك زمن الحرة، فيقال له، وكذلك أخوه الحسين، وسبب الوهم ظنه أن المراد بالحسن المكبر السبط، وهو خطأ، فإنما المراد البصيري، "قال: لما كان يوم الحرة قتل أهلي حتى لا يكاد ينفلت منهم أحد".
"وأخرج" البيهقي "أيضا" عن أنس بن مالك قال: قتل يوم الحرة سبعمائة رجل من حملة القرآن" أي حفظته، "منهم ثلاثمائة من الصحابة".
وفي البخاري عن سعيد بن المسيب أن هذه الوقعة لم تبق من أصحاب الحديبية أحدًا، "وذلك في خلافة يزيد" أي زمن ملكه قبحه الله وعامله بعدله، وسبب ذلك أن أهل المدينة لما ظهر فسق يزيد، خلعوه، وأخرجوا عامله عثمان بن محمد بن أبي سفيان من بينهم، فبعث إليهم عسكرا، عدته سبعة وعشرون ألف فارس وخمسة عشر ألف راجل.
"وأخرج أيضا عن مغيرة، قال: انتهب أبو مسلم بن عقبة" أمير جيش يزيد "المدينة" أي أباح الجيش نهبها والقتل فيها "ثلاثة أيام، وافتض"، "بالقاف، أو الفاء مبني للمجهول"، "بها ألف عذراء" قيل: وحملت في تلك الأيام ألف امرأة من غير زوج، وبلغت القتلى من الموالي والنساء والعبيد والصبيان عشرة آلاف، ثم بعد الثلاثة أيام أخذ عليهم البيعة ليزيد على أنهم عبيده، إن شاء أعتق وإن شاء قتل، ثم سار بالجيش إلى مكة لقتال ابن الزبير، فمات بقديد، واستخلف على الجيش حصين بن نمير بعهد يزيد إليه بذلك، فنزل مكة وحاصرها، ورمى الكعبة بالمنجنيق، فجاء الخبر بموت يزيد، فرحل بالجي إلى الشام.
"وقال عليه الصلاة والسلام" في حديث "لأبي موسى" الأشعري، "وهو" أي النبي صلى الله عليه وسلم "على قف"، "بضم القاف وشد الفاء" دكة حول "بئر أريس": بفتح الهمزة وكسر الراء وسكون التحتية فسين مهلمة" بستان بالقرب من قباء، يجوز فيه الصرف وعدمه، وأصل القف ما غلظ من الأرض وارتفع، والجمع قفاف كما في الفتح.
وقال المصنف: القف حافة البئر أو الدكة التي حولها "لما طرق عثمان الباب" أي باب(10/142)
وأخبر عليه الصلاة والسلام بوقعة الجمل وصفين وقتال عائشة والزبير عليا، كما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي عن أم سلمة قال: ذكر رسول الله عليه الصلاة والسلام خروج بعض أمهات المؤمنين، فضحكت عائشة فقال: "انظري يا حميرا أن لا تكوني أنت". ثم التفت إلى عليٍّ فقال له: "إن وليت من أمرها شيئا
__________
الحديقة، قال أبو موسى: وبابها من جريد، فجلست عنده، فجاء إنسان يحرك الباب، فقلت: من هذا؟ قال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "ائذن له وبشره بالجنة على"، قيل: بمعنى مع، والأقرب أنها بمعنى اللام "بلوى تصيبه"،" فجئته، فقلت له: ادخل وبشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم على بلوى تصيبك، فحمد الله، ثم قال: الله المستعان، فدخل، وذلك "إشارة إلى ما يقع من استشهاده يوم الدار" وأذى المحاصرة قبل القتل مدة، ومنع الماء عنه فيها.
وروي عند البيهقي: أن عثمان قال: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك، فأي بلاء يصيبني، قال: "هو ذاك". "بل أصرح من ذلك كله ما رواه أحمد عن ابن عمر" بن الخطاب، "قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة", أي أخبر بوقوعها، "فمر رجل، فقال: "يقتل فيها هذا يومئذ ظلما". قال ابن عمر: "فنظرت" تأملت الرجل الذي أشار إليه حين مر، "فإذ هو عثمان" بن عفان، "وإسناده صحيح" فصرح بأن المراد بالبلوى القتل.
وفي الطبراني الكبير ن زيد بن ثابت، مرفوعا: "مر بي عثمان وعندي جيل من الملائكة، فقالوا: شهيد من الآدميين يقتله قومه، إنا نستحيي منه".
"وأخبر عليه الصلاة والسلام بوقعة الجمل" يوم الخميس عاشر جمادى الأولى، وقيل: خامس عشرة سنة ست وثلاثين، أضيفت إلى الجمل الذي ركبته عائشة في مسيرها، واسمه عسكر، اشتراه لها يعلى بن أمية الصحابي بمائتي درهم على الصحيح، وقيل: بأربعمائة، وكانت حاجة بمكة، فبلغها قتل عثمان، فحضت الناس على طلب دمه، وكان أهل العقد والحل قد بايعوا عليا بالخلافة، منهم: طلحة والزبير، واستأذناه في العمرة، فخرجا إلى مكة، فلقيا عائشة، فاتفقا معها على طلب دمه حتى يقتلوا قتلته، فخرجوا في ثلاثة آلاف رجل، ألف من مكة والمدينة، ولما بلغ ذلك عليا بالمدينة، خرج إليهم خوف الفتنة في تسعمائة راكب، وبعث ابنه الحسن وعمار بن ياسر إلى الكوفة، فصعدا المنبر، فكان الحسن في أعلاه، وعمار أسفل منه، فقال عمار كما عند البخاري: إن عائشة قد سارت إلى البصرة، ووالله إنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم إياه تطيعون أم هي.(10/143)
فارفق بها".
__________
وعند الإسماعيلي صعد عمار المنبر، فحرض الناس في الخروج إلى قتال عائشة، وفي رواية: فقال الحسن: إن عليا يقول: إني أذكر الله رجلا رعى الله حقا إلا نفر، فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت ظالما أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني، ثم نكثا، ولم استأثر بمال ولا بدلت حكما، فخرج إليه اثنا عشر ألف رجل، ومراد عمار بما قال: إن الصواب مع علي، وإن عائشة مع ذلك لم تخرج عن كونها زوج النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وذلك من إنصاف عمار وشدة ورعه وصدق لهجته وتحريه قول الحق، فلم تستخفه الخصومة إلى تنقيص خصمه، بل شهد لعائشة بمزيد الفضل مع ما بينهما من الحرب، لصدور ذلك منها عن اجتهاد.
"و" أخبر بوقعة "صفين" كسجين: موضع قرب الرقة بشاطئ الفرات كانت به الوقعة العظمى بين علي ومعاوية غرة صفر سنة سبع وثلاثين، فمن ثم احترز الناس السفر في صفر، وذلك أن عليا بايعه أهل الحل والعقد بعد قتل عثمان، وامتنع معاوية في أهل الشام، فكتب إليه علي مع جرير البجلي بالدخول في الطاعة فأبى.
وذكر يحيى بن سليمان الجعفي، أحد شيوخ البخاري في تأليفه في صفين بسند جيد، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية: أأنت تنازع عليا في الخلافة، أو أنت مثله؟ قال: لا وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما وأنا ابن عمه ووليه أطلب بدمه، فائتوا عليا، فقولوا له: يدفع لنا قتلة عثمان، فأتوه فكلموه، فقال: يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي، فامتنع معاوية، فخرج إليه علي في أهل العراق في سبعين ألفا، فيهم تسعون بدريا وسبعمائة من أهل بيعة الرضوان، وأربعمائة من سائر المهاجرين والأنصار، وخرج معاوية في أهل الشام في ثمانين ألفا وخمسة آلاف، ليس فيهم من الأنصار إلا النعمان بن بشير ومسلمة بن مخلد، فالتقى الجمعان بصفين، فتراسلوا، فلم يتم لهم أمر، فوقع القتال، ودامت الحرب مائة يوم وعشرة أيام، فقتل من أهل الشام سبعون ألفا ومن العراق عشرون ألفا، وقيل: من الشام خمسة وأربعون ألفا، ومن العراق خمسة وعشرون ألفا، وآل الأمر في معاوية ومن معه إلى طلب التحكيم، ثم رجع عليّ إلى العراق، فخرجت عليه الحرورية، فقتلهم بالنهروان، ومات بعد ذلك رضي الله عنه، وظهر بقتل عمار مع علي أنه المصيب.
وقد روى ابن عساكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي ستقتلك الفئة الباغية وأنت على الحق، فمن لم ينصرك، يومئذ فليس مني". "وأخبر بقتال عائشة والزبير عليا" في وقعة الجمل ولم يكن معهم معاوية.
"كما أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي عن أم سلمة" هند بنت أبي أمية أم المؤمنين، "قالت: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين" على الخليفة، "فضحكت عائشة"(10/144)
وعن ابن عباس مرفوعا: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب، ويقتل حولها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت". رواه البزار وأبو نعيم.
وأخرج الحاكم وصحح البيهقي عن أبي الأسود قال: شهدت الزبير خرج يريد عليا فقال له علي: أنشدك الله، هل سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول:
__________
تعجبا من خروج المرأة على الخليفة، فقال: "انظري يا حميراء"، "تصغير حمراء للتحبب"، وهي البيضاء المشرب بياضها بالحمرة، وهو أحسن الألوان، فهذا حديث صحيح، فيه حميراء، فيرد على زاعم أن كل حديث فيه ذلك موضوع، "أن لا تكوني أنت". "ثم التفت" صلى الله عليه وسلم "إلى علي" رضي الله عنه، "فقال": "إن وليت من أمرها شيئا فارفق بها". فامتثل الأمر، فإنه لما عقر الجمل وانهزموا، حمل أخوها محمد وعبد الرحمن بن أبزى هودجها، فوضعاه بين يدي علي، فأمر بها، فأدخلت بيتا كما عند أبي شيبة بإسناد جيد.
وفي رواية: أن عليا أمر بحمل الهودج من بين القتلى، فاحتمله أخوها محمد وعمار بن ياسر، وجهز علي عائشة وأخرج أخاها محمدا معها، وشيعها علي بنفسه أميالا، وسرح بنيه معها يوما.
"وعن ابن عباس رضي الله عنهما، مرفوعا" اختصارا لقوله أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه: "أيتكن صاحبة الجمل الأدبب"، "بهمزة مفتوحة ودال مهملة ساكنة فموحدتين" كما ضبطه المصنف في شرح البخاري.
وفي القاموس: الأدب الجمل الكثير الشعر، وبإظهار التضعيف جاء في الحديث صاحبة الجمل الأدبب. ا. هـ. وفك إدغامه لمشاكلة الحوأب، ونسخة الأحمر من تصحيف الجهال "تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب" بحاء مهملة مفتوحة فواو ساكنة فمزة مفتوحة فموحدة" وبعضهم يقول "بضم الحاء وشد الواو" والمشهور الأول اسم ماء أو قرية فيها ماء بطريق البصرة قيل: سمي باسم حوأب بنت كلب بن وبرة لنزولها به، فكان كما قال: فلما وصلت عائشة إلى حوأب وأناخوا جملها نبحتها الكلاب، فسألت عن اسمه، فقيل: الحوأب، فقالت: ردوني وأخبرت بالحديث، فقال لها الزبير: يا أم المؤمنين أصلحي بين الناس، فسارت وكان ما كان، وقيل: حلف لها بعض من معها أنه ليس بالحوأب، وليس توجهها للصلح بين علي والزبير، كما زعم، إنما هو للطلب بدم عثمان كما مر، "ويقتل حولها" لفظ رواية البزار: يقتل عن يمينها وعن شمالها "قتلى كثيرة" ثمانية آلاف، وقيل: سبعة عشر ألفا. ومن أصحاب علي نحو ألف، وقيل: من أصحابه خمسة آلاف ومن أصحابها عشرة، وقيل: من كل فريق خمسة(10/145)
"تقاتله وأنت له ظالم"، فمضى الزبير منصرفا. وفي رواية أبي يعلى والبيهقي فقال الزبير: بلى ولكن نسيت.
ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن بن علي: "إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". رواه البخاري، فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، لأنه لما قتل علي بن أبي طالب بايع الحسن أكثر
__________
آلاف "تنجو" تسلم، هي "بعدما كادت" قاربت عدم النجاة، "رواه البزار وأبو نعيم" وصريحه كسابقه أن المراد عائشة، وأن الجواب الماء القريب من البصرة، وقيل: المراد بالحوأب مخلاف بالطائف قتلت به سلمى مولاة عائشة، وكانت مع نسائه لما حدثهن بذلك، وهذا لا يصح، لأنه صرح بأنها تنجو، وتلك قتلت، وبأنها صاحبة جمل، ويقتل حولها قتلى كثيرة، ولم يكن لسلمى شيء من ذلك.
"وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي الأسود" الديلي "بكسر المهملة وسكون التحتية" ويقال: الدؤلي "بالضم بعدها همزة مفتوحة" البصرى، اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان ويقال: عمرو بن ظالم، ويقال: بالتصغير فيهما، ثقة، من رجال الجميع، فاضل، مخضرم، مات سنة تسع وستين.
"قال: شهدت الزبير" بن العوام "خرج" من الصف يوم الجمل "يريد عليا" لما نادى علي وهو على بغلة النبي صلى الله عليه وسلم ادعوا لي الزبير، فدعي له، فأقبل، "فقال له علي: أنشدك الله هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول" لما مر بنا ونحن في مكان كذا وكذا وكل منا يضحك لصاحبه، فقال: "يا زبير تحب عليا"؟. فقلت: ألا أحب ابن خالي وأنا ابن عمته وعلى ديني، فقال: "تقاتله"، وعند أبي يلى: "أما والله لا تقاتلنه". "وأنت له ظالم" لأنه لم يفعل ما يوجب قتاله، "فمضى الزبير منصرفا" تاركا للقتال.
"وفي رواية أبي يعلى والبيهقي، فقال الزير: بلى ولكن نسيت", وفي رواية قال: نعم، ولم أذكر ذلك إلا الآن، فانصرف، وفي رواية: أن سبب رجوعه أنه قال لأصحاب علي: أفيكم عمار بن ياسر، قالوا: نعم، فأغمد سيفه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار: "تقتلك الفئة الباغية". ولا مانع أنه قال ذلك، ثم ذكره الحديث زيادة في إعلامه، ثم سار على فرسه فقتله عمرو بن جرموز بوادي السباع غيلة وهو نائم وجاء إلى علي متقربا بذلك، فبشره بالنار، فأخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، وصححه الحاكم من طرق، بعضها مرفوع كما في الفتح، وقد كانت الحرب من ارتفاع الشمس إلى العصر، فلما غلب علي نادى مناديه: لا تتبعوا مدبرا، ولا تجهزوا جريحا، ولا تدخلوا دار أحد، ثم دخل البصرة وجمع الناس وبايعهم، ورجع إلى الكوفة واستعمل(10/146)
من أربعين ألفا، فبقي سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية وسار معاوية إليه، فلما تراءى الجمعان بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار من أرض السواد، فعلم أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى، فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه، فأجابه معاوية إلا عشرة، فلم يزل يراجعه حتى بعث إليه برق أبيض وقال: اكتب ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك، فكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيصلح
__________
ابن عباس على البصرة.
"ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحسن بن علي" خاتم خلافة النبوة، قال أبو بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى، وفي رواية: ينظر إلى الناس مرة وإليه مرة، ويقول: "إن ابني هذا سيد" أي شريف رئيس مسود في قومه لشرف نسبه وذاته وفضله على غيره من جهات، وكفاه فضلا وشرفا قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فيه سيد "وسيصلح الله" , كذا في نسخ، والذي في البخاري في الأربعة مواضع: "ولعل الله أن يصلح". "به" أي بسببه، نعم وقع مثل ما هنا في الشفاء، لكنه لم يعزه للبخاري، فلا تعقب عليه بخلاف المصنف "بين فئتين" تثنية فئة، أي فرقتين، وقوله: "عظيمتين" كبيرتين، ثبت عند البخاري في الصلح دون باقي المواضع "من المسلمين" يعني من كان معه ومن كان مع معاوية، وفيه أنه لم يخرج أحد من الطائفتين في تلك الفتنة بقول أو عمل عن الإسلام، إذ إحداهما مصيبة، والأخرى مخطئة، وكل مأجور، واستعمل لعل استعمال عسى لاشتراكهما في الرجاء، والأشهر في خبر لعل أن لا يقترن بأن، كقوله تعالى: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ} [الطلاق: 1] وفيه أن السيادة إنما يستحقها من ينتفع به الناس، لأنه علق السيادة بالإصلاح "رواه البخاري" في الصلح، وعلامات النبوة، والمناقب والفتن، وفيه علم من أعلام النبوة ظاهر، فإنه أخبر عن غيب "فكان كما قال عليه الصلاة والسلام، لأنه لما قتل علي بن أبي طالب" كرم الله وجهه، "بايع الحسن أكثر من أربعين ألفا" على الموت، وكانوا أطوع وأحب له من أبيه، كما في الاستيعاب وغيره، "فبقي سبعة أشهر خليفة بالعراق وما وراء النهر من خراسان، ثم سار إلى معاوية، وسار معاوية إليه، فلما تراءى الجمعان" نظر بعضهم إلى بعض "بموضع يقال له بستكين بناحية الأنبار"، "بفتح الهمزة وإسكان النون وموحدة" بلد على الفرت "من أرض السواد"، "بالفتح والتخفيف"، أي سواد العراق، "فعلم" الحسن أن لن تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب" يهلك "أكثر الأخرى" فدعاه ورعه وشفقته على خلق الله تعالى(10/147)
به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
وأخرج الدولابي أن الحسن قال: كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ويحاربون من حاربت، فتركتها ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين.
ومن ذلك: إعلامه عليه الصلاة والسلام بقتل الحسين بالطف، وأخرج بيده تربته وقال: فيها مضجعه، رواه البغوي في معجمه من حديث أنس بن مالك بلفظ: استأذن ملك القطر ربه أن يزور النبي عليه الصلاة والسلام فأذن له وكان في يوم
__________
إلى ترك الملك والنزول عنه، "فكتب إلى معاوية يخبره أنه يصير الأمر إليه على أن يشترط عليه أن لا يطالب أحدًا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه" علي، "فأجابه معاوية" وقد طار فرحا إلى ما طلب، لكنه قال: "إلا عشرة" فأطالبهم بما كان، منهم: قيس بن سعد، "فلم يزل يراجعه" الحسن وقال: لا أصالحك وأنت تطلب أحدًا منهم، لا قيس ولا غيره "حتى بعث إليه" معاوية "برق"، "بكسر الراء وفتحها" جلد رقيق يكتب فيه "أبيض، وقال: اكتب ما شئت فأنا ألتزمه، واصطلحا على ذلك" وعلى أن الأمر للحسن بعد معاوية، وساء ذلك أكثر الناس حتى كانوا يقولون للحسن: يا ذل المسلمين وعار المؤمنين، فيقول: العار خير من النار، "فكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله سيصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين".
"وأخرج الدولابي"، "بضم الدال وفتحها"، "أن الحسن" بن علي رضي الله عنهما "قال: كانت جماجم العرب" ساداتهم وقبائلهم التي تنسب إليها البطون "بيدي يسالمون من سالمت، ويحاربون من حاربت، فتركتها" أي الخلافة، وكان أحق الناس بها، كما قاله غير واحد "ابتغاء وجه الله تعالى وحقن دماء المسلمين" لا لقلة ولا لذلة ولا لعلة.
وفي البخاري عن الحسن البصري: استقبل والله الحسن بن على معاوية بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاصي: إني لأرى كتائب لا تولي حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: وكان والله خير الرجلين: أي عمرو إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس، من لي بنسائهم، من لي بضيعتهم، فبعث إليه رجلين من قريش من بني شمس، عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه، أي الصلح، وقولا له واطلبا إليه، فأتياه فدخلا عليه، فذكرا له ذلك، فقال لهما: إنا بنو عبد المطلب قد أصبنا من هذا المال، وإن هذه الأمة قد عائت في دمائها، قالا: فإنه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا، قالا: نحن.(10/148)
أم سلمة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "يا أم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد". فبينما هي على الباب إذ دخل الحسين واقتحم فدخل على رسول الله عليه الصلاة والسلام فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يلثمه ويقبله، فقال له الملك، أتحبه؟ قال: "نعم"، قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه فجاء بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة فجعلته في ثوبها. قال ثابت: كنا نقول: إنها كربلاء. وخرجه أبو حاتم في صحيحه ورواه
__________
وفي الكامل لابن الأثير: أن معاوية أرسل رسوليه المذكورين قبل وصول كتاب الحسن إليه ومعهما صحيفة بيضاء، مختوم على أسفلها، وكتب إليه معاوية أن اكتب إليّ في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها بما شئت فهو لك، وذكر ابن سعد عن عمر بن دينار، أن معاوية كان يعلم أن الحسن أكره الناس للفتنة، فراسله وأصلح الذي بينهما، وأعطاه عهدا إن حدث به حدث والحسن حي، ليجعلن هذا الأمر إليه، وعن عبد الله بن جعفر: قال لي الحسن إني رأيت رأيا أحب أن تتابعني عليه، قلت: ما هو؟ قال: رأيت أن أعمد إلى المدينة فأنزلها وأخلي الأمر لمعاوية، فقد طالت الفتنة وسفكت الدماء وقطعت السبل، فقلت: جزاك الله خيرا عن أمة محمد، فبعث إلى حسين، فقال: أعيذك، فلم يزل به حتى رضي، ثم سار الحسن إلى المدينة، وعاش بعد ذلك عشر سنين، ومات مسموما في حياة معاوية.
"ومن ذلك إعلامه عليه الصلاة والسلام بقتل الحسين بالطف" بفتح الظاء المهملة وشد الفاء، موضع بناحية الكوفة على شاطئ نهر الفرات، "وأخرج بيده تربته" أي الطف، "وقال: فيها مضجعه"، "بفتح الجيم وتكسر"، والأول أقيس وأفصح، والتعبير به إيماء إلى أنه حي شهيد، لأن أصله محل يضطجع فيه النائم، "رواه البغوي" الكبير، الحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد "في معجمه" في الصحابة "من حديث أنس بن مالك، بلفظ: استأذن ملك القطر" هو إسرافيل الموكل به وبالنبات، كما عند البيهقي وغيره عن عبد الرحمن بن سابط، وعند أحمد وابن سعد عن عائشة رفعاه: "أخبرني جبريل أن حسينا يقتل بشاطئ الفرات". لفظ علي ولفظ عائشة: "أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، وجاءني بهذه التربة وأخبرني أن فيها مضجعه". والجمع بينهما أنهما معا أخبراه بذلك في وقتين. "ربه" تبارك وتعالى "أن يزور النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له وكان في يوم أم سلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أم سلمة احفظي علينا الباب، لا يدخل علينا أحد". فبينا هي على الباب" تحفظه، "إذ دخل الحسين واقتحم" دخل بسرعة، "فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلثمه"، "بكسر المثلثة وتفتح"، "ويقبله"، "بموحدة عطف تفسير"، "فقال له الملك: أتحبه، قال: "نعم"، قال: إن أمتك(10/149)
أحمد بنحوه.
والسهلة بالكسر الرمل الخشن ليس بالدقاق الناعم.
وفي رواية الملاء، قالت: ثم ناولني كفا من تراب أحمر، وقال: "إن هذا من تربة الأرض التي يقتل فيها فمتى صار دما فاعلمي أنه قد قتل". قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة عندي وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث.
فاستشهد الحسين كما قال عليه الصلاة والسلام بكربلاء من أرض العراق، بناحية الكوفة، ويعرف الموضع بالطف، وقتله سنان بن أنس النخعي وقيل: غيره، ولما قتلوه بعثوا برأسه إلى يزيد، فنزلوا أول مرحلة فجعلوا يشربون بالرأس، فبينما
__________
ستقتله" بغيا وعدوانا، "وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل به، فأراه" إياه، "فجاء بسهلة"، "بكسر فسكون"، "أو تراب أحمر،" شك الرواي، "فأخذته أم سلمة، فجعلته في ثوبها" أي: ثم وضعته في القارورة، كما في الرواية الآتية، "قال ثابت" البناني راويه عن أنس: "كنا نقول إنها" أي الأرض المعبر عنها بالمكان "كربلاء" وجاء في رواية: شم صلى الله عليه وسلم التراب، وقال: "ريح كربلاء".
"وخرجه أبو حاتم" محمد بن حبان الحافظ "في صحيحه، ورواه أحمد بنحوه, والسهلة "بالكسر" للسين المهملة, كما في الصحاح والقاموس، وقول بعض: المعجمة سبق قلم وإسكان الهاء "الرمل الخشن ليس بالدقاق" بضم الدال "الناعم".
"وفي رواية الملاء"، "بفتح الميم واللام الشديدة" عمر الموصلي، لأنه كان يملأ بجامع المسجد بالموصل احتسابا "قالت" أم سلمة: "ثم ناولني"، "كفا من تراب أحمر، وقال: "إن هذا من تربة الأرض التي يقتل فيها" الحسين، "فمتى صار دما، فاعلمي أنه قد قتل" فيه معجزة أخرى هي الإخبار بأن أم سلمة تعيش بعد قتل الحسين، "قالت أم سلمة: فوضعته في قارورة عندي، وكنت أقول: إن يوما يتحول فيه دما ليوم عظيم. الحديث" وتفصيل قصته يحرق الأكباد ويذيب الأجساد، وقد أفردها خلائق بالتأليف، واختصارها أنه لما مات معاوية تولى ابنه يزيد أبى الحسين أن يبايعه، وكتب إليه رجال من الكوفة: هلم إلينا نبايعك، فأنت أحق من يزيد، فنهاه جمع, منهم: ابن عمر عن الخروج إلى الكوفة، لأنهم لو صدقوا لأخرجوا عامل يزيد من بينهم، فأبى إلا الخروج، فقالوا لا تخرج بأهلك، فأبى إلا أن يصحبهم معه، فخرج من مكة إلى العراق، فأخرج إليه عبيد الله بن زياد عامل الكوفة جيشا، فالتقيا بكربلاء، وقتل(10/150)
هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد فكتبت سطرا بدم:
أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب
فهربوا وتركوا الرأس. خرجه منصور بن عمار.
وذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية أنها قالت: لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دما فأصبحنا وحبابنا وجرارنا مملوءة دما, وكذا روي في أحاديث غير هذه.
__________
الحسين من عسكر ابن زياد قتلى كثيرة حتى قتل، وخذله الذين بعثوا إليه، "فاستشهد الحسين، كما قال عليه الصلاة والسلام بكربلاء من أرض العراق بناحية الكوفة، ويعرف الموضع أيضا بالطف" إشارة إلى الجمع بين الروايتين، وقال غيره: كربلاء قريب من الطف، "وقتله" أي باشر قتله "سنان" "بكسر السين المهملة ونونين" "ابن أنس النخعي، وقيل: غيره" يعني شمر بن ذي الجوشن الضبابي.
وعند البيهقي: كسفت الشمس عن قتله كسفة أبدت الكواكب نصف النهار، وفي رواية: واستمرت ثلاثة أيام وسمعت الجن تنوح عليه، "ولما قتلوه بعثوا برأسه" أولا إلى ابن زياد، فجعل في طست، فجعل ينكت كما في البخاري، أي يضرب بقضيب في أنفه وعينيه، ثم بعث به "إلى يزيد" بن معاوية مع نساء الحسين مكشفات الوجوه كالأسرى، "فنزلوا أول مرحلة، فجعلوا يشربون بالرأس" أي جعلوه ظرفا للخمر، "فبينما هم كذلك إذ خرجت عليهم من الحائط يد معها قلم من حديد، فكتبت سطرا بدم":
"أترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب"
"فهربوا وتركوا الرأس، خرجه منصور بن عمار" زاد غيره: ثم عادوا وأخذوه، أو أخذه غيرهم، وقدم به على يزيد بدمشق، فطيف به فيه وبين يديه رجل يقرأ سورة الكهف، حتى بلغ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا} ، فأنطق الله الرأس بلسان ذرب، فقال: حالي أعجب من أصحاب الكهف قتلي وحملي.
أخرجه ابن عساكر عن منهال بن عمر، وثم طيف به في البلاد إلى أن انتهى إلى عسقلان، فدفنه أميرها بها، فلما غلب الفرنج على عسقلان، استنقذ الرأس منهم الصالح طلائع رزيك وزير الفاطميين بمال جزيل، وبني عليه المشهد بالقاهرة، كما أشار لذلك القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح، ونقله عنه الحافظ ابن حجر وأقره، لكن نازع في ذلك بعضهم بأن الحافظ أبا العلاء الهمداني ذكر أن ابن معاوية أرسل الرأس إلى المدينة، فكفنه عامله بها عمرو بن سعيد بن(10/151)
وقال عليه الصلاة والسلام لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" , رواه البخاري ومسلم فكان كما قال عليه الصلاة والسلام.
ومن ذلك: ما رواه أبو عمر بن عبد البر أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبي عليه الصلاة والسلام فلم يعرفه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: "أرأيته"؟.
__________
العاصي، ودفنه عند قبر أمه بالبقيع، قال: وهذا أصح ما قيل، وكذا قال الزبير بن بكار، ورجحه القرطبي، بأن الزبير أعلم أهل النسب، قال: وما ذكر أنه بمشهد في عسقلان أو القاهرة فباطل لا يصح، وقيل: أعيد إلى جثته، ودفن بكربلاء بعد أربعين يوما من مقتله.
وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال: أوحى الله إلى محمد إني قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وإني قاتل بابن ابنتك سبعين ألفا وسبعين ألفا، قال الحاكم: صحيح. قال الذهبي: على شرط مسلم، قال الحافظ: ورد من طريق واه عن علي مرفوعا: "قاتل الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا".
"وذكر أبو نعيم الحافظ" أحمد بن عبد الله الأصبهاني "في كتاب دلائل النبوة عن نضرة الأزدية، أنها قالت: لما قتل الحسين بن علي أمطرت السماء دما، فأصبحنا وحبابنا"، "بكسر الحاء المهملة وموحدتين جمع حب وهو الخابية"، "وجرارنا"، "بكسر الجيم جمع جرة بفتحها"، "مملوءة دما، وكذا روي في أحاديث غير هذه، أي آثار، وفي ذلك عبرة لمن اعتبر.
"وقال عليه الصلاة والسلام لعمار" بن ياسر: "تقتلك الفئة الباغية" الخارجة على الإمام الواجب الطاعة، وهي معاوية ومن معه، "رواه البخاري ومسلم،" واللفظ له من حديث أم سلمة، أما البخاري، فرواه من حديث أبي سعيد، قال: كنا نحمل لبنة لبنة.
وفي لفظ عنده: كنا ننقل لبن المجد لبنة لبنة، وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم، فينفض التراب عنه ويقول: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"، قال عمار: أعوذ بالله من الفتن، وفي لفظ عنده: "يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار" , أي إلى طاعة الله، لأن طاعة الإمام من طاعة الله، ومن رواة البخاري من قال: "ويح عمار يدعوهم" ... إلخ، وأسقط ما بينهما.
وفي مسلم عن أبي سعيد: أخبرني من هو خير مني أبو قتادة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمار حين يحفر الخندق، وجعل يمسح رأسه ويقول: "بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية"، "بضم الموحدة" في بؤس، وهو المكروه، أي ما أعظمه وأشده، وفي لفظ له: "ويس -أو يا ويس-(10/152)
قال: نعم، قال: "ذاك جبريل، أما أنك ستفقد بصرك"، فعمي في آخر عمره.
__________
ابن سمية، وويس: "بفتح الواو وإسكان التحتية ومهملة" كلمة ترحم كويح، "فكان كما قال عليه الصلاة والسلام" فقتل مع علي بصفين، ودفن بها سنة سبع وثلاثين عن ثلاث أو أربع وتسعين سنة.
وأخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن، عن أبي سنان الدؤلي الصحابي، قال: رأيت عمار بن ياسر دعا غلاما له بشراب، فأتاه بقدح لبن، فشرب منه ثم قال: صدق الله ورسوله، اليوم ألقى الأحبة محمدا وحزبه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن آخر شيء تزوده من الدنيا صبحة لبن"، ثم قال: والله لو هزمونا حتى بلغوا سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، واستشكل بأن معاوية كان معه جماعة من الصحابة، فكيف يجوز عليهم الدعاء إلى النار، أي إلى سببها.
وأجيب بأنهم ظنوا أنهم يدعونه إلى الجنة وهم مجتهدون لا لوم عليهم، وإن كان في نفس الأمر بخلاف ذلك، لأن الإمام الواجب الطاعة إذ ذاك هو علي الذي كان عمار يدعوهم إليه، كما أرشد لذلك بقوله: "يدعوهم إلى الجنة"، أي إلى سببها، وبجعله قتلة عمار بغاة، وهذا الحديث متواتر.
قال القرطبي: ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال: إنما قتله من أخرجه، فأجابه علي بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قتل حمزة حين أخرجه.
قال ابن دحية: وهذا من الإلزام المفحم الذي لا جواب عنه، وحجة لا اعتراض عليها.
قال القرطبي: فرجع معاوية وتأله على الطلب، وقال: نحن الفئة الباغية، أي الطالبة لدم عثمان، من البغاء "بضم الباء والمد"، وهو الطالب، قال الأبي: البغي عرفا الخروج عن طاعة الإمام مغالبة له، ولا يخفى بعد التأويلين أو خطأهما، والأول واضح، وكذا الثاني لأن ترك علي القصاص من قتلة عثمان، الذين قاموا بطلبه ورأوه مستند اجتهادهم، ليس لأنه تركه جملة واحدة، وإنما تركه لما تقدم، أي حتى يدخلوا في الطاعة، ثم يدعو على من قتل، قال: وأيضا عدم القصاص منكر قاموا لتغييره، والقيام لتغيير المنكر إنما هو ما لم يرد إلى مفسدة أشد، وأيضا المجتهد إنما حسن به الظن إذا لم يبين مستند اجتهاده، أما إذا بينه وكان خطأ فلا، ولله در الشيخ، يعني ابن عرفة، حيث كان يقول الصحبة حصنت من حارب عليا. انتهى.
وقال الإمام عبد القاهر الجرجاني في كتاب الإمامة: أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي أهل الحديث والرأي, منهم: مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي، والجمهور الأعظم من المسلمين والمتكلمين، على أن عليا مصيب في قتاله لأهل صفين، كما هو مصيب في أهل(10/153)
ومن ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس بن شماس: "تعيش حميدا وتقتل شهيدا". رواه الحاكم وصححه، والبيهقي وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة.
ومن ذلك: قوله لعبد الله بن الزبير: "ويل لك من الناس، وويل للناس منك". فكان من أمره مع الحجاج ما كان.
__________
الجمل، وأن الذين قاتلوه بغاة ظالمون له، لكن لا يكفرون ببغيهم.
وقال الإمام أبو منصور الماتريدي: أجمعوا على أن عليا كان مصيبا في قتال أهل الجمل: طلحة والزبير وعائشة بالبصرة، وأهل صفين معاوية وعسكره.
وفي روض السهيلي: أن عاملا لعمر قال له: رأيت الليلة كأن الشمس والقمر يقتتلان، ومع كل نجوم قال عمر: مع أيهما كنت؟ قال: مع القمر، قال: كنت مع الآية المحمودة، اذهب لا تعمل لي عملا أبدا، وعزله فقتل بصفين مع معاوية واسمه حابس بن سعد.
"ومن ذلك ما رواه أبو عمر" يوسف "بن عبد البر: أن عبد الله بن عمر رأى رجلا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعرفه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أرأيته" قال: نعم، قال: "ذاك جبريل، أما"، "بالفتح والتخفيف" "إنك ستفقد بصرك". "فعمى في آخر عمره".
ذكره الغزالي وجماعة: أن رؤية الملائكة ممكنة، لأنها كرامة يكرم الله بها من يشاء من أوليائه، ووقع ذلك لجماعة من الصحابة، ولما رأى ابن عباس جبريل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يراه خلق إلا عمي إلا أن يكون نبيا، ولكن يكون ذلك آخر عمرك"، رواه الحاكم، وكذا رأته عائشة وزيد بن أرقم، وخلق لما جاء يسأل عن الإيمان ولم يعموا؛ لأن الظاهر أن المراد من رآه منفردا به كرامة له، قاله بعض المحققين، وهو وجيه، ورده بأن رؤية ابن عباس ليست كذلك، بل كرؤيته لما جاء يسأل عن الإيمان وهم، لأنه لما سأل عن الإيمان رآه جميع الحاضرين بخلاف قصة ابن عباس، فانفرد برؤيته دون من حضر.
"ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لثابت بن قيس بن شماس"، "بفتح المعجمة والميم الثقيلة فألف فمهملة" خطيبه، وخطيب الأنصار لما افتقده حين نزل: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} الآية، فخاف أن تكون نزلت فيه، لأنه رفيع الصوت، فدعا به، فقال: "تعيش حميدا" محمودا في أفعالك وأقوالك عند الله وعند الناس، "وتقتل شهيدا" زاد في رواية وتدخل الجنة.
"رواه الحاكم وصححه، والبيهقي وأبو نعيم، فقتل يوم مسيلمة الكذاب باليمامة،" وعند ابن أبي حاتم عن أنس: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة، فلما(10/154)
ومن ذلك: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن هذا الدين بدأ نبوة ورحمة ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم يكون سلطانا وجبرية".
وقوله: ملكا عضوضا أي يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا.
وفي حديث سفينة عند أبي داود والترمذي قال: قال رسول الله عليه الصلاة
__________
كان يوم اليمامة كان في بعضنا بعض الانكشاف، فأقبل وقد تكفن وتحنط، فقاتل حتى قتل، ومر مزيد لذلك في المقصد الثاني.
"ومن ذلك قوله لعبد الله بن الزبير" لما احتجم وأعطاه الدم، وقال: "اذهب فواره حيث لا يراه أحد"، قال: فذهبت، فشربته ثم أتيته، فقال: "ما صنعت بالدم"؟. "قلت: غيبته"، قال: "لعلك شربت"، قلت: شربته، قال: "ويل" للتحسر والتألم "لك من الناس" إشارة إلى محاصرته وتعذيبه وقتله وصلبه، "وويل للناس منك" لما أصابهم من حربه ومحاصرة مكة بسببه، وقتل من قتل، وما أصاب أمه وأهله من المصائب، وما لحق قاتليه من الإثم العظيم وتخريب الكعبة، فهو بيان لما تسبب عن شرب دمه، لأنه بضعة من النبوة، نورانية قوت قلبه حتى زادت شجاعته وعلت همته عن الانقياد لغيره ممن لا يستحق إمارة فضلا عن الخلافة، "فكان من أمره مع الحجاج" الثقفي لما بعثه عبد الملك بن مروان لقتاله بجيش عظيم "ما كان" من حصاره ورميه الكعبة بالمنجنيق، ثم قتله وصلبه أياما إلى غير ذلك، وجاء أنه لما شرب دمه صلى الله عليه وسلم تضوع فمه مسكا، وبقيت رائحته موجودة في فمه إلى أن صلب بعد قتله سنة ثلاث وسبعين، وكانت خلافته تسع سنين، قال الإمام مالك: وكان أحق بها من عبد الملك وأبيه مروان.
"ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا الدين" أي الإسلام "بدأ" بهمزة آخره، أي ابتدأ أول أمر، وبألف مقصورة أي ظهر من العدم إلى الخارج، قيل: والأول أظهر هنا "نبوة ورحمة" بالنصب حال أو تمييز، أو بنزع الخافض، أي بدأ نبوته صلى الله عليه وسلم ورحمته للعالمين بإنقاذهم من الضلال والكفر.
وأمر الجاهلية في الحياة النبوية، "ثم" بعده "يكون خلافة ورحمة" زمن الخلفاء الراشدين، وفي الشفاء: ثم يكون رحمة وخلافة بتقديم الرحمة لكونها قبلهم، واستمرت زمنهم وأخرها أولا، لأنها نشأت من النبوة، "ثم يكون" الدين بعد الخلافة "ملكا"، "بتثليث الميم"، "عضوضا"، "بفتح العين المهملة ومعجمتين"، "ثم يكون"، "بتحتية" الدين "سلطانا".
وفي رواية: عتوا "بضم المهملة والفوقية"، أي خروجا عن طاعة الله تعالى "وجبرية"(10/155)
والسلام: "الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك" قال سعيد بن جمعان: أمسك خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة علي فوجدناها ثلاثين سنة، فقيل له: إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك.
وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل مرت به عليه الصلاة والسلام فقال: "إنك حامل بغلام فإذا ولدتيه فائتني"، قالت فلما ولدته أتيته به فأذن في
__________
"بفتح الجيم وسكون الموحدة وفتحها، فراء مكسورة، فتحتية ثقيلة" أي قهرا وتكبرا.
"وقوله: "ملكا عضوضا"، أي يصيب الرعية فيه عسف"، "بفتح العين وسكون السين المهملتين وفاء" أي أخذ بذنب الغير، "وظلم"، "عطف عام على خاص"، "كأنهم يعضون"، "بفتح الياء أي يعض بعضهم على بعض "فيه عضا"، وهو استعارة شبه ظلمهم وعسفهم بعض حيوان مفترس يعض من رآه.
"وفي حديث سفينة" مولى النبي صلى الله عليه وسلم، سماه بذلك لأنه كان معه في سفر، فأعيا بعض القوم، فألقوا عليه أمتعة كثيرة، فحملها، واسمه مهران، أو رومان، أو غير ذلك، كما تقدم "عند أبي داود والترمذي" والنسائي وأحمد وأبي يعلى وابن حبان.
"قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "الخلافة بعدي في أمتي" قال الحافظ: أراد خلافة النبوة، وأما معاوية فمن بعده، فعلى طريق الملوك ولو سموا خلفاء.
وأخرج البيهقي في المدخل عن سفينة أول الملوك معاوية "ثلاثون سنة" فلم يكن فيها إلا الأربعة والحسن بن علي ختامهم، فإن مدة الصديق سنتان وثلاثة أشهر وتسعة أيام، وعمر عشر سنين وستة أشهر ومسة أيام، وعثمان إحدى عشرة سنة وإحدى عشر شهرا وتسعة أيام، وعلي أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام، والحسن باقي الثلاثين إلى أن نزل لمعاوية في نصف جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين من الهجرة، "ثم ملك بعد ذلك" لأن اسم الخلافة إنما هو لمن صدق عليه هذا الاسم بعمله بالسنة، والمخالفون ملوك وإن تسموا خلفاء.
"قال سعيد"، "بكسر العين"، "ابن جمعان" بضم الجيم وإسكان الميم، الأسلمي، أبو حفص البصري، تابعي صغير، صدوق، له أفراد، روى له أصحاب السنن، مات سنة ست وثلاثين ومائة، "أمسك" عليك، كما في رواية أبي داود "خلافة أبي بكر وخلافة عمر وخلافة عثمان وخلافة علي" أي احبس نفسك على عد خلافتهم ولا تتجاوزه لغيره، فإنا حسبناها، "فوجدناها ثلاثين سنة" يعني بمدة الحسن، كما في الشفاء، ومن لم يعدها فلأنها لم تطل، ولم يدن له ما دان للأربعة، فكأنه اندرج في خلافة أبيه، فهما كرجل واحد فهو من الأربعة، "فقيل له: إن بني أمية(10/156)
أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى وألبأه من ريقه وسماه عبد الله وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء" قالت: فأخبرت العباس, فأتاه فذكر له ذلك فقال: "هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح، حتى يكون منهم المهدي، حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم".
وأخرج أبو يعلى عن معاوية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتظهرن الترك على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم".
ومن ذلك: إخباره عليه الصلاة والسلام بعالم المدينة، أخرج الحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك الناس أن
__________
يزعمون أن الخلافة فيهم، فقال: كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك" لأنهم غيروا أمر الدين وعتوا وتجبروا، وأولهم يزيد بن معاوية.
"وأخرج أبو نعيم عن ابن عباس أن أم الفضل" لبابة بنت الحارث زوج العباس، ولفظ الرواية عند أبي نعيم وابن حبان، وغيرهما عن ابن عباس، قال: حدثتني أم الفضل أنها "مرت به صلى الله عليه وسلم" وهو جالس في الحجر "فقال: "إنك حامل بغلام، فإذا ولدتيه فائتني به"، قالت: فلما ولدته" قبل الهجرة بثلاث سنين بالشعب قبل خروج بني هاشم منه "أتيته به، فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى" فيه إشكال، لأن الأذان والإقامة إنما كانا بالمدينة، اللهم إلا أن يكون صلى الله عليه وسلم كان يعلم كلمات الأذان والإقامة، ولم يوح إليه أنه يدعو بهما إلى الصلاة حتى استشار أصحابه، وكانت الرؤيا ولعلم عند الله، "وألبأه"، "بفتح الهمزة وإسكان اللام، فموحدة، فهمزة" أي صب في فيه "من ريقه" كما يصب اللبأ في فم الصبي، وهو أول ما يحلب عند الولادة، "وسماه عبد الله"، وقال: "اذهبي بأبي الخلفاء"، زاد في رواية: "فلتجديه كيسا"، "قالت: فأخبرت العباس، فأتاه فذكر له ذلك" الذي حدثته به عنه، "فقال: "هو ما أخبرتك، هذا أبو الخلفاء حتى يكون منهم السفاح"، لقب أول خلفائهم عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، "حتى يكون منهم المهدي" بن المنصور أخي السفاح، وليها عشر سنين حتى مات سنة تسع وستين ومائة، "حتى يكون منهم من يصلي بعيسى ابن مريم" إشارة إلى بقائهم إلى آخر الزمان.
"وأخرج أبو يعلى عن معاوية" بن أبي سفيان، وأوله عند أبي يعلى عن معاوية بن خديج، قال: كنت عند معاوية، فأتاه كتاب عامله، أنه وقع بالترك وهزمهم، فغضب معاوية من ذلك، ثم كتب إليه لا تقاتلهم حتى يأتيك أمري فإني "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لتظهرن الترك(10/157)
يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة". قال سفيان بن عيينة: نرى هذا العالم مالك بن أنس، وقال عبد الرزاق: ولم يعرف بهذا الاسم
__________
على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح"، "بالكسر" نبت معروف، "والقيصوم" نبت، وهو صنفان أنثى وذكر، والنافع منه أطرافه، وزهره مر جدا، ويدلك البدن منه للنافض، فلا يقشعر إلا يسيرا، ودخانه يطرد الهوام، وشرب سحيقه نيئا نافع لعسر النفس والبول والطمث ولعرق النسا، وينبت الشعر ويقتل الدود، قاله في القاموس.
قال في فتح الباري: قد ظهر مصداق هذا الخبر، وقد كان مشهورا في زمن الصحابة حديث: "اتركوا الترك ما تركوكم" وقد رواه الطبراني عن معاوية، مرفوعا وقاتل المسلمون الترك في زمن بني أمية، وكان ما بينهم وبين المسلمين مسدود إلى أن فتح ذلك شيئا بعد شيء، وكثر السبي منهم، وتنافس فيهم الملوك لما فيهم من الشدة والبأس حتى كان أكثر عسكر المعتصم منهم، ثم غلب الأتراك على الملك، فقتلوا ابنه المتوكل، ثم أولاده واحدا بعد واحد إلى أن خالط المملكة الديلم، ثم كان الملوك الساسانية من الترك أيضا، فملكوا بلاد العجم، ثم غلب على ملك الممالك آل سبكتكين، ثم آل سلجوق، وامتدت مملكتهم إلى العراق والشام والروم، ثم كان بقايا أتباعهم بالشام، وهم آل زنكي وأتباع هؤلاء وهي بيت أيوب، واستكثر هؤلاء من الترك، فغلبوهم على الشام ومصر والحجاز، وخرج على آل سلجوق في المائة الخامسة الغز، فخربوا البلاد وفتكوا في العباد، ثم كانت الطامة الكبرى بالططر، فخرج جنكيزخان بعد الستمائة، فاستعرت بهم الدنيا نارا، خصوصا المشرق بأسره حتى لم يبق بلد منه حتى دخله شرهم، ثم كان خراب بغداد، وقتل الخليفة المعتصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة أربع وستين وستمائة، ثم لم تزل بقايهم يخرجون إلى أن كان اللنك، ومعناه الأعرج، واسمه تمر "بفتح المثناة وضم الميم" وربما أشبعت، فطرق البلاد الشامية، وعاث فيها، وأحرق دمشق حتى صارت خاوية على عروشها، ودخل الروم والهند وما بين ذلك، وطالت مدته إلى أن أخذه الله، وتفرق بنوه بالبلاد، فظهر بذلك مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "إن بني قنطوراء أول من يسلب أمتي ملكهم".
أخرج الطبراني عن معاوية، وهم الترك وقنطوراء "بالمد والقصر" قيل: كانت جارية لإبرهيم الخليل، فولدت له أولادا فانتشر منهم الترك، حكاه ابن الأثير واستبعده، وأما شيخنا في القاموس، فجزم به وحكى قولا آخر: أن المراد به السودان، وكأنه يعني بقوله أمتي أمة النسب لا أمة الدعوة، يعني العرب. انتهى.
"ومن ذلك إخباره عليه الصلاة والسلام بعالم المدينة" النبوية، "أخرج" الترمذي(10/158)
غيره ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما ضربت إليه، وقال أبو مصعب: كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعني لطلب العلم. وممن روى عنه من الأئمة المشهورين: محمد بن شهاب الزهري، والسفيانان
__________
وحسنه، والنسائي و"الحاكم، وصححه عن أبي هريرة، قال: قال صلى الله عليه وسلم "يوشك الناس أن يضربوا" وفي رواية: "يوشك أن يضرب الناس". "أكباد الإبل" يطلبون العلم، هكذا في الرواية عند الترمذي والحاكم قبل قوله: "فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة".
وفي رواية: "أفقه من عالم المدينة" وفي أخرى: "آباط الإبل" مكان "أكباد الإبل"، وفي أخرى "يلتمسون العلم" مكان "يطلبون العلم"، وفي رواية: "لا تنقضي الساعة حتى يضرب الناس أكباد الإبل من كل ناحية إلى عالم المدينة يطلبون علمه".
"قال سفيان بن عيينة" الهلالي، أبو محمد الكوفي، ثم المكي الثقة، الحافظ, الفقيه، الإمام, الحجة، مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة: "نرى هذا العالم مالك بن أنس".
وفي رواية عن سفيان: كنت أقول هو ابن المسيب، حتى قلت: كان في زمنه سليمان وسالم وغيرهما، ثم أصبحت اليوم أقول: إنه مالك، وذلك أنه عاش حتى لم يبق له نظير بالمدينة.
وفي رواية عن سفيان: كانوا يرونه مالك بن أنس، قال ابن مهدي: يعني بقوله: كانوا التابعين وقال غيره: هو إخبار عن غيره من نظرائه، أو ممن هو فوقه، قال القاضي عبد الوهاب: لا ينازعنا في هذا الحديث أحد من أرباب المذاهب، إذ ليس منهم من له إمام من أهل المدينة، فيقول: هو إمامي، ونحن نقول: إنه صاحبنا بشهادة السلف له، وبأنه إذا أطلق بين العلماء قال عالم المدينة وإمام دار الهجرة، فالمراد به مالك دون غيره من علمائها، قال القاضي عياض: فوجه احتجاجنا بهذا الحديث من ثلاثة أوجه: الأول تأويل السلف، وما كانوا ليقولوا ذلك إلا عن تحقيق، الثاني: شهادة السلف الصالح له، وإجماعهم على تقديمه يظهر أنه المراد، إذ لم يحصل الأوصاف التي فيه لغيره، ولا أطبقوا على هذه الشهادة لسواه، الثالث: ما نبه عليه بعض الشيوخ أن طلبة العلم لم يضربوا أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها إلى عالم ولا رحلوا إليه من الآفاق رحلتهم إلى مالك شعر:
فالناس أكيس من أن يحمدوا رجلا ... من غير أن يجدوا آثارا حسان
"وقال عبد الرزاق" بن همام الصنعاني، الحافظ الثقة، أحد تلامذة مالك: "ولم يعرف بهذا الاسم" أي عالم المدينة "غيره" من علمائها، "ولا ضربت أكباد الإبل إلى أحد مثل ما(10/159)
والشافعي والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث بن سعد إمام أهل مصر، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت الإمام، وصاحباه: أبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد، ويحيى بن يحيى شيخ البخاري ومسلم، وأبو رجاء قتيبة بن سعيد شيخ البخاري ومسلم، وذو النون المصري، والفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك، وإبراهيم بن أدهم. كما نقله العلامة عيسى بن مسعود الزواوي في كتاب
__________
ضربت إليه" من شرق الأرض وغربها.
"وقال أبو مصعب" أحمد بن أبي بكر واسمه القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب الزهري، المدني، الفقيه الصدوق، مات سنة ثنتين وأربعين ومائتين، وقد أناف على التسعين، وهو من تلامذة مالك: "كان الناس يزدحمون على باب مالك ويقتتلون عليه من الزحام، يعني لطلب العلم" وكان له حاجب يأذن أولا للخاصة، فإذا فرغوا أذن للعامة.
"وممن روى عنه من الأئمة المشهورين محمد" بن مسلم بن عبيد الله "بضم العين" ابن عبد الله "بفتحها" ابن شهاب" القرشي "الزهري" شيخ مالك ومات قبله بخمس وخمسين سنة، "والسفيانان" ابن سعيد الثوري وابن عيينة، وهما من أقرانه، "والشافعي" الإمام، "والأوزاعي" عبد الرحمن بن عمرو الثقة الفقيه، "إمام أهل الشام" من أقران مالك، مات سنة سبع وخمسين ومائة قبل مالك بأزيد من عشرين سنة، "والليث بن سعد" بن عبد الرحمن الفهمي أبو الحارث المصري، ثقة، فقيه، إمام مشهور، "إمام أهل مصر" مات في شعبان سنة خمس وسبعين ومائة قبل مالك بقليل وهو من أقرانه.
"و" روى عنه من أقرانه أيضا الإمام "أبو حنيفة النعمان بن ثابت" الكوفي، يقال أصله من فارس، ويقال: مولى بني تميم الفقيه، العلم الشهير، مات وله سبعون سنة في سنة خمسين ومائة على الصحيح قبل مالك بنحو ثلاثين سنة.
ذكر السيوطي: أنه روى عنه حديثين، أخرجهما الخطيب، أحدهما من طريق القاسم بن الحكم العرني "بضم العين المهملة وفتح الراء ونون"، قال: حدثنا أبو حنيفة عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: أتى كعب بن مالك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن راعية له كانت ترعى في غنمه، فتخوفت على الشاة الموت، فذبحتها بحجر، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأكلها، وثانيهما من طريق إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، عن أبي حنيفة، عن مالك، عن عبد الله بن الفضل، عن نافع، عن جبير بن مطعم، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وصمتها إقرارها". انتهى.
وقال ابن عبد البر في الحديث الثاني: قيل: رواه أبو حنيفة عن مالك، ولا يصح، لكن(10/160)
"المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك".
وإخباره بعالم قريش، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله عليه الصلاة
__________
جزم تلميذ تلاميذه عياض، بأنه رواه عنه، وزاد في تزيين الممالك ثالثا عن أبي حنيفة، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر قال: "إذا صليت الفجر والمغرب ثم أدركتهما" فلا تعدهما، وقد أورد في الشفاء فيما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الغيب حديث ابن مسعود، رفعه: "لو كان العلم معلقا بالثريا لتناوله رجال من فارس". وفي لفظ: لتناوله رجل بالإفراد، فجزم السيوطي، بأنه أبو حنيفة، لأنه لم يبلغ من أبناء فارس في العلم مبلغه أحد، ولا مبلغ أصحابه، والمراد بفارس الفرس جنس من العجم، كان جد "الإمام" منهم لا البلد المعروف، لكن هذا على أنه منهم، أما على أنه مولى تيم، فلا يفسر به، وهما قولان، حكاهما الحافظ في تقريبه، "وصاحباه أبو يوسف" يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، الكوفي، ثقة حافظ، كثير الحديث، صدوق، مات سنة اثنتين وثمانين ومائة وله تسع وسبعون، "ومحمد بن الحسن" الشيباني أقام عند مالك مدة، وكان يحبه، فأسمعه ثلاثمائة حديث من لفظه، "وعبد الرحمن بن مهدي" بن حسان العنبري، أحد الحفاظ الثقات، الأثبات، "شيخ الإمام أحمد" وشخ غيره، وخصه لشهرته وجلالته، "ويحيى بن يحيى" بن بكير بن عبد الرحمن التميمي أبو زكريا النيسابوري، "شيخ البخاري ومسلم" ثقة، ثبت إمام، وهو غير يحيى بن يحيى بن كثير الليثي، الأندلسي, وقد يلتبسان على من لم يعلم، وهما معا كابن مهدي وابن الحسن من رواة الموطأ، أما أبو يوسف، فإنما روى الموطأ عن مالك بواسطة، "وأبو رجاء قتيبة بن سعيد" بن جميل "بفتح الجيم" ابن طريف الثقفي، البغلاني "بفتح الموحدة وسكون المعجمة" اسمه يحيى، وقيل: علي. ثقة، ثبت، مات سنة أربعين ومائتين عن تسعين سنة، "شيخ البخاري ومسلم" وشيخ باقي الأئمة الستة، وهو من رواة الموطأ، "وذو النون المصري" ثوبان بن إبراهيم أبو الفيض النوبي، أوحد وقته علما وورعا وأدبا، ولد بإخميم، وهو أول من عبر عن علوم النازلات، وأنكر عليه أهل مصر، وقالوا: أحدث علما، لم تتكلم فيه الصحابة، وسعوا به إلى الخليفة المتوكل، ورموه عنده بالزندقة، فأحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه، فبكى المتوكل ورده مكرما، مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد قارب سبعين.
قال ابن السبكي: كان أهل مصر يسمونه الزنديق، فلما مات أظلت الطير الخضر جنازته، ترفرف عليه إلى أن وصل إلى قبره، فلما دفن غابت، فاحترم أهل مصر قبره. انتهى.
وعده بعض الحفاظ من رواة الموطأ، "والفضيل بن عياض" ابن مسعود التميمي، أبو علي الزاهد المشهور، العابد، الثقة، الإمام، أصله من خراسان، وسكن مكة ومات سنة سبع وثمانين ومائة، وقيل: قبلها، "وعبد الله بن المبارك" المروزي، الحنظلي، مولاهم، ثقة ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، مات سنة إحدى وثمانين ومائة وله ثلاث وستون(10/161)
والسلام: "لا تسبوا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما". رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفيه الجارود مجهول، لكن له شواهد عن أبي هريرة في تاريخ بغداد للخطيب وعن علي وابن عباس في المدخل للبيهقي. قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعي، لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قريش من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي، وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج أو يستأنس به في أمر شيخه الشافعي. وأما قوله:
__________
سنة، "وإبراهيم بن أدهم" بن منصور العجلي، وقيل: التميمي أبو إسحاق البلخي، الزاهد، صدوق، مات سنة اثنتين وستين ومائة قبل مالك بمدة، وهو من أقرانه، "كما نقله العلامة عيسى بن مسعود" بن منصور بن يحيى بن يونس "الزواوي" الفقيه، العالم، المتفنن، انتفع به الناس، وانتهت إليه رياسة المالكية بالديار المصرية.
وشرح المدونة وصحيح مسلم في اثني عشر مجلدا وتاريخ نحو عشر مجلدات، ورد على ابن تيمية في مسألة الطلاق وابن الحاجب سبع مجلدات إلى كتاب الصيد وغير ذلك، ولد بالمغرب سنة أربع وستين، وستمائة، ومات بالقاهرة سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة.
"في كتاب المنهج السالك إلى معرفة قدر الإمام مالك،" قال ابن عبد البر: ألف الناس في فضائل مالك كتبا كثيرة. انتهى.
والرواة عنه كثيرون جدا، بحيث لا يعرف لأحد من الأئمة رواة كرواته، ذكر عياض أنه ألف فيهم كتابا، ذكر فيه نيفا على ألف وثلاثمائة، وعد في مداركه نيفا على ألف، ثم قال: إنما ذكرنا المشاهير وتركنا كثيرا.
وقال الدارقطني: لا نعلم أحدًا ممن تقدم أو تأخر اجتمع له ما اجتمع لمالك، روى عنه رجلان حديثا واحدا بين وفاتيهما نحو من مائة وثاثين سنة: الزهري، عن شيخه، توفي سنة خمس وعشرين ومائة، وأبو حذافة السهمي توفي بعد الخمسين ومائتين، رويا عنه الحديث الفريعة بنت مالك في سكنى المعتدة.
"و" من ذلك "إخباره بعالم قريش، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قريشا، فإن عالمها يملأ طباق"، "بكسر الطاء جمع طبق"، أي نواحي "الأرض"، كأنه غطاها من جميع جوانبها "علما" اللهم إنك أذقت أولها نكالا ووبالا، فأذق آخرها نوالا، هذا بقية الحديث الذي "رواه أبو داود" سليمان بن داود بن الجارود "الطيالسي" الحافظ "في مسنده، وفيه الجارود"، "بالجيم" راويه عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود "مجهول" والرواي عنه مختلف فيه كما في المقاصد، "لكن له شواهد" تقويه" عن أبي هريرة في تاريخ بغداد للخطيب" من(10/162)
وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما" أتى بصيغة التمريض احتياطا للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من الضعف. قاله العراقي ردا على الصغاني في زعمه أنه حديث موضوع، وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه: لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا.
وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله. رواه الشيخان من حديث المغيرة بن شعبة وبأن الله يبعث إلى
__________
حديث وهب بن كيسان عنه، رفعه: "اللهم اهد قريشا، فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما، اللهم كما أذقتهم عذابا، فأذقهم نوالا". دعا بها ثلاث مرات، وراويه عن وهب فيه ضعف كما في المقاصد.
"وعن علي وابن عباس في" كتاب "المدخل للبيهقي" وثانيهما، أي حديث ابن عباس عند أحمد والترمذي، وقال: حسن بلفظ "اللهم اهد قريشا" فإن علم العالم يسع طباق الأرض.
"قال الإمام أحمد وغيره: هذا العالم هو الشافعي" الإمام، "لأنه لم ينتشر في طباق الأرض من علم عالم قرشي من الصحابة وغيرهم ما انتشر من علم الشافعي" التعليل بهذا الغير أحمد.
قال السخاوي: الحديث منطبق على الشافعي، ويؤيده قول أحمد كما في المدخل، إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا أخذت فيها بقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش، قال: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما"، "وما كان الإمام أحمد ليذكر حديثا موضوعا يحتج به أو يستأنس به في أمر شيخه الشافعي" لفظ السخاوي، به للأخذ في الأحكام بقول شيخ الشافعي.
"وأما قوله: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عالم قريش يملأ الأرض علما أتى" أي فأتى. وعبارة شيخه: وإنما أورده "بصيغة التمريض" المقتضية للضعف "احتياطا للشك في ضعفه، فإن إسناده لا يخلو من الضعف، قاله العراقي" الحافظ زين الدين "ردا على الصغاني في زعمه أنه حديث موضوع" ولا وجه له، فغاية ما فيه أن مفرداته ضعيفة، وبتعددها وبالشواهد يرتقي إلى درجة الحسن لغيره.
"وقد جمع الحافظ ابن حجر طرقه في كتاب سماه لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش، كما أفاده شيخنا" السخاوي في المقاصد الحسنة، فكيف يتصور وضعه، ولا(10/163)
هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها. رواه الحاكم وصححه عن أبي هريرة. وبذهاب الأمثل فالأمثل رواه الحاكم وصححه قال: "تذهبون الخير فالخير".
__________
كذاب فيه ولا متهم؟
"وأخبر عليه الصلاة والسلام بأن طائفة من أمته لا يزالون ظاهرين على الحق" أي غالبين من خالفهم، وفي رواية لمسلم: يقاتلون على الحق ظاهرين "حتى يأتي أمر الله" وفي رواية: حتى تأتيهم الساعة، وقال النووي: أمر الله هو الريح الذي يأتي، فيأخذ روح كل مؤمن ومؤمنة، واستدل به أكثر الحنابلة وبعض من غيرهم على أنه لا يجوز خلو الزمان عن مجتهد، وعورض بحديث ابن عمر، مرفوعا عند البخاري وغيره: "أن الله لا ينزع العلم بعد أن أعطاهموه، ولكن ينزعه منه بقبض العلماء بعلمهم، فتبقى ناس جهال يستفتون، فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون". وفيه دلالة على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور، لأنه صرح في رفع العلم بقبض العلماء وترئيس الجهال وإذا انتفى العلم ومن يحكم به، استلزم انتفاء الاجتهاد والمجتهد.
"رواه الشيخان" البخاري في آخر العلامات والاعتصام والتوحيد ومسلم في الجهاد "من حديث المغيرة بن شعبة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال ناس". وفي رواية: "طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون". قال البخاري: هم أهل العلم.
وفي الترمذي، عن البخاري، عن شيخه علي بن المديني: هم أصحاب الحديث، وقال النووي: يجوز أن الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين، ما بين شجاع وبصير بالحرب، وفقيه ومحدث ومفسر، وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وزاهد وعابد، قال: ولا يلزم اجتماعهم بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد، وتفرقهم في الأقطار، وأن يكونوا في بعض دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولا فأولا إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا أتى أمر الله. انتهى.
وفي مسلم عن سعد بن أبي وقاص، مرفوعا: "لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة" قال علي بن المديني: هم العرب، لأنهم المخصوصون بالسقي بالغرب، وهي الدلو العظيمة، وقال غيره: هم أهل المغرب "بالميم" لوروده بميم في بعض الطرق.
وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، قاهرين لعدوهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". قيل: يا رسول الله وأين هم؟ قال: "ببيت المقدس". والمراد بهم الذين يحصرهم الدجال فينزل عيسى إليهم فيقتله.(10/164)
وبالخوارج: رواه الشيخان من حديث أبي سعيد الخدري بلفظ: بينما نحن عند رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة، فقال: يا
__________
وفي البخاري عن معاذ وهم بالشام، وفي المفهم رواية أهل المغرب "بالميم" تدل على إبطال التأويلات فيه، قال: والمراد بالمغرب جهة المغرب، من المدينة إلى أقصى بلاد المغرب فيدخل فيه الشام وبيت المقدس، فلا منافاة بين الروايات.
وأرسل الطرطوسي رسالة لأهل المغرب، ذكر فيها الحديث، وقال: هل أراكم صلى الله عليه وسلم إلا لما أنتم عليه من التمسك بالسنة وطهارتكم من البدع واقتفاء أثر السلف، وقد جمع بين هذا وبين حديث مسلم، عن عبد الله بن عمر، مرفوعا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس" ... الحديث، بأن المراد بهم قوم يكونون بموضع مخصوص، ويكون بموضع آخر طائفة ظاهرون على الحق، وبأن ذلك بعد هبوب الريح بعد موت عيسى، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، ويبقى شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، وهناك يتحقق خلو الأرض عن مسلم، فضلا عن هذه الطائفة الكريمة، قال الحافظ: وهذا أولى ما يتمسك به في الجمع بين الحديثين. انتهى.
ومر في الخصائص شيء من هذا، "و" أخبر "بأن الله يبعث" يفيض "إلى هذه الأمة على رأس" أي أول "كل مائة سنة" من الهجرة، كما صرح به السبكي وغيره، وتجويز أن المراد من المولد النبوي، أو البعثة، أو الوفاة بعيد، إذ التاريخ من الهجرة "من يجدد لها دينها" أي يبين السنة من البدعة، ويكثر العلم وينصر أهله، ويكسر أهل البدع ويذلهم، قالوا: ولا يكون إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة.
قال ابن كثير: وقد ادعى كل قوم في إمامهم، أنه المراد بهذا الحديث، والظاهر أنه يعم حملة العلم من كل طائفة، وكل صنف من مفسر ومحدث وفقيه ونحوي ولغوي وغيرهم.
وفي الفتح: نبه بعض الأئمة على أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل قرن واحد فقط، بل الأمر فيه، كما ذكر النووي في حديث: "لا تزال طائفة"، وسبق كلامه: ولا يشترط أن يكون المجدد مجتهدا، واشترطه بعضهم: ولا أن يكون هاشميا، وأما خبر أبي داود: "المجدد منا أهل البيت"، فذاك لما ورد مرفوعا: "آل محمد كل تقي" وأسانيده وإن كانت ضعيفة، لكنها تعددت وشواهده كثيرة، "رواه الحاكم" في الفتن "وصححه" لأن رجاله كلهم ثقات، وقد رواه أبو داود في الملاحم من سننه، والطبراني في الأوسط، والبيهقي في المعرفة، كلهم "عن أبي هريرة" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها".
"و" من ذلك إخباره صلى الله عليه وسلم "بذهاب" أي موت "الأمثل، فالأمثل" أي الأفضل فالأفضل، "رواه الحاكم وصححه" والطبراني والبخاري في التاريخ، كلهم عن رويفع بن ثابت أنه صلى الله عليه وسلم(10/165)
رسول الله، اعدل، فقال: "ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل، خبت وخسرت إن لم أعدل". فقال: عمر يا رسول الله دعني أضرب عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يخرج السهم من الرمية، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على
__________
قال: "تذهبون"، "بفوقية أوله"، "الخير فالخير" بالتشديد، حتى لا يبقى منكم إلا مثل هذه، وأخذ حشفة من تمر، وأشار بها، هذا بقية الحديث.
"و" أخبر "بالخوارج، رواه الشيخان من حديث أبي سعيد" سعد بن مالك بن سنان "الخدري" الصحابي ابن الصحابي، "بلفظ: بينما"، "بالميم" نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسما"، "بفتح القاف، مصدر قسمت الشيء فانقسم، سمي الشيء المقسوم بالمصدر، والواو للحال" زاد في رواية: يوم حنين، وفي أخرى للبخاري: أن المقسوم كان تبرا، بعثه علي بن أبي طالب من اليمن، قسمه بين عيينة وأقرع بن حابس وزيد الخيل، والرابع إما علقمة وإما عامر بن الطفيل، وبين الحافظ أن الشك في عامر، وهم من بعض رواته، لأنه مات قبل ذلك كافرا، فالصواب أنه علقمة بن علاثة "بضم المهملة وخفة اللام ومثلثة"، "إذ أتاه ذو الخويصرة"، "بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون التحتية وكسر الصاد المهملة، بعدها راء واسمه نافع،" كما عند أبي داود، ورجحه السهيلي، وقيل: اسمه حرقوص بن زهير، وفي الرواية: وهو رجل من بني تميم، "فقال: يا رسول الله اعدل" في القسمة، "فقال" صلى الله عليه وسلم: "ويك ومن يعدل إن لم أعدل" وفي رواية للبخاري، فقال: يا رسول الله اتق الله، قال: "ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله، خبت وخسرت إن لم أعدل".
قال المصنف: لم يضبط في اليونينية، تاءي خبت وخسرت هنا، وضبطهما في غيرهما "الضم والفتح"، على المتكلم، والمخاطب والفتح أشهر وأوجه.
قال التوربتشي: هو على ضمير المخاطب، لا على ضمير المتكلم، وإنما رد الخيبة والخسران إلى المخاطب على تقدير عدم العدل منه، لأن الله تعالى بعثه رحمة للعالمين، وليقوم بالعدل فيهم، فإذا قدر أنه لم يعدل، فقد خاب المعترف، بأنه مبعوث إليهم، وخسر لأن الله لا يحب الخائنين، فضلا أن يرسلهم إلى عباده.
وقال الكرماني: أي خبت أنت وخسرت لكونك تابعا ومقتديا لمن لا يعدل، "فقال عمر: يا رسول الله دعني" وفي رواية: ائذن لي فيه "أضرب" بالجزم جواب الأمر، وفي رواية.(10/166)
حين فرقة من الناس". قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل
__________
فأضرب "بالنصب" بقاء الجواب "عنقه، فقال عليه الصلاة والسلام: "دعه" لا تضرب عنقه، فإن قلت: كيف منع من قتله مع أنه قال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم".
أجاب في شرح السنة بأنه إنما أباح قتلهم إذا كثروا وامتنعوا بالسلاح واستعرضوا للناس، ولم تكن هذه المعاني موجودة حين منع من قتلهم، وأول ما نجم ذلك في زمان علي رضي الله عنه، فقاتلهم حتى قتل كثيرا منهم. انتهى.
ولمسلم عن جابر: فقال عمر: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق، فقال: "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي"، وقال الإسماعيلي: إنما ترك قتله لأنه لم يكن أظهر ما يستدل به على ما وراءه، فلو قتل من ظاهره الصلاح عند الناس قبل استحكام الإسلام ورسوخه في القلوب، نفرهم عن الدخول في الإسلام، وأما بعده صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز ترك قتالهم إذا أظهروا رأيهم وخرجوا عن الجماعة، وخالفوا الأئمة مع القدرة على قتالهم.
وفي رواية للبخاري: فسأله رجل أظنه خالد بن الوليد قتله، ولمسلم: فقال خالد بن الوليد بالجزم، وجمع بينهما، بأن كلا منهما سأل ذلك، ويؤيده ما في مسلم، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: لا، ثم أدبر، فقام إليه خالد بن الوليد سيف الله، فقال: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، قال: لا.
قال في فتح الباري: فهذا نص في أن كلا منهما سأل، وقد استشكل سؤال خالد في ذلك، لأن بعث علي إلى اليمن كان عقب بعث خالد إليها، والذهب المقسوم كان أرسله علي من اليمن، وأجيب بأن عليا لما وصل إلى اليمن رجع خالد منها إلى المدينة، فأرسل علي بالذهب، فحضر خالد قسمته، "فإن له أصحابا" ليست الفاء للتعليل، بل لتعقيب الأخبار، أي قال: دعه، ثم عقب مقالته بقصتهم، فقال: "يحقر"، "بكسر القاف" يستقل "أحدكم صلاته مع صلاتهم" لما يراه عليهم من إظهار الخشوع ونحوه، "وصيامه مع صيامهم".
وعند الطبري من رواية عاصم بن شمخ، عن أبي سعيد: "تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" , ووصف عاصم أصحاب نجدة الحروي، بأنهم يصومون النهار ويقومون الليل.
وللطبراني عن ابن عباس في قصة مناظراته للخوارج، قال: فأتيتهم، فلم أر أشد اجتهادا منهم. "يقرءون القرآن، لا يجاوز تراقيهم"، "بفوقية وقاف جمع ترقوة، بفتح فسكون وضم القاف" قال في القاموس: ولا تضم تاؤه العظيم ما بين ثغرة النحر والعاتق، يريد أن قراءتهم، لا يرفعها الله ولا يقبلها لعلمه باعتقادهم، أو لأنهم لا يفقهونها، ويحملونها على غير المراد بها، فلا يثابون عليها، أو ليس لهم حظ إلا مروره على لسانهم، فلا يصل إلى حلوقهم، فضلا عن أن(10/167)
فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله عليه الصلاة والسلام
__________
يصل إلى قلوبهم، لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب، "يمرقون" يخرجون سريعا "من الإسلام" هكذا رواه البخاري في التوحيد، ورواه في العلامات وغيره "يمرقون من الدين".
قال الحافظ في المغازي، في قوله: "من الإسلام". رد على من أول الدين هنا بالطاعة، وقال: المراد أنهم يخرجون من طاعة الإمام، وهي صفة الخوارج الذين كانوا لا يطيعون الخلفاء، والذي يظهر أن المراد بالدين الإسلام، كما فسرته الرواية الأخرى، وخرج الكلام مخرج الزجر، وأنهم بفعلهم ذلك يخرجون من الإسلام الكامل، "كما يخرج السهم من الرمية"، "بفتح الراء وكسر الميم وشد التحتية، فعلية بمعنى مفعولة" وهو الصيد المرمي شبه مروقهم من الدين بالسهم الذي يصيب الصيد، فيدخل فيه ويخرج منه, ومن شدة سرعة خروجه لقوة الرامي لا يعلق من جسد الصيد بشيء.
زاد في التوحيد: يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"، وحذف المصنف من رواية الشيخين عقب قوله: "الرمية". "ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافة، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى نضيه وهو قدحه، لا يوجد فيه شيء، ثم ينطر إلى قذذه، فلا يوجد فيه شيء قد سبق للفرث والدم" وينظر بالبناء للمجهول في الجميع، والنصل حديدة السهم، ورصافة "براء مكسورة فمهملة ففاء"، أي عصبته التي تكون فوق مدخل النصل، جمع رصفة بحركات، ونضيه "بفتح النون" وحكي ضمها، وكسر الضاد المعجمة، فتحتية ثقيلة، فسره في الحديث بالقدح "بكسر القاف وسكون الدال"، أي عود السهم قبل أن يراش وينصل، وقيل: هو ما بين الريش والنصل، قاله الخطابي. قال ابن فارس: سمي بذلك لأنه بري حتى عاد نضوا، أي هزيلا.
وحكى الجوهري عن بعض أهل اللغة: أن النضي النصل، والأول أولى وقذذه "بضم القاف ومعجمتين، الأولى مفتوحة": جمع قذة وهي ريش السهم، يقال لكل واحدة قذه، ويقال هو أشبه بالقذة، لأنها تجعل على مثال واحد، والفرث "بفاء ومثلثه" ما يجتمع في الكرش والدم، يعني لم يظهر أثرهما فيه، وكذلك هؤلاء لم يتعلقوا بشيء من الإسلام، "آيتهم"، "بالمد"، أي علامتهم "رجل أسود" اسمه نافع، كما عند ابن أبي شيبة.
وقال ابن هشام: ذو الخويصرة "إحدى عضديه" ما بين المرفق والكتف، "مثل ثدي المرأة"، "بفتح المثلثة وسكون الدال المهملة"، "أو" قال: "مثل البضعة"، "بفتح الموحدة وسكون المعجمة" القطعة من اللحم "تدردر"، "بفتح الفوقية والدالين المهملتين بينهما راء ساكنة وآخره راء أخرى، وأصله تتدردر، حذفت إحدى التاءين تخفيفا، أي تتحرك وتذهب(10/168)
الذي نعته.
وأخبر عليه الصلاة والسلام أيضا بالرافضة، أخرجه البيهقي عن علي قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة، يرفضون الإسلام".
__________
وتجيء، وأصله حكاية صوت الماء في بطن الوادي إذا تدافع، "يخرجون على حين"، "بكسر المهملة وسكون الياء ونون" أي زمان "فرقة"، "بضم الفاء" أي افتراق وفي رواية الكشميهني، وهي رواية الإسماعيلي: على خير "بخاء معجمة وراء" أي أفضل، وفرقة "بكسر الفاء"، أي أفضل طائفة "من الناس" علي وأصحابه، ولأحمد وغيره: على حين فترة "بفتح الفاء وسكون الفوقية".
قال الحافظ: رواية فرقة "بضم الفاء" هي المعتمدة، وهي التي عند مسلم وغيره، ويؤيدها ما في مسلم أيضا: تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، تقتلها أولى الطائفتين بالحق، أخرجه هكذا مختصرا من وجهين، وفي هذا وفي قوله صلى الله عليه وسلم "يقتل عمار الفئة الباغية" دلالة واضحة على أن عليا ومن معه كانوا على الحق، وأن من قاتلهم كانوا مخطئين في تأويلهم.
"قال أبو سعيد" الخدري: "فأشهد أني سمعت هذا" الحديث "من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه" بالنهروان.
وفي رواية البخاري: وأشهد أن عليا قتلهم، ونسبة قتلهم له لأنه القائم بذلك "فأمر بذلك، الرجل" الذي قال صلى الله عليه وسلم: "آيتهم" ... إلخ، "فالتمس"، "بضم الفوقية" مبنيا للمفعول، أي طلب في القتلى، "فوجد".
وفي مسلم: فلما قتلهم علي قال: انظروا، فلم ينظروا شيئا، فقال: ارجعوا فوالله ما كذبت ولا كذبت مرتين أو ثلاثا، ثم وجدوه في خربة، "فأتي به".
وعند الطبري: فقال علي: اطلبوا ذا الثدية، فطلبوه فلم يجدوه، فقال: ما كذبت ولا كذبت، فوجدوه في وهدة من الأرض عليه ناس من القتلى، فإذا رجل على يديه مثل سلاسل السد نور، فكبر علي والناس "حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نعته" يريد ما تقدم من كونه أسود ... إلخ.
قال بعض أهل اللغة: النعت يختص بالمعاني، كالطول والقصر، والعمى والخرس، والصفة بالفعل كالضرب والجرح، وقال غيره: النعت للشيء الخاص والصفة أعم.
وعند أحمد والطبراني والحاكم عن عبد الله بن شداد أنه دخل على عائشة مرجعه من العراق، فقالت: حدثني عن أمر هؤلاء الذين قتلهم علي، قال: إن عليا لما كاتب معاوية، وحكَّما الحكمين خرج عليه ثمانية آلاف من قراء الناس، فنزلوا بأرض يقال لها حروراء بجانب الكوفة،(10/169)
وأخبر أيضا بالقدرية والمرجئة وقال: "هم مجوس هذه الأمة"، رواه الطبراني في الأوسط عن أنس.
وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأشياء بين موته وبين الساعة، وحذر من مفاجأتها، كما يحذر من حاد عن الطاعة، وأن الساعة لا تقوم حتى تظهر
__________
وعتبوا عليه، فقالوا: انسلخت من قميص ألبسكه الله، ومن اسم سماك الله به، ثم حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله، فبلغ ذلك عليا، فجمع الناس، فدعا بمصحف عظيم، فجعل يقول: أيها المصحف حدث الناس، فقالوا: ماذا إنسان، إنما هو مداد وورق ونحن نتكلم بما روينا منه، فقال: كتاب الله بيني وبين هؤلاء، يقول الله في امرأة ورجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من امرأة ورجل، ونقموا عليَّ أن كاتبت معاوية، وقد كاتب صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمر، و {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثم بعث إليهم ابن عباس، فناظرهم، فرجع منهم أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن الكواء، فبعث علي إلى الآخرين أن يرجعوا، فأبوا، فأرسل إليهم: كونوا حيث شئتم وبيننا وبينكم أن لا تسفكوا دما حراما، ولا تقطعوا سبيلا ولا تظلموا، أحدا فإن فعلتم تندب إليكم الحرب.
قال عبد الله بن شداد: فوالله ما قتلهم حتى قطعوا السبيل وفكوا الدم الحرام.
"وأخبر عليه الصلاة والسلام أيضا بالرافضة" فرقة من الشيعة تابعوا زيد بن علي بن الحسين، ثم قالوا له: تبرأ من الشيخين، فأبى وقال: كانا وزيري جدي، فتركوه ورفضوه، فأرفضوا، والروافض كل جند تركوا قائدهم، والرافضة فرقة منهم.
"أخرجه البيهقي عن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قوم يسمون الرافضة يرفضون الإسلام"، "بكسر الفاء وضمها"، يتركونه بالخروج عن الطاعة والاعتقاد الفاسد، "وأخبر أيضا بالقدرية" سموا بذلك لإنكارهم القدر، وإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم.
وفي الحديث: "القدر سر الله، فلا تفشوا سر الله". رواه أبو نعيم عن ابن عمر، وابن عدي عن عائشة، مرفوعا بإسنادين ضعيفين، ورواه الديلمي، بلفظ: فلا تتكلفوا عليه "والمرجئة" القائلين بالإرجاء وهو تأخير العمل عن النية والاعتقاد، أو بأنه لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
وعند البيهقي عن ابن عباس، رفعه: صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام المرجئة والقدرية، قيل: وما المرجئة، قال: الذي يقولون الإيمان قول ولا عمل، قيل: وما القدرية، قال: الذين يقولون لم يقدر الله الشر، "وقال: هم مجوس هذه الأمة" لأن إضافة القدرية الخير إلى الله والشر لغيره تشبه إضافة المجوس الكوائن إلى خالقين: خالق الخير وخالق الشر، لكن يقولون(10/170)
جملة من الأمارات في العالم، فإذا جاءت الطامة الكبرى، يطيش منها الجاهل والعالم. كما روي من رفع الأمانة والقرآن، واشتهار الخيانة وحسد الأقران وقلة الرجال، وكثرة النسوان، إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار, وقد تعين أن نلم بطرف من الآثار الصحاح والحسان.
فروى البخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة، دعواهما
__________
ذلك في الأعيان والأحداث، والقدرية يقولونه في الأحداث دون الأعيان، وتركيب الحديث من قبيل القلم أحد اللسانين، ولفظه: هذه إشارة إلى تعظيم المشار إليه وإلى النعي على القدرية والتعجب منهم، أي انظروا إلى هؤلاء كيف امتازوا من هذه الأمة المكرمة بهذه الهيئة الشنيعة، حيث نزلوا من أوج المنازل الرفيعة إلى حضيض السفالة والرذيلة، قاله الطيبي.
"رواه الطبراني في الأوسط عن أنس" وأخرجه بدون ذكر المرجئة أبو داود والحاكم من حديث أبي حازم، عن ابن عمر، رفعه: "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم"، ورواته ثقات لكنه منقطع، لأن أبا حازم لم يسمع من ابن عمر، وإليه أشار الحاكم، فقال: على شرطهما إن صح أن أبا حازم سمع من ابن عمر.
قال بعضهم: استأثر الله بسر القدر ونهى عن طلبه، ولو كشف لهم عنه وعن عاقبته لما صح التكليف، كما لا يصح عند كف الغطاء يوم القيامة، فالسعادة فضله والشقاوة عدله، وإنما ينكشف سر الله للخلائق إذا دخلوا الجنة، ولا ينكشف لهم قبل دخولها.
"وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أصحابه بأشياء بين موته وبين" قيام "الساعة، وحذر من مفاجأتها" إتيانها بغتة، بمعنى أنه حذر الإنسان من الغفلة، بحيث تفجؤه على غير تأهب، وإلا ففجأتها لا يمكن التحذير منها، "كما يحذر من حاد عن الطاعة، وإن الساعة لا تقوم حتى تظهر جملة من الأمارات" العلامات الدالة على دنوها "في العالم، فإذا جاءت الطامة" الداهية التي تطم، أي تعلو على سائر الدواهي "الكبرى" أكبر الدواهي، "يطيش منها الجاهل والعالم، كما روي من رفع الأمانة والقرآن" من الصدور والمصاحف، "واشتهار الخيانة وحسد الأقران" بعضهم لبعض، "وقلة الرجال وكثرة النسوان"، بحيث يكون لخمسين امرأة قيم واحد، "إلى غير ذلك مما شهدت بصحته الأخبار، وقضى بحقيقة وقوعه الاعتبار" وظاهر هذا أنه بيان للطامة، فالمراد بها غير المراد بها في الآية، فهي هنا المصيبة التي تعم الناس من الأشياء المذكورة، أما في الآية، فقال البيضاوي: القيامة أو النفخة الثانية أو الساعة التي يساق فيها أهل الجنة إليها وأهل النار إليها، ويحتمل أن يقدر في المصنف مضاف نحو، فإذا جاءت مقدمات(10/171)
واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريبا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج -وهو القتل- وحتى يكثر فيكم المال فيفيض حتى يهم الرجل من يقبل صدقته، وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه: لا أرب لي به، وحتى يتطاول الناس في
__________
الطامة، "وقد تعين أن نلم" أن نذكر من ألم بالشيء إذا فعله "بطرف من الآثار الصحاح والحسان، فروى البخاري" من أفراده، عن مسلم "من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال": "لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان"، "بكسر الفاء بعدها همزة مفتوحة تثنية فئة" أي جماعتان "عظيمتان" أي كثيرتان، والمراد علي ومن معه ومعاوية ومن معه لما تحاربا بصفين، "يكون بينهما مقتلة"، "بفتح الميم مصدر ميمي"، "عظيمة" أي قتل عظيم، فقتل من الفريقين سبعون ألفا، وقيل: أكثر، "دعواهما واحدة" أي دينهما، لأن كلا منهما كان يتسمى بالإسلام، أو المراد أن كلا منهما يدعي أنه المحق، وقد كان علي هو الإمام والأفضل، يومئذ باتفاق أهل السنة، ولأن أهل الحل والعقد بايعوه بعد عثمان فهو المصيب، فله أجران، ومخالفه مخطئ وليس المراد البعث بمعنى الإرسال المقارن للنبوة، بل هو كقوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم: 83] ، "دجالون" جمع دجال، يقال: دجل فلان الحق بالباطل، أي غطاه، ومنه الدجال ودجله سحره، ويقال: سمي بذلك لتمويهه وتخليطه على الناس، ويطلق أيضا على الكذب، فقوله: "كذابون" تأكيد، ولا يجمع ما كان على فعال جمع تكسير عند الجمهور لئلا تذهب المبالغة منه وإنه كان قد جاء مكسرا فهو شاذ كما قال مالك في محمد بن إسحاق، إنما هو دجال من الدجاجلة، قال عبد الله بن إدريس الأودي: ما علمت أن دجالا يجمع على دجاجلة حتى سمعتها من مالك بن أنس، "قريبا" بالنصب حال من النكرة الموصوفة.
وفي رواية أحمد: قريب، بالرفع على الصفة "من ثلاثين".
وفي مسلم عن جابر بن سمرة أن بين يدي الساعة ثلاثين كذابا دجالا، كلهم يزعم أنه نبي، فجزم بالثلاثين، ولأبي داود والترمذي، وصححه ابن حبان عن ثوبان: "وأنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون". "كلهم يزعم أنه رسول الله" زاد في حديث ثوبان: "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي".
وروى أبو يعلى بإسناد حسن عن ابن الزبير: "لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، منهم: مسيلمة والعنسي والمختار". فعين بعضهم، وجمع بينهما بأنه جبر الكسر، وقد ظهر(10/172)
البنيان، وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه، وحتى تطلع الشمس
__________
مصداق ذلك في آخر زمنه صلى الله عليه وسلم فخرج مسيلمة باليمامة, والأسود باليمن, ثم خرج في خلاف الصديق طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة وسجاح التميمية في بني تميم، وفيها يقول شبيب بن ربعي:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها ... وأصبت أنبياء الناس ذكرانا
فقتل الأسود قبل موته صلى الله عليه وسلم، وقتل مسيلمة في خلافة أبي بكر، وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في خلافة عمر، وقيل: أن سجاح تابت، ثم كان أول من خرج بعدهم المختار بن أبي عبيد الثقفي، غلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير، فأظهر محبة أهل البيت، ودعاء الناس إلى طلب قتلة الحسين، فتتبعهم، فقتل كثيرا ممن باشر ذلك، أو أعان عليه، فأحبه الناس، ثم زين له الشيطان، فادعى النبوة، وزعم أن جبريل يأتيه، فروى أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح عن رفاعة بن عبد الله، قال: كنت أبطن شيء بالمختار، فدخلت عليه يوما، فقال: دلت وقد قام جبريل قبلك من هذا الكرسي.
وروى يعقوب بن سفيان بإسناد حسن عن الشعبي أن الأحنف بن قيس أراه كتاب المختار إليه يذكر أنه نبي، وروى أبو داود في السير عن إبراهيم النخعي، قال: قلت لعبيدة بن عمرو: أترى المختار منهم؟ قال: أما إنه من الرءوس. ومنهم: الحارث الكذاب، خرج في خلافة عبد الملك بن مروان، فقتل، وخرج في خلافة بني العباس جماعة، وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا، فإنهم لا يحصون كثرة؛ لكون غالبهم ينشأ لهم ذلك من جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة، وبدت له شبهة، كمن وصفنا.
وقد أهلك الله تعالى من وقع له ذلك منهم وبقي منهم من يلحقه بأصحابه، وآخرهم الدجال الأكبر، قاله في فتح الباري "و" لا تقوم الساعة "حتى يقبض العلم" بقبض العلماء، وقد وقع ذلك، فلم يبق إلا رسمه، "وتكثر الزلازل" وقد كثر ذلك في البلاد الشمالية والشرقية والغربية، حتى قيل إنها استمرت في بلدة من بلاد الروم التي للمسلمين ثلاثة عشر شهرا.
وفي حديث سلمة بن نفيل عند أحمد: وبين يدي الساعة سنوات الزلازل، "ويتقارب الزمان" عند زمان المهدي، لوقوع الأمن في الأرض، فيستلذ العيش عند ذلك لانبساط عدله، فتقصر مدته؛ لأنهم يستقصرون مدة أيام الرخاء وإن طالت، ويستطيلون أيام الشدة وإن قصرت، أو المراد يتقارب أهل الزمان في الجهل، فيكونون كلهم جهلاء، أو المراد الحقيقة، بأن يعتدل الليل والنهار دائما بأن تنطبق منطقة البروج على معدل الليل والنهار.
وروى أحمد والترمذي عن أنس، مرفوعا: "لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان، فتكون السنة كالشهر والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة(10/173)
من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، ولتقومن الساعة وقد نشر
__________
كالضرمة بالنار"، "وتظهر الفتن" أي تكثر وتشتهر فلا تكتم، "ويكثر الهرج"، "بفتح الهاء وسكون الراء بعدها جيم" "وهو القتل".
وعند ابن أبي شيبة: قالوا: يا رسول الله وما الهرج؟ قال: "القتل". وهو صريح في أن تفسير الهرج مرفوع، ولا يعارضه كونه جاء موقوفا في غير هذه الرواية، ولا كونه بلسان الحبشة، "وحتى يكثر فيكم المال فيفيض"، "بفتح الياء والنصب عطفا على سابقه"، أي يكثر حتى يسيل "حتى يهم"، "بضم التحتية وكسر الهاء وشد الميم": يحزن "الرجل" الذي في البخاري رب المال "مفعول"، "من يقبل صدقته"، "فاعل".
وفي رواية: "بفتح الياء وضم الهاء"، ورب المال "فاعل، ومن مفعوله"، كما في الفتح وغيره، "وحتى يعرضه"، "بفتح الياء" يظهره.
قال الطيبي: معطوف على مقدر، المعنى: حتى يهم طلب من يقبل الصدقة صاحب المال، فيطلبه حتى يجده وتى يعرضه، "فيقول الذي يعرضه عليه لا أرب"، "بفتحتين" لا حاجة "لي به" لاستغنائي عنه.
قال القرطبي في التذكرة: هذا مما لم يقع، بل يكون فيما يأتي، وقال الحافظ: التقييد بقوله: فيكم يشعر بأنه في زمن الصحابة، وأما قوله: "فيفيض" ... إلخ، فهو إشارة إلى ما وقع في زمن عمر بن عبد العزيز، أن الرجل كان لا يجد من يقبل صدقته لبسط عدله وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا، وقوله: "حتى يعرضه" ... إلخ إشارة إلى ما سيقع زمن عيسى، فيكون فيه إشارة إلى ثلاثة أحوال: الأولى: كثرة المال فقط في زمن الصحابة, الثانية: فيضه بحيث يكثر ويحصل استغناء كل أحد عن أخذ مال غيره، ووقع ذلك في زمن عمر بن عبد العزيز.
أخرج يعقوب ابن سفيان في تاريخه بسند جيد، عن يحيى بن أسيد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: والله ما مات عمر بن عبد العزيز حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم، فيقول: اجعلوا هذا حيث ترون في الفقراء، فما يبرح حتى يرجع بماله، فيتذكر من يضعه فيهم فلا يجده، فيرجع به قد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس، وسبب ذلك بسطه العدل وإيصال الحقوق لأهلها حتى استغنوا, الثالثة: كثرته وحصول الاستغناء عنه حتى يهم صاحب المال، لكونه لا يجد من يقبل صدقته، ويزداد بأن يعرضه على غيره، ولو كان يستحق الصدقة فيأبى أخذه، وهذا في زمن عيسى عليه السلام، ويحتمل أن يكون هذا الأخير عند خروج النار واشتغال الناس بالمحشر، فلا يلتفت أحد إلى شيء، بل نقصد نجاة نفسه ومن استطاع من أهله وولده، "وحتى يتطاول الناس في البنيان" بأن يكون كل ممن يبني، يريد ارتفاعه أعلى من ارتفاع الآخر، أو(10/174)
الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها".
__________
المراد المباهاة به في الزينة والزخرفة، أو أعم من ذلك، وقد وجد ذلك وهو في ازدياد، "وحتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه" لما يرى من عظم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء، واستيلاء الباطل في الأحكام، وعموم الظلم واستحلال الحرام، والتحكم بغير حق في الأموال والأعراض والأبدان، كما في هذه الأزمان، فقد علا الباطل على الحق، وتغلب العبيد على الأحرار من سادات الخلق، فباعوا الأحكام، ورضي بذلك منهم الحكام، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ ولا منجا من الله إلا إليه.
وقيل: ذلك لما يقع لبعضهم من مصيبة في نفسه، أو أهله, أو ماله، وإن لم يكن في ذلك شيء يتعلق بدينه.
وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعا: "لا تذهب الدنيا حتى يمر الرجل على القبر، فيتمرغ عليه ويقول: يا ليتني مكان صاحب هذا القبر، وليس به الدين إلا البلاء". وسبب ذلك أنه يقع البلاء والشدة حتى يكون الموت الذي هو أعظم المصائب أهون على الرجل، فيتمنى أهون المصيبتين في اعتقاده، وذكر الرجل للغالب، وإلا فالمرأة يمكن أن تتمنى الموت لذلك أيضا، إلا أنه لما كان الغالب أن الرجال هم المبتلون بالشدائد، والنساء محجبات لا يصلين نار الفتنة، خصهم، ثم لا يلزم كونه في جميع الناس والبلاد والأزمان بل يصدق باتفاقه لبعض الناس في بعض البلاد في بعض الأزمان، وهو إخبار عما يكون لا تعرض لحكم شرعي، فلا ينافي النهي عن تمني الموت، وعلى التفسير الأول: بفساد الدين، فيجوز تمنيه ليسلم دينه، لحديث: "وإذا أردت بالناس فتنة فاقبضني إليك غير مفتون". كما قال ابن عبد البر: "و" لا تقوم الساعة "حتى تطلع الشمس من مغربها" غاية لعدم قيامها.
قال الكرماني: فإن قيل بين أهل الهيئة، أن الفلكيات بسيطة، لا تختلف مقتضاياتها، ولا يتطرق إليها خلاف ما هي عليه، قلت: قواعدهم منقوضة، ومقدماتهم ممنوعة، ولئن سلمنا صحتها، فلا امتناع في انطباق منطقة البروج على معدل الليل، بحيث يصير المشرق مغربا والمغرب مشرقا. انتهى.
وآية ذلك أن يطول الليل حتى يكون قدر ليلتين، رواه ابن مردويه عن حذيفة، رفعه: "فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل" صفة نفسا، "أو كسبت في إيمانها خيرا"، "عطف على آمنت"، والمعنى لا ينفع الإيمان حينئذ(10/175)
فهذه ثلاثة عشر علامة جمعها أبو هريرة في حديث واحد، ولم يبق بعد
__________
نفسا غير مقدمة إيمانها، أو مقدمة إيمانها غير كاسبة في إيمانها خيرا.
قال الناصر بن المنير رام الزمخشري: الاستدلال بالآية على مذهبه أن الكافر والعاصي في الخلود سواء، لأنه سوى بينهما في عدم الانتفاع بما يستدركان بعد ظهور الآيات ولا يتم ذلك، فإن هذا الكلام في البلاغة يلقب باللف، وأصله يوم يأتي بعض آيات ربك، لا ينفع نفسا إيمانها، لم تكن مؤمنة قبل إيمانها بعد، ولا نفسا لم تكسب خيرا قبل ما تكسبه من الخير بعد، فلف الكلامين، فجعلهما كلاما واحدا مجازا وبلاغة، ويظهر بذلك أنها لا تخالف مذهب أهل الحق، فلا ينفع بعد ظهور الآيات اكتساب الخير، وإن نفع الإيمان المتقدم من الخلود، فهي بالرد على مذهبه أولى من أن تدل له. انتهى.
وفي مسلم عن أبي هريرة، مرفوعا: "ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال, والدابة".
قال الحافظ: والذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى عليه السلام، وأن طلوع الشمس من مغربها هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغيير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة.
وفي مسلم عن عبد الله بن عمر، ورفعه: "أول الآيات طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى، فأيهما خرجت قبل الأخرى، فالأخرى منها قريب".
وقال أبو عبد الله الحاكم: الذي يظهر أن طلوع الشمس يسبق خروج الدابة، ثم تخرج الدابة في ذلك اليوم أو الذي يقرب منه.
قال الحافظ: والحكمة في ذلك أن عند طلوعها من مغربها يغلق باب التوبة، فتخرج الدابة تميز المؤمن من الكافر، تكميلا للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس، كما سبق في بدء الخلق من حديث أنس.
وروى عبد بن حميد والطبراني بسند صحيح عن عائشة: إذا خرجت أول الآيات طرحت الأقلام وطويت الصحف وخلصت الحفظة وشهدت الأجسام على الأعمال، وهذا موقوف وحكمه الرفع، "ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما" بغير تحتية بعد الموحدة ليتبايعانه، "فلا يتبايعانه ولا يطويانه" وللحاكم عن عقبة بن عامر، رفعه: "تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع حتى تملأ السماء، ثم ينادي مناد: يا أيها الناس ثلاثا، يقول في الثالثة: أتى أمر الله". قال: "والذي نفسي بيده إن الرجلين لينشران الثوب بينهما(10/176)
هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط. وقد ظهر أكثر هذه العلامات.
فأما قوله: "حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة" , فيريد فتنة معاوية وعلي بصفين. قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا أول خطب طرق الإسلام.
وتعقبه القرطبي بأن أول أمر دهم الإسلام موت النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بعده موت عمر، لأن بموته عليه الصلاة والسلام انقطع الوحي وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك، وبموت عمر سل سيف الفتنة فقتل عثمان. وكان من قضاء الله وقدره ما كان وما يكون.
__________
فلا يطويانه"، "ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته"، "بكسر اللام وسكون القاف فحاء مهملة" أي ناقته اللبون "فلا يطعمه" أي فلا يشربه، "ولتقومن الساعة وهو يليط"، "بضم التحتية وكسر اللام وسكون التحتية فطاء مهملة" أي يصلح بالطين "حوضه" فيسد شقوقه ليملأه ويسقي منه دوابه، "فلا يسقي فيه" أي تقوم القيامة قبل أن يسقي فيه، "ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته"، "بضم الهمزة" لقمته "إلى فيه" فمه "فلا يطعمها" أي تقوم الساعة قبل أن يضع لقمته في فيه، أو قبل أن يمضغها، أو يبتلعها. وعند البيهقي عن أبي هريرة، رفعه: "تقوم الساعة على رجل أكلته في فيه يلوكها فلا يسيغها ولا يلفظها". وهذا كله إشارة إلى أنها تقوم بغتة، وأسرها رفع اللقمة إلى الفم.
"فهذه ثلاثة عشر علامة، جمعها أبو هريرة في حديث واحد" كما سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم "ولم يبق بعد هذا ما ينظر من صحيح العلامات والأشراط" لقيام الساعة، "وقد ظهر أكثر هذه العلامات، فأما قوله": "حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة" الإسلام، أو أن كلا على الحق، "فيريد فتنة معاوية وعلي بصفين".
"قال القاضي أبو بكر" محمد "بن العربي" الحافظ الفقيه: "وهذا أول خطب طرق الإسلام، وتعقبه القرطبي بأن أول أمر دهم" أي فجأ "الإسلام موت النبي صلى الله عليه وسلم" لانقطاع خبر السماء مع ما آذن به من إقبال الفتن والحوادث والكرب، فهو الخطب الكالح والرزء لأهل الإسلام الفادح، وقد سمع أبو ذؤيب الهذلي في نومه الهاتف يقول:
خطب أجل أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومعقد الآطام
قبض النبي محمد محبوبنا ... تهمي الدموع عليه بالنسجام
وهو المصيبة العامة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لتعز المسلمين في مصائبهم، المصيبة بي"، يعني لأن(10/177)
وأما قوله: "دجالون كذابون قريب من ثلاثين" فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي دجالون كذابون سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة منهن سجاح وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي". أخرجه الحافظ أبو نعيم وقال: هذا حديث غريب. قال القاضي عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عد من تنبأ من زمن النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن ممن اشتهر بذلك لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التواريخ عرف صحة هذا.
وقوله: "حتى يقبض العلم" فقد قبض العلم ولم يبق إلا رسمه.
وأما: "الزلازل" فوقع منها شيء كثير، وقد شاهدنا بعضها.
وأما قوله: "حتى يكثر فيكم المال أو حتى يهم رب المال" فهذا مما لم
__________
كل مصاب به دونها، إذ كل مصاب به عنه عوض ولا عوض عنه صلى الله عليه وسلم: "ثم بعده موت عمر" بن الخطاب "لأن بموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي".
وقال جمع من الصحابة: أنكرنا قلوبنا، أي لم يشاهدوا فيها تلك الأنوار التي كانت في حياته، "وكان أول ظهور الشر ارتداد العرب وغير ذلك" كرفع المنافقين رءوسهم، "وبموت عمر، سل سيف الفتنة" لأنه كان قفلها، وصح أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الفتن لا تظهر ما دام عمر حيا، "فقتل عثمان، وكان من قضاء الله وقدره ما كان" من الحروب الكثيرة وغيرها، "وما يكون" من ذلك إلى قيام الساعة.
"وأما قوله: "دجالون كذابون قريب من ثلاثين"، فقد جاء عددهم معينا من حديث حذيفة" بن اليمان الذي أعلمه صلى الله عليه وسلم بما كان وما يكون إلى قيام الساعة، "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي دجالون كذابون سبعة"، "بسين فمودة"، "وعشرون: منهم أربع نسوة، منهن: سجاح" التميمية "وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي".
"أخرجه الحافظ أبو نعيم" أحمد بن عبد الله الأصبهاني، "وقال: هذا حديث غريب" تفرد به معاوية بن هشام، لكن أخرجه أحمد بسند جيد، وسبق الجمع بينه وبين حديث جابر بن سمرة وثوبان وابن الزبير من الجزم بالثلاثين؛ بأنه على طريق جبر الكسر، وأما ما رواه أحمد وأبو يعلى عن ابن عمر: ثلاثون كذابون أو أكثر، للطبراني عنه: "لا تقوم الساعة حتى يخرج سبعون كذابا" فسندهما ضعيف، وعلى تقدير الثبوت فيحمل على المبالغة في الكثرة لا التحديد.
"قال القاضي عياض: هذا الحديث قد ظهر، فلو عد من تنبأ من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن ممن اشتهر بذلك، لوجد هذا العدد، ومن طالع كتب التواريخ عرف صحة هذا" قال:(10/178)
يقع.
وقوله: "حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه" لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول العلماء وغير ذلك، مما ظهر كثير منه.
وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز يضيء لها أعناق الإبل ببصرى". وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة
__________
ولولا الإطالة لنقلنا ذلك، والفرق بين هؤلاء وبين الدجال الأكبر أنهم يدعون النبوة، وذاك يدعي الألوهية مع اشتراك الكل في التمويه والادعاء الباطل.
قال الأبي: دعوى النبوة لفظ أو معنى حتى يدخل فيه ما يقع لكثير، أن يقول: قيل لي أو أذن لي، وقد كان الشيخ ينكر هذه المقالة ويقول: لا أقبلها ولا من المرجاني الذي صحت ولايته قال: وقد اختلف مم يعرف النبي أن الذي يخاطبه ملك، فكيف يصح لغيره أن يأتي بكلام فيه تعمية توهم أن الذي يقول له ذلك ملك، كذا قال وفيه نظر، لأن المراد كما مر عن الحافظ من قامت له شكوة، لا مطلق من ادعى النبوة، إذ لا يحصون كثرة، وغالبهم ينشأ له ذلك من جنون أو سوداء، وليس قول من قال من الأولياء: قيل لي أو أذن لي من دعوى النبوة في شيء، إنما هو من باب الإلهام والإلقاء في القلب المشار إليه بحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ثم قرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 75] .
أخرجه الترمذي مرفوعا، "وقوله: حتى يقبض العلم، فقد قبض العلم ولم يبق إلى رسمه" أثره الدال عليه، "وأما الزلازل فوقع منها شيء كثير، وقد شاهدنا بعضها".
"وأما قوله: حتى يكثر فيكم المال، أو حتى يهم رب المال" كذا في نسخ, وفي بعضها: الرجل موافقة لما قدم، لكن الذي في البخاري رب المال كما مر، "فهذا مما لم يقع" وقدمت تفصيله.
"وقوله: حتى يمر الرجل بقبر الرجل، فيقول: يا ليتني مكانه" ذلك "لما يرى من عظيم البلاء ورياسة الجهلاء وخمول" "بضمتين" "العلماء" سقوطهم وعدم حظهم، مأخوذ من خمل المنزل خمولا إذا عفا ودرس "وغير ذلك مما ظهر كثير منه".
زاد عياض: أو لما يرى من البلاء والمحن والفتنة، كما قال في الحديث الآخر: "والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل، ولا المقتول على أي شيء قتل" رواه مسلم، وعلى الوجهين: فقد وقع ما أخبره به صلى الله عليه وسلم.(10/179)
عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وفي يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها، وارتجت الأرض بمن عليها، وعجت الأصوات لبارئها، ودامت الحركة إثر الحركة، حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة، وزلزلوا زلزالا شديدا، من جملة ثمانية عشر حركة في يوم واحد دون ليلته.
قال القرطبي: وكان يأتي المدينة ببركته عليه الصلاة والسلام نسيم بارد, وشوهد من هذه النار غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن
__________
"وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين" كليهما في الفتن، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار" أي تنفجر "من أرض الحجاز، يضيء لها أعناق الإبل ببصرى"، "بضم الموحدة وفتح الراء" مقصور، ونصب أعناق مفعول يضيء على أنه متعد والفاعل النار، أي تجعل على أعناق الإبل ضوءا، وبصرى مدينة معروفة بالشام، وهي مدينة حوران، بينها وبين دمشق نحو ثلاثة مراحل، وفي كامل بن عدي عن عمر، رفعه: "لا تقوم الساعة حتى يسيل واد من أودية الحجاز بالنار، يضيء له أعناق الإبل ببصرى"، وفي إسناده عمر بن سعيد التنوخي.
قال الحافظ: ذكره ابن حبان، ولينه ابن عدي والدارقطني، وهذا ينطبق على النار المذكورة، "وقد خرجت نار عظيمة على قرب مرحلة من المدينة، وكان بدؤها زلزلة عظيمة في ليلة الأربعاء بعد العشاء ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة" لا خلاف في السنة، وأما اليوم فجزم القرطبي في التذكرة، بما قال المصنف، وقال في جمل الإيجاز: اضطرب الناقلون في تحقيق اليوم الذي ابتدأت فيه، فالأكثر أن ابتداءها كان يوم الأحد، مستهل جمادى الآخرة.
وقيل: ابتدأت ثالث الشهر، وجمع بأن القائل بالأول، لأنها كانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهورا اشترك فيه الخاص والعام، "وفي يوم الثلاثاء اشتدت حركتها، وعظمت رجفتها، وتتابعت حطمتها" كسرها كلما أتت عليه، "وارتجت" اضطربت "الأرض بمن عليها وعجت" ارتفعت "الأصوات لبائها" خالقها، "ودامت الحركة أثر الحركة حتى أيقن أهل المدينة بوقوع الهلكة"، "بفتحتين" بمعنى الهلاك "وزلزلوا" حركوا "زلزالا شديدا" من شدة الفزع، وهذا إنما نقله المصنف في شرح البخاري، عن القطب القسطلاني في جمل الإيجاز بعد يوم الثلاثاء، ولفظه، وجمع بأن القائل بالأول بأنها كانت خفيفة إلى ليلة الثلاثاء بيومها، ثم ظهرت ظهورا شديدا، واشتدت حركتها إلى آخر ما هنا، وقال عقب قوله: زلزلوا زلزالا(10/180)
فأحرقتها. قال: وقال لي بعض أصحابنا: ولقد رأيتها صاعدة في الهواء من مسيرة خمسة أيام، قال: وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جيال بصرى.
وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: أقامت اثنين وخمسين يوما، قال وكان انطفاؤها في السامع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج.
وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود، وقد نبه عليها القرطبي في التذكرة، وأفردها بالتأليف الشيخ قطب الدين القسطلاني في كتاب سماه "جمل الإيجاز بنار الحجاز" فأتى فيه من رقائق الحقائق
__________
شديدا، فلما كان يوم الجمعة نصف النهار، ثار في الجو دخان متراكم أمره متفاقم، ثم شاع شعاع النار، وعلا حتى غشي الأبصار. انتهى
فهو صريح في وقوع الاشتداد الموصوف بما ذكر في يوم الأربعاء لا في يوم الثلاثاء كما قال المصنف، فقوله "من جملة ثمانية عشر حركة في يوم واحد دون ليلته" صريحه أنه يوم الثلاثاء، والمنقول أنه يوم الأربعاء كما علم.
"قال القرطبي" في تذكرته: كان بدؤها زلزلة عظيمة ليلة الأربعاء، ثالث جمادى الآخرة، سنة أربع وخمسين وستمائة، إلى ضحوة النهار يوم الجمعة، فسكنت بقريظة عند قاع التنعيم بطرف الحرة، ترى في صورة البلد العظيم، عليها سور محيط عليه شراريف كشراريف الحصون، وأبراج ومواذن، ويرى رجال يقودونها، لا تمر على جبل إلا دكته وأذابته، ويخرج من مجموع ذلك نهر أحمر ونهر أزرق له دوي كدوي الرعد، يأخذ الصخور والجبال بين يديه، وينتهي بها إلى محط الركب العراقي، فاجتمع من ذلك ردم صار كالجبل العظيم، وانتهت النار إلى قرب المدينة.
قال: "وكان يأتي المدينة ببركته صلى الله عليه وسلم نسيم بارد، وشوهد من هذه النار" غليان البحر لفظ القرطبي "غليان كغليان البحر، وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها".
"قال" القرطبي: "وقال لي بعض أصحابنا: ولقد رأتها صاعدة في الهواء من مسيرة خمسة أيام" من المدينة، "قال: وسمعت أنها رئيت من مكة ومن جبال بصرى" مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: "تضيء لها أعناق الإبل ببصرى" وقال أبو شامة: وردت كتب من المدينة في بعضها، أنه ظهر نار بالمدينة، انفجرت من الأرض، وسال منها واد من نار حتى حاذى جبل أحد، وفي آخر: سال منا واد يكون مقداره أربع فراسخ وعرضه أربعة أميال، يجري على وجوه الأرض، يخرج منه مهاد وجبال صغار.
"وقال الشيخ قطب الدين القسطلاني: أقامت اثنين وخمسين يوما، قال: وكان(10/181)
بالعجب العجاب، والله الموفق للصواب.
__________
انطفاؤها في السابع والعشرين من شهر رجب ليلة الإسراء والمعراج" أي الذي اتفق فيه ذلك، "وبالجملة فاستيفاء الكلام على هذه النار يخرج عن المقصود" من الاختصار. "وقد نبه عليه القرطبي في التذكرة، وأفردها بالتأليف الشيخ قطب الدين القسطلاني في كتاب سماه جمل الإيجاز بنار الحجاز، فأتى فيه من رقائق الحقائق بالعجب العجاب", ومن جملة ذلك قوله فيه: حكى لي جمع ممن حضر أن النفوس سكرت من حلول الوجل، وفتنت من ارتقاب نزول الأجل، ونشج المجاورون في الجؤار بالاستغفار، وعزموا على الإقلاع عن الإصرار والتوبة عما اجترحوا من الأوزار، وفزعوا إلى الصدقة بالأموال، فصرفت عنهم النار ذات اليمين وذات الشمال، وظهر حسن بركة نبينا صلى الله عليه وسلم في أمته، ويمن طلعته في رفقته بعد فرقته، فقد ظهر أن النار المذكورة في الحديث هي النار التي ظهرت بنواحي المدينة، كما فهمه القرطبي وغيره، ويبقى النظر هل هي من داخل كالتنفس؟ أو من خارج كصاعقة نزلت؟ والظاهر الأول، ولعل التنفس حصل من الأرض لما تزلزلت وتزايلت عن مركزها الأول، وقد تضمن الحديث في ذكر النار ثلاثة أمور: خروجها من الحجاز وسيلان واد منه بالنار وقد وجدا، وأما الثالث، وهو إضاءة أعناق الإبل ببصرى، فقد جاء من أخبر به، فإذا ثبت هذا فقد صحت الأمارات وتمت العلامات وإن لم يثبت، فتحمل إضاءة أعناق الإبل ببصرى على وجه المبالغة، وذلك في لغة العرب سائغ، وفي باب التشبيه في البلاغة بالغ، وللعرب في التصرف في المجاز ما يقضي للغتها بالسبق في الإعجاز، وعلى هذا يكون القصد بذلك التعظيم بشأنها والتفخيم لمكانها والتحذير من فورانها وغليانها، وقد وجد ذلك على وفق ما أخبر، وقد جاء من أخبر أنه أبصرها من تيماء وبصرى على مثل ما هي من المدينة في البعد، فتعين أنها المراد، وارتفع الشك والعناد، وأما النار التي تحشر الناس فنار أخرى، قاله المصنف، "والله الموفق للصواب" سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك ما شاء الله لا قوة إلا بالله، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، وصلى الله وسلم على سيد المرسلين.(10/182)
المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم
مدخل
...
المقصد التاسع: في لطيفة من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 97-99] .
__________
المقصد التاسع:
"في" فوائد "لطيفة" أي قليلة سهلة التناول من لطف "بالضم" صغر "من لطائف عباداته صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى مخاطبا له صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ} "للتحقيق" {نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ(10/182)
فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد بـ"اليقين" وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن.
فإن قيل: ما الفائدة في قوله: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة؟
أجاب القرطبي تبعا لغيره: بأنه لو قال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} مطلقا ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا، ولما قال: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي اعبد ربك في زمان حياتك ولا تخل لحظة من لحظات الحياة في هذه العبادات, كما قال العبد الصالح: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31] .
وهذا مصير منه إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار، وهي مسألة معروفة
__________
بِمَا يَقُولُونَ} من الاستهزاء والتكذيب، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي قل سبحان الله وبحمده {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي المصلين كما قال أهل التفسير: لا خصوص لسجود؛ لأنه لا يكون مستقلا، وسجود التلاوة تابع للقراءة، وسجود الشكر على القول به، لأنه إنما يكون بسبب نعمة حصلت، فالمناسب حمله على الصلاة، لأنها تدفع ضيق الصدر لخبر: "أرحنا بالصلاة" , {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} فأمره تعالى بعبادته حتى يأتيه الموت، وهو المراد باليقين، وإنما سمي الموت باليقين لأنه أمر متيقن" تسمية مجازية، لأن اليقين اعتقاد أن الشيء كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا اعتقادا مطابقا للواقع، غير ممكن الزوال, فإطلاقه على الموت من تسمية الشيء بما يتعلق به وظاهر قول القاموس: اليقين إزاحة الشك كاليقين محركة، والموت إنه يطلق عليه حقيقة إلا أن يكون على عادته في التساهل بإدخال المجاز في الحقيقة اللغوية، "فإن قيل: ما الفائدة في قوله {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} وكان قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} كافيا في الأمر بالعبادة".
"أجاب القرطبي تبعا لغيره، بأنه لو قال: واعبد ربك مطلقا" بدون التقييد بالغاية، "ثم عبده مرة واحدة كان مطيعا"، أي ممتثلا للأمر ومنقادا له، "ولما"، "بفتح اللام وخفة الميم"، "قال {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي لما احتيج إلى ذلك في إفادة المقصود، ويصح شد الميم، والجواب محذوف، هو علم أن المراد انقياده طول حياته، دل عليه قول: "أي اعبد ربك في زمان حياتك" كلها، "ولا تخل لحظة من لحظات"، "بفتح الحاء"، "الحياة من هذه العبادات، كما قال العبد الصالح" عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي} أمرني {بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} ، وهذا مصير منه" أي القرطبي ومن تبعه "إلى أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار" أي لا يدل على(10/183)
في كتب الأصول اختلف فيها.
وهي: هل الأمر المطلق يفيد التكرار، أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهما؟ على مذاهب:
الأول: أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه، بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال، إذ لا توجد الماهية بأقل منها، وهذا مختار الإمام مع نقله له على الأقلين، ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما.
الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا، كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدًا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات.
الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح "اللمع" عن أكثر أصحابنا وأبي حنيفة وغيرهم. وإن علق بشرط أو صفة اقتضى التكرار بحسب
__________
طلبه، "وهي مسألة معروفة في كتب الأصول، اختلف فيها، وهي: هل الأمر المطلق" عن التقييد بشرط أو صفة "يفيد التكرار،" لظاهر قول الصحابي في الحج: أكل عام، "أو المرة الواحدة، أو لا يفيد شيئا منهم على مذاهب" ثلاثة:
"الأول أنه لا يفيد التكرار ولا ينافيه" بحيث لو كرر ما أمر به لا يقال فيه لم يمتثل، "بل إنما يفيد طلب فعل المأمور به" أي طلب حصول الماهية "من غير إشعار بالمرة أو المرات، لكن المرة ضرورية لأجل تحقيق الامتثال إذ لا توجد الماهية" الحقيقة "بأقل منها، وهذا مختار الإمام" أي إمام الحرمين "مع نقله له عن الأقلين" من الأصوليين، "ورجحه الآمدي وابن الحاجب وغيرهما".
"الثاني: أنه يفيد التكرار مطلقا" سواء علق بشرط أو صفة، أو لم يعلق بذلك، لأن النهي يقتضي التكرار، فكذا الأمر بجامع أن كلا منها طلب، "كما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني وأبو حاتم القزويني، فإن عين للتكرار أمدا استوعبه، وإلا استوعب زمان العمر، لكن بحسب الإمكان، فلا يستوعب زمان قضاء الحاجة والنوم وغيرهما من الضروريات", وفي نسخة من الضروريات على تقدير مضاف، أي مقتضى الضروريات والأولى أولى.
"الثالث: أنه يدل على المرة، حكاه الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن أكثر أصحابنا" الشافعية: "وأبي حنيفة وغيرهم، وإن علق بشرط أو صفة" مفهوم قوله أولا المطلق،(10/184)
تكرار المعلق به، "نحو {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] ، و {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن الأشموني لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي.
وقد روى جبير بن نفير مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين". رواه البغوي في شرح السنة وأبو نعيم في الحلية عن أبي مسلم الخولاني.
__________
"اقتضى التكرار بحسب تكرار المعلق به" فالشرط "نحو: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} فكلما وجدت الجنابة لزم التطهير، "و" الصفة نحو: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} فكلما وجد الزنا لزمت المائة. "انتهى ملخصا من شرح العلامة أبي الحسن" نور الدين علي "الأشموني"، "بضم الهمزة وسكون المعجمة" نسبة إلى أشمون بلدة بصعيد مصر، كان إماما عاما، زاهدا ورعا، متقشفا في مأكله وملبسه وفراشه.
قال الشعراوي: صحبته نحو ثلاث سنين، كأنها سنة من حسن سمته وحلاوة كلامه وقلة كلامه، ولم يزل على ذلك حتى مات رحمه الله، "لنظمه لجمع الجوامع للعلامة ابن السبكي" رحمه الله، وللأشموني أيضا "نظم المنهاج" في الفقه وشرحه ألفية بن مالك المشهور.
"وقد روى جبير"، "بجيم وموحدة" مصغر "ابن نفير" بنون وفاء" مصغر ابن مالك بن عامر الحضرمي، الحمصي، تابعي، ثقة جليل، مخضرم، ولأبيه صحبة، مات سنة ثمانين، وقيل: بعدها "مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين" جمع تار، إذ الدنيا يجمعها من لا عقل له كما ورد، "ولكن أوحي إلي أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" رواه البغوي" الحسين بن مسعود بن محمد الإمام الحافظ "في شرح السنة" أحد تصانيفه المبارك له فيها لقصده الصالح، فإنه كان من العلماء الربانيين، ذا تعبد ونسك وقناعة باليسير، مات سنة ست عشرة وخمسمائة في شوال وله ثمانون سنة.
"و" رواه "أبو نعيم" أحمد بن عبد الله "في الحلية" أي كتابه حلية الأولياء "عن أبي مسلم الخولاني: "بفتح المعجمة وإسكان الواو" نسبة إلى خولان بن عمرو قبيلة نزلت بالشام الزاهد، العابد، الشامي واسمه عبد الله بن ثوب "بضم المثلثة وفتح الواو، فموحدة" وقيل: غير(10/185)
وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح والتحميد والسجود والعبادة.
واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن.
فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية، ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية حقيرة، وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها ووجدانها، فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها، وعند ذلك يزول الحزن والغم. وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب عليَّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكروهات.
__________
ذلك تابعي كبير، ثقة، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يدركه، وعاش إلى زمن يزيد بن معاوية، "وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأربعة أشياء: التسبيح" بقوله: {فَسَبِّحْ} ، "والتحميد" بحمد ربك، "والسجود" الصلاة "والعبادة" أعم منها.
وفي البيضاوي: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، فافزع إلى الله تعالى فيما نابك بالتسبيح والتحميد، يكفك ويكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق، وكن من الساجدين من المصلين، وعنه صلى الله عليه وسلم كان إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة.
"واختلف العلماء في أنه كيف صار الإقبال على مثل هذه الطاعات سببا لزوال ضيق القلب والحزن" أشار إلى أن القلب هو المراد بالصدر في الآية، عبر بالصدر عنه مجازا لمجاورته له، وإلا فحقيقة الصدر ما نزل عن العظام عن الترقوتين إلى المعدة، وهي المنخسف تحته، "فحكى الإمام فخر الدين الرازي عن بعض المحققين أنه قال: إذا اشتغل الإنسان بمثل هذه الأنواع من العبادات انكشفت له أضواء عالم الربوبية" أي العالم الذي يتعلق به علم الرب تعالى مما غاب عن إدراكنا، "ومتى حصل ذلك الانكشاف صارت الدنيا بالكلية" أي بجملتها "حقيرة" عنده، "وإذا صارت حقيرة خف على القلب فقدانها"، "بكسر الفاء" عدمها مصدر لفقد "بفتح فسكون"، "ووجدانها"، "بكسر الواو" مصدر وجد ووجود أيضا في لغة، "فلا يستوحش من فقدانها ولا يستريح بوجدانها" لحقارتها، "وعند ذلك يزول الحزن والغم، وقال أهل السنة: إذا نزل بالعبد بعض المكاره فزع"، "بكسر الزاي وفتحها" التجأ "إلى الطاعات، كأنه يقول: تجب علي عبادتك، سواء أعطيتني الخيرات" التي تسر، "أو ألقيتني(10/186)
وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِه} [مريم: 65] .
فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ.
فإن قلت: لم لم يقل: واصطبر على عبادته، بل قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ؟
فالجواب: لأن العبادة جعلت بمنزلة القِرْن في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك أي: اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه. والمعنى: أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق فاثبت لها قاله الفخر الرازي وكذا البيضاوي.
وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] .
فأول درجات السير إلى الله تعالى، عبودية الله، وآخرها التوكل عليه، وإذا كان العبد لا
__________
في المكروهات" إذ هذا من حقيقة العبودية.
"وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر عليها، "فأمره تعالى عليه السلام بالعبادات والمصابرة على مشاق التكاليف في الإنذار والإبلاغ" كأنه قصر المشقة على ذلك، لأنه لا يشق عليه غيره من العبادات، وإن تورمت قدماه من القيام، "فإن قلت: لم لم يقل واصطبر على عبادته" مع أن المعنى على ذلك، "بل قال: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} ، قلت: "فالجواب" عبر بذلك، "لأن العبادة جعلت بمنزلة القرن"، "بكسر القاف وسكون الراء" المقاوم في علم، أو قتال، أو غير ذلك "في قولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي اثبت له فيما يورده عليك من مشاقه، والمعنى" هن "أن العبادة تورد عليك شدائد ومشاق، فاثبت لها، قاله الفخر الرازي" وحاصله: أن اللام للتعليل ومفعول اصطبر محذوف، أي اصطبر على المكاره والمشاق لأجل العبادة، "وكذا البيضاوي" بلفظ: إنما عدي "باللام" لتضمنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد والمشاق، كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك.
"وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي علم ما غاب فيهما، {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ} "بالبناء للفاعل" يعود "وللمفعول" يرد {الْأَمْرُ كُلُّهُ} فينتقم ممن عصى، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ثق به، فإنه كافيك، "فأول درجات السير إلى الله تعالى" أي السعي في طلب الوصول إلى القرب منه عز وجل "عبودية الله" بالاجتهاد فيها، "وآخرها التوكل عليه" بأن يفوض جميع أموره إليه مخلصا، بحيث لا يعتمد على غيره في أمر ما، حتى لو سأل غيره في شيء لاحظ أن المسئول لا فعل له، وأن الله هو المعطي، فإن أراد وصول شيء للعبد على يد(10/187)
يزال مسافرا إلى ربه لا ينقطع سيره إلي ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة لا يستغنى عنه ألبتة، ولو أتى بأعمال الثقلين جميعا، وكلما كان العبد في الله تعالى أقرب كان جهاده في الله أعظم، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة، ومحافظة عليها إلى أن توفاه الله تعالى. وتأمل أصحابه رضي الله عنهم فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب مقاما عظم جهادهم واجتهادهم.
ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف حيث قال: القرب
__________
بعض خلقه ألهمه فعله وأقدره عليه "وإذا كان العبد لا يزال مسافرا" أي مشغولا بالعبادة "إلى" لقاء "ربه" ففيه استعارة تصريحية تبعية، شبه الاشتغال بالطاعة بسفر إنسان إلى مقصد يريده، واشتق منه الوصف بمسافر "لا ينقطع سيره إليه ما دام في قيد الحياة، فهو محتاج إلى زاد العبادة" أي ما يوصله إليها، كاجتهاده في الطاعات وكثرة النوافل، فالعابد كأنه جعل طاعته مودية للوصول إلى الله، كطعام المسافر يوصله إلى مقصده، "لا يستغنى عنه البتة"، "بقطع الهمزة"، "ولو أتى بأعمال الثقلين" الإنس والجن "جميعا، وكلما كان العبد إلى الله تعالى أقرب" قربا معنويا، "كان جهاده في الله أعظم" من غيره، "قال تعالى: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لله، ومن أجله أعداء الله الظاهرة كأهل الزيغ، والباطنة كالقوى والنفس.
روى البيهقي في الزهد، وضعف إسناده عن جابر، قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال: "قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". قيل: وما الجهاد الأكبر؟ قال: "مجاهدة العبد نفسه". "حق جهاده" أي جهادا فيه، حقا خالصا لوجهه، فعكس، وأضيف الحق إلى الجهاد مبالغة، كقولك: هو حق عالم، وأضيف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لأنه يختص بالله من حيث أنه مفعول لوجه الله ومن أجله، قاله البيضاوي تبعا للزمخشري.
قال الطيبي: يعني أن أصل المعنى: جاهدوا في الله جهادا حقا، فهو يفيد أن هناك جهادا واجبا، والمطلوب منهم الإتيان به، فإذا عكس وأضيفت الصفة إلى الموصوف بعد الإضافة إلى الله تعالى، أفاد إثبات جهاد مختص بالله، والمطلوب القيام بواجبه وشرائطه على وجه التمام بقدر التوسع والطاقة، "ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق اجتهادا وقياما بوظائف العبادة ومحافظة عليها، إلى أن توفاه الله تعالى وتأمل أصحابه" أي أحوالهم "رضي الله عنهم، فإنهم كانوا كلما ترقوا من القرب" المعنوي من الله "مقاما، عظم جهادهم" لأنفسهم ولأعداء الله،(10/188)
الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة ويريح الجسد والجوارح من كد العمل زاعما بذلك سقوط التكليف عنه, وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس وخدع الشيطان, فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه.
وقد اختلف العلماء: هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟
فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأنه لو كان كذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به من سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا به عليه، ولم
__________
"واجتهادهم" في الطاعات، "ولا تلتفت إلى ما يظنه بعض المنتسبين إلى التصوف، حيث قال: القرب الحقيقي ينقل العبد من الأعمال الظاهرة إلى الأعمال الباطنة، ويريح الجسد والجوارح من كد" أي تعب "العمل، زاعما بذلك سقوط التكليف عنه، وهؤلاء أعظم كفرا وإلحادا، حيث عطلوا العبودية، وظنوا أنهم استغنوا عنها بما حصل لهم من الخيالات الباطلة، التي هي من أماني النفس" أكاذيبها "وخدع الشيطان" ما يخدع به الإنسان ليضله، "فلو وصل العبد من القرب إلى أعلى مقام يناله العبد لما سقط عنه من التكليف مثقال حبة ما دام قادرا عليه" بإجماع.
"وقد اختلف العلماء هل كان عليه الصلاة والسلام قبل بعثته متعبدا بشرع من قبله أم لا؟ " قيل: صوابه أو لا، لأن أم لا تعادل هل، وفيه نظر، "فقال جماعة: لم يكن متعبدا بشيء" من شرائع من قبله، "وهو قول الجمهور" كالباقلاني وغيره من المحققين.
قال عياض: فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ولا متصورة في حقه حينئذ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر والنواهي، وتقرر الشريعة "واحتجوا بأنه لو كان ذلك لنقل" إلينا بعده "ولما أمكن كتمه وستره في العادة" الجارية بين الناس في مثله أن من تعبد بشرع يظهره وينقله من اطلع عليه نقلا مستفيضا لا يخفى، "إذ كان" نقله وعدم كتمانه "من مهم أمره" أي تعبده بشرع غيره عند أهل ذلك الدين، "وأولى"، أي أحق "ما اهتبل"، "بهاء ففوقية فموحدة مبني للمفعول"، أي اعتنى واهتم "به من سيرته" وصفاته المأثورة، "ولفخر به أهل تلك الشريعة" بأن من أهل ملتهم أشرف الأنبياء، "ولاحتجوا به عليه" أي لاستدل أهل تلك الشريعة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم لاتباعه، بأنك كنت على شريعتنا، فلم تنهانا عنها الآن،(10/189)
يؤثر شي من ذلك جملة.
وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا. والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى.
وذهب آخرون إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك، إذ لم يحل الوجهين منها العقل، وهذا مذهب الإمام أبي المعالي إمام الحرمين وكذا الغزالي والآمدي.
وقال آخرون: كان عاملا بشرع من قبله. ثم اختلفوا: هل يتعين ذلك الشرع أم لا؟ فوقف بعضهم على التعيين وأحجم، وجسر بعضهم على التعيين وصمم، ثم
__________
وتأمرنا بترك ما كنت توافقنا فيه "ولم يؤثر" أي ينقل "شيء من ذلك" المذكور من النقل والظهور والافتخار "جملة" أي أصلا، وكثيرا ما تستعمل بمعنى كافة وعامة، "وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلا" أي بدليل عقلي لا دخل للنقل فيه "قالوا" معللين لذلك: "لأنه يبعد أن يكون متبوعا" مقتدى به فيما شرعه الله، وأمره بدعوة الناس إليه "من عرف تابعا" لشرع غيره متعبدا به قبل بعثته.
قال عياض: وبنوا هذا على التحسين والتقبيح العقليين، وهي طريقة غير سديدة، "والتعليل الأول المستند إلى النقل أولى" أحق وأظهر لوجهين، أحدهما: ابتناء الثاني على قول ضعيف كما قاله عياض، والثاني: أن العقل يجوز أنه تابع باعتبار، ومتبوع باعتبار آخر، وإنما يمتنع في جهة واحدة.
"وذهب آخرون" وفي الشفاء طائفة "إلى الوقف في أمره عليه الصلاة والسلام" أي التوقف من غير تعيين لطرف، "وترك قطع الحكم عليه بشيء من ذلك" الحال، المتعلق بعبادته قبل البعثة "إذ لم يحل الوجهين منها" أي المسألة "العقل" أي لم يعده محالا لتساويهما عنده في الإمكان.
زاد عياض: ولا استبان عندها، أي الطائفة في أحدهما طريق النقل، "وهذا مذهب الإمام أبي المعالي" عبد الملك الجويني إمام الحرمين، وقوله: "وكذا الغزالي والآمدي" زيادة على ما في الشفاء.
"وقال آخرون" في الشفاء: وقالت فرقة: "وكان عاملا بشرع من قبله" من الأنبياء، "ثم اختلفوا هل يتعين ذلك الشرع" بتعيين صاحبه "أم لا" فيقال: كان على شرع لم يعلم،"فوقف بعضهم على التعيين وأحجم"، "بحاء فجيم" أي تأخر ولم يجسر عليه لعدم دليل قام عنده على(10/190)
اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع فقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى.
فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة. والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل -كما قدمناه- لكنه ولم يخف جملة، ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء فلزمت شريعته من جاء بعده، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض، وهو كلام حسن بديع، لكن قوله: فهذه جملة المذاهب، فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء، فقد
__________
التعيين، "وجسر" تجرأ، وأقدم "بعضهم على التعيين وصمم" عزم وتمادى على ذلك ولم يرجع عنه، "ثم اختلفت هذه الفرقة المعينة فيمن كان يتبع، فقيل: نوح،" لأنه أول رسول إلى أهل الأرض كما في الصحيح، أي بالإهلاك والإنذار لقومه، فلا يرد أن أول الرسل آدم، لأن رسالته كانت كالتربية لبنيه، "وقيل: إبراهيم" لأنه أفضل الرسل بعد نبينا، "وقيل: موسى" لأنه كليم الله وكتابه أجل الكتب قبل وجود القرآن، "وقيل: عيسى" لأنه أقرب الرسل زمانا إليه، "فهذه جملة المذاهب" المنقولة "في هذه المسألة والأظهر", أي الأقوى دليلا "فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر "محمد بن الطيب الباقلاني، وهو قول الجمهور المنقول أولا، وقد وصف أبو بكر في الشفاء، بأنه سيف السنة ومقتدى فرق الأمة إشارة إلى ترجيحه، وأنه لا ينبغي العدول عنه، ولأنه مالكي على مذهب عياض، لا شافعي كما وهم، "وأبعدها مذهب المعينين، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل" إذ مثله لا يخفى "كما قدمناه لكنه" لم ينقل، فدل على عدمه، "ولم يخف،" أي يستر "جملة" على الناس، "ولا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء" قبله، فهو أقربهم إليه، ولا نبي بينهما، فهو أولى به، كما ذهب إليه من عينه "فلزمت شريعته ما جاء بعده" لأنه المتبادر ببادي الرأي قبل، التأمل وعند التأمل لا يلزم من جاء بعده، "إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى" وإنما كانت لبني إسرائيل كما في التنزيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ} [الصف: 6] ، "بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه وسلم" فإنها عمت الثقلين إجماعا والملائكة على أحد القولين ورجح، ومقابل الصحيح إن دعوة بعض من قبله عامة أيضا، لقول نوح: {لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، إذ لو لم يرسل لهم ما استحقوا الهلاك بمخالفته، وهذا إن سلم فهو عموم نسبي لا حقيقي، كما لنبينا عليه الصلاة والسلام.
"انتهى ملخصا من كلام القاضي عياض" في الشفاء "وهو كلام حسن بديع" في(10/191)
قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا، وهو محكي عن ابن برهان، وقيل: جميع الشرائع. حكاه صاحب "المحصول" عن المالكية.
وأما قول من قال: إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123] فهذا قول ساقط مردود، لا يصدر مثله إلا عن سخيف العقل كثيف الطبع.
وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد، لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: {أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك. ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ولم تكن له شريعة تخصه كيوسف بن يعقوب. على قول من يقول إنه ليس برسول. وقد سمى الله تعالى
__________
الحسن "لكن قوله: فهذه جملة المذاهب فيه نظر، لأنه بقي عليه منها شيء فقد قيل: شريعة آدم عليه السلام أيضا" لأنه الأب الأول، "وهو محكي عن ابن برهان" "بفتح الموحدة" أحمد بن علي بن برهان الفقيه، صاحب الفقيه.
"وقيل: جميع الشرائع" بأن يتعبد بما شاء منها بالإلهام "حكاه صاحب المحصول عن المالكية".
"وأما قول من قال إنه كان على شريعة إبراهيم، وليس له شرع منفرد به، وأن المقصود من بعثته صلى الله عليه وسلم إحياء شرع إبراهيم، وعول في إثبات مذهبه على قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَينَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} ، فهذا قول ساقط مردود لا يصدر مثله إلا عن سخيف" أي رقيق "العقل" أي ناقصه، "كثيف" غليظ "الطبع" لا يفهم شيئا، "وإنما المراد بهذه الآية الاتباع في التوحيد" أي الإيمان بالله وحده وما يتعلق بالعقائد الحقة مما يشترك فيه جميع الأنبياء "لأنه لما وصف إبراهيم عليه السلام في هذه الآية، بأنه ما كان من المشركين، "فلما قال: {أَنِ اتَّبِعْ} كان المراد منه ذلك،" أي التوحيد لا اتباع شريعته، "ومثله قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فالمراد بهداهم ما اتفقوا عليه من التوحيد دون فروع الشرائع، فإنه لا يضاف للكل، وقد قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] الآية، "وقد سمى الله فيهم من لم يبعث" أي لم يرسل بشريعة خاصة، وأمر بدعوة الناس إليها، "ولم تكن له شريعة" جديدة "تخصه، كيوسف بن يعقوب" بن(10/192)
جماعة منهم في هذه الآية وشرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها، فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى.
فإن قيل النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي صح حصول المتابعة فيها.
__________
إسحاق بن إبراهيم، "على قول من يقول: إنه ليس برسول" وإنما هو نبي على شريعة أبيه يعقوب، أو على ملة إبراهيم، والجمهور على أنه رسول بعث إلى القبط، لقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] ، فإن المراد يوسف بن يعقوب، والقائل بأنه ليس برسول، قال: المراد في الآية حفيده يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب "وقد سمى الله تعالى جماعة منهم" سرد أسماءهم على التوالي "في هذه الآية" ثم أمره بالاقتداء بهم "وشرائعهم مختلفة، لا يمكن الجمع بينها" حتى يؤمر باتباعهم جميعا في فروع الشرائع العلمية التعبدية، "فدل على أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد وعبادة الله تعالى" القلبية التي لم يختلف فيها ونحوها من أصول الدين، وهذا أورده عياض ردا على من قال: كان يتعبد قبل البعثة على شريعة إبراهيم، فأورده المصنف ردا على من قال: كان بعدها على شريعته، لأنه أهم بالاعتناء برده، وكلاهما حسن، ولما كان ساقطا صادرا عن قلة العقل، لم يعتن عياض برده، وإنما قال عقب قوله: بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا، ولا حجة أيضا للآخرين، أي القائلين بأنه كان قبل البعثة متبعا لشريعة إبراهيم في قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء: 125] ، ولا للآخرين في قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} فحمل هذه الآية على اتباعهم في التوحيد، كقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وقد سمى فيهم من لم يبعث ... إلخ ما ذكر المصنف هنا بالحرف، وقال بعده: هل يلزم من قال بمنع الاتباع بهذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا أو يخالفون بينهم، أما من منع الاتباع عقلا، فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية، وأما من مال إلى النقل فأينما تصور له وتقرر تبعه، ومن قال بالوقف فعلى أصله، ومن قال بوجوب الاتباع لمن قبله فليلتزمه بمساق حجته في كل نبي. ا. هـ.
"فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية" العقلية والنقلية "وإذا كان كذلك لم يكن متابعا لأحد، فيمتنع حمل قوله: {أَنِ اتَّبِعْ} على هذا المعنى" الذي هو التوحيد، "فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها"(10/193)
أجاب الفخر الرازي: بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة، على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن.
وقد قال صاحب الكشاف: لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قِبَل أن هذه الآية دلت على تباعد النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى.
ومراده بالمدائح: المذكورة في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120] .
__________
كما قال ذلك البليد القليل العقل.
"أجاب الفخر الرازي بأنه يحتمل أن يكون المراد الأمر بمتابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهو أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة" كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] ، "وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى", والمجادلة مع كل واحد بحسبه "بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن" كما وقع لإبراهيم من الاستدلال بالكوكب، ثم القمر، ثم الشمس.
"وقد قال صاحب الكشاف لفظة "ثم" في قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} تدل على تعظيم قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلال محله، فإن أشرف ما أوتي خليل الله من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة" عليه من الله تعالى "اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته من قِبَل"، "بكسر ففتح" أي جهة "أن هذه الآية دلت على تباعد" أي ارتفاع "النعت في المرتبة على سائر المدائح التي مدحه الله بها. انتهى".
"ومراده" أي الزمخشري "بالمدائح المذكورة في قوله: إن إبراهيم كان أمة" إماما قدوة، جامعا لخصال الخير التي لا تكاد توجد إلا مفرقة في أشخاص عديدة، كقوله:
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
"قانتا لله" مطيعا فيما يأمره، "حنيفا" مائلا عن الباطل إلى الدين القيم، "ولم يك من المشركين" كما زعمت قريش أنهم على ملة إبراهيم، "شاكرا لأنعمه" ذكر بلفظ القلة، تنبيها على أنه لا يخل بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة "اجتباه" اصطفاه "وهداه إلى صراط مستقيم" في الدعوة إلى الله، "وآتيناه في الدنيا حسنة" بأن حببه للناس حتى أن أرباب الملل،(10/194)
وقال ابن العراقي في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة؟ وأي أنواعها؟ وعلى أي وجه فعلها؟ يحتاج ذلك لنقل ولا أستحضره الآن. انتهى.
وقال شيخ الإسلام البلقيني في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة، وحمل بعضهم التعبد على التفكر.
قال: وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع: وهي الانعزال عن الناس، كما صنع إبراهيم عليه السلام باعتزاله قومه والانقطاع إلى الله تعالى، فإن "انتظار
__________
يتولونه ويثنون عليه، أو رزقه أولادا طيبة وعمرا طويلا في السعة والطاعة والثناء الحسن في كل أهل الأديان، "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" الذين لهم الدرجات العلى في الجنة، كما سأله بقوله: وألحقني بالصالحين.
"وقال ابن العراقي" أحمد ولي الدين بن عبد الرحيم الحافظ ابن الحافظ "في شرح تقريب الأسانيد: وليت شعري كيف تلك العبادة" التي كان يتعبد بها صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، "وأي أنواعها، وعلى أي وجه فعلها، يحتاج ذلك لنقل، ولا أستحضره الآن. انتهى".
"وقال شيخ الإسلام" سراج الدين أبو حفص عمر "البلقيني"، "بضم فسكون فكسر"، "في شرح البخاري: لم يجئ في الأحاديث التي وقفنا عليها كيفية تعبده عليه الصلاة والسلام، لكن روى ابن إسحاق وغيره" كالبيهقي "أنه عليه السلام كان يخرج إلى حراء" الجبل المعروف بمكة "في كل عام شهرا من السنة" وهو رمضان، كما رواه البيهقي "يتنسك" أي يتعبد "فيه، وكان من تنسك قريش في الجاهلية أن يطعم" المتنسك "من جاءه من المساكين، حتى إذا انصرف من مجاورته لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة" يعني: فيحتمل أن يكون تنسكه لله في حراء كذلك، "وحمل بعضهم" كابن المرابط: "التعبد على التفكر" في مصنوعات الله.
"قال" البلقيني: "وعندي أن هذا التعبد يشتمل على أنواع، وهي الانعزال عن الناس" لأنه عبادة لا سيما من كان على باطل، "كما صنع إبرايم عليه السلام باعتزاله قومه" قال تعالى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [مريم: 48] ، "والانقطاع إلى الله تعالى" عن(10/195)
الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب مرفوعا، وينضم إلى ذلك الأفكار، وعن بعضهم: كانت عبادته في حراء التفكر. انتهى.
وقد آن أن أشرع فيما قصدته على النحو الذي أردته, وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع:
__________
الخلق والراحة من أشغال الدنيا وفراغ القلب، وناهيك بهذا من عبادة "فإن انتظار الفرج عبادة" كما رواه علي بن أبي طالب، مرفوعا" أخرجه ابن أبي الدنيا، والبيهقي والديلمي عن علي، رفعه: "انتظار الفرج من الله عبادة"، "وينضم إلى ذلك الأفكار،" أي التفكير الذي قاله بعضهم كما مر فقوله: "وعن بعضهم كانت عبادته في حراء التفكر" تكرار. "انتهى" كلام البلقيني.
وفي شرح المصنف للبخاري: وإنما كان يخلو بحراء دون غيره، لأن جده عبد المطلب أول من كان يخلو فيه من قريش، وكانوا يعظمونه لجلالته وسنه، فتبعه على ذلك، فكان يخلو بمكان جده، وكان الزمن الذي يخلو فيه شهر رمضان، فإن قريشا كانت تفعله كما كانت تصوم يوم عاشورا. ا. هـ.
"وقد آن" كحان وزنا ومعنى، أي قرب "أن أشرع" أي دخل وقت شروعي "فيما قصدته على النحو" الوجه "الذي أردته" عبر به تفننا وفرارا من تكرار اللفظ بعينه، "وقد اقتصرت من عباداته عليه الصلاة والسلام على سبعة أنواع" "بسين فموحدة".(10/196)
النوع الأول: في الطهارة
وفيه فصول:
الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه ومقدار ما كان يتوضأ به
اعلم أن الوضوء بالضم: الفعل، وبالفتح: الماء الذي يتوضأ به، على المشهور فيهما، وهو مشتق من الوضاءة، وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا.
وقد استنبط بعض العلماء -كما جاء في فتح الباري- إيجاب النية في الوضوء من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] لأن التقدير: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤا لأجلها. ومثله قوله: إذا رأيت الأمير فقم، أي، لأجله.
وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه نويت رفع الحدث ولا غيرها، لا هو ولا أصحابه ألبتة، ولم يرو عنه لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى.
قلت: أما التلفظ بالنية فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم، وأما كونه عليه السلام أتي بها فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في "المعالم" اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور: هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قلنا في إثباته طرق:
__________
النوع الأول: في الطهارة
لغة النظافة، أي النقاء من الدنس والنجس، "وفيه فصول" ستة:
الفصل الأول: في ذكر وضوئه صلى الله عليه وسلم وسواكه
وهو طهارة لغوية، "ومقدار ما ان يتوضأ به" سماه طهارة تجوزا، لأنها لما كانت تفعل به أطلقها عليه.
"اعلم أن الوضوء بالضم" للواو "الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما" وحكي في كل منهما الأمران، "وهو مشتق من الوضاءة"، "بالهمز" وزن ضخامة الحسن والبهجة، "وسمي به لأن المصلي يتنظف به فيصير وضيئا".
"وقد استنبط بعض العلماء كما حكاه في فتح الباري إيجاب النية" القصد، وهو عزيمة القلب، قاله النووي، وقال البيضاوي: هي انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض صحيح من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا وخص الشرع بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله وامتثال حكمه "في الوضوء، من قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لأجلها" أن ترتيب الوضوء على القيام إليها مشعر بأنه لأجلها، "ومثله قوله" أي القائل، إلا أن لفظ الفتح قولهم: "إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله".
"وقال ابن القيم: لم يرو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في أول وضوئه: نويت رفع الحدث ولا غيرها" أي غير هذه النية من النيات المعتبرة، "لا هو ولا أصحابه البتة، ولم يرو لا بسند صحيح ولا ضعيف. انتهى".
"قلت: أما التلفظ بالنية، فلا نعلم أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم"، كما قال: "وأما كونه عليه السلام أتى بها، فقد قال الإمام فخر الدين الرازي في المعالم" أي معالم التنزيل اسم تفسيره:(10/197)
الأول: أنا أردنا أن نقول إنه عليه السلام توضأ مع النية والترتيب، قلنا، لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأنه أفضل الخلق لم يواظب على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب، والشك لا يعارض اليقين، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أن يجب علينا مثله.
والطريق الثاني: أن نقول: لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث عمر مرفوعا: "إنما الأعمال بالنية وإنما
__________
"اعلم أنا إذا أردنا البحث في أمر من الأمور أنه هل فعله الرسول صلى الله عليه وسلم" أم لا؟ "فلنا في" وفي نسخة: إلى "إثباته طرق" أراد ما فوق الواحد، إذ لم يذكر إلا طريقين، أو ترك ما زاد عليهما اختصارا.
"الأول: إذا أردنا أن نقول" جوابا لمن قال "إنه عليه السلام" له "توضأ مع النية والترتيب أم لا؟ "قلنا: لا شك أن الوضوء مع النية والترتيب أفضل، والعلم الضروري حاصل بأن أفضل الخلق لم يواظب" يلازم ويدوام "على ترك الأفضل طول عمره، فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي" بالجر صفة"، "ولم يثبت عندنا أنه أتى بالوضوء العاري عن النية والترتيب والشك" الحاصل من عدم ورود دليل على ذلك "لا يعارض اليقين" الحاصل من أنه لا يمكن تركه الأكمل طول عمره، "فثبت أنه أتى بالوضوء المرتب المنوي، فوجب أنه يجب علينا مثله" لكن ثبوت إتيانه بذلك لا ينتج الوجوب كما هو ظاهر، إذ قد يتركه لبيان أنه لا يجب، فهذا الدليل ينتج عدم الوجوب.
"والطريق الثاني: أن نقول لو أنه عليه السلام ترك النية والترتيب وجب علينا تركه،" أي المذكور منهما "للدلائل الدالة على وجوب الاقتداء به، ولما لم يجب علينا تركه ثبت أنه ما تركه، بل فعله،" لكن ثبوت ذلك لا يدل على وجوب الفعل، لأنه يفعل السنة، وليس تركه مثل هذا يوجب علينا الترك لما علم أنه يترك ما لم يجب، لإفادة أنه ليس بواجب، كما أنه يفعل المكروه في حق غيره لبيان الجواز، ويثاب على ذلك.
"وفي الصحيحين وغيرهما" كأحمد والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن "من حديث عمر، مرفوعا": "إنما الأعمال بالنية" بالإفراد في معظم الروايات(10/198)
لكل امرئ ما نوى".
قال البخاري: "فدخل في الإيمان والوضوء والصلاة والزكاة والحج والصوم
__________
على الأصل لاتحاد محلها وهو القلب، كما أن مرجعها واحد، وهو الإخلاص للواحد الذي لا شريك له، فناسب إفرادها بخلاف الأعمال فمتعلقة بالظواهر وهي متعددة، فناسب جمعها، أو في رواية: بالنيات "بالجمع" باعتبار تنوعها، لأن المصدر إنما يجمع باعتبار تنوع، أو باعتبار مقاصد الناوي، كقصده تعالى، أو تحصيل موعوده، أو اتقاء وعيده.
وفي رواية للبخاري: "الأعمال بالنية"، بالإفراد فيهما وحذف "إنما" ولابن حبان: "الأعمال بالنيات" بحذفها وجمع الأعمال، "وإنما لكل امرئ ما نوى"، أي الذي نواه أو نيته، وكذا لكل امرأة ما نوت، لأن النساء شقائق الرجال.
وفي القاموس: المرء "مثلث الميم" الإنسان أو الرجل، وأتى بهذه الجملة بعد سابقتها مع اتحاد معناهما، لأن التقدير: وإنما لكل امرئ ثواب ما نوى، فالأولى نبهت على أن الأعمال لا تعتبر إلا بالنية، والثانية على أن للعامل ثواب العمل على قدر نيته، ورد بأن الأعمال حاصلة بثوابه للعامل لا لغيره، فهي عين معنى الجملة الثانية، وقيل: معنى الثتنية حصر ثواب الأجر المرتب على العمل لعامله، ومعنى الأول صحة الحكم وإجراؤه، ولا يلزم منه ثواب، فقد يصح العمل ولا ثواب عليه، كالصلاة في الثوب المغصوب على أرجح المذاهب، قاله ابن عبد السلام، وتعقب باقتضائه أن العمل نيتين: نية يصح بها في الدنيا ويحصل بها الاكتفاء ونية بها يحصل الثواب في الآخرة، إلا أن يقدر في ذلك وص النية إن لم يحصل صح ولا ثواب، وإن حصل صح وحصل الثواب، فلا إشكال, وقيل: الثانية تفيد اشتراط تعيين المنوي، فلا يكفي نية الصلاة بلا تعيين بل لا بد من تعيينها بالظهر أو العصر مثلا، أو أنها تفيد منع الاستنابة في النية، لأن الجملة الأولى لا تقتضي منعها بخلاف الثانية، ولا يرد نية ولي الصبي في الحج، فإنها صحيحة، وحج الإنسان عن غيره والتوكيل في تفرقة الزكاة، لأن ذلك وقع على خلاف الأصل في الوضع، وقال القرطبي: الجملة اللاحقة مؤكدة للسابقة، فذكر الحكم بالأولى، وأكده بالثانية تنبيها على سر الإخلاص، وتحذيرا من الرياء المانع منه وقد علم أن الطاعات في أصل صحتها وتضاعفها مرتبطة بالنيات، وبها ترفع إلى خالق البريات.
"قال البخاري" في آخر كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة، ولكل امرئ ما نوى، "فدخل فيه" أي في الكلام "الإيمان" على رأيه، لأنه عنده عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب. "والوضوء" لأنه عمل "والصلاة" فتجب نيتها باتفاق، "والزكاة" فلا بد من نيتها. نعم إن أخذها الإمام من الممتنع(10/199)
والأحكام".
وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما.
وحجتهم: أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة كالصلاة.
ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية.
واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة الصحيحة المصرحة بوعد الثواب عليه، فلا بد من قصد يميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به.
وقوله: "إنما الأعمال بالنيات". ليس المراد منه نفي ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية، بل المراد نفي أحكامها كالصحة والكمال, لكن الحمل على نفي الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه، ولأن اللفظ دل على نفي الذات
__________
سقطت ولو لم ينو صاحب المال، لأن السلطان قائم مقامه، "والحج", وإنما ينصرف إلى من حج عن غيره لدليل خاص، وهو حديث ابن عباس في قصة شبرمة، "والصوم" فتلزم نيته عند الأئمة الأربعة إلا أن تعيين الرمضانية لا يشترط عند الحنفية، "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات.
"وأشار بذكر الوضوء إلى خلاف من لا يشترط فيه النية، كما نقل عن الأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهما، وحجتهم أنه ليس عبادة مستقلة، بل وسيلة إلى عبادة، كالصلاة" وسجود التلاوة ومس المصحف، "ونوقضوا بالتيمم، فإنه وسيلة، وقد اشترط الحنفية فيه النية" وأجابوا بأنها طهارة ضعيفة، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، فتحتاج إلى تقويتها بالنية، ورد بأن قياسه على التيمم غير مستقيم، فإن الماء خلق مطهرا، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] ، والتراب ليس كذلك، فكان التطهير به تعبدا محضا، فاحتاج إلى النية، أو التيمم ينبئ لغة عن القصد، فلا يتحقق بدونه بخلاف الوضوء ففسد قياسه على التيمم، قاله المصنف.
"واستدل الجمهور على اشتراط النية في الوضوء بالأدلة، المصرحة بوعد الثواب عليه, فلا بد من قصد ميزه عن غيره ليحصل الثواب الموعود به" ولا يكون ذلك مع عدم النية.
"وقوله: "إنما الأعمال بالنيات"، ليس المراد به نفي ذات العمل، لأنه قد يوجد بغير نية" كأن يأتي بأفعال الوضوء بدونها، "بل المراد نفي أحكامها، كالصحة والكمال، لكن الحمل على نفي الصحة أولى، لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه", لأنه إذا انتفت صحته لم(10/200)
بالصريح وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل نفي الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة.
وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية، قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوا قدروا كمال الأعمال, ورجح الأول لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها أولى.
__________
يحصل به المقصود من سقوط الطلب عن المكلف، فأشبه ما انتفت ذاته بأن لم يفعل في عدم حصول القصد بكل منهما، بخلاف ما انتفى كماله، كمن ترك تسبيح الصلاة، فالفائت ثوابه الخاص مع سقوط الطلب عن المكلف، "ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالصريح، وعلى نفي الصفات بالتبع، فلما منع الدليل، نفي الذات" لوجود العمل بلا نية، "بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة".
زاد الحافظ: قال شيخنا شيخ الإسلام، يعني البلقيني: الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية، لقوله: فمن كانت هجرته ... إلخ، وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من اسم فاعل أو فعل، ثم لفظ العمل يتناول فعل الجوارح حتى اللسان، فتدخل الأقوال.
قال ابن دقيق العيد: وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد، ولا تردد عندي في أن الحديث بتناولها، وأما التروك، فهي وإن كانت فعل كف، لكن لا يطلق عليها لفظ العمل، وقد تعقب على من سمى القول عملا، لكونه عمل اللسان، بأن من حلف لا يعمل عملا، فقال قولا لا يحنث.
وأجيب: بأن مرجع اليمين إلى العرف والقول لا يسمى عملا في العرف، ولهذا يعطف عليه، والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا، وكذا الفعل، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] ، بعد قوله: {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} ، وأما عمل القلب فالنية، ولا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل والمعرفة، وفي تناولها نظر.
قال بعضهم: هي محال، لأن النية قصد المنوي، وإنما يقصد المرء ما يعرف، يلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة، وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله، إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم، وإن كان المراد النظر في الدليل فلا، لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره، فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا.
"وقال ابن دقيق العيد: الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال، والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال" إذ لا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور، فقدر كل ما يوافق رأيه، "ورجح الأول، لأن الصحة أكثر لزوما للحقيقة من الكمال، فالحمل عليها(10/201)
وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية، وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل، وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها, ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا, نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات النفقة.
وأما قوله -أي البخاري- "فدخل في الإيمان" فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري: أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب، من خشية الله وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة لله فلا تحتاج إلى نية تميزها، لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة كالصوم
__________
أولى" للأكثرية، "وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى اشتراط النية" أي وجوبها في شيء من الأعمال، "وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الوسائل" كالوضوء، "وأما المقاصد" كالصلاة، "فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها، ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء" أي قالوا لا تشترط، "كما تقدم، وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا" نظرا لكونه وسيلة، فلم يناقض أصله بخلاف الحنفية، فاشترطوها فيه، فتناقضوا كما مر.
"نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل" هل هو شرط أم لا؟ "كما هو معروف في مبسوطات النفقة" فلا حاجة إلى الإطالة به.
زاد الحافظ: الظاهر أن الألف واللام معاقبة للضمير، والتقدير: الأعمال بنياتها، وعلى هذا، فيدل على اعتبار نية العمل من كونه صلاة أو غيرها، ومن كونها فرضا أو نفلا, ظهرا مثلا أو عصرا, مقصورة أو غير مقصورة، وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد؟ فيه بحث، والرجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لا تنفك عن العدد المعين، كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر إلا بنية القصر، لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين، لأن ذلك هو مقتضى القصر.
"وأما قوله -أي البخاري- فدخل فيه الإيمان، فتوجيه دخول النية في الإيمان على طريقة البخاري، أن الإيمان عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق، فلا يحتاج إلى نية كسائر أعمال القلوب من خشية الله" أي الخوف منه "وتعظيمه ومحبته والتقرب إليه، لأنها متميزة" بكونها "لله" لا لأمر آخر، "فلا تحتاج إلى نية تميزها" بل لا يمكن النية فيها كما أشار إليه بقوله الآتي: ومتى فرضت النية مفقودة استحالت حقيقته، "لأن النية إنما تميز العمل لله تعالى(10/202)
عن الحمية.
وقوله أيضا: "والأحكام" أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها وكل صورة لم تشترط فيها النية فذلك لدليل خاص.
وقد ذكر ابن المنير ضابطا -لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه- فقال: كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه، وكل فعل ظهرت فائدته، ناجزة، وتقاضته الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما فلا تشترط النية فيه إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب.
قال: وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة.
قال: وأما ما كان من المعاني المحضة كالخوف والرجاء فهذا لا يقال باشتراط النية فيه لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا، ومتى فرضت النية مفقودة فيه
__________
عن العمل لغيره رياء، وتميز مراتب الأعمال، كالفرض عن الندب، وتميز العبادة عن العادة، كالصوم عن المحبة" عن الأكل لضره.
"وقوله أيضا: والأحكام أي المعاملات التي يدخل فيها الاحتياج إلى المحاكمات، فيشمل البيوع والأنكحة والأقارير وغيرها" واستأنف بالرفع قوله: "وكل صورة لم تشترط فيه النية، فذلك لدليل خاص".
"وقد ذكر ابن المنير ضابطا" مميزا "لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فيه" وفي نسخة: وما لا يشترط، فلا يقدر مميزا، لكن الذي في الفتح مما لا يشترط، "فقال: كل عمل لا يظهر له فائدة عاجلة" كالصلاة لا يظهر لفعلها فائدة تترتب عليها حالا، "بل المقصود به طلب الثواب" في الآخرة "فالنية مشترطة فيه" فلا يصح بدونها "وكل فعل ظهرت فائدته ناجزة وتقاضته"، "بقاف وضاد معجمة" أي طلبته "الطبيعة قبل الشريعة لملاءمة بينهما" بين الطبيعة والفعل، كالأكل والشرب والجماع مما منفعته ناجزة، كشبع وري وكسر شهوة، "فلا تشترط فيه النية إلا لمن قصد بفعله معنى آخر يترتب عليه الثواب" لقصد التقوي على العبادة بالأكل والشرب وحصول ولد صالح، أو عفة نفسه، أو المرأة بالنكاح، فيتوقف على النية.
"قال" ابن المنير: "وإنما اختلف العلماء في بعض الصور من جهة تحقيق مناط التفرقة" بين الأمرين، "قال: وأما ما كان من المعاني المحضة، كالخوف والرجاء، فهذا(10/203)
استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي.
وأما الأقوال، فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء، والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود. والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى، ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء.
فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية.
ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال: وهذا مما لا
__________
لا يقال باشتراط النية فيه، لأنه لا يمكن أن يقع إلا منويا", فلا يصح اشتراطها فيه, ومتى فرضت النية مفقودة فيه استحالت حقيقته، فالنية فيه شرط عقلي" لا يمكن تخلفه، وحذف من كلام ابن المنير المنقول في الفتح ما لفظه، ويقاربه أنه لا تشترط النية للنية فرارا من التسلسل.
"وأما الأقوال فتحتاج إلى النية في ثلاث مواطن: أحدها: التقرب إلى الله تعالى فرارا من الرياء "بتحتية"، "والثاني: التمييز عن الألفاظ المحتملة لغير المقصود، والثالث: قصد الإنشاء ليخرج سبق اللسان. انتهى".
"ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري" آخر كتاب الإيمان وما قبله في شرح أو حديث فيه.
"وقد اختلف العلماء في الوقت الذي وجب فيه الوضوء، فقال بعضهم: أول ما فرض بالمدينة، وتمسك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} محدثين كما قدر الأكثرون، وقال آخرون: الأمر عام بلا تقدير، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب، وقيل: كان واجبا، ثم نسخ فصار مندوبا، ويدل له حديث عبد الله بن الغسيل الآتي {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ووجه التمسك من كون الآية نزلت بالمدينة، وهو تمسك ضعيف.
"ونقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة فرض عليه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، كما فرضت الصلاة" بمكة، "وأنه لم يصل قط إلا بوضوء، وقال" ابن عبد البر: "وهذا مما(10/204)
يجهله عالم بالأخبار.
وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: "ائتوني بوضوء". فتوضأ.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ.
وقد جزم به الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة.
ورد عليه بما أخرجه عبد الله بن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي
__________
لا يجهله عالم بالأخبار", وهذا مما يضعف القول بأن الوضوء أول ما فرض بالمدينة.
"وقال الحاكم في المستدرك: أهل السنة قامت بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة، ثم ساق حديث ابن عباس: دخلت فاطمة" الزهراء سيدة النساء "على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك، فقال: "ائتوني بوضوء"، "بالفتح" ما أتوضأ به "فتوضأ".
"قال الحافظ ابن حجر: وهذا يصلح أن يكون ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ" فلا يصح ردا عليه، إذ لا يلزم من فعله الوجوب.
"قد جزم" أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد "بن الجهم" المروزي نسب لجد أبيه لشهرته به "المالكي" الفقيه، المحدث.
قال الخطيب: له مصنفات حسان محشوة بالآثار، يحتج لمذهب مالك ويدر على مخالفيه، وكتب حديثا كثيرا وكتبه تنبئ عن مقدار علمه.
روى عن إسماعيل القاضي وجعفر الفريابي وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهم، وعنه الأبهري والدينوري، مات سنة تسع وعشرين، وقيل: ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، "بأنه كان قبل الهجرة مندوبا".
"وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة" ويرد عليه حديث فاطمة السابق، "ورد عليه" أيضا "بما أخرجه عبد الله بن لهيعة"، "بفتح اللام وكسر الهاء" ابن عقبة الحضرمي، أبو عبد الرحمن المصري قاضيها، عالم صدوق، احترقت كتبه فاختلط، ورواية ابن المبارك:(10/205)
الأسود عن عروة أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي.
وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال: عن الزهري عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا, ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة.
وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. قيل له: كيف كنتم
__________
وابن وهب، عنه: أعدل من غيرهما.
روى له أبو داود والترمذي وله في مسلم بعض شيء مقرون، مات سنة أربع وسبعين ومائة، وقد ناف على الثمانين "في" كتاب "المغازي التي يرويها عن أبي الأسود" محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن خويلد بن سد بن عبد العزى الأسدي المدني، يتيم عروة، ثقة من رجال الجميع، مات سنة بضع وثلاثين ومائة "عن عروة" بن الزبير: أن جبريل عليه السلام علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي وهو مرسل" لأن عروة تابعي كبير "ووصله "أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا، لكن قال عن الزهري، عن عروة، عن أسامة بن زيد عن أبيه" زيد بن حارثة الصحابي، أحد من قيل أنه أول من أسلم.
"وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين"، "بكسر الراء وسكون المعجمة"، "ابن سعد" ابن مفلح المهري "بفتح الميم وسكون الهاء" أبي الحجاج المصري، ضعيف رجح أبو حاتم عليه ابن لهيعة.
وقال ابن يونس: كان صالحا في دينه، فأدركته غفلة الصالحين، فخلط في الحديث، مات سنة ثمان وثمانين ومائة وله ثمان وسبعون، خرج له الترمذي وابن ماجه "عن عقيل"، "بضم العين" ابن خالد بن عقيل "بالفتح" الأيلي "بفتح الهمزة فتحتية ساكنة فلام" الأموي، مولاهم ثقة، ثبت من رجال الجميع، سكن المدينة، ثم الشام ثم مصر، مات سنة أربع وأربعين ومائة على الصحيح، "عن الزهري" محمد بن مسلم بن شهاب "نحو، ولكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند" بل قال عن عروة عن أسامة.
"وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث" بن سعد الإمام "عن عقيل موصولا" عن الزهري، عن عروة، عن أسامة، عن أبيه: "ولو ثبت لكان على شرط الصحيح" للشيخين "لكن المعروف رواية ابن لهيعة" عن أبي الأسود، عن عروة مرسلا "وعن" عمرو بن عامر(10/206)
تصنعون؟ قال: يجزي أحدنا الوضوء ما لم يحدث. رواه البخاري وأبو داود والترمذي.
وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. رواه الدارمي. وروى مسلم عن بريدة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: فعلت شيئا لم تفعله، فقال: "عمدا فعلته يا عمر". يعني لبيان الجواز.
__________
الأنصاري، عن "أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة" وعند النسائي عن عمرو بن عامر أنه سأل أنسا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة؟ قال: نعم، قال الحافظ: أي مفروضة زاد الترمذي من طريق حميد، عن أنس طاهر، أو غير طاهر وظاهره أن تلك كانت عادته، لكن حديث الصحيح عن سويد بن النعمان: خرجنا عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر، إلى أن قال: ثم صلى لنا المغرب، ولم يتوضأ يدل على أن المراد الغالب.
وقال الطحاوي: يحتمل أن ذلك كان واجبا عليه، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة، يعني الآتية، ويحتمل أنه كان يفعله استحبابا، ثم خشي أن يظن وجوبه، فتركه لبيان الجواز.
قال الحافظ: وهذا هو الأقرب، وعلى تقدير، الأول، فالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد، فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان، "قيل له" لفظ البخاري، قلت: "كيف كنتم تصنعون", قال الحافظ: القائل عمرو بن عامر، والمراد الصحابة، "قال" أنس: "يجزي"، "بضم أوله" من أجزأ، أي يكفي، وللإسماعيلي: يكفي "أحدنا"، "بالنصب" مفعول فاعله "الوضوء ما لم يحدث" ولابن ماجه: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد "رواه البخاري وأبو داود والترمذي" والنسائي وابن ماجه، "وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة" استحبابا، وإلا لما وسعه ولا وسع غيره أن يخالفه، ولأن الأصل عدم الوجوب قاله المصنف "رواه الدارمي" عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي الحافظ، صاحب المسند، ثقة، فاضل، متقن، شيخ مسلم وأبي داود والترمذي.
"وروى مسلم" وأبو داود والترمذي "عن بريدة"، "بضم الموحدة" مصغر, بن الحصيب "بمهملتين" مصغر, أبي سهل الأسلمي رضي الله عنه "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة فلما كان يوم الفتح" فتح مكة "صلى الصلوات" الخمس، كما زاده في رواية أبي داود والترمذي، فأغرب من قال، أي جمع بين صلاتين "بوضوء واحد فقال له عمر" بن الخطاب: "فعلت شيئا لم تكن تفعله".(10/207)
وفي رواية أحمد وأبي داود، من حديث عبد الله بن أبي عامر الغسيل، أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء، لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عند الوضوء إلا من حدث.
واختلف العلماء في موجب الوضوء:
فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا وقيل: به وبالقيام إلى الصلاة معا: ورجحه جماعة من الشافعية وقيل إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس مرفوعا: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة".
__________
وفي رواية: لقد صنعت اليوم شيئا لم تكن تصنعه، "فقال: عمدا" أي قصدا "فعلته" وفي لفظ: صنعته "يا عمر، يعني لبيان الجواز" للناس، وخوف أن يعتقد وجوب ما كان يفعل من الوضوء لكل صلة، وقيل: إنه ناسخ لوجوب ذلك، وتعقب بقول أنس: كان خاصا به دون أمته، وأنه كان يفعله للفضيلة، كذا في شرح المصنف لمسلم.
"وفي رواية أحمد وأبي داود من حديث عبد الله" بن حنظلة "بن أبي عامر" الراهب الأنصاري، له رؤية وأبوه غسيل الملائكة، قتل يوم أحد وأم عبد الله جميلة بنت عبد الله بن أبي، استشهد عبد الله يوم الحرة في ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وكان أمير الأنصار بها، كما في التقريب كغيره، فكأنه سقط من قلم المصنف أو نساخه: ابن حنظلة، ولا يعتذر له بأنه نسبه إلى جده، لأن قوله "الغسيل" صفة لحنظلة لا لابنه عبد الله الراوي، وإسقاطه يوهم أنه صفة له كما ظنه من لم يراجع غزوة أحد، "أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا" كان "أو غير طاهر فلما شق" صعب "ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عند الوضوء إلا من حدث", أي ناقض للوضوء، لكن نومه ليس بناقض كما مر في الخصائص.
"واختلف العلماء في موجب الوضوء" وكذا الغسل، واقتصر على الوضوء، لأن الكلام فيه، "فقيل: يجب بالحدث" أي الناقض "وجوبا موسعا" إلى القيام إلى الصلاة، "وقيل" يجب "به وبالقيام إلى الصلاة معا" فلا يجب بالحدث وحده، ولا بالقيام لها وهو متوضئ، "ورجحه جماعة من الشافعية" وغيرهم، "وقي: بالقيام إلى الصلاة حسب" أي فقط، وأورد عليه أنه لو دخل وقت الصلاة ولم يرد فعلها، بل قصد تركها أو أخرها إلى خروج الوقت، لا يجب عليه الوضوء تلك المدة لعدم قيامه إلى الصلاة.
وأجيب بأن المراد القيام لها بالفعل أو بالخطاب، وهو بدخول الوقت يخاطب بالصلاة، وبكل ما تتوقف عليه، "ويدل له ما رواه أصحاب السنن، عن ابن عباس، مرفوعا: "إنما أمرت(10/208)
وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم، لكن في إسناده محمد بن إسحاق، وقد رواه بالعنعنة وهو مدلس، والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح.
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في السنن عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هي علي فرائض وهن لكم سنة: الوتر والسواك وقيام الليل".
وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي".
وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا. لكن حكي عن بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة ونوزع فيه.
__________
بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 6] الآية، "وقد تمسك بحديث عبد الله بن أبي عامر هذا" المذكور آنفا: "من قال بوجوب السواك عليه صلى الله عليه وسلم" من قوله: فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، "لكن" لا متمسك فيه، لأن "في إسناده محمد بن إسحاق" بن يسار صاحب المغازي, "وقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وإن كان صدوقا فلا يقبل منه حتى يصرح بالسماع، "والخصائص لا تثبت إلا بدليل صحيح".
"وأخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي في السنن، عن عائشة مرفوعا: "ثلاث هن علي فرائض وهن لكن سنة: الوتر والسواك وقيام الليل"، فهذا شاهد لحديث ابن حنظلة، وقد صححه ابن خزيمة وغيره إما تساهلا وإما لأنهم وقفوا على طريق صرحت بالسماع، ولذا اعتمد المالكية والشافعية وجوبه عليه.
"وقد روى أحمد في مسنده بإسناد حسن من حديث واثلة"، "بمثلثة"، "ابن الأسقع"، "بالقاف"، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت" على لسان جبريل، أو بإلهام، أو برؤيا المنام "بالسواك" أمر ندب "حتى خشيت أن يكتب" أي يفرض "علي" وهذا وإن كان إسناده حسنا، لكن قال المنذري وغيره: فيه ليث بن أبي سليم، وهو ثقة مدلس، وقد رواه بالعنعنة، وقد جعله المصنف في مقصد الخصائص من حجج، من لم يجعل السواك واجبا عليه، لأنه ظاهر في عدم الوجوب، وحاول شيخنا الجمع بينه وبين الحديث قبله: "ثلاث هي علي فرائض" بما حاصله أنه واجب عليه لكل صلاة، مستحب له فيما عدا ذلك، والذي خشي أن يكتب عليه وجوبه عند القيام من نوم ودخول منزل ونحوهما مما يطلب فيه، وهو محتمل على بعده.
"وقد حكى بعضهم الإجماع على أنه ليس بواجب علينا" معشر الأمة "لكن حكي عن(10/209)
واتفقوا على أنه يستحب مطلقا، ويتأكد في أحوال:
منها: عند الوضوء وإرادة الصلاة.
ومنها: عند القيام من النوم، لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، لكن قد يقال: المراد، قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك للصلاة وعند الوضوء.
ومنها: عند قراءة القرآن، كما جزم به الرافعي.
ومنها: عند تغير الفم، سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان، كما ذكره الرافعي.
ومنها: عند دخول المنزل، كما جزم به النووي في زوائد الروضة، لما روى
__________
بعض الشافعية أنه أوجبه للصلاة، ونوزع فيه" بأنه لا دليل عليه.
"واتفقوا على أنه يستحب مطلقا" في كل وقت فعل فيه أراد الصلاة أم لا، "ويتأكد" استحبابه "في أحوال منها عند الوضوء" والغسل والتيمم "وإرادة الصلاة، ومنها عند القيام من النوم لما ثبت في الصحيحين من حديث حذيفة" بن اليماني "أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص"، "بفتح التحتية وضم المعجمة وسكون الواو وصاد مهملة" يدلك "فاه بالسواك، لكن قد يقال المراد قام من الليل للصلاة، فيكون المراد السواك، أو عند الوضوء" فلا يدل على أنه للقيام من النوم، ويدل على ذلك أن في رواية لمسلم كان إذا قام للتهجد.
وقال الولي العراقي: يحتمل وجهين، أحدهما: أن معناه إذا قام للصلاة بدليل الرواية الأخرى، الثاني: إذا انتبه وفيه حذف، أي من نوم الليل، ويحتمل أن من لابتداء الغاية من غير تقدير حذف نوم. انتهى.
وقد يؤيد الثاني رواية أحمد وأبي داود عن عائشة: "كان صلى الله عليه وسلم لا يرقد من ليل ولا نهار إلا تسوك قبل أن يتوضأ" فإن ظاهره أنه كان يتسوك قبل شروعه في الوضوء، إذ يستحب في السواك للوضوء كونه قبل المضمضة، وهذا غير الاستياك عند الاستيقاظ.
وقال بعضهم: الكلام في مقتضى هذا الحديث، فإن نظر إليه مع قطع النظر عن رواية مسلم، أفاد ندبه بمجرد الانتباه، وإن روعيت الرواية الأخرى، لأن الروايات تفسر بعضها لم يفد ذلك لكن له دليل آخر، "ومنها عند قراءة القرآن كما جزم به الرافعي، ومنها عند تغير الفم" بأكل أو شرب أو كثرة كلام، ولو بذكر الله، "سواء فيه تغير الرائحة أو تغير اللون، كصفرة الأسنان كما ذكره الرافعي، ومنها عند دخول المنزل كما جزم به النووي في زوائد الروضة(10/210)
مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك.
ومنها: عند إرادة النوم، كما ذكره الشيخ أبو حامد في "الرونق" وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه. وفيه: حرام بن عثمان، متروك.
ومنها: عند الانصراف من صلاة الليل، لما رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس بإسناد صحيح قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك.
__________
لما روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه" كلهم في الطهارة "من حديث" شريح بن هانئ عن "عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته يبدأ بالسواك" لأجل السلام على أهله، إذ السلام اسم شريف، وليطيب فمه الطيب لتقبيل أهله زيادة في حسن العشرة وتعليم الأمة، لا لتغير فمه بصمت أو كلام كما زعم، لأنه صلى الله عليه وسلم المنزه المبرأ عن أن يلحقه شيء من ذلك، ولأنه كان يبدأ بالنافلة أول دخوله بيته، ولأنه كما قال عياض والقرطبي: لا يفعله ذو مروءة بحضرة الناس، ولا ينبغي فعله في المسجد ولا في المحافل، قيل: المراد بالدخول ليلا، ففي مسند أحمد بإسناد صحيح عن شريح بن هانئ: سألت عائشة بأي شيء كان يبدأ صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليك بيتك ليلا، قالت: بالسواك، ويختم بركعتي الفجر، وألفاظ الخبر الواحد يفسر بعضها بعضا.
وقد حكى ابن منده الإجماع على صحة هذا الحديث، وتعقبه مغلطاي بأنه إن أراد إجماع العلماء قاطبة فمتعذر، أو إجماع الأئمة فغير صواب، لأن البخاري لم يخرجه، فأي إجماع مع مخالفته، كذا قال ولا طائل تحته، فالمراد إجماع علماء الحديث، وعدم إخراج البخاري له ليس فيه أنه لم يقل بصحته، فإنه لم يخرج في جامعه كل ما صح عنده، فقد صح عنه: أحفظ من الصحيح مائة ألف حديث، والذي في جامعه لم يبلغ نصف عشرها "ومنها عند إرادة النوم كما ذكره الشيخ أبو حامد "الإسفراييني "في الرونق" اسم كتاب، "وروى فيه ما رواه ابن عدي في الكامل من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك إذا أخذ مضجعه"، "بزنة مقعد" كما في القاموس، "وفي حرام"، "بمهملتين مفتوحتين"، كما في التبصير "ابن عثمان" المدني "متروك" هالك، "ومنها عند الانصراف من صلاة الليل لما رواه ابن ماجه" والنسائي وأحمد "من حديث ابن عباس بإسناد صحيح" كما قال الحافظ، وقال المنذري: رواته ثقات، وقال الحاكم على شرطهما، وتعقبه مغلطاي، "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل ركعتين ركعتين" بالتكرير، "ثم ينصرف فيستاك" وعند أبي نعيم بإسناد جيد عن ابن عباس: كان صلى الله عليه وسلم يستاك بين(10/211)
ويجزئ بكل خشن، ولو بأصبع غيره الخشنة، وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج أنه يجزئ بها قطعا. قال في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة، لأنه لا يتمكن بها أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم. قال النووي في شرح المذهب: المختار إجزاؤه مطلقا. قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في اللباب والبغوي واختاره في البحر. انتهى.
وقد أطبق الشافعي على استحباب "الأراك". روى الطبراني من حديث أبي خيرة الصنابحي -وله صحبة- حديثا قال فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك فقال: "استاكوا بهذا".
__________
كل ركعتين من صلاة الليل.
قال الولي العراقي: ومقتضاه أنه لو صلى صلاة ذات تسليمات كالضحى والتراويح، يستحب أن يستاك لكل ركعتين، وبه صرح النووي: "ويجزئ بكل خشن ولو بأصبع غيره الخشنة" المتصلة لا المنفصلة، لا بأصبعه، ولو متصلة على الأصح في المنهاج.
"وقد جزم النووي في شرح المذهب ودقائق المنهاج، أنه يجزئ بها قطعا".
"قال" الولي العراقي "في شرح تقريب الأسانيد: وما أدري ما وجه التفرقة بين أصبعه وأصبع غيره، وكونه جزءا منه لا يظهر منه ما يقتضي منعه، بل كونها أصبعه أبلغ في الإزالة" التي هي المقصود بالسواك من أصبع غيره، "لأنه لا يتمكن بها" أي أصبعه "أكثر من تمكن غيره أن يسوكه بأصبعه لا جرم" أي حقا.
"قال النووي في شرح المذهب المختار" عنده من حيث الدليل وإن كان خلاف ما اعتمده في المنهاج "إجزاؤه مطلقا" بأصبع غيره أو بأصبعه، "قال: وبه قطع القاضي حسين والمحاملي في الباب والبغوي واختاره في البحر" للروياني. "انتهى".
"وقد أطبق أصحاب الشافعي" وغيرهم "على استحباب الأراك روى الطبراني والدولابي وأبو أحمد الحاكم "من حديث أبي خيرة"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية فراء فتاء تأنيث"، قال الخطيب: لا أعلم أحدًا سماه وهو العبدي، ثم "الصنابحي"، "بضم الصاد المهملة وفتح النون وكسر الموحدة الخفيفة نسبة إلى صنابح بن كثير بن أقصى بطن من عبد القيس كما في الإصابة والفتح، "وله صحبة حديثا" أوله كنت في الوفد الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، وكنا أربعين رجلا نسأله على الدباء والنقير ... الحديث. ثم "قال(10/212)
وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر في مرضه صلى الله عليه وسلم ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة فطيبته ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به أسنانه. والحديث في الصحيحين وليس فيه ذكر الأراك. وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل.
وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك، من حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا، وروى البيهقي أيضا من حديث ربيعة بن أكثم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا. الحديث.
__________
فيه: ثم أمر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأراك، فقال: "استاكوا بهذا" فقلنا: يا رسول الله عندنا الجريد، ولكن نقبل كرامتك وعطيتك، فقال: "اللهم اغفر لعبد القيس، أسلموا طائعين غير مكرهين، إذ قعد قوم لم يسلموا إلا خزايا موتورين".
"وفي مستدرك الحاكم من حديث عائشة في" قصة "دخول أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر "الصديق "في مرضه صلى الله عليه وسلم" الذي توفي فيه "ومعه سواك من أراك، فأخذته عائشة" لما نظر صلى الله عليه وسلم إليه، "فطيبته" بمضغة ونفضه، "ثم أعطته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به"، "بهمزة فمهملة فوقية دلك "أسنانه، والحديث في الصحيحين, وليس فيه ذكر الأراك"، فذكره في رواية الحاكم وهو وهم أو شذوذ.
"وفي بعض طرقه عند البخاري: ومعه سواك من جريد النخل" فصرح بخلاف ما روى الحاكم والحديث واحد، ولفظ البخاري في هذه الطريق، عنها: توفي النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وكانت إحدانا تعوذه بدعاء إذ مرض، فذهبت أعوذه، فرفع رأسه إلى السماء وقال: "في الرفي الأعلى، في الرفيق الأعلى". ومر عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده جريدة رطبة، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فظننت أن له حاجة، فأخذتها، فمضغت رأسها ونفضتها، فدفعتها إليه، فاستن بها كأحسن ما كان مستنا، ثم ناولينها، فسقطت يده، أو سقطت من يده فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة.
"وقد روى أبو نعيم في كتاب السواك من حديث عائشة، قالت: كان رسول الله" وفي نسخة: النبي "صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا" بقية رواية أبي نعيم، ولا يستاك طولا، هذا وفي إسناده عبد الله بن حكيم وهو متروك كما في المقاصد، وعورض بذكر الطول في خبر آخر، وجمع بأنه في اللسان والحلق طولا وفي الأسنان عرضا.
"وروى البيهقي" في السنن "أيضا" وكذا العقيلي "من حديث" سعيد بن المسيب عن "ربيعة بن أكثم"، "بمثلثة" الخزاعي "قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا الحديث" بقيته(10/213)
قال أصحابنا: والمرد بقوله: "عرضا" عرض الأسنان في طول الفم.
وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم بيمينه، لحديث: كان يعجبه التيمن في ترجله وتنعله وطهوره وسواكه.
وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات. فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه وما كان من أذى. رواه أبو داود بإسناد صحيح.
قال في شرح تقريب الأسانيد: وما استدل به على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل، والبداءة بلبس النعل، والبداءة بالأعضاء اليمنى في التطهير، والبداءة بالجانب الأيمن في الاستياك، وأما كونه يفعل
__________
ويشرب مصا ويتنفس ثلاثا، ويقول: "هو أمنا وأمرأ وأبرأ"، قال في الإصابة: إسناده إلى ابن المسيب ضعيف.
وقال ابن السكن: لم يثبت حديثه، وفي المقاصد سنده ضعيف جدا، بل قال ابن عبد البر: ربيعة. قتل بخيبر، فلم يدركه سعيد، وقد رواه البيهقي والبغوي والعقيلي وابن عدي وابن منده وابن قانع والطبراني من حديث ثبيت بن كثير، وهو ضعيف، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، عن بهز بدل ربيعة.
قال ابن عبد البر في التمهيد: ولا يصحان من جهة الإسناد.
"قال أصحابنا: والمراد بقوله عرضا عرض الأسنان" ظاهرا وباطنا كما قال بعضهم "في طول الفم وهل الأولى أن يباشر المستاك بيمينه أو شماله؟ قال بعضهم: بيمينه لحديث: كان" صلى الله عليه وسلم "يعجبه التيمن في ترجله" تسريح شعره "وتنعله" لبس نعله، "وطهوره" وضوئه وغسله، فيبدأ بالعضو الأيمن من اليدين والرجلين، والشق الأيمن في الغسل، "وسواكه" فيسوك الجهة اليمنى قبل اليسرى، "وبناه بعضهم على أنه هل هو من باب التطهير والتطييب، أو من باب إزالة القاذورات، فإن قلنا بالأول استحب أن يكون باليمين، وإن قلنا بالثاني، فبشماله لحديث عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، واليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى، رواه أبو داود بإسناد صحيح".
"قال" الولي بن العراقي "في شرح تقريب الأسانيد وما استدل به" من حديث كان يعجبه التيمن "على أنه يستحب باليمين ليس فيه دلالة، فإن المراد منه بالشق الأيمن في الترجل" أي يسرحه قبل الأيسر "والبداءة بلبس النعل" للرجل اليمنى قبل اليسرى، "والبداءة(10/214)
ذلك بيمينه فيحتاج إلى نقل، والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه فيكون باليسرى. وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في "المفهم" حكاية عن مالك: أنه لا يتسوك في المساجد لأنه من باب إزالة القذر والله أعلم.
وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء:
فعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد، وفي رواية: كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك.
__________
بأعضاء" الجهة "اليمنى في التطهير" فيغسل اليد اليمنى، والرجل اليمنى قبل اليسرى فيهما، وشق جسده الأيمن قبل الأيسر في الغسل، "والبداءة بالجانب الأيمن" من الفم "في الاستياك، وأما كونه يفعل ذلك بيمينه، فيحتاج إلى نقل" إذ لا تعرض فيه لليد التي كانت يفعل بها، لكنه الظاهر منه لا سيما مع قوله في الحديث وفي شأنه كله، ولذا اعتمد الشافعية والمالكية أنه باليد اليمنى خلافا لقوله: "والظاهر أنه من باب إزالة الأذى كالامتخاط ونحوه، فيكون باليسرى".
"وقد صرح بذلك أبو العباس القرطبي فقال في المفهم" في شرح مسلم "حكاية عن مالك" الإمام "أنه لا يتسوك في المساجد، لأنه من باب إزالة القذر،" لكن لا دلالة فيه على التسوك بالشمال، إذ لا يلزم من كراهة مالك السواك بالمساجد لئلا تتقذر بالخارج من الفم بالسواك وإن كان طاهرا، كون التسوك نفسه بالشمال، بل باليمين إكراما للفم، كإدخال الأكل وإن كان ذا رائحة كريهة كثوم، "والله أعلم" بالحكم فيه.
"وأما مقدار ما كان عليه الصلاة والسلام يتوضأ ويغتسل به من الماء، فعن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع" لفظ مسلم.
وفي البخاري: كان يغسل جسده، أو كان غتسل بالصاع، قال الحافظ: الشك من البخاري أو من شيخه أبي نعيم لما حدثه به، فقد رواه الإسماعيلي من طريق أبي نعيم، فقال: كان يغتسل، ولم يشك، ثم إنه ربما اقتصر على الصاع، وهو أربعة أمداد، وربما زاد "إلى خمسة أمداد" فكأن أنسا لم يطلع على أنه اغتسل بأكثر، لأنه جعلها النهاية، وفي مسلم عن عائشة، أنها كانت تغتسل والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وهو الفرق.
قال ابن عيينة والشافعي وغيرهما: هو ثلاثة آصع، وفي مسلم أيضا، عنها: كان صلى الله عليه وسلم يغتسل من إناء يسع ثلاثة أمداد، فهذا يدل على اختلاف الحال في ذلك بقدر الحاجة، "ويتوضأ بالمد" وهو إناء يسع رطلا وثلثا بالبغدادي، قاله جمهور العلماء، وقال بعض الحنفية: رطلين.
"وفي رواية" عن أنس "كان" صلى الله عليه وسلم "يغتسل بخمس مكاكيك"، "بميم فكاف فألف فكافين(10/215)
رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده:
يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع. ورواه الترمذي وعنده أيضا:
أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ في الوضوء رطلان من ماء.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد رواه أبو داود.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة كانا يغتسلان من إناء واحد.
والصاع: خمسة أرطال وثلث، برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة
__________
بينهما تحتية ساكنة جمع مكوك "ويتوضأ بمكوك"، "بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة وسكون الواو آخره كاف مجرور بالباء" أي مد كما تفسره الرواية قبله، "رواه البخاري ومسلم وأبو داود وعنده: يتوضأ بإناء يسع رطلين،" فقوله: أولا يتوضأ بالمد أغلبي، إذ الرطلان أزيد من المد عند الجمهور، "ويغتسل بالصاع".
"ورواه الترمذي وعنده أيضا؛ أنه صلى الله عليه وسلم قال: يجزئ"، "بضم أوله، أي يكفي"، "في الوضوء رطلان من ماء" أي فأقل بدليل فعله، "وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع ويتوضأ بالمد" بضم الميم "رواه أبو داود".
وفي مسلم عن سفينة مثله، ولأحمد بإسناد صحيح عن جابر مثله، وفي الباب عن أم سلمة وابن عباس وابن عمر وغيرهم، وهو أكثر ما جاء عن الصحابة في تقدير وضوئه وغسله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو يعلى والطبراني بإسناد ضعيف، عن أبي أمامة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد.
وروى ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن عبد الله بن زيد أنه رآه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلث مد، فجعل يدلك ذراعيه، ودلك أذنيه، يعني حين مسحهما وثلث بالإفراد، ولأبي داود عن أم عمارة أنه صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد بالتثنية وجمع بين هذه الروايات بأنها كانت اغتسالات ووضوءات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، فليس المراد التحديد بالصاع والمد خلافا لمن حدد بهما، كابن شعبان من المالكية وبعض الحنفية، وهو أيضا في حق من يكون خلقه معتدلا.
"و" في البخاري والترمذي وابن ماجه، "عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم وميمونة" أم المؤمنين "كانا يغتسلان من إناء واحد" من الجنابة، ورواه مسلم عن ابن عباس، قال: أخبرتني ميمونة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، لكن قال البخاري: كان ابن عيينة يقول أخيرا عن ابن عباس، عن ميمونة، والصحيح ما رواه أبو نعيم، يعني شيخه(10/216)
وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم.
وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه. ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذا الإسراف يا سعد"؟. قال: أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم، وإن كانت على نهر جار". رواه أحمد بإسناد لين، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي.
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان، فاتقوا وسواس الماء". رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب.
__________
الفضل أنه من مسند ابن عباس لا من مسند ميمونة، "والصاع خمسة أرطال وثلث برطل بغداد، وهو على ما قاله النووي مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم،" وقيل: ثمانية أرطال، وقيل: أربعة، وحذر صلى الله عليه وسلم أمته من الإسراف فيه، ومر بسعد وهو يتوضأ، فقال: "ما هذ الإسراف يا سعد؟ ". قال" مستفهما: "أفي الوضوء سرف؟ قال: "نعم. وإن كنت على نهر جار".
"رواه أحمد" وابن ماجه "بإسناد لين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي" السهمي، "وقال صلى الله عليه وسلم: "إن للوضوء شيطانا يقال له: الولهان"، "بفتح الواو وسكون الواو" وهو في الأصل وصف معناه المتحير من شدة العشق، سمي به هذا الشيطان لإغوائه الناس في التحير في الوضوء حتى لا يعلموا هل مس الماء العضو أم لا؟ وكم غسل مرة أو أكثر؟ ونحو ذلك من الشكوك والأوهام "فاتقوا وسوا الماء" أي احذروا وسوسة الولهان، فوضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال وسواسه في شأن الماء وإيقاع الناس في التحير، والوسواس "بالفتح اسم من وسوست إليه نفسه": إذا حدثته "وبالكسر اسم مصدر"، ويقال لما يخطر بالقلب ولما لا خير فيه وسواس.
قال في النصائح: الوسوسة من آفات الطهارة، وأصلها جهل بالسنة أو خبال في العقل، ومتبعها متكبر مدل بنفسه، سيئ الظن بعبادة الله، معتمد على عمله، معجب به وبقوته، وعلاجها بالتلهي عنها والإكثار من سبحان الملك الخلاق، {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} .
قال الحكيم الترمذي: أما القلوب التي ولجها عظمة الله وجلاله فهامت واستقرت، فقد انتفى عنهم وسواس عدوهم، ومن هنا أنب صلى الله عليه وسلم الوسوسة، فقال: "هكذا خرجت عظمة الله من قلوب بني إسرائيل حتى شهدت أبدانهم وغابت قلوبهم". ثم روى حديثا أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أدخل في صلاتي، فلا أدري أعلى شفع أم على وتر من وسوسة أجدها في صدري، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن وجدت ذلك فاطعن بأصبعك هذه، يعني السبابة في فخذك اليسرى، وقل: بسم الله، فإنها سكين الشيطان أو مدية الشيطان". "رواه الترمذي من حديث أبي بن كعب" وقال غريب: ليس إسناده بالقوي لا نعلم أحدًا أسنده غير خارجة بن مصعب. انتهى.
وخارجة ضعيف جدا، كما قال الحافظ وغيره، وأخرجه ابن خزيمة والحاكم في صحيحيهما من طريق خارجة، وتعجب من ذلك ابن سيد الناس، فقال: لا أدري كيف دخل هذا في الصحيح, والله أعلم.(10/217)
الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم مرة مرة ومرتين مرتين وثلاثا ثلاثا
عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة. رواه البخاري وأبو داود وغيرهما. وهو بيان لمجمل قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة ولا يتعين بعدد، فبين الشارع أن المرة الواحدة للإيجاب، وما زاد على ذلك للاستحباب.
__________
الفصل الثاني: في وضوئه صلى الله عليه وسلم
"مرة مرة" لكل عضو من أعضاء الوضوء، "ومرتين مرتين" كذلك، "وثلاثا ثلاثا" كذلك، "عن ابن عباس، قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم" فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء "مرة مرة"، "بنصبهما على المفعول المطلق المبين للكمية" أو على الظرفية، أي: توضأ في زمان واحد، لأن كل غسلة واقعة في زمان واحد، فلو تعدد الغسل لتعدد الزمن أو على الصدر، أي توضأ مرة من التوضؤ، أي غسل الأعضاء غسلة واحدة.
"رواه البخاري وأبو داود وغيرهما" كالنسائي وابن خزيمة، وهو مجمل جاء بيانه في رواية أخرى عند البخاري والنسائي وأبي داود والنسائي، وأبي داود عن ابن عباس: أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء، فأخذ غرفة من ماء، فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها، هكذا أضافها إلى يده الأخرى، فغسل بها وجهه، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء، فغسل بها يده اليسرى، ثم قبض قبضة من الماء، ثم نفض يده، ثم مسح رأسه، زاد النسائي: وأذنيه مرة واحدة، ثم أخذ غرفة من ماء فرش على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غرفة أخرى، فغسل بها رجله، يعني اليسرى، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، "وهو بيان لمجمل" الأمر في "قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إذ الأمر يفيد طلب إيجاد الحقيقة، ولا يتعين بعدد، فبين الشارع" بفعله "أن المرة الواحدة للإيجاب وما زاد على ذلك للاستحباب" إذ(10/218)
وأما حديث أبي بن كعب أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان بالقول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف أخرجه ابن ماجه، وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري.
وعن عبد الله بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين وقال: "هو نور على نور". ذكره رزين.
وعن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا. رواه أحمد ومسلم عنه.
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من
__________
هو المبين لمراد الله تعالى.
"وأما حديث أبي بن كعب، أنه صلى الله عليه وسلم دعا بماء فتوضأ مرة مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به". ففيه بيان القول والفعل معا، لكنه حديث ضعيف، أخرجه ابن ماجه وله طرق أخرى كلها ضعيفة، كما قاله في فتح الباري" ومن تلك الطرق ما رواه الطيالسي وأحمد وأبو يعلى وابن ماجه، عن ابن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة، وقال: "هذه وظيفة الوضوء الذي لا تحل الصلاة إلا به", ثم توضأ مرتين مرتين، فقال: "هذا وضوء من أراد أن يضعف له الأجر مرتين"، ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي".
"وعن عبد الله بن زيد" بن عاصم بن كعب الأنصاري، المازني، شهد أحدا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرا، له عدة أحاديث، استشهد يوم الحرة سنة ثلاث وستين، وهو غير صاحب رؤيا الأذان، وغلط البخاري وغيره من زعم أنه هو واستم جد رائي الأذان عبد ربه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين"، "بالنصب فيهما على المفعول المطلق، أو الظرف، أو المصدر السابق"، "وقال: "هو نور على نور". ذكره رزين" بن معاوية الأندلسي، وإنما نسبه له لزيادة، وقال: هو نور ... إلخ، وهي ضعيفة، وإلا فالحديث في البخاري عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وفي أبي داود والترمذي وصححه وابن حبان عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين، مرتين، "عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" لكل عضو "رواه أحمد ومسلم" هكذا مختصرا، أن عثمان قال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، زاد في رواية لمسلم وعنده رجال من الصحابة، أي فلم يخالفوه، وعند البيهقي: أن عثمان توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا؟ قالوا: نعم.(10/219)
قبلي ووضوء إبراهيم". ذكره رزين، وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح.
ولم يأت في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" رواه أبو داود وإسناده جيد، لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب، لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة.
وأجيب: بأمر نسبي، والإساءة تتعلق بالنقص والظلم بالزيادة عن الثلاث وقيل: فيه حذف تقديره: من نقص من واحدة، ويؤيده ما رواه أبو نعيم بن حمد من طريق المطلب بن حنطب مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا، فإن نقص من
__________
"وعنه" أي عثمان: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي، ووضوء إبراهيم"، "عطف خاص على عام لشرفه"، "ذكره رزين"، "بفتح الراء وكسر الزاي" ابن معاوية في كتابه المسمى تجريد الصحاح، "وضعفه النووي في شرح مسلم كما حكاه في مشكاة المصابيح" أي ضعف زيادة، وقال: هذا وضوئي ... إلخ، "ولم يأت" كما أشار إليه البخاري بقوله: ولم يزد على الثلاث.
قال الحافظ: أي لم يأت "في شيء من الأحاديث المرفوعة في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم أنه زاد على الثلاث، بل ورد عنه ذم من زاد عليها فعن عمرو" بفتح العين "ابن شعيب" بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاصي "عن أبيه" شعيب ثبت سماعه "عن جده" عبد الله الصحابي فضمير جده لشعيب أو لابنه عمرو ويحمل على الجد الأعلى فالحديث متصل على الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثم قال: من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم رواه أبو داود وإسناده جيد" أي مقبول "لكن عده مسلم في جملة ما أنكروه على عمرو بن شعيب لأن ظاهره ذم النقص عن الثلاثة" والنقص عنها جائز وفعله المصطفى فكيف يعبر عنه بأساء وظلم "وأجيب بأمر نسبي والإساءة تتعلق بالنقص" أي أساء من نقص عن الثلاث بالنسبة لمن علا لا حقيقة الإساءة "والظلم بالزيادة عن الثلاث" لفعله مكروها أو حراما "وقيل: فيه حذف تقديره من نقص" شيئا "من" غسله "واحدة" بأن ترك لمعة في الوضوء مرة، "ويؤيده ما رواه نعيم" بضم النون "ابن حماد" بن معاوية بن الحارث الخزاعي أبو عبد الله المروزي نزيل مصر صدوق فقيه عارف بالفرائض مات سنة ثمان وعشرين ومائتين على الصحيح، "من طريق المطلب" بشد الطاء ابن عبد الله بن المطلب "بن حنطب" بن الحارث المخزومي صدوق كثير(10/220)
واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ"، وهو مرسل رجاله ثقات.
وأجيب عن الحديث أيضا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم يقتصر على قوله: فمن زاد. فقط، كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره.
قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه، أي لم أحرمه، لأن قوله: لا أحب، يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره كراهة تنزيه.
وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء، كالزيادة في الصلاة، وهو قياس فاسد.
وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث.
وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم.
__________
التدليس والإرسال فنسبه إلى جده حنطب بسكون النون ووقع ليحيى الأندلسي في الموطأ تسميته حويطب وغلطوه "مرفوعا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثا" أي كل منها جائز "فإن نقص من واحدة أو زاد على ثلاثة فقد أخطأ وهو مرسل" لأن المطلب تابعي صغير "رجاله ثقات" ففيه بيان ما أجمل في حديث عمرو بن شعيب "وأجيب عن الحديث أيضا" أي حديث عمرو: "بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه بل أكثرهم يقتصر على قوله فمن زاد فقط كذا رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره" ومن الغرائب ما حكاه أبو حامد الإسفراييني من بعض العلماء أنه لا يجوز النقص من الثلاث كأنه تمسك بظاهر الحديث المذكور وهو محجوب بالإجماع، وأما قول مالك في المدونة لا أحب الواحدة إلا من العالم فليس فيه إيجاب زيادة عليها قاله الحافظ.
"قال الشافعي: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث فإن زادكم لم أكرهه أي لم أحرمه لأن قوله لا أحب يقتضي الكراهة وهذا هو الأصح عند الشافعية أنه يكره" الزيادة على الثلاث "كراهة تنزيه" وقيل يحرم، والقولان مشهوران على حد سواء عند المالكية، "وحكى الدارمي من الشافعية عن قوم أن الزيادة على الثلاث تبطل الوضوء كالزيادة في الصلاة وهو قياس فاسد" لأن الصلاة كلها شيء واحد تفسد بدخول ما ليس منها فيها فبطلت بالزيادة، بخلاف الوضوء فكل واحد من أفعاله مستقل ولو فعل معه أجنبيا عنه لم يبطل كأكل وشرب وكلام "وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث" وقال بعض الحنفية: إن اعتقد أن الزيادة سنة أخطأ ودخل في الوعيد وإلا فلا ولا سيما إذا قصد القربة لحديث: "الوضوء(10/221)
ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق.
__________
على الوضوء نور على نور". وهو حديث ضعيف، "وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم" من زاد على الثلاث "ويلزم من القول بتحريم الزيادة على الثلاث أو كراهتها أنه لا يندب تجديد الوضوء على الإطلاق" أي بلا قيد بل إنما يندب إن صلى بالأول فرضا أو نفلا أو فعل به فعلا يتوقف عليه كمس المصحف وسجدة تلاوة وقيل: الفرض فقط وقيل: غير ذلك.(10/222)
الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم
عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء فأفرغ على يديه ثلاث مرات فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا إلى المرفقين، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث
__________
الفصل الثالث: في صفة وضوئه صلى الله عليه وسلم
"عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه دعا بإناء" فيه ماء.
وفي روية: دعا بوضوء "بفتح الواو" اسم للماء المعد للوضوء، "بالضم الذي هو الفعل، "فأفرغ" بفاء التعقيب، أي صب "على يديه" وفي رواية: على كفيه "ثلاث مرات"، "بفوقية آخره"، وفي رواية مرار "فغسلهما" قبل إدخالهما في الإناء، وهذا يحتمل أنه غسلهما مجموعتين، وهو أفضل عند الشافعية أو مفترقتين، وهو الأفضل عند المالكية، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء وإن لم يكن عقب نوم احتياطا "ثم أدخل يمينه في الإناء" وأخذ منه الماء وأدخله في فيه "فمضمض" بأن أدار الماء فيه.
وفي رواية: فتمضمض "بتاء بعد الفاء" واستنشق" بأن أدخل الماء في أنفه، وفي رواية: بدله، واستنثر "بفوقية فمثلثة بينهما نون ساكنة"، أي أخرج الماء من أنفه بعد الاستنشاق وثبتت الثلاثة في رواية للبخاري، وعند أبي داود وابن المنذر: فتمضمض ثلاثا، واستنثر ثلاثا واتفقت الروايات على تقديم المضمضة "ثم غسل وجهه" غسلا "ثلاثا و" غسل "يديه" لك واحدة "ثلاثا إلى" أي مع "الموفقين".
وفي رواية: ثلاث مرار، "ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه ثلاث مرات" لكل رجل، "إلى" أي مع "الكعبين ثم قال" عثمان: زاد في رواية للبخاري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ نحو(10/222)
فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه". رواه البخاري.
__________
وضوئي هذا، و"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه" بشيء من الدنيا، كما زاده الحكيم الترمذي في روايته لهذا الحديث، وفي مسند أحمد والأوسط للطبراني: "لا يحدث نفسه فيهما إلا بخير". فلا يضر حديث نفسه بمعاني ما يتلوه من القرآن أو غيره، أو بأمور الآخرة، كما قرره العز بن عبد السلام وغيره.
قال القاضي عياض: أي بحديث يجتلبه، لأنه أضافه إليه، فهو من كسبه، فلا تؤثر الخطرات التي لا يقدر على دفعها، وقال بعضهم: المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلا ورأسا. انتهى.
قال الحافظ: ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد، بلفظ: "لم يسر فيهما". ورده النووي وقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طيران الحوادث العارضة غير المستقرة، نعم من لم يحصل له حديث النفس أصلا أعلى درجة بلا ريب. ا. هـ.
وقال ابن دقيق العيد: يصح أن يحمل على النوعين، لأن الحديث ليس في التكليف حتى يرفع فيه العسر، وإنما فيه ترتيب ثواب مخصوص على علم مخصوص فمن حصل له ذلك العمل، حصل له ذلك الثواب، وغير بعيد أن يحصل ذلك لمن تجرد عن شواغل الدنيا وعمر قلبه بذكر الله تعالى، وقد ذكر ذلك عن بعضهم. انتهى.
وروي عن سعيد: ما قمت في صلاة فحدثت نفسي فيها بغيرها، قال الزهري: رحم الله سعدا إنه كان لمأمونا على هذا ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبي "غفر له ما تقدم من ذنبه" قال الحافظ: ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن خصه العلماء بالصغائر، لوروده مقيدا بالصغائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر زاد في حسناته بنظير ذلك.
"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما من طرق تدور على ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن حمران، عن عثمان، ووقع في مسند ابن أبي شيبة ومصنفه معا من وجه آخر، إسناد صحيح عن حمران عن عثمان زيادة وما تأخر.
قال الحافظ: وأصل الحديث في الصحيحين من أوجه ليس في شيء منها زيادة ما تأخر، وأخرجه أيضا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي سعيد المروزي، شيخ النسائي في مسند عثمان، له قال: ووقع للبخاري في الرقاق في آخر هذا الحديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغتروا". أي فتستكثرا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر الخطايا هي التي(10/223)
وقد استدل بعضهم بقوله: "ثم أدخل يمينه" على عدم اشتراط نية الاعتراف, ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا، وأما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها ولا ما ينفيها. قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه. وبهذا قطع البغوي.
وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه، أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف. فقدمت المضمضة والاستنشاق قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة.
وقال النووي في قوله: "نحو وضوئي", هذا إنما لم يقل: مثل؛ لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
لكن تعقبه في "فتح الباري" بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه: "من توضأ مثل
__________
يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك.
"وقد استدل بعضهم بقوله: ثم أدخل يمينه على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفيا ولا إثباتا" لأن النية أمر قلبي لا يطلع عليه، وقوله: "وإما اشتراط نية الاغتراف فليس في هذا الحديث ما يثبتها، ولا ما ينفيها" تكرار محض، إذ هو مدلول ما قبله.
"قال الغزالي: مجرد الاغتراف لا يصير الماء مستعملا، لأن الاستعمال إنما يقع في المغترف منه" أما ما أخذه في يده فطهور يرفع الحدث عن اليد التي أخذ بها، "وبهذا قطع البغوي، وقد ذكروا في حكمة تأخير غسل الوجه أنه لاعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر، والطعم بالفم، والريح بالأنف، فقدمت المضمضة والاستنشاق", وهما مسنونان "قبل الوجه، وهو مفروض احتياطا للعبادة" وحكمة الاستنثار تنظيف ما بداخل الأنف إعانة على القراءة، لأن تنقية مجرى النفس تصحح مخارج الحروف.
"وقال النووي في قوله: نحو وضوئي هذا: إنما لم يقل: مثل، لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره، لكن تعقبه في فتح الباري بأنه ثبت التعبير بها في رواية البخاري في الرقاق"، "بكسر الراء وقافين" جمع رقيق وهو الذي فيه رقة وهي الرحمة ضد الغلظة.
قال الكرماني: أي كتاب الكلمات المرققة للقلوب، ويال لكثير الحياء رق وجهه.
وفي رواية النسفي عن البخاري كتاب الرقائق، والمعنى واحد "من طريق معاذ بن عبد الرحمن" بن عثمان بن عبيد الله القرشي التيمي، ذكره ابن سعد وابن حبان في ثقات التابعين(10/224)
هذا الوضوء". وفي الصيام من رواية معمر: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا". قال: وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة، لأنها تطلق على المثلية مجازا، ولأن "مثل" وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان، ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. انتهى.
__________
وأبوه صحابي، وذكره ابن السكن في ترجمة والده، وقال لهما صحبة، وذكره ابن فتحون في الصحابة، ونسبه لخليفة، وقال البخاري: وسمع أبان، وروى الزهري عنه: يعد في أهل الحجاز، وقال بعضهم: سمع معاذ عمر بن الخطاب ولا يصح، وكذا قال أبو حاتم: لا يصح سماعه من عمر.
قال الحافظ: فإذا لم يسمع من عمر، فكيف يدرك العصر النبوي، وحديثه في الصحيحين والنسائي "عن حمران" بضم المهملة ابن أبان مولى عثمان اشتراه زمن أبي بكر الصديق، ثقة من رجال الجميع، مات سنة خمس وسبعين، وقيل: غير ذلك.
"عن عثمان ولفظه": "من توضأ مثل هذا الوضوء". وفي" كتاب "الصيام" من البخاري "من رواية معمر" عن الزهري، عن عطاء بن يزيد، عن حمران: "من توضأ وضوئي هذا". ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: "من توضأ مثل وضوئي هذا".
"قال" الحافظ: "وعلى هذا، فالتعبير بنحو من تصرف الرواة" أي الرواية بالمعنى، "لأنها" أي لفظة نحو "تطلق على المثلية مجازا" والحامل لهم على ذلك أن المثل ليس هنا عبارة عن المساواة من كل وجه لتعذره، إذ هو كما قال الأبي المساوي لمثله في جميع صفات المثل، ولا يقدر على مثل وضوئه غيره، فلفظ نحو يقتضي المقاربة دون المماثلة من كل وجه، فالثواب يترتب في ذلك على المقاربة لا على المماثلة لتعذرها، وذلك مما تقتضيه الشريعة السمحة من التوسعة وعدم التضييق. انتهى.
"ولأن مثل وإن كانت تقتضي المساواة ظاهر، لكنها تطلق على الغالب" أي تطلق على ما إذا اشترك شيئان في أمر، وكان في أحدهما أكثر، وفي الآخر مستغرقا لجميع أجزائه، فيجوز إطلاق المثل على ما غلب فيه ذلك المعنى وإن لم يساو الآخر، "فبهذا تلتئم الروايتان" أي رواية: نحو, ورواية: مثل, أما رواية: "من توضأ وضوئي"، فلا منافاة بينها وبين واحدة من الروايتين، فلم تظهر نسخة الروايات بالجمع على أن الذي في الفتح الروايتان "بالتثنية"، "ويكون المتروك" مما تحصل به المماثلة "بحيث لا يخل بالمقصود" إذ لو أخل به لم يكن شيئا. "انتهى" كلام الحافظ.(10/225)
وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري، أنه قيل له: توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بإناء، فدعا بماء فأكفأ على يديه فغسلهما ثلاثا، ثم أدخل يده
__________
قال المصنف: نعم علمه عليه السلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمها غيره، وحينئذ يكون قوله: مثل بمقتضى الظاهر.
قال البرماوي في شرح العمدة، وإنما حمل نحو على معنى مثل مجازا، أو على جل المقصود، لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين باختلال شيء منها، يختل الثواب بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله صلى الله عليه وسلم، فيكتفي فيه بأصل فعل الصادق عليه الأمر.
"وعن عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري أنه قيل له:" اختلف رواة الموطأ في تعيينه، فأكثرهم قال: إن رجلا قال لعبد الله بن زيد بإبهام القائل، وبعضهم قال: إن يحيى بن عمارة المازني قال لعبد الله بن زيد. وبعضهم قال: عن عمرو، عن أبيه يحيى بن عمارة أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وللبخاري من طريق وهيب، عن عمرو، عن أبيه شهدت عمرو بن أبي حسن، سأل عبد الله بن زيد، وجمع الحافظ بأنه اجتمع عند ابن زيد أبو حسن الأنصاري وابنه عمرو وابن ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن، فسألوه عن صفة الوضوء، وتولى السؤال منهم عمرو بن أبي حسن، فنسبته له حقيقة، وإلى أبي حسن مجاز، لأنه الأكبر وكان حاضرا، وكذا نسبته ليحيى بن عمارة مجازا لأنه ناقل الحديث، وحضر السؤال.
ويؤيده رواية الإسماعيلي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، قال: قلنا لعبد الله. فإنه يشعر بأنهم اتفقوا على سؤاله، لكن تولاه عمرو بن أبي حسن، ويزيد ذلك وضوحا رواية أبي نعيم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن، قال: كنت كثير الوضوء فقلت لعبد الله بن زيد: "توضأ لنا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" أي وضوءا مثل وضوئه، "لأن الإرادة بالفعل أبلغ في التعليم، أو أطلق عليه وضوءه مبالغة، "فدعا بإناء" وللبخاري: فدعا بتور من ماء "بفوقية مفتوحة" الطست، أو يشبهه، أو مثل القدر من صفر أو حجارة، وللبخاري رواية في أول هذا الحديث: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرجنا له ماء في تور من صفر، "بضم المهملة، وقد تكسر" صنف من جيد النحاس، قيل: سمي بذلك لأنه يشبه الذهب، ويسمى أيضا الشبه "بفتح المعجمة والموحدة".
قال الحافظ: والتور المذكور هو الذي توضأ منه عبد الله بن زيد حين سئل، فيكون أبلغ في حكاية صورة الحال على وجهها، ولفظ رواية مالك: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فقال عبد الله بن زيد: نعم. "فدعا بماء فأكفأ"، "بهمزتين" وفي رواية للبخاري: فكفأ "بفتح الكاف" وهما لغتان بمعنى: والمراد أفرغ الماء منه، أي الإناء، كما صرح به في رواية مالك، بلفظ: فأفرغ "على يديه"، "بالتثنية"، وفي رواية مالك: يده بالإفراد على(10/226)
فاستخرجها فمضمض واستنشق من كف واحد ففعل ذلك ثلاثا, ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثا، ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل يديه إلى المرفقين
__________
الجنس، والمراد بهما الكفان لا غير، "فغسلهما ثلاثا".
هكذا في رواية خالد بن عبد الله عند مسلم، ووهيب، وسليمان بن بلال عند البخاري، والدارودي عند أبي نعيم، كلهم عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، وفي رواية مالك، عن عمرو مرتين.
قال الحافظ: وهؤلاء حفاظ وقد اجتمعوا، فزيادتهم مقدمة على الحافظ الواحد، وقد ذكر مسلم عن وهيب أنه سمع هذا الحديث مرتين من عمرو إملاء، فتأكد ترجيح روايته، ولا يحمل على واقعتين لاتحاد المخرج، والأصل عدم التعدد، "ثم أدخل يده" في الإناء، "فاستخرجها" منه، "فمضمض واستنشق من كف واحد"، وفي رواية: واحدة.
زاد في رواية وهيب: واستنثر، "ففعل ذلك ثلاثا" بأن تمضمض واستنشق من غرفة، ثم ثانية وثالثة كذلك، وهذا المرجح عند المالكية والشافعية.
وقال عياض في شرح مسلم: اختلف في المستحب عند مالك فقيل: هذه الصفة، وهو ظاهر الحديث، وقيل: أن يتمضمض ثلاثا نسقا بثلاث غرفات، ثم يستنشق كذلك، لأنهما عضوان فيأتي لكل عضو بثلاث نسقا.
ويؤيده رواية أبي داود: فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق، وقيل: يفعلهما ثلاث مرات بغرفة واحدة، وهو دليل قوله في رواية للبخاري: فمضمض واستنشق من غرفة واحدة، ثم هو محتمل، لأن يكون جمعهما أو فصل، فمضمض ثلاثا ثم استنشق ثلاثا والجميع من غرفة.
وقال الأبي: الحديث يحتمل جميع الصور، وهو أظهر في الأولى، يعني كما قال عياض هو ظاهر الحديث، وقد سقط من غالب نسخ المصنف، ثم أدخل يده إلى هنا مع ثبوته عند من عزاه لهم، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل وجهه" غسلا "ثلاثا" لم تختلف الروايات في هذا، ويلزم من استدل بهذا الحديث على وجوب تعميم المسح بالرأس، أن يستدل به على وجوب الترتيب لوله: ثم في الجميع، لأن كلا من الحكمين مجمل في الآية بينته السنة بالفعل، كذا قال الحافظ: ولا يلزم ذلك، لأن إسقاط الباء في قوله مسح رأسه في رواية مالك وغيره مع كونها في الآية ظاهرة في وجوب مسح جميعه، ولا سيما وقد أكده في رواية بلفظ: كله بخلاف لفظ ثم لا يفيد وجوب الترتيب، بل يتحقق بالسنية، وإلا لزم أن التثليث ونحوه واجب، لأنه مجمل في الآية أيضا.
"ثم أدخل يده فاستخرجها، فغسل يديه إلى المرفقين" أي مع عند الجمهور كما بينته السنة، ففي الدارقطني بإسناد حسن عن عثمان: فغسل يديه إلى المرفقين حتى مس أطراف(10/227)
مرتين مرتين، ثم أدخل يده فاستخرجها فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر، ثم غسل رجليه إلى الكعبين، ثم قال: هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رواية: فأقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما، إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه. رواه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي.
__________
العضدين، وله بإسناده ضعيف عن جابر كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه، وللبزار والطبراني عن ثعلبة بن عباد، عن أبيه مرفوعا: ثم يغسل ذراعيه حتى جاوز المرفق، وللطحاوي، عنه: ثم يغسل ذراعيه حتى يسيل الماء على مرفقيه فهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، "مرتين مرتين" بالتكرار، لم تختلف الروايات عن عمرو بن يحيى في ذلك.
وفي مسلم عن حبان بن واسع، عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ، وفيه: ويده اليمنى ثلاثا، ثم الأخرى ثلاثا، فيحمل على أنه وضوء آخر لاختلاف مخرج الحديثين، "ثم أدخل يده فاستخرجها، فمسح برأسه"، "بالباء" في رواية خالد هذه
وفي رواية مالك وغيره بدونها، وزاد بعضهم: كله، "فأقبل بيديه"، "مثنى إلى قفاه"، "وأدبر" بهما، زاد في رواية وهيب عند الشيخين مرة واحدة، "ثم غسل رجليه إلى" أي مع "الكعبين" الناتئين في جنبي الرجل، على الصحيح المعروف عند أهل اللغة، "ثم قال" عبد الله بن زيد: "هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم" هذا السياق لفظ مسلم من طريق عبد الله بن عمرو بن يحيى بن عمارة، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد.
"وفي رواية" يعني رواية مالك، عن عمرو عن أبيه، عن ابن زيد: "فأقبل بهما" إلى جهة قفاه "وأدبر", أي رجع، كما فسره بقوله: "بدأ بمقدم"، "بفتح الدال المشددة" رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه.
قال الحافظ: الظاهر أن قوله بدأ ... إلخ، من الحديث: وليس مدرجا من كلام مالك فهو حجة على القائل: يبدأ بمؤخر الرأس إلى أن ينتهي إلى مقدمه، لظاهر قوله: أقبل وأدبر، ويرد عليه أن الواو لا تقتضي الترتيب، وللبخاري رواية: فأدبر بيديه وأقبل، فلم يكن ظاهره حجة، لأن الإقبال والإدبار من الأمور الإضافية، ولم يعين ما أقبل إليه ولا ما أدبر عنه، ومخرج الطريقين متحد، فهما بمعنى واحد، وعينت رواية مالك البداءة بالمقدم، فيحمل قوله أقبل على أنه من تسمية الفعل بابتدائه، أي بدأ يقبل الرأس، وقيل في توجيهه غير ذلك.
"رواه" بنحوه "البخاري" من طرق "ومسلم" بلفظه: كما بينته أولا "ومالك" في الموطأ(10/228)
وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وفي أخرى له وأدخل أصابعه في صماخي أذنيه.
وفي رواية أبي داود والترمذي والنسائي عن عبد خير، أبي عمارة بن زيد بن خولي -بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء- الهمداني، وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب، قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور، فقلنا ما يصنع بالطهور، وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا، فأتي بإناء فيه ماء وطست، فأفرغ من الإناء على يمينه فغسل يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر ثلاثا، فمضمض ونثر من
__________
بنحوه، ومن طريقه رواه الشيخان أيضا، "وأبو داود والترمذي والنسائي" من طريق مالك وغيره.
"وفي رواية لأبي داود: ثم مسح برأسه وأذنيه، ظاهرهما وباطنهما، وفي أخرى له", أي أبي داود: "وأدخل أصابعه"، "بالجمع على إرادة الجنس"، والمراد السبابتين، لكن الذي في أبي داود: أدخل أصبعيه "بالتثنية"، "في صماخي أذنيه"، "بضم الصاد" الخرق الذي يفضي إلى الرأس، وهذا ينادي بالقصور على القرطبي في قوله: لم يجئ في حديث عبد الله بن زيد ذكر الأذنين، ويمكن أن ذلك لأن اسم الرأس يغمهما، وقد رد عليه أيضا بما رواه الحاكم والبيهقي، وصححاه عن عبد الله بن زيد، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، فأخذ ماء لأذنيه خلاف الماء الذي مسح به رأسه.
"وفي رواية أبي داود، والترمذي والنسائي عن عبد خير" بلفظ: ضد شر، ويقال: اسمه عبد الرحمن، حكاه الخطيب، قال الحافظ: لعله غير في الإسلام "أبي عمارة"، "بضم العين بدل منه"، "ابن زيد بن خولي"، "بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو وتشديد الياء"، "الهمداني" الكوفي، أدرك الجاهلية وأسلم في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولم يره، ولم يصح له صحبة، روى عن الصديق وابن مسعود، وعائشة وعي وغيرهم، "وهو من كبار أصحاب علي بن أبي طالب" وعمر أزيد من مائة وعشرين سنة، كما رواه الدولابي، وذكر الإمام أحمد في الإثبات عن علي، ووثقه ابن معين والنسائي والعجلي، وذكره مسلم في الطبقة الأولى من التابعين.
وروى عنه ابن المسيب والشعبي وآخرون، "قال: أتانا علي وقد صلى، فدعا بطهور"، "بالفتح" ما يتطهر به، "فقلنا: ما يصنع بالطهور وقد صلى، ما يريد إلا ليعلمنا" بأن يتوضأ ونحن نراه، "فأتى بإناء فيه ماء وطست" يحتمل أنه عطف تفسير لإناء، ويحتمل أنه أتى بالماء في قدح أو إبريق ونحو ذلك، وبطست يلاقي فيه ما ينزل من الماء، "فأفرغ من الإناء على يمينه، فغسل يديه ثلاثا" من المرات، "ثم تمضمض واستنثر" بيده اليسرى، كما في رواية النسائي: استفعل من النثر "بنون ومثلثة" وهو طرح الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه(10/229)
الكف الذي يأخذ فيه، ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء فمسح برأسه مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا.
قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه.
وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله: مسح.
واحتج الشافعي بحديث عثمان رضي الله عنه في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاث، وبالقياس على باقي الأعضاء، انتهى.
وأجيب: بأنه مجمل مبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر، فيحمل على الغالب ويخص بالمغسول، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا
__________
بريح أنفه لتنظيف داخله، ثم يخرجه بيده اليسرى، ويكره فعله بغيرها عند مالك لأنه يشبه فعل الدابة، والمشهور عند الشافعية: لا كراهة "ثلاثا فمضمض ونثر من الكف الذي يأخذ" الماء "فيه ثم غسل وجهه ثلاثا، وغسل يده اليمنى ثلاثا، وغسل يده اليسرى ثلاثا، ثم جعل يده في الإناء، فمسح برأسه" جميعه "مرة واحدة، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ورجله اليسرى ثلاثا، ثم قال: من سره أن يعلم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو هذا" أي مثله، أو أطلقه عليه مبالغة.
"قال ابن القيم: والصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يكرر مسح رأسه" وبه قال أكثر العلماء، إذ ليس في شيء من طرق الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما أنه كرر، بل في بعضها كحديث ابن زيد، وعلى التصريح بمرة واحد، ولذا قال ابن المنذر: الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح مرة واحدة، وقال أبو داود: أحاديث عثمان الصحاح، كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة، "وقال النووي: الأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله مسح" بدون ذكر عدد.
"واحتج للشافعي" في قوله باستحباب تكرير مسحه ثلاثا، "بحديث عثمان رضي الله عنه" المروي "في صحيح مسلم" في بعض طرقه، "أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا" فإن ظاهره يغم مسح الرأس "وبالقياس على باقي الأعضاء. انتهى".
"وأجيب: بأنه" أي حديث مسلم المذكور "مجمل مبين في الروايات الصحيحة" في(10/230)
يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء.
واحتج الشافعية أيضا لما رواه أبو داود في سننه من حديث عثمان من وجهين، صحح أحدهما ابن خزيمة: أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا والزيادة من الثقة مقبولة، وفي رواية أبي داود أيضا والترمذي من حديث الربيع بنت معوذ: فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة، ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين بدأ بمؤخر رأسه ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما
__________
مسلم وغيره "أن المسح لم يتكرر، فيحمل" ظاهر هذه الرواية "على الغالب، ويخص بالمغسول" لأن الحديث واحد، والمخرج وهو عثمان واحد وإن تعددت الطرق، فهذا مختصر مبين في الروايات المبسوطة، فيحمل عليها.
"و" أجيب عن القياس، "بأن المسح مبني على التخفيف، فلا يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ" فلم يتم القياس، "وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل" لأنه إذا كرر قرب من الغسل، "إذ حقيقة الغسل جريان الماء" لا سيما عند من لم يوجب الدلك، وقد اتفق عل كراهة غسل الرأس بدل المسح وإن كان مجزئا،
وأجيب، بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب، وهو مشروع باتفاق، فليكن العدد كذلك، ويرد بأن الاستيعاب أخف من التكرار بالمشاهدة، وإنما اتفق على الاستيعاب لاتفاق الروايات على أنه صلى الله عليه وسلم استوعب.
"واحتج الشافعية أيضا بما رواه أبو داود في سننه، من حديث عثمان من وجهين" أي طريقين، "صحح أحدهما ابن خزيمة، أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثا، والزيادة من الثقة مقبولة،" لكن محل ذلك كما قال ابن عبد البر وغيره: ما لم يكن من لم يزد أوثق ممن زاد، فتكون الزيادة شاذة وإن صح إسنادها، وهو هنا كذلك، أو هي ما يأتي محمولة إن صحت على إرادة استيعاب المسح، لا أنها مسحات مستقلة.
"وفي رواية أبي داود أيضا، والترمذي من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وكسر التحتية الشديدة، مهمة"، "بنت معوذ" بضم الميم وفتح المهملة وكسر الواو ثقيلة وذال معجمة" ابن عفراء الأنصارية النجارية، من صغار الصحابة وأبوها من شهداء بدر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، "فغسل كفيه ثلاثا ثلاثا، ووضأ" أي غسل "وجهه ثلاثا، وتمضمض واستنشق مرة واحدة،" لبيان الجواز أو المراد فعل الست بغرفة لبيان الجواز أيضا، والمتبادر الأول، "ووضأ يديه ثلاثا، ومسح برأسه مرتين، بدأ بمؤخر رأسه، ثم بمقدمه" بيان لمرتين، فليستا مسحتين،(10/231)
وبطونهما، ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا.
وقد أجاب العلماء عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه.
وقال ابن السمعاني -كما حكاه في فتح الباري-: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا، فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول، لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح.
قال: ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد، الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء بعد أن
__________
بدليل أنها لم تقل: وبدأ بالواو، وثم بدؤه بالمؤخر لبيان الجواز إن صحت هذه الرواية، وقال الأبي: هذا كان لأمر أو في وقت "و" مسح "بأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما"، "بدل أو عطف بيان لأذنيه"، "ووضأ رجليه ثلاثا ثلاثا" لكل رجل، "وقد أجاب العلماء" الشافعية، عن أحاديث المسح مرة واحدة، بأن ذلك لبيان الجواز، ويؤيده رواية مرتين هذه" ولا تأييد فيها، لأنه بين فيها معنى مرتين، بقوله: بدأ ... إلخ، وتقدير بدأ في كل مرة بعيد، فالأصل عدم التقدير ولو سلم، فهو مشترك الإلزام، فمسح مرتين لبيان الجواز، أي عدم الحرمة، لأنه يفعل المكروه في حق غيره للجواز.
"وقال ابن السمعاني" في كتاب الاعتصام "كما حكاه في فتح الباري: اختلاف الرواية يحمل على التعدد، فيكون مسح تارة مرة، وتارة ثلاثا فليس في رواية مسح مرة حجة على منع" أي كراهة "التعدد، ويحتج للتعدد بالقياس على المغسول لأن الوضوء طهارة حكمية" ليس مقصورا على محل الحدث، بل يكون في غيره بخلاف الطهارة العينية، لا تجاوز محل حلول موجبها، كإزالة النجاسة، "ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح" إشارة إلى أن الجامع بينهما الطهارة، ورد ما سبق من منع القياس وليس بشيء، لأنه لما ورد نص القرآن بالغسل في الأعضاء والمسح في الرأس، ظهر أنه للتخفيف، فيمتنع قياسه عليها وإن اجتمعا في مطلق الطهارة الحكمية، وإلى هذا أشار ابن السمعاني نفسه، فقال كما في الفتح عقب قوله بين الغسل ولمسح ما نصه: وأجيب بما تقدم أن المسح مبني على التخفيف بخلاف الغسل، ولو شرع التكرار لصارت صوره صور المغسول إلى آخر ما مر.
"قال:" أي صاحب الفتح لا ابن السمعاني، لأنه بعد أن انفصل عن كلام ابن السمعاني،(10/232)
فرغ: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" فإن في رواية سعيد بن منصور التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة، ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح -إن صحت- على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا أنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس، جمعا بين الأدلة. انتهى.
وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم عند البخاري الذي ذكرته قبل: ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر.
وفي رواية: بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
وزاد ابن الطباع بعد قوله: "ثم مسح رأسه" كله، كما هو رواية ابن خزيمة.
__________
قال: "ومن أقوى الأدلة على عدم التعدد الحديث المشهور الذي صححه ابن خزيمة وغيره من طريق" أي حديث "عبد الله بن عمرو بن العاصي في صفة الوضوء" النبوي حيث قال صلى الله عليه وسلم "بعد أن فرغ صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا فقد أساء وظلم" لاستظهاره على الشارع، "فإن في رواية سعيد بن منصور" للحديث المذكور: "التصريح بأنه مسح رأسه مرة واحدة، فدل على أن الزيادة في مسح الرأس على المرة غير مستحبة" بل مكروهة، إذ لو استحبت، لم يقل من زاد على هذا فقد أساء وظلم مع كونه مسح مرة واحدة.
"ويحمل ما ورد من الأحاديث في تثليث المسح إن صحت على إرادة الاستيعاب بالمسح، لا إنها مسحات مستقلة متعددة لجميع الرأس جمعا بين الأدلة. انتهى" كلام الحافظ وهو في غاية الظهور.
"وفي حديث عبد الله بن زيد المتقدم" عن البخاري وغيره في بعض طرقه، "عند البخاري الذي ذكرته قبل، ثم مسح رأسه بيديه"، "بالتثنية" وفي رواية: بالإفراد على إرادة الجنس، "فأقبل بهما" أي يديه، وفي رواية: بها بالإفراد، "وأدبر".
"وفي رواية للبخاري وغيره من طريق مالك "بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما" أي يديه "إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه" وهذا تكرار أعاده لزيادة قوله، "وزاد" إسحاق بن عيسى بن نجيح البغدادي، أبو يعقوب "بن الطباع"، "بفتح الطاء المهملة والموحدة المشددة، فألف فعين مهملة"، ثقة من رواة الموطأ، روى له مسلم وأصحاب السنن، مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة ومائتين "بعد قوله: ثم مسح رأسه كله".(10/233)
وفي رواية غيره كما قدمته: "برأسه"، بزيادة الباء، الموافقة لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] .
قال البيضاوي: "الباء" أي في الآية مزيدة، وقيل: للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك، مسحت المنديل، وبالمنديل، ووجهه أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول: وألصقوا المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضى الاستيعاب، بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم فإنه كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ، انتهى.
__________
قال البخاري: سئل مالك أيجزئ أن يمسح بعض الرأس، فاحتج بحديث عبد الله بن زيد، قال الحافظ: السائل له عن ذلك إسحاق بن عيسى بن الطباع، بينه ابن خزيمة من طريقه، ولفظه: سألت مالكا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد، قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم رد يده إلى ناصيته، فمسح رأسه كله، فقوله "كما هو رواية ابن خزيمة", أي زيادة كله، وإلا فرواية الموطأ والشيخين وغيرهما من طريقه، مسح رأسه بدون باء خلاف ما يوهمه قوله "وفي رواية غيره: كما قدمته برأسه بزيادة الباء" بل لم تقع زيادة الباء إلا في رواية خالد، كما يفيده كلام الحافظ: "الموافقة لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ".
"قل البيضاوي: الباء في الآية مزيدة" للتعدية، وبه تمسك من أوجب الاستيعاب، وقيل: موضع الدلالة من الآية والحديث، أن الآية تحتمل الكل على أن الباء زائدة، والبعض على أنها تبعيضية، فبان بفعله صلى الله عليه وسلم أن المراد الأول، ولم ينقل عنه أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة أنه مسح على ناصيته وعمامته كما في مسلم، وذلك أيضا من أدلة الاستيعاب، إذ لو م يكن واجبا ما مسح على العمامة مع الناصية، فكان ذلك لعذر، لأنه كان في سفر، وهو مظنة العذر.
"وقيل: للتبعيض" وأنكره جماعة، حتى قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه وأجيب بأنه منقول عن الأصمعي والفارسي والمتنبي وجماعة: "فإنه" أي التبعيض "الفارق بين قولك مسحت المنديل وبالمنديل ووجهه"، أي دلالتها على التبعيض؛ "أن يقال: إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه يقول: "وألصقوا"، "بفتح الهمزة وكسر الصاد"، "المسح برءوسكم، وذلك لا يقتضي الاستيعاب" لصدقه بإلصاقه ببعض الرأس، "بخلاف ما لو قيل: وامسحوا رءوسكم" بدون باء، "فإنه" يفيد الاستيعاب، "كقوله:(10/234)
وقال الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلت السنة على أن بعضه يجزئ والفرق بينه وبين قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم، أن المسح فيه بدل عن الغسل، ومسح الرأس أصل فافترقا. ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجين، لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع.
وقد روي من حديث عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه، وهو مرسل، لكنه اعتضد بمجيئه من وجه آخر موصولا أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل، لا يعرف حاله، لكن اعتضد كل
__________
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . انتهى".
وقال القرطبي: الباء للتعدية، يجوز حذفها وإثباتها، كقولك: مسحت رأس اليتيم ومسحت برأسه، وقيل: دخلت الباء لتفيد معنى آخر، وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولا به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحا به، فلو قال: وامسحوا رءوسكم لأجزأ المسح باليد بغير ماء، فكأنه قال: وامسحوا برءوسكم الماء، فهو على القلب والتقدير وامسحوا رءوسكم بالماء.
"وقال" الإمام "الشافعي رضي الله عنه: احتمل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، جميع الرأس"، "بناء على أن الباء للتعدية"، "أو بعضه"، "بناء على أنها للتبعيض"، "فدلت السنة أن بعضه يجزئ" وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، هذا أسقطه من كلام الشافعي، "والفرق بينه وبين قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ} في التيمم" إذ المجزئ فيه مسح جميع الوجه اتفاقا، "إن المسح فيه بدل عن الغسل" فلا بد أن يأتي بالمسح على جميع موضع الغسل، "ومسح الرأس أصل فافترق" فلا يقاس عليه "ولا يرد كون مسح الخف بدلا عن غسل الرجلين" فقياسه استيعاب مسح أعلاه وأسفله، وبطلان صلاة تارك مسح أسفله، مع أنها صحيحة "لأن الرخصة فيه ثبتت بالإجماع" وأصله قوله علي: لو كان الدين يؤخذ بالقياس، لكان مسح أسفل الخف أولى من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مسح على أعلاه.
"وقد روى" الشافعي "من حديث عطاء" بن أبي رباح "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فحسر العمامة عن رأسه ومسح مقدم رأسه" وهذا محتمل أنه فعل ذلك حين مسح على الناصية في السفر فيكون للعذر، فسقط به الاستدلال "وهو مرسل" فلا حجة فيه بمفرده "لكنه اعتضد" تقوى "بمجيئه من وجه آخر" حال كونه "موصولا، أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله" أي مجهول، ولا اسمه.(10/235)
من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة وهذا مثال لما ذكره الشافعي من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند.
وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور، وفيه خالد بن يزيد بن أبي مالك مختلف فيه.
وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك. قاله ابن حزم.
قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوى به المرسل المتقدم ذكره. انتهى.
واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس، فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما ينطلق عليه اسم ولو شعرة واحدة أخذا باليقين.
__________
قال في التقريب أبو معقل، عن أنس: في المسح على العمامة مجهول من الخامسة، "لكن اعتضد كل من المرسل والموصول بالآخر، وحصلت القوة من الصورة المجموعة،" لكن قد علم أن حديث أنس في المسح على العمامة، وحديث عطاء في مسح مقدم الرأس من غير تعرض لمسح على العمامة، ولا لكونه في سفر، فإن لم يقل باحتمال أن حديث عطاء مختصر من هذا، كانا حديثين، فلا يعتضد أحدهما بالآخر، والشافعي لا يحتج بالمرسل وحده، وإن قلنا به سقط الاستدلال بمرسل عطاء، كما أشرت إليه آنفا، بل يكون من أدلة وجوب الاستيعاب، إذ لو لم يكن واجبا ما مسح على العمامة والناصية "وهذا مثال لما ذكره الشافعي، من أن المرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند" أي موصول.
"وفي الباب أيضا عن عثمان في صفة الوضوء قال: ومسح مقدم رأسه، أخرجه سعيد بن منصور وفيه: خالد بن يزيد بن أبي مالك" الدمشقي، "مختلف فيه" قال في التقريب: ضعيف. مع أنه كان فقيها، وقد اتهمه ابن معين، أي بالكذب، "وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس، قاله ابن المنذر وغيره، ولم يصح عن أحد من الصحابة إنكار ذلك، قاله ابن حزم" ولا حجة فيه، إذ المختلف فيه لا يجب إنكاره، "قال الحافظ ابن حجر: وهذا كله مما يقوي المرسل المتقدم ذكره. انتهى".
وقد علم ما فيه، "واختلف في القدر الواجب في مسح الرأس" بعد الاتفاق على طلب استيعابه، "فذهب الشافعي في جماعة، إلى أن الواجب ما ينطلق عليه الاسم، ولو شعرة(10/236)
وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط.
وقال أبو حنيفة في رواية: الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته وهو قريب من الربع. والله أعلم.
وعن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. رواه أبو داود.
وعنه أيضا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد. رواه ابن ماجه.
__________
واحدة أخذا باليقين" بناء على أن الباء للتبعيض.
"وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب الاستيعاب أخذا بالاحتياط"، ولأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه مسح بعض رأسه إلا في حديث المغيرة، وقد كان في سفر، وهو مظنة العذر، فلعله فعل ذلك لعذر، ولهذا مسح على العمامة بعد مسح الناصية، كما هو ظاهر من سياق مسلم، فلو لم يكن الاستيعاب واجبا ما مسح على العمامة بعد الناصية، فهو من أدلة فرضية الاستيعاب كما قدمته، وإليه أشار القرطبي نقلا عن علمائنا.
"وقال أبو حنيفة في رواية الواجب ربعه، لأنه عليه السلام مسح على ناصيته، وهو" أي ما مسح "قريب من الربع، والله أعلم" بالحق من ذلك.
"وعن طلحة بن مصرف"، "بضم الميم وفتح الصاد المهملة، وشد الراء" اليامي "بتحتية" الكوفي، ثقة، فاضل، مات سنة ثنتي عشرة ومائة أو بعدها، "عن أبيه" مصرف بن عمرو بن كعب، أو ابن كعب بن عمرو اليامي، الكوفي، مجهول، قاله في التقريب، "عن جده" كعب بن عمرو بن مصرف اليامي، وقيل: هو عمرو بن كعب بن مصرف حديثه، عند أبي داود، قاله في الإصابة والتقريب.
"قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره، فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق" أي يفعل ثلاثة المضمضة نسقا، ثم ثلاثة الاستشاق كذلك، لأنهما عضوان، فيأتي لكل عضو بثلاثة نسقا، ثم فصله بغرفة واحدة كما في حديثه التالي، "رواه أبو داود" في سننه، "وعنه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فمضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا من كف واحد" تذكير الكف لغة قليلة، وقيل: لا يعرف تذكيرها من يوثق به، ويجمع بين هذا وما قبله بأنه رآه فصل بينهما بغرفة واحدة، بأن تمضمض منها ثلاثا على الولاء،(10/237)
وفي حديث مسلم أن عثمان دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرار فغسلهما، ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاث مرات.
وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري: أنه أفرغ من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل ومضمض واستنشق من كفة واحدة ثم قال: هكذا وضوء
__________
ثم استنشق منها ثلاثا، كذلك وإن اقتضى كلام عياض أنه فصل بينهما بست غرفات، وعليه يكون رآه مرتين، "رواه ابن ماجه" محمد القزويني.
"وفي حديث مسلم، أن عثمان" بن عفان "دعا بإناء" فيه ماء للوضوء، "فأفرغ على كفيه"، "بالتثنية معطوف على دعا، والفاء للتعقيب" لكن، ثم فعل مقدر مفهوم من فحوى الكلام، تقديره دعا بإناء فأحضر، فأفرغ، والجار والمجرور متعلق بأفرغ "ثلاث مرار"، "بكسر الميم وتكرير الراء مرتين"، "فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء" الذي أفرغ منه على كفيه بعد غسلهما "فمضمض" بغير تاء بعد الفاء، "واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاث مرات"، "بفتح الميم آخره فوقية" قاله المصنف في شرح مسلم.
"وفي حديث عبد الله بن زيد عند البخاري" ومسلم، كلاهما من طريق خالد بن عبد الله عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد "أنه أفرغ من الإناء على يديه، فغسلهما ثم غسل" أي فمه "ومضمض واستنشق" لفظ البخاري: أو مضمض.
قال الحافظ: بالشك أي هل قال غسل، أي فمه، أو قال: مضمض؟ قال: وأخرجه مسلم عن محمد بن الصباح عن خالد بسنده هذا من غير شك، ولفظه ثم أدخل يده، فاستخرجها، فمضمض واستنشق، وأخرجه الإسماعيلي من طريق وهيب، عن خالد بلا شك أيضا، فالظاهر أن الشك من مسدد شيخ البخاري، وأغرب الكرماني، فقال: الظاهر أن الشك فيه من التابعي. انتهى.
فلو عزاه المصنف لمسلم، أو لهما لاستقام "من كفة واحدة" قال الحافظ: كذا في رواية أبي ذر، وفي نسخة: من غرفة واحدة، وللأكثر من كف بغير ها.
قال ابن بطال: المراد بالكف الغرفة، فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق هاء التأنيث في الكف، ومحصله أن المراد بقوله: كفة فعلة، لا أنها تأنيث الكف، وقال صاحب المشارق، قوله: من كفة "بالضم والفتح" كغرفة وغرفة، أي من ماء ملأ كفه من الماء.
زاد المصنف: وفي رواية ابن عساكر: من كف واحدة، "ثم قال" عبد الله بن زيد بعد أن(10/238)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال النووي: فيه أن السنة في المضمضة، والاستنشاق، أن يأخذ الماء لهما بيمينه، ثم قال: وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه:
الأصح: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق.
والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة، يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا.
والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها ثم يستنشق.
والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا.
والخامس: يفصل بست غرفات، يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق بثلاث غرفات.
__________
فرغ من وضوئه، "هكذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم".
"قال النووي فيه" أي الحديث من الفوائد "إن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يأخذ الماء لهما بيمينه،" كما فعل صلى الله عليه وسلم كما فعل صلى الله عليه وسلم "ثم قال" النووي: "وفي الأفضل في كيفية المضمضة والاستنشاق خمسة أوجه، الأصح يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات، يتمضمض من كل واحدة، ثم يستنشق،" كما في رواية خالد المذكورة بلفظ: من كفة واحدة، ففعل ذلك ثلاثا، فإنها صريحة في الجمع في كل غرفة، بخلاف رواية وهيب: فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات، فإنه يطرقها احتمال التوزيع بلا تسوية، كما نبه عليه ابن دقيق العيد.
"والثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا" على ما في حديثي أبي داود وابن ماجه، "والثالث: يجمع أيضا بغرفة، ولكن يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق، ثم يتمضمض منها، ثم يستنشق" على ما في بعض الروايات "والرابع: يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من أحدهما ثلاثا، ثم يستنشق من الأخرى ثلاثا، والخامس: يفصل بست غرفات" بأن يتمضمض بثلاث غرفات، ثم يستنشق(10/239)
قال: والصحيح الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة.
وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور إلى وجوب الاستنشاق، وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر". لظاهر الأمر.
وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة على الندب، لقوله عليه السلام للأعرابي: توضأ كما أمرك الله، وليس في الآية ذكر الاستنشاق، والله أعلم.
__________
بثلاث غرفات".
وقال بعض المالكية: إنه الأفضل "قال" النووي: "والصحيح الأول" أعاده مع قوله أولا، الأصح لقوله: "وبه جاءت الأحاديث الصحيحة" وهو أيضا الأصح عند المالكية، بحيث حكى ابن رشد الاتفاق على أنه الأفضل.
"وقد ذهب الإمام أحمد وأبو ثور" إبراهيم بن خالد الكلبي، الفقيه: "إلى وجوب الاستنشاق وهو أن يبلغ الماء إلى خياشيمه، مستدلين بقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة" في البخاري ومسلم وغيرهما": "إذا توضأ أحدكم، فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر"، "بوزن يفتعل"، كذا لأبي ذر والأصيلي ولغيرهما، ثم لينتثر "بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة"، والروايتان لأصحاب الموطأ أيضا.
قال الفراء: يقال: نثر وانتثر واستنثر، إذا حرك النثرة، وهي طرف الأنف في الطهارة، قاله الحافظ.
وقال النووي: لينثر "بكسر المثلثة بعد النون الساكنة" على المشهور، وحكى ضمها "لظاهر الأمر" إذ الأصل فيه الوجوب، "وحمله الجمهور ومالك والشافعي وأهل الكوفة" ومنهم أبو حنيفة.
وفي نسخة: مالك بلا واو، على أنه بدل من الجمهور "على الندب لقوله عليه السلام" للأعرابي: "توضأ كما أمرك الله". أخرجه الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، فأحاله على الآية، "وليس في الآية ذكر الاستنشاق".
قال الحافظ: وأجيب باحتمال أن يراد بالأمر ما هو أعم من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، ولم يحك أحد ممن وصف وضوءه على الاستقصاء، أنه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهذا يرد على من لا يوجب المضمضة أيضا، وقد ثبت الأمر بهما أيضا في سنن أبي داود، بإسناد صحيح.
وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتج على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به،(10/240)
وعند أبي داود: كان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين.
وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته، رواه الترمذي وابن ماجه. وعنده من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها.
وعن أنس كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا من ماء فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: بهذا أمرني ربي عز وجل. رواه أبو داود.
__________
إلا لكونه لا يعلم خلافا في أن تاركه لا يعيد، قال: وهذا دليل فقهي، فإنه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عطاء وثبت عنه أنه رجع عن وجوب الإعادة "والله أعلم" بالحكم.
"وعند أبي داود: وكان عليه الصلاة والسلام يمسح الماقين"، "بقاف قبلها ألف" لغة في مؤق العين "بهمزة ساكنة" ويجوز إبدالها واوا مؤخرها، فلعل المراد بمسحهما غسلهما غسلا خفيفا.
وقال الأزهري: أجمع أهل اللغة على أن الموق والماق لغتان، بمعنى المؤخر، وهو ما يلي الصدغ "وعن عثمان أنه صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته" أي يدخل الماء في خلالها بأصابعه، "رواه الترمذي وابن ماجه، وعنده" أي ابن ماجه بإسناد ضعيف "من حديث ابن عمر: كان عليه الصلاة والسلام إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك" يعني عركا خفيفا "ثم شبك لحيته" أي خللها "بأصابعه" أي أدخل أصابعه مبلولة فيها "من تحتها" والعارض: ما نبت على عرض اللحى فوق الذقن، وقيل: عارضا الإنسان صفحتا خديه، كذا في الفائق، قال ابن الكمال: وقول ابن المعتز:
كأن خط عذار شق عارضه ... عيدان آس على ورد ونسرين
يدل على صحة الثاني وفساد الأول، وكأن قائله لم يفرق بين العذار والعارض.
"وعن أنس: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفا"، "بفتح الكاف" غرفة "من ماء، فيدخله تحت حنكه ويخلل به لحيته ويقول: "بهذا" الفعل "أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود والحاكم بإسناد فيه مقال.
وقد قال أحمد وأبو حاتم: لا يثبت في تخليل اللحية شيء لكن قيل: أراد أن أحاديثه ليس شيء منها يرتقي درجة الصحة بذاته، وإلا فقد جاء عن أكثر من عشرة من الصحابة: لو كان كل طريق منها ضعيفا لقامت الحجة بمجموعها، فكيف وبعضها لا ينزل عن درجة الحسن، إلا أن البخاري قال: لم تثبت المواظبة، بل مجرد الفعل إلا في شذوذ من الطرق. انتهى.(10/241)
وعن أبي رافع: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ حرك خاتمه. رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه.
وعن المستورد بن شداد: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره، رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه.
وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى.
وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ. رواه
__________
وقد كره مالك في المدونة تخليل اللحية الكثيفة، وهو المشهور، فتخليله صلى الله عليه وسلم مع أن لحيته كثيفة لبيان الجواز.
"وعن أبي رافع:" أسلم، أو إبراهيم أو غير ذلك أقوال عشرة، أصحها أسلم: "كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ" زاد في رواية: وضوءه للصلاة "حرك خاتمه" زاد في رواية: في أصبعه، أي عند غسل اليد التي هو فيها ليصل الماء إلى ما تحته يقينا.
"رواه ابن ماجه والدارقطني وضعفه", وكذا ضعفه ابن عدي والبيهقي وعبد الحق وابن القطان وغيرهم، ومن ثم لم يأخذ به مالك.
"وعن المستورد"، "بضم الميم وسكون السين المهملة وفتح الفوقية وكسر الراء ومهملة"، "ابن شداد" بن عمر القرشي، الفهري، حجازي نزل الكوفة، ولأبيه صحبة، مات سنة خمس وأربعين: "كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ يدلك أصابع رجليه بخنصره" أي بخنصر إحدى يديه، والظاهر أنها اليسرى، قاله بعض الشراح، "رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجه" وقال الترمذي: حسن غريب، قال اليعمري: يشير بالغرابة إلى تفرد ابن لهيعة به عن يزيد بن عمرو وليس كذلك، فقد رواه الليث بن سعد وعمرو بن الحارث عن يزيد، كرواية ابن لهيعة، وناهيك بهما جلالة ونبلا، فالحديث إذا صحيح مشهور.
"وعن عائشة: كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه" فيأكل باليمين، زاد في رواية: وشرابه، "وكانت اليسرى لخلائه"، "بالمد"، "وما كان من أذى", قال الأبي: هو ما تكرهه النفس، ومنه سمي الحيض أذى. انتهى.
وهذا أصل في أن ما كان من باب التكريم يفعل باليمنى، وما كان بخلاف ذلك يفعل باليسرى.
"وعن المغيرة بن شعبة أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر" هو سفره لغزوة تبوك في(10/242)
البخاري ومسلم.
وعن صفوان بن عسال قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر والحضر في الوضوء. رواه ابن ماجه.
وفي ذلك جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء في الوضوء من غير كراهة، وكذا إحضار الماء من باب أولى، ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة.
وقد روى الحاكم في المستدرك، من حديث الربيع بنت معوذ أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء فقال: "اسكبي". فسكبت عليه.
__________
رجب سنة تسع "وأنه عليه الصلاة والسلام ذهب لحاجة له" هي التبرز "وأن مغيرة جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ" جملة اسمية وقعت حالا "رواه البخاري ومسلم" في الطهارة.
"وعن صفوان بن عسال"، "بمهملتين" مثقل المرادي، صحابي، معروف، غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، نزل الكوفة "قال: صببت على النبي صلى الله عليه وسلم الماء في السفر، والحضر في الوضوء".
"رواه ابن ماجه وفي ذلك المذكور من حديثي المغيرة وصفوان "جواز استعانة الرجل بغيره في صب الماء من غير كراهة" خلافا لمن قال: مكروه، أو خلاف الأولى، لأنها ترفه لا تليق بالمتعبد، ورد بأنه إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله، لا يكون خلاف الأولى.
وأجيب بأنه يفعله لبيان الجواز، فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلاف غيره.
وقال الكرماني: إذا كان الأولى تركه كيف ينازع في كراهته، وأجيب، بأن كل مكروه فعله خلاف الأولى من غير عكس، إذ المكروه يطلق على الحرام بخلاف الآخر، "وكذا إحضار الماء من باب أولى" لا كراهة فيه أصلا.
قال الحافظ: لكن الأفضل خلافه "ولا دليل في هذين الحديثين لجواز الإعانة بالمباشرة" أي مباشرة المعين لغسل الأعضاء خلافا لاستدلال البخاري بحديث المغيرة على الإعانة بالمباشرة.
وقد تعقبه ابن المنير بما حاصله أنه فرق بين الإعانة بالصب وبين الإعانة بمباشرة الغير لغسل الأعضاء فدل الحديثان على الأول دون الثاني، وأقره الحافظ.
"وقد روى الحاكم في المستدرك من حديث الربيع"، "بضم الراء وفتح الموحدة وتحتية ثقيلة"، "بنت معوذ" بن عفراء "أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء"، "بفتح الواو ما(10/243)
وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين لكونه في الحضر، ولكونه بصيغة الطلب، والله أعلم.
وفي الترمذي، من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه.
وعن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء. قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم، وأبو معاذ الرازي ضعيف عند أهل الحديث.
__________
يتوضأ به" فقال: "اسكبي" صبي، "فسكبت عليه، وهذا أصرح في عدم الكراهة من الحديثين المذكورين، لكونه في الحضر" فيه، أنه قال في حديث صفوان في السفر والحضر، لكن هذه العبارة جاء بها من الفتح، وإنما قالها في الحديثين اللذين أوردهما البخاري، وهما حديث المغيرة وحديث أسامة، لما أفاض من عرفة عدل إلى الشعب، فقضى حاجته، قال أسامة بن زيد: فجعلت أصب عليه وهو يتوضأ، وكلاهما في السفر، فلذا قال الحافظ: إن حديث الربيع أصرح، لكونه في الحضر، "ولكونه بصيغة الطلب" الأمر، بقوله: "اسكبي".
قال الحافظ: لكنه ليس على شرط البخاري، نعم الأفضل أن لا يستعين أصلا "والله أعلم".
وفي شرح المهذب حديث: أن عمر بادر لصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "أنا لا أستعين في وضوئي بأحد". باطل لا أصل له.
"وفي الترمذي من حديث معاذ بن جبل: كان صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه" يتنشف به.
قال الترمذي: غريب وإسناده ضعيف، وبه جزم الحافظان العراقي والعسقلاني.
"و" في الترمذي أيضا، والحاكم "عن عائشة: كانت له عليه السلام خرقة يتنشف بها بعد الوضوء" وفي لفظ: بعد وضوئه، فيجوز التنشف بلا كراهة، وعليه جماعة من الصحابة ومن بعدهم ومالك وغيره، وذهب آخرون إلى كراهته لحديث ميمونة أنها أتته صلى الله عليه وسلم بمنديل فرده، ولقول الزهري: إن ماء الوضوء يوزن، وأجاب الأولون، بأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، وبأجوبة أخرى تأتي في فصل الغسل.
"قال الترمذي: هذا الحديث ليس بالقائم" ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء هذا أسقطه من كلام الترمذي قبل قوله "وأبو معاذ" سليمان بن أرقم "الرازي" البصري راويه عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: "ضعيف عند أهل الحديث" كالبخاري وأبي حاتم ويحيى(10/244)
وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه، رواه الدارقطني.
وأكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ. رواه البخاري ومسلم.
وللنسائي: قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار.
وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا ولم يتمضمض ولم يتوضأ فصلى. رواه أبو داود.
وأتي صلى الله عليه وسلم بسويق فأمر به فثري فأكل منه، ثم قام إلى المغرب فتمضمض.
__________
والنسائي وابن حبان، وبقية كلام الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من الصحابة، ومن بعدهم في التمندل بعد الوضوء، ومن كرهه إنما كرهه لما قيل: إن الوضوء يوزن، روي ذلك عن سعيد بن المسيب والزهري.
"وقد احتجم صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه" جمع محجم بزنة جعفر موضع الحجامة، "رواه الدارقطني" فدل على أن خروج الدم لا ينقض الوضوء، "وأكل" صلى الله عليه وسلم " كتف شاة" أي لحمه.
وفي رواية للبخاري: معرق شاة، أي أكل ما على العرق "بفتح المهملة وسكون الراء"، وهو العظيم، ويقال له أيضا العراق "بالضم".
وأفاد القاضي إسماعيل أن ذلك في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وهي بنت عمه صلى الله عليه وسلم ويحتمل أنه كان في بيت ميمونة، ففي الصحيحين، عنها أنه صلى الله عليه وسلم أكل عندها كتفا، ثم صلى ولم يتوضأ، ولا مانع من التعدد كما في الفتح، "ثم صلى ولم يتوضأ، رواه البخاري ومسلم" عن ابن عباس، وهو صريح في أنه لا وضوء مما مست النار.
وأما أحاديث زيد وأبي هريرة وعائشة: "توضئوا مما مست النار". رواها مسلم، فمحولة على الوضوء اللغوي، وهو غسل اليد، أو منسوخة كما أشار إليه بقوله "وللنسائي" وأبي داود، وصححه ابن خزيمة عن جابر "قال: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار", وفي رواية: مست النار، "وشرب صلى الله عليه وسلم لبنا فلم يتمضمض" لبيان الجواز، فلا ينافي استحباب المضمضة لحديث الصحيحين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنا، ثم دعا بماء فمضمض، وقال: إن له دسما، ولبيان أن أمره في رواية ابن ماجه: "مضمضوا من اللبن، فإن له دسما". للاستحباب. "ولم يتوضأ، فصلى، رواه أبو داود" بإسناد حسن عن أنس "وأتي صلى الله عليه وسلم" وهو سائر إلى غزاة خيبر بعدما صلى العصر "بسويق" قمح أو شعير، أو سلت مقلو، وصفه أعرابي، فقال: عدة المسافر وطعام العجلان وبلغة المريض. "فأمر به فثري"، "بضم المثلثة وشد الراء", ويجوز(10/245)
رواه البخاري ومالك والنسائي.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام من النوم ربما توضأ. وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه كما في البخاري وغيره.
وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره. قال الخطابي: إنما منع قلبه ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه.
__________
تخفيفها، أي بل بالماء ليبسه، "فأكل منه" في الرواية: وأكلنا، "ثم قام إلى المغرب فتمضمض" قبل الدخول في الصلاة وفي الرواية: وتمضمضنا، وفائدتها وإن كان لا دسم في السويق أنه يحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم، فيشغله بلعه عن الصلاة.
وبقية الحديث: ثم صلى ولم يتوضأ، "رواه البخاري" في ستة مواضع، "ومالك" في الموطأ، وعن عبد الله بن يوسف عنه، رواه البخاري في الطهارة، "والنسائي" وابن ماجه، كلهم من حديث سويد بن النعمان "وكان صلى الله عليه وسلم إذ قام من النوم ربما توضأ وربما لم يتوضأ لأن عينه تنام ولا ينام قلبه،" وكذلك الأنبياء، وفي مسلم، مرفوعا: "رؤيا الأنبياء وحي". "كما في البخاري وغيره" في قصة بيات ابن عباس عنده في بيت ميمونة، إذ توضأ لما قام من النوم الأول ثم تهجد، ثم نام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي، فناداه بالصلاة، فقام معه فصلى ولم يتوضأ.
"وفيه دليل على أن النوم ليس حدثا، بل مظنة الحدث، فلو أحدث لعلم بذلك" لعدم نوم قلبه، "فتكون الخصوصية شعوره بالوقوع بخلاف غيره".
"قال الخطابي: إنما منع قلبه النوم ليعي الوحي الذي يأتيه في منامه", وكذلك الأنبياء، ولذا جاز لإبراهيم الإقدام على ذبح ولده برؤيا المنام، والله أعلم.(10/246)
الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين
اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين، منهم العشرة، وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك، مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية، والمعروف المستقر عندهم الآن قولان: الجواز مطلقا. وثانيهما: للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في "المدونة"، وبه جزم ابن الحاجب.
وقال ابن المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل، المسح أو الغسل والذي أختاره: أن المسح أفضل لأجل من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج
__________
الفصل الرابع: في مسحه صلى الله عليه وسلم على الخفين
"اعلم أنه قد صرح جمع من العلماء الحفاظ، بأن المسح على الخفين" وهو خاص بالوضوء لا مدخل للغسل فيه، بالإجماع كما في الفتح "متواتر" أي نقله جمع عن جمع يؤمن تواطؤهم على الكذب بلا قيد عدد على الأصح.
"وجمع بعضهم: رواته، فجاوزوا الثمانين" بيان لتواتره "منهم العشرة" المبشرة بالجنة، وروى ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري: حدثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين، ونقل ابن المنذر عن ابن المبارك، قال ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف، لأن كل من روى عنه منهم إنكاره، فقد روى عنه إثباته.
"وقال ابن عبد البر: لا أعلم أنه قد روي عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك" في رواية أنكرها أكثر أصحابه، "مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته، وموطؤه يشهد للمسح في الحضر والسفر، وعليها جميع أصحابه وجميع أهل السنة، هذا بقية كلام ابن عبد البر.
"وقد أشار الشافعي في الأم إلى إنكار ذلك على المالكية" الذين نقلوا إنكاره عن مالك لأن الشافعي من أصحابه، وقد قال أبو عمر: أنكرها أكثر الصحابة، وقال الباجي: رواية الإنكار وقعت في العتبية، وظاهرها المنع، وإنما معناها أن الغسل أفضل منه.
قال ابن وهب: آخر ما فارقت مالكا على المسح في الحضر والسفر، وقال نحوه ابن نافع، وأن مالكا إنما كان يتوقف فيه في خاصة نفسه مع افتائه بالجواز، وهذا مثل ما صح عن أبي أيوب الصحابي "والمعروف المستقر عندهم" أي المالكية "الآن قولان: الجواز مطلقا" للحاضر والمسافر وهو المشهور، "وثانيهما للمسافر دون المقيم، وهذا الثاني مقتضى ما في المدونة، وبه جزم ابن الحاجب" وهو ضعيف، والمشهور الإطلاق، وصرح الباجي بأنه الأصح، وقال: قال أصبغ: المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر أصحابه أثبت عندنا من أن نتبع مالكا على خلافه، يعني في هذه الرواية. انتهى.
وقد حكى الإجماع على جوازه إلا أن قوما ابتدعوا كالخوارج، فقالوا: لم يرد به القرآن والشيعة، لأن عليا امتنع منه، ورد بأنه لم يثبت عن علي بإسناد موصول يثبت بمثله كما قاله البيهقي.
وقال الكرخي من الحنفية: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين "وقال ابن(10/247)
والروافض.
وقال النووي: مذهب أصحابنا أن الغسل أفضل من المسح لكن بشرط أن لا يترك المسح.
وقد تمسك من اكتفى بالمسح بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} عطفا على قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين، وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة، والثابت عنه خلافه.
وعن عكرمة والشعبي وقتادة: الواجب الغسل أو المسح.
وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما.
__________
المنذر: اختلف العلماء أيهما أفضل المسح أو الغسل" للرجلين، "والذي أختاره" أنا "أن المسح أفضل لأجل" الرد على "من طعن فيه من أهل البدع من الخوارج والروافض" وإحياء ما طعن فيه المخالفون من السنن أفضل من تركه، هذا بقية كلام ابن المنذر.
"وقال النووي: مذهب أصحابنا" الشافعية، وكذا المالكية "أن الغسل" للرجلين "أفضل من المسح" على الخف، "لكن بشرط أن لا يترك المسح" رغبة عن السنة، كما قالوا في تفضيل القصر على الإتمام، هذا بقية كلام النووي كما في الفتح، وهو متعين، "وقد تمسك من اكتفى بالمسح" على الرجلين نفسهما، ولم يوجب غسلهما بقوله تعالى: "وَأَرْجُلِكُمْ"، "بالجر"، "عطفا على" رءوسكم، من "قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} فذهب إلى ظاهرها جماعة من الصحابة والتابعين" إذ التقدير وامسحوا بأرجلكم.
"وحكي عن ابن عباس في رواية ضعيفة والثابت عنه خلافه" أن المسح لا يجزئ، "وعن عكرمة والشعبي"، "بموحدة بعد المهملة"، "وقتادة: الواجب الغسل" عملا بقراءة: {وَأَرْجُلَكُمْ} "بالنصب", "أو المسح" لنفس الرجلين، عملا بقراءة الخفض، فالفرض التخيير عند هؤلاء, وليس المعنى مسح الخف بدليل سابق الكلام ولاحقه، لكن هذا الذي نقله المصنف عن الثلاثة مخالف لنقل القرطبي، عنهم أن الواجب المسح لا الغسل، وعبارته: كان عكرمة يمسح على رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل.
وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح، ثم قال: ألا ترى أن اتيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا، وقال قتادة: افترض الله غسلين ومسحين، وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين. انتهت, فإنما نقل التخيير عن ابن جرير، فلعل للثلاثة قولين.
"وعن بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بينهما" بين مسح نفس الرجلين ثم غسلهما.(10/248)
وحجة الجمهور: الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فإنه بيان للمراد، وأجابوا عن الآية بأجوبة:
منها: أنه قرئ {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} .
وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} ، كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10] .
وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة "الجر" على مسح الخفين، وقراءة "النصب" على غسل الرجلين.
__________
قال القرطبي: قال النحاس، ومن أحسن ما قيل أن المسح والغسل واجبان جميعا، فالمسح واجب على قراءة الخفض، والغسل واجب على قراءة النصب، والقراءتان بمنزلة آيتين. انتهى.
فليس المراد الجمع بين غسل الرجلين، ثم المسح على الخفين، "وحجة الجمهور" القائلين بأن الواجب غسل الرجلين، ولا يصح مسحهما، "الأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي" قريبا إن شاء الله تعالى، فإنه بيان المراد" في الآية.
زاد القرطبي: وهو اللازم من قوله في غير ما حديث وقد رأى قوما يتوضئون وأعقابهم تلوح، فنادى بأعلى صوته: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء"، وفي رواية: "ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار". فخوفنا بالنار من مخالفة مراد الله، ومعلوم أنه لا يعذب بالنار إلا من ترك الواجب، وأن المسح ليس شأنه الاستيعاب.
"وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها أنه قرئ" عند حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم: " {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب عطفا على {أَيْدِيَكُمْ} " وذلك نص في وجوب الغسل، وإنما قدم عليه مسح الرأس لإفادة أنه يفعل قبل غسل الرجلين، ولذا اختلف في أن الترتيب سنة أو واجب، وقد جاء عن علي أن هذا من المقدم والمؤخر من الكلام.
"وقيل: إنه معطوف على محل {بِرُءُوسِكُمْ} " لأن محله النصب مفعول {َامْسَحُوا} ، لكن عطفه عليه لا يعطي الغسل الذي هو المطلوب، فلا يصح جوابا للجمهور عن الآية الذي الكلام فيه، "كقوله تعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي} " فـ {جِبَالُ} مبني على الضم في محل نصب، فعطف عليه " {وَالطَّيْرَ} بالنصب" بإجماع القراء سوى الجرمي، باعتبار المحل، وعلى القول، بأنه عطف على {فَضْلًا} من قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا} لا شاهد فيه.
"وقيل: المسح في الآية محمول على مشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجر" ابن كثير، وأبو عمرو, وحمزة, وشعبة عن عاصم، "على مسح الخفين وقراءة(10/249)
وجعل البيضاوي "الجر" على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن كقوله تعالى: {عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بالجر في قراة حمزة والكسائي. وقولهم: "جحر ضب خرب" وللنحاة باب في ذلك.
وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليهما ويغسلا
__________
النصب على غسل الرجلين" جمعا ين القراءتين، فأفاد الجر مسحهما، لكن إذا كانا عليهما خفان.
قال القرطبي: وتلقينا هذا القيد من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لم يمسح رجليه إلا وعليهما خفان، فبين بفعله الحال التي تغسل فيها الرجل، والحال التي تمسح فيه وهذا حسن.
"وجعل البيضاوي" تبعا لطائفة "الجر على الجواز، قال: ونظيره كثير في القرآن، كقوله تعالى" {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] أي مؤلم، فأليم في الحقيقة صفة لعذاب، لا ليوم فجر للمجاورة.
وقال في سورة هود: يوصف به العذاب وزمانه للمبالغة، كجد جده ونهارك صائم، " {وَحُورٌ عِينٌ} بالجر في قراءة حمزة والكسائي" للمجاورة لأكواب وأباريق وما بعده وإن كان عطفا على {وِلْدَانٌ} المرفوع في قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ} ، وقيل: عطفا على {جَنَّاتِ} بتقدير مضاف، أي هم في جنات ومصاحبة حور، أو على أكواب؛ لأن معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ} ينعمون بأكواب، وقرأ غيرهما: {وَحُورٌ} بالرفع عطفا على {وُلْدَانٌ} ، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي وفيها، أو ولهم حور، وقرئ "بالنصب" على تقدير ويؤتون حورا، ولا شاهد فيما عدا الجوار "وقولهم" أي العرب "جحر ضب خرب" بالجر لمجاورة ضب وإن كان بالرفع صفة لحجر، إذ هو الذي وصف بخرب دون ضب، "وللنحاة باب في ذلك" يعبر عنه بعضهم بالعطف على اللفظ دون المعنى، فيكون دليلا على غسل الرجلين، إذ المراعى المعنى لا اللفظ، وإنما خفض للجوار، وهذا مذهب الأخفش وأبي عبيدة وغيرهما، وجعلوا منه أيضا قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ} , بالجر، لأن النحاس الدخان، وقوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] للجوار، فالمعنى محفوظ بالخفض في لوح، وقول امرئ القيس:
كبير أناس في بجاد مزمل
فخفض مزمل للجوار، فالمزمل الرجل وهو مرفوع، وقال زهير:
لعب الزمان بها وغيرها ... بعدي سوى في المزن والقطر
قال أبو حاتم: الوجه القطر بالرفع، فجر للمجاورة "وفائدته التنبيه على أنه ينبغي أن(10/250)
غسلا يقرب من المسح. انتهى.
وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال فتبرز صلى الله عليه وسلم قبل الغائط فحملت معه إداوة -قبل الفجر- فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه من الإداوة، فغسل يديه ووجهه، وعليه جبة من صوف، ذهب يحسر عن
__________
يقتصد"، أي يتوسط "في صب الماء عليهما، ويغسلا غسلا يقرب من المسح" دفعا لتوهم المبالغة في غسلهما بالزيادة على الثلاث لملاقاتهما الأوساخ، ورد ذلك النحاس وقال: هذا القول غلط عظيم، لأن الجوار لا يكون في كلام يقاس عليه، وإنما هو غلط، ونظيره الأقواء. "انتهى".
يعني: فلا ينبغي أن يحمل عليه أفصح الكلام، وقد أمكن غيره، وأجاب قوم عن قراءة الخفض بأن المسح في الرجلين هو الغسل حكاه ابن عطية، قال القرطبي: وهو الصحيح فإن لفظ المسح مشترك يطلق بمعنى المسح، وبمعنى الغسل كما حكاه أبو زيد عن العرب، فيترجح أن المراد بقراءة الخفض الغسل لقراءة النصب التي لا احتمال فيها، ولكثرة الأحاديث الثابتة بالغسل والتوعد على ترك غسلهما في أخبار صحاح لا تحصى كثرة، أخرجها الأئمة. انتهى.
"وعن المغيرة بن شعبة أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك" بعدم الصرف على المشهور لوزن الفعل كتقول، "قال: فتبرز" بالتشديد، أي خرج "صلى الله عليه وسلم" لقضاء حاجته، ولابن سعد عن مغيرة: لما كنا بين الحر وتبوك ذهب لحاجته "قبل" بكسر ففتح، أي جهة "الغائط" أي المكان المطمئن الذي تقضى فيه الحاجة، فاستعمل في أصل حقيقته اللغوية، فليس المراد الفضلة، "فحملت معه إداوة" بكسر الهمزة، أي مطهرة من جلد وكان حملها بأمره.
ففي رواية للشيخين، فقال: يا مغيرة خذ الإداوة "قب الفجر" أي الصبح، ولابن سعد: فتبعته بماء بعد الفجر، ويجمع بأن خروجه كان بعد طلوع الفجر وقبل صلاة الصبح، زاد في رواية للشيخين: فانطلق حتى توارى عني، ثم قضى حاجته، وعند أحمد أن الماء أخذه المغيرة من أعرابية صبته له من قربة من جلد ميتة، فقال له صلى الله عليه وسلم: "سلها، فإن كانت دبغتها فهو طهورها". فقالت: إي والله لقد دبغتها. "فلما رجع أخذت أهريق الماء على يديه"، "بضم الهمزة وفتح الهاء وإسكانها" أي أصب، وفي رواية: فصببت عليه "من الإداوة، فغسل يديه", زاد في رواية أحمد: فأحسن غسلهما، وللبخاري: تمضمض واستنشق، "ووجهه" زاد أحمد ثلاث مرات، "وعليه جبة" هي ما قطع من الثياب مشمرا، قاله في المشارق: "من صوف" وللبخاري ومسلم: وعليه جبة شامية ضيقة الكمين، زاد أبو داود: من جباب الروم، "ذهب يحسر" بكسر السين المهملة، كما للمصنف على مسلم، وكأنه الرواية، وإلا ففي لغة "بضم السين أيضا"(10/251)
ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه وغسل ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين". فمسح عليهما، ثم ركب وركبت. الحديث رواه مسلم.
__________
"عن ذراعيه فضاق كم الجبة، فأخرج يده" بإفراد كم ويد على إرادة الجنس، ففي الموطأ: ثم ذهب يخرج يديه من كمي جبته، فلم يستطع من ضيق كمي الجبة فأخرجهما "من تحت الجبة، وألقى الجبة على منكبيه" لأنه كان عليه إزار تحتها، "وغسل ذراعيه"، "بالتثنية"، ولأحمد: فغسل يديه اليمنى ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات، "ثم مسح بناصيته وعلى العمامة" لعله للعذر، إذ السفر مظنته، ففيه دلالة على وجوب الاستيعاب، إذ لو كفى البعض ما مسح على العمامة.
قال المازري: استدل به الحنفية على أن الواجب الناصية، وأحمد على جوازه على العمامة، وهو رد عليهما، فيقال لأبي حنيفة: لم تقتصر على الناصية، ويقال لأحمد: لو جاز الاقتصار عليه فلم مسح الناصية، "ثم أهويت" أي مددت يدي، أو قصدت، أو أشرت، أو أومأت "لأنزع خفيه، فقال: "دعهما، فإني أدخلتهما" أي الرجلين حال كونهما "طاهرتين" من الحدثين، ولأبي داود: فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتين "فمسح عليهما" وفي هذا الرد على من زعم أن المسح عليهما منسوخ بآية المائدة، لأن هذه القصة في غزوة تبوك، وهي آخر مغازيه، وكانت سنة تسع بعد المائدة باتفاق، لأنها نزلت في غزوة المريسيع سنة ست.
وقد روى الجماعة عن جرير بن عبد الله البجلي: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال، ثم توضأ ومسح على خفيه.
زاد الترمذي في رواية، فقيل له: قبل المائدة أم بعدها، فقال: ما أسلمت إلا بعد المائدة.
قال الأعمش: قال إبراهيم النخعي، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبهم هذا الحديث، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة.
قال النسائي: كان إسلامه قبل موته صلى الله عليه وسلم بيسير، وقال غيره: بأربعين ليلة وفيه نظر، لأنه شهد حجة الوداع، وهي قبل الوفاة النبوية بنحو ثلاثة أشهر، "ثم ركب" راحلته "وركبت" راحلتي "الحديث" ذكر فيه أنهما انطلقا، فوجدا الناس قدموا ابن عوف، فأدرك صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية، وقضى الأولى بعد سلام عبد الرحمن، وتقدم في الأذان من المقصد الأول مبسوطا، "رواه مسلم" وأبو داود وغيرهما مطولا، وروى بعضه البخاري، وفيه فوائد كثيرة، ذكر جملة منها صاحب الفتح وغيره.(10/252)
وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما.
وعند أبي داود من حديثه أيضا: ومسح على الجوربين والنعلين.
وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت يا رسول الله: نسيت، فقال: "بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي عز وجل". رواه أبو داود وأحمد.
وعن عمرو بن أمية الضمري قال: رأيته عليه السلام يمسح على عمامته وخفيه. رواه البخاري وأحمد.
__________
"وعند الترمذي من حديث المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين على ظاهرهما", فأفاد أنه لا يكفي مسح أسفله، وروي عن المغيرة أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسح على أعلى الخف وأسفله، فأفادت هذه الرواية أن ذلك عادته، ورواية الترمذي: فعلها مرة في السفر، لإفادة أن ترك مسح الأسفل لا يبطل المسح بخلاف الأعلى.
وقد روى أبو داود والدارقطني عن علي: "لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، ولكن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح أعلاه".
"وعند أبي داود من حديثه" أي المغيرة "أيضا: ومسح على الجوربين"، "مثنى جورب وزن فوعل معرب" ما كان على شكل الخف من صوف ونحوه، وحمله الفقهاء على ما إذا جلد ظاهره وهو ما يلي السماء، وباطنه وهو ما يلي الأرض، "والنعلين" أي الخفين، ولعل المعنى أنه لبسهما فوق الجوربين، ولذا قال المالكية: يجوز مسح الخف ولو على خف أو خف على جورب، قال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث، لأن المعروف عن المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين، "وعنه قال: مسح صلى الله عليه وسلم على الخفين، فقلت: يا رسول الله نسيت" همزة الاستفهام مقدرة، "فقال: "بل أنت نسيت" يشعر بعلم المغيرة قبل رؤيته يمسح، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم بأنه رآه قبل ذلك يمسح، أو علم بأنه بلغه من الصحابة قبل لانتشار المسح بينهم. "بهذا أمرني ربي عز وجل" بالوحي، أو بلا واسطة أو في القرآن على قراءة الخفض، "رواه أبو داود وأحمد، وعن عمرو بن أمية الضمري"، "بفتح الضاد المعجمة وإسكان الميم"، "قال: رأيته عليه السلام" اختصار لقوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم "يمسح على عمامته", أي كمل عليها بعد مسح الناصية، ففي مسلم عن المغيرة: ثم مسح بناصيته وعلى العمامة، وإلى هذا ذهب الجمهور، وذهب أحمد والأوزاعي وجماعة إلى جواز الاقتصار في المسجد على العمامة تمسكا بظاهر هذا الحديث، وقياسا على الخفين فإن الرأس عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين.(10/253)
وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم. رواه مسلم.
__________
وأجاب الخطابي بأن الله فرض مسح الرأس، وحديث مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، وقياسه على الخف بعيد لمشقة نزعه دونها، وتعقب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح على العمامة، لا سيما عند من يحمل المشترك على حقيقته ومجازه لأن من قال قبلت رأس فلان يصدق ولو على حائل، وبأن المجيزين الاقتصار على مسح العمامة شرطوا مشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، ورد الأول بأن الأصل حمل اللفظ على حقيقته ما لم يرد نص صريح بخلافه، والنصوص وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا وفعلا بمسح الرأس، فتحمل رواية مسح العمامة على أنه كان لعذر بدليل المسح على الناصية معا كما في مسلم: سلمنا أنه حديث آخر لاختلاف المخرج، فيحتمل أنه فعله لعذر لم يمكنه مسح رأسه ولا شيء منه أصلا، وبالجملة فيه قضية فعلية تتطرق إليها الاحتمالات، ورد الثاني بأنهم ولو شرطوا مشقة نزعها لا يجامع الخف، لأنه مأخوذ من الآثار من القياس ولو كان منه لجاز المسح على القفازين في اليدين، فلا يقاس على الخفين شيء، "وخفيه رواه البخاري وأحمد" وغيرهما وأعل الأصيلي إسناده بما رده عليه فتح الباري.
"وقال علي بن أبي طالب: جعل صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين" أي مدته "ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر" سفر قصر "ويوما وليلة للمقيم" وقال به الجمهور والأئمة الثلاثة، ونسب لمالك مثله في كتاب البشر، لكن أنكر أهل المذهب ذلك الكتاب، والمشهور عنه يمسح بلا توقيت ما لم يخلعه أو يجب عليه غسل أو يختل شرط من شروطه، وروى مثله عن عمرو وعن مالك أيضا من الجمعة إلى الجمعة، وحملت لى أنه ينزعه لغسلها إلا أنه أراد التأقيت، "رواه مسلم" عن شريح بن هانئ، قال: سألت عائشة عن المسح على الخفين، فقالت: عليك بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاسأله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ له، فقالت: ائت عليا، فإنه أعلم بذلك مني، فأتيت عليا، فقال. فذكره, واختلف في رفع هذا الحديث ووقفه على علي.
قال ابن عبد البر: من رفعه أثبت وأحفظ ممن وقفه، وقال ابن العربي: أحاديث التوقيت صحيحة وأحاديث عدمه ضعيفة، وعند ابن خزيمة عن صفوان بن عسال، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، قال الحافظ: صحيح، لكن ليس على شرط البخاري، وفي الباب عن أبي بكر صححه الشافعي وغيره.(10/254)
الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم
واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو من خصائص هذه الأمة.
وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر، وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها.
واختلفوا في كيفية: فمذهبنا ومذهب الأكثرين، أنه لا بد من ضربتين: ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين.
وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها
__________
الفصل الخامس: في تيممه صلى الله عليه وسلم
هو لغة القصد، وشرعا: القصد إلى الصعيد لمسح الوجه واليدين فقط، "واعلم أن التيمم ثابت بالكتاب" بقوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} ، "والسنة" لثبوت تيممه صلى الله عليه وسلم "والإجماع" عليه من الأمة، "وهو من خصائص هذه الأمة" المحمدية، "وأجمعوا على أن التيمم لا يكون إلا في الوجه واليدين، سواء كان عن حدث أصغر أو أكبر" وما نقل عن ابن مسعود وعمر أنهما منعا تيمم الجنب واستدلا بقوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فثبت عنهما أنهما رجعا عن ذلك، "وسواء تيمم عن الأعضاء كلها أو بعضها".
"واختلفوا في كيفية" التيمم، "فمذهبنا ومذهب الأكثرين" وأبي حنيفة "أنه لا بد من ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" لأحاديث وردت بذلك لا تخلو من مقال، وذهب مالك وأحمد والشافعي في القديم إلى أن الواجب ضربة واحدة، والمسح إلى الكوعين، واعترف النووي والحافظ وغيرهما بأنه الأقوى دليلا لصحة الأحاديث بذلك، وتحمل أحاديث الضربتين وإلى المرفقين على السنية جمعا بينهما.
"وعن حذيفة" بن اليمان "قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم": "فضلنا"، "بفتح الفاء والضاد وسكون اللام" أي: زدنا في الفضل أو "بضم الفاء وكسر الضاد مشددة" أي: فضلنا الله "على الناس بثلاث" من الخصال: "جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة" قال الزين العراقي المراد به التراص وإتمام الصف الأول فالأول في الصلاة, فهو من خصائص هذه الأمة، وكانت الأمم السابقة يصلون منفردين، وكل واحد على حدة، "وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها(10/255)
طهورا إذا لم نجد الماء". رواه مسلم.
وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا".
وهذا عام، وحديث حذيفة خاص، فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب.
ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ "التربة" على خصوصية التيمم بالتراب، بأن قال: تربة كل مكان ما فيه من تراب أو غيره. وأجيب: بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب، أخرجه ابن خزيمة وغيره, وفي حديث علي: "وجعل لي التراب طهورا".
__________
طهورا إذا لم نجد الماء" هذه الخصلة الثانية.
قال في رواية مسلم وذكر خصلة أخرى، يعني: أبهما نسيانا أو نحوه، "رواه مسلم" وهذه الخصلة المبهمة بينها ابن خزيمة والنسائي، وهي: "وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يعطها نبي قبلي" والنص على عدد لا يدل على نفي ما عداه، فلا ينافي حديث مسلم عن أبي هريرة: "فضلت على الأنبياء بست"، أو لعله أطلع أولا على بعض ما خص به، ثم أطلع على الباقي، فإن خصائصه كثيرة جدا.
"وفي رواية أبي أمامة عند البخاري: "وجعلت الأرض كلها لي ولأمتي مسجدا وطهورا" فزاد: ولأمتي، "وهذا عام" لقوله: "الأرض كلها" فهو حجة لمالك وأبي حنيفة وأحمد في رواية, ومن وافقهم في جواز التيمم بجميع أجزاء الأرض وإن لم يكن ترابا، "و" لكن "حديث حذيفة" المذكور "خاص" لقوله: تربتها، "فينبغي أن يحمل العام عليه، فيختص الطهور بالتراب" كما ذهب إليه الشافعي وأحمد في رواية.
وأجاب الأولون بأن شرط المخصص أن يكون منافيا للعام، ولفظ تربة أو تراب لا ينافيه، فالنص عليه ليس تخصيصا، بل من باب النص على بعض أفراد العام، كقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] ، فخصه لبيان أفضليته على غيره، وقد قلنا به لا لأنه لا يجزئ غيره، "ومنع بعضهم الاستدلال بلفظ التربة" المذكورة في حديث حذيفة "على خصوصية التيمم بالتراب بأن قال: تربة كل ما فيه من تراب أو غيره" فيكون من أدلة التعميم.
"وأجيب بأنه ورد في الحديث بلفظ التراب أخرجه ابن خزيمة وغيره، وفي حديث علي: "وجعل لي التراب طهورا" بفتح الطاء على المشهور "أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد(10/256)
أخرجه أحمد والبيهقي بإسناد حسن.
وعن عمارة: قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجنبت فلم أصب الماء، فقال عمار لعمر: أما تذكر أنا كنا في سفر، أنا وأنت، فأما أنت فلم
__________
حسن" فصح الاستدلال به على التخصيص، وقد علم منع التخصيص لفقد شرطه، والصعيد اسم لوجه الأرض، وهو نص القرآن، وليس بعد بيان الله تعالى بيان.
وقد قال صلى الله عليه وسلم للجنب: "عليك بالصعيد" فإنه يكفيك، فنص له على العام في وقت البيان، ودعوى أن الحديث سيق لإظهار التخصيص أو التشريف -فلو جاز بغير التراب لما اقتصر عليه في حديث حذيفة وعلي- ممنوعة، وسند المنع أن شأن الكريم الامتنان بالأعظم والسكوت عن الأدون، على أنه امتن بالكل في حديث جابر في الصحيحين، بقوله: "وجعلت الأرض مسجدا وطهورا". فقد حصل الامتنان بها تارة، وبالآخر أخرى لمناسبة اقتضاء الحال.
وأما زعم أن اقتران اللفظ بالتأكيد في رواية، بقوله: كلها في المسجد دون الآخر، يدل على افتراق الحكم، وإلا لعطف أحدهما على الآخر بلا تأكيد، كما في رواية جابر، فمدفوع بأن حديث جابر دل على عدم الافتراق، إذ لو أريد افتراق الحكم ما تركه فيه، وقد يكون المقام اقتضى تأكيد كون الأرض مسجدا ردا على منكر ذلك دون كونها صعيدا لثبوته بالقرآن، فلا دلالة فيه على افتراق الحكم البتة.
"وعن عمارة" كذا في النسخ، والذي في الصحيحين من عدة طرق، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، "قال: جاء رجل" قال الحافظ: لم أقف على تسميته، وفي رواية للطبراني، أنه من أهل البادية، وفي رواية للبخاري، أن عبد الرحمن بن أبزى شهد ذلك "إلى عمر بن الخطاب، فقال: إني أجنبت"، "بفتح الهمزة" أي صرت جنبا، "فلم أصب الماء"، "بضم الهمزة" أي لم أجده.
قال الحافظ: هذه الرواية اختصر فيها جواب عمر وليس ذلك من البخاري، فقد أخرجه البيهقي من طريق آدم شيخه، فيه بدونها أيضا، وقد أورده البخاري في الباب الذي بعده من رواية ستة أنفس عن شعبة بالإسناد المذكور، ولم يسقه تاما من رواية واحد منهم، نعم ذكر جواب عمرَ مسلمٌ من طريق يحيى بن سعيد، والنسائي من طريق حجاج بن محمد, كلاهما عن شعبة، ولفظهما، فقال: لا تصل زاد السراج حتى تجد الماء، وللنسائي نحوه، وهذا مذهب مشهور عن عمر وافقه عليه ابن مسعود، ووقعت فيه مناظرة بين ابن مسعود وأبي موسى، وقيل: إن ابن مسعود رجع عن ذلك، "فقال عمار" بن ياسر أحد السابقين الأولين، هو وأبوه شهد المشاهد كلها "لعمر: أما"، "بفتح الهمزة والميم المخففة"، "تذكر" زاد في رواية: يا أمير المؤمنين "أنا"(10/257)
تصل، وأما أنا فتمعكت فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما كان يكفيك هكذا". وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه. رواه البخاري ومسلم.
واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب، وسقوط استحباب تكرار
__________
وفي رواية: إذ "كنا في سفر" وفي رواية للشيخين: في سرية، وزاد: فأجنبنا "أنا وأنت" تفسير بضمير الجمع في كنا، "فأما أنت فلم تصل"، لأنه كان يعتقد أن التيمم عن الحدث الأصغر لا الأكبر، بدليل قوله للسائل: لا تصل حتى تجد الماء، "وأما أنا فتمعكت" في رواية: فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة "بغين معجمة" أي: تقلبت، كأنه استعمل القياس لأنه رأى أن التيمم إذا وقع بدل الوضوء وقع على هيئة الوضوء، فرأى أنه إذا وقع عن الغسل يقع على صفة الغسل، "فصليت، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم" لما عدت من السرية، "فقال": "إنما كان يكفيك هكذا"، "بكاف بعد الهاء"، "وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بكفيه الأرض ونفخ فيهما", وفي رواية: ثم أدناهما من فيه، وهي كناية عن النفخ، وفيها إشارة إلى أنه نفخ نفخا خفيفا "ثم مسح بهما وجهه وكفيه إلى كوعيه" ففيه دلالة على أن هذه الصفة هي الواجبة في التيمم، والزيادة عليها لو ثبتت بالأمر دلت على النسخ ولزم قبولها, لكن إنما وردت بالفعل، فتحمل على الأكمل وهذا هو الأظهر من حيث الدليل.
قال النووي في شرح المهذب: هذا القول وإن كان مجروحا عند الأصحاب، فهو القوي في الدليل، وأجاب في شرح مسلم، بأن المراد بيان صورة الضرب للتعليم، وليس المراد بيان جميع ما يحصل به التيمم، وتعقب بأن سياق القصة يدل على أن المراد جميع ذلك، لأن ذلك هو الظاهر من قوله: إنما كان يكفيك، وقياسه على الوضوء قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار، وقد عارضه من لم يشترط ذلك بقياس آخر، وهو الإطلاق في آية السرقة، ولا حاجة لذلك مع وجود النص، ثم سياق هؤلاء، يعني: الستة الذين رووه عن شعبة عن البخاري، يدل على أن التعليم وقع بالفعل.
ولمسلم من طريق يحيى بن سعيد، والإسماعيلي من طريق يزيد بن هارون وغيره، كلهم عن شعبة، أن التعليم وقع بالقول، ولفظهم: "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض". زاد يحيى: "ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك". قاله كله الحافظ، يعني: فجمع له صلى الله عليه وسلم بين التعليم بالقول والفعل، غايته أن بعض الرواة حفظ ما لم يحفظ الآخر، أو تركه اكتفاء بالفعل، لأنه أبلغ.
"رواه البخاري ومسلم" بطرق متعددة، "واستدل بالنفخ على استحباب تخفيف التراب و" على "سقوط استحباب تكرار التيمم، لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف".(10/258)
التيمم لأن التكرار يستلزم عدم التخفيف.
وعن أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه فلم يرد عليّ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على الجدار فمسح وجهه وذراعيه، ثم رد عليّ، رواه البغوي في شرح
__________
زاد في الفتح: وعلى أن غسل رأسه بدل المسح أجزأه أخذا من كون عمار تمرغ في التراب للتيمم وأجزأه ذلك، ويستفاد من الحديث وقوع اجتهاد الصحابة في زمنه صلى الله عليه وسلم، وأن المجتهد لا لوم عليه إذا بذل وسعه وإن لم يصب الحق، وإنه إذا عمل بالاجتهاد لا يجب عليه الإعادة، وفي تركه أمر عمر بقضائها متمسك لمن قال: إن فاقد الطهورين لا يصلي ولا قضاء عليه. انتهى.
"وعن أبي الجهيم"، "بضم الجيم وفتح الهاء مصغر": قال الحافظ، قيل اسمه عبد الله، وحكى ابن أبي حاتم، عن أبيه، قال: ويقال هو الحارث بن الصمة، فعلى هذا لفظ ابن في قوله: "ابن الحارث" زائد "ابن الصمة"، "بكسر المهملة وشد الميم" ابن عمرو بن عتيك الخزرجي، لكن صحح أبو حاتم أن الحارث اسم أبيه لا اسمه، أي: فليست ابن زائدة.
وقال ابن منده: عبد الله بن جهيم بن الحارث بن الصمة, فجعل الحارث اسم جده ولم يوافق عليه، وكأنه أراد أن يجمع الأقوال المختلفة فيه.
وفي مسلم أبي الجهم "بإسكان الهاء" والصواب أنه بالتصغير، وفي الصحابة شخص آخر، يقال له أبو الجهم، وهو صاحب الانبجانية، وهو غير هذا، لأنه قرشي وهذا أنصاري، ويقال في كل منهما بحذف الألف واللام وبإثباتها. ا. هـ. من فتح الباري "قال: مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فسلمت عليه، فلم يرد" بالحركات الثلاث في الدال: الكسر لأنه الأصل والفتح لأنه أخف وهو الذي في الفرع وغيره، والضم لاتباع الراء، قاله المصنف. "عليّ حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه، ثم وضع يديه على لجدار فمسح وجهه وذراعيه" كذا في هذه الرواية, والذي في الصحيحين: ويديه، قال الحافظ والدارقطني والشافعي: وذراعيه، وله شاهد من حديث ابن عمر، أخرجه أبو داود, لكن خطأ الحافظ رواية في رفعه، وصوبوا وقفه، وأخرجه مالك موقوفا بمعناه، وهو الصحيح، والثابت في حديث أبي جهيم، بلفظ: يديه لا ذراعيه، فإنها رواية شاذة مع ما في أبي الحويرث راويها عند الشافعي، وأبي صالح عن الليث راويها عند الدارقطني من الضعف. انتهى.
"ثم رد علي" السلام، زاد في رواية الطبراني في الأوسط، وقال: "إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كنت على غير طهر". أي: أنه كره أن يذكر الله على غير طهارة.(10/259)
السنة وقال: حديث حسن.
وهذا محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه.
__________
قال ابن الجوزي: لأن السلام من أسماء الله، لكنه منسوخ بآية الوضوء، أو بحديث عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، قال النووي: والحديث محمول على أنه كان عادما للماء حال التيمم لامتناعه حال القدرة، سواء كان لفرض أو لنفل.
قال الحافظ: وهو مقتضى صنيع البخاري، يعني: ترجمته بقوله: التيمم في الحضر إذا لم يجد الماء لكن تعقب استدلاله به على جواز التيمم في الحضر بأنه ورد على سبب، وهو ذكر الله، فلم يرد به استباحة الصلاة.
وأجيب بأنه لما تيمم في الحضر، لرد السلم مع جوازه بدون الطهارة، فمن خشي فوات الصلاة في الحضر جاز له التيمم بطريق الأولى، وقيل: يحتمل أنه لم يرد بذلك التيمم رفع حدث ولا استباحة محظور، وإنما أراد التشبه بالمتطهرين، كما يشرع الإمساك في رمضان لمن يباح له الفطر، أو أراد تخفيف الحدث بالتيمم، كما يشرع تخفيف الجنب بالوضوء، وهذا الاحتمال بعيد.
"رواه البغوي في شرح السنة، وقال: حديث حسن" ورواه أيضا الشافعي والدارقطني والطبراني، وأصله في الصحيحين وأبي داود والنسائي، عن أبي الجهيم قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فلقيه رجل، يعني: نفسه، فسلم عليه، فلم يرد عليه حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه، ثم رد السلام.
وفي مسلم عن ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلم عليه، فلم يرد عليه، "وهذا" أي: حته للجدار "محمول على أن الجدار كان مباحا، أو كان مملوكا لإنسان يعلم رضاه" بحته كما قاله النووي، وتبعه الحافظ وغيره، قال بعض شراح البخاري: وهو تكلف بلا فائدة لما تقرر أنه صلى الله عليه وسلم إذ احتاج إلى شيء وجب على مالكه بذله له، وإنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كذا قال.(10/260)
الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم
والغُسل -بضم الغين- اسم للاغتسال.
وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم، وأما المصدر فيجوز فيه الضم والفتح، حكاه ابن سيدة وغيره.
وقيل: المصدر بالفتح، والاغتسال بالضم.
وقيل: الغَسل بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء كالإشنان.
وحقيقة الغسل: جريان الماء على الأعضاء.
وحقيقة الاغتسال: غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية.
ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ، [النساء: 43] .
ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} بينه قوله في الآية
__________
الفصل السادس: في غسله صلى الله عليه وسلم
"والغسل -بضم الغين- اسم للاغتسال" أي: فهو اسم مصدر "وقيل: إذا أريد به الماء فهو مضموم وأما المصدر" أي الفعل الواقع من المغتسل، ولفظ الفتح: وإذا أريد به الفعل، "فيجوز فيه" أي: الاسم المعبر عنه "الضم والفتح، حكاه بن سيده" بكسر السين المهملة وإسكان التحتية"، "وغيره".
"وقيل: المصدر بالفتح والاغتسال" الحاصل بالمصدر "بالضم" فصب الماء على البدن غَسل "بالفتح"، والأثر الحاصل منه للبدن غُسل "بالضم" ويقال فيه: اغتسال.
"وقيل: الغسل بالفتح فعل المغتسل، وبالضم الماء الذي يغتسل به، وبالكسر ما يجعل مع الماء كالإشنان"، "بضم الهمزة وكسرها لغة".
وفي شرح المصنف للبخاري: الغسل "بفتح الغين" أفصح وأشهر من ضمها مصدر بمعنى الاغتسال، وبكسرها اسم لما يغسل به وهو لغة سيلان الماء على الشيء "وحقيقة الغسل جريان الماء على الأعضاء وحقيقة الاغتسال غسل جميع الأعضاء مع تمييز ما للعبادة عما للعادة بالنية" إذ هي المميزة لذلك، "ووجوب الغسل على الجنب مستفاد من قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} أي: اغتسلوا، ووجه الاستفادة أن صيغة التفعل تدل عليه صريحا؛ لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر.
"وقوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} أي: اجتنبوها حالة السكر، "ففي الآية الأولى إجمال، وهو قوله: {فَاطَّهَّرُوا} لأن الطهر فيها محتمل للوضوء والغسل وغيرهما،(10/261)
الثانية {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . ويؤيده قوله تعالى في الحائض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] المفسر بـ"اغتسلن" اتفاقا.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه بغسل واحد. رواه مسلم من حديث أنس.
وعن أبي رافع: طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه، وعند هذه، قال: قلت يا رسول الله! ألا تجعله غسلا واحدًا آخرا؟ قال: "هكذا
__________
فهي من المجمل الذي لم تتضح دلالته، لكن منع ذلك بعض شراح البخاري بأن صيغة التفعل تدل على الغسل صريحا، لأن الوضوء هو الطهارة لا التطهر، وعلى الإجمال فقد "بينه قوله في الآية الثانية" في الذكر: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} لأن الاغتسال لغة تعميم البدن بالماء، "ويؤيده قوله تعالى في" شأن المرأة "الحائض: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} من الدم بانقطاعه، {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} المفسر" هذا الثاني: "باغتسلن اتفاقا".
زاد الحافظ: ودلت آية النساء على أن استباحة الجنب الصلاة، وكذا اللبث في المسجد تتوقف على الاغتسال، "وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف على نسائه" يجامعهن "بغسل واحد".
قال النووي: يحتمل أنه كان يتوضأ بينهما، ويحتمل أن لا؛ ليدل على جواز ترك الوضوء. انتهى.
وفيه دلالة على أن القسم ليس بواجب عليه، إذ وطء المرأة في يوم الأخرى ممنوع، لكن قل: إنه وإن لم يجب عليه، لكنه التزمه تطييبا لنفوسهن، فيحتمل أن يكون بإذن صاحبة اليوم، أو في يوم لم يثبت فيه قسم، كيوم قدومه من سفر، أو في اليوم الذي بعد كمال الدور، لأنه يستأنف القسم بعد، أو من خصائصه ساعة يطوف فيها من ليل أو نهار لا حق لواحدة منهن، ثم يدخل عند صاحبة النوبة.
وفي حديث أنس عند البخاري: كان يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهن إحدى عشرة امرأة، وفي رواية: وله يومئذ تسع نسوة، وجمع بأنه ضم إلى التسع أمتيه مارية وريحانة، وأطلق عليهما نساءه تغليبا وبغير ذلك، كما مر بسط ذلك في الخصائص، "رواه مسلم من حديث أنس" فزاد على رواية البخاري بغسل واحد فلذا عزاه له دونه.
"وعن أبي رافع" اسمه أسلم على المشهور من عشرة أقوال سبقت، قال: "طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه" أي: كل من جامعها اغتسل عندها، "قال" أبو رافع: "قلت: يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا آخرا"، "بكسر الخاء"، "قال: "هكذا أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي" وفيه استحباب الغسل.(10/262)
أزكى وأطيب وأطهر". رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يجب الغسل بين الجماعين وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: إنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر، لحديث: "إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا". رواه مسلم وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه ثم يتوضأ
__________
"وقد أجمع العلماء على أنه لا يستحب بين الجماعين" سواء كان للجامعة أولا أو لغيرها، "وأما الوضوء فاستحبه الجمهور، وقال أبو يوسف: أنه لا يستحب، وأوجبه ابن حبيب من المالكية، وأهل الظاهر لحديث" أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم أهله" أي: جامعها "ثم أراد أن يعود" إلى جماعها "فليتوضأ بينهما وضوءا" كاملا.
زاد في رواية ابن خزيمة: "فإنه أنشط للعود". فدل على أن الأمر للندب والإرشاد. انتهى.
ويدل له أيضا ما رواه الطحاوي عن عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يجامع، ثم يعود ولا يتوضأ. "رواه مسلم" وأبو داود والترمذي وابن خزيمة، كلهم عن أبي سعيد، وحمله بعضهم على الوضوء اللغوي، فقال: المراد به غسل الفرج" ورده ابن خزيمة بما رواه في هذا الحديث، بلفظ: "فليتوضأ وضوءه للصلاة".
وقال القاضي عياض: الجمهور على غسل الفرج خوف أن تدخل النجاسة في الفرج دون ضرورة مع ما فيه من النظافة التي بنيت عليها الشريعة وتكميل اللذة، لأن ما تعلق به من بلل الفرج وانتشر عليه من المني مفسد للذة الجماع المستأنف، ورطوبة الفرج عندنا نجسة لما يخالطها من النجاسة الجارية عليها كالحيض، والمني.
وتعقبه الزواوي بأن تعليله باختلاطه بالحيض وغيره من النجاسات ليس بمحل خلاف، وإنما الخلاف لو كان مغسولا نظيفا ليس فيه إلا الرطوبة والبلة خاصة، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل" أي: شرع في الغسل، أو أراد الغسل "من الجنابة" أي: لأجلها، فمن سببية "بدأ فغسل يديه"، "بالتثنية" قبل إدخالهما في الإناء "ثم يتوضأ" ولأبي ذر: ثم توضأ "كما يتوضأ للصلاة" احترازا عن الوضوء اللغوي، وهو غسل اليدين، وظاهره أنه يتوضأ وضوءا(10/263)
كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر، ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله. رواه البخاري.
ويحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما، ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم. ويدل عليه زيادة ابن عيينة في هذا الحديث عن هشام "قبل أن يدخلهما في الإناء" رواه الشافعي والترمذي وزاد أيضا: "ثم يغسل فرجه" وكذا لمسلم وأبي داود.
وهي زيادة جليلة، لأن تقديم غسله يحصل به الأمن من مسه في أثناء
__________
كاملا ولا يؤخر غسل رجليه، وهو المشهور عن مالك والشافعي "ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها،" أي بأصابعه التي أدخلها في الماء، ولمسلم: ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، وللبيهقي: ثم يشرب شعره الماء "أصول الشعر" أي شعر رأسه، "ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات بيديه"، "بفتح الراء" جمع غرفة على المشهور في جمع القلة، والأصل في مميز الثلاثة أنه من جموع القلة، وهذه رواية الكشميهني والأصيلي ولغيرهما: ثلاث غرف، "بضم الغين وفتح الراء" جمع كثرة، إما لقيامه مقام جمع القلة، أو بناء على قول الكوفيين إنه جمع قلة، كعشر سور وثماني حجج، "ثم يفيض"، "بضم الياء من أفاض"، أي: يسيل "الماء على جلده" أي: بدنه، وقد يكنى بالجلد عن البدن، قاله الرافعي، "كله" أكده دلالة على أنه عم جميع بدنه بالغسل بعدما تقدم دفعا لتوهم إطلاقه على أكثره تجوزا، واستدل به من لم يشترط الدلك، لأن الإفاضة الإسالة.
قال المازري: لا حجة فيه، لأن أفاض بمعنى غسل، فالخلاف فيه قائم قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه. انتهى.
ولم يظهر فيه شيء "رواه البخاري" في أول الغسل من طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به ورواه مسلم من طرق عن غيره بنحوه "و" قوله: بدأ فغسل يديه: "يحتمل أن يكون غسلهما للتنظيف مما بهما" مما قد يستقذر ويقويه حديث ميمونة كما في الفتح "ويحتمل أن يكون هو الغسل المشروع عند القيام من النوم، ويدل عليه زيادة ابن عيينة" سفيان "في هذا الحديث عن هشام" عن أبيه عن عائشة: "قبل أن يدخلهما في الإناء. رواه الشافعي والترمذي، وزاد أيضا: ثم يغسل فرجه، وكذا لمسلم" من رواية أبي معاوية "وأبي داود" من رواية حماد بن زيد كلاهما عن هشام ولفظ مسلم: كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله فيغسل فرجه، وله من طريق زائدة عن هشام: فغسل يديه قبل أن يدخل يديه في الإناء، "وهي زيادة جليلة لأن تقديم غسله يحصل به إلا من مسه(10/264)
الغسل.
ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء مع بقية الجسد، ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته، وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو.
وإنما قدم أعضاء الوضوء تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى والكبرى.
ونقل ابن بطال: الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل.
وهو مردود، فقد ذهب جماعة, منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث.
وقوله: "فيخلل بها أصول الشعر" أي شعر رأسه ويدل عليه رواية حماد بن سلمة عن هشام -عند البيهقي- يخلل بها شق رأسه الأيمن فيتتبع بها أصول
__________
في أثناء الغسل" فينتقض الوضوء، "ويحتمل أن يكون الابتداء بالوضوء قبل الغسل سنة مستقلة، بحيث يجب غسل أعضاء الوضوء" بعد ذلك "مع بقية الجسد" إذ لم يغسلهما بنية الفرض.
قال الحافظ: ويؤيده التأكيد بقوله: كله، وعليه فينوي المغتسل الوضوء إن كان محدثا، وإلا فسنة الغسل، "ويحتمل أن يكتفي بغسلها في الوضوء عن إعادته" في الغسل، "وعلى هذا فيحتاج إلى نية غسل الجنابة في أول عضو" من أعضاء الوضوء ليقع غسله عن الجنابة، فهو جواب عما يقال: لا يصح هذا الاحتمال لانتفاء نية الجنابة فيه بناء على وجوب نيته.
قال الحافظ: وإليه جنح الداودي شارح المختصر من الشافعية، فقال: يقدم غسل أعضاء الوضوء لكن بنية غسل الجنابة، "وإنما قدم أعضاء الوضوء" على هذا الاحتمال تشريفا لها، ولتحصل له صورة الطهارتين الصغرى" الوضوء "والكبرى" الغسل.
"ونقل ابن بطال" وتلميذه ابن عبد البر: "الإجماع على أن الوضوء لا يجب مع الغسل" لأنه وضوء وزيادة، "وهو مردود، فقد ذهب جماعة، منهم: أبو ثور وداود وغيرهما إلى أن الغسل لا ينوب عن الوضوء للمحدث".
"وقوله: فيخلل بها أصول الشعر، أي: شعر رأسه، ويدل عليه رواية حماد بن سلمة" بن دينار، "عن هشام" بن عروة عن أبيه، عن عائشة "عند البيهقي" بلفظ: "يخلل بها شق(10/265)
الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك.
وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل. إما لعموم قوله: "أصول الشعر" وإما بالقياس على شعر الرأس.
وفائدة التخليل، إيصال الماء إلى الشعر والبشرة، ومباشرة الشعر باليد ليحل تعمميه بالماء، وهذا التخليل غير واجب اتفاقا، إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول بين الماء وبين الوصول إلى أصوله.
واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر.
ونقل عن مالك والمزني وجوبه، واحتج له ابن بطال بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما.
وتعقب: بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة.
__________
رأسه الأيمن، فيتتبع بها أصول الشعر، ثم يفعل بشق رأسه الأيسر كذلك" كما فعل في الأيمن،
"وقال القاضي عياض: احتج به بعضهم على تخليل شعر اللحية في الغسل إما لعموم قوله أصول الشعر" بقطع النظر عن رواية البيهقي المذكورة، أو لأنها تعطي التخصيص، "وإما بالقياس على شعر الرأس" بجامع أن كلا شعر، "وفائدة التخليل إيصال الماء إلى الشعر والبشرة" أي: الجلد، "و" فائدة "مباشرة" فهو "بالجر عطف" على التخليل "الشعر باليد ليحصل تعميمه بالماء" وتأنيس البشرة لئلا يصيبها بالصب ما تتأذى به، كما في كلام عياض، وهو في الفتح متصلا بقوله: "وهذا التخليل غير واجب اتفاقا إلا إن كان الشعر متلبدا بشيء يحول" يمنع "بين الماء وبين الوصول إلى أصوله" كصمغ ونحوه.
"واختلف في وجوب الدلك، فلم يوجبه الأكثر، ونقل عن مالك" وهو مشهور مذهبه، "والمزني" إسماعيل تلميذ الشافعي "وجوبه" لذاته تعبدا عند مالك.
"واحتج له ابن بطال: بالإجماع على وجوب إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب ذلك في الغسل قياسا لعدم الفرق بينهما" إذ كل طهارة ترفع الحدث.
"وتعقب بأن جميع من لم يوجب الدلك أجازوا غمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار، فبطل الإجماع وانتفت الملازمة" التي ادعاها البطلان.(10/266)
وفي قوله في هذا الحديث: "ثلاث غرفات" استحباب التثليث في الغسل.
قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا إلا ما انفرد به الماوردي: فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري -ومنه لخصت ما ذكرته- قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي وكذا قال القرطبي.
وقالت ميمونة: وضعت له صلى الله عليه وسلم ماء للغسل، فغسل يديه مرتين أو ثلاثا، ثم أفرغ على شماله فغسل مذاكيره، ثم مسح يده بالأرض، ثم مضمض واستنشق
__________
"وفي قوله في هذا الحديث: ثلاث غرفات استحباب التثليث في الغسل، قال النووي: ولا نعلم فيه خلافا" يعني: في مذهبه بدليل قوله: "إلا ما انفرد به الماوردي" من الشافعية، "فإنه قال: لا يستحب التكرار في الغسل" وإلا فمشهور مذهب مالك أن استحباب التثليث خاص بالرأس، كما هو مدلول قول الحديث: ثم يصب على رأسه ثلاث غرفات.
"قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: ومنه لخصت ما ذكرته" من أول هذا الفصل، "قلت: وكذا قال الشيخ أبو علي السنجي" في شرح الفروع، "وكذا قال القرطبي" وحمل التثليث في هذه الرواية على رواية القاسم عن عائشة فإن مقتضاها أن كل غرفة كانت في جهة من جهات الرأس، هذا بقية كلام الحافظ، وقوله: وحمل، يعني: القرطبي.
"وقالت ميمونة" أم المؤمنين: "وضعت له" لفظها للنبي "صلى الله عليه وسلم ماء للغسل" متعلق بمحذوف، أي: كائنا أو معدا، وقولها للنبي ظرف لغو متعلق بوضعت، فلم يتعلق حرفا جر متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد، "فغسل يديه" "بالتثنية" للكشميهني، وللمستملي وغيره: يده "مرتين أو ثلاثا" الشك من الأعمش، كما سيأتي من رواية أبي عوانة عنه، وغفل الكرماني، فقال: الشك من ميمونة، قاله الحافظ: ورده العيني بأن الذي يأتي مرة أو مرتين، ففيه خلط رواية بأخرى، كذا قال: وهو مردود بأن مجيء ذلك عنه في رواية أخرى، وإن بلفظ آخر يعين كون الشك منه دون غيره، فإنه حديث واحد، وقد رواه ابن فضيل عن الأعمش، فصب على يديه ثلاثا ولم يشك، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه.
قال الحافظ: فكأن الأعمش كان يشك فيه، ثم تذكر فجزم، لأن سماع ابن فضيل منه متأخر، "ثم أفرغ على شماله، فغسل مذاكيره" مع ذكر على غير قياس، وقيل: واحده مذكار، كأنهم فرقوا بين العضو وبين خلاف الأنثى.
قال الأخفش: هو من الجمع الذي لا واحد له، وقال ابن خروف: إنما جمعه مع أنه ليس(10/267)
وغسل وجهه ويديه، ثم أفاض على جسده، ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه. رواه البخاري.
ولم يقيد في هذه الرواية بعدد، فيحمل على أقل مسمى وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها.
وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله: "ثم مضمض واستنشق" وتمسك به الحنفية للقول بوجوبهما.
وأجيب: بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، إلا إذا كان بيانا لمجمل
__________
في الجسد إلا واجد بالنظر إلى ما يتصل به، يعني: من الخصيتين وحواليهما معا، وأطلق على الكل اسمه، فكأنه جعل كل جزء من المجموع، كالذكر في حكم الغسل، "ثم مسح يده بالأرض" لما لعله تعلق بها من رائحة أو لزوجة، وبدأ بالفرج لتكون طهارة الحدث بعد طهارة الخبث، وليسلم من نقض طهارة الوضوء لو مسه أثناء اغتساله.
قال الحافظ: وفيه تقديم غسل الكفين على غسل الفرج لمن يريد الاغتراف لئلا يدخلهما في الماء، وفيهما ما لعله يستقذر، أما إذا كان الماء في إبريق، مثلا، فالأولى تقديم غسل الفرج لتتوالى أعضاء الوضوء، وفي رواية: ثم ضرب بشماله الأرض، فدلكها دلكا شديدا، "ثم مضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه" "بالتثنية" "ثم أفاض" الماء "على جسده, ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه".
قال القرطبي: كالمازري حكمة تأخيرهما ليصل الافتتاح والاختتام بأعضاء الوضوء "رواه البخاري" بطرق عديدة مدارها على الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة، وكذا أخرجه مسلم وأصحاب السنن، "ولم يقيد في هذه الرواية" أي رواية: عبد الواحد عن الأعمش "بعدد" بل قال: أفاض الماء على جسده، "فيحمل على أقل مسمى، وهو المرة الواحدة، لأن الأصل عدم الزيادة عليها" ولذا ترجم عليه البخاري الغسل مرة واحدة، قاله ابن بطال وأقره الحافظ، وزعم العيني أن فيه تكلفا، قال شيخنا البابلي: ولعل وجهه أن فيه بأخرة الأمر قصر الحديث على مرة واحدة، مع أنه يتناول المرة فالأكثر, ورده شيخنا لما ذكرته له، بأنه لا تكلف فيه، والتوجيه المذكور ليس بشيء إذ المرة محققة وما زاد عليها مشكوك فيه.
"وفيه مشروعية المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة، لقوله: ثم مضمض واستنشق وتمسك به الحنفية للقول" أي: لقلهم "بوجوبهما" في الغسل.
"وأجيب بأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب" لتحققه بغيره، "إلا إذا كان بيانا(10/268)
تعلق به الوجوب، وليس الأمر هنا كذلك.
وعنها توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما. رواه البخاري.
وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة.
ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز، أو بحمله على حالة أخرى، وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء، فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين. وعن مالك: إن كان المكان غير
__________
لمجمل تعلق به الوجوب" فيدل عليه من هذه الجهة لا من مجرد الفعل "وليس الأمر هنا كذلك" بل مجرد فعل، "وعنها" من رواية سفيان الثوري، عن الأعمش، عن سالم، عن كريب، عن ابن عباس، عن ميمونة قالت: "توضأ صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة" احترازا عن اللغوي الذي هو غسل اليدين "غير رجليه" فأخرهما لتكون البداءة والتمام بأعضاء الوضوء، قاله المازري: "وغسل فرجه وما أصابه من الأذى" من رطوبة فرج المرأة والبول وغيرهما.
قال الحافظ: فيه تقديم وتأخير، لأن غسل الفرج كان قبل الوضوء، إذ الواو لا تقتضي الترتيب، وقد بين ذلك ابن المبارك عن الثوري عند البخاري، فأتى بثم الدالة على الترتيب في الجميع، ويأتي في المتن قريبا لفظ رواية ابن المبارك، "ثم أفاض عليه الماء" أي على جسده، وللدارقطني: ثم غسل سائر جسده، ولابن ماجه: ثم أفاض على سائر جسده، "ثم نحى رجليه فغسلهما، رواه البخاري" ومسلم وأصحاب السنن، "وفيه التصريح بتأخير غسل الرجلين في وضوء الغسل إلى آخره، وهو مخالف لظاهر رواية عائشة" السابقة، حيث قالت: ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، فإن ظاهره أنه لم يؤخر غسل رجليه كما في الفتح، لا من قولها: ثم يفيض الماء على جلده كله كما وهم فيه الشارح.
"ويمكن الجمع بينهما إما بحمل رواية عائشة على المجاز" بأن أطلقت الوضوء مريدة ما عدا غسل رجليه تعبيرا بالكل عن البعض، وفي شرح المصنف للبخاري حمله القائل بالتأخير على أكثر الوضوء حملا للمطلق على المقيد.
وأجيب بأنه ليس من المطلق والمقيد، لأن ذلك في الصفات لا في غسل جزء وتركه، "أو بحمله على حالة أخرى" بأن يكون فعل عند كل واحدة ما روته، إذ ليس هو غسلا واحدا "وبحسب اختلاف هاتين الحالتين اختلف نظر العلماء" في أيهما أفضل، "فذهب الجمهور إلى استحباب تأخير غسل الرجلين" مطلقا.(10/269)
نظيف فالمستحب تأخيرهما، وإلا فالتقديم، وعند الشافعية: في الأفضل قولان، قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه.
قال: ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء، وتمسك به المالكية لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفي فيه بغسلهما.
وعن جبير بن مطعم قال: قال صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا". وأشار
__________
"وعن مالك" في رواية: "إن كان المكان غير نظيف، فالمستحب تأخيرهما وإلا فالتقديم" وله وجه، وبه يجمع بين الحديثين.
قال المصنف: وكذا نقل عن الشافعية أيضا، "وعند الشافعية", وكذا المالكية "في الأفضل قولان".
"قال النووي: أصحهما وأشهرهما ومختارهما أنه يكمل وضوءه" وكذا هو المشهور عن مالك كما صرح به الفاكهاني وغيره، وبقية كلام النووي، لأن أكثر الروايات عن عائشة وميمونة كذلك، كذا قال وليس في شيء من الروايات عنهما التصريح بذلك، بل هي إما محتملة، كرواية: توضأ وضوءه للصلاة، أو ظاهرة في تأخيرهما، كروية أبي معاوية عن هشام، عن أبيه، عن عائشة عند مسلم، بلفظ: ثم أفاض على سائر جسده، ثم غسل رجليه.
وهذه الزيادة تفرد بها أبو معاوية دون أصحاب هشام والمحفوظ في حديث عائشة: توضأ كما يتوضأ للصلاة، يعني: فرواية أبي معاوية شاذة، قال: لكن لها شاهد عند أبي داود، عن أبي سلمة، عن عائشة بلفظ: فإذا فرغ غسل رجليه، ويوافقها أن أكثر الروايات عن ميمونة ظاهرة، أو صريحة في تأخيرهما، كحديث الباب، ورواتها مقدمون في الحفظ والثقة على جميع من رواه عن الأعمش، وقوله من "قال" إنما فعل ذلك لبيان الجواز، متعقب برواية أحمد عن أبي معاوية، عن الأعمش، بلفظ: كان إذا اغتسل من الجنابة. الحديث، وفي آخره: ثم يتنحى فيغسل رجليه، ففيه ما يدل على المواظبة، قاله الحافظ ملخصا.
"ولم يقع في شيء من طرق هذا الحديث التنصيص على مسح الرأس في هذا الوضوء" للغسل، "وتمسك به المالكية، لقولهم: إن وضوء الغسل لا يمسح فيه الرأس، بل يكتفى فيه بغسلها" أي الرأس أنثه وهو مذكر، باعتبار أنه قطعة من البدن، وهو تمسك ظاهر، "و" عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق، قال: حدثني سليمان بن صرد "عن جبير" "بضم الجيم وفتح الموحدة" "ابن مطعم" بن عدي الصحابي من سادات قريش "قال: قال صلى الله عليه وسلم". وفي مستخرج(10/270)
بيديه، كلتيهما رواه البخاري.
وفيه عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياما، فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم". ثم
__________
أبي نعيم: ذكروا عند النبي صلى الله عليه وسلم الغسل من الجنابة، فقال: "أما"، "بالفتح وشد الميم"، "أنا فأفيض"، "بضم الهمزة"، "على رأسي ثلاثا" , أي: ثلاث أكف، وعند أحمد: "فآخذ ملء كفي, فأصب على رأسي". "وأشار بيديه كلتيهما" كذا للأكثر، وللكشميهني: كلاهما، وحكى ابن التين أن في بعض الروايات: كلتاهما، وهي مخرجة على من يراها تثنية، وأنها لا تتغير، كقوله:
قد بلغا في المجد غايتاها
وهكذا القول في رواية الكشميهني، وهو مذهب الفراء في "كلا" خلافا للبصريين، ويمكن أن يخرج الرفع فيهما على القطع، وقسيم أما محذوف، وهو في مسلم من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سليمان، عن جبير، قال: تماروا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعض القوم: أما أنا فأغسل رأسي بكذا وكذا، فذكر الحديث، وله من وجه آخر أن السائلين عن ذلك وفد ثقيف، قاله الحافظ لثبوت القسيم في بعض طرق الحديث، لأنه حديث واحد، طوله بعض روته واختصره بعضهم، لا لأن أما تقتضي القسيم، إذ هو لا يجب لها، فقد تكون للتأكيد كما قاله الزمخشري وغيره، فلا تحتاج إلى قسيم، إذ مثله لا يجهل ذلك حتى يعترض عليه به، كما فعل العيني، لا سيما والكرماني بيده، وقد قال: إنه لا يجب لها، بل لأن الطرق يفسر بعضها بعضا كما أشار إليه، ثم قال: ودل قوله: ثلاثا على أن المراد بكذا وكذا أكثر منها، والسياق يشعر بأنه كان لا يفيض إلا ثلاثا، وهي محتملة لأن تكون للتكرار، ولأن تكون للتوزيع على جميع البدن، لكن يقوي الأول حديث جابر في البخاري: كان صلى الله عليه وسلم يأخذ ثلاث أكف، فيفيضها على رأسه، ثم يفيض على سائر جسده.
قال الحافظ: إن الثلاث للتكرار، ويحتمل أن لكل جهة من الرأس غرفة، كما في حديث القاسم عن عائشة، "رواه البخاري" ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، "وفيه" أي: البخاري، وكذا مسلم وأبو داود والنسائي، "عن أبي هريرة" قال: أقيمت الصلاة وعدلت" أي: سويت "الصفوف قياما" جمع قائم نصب حال من مقدر، أي: حال كونهم قائمين، أو مصدر على التمييز المفسر للإبهام، أي: عدلت الصفوف من حيث القيام، "فخرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" صريحه أنه بعد الإقامة والتعديل مع أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني".
وأجيب بأنه محمول على الغالب، فما هنا من النادر أو النهي متأخر عنه، فيمكن أنه سبب النهي، "فلما قام في مصلاه"، "بضم الميم"، أي موضع صلاته "ذكر" قبل أن يكبر للصلاة كما(10/271)
رجع فاغتسل ثم خرج إلينا ورأسه يقطر، فكبر فصلينا معه.
وقوله: "ذكر" أي تذكر، لا أنه قال ذلك لفظا، وعلم الراوي بذلك من قرائن، أو بإعلامه بعد ذلك.
وظاهر قوله: "فكبر" الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة.
وعنده أيضا من حديث ميمونة: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا فسترته بثوب،
__________
في رواية أخرى للبخاري "أنه جنب، فقال لنا: "مكانكم"، "بالنصب"، أي الزموه، وفيه إطلاق القول على الفعل، ففي رواية الإسماعيلي، فأشار بيده أن مكانكم، ويحتمل أن يكون جمع بين الكلام والإشارة، قاله الحافظ "ثم رجع" إلى الحجرة "فاغتسل، ثم رجع إلينا ورأسه يقطر" من ماء الغسل، ونسبة القطر إلى الرأس مجاز من باب ذكر المحل وإرادة الحال، "فكبر فصلينا معه".
"وقوله: ذكر، أي تذكر لا أنه قال ذلك لفظا و" حيث لم يلفظ به "علم الراوي بذلك من قرائن" الحال "أو بإعلامه" صلى الله عليه وسلم "بعد ذلك" أي: بعد السلام من الصلاة، وهذا الثاني متعين، ففي رواية الدارقطني: فصلى بهم، فقال: إني كنت جنبا، فنسيت أن أغتسل، وإنما يصار إلى القرائن مع عدم النص، "وظاهر قوله: فكبر الاكتفاء بالإقامة السابقة، فيؤخذ منه جواز التخلل الكثير بين الإقامة والدخول في الصلاة".
وقال النووي: هو محمول على قرب الزمان، فإن طال فلا بد من إعادتها، قال: ويدل على قرب الزمان في هذا الحديث قوله: "مكانكم" وقوله: خرج إلينا ورأسه يقطر.
وقال القرطبي في المفهم: مذهب مالك أن التفريق إن كان لغير عذر ابتدأ الإقامة طال الفصل أم لا، وإن كان لعذر فإن طال استأنف الإقامة، وإلا بنى عليها. انتهى.
"وعنده" أي: البخاري "أيضا من حديث ميمونة، قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا"، "بضم الغين" أي ماء للاغتسال، كما سبق في الرواية التي ساقها المصنف أولا عن ميمونة، بلفظ: ماء للغسل "فسترته بثوب" أي: غطيت رأس الماء، أي: ظرفه، وفيه خدمة الزوجة لزوجها وتغطية الماء، كذا أعاد ضمير سترته للماء الكرماني، وتبعه البرماوي والعيني والمصنف وغيرهم.
وال المولى حسين الكفوي: الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في رواية للبخاري عن ميمونة: سترت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل من الجنابة، والحديث واحد، فترجيعهم الضمير للماء غير صحيح.(10/272)
وصب على يديه فغسلهما، ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه، فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها، فتمضمض واستنشق، وغسل وجهه وذراعيه، ثم صب الماء على رأسه، وأفاض على جسده، ثم تنحى فغسل قدميه، فناولته ثوبا فلم يأخذه، فانطلق وهو ينفض يديه.
وقد استدل بعضهم بقولها: "فناولته ثوبا فلم يأخذه" على كراهة التنشف بعد الغسل.
ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال يتطرق إليها الاحتمال، فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك. قال
__________
انتهى.
بل هو صحيح، ولا ينافيه الرواية المذكورة، لأنها سترت الماء أولا حين وضعته لئلا يصيبه غبر ونحوه، فلما اغتسل صلى الله عليه وسلم سترته، فذكر بعض الرواة ما لم يذكر الآخر، فكشفه، فأخذ الماء "وصب".
وفي رواية: فصب "بالفاء" "على يديه" وفي رواية: يده بالإفراد على إرادة الجنس، "فغسلهما ثم صب بيمينه على شماله، فغسل فرجه" "الفاء" هنا للتعقيب.
وأما قوله في روية أخرى للبخاري إن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة، فغسل فرجه بيده، فذكر الحديث، فقال الحافظ: هذه الفاء تفسيرية وليست تعقيبية، لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من الاغتسال، "فضرب بيده الأرض فمسحها، ثم غسلها فتمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه" مع مرفقيه، "ثم صب الماء على رأسه وأفاض على جسده" الماء "ثم تنحى" عن مكانه "فغسل قدميه" قالت ميمونة: "فناولته ثوبا فلم يأخذه" وفي روية: فناولته خرقة، فقال: هكذا ولم يردها "بضم أوله وسكون ثالثه" من الإرادة "مجزوم بحذف الياء" والأصل يريدها، ومن فتح أوله وشد الدال فقد صحف وأفسد المعنى، وفي المطالع، أنها رواية ابن السكن، قال: وهي وهم، وقد رواه أحمد بلفظ، فقال: هكذا، وأشار بيده أن لا أريدها، "فانطلق" أي ذهب "وهو ينفض يديه" من الماء جملة اسمية وقعت حالا.
"وقد استدل بعضهم بقولها: فناولته ثوبا فلم يأخذه على كراهة التنشف بعد الغسل ولا حجة فيه، لأنها واقعة حال" فعلية "يتطرق إليها الاحتمال" وبينه بقوله: "فيجوز أن يكون عدم الأخذ لأمر آخر لا يتعلق بكراهة التنشف، بل يتعلق بالخرقة أو غير ذلك"، إذ لم يتعين في الكراهة.(10/273)
المهلب: يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع، أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ.
وقد وقع عند أحمد في هذا الحديث عن الأعمش قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: لا بأس بالمنديل، وإنما رده مخافة أن يصير عادة.
وقال التيمي في شرحه: في هذا الحديث دليل على أنه كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل.
وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف لأن كلا منهما إزالة.
وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه، أشهرها: أن
__________
"قال المهلب" بن أحمد بن أسيد بن صفرة التميمي الأندلسي، من العلماء الراسخين، المتقنين في الفقه والعبادة والنظر، روى عن الأصيلي والقابسي وأبي ذر الهروي وغيرهم، وعنه ابن المرابط وابن الحذاء وغيرهما، وولي قضاء مالقة، وأحيا صحيح البخاري بالأندلس، فقرأه تفقها وشرحه، ومات سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، كما في الديباج وغيره، وليس هو المهلب ابن أبي صفرة التابعي، كما يوهمه نقل ترجمته هنا من التهذيب، إذ معلوم أن التابعي لم يشرح البخاري، فإنما هو شارح البخاري المهلب بن أحمد, إذ قال في شرحه: "يحتمل تركه الثوب لإبقاء بركة الماء، أو للتواضع" ولا يلزم منه كراهة التنشف، "أو لشيء رآه في الثوب من حرير أو وسخ" فتركه لذلك لا كراهة.
"وقد وقع عند أحمد" والإسماعيلي "في هذا الحديث" من رواية أبي عوانة "عن الأعمش" سليمان بن مهران: "قال: ذكرت ذلك" الحديث "لإبراهيم النخعي، فقال: لا بأس بالمنديل" أي: لا يكره، "وإنما رده مخافة أن يصير عادة" فيشق عند عدمه تركها.
"وقال التيمي" أبو القاسم أحمد بن محمد بن عمر بن ورد، بلفظ المشموم "في شرحه" للبخاري، وهو واسع جدا: "في هذا الحديث دليل على أنه" صلى الله عليه وسلم "كان يتنشف، ولولا ذلك لم تأته بالمنديل", وهذا استدلال جيد.
"وقال ابن دقيق العيد: نفضه الماء بيده يدل على أن لا كراهة في التنشف، لأن كلا منهما إزالة", وهذا قياس ظاهر، وقد اعتل من قال بالكراهة أيضا بما جاء عن سعيد بن المسيب والزهري أنه يوزن، وتعقب بأن وزنه إنما هو في الآخرة، ولا بد من مفارقته الجسد.
"وقال النووي: اختلف أصحابنا في ذلك على خمسة أوجه: أشهرها أن المستحب(10/274)
المستحب تركه، وقيل: مكروه، وقيل: مباح، وقيل: مستحب، وقيل: مكروه في الصيف مباح في الشتاء.
وفي هذا الحديث جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء، لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في
__________
تركه" وأن فعله خلاف الأولى، "وقيل: مكروه"؛ لأنه عبادة يكره إزالة أثرها، كدم الشهيد وخلوف فم الصائم.
قال القرطبي: ولا يتم قياس ذلك على دم الشهيد، لأن إزالة دمه حرام، وإزالة الخلوف بالسواك جائزة.
وقال الزواوي: القياس على الشهيد غير بين، لأن الشهيد سقط عنه التكليف بالموت، ولو جرح أحد في سبيل الله وعاش لزمه غسل دمه، مع أنه أثر عبادة، "وقيل: مباح" بلا كراهة، وهو مذهب مالك.
قال النووي: في شرح مسلم وهو الذي نختاره ونعمل به لاحتياج المنع والاستحباب إلى دليل، "وقيل: مستحب" للسلامة من غبار نجس ونحوه، "وقيل: مكروه في الصيف" للترفه، "مباح في الشتاء" لضرورة البرد، وعن ابن عباس: يكره في الوضوء دون الغسل.
قال المازري: حجته ما روي أن أم سلمة ناولت النبي صلى الله عليه وسلم الثوب ليتنشف به فلم يأخذه، وقال: "إني أحب أن يبقى عليّ أثر الوضوء". ولم يثبت عنده نص قاطع على الكراهة في الغسل. انتهى.
أو لأن الوضوء لا يكون إلا عبادة بخلاف الغسل، فيكون لتدفٍ وتبردٍ وتنظفٍ ونحو ذلك.
قال النووي: وهذا كله إذا لم تكن حاجة كبرد أو التقاء نجاسة فإن كان فلا كراهة قطعا. انتهى.
وفي الذخائر: وإذا تنشف فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه ونحوهما، يعني: لما يقال أنه يورث الفقر والنسيان، "وفي هذا الحديث" أيضا "جواز نفض اليدين من ماء الغسل، وكذا ماء الوضوء" بالقياس عليه، ورجحه في الروضة وشرح المهذب، إذ لم يثبت في النهي عنه شيء، لكن الأشهر تركه، لأن النفض كالتبري من العبادة، فهو خلاف الأولى، ورجحه في التحقيق، وبه جزم في المنهاج، قال المصنف.
"لكن فيه حديث ضعيف أورده الرافعي وغيره، ولفظه: "لا تنفضوا أيديكم في الوضوء فإنها مراوح الشيطان"، قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي" قال الحافظ: وقد(10/275)
الوضوء فإنها مراوح الشيطان". قال ابن الصلاح: لم أجده، وتبعه النووي.
وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ للصلاة. رواه البخاري.
وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف.
وقوله: "وتوضأ للصلاة" أي توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي وضوءا شرعيا لا لغويا، وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة.
والحكمة فيه أنه يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح، ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة بسند رجاله ثقات عن شداد بن أوس الصحابي قال: إذا أجنب أحدكم من الليل ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة.
وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه، وقد
__________
أخرجه ابن حبان في الضعفاء، وابن أبي حاتم في العلل من حديث أبي هريرة، ولو لم يعارضه هذا الحديث الصحيح لم يكن صالحا لأن يحتج به، "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام وهو جنب" جملة حالية "غسل فرجه" مما أصابه من الأذى، "وتوضأ للصلاة".
"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وفيه رد على من حمل الوضوء هنا على التنظيف" هو الطحاوي محتجا بأن ابن عمر راوي حديث: "إذا توضأ أحدكم فليرقد". كان يتوضأ وهو جنب، ولا يغسل رجليه كما في الموطأ عن نافع عنه.
وأجيب بأنه ثبت تعقيب الوضوء بالصلاة من روايته، ومن رواية عائشة: فيحمل تركه على أنه كان لعذر.
"وقوله: وتوضأ للصلاة، أي: توضؤا كما يتوضأ للصلاة، أي: وضوءا شرعيا لا لغويا" كان الأنسب أن يؤخر قوله: فيه رد. إلى هنا، "وليس المراد أنه توضأ لأداء الصلاة" إذ لا يصح مع الجنابة، "والحكمة فيه أن يخفف الحدث، ولا سيما على القول بجواز تفريق الغسل، فينويه، فيرتفع الحدث عن تلك الأعضاء المخصوصة على الصحيح".
"ويؤيده ما رواه ابن أبي شيبة" عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة "بسند رجاله ثقات عن شداد" "بفتح المعجمة والدال الثقيلة" "ابن أوس الصحابي، قال: إذا أجنب أحدكم من الليل، ثم أراد أن ينام فليتوضأ، فإنه نصف غسل الجنابة".
"وقيل: الحكمة فيه أنه إحدى الطهارتين، فعلى هذا يقوم التيمم مقامه".(10/276)
روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب فأراد أن ينام توضأ أو تيمم.
ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء، وقيل: غير ذلك. انتهى ملخصا من فتح الباري.
__________
"وقد روى البيهقي بإسناد حسن عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أجنب" أي: صار جنبا، "فأراد أن ينام توضأ أو تيمم" فهذا يؤيد قيام التيمم مقامه، "ويحتمل أن يكون التيمم هنا عند عسر وجود الماء" لا مطلقا، "وقيل: غير ذلك" في حكمة الوضوء، فقيل: لأنه أنشط إلى العود أو إلى الغسل. "انتهى ملخصا من فتح الباري" أي: جميع ما ذكره في هذا الفصل من التكلم على الأحاديث التي ذكرها بمعنى أنه أتى بما أراده منه لا التلخيص المتعارف.(10/277)
النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم
اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية، وأداء حق الربوبية، وسائر العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة.
وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات، فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود، والقيام, والقعود.
__________
النوع الثاني: في ذكر صلاته صلى الله عليه وسلم
أي: ذكر ما يتعلق بها من بيان مواقيتها وفرضها وغير ذلك. "اعلم أن الصلاة تحصل تحقيق العبودية،" أي: كون المصلي عبدا بانقياده لله تعالى في أوامره، كالسجود الذي حقيقته وضع أشرف الأعضاء بالأرض ولو ترابية بلا حائل، "وأداء حق الربوبية"، "بضم الراء" أي الحق الذي وجب للرب تعالى مما أمر به أو نهى عنه، أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، "وسائر" أي باقي "العبادات وسائل إلى تحقيق سر الصلاة" وهو كمال الانقياد إلى الله، "وقد جمع الله تعالى للمصلين في ركعة ما فرق على أهل السموات" من أنواع العبادات، "فلله ملائكة في الركوع منذ خلقهم الله تعالى لا يرفعون من الركوع إلى يوم القيامة، وهكذا السجود والقيام والقعود" كما جاءت به الأخبار، "واجتمع فيها أيضا من العبادات" كذا في نسخ وهي ظاهرة، وفي أخرى من العبوديات، وكأنه سماها بذلك باعتبار القيام بها وانقياد الشخص لها، وإلا فالمذكور من قوله من الطهارة ... إلخ، كله عبادات، وقد صرح به في قوله:(10/277)
واجتمع فيها أيضا من العبادات ما لم يجتمع في غيرها، من الطهارة والصمت واستقبال القبلة، والاستفتاح بالتكبير، والقراءة والقيام والركوع والسجود، والتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود إلى غير ذلك.
فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة، والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد.
وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ} [العنكبوت: 45] وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .
وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير أمدنا الله بمدده- إشارة إلى
__________
فهي مجموع عبادات، "ما لم يجتمع في غيرها من الطهارة والصمت" عن الكلام الأجنبي "واستقبال القبلة والاستفتاح بالتكبير والقراءة والقيام والركوع والسجود والتسبيح في الركوع والدعاء في السجود إلى غير ذلك، فهي مجموع عبادات عديدة، لأن الذكر بمجرده عبادة" فاضلة على غيرها، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} "والقراءة بمجردها عبادة، وكذا كل فرد فرد" مما عده كله عبادة، "وقد أمر نبيه بالصلاة في قوله سبحانه: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} " القرآن تقربا إلى الله بقراءته وتحفظا لألفاظه واستكشافا لمعانيه، فإن القارئ المتأمل قد ينكشف له بالكرار ما لا ينشكف له أول ما قرع سمعه، {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ؛ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها من حيث أنها تذكر الله وتورث النفس خشية منه.
وقد روى أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، قال: "إنه سينهاه ما تقول". ووقع في الكشاف والبيضاوي: روي أن فتى من الأنصار كان يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات، ولا يدع شيئا من الفواحش إلا ارتكبه، فوصف له عليه السلام، فقال: "إن صلاته ستنهاه". فلم يلبث أن تاب، لكن قال الحافظ ولي الدين العراقي: لم أقف عليه وتبعه السيوطي.
"وقال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ} اصبر {عَلَيْهَا} وداوم، روى ابن مردويه عن أبي هريرة، قال: حين نزلت هذه الآية كان صلى الله عليه وسلم يأتي باب علي، فيقول: "الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا". "وفي ذلك -كما نبه عليه صاحب كتاب التنوير" في إسقاط التدبير التاج ابن عطاء الله, مر بعض ترجمته(10/278)
أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله إلى القيام بين يديه، والفراغ عما سوى الله، فلذلك قال: {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} .
قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية، قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر، صبر على ملازمة أوقاتها، وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها، وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر ولم يفرد الصبر به، إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير. فقد يدل على ما قلناه، أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر، كما قال تعالى في الآية الآخرى:
{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . انتهى ملخصا.
ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام:
__________
"أمدنا الله بمدده- إشارة إلى أن في الصلاة تكليفا للنفوس شاقا عليها، لأنها تأتي في أوقات ملاذّ العباد وأشغالهم، فتطالبهم بالخروج عن ذلك كله" أي تكون سببا لخروجهم عن ملاذهم وأشغالهم "إلى القيام بين يديه والفراغ عما سوى الله" بفعل الصلاة قبل خروج وقتها، "فلذلك قال {وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ، قال: ومما يدل على أن في القيام بالصلاة تكاليف العبودية وأن القيام بها على خلاف ما تقتضيه البشرية قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا} " اطلبوا المعونة على أموركم {بِالصَّبْرِ} : الحبس للنفس على ما يكره {وَالصَّلَاةِ} أفردها بالذكر تعظيما لشأنها، وفي الحديث: كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، وقيل: الخطاب لليهود لما عاقهم عن الإيمان الشره وحب الرياسة أمروا بالصبر وهو الصوم، لأنه يكسر الشهوة، والصلاة لأنها تورث الخشوع وتنفي الكبر، {وَإِنَّهَا} أي: الصلاة {لَكَبِيرَةٌ} ثقيلة {إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} الساكنين إلى الطاعة، "فجعل الصبر والصلاة مقترنين إشارة إلى أنه يحتاج في الصلاة إلى الصبر" الكامل، وهو أنواع أشار إليها بقوله: "صبر" بالجر بدل نكرة من معرفة، لكون النكرة موصوفة لفظا بقوله: كائن "على ملازمة أوقاتها", أو موصوفة في المعنى، "وصبر على القيام بمسنوناتها وواجباتها" ومستحباتها، "وصبر يمنع القلوب فيها عن غفلاتها" لاشتغالها بالصلاة وإعراضها عن الدنيا، "ولذلك قال تعالى بعد ذلك: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} فأفرد الصلاة بالذكر" بقوله: {وَإِنَّهَا} تعظيما لشأنها، "ولم يفرد الصبر به إذ لو كان كذلك لقال: وإنه لكبير"؛ لأن الصبر مذكر، "فقد يدل على ما قلناه" قد للتحقيق، "أو لأن الصبر والصلاة مقترنان متلازمان، فكان أحدهما هو عين الآخر" فوصف الصلاة بالكبر بمنزلة وصف الصبر به لتلازمهما، "كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} بالطاعة، فتوحيد الضمير لتلازم الرضاءين، وقيل: خبر الله أو رسوله محذوف. "انتهى ملخصا".(10/279)
القسم الأول: في الفرائض وما يتعلق بها, وفيه أبواب:
الباب الأول: في الصلوات الخمس
وفيه فصول:
الفصل الأول: في فرضها
عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسا، ثم نادى: يا محمد إنه لا يبدل القول لديّ، وإن لك بهذه الخمس خمسين. رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من حديث طويل تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث.
__________
"ثم إن الكلام فيها ينقسم إلى خمسة أقسام: القسم الأول في الفرائض وما يتعلق بها، وفيه أبواب: الباب الأول في الصلوات الخمس وفيه فصول":
"الأول: في فرضها" أي: إيجابها أصلا وقدرا "عن أنس قال: فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به خمسون صلاة، ثم نقصت" بأن حط منها بمراجعته صلى الله عليه وسلم بإشارة موسى عليه الصلاة والسلام خمسا خمسا، "حتى جعلت خمسا ثم نادى" الله تعالى "يا محمد إنه لا يبدل" لا يغير "القول لديّ" في ذلك، "وإن لك بهذه الخمس خمسين".
قال الحافظ: هذا من أقوى ما استدل به على أنه تعالى كلم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بلا واسطة، "رواه الترمذي هكذا مختصرا، ورواه البخاري ومسلم من" جملة "حديث طويل" عن أنس، عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم، "تقدم في مقصد الإسراء مع ما فيه من المباحث" المنيفة.(10/280)
وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. رواه مسلم وأبو داود والنسائي.
وقوله: "وفي الخوف ركعة" محمول على أن المراد ركعة مع الإمام وينفرد بالأخرى.
وعن عائشة: فرض الله الصلاة -حين فرضها- ركعتين ركعتين، ثم أتمها في الحضر, وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى. رواه البخاري.
وعنده -في كتاب الهجرة- من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا.
فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله "وزيد في صلاة الحضر" وقعت بالمدينة.
وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية، وبنوا عليه: أن القصر في السفر
__________
"وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم" بأن أنزله عليه وأمره أن يتكلم به "في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين" في الرباعية "وفي الخوف ركعة".
"رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وقوله: وفي الخوف ركعة محمول على أن المراد ركعة مع الإمام" يقتدى به فيها، "وينفرد بالأخرى" بعدما يفارقه فيصليها وحده، فليس المراد ظاهره وإن ذهب إليه قوم.
"وعن عائشة قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين" بالتكرار لإفادة عموم التثنية لكل صلاة في الحضر والسفر، هكذا في رواية كريمة للبخاري بالتكرار، فلا إشكال فيها بخلاف ما وقع في رواية غيرها ركعتين بدون تكرار، ويوافق روايتها سائر الروايات في الصحيحين، وغيرهما، زاد في رواية لأحمد إلا المغرب، فإنها كانت ثلاثا "ثم أتمها" أربعا "في الحضر وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى"، "بضم الهمزة".
"رواه البخاري" ومسلم وغيرهما، "وعنده في كتاب الهجرة من طريق معمر عن الزهري، عن عروة عن عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم ففرضت أربعا، فعين في هذه الرواية أن الزيادة في قوله في الحديث الذي قبله، وزيد في صلاة الحضر وقعت بالمدينة" لم يتقدم له بهذا اللفظ، نعم هو لفظ البخاري في أول كتاب الصلاة، فقال الحافظ في شرحه هذا الكلام "وقد أخذ بظاهر هذا الحديث الحنفية وبنوا عليه أن القصر في السفر عزيمة"؛ لأنه(10/281)
عزيمة لا رخصة.
واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، والقصر إنما يكون من شيء أطول منه، ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". رواه مسلم. وأما خبر: "فرضت الصلاة
__________
أمر بها في السفر كذلك ولم تغير "لا رخصة" لأنها الحكم المتغير إلى سهولة لعذر مع قيام السبب للحكم الأول، قال المصنف: وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا أتم المسافر يكون الشفع الثاني عندنا فرضا وعندهم نفلا لنا أن الوقت سبب للأربع، والسفر سبب للقصر، فيختار أيهما شاء، ولهم قول ابن عباس المتقدم.
"واحتج مخالفوهم بقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} ، لأن نفي الجناح لا يدل على العزيمة، بل على الإباحة لكن بفعل النبي صلى الله عليه وسلم ترقت إلى السنة، "والقصر إنما يكون في شيء أطول منه،" وأجاب الحنفية بأنه ليس المراد بالآية قصر الذات، بل قصر الصفة كترك الاستقبال عند الخوف بدليل بقية الآية، ورده ابن جرير بأن الآية من المتصل لفظا المنفصل معنى، فقد ورد أن قوله: {إِنْ خِفْتُمْ} نزل بعد قوله: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} بسنة، فهو متعلق بما بعده، أي: بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} .
"ويدل على أنه رخصة أيضا قوله عليه الصلاة والسلام" كما في مسلم عن يعلى بن أمية، قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم" والصدقة لا يجب قبولها، فالقصر ليس بواجب، وأجاب الحنفية، بأن ذلك في غير صدقة الله تعالى، كيف وقد أمر بقبولها؟ بقوله: "فاقبلوا صدقته" والأصل في الأمر الوجوب.
"رواه مسلم" عن عمر كما رأيت، فأفاد صلى الله عليه وسلم، أن الشرط في الآية لبيان الواقع وقت النزول، فلا مفهوم له، وهذا جاء به المصنف من فتح الباري، وفيه أيضا بعده الذي يظهر لي، وبه تجتمع الأدلة، أن الصلوات فرضت ليلة الإسراء ركعتين إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح، كما روى ابن خزيمة وابن حبان والبيهقي عن عائشة: فرضت صلاة الحضر والسفر ركعتين ركعتين، فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة واطمأن، زيد في صلاة الحضر ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر لطول القراءة وصلاة المغرب لأنها وتر النهار. انتهى. ثم بعد أن استقر فرض الرباعية خفف عنا في السفر عند نزول قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} ويؤيده ما ذكره(10/282)
ركعتين، أي في السفر، فمعناه: لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار. قاله في الجموع.
الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس
عن جابر: أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وأتاه حين كان الظل مثل شخصه، فصنع كما صنع، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
ابن الأثير في شرح المسند أن قصر الصلاة كان في السنة الرابعة من الهجرة وهو مأخوذ من قول غيره: إن نزول آية الخوف كان فيها.
وقيل: كان قصر الصلاة في ربيع الآخر من السنة الثانية، ذكره الدولابي وأورده السهيلي، بلفظ: بعد الهجرة بعام أو نحوه، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما، فعلى هذا المراد بقول عائشة: فأقرت صلاة السفر، أي: باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف لا أنها استمرت منذ فرضت، فلا يلزم من ذلك أن القصر عزيمة.
فائدة: ذهب جماعة إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل بلا تحديد، وذهب الحربي إلى أن الصلاة كانت مفروضة ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، ورده جماعة من أهل العلم. انتهى.
"وأما خبر: "فرضت الصلاة ركعتين، أي: في السفر، فمعناه لمن أراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأخبار" فليس فيه أنه عزيمة، "قاله في المجموع" هو شرح المهذب للنووي وأوله، وأما خبر وما قبله من الفتح كما علم.
الفصل الثاني: في ذكر تعيين الأوقات التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس
مرتين "عن جابر" بن عبد الله "أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه مواقيت الصلاة" صبيحة ليلة فرضها في الإسراء كما يأتي، وجابر لم يدرك ذلك، فهو مرسل صحابي، فإما أنه تلقاه عنه صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي أدرك ذلك، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت من جانب الشمال إلى اليمي إذا استقبلت القبلة، "وأتاه حين كان الظل مثل ظل شخصه" أي: الشيء المشخص وهو جسم مشخص له شخوص وارتفاع "فصنع كما صنع" في الظهر، وبينه بقوله: "فتقدم جبريل(10/283)
خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس، فتقدم جبريل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العشاء، ثم أتاه حين انشق الفجر، فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى الصبح.
ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى الظهر، ثم أتاه حين كان الظل مثلي شخصه فصنع كما
__________
ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى العصر" في أول وقته، "ثم أتاه حين وجبت الشمس" أي: غابت، وأصل الوجوب السقوط، والمراد سقوط قرص الشمس، وفاعل وجبت هنا مذكور، وهو الشمس، وسقط في رواية البخاري عن جابر: "كان صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة والعصر والشمس نقية والمغرب إذا وجبت" الحديث، فقال الحافظ: فاعل وجبت مستتر وهو الشمس، ولأبي داود: والمغرب إذا غربت الشمس، ولأبي عوانة: والمغرب حين تجب الشمس، أي تسقط، وفيه أن سقوط قرصها يدخل به المغرب، ومحله ما إذا لم يحل بين رؤيتها عارية وبين الرائي حائل، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى المغرب" لأول وقتها، "ثم أتاه حين غاب الشفق" أي الحمرة التي ترى في أفق المغرب، كما في الموطأ، وعليه أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة إنه البياض الذي يليها، وتعقب بأنه مختص في اللغة والاستعمال بالحمرة، لقول أعرابي: وقد رأى ثوبا أحمر كأنه شفق.
وقال المفسرون في قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] إنه الحمرة، وقال الخليل بن أحمد: رقبت البياض فوجدته يبقى إلى ثلث الليل، وقال غيره: إلى نصفه، فلو رتب الحكم عليه لزم أن لا يدخل وقت العشاء حتى يمضي ثلث الليل أو نصفه ولا قائل به، والأحاديث ناطقة بخلافه "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى العشاء" أول وقتها، "ثم أتاه حين انشق الفجر", أي: ظهر والشق بالفتح انفراج في الشيء، فوصف الفجر به مجاز من إطلاق اسم المحل على الحال، "فتقدم جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه، والناس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح" أول وقته، "ثم أتاه جبريل في اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه" لم يقل مثله، لأن الرجل مسماه الماهية، وهي إنما توجد في ضمن الإفراد وليست مرئية ولا ظل لها، والظل إنما هو للصورة الخارجية المعبر عنها بالشخص وهو سواد الإنسان يرى من بعد، ثم استعمل في ذاته، قال الخطابي: ولا يسمى شخصا إلا جسم مؤلف له شخوص وارتفاع، "فصنع كما صنع بالأمس"(10/284)
صنع بالأمس فصلى العصر، ثم أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب، ثم أتاه حين غاب الشفق فصنع كما صنع بالأمس فصلى العشاء، ثم أتاه حين امتد الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة. ثم قال: "ما بين هاتين الصلاتين للصلاة وقت". رواه النسائي.
وفي رواية قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس، وكان الفيء قدر الشراك، ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء حين غاب
__________
من تقدمه والنبي خلفه والناس خلف النبي صلى الله عليه وسلم "فصلى الظهر" في الوقت الذي صلى فيه العصر بالأمس، "ثم أتاه حين كان الظل مثلي"، "بالتثنية"، "شخصه، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العصر" في آخر مختارها، "ثم أتاه حين وجبت الشمس، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى المغرب" في أول وقتها كما صلاها أمس، ففيه دلالة قوية على أن وقتها مضيق، لأن جبريل صلاها بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليومين في وقت واحد، "ثم أتاه حين غاب الشفق، فصنع كما صنع بالأمس، فصلى العشاء" صرح في هذه الرواية بأنه صلاها في اليومين بوقت واحد، وفي التالية لها، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل، فيجمع بينهما بأنه أتاه حين غاب الشفق في اليومين، لكن بقي عنده في الثاني بدون صلاة العشاء إلى ثلث الليل، وهذا الجمع متعين، لأن المخرج واحد وهو جابر، ويشهد له حديث ابن عباس بعده: ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، "ثم أتاه حين امتد الفجر" في أفق السماء، "وأصبح" أي: دخل في الصباح "والنجوم بادية" أي: ظاهرة "مشتبكة" مختلط بعضها ببعض لكثرة ما ظهر منها.
وروى أحمد: "لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب انتظارا للظلام مضاهاة لليهود، وما لم يؤخروا الفجر لمحاق النجوم مضاهاة للنصارى". "وصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة"، أي: الصبح, ثم قال: "ما بين هاتين الصلاتين" في اليومين "للصلاة وقت"، ويأتي في حديث ابن عباس والوقت فيما بين هاتين الوقتين، "رواه النسائي" والترمذي وغيرهما.
"وفي رواية" له أيضا، عن جابر "قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر حين زالت الشمس" أي: مالت إلى جهة الغروب "وكان الفيء قدر الشراك"، "بكسر المعجمة" أحد سيور النعل التي على وجهها، وقدره هنا ليس على معنى التحديد، "ثم صلى العصر حين كان الفيء قدر الشراك، وكان ظل الرجل مثله" بالإفراد، "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس ثم صلى العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر" أي: الصبح "حين طلع الفجر، ثم(10/285)
الشفق، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، ثم صلى الغداة -أي الظهر- حين كان الظل طول الرجل، ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه، ثم صلى المغرب حين غابت الشمس، ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل أو نصف الليل -شك أحد رواته- ثم صلى الفجر فأسفر.
وعن ابن عباس: قال صلى الله عليه وسلم: "أمَّني جبريل عند البيت مرتين، فصلى الظهر بي في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين
__________
صلى الغداة، أي الظهر" تفسيرها بهذا يخالف قوله في الحديث السابق: فصلى الغداة، أي: الصبح، وفي المصباح الغداة: الضحوة مؤنثة، وجوز ابن الأنباري تذكيرها على معنى أول النهار، وعلى هذا فإطلاق الغداة على كل من صلاتي الصبح والظهر مجاز علاقته المجاورة لقرب كل من الصلاتين لوقت الضحوة، كذا مشاه شيخنا، والذي يظهر لي أن الغداة اسم لليوم، فإنها تطلق كالغد على اليوم بتمامه تسمية للكل باسم البعض، ونصبها على الظرفية، أو بنزع الخافض، أي: في الغداة، أي: اليوم الثاني بعد اليوم الذي صلى فيه أولا، وقول المصنف، أي: الظهر بيان لمفعول صلى لا تفسير للغداة "حين كان الظل طول الرجل" وقت صلاته العصر في اليوم الأول، "ثم صلى العصر حين كان ظل الرجل مثليه" بالتثنية "ثم صلى المغرب حين غابت الشمس, ثم صلى العشاء إلى ثلث الليل، أو نصف الليل شك أحد رواته ثم صلى الفجر", أي: الصبح "فأسفر" وفي أبي داود وغيره، وصححه ابن خزيمة وغيره عن أبي مسعود الأنصاري: وصلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح مرة بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك التغليس حتى مات لم يعد إلى أن يسفر.
"وعن ابن عباس" قال: "قال صلى الله عليه وسلم": "أمَّني" بفتح الهمزة والميم الثقيلة صلى بي إماما "جبريل عند البيت" كذا رواه الأكثر، ورواه الشافعي والطحاوي والبيهقي عند باب البيت، وهي مبينة للمراد من الأولى "مرتين، فصلى الظهر في الأولى حين كان الفيء مثل الشراك" وقت الزوال في ذلك اليوم لا أنه أخره عن الزوال إلى أن صار كذلك كما يأتي، وقد جاء في رواية أبي داود وغيره بيان المراد، ولفظه عن ابن عباس: "فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك". فقوله: "وكانت ... " إلخ, إخبار عن صفتها وقت الزوال يومئذ، "ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله" بالإفرد وفي رواية: "حين كان ظله مثله". "ثم صلى المغرب حين وجبت" أي: غابت "الشمس وأفطر الصائم" أي: جاز له الفطر، "ثم صلى(10/286)
غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برق الفجر وحرم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظل كل شيء مثله كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه، ثم صلى المغرب لوقت الأولى، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ جبريل فقال: يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين". رواه الترمذي وغيره.
__________
العشاء حين غاب الشفق" الحمرة، "ثم صلى الفجر حين برق الفجر" بموحدة وراء بلا نقط مفتوحتين، أي: لمع، وأما برق بكسر الراء، فمعناه تحير حتى صار لا يطرف، أو دهش حتى لا يبصر كما في القاموس وغيره، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] وقرأ نافع بالفتح، أي: لمع من شدة شخوصه. "وحرم الطعام على الصائم، وصلى المرة الثانية الظهر حين كان" أي: صار "ظل كل شيء مثله" بالإفراد، "كوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظل كل شيء مثليه"، "بالثتينة"، "ثم صلى المغرب لوقت الأولى" أي: في الوقت الذي صلاها فيه في المرة الأولى، "ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر، ثم التفت إليّ"، "بشد ياء المتكلم"، "جبريل" فاعل التفت، "فقال: يا محمد هذا" زاد في رواية: "وقتك و". "وقت الأنبياء من قبلك" أي: مثل وقت من فرض عليه منهم صلاة مخصوصة بوقت، لا أنه وقت لكل الأنبياء، فلا ينافي أن الخمس من خصائص هذه الأمة، ولم تجتمع لأحد غيرهم كما مر في الخصائص، "والوقت فيما بين هذين الوقتين" موسع، ففي أي جزء أوقعها فيه لا يأثم.
قال ابن عبد البر: لم أجد قوله: "هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك" إلا في هذا الحديث، يعني حديث ابن عباس، وقال ابن العربي: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات مشروعة للأنبياء قبله وليس كذلك، وإنما معناه هذا وقتك المشروع لك يعني الوقت الموسع المحدود بطرفين الأول والآخر، ووقت الأنبياء قبلك أي صلاتهم كانت واسعة الوقت وذات طرفين، مثل هذا، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة، خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم في بعضها.
وقد روى أبو داود في حديث العشاء: "أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم". ولا يرد عليه ما ورد أن العشاء ليونس، لأنه أجيب بأنها كانت له نافلة ولم تكتب على أمته، كالتهجد وجب على نبينا دوننا، وبغير ذلك كما مر في الخصائص. "رواه الترمذي وغيره" كأبي داود وأحمد والشافعي، وصححه الحاكم وضعفه ابن بطال، بحديث(10/287)